الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
هل في ادّكار الحبيب من حرج *** أم هل لهمّ الفؤاد من فرج
أم كيف أنسى رحيلنا حرما *** يوم حللنا بالنّخل من أمج(1)
يوم يقول الرسول قد أذنت *** فائت على غير رقبة فلج
أقبلت أسعى إلى رحالهم *** في نفحة من نسيمها الأرج
الشعر لجعفر بن الزّبير(2)، و الغناء للغريض، خفيف ثقيل أوّل، بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنه لدحمان في هذه الطريقة و المجرى. و ذكره يونس بغير طريقة و قال: فيه لحنان:
لابن سريج و الغريض. و ذكر الهشاميّ أنّ لحن ابن سريج رمل بالوسطى.
ص: 5
جعفر بن الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب. و أم جعفر بن الزبير زينب بنت بشر بن عبد عمرو، من بني قيس(1) بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل.
أخبرني الطّوسي قال: حدّثنا الزبير بن بكّار قال: حدّثني مصعب بن عثمان قال: أخبرني جدّك عبد اللّه بن مصعب(2) عن أبي عثمان(3) بن مصعب، عن شعيب بن جعفر بن الزبير قال:
فرض سليمان بن عبد الملك للناس في خلافته، و عرض الفرض. قال: و كان ابن حزم(4) في ذلك محسنا يعلم اللّه، إنّه كان/يأمر الغلمان أن يتطاولوا على خفافهم ليرفعهم بذلك.
قال شعيب بن جعفر بن الزبير: فقال لي سليمان بن عبد الملك: من أنت؟ قلت: شعيب بن جعفر بن الزبير.
فقال: ما فعل جعفر؟ فقال له عمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين(5) على الكبر و العيال. فقال: قل له يحضر الباب. /فقال لجعفر، احضر الباب. فدعا المنذر بن عبيدة بن الزبير، فرفع معه رقعة و أرسله إلى عمر بن عبد العزيز، فيها قوله:
يا عمر بن عمر بن الخطّاب *** إنّ وقوفي من وراء الأبواب
يعدل عندي حطم بعض الأنياب(6)
قال: فلما قرأها عمر عذره عند سليمان، فأمر له سليمان بألف دينار في دينه، و ألف دينار معونة على عياله، و برقيق من البيض و السّودان، و كثير من طعام الجاري(7)، و أن يدان من الصّدقة بألفي دينار. قال: فلما جاء ذلك
ص: 6
إلى أبي قال: أعطيته من غير مسألة؟ فقيل: نعم. قال: الحمد للّه، ما أسخى هذا الفتى! ما كان أبوه سخيا و لا ابن سخيّ. و لكنّ هذا كأنه(1) من آل حرب. ثم قال:
فما كنت ديانا فقد دنت إذ بدت *** صكوك أمير المؤمنين تدور(2)
بوصل أولي الأرحام قبل سؤالهم *** و ذلك أمر في الكرام كثير
قال بعض من روى هذا الخبر عن الزبير: الناس لا ينظرون في عيب أنفسهم، و ما كان لجعفر أن يعيب أحدا بالبخل؛ و ما رئي في الناس أحد أبخل منهم أهل البيت و لا من عبد اللّه بن الزبير خاصة، و ما كان فيهم جواد غير مصعب.
قال الزبير: حدّثني عمي، قال: كان السلطان بالمدينة إذا جاء مال الصدقة أدان من أراد من قريش منه(3)، و كتب بذلك صكّا عليه، فيستعبدهم به، /و يختلفون إليه، و يديرونه(4)، فإذا غضب على أحد منهم استخرج ذلك منه(5)، حتّى كان هارون الرشيد، فكلّمه عبد اللّه بن مصعب في صكوك بقيت من ذلك على غير واحد من قريش؛ فأمر بها فخرّقت عنهم، فذلك قول ابن الزبير:
فما كنت ديّانا فقد دنت إذ بدت *** صكوك أمير المؤمنين تدور
قال الزبير: و حدّثني عمّي مصعب قال:
شهد جعفر بن الزبير مع أخيه عبد اللّه حربه، و استعمله عبد اللّه على المدينة، و قاتل يوم قتل عبد اللّه بن الزبير، حتّى جمد الدم على يده؛ و في ذلك يقول جعفر:
لعمرك إنّي يوم أجلت ركائبي *** لأطيب نفسا بالجلاد لدى الرّكن(6)
ضنين بمن خلفي شحيح بطاعتي *** طراد رجال لا مطاردة الحصن
- الحصن: جمع حصان، يقول: هذا طراد القتال لا طراد الخيل في الميادين -
غداة تحامتنا تجيب و غافق *** و همدان تبكي من مطاردة الضّبن(7)
قال الزبير:
و حدّثني عمي مصعب بن عثمان؛ أنّ جعفر بن الزبير كانت بينه و بين أخيه عروة معاتبة، فقال في ذلك:
ص: 7
/لا تلحينّي يا ابن أمّي فإنّني *** عدوّ لمن عاديت يا عرو جاهد
و فارقت إخواني الذين تتابعوا *** و فارقت عبد اللّه و الموت عاند(1)
و لو لا يمين لا أزال أبرّها *** لقد جمعتنا بالفناء المقاعد(2)
قال الزبير: أنشدتني عمّتي أسماء بنت مصعب بن ثابت، لجعفر بن الزبير، و أنشدنيه غيرها يرثي ابنا له(3):
أهاجك بين من حبيب قد احتمل *** نعم ففؤادي هائم العقل محتبل
و قالوا صحيرات اليمام و قدّموا *** أوائلهم من آخر الليل في الثّقل(4)
مررن على ماء العشيرة و الهوى *** على ملل يا لهف نفسي على ملل(5)
فتى السنّ كهل الحلم يهتزّ للندى *** أمر من الدّفلى و أحلى من العسل(6)
في هذه الأبيات خفيف رمل بالبنصر، نسبه يحيى المكي إلى ابن سريج، و نسبه الهشاميّ إلى الأبجر، قال:
و يقال إنه لابن سهيل.
فأخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني - و خبره أتم - قال: اصطحب قوم في سفر، و معم رجل يغنّي، و شيخ عليه أثر النّسك و العبادة، فكانوا يشتهون أن يغنّيهم الفتى و يستحيون من الشّيخ إلى أن/بلغوا إلى صحيرات اليمام، فقال له المغني: أيها الشيخ إنّ عليّ يمينا أن أنشد شعرا إذا انتهيت إلى هذا الموضع، و إنّي أهابك و أستحي منك؛ فإن رأيت أن تأذن لي في إنشاده أو تتقدّم حتّى أوفي بيميني ثم نلحق بك فافعل. قال: و ما عليّ من إنشادك؟! أنشد ما بدا لك. فاندفع يغني:
و قالوا صحيرات اليمام و قدّموا *** أوائلهم من آخر الليل في الثّقل
وردن على ماء العشيرة و الهوى *** على ملل يا لهف نفسي على ملل
فجعل الشيخ يبكي أحرّ بكاء و أشجاه، فقالوا له: ما لك يا عمّ تبكي؟ فقال: لا جزيتم خيرا؛ هذا معكم طول هذا الطريق و أنتم تبخلون عليّ به أتفرّج به(7) و يقطع عنّي طريقي؛ و أتذكّر أيام شبابي. فقالوا: لا و اللّه ما كان يمنعنا
ص: 8
منه غير هيبتك. قال: فأنتم إذا معذورون. ثم أقبل عليه؛ فقال: عد فديتك إلى ما كنت عليه. فلم يزل يغنّيهم طول سفرهم حتّى افترقوا.
قال الزبير: و أخبرني مصعب بن عثمان أن أمّ عروة بنت جعفر بن الزبير أنشدته لأبيها جعفر و كان يرقّصها بذلك:
يا حبّذا عروة في الدّمالج(1) *** أحبّ كلّ داخل و خارج
قال: و أخبرتني أن أخاها صالح بن جعفر غزا أرض الروم، فقال فيه جعفر:
قد راح يوم السبت حين راحوا(2) *** مع الجمال و التّقى صلاح
من كلّ حيّ نفر سماح *** بيض الوجوه عرب صحاح
و فزعوا و أخذ السلاح *** و هم إذا ما كره الشّياح(3)
مصاعب يكرهها الجراح
/قال الزبير: و لجعفر شعر كثير قد نحل عمر بن أبي ربيعة و دخل في شعره. فأمّا الأبيات التي ذكرت فيها الغناء فمن الناس من يرويها لعمر بن أبي ربيعة، و منهم من يرويها للأحوص و للعرجيّ؛ و قد أنشدنيها جماعة من أصحابنا لجعفر بن الزبير. و أخبرني بذلك الحرميّ، و الطوسيّ، و حبيب بن نصر المهلّبي، و ذكر الأبيات. و أخبرنيه عمّي عن ابن أبي سعد [عن سعيد بن عمرو عن أم عروة بنت جعفر مثله. قال ابن أبي سعد](4): قال الحزاميّ:
الناس يروونها للعرجيّ، و أمّ عروة أصدق.
أخبرني الطوسيّ قال حدّثنا الزبير قال: حدّثني سعيد بن عمرو الزبيريّ قال: تزوّج جعفر بن الزبير امرأة من خزاعة و فيها يقول:
هل في ادّكار الحبيب من حرج
الأبيات. و زاد فيها بيتين و هما:
تسفر عن واضح إذا سفرت *** ليس بذي آمة و لا سمج(5)
و سقط البيت الآخر من الأصل.
ص: 9
قال الزبير في رواية الطوسي: حدّثني مصعب بن عثمان و عمي مصعب قالا:
كان جماعة من قريش منتحين عن المدينة، فصدر عن المدينة بدويّ فسألوه: هل كان للمدينة خبر؟ قال: نعم مات أبو الناس. قالوا: و أنّى ذلك؟ قال: شهده أهل المدينة جميعا؛ و بكي عليه من كلّ دار. فقال القوم: هذا جعفر بن الزبير، فجاءهم الخبر بعد أنّ جعفر بن الزّبير مات.
أخبرني عمي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني إبراهيم بن معاوية عن أبي محمد الأنصاريّ، عن عروة بن هشام بن عروة عن أبيه؛ قال:
لمّا تزوّج الحجّاج و هو أمير المدينة بنت عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، أتى رجل سعيد بن المسيّب فذكر له ذلك، فقال: إني لأرجو أن لا يجمع اللّه بينهما، و لقد دعا داع بذلك فابتهل، و عسى اللّه، فإن أباها لم يزوّج إلا الدراهم. فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان أبرد البريد إلى الحجاج، و كتب إليه يغلظ له و يقصّر به، و يذكر تجاوزه قدره، و يقسم باللّه لئن هو مسّها ليقطعن أحبّ أعضائه إليه، و يأمره بتسويغ أبيها المهر(1)، و بتعجيل فراقها.
ففعل، فما بقي أحد فيه خير إلا سرّه ذلك.
و قال جعفر بن الزبير و كان شاعرا في هذه القصة:
وجدت أمير المؤمنين ابن يوسف *** حميّا من الأمر الذي جئت تنكف(2)
و نبّئت أن قد قال لمّا نكحتها *** و جاءت به رسل تخب و توجف(3)
ستعلم أنّي قد أنفت لما جرى *** و مثلك منه عمرك اللّه يؤنف
و لو لا انتكاس الدهر ما نال مثلها *** رجاؤك إذ لم يرج ذلك يوسف
أبنت المصفّى ذي الجناحين تبتغي *** لقد رمت خطبا قدره ليس يوصف(4)
ص: 10
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا *** أنيس و لم يسمر بمكّة سامر(1)
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي و الجدود العواثر(2)
عروضه من الطويل. الشعر فيما ذكر ابن إسحاق صاحب المغازي لمضاض بن عمرو/الجرهميّ. و قال غيره:
بل هو للحارث بن عمرو بن مضاض.
أخبرنا بذلك الجوهريّ عن عمر بن شبة عن أبي غسان محمد بن يحيى عن غسان بن عبد الحميد. و قال عبد العزيز بن عمران(3): هو عمرو بن الحارث بن مضاض. و الغناء ليحيى المكي، رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لإبراهيم الموصلي ماخوريّ بالبنصر. و فيه لأهل مكة لحن قديم ذكره إبراهيم و لم يجنّسه.
ص: 11
هو مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهميّ. و كان جدّه مضاض قد زوّج ابنته رعلة، إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، فولدت له اثنى عشر رجلا أكبرهم قيذار و نابت. و كان أبوه إبراهيم عليه السلام أمره بذلك لأنّه لما بنى مكة و أنزلها ابنه قدم عليه قدمة من قدماته، فسمع كلام العرب و قد كانت طائفة من جرهم نزلت هنالك مع إسماعيل، فأعجبته لغتهم و استحسنها، فأمر إسماعيل عليه السلام أن يتزوّج إليهم، فتزوّج بنت مضاض بن عمرو، و كان سيّدهم.
فأخبرنا محمد بن جرير، قال: حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق. و أخبرني محمد بن جعفر النحويّ قال: حدّثنا إسحاق بن أحمد الخزاعي قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه الأزرقي قال: حدّثني جدّي عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج عن محمد بن إسحاق. و رواية إسحاق بن أحمد أتمّ. و قد جمعتها:
أن نابت بن إسماعيل ولي البيت بعد أبيه ثم توفّي، فولى مكانه جدّه لأمه مضاض بن عمرو الجرهمي، فضمّ ولد نابت بن إسماعيل إليه، و نزلت جرهم مع ملكهم مضاض بن عمرو بأعلى مكّة، و نزلت قطوراء مع ملكهم السّميدع أجياد، أسفل مكة(1). و كان هذان البطنان خرجا سيّارة من اليمن، و كذلك كانوا لا يخرجون إلاّ مع ملك يملّكونه عليهم، فلما رأوا مكّة رأوا بلدا طيّبا، و ماء و شجرا، فنزلا و رضي كلّ واحد منهما بصاحبه و لم ينازعه، فكان مضاض يعشر(2) من جاء مكّة من أعلاها، /و كان السّميدع يعشر من جاءها من أسفلها و من كداء(3) لا يدخل أحدهما على صاحبه في أمره، ثم إن جرهما و قطوراء بغى كلّ واحد منهما على صاحبه، فتنافسوا في الملك حتّى نشبت الحرب بينهم؛ و كانت ولاية البيت إلى مضاض دون السّميدع، فخرج مضاض من بطن قعيقعان مع كتيبته في سلاح شاك(4) يتقعقع - فيقال: ما سميت قعيقعان إلا بذلك - و خرج السميدع من شعب(5) أجياد، في الخيل الجياد و الرجال - و يقال: ما سميت أجيادا إلا بذلك - حتى التقوا بفاضح، فاقتتلوا قتالا شديدا، و فضحت قطوراء - و يقال:
ما سمّي فاضحا إلا بذلك - ثم تداعى القوم إلى الصلح فساروا حتّى نزلوا المطابخ شعبا بأعلى مكّة، و هو الذي يقال
ص: 12
له الآن شعب بن عامر فاصطلحوا هناك، و سلّموا الأمر إلى مضاض؛ فلمّا اجتمع له أمر مكّة، و صار ملكها دون السّميدع نحر للناس فطبخوا هناك الجزر، فأكلوا، و سمّي ذلك الموضع المطابخ. فيقال: إنّ هذا أوّل بغي بمكة، فقال مضاض بن عمرو في تلك الحرب(1):
نحن قتلنا سيّد الحيّ عنوة *** فأصبح منها و هو حيران موجع
- يعني أنّ الحيّ أصبح حيران موجعا -
و ما كان يبغي أن يكون سواؤنا *** بها ملكا حتّى أتانا السّميدع(2)
فذاق وبالا حين حاول ملكنا *** و حاول منّا غصّة تتجرّع(3)
و نحن عمرنا البيت كنّا ولاته *** نضارب عنه من أتانا و ندفع
/و ما كان يبغي ذاك في الناس غيرنا *** و لم يك حيّ قبلنا ثمّ يمنع
و كنّا ملوكا في الدهور التي مضت *** ورثنا ملوكا لا ترام فتوضع
قال عثمان بن ساج في خبره:
و حدّثني بعض أهل العلم أنّ سيلا جاء فدخل البيت فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم، بناه لهم رجل منهم يقال له أبو الجدرة و اسمه عمر الجارود، و سمّي بنوه الجدرة. قال: ثم استخفّت جرهم بحقّ البيت، و ارتكبوا فيه أمورا عظاما، و أحدثوا فيه أحداثا قبيحة، و كان للبيت خزانة، و هي بئر في بطنه، يلقى فيها الحلي و المتاع الذي يهدى له، و هو يومئذ لا سقف عليه، فتواعد عليه خمسة من جرهم أن يسرقوا كلّ ما فيه، فقام على كلّ زاوية من البيت رجل منهم و اقتحم الخامس، فجعل اللّه عزّ و جلّ أعلاه أسفله، و سقط منكّسا فهلك، و فرّ الأربعة الآخرون.
قالوا: و دخل إساف و نائلة(4) البيت ففجرا فيه، فمسخهما اللّه حجرين، فأخرجا من البيت. و قيل إنّه لم يفجر بها في البيت، و لكنه قبّلها في البيت.
و ذكر عثمان بن ساج عن أبي الزناد، أنه إساف بن سهيل، و أنها نائلة بنت عمرو بن ذئب. و قال غيره: إنها نائلة بنت ذئب. فأخرجا من الكعبة، و نصبا ليعتبر بهما من رآهما، و يزدجر النّاس عن مثل ما ارتكبا، فلما غلبت خزاعة على مكة و نسي حديثهما، حوّلهما عمرو بن لحيّ بن كلاب بعد ذلك؛ فجعلها تجاه الكعبة يذبح عندهما عند موضع زمزم.
ص: 13
قالوا: فلما كثر بغي جرهم بمكّة قام فيهم مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض فقال:
/يا قوم احذروا البغي، فإنّه لا بقاء لأهله، و قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفّوا بالحرم و لم يعظّموه و تنازعوا بينهم و اختلفوا، حتّى سلطكم اللّه عليهم فاجتحتموهم(1) فتفرّقوا في البلاد، فلا تستخفّوا بحقّ الحرم و حرمة بيت اللّه، و لا تظلموا من دخله و جاءه معظّما لحرماته، أو خائفا، أو رغب في جواره، فإنّكم إن فعلتم ذلكم تخوّفت أن تخرجوا منه خروج ذلّ و صغار، حتّى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم، و لا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز و أمن، و الطّير تأمن فيه.
فقال قائل منهم يقال له مجدع: و من الذي يخرجنا منه؟ ألسنا أعزّ العرب و أكثرهم مالا و سلاحا؟ فقال مضاض: إذا جاء الأمر بطل ما تذكرون؛ فقد رأيتم ما صنع اللّه بالعماليق! قالوا: و قد كانت العماليق بغت في الحرم، فسلّط اللّه عزّ و جلّ عليهم الذر(2) فأخرجهم منه، ثم رموا بالجدب من خلفهم حتّى ردّهم اللّه إلى مساقط رءوسهم، ثم أرسل عليهم الطوفان - قال: و الطوفان: الموت - قال: فلما رأى مضاض بن عمرو بغيهم و مقامهم عليه، عمد إلى كنوز الكعبة، و هي غزالان من ذهب، و أسياف قلعية(3)، فحفر لها ليلا في موضع زمزم، و دفنها.
فبيناهم/على ذلك إذ سارت القبائل من أهل مأرب، و معهم طريقة(4) الكاهنة، حين خافوا سيل العرم، و عليهم مزيقياء و هو عمرو بن عامر بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فقالت لهم/طريقة لمّا قاربوا(5) مكة: «و حقّ ما أقول(6)، و ما علّمني ما أقول إلا الحكيم المحكّم، ربّ جميع الأمم، من عرب و عجم». قالوا لها: ما شأنك يا طريقة؟ قالت:
«خذوا البعير الشدقم(7)، فخضّبوه بالدّم، تكن لكم أرض جرهم، جيران بيته المحرّم». فلما انتهوا إلى مكّة و أهلها أرسل إليهم عمرو ابنه ثعلبة، فقال لهم: يا قوم، إنّا قد خرجنا من بلادنا فلم ننزل بلدة إلا أفسح أهلها لنا، و تزحزحوا عنّا، فنقيم معهم حتّى نرسل روّادا فيرتادوا لنا بلدا يحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتّى نقيم قدر ما نستريح، و نرسل روّادنا(8) إلى الشّام و إلى الشرق، فحيثما بلغنا أنّه أمثل لحقنا به، و أرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا، فأبت ذلك جرهم إباء شديدا، و استكبروا في أنفسهم، و قالوا: لا و اللّه؛ ما نحبّ أن تنزلوا فتضيّقوا علينا مرابعنا(9) و مواردنا، فارحلوا عنا حيث أحببتم، فلا حاجة لنا بجواركم. فأرسل إليهم: إنّه لا بدّ من المقام بهذا البلد
ص: 14
حولا، حتى ترجع إليّ رسلي التي أرسلت، فإن أنزلتموني طوعا نزلت و حمدتكم و آسيتكم(1) في الرّعي و الماء، و إن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلاّ فضلا(2)، و لم تشربوا إلا رنقا(3)، و إن قاتلتموني قاتلتكم، ثمّ إن ظهرت عليكم سبيت النساء و قتلت الرجال، و لم أترك منكم أحدا ينزل الحرم أبدا! فأبت جرهم أن تنزله/طوعا و تعبّت لقتاله(4)، فاقتتلوا ثلاثة أيام أفرغ عليهم فيها الصبر، و منعوا النصر(5)، ثم انهزمت جرهم فلم يفلت منهم إلا الشّريد. و كان مضاض بن عمرو قد اعتزل حربهم و لم يعنهم في ذلك، و قال: قد كنت أحذّركم هذا. ثم رحل هو و ولده و أهل بيته حتّى نزلوا قنونى(6) و ما حوله، فبقايا جرهم(7) به إلى اليوم، و فني الباقون؛ أفناهم السيف في تلك الحروب.
قالوا: فلما حازت خزاعة أمر مكّة و صاروا و أهلها جاءهم بنو إسماعيل و قد كانوا اعتزلوا حرب جرهم و خزاعة، فلم يدخلوا في ذلك، فسألوهم السّكنى معهم و حولهم فأذنوا لهم، فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن الحارث و قد كان أصابه من الصّبابة إلى مكّة أمر عظيم، أرسل إلى خزاعة يستأذنها، و متّ إليهم برأيه(8) و توريعه قومه عن القتال(9)، و سوء العشرة في الحرم، و اعتزاله الحرب، فأبت خزاعة أن يقرّوهم و نفوهم عن الحرم كلّه، و قال عمرو بن لحي لقومه: من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر(10)! فنزعت إبل لمضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو، من قنونى تريد مكة، فخرج في طلبها حتّى وجد أثرها(11) قد دخلت مكة، فمضى على الجبال نحو أجياد، حتّى ظهر على أبي قبيس(12) يتبصّر الإبل في بطن وادي/مكّة، فأبصر الإبل تنحر و تؤكل و لا سبيل له إليها، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فولّى منصرفا إلى أهله و أنشأ يقول:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا *** أنيس و لم يسمر بمكّة سامر
و لم يتربّع واسطا فجنوبه *** إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر(13)
ص: 15
/بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا *** صروف اللّيالي و الجدود العواثر
و أبدلنا ربّي بها دار غربة *** بها الذئب يعوي و العدوّ المخامر(1)
أقول إذا نام الخلي و لم أنم *** أ ذا العرش لا يبعد سهيل و عامر(2)
قد ابدلت منهم أوجها لا أريدها *** و حمير قد بدّلتها و اليحابر(3)
فإن تمل الدّنيا علينا بكلّها *** و يصبح شرّ بيننا و تشاجر(4)
فنحن ولاة البيت من بعد نابت *** نمشّي به و الخير إذ ذاك ظاهر(5)
و أنكح جدّي خير شخص علمته *** فأبناؤه منّا و نحن الأصاهر(6)
و أخرجنا منها المليك بقدرة *** كذلك يا للنّاس تجري المقادر
/فصرنا أحاديثا و كنّا بغبطة *** كذلك عضّتنا السّنون الغوابر
و سحّت دموع العين تبكي لبلدة *** بها حرم أمن و فيها المشاعر
و يا ليت شعري من بأجياد بعدنا *** أقام بمفضى سيله و الظّواهر(7)
فبطن منّى أمسى كأن لم يكن به *** مضاض و من حيّا عديّ عمائر(8)
فهل فرج آت بشيء نحبّه *** و هل جزع منجيك ممّا تحاذر
قالوا: و قال أيضا:
يا أيّها الحيّ سيروا إنّ قصركم *** أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا(9)
إنّا كما أنتم كنّا فغيّرنا *** دهر بصرف كما صرنا تصيرونا(10)
أزجوا المطيّ و أرخوا من أزمّتها *** قبل الممات و قضّوا ما تقضّونا(11)
قد مال دهر علينا ثم أهلكنا *** بالبغي فيه فقد صرنا أفانينا(12)
كنّا زمانا ملوك الناس قبلكم *** نأوي بلادا حراما كان مسكونا
قال الأزرقي: فحدّثني محمد بن يحيى قال: حدّثني عبد العزيز بن عمران قال:
ص: 16
و خرج أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي قبيل الإسلام في نفر من قريش يريدون اليمن فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق، و أمسوا على غير الطريق، فتشاوروا جميعا، فقال لهم أبو سلمة: إنّي أرى ناقتي تنازعني شقّا(1)؛ أ فلا أرسلها و أتبعها؟ قالوا: فافعل. فأرسل ناقته و تبعها فأضحوا على ماء و حاضر(2)، فاستقوا/و سقوا، فإنّهم لعلى ذلك إذ أقبل إليهم رجل فقال: من القوم؟ قالوا: من قريش. فرجع إلى شجرة أمام الماء فتكلّم عندها بشيء ثم رجع إلينا، فقال: أ ينطلق معي أحدكم إلى رجل ندعوه(3). قال أبو سلمة: فانطلقت معه فوقف بي تحت شجرة، فإذا وكر معلّق فصوّت: يا أبت! فزعزع شيخ رأسه(4)، فأجابه فقال: هذا الرجل. فقال لي: ممن الرجل؟ قلت:
من قريش. قال: من أيّها؟ قلت: من بني مخزوم بن يقظة. قال: من أيّهم؟ قلت: أنا أبو سلمة بن عبد الأسد بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم بن يقظة. قال: أيهات منك(5)! أنا و يقظة سنّ(6)، أ تدري من يقول:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا *** أنيس و لم يسمر بمكة سامر
/بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي و الجدود العواثر
قلت: لا. قال: أنا قائلها، أنا عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي. أ تدري لم سمّى أجياد أجيادا؟ قلت:
لا. قال: جادت بالدّماء يوم التقينا نحن و قطوراء؛ أ تدري لم سمّي قيعقعان؟ قلت: لا. قال: لتقعقع السلاح على ظهورنا لمّا طلعنا عليهم منه.
و أخبرني بهذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء؛ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال: حدّثني إبراهيم بن المنذر الحزاميّ؛ قال: حدّثنا عبد العزيز بن عمران؛ قال حدّثني راشد بن حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال:
قال أبو سلمة بن عوف(7):
/و خرجت في نفر من قريش يريدون اليمن. و ذكر الخبر مثل حديث الأزرقيّ. و اللّه أعلم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني محمد بن يحيى قال: حدّثنا غسان بن عبد العزيز بن عبد الحميد(8) أنّ ربيعة بن أمية بن خلف كان قد أدمن الشراب، و شرب في شهر رمضان، فضربه عمر رضي اللّه عنه و غرّبه إلى ذي المروة، فلم يزل بها حتّى توفّي و استخلف عثمان رضي اللّه عنه؛ فقيل له: قد توفّي عمر و استخلف عثمان فلو دخلت المدينة ما ردّك أحد. قال: لا و اللّه لا أدخل المدينة فتقول قريش قد غرّبه رجل
ص: 17
من بني عديّ بن كعب. فلحق بالرّوم و تنصّر، فكان قيصر يحبوه و يكرمه، فأعقب(1) بها.
قال غسان: حدّثني أبي قال: قدم رسول يزيد بن معاوية على معاوية من بلاد الروم؛ فقال له معاوية: هل كان للناس خبر؟ قال: بينا نحن محاصرون مدينة كذا و كذا إذ سمعنا رجلا فصيح اللسان مشرفا من بين شرفتين(2) من شرف الحصن، و هو ينشد:
كأن لم يكن بن الحجون إلى الصّفا *** أنيس و لم يسمر بمكة سامر
فقال معاوية: ويحك، ذاك الربيع بن أمية يتغنى بشعر عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدّثنا عمر بن شبة قال؛ حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي أبي: مر بالدوابّ تسرج سحرا حتّى نغدو إلى ابن جامع(3) نستقبله بالياسرية(4) بسحرة(5) لا تأخذنا الشّمس(6)قال: فأمرت بذلك. و ركبنا في السحر فأصبحنا دون الياسرية، و قد طلعت علينا الشّمس. قال: فجئنا إلى ابن جامع و إذا به مختضب و على رأسه و لحيته خرق الخضاب، و إذا بقدر تطبخ في الشّمس؛ فلما نظر إلينا رحّب بنا، و قام إلينا فسلّم علينا، ثم دعا الماء فغسل رأسه و لحيته، ثم دعا بالغداء فأتي بغدائه، فغرف لنا من تلك القدر التي في الشمس، فتقزّزت(7) و بشعت من ذلك الطعام الذي طبخ، فأشار إليّ أبي: بأن كل. فأكلنا حتّى فرغنا من غدائنا، فلما غسلنا أيدينا نادى ابن جامع: يا غلام هات شرابنا! فأتي بنبيذ في زكرة قد كانت الزّكرة في الشمس(8)، فكرهت ذلك، فأشار إليّ أبي، أن لا تمتنع، ثم أتوا بقدح جيشانيّ(9) ملء الكفّ، فصبّ النبيذ فيه و هو يشبه(10) ماء قد(11)أغلي بالنار، ثم غنّى ابن جامع فقال:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا *** أنيس و لم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا *** صروف الليالي و الجدود العواثر
ص: 18
ثم غنّى، للعرجيّ(1):
لو أنّ سلمى رأتنا لا يراع لنا *** لما هبطنا جميعا أبطن السوق(2)
و كشرنا و كبول القين تنكؤنا *** كالأسد تكشر عن أنيابها الرّوق(3)
ثم تغنّى:
أجرّر في الجوامع كلّ يوم *** فيا للّه مظلمتي و صبري
ثم أمر بالرّحيل. و قد غنى هذه الثلاثة الأصوات. فقال لي أبي: يا بنيّ بشعت لما رأيت من طعام ابن جامع و شرابه؛ فعليّ عتق ما أملك(4) إن لم يكن شرب الدم مع هذا طيّبا. ثم قال: أسمعت بنيّ غناء قطّ أحسن من هذا؟ فقلت: لا و اللّه ما سمعت. قال: ثمّ خرج ابن جامع حتى نزل بباب أمير المؤمنين الرشيد ليلا، و اجتمع المغنّون على الباب، و خرج الرسول إليهم فأذن لهم؛ و الرشيد خلف السّتارة، فغنّوا إلى السّحر؛ فأعطاهم ألف دينار إلاّ ابن جامع فلم يعطه شيئا، و انصرفوا متوجّهين له، و عرضوا عليه جميعا فلم يقبل؛ و انصرفوا، فلما كان في الليلة الثانية دعوا فغنّوا ساعة، ثم كشفت الستارة، و غنّى جامع صوتا عرّض فيه بحاله و هو:
تقول أقم فينا فقيرا و ما الذي *** ترى فيه ليلي أن أقيم فقيرا
ذريني أمت يا ليل أو أكسب الغنى *** فإنّي أرى غير الغنيّ حقيرا
يدفّع في النادي و يرفض قوله *** و إن كان بالرأي السّديد جديرا
و يلزم ما يجني سواه و إن يطف *** بذنب يكن منه الصغير كبيرا(5)
قالوا: فأعجب الرّشيد ذلك الشعر و اللحن فيه، و أمال رأسه نحوه كالمستدعي له. و غنّاه أيضا:
فما كلّ ما يخشى الفتى نازل به *** و لا كلّ ما يرجو الفتى هو نائل(1)
و و اللّه ما فرّطت في وجه حيلة *** و لكنّ ما قد قدّر اللّه نازل
و قد يسلم الإنسان من حيث يتّقي *** و يؤتى الفتى من أمنه و هو غافل
ثم أمر بالانصراف فانصرفوا، فلمّا بلغوا السّتر صاح به الخادم: يا قرشيّ مكانك. فوقف مكانه فخرج إليه بخلع و سبعة آلاف دينار، و أمر إن شاء أن يقيم، و إن شاء أن ينصرف.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: ذكر الكلبي عن أبيه: أنّ الناس بيناهم في ليلة مقمرة في المسجد الحرام، إذ بصروا بشخص قد أقبل(2) كأنّ قامته رمح، فهربوا من بين يديه و هابوه؛ فأقبل حتّى طاف بالبيت الحرام سبعا ثم وقف فتمثّل:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا *** أنيس و لم يسمر بمكّة سامر
قال: فأتاه رجل من أهل مكّة؛ فوقف بعيدا منه ثم قال: سألتك بالذي خلقك أ جنّيّ أنت أم إنسيّ(3)؟ فقال:
بل إنسيّ، أنا امرأة من جرهم، كنّا سكّان هذه الأرض و أهلها، فأزالنا/عنها هذا الزمان الذي يبلي كلّ جديد و يغيّره! ثم انصرفت خارجة(4) عن المسجد حتّى غابت عنهم، و رجعوا إلى مواضعهم.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال: حدّثني أبي عن جدّي قال: قال لي يحيى بن خالد يوما: أخبرك برؤيا رأيتها؟ قلت: خيرا رأيت. قال: رأيت كأنّي خرجت من داري راكبا، ثم التفتّ يمينا و شمالا فلم أر معي أحدا، حتّى صرت إلى الجسر، فإذا بصائح يصيح من ذلك الجانب:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا *** أنيس و لم يسمر بمكّة سامر
فأجبته بقوله:
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا *** صروف اللّيالي و الجدود العواثر
فانصرفت إلى الرشيد فغنّيته الصوت، و خبرته الخبر، فعجب منه. و ما مضت الأيّام حتّى أوقع بهم(5).
شافني الزائرات قصر نفيس *** مثقلات الأعجاز قبّ البطون
ص: 20
يتربّعنه الربيع و ينزل *** - ن إذا صفن منزل الماجشون
/يتربّعنه: ينزلنه في أيام الربيع. يقال لمنزل القوم في أيام الربيع: متربّعهم. قال الشاعر:
أ من آل ليلى بالملا متربّع *** كما لاح وشم في الذّراع مرجّع(1)
و الماجشون: رجل من أهل المدينة يروى عنه الحديث. و الماجشون لقب لقّبته به سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - و هو اسم لون من الصّبغ أصفر تخالطه حمرة، و كذلك كان لونه. و يقال: إنها ما لقّبت أحدا قطّ بلقب إلاّ لصق به.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أحمد بن زهير قال: حدّثنا مصعب الزبيريّ، قال: حدّثني ابن الماجشون، قال:
نظرت سكينة إلى أبي، فقالت: كأنّ هذا الرجل الماجشون - و هو صبغ أصفر تخالطه حمرة - فلقّب بذلك.
قال عبد العزيز: و نظرت إلى رجل من ولد عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه و كانت فيه غلظة، فقالت: هذا الرجل في قريش كالشّيرج في الأدهان! فكان ذلك الرجل يسمّى: فلان شيرج حتّى مات.
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لإبراهيم الموصليّ. خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر، و فيه لبصبص جارية ابن نفيس التي قيل هذا الشعر فيها: رمل. و ذكر حبش أن لها فيه أيضا ثقيل أوّل بالوسطى.
ص: 21
3 - ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس(1) و أخبارها
كانت بصبص هذه جارية مولّدة من مولّدات المدينة، حلوة الوجه، حسنة الغناء، قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنّين، و كان يحيى بن نفيس مولاها - و قيل نفيس بن محمد، و الأوّل أصح - صاحب قيان يغشاه الأشراف، و يسمعون غناء جواريه، و له في ذلك قصص نذكرها بعد، و كانت بصبص هذه أنفسهنّ و أشدّهنّ تقدّما.
و ذكر ابن خرداذبه: أنّ المهديّ اشتراها و هو وليّ و العهد سرّا من أبيه بسبعة عشر ألف دينار، فولدت منه عليّة بنت/المهديّ.
و ذكر غيره أنّ ابن خرداذبه غلط(2) في هذا، و أن الذي صحّ أن المهديّ اشترى بهذه الجملة جارية غيرها، و ولدت علية.
و ذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات: أن ابن القداح حدّثه قال:
كانت مكنونة جارية المروانيّة - و ليست من آل مروان بن الحكم؛ و هي زوجة الحسين بن عبد اللّه بن العباس - أحسن جارية بالمدينة وجها، و كانت رسحاء(3)، و كان بعض من يمازحها يعبث بها، و يصيح: طست طست(4)! و كانت حسنة الصّدر و البطن، و كانت توضح بهما(5)، و تقول: و لكن هذا! فاشتريت للمهديّ/في حياة أبيه بمائة ألف درهم فغلبت عليه، حتّى كانت الخيرزان تقول: ما ملك أمة أغلظ عليّ منها. و استتر أمرها على المنصور حتّى مات. و ولدت من المهديّ عليّة بنت المهديّ.
و الذي قال ابن خرداذبه غير مردود إذا كان هذا صحيحا.
بكر بن محمد بن عثمان الربعي، و يحيى بن عقبة، أن يأتوا بصبص جارية ابن نفيس، فعجل محمد بن يحيى، و كان من أصحاب عيسى بن موسى، ليخرج إلى الكوفة، فقال عبد اللّه بن مصعب.
أ رائح أنت أبا جعفر *** من قبل أن تسمع من بصبصا
هيهات أن تسمع منها إذا *** جاوزت العيس بك الأعوصا(1)
فخذ عليها مجلسي لذّة *** و مجلسا من قبل أن تشخصا(2)
أحلف باللّه يمينا و من *** يحلف باللّه فقد أخلصا
لو أنّها تدعو إلى بيعة *** بايعتها ثمّ شققت العصا(3)
قال: و فيها(4) غناء لبصبص.
قال: فاشتراها أبو غسّان مولى منيرة للمهديّ بسبعة عشر ألف دينار.
/قال حمّاد: و حدّثني أبي عن الزبير أن عبد اللّه بن مصعب خاطب بهذا الشعر أبا جعفر المنصور لما حجّ فاجتاز بالمدينة منصرفا من الحجّ، لا أبا جعفر محمد بن يحيى بن زيد.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعي إجازة قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني محمد بن سلام قال: حدّثني موسى بن مهران قال: كانت بالمدينة قينة لآل نفيس بن محمد يقال لها بصبص، و كان مولاها صاحب قصر نفيس الذي يقول فيه الشاعر:
شاقني الزائرات قصر نفيس *** مثقلات الأعجاز قبّ البطون(5)
قال: و كان عبد اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير يأتيها، فيسمع منها، و كان يأتيها فتيان من قريش فيسمعون منها، فقال عبد اللّه بن مصعب حين قدم المنصور منصرفا من الحجّ و مرّ بالمدينة يذكر بصبص:
أ راحل أنت أبا جعفر *** من قبل أن تسمع من بصبصا
و ذكر الأبيات، فبلغت أبا جعفر، فغضب فدعا به؛ فقال: أما إنكم يا آل الزبير قديما ما قادتكم النساء، و شققتم معهنّ العصا، حتّى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنّيات؛ فدونكم يا آل/الزبير هذا المرتع الوخيم(6).
قال: ثمّ بلغ أبا جعفر بعد ذلك أنّ عبد اللّه بن مصعب قد اصطبح(7) مع بصبص و هي تغنّيه بشعره:
ص: 23
إذا تمزّزت صراحيّة *** كمثل ريح المسك أو أطيب(1)
ثم تغنّى لي بأهزاجه *** زيد أخو الأنصار أو أشعب
حسبت أنّي مالك جالس *** حفّت به الأملاك و الموكب
فلا أبالي و إله الورى *** أ شرّق العالم أم غرّبوا
الغناء لزيد الأنصاري، هزج مطلق في مجرى الوسطى عن الهشاميّ و غيره، و ذكر غيره أنه لأشعب. فقال أبو جعفر: العالم لا يبالون كيف أصبحت و كيف أمسيت.
ثم قال أبو جعفر: و لكنّ الذي يعجبني أن يحدو بي الحادي الليلة بشعر طريف العنبريّ، فهو آلف في سمعي من غناء بصبص، و أحرى أن يختاره أهل العقل. قال: فدعا فلانا الحادي - قد ذكره و سقط اسمه - و كان إذا حدا وضعت الإبل رءوسها لصوته(2) و انقادت انقيادا عجيبا(3)، فسأله المنصور: ما بلغ من حسن حدائه؟ قال: تعطّش الإبل ثلاثا أو قال خمسا و تدني من الماء، ثمّ أحدو فتتبع كلّها صوتي، و لا تقرب الماء. فحفظ الشعر، و كان(4):
إنّي و إن كان ابن عمّي كاشحا *** لمزاحم من دونه و ورائه(5)
و ممدّه نصري و إن كان أمرأ *** متزحزحا في أرضه و سمائه(6)
/و أكون مأوى سرّه و أصونه *** حتّى يحقّ عليّ يوم أدائه
و إذا أتى من غيبه بطريفة *** لم أطّلع: ما ذا وراء خبائه
و إذا تحيّفت الحوادث ماله *** قرنت صحيحتنا إلى جربائه(7)
و إذا تريّش في غناه و فرته *** و إذا تصعلك كنت من قرنائه(8)
و إذا غدا يوما ليركب مركبا *** صعبا قعدت له على سيسائه(9)
فلما كان الليل حدا به الحادي بهذه الأبيات، فقال: هذا و اللّه أحثّ على المروءة و أشبه بأهل الأدب من غناء
ص: 24
بصبص. قال: فحدا به ليلة، فلما أصبح قال: يا ربيع أعطه درهما. فقال له: يا أمير المؤمنين؛ حدوت بهشام بن عبد الملك، فأمر لي بعشرين ألف درهم و تأمر أنت بدرهم! قال: إنّا للّه! ذكرت ما لم نحبّ(1) أن تذكره؛ و وصفت أنّ رجلا ظالما أهذ مال اللّه من غير حلّه؛ و أنفقه في غير حقّه يا ربيع، اشدد، يديك به حتّى يردّ المال. فبكى الحادي، و قال: يا أمير المؤمنين قد مضت لهذا السّنون(2) و قضيت به الديون، و تمزّقته النّفقات؛ و لا و الذي أكرمك بالخلافة ما بقي عندي منه شيء. فلم يزل أهله و خاصته يسألونه حتّى كفّ عنه، و شرط عليه أن يحدو به ذاهبا و راجعا، و لا يأخذ منه شيئا.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ، قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثني القاسم بن زيد المدينيّ؛ قال:
/اجتمع ذات يوم عند بصبص جارية ابن نفيس عبد اللّه بن مصعب الزّبيريّ(3) و محمد بن عيسى الجعفريّ، في أشراف من أهل المدينة، /فتذاكروا مزبّدا المدينيّ صاحب النوادر و بخله، فقالت بصبص: أنا آخذ لكم منه درهما.
فقال لها مولاها: أنت حرّة لئن فعلت إن لم أشتر لك مخنقة(4) بمائة ألف دينار و إن لم أشتر لك ثوب وشي بما شئت؛ و أجعل لك مجلسا(5) بالعقيق أنحر لك فيه بدنة لم تقتب(6) و لم تركب. فقالت: جيء به و ارفع عني الغيرة.
فقال: أنت حرّة أن لو رفع برجليك لأعنته على ذلك. فقال عبد اللّه بن مصعب: فصلّيت الغداة في مسجد المدينة، فإذا أنا به، فقلت: أبا إسحاق، أ ما تحبّ أن ترى بصبص جارية ابن نفيس؟ فقال: امرأته طالق(7) إن لم يكن اللّه ساخطا عليّ فيها، و إن لم أكن أسأله أن يرينيها منذ سنة فما يفعل. فقلت له: اليوم إذا صلّيت العصر فوافني هاهنا.
قال: امرأته طالق إن برحت من هاهنا حتّى تجيء صلاة العصر. قال: فتصرّفت(8) في حوائجي حتّى كانت العصر، و دخلت المسجد فوجدته فيه، فأخذت بيده و أتيتهم به، فأكلوا و شربوا، و تساكر القوم و تناوموا، فأقبلت بصبص على مزبّد، فقالت: أبا إسحاق، كأنّ في نفسك تشتهي أن أغنّيك الساعة:
لقد حثّوا الجمال ليه *** - ربوا منّا فلم يئلوا(9)
/فقال: زوجته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللّوح المحفوظ! قال: فغنّته ساعة ثم مكثت ساعة فقالت:
أبا إسحاق كأنّ في نفسك تشتهي أن تقوم من مجلسك فتجلس إلى جانبي فتقرصني قرصات، و أغنّيك.
قالت و قد أبثثتها وجدي فبحت به(10) *** قد كنت قدما تحبّ السّتر فاستتر
ص: 25
أ لست تبصر من حولي فقلت لها *** غطّى هواك و ما ألقى على بصري
فقال: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام و ما تكسب الأنفس غدا، و بأيّ أرض تموت! فغنّته ثم قالت: برح الخفاء(1)، أنا أعلم أنّك تشتهي أن تقبّلني شقّ التّين و أغنّيك هزجا:
أنا أبصرت بالليل *** غلاما حسن الدّلّ
كغصن البان قد أص *** - بح مسقيا من الطل
لم يذكر صانعه، و هو هزج على ما ذكر.
فقال: أنت نبيّة مرسلة! فغنته ثم قالت: أبا إسحاق، أ رأيت أسقط من هؤلاء! يدعونك و يخرجونني إليك و لا يشترون ريحانا بدرهم، أي أبا إسحاق؛ هلمّ درهما نشتري به ريحانا! فوثب و صاح: وا حرباه(2)، أي زانية، أخطأت استك الحفرة(3)، انقطع و اللّه عنك الوحي الذي كان يوحى إليك! و عطعط القوم بها(4)، و علموا أنّ حيلتها لم تنفذ عليه، ثمّ خرجوا فلم يعد إليها، و عاود القوم مجلسهم، فكان أكثر شغلهم فيه حديث مزبّد معها و الضّحك منه.
و قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات: أنشدني الزبير بن بكّار، قال: أنشدني غرير بن طلحة لابن أبي الزوائد - و هو ابن ذي الزوائد - في بصبص:
بصبص أنت الشمس مزدانة *** فإن تبذّلت فأنت الهلال
سبحانك اللّهمّ ما هكذا *** فيما مضى كان يكون الجمال
/إذا دعت بالعود في مشهد *** و عاونت يمنى يديها الشّمال
غنّت غناء يستفزّ الفتى *** حذقا وزان الحذق منها الدلاّل
قال هارون: قال الزّبير: و أنشدني غرير أيضا لنفسه يهجو مولاها:
يا ويح بصبص من يحيى(5) لقد رزقت *** وجها قبيحا و أنفا من جعاميس(6)
يمجّ من فيه في فيها إذا هجعت *** ريقا خبيثا كأرواح الكرابيس(7)
ص: 26
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمي قال: هوي محمد بن عيسى الجعفريّ بصبص جارية ابن نفيس، فهام بها و طال ذلك عليه فقال لصديق له: لقد شغلتني هذه عن صنعتي و كلّ أمري، و قد وجدت مسّ السلوّ فاذهب بنا حتّى أكاشفها بذلك فأستريح. فأتياها فلما غنّت لهما قال لها محمد بن عيسى:
أ تغنين:
و كنت أحبّكم فسلوت عنكم *** عليكم في دياركم السّلام
فقالت: لا و لكنّي أغنّي:
تحمّل أهلها عنها فبانوا *** على آثار من ذهب العفاء(1)
/فاستحيا و ازداد بها كلفا، و لها عشقا، فأطرق ساعة ثم قال: أ تغنين:
و أخضع بالعتبي إذا كنت مذنبا *** و إن أذنبت كنت الذي أتنصّل
قالت: نعم و أغنّي أحسن منه:
فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله *** و ننزلكم منّا بأقرب منزل
قال: فتقاطعا في بيتين، و تواصلا في بيتين. و في هذه الأبيات الأربعة غناء كان محمد قريض(2)، و ذكاء، و غيرهما ممن شاهدنا من الحذّاق يغنّونه في الابتداءين لحنين من الثقيل الأوّل، و في الجوابين لحنين من خفيف الثقيل، و لا أعرف صانعهما.
أخبرني عمي قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدّثني أبو أيوب المدينيّ عن مصعب قال:
حضر أبو السائب المخزومي مجلسا فيه بصبص جارية يحيى بن نفيس، فغنت:
قلبي حبيس عليك موقوف *** و العين عبرى و الدمع مذروف
و النّفس في حسرة بغصّتها *** قد شفّ أرجاءها التّساويف(3)
إن كنت بالحسن قد وصفت لنا *** فإنّني بالهوى لموصوف
يا حسرتا حسرة أموت بها *** إن لم يكن لي لديك معروف
قال: فطرب أبو السائب و نعر(4)، و قال: لا عرف اللّه قدره إن لم أعرف لك معروفك. ثم أخذ قناعها عن رأسها و جعله على رأسه(5) و جعل يلطم و يبكي، و يقول لها: بأبي و اللّه أنت، إنّي لأرجو أن تكوني عند اللّه أفضل من الشّهداء، لما توليناه من السرور، و جعل يصيح، وا غوثاه! يا للّه لما يلقى العاشقون.
ص: 27
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان [قال حدّثني أبو بكر العامري قال حدّثني عمرو بن عبد اللّه البصري](1)قال: حدّثنا [الحسين](1) بن يحيى عن عثمان بن محمد الليثي قال: كنت يوما في مجلس ابن نفيس، فخرجت إلينا جاريته بصبص، و كان في القوم فتى يحبّها، فسألته حاجة، فقام ليأتيها بها، فنسي أن يلبس نعله، و مشى حافيا؛ فقالت: يا فلان، /نسيت نعلك. فلبسها و قال: أنا و اللّه كما قال الأوّل:
و حبّك ينسيني عن الشّيء في يدي *** و يشغلني عن كلّ شيء أحاوله
فأجابته فقالت:
و بي مثل ما تشكوه منّي و إنّني *** لأشفق من حبّ أراك تزاوله
يشتاق قلبي إلى مليكة لو *** أمست قريبا ممن يطالبها
ما أحسن الجيد من مليكة و ال *** - لّبّات إذ زانها ترائبها(2)
يا ليتني ليلة إذا هجع ال *** - نّاس و نام الكلاب صاحبها
في ليلة لا يرى بها أحد *** يسعى علينا إلاّ كواكبها
الشعر لأحيحة بن الجلاح، و الغناء لابن سريج. رمل بالخنصر في مجرى البنصر. و فيه لحن لمالك(3) من رواية يونس.
ص: 28
هو أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.
و يكنى أحيحة أبا عمرو.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثني الزبير بن بكّار قال: حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز قال: ركب الوليد بن عبد الملك إلى المساجد، فأتى مسجد العصبة(1)، فلما صلّى قال للأحوص: يا أحوص أين الزّوراء التي قال فيها صاحبكم:
إنّي أقيم على الزّوراء أعمرها *** إنّ الكريم على الإخوان ذو المال
لها ثلاث بئار في جوانبها *** في كلّها عقب تسقى بأقبال(2)
استغن أو مت و لا يغررك ذو نشب *** من ابن عمّ و لا عمّ و لا خال(3)
قال الزبير؛ العقب الذي في أوّل المال عند مدخل الماء، و الطلب الذي في آخره(4). قال: فأشار له الأحوص إليها و قال: ها هي تلك، لو طوّلت لأشقرك هذا لجال عليها(5)، فقال الوليد: إنّ أبا عمرو كان يراه غنيّا بها، فعجب الناس يومئذ لعناية الوليد بالعلم، حتّى علم أنّ كنية أحيحة أبو عمرو.
و في بعض(6) هذا الشعر غناء، و هو:
استغن أو مت و لا يغررك ذو نشب *** من ابن عمّ و لا عمّ و لا خال
يلوون ما لهم عن حقّ أقربهم *** و عن عشيرتهم؛ و الحقّ للوالي(7)
ص: 29
غنّاه الهذلي رملا بالوسطى من رواية الهشاميّ و عمرو بن بانة.
و أمّا السّبب في قول أحيحة هذا الشعر فإنّ أحمد بن عبيد المكتّب(1) ذكر أن محمد بن يزيد الكلبيّ حدّثه، و حدّثه أيضا هشام بن محمد عن الشّرقيّ بن القطاميّ قال هشام: و حدّثني به أبي أيضا.
قال: و حدّثني رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عمّار بن ياسر، قال: و حدّثني/عبد الرحمن بن سليمان الأنصاريّ، قالوا جميعا:
أقبل تبّع الأخير و هو أبو كرب بن حسان بن أسعد الحميريّ، من اليمين سائرا(2) يريد المشرق كما كانت التّبابعة تفعل، فمرّ بالمدينة فخلّف بها ابنا له، و مضى حتّى قدم الشّأم، ثم سار من الشام حتّى قدم العراق فنزل بالمشقّر(3)، فقتل ابنه غيلة بالمدينة، فبلغه و هو بالمشقّر مقتل ابنه، فكرّ راجعا إلى المدينة و هو يقول:
يا ذا معاهر ما تزال ترود *** رمد بعينك عادها أم عود(4)
منع الرّقاد فما أغمّض ساعة *** نبط بيثرب آمنون قعود
لا تستقي بيديك إن لم تلقها *** حربا كأنّ أشاءها مجرود(5)
ثم أقبل حتّى دخل المدينة و هو مجمع على إخرابها و قطع نخلها، و استئصال أهلها، و سبي الذرّية؛ فنزل بسفح أحد فاحتفر بها بئرا - فهي البئر التي يقال لها إلى اليوم بئر الملك - ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوه فكان فيمن أرسل إليه زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف، و ابن عمه زيد بن أميّة بن زيد، و ابن عمه زيد بن عبيد بن زيد(6) - و كانوا يسمّون الأزياد - و أحيحة بن الجلاح؛ فلمّا جاء رسوله قال الازدياد: إنما أرسل إلينا ليملّكنا على أهل يثرب. فقال أحيحة: و اللّه ما دعاكم لخير! و قال:
ليت حظّي من أبي كرب *** أن يردّ خيره خبله(7)
فذهبت مثلا. و كان يقال: إنّ مع أحيحة تابعا من الجنّ يعلمه الخبر لكثرة صوابه؛ لأنّه كان لا يظنّ شيئا فيخبر به قومه إلا كان كما يقول. فخرجوا إليه، و خرج أحيحة و معه قينة له، و خباء، فضرب الخباء و جعل فيه القينة و الخمر، ثم خرج حتى استأذن على تبّع، فأذن له، و أجلسه معه على زربيّة تحته(8)، و تحدّث معه و سأله عن أمواله بالمدينة؛ فجعل يخبره عنها، و جعل تبّع كلّما أخبره عن شيء منها يقول: كلّ ذلك على هذه الزربية. يريد بذلك تبّع
ص: 30
قتل أحيحة، ففطن أحيحة أنه يريد قتله فخرج من عنده فدخل خباءه، فشرب الخمر، و قرض أبياتا، و أمر القينة أن نغنّيه بها، و جعل تبّع عليه حرسا، و كانت قينته تدعى مليكة فقال:
يشتاق قلبي إلى مليكة لو *** أمست قريبا ممن يطالبها
الأبيات. و زاد فيها مما ليس فيه غناء:
لتبكني قينة و مزهرها *** و لتبكني قهوة و شاربها
و لتبكني ناقة إذا رحلت *** و غاب في سردح مناكبها(1)
و لتبكني عصبة إذا جمعت *** لم يعلم الناس ما عواقبها(2)
فلم تزل القينة تغنّيه بذلك يومه و عامّة ليلته(3)؛ فلما نام الحرّاس قال لها: إنّي ذاهب إلى أهلي فشدّي(4)عليك الخباء، فإذا جاء رسول الملك فقولي له: هو نائم؛ فإذا أبوا إلاّ أن يوقظوني فقولي: قد رجع إلى أهله و أرسلني إلى الملك برسالة. فإن ذهبوا بك إليه فقولي له: يقول لك أحيحة: «اغدر بقينة أو دع». ثم انطلق فتحصّن في أطمه(5) الضّحيان، و أرسل تبّع من جوف الليل إلى الأزياد فقتلهم على فقارة من فقار(6) تلك الحرّة. و أرسل إلى أحيحة ليقتله، فخرجت إليهم/القينة، فقالت: هو راقد. فانصرفوا و تردّدوا عليها مرارا؛ كلّ ذلك تقول: هو راقد.
ثم عادوا فقالوا: لتوقظنّه أو لندخلنّ عليك. قالت: فإنه قد رجع إلى أهله، و أرسلني إلى الملك برسالة. فذهبوا بها إلى الملك، فلما دخلت عليه سألها عنه، فأخبرته خبره، و قالت: يقول لك: «اغدر بقينة أو دع». فذهبت كلمة أحيحة هذه مثلا؛ فجرّد له كتيبة من خيله، ثم أرسلهم في طلبه فوجدوه قد تحصّن في أطمه، فحاصروه ثلاثا؛ يقاتلهم بالنّهار و يرميهم بالنبل و الحجارة، و يرمي إليهم بالليل/بالتمر، فلما مضت الثلاث رجعوا إلى تبّع فقالوا:
بعثتنا(7) إلى رجل يقاتلنا بالنهار، و يضيفنا بالليل! فتركه؛ و أمرهم أن يحرّقوا نخله. و شبّت الحرب بين أهل المدينة: أوسها و خزرجها و يهودها، و بين تبّع، و تحصّنوا في الآطام. فخرج رجل من أصحاب تبّع حتى جاء بني عديّ بن النجّار؛ و هم متحصّنون في أطمهم، الذي كان في قبلة مسجدهم، فدخل حديقة من حدائقهم، فرقي عذقا منها يجدّها(8)، فاطّلع إليه رجل من بني عديّ بن النجار من الأطم يقال له أحمر أو صخر(9) بن سليمان من بني سلمة، فنزل إليه فضربه بمنجل حتّى قتله ثم ألقاه في بئر! و قال: جاءنا يجدّ نخلنا(10)، «إنّما النخل لمن أبره»(11)، فأرسلها مثلا. فلما انتهى ذلك إلى تبّع زاده حنقا و جرّد إلى بني النجّار جريدة من خيله(12)؛ فقاتلهم بنو النجّار
ص: 31
و رئيسهم عمرو بن طلّة(1) أخو بني معاوية بن مالك بن النجّار، و جاء بعض تلك الخيول إلى بني عديّ و هم متحصّنون في أطمهم الذي في قبلة مسجدهم، فراموا بني عديّ بالنّبل، فجعلت نبلهم تقع في جدار الأطم، فكان على أطمهم مثل الشّعر من النبل، فسمّي ذلك الأطم الأشعر - و لم تزل بقايا النّبل فيه حتّى جاء اللّه عزّ و جلّ بالإسلام - و جاء بعض جنوده إلى بني الحارث بن الخزرج، فجذموا نخلهم من أنصافها، /فسمّيت تلك النخل جذمان(2)، و جدعوا هم فرسا لتبّع، فكان تبّع يقول: لقد صنع بي أهل يثرب شيئا ما صنعه بي أحد؛ قتلوا ابني و صاحبي، و جدعوا فرسي! قالوا: فبينا تبّع يريد إخراب المدينة، و قتل المقاتلة، و سبي الذرّية، و قطع الأموال أتاه حبران من اليهود(3) فقالا، أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنّها محفوظة، و إنا نجد اسمها كثيرا في كتابنا، و أنّها مهاجر نبيّ من بني إسماعيل اسمه أحمد، يخرج من هذا الحرم من نحو البيت الذي بمكة، تكون داره و قراره، و يتبعه أكثر أهلها. فأعجبه ما سمع منهما، و كفّ عن الذي أراد بالمدينة و أهلها، و صدّق الحبرين بما حدّثاه، و انصرف تبّع عما كان أراد بها، و كفّ عن حربهم، و آمنهم حتّى دخلوا عسكره، و دخل جنده المدينة؛ فقال عمرو بن مالك بن النجار، يذكر شأن تبع، و يمدح عمرو بن طلّة:
أ صحا أم انتحى ذكره *** أم قضى من لذّة وطره(4)
بعد ما ولّى الشباب و ما *** ذكره الشّباب أو عصره(5)
إنّها حرب يمانية *** مثلها آتى الفتى عبره
سائلي عمران أو أسدا *** إذ أتت تعدو مع الزّهره(6)
/فيلق فيه أبو كرب *** سبع أبدانه ذفرة(7)
/ثم قالوا من يؤمّ بنا *** أ بنو عوف أم النّجرة(8)
يا بني النّجار إنّ لنا *** فيكم ذحلا و إنّ تره(9)
فتلقّتهم مسايفة *** مدّها كالغبية النّثرة(10)
- الغبية(11): السحابة التي فيها مطر و برق برعد -.
ص: 32
فيهم عمرو بن طلّة لا *** همّ فامنح قومه عمره(1)
سيّد سامي الملوك و من *** يدع عمرا لا تجد قدره(2)
و قال في ذلك رجل من اليهود:
تكلّفني من تكاليفها *** نخيل الأساويف و المصنعة(3)
نخيلا حمتها بنو مالك *** جنود أبي كرب المفظعة
و قال أحيحة يرثي الأزياد الذين قتلهم تبّع:
ألا يا لهف نفسي أيّ لهف *** على أهل الفقارة أيّ لهف(4)
/مضوا قصد السّبيل و خلّفوني *** إلى خلف من الأبرام خلف(5)
سدى لا يكتفون و لا أراهم *** يطيعون أمرا إن كان يكفي(6)
قالوا: فلما كفّ تبّع عن أهل المدينة اختلطوا بعسكره فبايعوه و خالطوهم. ثم إنّ تبّعا استوبأ بئره التي حفرها(7)، و شكا بطنه عن مائها؛ فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فكهة بنت زيد بن كلدة(8) بن عامر بن زريق، و كانت ذات جلد و شرف في قومها، فشكا إليها و بأبئره، فانطلقت فأخذت قربا و حمارين حتّى استقت له من ماء رومة، فشربه فأعجبه، و قال: زيديني من هذا الماء. فكانت تختلف إليه في كلّ يوم بماء رومة، فلمّا حان رحيله دعاها، فقال لها: يا فكهة، إنّه ليس معنا من الصفراء و البيضاء شيء(9)، و لكن لك ما تركنا من أزوادنا و متاعنا. فلما خرج تبّع نقلت ما تركوه من ازوادهم و متاعهم؛ فيقال إنه لم تزل فكهة أكثر بني زريق مالا حتّى جاء الإسلام.
قال: و خرج تبّع يريد اليمن و معه الحبران اللذان نهياه عن المدينة، فقال حين شخص من منزله: هذه قباء الأرض. فسمّيت قباء(10). و مرّ بالجرف فقال؛ هذا جرف الأرض. فسمّي الجرف؛ و هو أرفعها. و مرّ بالعرصة و تسمّى السليل فقال: هذه عرصة الأرض. ثم انحدر في العقيق فقال: هذا عقيق الأرض. فسمّي العقيق. /ثمّ خرج يسير حتّى نزل البقيع، فنزل على غدير ماء يقال له براجم، فشرب منه شربة فدخلت في حلقه علقة فاشتكى منها. فقال فيما ذكر أبو مسكين قوله:
ص: 33
و لقد شربت على براجم شربة *** كادت بباقية الحياة تذيع(1)
ثم مضى حتى إذا كان بحمدان(2) جاءه نفر من هذيل(3) فقالوا له: اجعل لنا جعلا و ندلّك على بيت مال فيه كنوز من اللؤلؤ و الياقوت و الزبرجد و الذهب و الفضّة(4)، ليست لأهله منعة و لا شرف. فجعل لهم على ذلك جعلا، فقالوا له: هو البيت الذي تحجّه العرب بمكة. و أرادوا بذلك هلاكه. فتوجّه نحوه فأخذته ظلمة منعته من السّير، فدعا الحبرين فسألهما، فقالا: هذا لما/أجمعت عليه في هذا البيت؛ و اللّه مانعه منك، و لن تصل إليه، فاحذر أن يصيبك ما أصاب من انتهك حرمات اللّه؛ و إنّما أراد القوم الذين أمروك به هلاكك؛ لأنه لم يرمه أحد قطّ بشرّ إلا أهلكه اللّه، فأكرمه وطف به، و احلق رأسك عنده، فترك الذي كان أجمع عليه، و أمر بالهذليّين فقطّع أيديهم و أرجلهم، ثم خرج يسير حتّى أتى مكّة فنزل بالشّعب من الأبطح، و طاف بالبيت، و حلق رأسه، و كساه الخصف(5).
قال هشام: و حدّثني ابن لجرير بن يزيد البجلي عن جعفر بن محمد عن أبيه. قال هشام: و حدّثني أبي عن صالح(6) عن ابن عباس قال:
لمّا أقبل تبّع يريد هدم البيت و صرف وجوه العرب إلى اليمن، بات صحيحا فأصبح و قد سالت عيناه على خدّيه، فبعث إلى السّحرة و الكهّان و المنجّمين، فقال: ما لي، فو اللّه(7) لقد بتّ ليلتي ما أجد شيئا، و قد صرت إلى ما ترون. فقالوا: حدّث نفسك بخير. ففعل فارتدّ بصيرا، و كسا البيت الخصف.
هذه رواية جعفر بن محمد عن أبيه. و في رواية ابن عباس:
فأتي في المنام فقيل له: اكسه أحسن من هذا. فكساه الوصائل - قال: و هي برود العصب(8)، سمّيت الوصائل لأنّها كانت يوصل بعضها ببعض - قال: فأقام بمكة ستّة أيام يطعم الطعام، و ينحر في كلّ يوم ألف بعير، ثم سار إلى اليمن و هو يقول:
و نحرنا بالشّعب ستّة آلا *** ف ترى الناس نحوهنّ ورودا(9)
و كسونا البيت الذي حرّم اللّ *** - ه ملاء معضّدا و برودا؟(10)
ص: 34
و أقمنا به من الشّهر ستّا *** و جعلنا له به إقليدا
ثم أبنا منه نؤمّ سهيلا *** قد رفعنا لواءنا المعقودا(1)
قال: و تهوّد تبّع و أهل اليمن بذينك الحبرين.
أخبرني محمد بن مزيد(2) قال: أخبرني حمّاد بن إسحاق عن أبيه، قال: حدّثني أبو البختري عن أبي إسحاق، قال: أخبرني أيوب بن عبد الرحمن:
أنّ رجلا من بني مازن بن النجار يقال له كعب بن عمرو، تزوّج امرأة من بني سالم بن عوف(3) فكان يختلف إليها، فقعد له رهط من بني جحجبى بمرصد، فضربوه حتّى قتلوه أو كادوا، فأدركه القوافل(4) فاستنقذوه؛ فلما بلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو خرج و خرج معه بنو النجّار و خرج أحيحة بن الجلاح ببني عمرو بن عوف، فالتقوا بالرّحابة(5)، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل أخا عاصم يومئذ أحيحة بن الجلاح، و كان يكنى أبا وحوحة، فأصابه في أصحابه حين انهزموا، و طلب عاصم أحيحة حتّى انتهى إلى البيوت، فأدركه عاصم عند باب داره فزجّه بالرمح، و دخل(6) أحيحة الباب، و وقع الرّمح في الباب، و رجع عاصم و أصحابه فمكث أياما. ثم إنّ عاصما طلب أحيحة ليلا ليقتله في داره، فبلغ ذلك أحيحة، و قيل له إنّ عاصما قد رئي البارحة عند الضّحيان(7) و الغابة(8) - و هي أرض لأحيحة، و الضّحيان: أطم له - و كان أحيحة إذ ذاك سيّد قومه من الأوس، و كان رجلا صنعا للمال(9)، شحيحا عليه، يبيع(10) بيع الربا بالمدينة، حتّى كاد يحيط بأموالهم، و كان له تسع و تسعون بعيرا(11) كلّها ينضح/عليها، و كان له بالجرف أصوار(12) من نخل قلّ يوم يمرّ به إلاّ يطّلع فيه، و كان له أطمان: أطم في قومه/يقال له المستظلّ، و هو الذي تحصّن فيه حين قاتل تبّعا أسعد أبا كرب الحميريّ، و أطمه الضّحيان بالعصبة(13) في أرضه التي يقال لها الغابة(14)بناه بحجارة سود و بنى عليه نبرة(15) بيضاء مثل الفضّة، ثم جعل عليها مثلها، يراها الراكب من مسيرة يوم أو نحوه،
ص: 35
و كانت الآطام هي عزّهم و منعتهم و حصونهم التي يتحرّزون فيها من عدوّهم. و يزعمون أنّه لما بناه أشرف هو و غلام له، ثم قال: لقد بنيت حصنا حصينا ما بنى مثله رجل من العرب أمنع و لا أكرم، و لقد عرفت موضع حجر منه لو نزع لوقع جميعا! فقال غلامه: أنا أعرفه. فقال: فأرنيه يا بنيّ. قال: هو هذا. و صرف إليه رأسه، فلما رأى أحيحة أنّه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات، و إنّما قتله إرادة ألاّ يعرف ذلك الحجر أحد. و لمّا بناه قال:
بنيت بعد مستظلّ ضاحيا *** بنيته بعصبة(1) من ماليا
و السرّ مما يتبع القواصيا(2) *** أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا(3)
و كان أحيحة إذا أمسى جلس بحذاء حصنه الضّحيان، ثم أرسل كلابا له تنبح دونه على من يأتيه ممّن لا يعرف، حذرا أن يأتيه عدوّ يصيب منه غرّة؛ فأقبل عاصم بن عمرو يريده في مجلسه ذلك ليقتله بأخيه، و قد أخذ معه تمرا، فلما نجته/الكلاب حين دنا منه ألقى لها التمر فوقفت، فلمّا رآها أحيحة قد سكنت حذر فقام فدخل حصنه، و رماه عاصم بسهم فأحرزه منه الباب(4)، فوقع السّهم بالباب، فلما سمع أحيحة وقع السّهم صرخ في قومه، فخرج عاصم بن عمرو، فأعجزهم حتّى أتى قومه. ثمّ إنّ أحيحة جمع لبني النجّار، فأراد أن يغترّهم فواعدهم و قومه لذلك(5)، و كانت عند أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش إحدى نساء بني عديّ بن النجار، له منها عمرو بن أحيحة، و هي أمّ عبد المطلب بن هاشم، خلف عليها هاشم بعد أحيحة، و كانت امرأة شريفة لا تنكح الرجال إلاّ و أمرها بيدها، إذا كرهت من رجل شيئا تركته.
فزعم ابن إسحاق أنّه حدّثه أيوب بن عبد الرحمن(6)، و هو أحد رهطها، قال: حدّثني شيخ منّا أنّ أحيحة لمّا أجمع بالغارة على قومها و معها ابنها عمرو بن أحيحة، و هو يومئذ فطيم أو دون الفطيم، و هو مع أحيحة في حصنه عمدت إلى ابنها فربطته بخيط، حتّى إذا أوجعت الصبيّ تركته فبات يبكي، و هي تحمله؛ و بات أحيحة معها ساهرا، يقول: ويحك ما لابني؟ فتقول: و اللّه ما أدري ما له. حتّى إذا ذهب اللّيل أطلقت الخيط عن الصبيّ فنام. و ذكروا أنّها ربطت رأس ذكره، فلما هدأ الصبيّ قالت: وا رأساه! فقال: أحيحة: هذا و اللّه ما لقيت من سهر هذه الليلة.
فبات يعصب لها رأسها و يقول: ليس بك بأس. حتّى إذا لم يبق من الليل إلا أقلّه قالت له: قم فنم، فإنّي أجدني(7)صالحة قد ذهب عنّي ما كنت/أجده. و إنما فعلت به ذلك ليثقل رأسه، و ليشتدّ نومه على طول السّهر. فلما نام قامت و أخذت حبلا شديدا و أوثقته برأس الحصن، ثم تدلّت منه و انطلقت إلى قومها، فأنذرتهم و أخبرتهم بالذي أجمع هو و قومه من ذلك، فحذر القوم و أعدّوا و اجتمعوا. فأقبل أحيحة في قومه فوجد القوم على حذر قد
ص: 36
استعدّوا، فلم يكن بينهم كبير قتال؛ ثم رجع أحيحة فرجعوا عنه، /و قد فقدها أحيحة حين أصبح؛ فلما رأى القوم على حذر قال: هذا عمل سلمى! خدعتني حتّى بلغت ما أرادت. و سمّاها قومها المتدلّية؛ لتدلّيها من رأس الحصن. فقال في ذلك أحيحة و ذكر ما صنعت به سلمى:
تفهّم أيّها الرّجل الجهول *** و لا يذهب بك الرأي الوبيل
فإنّ الجهل محمله خفيف *** و إنّ الحلم محمله ثقيل(1)
[و فيها يقول:
لعمر أبيك ما يغني مقامي *** من الفتيان رائحة جهول
نؤوم ما يقلّص مستقلاّ *** على الغايات مضجعه ثقيل]
إذا باتت أعصّبها فنامت *** عليّ مكانها الحمّى الشّمول(2)
لعلّ عصابها يبغيك حربا *** و يأتيهم بعورتك الدّليل
و قد أعددت للحدثان عقلا *** لو أنّ المرء تنفعه العقول(3)
/و قال فيها و فيما صنعت به:
أخلق الرّبع من سعاد فأمسى *** ربعه مخلقا كدرس الملاة(4)
باليا بعد حاضر ذي أنيس *** من سليمى إذ تغتدي كالمهاة
و هي قصيدة طويلة، يقال إنّ في هذين البيتين منها غناء.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدّثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه عن أبي مسكين:
أنّ قيس بن زهير بن جذيمة أتى أحيحة بن الجلاح لمّا وقع الشرّ بينه و بين بني عامر؛ و خرج إلى المدينة ليتجهّز، بعث إليهم حين قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة، فقال قيس لأحيحة: يا أبا عمرو، نبّئت أنّ عندك درعا ليس بيثرب درع مثلها؛ فإن كانت فضلا(5) فبعنيها، أو فهبها لي. فقال: يا أخا بني عبس، ليس مثلي يبيع السلاح و لا يفضل عنه(6)، و لو لا أنّي أكره أن أستليم(7) إلى بني عامر لوهبتها لك، و لحملتك على سوابق خيلي، و لكن
ص: 37
اشترها يا أبا أيوب(1)، فإنّ البيع مرتخص و غال. فأرسلها مثلا. فقال له قيس: فما تكره من استلامتك إلى بني عامر؟ قال: كيف لا أكره ذلك و خالد بن جعفر الذي يقول:
إذا ما أردت العزّ في آل يثرب *** فناد بصوت يا أحيحة تمنع(2)
رأيت أبا عمرو أحيحة جاره *** يبيت قرير العين غير مروّع
/و من يأته من خائف ينس خوفه *** و من يأته من جائع الجوف(3) يشبع
فضائل كانت للجلاح قديمة *** و أكرم بفخر من خصالك الأربع
فقال قيس: و ما عليك بعد ذلك من لوم. فلها عنه ثم عاوده فساومه، فغضب أحيحة و قال له: بت عندي.
فبات عنده، فلمّا شرب تغنّى أحيحة و قيس يسمع:
ألا يا قيس لا تسمنّ درعي *** فما مثلي يساوم بالدّروع(4)
فلولا خلّة لأبي جويّ *** و أنّي لست عنها بالنّزوع
لأبت بمثلها عشر و طرف *** لحوق الإطل جيّاش تليع(5)
و لكن سمّ ما أحببت فيها *** فليس بمنكر غبن البيوع(6)
فما هبة الدّروع أخا بغيض *** و لا الخيل السّوابق بالبديع(7)
و/قال: فأمسك بعد ذلك عن مساومته:
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال: حدّثني أخي أحمد بن عليّ عن عافية بن شبيب، قال: حدّثني أبو جعفر الأسدي، عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، و أخبرنا به إسماعيل بن يونس الشيعي إجازة، عن عمر بن شبّة عن إسحاق قال:
دعاني الفضل بن الربيع يوما فأتيته، فإذا عنده شيخ حجازيّ حسن الوجه و الهيئة، فقال لي: أ تعرف هذا؟ قلت: لا. قال: هذا ابن أنيسة بنت معبد، فسله عمّا أحببت من غناء جدّه. فقلت: يا أخا أهل الحجاز، كم غناء جدّك؟ قال: ستّون صوتا. ثم غناني:
ما أحسن الجيد من مليكة و ال *** - لّبّات إذ زانها ترائبها
ص: 38
/قال: فغنّاه أحسن غناء في الأرض، و لم آخذه منه اتّكالا على قدرتي عليه. و اضطرب(1) الأمر على الفضل و صار إلى التغيّب، و شخص الشيخ إلى المدينة، فبقيت أنشد الشّعر و أسأل عنه مشايخ المغنّين، و عجائز المغنّيات، فلا أجد أحدا يعرفه، حتى قدمت البصرة، و كنت آتي جزيرتها في القيظ فأبيت بها ثم أبكر بالغداة إلى منزلي. فإنّي لداخل يوما إذا بامرأتين نبيلتين(2)، قد قامتا فأخذتا بلجام حماري، فقلت لهما: مه! قال أبو زيد في خبره: فقالت إحداهما: كيف عشقك اليوم ل «ما أحسن الجيد من مليكة» و شغفك به، فقد بلغني أنّك كنت تطلبه من كلّ أحد؟ و قد كنت رأيتك في مجلس الفضل و قد استخفّك الطّرب لهذا الصوت حتّى صفّقت. قال: فقلت لها: أشدّ و اللّه ما كنت عشقا له، و قد ألهبت بذكرك إيّاه في قلبي جمرا، و لقد طلبته ببغداد كلّها فلم أجد أحدا يسمعنيه. قالت:
أ فتحبّ أن أغنيك إياه. قلت: نعم. فغنّته و اللّه أحسن ممّا سمعته قديما بصوت خافض، فنزلت إليها فقبّلت يديها و رجليها و قلت: جعلني اللّه فداك، لو شئت لصرت معي إلى منزلي. قالت: أصنع ما ذا؟ قلت: أغنّيك و تغنّيني يومنا إلى الليل. قالت: أنت و اللّه أطفس(3) من أن تفعل ذاك، و إنّما هو عرض، و لكنّي أغنّيك حتّى تأخذه. فقلت: بأبي أنت و أمّي، و جعلني اللّه فداك من أنت؟ قالت: أنا وهبة جارية محمّد بن عمران القرويّ، التي يقول فيها فرّوح(4)الرّفاء الطّلحي:
يا وهب لم يبق لي شيء أسرّ به *** إلاّ الجلوس فتسقيني و أسقيك(5)
و تمزجين بريق منك لي قدحا *** كأنّ فيه رضاب المسك من فيك
يا أطيب النّاس ريقا غير مختبر *** إلاّ شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة *** ثنّي و لا تجعليها بيضة الديك(6)
ما نلت منك سوى شيء أسرّ به *** و لست أبصر شيئا من مساويك(7)
قالت ملكت و لم تملك فقلت لها *** ما كلّ مالكة تزري بمملوك
قال أبو زيد خاصّة: قال إسحاق: و أنشدتنيه و غنّتني فيه بصوت مليح قد صنعته فيه، ثم صارت إليّ بعد ذلك، و كانت من أحسن الناس غناء، و أحسنهم رواية. فما كانت تفوق فيه من صنعتها سائر الناس صوتها، و هو:
فعاطنيها صفراء صافية *** تضحك من لؤلؤ على ذهب
قال: و لها فيه عمل فاضل. و من صنعتها قوله:
الكأس بعد الكأس قد *** تصبي لك الرجل الحليما
و تقرّب النسب البعي *** - د و تبسط الوجه الشّتيما(1)
قال: و ممّا برّزت فيه من صنعتها:
هاتها سكّريّة كشعاع ال *** شّمس لا قرقفا و لا خندريسا(2)
في ربى يخلع الوليّ عليها *** ما يحيّي به الجليس الجليسا(3)
فلنوّارها نسيم إذا ما *** حرّكته الرّياح ردّ النّفوسا
أمسى لسلاّمة الزّرقاء في كبدي *** صدع مقيم طوال الدّهر و الأبد
لا يستطيع صناع القوم يشعبه *** و كيف يشعب صدع الحبّ في الكبد(4)
إلاّ بوصل التي من حبّها انصدعت *** تلك الصّدوع من الأسقام و الكمد
الشعر و الغناء لمحمد بن الأشعث بن فجوة الكاتب الكوفي، أحد بني زهرة من قريش. و لحنه من خفيف الثّقيل الأوّل بالبنصر.
و سلاّمة الزرقاء هذه جارية ابن رامين، و كانت إحدى القينات المحسنات.
ص: 40
نسخت ذلك من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات(1)، ذكر أنّ أبا أيوب المديني حدّثه(2) عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال:
كان محمد بن الأشعث القرشي ثم الزهري كاتبا، و كان من فتيان أهل الكوفة و ظرفائهم و أدبائهم، و كان يقول الشعر و يتغنى فيه. فمن ذلك قوله في زرقاء جارية ابن رامين، و كان يألفها:
أمسى لسلاّمة الزّرقاء في كبدي
و ذكر الأبيات:
قال: و من شعره فيها يخاطب مولاها و قد كان حجّ و أخرج جواريه كلّهنّ - هكذا ذكر أحمد بن إبراهيم. و هذا الشعر(3) الثاني لإسماعيل بن عمّار الأسدي، و قد ذكرت أخباره في موضع آخر.
أيّة حال يا ابن رامين *** حال المحبّين المساكين
تركتهم موتى و لم يتلفوا *** قد جرّعوا منك الأمرّين
- [و يروى: «تركتهم موتى و ما موّتوا»، وجدته بخطّ حمّاد(4).] -
و سرت في ركب على طيّة *** ركب تهام و يمانين
/يا راعي الذّود لقد رعتهم *** ويلك من روع المحبّين
فرّقت جمعا لا يرى مثلهم *** بين دروب الرّوم و الصّين
الغناء لمحمد بن الأشعث نشيد خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها، عن ابن المكي و غيره.
قال: و دخل ابن الأشعث يوما على ابن رامين فخرجت إليه الزّرقاء، فبينما هو يلقي عليها إذ بصر بوصيفة من وصائفهم فأعجبته، فقال شعرا في وقته، و تغنى فيه، فأخذته منه الزرقاء، و هو قوله:
ص: 41
قل لأختي التي أحبّ رضاها *** أنت لي فاعلميه ركن شديد
إنّ لي حاجة إليك فقولي: *** بين أذني و عاتقي ما تريد
يعني قولي: ما تريد في عنقي حتّى أفعله. ففطنت الزّرقاء للذي أراد، فوهبت له الوصيفة، فخرج بها.
الغناء فيه رمل بالوسطى. ذكر عمرو بن بانة أنّه لابن سريج، و قد وهم في ذلك، بل الغناء لمحمد بن الأشعث لا يشكّ فيه:
قال هارون: و حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه، قال: و حدّثني أبو عبد اللّه الأسكّ(1) أمير المغنّين أن محمد بن الأشعث الزهري، و هشام بن محمد بن أبي عثمان السّلمي، اجتمعا عند ابن رامين، و كان هشام قد أنفق في منزله مالا عظيما، و كان يقال لأبيه بسيار درم(2)، و تفسيره بالعربية: الكثير الدراهم، فقال محمد بن الأشعث:
يا هشام قل ما تشاء. قال:
قل لأختي التي أحبّ رضاها *** أنت لي فاعلميه ركن شديد
و أشار بذلك إلى سلاّمة الزرقاء. قالت و قد سمعت: فقل. فقال:
إنّ لي حاجة إليك فقولي *** بين أذني و عاتقي ما تريد
ففطنت الزرقاء للذي أراد، فقالت: بين أذني و عاتقي ما تريد، فما هو؟ قال: وصيفتك هذه، فإنّها قد أعجبتني. قالت: هي لك. فأخذها فما ردّ ذلك ابن رامين و لا تكلّم فيه.
و هذا الشعر و الغناء فيه لمحمّد بن الأشعث.
قال هارون: و حدّثني أبو أيوب عن أحمد بن إبراهيم قال:
ذكر عمرو بن نوفل بن أنس بن زيد التميمي(3)، أنّ محمد بن الأشعث كان ملازما لابن رامين و لجاريته سلاّمة الزرقاء، فشهر بذلك(4)، و كان رجلا قصّافا(5) فلامه قومه في فعله فلم يحفل بمقالتهم و طال ذلك منه و منهم، حتّى رأى بعض ما كره في منزل ابن رامين، فمال إلى سحيقة جارية زريق بن منيح، مولى عيسى بن موسى. و كان زريق شيخا سخيّا(6) كريما نبيلا يجتمع إليه أشراف الكوفة من كلّ حيّ، و كان الغالب على منزله رجلا من ولد القاسم بن عبد
ص: 42
الغفّار العجلي، كغلبة محمد بن الأشعث على منزل ابن رامين، فتواصلا على ملازمة بيت زريق. ففي ذلك يقول محمد بن الأشعث:
يا ابن رامين بحت بالتّصريح *** في هواي سحيقة ابن منيح(1)
قينة عفّة و مولّى كريم *** و نديم من اللّباب الصّريح(2)
/ربعيّ مهذّب أريحيّ *** يشتري الحمد بالفعال الرّبيح(3)
/نحن منه في كلّ ما تشتهي الأن *** - فس من لذّة و عيش نجيح
عند قرم(4) من هاشم في ذراها *** و غناء من الغزال المليح
في سرور و في نعيم مقيم *** قد أمنّا من كلّ أمر قبيح
فاسل عنا كما سلوناك إنّي *** غير سال عن ذات نفسي و روحي
حافظ منك كلّ ما كنت قد ض *** - يّعت مما عصيت فيه نصيحي
فالقلى ما حييت منّي لك الدّه *** - ر بودّ لمنيتي ممنوح(5)
يا ابن رامين فالزمن مسجد الح *** يّ و طول الصّلاة و التّسبيح
قال عمرو بن نوفل: فلم يدع ابن رامين شريفا بالكوفة إلاّ تحمّل به على ابن الأشعث و أن يرضى عنه، و يعاود زيارته، فلم يفعل، حتّى تحمّل عليه بالحجوانيّ، و هو محمد بن بشر بن حجوان الأسديّ، و كان يومئذ على الكوفة، فكلمه فرضي عنه و رجع إلى زيارته، و لم يقطع منزل زريق. و قال في سحيقة:
سحيقة أنت واحدة القيان *** فمالك مشبه فيهن ثان
فضلت على القيان بفضل حذق *** فحزت على المدى قصب الرّهان
سجدن لك القيان مكفّرات *** كما سجد المجوس لمرزبان(6)
و لا سيما إذا غنّيت صوتا *** و حرّكت المثالث و المثاني(7)
/شربت الخمر حتّى خلت أنّي *** أبو قابوس أو عبد المدان(8)
ص: 43
فإعمال اليسار على الملاوي *** و من يمناك ترجمة البيان(1)
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، عن حمّاد عن أبيه قال:
كان روح بن حاتم المهلبي كثير الغشيان لمنزل ابن رامين، و كان يختلف إلى الزّرقاء جارية ابن رامين، و كان يهواها محمد بن جميل و تهواه، فقال لها: إنّ روح بن حاتم قد ثقل علينا. قالت: فما أصنع(2)، قد غمر مولاي ببرّه! فقال: احتالي له. فبات عندهم(3) روح ليلة، فأخذت سراويله و هو نائم فغسلته، فلما أصبح سأل عنه فقالت: غسلناه. ففطن أنّه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، فاستحيا من ذلك و انقطع عنها، و خلا وجهها لابن جميل.
قال هارون:
و أخبرني حماد عن أبيه قال:
ابن رامين اسمه عبد الملك بن رامين، مولى عبد الملك بن بشر بن مروان. و جواريه سعدة، و ربيحة، و سلاّمة الزرقاء. و فيهن يقول إسماعيل بن عمّار الأسديّ و أنشدناه الحرميّ عن الزبير عن عمّه، و روايته أتمّ:
/هل من شفاء لقلب لجّ محزون *** صبا، و صبّ إلى ريم ابن رامين(4)
إلى ربيحة إنّ اللّه فضّلها *** بحسنها و سماع ذي أفانين(5)
نعم شفاؤك منها أن تقول لها *** قتلتني يوم دير اللّجّ فاحييني(6)
أنت الطبيب لداء قد تلبّس بي *** من الجوى فانفثي في فيّ و ارقيني
نفسي تأبّى لكم إلاّ طواعية *** و أنت تحمين أنفا أن تطيعيني(7)
/فتلك قسمة ضيزى قد سمعت بها *** و أنت تتلينها ما ذاك في الدين(8)
ما عائذ اللّه لي إلف و لا وطن *** و لا ابن رامين، لو لا ما يمنّيني(9)
ص: 44
يا ربّ ما لابن رامين، له بقر *** عين و ليس لنا غير البراذين
لو شئت أعطيته مالا على قدر *** يرضى به منك غير الخرّد العين
لعائذ اللّه بيت ما مررت به *** إلاّ و جئت(1) على قلبي بسكين
يا سعدة القينة البيضاء، أنت لنا *** أنس لأنّك في دار ابن رامين
لا تحسبنّ بياض الجصّ يؤنسني *** و أنت كنت كمثل الخزّ في اللين
لو لا ربيحة ما استأنست ما عمدت *** نفسي إليك و لو مثّلت في طين(2)
/لم أنس سعدة و الزّرقاء يومهما *** باللّجّ شرقيّه فوق الدّكاكين
تغنّيان ابن رامين ضحاءهما *** بالمسجحيّ و تشبيب المحبّين(3)
فما دعوت به من عيش مملكة *** و لم نعش يومنا عيش المساكين
أذاك أنعم أم يوم ظللت به *** منعّم العيش في بستان سورين
يشوي لنا الشّيخ سورين دواجنه *** بالجردناج و سحاج الشقابين(4)
نسقى شرابا لعمران يعتقّه *** يمسي الأصحاء منه كالمجانين
يعني عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد اللّه -
إذا ذكرنا صلاة بعد ما فرطت *** قمنا إليها بلا عقل و لا دين(5)
نمشي إليها بطاء لا حراك بنا *** كأنّ أرجلنا تقلعن من طين
نمشي و أرجلنا عوج مطارحها *** مشي الإوزّ التي تأتي من الصين
أو مشي عميان دبر لا دليل لهم *** إلاّ العصيّ، إلى عيد السّعانين
و قال فيه أيضا:
لابن رامين خرّد كمها الرّم *** - ل حسان و ليس لي غير بغل
ربّ فضّلته عليّ و لو شئ *** - ت لفضّلتني عليه بفضل
قال حمّاد: و أخبرني أبي قال: حدّثني السّكوني، أنّ جعفر بن سليمان اشترى ربيحة بمائة ألف درهم، و اشترى صالح بن عليّ سعدة بتسعين ألف درهم، و اشترى معن بن زائدة الزرقاء.
/قال مؤلف هذا الكتاب: هذا خطأ، الزّرقاء اشتراها جعفر بن سليمان، و لعل معنا اشترى غيرها.
ص: 45
أخبرني حبيب بن نصر قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني علي بن الحسن الشيباني، عن عبد الملك بن ثوبان(1) قال: قال إسماعيل بن عمّار: كنت أختلف إلى منزل ابن رامين فأسمع جاريتيه:
الزرقاء و سعدة، و كانت سعدة أظرف من الزّرقاء، فأعجبت بها و علمت ذلك منّي، و كانت سعدة كاتبة، فكتبت إليها أشكو ما ألقى بها، فوعدتني فكتبت إليها رقعة مع بعض خدمهم:
يا ربّ إنّ ابن رامين له بقر *** عين و ليس لنا غير البراذين
/و ذكر الأبيات الماضية. قال: فجاءني الخادم و قال: ما زالت تقرأ رقعتك و تضحك من قولك:
فإن تجودي بذاك الشيء أحي به *** و إن بخلت به عنّي فزنّيني
و كتبت إليّ: «حاشاك من أن أزنّيك، و لكنّي أسير إليك فأغنّيك و ألهّيك و أرضيك». و صارت إليّ فأرضتني بعد ذلك.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، عن الحسين بن محمد الحرّاني، و أخبرني الجوهري عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه:
أن جعفر بن سليمان اشترى الزرقاء صاحبة ابن رامين بثمانين ألف درهم، و سترها عن أبيه - و أبوه يومئذ على البصرة في خلافة المنصور، و قد تحرّك في تلك الأيام عبد اللّه بن علي - فهجم عليهما يوما سليمان بن عليّ فأخفيا(2) العود تحت السّرير/و دخل، فقال له: ويحك نحن على هذه الحال نتوقّع الصيلم(3) و أنت تشتري جارية بثمانين ألف درهم! و أظهر له غضبا عليه و تسخّطا لما فعل، فغمز خادما كان على رأسه فأخرجها إلى سليمان، فأكبّت على رأسه فقبّلته، ودعت له، و كانت عاقلة مقبولة متكلّمة، فأعجبه ما رأى منها، و قام عنهما فلم يعد لمعاتبة ابنه بعد ذلك.
قال: و لما مضت لها مدّة عند جعفر سألها يوما: هل ظفر منك أحد ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة؟ فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه، فقالت: لا و اللّه إلاّ يزيد بن عون العباديّ الصّيرفي؛ فإنّه قبّلني قبلة و قذف في فيّ(4) لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم. فلم يزل جعفر يحتال له و يطلبه(5) حتّى وقع في يده، فضربه بالسّياط حتّى مات.
ص: 46
قال هارون: و حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال. حدّثني أبو عوف الدّوسيّ، عن عبد الرحمن بن مقرّن قال:
كتبت إلى ابن رامين أستأذنه في إتيانه، فكتب إليّ: «قد سبقك روح بن حاتم، فإن كنت لا تحتشم منه فرح. فرحت، فكنّا كأنّنا فرسا رهان، و التقينا فعانقني و قال لي: أنّى تريد(1)؟ قلت: حيث أردت.
قال: فالحمد للّه. فدخلنا فخرجت الزرقاء في إزار و رداء قوهيّين(2) مورّدين، كأنّ الشمس طالعة من بين رأسها/و كتفيها(3)، فغنّتنا ساعة ثم جاء الخادم الذي يأذن لها(4)، و كان الإذن عليها دون مولاها، فقام دون الباب و هي تغنّي، حتّى إذا قطعت نظرت إليه فقالت: من(5)؟ فقال: يزيد بن عون العباديّ الصّيرفي، الملقّب بالماجن، على الباب. فقالت: أدخله. فلما استقبلها كفّر(6) ثم أقعى بين يديها. قال: فوجدت و اللّه له(7) و رأيت أثر ذلك، و تنوّقت تنوقا(8) خلاف ما كانت تفعل بنا. فأدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين و قال: انظري يا زرقاء جعلت فداك! ثم حلف أنّه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. فقالت: فما أصنع بذلك؟ قال: أردت أن تعلمي. فغنّت صوتا ثم قالت: يا ماجن هبهما لي ويحك. قال: إن شئت و اللّه فعلت. قالت: قد شئت. قال: و اليمين التي حلفت بها لازمة لي إن أخذتهما إلاّ بشفتيك من شفتيّ. قال:
فذهب روح يتسرّع إليه، فقالت له: أ لك في بيت القوم حاجة؟ قال: نعم. فقلت: إنما يتكسّبون مما ترى.
و قام ابن رامين فقال: ضع لي يا غلام ماء. ثم خرج عنا فقالت: هاتهما. فمشى على ركبتيه و كفّيه و هما بين شفتيه. فقال: هاك. فلمّا ذهبت بشفتيها جعل يصدّ عنها(9) يمينا و شمالا ليستكثر منها، فغمزت جارية على رأسها فخرجت كأنّها تريد/حاجة، ثم عطفت/عليه، فلمّا دنا منها و ذهب ليزوغ دفعت منكبيه و أمسكتهما حتّى أخذت الزّرقاء اللؤلؤتين بشفتيها من فمه، و رشح جبينها حياء منّا. ثم تجلّدت علينا فأقبلت عليه فقالت له: «المغبون في استه عود» فقال: أمّا أنا فما أبالي، لا يزال طيب هذه الرائحة في أنفي و فمي أبدا ما حييت.
قال هارون: و حدّثني ابن النطّاح عن المدائني، عن علي بن أبي سليمان، عن أبي عبد اللّه القرشي، عن أبي زاهر بن أبي الصباح، قال:
ص: 47
أتيت منزل ابن رامين مع رجل من قريش، فأخرج الزرقاء، و سعدة، فقام القرشيّ ليبول و ترك مطرفه(1)، فلبسته سعدة و خرجت، فرجع القرشيّ و عليها المطرف قد خاطته فصار درعا(2)، فقالت: أ رأيتم أسرع من هذا؟ صار المطرف درعا! فقال القرشيّ: هو لك. قال: و عليّ طيلسان مثنّى، فأردت أن أبول فلففته و قمت، فقالت سعدة: دع طيلسانك. فقلت: لا أدعه، أخاف أن يتحوّل مطرفا.
و حدّثني قبيصة بن معاوية قال: قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
شربت زرقاء ابن رامين دواء فأهدى لها ابن المقفع ألف درّاجة على جمل قراسيّ(3).
قال هارون: و حدّثني حمّاد عن أبيه:
أنّ محمد بن جميل كان يتعشّق الزرقاء، و كان أبو جميل يغدو كلّ يوم يسأل من يقدم عن ابنه محمّد، إلى أن مرّ به صديق له يكنى أبا ياسر، فسأله عنه/فقال له أبو ياسر: تركته أعظم النّاس قدرا، يعامل الخليفة كلّ يوم في خراجه، فيحتاج إليه ولده، و صاحب شرطته، و صاحب حرسه، و خدمه. فقال له: يا أخي: فكيف بهذه الجارية التي قد شهر بها؟ فقال له الرجل: لا تهتمّ بها، قد مازحه أمير المؤمنين فيها، و خاطبه بشعر قيل فيه. قال: و ما هو؟ قال:
و ابن جميل فاعلموا عاجلا *** لا بدّ موقوف على مسطبه(4)
يوقف في زرقاء مشهورة *** تجيد ضرب العود و العرطبه(5)
فقال جميل: و اللّه ما بي من هذا الأمر إلا أنّي أتخوّف أن يكون قد شهر بها هذه الشّهرة و لم ينكها.
قال هارون: و أحسب هذه القصّة لزرقاء الزّراد(6)، لا زرقاء ابن رامين.
قال هارون: و حدّثني أبو أيوب قال: حدّثني محمد بن سلاّم، قال:
اجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة، و روح بن حاتم، و ابن المقفّع، فلما تغنّت الزرقاء و سعدة، بعث معن إليها بدرة(7) فصبّت بين يديها، فبعث روح إليها أخرى فصبّت بين يديها، و لم يكن عند ابن المقفّع دراهم فبعث فجاء بصكّ ضيعته و قال: هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأمّا الدّراهم فما عندي منها شيء.
ص: 48
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا فضل اليزيديّ قال: حدّثني إسحاق الموصليّ قال: قال سليمان الخشّاب:
/دخلت منزل ابن رامين فرأيت الزّرقاء جاريته و هي وصيفة، حين شال نهودها ثوبها عن صدرها، لها شارب كأنّه خطّ بمسك، يلحظه الطّرف و يقصر عنه الوصف، و ابن الأشعث الكوفيّ يلقي عليها، و الغناء له:
أيّة حال يا ابن رامين *** حال المحبّين المساكين
تركتهم موتى و ما موّتوا *** قد جرّعوا منك الأمرّين
/و سرت في ركب على طيّة *** ركب تهام و يمانين
يا راعي الذّود لقد رعتنا *** ويلك من روع المحبّين
فرّقت جمعا لا يرى مثلهم *** فجّعتهم بالرّبرب العين
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثني هارون بن محمد الزيات قال: قال أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل: كان ابن رامين مولى الزرقاء أجلّ مقيّن(1) بالكوفة و أكبرهم، و رامين أبوه مولى بشر بن مروان.
قال هارون: فحدّثني سليمان المديني قال: قال حمّاد بن إسحاق قال أبي: قال معاذ بن الطّبيب:
أتيت ابن رامين و عنده جواريه: الزّرقاء و صواحباتها، و عندهنّ فتى حسن الوجه نظيف الثّياب، عطر الريح، يلقى عليهنّ، فسألت عنه فقيل لي: هذا محمد بن الأشعث بن فجوة الزّهري. فمضيت به إلى منزلي و سألته المقام ففعل، و أتيته بطعام و شراب و غنّيته أصواتا من غناء أهل الحجاز، فسألني أن ألقيها عليه، فقلت: نعم و كرامة و حبّا، على أن تلقي عليّ أصواتا من صنعتك ألتذّ بها، و أقطع طريقي بروايتها، و أطرف أهل بلدي بها، ففعلت و فعل، فكان مما أخذته عنه من صنعته:
من ذوات الدّلّ لو دبّ على *** جلدها الذّرّ لأبدى ندبا(1)
الغناء لمحمد بن الأشعث، ثقيل أوّل عن الهشاميّ. و فيه ليونس خفيف ثقيل بالسّبابة، في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر أحمد بن عبيد أنّ فيه لحنا من الثقيل الثاني لا يدري لمن هو؟ قال: و منها.
لذكر الحبيب النّازح المتعتّب *** طربت و من يعرض له الشوق يطرب
لحنه رمل: و قال منها:
فاستبدلت وحشا بهم *** و الورق تدعو و الصّرد(1)
لحنه هزج. قال: و منها:
ليت من طيّر نومي *** ردّ في عيني المناما
أو شفى جسما سقيما *** زاده الهجر سقاما
نظرت عيني إليها *** نظرة هاجت غراما
تركت قلبي حزينا *** بهواها مستهاما
لحنه رمل.
/قال ابن الطبيب: و أخذت منه مع هذه أصواتا كثيرة، و رأيت النّاس بعد ذلك ينسبونها إلى قدماء المغنّين.
قال هارون: و حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: حدّثني إسماعيل بن جعفر بن سليمان:
أنّ الزّرقاء صاحبة ابن رامين(2) صارت إلى أبيه، و كان يقال لها أم عثمان. و أنّ ربيحة جارية ابن رامين صارت إلى محمد بن سليمان، و كانت حظيّة عنده. قال إسماعيل: فأتى سليمان بن علي ابنه جعفرا فأخرج إليه الزّرقاء، فقال لها سليمان: غنّيني. قالت: أيّ شيء تحبّ؟ قال: غنّيني:
إذا ما أمّ عبد اللّ *** - ه لم تحلل بواديه
و لم تشف سقيما هيّ *** - ج الحزن دواعيه
فقالت: فديتك، قد ترك الناس هذا منذ زمان. ثم غنّته إياه.
قال إسماعيل: قد مات سليمان منذ ثلاث و سبعين سنة، و ينبغي أن يكون رأى الزرقاء قبل موته بسنتين أو ثلاث. قال: و قالت هي: قد ترك الناس هذا منذ زمان. فهذا من أقدم ما يكون من الغناء.
قال هارون: و قال شراعة بن الزّندبوذ:
قالوا شراعة عنّين فقلت لهم *** اللّه يعلم أنّي غير عنّين
فإن أبيتم و قلتم مثل قولهم *** فأقحموني في دار ابن رامين(3)
ثم انظروا كيف طعني عند معتركي *** في حر من كنت أرميها و ترميني
ص: 51
قال هارون: و حدّثني أبو أيوب المديني، عن أحمد بن إبراهيم قال: قال بعض المدنيّين:
أتيت منزل ابن رامين، فوجدته عنده جارية قد رفع ثديها قميصا، لها شارب أخضر ممتدّ على شفتيها(1) امتداد الطّراز، كأنّما خطّت طرّتها و حاجباها بقلم، لا يحلقها في ضرب من ضروب حسنها وصف واصف، فسألت عن اسمها فقيل: هذه الزّرقاء.
إذا ما أمّ عبد اللّ *** - ه لم تحلل بواديه
و لم تشف سقيما ه *** - يج الحزن دواعيه
غزال راعه القنّا *** ص تحميه صواصيه(2)
/عرفت الربع بالإكلي *** ل عفّته سوافيه(3)
بجوّ ناعم الحوذا *** ن ملتفّ روابيه(4)
/و ما ذكرى حبيبا و *** قليلا ما أواتيه
كذي الخمر تمنّاها *** و قد أسرف ساقيه(5)
ذكر الزّبير بن بكّار أنّ الشّعر لعديّ بن نوفل، و قيل إنّه للنّعمان بن بشير الأنصاريّ(6) و ذاك أصحّ.
و قد أخرجت أخبار النّعمان فيه مفردة في موضع آخر، و ذكرت القصيدة بأسرها. و رواها ابن الأعرابيّ و أبو عمرو الشيباني للنّعمان، و لم يذكر أنّها لعديّ غير الزّبير بن بكّار.
و الغناء فيما ذكر عمرو بن بانة لمعبد، خفيف رمل بالوسطى. و ذكر إسحاق أنّ فيه خفيف رمل بالسبّابة في مجرى البنصر، يمان(7). و فيه للغريض ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشامي، في الأول و الثاني و الرابع و الخامس.
ص: 52
هو عديّ بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ. و أمه آمنة بنت جابر بن سفيان، أخت تأبّط شرّا.
و كان عمر بن الخطاب رضوان اللّه عليه استعمله، أو عثمان بن عفان رضي اللّه عنه - فيما أخبرنا به الطّوسيّ عن الزبير بن بكار - على حضرموت.
قال الزبير: و دار عديّ بن نوفل بين المسجد و السّوق معروفة(1)، و فيها يقول إسماعيل بن يسار النّسائي(2):
إنّ ممشاك نحو دار عديّ *** كان للقلب شقوة و فتونا
إذ تراءت على البلاط فلمّا *** واجهتها كالشّمس تعشي العيونا(3)
قال هارون قف فيا ليت أنّي *** كنت طاوعت ساعة هارونا
و قد قيل إنّ هذه الأبيات لعمر بن أبي ربيعة(4).
قال الزّبير: كان تحت عديّ بن نوفل أمّ عبد اللّه بنت أبي البختريّ بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى، فغاب مدّة و كتب إليها أن تشخص إليه، فلم تفعل، فكتب إليها قوله:
إذا ما أمّ عبد اللّ *** - ه لم تحلل بواديه
/و ذكر البيتين فقط، فقال لها أخوها الأسود بن أبي البختريّ، و هما لأب و أمّ، أمّهما عاتكة بنت أميّة بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى: قد بلغ الأمر هذا من ابن عمّك. فاشخص إليه(5).
ص: 53
أ عينيّ جودا و لا تجمدا *** أ لا تبكيان لصخر النّدى
أ لا تبكيان الجريّ الجميل *** أ لا تبكيان الفتى السيّدا
الشعر للخنساء بنت عمرو بن الشريد، ترثي أخاها صخرا، و الغناء لإبراهيم الموصلي، ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر، عن إسحاق. و فيه لابن سريح خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو، /و الهشامي، و حبش.
ص: 54
هي الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشّريد بن رياح بن يقظة بن عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. و اسمها تماضر.
و الخنساء لقب غلب عليها(1)، و فيها يقول دريد بن الصّمّة، و كان خطبها فردّته، و كان رآها تهنأ بعيرا:
حيّوا تماضر و اربعوا صحبي *** وقفوا فإنّ وقوفكم حسبي
أخناس قد هام الفؤاد بكم *** و أصابه تبل من الحبّ
ما إن رأيت و لا سمعت به *** كاليوم طالي أينق جرب
متبذّلا تبدو محاسنه *** يضع الهناء مواضع النّقب
قال أبو عبيدة و محمّد بن سلاّم: لمّا خطبها دريد بعثت خادما لها(2) و قالت: انظري إليه إذا بال، فإن كان بوله يخرق الأرض و يخدّ فيها ففيه بقيّة، و إن كان بوله يسيح على وجهها فلا بقيّة فيه. فرجعت إليها و أخبرتها، فقالت:
لا بقية في هذا. فأرسلت إليه: ما كنت لأدع بني عمّي و هم مثل عوالي الرماح، و أتزوّج شيخا! فقال:
وقاك اللّه يا ابنة آل عمرو *** من الفتيان أشباهي و نفسي
و قالت إنّني شيخ كبير *** و ما نبّأتها أنّي ابن أمس
فلا تلدي و لا ينكحك مثلي *** إذا ما ليلة طرقت بنحس
تريد شرنبث القدمين شثنا *** يباشر بالعشية كلّ كرس(3)
/فقالت الخنساء تجيبه:
معاذ اللّه ينكحني حبركى *** يقال أبوه من جشم بن بكر(4)
ص: 55
و لو أصبحت في جشم هديّا *** إذا أصبحت في دنس و فقر(1)
و هذا الشعر(2) ترثي به أخاها صخرا و قتله زيد بن ثور الأسدي يوم ذي الأثل.
أخبرنا بالسبب في ذلك محمد بن الحسن بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، و أضفت إليه رواية الأثرم عن أبي عبيدة قال:
غزا صخر بن عمرو، و أنس بن عبّاس الرّعليّ في بني سليم، بني أسد بن خزيمة(3)، - قال أبو عبيدة: و زعم السّلمي أنّ هذا اليوم يقال له يوم الكلاب و يوم ذي الأثل - في بني عوف و بني خفاف، و كانا متساندين، و على بني خفاف صخر بن عمرو الشّريديّ، و على بني عوف أنس بن عبّاس. قال: فأصابوا في بني أسد بن خزيمة غنائم و سبيا، و أخذ صخر يومئذ بديلة امرأة(4). قال: و أصابت صخرا يومئذ طعنة، طعنه رجل يقال له ربيعة بن ثور، و يكنى أبا ثور، فأدخل جوفه حلقا من الدّرع فاندمل عليه حتّى شقّ عنه بعد سنين، و كان سبب موته.
قال أبو عبيدة: و قال غيره: بل ورد هو و بلعاء بن قيس الكناني. قال: /و كانا أجمل رجلين في العرب. قال:
فشربا عند يهوديّ خمار كان بالمدينة. قال: /فحسدهما لما رأى من جمالهما و هيأتهما، و قال: إنّي لأحسد العرب أن يكون فيهم مثل هذين! فسقاهما شربة جويا منها(5). قال: فمرّ بصخر طبيب بعد ما طال مرضه، فأراه ما به، فقال: أشقّ عنك(6) فتفيق. قال: فعمد إلى شفار فجعل يحميها ثم يشقّ بها(7) عنه، فلم ينشب أن مات.
قال أبو عبيدة: و أمّا أبو بلال بن سهم فإنّه قال: اكتسح صخر أموال بني أسد و سبى نساءهم، فأتاهم الصّريح فتبعوه فتلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ربيعة بن ثور الأسديّ صخرا في جنبه، و فات القوم فلم يقعص(8) و جوي منها، و مرض قريبا من حول، حتّى ملّه أهله. قال: فسمع صخر امرأة و هي تسأل سلمى امرأة صخر: كيف بعلك؟ فقالت سلمى: لا حيّ فيرجى، و لا ميت فينعى، لقينا منه الأمرّين! قال: و زعم آخر أنّ التي قالت هذه المقالة بديلة الأسديّة التي كان سباها من بني أسد فاتّخذها لنفسه. فأنشد هذا البيت:
ألا تلكم عرسي بديلة أوجست *** فراقي و ملّت مضجعي و مكاني(9)
و أمّا أبو بلال بن سهم فزعم أنّ صخرا حين سمع مقالة سلمى امرأته قال:
ص: 56
أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتي *** و ملّت سليمى مضجعي و مكاني
و ما كنت أخشى أن أكون جنازة *** عليك و من يغترّ بالحدثان(1)
/أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه *** و قد حيل بين العير و النّزوان
لعمري لقد نبّهت من كان نائما *** و أسمعت من كانت له أذنان
و للموت خير من حياة كأنّها *** محلة يعسوب برأس سنان(2)
و أيّ امرئ ساوى بأمّ حليلة *** فلا عاش إلاّ في شقا و هوان
فلما طال عليه البلاء و قد نتأت قطعة مثل اللّبد(3) في جنبه في موضع الطّعنة، قالوا له: لو قطعتها لرجونا أن تبرأ. فقال: شأنكم. فأشفق عليه بعضهم فنهاهم، فأبى و قال: الموت أهون عليّ مما أنا فيه! فأحموا له شفرة ثم قطعوها فيئس(4) من نفسه.
قال: و سمع صخر أخته الخنساء تقول: كيف كان صبره؟ فقال صخر في ذلك:
أجارتنا إنّ الخطوب تنوب *** على النّاس، كلّ المخطئين تصيب
فإن تسأليني هل صبرت فإنّني *** صبور على ريب الزمان صليب
كأنّي و قد أدنوا إليّ شفارهم *** من الصّبر دامي الصّفحتين ركوب
أجارتنا لست الغداة بظاعن *** و لكن مقيم ما أقام عسيب
عن أبي عبيدة: عسيب: جبل بأرض بني سليم إلى جنب المدينة، فقبره هناك معلم.
و قال أبو عبيدة: فمات فدفن هناك، فقبره قريب من عسيب.
فقالت الخنساء ترثيه:
ألا ما لعينك أم ما لها *** لقد أخضل الدّمع سربالها
ابعد ابن عمرو من آل الشري *** - د حلّت به الأرض أثقالها
فإن تك مرّة أودت به *** فقد كان يكثر تقتالها
ص: 57
/سأحمل نفسي على خطّة *** فإمّا عليها و إمّا لها
فإن تصبر النّفس تلق السّرور *** و إن تجزع النفس أشقى لها
غنّى فيه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر.
قال السّلمي: ليست هذه في صخر، هذه إنّما رثت بها معاوية أخاها، و بنو مرّة قتلته. و لكنها قالت في صخر:
قذى بعينك أم بالعين عوّار *** أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار(1)
تبكي لصخر، هي العبرى و قد ثكلت(2) *** و دونه من جديد التّرب أستار
لا بدّ من ميتة في صرفها غير *** و الدّهر في صرفه حول و أطوار
يا صخر ورّاد ماء قد تناذره *** أهل الموارد ما في ورده عار(3)
مشى السبنتى إلى هيجاء معضلة *** له سلاحان أنياب و أظفار(4)
فما عجول على بوّ تطيف به *** لها حنينان إصغار و إكبار(5)
ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت *** فإنّما هي إقبال و إدبار
/لا تسمن الدّهر في أرض و إن رتعت *** فإنّما هي تحنان و تسجار(6)
يوما بأوجد منّي يوم فارقني *** صخر و للدّهر إحلاء و إمرار(7)
فإنّ صخرا لوالينا و سيّدنا *** و إنّ صخرا إذا نشتو لنحّار
و إن صخرا لتأتمّ الهداة به *** كأنّه علم في رأسه نار
- غنّى في هذين البيتين الأولين ابن سريج، من رواية يونس -:
لم ترأه جارة يمشي بساحتها *** لريبة حين يخلي بيته الجار(8)
و لا تراه و ما في البيت يأكله *** لكنّه بارز بالصّحن مهمار(9)
مثل الرّدينيّ لم تنفد شبيبته *** كأنّه تحت طيّ البرد أسوار
ص: 58
في جوف رمس مقيم قد تضمّنه *** في رمسه مقمطرّات و أحجار
طلق اليدين بفعل الخير(1) ذو فجر *** ضخم الدّسيعة بالخيرات أمّار
و رفقة حار هاديهم بمهلكة *** كأنّ ظلمتها في الطّخية القار(2)
عروضه ثان من البسيط.
/العوّار و العائر: وجع، و هو مثل الرمد. و ذرفت: قطرت قطرا متتابعا لا يبلغ أن يكون سيلا. و العبرى، يقال امرأة عبرى و عابر. و العبرة(3): سخنة العين(4). و الوله(5): ما يصيب الرجل و المرأة من شدّة الجزع على الولد. حول و أطوار، أي تحوّل و تقلّب و تصرّف. قد تناذره، أي أنذر بعضهم بعضا هوله و صعوبته. و يروى:
«تبادره» و قولها «ما في ورده عار» أرادت ما في ترك ورده عار، أي لا يعيّر أحد إن عجز عنه من صعوبة ورده(6).
العجول: الثّكول. و البوّ: أن ينحر ولد الناقة و يؤخذ جلده فيحشى و يدنى من أمّه فترأمه. إحلاء و إمرار، يقال: ما أحلى و لا أمرّ. أي ما أتى بحلوة و لا مرّة(7). و المعنى أنّ الدهر يأتي بالمشقّة و المحبة(8). «كأنه علم في رأسه نار» أي إنّه مشهور. و العلم: الجبل، و جمعه أعلام. «كأنه تحت طيّ البرد أسوار»، أي من لطافة بطنه و هيفة شبيه(9)أسوار من ذهب. و الرديني: الرمح منسوب/إلى ردينة: امرأة كانت تقوّم الرماح. أي هو معصوب البدن ليس بمهبّج(10) منحلّ. و هذا كلّه من انتفاخ الجلد و السّمن و الاسترخاء. و قال/أبو عمرو: مقمطرّات: صخور عظام.
و الأحجار صغار(11). ذو فجر: يتفجر بالمعروف. و الدّسيعة: العطاء. الطخية، من الطخّاء، و هو الغيم الرقيق الذي يواري النّجوم فيتحيّر الهادي(12).
و قالت الخنساء أيضا ترثي صخرا:
بكت عيني و عاودها قذاها *** بعوّار فما تقضي كراها
على صخر و أيّ فتى كصخر *** إذا ما الناب لم ترأم طلاها(13)
ص: 59
- الطلا: الولد، أي لم تعطف عليه من الجدب -
فتى الفتيان ما بلغوا مداها *** و لا يكدي إذا بلغت كداها(1)
لئن جزعت بنو عمرو عليه *** لقد رزئت بنو عمرو فتاها
- غنى في هذه الأبيات ابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و ذكر حبش أنّ له أيضا فيه خفيف رمل بالبنصر -
ترى الشم الجحاجح من سليم *** و قد بلّت مدامعها لحاها
- إذا وصف السيد بالشمم فإنه لا يدنو لدناءة، و لا يضع لها أنفه -
و خيل قد كففت بجول خيل *** فدارت بين كبشيها رحاها(2)
/ - و جول خيل: جولان. و يقال: قطعة خيل تجول، أي تذهب و تجيء -
ترفّع فضل سابغة دلاص *** على خيفانة خفق حشاها(3)
و تسعى حين تشتجر العوالي *** بكأس الموت ساعة مصطلاها
محافظة و محمية إذا ما *** نبا بالقوم من جزع لظاها(4)
فتتركها قد اشتجرت بطعن *** تضمّنه، إذا اختلفت، كلاها
[هنالك لو نزلت بآل صخر *** قرى الأضياف سخنا من ذراها(5)
فمن للضّيف إن هبّت شمال *** مزعزعة يجاوبها صداها
و ألجأ بردها الأشوال حدبا *** إلى الحجرات بارزة كلاها](6)
أ مطعمكم و حاملكم تركتم *** لدى غبراء منهدم رجاها
ليبك عليك قومك للمعالي *** و للهيجاء إنّك ما فتاها(7)
و قد فوّزت طلعة فاستراحت *** فليت الخيل فارسها يراها(8)
ص: 60
/و قال خفاف بن عمير يرثي صخرا و معاوية ابني عمرو، و رجالا منهم أصيبوا:
تطاول همّه ببراق سعر *** لذكراهم و أيّ أوان ذكر(1)
كأنّ النار تخرجها ثيابي *** و تدخل بعد نوم الناس صدري
لباتت تضرب الأمثال عندي *** على ناب شربت بها و بكر(2)
و تنسى من أفارق غير قال *** و أصبر عنهم من آل عمرو
و هل تدرين أن ما ربّ خرق *** رزئت مبرّأ بقصاص وتر(3)
أخى ثقة إذا الضّرّاء نابت *** و أهل حباء أضياف و نحر
كصخر للسّريّة غادروه *** بذروة أو معاوية بن عمرو(4)
و ميت بالجناب أثلّ عرشي *** كصخر أو كعمرو أو كبشر
/و آخر بالنواصف من هدام *** فقد أودى و ربّ أبيك صبري(5)
فلم أر مثلهم حيّا لقاحا *** أقاموا بين قاصية و حجر(6)
أشدّ على صروف الدهر إدّا *** و آمر منهم فيها بصبر
و أكرم، حين ضنّ الناس، خيما *** و أحمد شيمة و نشيل قدر(7)
/إذا الحسناء(8) لم ترحض يديها *** و لم يقصر لها بصر بستر
قروا أضيافهم ربحا ببحّ *** تجيء بعبقريّ الودق سمر(9)
رماح مثقّف حملت نصالا *** يلحن كأنّهنّ نجوم فجر(10)
ص: 61
جلاها الصّيقلون فأخلصوها *** مواضي كلّها يفري ببتر(1)
هم الأيسار إن قحطت جمادى *** بكلّ صبير سارية و قطر(2)
يصدّون المغيرة عن هواها *** بطعن يفلق الهامات شزر(3)
تعلّم أنّ خير الناس طرّا *** لولدان - غداة الريح - غبر(4)
و أرملة و معترّ مسيف *** عديم المال، عجزة أمّ صخر(5)
و مما رثت به الخنساء صخرا و غنّي فيه:
أ عينيّ جودا و لا تجمدا *** أ لا تبكيان لصخر الندى
أ لا تبكيان الجريء الجميل *** أ لا تبكيان الفتى السيّدا
/طويل النّجاد رفيع العما *** د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدّوا بأيديهم *** إلى المجد مدّ إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم *** من المجد ثمّ مضى مصعدا
يحمّله القوم ما عالهم *** و إن كان أصغرهم مولدا
ترى المجد يهوي إلى بيته *** يرى أفضل المجد أن يحمدا
و إن ذكر المجد ألفيته *** تأزّر بالمجد ثمّ ارتدى
و نذكر الآن هاهنا خبر مقتل معاوية بن عمرو أخيهما، إذ كانت أخبارهما و أخبارها يدعو بعضها إلى بعض.
قال أبو عبيدة: حدّثني أبو بلال بن سهم بن عباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور قال:
غزا معاوية بن عمرو أخو خنساء، بني مرة بن سعد بن ذبيان و بني فزارة، و مع خفاف بن عمير بن الحارث، و أمه «ندبة» سوداء، و إليها ينسب، فاعتوره هاشم و دريد ابنا حرملة المرّيّان. قال ابن الكلبيّ: و حرملة هو حرملة بن
ص: 62
الأسعر بن إياس بن مريطة بن ضمرة بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان. قال أبو عبيدة: فاستطرد له أحدهما ثم وقف، و شدّ عليه الآخر فقتله، فلما تنادوا: قتل معاوية! قال خفاف: قتلني اللّه إن رمت حتّى أثأر به! فشدّ على مالك بن حمار الشمخي، و كان سيّد بني شمخ بن فزارة، فقتله - [قال: و هو مالك بن حمار بن حزن بن عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال بن مازن بن فزارة](1) - فقال خفاف في ذلك:
/فإن تك خيلي قد أصيب صميمها *** فعمدا على عين تيممت مالكا
/يعني مالك بن حمار الشّمخي.
قال أبو عبيدة: فأجمل أبو بلال الحديث.
قال: و أما غيره فذكر أنّ معاوية وافى عكاظ في موسم من مواسم العرب، فبينا هو يمشي بسوق عكاظ، إذ لقي أسماء المرّيّة، و كانت جميلة، و زعم أنّها كانت بغيّا، فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه و قالت: أ ما علمت أنّي عند سيّد العرب هاشم بن حرملة؟! فقال: أما و اللّه لأقارعنّه عنك. قالت: شأنك و شأنه. فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما قال معاوية و ما قالت له، فقال هاشم: فلعمري لا يريم أبياتنا حتّى ننظر ما يكون من جهده. قال: فلما خرج الشهر الحرام و تراجع الناس عن عكاظ، خرج معاوية بن عمرو غازيا يريد بني مرّة و بني فزارة، في فرسان أصحابه من بني سليم، حتى إذا كان بمكان يدعى الحوزة أو الجوزة - و الشك من أبي عبيدة - دوّمت(2) عليه طير و سنح له ظبي، فتطيّر منهما و رجع في أصحابه، و بلغ ذلك هاشم بن حرملة فقال: ما منعه من الإقدام إلاّ الجبن! قال: فلما كانت السنة(3) المقبلة غزاهم، حتّى إذا كان في ذلك المكان سنح له ظبي و غراب فتطيّر فرجع، و مضى أصحابه و تخلّف في تسعة عشر فارسا منهم لا يريدون قتالا، [إنما تخلّف عن عظم الجيش راجعا إلى بلاده](4)، فوردوا ماء و إذا عليه بيت شعر، فصاحوا بأهله فخرجت إليهم امرأة فقالوا: [ما أنت](4) ممن أنت؟ قالت: امرأة من جهينة، أحلاف لبني سهم بن مرة بن غطفان. فوردوا الماء يسقون، فانسلّت فأتت هاشم بن حرملة، فأخبرته أنّهم غير بعيد، و عرّفته عدّتهم و قالت: لا أرى إلاّ معاوية في القوم. فقال: يا لكاع، أ معاوية في تسعة عشر/رجلا، شبّهت أو أبطلت. قالت: بل قلت الحقّ، و لئن شئت لأصفنّهم لك رجلا رجلا. قال: هاتي.
قالت: رأيت فيهم شابا عظيم الجمّة، جبهته قد خرجت من تحت مغفره، صبيح الوجه، عظيم البطن، على فرس غرّاء. قال: نعم هذه صفته. يعني معاوية و فرسه الشّمّاء.
قالت: و رأيت رجلا شديد الأدمة شاعرا ينشدهم. قال: ذلك خفاف بن عمير.
قالت: و رأيت رجلا ليس يبرح وسطهم، إذا نادوه رفعوا أصواتهم. قال: ذاك عباس الأصمّ.
قال: و رأيت رجلا طويلا يكنّونه أبا حبيب، و رأيتهم أشدّ شيء له توقيرا. قال: ذاك نبيشة بن حبيب.
قالت: و رأيت شابّا جميلا له وفرة حسنة. قال: ذاك العباس بن مرداس السّلميّ.
ص: 63
قالت: و رأيت شيخا له ضفيرتان، فسمعته يقول لمعاوية: بأبي أنت أطلت الوقوف! قال: ذاك عبد العزّى زوج الخنساء أخت معاوية.
قال: فنادى هاشم في قومه و خرج، و زعم المريّ(1) أنه لم يخرج إليهم إلا في مثل عدّتهم من بني مرّة. قال:
فلم يشعر السّلميون حتّى طلعوا عليهم، فثاروا إليهم فلقوهم فقال لهم خفاف: لا تنازلوهم رجلا رجلا؛ فإنّ خيلهم تثبت للطّراد و تحمل ثقل السلاح، و خيلكم قد أمّنها الغزو و أصابها الحفا(2).
/قال: فاقتتلوا ساعة و انفرد هاشم و دريد ابنا حرملة المريان لمعاوية، فاستطرد له أحدهما فشدّ عليه معاوية و شغله، و اغترّه الآخر فطعنه فقتله. و اختلفوا أيّهما استطرد له و أيهما قتله، و كانت بالذي استطرد له طعنة طعنه إياها معاوية. و يقال: هو هاشم. و قال آخرون: بل دريد أخو هاشم.
قال: و شدّ خفاف بن عمير بن الحارث/بن الشريد(3) على مالك بن حمّار سيّد بني شمخ بن فزارة فقتله. و قال خفاف في ذلك و هو ابن ندبة، و هي أمة سوداء كانت سباها الحارث، بن الشريد حين أغار على بني الحارث بن كعب [فوهبها لابنه عمير فولدت له خفافا(4). و يقال في ندبة إنّها ابنة الشيطان بن بنان، من بني الحارث بن كعب.
فقال]:
أقول له و الرمح يأطر متنه *** تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا(5)
وقفت له جلوى و قد خام صحبتي *** لابني مجدا أو لأثأر هالكا(6)
لدن ذرّ قرن الشّمس حين رأيتهم *** سراعا على خيل تؤمّ المسالكا
فلمّا رأيت القوم لا ودّ بينهم *** شريجين شتّى طالبا و مواشكا(7)
/تيممت كبش القوم حتّى عرفته *** و جانبت شبّان الرجال الصعالكا
فجادت له يمنى يديّ بطعنة *** كست متنه من أسود اللون حالكا
أنا الفارس الحامي الحقيقة و الذي *** به أدرك الأبطال قدما كذلكا
فإن ينج منها هاشم فبطعنة *** كسته نجيعا من دم الجوف صائكا
ص: 64
فحقّق خفاف في شعره أنّ الذي طعن معاوية هو هاشم بن حرملة.
و قالت الخنساء ترثي أخاها معاوية:
ألا لا أرى في الناس مثل معاوية *** إذا طرقت إحدى الليالي بداهيه
بداهية يصغي الكلاب حسيسها *** و تخرج من سرّ النجيّ علانيه(1)
ألا لا أرى كفارس الورد فارسا *** إذا ما علته جرأة و غلابيه(2)
و كان لزاز الحرب عند شبوبها *** إذا شمّرت عن ساقها و هي ذاكية(3)
و قوّاد خيل نحو أخرى كأنّها *** سعال و عقبان عليها زبانية(4)
بلينا و ما تبلى تعار و ما ترى *** على حدث الأيام إلا كما هيه(5)
فأقسمت لا ينفكّ دمعي و عولتي *** عليك بحزن ما دعا اللّه داعيه
و قالت الخنساء في كلمة أخرى ترثيه أيضا:
إلا ما لعينيك أم ما لها *** لقد أخضل الدمع سربالها
أبعد ابن عمرو من آل الشري *** - د حلّت به الأرض أثقالها
و أقسمت آسى على هالك *** و أسأل نائحة ما لها
سأحمل نفسي على آلة *** فإمّا عليها و إمّا لها
نهين النفوس و هون النّفو *** س يوم الكريهة أبقى لها
و رجراجة فوقها بيضها *** عليها المضاعف زفنا لها(6)
ككرفئة الغيث ذات الصّبي *** - ر ترمي السحاب و يرمي لها
و قافية مثل حدّ السّنا *** ن تبقى و يهلك من قالها
نطقت ابن عمرو فسهّلتها *** و لم ينطق الناس أمثالها
فإن تك مرّة أودت به *** فقد كان يكثر تقتالها
ص: 65
فزال الكواكب من فقده *** و جلّلت الشمس أجلالها
/و داهية جرّها جارم *** تبيل الحواصن أحبالها(1)
كفاها ابن عمرو و لم يستعن *** و لو كان غيرك أدنى لها
و ليس بأولى و لكنّه *** سيكفي العشيرة ما عالها(2)
/بمعترك ضيّق بينه *** تجرّ المنية أذيالها
و بيض منعت غداة الصّبا *** ح تكشف للرّوع أذيالها(3)
و معملة سقتها قاعدا *** فأعلمت بالسيف أغفالها(4)
و ناجية كأتان الثّمي *** - ل غادرت بالخلّ أوصالها(5)
[إلى ملك لا إلى سوقة *** و ذلك ما كان إعمالها](6)
و تمنح خيلك أرض العدوّ *** و تنبذ بالغزو أطفالها
و نوح بعثت كمثل الإرا *** خ آنست العين أسبالها(7)
التفسير، عن أبي عبيدة:
قوله حلّت به الأرض، قال بعضهم: حلت من الحلية أي زيّنت به الأرض موتاها، حين دفن بها. و قال بعضهم: حلّت من حللت الشيء. و المعنى ألقت مراسيها، كأنه كان ثقلا عليها. قال: اللفظ لفظ الاستفهام و المعنى خبر، كما قال جرير:
أ لستم خير من ركب المطايا *** و أندى العالمين بطون راح
/قال: جواب «أبعد» في «آسى» أي أبعد ابن عمرو آسى و أسأل نائحة ما لها.
ص: 66
[و قال أبو عبيدة: هذا البيت لمية بنت ضرار بن عمرو الضّبيّة ترثي أخاها](1). قال أبو الحسن الأثرم: سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: أمور الناس جارية على أذلالها، أي على مسالكها، واحدها ذل(2). آلة: حالة. تقول:
فإما أن أموت و إما أن أنجو. و لو قالت [على ألّة](3) لم تنج؛ لأن الألّة هي الحربة.
هممت بنفسي، قال أبو عبيدة: هذا توعد. قال الأصمعي: «كلّ الهموم». قال الأثرم: كأنّها أرادت أن تقتل نفسها(4).
أبو عبيدة؛ التكدس: التتابع، يتبع بعضها بعضا، أي يغزو و يجاهد في الغزو، كما تتوقّل الوعول في الجبال، عن أبي عبيدة. قال الأصمعي: التكدّس: أن تحرّك مناكبها إذا مشت و كأنّها تنصبّ إلى بين يديها، و إنما و صفتها بهذا. تقول: لا تسرع إلى الحرب، و لكن تمشي إليها رويدا. و هذا أثبت له من أن يلقاها و هو يركض. و يقال: جاء فلان يتكدّس، و هي مشية من مشي الغلاظ القصار. و قال أبو زياد الكلابيّ: الكداس(5): [عطاس] الضأن. قال السّلمي: التكدّس: تكدس الأوعال، و هو التقحّم. و التكدس هو أن يرمي بنفسه رميا شديدا في جريه.
/نهين النفوس، تريد غداة الكريهة. و قولها: «أبقى لها» لأنها إذا تذامرت(6) و غشيت القتال كان أسلم لها من الانهزام. كقول بشر بن أبي خازم:
و لا ينجى من الغمرات إلاّ *** براكاء القتال أو الفرار
قال بعضهم: أبقى لها في الذّكر و حسن القول. و الرجراجة: التي تتمخّض من كثرتها. و قال الأصمعي:
الكرفئة، و جمعها كرفئ: قطع من السحاب بعضها فوق بعض. و قوله: «ترمي السحاب» أي تنضمّ إليه و تتّصل به.
و يرمي لها، أي ينضمّ إليها السّحاب حتى يستوي. مثل حدّ السنان، لأنها ماضية. سهّلتها: جئت بها سهلة. و جلّلت الشمس، أي كسفت الشمس/و صار عليها مثل الجلّ. تبيل(7) الحواصن، و هي الحوامل من النّساء، أولادها من شدّة الفزع. أي ما كان وليها و لا دنا إليها، و لكنّه يكفي القريب و البعيد. ما عالها(8)، قال أبو عمرو: عالها: غلبها.
و قال أبو عبيدة: يقال إنّه ليعولني ما عالك، أي يغمّني ما غمّك. و يقال: افعل كذا و كذا و لا يعلك أن تأتي غيره، أي لا يعجزك. و يقال: قد يعولك أن تفعل كذا، أي قد دنا لك أن تفعل ذاك. و أنشد:
ضربا كما تكدّس الوعول *** يعول أن أنبطها يعول
ص: 67
/أي قد دنا ذلك. و يقال: عال كذا و كذا منك، أي دنا منك. و يروى: «و ليس بأدنى و لكنّه». و قولها معملة(1): إبل. و قولها: قاعدا، أي على فرسك. قال النابغة:
قعودا على آل الوجيه و لا حق(2)
و الأغفال: ما لا سمة عليها، واحدها غفل. [و الأتان: الصخرة.(3) و] الثميل: بقيّة الماء في الصخرة.
و الخلّ: الطريق في الرمل. يقول: أعيت فتركتها هنالك. و يروى:
غادرت بالنّخل أوصالها
قال الأصمعيّ: ناجية: سريعة. و يروى: «إلى ملك و إلى شانئ». تقول: تقود خيلك إلى ملك أو عدوّ.
و يروى: «[ما(4) كان] إكلالها». [ما صلة(4)]. الإراخ: بقر الوحش. تقول: خرجت من بيوتهن كما خرجت هذه البقر من كنسها فرحا بالمطر. و مثله في الفرح بالمطر لابن الأحمر قوله:
ماريّة لؤلؤان اللون أوردها *** طلّ و بنّس عنها فرقد خصر(5)
/أي قوّى أنفسها المطر، لما رأته. و مثله:
ألا هلك امرؤ قامت عليه *** بجنب عنيزة البقر الهجود(6)
أي لم يقرن في البيوت فتسترهنّ البيوت، بل هنّ ظواهر. و إنما شبه اجتماع هؤلاء النساء باجتماع العين و خروجهنّ للمطر. قال: و بقر الوحش تفرح بالمطر.
و ألاّ ترزئي نفسا و مالا *** يضرّك هلكه في طول عمري
[فقد كذبتك نفسك فاكذبيها *** فإن جزع و إن إجمال صبر(1)
و إنّ الرزء يوم وقفت أدعو *** فلم أسمع معاوية بن عمرو]
رأيت مكانه فعرضت بدءا *** و أيّ مقيل رزء يا ابن بكر
إلى إرم و أحجار و صير *** و أغصان من السّلمات سمر
/ - صير، الواحدة صيرة، و هي حظيرة الغنم. و قوله: و أغصان من السلمات، أي ألقيت على قبره -
و بنيان القبور أتى عليها *** طوال الدّهر من سنة و شهر
و لو أسمعته لسرى حثيثا *** سريع السّعي أو لأتاك يجري
بشكّة حازم لا عيب فيه *** إذا لبس الكماة جلود نمر
- أي كأنّ ألوانهم ألوان النمور، سواد و بياض من السلاح. عن أبي عبيدة -
فإمّا تمس في جدث مقيما *** بمسهكة من الأرواح قفر(2)
فعزّ عليّ هلكك يا ابن عمرو *** و ما لي عنك من عزم و صبر
/قال أبو الحسن الأثرم: فلمّا دخل الشهر الحرام - فيما ذكر أبو عبيدة عن [أبي](3) بلال بن سهم - من السّنة المقبلة، خرج صخر بن عمرو حتّى أتى بني مرّة بن عوف بن ذبيان، فوقف على ابني حرملة، فإذا أحدهما به طعنة في عضده - قال: لم يسمّه أبو بلال بن سهم. فأمّا خفاف بن عمير فزعم في كلمته تلك أنّ المطعون هاشم - فقال:
أيّكما قتل أخي معاوية؟ فسكتا فلم يحيرا إليه شيئا(4)، فقال الصّحيح للجريح: ما لك لا تجيبه؟ فقال: وقفت له فطعنني هذه الطعنة في عضدي، و شدّ أخي عليه فقتله، فأيّنا قتلت أدركت ثأرك، إلاّ أنا لم نسلب أخاك. قال: فما فعلت فرسه الشّمّاء؟ قال: ها هي [تلك](5) خذها. فردّها عليه(6) فأخذها و رجع، فلما أتى صخر/قومه قالوا له:
اهجهم. قال: إنّ ما بيننا أجلّ من القذع، و لو لم اكفف نفسي إلاّ رغبة عن الخنا لفعلت.
و قال صخر في ذلك:
و عاذلة هبّت بليل تلومني *** ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
ص: 69
- قال: أراد تباكره باللوم، لم يرد الليل نفسه، إنّما أراد عجلتها عليه باللوم، كما قال النمر بن تولب العكليّ:
بكرت باللّوم تلحانا
و قال غيره: تلومه بالليل لشغله بالنهار عنها بفعل المكارم، و الأضياف، و النظر في الحمالات و أمور قومه، لأنّه قوامهم(1) -
تقول أ لا تهجو فوارس هاشم *** و ما لي إذ أهجوهم ثم ماليا
أبى الشتم أنّي قد أصابوا كريمتي *** و أن ليس إهداء الخنا من شماليا(2)
- [أي من شمائلي. و يروى: «من فعاليا(3)»] -
إذا ذكر الإخوان رقرقت عبرة *** و حيّيت رمسا عند ليّة ثاويا(4)
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحيّة *** فحيّاك ربّ الناس عنّي معاويا
و هوّن وجدي أنّني لم أقل له *** كذبت و لم أبخل عليه بماليا
فنعم الفتى أدّى ابن صرمة بزّه *** إذا الفحل أضحى أحدب الظّهر عاريا
/قال أبو عبيدة: ثم زاد فيها بيتا بعد أن أوقع بهم، فقال:
و ذي إخوة قطّعت أقران بينهم *** كما تركوني واحدا لا أخاليا(5)
قال أبو عبيدة: فلما كان في العام المقبل غزاهم و هو على فرسه الشّمّاء، فقال: إنّي أخاف أن يعرفوني و يعرفوا غرّة الشمّاء، فيتأهّبوا. قال: فحمّم غرّتها(6). قال: فلما أشرفت على أدنى الحيّ رأوها. فقالت فتاة منهم:
هذه و اللّه الشّمّاء! فنظروا فقالوا: الشماء غرّاء و هذه بهيم! فلم يشعروا إلاّ و الخيل دوائس(7)، فاقتتلوا فقتل صخر دريدا، و أصاب بني مرة فقال:
و لقد قتلتكم ثناء و موحدا *** و تركت مرّة مثل أمس المدبر(8)
ص: 70
- قال الأثرم: مثنى و ثناء لا ينونان. قال ابن عنمة الضّبيّ:
يباعون بالنّغران مثنى و موحدا(1)
لا ينوّنان لأنّهما مما صرف عن جهته، و الوجه أن يقول: اثنين اثنين. و كذلك ثلاث و رباع. قال صخر [الغيّ](2):
منت لك أن تلاقيني المنايا *** أحاد أحاد في الشهر الحلال(3)
/قال: و لا تجاوز العرب الرّباع، غير أنّ الكميت قال:
فلم يستريثوك حتّى رمي *** - ت فوق الرجال خصالا عشارا -(4)
/و لقد دفعت إلى دريد بطعنة *** نجلاء تزغل مثل عطّ المنحر(5)
تزغل: تخرج الدم قطعا قطعا. قال: و الزّغلة: الدّفعة الواحدة من الدم و البول. قال:
فأزغلت في الحلق إزغالة(6)
و لكنّا نريد هلاك قوم *** فنقتلهم و نشريهم بكسر(1)
/و قال صخر أيضا:
ألا لا أرى مستعتب الدّهر معتبا *** و لا آخذ منه الرضا إن تغضّبا(2)
و ذي إخوة قطّعت أقران بينهم *** إذا ما النّفوس صرن حسرى و لغّبا(3)
أقول لرمس بين أجراع بيشة *** سقاك الغوادي الوابل المتحلّبا(4)
لنعم الفتى أدّى ابن صرمة بزّه إذا الفحل أمسى عاري الظهر أحدبا
قال أبو عبيدة: ثم إنّ هاشم بن حرملة خرج غازيا، فلما كان ببلاد جشم بن بكر بن هوازن نزل منزلا و أخذ صفنا(5) و خلا لحاجته بين شجر، و رأى غفلته قيس بن الأصور(6) الجشميّ فتبعه و قال: هذا قاتل معاوية! لا وألت نفسي إن وأل(7)! فلما قعد على حاجته تقتّر له بين الشجر(8)، حتّى إذا كان خلفه أرسل إليه معبلة(9) فقتله.
فقالت الخنساء في ذلك - قال ابن الكلبي: و هي الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن شريد بن رياح بن يقظة بن عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم -:
فدى للفارس الجشمي نفسي *** و أفديه بمن لي من حميم
/أفدّيه بجلّ بني سليم *** بظاعنهم و بالأنس المقيم(10)
كما من هاشم أقررت عيني *** و كانت لا تنام و لا تنيم
قال أبو عبيدة: و كان هاشم بن حرملة بن صرمة بن مرّة أسود(11) العرب و أشدّهم، و له يقول الشاعر:
ص: 72
أحيا أباه هاشم بن حرملة *** يوم الهباتين و يوم اليعمله(1)
[يقتل ذا الذنب و من لا ذنب له *** إذ الملوك حوله مغربله(2)
و سيفه للوالدات مثكله
حدّثني علي بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن الحسن بن الحرون قال: حدّثنا الكسروي عن الأصمعي قال: مررت بأعرابيّ و هو يخضد شجرة و قد أعجبته سماحتها، و هو يرتجز و يقول:
لو كنت إنسانا لكنت حاتما *** أو الغلام الجشميّ هاشما
قلت: من هاشم هذا؟ قال: أ و لا تعرفه؟ قلت: لا. قال: هو الذي يقول:
و عاذلة هبّت بليل تلومني *** كأنّي إذا أنفقت مالي أضيمها
/دعيني فإنّ الجود لن يتلف الفتى *** و لن يخلد النفس اللئيمة لومها
و تذكر أخلاق الفتى، و عظامه *** مفرّقة في القبر باد رميمها
/سلي كلّ قيس هل أباري(3) خيارها *** و يعرض عنّي وغدها و لئيمها
و تذكر فتيانيّتي و تكرمي *** إذا ذمّ فتيانيّها و كريمها(4)
قلت: لا أعرفه. قال: لا عرفت، هو الذي يقول فيه الشاعر:
أحيا أباه هاشم بن حرملة *** يقتل ذا الذنب و من لا ذنب له
ترى الملوك حوله مغربله
تأبد الرّبع من سلمى بأحفار *** و أقفرت من سليمى دمنة الدّار(5)
و قد تحلّ بها سلمى تحدّثني *** تساقط الحلي حاجاتي و أسراري
الشعر للأخطل، و الغناء لعمر الواديّ، هزج بالسبابة في مجرى الوسطى، و فيهما رمل بالبنصر يقال إنه لابن جامع و يقال إنه لغيره، و فيهما خفيف رمل بالوسطى، ذكر الهشامي أنه لحكم. و ذكر حبش أن فيهما لإبراهيم خفيف ثقيل أوّل بالوسطى.
ص: 73
و مما يغني فيه من هذه القصيدة:
/و شارب مربح بالكأس نادمني *** لا بالحصور و لا فيها ببسّار(1)
نازعته طيّب الراح الشّمول و قد *** صاح الدّجاج و حانت وقعة الساري(2)
لما أتوها بمصباح و مبزلهم *** سمت إليهم سموّ الأبجل الضاريّ(3)
الغناء في هذه الأبيات لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ. و ذكر غيره أنّها للدّلال. و منها:
قرد تغنّيه ذبّان الرّياض كما *** غنّى الغواة بصنج عند أسوار(4)
كأنّه من ندى القرّاص مغتمر *** بالورس أو خارج من بيت عطّار(5)
غناه ابن سريج، و لحنه من القدر الأوسط، من الثقيل الأوّل، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و ذكر الهشاميّ أن لمالك فيه ثقيلا أوّلا. و وافقه يونس في نسبته إلى مالك، و لحكم في قوله:
فرد تغنّيه دبّان الرياض كما
/و بعده قوله:
صهباء قد عنست من طول ما حبست *** في مخدع بين جنات و أنهار
خفيف ثقيل بالبنصر. و منها:
لسكّنتني قريش في ظلالهم *** و موّلتني قريش بعد إقتار(6)
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم *** عن النّساء و لو باتت بأطهار(7)
ليونس فيها لحن من كتابه و لم يجنّسه.
و هذه القصيدة مدح بها الأخطل يزيد بن معاوية لمّا منع من قطع لسانه حين هجا الأنصار، و كان يزيد هو الذي
ص: 74
أمره بهجائهم. فقيل: إن/السبب في ذلك كان تشبّب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية، و قيل بل حمي لعبد الرحمن بن الحكم.
أخبرني الجوهري قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني أبو يحيى الزّهري قال: حدّثني ابن أبي زريق قال:
شبّب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية فقال:
رمل هل تذكرين يوم غزال *** إذ قطعنا مسيرنا بالتّمنّي
إذ تقولين عمرك اللّه هل شي *** ء و إن جلّ سوف يسليك عنّي
أم هل اطمعت منكم بابن حسّا *** ن كما قد أراك أطمعت منّي
قال: فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فغضب، فدخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، أ لا ترى إلى هذا العلج من أهل يثرب، يتهكّم بأعراضنا و يشبّب(1) بنسائنا؟ /قال: و من هو؟ قال: عبد الرحمن بن حسّان، و أنشده ما قال، فقال: يا يزيد ليست العقوبة من أحد أقبح منها من ذوي القدرة، و لكن أمهل حتّى يقدم وفد الأنصار ثم ذكّرني. قال: فلمّا قدموا أذكره به(2)، فلما دخلوا عليه قال: يا عبد الرحمن، أ لم يبلغني أنك تشبّب برملة بنت أمير المؤمنين؟ قال: بلى، و لو علمت أنّ أحدا أشرّف به شعري أشرف منها لذكرته. قال: و أين أنت عن أختها هند؟ قال: و إنّ لها لأختا؟ قال: نعم. قال: و إنما أراد معاوية أن يشبّب بهما جميعا فيكذب نفسه. قال: فلم يرض يزيد ما كان من معاوية في ذلك: أن يشبّب بهما جميعا، فأرسل إلى كعب بن جعيل فقال: اهج الأنصار. فقال: أفرق من أمير المؤمنين(3)؛ و لكن أدلّك على الشاعر الكافر الماهر. قال: و من هو؟ قال: الأخطل. قال: فدعا به فقال:
اهج الأنصار. قال: أفرق من أمير المؤمنين! فقال: لا تخف شيئا؛ أنا لك بذلك. قال: فهجاهم فقال:
و إذا نسبت ابن الفريعة خلته *** كالجحش بين حمارة و حمار(4)
لعن الإله من اليهود عصابة *** بالجزع بين صليصل و صرار(5)
قوم إذا هدر العصير رأيتهم *** حمرا عيونهم من المصطار(6)
خلّوا المكارم لستم من أهلها *** و خذوا مساحيكم بني النجّار(7)
/إنّ الفوارس يعلمون ظهوركم *** أولاد كلّ مقبّح أكّار(8)
ص: 75
ذهبت قريش بالمكارم و العلا *** و اللؤم تحت عمائم الأنصار
فبلغ ذلك النعمان بن بشير فدخل على معاوية فحسر عن رأسه عمامته، و قال: يا أمير المؤمنين: أ ترى لؤما؟ قال: لا بل أرى كرما و خيرا، ما ذاك؟ قال: زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائمنا. قال: أو فعل؟ قال: نعم. قال:
لك لسانه. و كتب فيه أن يؤتى به. فلما أتى به سأل الرسول ليدخل إلى يزيد أوّلا، فأدخله عليه، فقال: هذا الذي كنت أخاف. قال: لا تخف شيئا. و دخل على معاوية فقال: علام أرسل إليّ هذا الرجل و هو يرمي من وراء جمرتنا؟ قال: هجا الأنصار. قال: و من زعم ذلك؟ قال: النعمان بن بشير. قال: لا تقبل قوله عليه و هو يدّعي لنفسه، و لكن تدعوه بالبيّنة، فإن ثبّت(1) شيئا أخذته به له. فدعاه بالبينة فلم يأت بها، فخلّى سبيله. فقال الأخطل:
و إنّي غداة استعبرت أمّ مالك *** لراض من السّلطان أن يتهدّدا
/و لو لا يزيد ابن الملوك و سعيه *** تجلّلت حدبارا من الشّرّ أنكدا(2)
فكم أنقذتني من خطوب حباله *** و خرساء لو يرمى بها الفيل بلّدا(3)
و دافع عنّي يوم جلّق غمرة *** و همّا ينسّيني السّلاف المبرّدا(4)
و بات نجيّا في دمشق لحيّة *** إذا همّ لم ينم السليم فأقصدا(5)
/يخافته طورا و طورا إذا رأى *** من الوجه إقبالا ألحّ و أجهدا(6)
و أطفأت عنّي نار نعمان بعد ما *** أعدّ لأمر فاجر و تجرّدا
و لما رأى النّعمان دوني ابن حرّة *** طوى الكشح إذ لم يستطعني و عرّدا(7)
حدّثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال: حدّثنا المدائني عن أبي عبد الرحمن بن المبارك قال:
شبّب عبد الرحمن بن حسّان بأخت معاوية، فغضب يزيد فدخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، اقتل عبد الرحمن بن حسّان. قال: و لم؟ قال: شبّب بعمّتي. قال: و ما قال؟ قال قال:
طال ليلي و بتّ كالمحزون *** و مللت الثّواء في جيرون
ص: 76
قال معاوية: يا بنيّ و ما علينا من طول ليله و حزنه أبعده اللّه؟ قال: إنه يقول:
فلذاك اغتربت بالشام حتّى *** ظنّ أهلي مرجّمات الظنون
قال: يا بنيّ و ما علينا من ظنّ أهله؟ قال: إنّه يقول:
هي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص *** ميزت من جوهر مكنون
قال: صدق يا بنيّ. قال: إنّه يقول:
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
قال: صدق يا بنيّ، هي هكذا. قال: إنّه يقول:
ثم خاصرتها إلى القبّة الخض *** - راء تمشي في مرمر مسنون(1)
/خاصرتها: أخذت بخصرها و أخذت بخصري. قال: و لا كلّ هذا يا بني! ثم ضحك و قال: أنشدني ما قال أيضا. فأنشده قوله:
قبّة من مراجل نصبوها *** عند حدّ الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من البا *** ب و إن كنت خارجا فيميني
تجعل النّدّ و الألوّة و العو *** د صلاء لها على الكانون(2)
و قباب قد أشرجت و بيوت *** نطّقت بالريحان و الزّرجون(3)
قال: يا بني، ليس يجب القتل في هذا، و العقوبة دون القتل، و لكنّا نكفّه بالصلة له و التجاوز.
هي زهراء مثل لؤلؤة الغو *** اص ميزت من جوهر مكنون
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
/نسخت من كتاب ابن النطاح: و ذكر الهيثم بن عدي عن ابن دأب قال: حدّثنا شعيب بن صفوان أنّ عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت كان يشبّب بابنة معاوية، و يذكرها في شعره، فقال الناس لمعاوية: لو جعلته نكالا؟ فقال: لا، و لكن أداويه بغير ذلك. فأذن(4) له و كان يدخل عليه في أخريات الناس، ثمّ أجلسه(5) على سريره
ص: 77
معه، و أقبل عليه بوجهه و حديثه ثم قال: ابنتي الأخرى عاتبة عليك. قال: في أيّ شيء؟ قال: في مدحتك أختها و تركك إياها. قال: فلها العتبى و كرامة، أنا ذاكرها و ممتدحها(1). فلما فعل و بلغ ذلك الناس قالوا: قد كنا نرى أنّ نسيب(2) بن حسّان بابنة معاوية لشيء، فإذا هو عن رأي معاوية و أمره. و علم من كان يعرف أنه ليس له بنت أخرى، أنّه إنما خدعه ليشبّب بها، و لا أصل لها فيعلم الناس أنه كذب على الأولى لما ذكر الثانية.
و قد قيل في حمل يزيد بن معاوية الأخطل على هجاء الأنصار: إنّه فعل ذلك تعصّبا لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص بن أمية، أخي مروان بن الحكم في مهاجاته عبد الرحمن، و غضبا له، لمّا استعلاه ابن حسّان في الهجاء.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أبو سعيد السكري قال: حدثنا أبو غسّان دماذ(3)، عن أبي عبيدة قال: أخبرني أبو الخطاب الأنصاري قال:
كان عبد الرحمن بن حسّان خليلا لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص مخالطا له، فقيل له: إن ابن حسان يخلفك في أهلك. فراسل امرأة ابن حسّان فأخبرت بذلك زوجها و قالت: أرسل إليّ: إنّي أحبّك حبّا أراه قاتلي! فأرسل ابن حسّان إلى امرأة ابن الحكم و كانت تواصله و قال للرسول: اذهب إليها و قل لها: إن/امرأتي تزور أهلها اليوم فزوريني حتّى نخلو. فزارته فقعد معها ساعة ثم قال لها: قد و اللّه جاءت امرأتي. فأدخلها بيتا إلى جنبه و أمر امرأته فأرسلت إلى عبد الرحمن بن الحكم: إنّك ذكرت حبّك إياي و قد وقع ذلك في قلبي، و إنّ ابن حسّان قد خرج اليوم إلى ضيعته فهلمّ فتهيّأ ثمّ أقبل. فإنّه لقاعد معها إذ قالت له: قد جاء ابن حسّان فادخل هذا البيت فإنّه(4) لا يشعر بك. فأدخلته البيت الذي فيه امرأته، فلما رآها أيقن بالسّوأة و وقع الشرّ بينهما، و هجا كلّ واحد منهما صاحبه.
قال أبو عبيدة: هذه رواية أبي الخطّاب الأنصاري، و أمّا قريش فإنّهم يزعمون أنّ مرأة ابن حسّان كانت تحبّ عبد الرحمن و تدعوه إلى نفسها فيأبى ذلك، حفظا لما بينه و بين زوجها، و بلغ ذلك ابن حسان فراسل امرأة ابن الحكم حتّى فضحها، و بلغ ذلك ابن الحكم و قيل له: إنك إذا أتيت ضيعتك أرسلت إلى ابن حسّان فكان معها. فأمر ابن الحكم أهله فقال: عالجوا سفرة حتّى أطالع مالي بمكان كذا و كذا. فخرج و بعثت امرأته إلى ابن حسان فجاء كما كان يفعل، و رجع ابن الحكم حين ظنّ أن ابن حسان قد صار عندها، فاستفتح فقالت: ابن الحكم و اللّه! و خبّأته
ص: 78
خلفها في بيت، و دخل عبد الرحمن فبعث إلى امرأة ابن حسان: إنه قد وقعت لك في قلبي مقة(1)، فأقبلي إليّ الساعة، فتهيأت و أقبلت حتّى دخلت/عليه، فوضعت ثيابها و زوجها ينظر فقال لها: قد كنت أكثرت الإرسال إليّ فما شأنك؟ قالت: إني و اللّه هالكة من حبّك. قال: و زوجها يسمع، و إنّما أراد أن يعلمه أنّها قد كانت ترسل إليه و يأبى عليها. و زعم أنها هي التي قالت لابن الحكم إنّ ابن حسّان يخلفك في أهلك. فلما فرغ من كلامه و أسمعه زوجها قال/لها: قد جاءت امرأتي. و أدخلها البيت الذي فيه ابن حسّان، فلما جمعهما في مكان واحد خرج عنهما، فخرجا و طلّق امرأته.
أخبرني ابن دريد قال: أخبرني الرياشي قال: حدّثنا ابن بكير عن هشام بن الكلبي عن خالد بن سعيد عن أبيه قال:
رأيت مروان بن الحكم يطوف بالبيت و يقول: اللّهم أذهب عني الشّعر! و أخوه عبد الرحمن يقول: اللّهم إني أسألك ما استعاذ منه! فذهب الشعر عن مروان، و قاله عبد الرحمن.
و أمّا هشام بن الكلبيّ فإنه حدث عن خالد و إسحاق ابنى سعيد بن العاصي، أنّ سبب التهاجي بينهما أنّهما خرجا إلى الصيد بأكلب لهما في إمارة مروان، فقال ابن الحكم لابن حسّان:
ازجر كلابك أنها قلطيّة *** بقع و مثل كلابكم لم تصطد(2)
فردّ عليه ابن حسّان:
من كان يأكل من فريسة صيده *** فالتّمر يغنينا عن المتصيّد(3)
إنا أناس ريّقون و أمّكم *** ككلابكم في الولغ و المتردّد(4)
حزناكم للضّبّ تحترشونه *** و الريف، نمنعكم بكلّ مهنّد(5)
/ثم رجعا إلى المدينة فجعلا يتقارضان، فقال عبد الرحمن بن الحكم في قصيدة:
و مثل أمّك أمّ العبد قد ضربت *** عندي وليّ بفنائي مزهر جرم(6)
و أنت عند ذناباها تعاونها *** على القدور تحسّى خاثر البرم(7)
ص: 79
فنقضها عبد الرحمن بن حسّان عليه بقصيدته التي يقول فيها:
يا أيّها الراكب المزجي مطيّته *** إذا عرضت فسائل عن بني الحكم(1)
القائلين إذا لاقوا عدوّهم *** فرّوا فكرّوا على النّسوان و النّعم
كم من أمين نصيح الجيب قال لكم *** ألاّ نهيتم أخاكم يا بني الحكم
عن رجل لا بغيض في عشيرته *** و لا ذليل قصير الباع معتصم(2)
و قال ابن حسّان:
صار الذليل عزيزا و العزيز به *** ذلّ و صار فروع الناس أذنابا
إنّي لملتمس حتّى يبين لكم *** فيكم متى كنتم للنّاس أربابا
فارقوا على ظلعكم ثمّ انظروا و سلوا *** عنّا و عنكم قديم العلم نسّابا(3)
فسوف يضحك أو تعتاده ذكر *** يا بؤس للدهر للإنسان ريّابا(4)
و لهما نقائض كثيرة لا معنى لذكر جميعها هاهنا.
قال دماذ: و حدّثني أبو عبيدة عن أبي الخطاب قال:
لما كثر التهاجي بينهما و أفحشا كتب معاوية يومئذ و هو الخليفة، إلى سعيد/بن العاص و هو عامله على المدينة، أن يجلد كلّ واحد منهما مائة سوط. قال: و كان ابن حسان صديقا لسعيد، و ما مدح أحدا قط غيره، فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمّه، فأمسك عنهما، ثم ولي مروان فلما قدم أخذ ابن حسّان فضربه مائة سوط و لم يضرب أخاه، فكتب ابن حسّان إلى النعمان بن بشير و هو بالشأم، و كان كبيرا مكينا عند معاوية:
ليت شعري أ غائب أنت بالشا *** م خليلي أم راقد نعمان
أيّة ما يكن فقد يرجع الغا *** ئب يوما و يوقط الوسنان(5)
إنّ عمرا و عامرا أبوينا *** و حراما قدما على العهد كانوا(6)
أفهم مانعوك أم قلّة الكتّاب *** أم أنت عاتب غضبان
أم جفاء أم أعوزتك القراطي *** - س أم أمري به عليك هوان(7)
ص: 80
يوم أنبئت أنّ ساقيّ رضّت *** و أتاكم بذلك الرّكبان
ثمّ قالوا إنّ ابن عمّك في بل *** - وى أمور أتى بها الحدثان(1)
فتئطّ الأرحام و الودّ و الصّح *** - بة فيما أتى به الحدثان(2)
إنما الرمح فاعلمنّ قناة *** أو كبعض العيدان لو لا السّنان
/و هي قصيدة طويلة - فدخل النعمان على معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت سعيدا أن يضرب ابن حسّان و ابن الحكم مائة مائة فلم يفعل، ثم ولّيت مروان فضرب ابن حسّان و لم يضرب أخاه. قال: فتريد ما ذا؟ قال: أنت تكتب إليه بمثل ما كتبت إلى سعيد. فكتب إلى معاوية يعزم عليه أن يضرب أخاه مائة، و بعث إلى ابن حسّان بحلّة، فلما قدم الكتاب على مروان بعث إلى ابن حسان: إنّي مخرجك، و إنّما أنا مثل والدك، و ما كان ما كان منّي إليك إلا على سبيل التأديب لك. و اعتذر إليه، فقال حسان: ما بدا له في هذا إلاّ لشيء قد جاءه. و أبى أن يقبل منه، فأبلغ الرسول ذلك مروان فوجّهه إليه بالحلّة فرمى بها في الحشّ(3). فقيل له: حلّة أمير المؤمنين و ترمي بها في الحشّ؟ قال: نعم و ما أصنع بها! و جاءه قومه فأخبروه الخبر فقال: قد علمت أنّه لم يفعل ما فعل إلا لأمر قد حدث. فقال الرسول لمروان: ما تصنع بهذا، قد أبى أن يعفو فهلمّ أخاك. فبعث مروان إلى الأنصار و طلب إليهم أن يطلبوا إليه أن يضربه خمسين فإنّه ضعيف. فطلبوا إليه فأجابهم، فأخرجه فضربه خمسين، فلقي ابن حسّان بعض من كان لا يهوى ما ترك من ذلك، فقال له: أضربك مائة و يضربه خمسين، بئس ما صنعت إذ وهبتها له. قال: إنّه عبد و إنّما ضربه ما يضرب العبد نصف ما يضرب الحرّ! فحمل هذا الكلام حتّى شاع بالمدينة و بلغ ابن الحكم فشقّ عليه، فأتى أخاه مروان فخبّره الخبر و قال: فضحتني، لا حاجة لي فيما تركت(4) فهلمّ فاقتصّ.
فضرب ابن الحكم خمسين أخرى، فقال عبد الرحمن يهجو ابن الحكم:
/دع ذا و عدّ قريض شعرك في امرئ *** يهذي و ينشد شعره كالفاخر(5)
عثمان عمّكم و لستم مثله *** و بنو أميّة منكم كالآمر
و بنو أبيه سخيفة أحلامهم *** فحش النفوس لدى الجليس الزائر
/أحياؤهم عار على أمواتهم *** و الميّتون مسبّة للغابر(6)
هم ينظرون إذا مددت إليهم *** نظر التيوس إلى شفار الجازر
ص: 81
خزر العيون منكّسي أذقانهم *** نظر الذّليل إلى العزيز القاهر
فقال ابن الحكم:
لقد أبقى بنو مروان حزنا *** مبينا عاره لبني سواد
أطاف به صبيح من مشيد *** و نادى دعوة: يا بني سعاد(1)
لقد أسمعت لو ناديت حيّا *** و لكن لا حياة لمن تنادي
قال أبو عبيدة: فاعتنّ أبو واسع(2) أحد بني الأسعر(3) من بني أسد بن خزيمة، لابن حسان دون ابن الحكم، فهجاه و عيّره بضرب ابن المعطل أباه حسّان على رأسه، و عيّرهم بأكل الخصى، فقال:
إنّ ابن المعطّل من سليم *** أذلّ قياد رأسك بالخطام
عمدت إلى الخصى فأكلت منها *** لقد أخطأت فاكهة الطعام
و ما للجار حين يحلّ فيكم *** لديكم يا بني النجّار حام
/يظلّ الجار مفترشا يديه *** [مخافتكم لدى ملث الظّلام(4)
و ينظر نظرة في مذرويه(5)] *** و أخرى في استه و الطّرف سام
قال: فلما عمّ بني النجّار بالهجاء و لا ذنب لهم دعوا اللّه عزّ و جلّ عليه، فخرج من المدينة يريد أهله فعرض له الأسد فقضقضه(6)، فقال ابن حسّان في ذلك:
لا يرفع الرحمن مصروعكم *** و لا يوهّي قوّة الصارع(1)
فقالت له امرأته: ما دعا أحد قبلك للأسد بخير قطّ. قال: و لا نصر أحدا كما نصرني.
و قال ابن الكلبيّ: كان الأخطل و مسكين الدارميّ صديقين لابن الحكم، فاستعان بهما على ابن حسّان، فهجاه الأخطل، و قال له مسكين: ما كنت لأهجو أحدا أو أعذر(2) إليه. فكتب إليه مسكين بقصيدته اللامية يدعوه إلى المفاخرة و المنافرة، فقال في أوّلها:
/ألا إنّ الشّباب ثياب لبس *** و ما الأموال إلاّ كالظّلال
فإن يبل الشّباب فكلّ شيء *** سمعت به سوى الرحمن بال
و هي طويلة جدا، يفخر فيها بمآثر بني تميم. فأجابه ابن حسّان فقال:
أتاني عنك يا مسكين قول *** بذلت النّصف فيه غير آل(3)
دعوت إلى التناضل غير قحم *** و لا غمر يطير لدى النضال(4)
و هي أطول من قصيدة مسكين. ثم انقطع التناضل بينهما.
قال دماذ: فحدّثني أبو عبيدة قال: حدّثني أبو حيّة النميري قال: حدّثني الفرزدق قال:
كنّا في ضيافة معاوية، و معنا كعب/بن جعيل التّغلبي، فحدّثني أنّ يزيد بن معاوية قال له: إنّ ابن حسّان فضح عبد الرحمن بن الحكم و غلبه، و فضحنا، فاهج الأنصار. قال: فقلت له: أ رادّي أنت في الشرك، أ أهجو قوما نصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و آله و آووه؟ و لكنّي أدلّك على غلام منا نصرانيّ لا يبالي أن يهجوهم، كأنّ لسانه لسان ثور.
قال: من هو؟ قلت: الأخطل. فدعاه و أمره بهجائهم، فقال: على أن تمنعني؟ قال: نعم.
قال أبو عبيدة: إن معاوية دسّ إلى كعب و أمره بهجائهم، فدلّه على الأخطل، فقال الأخطل قصيدته التي هجا فيها الأنصار، و قد مضت و مضى خبرها و خبر النعمان بن بشير.
/و زاد أبو عبيدة عمن روينا ذلك عنه: أنّ النعمان بن بشير ردّ على الأخطل فقال:
أبلغ قبائل تغلب ابنة وائل *** من بالفرات و جانب الثّرثار(5)
ص: 83
فاللؤم بين أنوف تغلب بيّن *** كالرّقم فوق ذراع كلّ حمار
قال: فخافه الأخطل أن يهجوه، فقال فيه:
عذرت بني الفريعة أن هجوني *** فما بالي و بال بني بشير(1)
أ فيحج من بني النجّار شئن *** شديد القصريين من السّحور
و لم يرد على هذين البيتين شيئا في ذكره.
قال أبو عبيدة في خبره أيضا: إن الأنصار لمّا استعدوا عليه معاوية قال لهم: لكم لسانه إلاّ أن يكون ابني يزيد قد أجاره. و دسّ إلى يزيد من وقته: إني قد قلت للقوم كيت و كيت فأجره. فأجاره، فقال يزيد بن معاوية في إجارته إياه:
دعا الأخطل الملهوف بالشّرّ دعوة *** فأيّ مجيب كنت لمّا دعانيا
ففرّج عنه مشهد القوم مشهدي *** و ألسنة الواشين عنه لسانيا
كان لي يا شقير(2) حبّك حينا *** كاد يقضي عليّ لمّا التقينا
يعلم اللّه أنكم لو نأيتم *** أو قربتم أحبّ شيء إلينا
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لحبابة جارية يزيد بن عبد الملك، و لحنها ثاني ثقيل بالوسطى، و جعلت مكان «يا شقير»(2): «يا يزيد». و في هذا الشعر للهذلي خفيف ثقيل أول مطلق بالوسطى. و زعم عمرو بن بانة أنه للأبجر. و قال الهشامي: لحن الأبجر ثقيل أول بالبنصر. و فيه للدارمي و ابن فروخ(3) خفيف ثقيل، و لحن الدارمي فيهما مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق.
ص: 84
كانت حبابة مولّدة من مولدات المدينة، لرجل من أهلها يعرف بابن رمانة، و قيل ابن مينا. و هو خرّجها و أدّبها. و قيل: كانت لآل لاحق المكيّين. و كانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء، طيّبة الصوت، ضاربة بالعود. و أخذت الغناء عن ابن سريج، و ابن محرز، و مالك، و معبد، و عن جميلة و عزّة الميلاء. و كانت تسمّى العالية(1)، فسمّاها يزيد/لما اشتراها حبابة. و قيل: إنّها كانت لرجل يعرف بابن مينا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال:
حدّثني حاتم بن قبيصة قال:
و كانت حبابة لرجل يدعى ابن مينا، فأدخلت على يزيد بن عبد الملك في إزار له ذنبان، و بيدها دف ترمي به و تتلقّاه، و تتغنّى:
ما أحسن الجيد من مليكة و اللبّات إذ زانها ترائبها يا ليتني ليلة إذا هجع النّاس و نام الكلاب صاحبها
في ليلة لا يرى بها أحد *** يسعى علينا إلاّ كواكبها(2)
ثم خرج بها مولاها إلى إفريقية، فلما كان بعد ما ولى يزيد اشتراها.
و روى حمّاد عن أبيه عن المدائني عن جرير المديني، و رواه الزبير بن بكّار عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال:
/قال لي يزيد بن عبد الملك: ما تقرّ عيني بما أوتيت من الخلافة حتّى أشتري سلاّمة جارية مصعب بن سهيل الزهري، و حبابة جارية لاحق المكيّة. فأرسل فاشترتا له، فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال القائل(3):
فألقت عصاها و استقرّت بها النوى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر
ص: 85
قال إسحاق: و حدّثني أبو أيوب عن عباية قال: كانت حبابة لآل رمّانة، و منهم ابتيعت ليزيد.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدّثني الزبير بن بكّار قال:
أخبرني محمد بن سلمة عن ابن مافنّة(1) عن شيخ من أهل ذي خشب(2) قال:
خرجنا نريد ذا خشب و نحن مشاة، فإذا قبة فيها جارية، و إذا هي تغنّي:
سلكوا بطن محيص *** ثم ولّوا راجعينا(3)
أورثوني حين ولّوا *** طول حزن و أنينا
قال: فسرنا [معها](4) حتّى أتينا ذا خشب، فخرج رجل معها، فسألناه، و إذا هي حبابة جارية يزيد، فلما صارت إلى يزيد أخبرته بنا، فكتب إلى والي المدينة يعطي كلّ واحد منّا ألف درهم ألف درهم.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني إسحاق عن المدائني. و روى هذا الخبر حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني، و خبره أتمّ:
أنّ حبابة كانت تسمى العالية، و كانت لرجل من الموالي بالمدينة، فقدّم يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان فتزوّج سعدة بنت عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، على عشرين ألف دينار، و ربيحة بنت محمد بن علي بن عبد اللّه(5) بن جعفر على مثل ذلك، و اشترى العالية بأربعة آلاف دينار(6)، فبلغ ذلك سليمان فقال: لأحجرنّ عليه.
فبلغ يزيد قول سليمان فاستقال مولى حبابة(7)، ثم اشتراها بعد ذلك رجل من أهل إفريقية، فلما ولى يزيد اشترتها سعدة امرأته و علمت أنه لا بدّ طالبها و مشتريها، فلما حصلت عندها قالت له: هل بقي عليك من الدّنيا شيء لم تنله؟ فقال: نعم، العالية. فقالت: هذه هي، و هي لك. فسمّاها حبابة، و عظم قدر سعدة عنده. و يقال إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطّئ لابنها(8) عنده في ولاية العهد و تحضرها ما/تحبّ(9) [إذا حضرت](10).
و قيل إنّ أم الحجاج أم الوليد بن يزيد هي التي ابتاعتها له، و أخذت عليها ذلك، فوفت لها بذلك. هكذا ذكر
ص: 86
الزبير فيما أخبرنا به الحسن بن علي عن هارون بن محمد، عنه عن عمه. قال: و من زعم أن سعدة اشترتها فقد أخطأ.
/قال المدائني: ثم خطب يزيد إلى أخيها خالد بنت أخ له، فقال: أ ما يكفيه أنّ سعدة عنده حتّى يخطب إلى بنات أخي؟ و بلغ يزيد فغضب، فقدم عليه خالد يسترضيه، فبينا هو في فسطاطه إذ أتته جارية لحبابة في خدمها فقالت له: أمّ داود تقرأ عليك السلام و تقول لك: قد كلّمت أمير المؤمنين فرضي عنك. فالتفت فقال: من أم داود؟ فأخبره من معه أنّها حبابة، و ذكر له قدرها و مكانها من يزيد. فرفع رأسه إلى الجارية فقال: قولي لها: إنّ الرضا عنّي بسبب لست به. فشكت ذاك إلى يزيد فغضب، و أرسل إلى خالد فلم يعلم بشيء حتى أتاه رسول حبابة به فيمن معه من الأعوان، فاقتلعوا فسطاطه و قلعوا أطنابه، حتّى سقط عليه و على أصحابه، فقال: ويلكم ما هذا؟ قالوا:
رسل حبابة، هذا ما صنعت بنفسك. فقال: ما لها أخزاها اللّه، ما أشبه رضاها بغضبها!
قال إسحاق: و حدّثني محمد بن سلاّم عن يونس بن حبيب، أنّ يزيد بن عبد الملك اشترى حبابة، و كان اسمها العالية، بأربعة آلاف دينار، فلما خرج بها قال الحارث بن خالد فيها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق *** و غدوا بلبّك مطلع الشرق
مرّت على قرن يقاد بها *** تعدو أمام براذن زرق(1)
فظللت كالمقمور مهجته *** هذا الجنون و ليس بالعشق(2)
يا ظبية عبق العبير بها *** عبق الدّهان بجانب الحقّ
/و غنته حبابة في الشعر، و بلغ يزيد فسألها عنه فأخبرته، فقال لها: غنّيني به. فغنته فأجادت و أطربته، فقال إسحاق: و لعمري إنه من جيد غنائها.
قال أبو الفرج الأصبهاني: هذا غلط ممّن رواه في أبيات الحارث بن خالد؛ لأنه قالها في عائشة بنت طلحة، لمّا تزوّجها مصعب بن الزبير و خرج بها(3). و في أبياته يقول:
في البيت ذي الحسب الرفيع و من *** أهل التقى و البرّ و الصّدق
و قد شرح ذلك في أخبار عائشة بنت طلحة.
قال إسحاق: و أخبرني الزبيري أنّ يزيد اشتراها و هو أمير، فلما أراد الخروج بها قال الحارث بن خالد فيها:
قد سلّ جسمي و قد أودى به سقم *** من أجل حيّ جلوا عن بلدة الحرم(4)
ص: 87
يحنّ قلبي إليها حين أذكرها *** و ما تذكرت شوقا آب من أمم(1)
إلاّ حنينا إليها إنّها رشأ *** كالشّمس رود ثقال سهلة الشيم(2)
فضّلها اللّه ربّ الناس إذ خلقت *** على النساء من اهل الحزم و الكرم
و قال فيها الشعراء فأكثروا، و غنّى في أشعارهم المغنّون من أهل مكة و المدينة، و بلغ ذلك يزيد فاستشنعه، فقال: هذا قبل رحلتنا و قد هممنا، فكيف لو ارتحلنا؟! و تذكر القوم/شدّة الفراق، و بلغه أيضا أن سليمان قد تكلّم في ذلك، فردّها، و لم تزل في قلبه حتّى ملك، فاشترتها سعدة امرأته العثمانية، و وهبتها له.
أخبرني ابن عمّار قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال: حدّثني أبو ذفافة المنهال بن عبد الملك، عن مروان بن بشر بن أبي سارة مولى الوليد بن يزيد، قال:
أوّل(3) ما ارتفعت به منزلة حبابة عند يزيد أنّه(4) أقبل يوما إلى البيت الذي هي فيه، فقام من وراء الستر فسمعها تترنم و تغنّي و تقول:
كان لي يا يزيد حبّك حينا *** كاد يقضى عليّ لما التقينا(5)
- و الشعر كان «يا شقير»(6) - فرفع الستر فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم(7) به و لم يكن ذاك لمكانه، فألقى نفسه عليها و حرّكت منه.
قال المدائني: غلبت حبابة على يزيد، و تبنّى بها عمر بن هبيرة فعلّت منزلته، حتى كان يدخل على يزيد في أيّ وقت شاء، و حسد ناس من بني أمية مسلمة بن عبد الملك على ولايته، و قدحوا فيه عند يزيد، و قالوا: إن مسلمة إنّ اقتطع الخراج لم يحسن يا أمير المؤمنين أن تفتشه أو تكشفه(8) عن شيء، لسنّه و حقّه(9)، و قد علمت أنّ أمير المؤمنين لم يدخل أحدا من أهل بيته في الخراج. فوقر ذلك في قلب يزيد(10)، و عزم على عزله، و عمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حبابة، فعملت له في ذلك. و كان بين ابن هبيرة و بين القعقاع بن خالد عداوة، و كانا يتنازعان و يتحاسدان، فقيل للقعقاع لقد: نزل ابن هبيرة من أمير المؤمنين منزلة، /إنه لصاحب العراق غدا. فقال
ص: 88
و من يطيق ابن هبيرة؟! حبابة بالليل، و هداياه بالنهار، مع أنه و إن بلغ فإنه رمل من بني سكين(1). فلم تزل حبابة تعمل له حتى وليها.
حدّثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يحدّث بهذا الحديث، فحفظته و لم أحفظ إسناده. و حدّثنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثني أحمد بن زهير قال: حدّثنا مصعب الزبيري، عن مصعب بن عثمان. و قد جمعت روايتيهما قالا:
أراد يزيد بن عبد الملك أن يشبّه بعمر بن عبد العزيز و قال: بما ذا صار عمر أرجى لربّه(2) جلّ و عزّ منّي؟ فشقّ ذلك على حبابة؟ فأرسلت إلى الأحوص.
هكذا في رواية وكيع، و أما عمر بن شبّة فإنه ذكر أنّ مسلمة أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناء و الشّرب، و قال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز و عدله، و قد تشاغلت بهذه الأمّة عن النظر في الأمور، و الوفود ببابك، و أصحاب الظّلامات يصيحون، و أنت غافل عنهم. فقال: صدقت و اللّه، و أعتبه و همّ بترك الشّرب، و لم يدخل على حبابة أياما، فدسّت حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتا في ذلك و قالت له: إن رددته عن رأيه فلك ألف دينار. فدخل الأحوص إلى يزيد، فاستأذن في الإنشاد، فأذن له.
قال إسحاق في خبره: فقال الأحوص:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا *** فقد غلب المحزون أن يتجلّدا
بكيت الصّبا جهدي فمن شاء لا مني *** و من شاء آسى في البكاء و أسعدا
/و إنّي و إن فنّدت في طلب الغنى *** لأعلم أنّي لست في الحبّ أوحدا(3)
إذا أنت لم تعشق و لم تدر ما الهوى *** فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذّ و تشتهي *** و إن لام فيه ذو الشّنان و فنّدا(4)
الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و فيه رمل للغريض. و يقال إنه لحبابة.
قال(5): و مكث جمعة لا يرى حبابة و لا يدعو بها، فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني. فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقّته و العود في يدها، فغنت البيت الأوّل، فغطّى وجهه و قال: مه لا تفعلي. ثم غنت:
و ما العيش إلا ما تلذّ و تشتهي
ص: 89
فعدل إليها و قال: صدقت و اللّه، فقبح اللّه من لا مني فيك، يا غلام مر مسلمة أن يصلّي بالناس. و أقام معها يشرب و تغنيه، و عاد إلى حاله(1).
و قال عمر بن شبّة في حديثه: فقال يزيد: صدقت و اللّه، فعلى مسلمة لعنة اللّه! و عاود ما كان فيه، ثم قال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص. فأحضره ثم أنشده قصيدة مدحه فيها، و أوّلها قوله:
يا موقد النار بالعلياء من إضم *** أوقد فقد هجت شوقا غير منصرم(2)
/و هي طويلة. فقال له يزيد: ارفع حوائجك. فكتب إليه في نحو من أربعين ألف درهم من دين و غيره، فأمر له بها.
و قال مصعب في خبره: بل استأذن الأحوص على يزيد، فأذن له، فاستأذن في الإنشاد، فقال: ليس هذا وقتك. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده هذه الأبيات، فلما سمعها وثب حتّى دخل على حبابة و هو يتمثل:
و ما العيش إلا ما تلذّ و تشتهي *** و إن لام فيه ذو الشّنان و فنّدا
فقالت له: ما ردّك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أبيات أنشدنيها الأحوص، فسلي ما شئت. قالت: ألف دينار تعطيها الأحوص. فأعطاه ألف دينار.
يا موقد النار بالعلياء من إضم *** أوقد فقد هجت شوقا غير منصرم
يا موقد النار أوقدها فإن لها *** سنا يهيج فؤاد العاشق السّدم(3)
الشعر للأحوص، و الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، عن يونس و إسحاق و عمرو. و ذكر حبش أن فيه خفيف ثقيل آخر لابن جامع.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني علي بن القاسم بن بشير قال:
لما غلب يزيد بن عبد الملك أهله و أبى أن يسمع منهم كلّموا مولى له خراسانيا ذا قدر عندهم، و كانت فيه لكنة، فأقبل على يزيد يعظه و ينهاه عما قد ألحّ عليه/من السّماع للغناء و الشراب، فقال له يزيد: فإني أحضرك هذا الأمر الذي تنهى عنه، فإن نهيتني عنه بعد ما تبلوه و تحضره انتهيت، و إنّي مخبر جواريّ أنك عمّ من عمومتي، فإياك أن تتكلّم فيعلمن أنّي كاذب، و أنّك لست بعمّي. ثم أدخله عليهنّ فغنّين، و الشيخ يسمع و لا يقول شيئا، حتّى غنين:
/و قد كنت آتيكم بعلّة غيركم *** فأفنيت علاتي فكيف أقول
ص: 90
فطرب الشيخ و قال: لا فيف، جعلني اللّه فداكنّ! يريد: لا كيف. فعلمن أنه ليس عمّه، و قمن إليه بعيدانهنّ ليضربنه بها، حتّى حجزهنّ يزيد عنه. ثم قال له بعد ما انقضى أمرهن: ما تقول الآن أدع هذا أم لا؟ قال: لا تدعه!
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني خالد بن يزيد بن بحر الخزاعي الأسلميّ، عن محمد بن سلمة، عن أبيه عن حماد الراوية قال:
كانت حبابة فائقة في الجمال و الحسن، و كان يزيد لها عاشقا، فقال لها يوما: قد استخلفتك على ما ورد عليّ. و نصبت لذلك مولاي فلانا فاستخلفيه لأقيم معك أيّاما و أستمتع بك. قالت: فإنّي قد عزلته. فغضب عليها و قال: قد استعملته و تعزلينه؟ و خرج من عندها مغضبا، فلما ارتفع النّهار و طال عليه هجرها دعا خصيّا له و قال:
انطلق فانظر أيّ شيء تصنع حبابة؟ فانطلق الخادم ثم أتاه، فقال: رأيتها مؤتزرة بإزار خلوقيّ(1) قد جعلت له ذنبين و هي تلعب بلعبها. فقال: ويحك احتل لها حتّى تمرّ بها عليّ. فانطلق الخادم إليها فلاعبها ساعة، ثم استلب لعبة من لعبها و خرج، فجعلت تحضر في أثره، فمرت بيزيد فوثب و هو يقول: قد/عزلته! و هي تقول: قد استعملته! فعزل مولاه و ولاّه و هو لا يدري. فمكث معها خاليا أياما حتّى دخل عليه أخوه مسلمة فلامه، و قال: ضيعت حوائج الناس و احتجبت عنهم، أ ترى هذا مستقيما لك؟! و هي تسمع مقالته، فغنّت لما خرج:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا
فذكرت الأبيات. فطرب و قال: قاتلك اللّه أبيت إلا أن ترديني إليك. و عاد إلى ما كان عليه.
أخبرني إسماعيل قال: حدّثني عمي قال: حدّثني إسحاق قال: حدّثني الهيثم بن عديّ، عن صالح بن حسّان قال:
قال مسلمة ليزيد: تركت الظّهور(2) و شهود الجمعة الجامعة، و قعدت في منزلك مع هذه الإماء! و بلغ ذلك حبابة و سلامة فقالتا للأحوص: قل في ذلك شعرا فقال:
و ما العيش إلا ما تلذّ و تشتهي *** و إن لام فيه ذو الشّنان و فنّدا
بكيت الصّبا جهدي فمن شاء لامني *** و من شاء آسى في البكاء و أسعدا
و إنّي و إن أغرقت في طلب الصبا *** لأعلم أنّي لست في الحبّ أوحدا
إذا كنت عزهاة عن اللّهو و الصبا *** فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا(3)
قال: فغنتا يزيد فيه، فلما فرغتا ضرب بخيزرانته الأرض و قال: صدقتما صدقتما! فعلى مسلمة لعنة اللّه و على ما جاء به.
ص: 91
/قال: و طرب يزيد فقال: هاتيا. فغنتاه من هذه القصيدة:
و عهدي بها صفراء رودا كأنما *** نضا عرق منها على اللون مجسدا(1)
مهفهفة الأعلى و أسفل خلقها *** جرى لحمه ما دون أن يتخددا(2)
من المدمجات اللحم جدلا كأنها *** عنان صناع مدمج الفتل محصدا(3)
كأنّ ذكيّ المسك باد و قد بدت *** و ريح خزامي طلّة تنفح الندى(4)
فطرب يزيد و أخذ فيه من الشراب قدره الذي كان يطرب منه و يسرّه، و لم تره أظهر شيئا/مما كان يفعله عند طربه، فغنته:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا *** فقد غلب المحزون أن يتجلّدا
نظرت رجاء بالموقّر أن أرى *** أكاريس يحتلّون خاخا فمنشدا(5)
فأوفيت في نشز من الأرض يافع *** و قد تسعف الأيفاع من كان مقصدا(6)
فلما غنته بهذا طرب طربه الذي تعهده، و جعل يدور و يصيح: الدّخن بالنوى، و السمك في بيطار جنان(7).
و شقّ حلته و قال لها: أ تأذنين أن أطير؟ قالت: و إلى من تدع الناس؟ قال: إليك(8).
/قال: و غنته سلاّمة من هذه القصيدة:
فقلت ألا يا ليت أسماء أصقبت *** و هل قول ليت جامع ما تبدّدا(9)
و إنّي لأهواها و أهوى لقاءها *** كما يشتهي الصادي الشراب المبرّدا
علاقة حبّ لجّ في سنن الصبا *** فأبلى و ما يزداد إلاّ تجدّدا
سهوب و أعلام تخال سرابها *** إذا استنّ في القيظ الملاء المعضّدا(10)
قال: و غنته حبابة منها أيضا:
كريم قريش حين ينسب و الذي *** أقرّت له بالملك كهلا و أمردا
ص: 92
و ليس عطاء كان منه بمانع *** و إن جلّ من أضعاف أضعافه غدا
أهان تلاد المال في الحمد إنّه *** إمام هدى يجري على ما تعوّدا
تردّى بمجد من أبيه و أمّه *** و قد أورثا بنيان مجد مشيّدا
فقال لها يزيد: ويحك يا حبابة، و من من قريش هذا؟ قالت: أنت. قال: و من يقول هذا الشعر؟ قالت:
الأحوص يا أمير المؤمنين. و قالت سلامة: فليسمع أمير المؤمنين باقي ثنائه عليه فيها. ثم اندفعت فغنته:
و لو كان بذل الجود و المال مخلدا *** من الناس إنسانا لكنت المخلّدا
فأقسم لا أنفكّ ما عشت شاكرا *** لنعماك ما طار الحمام و غرّدا
أخبرني إسماعيل قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: علي بن الجعد قال: حدّثني أبو يعقوب الخريمي، عن أبي بكر بن عياش: أن حبابة و سلاّمة اختلفتا في صوت معبد:
ألا حيّ الديار بسعد إنّي *** أحبّ لحبّ فاطمة الديارا
/فبعث يزيد إلى معبد فأتى به، فسأل: لم بعث إليه؟ فأخبر، فقال: لأيّتهما المنزلة عند أمير المؤمنين؟ فقيل: لحبابة. فلما عرضتا عليه الصوت قضى لحبابة، فقالت سلامة: و اللّه ما قضى إلا للمنزلة، و إنّه ليعلم أنّ الصواب ما غنّيت، و لكن ائذن لي يا أمير المؤمنين في صلته لأنّ له عليّ حقّا. قال: قد أذنت. فكان ما وصلته به أكثر من حبابة.
ألا حيّ الديار بسعد إنّي *** أحبّ لحبّ فاطمة الديارا(1)
إذا ما حلّ أهلك يا سليمى *** بدارة صلصل شحطوا مزارا(2)
/الشعر لجرير، و الغناء لابن محرز، خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال:
نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال له الأحوص: ما تشتهي؟ قال: شواء و طلاء و غناء(3).
قال: ذلك لك. و مضى به إلى قينة بالمدينة فغنته:
ص: 93
ألا حيّ الديار بسعد إنّي *** أحبّ لحبّ فاطمة الديارا(1)
أراد الظاعنون ليحزنوني *** فهاجوا صدع قلبي فاستطارا
/فقال الفرزدق: ما أرّق أشعاركم يا أهل الحجاز و أملحها! قال: أ و ما تدري لمن هذا الشعر؟ فقال: لا و اللّه. قال: هو لجرير، يهجوك به. فقال: ويل ابن المراغة ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، و أحوجني مع شهواتي إلى رقّة شعره.
و قد روى صالح بن حسّان أن الصوت الذي اختلفت فيه حبابة و سلامة هو:
و ترى لها دلاّ إذا نطقت به *** تركت بنات فؤاده صعرا(2)
ذكر ذلك حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ: أنهما اختلفتا في هذا الصوت بين يدي يزيد، فقال لهما: من أين جاء اختلافكما، و الصوت لمعبد و منه أخذتماه؟ فقالت هذه: هكذا أخذته، و قالت الأخرى: هكذا أخذته. فقال يزيد: قد اختلفتما و معبد حيّ بعد؟ فكتب إلى عامله بالمدينة يأمره بحمله إليه.
ثم ذكر باقي الخبر مثل ما ذكره أبو بكر بن عيّاش.
قال صالح بن حسّان: فلما دخل معبد إليه لم يسأله عن الصوت، و لكنه أمره أن يغنّي، فغناه فقال:
فيا عزّ إنّ واش وشى بي عندكم *** فلا تكرميه أن تقولي له مهلا(3)
فاستحسنه و طرب ثم قال: إنّ هاتين اختلفتا في صوت لك فاقض بينهما. فقال لحبابة: غنّي. فغنّت، و قال لسلامة: غنّي. فغنّت، و قال: الصواب ما قالت حبابة. فقالت سلاّمة: و اللّه يا ابن الفاعلة إنك لتعلم أنّ الصواب ما قلت، و لكنك سألت أيّتهما آثر عند أمير المؤمنين فقيل لك حبابة، فاتّبعت هواه و رضاه! فضحك يزيد و طرب، و أخذ وسادة فصيّرها على رأسه، و قام يدور في الدار و يرقص/و يصيح: «السمك الطريّ أربعة أرطال، عند بيطار حبان(4)» حتى دار الدار كلّها ثم رجع فجلس مجلسه و قال شعرا، و أمر معبدا أن يغنّي فيه، فغنّى فيه و هو:
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر *** ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكّركم *** أو عرّسوا فهموم النفس و السّهر
فاستحسنه و طرب. هكذا ذكر إسحاق في الخبر. و غيره يذكر أنّ الصنعة فيه لحبابة، و يزعم ابن خرداذبه أن الصنعة فيه ليزيد. و ليس كما ذكر، و إنما أراد أن يوالي بين الخلفاء في الصنعة، فذكره على غير تحصيل، و الصحيح أنه لمعبد.
ص: 94
قال معبد: فسرّ يزيد لمّا غنيته في هذين البيتين، و كساني و وصلني، ثم لما انصرم مجلسه انصرفت إلى منزلي الذي/أنزلته، فإذا ألطاف سلاّمة قد سبقت ألطاف حبابة، و بعثت إليّ: إني قد عذرتك فيما فعلت، لكن كان الحقّ أولى بك. فلم أزل في ألطافهما جميعا حتى أذن لي يزيد، فرجعت إلى المدينة.
فيا عزّ إنّ واش وشى بي عندكم
أ لم يأن لي يا قلب أنّ أترك الجهلا *** و أن يحدث الشب الملمّ لي العقلا
على حين صار الرأس منّي كأنما *** علت فوقه ندّافة العطب الغزلا(1)
فيا عزّ إن واش وشى بي عندكم *** فلا تكرميه أن تقولي له مهلا(2)
/كما لو وشى واش بودّك عندنا *** لقلنا تزحزح لا قريبا و لا سهلا
فأهلا و سهلا بالذي شدّ وصلنا *** و لا مرحبا بالقائل اصرم لها حبلا
الشعر لكثير، و الغناء لحنين، ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و ذكر ابن المكي و عمرو و الهشامي أنه لمعبد. و فيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج، و ليس بصحيح.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدّثني الزبير قال: حدّثني ظبية قالت: أنشدت حبابة يوما يزيد بن عبد الملك:
لعمرك إنّني لأحبّ سلعا *** لرؤيتها و من بجنوب سلع
ثم تنفّست تنفّسا شديدا فقال لها: مالك، أنت في ذمة أبي، لئن شئت لأنقلنّه إليك حجرا حجرا. قالت: و ما أصنع به، ليس إياه أردت، إنّما أردت صاحبه. و ربّما قالت: ساكنه.
لعمرك إنّني لأحبّ سلعا *** لرؤيتها و من بجنوب سلع
تقرّ بقربها عيني و إنّي *** لأخشى أن تكون تريد فجعي
حلفت بربّ مكة و الهدايا *** و أيدي السّابحات غداة جمع(3)
ص: 95
لأنت على التنائي فاعلميه *** أحبّ إليّ من بصري و سمعي
الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى، مما لا يشك فيه من غنائه.
قال الزبير: و حدّثتني ظبية أنّ يزيد قال لحبابة و سلاّمة: أيتكما غنّتني ما في نفسي فلها حكمها. فغنّت سلاّمة فلم تصب ما في نفسه، و غنّته حبابة:
حلق من بني كنانة حولي *** بفلسطين يسرعون الركوبا
/فأصابت ما في نفسه فقال: احتكمي. فقالت: سلامة، تهبها لي و مالها. قال: اطلبي غيرها. فأبت، فقال:
أنت أولى بها و مالها. فلقيت سلاّمة من ذلك أمرا عظيما، فقالت لها حبابة: لا ترين إلا خيرا! فجاء يزيد فسألها أن تبيعه إياها بحكمها، فقالت: أشهدك أنّها حرة، /و اخطبها إليّ الآن حتّى أزوّجك مولاتي.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثني إسحاق عن المدائني بنحو هذه القصة.
و قال فيها: فجزعت سلاّمة، فقالت لها: لا تجزعي فإنّما ألاعبه.
حلق من بني كنانة حولي *** بفلسطين يسرعون الركوبا
هزئت أن رأت مشيبي عرسي *** لا تلومي ذوائبي أن تشيبا
الشعر لابن قيس الرقيات، و الغناء لابن سريج، ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.
قال حمّاد بن إسحاق: حدّثني أبي عن المدائني، و أيوب بن عباية قالا:
كانت سلامة المتقدّمة منهما(1) في الغناء، و كانت حبابة تنظر إليها بتلك العين، فلما حظيت عند يزيد ترفّعت عليها فقالت لها سلاّمة: ويحك أين تأديب الغناء(2) و حقّ التعليم؟ أنسيت قول جميلة لك: خذي أحكام ما أطارحك إياه من سلاّمة؟! فلن تزالي بخير ما بقيت لك و كان أمركما مؤتلفا. قالت: صدقت يا خليلتي، و اللّه لا عدت إلى شيء تكرهينه. فما عادت بعد ذلك لها إلى مكروه. و ماتت حبابة و عاشت سلاّمة بعدها دهرا.
/قال المدائني: فرأى يزيد يوما حبابة جالسة فقال: مالك؟ فقالت: أنتظر سلامة. قال: تحبّين أن أهبها لك؟ قالت: لا و اللّه، ما أحب أن تهب لي أختي.
قال المدائني: و كانت حبابة إذا غنّت و طرب يزيد قال لها: أطير؟ فتقول له: فإلى من تدع الناس؟ فيقول:
إليك. و اللّه تعالى أعلم.
ص: 96
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني أيوب بن عباية، أن البيذق الأنصاري القارئ كان يعرف حبابة و يدخل عليها بالحجاز، فلما صارت إلى يزيد بن عبد الملك و ارتفع أمرها عنده، خرج إليها يتعرّض لمعروفها و يستميحها، فذكرته ليزيد و أخبرته بحسن صوته. قال: فدعاني يزيد ليلة فدخلت عليه و هو على فرش مشرفة قد ذهب فيها إلى قريب من ثدييه، و إذا حبابة على فرش أخر مرتفعة، و هي دونه، فسلّمت فردّ السلام، و قالت حبابة: يا أمير المؤمنين، هذا أبي. و أشارت إليّ بالجلوس، فجلست و قالت لي حبابة: اقرأ يا أبت. فقرأت فنظرت إلى دموعه تنحدر، ثم قالت: إيه يا أبت حدّث أمير المؤمنين، و أشارت إليّ أن غنّه. فاندفعت في صوت ابن سريج:
من لصب مفنّد *** هائم القلب مقصد(1)
فطرب و اللّه يزيد فحذفني بمدهن فيه فصوص من ياقوت و زبرجد، فضرب صدري، فأشارت إليّ حبابة: أن خذه. فأخذته فأدخلته كمي، فقال: يا حبابة أ لا ترين ما صنع بنا أبوك، أخذ مدهننا فأدخله في كمه؟ فقالت: يا أمير المؤمنين ما أحوجه و اللّه إليه! ثم خرجت من عنده فأمر لي بمائة دينار.
/من لصبّ مفنّد *** هائم القلب مقصد
أنت زوّدته الضّنى *** بئس زاد المزوّد
و لو أني لا أرتجي *** - ك لقد خفّ عوّدي
ثاويا تحت تربة *** رهن رمس بفدفد
غير أنّي أعلّل الن *** فس باليوم أو غد
الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان. و ذكر الزبير بن بكار أنه لجعفر بن الزبير، و الغناء لابن سريج، خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
و قال حمّاد: حدّثني أبي عن مخلد بن خداش و غيره، أن حبابة غنت يزيد صوتا لابن سريج، و هو قوله:
ما أحسن الجيد من مليكة و ال *** - لّبّات إذ زانها ترائبها
فطرب يزيد و قال: هل رأيت أحدا أطرب مني؟ قلت: نعم، ابن الطّيّار(2) معاوية بن عبد اللّه بن جعفر، فكتب فيه إلى عبد الرحمن بن الضحاك فحمل إليه، فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا و كذا - و أخبرته -
ص: 97
فإذا دخلت عليه فلا تظهرنّ طربا حتى أغنيه الصوت الذي غنّيته. فقال: سوأة على كبر سنّي؟ فدعا به يزيد و هو على طنفسة خزّ، و وضع لمعاوية مثلها، فجاءوا بجامين فيهما مسك فوضعت إحداهما بين يدي يزيد و الأخرى بين يدي معاوية، فقال: فلم أدر كيف أصنع. فقلت: انظر كيف يصنع فاصنع مثله. فكان يقلّبه فيفوح ريحه و أفعل/مثل ذلك، فدعا بحبابة فغنّت، فلما غنّت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه و قام يدور و ينادي:
«الدّخن بالنوى» يعني اللّوبيا. قال: فأمر له بصلات عدّة دفعات إلى أن خرج، فكان مبلغها ثمانية آلاف دينار.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: أخبرني الزبير بن أبي بكر، عن ظبية:
أنّ حبابة غنّت يوما بين يدي يزيد فطرب ثم قال لها: هل رأيت قطّ أطرب مني؟ قالت: نعم، مولاي الذي باعني. فغاظه ذلك فكتب في حمله مقيّدا، فلما عرف خبره أمر بإدخاله إليه، فأدخل يرسف في قيده، و أمرها فغنّت بغتة:
تشطّ غدا دار جيراننا *** و للدّار بعد غد أبعد
فوثب حتّى ألقى نفسه على الشمعة فأحرق لحيته، و جعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا! فضحك يزيد و قال:
لعمري إنّ هذا لأطرب الناس! فأمر بحلّ قيوده، و وصله بألف دينار، و وصلته حبابة، و ردّه إلى المدينة.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: قال إسحاق:
كان يزيد بن عبد الملك قبل أن تفضي إليه الخلافة، تختلف إليه مغنيّة طاعنة في السّن تدعى أمّ عوف، و كانت محسنة، فكان يختار عليها:
متى أجر خائفا تسرح مطيته *** و إن أخف آمنا تنبو به الدار(1)
سيروا إليّ و أرخوا من أعنّتكم *** إنّي لكلّ امرئ من وتره جار
/فذكرها يزيد يوما لحبابة، و قد كانت أخذت عنها فلم تقدر أن تطعن عليها إلا بالسنّ، فغنت:
أبى القلب إلاّ أمّ عوف و حبّها *** عجوزا و من يحبب عجوزا يفنّد(2)
/فضحك و قال: لمن هذا الغناء؟ فقالت: لمالك. فكان إذا جلس معها للشّرب يقول: غنّيني صوت مالك في أمّ عوف.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثني عمر بن شبّة قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد بن الحارث
ص: 98
العدويّ قال: حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي قال: حدّثني أبو غانم الأزدي قال:
نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشام، و معه حبابة فقال: زعموا أنّه لا تصفو لأحد عيشة يوما إلى الليل إلاّ يكدرها شيء عليه، و سأجرّب ذلك. ثم قال لمن معه: إذا كان غدا فلا تحبروني بشيء و لا تأتوني بكتاب. و خلا هو و حبابة فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمّانة فشرقت بحبّة منها فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثا حتّى تغيرت و أنتنت، و هو يشمّها و يرشفها، فعاتبه على ذلك ذوو قرابته و صديقه(1)، و عابوا عليه ما يصنع، و قالوا: قد صارت جيفة بين يديك! حتّى أذن لهم في غسلها و دفنها، و أمر فأخرجت في نطع، و خرج معها لا يتكلّم حتّى جلس على قبرها، فلما دفنت قال: أصبحت و اللّه كما قال كثيّر:
/فإن يسل عنك القلب أو يدع الصبا *** فباليأس يسلو عنك لا بالتجلّد
و كلّ خليل راءني فهو قائل *** من اجلك: هذا هامة اليوم أو غد(2)
فما أقام إلاّ خمس عشرة ليلة حتى دفن إلى جنبها.
أخبرني أحمد قال: حدّثني عمر قال: حدّثني إسحاق الموصلي قال: حدّثني الفضل بن الربيع عن أبيه عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة عن أبيه أنّ مسلمة بن عبد الملك قال:
ماتت حبابة فجزع عليها يزيد، فجعلت أؤسّيه و أعزّيه، و هو ضارب بذقنه على صدره ما يكلّمني حتّى دفنها و رجع، فلما بلغ إلى بابه التفت إليّ و قال:
فإن تسل عنك النّفس أو تدع الصّبا *** فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد
ثم دخل بيته فمكث أربعين يوما ثم هلك.
قال: و جزع عليها في بعض أيامه فقال: انبشوها حتّى انظر إليها. فقيل: تصير حديثا!! فرجع فلم ينبشها.
و قد روى المدائني أنّه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها، فقال: لا بدّ من أن تنبش. فنبشت و كشف له عن وجهها و قد تغيّر تغيّرا قبيحا فقيل له: يا أمير المؤمنين، اتّق اللّه، أ لا ترى كيف قد صارت؟ فقال: ما رأيتها قطّ أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاءه مسلمة و وجوه أهله، فلم يزالوا به حتّى أزالوه عن ذلك و دفنوها، و انصرف فكمد كمدا شديدا حتّى مات، فدفن إلى جانبها.
قال إسحاق: و حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الشفافي(3) عن العباس بن محمد، أن يزيد بن عبد الملك أراد الصلاة على حبابة، فكلّمه مسلمة في أن لا يخرج و قال: أنا أكفيك الصلاة عليها. فتخلّف يزيد و مضى مسلمة، حتّى إذا مضى الناس انصرف مسلمة و أمر من صلّى عليها.
ص: 99
و روى الزبير، عن مصعب بن عثمان، عن عبد اللّه بن عروة بن الزبير قال:
خرجت مع أبي إلى الشام في زمن يزيد بن عبد الملك، فلما ماتت حبابة و أخرجت لم يستطع يزيد الركوب من الجزع و لا المشي، فحمل على منبر على رقاب الرجال، فلما دفنت قال: لم أصلّ عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: نشدتك اللّه يا أمير المؤمنين، إنّما هي أمة من الإماء، و قد واراها الثرى! فلم يأذن للناس بعد حبابة إلاّ مرة واحدة. قال: فو اللّه ما استتمّ دخول الناس حتى قال/الحاجب: أجيزوا رحمكم اللّه. و لم ينشب يزيد أن مات كمدا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني إسحاق قال حدّثني ابن أبي الحويرث الثقفي، قال:
لما ماتت حبابة جزع عليها يزيد جزعا شديدا، فضمّ جويرية لها كانت تخدمها إليه، فكانت تحدّثه و تؤنسه، فبينا هو يوما يدور في قصره إذ قال لها: هذا الموضع الذي كنا فيه. فتمثلت:
كفى حزنا للهائم الصبّ أن يرى *** منازل من يهوى معطّلة قفرا
فبكى حتّى كاد يموت. ثم لم تزل(1) تلك الجويرية معه يتذكّر بها حبابة حتّى مات.
أ يدعونني شيخا و قد عشت حقبة *** و هنّ من الأزواج نحوي نوازع
و ما شاب رأسي من سنين تتابعت *** عليّ و لكن شيبته الوقائع
الشعر لأبي الطّفيل صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، عن عمرو و غيره.
ص: 100
هو عامر بن واثلة بن عبد اللّه بن عمير(1) بن جابر بن حميس(2) بن جديّ بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار.
و له صحبة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و رواية عنه. و عمّر بعده عمرا طويلا؛ و كان مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و روى عنه أيضا، و كان من وجوه شيعته، و له منه محلّ خاصّ يستغني بشهرته عن ذكره، ثم خرج طالبا بدم الحسين بن عليّ عليهما السلام، مع المختار بن أبي عبيد، و كان معه حتّى قتل و أفلت هو، و عمّر أيضا بعد ذلك.
حدّثني أحمد بن الجعد قال حدّثنا محمد بن يوسف بن أسوار الجمحيّ بمكة، قال: حدّثنا يزيد بن أبي حكيم قال: حدّثني يزيد بن مليل، عن أبي الطّفيل أنه رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في حجّة الوداع يطوف بالبيت الحرام على ناقته، و يستلم الرّكن بمحجنه.
أخبرناه محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا الرياشي قال: حدّثنا أبو عاصم عن معروف بن خرّبوذ عن أبي الطفيل بمثله، و زاد فيه: «ثم يقبل المحجن».
حدّثني أبو عبيد اللّه الصيرفي قال: حدّثنا الفضل بن الحسن المصري قال: حدّثنا أبو نعيم عن بسّام الصّيرفي عن أبي الطّفيل قال:
/سمعت عليا عليه السلام يخطب فقال: سلوني قبل أن تفقدوني. فقام إليه ابن الكوّاء، فقال: ما اَلذّٰارِيٰاتِ ذَرْواً ؟ قال: الرياح. قال: فَالْجٰارِيٰاتِ يُسْراً ؟ قال: السّفن. قال: فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً ؟ قال: السحاب.
قال: فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً ؟ قال: الملائكة. قال: فمن اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ كُفْراً ؟ قال: الأفجران من قريش:
بنو أميّة و بنو مخزوم. قال: فما كان ذو القرنين، أ نبيا أم ملكا؟ قال: كان عبدا مؤمنا - أو قال صالحا - أحبّ اللّه
ص: 101
و أحبّه، ضرب ضربة على قرنه الأيمن/فمات، ثم بعث و ضرب ضربة على قرنه الأيسر فمات. و فيكم مثله.
[و كتب إليّ إسماعيل بن محمد المريّ الكوفي يذكر أنّ أبا نعيم حدّثه بذلك عن بسام. و ذكر مثله(1)].
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال: بلغني أن بشر بن مروان حين كان على العراق قال لأنس بن زنيم: أنشدني أفضل شعر قالته كنانة. فأنشده قصيدة أبي الطّفيل:
أ يدعونني شيخا و قد عشت برهة *** و هنّ من الأزواج نحوي نوازع
فقال له بشر: صدقت هذا أشعر شعرائكم. قال: و قال له الحجاج أيضا: أنشدني قول شاعركم: «أ يدعونني شيخا» فأنشده إياه(2) فقال: قاتله اللّه منافقا، ما أشعره!
حدّثني أحمد بن عيسى العجلي الكوفي، المعروف بابن أبي موسى، قال: حدّثنا الحسين بن نصر بن مزاحم قال: حدّثني أبي قال حدّثني عمرو بن شمر(3) عن جابر الجعفي قال: سمعت ابن حذيم الناجيّ(4) يقول:
لما استقام لمعاوية أمره لم يكن شيء أحبّ إليه من لقاء أبي الطّفيل عامر بن واثلة، فلم يزل يكاتبه و يلطف له(5) حتّى أتاه، فلما قدم عليه جعل يسائله عن أمر الجاهلية، و دخل عليه عمرو بن العاص و نفر معه، فقال لهم معاوية: أ ما تعرفون هذا؟ هذا خليل أبي الحسن. ثم قال: يا أبا الطفيل ما بلغ من حبّك لعليّ؟ قال حبّ أمّ موسى لموسى. قال: فما بلغ من بكائك عليه؟ قال: بكاء العجوز الثّكلى و الشّيخ الرقوب(6)، و إلى اللّه أشكو التقصير.
قال معاوية: إنّ أصحابي هؤلاء لو سئلوا عنّي ما قالوا فيّ ما قلت في صاحبك. قالوا: إذا و اللّه ما نقول الباطل. قال لهم معاوية: لا و اللّه و لا الحقّ تقولون. ثم قال معاوية: و هو الذي يقول:
إلى رجب السّبعين تعترفونني *** مع السيف في حوّاء جمّ عديدها(7)
رجوف كمتن الطّود فيها معاشر *** كغلب السّباع نمرها و أسودها(8)
كهول و شبّان و سادات معشر *** على الخيل فرسان قليل صدودها
/كأنّ شعاع الشّمس تحت لوائها *** إذا طلعت أعشى العيون حديدها
ص: 102
يمورون مور الرّيح إما ذهلتم *** و زلّت بأكفال الرجال لبودها(1)
شعارهم سيما النبيّ، و راية *** بها انتقم الرحمن ممن يكيدها
تخطّفهم إياكم عند ذكرهم *** كخطف ضواري الطّير طيرا تصيدها(2)
فقال معاوية لجلسائه: أ عرفتموه؟ قالوا: نعم، هذا أفحش شاعر و ألأم جليس. فقال معاوية: يا أبا الطّفيل أ تعرفهم؟ فقال: ما أعرفهم بخير، و لا أبعدهم من شرّ. قال: و قام خزيمة الأسديّ فأجابه فقال:
إلى رجب أو غرّة الشهر بعده *** تصبّحكم حمر المنايا و سودها
ثمانون ألفا دين عثمان دينهم *** كتائب فيها جبرئيل يقودها
فمن عاش منكم عاش عبدا و من يمت *** ففي النار سقياه هناك صديدها
أخبرني عبد اللّه بن محمد الرازي قال: حدّثنا أحمد بن الحارث قال: حدّثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، قال:
لما رجع محمد بن الحنفية من الشام حبسه ابن الزبير في سجن عارم، فخرج إليه جيش من الكوفة عليهم أبو الطّفيل/عامر بن واثلة، حتى أتوا سجن عارم فكسروه و أخرجوه، فكتب ابن الزّبير إلى أخيه مصعب: أن يسيّر نساء كلّ من خرج لذلك. فأخرج مصعب نساءهم و أخرج فيهن أمّ الطفيل امرأة أبي الطفيل، و ابنا له صغيرا يقال له يحيى، فقال أبو الطفيل في ذلك:
إن يك سيّرها مصعب *** فإني إلى مصعب مذنب
/أقود الكتيبة مستلمّا *** كأنّي أخو عرّة أجرب(3)
عليّ دلاص تخيّرتها *** و في الكفّ ذو رونق مقضب(4)
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا محمد بن حميد الرازي قال: حدّثنا سلمة بن الفضل عن فطر بن(5) خليفة قال:
سمعت أبا الطفيل يقول: لم يبق من الشّيعة غيري. ثم تمثّل:
ص: 103
و خلّفت سهما في الكنانة وحدا *** سيرمى به أو يكسر السهم كاسره(1)
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني أبو عاصم قال: حدّثني شيخ من بني تيم اللات قال:
كان أبو الطفيل مع المختار في القصر، فرمى بنفسه قبل أن يؤخذ و قال:
و لما رأيت الباب قد حيل دونه *** تكسّرت باسم اللّه فيمن تكسّرا
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن شداد النّشّابي قال: حدّثني المفضّل بن غسان قال: حدّثني عيسى بن واضح، عن سليم بن مسلم المكي، عن ابن جريج عن عطاء قال:
دخل عبد اللّه بن صفوان على عبد اللّه بن الزّبير، و هو يومئذ بمكة، فقال: أصبحت كما قال الشاعر(2):
فإن تصبك من الأيام جائحة *** لا أبك منك على دنيا و لا دين
/قال: و ما ذاك يا أعرج؟ قال: هذا عبد اللّه بن عباس يفقّه الناس، و عبيد اللّه أخوه يطعم الناس، فما بقّيا لك؟ فأحفظه ذلك فأرسل صاحب شرطته عبد اللّه بن مطيع فقال له: انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: أ عمدتما إلى راية ترابية(3) قد وضعها اللّه فنصبتماها، بدّدا عنّي جمعكما و من ضوى(4) إليكما من ضلاّل أهل العراق، و إلاّ فعلت و فعلت! فقال ابن عباس: قل لابن الزبير: يقول لك ابن عباس: ثكلتك أمّك، و اللّه ما يأتينا من النّاس غير رجلين:
طالب فقه أو طالب فضل، فأيّ هذين تمنع؟ فأنشأ أبو الطفيل عامر بن واثلة يقول:
لا درّ درّ الليالي كيف تضحكنا *** منها خطوب أعاجيب و تبكينا
و مثل ما تحدث الأيام من غير *** يا ابن الزبير عن الدنيا يسلّينا
كنّا نجيء ابن عباس فيقبسنا *** علما و يكسبنا أجرا و يهدينا
و لا يزال عبيد اللّه مترعة *** جفانه مطعما ضيفا و مسكينا
فالبرّ و الدّين و الدّنيا بدارهما *** ننال منها الذي نبغي إذا شينا
إن النبيّ هو النور الذي كشفت *** به عمايات باقينا و ماضينا
/و رهطه عصمة في ديننا و لهم *** فضل علينا و حقّ واجب فينا
و لست فاعلمه أولى منهم رحما *** يا ابن الزبير و لا أولى به دينا
ففيم تمنعهم عنّا و تمنعنا *** منهم، و تؤذيهم فينا و تؤذينا
لن يؤتى اللّه من أخزى ببغضهم *** في الدين عزّا و لا في الأرض تمكينا(5)
ص: 104
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدّثني الزبير بن بكار قال: حدّثني بعض أصحابنا:
أن أبا الطفيل عامر بن واثلة دعي في مأدبة، فغنّت فيها قينة قوله يرثي ابنه:
خلّى طفيل عليّ الهمّ و انشعبا *** و هدّ ذلك ركني هدّة عجبا
فبكى حتّى كاد يموت.
و قد أخبرني بهذا الخبر عمي عن طلحة بن عبد اللّه الطلحي، عن أحمد بن إبراهيم: أنّ أبا الطفيل دعي إلى وليمة فغنت قينة عندهم:
خلّى عليّ طفيل الهمّ و انشعبا *** و هدّ ذلك ركني هدّة عجبا
و ابني سمية لا أنساهما أبدا *** فيمن نسيت و كلّ كان لي وصبا
فجعل ينشج و يقول: هاه هاه طفيل! و يبكي حتّى سقط على وجهه ميتا.
و أخبرني محمد بن مزيد قال: حدّثنا حمّاد عن أبيه بخبر أبي الطفيل هذا، فذكر مثل ما مضى، و زاد في الأبيات:
فاملك عزاءك إن رزء بليت به *** فلن يردّ بكاء المرء ما ذهبا
و ليس يشفي حزينا من تذكّره *** إلاّ البكاء إذا ما ناح و انتحبا
فإذ سلكت سبيلا كنت سالكها *** و لا محالة أن يأتي الذي كتبا
فما لبطنك من ريّ و لا شبع *** و لا ظللت بباقي العيش مرتغبا(1)
و قال حمّاد بن إسحاق حدّثني أبي قال: حدّثني أبو عبد اللّه الجمحي عن أبيه قال:
/بينا فتية من قريش ببطن محسّر يتذاكرون الأحاديث و يتناشدون الأشعار، إذ أقبل طويس و عليه قميص قوهيّ و حبرة قد ارتدى بها(2)، و هو يخطر في مشيته، فسلّم ثم جلس، فقال له القوم: يا أبا عبد المنعم، لو غنّيتنا؟ قال:
نعم و كرامة أغنيكم بشعر شيخ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، من شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و صاحب رايته، أدرك الجاهلية و الإسلام، و كان سيّد قومه و شاعرهم. قالوا: و من ذاك يا أبا عبد المنعم فدتك أنفسنا؟ قال:
ذلك أبو الطّفيل عامر بن واثلة، ثمّ اندفع فغنى:
أ يدعونني شيخا و قد عشت حقبة *** و هنّ من الأزواج نحوي نوازع
فطرب القوم و قالوا: ما سمعنا قطّ غناء أحسن من هذا.
ص: 105
و هذا الخبر يدلّ على أن فيه لحنا قديما و لكنّه ليس يعرف.
لمن الدار أقفرت بمعان *** بين شاطي اليرموك فالصّمّان(1)
/فالقريّات من بلاس فداريا فسكّاء فالقصور الدواني(2)
ذاك مغنى لآل جفنة في الدّه *** ر و حقّ تصرّف الأزمان(3)
صلوات المسيح في ذلك الدي *** ر دعاء القسّيس و الرّهبان
/الشعر لحسان بن ثابت، و الغناء لحنين بن بلوع، خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى.
و هذا الصوت من صدور الأغاني و مختارها، و كان إسحاق يقدّمه و يفضّله. و وجدت في بعض كتبه بخطه قال: الصّيحة التي في لحن حنين:
لمن الدار أقفرت بمعان
أخرجت من الصدر، ثم من الحلق، ثم من الأنف، ثم من الجبهة، ثم نبرت(4) فأخرجت من القحف، ثم نوّنت(5) مردودة إلى الأنف، ثم قطعت.
و في هذه الأبيات و أبيات غيرها من القصيدة ألحان لجماعة اشتركوا فيها، و اختلف أيضا مؤلفو الأغاني في ترتيبها و نسبة بعضها مع بعض إلى صاحبها الذي صنعها، فذكرت هاهنا على ذلك و شرح ما قالوه فيها. فمنها:
فالقريات من بلاس فداريّا *** فسكّاء فالقصور الدّواني
قد دنا الفصح فالولائد ينظم *** ن سراعا أكلّة المرجان(1)
/يتبارين في الدعاء إلى اللّ *** ه و كلّ الدّعاء للشيطان
ذاك مغنى لآل في جفنة في الدّه *** ر و حقّ تصرّف الأزمان(2)
صلوات المسيح في ذلك الدّي *** ر دعاء القسّيس و الرّهبان
قد أراني هناك حقّ مكين *** عند ذي التاج مقعدي و مكاني
ذكر عمرو بن بانة أنّ لابن محرز في الأوّل من هذه الأبيات و الرابع خفيف ثقيل أوّل بالبنصر و ذكر علي بن يحيى أنّ لابن سريج في الرابع و الخامس رملا بالوسطى، و أن لمعبد فيهما و فيما بعدهما من الأبيات خفيف ثقيل، و لمحمد بن إسحاق بن برثع(3) ثقيل أوّل في الرابع و الثامن.
و ذكر الهشامي أنّ في الأوّل لمالك خفيف ثقيل، و وافقه حبش. و ذكر حبش أنّ لمعبد في الأوّل و الثاني و الرابع ثقيلا أوّل بالبنصر.
ص: 107
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري و حبيب بن نصر المهلّبي قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني هارون بن عبد اللّه الزّهري قال: حدّثني يوسف بن الماجشون عن أبيه قال:
قال حسّان بن ثابت: أتيت جبلة بن الأيهم الغسّاني و قد مدحته، فأذن لي فجلست بين يديه، و عن يمينه رجل له ضفيرتان، و عن يساره رجل لا أعرفه، فقال: أ تعرف هذين؟ فقلت: أمّا هذا فأعرفه، و هو النابغة، و أما هذا فلا أعرفه. قال: فهو علقمة بن عبدة، فإن شئت استنشدتهما و سمعت منهما، ثم إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت، و إن شئت أن تسكت سكتّ. قلت: فذاك. قال: فأنشده النابغة:
كليني لهمّ يا أميمة ناصب *** و ليل أقاسيه بطيء الكواكب
قال: فذهب نصفي. ثم قال لعلقمة: أنشد. فأنشد:
طحا بك قلب في الحسان طروب *** بعيد الشباب عصر حان مشيب(1)
فذهب نصفي الآخر فقال لي: أنت أعلم، الآن إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت، و إن شئت أن تسكت سكتّ. فتشدّدت ثم قلت: لا بل، أنشد. قال: هات. فأنشدته:
للّه درّ عصابة نادمتها *** يوما بجلّق في الزّمان الأوّل(2)
أولاد جفنة عند قبر أبيهم *** قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم *** كأسا تصفّق بالرحيق السلسل(3)
/يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم *** لا يسألون عن السّواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم *** شمّ الأنوف من الطراز الأوّل
فقال لي: ادنه، ادنه، لعمري ما أنت بدونهما. ثم أمر لي بثلاثمائة دينار، و عشرة أقمصة لها جيب واحد، و قال: هذا لك عندنا في كلّ عام.
و قد ذكر أبو عمرو الشّيباني هذه القصة لحسان و وصفها و قال: إنّما مضله عمرو بن الحارث الأعرج، و مدحه بالقصيدة اللامية. و أتى بالقصّة أتمّ من هذه الرواية.
ص: 108
قال أبو عمرو: قال حسان بن ثابت: قدمت على عمرو بن الحارث فاعتاص الوصول عليّ إليه، فقلت للحاجب بعد مدّة: إن أذنت لي عليه و إلا هجوت اليمن كلّها ثم انقلبت عنكم. فأذن لي فدخلت عليه فوجدت عنده النابغة و هو جالس عن يمينه، و علقمة بن عبدة و هو جالس عن يساره، فقال لي: يا ابن الفريعة، قد عرفت عيصك(1) و نسبك في غسّان فارجع فإنّي باعث إليك بصلة سنيّة، و لا أحتاج إلى الشعر، فإنّي أخاف عليك هذين السّبعين: النابغة و علقمة، أن يفضحاك، و فضيحتك فضيحتي، و أنت و اللّه لا تحسن أن تقول:
رقاق النّعال طيّب حجزاتهم *** يحيّون بالريحان يوم السّباسب
فأبيت و قلت: لا بدّ منه. فقال: ذاك إلى عمّيك. فقلت لهما: بحقّ الملك إلاّ قدّمتماني عليكما. فقالا: قد فعلنا. فقال عمرو بن الحارث: هات يا ابن الفريعة. فأنشأت:
أ سألت رسم الدّار أم لم تسأل *** بين الحواني فالبضيع فحومل(2)
/فقال: فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل(3) عن موضعه سرورا حتى شاطر البيت و هو يقول: هذا و أبيك الشّعر، لا ما تعلّلاني به منذ اليوم! هذه و اللّه البتّارة(4) التي قد بترت المدائح، أحسنت يا ابن الفريعة، هات له يا غلام ألف دينار مرجوحة(5) و هي التي في كلّ دينار عشرة دنانير. فأعطيت ذلك ثم قال: لك عليّ في كلّ سنة مثلها.
ثم أقبل على النابغة فقال: قم يا زياد فهات الثّناء المسجوع. فقام النابغة فقال:
ألا انعم صباحا أيّها الملك المبارك، السّماء غطاؤك، و الأرض وطاؤك، و والداي فداؤك، و العرب وقاؤك، و العجم حماؤك(6)، و الحكماء جلساؤك، و المداره سمّارك(7)، و المقاول إخوانك(8)، و العقل شعارك، و الحلم دثارك، و السكينة مهادك، و الوقار غشاؤك، و البرّ وسادك، و الصّدق رداؤك، و اليمن حذاؤك(9)، و السّخاء ظهارتك،
ص: 109
و الحميّة بطانتك، و العلاء علايتك(1)، و أكرم الأحياء أحياؤك(2)، و أشرف الأجداد أجدادك، و خير الآباء آباؤك، و أفضل الأعمام أعمامك، و أسرى الأخوال أخوالك، و أعفّ النساء حلائلك، و أفخر الشبّان أبناؤك، و أطهر الأمّهات أمّهاتك، /و أعلى البنيان بنيانك، و أعذب المياه أمواهك، و أفيح الدارات داراتك(3)، و أنزه الحدائق حدائقك(4)، و أرفع اللباس لباسك، قد حالف الإضريج عاتقيك(5)، و لاءم المسك مسكك(6) و جاور العنبر ترائبك، و صاحب النعيم جسدك. العسجد آنيتك، و اللّجين صحافك، و العصب مناديلك(7)، و الحوّاري طعامك(8)، و الشّهد إدامك، و اللذات غذاؤك(9)، و الخرطوم شرابك(10)، و الأبكار/مستراحك، و الأشراف مناصفك(11)، و الخير بفنائك، و الشرّ بساحة أعدائك، و النّصر منوط بلوائك، و الخذلان مع ألوية حسّادك، و البر فعلك. قد طحطح عدوّك غضبك(12)، و هزم مغايبهم مشهدك(13)؛ و سار في الناس عدلك، و شسع بالنصر ذكرك(14) و سكّن قوارع الأعداء ظفرك. /الذّهب عطاؤك، و الدواة رمزك(15)، و الأوراق لحظك و إطراقك، و ألف دينار مرجوحة(16) إنماؤك(17).
أ يفاخرك المنذر اللخمي، فو اللّه لقفاك خير من وجهه، و لشمالك خير من يمينه، و لأخمصك خير من رأسه(18)، و لخطاؤك خير من صوابه(19)، و لصمتك خير من كلامه، و لأمّك خير من أبيه، و لخدمك خير من قومه. فهب لي أسارى قومي، و استرهن بذلك شكري(20)؛ فإنّك من أشراف قحطان، و أنا من سروات عدنان.
فرفع عمرو رأسه إلى جارية كانت قائمة على رأسه و قال: بمثل هذا فليثن على الملوك، و مثل ابن الفريعة فليمدحهم! و أطلق له أسرى قومه.
ص: 110
و ذكر ابن الكلبي، هذه القصّة نحو هذا و قال: فقال له عمرو: اجعل المفاضلة بيني و بين المنذر شعرا فإنه أسير(1). فقال:
و نبّئت أن أبا منذر *** يساميك للحدث الأكبر
قذالك أحسن من وجهه *** و أمّك خير من المنذر
و يسراك أجود من كفّه ال *** يمين فقولا له أخّر(2)
/و قد ذكر المدائني أنّ هذه الأبيات و السجع الذي قبلها لحسان، و هذا أصحّ.
قال أبو عمرو الشيباني: لمّا أسلم جبلة بن الأيهم الغساني و كان من ملوك آل جفنة، كتب إلى عمر رضي اللّه عنه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له عمر فخرج إليه في خمسمائة من أهل بيته، من عكّ و غسان، حتّى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه، فسرّ عمر رضوان اللّه عليه، و أمر الناس باستقباله، و بعث إليه بأنزال(3)، و أمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الدّيباج(4) و الحرير، و ركبوا الخيول معقودة أذنابها، و ألبسوها قلائد الذهب و الفضة، و لبس جبلة تاجه و فيه قرطا مارية - و هي جدّته - و دخل المدينة، فلم يبق بها بكر و لا عانس إلاّ تبرجت و خرجت تنظر إليه و إلى زيّه، فلما انتهى إلى عمر رحّب به و ألطفه و أدنى مجلسه، ثم أراد عمر الحجّ فخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت و كان مشهورا بالموسم، إذ وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحلّ، فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فاستعدى عليه عمر رضوان اللّه عليه، فبعث إلى جبلة فأتاه فقال: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنّه تعمّد حلّ إزاري، و لو لا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسّيف! فقال له عمر: قد أقررت فإمّا أن رضي الرجل و إمّا أن أقيده منك. قال جبلة: ما ذا تصنع بي؟ قال: آمر بهشم أنفك كما فعلت. قال: و كيف ذاك يا أمير المؤمنين، و هو سوقة و أنا ملك؟ قال: إنّ الإسلام جمعك و إياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتّقى و العافية!! قال جبلة: قد ظننت يا أمير المؤمنين أنّي أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك هذا فإنّك إن لم ترض الرجل أقدته منك. قال: إذا أتنصّر. قال: /إن تنصّرت ضربت عنقك، لأنّك قد أسلمت، /فإن ارتددت قتلتك. فلما رأى جبلة الصّدق من عمر قال: أنا ناظر في هذا ليلتي هذه. و قد اجتمع بباب عمر من حيّ هذا و حيّ هذا خلق كثير، حتى كادت تكون بينهم فتنة، فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف، حتّى إذا نام الناس و هدءوا تحمل جبلة بخيله و رواحله إلى الشام، فأصبحت مكة و هي منهم بلاقع، فلما انتهى إلى الشام تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتّى أتى القسطنطينية، فدخل إلى هرقل، فتنصّر هو و قومه، فسرّ هرقل بذلك جدّا و ظنّ أنه فتح من الفتوح عظيم، و أقطعه حيث شاء، و أجرى عليه من النّزل ما شاء، و جعله من محدّثيه و سمّاره. هكذا ذكر أبو عمرو.
ص: 111
و ذكر ابن الكلبي أنّ الفزاريّ لما وطئ إزار جبلة لطم جبلة كما لطمه، فوثبت غسّان فهشموا أنفه و أتوا به عمر، ثم ذكر باقي الخبر نحو ما ذكرناه.
و ذكر الزبير بن بكّار فيما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عنه أن محمد بن الضحاك حدّثه عن أبيه:
أن جبلة قدم على عمر رضي اللّه عنه في ألف من أهل بيته فأسلم. قال: و جرى بينه و بين رجل من أهل المدينة كلام، فسبّ المديني(1) فردّ عليه، فلطمه جبلة فلطمه المديني، فوثب عليه أصحابه فقال: دعوه حتّى أسأل صاحبه و انظر ما عنده. فجاء إلى عمر فأخبره فقال: إنك فعلت به فعلا ففعل بك مثله. قال: أ و ليس عندك من الأمر إلاّ ما أرى. قال: لا فما الأمر عندك يا جبلة؟ قال: من سبّنا ضربناه، و من ضربنا قتلناه. قال: إنّما أنزل القرآن بالقصاص. فغضب و خرج بمن معه و دخل أرض الروم فتنصّر، ثم ندم و قال:
تنصّرت الأشراف من عار لطمة
/و ذكر الأبيات، و زاد فيها بعد:
و يا ليت لي بالشأم أدنى معيشة *** أجالس قومي ذاهب السمع و البصر
أدين بما دانوا به من شريعة *** و قد يحبس العود الضّجور على الدّبر(2)
و ذكر باقي خبره فيما وجّه به إلى حسّان مثله، و زاد فيه:
أنّ معاوية لما ولي بعث إليه فدعاه إلى الرجوع إلى الإسلام، و وعده إقطاع الغوطة بأسرها، فأبى و لم يقبل.
ثم إنّ عمر رضي اللّه عنه بدا له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى اللّه جلّ و عزّ و إلى الإسلام، و وجّه إليه رجلا من أصحابه، و هو جثّامة بن مساحق الكناني، فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كلّ شيء سوى الإسلام، فلما أراد الرسول الانصراف قال له هرقل: هل رأيت ابن عمّك هذا الذي جاءنا راغبا في ديننا؟ قال: لا. قال:
فالقه. قال الرجل: فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة و الحسن و السّرور ما لم أر بباب هرقل مثله، فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم، و فيه من التصاوير ما لا أحسن وصفه، و إذا هو جالس على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسد من ذهب، و إذا هو رجل أصهب سبال و عثنون، و قد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس، فما بين يديه من آنية الذهب و الفضّة يلوح، فما رأيت أحسن منه. فلمّا سلمت ردّ السلام و رحّب بي، و ألطفني و لا مني على تركي النزول عنده، ثم أقعدني على شيء لم أثبته، فإذا هو كرسيّ من ذهب، فانحدرت عنه فقال: مالك؟ فقلت: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن هذا. فقال جبلة أيضا مثل قولي/في النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حين ذكرته، و صلّى عليه. ثم قال: يا هذا إنّك إذا طهّرت قلبك/لم يضرك ما لبسته و لا ما جلست عليه. ثم سألني عن الناس و ألحف في السؤال عن عمر، ثم جعل يفكّر حتى رأيت الحزن في وجهه، فقلت: ما يمنعك من الرجوع إلى قومك
ص: 112
و الإسلام؟ قال: أبعد الذي قد كان؟ قلت: قد ارتد الأشعث بن قيس.
و منعهم الزكاة و ضربهم بالسّيف ثم رجع إلى الإسلام. فتحدّثنا مليّا ثم أومأ إلى غلام على رأسه فولّي يحضر، فما كان إلاّ هنيهة حتّى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت، و جيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه، فوضع أمامي خوان خلنج(1) و جامات قوارير(2)، و أديرت الخمر فاستعفيت منها، فلما فرغنا دعا بكأس من ذهب فشرب به(3) خمسا عددا. ثم أومأ إلى غلام فولّي يحضر، فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسّرن في الحلي، فقعد خمس عن يمينه و خمس عن شماله، ثم سمعت وسوسة من ورائي، فإذا أنا بعشر أفضل من الأول عليهن الوشي و الحلي، فقعد خمس عن يمينه و خمس عن شماله، و أقلبت جارية على رأسها طائر أبيض كأنّه لؤلؤة، مؤدّب، و في يدها اليمنى جام فيه مسك و عنبر قد خلطا و أنعم سحقهما، و في اليسرى جام فيه ماء ورد، فألقت الطائر في ماء الورد، فتمعّك بين جناحيه و ظهره و بطنه(4)، ثم أخرجته فألقته في جام المسك و العنبر، فتمعّك فيها حتى لم يدع فيها شيئا، ثم نفّرته فطار فسقط على تاج جبلة، ثم رفرف و نفض ريشه فما بقي عليه شيء إلاّ سقط على رأس جبلة، ثم قال للجواري: أطربنني. فخفقن بعيدانهنّ يغنين:
/للّه درّ عصابة نادمتهم *** يوما بجلّق في الزمان الأوّل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم *** شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم *** لا يسألون عن السّواد المقبل
فاستهلّ و استبشر و طرب ثم قال: زدنني. فاندفعن يغنين:
لمن الدار أقفرت بمعان *** بين شاطي اليرموك فالصّمّان(5)
فحمى جاسم فأبنية الصّفّر مغنى قنابل و هجان(6)فالقريات من بلاس فداريّا فسكّاء فالقصور الدواني
ذاك مغنى لآل جفنة في الدّ *** ار و حقّ تعاقب الأزمان
قد دنا الفصح فالولائد ينظم *** ن سراعا أكلّة المرجان
لم يعلّلن بالمغافير و الصّم *** - غ و لا نقف حنظل الشّريان(7)
قد أراني هناك حقّا مكينا *** عند ذي التاج مقعدي و مكاني
ص: 113
فقال: أ تعرف هذه المنازل؟ قلت: لا. قال: هذه منازلنا في ملكنا بأكناف دمشق، و هذا شعر ابن الفريعة حسّان بن ثابت، شاعر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
قلت: أما إنّه مضرور البصر كبير السنّ. قال: يا جارية هاتي. فأتته بخمسمائة دينار و خمسة أثواب من الدّيباج، فقال: ادفع هذا إلى حسّان و أقرئه منّي السلام.
ثم أرادني(1) على مثلها، فأبيت فبكى، ثم قال/لجواريه: أبكينني. فوضعن عيدانهنّ و أنشأن يقلن:
/تنصّرت الأشراف من عار لطمة *** و ما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنّفني فيها لجاج و نخوة *** و بعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمّي لم تلدني وليتني *** رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
و يا ليتني أرعى المخاض بقفرة *** و كنت أسيرا في ربيعة أو مضر(2)
و يا ليت لي بالشأم أدنى معيشة *** أجالس قومي ذاهب السّمع و البصر
ثم بكى و بكيت معه حتّى رأيت دموعه تجول على لحيته كأنّها اللؤلؤ، ثمّ سلّمت عليه و انصرفت، فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل و جبلة، فقصصت عليه القصّة من أوّلها إلى آخرها، فقال: أو رأيت جبلة يشرب الخمر؟ قلت: نعم. قال: أبعده اللّه، تعجّل فانية اشتراها بباقية، فلما ربحت تجارته، فهل سرّح معك شيئا؟ قلت: سرّح إلى حسان خمسمائة دينار و خمسة أثواب ديباج. فقال: هاتها. و بعث إلى حسّان فأقبل يقوده قائده حتّى دنا فسلّم، و قال: يا أمير المؤمنين، إنّي لأجد أرواح آل جفنة. فقال عمر رضي اللّه عنه: قد نزع اللّه تبارك و تعالى لك منه على رغم أنفه، و أتاك بمعونة. فانصرف عنه و هو يقول:
إنّ ابن جفنة من بقيّة معشر *** لم يعذهم آباؤهم باللّوم
لم ينسني بالشّام إذ هو ربّها *** كلاّ و لا متنصّرا بالروم
يعطى الجزيل و لا يراه عنده *** إلاّ كبعض عطيّة المذموم
و أتيته يوما فقرّب مجلسي *** و سقى فروّاني من الخرطوم(3)
/فقال له رجل في مجلس عمر: أتذكر قوما كانوا ملوكا فأبادهم اللّه و أفناهم؟! فقال: ممن الرجل؟ قال:
مزنيّ. قال: أما و اللّه لو لا سوابق قومك مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لطوّقتك طوق الحمامة. و قال: ما كان خليلي ليخلّ بي، فما قال لك؟ قال: قال إن وجدته حيّا فادفعها إليه، و إن وجدته ميّتا فاطرح الثياب على قبره، و ابتع بهذه الدنانير بدنا
ص: 114
فانحرها على قبره. فقال حسان: ليتك وجدتني ميّتا ففعلت ذلك بي؟ أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزبير قال: لي عبد الرحمن بن عبد اللّه الزبيري: قال الرسول الذي بعث به إلى جبلة. ثم ذكر قصته مع الجارية التي جاءت بالجامين و الطائر الذي تمعّك فيهما، و ذكر قول حسان:
إن ابن جفنة من بقية معشر
و لم يذكر غير ذلك. هكذا روى أبو عمرو في هذا الخبر.
و قد أخبرني به أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال: قال عبد اللّه بن مسعدة الفزاريّ:
وجّهني معاوية إلى ملك الروم، فدخلت عليه، فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلسه، فكلّمني بالعربية فقلت: من أنت يا عبد اللّه؟ قال: أنا رجل غلب عليه الشّقاء، أنا جبلة بن الأيهم، إذا صرت إلى منزلي فألقني. فلما انصرف و انصرفت أتيته في داره فألفيته على شرابه، و عنده قينتان تغنّيانه بشعر حسّان بن ثابت:
قد عفا جاسم إلى بيت رأس *** فالحواني فجانب الجولان(1)
/و ذكر الأبيات. فلما فرغتا من غنائهما أقبل عليّ ثم قال: ما فعل حسّان بن ثابت؟ قلت: شيخ كبير قد عمي. فدعا بألف دينار فدفعها إليّ، و أمرني أن أدفعها إليه ثم قال: أ ترى صاحبك يفي لي إن خرجت إليه؟ قال:
قلت قل ما شئت أعرضه عليه. قال: يعطيني الثنيّة(2) فإنها كانت منازلنا، و عشرين قرية من الغوطة منها داريّا و سكّاء، و يفرض لجماعتنا و يحسن جوائزنا. قال: قلت أبلغه. فلما قدمت على معاوية قال: وددت أنّك أجبته إلى ما سأل فأجزته له. و كتب إليه معاوية يعطيه ذلك، فوجده قد مات.
قال: و قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فلقيت حسان فقلت: يا أبا الوليد، صديقك جبلة يقرأ عليك السلام. فقال: هات ما معك. قلت: و ما علمك أنّ معي شيئا، قال: ما أرسل إليّ بالسلام قطّ إلاّ و معه شيء. قال: فدفعت إليه المال.
أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال: حدّثنا عبد اللّه بن مسلم قال: حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه، عن أهل المدينة قالوا:
ص: 115
بعث جبلة إلى حسّان بخمسمائة دينار و كسى و قال للرسول: إن وجدته قد مات فابسط هذه الثياب على قبره.
فجاء فوجده حيا، فأخبره فقال: لوددت أنك وجدتني ميتا.
تنصّرت الأشراف من عار لطمة *** و ما كان فيها لو صبرت لها ضرر
الأبيات الخمسة.
الشعر لجبلة بن الأيهم، و الغناء لعريب نصب(1) خفيف، و بسيط رمل بالوسطى. و منها:
إنّ ابن جفنة من بقية معشر *** لم يعذهم آباؤهم باللّوم
الأبيات الأربعة(2). الشعر لحسّان بن ثابت، و الغناء لعريب، هزج بالبنصر.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا عمي يوسف بن محمد قال: حدّثني عمي إسماعيل بن أبي محمد قال: قال الواقديّ: حدّثني محمد بن صالح قال:
كان حسّان بن ثابت يغدو على جبلة بن الأيهم سنة و يقيم سنة في أهله، فقال: لو وفدت على الحارث بن أبي شمر الغسّاني، فإنّ له قرابة و رحما بصاحبي، و هو أبذل الناس للمعروف، و قد يئس منّي أن أفد عليه، لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة.
قال: فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة، حتى قدمت على الحارث و قد هيّأت له مديحا، فقال لي حاجبه، و كن لي ناصحا: إنّ الملك/قد سرّ بقدومك عليه، و هو لا يدعك حتّى تذكر جبلة، فإياك أن تقع فيه فإنّه إنما يختبرك، و إن رآك قد وقعت فيه زهد فيك؛ و إن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه فلا تبتدئ بذكره، و إن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه و لا تعبه، امسح ذكره مسحا، و جاوزه إلى غيره، فإنّ صاحبك - يعني جبلة - أشدّ إغضاء عن هذا [من هذا](3)، أي أشدّ تغافلا و أقلّ حفلا به، و ذلك أنّ صاحبك أعقل من هذا و أبين، و ليس لهذا بيان، فإذا دخلت عليه فسوف يدعوك إلى الطعام، و هو رجل يثقل عليه أن/يؤكل طعامه و لا يبالي الدرهم و الدينار، و يثقل عليه أن يشرب شرابه أيضا؛ فإذا وضع طعامه فلا تضع يدك حتّى يدعوك، و إذا دعاك فأصب من طعامه بعض الإصابة. قال: فشكرت لحاجبه ما أمرني به.
ص: 116
قال: ثم دخلت عليه فسألني عن البلاد و عن الناس، و عن عيشنا بالحجاز، و عن رجال يهود، و كيف ما بيننا من تلك الحروب. فكلّ ذلك أخبره حتّى انتهى إلى ذكر جبلة، فقال: كيف تجد جبلة، فقد انقطعت إليه و تركتنا؟ فقلت: إنّما جبلة منك و أنت منه. فلم أجر إلى مدح و لا عيب، و جاز ذلك إلى غيره ثم قال: الغداء. فأتى بالغداء و وضع الطعام، فوضع يده فأكل أكلا شديدا، و إذا رجل جبّار، فقال بعد ساعة: ادن فأصب [من هذا](1). فدنوت فخطّطت تخطيطا، فأتي بطعام كثير، ثم رفع الطعام و جاء وصفاء كثير عددهم، معهم الأباريق فيها ألوان الأشربة.
و معهم مناديل اللّين(2) فقاموا على رءوسنا، و دعا أصحاب برابط(3)/من الروم فأجلسهم و شرب فألهوه، و قام الساقي على رأسي فقال: اشرب. فأبيت حتى قال هو: اشرب. فشربت، فلما أخذ فينا الشراب(4) أنشدته شعرا فأعجبه و لذّ به، فأقمت عنده أياما فقال لي حاجبه: إنّ له صديقا هو أخفّ الناس عليه، و هو جاء، فإذا هو جاء جفاك و خلص به و قد ذكر قدومه، فاستأذنه قبل أن يقدم عليه، فإنه قبيح أن يجفوك بعد الإكرام، و الإذن اليوم أحسن. قلت: و من هو؟ قال: نابغة بني ذبيان. فقلت للحارث: إن رأى الملك أن يأذن لي في الانصراف إلى أهلي فعل. قال: قد أذنت لك و أمرت لك بخمسمائة دينار و كسى و حملان(5). فقبضتها و قدم النابغة و خرجت إلى أهلى.
ألا إنّ ليلى العامريّة أصبحت *** على النأي منّي ذنب غيري تنقم
و ما ذاك من شيء أكون اجترمته *** إليها فتجزيني به حيث أعلم(6)
و لكنّ إنسانا إذا ملّ صاحبا *** و حاول صرما لم يزل يتجرّم(7)
و ما زال بي ما يحدث النأي و الذي *** أعالج حتّى كدت بالعيش أبرم
و ما زال بي الكتمان حتّى كأنني *** برجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة و تسلمي *** سلمت و هل حيّ من الناس يسلم
/عروضه من الطويل. الشعر لنصيب، و من الناس من يروي الثلاثة الأبيات الأول للمجنون. و الغناء لبديح مولى عبد اللّه بن جعفر رحمهما اللّه.
و في الأبيات الأول منها ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي و حبش. و ذكره حمّاد بن إسحاق و لم يجنّسه. و فيه لابن سريج هزج خفيف بالبنصر في مجراها عن إسحاق في البيتين الأخيرين. و فيه لمعبد في البيتين الأولين خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.
ص: 117
بديح مولى عبد اللّه بن جعفر، و كان يقال له بديح المليح. و له صنعة يسيرة و إنما كان يغنّي أغاني غيره مثل سائب خائر، و نشيط، و طويس، و هذه الطبقة. و قد روى بديح الحديث/عن عبد اللّه بن جعفر.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثنا العباس بن محمد الدّوري قال:
حدّثنا أبو عاصم النّبيل(1) عن جويرية بن أسماء، عن عيسى بن عمر بن موسى، عن بديح مولى عبد اللّه بن جعفر قال:
لما قدم يحيى بن الحكم المدينة دخل إليه عبد اللّه بن جعفر في جماعة فقال له يحيى: جئتي بأوباش من أوباش خبثة(2)؟ فقال عبد اللّه: سماها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم طيبة و تسمّيها أنت خبثة(3)؟!
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: قال داود بن جميل حدّثني من سمع هذا الحديث من ابن العتبي يذكره عن أبيه قال:
دخل عبد اللّه بن جعفر على عبد الملك بن مروان و هو يتأوّه، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب و فنون الأسمار؟ قال: لست صاحب هزل، و الجدّ مع علّتي أحجى بي. قال: و ما علّتك يا أمير المؤمنين؟ /قال: هاج بي عرق النّسا في ليلتي هذه، فبلغ مني. قال: فإنّ بديحا مولاي أرقى(4) الناس منه.
فوجّه إليه عبد الملك فلما مضى الرسول سقط في يدي ابن جعفر(5) و قال: كذبة قبيحة عند خليفة. فما كان بأسرع من أن طلع بديح فقال: كيف رقيتك من عرق النّسا. قال: أرقى الخلق يا أمير المؤمنين. قال: فسرّي عن عبد اللّه لأنّ بديحا كان صاحب فكاهة يعرف بها؛ فمدّ رجله فتفل عليها و رقاها مرارا، فقال عبد الملك: للّه أكبر، وجدت و اللّه خفّا(6)، يا غلام ادع فلانة حتّى تكتب الرّقية، فإنّا لا نأمن هيجها بالليل فلا نذعر بديحا. فلما جاءت الجارية
ص: 118
قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأته الطلاق(1) إن كتبتها حتى تعجّل حبائي. فأمر له بأربعة آلاف درهم فلما صار المال بين يديه قال: و امرأته الطلاق إن كتبتها أو يصير المال إلى منزلي. فأمر به فحمل إلى منزله، فلما أحرزه قال:
يا أمير المؤمنين، امرأته الطلاق إن كنت قرأت على رجلك إلاّ أبيات نصيب:
ألا إنّ ليلى العامرية أصبحت *** على النأي منّي ذنب غيري تنقم
و ذكر الأبيات و زاد فيها:
و ما زلت أستصفي لك الودّ أبتغي *** محاسنة حتّى كأنّي مجرم
قال: ويلك ما تقول؟ قال امرأته الطلاق إن كان رقاك إلاّ بما قال. قال: فاكتمها عليّ. قال: و كيف ذاك و قد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر؟! فطفق عبد الملك ضاحكا يفحص برجليه.
/أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني الأصمعي عن المنتجع النّبهاني، عن أبيه بهذا الخبر مثل الذي قبله. و زاد في الشعر:
فلا تصرميني حين لا لي مرجع *** ورائي و لا لي عنكم متقدّم
و قال فيه: فسكن ما كان يجده عبد الملك، و أمر لبديح بأربعة آلاف درهم، فقال ابن جعفر لبديح: ما سمعت هذا الغناء منك مذ ملكتك! فقال: هذا من نتف سائب خائر.
أخبرني إسماعيل قال حدّثنا عمر قال حدّثني القاسم بن محمد بن عباد عن الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن نافع - أراه نافع الخير مولى ابن جعفر - بهذا الخبر مثله، و زاد فيه أنّ بديحا/رفع صوته يغنيه به لمّا قال له أن يكتب الرقية. و زاد فيه: فجعل عبد الملك يقول: مهلا يا بديح. فقال: إنّما رقيتك كما علّمت(2) يا أمير المؤمنين.
أخبرني إسماعيل قال حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثني أبو سلمة الغفاريّ عن عبد اللّه بن عمران بن أبي فروة قال:
كان ابن جعفر يحبّ أن يسمع عبد الملك غناء بديح، فدخل إليه يوما فشكا إليه عبد الملك ركبته فقال له ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، إن لي مولى كانت أمّه بربريّة، و كانت ترقى من هذه العلّة، و قد أخذ ذلك عنها. قال:
فادع به. فدعي بديح، فجعل يتفل على ركبة عبد الملك و يهمهم، ثم قال: قم يا أمير المؤمنين جعلني اللّه فداك.
فقام عبد الملك لا يجد شيئا، فقال عبد اللّه: يا أمير المؤمنين مولاك لا بدّ له من صلة. قال: حتّى تكتب رقيته ثم أمر جارية له فكتبت: /بسم اللّه الرحمن الرحيم. فقال: ليس فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم. قال: كيف تكون ويلك رقية ليس فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم؟ قال: فهو ذاك. قال: فاكتبيها على ما فيها. فأملى عليها:
ديار سليمى بين عيقة فالمهدي *** سقيت، و إن لم تنطقي، سبل(3) الرعد
ص: 119
ثم قال له ابن جعفر: لو سمعته منه. قال: أو يجيد؟ قال: نعم. قال: هات. فما برح و اللّه حتّى أفرغها في مسامعه.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال حدّثني عمي عبيد اللّه قال: حدّثني سليمان بن أبي شيخ قال:
كنا عند أبي نعيم الفضل بن دكين فجاءه رجل فقال: يا أبا نعيم، إن الناس يزعمون أنّك رافضيّ. قال: فأطرق ساعة ثم رقع رأسه و هو يبكي و قال: يا هذا أصبحت فيكم كما قال نصيب:
و ما زال بي الكتمان حتّى كأنني *** نرجع جواب السّائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة و تسلمي *** سلمت و هل حيّ من الناس يسلم
يا غراب البين أسمعت فقل *** إنّما تنطق شيئا قد فعل
إنّ للخير و للشّرّ مدى *** لكلا ذينك وقت و أجل
/كلّ بؤس و نعيم زائل *** و بنات الدهر يلعبن بكلّ
و العطيات خساس بينهم *** و سواء قبر مثر و مقلّ(1)
الشعر لعبد اللّه بن الزبعري السّهمي، يقوله في غزاة أحد، و هو يومئذ مشرك. و الغناء لابن سريج خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، عن عمرو على مذهب إسحاق. و فيه لحن لابن مسجح من رواية حمّاد عن أبيه في كتاب ابن مسجح.
ص: 120
هو عبد اللّه بن الزّبعري بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار.
و هو أحد شعراء قريش المعدودين. و كان يهجو المسلمين و يحرّض عليهم كفار قريش في شعره، ثم أسلم بعد ذلك فقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إسلامه و أمّنه يوم الفتح.
و هذه/الأبيات يقولها ابن الزبعري في غزوة أحد.
حدّثنا بالخبر في ذلك محمد بن جرير الطبري قال حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدّثني محمد بن مسلم بن عبد اللّه بن شهاب الزّهري، و محمد بن يحيى بن حيان(1)، و عاصم بن عمرو بن قتادة، و الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ و غيرهم من علمائنا، كلّهم قد حدّث ببعض هذا الحديث، فقد اجتمع حديثهم كلّهم فيما سقت من الحديث عن يوم أحد. قالوا:
لمّا أصيبت قريش، أو من قاله منهم يوم بدر من كفار قريش، من أصحاب القليب، فرجع فلّهم إلى مكة(2)، و رجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد اللّه بن أبي ربيعة، و عكرمة بن أبي جهل، و صفوان بن أمية، في رجال من/قريش، ممن أصيب آباؤهم [و أبناؤهم](3) و إخوانهم ببدر، فكلّموا أبا سفيان بن حرب و من كان له(4) في تلك العير من قريش تجارة، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنّ محمدا قد وتركم و قتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلّنا أن ندرك ثأرا ممن أصيب منا. ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، حين فعل ذلك أبو سفيان و أصحاب العير بأحابيشها(5) و من أطاعها من قبائل كنانة و أهل تهامة، و كلّ أولئك قد استغووا(6) على حرب
ص: 121
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و كان أبو عزّة عمرو بن عبد اللّه الجمحي قد منّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم بدر، و كان في الأسارى فقال: يا رسول اللّه، إنّي فقير ذو عيال و حاجة قد عرفتها، فامنن عليّ صلّى اللّه عليك. فمنّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال صفوان بن أميّة: يا أبا عزّة، إنّك امرؤ شاعر فاخرج معنا فأعنّا بنفسك. فقال: إن محمدا قد منّ عليّ، فلا أريد أن أظاهر عليه. فقال: بلى فأعنّا بنفسك، و لك اللّه إن رجعت أن أعينك، و إن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهنّ ما أصابهنّ من عسر أو يسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة و يدعو بني كنانة، و خرج مسافع بن عبدة بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرّضهم و يدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و دعا جبير بن مطعم غلاما يقال له وحشيّ، و كان حبشيا يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلّما يخطئ/بها، فقال: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت عمّ محمد بعمى طعيمة بن عديّ فأنت عتيق. و خرجت قريش بحدّها و أحابيشها و من معها من بني كنانة و أهل تهامة، و خرجوا بالظّعن(1) التماس الحفيظة، و لئلا يفرّوا. و خرج أبو سفيان بن حرب و هو قائد الناس، معه هند بنت عتبة بن ربيعة، و خرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة(2) و خرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة - و قيل ببرّة من قول أبي جعفر - بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، و هي أم عبد اللّه بن صفوان. و خرج عمرو بن العاص(3)، و خرج طلحة بن أبي طلحة و أبو طلحة عبد اللّه بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن سهيل(4)، و هي أم بني طلحة: مسافع، و الجلاس، و كلاب، قتلوا يومئذ و أبوهم. و خرجت خناس بنت مالك بن المضرّب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزّة(5) بن عمير، و هي أم مصعب بن عمير.
و خرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء/بني الحارث بن [عبد مناة بن](6) كنانة.
و كانت هند بنت عتبة بين ربيعة إذا مرّت بوحشيّ أو مرّ بها قالت: إيه أبا دسمة(7) اشتف(8). فنزلوا ببطن السّبخة(9) من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة، /فلمّا سمع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم للمسلمين: «إني قد رأيت بقرا تذبح فأوّلتها خيرا، و رأيت في ذباب سيفي ثلما، و رأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة، و هي المدينة(10)، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة و تدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام، و إن هم دخلوا علينا فيها قاتلناهم».
و نزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم و يوم الخميس و يوم الجمعة، و راح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين صلّى الجمعة فأصبح بالشّعب من أحد، فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال. و كان رأي عبد اللّه بن أبيّ بن سلول مع رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، يرى رأيه في ذلك: أن لا يخرج إليهم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يكره الخروج من
ص: 122
المدينة، فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم اللّه جلّ ثناؤه بالشهادة يوم أحد و غيرهم ممن فاته بدر و حضوره:
يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك و سلّم اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنّا عنهم و ضعفنا. فقال عبد اللّه بن أبيّ بن سلول: يا رسول اللّه أقم بالمدينة، و لا تخرج إليهم، فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منّا، و لا يدخلها علينا إلاّ أصبنا منهم، فدعهم يا رسول اللّه، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مجلس، و إن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، و رماهم النساء و الصّبيان بالحجارة من فوق رءوسهم، و إن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. فلم يزل برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الذين كان من أمرهم حبّ لقاء العدوّ، حتّى دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلبس لأمته، و ذلك يوم الجمعة، حين فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الصلاة. و قد مات في ذلك/اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو، أحد بني النجّار فصلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثم خرج عليهم، و قد ندم الناس: و قالوا استكرهنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لم يكن ذلك لنا! فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عليهم فقالوا: يا رسول اللّه استكرهناك و لم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلّى اللّه عليك. فقال عليه السلام: «ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل» قال: فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في ألف رجل من أصحابه، حتّى إذا كانوا بالشوط، بين أحد و المدينة، انخزل عنه عبد اللّه بن أبيّ بن سلول بثلث الناس، و قال: أطاعهم فخرج و عصاني، و اللّه ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيّها الناس. فرجع بمن اتّبعه من الناس من قومه، من أهل النّفاق و الرّيب، و اتّبعهم عبد اللّه بن عمرو بن حرام أحد بني سلمة يقول: يا قوم أذكّركم(1) اللّه أن تخذلوا نبيّكم و قومكم عند ما حضر من عدوّهم. فقالوا: لو نعلم أنّكم تقاتلون ما أسلمناكم، و لكنّا لا نرى أنّه يكون قتال. فلما استعصوا عليه و أبوا إلاّ الانصراف قال: أبعدكم اللّه أعداء اللّه، فسيغني اللّه عزّ و جلّ عنكم.
و قال محمد بن عمر الواقدي: انخزل عبد اللّه بن أبيّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/من الشّيخين(2) بثلاثمائة، فبقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في سبعمائة، و كان المشركون في ثلاثة آلاف، و الخيل مائتا فارس، و الظّعن خمس عشرة امرأة.
قال: و كان في المشركين سبعمائة دارع، و لم يكن معهم من الخيل إلاّ فرسان: فرس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و فرس لأبي بردة بن نيار الحارثي. فادّلج(3) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الشّيخين حتّى طلع الحمراء، و هما(4) أطمان كان يهوديّ /و يهودية أعميان يقومان عليهما فيتحدّثان، فلذلك سميا الشيخين، و هما في طرف المدينة.
قال: و عرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المقاتلة بعد المغرب، فأجاز من أجاز، و ردّ من ردّ. قال: و كان فيمن ردّ زيد بن ثابت، و أبو عمرو أسيد بن ظهير، و البراء بن عازب، و عرابة بن أوس. قال: و هو عرابة الذي قال فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقّاها عرابة باليمين
قال: و ردّ أبا سعيد الخدريّ، و أجاز سمرة بن جندب، و رافع بن خديج. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد استصغر رافعا، فقام على خفّين له فيهما رقاع، و تطاول على أطراف أصابعه، فلما رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أجازه.
قال محمد بن جرير: فحدّثني الحارث قال: حدّثنا ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال:
ص: 123
كانت أمّ سمرة تحت مريّ بن سنان بن ثعلبة(1). عمّ أبي سعيد الخدري، و كان ربيبه(2)، فلما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أحد و عرض أصحابه فردّ من استصغر، ردّ سمرة بن جندب، و أجاز رافع بن خديج، فقال سمرة لربيبه مريّ بن سنان: أجاز رافعا و ردّني و أنا أصرعه! فقال يا رسول اللّه: رددت ابني و أجزت رافع بن خديج و ابني يصرعه؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لرافع و سمرة: اصطرعا. فصرع سمرة رافعا، فأجازه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فشهدها مع المسلمين، و كان دليل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أبو خيثمة الحارثي.
و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى سلك في حرّة بني حارثة، فذبّ فرس بذنبه فأصاب كلاّب سيف(3) فاستلّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - و كان يحبّ الفأل و لا يعتاف - لصاحب السيف: «شم سيفك فإنّي أرى السيوف ستستلّ اليوم»! ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب من طريق لا يمرّ بنا عليهم؟»، فقال أبو خيثمة، أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول اللّه. فقدّمه فنفذ به في حرة بني حارثة و بين أموالهم، حتّى سلك به في مال المربع(4) بن قيظيّ، و كان رجلا منافقا ضرير البصر، فلما سمع حسّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و من معه من المسلمين قام يحثي التراب في وجوههم و يقول: إن كنت رسول اللّه فلا أحلّ(5) لك أن تدخل حائطي. قال: و قد ذكر لي أنّه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: لو أنّي أعلم أنّي لا أصيب بها غيرك لضربت بها وجهك! فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تفعلوا فهذا/الأعمى البصر الأعمى القلب!» و قد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل حين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجّه، و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على وجهه حتّى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره و عسكره إلى أحد، و قال: لا يقاتلن أحد أحدا حتى نأمره بالقتال. و قد سرّحت قريش الظّهر و الكراع(6)/في زروع كانت بالصّمعة(7) من قناة للمسلمين، فقال رجل من المسلمين حين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن القتال: أ ترعى زروع بني قيلة و لمّا نضارب! و تعبّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو في سبعمائة رجل، و تعبأت قريش و هم ثلاثة آلاف، و معهم مائتا فارس قد جنبوا خيولهم، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد و على ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، و أمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على الرماة(8) عبد اللّه بن جبير(9) أخا بني عمرو بن عوف، و هو يومئذ معلم بثياب بيض، و الرماة خمسون رجلا، و قال: انضح عنا الخيل بالنّبل لا يأتونا
ص: 124
من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فأثبت بمكانك لا نؤتينّ من قبلك. و ظاهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين درعين.
قال محمد بن جرير: فحدّثنا هارون بن إسحاق قال: حدّثنا مصعب بن المقدام قال: حدّثنا أبو إسحاق عن البرّاء قال:
لما كان يوم أحد و لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المشركين أجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رجالا بإزاء الرماة، و أمرّ عليهم عبد اللّه بن جبير و قال لهم: «لا تبرحوا مكانكم و إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، و إن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا».
فلما لقي القوم هزم المشركين، حتّى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن و بدت خلاخيلهنّ فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة!! فقال عبد اللّه: مهلا أ ما علمتم ما عهد إليكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فأبوا فانطلقوا، فلما أتوهم صرفت [وجوههم](1) فأصيب من المسلمين سبعون رجلا.
/قال محمد بن جرير: حدّثني محمد بن سعد قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمي قال: حدّثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال:
أقبل أبو سفيان في ثلاث ليال خلون من شوّال حتّى نزل أحدا، و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأذّن في الناس فاجتمعوا، و أمّر الزبير على الخيل، و معه يومئذ المقداد الكنديّ، و أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الراية رجلا من قريش يقال له مصعب بن عمير، و خرج حمزة بن عبد المطلب رضي اللّه عنه بالجيش، و بعث حمزة بين يديه. و أقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين، و معه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الزبير، و قال: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتّى أوذنك. و أمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحنّ حتى أوذنكم. و أقبل أبو سفيان يحمل اللاّت و العزى، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه اللّه تعالى و من معه، فقال جلّ و عزّ: وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّٰهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ إلى قوله تبارك اسمه و تعالى: مِنْ بَعْدِ مٰا أَرٰاكُمْ مٰا تُحِبُّونَ و إنّ اللّه تعالى وعد المؤمنين النّصر و أنّه معهم. و إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعث ناسا من الناس فكانوا من ورائهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: كونوا/هاهنا، فردّوا وجه من فرّ منّا و كونوا حرسا لنا من قبل ظهورنا. و إنه عليه السلام لما هزم القوم هو و أصحابه قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم بعضهم لبعض - و رأوا النساء مصعدات في الجبل، و رأوا الغنائم -: انطلقوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أدركوا الغنائم قبل أن تسبقوا إليها. و قالت طائفة أخرى:
بل نطيع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنثبت مكاننا. فقال ابن مسعود: ما شعرت أنّ أحدا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يريد الدنيا و عرضها حتّى كان يومئذ.
/قال محمد بن جرير: حدّثني محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن الفضل قال حدّثنا أسباط عن السّدّي قال:
لمّا برز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأحد إلى المشركين أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين و قال لهم:
لا تبرحوا مكانكم إن رأيتم قد هزمناهم، فإنّا لا نزال غالبين ما ثبتّم مكانكم. و أمّر عليهم عبد اللّه بن جبير أخا خوّات بن جبير. ثم إنّ طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معاشر أصحاب محمد، إنّكم تزعمون أنّ اللّه عزّ و جلّ تعجّلنا بسيوفكم إلى النار، و تعجّلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجّله اللّه بسيفي إلى
ص: 125
الجنة، أو يعجّلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: و الذي نفسي بيده لا أفارقك حتّى يعجّلك اللّه عزّ و جلّ بسيفي إلى النار، أو يعجّلني بسيفك إلى الجنّة! فضربه عليّ فقطع رجله فبدت عورته فقال:
أنشدك اللّه و الرحم يا ابن عمّ. فتركه فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قال لعليّ و أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إنّ ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه. ثم شدّ الزبير بن العوام و المقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، و حمل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد و هو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع(1)، فلما نظر الرماة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و انطلق عامّتهم فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلّة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، و حمل على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فلمّا رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل تبادروا فشدّوا على المسلمين فهزموهم و قتلوهم.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام إليه رجال، فأمسكه بينهم، حتّى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: و ما حقّه يا رسول اللّه؟ قال: أن تضرب به في العدوّ حتّى ينحني. فقال: أنا آخذه بحقّه يا رسول اللّه. فأعطاه إياه. و كان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب إذا كانت، و كان إذا أعلم على رأسه بعصابة له حمراء علم الناس أنّه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أخذ عصابته تلك فعصب بها رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصّفّين.
قال محمد بن إسحاق: حدّثني جعفر بن عبد اللّه بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، عن رجل /من الأنصار من بني سلمة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنّها مشية يبغضها اللّه إلاّ في هذا الموطن. و قد أرسل أبو سفيان رسولا فقال: يا معشر الأوس و الخزرج، خلّوا بيننا و بين ابن عمنا ننصرف عنكم، فإنّه لا حاجة بنا إلى قتالكم. فردّوه بما يكره.
و عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أنّ أبا عامر عمرو بن صيفيّ بن النعمان بن مالك بن أمية، أحد بني ضبيعة و قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معه خمسون غلاما من الأوس، منهم عثمان بن حنيف - و بعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر - فكان يعد قريشا أن لو قد لقي محمدا لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما التقى الناس كان أوّل من لقيهم أبو عامر في الأحابيش و عبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر.
قالوا: فلا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق. و كان أبو عامر يسمّى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول اللّه/صلّى اللّه عليه و سلّم الفاسق.
فلما سمع ردّهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شرّ! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم بالحجارة(2). و قد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرّضهم بذلك على القتال، يا بني عبد الدار، إنّكم وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، و إنّما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإمّا أن تكفونا لواءنا، و إمّا أن تخلّوا بيننا و بينه فسنكفيكموه. فهمّوا به و توعّدوه و قالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع!
ص: 126
و ذلك الذي أراد أبو سفيان. فلما التقى الناس و دنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النّسوة اللواتي معها، و أخذن الدّفوف يضربن خلف الرجال، و يحرضنهم، فقالت هند فيما تقول:
إن تقبلوا نعانق *** و نفرش النمارق
أو تدبروا نفارق *** فراق غير وامق
و تقول:
إيها بني عبد الدار *** إيها حماة الأدبار(1)
ضربا بكلّ بتّار
و اقتل الناس حتّى حميت الحرب، و قاتل أبو دجانة حتّى أمعن في الناس، و حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب عليهما السلام في رجال من المسلمين، فأنزل اللّه نصره، و صدقهم وعده، فحسّوهم بالسّيف(2) حتى كشفوهم، و كانت الهزيمة.
/و عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه عن جده قال قال الزبير: و اللّه لقد رأيتني انظر إلى هند بنت عتبة و صواحبها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهنّ قليل و لا كثير، إذ مالت الرّماة إلى الكرّ حتّى كشفنا القوم عنه يريدون النهب، و خلّوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا و صرخ صارخ: ألا إنّ محمدا قد قتل.
فانكفأنا و انكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتّى ما يدنو إليه أحد من القوم.
و عن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم أنّ اللواء لم يزل صريعا حتّى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثيّة، فرفعته لقريش فلاذوا بها، و كان اللواء مع صواب غلام لبني أبي طلحة حبشيّ، فكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتّى قطعت يداه، فبرك عليه و أخذ اللواء بصدره و عنقه حتّى قتل/عليه و هو يقول: اللّهم قد أعذرت! فقال حسّان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر:
فخرتم باللواء و شرّ فخر *** لواء حين ردّ إلى صواب
جعلتم فخركم فيها لعبد *** من الأم من وطي عفر التراب
ظننتم و السّفيه له ظنون *** و ما إن ذاك من أمر الصّواب
بأنّ جلادنا يوم التقينا *** بمكة بيعكم حمر العياب(3)
أقرّ العين إن عصبت يداه *** و ما أن يعصبان على خضاب
قال محمد بن جرير: و حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا عثمان بن سعيد قال حدّثنا حبّان بن عليّ(4) عن محمد بن عبيد اللّه بن أبي رافع، عن أبيه عن جده قال:
ص: 127
/لمّا قتل(1) أصحاب الألوية يوم أحد - قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام - أبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي: احمل عليهم. فحمل عليّ ففرّق جمعهم، و قتل عمرو بن عبد اللّه بن الجمحي، ثم أبصر جماعة من مشركي قريش فقال لعلي؛ احمل. فحمل عليّ ففرّق جمعهم، و قتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي، فقال جبريل عليه السلام: [يا رسول اللّه](2) إنّ هذه للمواساة(3). فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «هو منّي و أنا منه»، فقال جبريل عليه السلام: و أنا منكم! قال: فسمعوا صوتا:
لا سيف إلاّ ذو الفقا *** ر و لا فتى إلاّ علي
فلما أتى المسلمون من خلفهم انكشفوا، و أصاب منهم المشركون، و كان المسلمون لمّا أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثا: ثلث قتيل، و ثلث جريح، و ثلث منهزم و قد جهدته الحرب حتّى ما يدري ما يصنع. و أصيبت رباعية(4) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم السّفلى، و شقّت شفته، و كلم في وجنته و جبهته في أصول شعره، و علاه ابن قمئة بالسّيف على شقّه الأيمن، و كان الذي أصابه عتبة بن أبي وقّاص.
قال محمد بن جرير: و حدّثنا ابن يسار(5) قال حدّثنا ابن أبي عديّ عن حميد عن أنس بن مالك قال:
لما كان يوم أحد كسرت رباعية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و شجّ، فجعل الدم يسيل على وجهه، و جعل يمسح الدم عن وجهه و يقول: «كيف يفلح قوم/خضبوا وجه نبيّهم بالدم، و هو يدعوهم إلى اللّه تعالى!». فأنزل اللّه عزّ و جلّ:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . الآية. و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين غشيه القوم: «من رجل يشري لي نفسه؟».
قال محمد: فحدّثني ابن حميد قال حدّثنا سلمة قال حدّثني محمد بن إسحاق قال: حدّثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السّكن [قال: فقام زياد بن السّكن](6) في نفر خمسة من الأنصار - و بعض الناس يقول: إنّما هو عمارة بن زياد بن السكن - فقاتلوا دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رجلا ثم رجلا، يقتلون دونه حتّى كان آخرهم زياد بن عمارة(7) بن زياد بن السكن، فقاتل حتّى أثبتته الجراحة، ثم فاءت من المسلمين فئة حتّى أجهضوهم عنه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أدنوه منّي. فأدنوه منه فوسّده قدمه، فمات و خدّه على قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و ترّس من دون النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أبو دجانة بنفسه، يقع النّبل في ظهره و هو منحن عليه حتّى كثرت فيه النّبل. و رمى سعد/بن أبي وقاص دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. قال سعد: فلقد رأيته يناولني و يقول: فداك أبي و أمّي، حتّى إنّه ليناولني السهم ما فيه نصل فيقول: ارم به!
ص: 128
و عن محمد بن إسحاق قال حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رمى عن قوسه حتّى اندقّت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده، و أصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته.
/و عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ردّها بيده فكانت أحسن عينيه و أحدّهما. و قاتل مصعب بن عمير دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معه لواؤه حتّى قتل، و كان الذي أصابه ابن قمئة اللّيثي و هو يظنّ أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فرجع إلى قريش فقال: قد قتلت محمدا! فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم اللواء عليّ بن طالب عليه السلام. و قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي اللّه عنه حتّى قتل أرطاة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ، و كان أحد النّفر الذين يحملون اللواء، ثم مرّ به سباع بن عبد العزّى الغبشاني، و كان يكنى أبا نيار، فقال له [حمزة](1): هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور - و كانت أمّه(2) ختّانة [بمكة](3)مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي - فلما التقيا ضربه حمزة عليه السلام فقتله، فقال وحشيّ غلام جبير بن مطعم: إنّي لأنظر إلى حمزة يهذّ الناس بسيفه(4) ما يليق شيئا يمرّ به(5)، مثل الجمل الأورق، إذ تقدّمني إليه سباع بن عبد العزّى فقال له حمزة: هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور. فضربه فما أخطأ رأسه، و هززت حربتي حتّى إذا ما رضيت دفعتها عليه فوقعت عليه في لبّته حتّى خرجت من بين رجليه، و أقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتّى إذا مات جئت فأخذت حربتي ثم تنحّيت إلى العسكر، و لم يكن لي بشيء حاجة غيره. و قد قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أحد بني عمرو بن عوف، مسافع بن طلحة و أخاه كلاب بن طلحة، /كلاهما يشعره سهما(6) فيأتي أمّه فيضع رأسه في حجرها فتقول: يا بنيّ من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول حين رماني: خذها إليك و أنا ابن أبي الأقلح! فتقول: أقلحيّ؟! فنذرت للّه إن اللّه أمكنها من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر. و كان عاصم قد عاهد اللّه عزّ و جلّ أن لا يمسّ مشركا و لا يمسّه.
عن ابن إسحاق قال حدّثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أخو بني عديّ بن النجار قال:
انتهى أنس بن النضر، عمّ أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد اللّه، في رجال من المهاجرين و الأنصار، و قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم هاهنا؟ فقالوا: قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم! قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا كراما على ما مات عليه. ثم استقبل القوم فقاتل حتّى قتل. و به سمي أنس بن مالك.
عن ابن إسحاق قال: حدّثني حميد الطّويل عن أنس بن مالك قال:
لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة و طعنة، فما عرفته إلا أخته، عرفته بحسن بنانه.
عن ابن إسحاق قال:
ص: 129
كان أوّل من عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد الهزيمة و قول الناس: قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - كما حدّثني ابن شهاب الزّهري - كعب/بن مالك أخو بني سلمة. قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت/بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم! فأشار إليّ عليه السلام: أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نهضوا به، و نهض نحو الشعب معه أبو بكر بن أبي قحافة، و عمر بن الخطاب، و عليّ بن أبي طالب، و طلحة بن عبيد اللّه، و الزّبير بن العوّام، و الحارث بن الصّمة، في رهط من المسلمين رضي اللّه عنهم أجمعين.
فلما أسند(1) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الشّعب، أدركه أبيّ بن خلف و هو يقول: يا محمد(2) لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول اللّه أ يعطف عليه رجل منا؟ فقال: دعوه. فلمّا دنا تناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الحربة من الحارث بن الصّمّة. قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي: فلما أخذها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشّعراء(3) عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ بها عن فرسه مرارا(4). و كان أبيّ بن خلف - كما حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق عن صالح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - يلقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بمكة فيقول: يا محمد، إنّ عندي العود أعلفه كلّ يوم فرقا من ذرة(5) أقتلك عليه! فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: بل أنا أقتلك إن شاء اللّه تعالى. فلما رجع إلى قريش و قد خدشه في حلقه(6) خدشا غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني و اللّه محمّد! قالوا: ذهب و اللّه فؤادك، و اللّه ما بك بأس. قال: إنّه كان بمكة قال لي: أنا أقتلك، /فو اللّه لو بصق عليّ لقتلني. فمات عدوّ اللّه بسرف(7) و هم قافلون به إلى مكة، فلما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى فم الشّعب خرج عليّ بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس(8) ثمّ جاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فشرب منه(9) و غسل عن وجهه الدم، و صبّ على رأسه و هو يقول: «اشتدّ غضب اللّه عزّ و جلّ على من دمى وجه نبيه».
قال محمد بن إسحاق: حدّثني صالح بن كيسان عمن حدّثه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقول: و اللّه ما حرصت على قتل رجل قطّ ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقّاص، و إن كان ما علمت لسيّئ الخلق مبغضا في قومه، و لقد كفاني منه قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اشتدّ غضب اللّه على من دمى وجه رسول اللّه».
قال حدّثنا محمد بن إسحاق قال: حدّثني صالح بن كيسان قال:
ص: 130
خرجت هند و النسوة اللواتي معها يمثلن بالقتلى(1) من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يجدعن الآذان و الآنف، حتّى اتخذت هند من آذان الرجال و آنفهم خدما و قلائد(2)، و أعطت خدمها و قلائدها و قرطها وحشيا غلام جبير بن مطعم، و بقرت عن كبد(3) حمزة عليه السلام، فأخرجت كبده فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها/فلفظتها، ثم علت على صخرة [مشرفة](4) فصاحت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
قال: حدّثني صالح بن كيسان أنّه حدّث أنّ عمر بن الخطاب رضوان اللّه عليه قال لحسّان: يا ابن الفريعة، لو سمعت ما تقول هند و رأيت أشرها قائمة على صخرة ترتجز بنا/و تذكر ما صنعت بحمزة؟ قال له حسان: و اللّه إنّي لأنظر إلى الحربة تهوي و إنّي على رأس فارع - يعني أطمه - فقلت: و اللّه، إنّ هذه لسلاح ما هي بسلاح العرب، و كأنّها إنّما تهوي [إلى حمزة](5) و لا أدري، أسمعني بعض قولها أكفكموها. قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هندا:
أشرت لكاع و كان عادتها *** لؤما إذا أشرت من الكفر(6)
لعن الإله و زوجها معها *** هند الهنود طويلة البظر(7)
أخرجت مرقصة إلى أحد *** في القوم مقتبة غلى بكر(8)
[بكر ثفال لا حراك به *** لا عن معاتبة و لا زجر](9)
و عصاك استك تتّقين بها *** دقّي العجاية منك بالفهر(10)
/قرحت عجيزتها و مشرجها *** من دأبها نصا على القتر(11)
ظلّت تداويها زميلتها *** بالماء تنضحه و بالسّدر
أخرجت ثائرة مبادرة *** بأبيك فاتك يوم ذي بدر(12)
ص: 131
و بعمّك المستوه في ردع *** و أخيك منعفرين في الجفر(1)
و نسيت فاحشة أتيت بها *** يا هند ويحك سيئة الذكر(2)
فرجعت صاغرة بلا ترة *** منّا ظفرت بها و لا نصر
زعم الولائد أنّها ولدت *** ولدا صغيرا كان من عهر
قال محمد بن جرير: ثم إنّ أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم فيما حدّثنا هارون بن إسحاق قال: حدّثنا مصعب بن المقدام قال حدّثنا إسرائيل، و حدّثنا ابن وكيع قال: حدّثنا أبي عن إسرائيل قال حدّثنا ابن إسحاق عن البرّاء قال:
ثم إن أبا سفيان أشرف علينا فقال: أ في القوم محمد؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: لا تجيبوه! مرّتين، ثم قال: أ في القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: لا تجيبوه!(3)]. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أمّا هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا! فلم يملك عمر بن الخطاب/رضي اللّه عنه نفسه أن قال: كذبت يا عدوّ اللّه، قد أبقى اللّه لك ما يخزيك. فقال: أعل هبل، أعل هبل! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا «اللّه أعلى و أجلّ» قال أبو سفيان: لنا العزّى و لا عزّى لكم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا اللّه مولانا و لا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، و الحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلا لم آمر بها و لم تسؤني.
لما أجاب عمر رضي اللّه عنه أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلمّ يا عمر. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك اللّه يا عمر أ قتلنا محمدا؟ فقال عمر: اللهمّ لا، و إنّه ليسمع كلامك الآن.
قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة و أبرّ؛ لقول ابن قمئة لهم: إنّي قتلت محمدا. ثم نادى أبو سفيان فقال: إنّه قد كان مثل(4) و اللّه ما رضيت و لا سخطت، و لا أمرت و لا نهيت، و قد كان الحليس بن زبّان، أخو بني الحارث بن عبد مناة، و هو يومئذ سيّد الأحابيش، قد مرّ بأبي سفيان بن حرب و هو يضرب في شدق حمزة عليه السلام و/هو يقول: ذق عقق(5)! فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيّد قريش يصنع بابن عمه كما ترون لحما(6)! فقال اكتمها عليّ فإنّها كانت زلّة قال: فلما انصرف أبو سفيان و من معه نادى: أن موعدكم بدر، العام/المقبل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لرجل من أصحابه: «قل: نعم، هي بيننا و بينك موعد».
ص: 132
ثم بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ما ذا يصنعون، فإن كانوا قد جنبوا و امتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكة، و إن ركبوا الخيل و ساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم ثم لأناجزنّهم. قال علي: فخرجت في آثارهم انظر ما يصنعون، فلما جنبوا الخيل و امتطوا الإبل توجّهوا إلى مكّة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لي: أيّ ذلك كان فأخفه حتّى يأتيني. قال عليّ: فلما رأيتهم قد توجّهوا إلى مكة أقبلت أصيح، ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لما بي من الفرح، إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكّة عن المدينة، و فرغ الناس لقتلاهم(1). فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - كما حدّثنا ابن حميد قال:
حدّثنا سلمة قال حدّثني محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة(2) المازني أخي بني النجار.
أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع - و سعد أخو بني الحارث بن الخزرج - أ في الأحياء هو أم في الأموات؟». فقال رجل من الأنصار: أنا انظر لك يا رسول اللّه ما فعل. فنظر فوجده جريحا في القتلى به رمق. قال: فقلت له: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمرني أن انظر له أ في الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: فأنا في الأموات. أبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قل له: إنّ سعد بن الربيع يقول لك: جزاك اللّه خير/ما جزى نبيّا عن أمته، و أبلغ قومك عنّي السلام و قل لهم: إنّ سعد بن الربيع يقول: لا عذر لكم عند اللّه جلّ و عزّ إن خلص إلى نبيكم و فيكم عين تطرف. ثم لم أبرح حتّى مات رحمه اللّه، فجئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أخبرته.
و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فيما بلغني، يلتمس حمزة بن عبد المطلب عليه السلام، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، و مثّل به فجدع أنفه و أذناه.
و عن ابن إسحاق قال: فحدّثني محمد بن جعفر بن الزبير أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال حين رأى بحمزة ما رأى:
«لو لا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتّى يكون في أجواف السباع و حواصل الطير، و لئن أنا أظهرني اللّه على قريش في موطن من المواطن لأمثلنّ بثلاثين رجلا منهم». فلما رأى المسلمون حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و غيظه على ما فعل بعمّه قالوا: و اللّه لئن أظهرنا اللّه عليهم يوما من الدهر لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ.
و عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس. قال ابن حميدة قال سلمة، و حدّثني محمد بن إسحاق قال: فحدّثنا الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن/ابن عباس: أنّ اللّه عزّ و جلّ أنزل في ذلك من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(3):
ص: 133
وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّٰابِرِينَ إلى آخر السورة. فعفا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و صبر، و نهى عن المثلة.
قال ابن إسحاق فيما بلغني: خرجت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة و كان أخاها لامها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لابنها الزبير: القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها. فلقيها الزبير فقال: يا أمّه، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمرك أن ترجعي. فقالت: و لم، فقد بلغني أنّه مثّل بأخي، و ذلك في اللّه جلّ و عزّ قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبنّ و لأصبرنّ إن شاء اللّه تعالى؟ فلما جاء الزبير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره بذلك قال: خلّ سبيلها. فأتته فنظرت إليه و صلّت عليه و استرجعت و استغفرت له، ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم به فدفن.
قال: حدّثني محمد بن إسحاق قال: حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد قال:
لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أحد، رجع حسيل بن جابر - و هو اليمان أبو حذيفة بن اليمان - و ثابت بن وفش(1) بن زعورا في الآطام مع النساء و الصبيان، فقال أحدهما لصاحبه و هما شيخان كبيران: لا أبا لك ما تنتظر، فو اللّه إن بقي لواحد منّا من عمره إلاّ ظمء حمار(2)، إنّما نحن هامة اليوم أو غد(3)، أ فلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لعلّ اللّه يرزقنا شهادة معه. فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتّى دخلا في الناس، و لم يعلم أحد بهما. فأمّا ثابت بن وقش(1) فقتله المشركون، و أما حسيل بن جابر اليمان فاختلفت عليه/أسياف المسلمين فقتلوه و لم يعرفوه، فقال حذيفة: أبي! قالوا: و اللّه إن عرفناه و صدقوا. قال حذيفة: يغفر اللّه لكم و هو أرحم الراحمين. فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يديه(4)، فتصدّق حذيفة بديته على المسلمين، فزادته عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خيرا.
قال حدّثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتيّ(5) لا ندري من أين هو، يقال له قزمان، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول إذا ذكره: «إنّه لمن أهل النار» فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا فقتل هو وحده ثمانية من المشركين أو تسعة، و كان شهما شجاعا ذا بأس، فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال:
فجعل رجال من المسلمين يقولون: و اللّه لقد أبليت اليوم(6) يا قزمان، فأبشر. قال: بم أبشر؟ فو اللّه أن قاتلت إلاّ على حساب قومي، و لو لا ذلك ما قاتلت. فلما اشتدّت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات؛ فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك فقال: إنّي رسول اللّه حقّا.
ص: 134
و عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني حسين بن عبد اللّه عن عكرمة قال:
كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوّال، فلما كان الغد من يوم أحد، و ذلك يوم الأحد لستّ عشرة ليلة خلت من شوّال، أذّن مؤذّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الناس بطلب العدوّ، و أذّن مؤذّنه أن لا يخرجنّ معنا إلاّ من حضر يومنا بالأمس. فكلّمه جابر بن عبد اللّه [بن عمرو](1) بن حرام(2) الأنصاري فقال: يا رسول/اللّه، إنّ أبي كان خلّفني/على أخوات لي سبع و قال لي: يا بنيّ، إنه لا ينبغي لي و لا لك أن نترك هؤلاء النسوة بلا رجل فيهن، و لست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على نفسي، فتخلّف على أخواتك. فتخلّفت عليهنّ. فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فخرج معه، و إنّما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مرهبا للعدو، و أنّهم خرجوا في طلبهم فيظنون أنّ بهم قوّة، و أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم.
عن محمد بن إسحاق: قال فحدّثني عبد اللّه بن خارجة(3) بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان بن عفان، أنّ رجلا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا. قال: فشهدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنا و أخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذّن مؤذّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالخروج في طلب العدوّ قلت لأخي و قال لي:
أ تفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و اللّه ما لنا من دابة نركبها، و ما منّا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و كنت أيسر جرحا منه، فكنت إذا غلب عليه حملته عقبة(4) حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتّى انتهينا إلى حمراء الأسد، و هي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثا: الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق عن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم معبد الخزاعي، و كان خزاعة مسلمهم و مشركهم/عيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(5) لا يخفون عليه شيئا كان بها، و معبد يومئذ مشرك، فقال:
يا محمد لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك، و لوددت أنّ اللّه قد أعفاك منهم. ثم خرج من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحمراء الأسد حتّى لقي أبا سفيان بن حرب بالرّوحاء و من معه، و قد أجمعوا الرّجعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قالوا:
أصبنا جدّ(6) أصحابه و قادتهم و أشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، لنكرّنّ على بقيّتهم فلنفرغنّ منهم! فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قطّ يتحرّقون عليكم تحرّقا، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، و ندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم، شيء
ص: 135
لم أر مثله قطّ. قال: ويلك ما تقول! قال: و اللّه ما أراك ترتحل حتّى ترى نواصي الخيل. قال: فو اللّه لقد أجمعنا الكرة لنستأصل شأفتهم(1). قال: فإنّي أنهاك عن ذلك، فو اللّه لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر.
قال: و ما ذا قلت؟ قال قلت:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي *** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل(2)
فظلت عدّوا أظنّ الأرض مائلة *** لمّا سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل بن حرب من لقائكم *** إذا تغطمطت البطحاء بالجيل(3)
/إنّي نذير لأهل السّيل ضاحية *** لكلّ ذي إربة منهم و معقول(4)
من جيش أحمد لا وخش تنابلة *** و ليس يوصف ما أنذرت بالقيل(5)
/قال: فثنى ذلك أبا سفيان و من معه، و مرّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة.
قال: فلم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عنّي محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، و أحمّل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أن قد أجمعنا السّير إليه و إلى أصحابه، لنستأصل شأفتهم. فمرّ الركب برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه: «حسبنا اللّه و نعم الوكيل».
أ من ريحانة الداعي السّميع *** يؤرّقني و أصحابي هجوع
براني حبّ من لا أستطيع *** و من هو للذي أهوى منوع
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** و جاوزه إلى ما تستطيع
الشعر لعمرو بن معديكرب الزبيدي، و الغناء للهذلي، ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، من رواية إسحاق. و فيه ثقيل أوّل على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة. و فيه لابن سريج رمل بالوسطى من رواية حمّاد عن أبيه.
ص: 136
هو عمرو بن معديكرب بن عبد اللّه بن عمرو بن عصم بن عمرو بن زبيد، و هو منبّه.
هكذا ذكر محمد بن سلاّم فيما أخبرنا به أبو خليفة عنه.
و ذكر عمر بن شبّة عن أبي عبيدة أنه عمرو بن معديكرب بن ربيعة بن عبد اللّه بن عمرو بن عصم بن زبيد بن منبّه بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبّه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
و يكنى أبا ثور، و أمّه و أم أخيه عبد اللّه امرأة من جرم فيما ذكر، و هي معدودة من المنجبات.
أخبرنا محمد بن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: عمرو بن معديكرب فارس اليمن، و هو مقدّم على زيد الخيل في الشدّة و البأس.
و روى علي بن محمد المدائني عن زيد بن قحيف الكلابيّ قال: سمعت أشياخنا يزعمون أنّ عمرو بن معديكرب كان يقال له «مائق بني زبيد»، فبلغهم أنّ خثعم تريدهم، فتأهّبوا لهم، و جمع معديكرب بني زبيد، فدخل عمرو على أخته فقال: أشبعيني إنّي غدا لكتيبة(1). قال: فجاء معديكرب فأخبرته ابنته فقال: هذا المائق يقول ذاك؟ قالت: نعم. قال: فسليه ما يشبعه. فسألته فقال: فرق من ذرة، و عنز رباعية. قال: و كان الفرق يومئذ ثلاثة أصوع(2). فصنع له ذلك.
و ذبح العنز و هيّأ له الطعام. قال: فجلس عليه فسلته(3) جميعا. و أتتهم خثعم الصباح فلقوهم، و جاء عمرو فرمى بنفسه. ثم رفع رأسه فإذا لواء أبيه قائم، فوضع رأسه فإذا لواء أبيه قد زال، فقام كأنّه سرحة محرقة، فتلقّى أباه و قد انهزموا فقال: انزل عنها، فاليوم ظلم(4). فقال له: إليك يا مائق! فقال له بنو زبيد: خلّه أيها الرجل و ما
ص: 137
يريد، فإن قتل كفيت مئونته، و إن ظهر فهو لك. فألقى إليه سلاحه فركب، ثم رمى خثعم بنفسه حتى خرج من بين أظهرهم، ثم كرّ عليهم و فعل ذلك مرارا، و حملت عليهم بنو زبيد فانهزمت خثعم و قهروا، فقيل له يومئذ: فارس زبيد.
قال أبو عمرو الشيباني: كان من حديث عمرو بن معديكرب بن ربيعة بن عبد اللّه بن زبيد بن منبه [بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبّه](1) بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك - و هو مذحج - بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب(2) بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، أنّه قال لقيس بن مكشوح المراديّ، و هو ابن أخت عمرو، حين انتهى إليهم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: يا قيس، إنّك سيّد قومك، و قد ذكر لنا أنّ رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز، يقال له نبيّ، فانطلق بنا حتّى نعلم علمه، و بادر [فروة](3) لا يغلبك على الأمر. فأبى قيس ذلك و سفّه رأيه و عصاه، فركب عمرو متوجّها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: خالفتني يا قيس! و قال عمرو في ذلك:
أمرتك يوم ذي صنعا *** ء أمرا بيّنا رشده(4)
/أمرتك باتّقاء اللّ *** ه تأتيه و تتّعده(5)
فكنت كذي الحميّر غ *** رّه من أيره وتده(6)
قال أبو عبيدة: حدّثنا غير واحد من مذحج قالوا: قدم علينا وفد مذحج، مع فروة بن مسيك المراديّ، على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فأسلموا و بعث فروة صدقات من أسلم منهم و قال له: ادع الناس و تألّفهم، فإذا وجدت الغفلة فاهتبلها و اغز.
قال أبو عمرو الشيباني: و إنّما رحل فروة مفارقا لملوك كندة مباعدا لهم، إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قد كانت قبل الإسلام بين مراد و همدان وقعة أصابت فيها همدان من مراد حتّى أثخنوهم، في يوم يقال له يوم الرّزم(7)، و كان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك بن حريم(8) الشاعر الهمداني بن مسروق بن الأجدع، ففضحهم يومئذ، و في ذلك يقول فروة بن مسيك المرادي:
ص: 138
فإن نغلب فغلاّبون قدما *** و إن نهزم فغير مهزّمينا
فلما توجّه فروة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنشأ يقول:
لمّا رأيت ملوك كندة أعرضت *** كالرّجل خان الرجل عرق نساها
يمّمت راحلتي أمام محمد(1) *** أرجو فواضلها و حسن ثراها(2)
/فلما انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له فيما بلغنا: هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرزم(3)؟ قال: يا رسول اللّه، من ذا الذي يصيب قومه مثل الذي أصاب قومي و لا يسوؤه. فقال له: أما إنّ ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلاّ خيرا! و استعمله على مراد و زبيد و مذحج كلّها.
قال أبو عبيدة: فلم يلبث عمرو أن ارتدّ عن الإسلام، فقال حين ارتد:
وجدنا ملك فروة شر ملك *** حمار ساف منخره بقذر(4)
و إنّك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غدر و ختر
قال أبو عبيدة: فلما ارتدّ عمرو مع من ارتدّ عن الإسلام من مذحج، استجاش فروة النبيّ/صلّى اللّه عليه و سلّم، فوجّه إليهم خالد بن سعيد بن العاص و خالد بن الوليد، و قال لهما: إذا اجتمعتم فعليّ بن أبي طالب أميركم و هو على الناس.
و وجّه عليا عليه السلام فاجتمعوا بكسر(5) من أرض اليمن، فاقتتلوا و قتل بعضهم و نجا بعض، فلم يزل جعفر و زبيد و أود بنو سعد العشيرة بعدها قليلة.
و في هذا الوجه وقعت الصمصامة إلى آل سعيد، و كان سبب وقوعها إليهم أنّ ريحانة بنت معديكرب سبيت يومئذ، ففداها خالد، و أثابه عمرو الصمصامة(6)، فصار إلى أخيه سعيد، فوجد سعيد جريحا يوم عثمان بن عفان رضي اللّه عنه حين حصر و قد ذهب السيف و الغمد، ثم وجد الغمد، فلما قام معاوية جاءه إعرابيّ بالسيف بغير غمد، و سعيد/حاصر، فقال سعيد: هذا سيفي! فجحد الأعرابيّ مقالته، فقال سعيد: الدليل على أنّه سيفي أن تبعث إلى غمده فتغمده فيكون كفافه. فبعث معاوية إلى الغمد فأتى به من منزل سعيد فإذا هو عليه، فأقرّ الأعرابيّ أنّه أصابه يوم الدار، فأخذه سعيد منه و أثابه، فلم يزل عنده حتّى أصعد المهديّ من البصرة، فلما كان بواسط بعث
ص: 139
إلى سعيد فيه، فقال: إنّه للسبيل. فقال: خمسون سيفا قاطعا أغنى من سيف واحد. فأعطاهم خمسين ألف درهم و أخذه.
و ذكر ابن النطّاح أنّ المدائني حكى عن أبي اليقظان عن جويرية بن أسماء قال: أقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من غزاة تبوك يريد المدينة، فأدركه عمرو بن معديكرب الزّبيدي في رجال من زبيد، فتقدم عمرو ليلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأمسك حتّى أوذن به، فلما تقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يسير قال: حيّاك اللّه إلهك، أبيت اللعن! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّ لعنة اللّه و ملائكته و الناس أجمعين على الذين لا يؤمنون باللّه و لا باليوم الآخر. فآمن باللّه يؤمنك يوم الفزع الأكبر». فقال عمرو بن معديكرب: و ما الفزع الأكبر؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّه فزع ليس كما تحسب و تظنّ، إنّه يصاح بالناس صيحة لا يبقى حيّ إلاّ مات، إلا ما شاء اللّه من ذلك، ثم يصاح بالناس صيحة لا يبقى ميّت إلا نشر، ثم تلجّ تلك الأرض بدويّ تنهّد منه الأرض، و تخرّ منه الجبال، و تنشق السماء انشقاق القبطية الجديد(1) ما شاء اللّه في ذلك، ثم تبرز النار فينظر إليها حمراء مظلمة قد صار لها لسان في السماء، ترمي بمثل رءوس الجبال من شرر النار، فلا يبقى ذو روح إلاّ انخلع قلبه، و ذكر ذنبه. أين أنت يا عمرو» قال: إنّي أسمع أمرا عظيما! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا عمرو أسلم/تسلم». فأسلم و بايع لقومه على الإسلام، و ذلك منصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من غزاة تبوك، و كانت في رجب من سنة تسع(2).
و قال أبو هارون السّكسكي البصريّ: حدّثني أبو عمرو المدينيّ أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان إذا نظر إلى عمرو قال: «الحمد للّه الذي خلقنا و خلق عمرا!» تعجّبا من عظم خلقه.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدّثنا عمر بن شبّة عن خالد بن خداش عن أبي نميلة قال:
أخبرني رميح عن أبيه قال:
رأيت عمرو بن معديكرب في خلافة معاوية شيخا أعظم ما يكون من الرجال، أجشّ الصوت، إذا التفت التفت بجميع جسده. و هذا خطأ من/الرواية.
و روى أيضا من وجه ليس بالموثوق به، أنّه أدرك خلافة عثمان رضي اللّه عنه، روى ذلك ابن النطّاح عن مروان بن ضرار عن أبي إياس البصريّ، عن أبيه، عن جويرية الهذليّ في حديث طويل قال:
رأيت عمرو بن معديكرب و أنا في مسجد الكوفة في خلافة عثمان، حين وجّهه إلى الريّ، كأنه بعير مهنوء.
/و قال ابن الكلبي: حدّثني أسعر، عن عمرو بن جرير الجعفي قال: سمعت خالد بن قطن يقول:
خرج عمرو بن معديكرب في خلافة عثمان رضي اللّه عنه إلى الريّ و دستبي(1)، فضربه الفالج في طريقه فمات بروذة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال: أخبرني خالد بن خداش قال حدّثنا حمّاد بن زيد عن مجالد عن الشعبي:
أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فرض لعمرو بن معديكرب في(2) ألفين، فقال له: يا أمير المؤمنين ألف هاهنا و أومأ إلى شقّ بطنه الأيمن، و ألف هاهنا و أومأ إلى شقّ بطنه الأيسر - فما يكون هاهنا؟ و أومأ إلى وسط بطنه.
فضحك عمر رضوان اللّه عليه و زاده خمسمائة.
قال علي بن محمد(3): قال أبو اليقظان: قال عمرو بن معديكرب: لو سرت بظعينة وحدي على مياه معدّ كلّها ما خفت أن أغلب عليها، ما لم يلقني حرّاها أو عبداها(4). فأما الحرّان فعامر بن الطفيل و عتيبة بن الحارث بن شهاب، و أما العبدان فأسود بني عبس، يعني عنترة و السّليك بن السّلكة، و كلّهم قد لقيت. فأما عامر بن الطّفيل فسريع الطّعن على الصوت، و أما عتيبة فأوّل الخيل إذا غارت، و آخرها إذا آبت. و أما عنترة فقليل الكبوة، شديد الكلب(5). و أما السّليك فبعيد/الغارة، كالليث الضاري. قالوا: فما تقول في العباس بن مرداس؟ قال: أقول فيه ما قال فيّ:
إذا مات عمرو قلت للخيل أوطئوا *** زبيدا فقد أودى بنجدتها عمرو
و قام مغضبا و علم أنّهم أرادوا توبيخه بالعباس.
قال علي: و قال أبو اليقظان: أحسب في اللفظ غلطا و أنه إنّما قال: «هجينا مضر»؛ لأنّ عنترة استرقّ، و العباس لم يسترقّ قطّ.
ص: 141
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا أحمد بن جناب(1) عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل(2)، عن قيس(3): أن عمر رضي اللّه عنه كتب إلى سعد بن أبي وقّاص:
إنّي قد أمددتك بألفي رجل عمرو بن معديكرب، و طليحة بن خويلد - و هو طليحة الأسدي - فشاورهما في الحرب و لا تولّهما شيئا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا أحمد بن جناب قال حدّثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل، عن قيس قال:
شهدت القادسية و كان سعد على الناس، فجاء رستم فجعل يمرّ بنا و عمرو بن معديكرب الزبيدي يمرّ على الصفوف يحضّ الناس و يقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أسدا أغنى شأنه(4)، فإنّما الفارسيّ تيس بعد أن يلقي نيزكه(5).
/قال: و كان مع رستم أسوار لا تسقط له نشّابة. فقال له: يا أبا ثور، اتّق ذاك! فإنا لنقول له ذلك إذ رماه رمية فأصاب فرسه، /و حمل عليه عمرو فاعتنقه ثم ذبحه، و سلبه سواري ذهب كانا عليه، و قباء ديباج.
قال أبو زيد(6): فذكر أبو عبيدة أنّ عمرا حمل يومئذ على رجل فقتله ثم صاح: يا معشر بني زبيد، دونكم فإنّ القوم يموتون!
و قال علي بن محمد المدائني: و أخبرنا محمد بن الفضل و عبد ربّه بن نافع، عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال:
حضر عمرو الناس و هم يقاتلون، فرماه رجل من العجم بنشّابة فوقعت في كتفه، و كانت عليه درع حصينة فلم تنفذ، و حمل على العلج فعانقه فسقطا إلى الأرض، فقتله عمرو و سلبه، و رجع بسلبه و هو يقول:
أنا أبو ثور و سيفي ذو النّون *** أضربهم ضرب غلام مجنون
يا لزبيد إنّهم يموتون
ص: 142
قال أبو عبيدة: و قال في ذلك عمرو بن معديكرب:
ألمم بسلمى قبل أن تظعنا *** إنّ لنا من حبّها ديدنا
قد علمت سلمى و جاراتها *** ما قطّر الفارس إلا أنا
شككت بالرمح حيازيمه *** و الخيل تعدو زيما بيننا(1)
غنى فيه الغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر. و فيه رمل بالبنصر يقال إنه لمعبد. و يقال إنه من منحول يحيى المكي.
/قال أبو عبيدة في رواية أبي زيد عمر بن شبة:
شهد عمرو بن معديكرب القادسية و هو ابن مائة و ستّ سنين. و قال بعضهم: بل ابن مائة و عشر. و قال: و لما قتل العلج عبر نهر القادسية هو و قيس بن مكشوح المرادي، و مالك بن الحارث الأشتر.
قال: فحدّثني يونس أنّ عمرو بن معديكرب كان آخرهم، و كانت فرسه ضعيفة فطلب غيرها، فأتي بفرس فأخذ بعكوة ذنبه(2) و أخلد به إلى الأرض، فأقعى الفرس فردّه، و أتى بآخر ففعل به مثل ذلك فتحلحل و لم يقع فقال: هذا على كلّ حال أقوى من تلك، و قال لأصحابه: إنّي حامل و عابر الجسر، فإن أسرعتم بمقدار جزر الجزور وجدتموني و سيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي، و قد عقر بي القوم(3) و أنا قائم بينهم و قد قتلت و جرّدت. و إن أبطأتم وجدتموني قتيلا بينهم و قد قتلت و جرّدت. ثم انغمس فحمل في القوم فقال بعضهم: يا بني زبيد، تدعون صاحبكم و اللّه ما نرى أن تدركوه حيا. فحملوا فانتهوا إليه و قد صرع عن فرسه، و قد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها، و إنّ الفارس ليضرب الفرس فما تقدر أن تتحرّك من يده. فلما غشيناه رمى الأعجميّ بنفسه و خلّى فرسه، فركبه عمرو و قال: أنا أبو ثور، كدتم و اللّه تفقدونني! قالوا: أين فرسك؟ قال رمي بنشّابة فشبّ فصرعني و عار(4).
و روى هذا الخبر محمد بن عمر الواقدي عن ابن أبي سبرة(5) عن أبي عيسى(6) الخياط. و رواه عليّ بن محمد أيضا عن مرّة عن أبي إسماعيل الهمذاني عن طلحة بن مصرّف. فذكرا مثل هذا.
قال الواقدي: و حدّثني أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح قال:
قال عمرو بن معديكرب يوم القادسية: ألزموا خراطيم الفيلة السّيوف، فإنه ليس لها مقتل إلاّ خراطيمها. ثم
ص: 143
شدّ على/رستم و هو على الفيل فضرب فيله فجذم عرقوبيه فسقط، و حمل رستم على فرس و سقط من تحته خرج فيه أربعون ألف دينار، فحازه المسلمون، و سقط رستم بعد ذلك عن فرسه(1) فقتله.
قال علي بن محمد المدائني: حدّثني علي بن مجاهد عن ابن إسحاق قال:
لمّا ضرب عمرو الفيل و سقط رستم، سقط على رستم خرج كان على ظهر الفيل فيه أربعون ألف دينار، فمات رستم من ذلك، و انهزم المشركون.
و قال الواقدي: حدّثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة عن أبي حبيبة مولى آل الزبير قال: حدّثنا نيار بن مكرم الأسلمي(2)، قال:
شهدت القادسية فرأيت يوما اشتدّ فيه القتال بيننا و بين الفرس، و رأيت رجلا يفعل يومئذ بالعدوّ أفاعيل، يقاتل فارسا ثم يقتحم عن فرسه و يربط مقوده في حقوه فيقاتل، فقلت: من هذا جزاه اللّه خيرا؟ قالوا: هذا عمرو بن معديكرب.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبيّ، عن خالد بن سعيد، عن أبي محمد المرهبيّ قال:
كان شيخ يجالس عبد الملك بن عمير، فسمعته يحدّث قال:
/قدم عيينة بن حصن الكوفة فأقام بها أياما ثم قال: و اللّه ما لي بأبي ثور عهد منذ قدمنا هذا الغائط - يعني عمرو بن معد يكرب - أسرج لي يا غلام. فأسرج له فرسا أنثى من خيله، فلما قرّبها إليه قال له: ويحك أ رأيتني ركبت أنثى في الجاهلية فأركبها في الإسلام؟ فأسرج له حصانا فركبه، و أقبل إلى محلّة بني زبيد فسأل عن محلّة عمرو فأرشد إليها، فوقف ببابه و نادى: أي أبا ثور، اخرج إلينا. فخرج إليه مؤتزرا كأنما كسر و جبر، فقال: انعم صباحا أبا مالك. فقال: أ و ليس قد أبدلنا اللّه تعالى بهذا: السّلام عليكم؟ قال: دعنا مما لا نعرف، انزل فإنّ عندي كبشا ساحّا(3). فنزل فعمد إلى الكبش فذبحه ثم كشط عنه و عضّاه(4)، و ألقاه في قدر جماع(5)، و طبخه حتّى إذا أدرك جاء بجفنة عظيمة فثرد فيها فأكفأ القدر عليها، فقعدا فأكلاه، ثم قال له: أيّ الشراب أحبّ إليك: آللبن أم ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟ قال: أ و ليس قد حرّمها اللّه جل و عزّ علينا في الإسلام؟ قال: أنت أكبر سنا أم أنا؟ قال: أنت. قال: فأنت أقدم إسلاما أما أنا؟ قال: أنت. قال: فإنّي قد قرأت ما بين دفّتي المصحف فو اللّه ما وجدت
ص: 144
لها تحريما إلا أنّه قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقلنا: لا. فسكت و سكتنا! فقال له: أنت أكبر سنّا و أقدم إسلاما.
فجاءا فجلسا يتناشدان و يشربان، و يذكران أيام الجاهلية، حتى مسيا، فلما أراد عيينة الانصراف. قال عمرو: لئن انصرف أبو مالك بغير حباء إنّه لوصمة عليّ. فأمر بناقة له أرحبية(1) كأنّها جبيرة لجين(2)، فارتحلها و حمله عليها، ثم قال: يا غلام هات المزود. /فجاء بمزود فيه أربعة ألاف درهم، فوضعها بين يديه، فقال: أمّا المال فو اللّه لا قبلته. قال: و اللّه إنّه لمن حباء عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. فلم يقبله عيينة و انصرف و هو يقول:
جزيت أبا ثور جزاء كرامة *** فنعم الفتى المزدار و المتضيّف
قرينت فأكرمت القرى و أفدتنا *** نخيلة علم لم يكن قطّ يعرف(3)
و قلت: حلال أن تدير مدامة *** كلون انعقاق البرق و الليل مسدف
/و قدّمت فيها حجّة عربية *** تردّ إلى الإنصاف من ليس ينصف
و أنت لنا و اللّه ذي العرش قدوة *** إذا صدّنا عن شربها المتكلّف
نقول: أبو ثور أحلّ حرامها *** و قول أبي ثور أسدّ و أعرف(4)
و قال علي بن محمد: حدّثني عبد اللّه بن محمد الثقفي عن أبيه، و الهذليّ عن الشّعبي قال:
جاءت زيادة من عند عمر بعد القادسية فقال عمرو بن معد يكرب لطليحة: أما ترى أنّ هذه الزعانف تزاد و لا نزاد، انطلق بنا إلى هذا الرجل حتّى(5) نكلّمه. فقال: هيهات، كلاّ و اللّه لا ألقاه في هذا أبدا(6)، فلقد لقيني في بعض فجاج مكّة فقال: يا طليحة، أ قتلت عكاشة(7)؟! فتوعّدني وعيدا ظننت أنّه قاتلي، و لا آمنه. /قال عمرو:
لكنّي ألقاه. قال: أنت و ذاك. فخرج إلى المدينة فقدم على عمر رضي اللّه عنه و هو يغدّي الناس و قد جفّن لعشرة عشرة، فأقعده عمر مع عشرة فأكلوا و نهضوا، و لم يقم عمرو، فأقعد معه تكملة عشرة [فأكلوا و نهضوا و لم يقم عمرو، فأقعده مع عشرة](8) حتّى أكل مع ثلاثين ثم قال، فقال: يا أمير المؤمنين إنّه كانت لي مآكل في الجاهلية منعني منها الإسلام، و قد صررت في بطن صرّتين و تركت بينهما هواء فسدّه. قال: عليك حجارة من حجارة الحرّة فسدّه به يا عمرو، إنّه بلغني أنّك تقول إنّ لي سيفا يقال له الصمصامة، و عندي سيف أسمّيه المصمّم، و إني إن وضعته بين أذنيك لم أرفعه حتّى يخالط أضراسك.
ص: 145
و ذكر ابن الكلبي(1) و محمد بن كناسة أنّ جبيلة بن سويد بن ربيعة بن رباب، لقي عمرو بن معد يكرب و هو يسوق ظعنا له فقال عمرو لأصحابه: قفوا حتّى آتيكم بهذه الظعن. فقرّب نحوه حتى إذا دنا منه قال: خلّ سبيل الظّعن. قال: فلم إذا ولدتني؟ ثم شدّ على عمرو فطعنه فأذراه عن فرسه و أخذ فرسه، فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما وراءك؟ قال: كأنّي رأيت منيّتي في سنانه.
و بنو كنانة يذكرون أنّ ربيعة بن مكدّم الفراسيّ، طعن عمرو بن معد يكرب فأذراه عن فرسه و أخذ فرسه. و أنّه لقيه مرّة أخرى فضربه فوقعت الضربة في قربوس السّرج فقطعه حتّى عض السيف بكاثبة(2) الفرس، فسالمه عمرو و انصرف.
قال المدائني: حدّثني مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند قال:
حمل عمرو بن معد يكرب حمالة(3)، فأتى مجاشع بن مسعود يسأله فيها.
/و قال خالد بن خداش: حدّثني أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن قال:
بلغني أنّ عمرا أتى مجاشع بن مسعود فقال له: أسألك حملان(4) مثلي، و سلاح مثلي. قال: إن شئت أعطيتك ذاك من مالي. ثم أعطاه حكمه. و كان الأحنف أمر له بعشرين ألف درهم، و فرس جواد عتيق، و سيف صارم، و جارية نفيسة، فمرّ ببني حنظلة فقالوا له: يا أبا ثور، كيف رأيت صاحبك؟ فقال: للّه بنو مجاشع ما أشدّ في الحرب لقاءها، و أجزل في اللّزبات عطاءها(5)، و أحسن في المكرمات ثناءها، لقد قاتلتها فما أقللتها(6)، و سألتها فما أبخلتها، و هاجيتها فما أفحمتها!!.
و قال أبو المنهال عيينة بن المنهال: سمعت أبي يحدث قال:
جاء رجل و عمرو بن معد يكرب واقف بالكناسة(7) على فرس له، فقال: لأنظرن ما بقي من قوّة أبي ثور.
فأدخل يده بين ساقيه و بين السّرج، و فطن عمرو فضمّها عليه و حرك فرسه، فجعل الرجل يعدو مع الفرس لا يقدر أن
ص: 146
ينزع يده، حتّى إذا بلغ منه قال: يا ابن أخي، مالك؟ /قال: يدي تحت ساقك! فخلّى عنه، و قال: يا ابن أخي، إنّ في عمك لبقيّة!!.
و كان عمرو مع ما ذكرنا من محلّه مشهورا بالكذب:
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن يزيد النحوي المبرّد و لم يتجاوزه. و ذكر ابن النطاح هذا الخبر بعينه عن محمد بن سلام، و خبر المبرد أتمّ قال:
/كانت الأشراف بالكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار، و يتحدثون و يتذاكرون أيام الناس، فوقف عمرو إلى جانب خالد بن الصّقعب النهديّ، فأقبل عليه يحدّثه و يقول: أغرت على بني نهد فخرجوا إليّ مسترعفين(1) بخالد بن الصّقعب يقدمهم، فطعنته طعنة فوقع، و ضربته بالصمصامة حتّى فاضت نفسه(2)! فقال له الرجل: يا أبا ثور إنّ مقتولك الذي تحدّثه. فقال: اللهم غفرا إنّما أنت محدّث(3) فاسمع، إنّما نتحدث بمثل هذا و أشباهه لنرهب هذه المعدّيّة.
قال محمد بن سلام: و قال يونس: أبت العرب إلاّ أنّ عمرا كان يكذب. قال: و قلت لخلف الأحمر و كان مولى الأشعريين، و كان يتعصّب لليمانية، أ كان عمرو يكذب؟ قال: كان يكذب باللّسان، و يصدق بالفعال.
أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة(4):
أنّ سعدا كتب إلى عمر رضي اللّه عنه يثني على عمرو بن معد يكرب، فسأله عمر عن سعد فقال: «هو لنا كالأب أعرابيّ في نمرته(5)، أسد في تامورته(6)، يقسم بالسويّة، و يعدل في القضية، و ينفر في السريّة، و ينقل إلينا حقّنا كما تنقل الذرة» فقال عمر رضوان اللّه عليه: لشدّ ما تقارضتما الثناء(7).
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الحارث عن ابن سعد عن الواقدي عن بكير بن مسمار(8) عن زياد مولى سعد قال:
/سمعت سعدا يقول و بلغه أنّ عمرو بن معد يكرب وقع في الخمر، و أنّه قد دلّه. فقال: لقد كان له موطن
ص: 147
صالح يوم القادسية، عظيم الغناء، شديد النّكاية للعدوّ. فقيل له: فقيس بن مكشوح؟ فقال: هذا أبذل لنفسه من قيس، و إنّ قيسا لشجاع.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمّر بن شبة و أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة.
و نسخت هذا الخبر من رواية ابن الكلبي خاصة: حدثني أسعر بن عمرو بن جرير، عن خالد بن قطن قال: حدّثني من شهد موت عمرو بن معد يكرب، و الرواية قريبة، و حكايتا عمر بن شبّة و ابن قتيبة عن أنفسهما و لم يتجاوزاها، قالا:
كانت مغازي العرب إذ ذاك الريّ و دستبى(1)، فخرج عمرو مع شباب من مذحج حتّى نزل الخان الذي دون روذة، فتغدّى القوم ثم ناموا، و قام كلّ رجل منهم لقضاء حاجته، و كان عمرو إذا أراد الحاجة لم يجترئ أحد أن يدعوه و إن أبطأ، فقام الناس للرحيل و ترحّلوا إلاّ من كان في الخان الذي فيه عمرو، فلما أبطأ صحنا به: يا أبا ثور.
فلم يجبنا و سمعنا علزا(2) شديدا، و مراسا في الموضع الذي دخله، و قصدناه فإذا به محمرة عيناه، مائلا شدقه مفلوجا، فحملناه على فرس و أمرنا غلاما شديد الذّراع فارتدفه ليعدل ميله، فمات بروذة و دفن على قارعة الطريق.
فقالت امرأته الجعفية ترثيه:
/لقد غادر الركب الذين تحمّلوا *** بروذة شخصا لا ضعيفا و لا غمرا
فقل لزبيد بل لمذحج كلّها *** فقدتم أبا ثور سنانكم عمرا
/فإن تجزعوا لا يغن ذلك عنكم *** و لكن سلوا الرحمن يعقبكم صبرا
و الأبيات العينية التي فيها الغناء، و بها افتتح ذكر عمرو(3)، يقولها في أخته ريحانة بنت معد يكرب لمّا سباها الصّمة بن بكر، و كان أغار على بني زبيد في قيس فاستاق أموالهم و سبى ريحانة، و انهزمت زبيد بين يديه، و تبعه عمرو و أخوه عبد اللّه ابنا معد يكرب، ثم رجع عبد اللّه و اتّبعه عمرو.
فأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام أنّ عمرا اتّبعه يناشده أن يخلّي عنها، فلم يفعل، فلما يئس منها ولّى و هي تناديه بأعلى صوتها: يا عمرو! فلم يقدر على انتزاعها، و قال:
أ من ريحانة الدّاعي السّميع *** يؤرّقني و أصحابي هجوع
سباها الصّمّة الجشميّ غصبا *** كأنّ بياض غرّتها صديع(4)
ص: 148
و حالت دونها فرسان قيس *** تكشّف عن سواعدها الدّروع
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** و جاوزه إلى ما تستطيع
و زاد الناس في هذا الشعر و غنّى فيه:
و كيف أحبّ من لا أستطيع *** و من هو للذي أهوى منوع
و من قد لامني فيه صديقي *** و أهلي ثمّ كلاّ لا أطيع
و من لو أظهر البغضاء نحوي *** أتاني قابض الموت السريع(1)
فدى لهم معا عمّي و خالي *** و شرخ شبابهم إن لم يطيعوا
و قد أخبرني الحسين(2) بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي:
/و أما قصّة ريحانة فإن عمرو بن معد يكرب تزوّج امرأة من مراد، و ذهب مغيرا قبل أن يدخل بها، فلما قدم أخبر أنّه قد ظهر بها وضح - و هو داء تحذره العرب - فطلّقها و تزوّجها رجل آخر من بني مازن بن ربيعة، و بلغ ذلك عمرا و أن الذي قيل فيها باطل، فأخذ يشبّ بها، فقال قصيدته و هي طويلة:
أ من ريحانة الداعي السميع *** يؤرّقني و أصحابي هجوع
و كان عبد اللّه بن معد يكرب، أخو عمرو، رئيس بني زبيد، فجلس مع بني مازن في شرب منهم(3). فتغنّى عنده حبشيّ عبد للمخزّم، أحد بني مازن، في امرأة من بني زبيد، فلطمه عبد اللّه و قال له: أ ما كفاك أن تشرب معنا حتى تشبب بالنساء؟ فنادى الحبشيّ: يا آل بني مازن! فقاموا إلى عبد اللّه فقتلوه، و كان الحبشيّ عبدا للمخزم، فرئّس عمرو مكان أخيه، و كان عمرو غزا هو و أبيّ المراديّ فأصابوا غنائم، فادّعى أبيّ أنه قد كان مساندا، فأبى عمرو أن يعطيه شيئا، و كره أبيّ أن يكون بينهما شرّ، لحداثة قتل أبيه، فأمسك عنه. و بلغ عمرا أنّه توعّده، فقال عمرو في ذلك قصيدة له أوّلها:
أعاذل شكّتي بدني و رمحي *** و كلّ مقلّص سلس القياد(4)
أعاذل إنّما أفنى شبابي *** و أقرح عاتقي ثقل النّجاد
ص: 149
تمنّاني ليلقاني أبيّ *** وددت و أينما منّي ودادي(1)
/و لو لاقيتني و معي سلاحي *** تكشّف شحم قلبك عن سواد
أريد حباءه و يريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد(2)
و تمام هذه الأبيات:
تمنّاني و سابغتي دلاص *** كأنّ قتيرها حدق الجراد(3)
و سيفي كان من عهد ابن صدّ *** تخيّره الفتى من قوم عاد
و رمحي العنبريّ تخال فيه *** سنانا مثل مقباس الزّناد
و علجزة يزلّ اللّبد عنها *** أمرّ سراتها حلق الجياد(4)
إذا ضربت سمعت لها أزيرا *** كوقع القطر في الأدم الجلاد(5)
إذا لوجدت خالك غير نكس *** و لا متعلّما قتل الوحاد(6)
يقلّب للأمور شرنبثات *** بأظفار مغارزها حداد
لابن سريج في الأوّل و الثاني ثقيل بالبنصر، و لابن محرز في السادس و الخامس ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى، و في الرابع و الخامس و السادس لحن للهذلي من رواية يونس.
/و هذا البيت الخامس كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذا نظر إلى ابن ملجم تمثل به.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا حيّان(7) بن بشر قال حدّثنا جرير عن حمزة الزيات قال:
كان عليّ عليه السلام إذا نظر إلى ابن ملجم قال:
أريد حباءه و يريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد
حدّثني العباس بن علي بن العباس، و محمد بن خلف وكيع قالا: حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدّثنا عبد الرزّاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السّلماني قال:
كان عليّ بن أبي طالب إذا أعطى الناس فرأى ابن ملجم قال:
ص: 150
أريد حباءه و يريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد
حدّثني محمد بن الحسن الأشناني قال: حدّثنا علي بن المنذر الطّريفي قال: حدّثنا محمد بن فضيل قال:
حدّثنا فطر بن خليفة(1) عن أبي الطفيل عامر بن واثلة(2)، و الأصبغ بن نباتة قال:
قال علي عليه السلام: ما يحبس أشقاها(3)؟ و الذي نفسي بيده لتخضبنّ هذه من هذا.
/قال أبو الطفيل: و جمع عليّ الناس للبيعة فجاء عبد الرحمن بن ملجم المراديّ، فردّه مرّتين أو ثلاثا ثم بايعه، ثم قال: ما يحبس أشقاها؟ فو الذي نفسي بيده لتخضبنّ هذه من هذا. ثم تمثل بهذين البيتين:
اشدد حيازيمك للموت *** فإنّ الموت يأتيك(4)
و لا تجزع من القتل *** إذا حلّ بواديك
ص: 151
قال: و جاءت بنو مازن إلى عمرو فقالوا: إن أخاك قتله رجل منا سفيه و هو سكران، و نحن يدك و عضدك، فنسألك الرحم و إلاّ أخذت الدية ما أحببت! فهمّ عمرو بذلك. و قال:
إحدى يديّ أصابتني و لم ترد(1)
فبلغ ذلك أختا لعمرو يقال لها كبشة، و كانت ناكحا في بني الحارث بن كعب، /فغضبت، فلما وافى الناس من الموسم قالت شعرا تعيّر عمرا:
أرسل عبد اللّه إذ حان يومه *** إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
و لا تأخذوا منهم إفالا و أبكرا *** و أترك في بيت بصعدة مظلم(2)
ودع عنك عمرا إنّ عمرا مسالم *** و هل بطن عمرو غير شبر لمطعم
فإن أنتم لم تقبلوا و اتّديتم *** فمشّوا بآذان النّعام المصلّم(3)
أ يقتل عبد اللّه سيّد قومه *** بنو مازن أن سبّ راعى المخزّم
فقال عمرو قصيدة له عند ذلك يقول فيها:
ثم أكبّ على بني مازن و هم غارّون(1) فقتلهم، و قال في ذلك شعرا:
خذوا حققا مخطّمة صفايا *** و كيدي يا مخزّم أن أكيدا(2)
قتلتم سادتي و تركتموني *** على أكتافكم عبئا جديدا(3)
[فمن يأبى من الأقوام نصرا *** و يتركنا فإنّا لن نريدا
و أرادت بنو مازن أن تردّ عليهم الدية لما آذنهم بحرب، فأبى عمرو، و كانت بنو مازن من أعداء مذحج، و كان عبد اللّه أخا كبشة لأبيها و أمّها دون عمرو، و كان عمرو قد همّ بالكف عنهم حين قتل من قتل منهم، فركبت كبشة في نساء من قومها و تركت عمرا أخاها و عيّرته فأحمته، فأكبّ عليهم أيضا بالقتل، فلما أكثر فيهم القتل تفرّقوا، فلحقت بنو مازن بصاحبهم بتميم، و لحقت ناشرة بني أسد، و هم رهط الصقعب بن الصحصح، و لحقت فالج بسليم بن منصور. و فالج و ناشرة ابنا أنمار بن مازن بن ربيعة بن منبّه بن صعب بن سعد العشيرة، و أمّهما هند بنت عدس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم. فقال كابية بن حرقوص بن مازن:
/يا ليلتي ما ليلتي بالبلدة *** ردّت عليّ نجومها فارتدت
من كان أسرع في تفرّق فالج *** فلبونه جربت معا و أغدّت
هلاّ كناشرة الذي ضيّعتم *** كالغصن في غلوائه المتنبت](4)
و قال عمرو في ذلك:
تمنّت مازن جهلا خلاطي *** فذاقت مازن طعم الخلاط
أطلت فراطكم عاما فعاما *** و دين المذحجيّ إلى فراط(5)
أطلت فراطكم حتّى إذا ما *** قتلت سراتكم كانت قطاط(6)
غدرتم غدرة و غدرت أخرى *** فما إن بيننا أبدا يعاط(7)
أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي قال المدائني:
حدّثني رجل من قريش قال: كنا عند فلان القرشيّ فجاءه رجل بجارية فغنته:
باللّه يا ظبي بني الحارث *** هل من وفى بالعهد كالناكث
ص: 153
و غنته أيضا بغناء ابن سريج:
يا طول ليلي و بتّ لم أنم *** وسادى الهمّ مبطن سقمي
فأعجبته و استام مولاها، فاشتطّ عليه فأبى شراءها، و أعجبت الجارية بالفتى، فلما امتنع مولاها من البيع إلاّ بشطط قال القرشي: فلا حاجة لنا في جاريتك. فلما قامت الجارية للانصراف رفعت صوتها تغنّي و تقول:
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** و جاوزه إلى ما تستطيع
/قال: فقال الفتى القرشي: أ فأنا لا أستطيع شراءك، و اللّه لأشترينّك بما بلغت.
قالت الجارية: فذاك أردت. قال القرشيّ: إذا لأجبتك. و ابتاعها من ساعته. و اللّه أعلم.
باللّه يا ظبي بني الحارث *** هل من وفى بالعهد كالناكث
لا تخدعنّي بالمنى باطلا *** و أنت بي تلعب كالعابث
عروضه من السريع، الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لابن سريج، رمل بالبنصر، و فيه لسياط خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و فيه لإبراهيم الموصليّ لحن من رواية بدل. و منها:
يا طول ليلى و بتّ لم أنم *** و سادي الهمّ مبطن سقمي
إذ قمت ليلا على البلاط فأب *** صرت ربيبا فليت لم أقم(1)
فقلت عوجي تخبّري خبرا *** و أنت منه كصاحب الحلم
قالت بل اخشى العيون إذ حضرت *** حولى و قلي مباشر الألم
[عروضه من المنسرح(2). و الشعر(3) و] الغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و ذكر محمد بن الفضل الهاشمي قال حدّثنا أبي قال:
كان المأمون قد أطلق لأصحابه الكلام و المناظرة في مجلسه، فناظر بين يديه محمّد بن العباس الصوليّ عليّ بن الهيثم جونقا(4) في الإمامة، فتقلّدها أحدهما و دفعها الآخر، فلجّت المناظرة بينهما إلى أن نبّط محمد
ص: 154
عليا(1) فقال له علي: إنّما تكلّمت بلسان غيرك، و لو كنت في غير هذا المجلس لسمعت أكثر مما قلت! فغضب المأمون و أنكر على محمد ما قاله و ما كان منه من سوء الأدب بحضرته، و نهض عن فرشه و نهض الجلساء فخرجوا، و أراد محمد الانصراف فمنعه علي بن صالح صاحب المصلّى، و هو إذ ذاك يحجب المأمون، و قال: أفعلت ما فعلت بحضرة أمير المؤمنين و نهض على الحال(2) التي رأيت، ثم تنصرف بغير إذن، اجلس حتى نعرف رأيه فيك. و أمر بأن يجلس.
قال: و مكث المأمون ساعة فجلس على سريره، و أمر بالجلساء فردّوا إليه، فدخل إليه عليّ بن صالح فعرّفه ما كان من قول علي بن محمد في الانصراف، و ما كان من منعه إياه، فقال: دعه ينصرف إلى لعنة اللّه. فانصرف، و قال المأمون لجلسائه: أ تدرون لم دخلت إلى النساء في هذا الوقت؟ قالوا: لا. قال: إنّه لمّا كان من أمر هذا الجاهل ما كان لم آمن فلتات الغضب، و له بنا حرمة، فدخلت إلى النساء فعابثتهنّ(3) حتّى سكن غضبي.
قال: و ما مضى محمد عن وجهه إلاّ إلى طاهر، فسأله الركوب إلى المأمون، و أن يستوهبه جرمه، فقال طاهر: ليس هذا من أوقاتي، و قد كتب إليّ خليفتي/في الدار أنّه قد دعا بالجلساء. فقال: أكره أن أبيت ليلة و أمير المؤمنين عليّ ساخط. فلم يزل به حتّى ركب طاهر معه، فأذن له فدخل و مجير الخادم واقف على رأس المأمون، فلما بصر المأمون بطاهر أخذ منديلا فمسح به عينيه مرّتين أو ثلاثا، إلى أن وصل إليه و حرّك شفتيه بشيء أنكره طاهر، ثم دنا فسلّم، فردّ السلام و أمره بالجلوس(4) فجلس في موضعه، فسأله عن مجيئه في غير وقته، فعرّفه الخبر و استوهبه ذنب محمد، فوهبه له و انصرف؛ و عرّف محمدا ذلك. ثم دعا بهارون بن خنعويه، و كان شيخا خراسانيّا/داهية ثقة عنده، فذكر له فعل المأمون و قال له: الق كاتب مجير و الطف له، و اضمن له عشرة آلاف درهم على تعريفك ما قاله المأمون ففعل ذلك و لطف له، فعرّفه أنّه لما رأى طاهرا دمعت عيناه و ترحّم على محمد الأمين، و مسح دمعه بالمنديل، فلما عرف ذلك طاهر ركب من وقته إلى أحمد بن أبي خالد الأحوال - و كان طاهر لا يركب إلى أحد من أصحاب المأمون، و كلّهم يركب إليه - فقال له: جئتك لتولّيني خراسان و تحتال لي فيها. و كان أحمد يتولّى فضّ الخرائط بين يدي المأمون، و غسّان بن عبّاد يتولّى إذ ذاك خراسان، فقال له أحمد: هلاّ أقمت بمنزلك و بعثت إليّ حتى أصير إليك و لا يشهر الخبر فيما تريده بما ليس من عادتك، لأنّ المأمون يعلم أنّك لا تركب إلى أحد من أصحابه، و سيبلغه هذا فينكره، فانصرف و أغض(5) عن هذا الأمر و أمهلني مدّة حتّى أحتال لك. و لبث مدّة، و زوّر ابن أبي خالد كتابا عن غسّان بن عباد إلى المأمون، يذكر فيه أنّه عليل و أنه لا يأمن على نفسه، و يسأل أن يستخلف غيره على خراسان، و جعله في خريطة و فضّها بين يدي المأمون، /في خرائط وردت عليه، فلما قرأ
ص: 155
على المأمون الكتاب اغتمّ به و قال له: ما ترى؟ فقال: لعل هذه علّة عارضة تزول، و سيرد بعد هذا غيره فيرى حينئذ أمير المؤمنين رأيه. ثم أمسك أياما و كتب كتابا آخر و دسّه في الخرائط، يذكر فيه أنه تناهى في العلّة إلى ما لا يرجو معه نفسه، فلما قرأه المأمون قلق و قال: يا أحمد، إنه لا مدفع لأمر خراسان فما ترى؟ فقال: هذا رأي إن أشرت فيه بما أرى فلم أصب لم أستقبله، و أمير المؤمنين أعلم بخدمه و من يصلح بخراسان منهم. قال: فجعل المأمون يسمّي رجالا و يطعن أحمد على واحد واحد منهم، إلى أن قال: فما ترى في الأعور؟ قال: إن كان عند أحد قيام بهذا الأمر و نهوض فيه فعنده. فدعا به المأمون فعقد له على خراسان، و أمره أن يعسكر، فعسكر بباب خراسان. ثم تعقّب الرأي فعلم أنّه قد أخطأ، فتوقّف عن إمضائه و خشي أن يوحش طاهرا بنقضه، فمضى شهر تامّ و طاهر مقيم بمعسكره. ثم إنّ المأمون في السّحر من ليلة أحد و ثلاثين يوما من عقده له، عقد اللواء لطاهر ظاهرا، و أمر بإحضار مخارق المغنّي، فأحضر و قد صلّى المأمون الغداة مع طلوع الفجر، فقال: يا مخارق، أ تغني:
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** و جاوزه إلى ما تستطيع
و كيف تريد أن تدعى حكيما *** و أنت لكلّ ما تهوى تبوع
قال: نعم. قال: هاته. فغناه فقال: ما صنعت شيئا، فهل تعرف من يقوله أحسن مما تقوله؟ قال: نعم، علويه الأعسر. فأمر بإحضاره فكأنّه كان وراء السّتر، فأمره أن يغنّيه، فغنّاه و احتفل فقال(1): ما صنعت شيئا أ تعرف من يقوله أحسن مما تقوله؟ قال: نعم عمرو بن بانة شيخنا. فأمر بإحضاره فدخل في مقدار/دخول علويه، فأمر بأن يغنيه الصوت، فغناه [فأحسن](2) فقال: أحسنت ما شئت(3)، هكذا ينبغي أن يقال... ثم قال: يا غلام اسقني رطلا واسق صاحبيه رطلا رطلا. ثم دعا له بعشرة آلاف درهم، و خلعة ثلاثة أثواب، ثم أمره بإعادته، فأعاده فردّ القول الذي قاله، و أمر له بمثل ما أمر، حتّى فعل ذلك عشرا، و حصل لعمرو مائة ألف درهم و ثلاثون/ثوبا، و دخل المؤذّنون فأذّنوه بالظهر، فعقد(4) إصبعه الوسطى بإبهامه و قال: «برق يمان، برق يمان». و كذلك كان يفعل إذا أراد أن ينصرف من بحضرته من الجلساء. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، قد أنعمت عليّ و أحسنت إليّ، فإن رأيت أن تأذن لي في مقاسمة أخويّ(5) ما وصل إليّ فقد حضراه؟ فقال: ما أحسن ما استمحت لهما، بل نعطيهما نحن و لا نلحقهما بك. و أمر لكلّ واحد بمثل [نصف](6) جائزة عمرو، و بكر إلى طاهر فرحّله، فلما ثنى عنان دابته منصرفا دنا منه حميد الطوسيّ فقال: اطرح على ذنبه ترابا. فقال: اخسأ يا كلب! و نفذ(7) طاهر لوجهه، و قدم غسّان بن عبّاد فسأله عن علّته و سببها، فحلف له أنّه لم يكن عليلا، و لا كتب بشيء في هذا. فعلم المأمون أنّ طاهرا احتال عليه بابن أبي خالد، و أمسك على ذلك. فلما كان بعد مدّة من مقدم طاهر إلى خراسان قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة، فقال له عون بن مجاشع بن مسعدة صاحب البريد: لم تدع في هذه الجمعة
ص: 156
لأمير المؤمنين؟ فقال: سهو وقع فلا تكتب به. و فعل مثل ذلك في الجمعة الثانية، و قال لعون: لا تكتب به، و فعله في الجمعة الثالثة فقال له عون: إنّ كتب التجّار لا تنقطع/من بغداد، و إن اتّصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيرنا لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي. فقال: اكتب بما أحببت. فكتب إلى المأمون بالخبر، فلما وصل كتابه دعا بأحمد بن أبي خالد و قال: إنّه لم يذهب عليّ احتيالك علي في أمر طاهر، و تمويهك له، و أنا أعطى اللّه عهدا لئن لم تشخص حتّى توافيني به كما أخرجته من قبضتي و تصلح ما أفسدته عليّ من أمر ملكي لأبيدنّ غضراءك(1)! فشخص أحمد و جعل يتلوّم في الطريق(2)، و يقول لأصحاب البرد(3): اكتبوا بخبر علّة أجدها. فلما وصل الريّ لقيته الأخبار و وافاه رسل طلحة بن طاهر بوفاة طاهر، فأغذّ السير حتّى قدم خراسان، فلقيه طلحة على حدّ غفلة(4)فقال له أحمد: لا تكلّمني و لا ترني وجهك فإنّ أباك عرّضني للعطب و زوال النعمة، مع احتيالي له وسعي كان في محبّته. فقال له: أبي قد مضى لسبيله و لو أدركته لما خرج عن طاعتك، و أمّا أنا فأحلف لك بكلّ ما تسكن به نفسك(5) و أبذل كلّ ما عندي من مال و غيره، فاضمن له عنّي حسن الطاعة، و ضبط الناحية، و الإخلاص في النصيحة. فكتب أحمد بخبره و خبر طاهر و خبر طلحة إلى المأمون، و أشار بتقليده، فأنفذ المأمون إليه اللواء و الخلع و العهد، و انصرف أحمد إلى مدينة السلام.
أخبرني وكيع قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
مدح ابن هرمة رجلا من قريش فلم يثبه، فقال له ابن عمّ له: لا تفعل، فإنه شاعر مفوّه. فلم يقبل منه، فقال فيه ابن هرمة:
/فهلاّ إذ عجزت عن المعالي *** و عمّا يفعل الرجل القريع(6)
أخذت برأي عمرو و حين ذكىّ *** و شبّ لناره الشرف الرفيع
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** و جاوزه إلى ما تستطيع
حتّى ترفّع بالحزّان يركضها *** مثل المهاة مرته الريح فاضطربا(1)
و الغانيات يقتّلن الرجال إذا *** ضرّجن بالزعفران الرّيط و النّقبا(2)
من كلّ آنسة لم يغذها عدم *** و لا تشدّ لشيء صوتها صخبا(3)
إنّ الغواني قد أهلكنني و أرى *** حبالهنّ ضعيفات القوى كذبا(4)
غنّى في هذا الشعر ابن سريج خفيف ثقيل من رواية حماد، و فيه رمل نسبه حبش إليه أيضا.
و قال الأصمعيّ: هذا الشعر لسهل بن الحنظلية الغنوي ثم الضّبيني ثم الجابري، و هو جابر بن ضبينة.
/قال أبو الفرج الأصبهاني: و سهل بن الحنظلية أحد أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قد روى عنه حديثا كثيرا.
فذكر الأصمعيّ أنّ السبب في قوله هذا الشعر أنّه اجتمع ناس من العرب بعكاظ، منهم قرّة بن هبيرة القشيري، في سنين تتابعت على الناس، فتواعدوا و تواقفوا أن لا يتغاوروا حتّى يخصب الناس(5) ثم قالوا: ابعثوا إلى المنتشر بن وهب الباهلي ثم الوائلي فليشهد أمرنا، و لندخله معنا. فأتاهم فأعلموه ما صنعوه، قال: فما يأكل قومي إلى ذاك؟ فقال له ابن جارم الضبيّ(6): إنّك لهناك يا أخا باهلة؟ قال: أمّا أنا فالغسل و النساء عليّ حرام حتّى آكل من قمع إبلك(7). فتفرقوا و لم يكن إلاّ ذلك. و قال ابن جارم للمنتشر عند قوله: استك أضيق من ذاك! فأغار المنتشر على ابن جارم، فلما رآه ابن جارم رمى بنفسه في و جار ضبع، و أطرد المنتشر إبله و رعاءها، فقال سهل في ذلك:
هاج لك الشّوق من ريحانة الطربا
في قصيدة طويلة له حسنة. و قال في ذلك أعشى باهلة:
فدى لك نفسي إذ تركت ابن جارم *** أجبّ السّنام بعد ما كان مصعبا(8)
و قال المخبل في ذلك:
إنّ قشيرا من لقاح ابن جارم *** كغاسلة حيضا و ليست بطاهر
و أنبأتماني أنّ قرّة آمن *** فناك أباه من مجير و خافر(9)
ص: 158
/فلا توكلوها الباهليّ و تقعدوا *** لدى غرض أرميكم بالنواقر(1)
إذا هي حلّت بالذّهاب و ذي حسى *** و راحت خفاف الوطء حوس الخواطر(2)
أخبرنا أحمد بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل، قال حدّثني قعنب بن المحرز قال أخبرنا الهيثم بن عدي عن ابن عياش(3) عن محمد بن المنتشر قال:
أخبرني من شهد الأشعث بن قيس و عمرو بن معد يكرب و قد تنازعا في شيء، فقال عمرو للأشعث: نحن قتلنا أباك و نكنا أمّك! فقال سعد: قوما أفّ لكما! فقال الأشعث لعمرو: و اللّه لأضرطنّك. فقال: كلاّ إنها عزوز موثقة(4).
قال جرير بن عبد اللّه البجلي: فأخذت بيد الأشعث فنترته(5) فوقع على وجهه، ثم أخذت بيد عمرو فجذبته فما تحلحل و اللّه، لكأنّما حركت أسطوانة القصر.
/و قال أبو عبيدة: قدم عمرو بن معد يكرب و الأجلح بن وقّاص الفهميّ على عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه، فأتياه و بين يديه مال يوزن، فقال: متى قدمتما؟ قالا: يوم الخميس. قال: فما حبسكما؟ قالا: شغلنا بالمنزل يوم قدمنا، ثم كانت الجمعة، ثم غدونا عليك اليوم. فلما فرغ من وزن المال نحّاه، ثم أقبل عليهما فقال: هيه! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، هذا الأجلح بن وقّاص، شديد المرّة، بعيد/الفرّة، وشيك الكرة، و اللّه ما رأيت مثله من الرجال صارعا و مصروعا، و اللّه لكأنه لا يموت! فقال عمر للأجلح بن وقّاص، و أقبل عليه: هيه. قال: و أنا أعرف الغضب في وجهه، فقلت: يا أمير المؤمنين؛ الناس صالحون كثير نسلهم، دارّة أرزاقهم، خصب نباتهم، أجرياء على عدوّهم، جبان عدوّهم عنهم، صالحون بصلاح إمامهم، و اللّه ما رأينا مثلك إلاّ من تقدمك، فنستمتع اللّه بك.
فقال: ما منعك أن تقول في صاحبك مثل الذي قال فيك؟ قال: منعني ما رأيت في وجهك. قال: قد أصبت أما لو قلت له مثل الذي قال لك لأوجعتكما عقوبة، فإن تركتك لنفسك فسوف أتركه لك، و اللّه لوددت لو سلمت لكم حالكم هذه أبدا، أما إنّه سيأتي عليك يوم تعضّه و ينهشك، و تهرّه و ينبحك، و لست له يومئذ و ليس لك، فإن لم يكن بعهدكم فما أقربه منكم(6).
ص: 159
قال أبو عبيدة: حدّثنا يونس و أبو الخطاب قالا:
لما كان يوم القادسية أصاب المسلمون أسلحة و تيجانا و مناطق و رقابا(1) فبلغت مالا عظيما، فعزل سعد الخمس ثم فضّ البقية، فأصاب الفارس ستة آلاف، و الراجل ألفان، فبقي مال دثر(2). فكتب إلى عمر رضي اللّه عنه بما فعل، فكتب إليه أن ردّ على المسلمين الخمس، و أعط من لحق بك ممن لم يشهد الوقعة. ففعل فأجراهم مجرى من شهد، و كتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه أن فضّ ما بقي على حملة القرآن. فأتاه عمرو بن معد يكرب فقال: ما معك من كتاب اللّه تعالى؟ فقال: إنّي أسلمت باليمن، ثم غزوت فشغلت عن حفظ القرآن. قال: ما لك في هذا المال نصيب.
قال: و أتاه بشر بن ربيعة الخثعمي، صاحب جبّانة(3) بشر فقال: ما معك من كتاب اللّه؟ قال: بسم اللّه الرحمن الرحيم. فضحك القوم منه و لم يعطه شيئا، فقال عمرو في ذلك:
إذا قتلنا و لا يبكي لنا أحد *** قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطى السويّة من طعن له نفذ *** و لا سويّة إذ تعطى الدنانير(4)
و قال بشر بن ربيعة:
أنخت بباب القادسيّة ناقتي *** و سعد بن وقّاص عليّ أمير
و سعد أمير شرّه دون خيره *** و خير أمير بالعراق جرير
و عند أمير المؤمنين نوافل *** و عند المثنّى فضّة و حرير
تذكّر هداك اللّه وقع سيوفنا *** بباب قديس و المكرّ عسير(5)
عشية ودّ القوم لو أنّ بعضهم *** يعار جناحي طائر فيطير
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة *** دلفنا لأخرى كالجبال تسير(6)
ترى القوم فيها و اجمعين كأنّهم *** جمال بأحمال لهنّ زفير(7)
/فكتب سعد إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه بما قال لهما و ما ردّا عليه، و بالقصيدتين، فكتب أن أعطهما على بلائهما. فأعطى كلّ واحد منهما ألفي درهم.
ص: 160
قال: و حدّثني أبو حفص السلمي قال: كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي(1):
إنّ في جندك عمرو بن معد يكرب، و طلحة بن خويلد الأسديّ، فإذا حضر الناس فأدنهما و شاورهما و ابعثهما في الطّلائع، و إذا وضعت الحرب أوزارها فضعهما حيث وضعا أنفسهما. يعني بذلك ارتدادهما، و كان عمرو ارتدّ و طليحة تنبأ.
قال: و حدّثنا أبو حفص السلمي قال: عرض سلمان(1) بن ربيعة جنده بأرمينية، فجعل لا يقبل إلاّ عتيقا، فمر به عمرو بن معد يكرب بفرس غليظ، فقال سلمان: هذا هجين. فقال عمرو: و الهجين يعرف الهجين! فبلغ عمر رضي اللّه تعالى عنه قوله فكتب إليه: «أمّا بعد فإنك القائل لأميرك ما قلت، و إنّه بلغني أنّ عندك سيفا تسمّيه الصمصامة، و عندي سيف أسميه مصمّما(2)، و أقسم لئن وضعته بين أذنيك لا أقلع حتّى يبلغ قحفك(3)». و كتب إلى سلمان يلومه في حلمه عنه.
قال: و زعموا أنّ عمرا شهد فتح اليرموك، و فتح القادسية، و فتح نهاوند مع النّعمان بن مقرّن المزني، و كتب عمر إلى النعمان: إنّ في جندك رجلين: عمرو بن معد يكرب، و طليحة بن خويلد الأسدي من بني قعين، فأحضرهما الحرب و شاورهما في الأمر، و لا تولّهما عملا. و السلام.
خليليّ هبّا طالما قد رقدتما *** أجدّكما لا تقضيان كراكما
سأبكيكما طول الحياة و ما الذي *** يردّ على ذي لوعة إن بكاكما(4)
و يروي: «ذي عولة».
الشعر لقس بن ساعدة الإيادي، فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيديّ في خبر أنا ذاكره هاهنا.
و ذكر يعقوب بن السكّيت أنّه لعيسى بن قدامة الأسدي(5).
و ذكر العتبي أنّه لرجل من بني عامر بن صعصعة، يقال له الحسن بن الحارث. و الغناء لهاشم بن سليمان، ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.
ص: 161
هو قسّ بن ساعدة بن عمرو - و قيل مكان عمرو شمر - بن عديّ بن مالك بن أيدعان بن النّمر بن واثلة بن الطّمثان بن زيد مناة(1) بن يقدم(2) بن أفضى بن دعميّ بن إياد. خطيب العرب و شاعرها، و حليمها و حكيمها في عصره.
يقال: إنه أول من علا على شرف و خطب عليه. و أوّل من قال في كلامه: أمّا بعد، و أول من اتّكأ عند خطبته على سيف أو عصا.
و أدركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قبل النبوة، و رآه بعكاظ فكان يأثر عنه كلاما سمعه منه، و سئل عنه فقال: «يحشر أمّة واحدة».
و قد سمعت خبره من جهات عدّة، إلاّ أنّه لم يحضرني وقت كتبت هذا الخبر غيره، و هو و إن لم يكن من أقواها على مذهب أهل الحديث إسنادا، فهو من أتمها.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدّثنا أبو شعيب صالح بن عمران قال: حدّثني عمر بن عبد الرحمن بن حفص النسائي قال: حدّثني عبد اللّه بن محمد قال: حدّثني/الحسن بن عبد اللّه قال: حدّثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
لمّا قدم وفد إياد على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: ما فعل قسّ بن ساعدة؟ قالوا: مات يا رسول اللّه. قال: «كأنّي انظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق(3) و هو يتكلّم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه». فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا رسول اللّه قال: كيف سمعته يقول؟ قال سمعته يقول:
ص: 162
أيّها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، و من مات فات، و كلّ ما هو آت آت. ليل داج، و سماء ذات أبراج، بحار تزخر، و نجوم تزهر(1)، و ضوء و ظلام، و برّ و آثام، و مطعم و مشرب، و ملبس و مركب. ما لي أرى الناس يذهبون و لا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا. و إله قسّ بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلّكم زمانه، و أدرككم أوانه، فطوبى لمن أدركه فاتّبعه، و ويل لمن خالفه. ثم أنشأ يقول:
في الذّاهبين الأوّلي *** ن من القرون لنا بصائر
لمّا رأيت مواردا *** للموت ليس لها مصادر
و رأيت قومي نحوها *** يمضي الأصاغر و الأكابر
أيقنت أنّي لا محا *** لة حيث صار القوم صائر
فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «يرحم اللّه قسّا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمّة وحده»(2).
فقال رجل يا رسول اللّه: لقد رأيت من قسّ عجبا. قال: و ما رأيت؟ قال: بينا أنا بجبل(3) يقال له سمعان(4)في يوم شديد الحرّ، إذ أنا بقسّ بن ساعدة تحت ظلّ شجرة عند عين ماء، و عنده سباع، كلما زأر سبع منها على صاحبه ضربه بيده و قال: كفّ حتى يشرب الذي ورد قبلك. قال: ففرقت(5)، فقال: لا تخف. /و إذا أنا بقبرين بينهما مسجد، فقلت له: ما هذان القبران؟ قال هذان قبرا أخوين كانا لي فماتا، فاتّخذت بينها مسجدا أعبد اللّه جلّ و عزّ فيه حتّى ألحق بهما. ثم ذكر أيامهما فبكى، ثم أنشأ يقول:
خليلي هبّا طالما قد رقدتما *** أجدّكما لا تقضيان كراكما
أ لم تعلما أنّي بسمعان مفرد *** و ما لي فيه من حبيب سواكما
أقيم على قبريكما لست بارحا *** طوال الليالي أو يجيب صداكما
كأنّكما و الموت أقرب غاية *** بجسمي في قبريكما قد أتاكما
فلو جعلت نفس لنفس وقاية *** لجدت بنفسي أن تكون فداكما
فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «يرحم اللّه قسّا».
و أما الحكاية عن يعقوب بن السكيت أنّ الشعر لعيسى بن قدامة الأسدي فأخبرني بها عليّ بن سليمان الأخفش، عن السكوني قال: قال يعقوب بن السكيت:
ص: 163
قال عيسى بن قدامة الأسديّ، و كان قدم قاسان(1)، و كان له نديمان فماتا، و كان يجيء فيجلس عند القبرين، و هما براوند(2)، في موضع يقال له خزاق، فيشرب و يصبّ على القبرين حتّى يقضي وطره، ثم ينصرف و ينشد و هو يشرب:
خليليّ هبّا طالما قد رقدتما *** أجدّكما لا تقضيان كراكما
/أ لم تعلما مالي براوند هذه *** و لا بخزاق من نديم سواكما
مقيم على قبريكما لست بارحا *** طوال الليالي أو يجيب صداكما
جرى الموت مجرى اللحم و العظم منكما *** كأنّ الذي يسقي العقار سقاكما
/تحمّل من يهوى القفول و غادروا *** أخا لكما أشجاه ما قد شجاكما(3)
فأيّ أخ يجفو أخا بعد موته *** فلست الذي من بعد موت جفاكما
أصبّ على قبريكما من مدامة *** فإلاّ تذوقا أرو منها ثراكما(4)
أناديكما كيما تجيبا و تنطقا *** و ليس مجابا صوته من دعاكما
أ من طول نوم لا تجيبان داعيا *** خليليّ ما هذا الذي قد دهاكما
قضيت بأنّي لا محالة هالك *** و أنّي سيعروني الذي قد عراكما
سأبكيكما طول الحياة و ما الذي *** يردّ على ذي عولة إن بكاكما
و أخبرني ابن عمّار أبو العباس أحمد بن عبيد اللّه بخبر هؤلاء، عن أحمد بن يحيى البلاذري قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالح بن مسلم العجليّ قال:
بلغني أنّ ثلاثة نفر من أهل الكوفة كانوا في الجيش الذي وجّهه الحجاج إلى الدّيلم، و كانوا يتنادمون لا يخالطون غيرهم، فإنّهم لعلى ذلك إذ مات أحدهم فدفنه صاحباه، و كانا يشربان عند قبره، فإذا بلغه الكأس هراقاها على قبره و بكيا. ثم إنّ الثاني مات فدفنه الباقي إلى جنب صاحبه، و كان يجلس عند قبريهما فيشرب و يصبّ الكأس على الذي يليه ثم على الآخر و يبكي، و قال فيهما:
نديمي هبّا طالما قد رقدتما
و ذكر بعض الأبيات التي تقدم ذكرها. و قال مكان «براوند هذه»: «بقزوين»، و سائر الخبر نحو ما ذكرناه. قال ابن عمار: فقبورهم هناك تعرف بقبور الندماء.
و ذكر العتبي عن أبيه أن الشّعر للحزين بن الحارث، أحد بني عامر بن صعصعة، و كان أحد نديميه من بني
ص: 164
أسد و الآخر من بني حنيفة، فلما مات أحدهما كان يشرب و يصبّ على قبره و يقول.
/لا تصرد هامة من كأسها *** و اسقه الخمر و إن كان قبر(1)
كان حرّا فهوى فيمن هوى *** كلّ عود ذي شعوب ينكسر
قال: ثم مات الآخر فكان يشرب عند قبريهما و ينشد:
خليليّ هبا طالما قد رقدتما *** ................
الأبيات.
قال: ثم قالت له كاهنة: إنّك لا تموت حتّى تنهشك حية في شجرة بوادي كذا و كذا. فورد ذلك الوادي في سفر له و سأل عنه فعرفه، و قد كان خطّ في أصل شجرة(2)، و مدّ(3) رجله عليها، فنهشته حية فأنشأ يقول:
خليليّ هذا حيث رمسي فعرّجا *** عليّ فإنّي نازل فمعرّس
لبست رداء العيش أحوى أجّره ال *** عشيّات حتّى لم يكن فيه ملبس(4)
تركت خبائي حيث أرسى عماده *** عليّ، و هذا مرمسي حيث أرمس
أ حتفي الذي لا بدّ أنّك قاتلي *** هلمّ فما في غابر العيش منفس(5)
أبعد نديميّ اللذين بعاقل *** بكيتهما حولا مدى أتوجّس(6)
ص: 165
هو هاشم بن سليمان مولى بني أميّة، و يكنى أبا العباس، و كان موسى الهادي(1) يسمّيه أبا الغريض. و هو حسن الصنعة عزيزها، و فيه يقول الشاعر:
يا وحشتي بعدك يا هاشم *** غبت فشجوى بك لي دائم
اللهو و اللذّة يا هاشم *** ما لم تكن حاضرة مأتم(2)
أخبرني علي بن عبد العزيز قال حدثنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن خرداذبه قال: كان موسى الهادي يميل إلى هاشم بن سليمان و يمازحه، و يلقّبه أبا الغريض.
و أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال: بلغني أن هاشم بن سليمان دخل يوما على موسى الهادي فغناه:
لو يرسل الأزل الظّبا *** ء ترود ليس لهنّ قائد(3)
لتيمّمتك تدلّها *** ريّاك للسّبل الموارد
و إذا الرياح تنكّرت *** نكبا هواجرها صوارد(4)
فالناس سائلة إلي *** ك فصادرا تغني و وارد(5)
الشعر لطريح بن إسماعيل الثقفي، يقوله في الوليد بن يزيد بن عبد الملك. و الغناء لهاشم بن سليمان، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر.
/فطرب موسى، و كان بين يديه كانون كبير ضخم عليه فحم، فقال له: سلني ما شئت. قال: تملأ لي هذا الكانون. فأمر له بذلك، و فرّغ الكانون فوسع ستّ بدور(6)، فدفعها إليه.
ص: 166
و قد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن أبي توبة، عن محمد بن جبر، عن هاشم بن سليمان قال:
أصبح موسى أمير المؤمنين يوما و عنده جماعة منّا، فقال: يا هاشم غنني:
أبهار قد هيّجت لي أوجاعا
فإن أصبت مرادي فيه فلك حاجة مقضيّة. فغنيته فقال: قد أصبت و أحسنت سل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين تأمر أن يملأ هذا الكانون دراهم. قال: و بين يديه كانون عظيم، فأمر به فملئ فوسع ثلاثين ألف درهم، فلما حصّلتها قال: يا ناقص الهمّة، و اللّه لو سألتني أن أملأه دنانير لفعلت. فقلت: أقلني يا أمير المؤمنين.
فقال: لا سبيل إلى ذلك فلم يسعدك الجدّ به.
أبهار قد هيّجت لي أوجاعا *** و تركتني عبدا لكم مطواعا
بحديثك الحسن الذي لو كلّمت *** وحش الفلاة به لجئن سراعا
و إذا مررت على البهار منضّدا *** في السّوق هيّج لي إليك نزاعا(1)
و اللّه لو علم البهار بأنّها *** أضحت سمّيته لصار ذراعا
الغناء لهاشم، ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو، و فيه ثقيل أول بالبنصر، ينسب إلى إبراهيم الموصلي، و إلى يحيى المكي، و إلى إسحاق.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز و إسماعيل بن يونس/قالا: حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني بعض أصحابنا قال:
كنّا في منزل محمد بن إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن عباس، و كان عالما بالغناء و الفقه جميعا، و قد كان يحيى بن أكثم وصفه للمأمون بالفقه، و وصفه أحمد بن يوسف بالعلم بالغناء فقال المأمون: ما أعجب ما اجتمع فيه: العلم بالفقه، و الغناء! فكتبت إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن يتحوّل إلينا و كان في جوارنا، و عندنا يومئذ محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان، و ذكاء و صغير غلاما أحمد بن يوسف الكاتب، فكتب إلينا إسحاق: جعلت فداءكم، قد أخذت دواء، فإذا خرجت منه حملت قدري و صرت إليكم. و كتب في أسفل كتابه:
أنا شماطيط الذي حدّثت به *** متى أنبّه للغداء أنتبه
ثم أدور حوله و أحتبه *** حتّى يقال شره و لست به
ثم جاءنا و معه بديح غلامه، فتغدّينا و شربنا، فغنّى ذكاء غلام أحمد بن يوسف:
أبهار قد هيّجت لي أوجاعا
فسأله إسحاق أن يعيده فأعاده مرارا، ثم قال له: ممّن أخذت هذا؟ فقال: من معاذ بن الطّبيب. قال:
ص: 167
و الصنعة فيه له. فقال له إسحاق: أحبّ أن تلقيه على بديح. ففعل. فلما صلّيت العشاء انصرف ذكاء، و قعد أبو جعفر يشرب - يعني مولاه(1) - و عنده قوم، و تخلّف صغير فغنّانا، فقال له إسحاق: أنت و اللّه يا غلام ماخوريّ.
و سكر محمد بن إسماعيل في آخر النّهار فغنانا:
دعوني أغصّ إذا ما بدت *** و أملك طرفي فلا انظر
/فقال إسحاق لمحمد بن الحسن: آجرك اللّه في ابن عمّك! أي قد سكر فأقدم على الغناء بحضرتي.
هبوني أغضّ إذا ما بدت *** و أملك طرفي فلا انظر
فكيف احتيالي إذا ما الدموع *** نطقن فبحن بما أضمر
أيا من سروري به شقوة *** و من صفو عيشي به أكدر
أ منّي تخاف انتشار الحديث *** و حظّي في ستره أوفر
و لو لم أصنه لبقيا عليك *** نظرت لنفسي كما تنظر
الشعر للعباس بن الأحنف، و الغناء للزبير بن دحمان، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو في الأبيات الثلاثة الأول. و فيها لعمرو بن بانة ماخوريّ. و في:
أيا من سروري به شقوة
لسليم هزج. و فيه ثاني ثقيل ينسب إلى حسين بن محرز، و إلى عباس منقار.
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم *** قد لفّها الليل بسوّاق حطم
ليس براعي إبل و لا غنم(2) *** و لا بجزّار على ظهر و ضم
عروضه من الرجز. الشعر لرشيد بن رميض العنزي يقوله في الحطم، و هو شريح بن/ضبيعة، و أمّه هند بنت حسّان بن عمرو بن مرثد، و الغناء ليزيد حوراء، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و فيه خفيف رمل يقال إنّه لأحمد المكي.
قال أبو عبيدة: كان شريح بن ضبيعة غزا اليمن في جموع جمعها من ربيعة، فغنم و سبى بعد حرب كانت بينه و بين كندة، أسر فيها فرعان(3) بن مهديّ بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس، و أخذ على طريق مفازة فضلّ بهم
ص: 168
دليلهم ثمّ هرب منهم و مات فرعان في أيديهم عطشا، و هلك منهم ناس كثير بالعطش. و جعل الحطم يسوق بأصحابه سوقا عنيفا(1). حتّى نجوا و وردوا الماء. فقال فيه رشيد:
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم *** ليس براعي إبل و لا غنم
و لا بجزّار على ظهر و ضم *** نام الحداة و ابن هند لم ينم
باتت يقاسيها غلام كالزّلم *** خدلجّ السّاقين خفّاق القدم
قد لفّها الليل بسوّاق حطم
فلقّب يومئذ «الحطم» لقول رشيد هذا فيه.
و أدرك الحطم الإسلام فأسلم، ثم ارتدّ بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
حدّثنا محمد بن جرير الطبري قال حدّثنا عبد اللّه بن سعد(2) الزهري قال أخبرنا عمي يعقوب قال: أخبرني سيف قال:
خرج العلاء بن الحضرميّ نحو البحرين، و كان من حديث البحرين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما مات ارتدّوا(3) ففاءت عبد القيس منهم، و أمّا بكر فتمّت على ردّتها. و كان الذي ثنى عبد القيس الجارود بن المعلّى.
/فذكر سيف عن إسماعيل بن مسلم [عن الحسن بن أبي الحسن قال:
قدم الجارود بن المعلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مرتادا، و قال: أسلم يا جارود. فقال: إنّ لي دينا. فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: إنّ دينك يا جارود ليس بشيء، و ليس بدين. فقال له الجارود: فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك؟ قال: نعم](4). فأسلم و أقام بالمدينة حتّى فقه.
حدّثنا محمد بن جرير قال حدّثنا محمد بن حميد، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل عن أبي إسحاق قال:
اجتمعت ربيعة بالبحرين، فقالوا: ردّوا الملك في آل المنذر، فملّكوا المنذر بن النعمان بن المنذر، و كان يسمّى الغرور، ثم أسلم بعد ذلك و قال: لست بالغرور و لكنّي المغرور.
حدّثنا محمد بن جرير قال: حدّثنا عبد اللّه بن سعد(5) قال: أخبرني عمي قال أخبرنا سيف عن إسماعيل بن مسلم عن عمير بن فلان العبدي قال:
ص: 169
لما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خرج الحطم بن ضبيعة، في بني قيس(1) بن ثعلبة و من اتّبعه من بكر بن وائل على الردّة، و من تأشّب [إليه](2) من غير المرتدّين ممن لم يزل كافرا، حتّى نزل القطيف و هجر، و استغوى [الخطّ و](2)من كان بهما من الزّطّ و السيابجة، و بعث بعثا إلى دارين فأقاموا](2) له ليجعل عبد القيس بينهم و بينه، و كانوا مخالفين له يمدّون [المنذر و](2) المسلمين، و أرسل إلى الغرور بن سويد/بن المنذر بن أخي النعمان بن المنذر، فقال له: اثبت فإني إن ظفرت ملّكتك البحرين، حتّى تكون كالنّعمان بالحيرة. و بعث إلى رواثا و قيل إلى جؤاثا، فحاصرهم و ألح عليهم، فاشتدّ الحصار على المحصورين من المسلمين، و فيهم رجل من صالحي المسلمين يقال له عبد اللّه بن حذف، أحد بني أبي بكر بن كلاب، فاشتدّ عليه و عليهم الجوع حتّى كادوا يهلكون، فقال عبد اللّه بن حذف:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا *** و فتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام *** قعود في جؤاثا محصرينا
/كأنّ دماءهم في كل فج *** شعاع الشمس يعشى الناظرينا
توكّلنا على الرّحمن إنا *** وجدنا النّصر للمتوكلينا
حدّثني محمد بن جرير قال كتب إلى السريّ بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن الصقعب(3) بن عطية بن بلال، عن سهم بن منجاب، عن [منجاب](4) ابن راشد قال:
بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردّة بالبحرين، فتلاحق به من لم يرتدّ من المسلمين(5)، و سلك بنا الدّهناء حتّى إذا كنا في بحبوحتها أراد اللّه عزّ و جل أن يرينا آية، فنزل العلاء و أمر الناس بالنزول، فنفرت الإبل في جوف الليل، فما بقي بعير و لا زاد و لا مزاد(6) و لا بناء - يعني الخيم قبل أن يحطّوا - فما علمت جمعا هجم عليه من الغمّ ما هجم علينا، و أوصى بعضنا إلى بعض، و نادى منادي العلاء: اجتمعوا. فاجتمعنا إليه فقال:
ما هذا الذي ظهر فيكم و غلب عليكم؟ فقال الناس: /و كيف نلام و نحن إن بلغنا غدا لم تحم شمسه حتّى نصير حديثا. فقال: أيّها الناس، لا تراعوا، أ لستم مسلمين؟ أ لستم في سبيل اللّه؟ أ لستم أنصار اللّه؟ قالوا: بلى. قال:
فأبشروا، فو اللّه لا يخذل اللّه تبارك و تعالى من كان في مثل حالكم. و نادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلّى بنا و منا المتيمّم و منا من لم يزل على طهوره، فلما قضى صلاته جثا لركبتيه، و جثا الناس معه، فنصب(7) في
ص: 170
الدعاء و نصبوا فلمع لهم سراب فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر كذلك فقال الرائد: ماء. فقام و قام الناس فمشينا حتّى نزلنا عليه فشربنا و اغتسلنا، فما تعالى النهار حتّى أقبلت الإبل من كلّ وجه و أناخت إلينا، فقام كلّ رجل إلى ظهره فأخذه، فما فقدنا سلكا(1)، فأرويناها العلل بعد النّهل و تروّحنا. و كان أبو هريرة رفيقي، فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا أهدى الناس(2) بهذه البلاد. قال: فكّر معي حتى تقيمني عليه. فكررت به فأنخت على ذلك المكان بعينه، فإذا هو لا غدير به، و لا أثر للماء، فقلت له: و اللّه لو لا أنّي لا أرى الغدير لأخبرتك أنّ هذا هو المكان، و ما رأيت بهذا المكان ماء قبل ذلك(3). فنظر أبو هريرة فإذا إداوة مملوءة فقال: يا سهم، هذا و اللّه المكان و لهذا رجعت و رجعت بك. و ملأت إداوتي هذه ثم وضعتها على شفير الوادي فقلت: إن كان منّا من المن و كانت آية عرفتها، [و إن كان غياثا عرفته. فإذا منّ من المنّ](4) و حمدت اللّه جلّ و عز. ثمّ سرنا حتّى نزلنا هجر فأرسل العلاء إلى الجارود و رجل آخر: أن انضمّا في عبد القيس حتّى تنزلا على الحطم مما يليكما. و خرج هو فيمن معه و فيمن/قدم عليه(5) حتّى ينزل مما يلي هجر. و تجمّع المسلمون كلّهم إلى العلاء بن الحضرميّ، ثم خندق المسلمون و المشركون فكانوا يتراوحون القتال و يرجعون إلى خندقهم، فكانوا كذلك شهرا. فبينا الناس ليلة كذلك إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة، فكأنّها ضوضاء هزيمة فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد اللّه بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - و كانت أمّه عجليّة - فخرج حتّى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهم و جعل ينادي يا أبجراه! فجاء أبجر بن بجير فعرفه فقال:
ما شأنك؟ فقال لا أضيعنّ الليلة بين اللّهازم، علام/أقتل و حولي عساكر من عجل و تيم اللات و عنزة و قيس، أ يتلاعب بي الحطم و نزّاع القبائل و أنتم شهود! فتخلّصه و قال: و اللّه إنّي لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة.
قال: دعني من هذا و أطعمني، فقد متّ جوعا. فقرب إليه طعاما فأكل. ثم قال: زوّدني و احملني و جوّزني انطلق إلى طيّتي. و يقول ذلك لرجل قد علب عليه الشراب، ففعل و حمله على بعير و زوّده و جوّزه. و خرج عبد اللّه حتّى دخل عسكر المسلمين، فأخبرهم أنّ القوم سكارى، فخرج القوم عليهم حتى اقتحموا عسكرهم فوضعوا فيهم السيوف حيث شاءوا، و اقتحموا الخندق هرّابا، فمتردّ، و ناج، و دهش، و مقتول، و مأسور. و استولى المسلمون على ما في العسكر، و لم يفلت رجل إلاّ بما عليه. فأمّا أبجر فأفلت، و أمّا الحطم فإنه بعل و دهش و طار فؤاده(6)، فقام إلى فرسه و المسلمون خلالهم يجوسونهم ليركبه، فلما وضع رجله في الركاب انقطع، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم، و الحطم يستغيث و يقول: أ لا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني؟ فرفع صوته فعرفه عفيف فقال: أبو ضبيعة؟ /قال: نعم. قال: أعطني رجلك أعقلك. فأعطاه رجله يعقلها فنفحها فأطنّها من الفخذ(7)و تركه، فقال: أجهز عليّ. فقال: إنّي لأحبّ أن لا تموت حتى أمضّك. و كان مع عفيف عدّة من ولد أبيه فأصيبوا
ص: 171
ليلتئذ، و جعل الحطم يقول ذلك لمن لا يعرفه حتّى مرّ به قيس بن عاصم فقال له ذلك فعرفه، فمال عليه فقتله(1)، فلما رأى فخذه نادرة(2) قال: وا سوأتاه! لو عرفت الذي به لم أحرّكه. و خرج المسلمون، بعد ما أحرزوا الخندق، على القوم يطلبونهم، فاتّبعوهم فلحق قيس بن عاصم أبجر، و كان فرس أبجر أقوى من فرس قيس، فلما خشي أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب و سلم النّسا. فقال عفيف بن المنذر في ذلك:
فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النّسا *** و ما كلّ من تلقى بذلك عالم
أ لم تر أنّا قد فللنا حماتهم *** بأسرة عمرو و الرّباب الأكارم
و أسر عفيف بن المنذر، الغرور بن أخي النعمان بن المنذر، فكلّمته الرّباب فيه و كان ابن أختهم(3) و سألوه أن يجيره، فجاء به إلى العلاء قال: إنّي أجرته. قال: و من هو؟ قال: الغرور. قال العلاء: أنت غررت هؤلاء؟ قال:
أيّها الملك أنّي لست بالغرور، و لكنّي المغرور. قال: أسلم. فأسلم و بقي بهجر. و كان الغرور اسمه، ليس بلقب.
و قتل العفيف أيضا المنذر بن سويد(4) أخا الغرور لأمّه، و كان له يومئذ بلاء عظيم فأصبح العلاء يقسّم الأنفال، و نفّل رجالا من أهل البلاء ثيابا، [فكان فيمن نفّل/عفيف بن المنذر، و قيس بن عاصم، و ثمامة بن أثال. فأما ثمامة فنفّل ثيابا](5) فيها خميصة ذات أعلام(6)، و كان الحطم يباهي فيها. و باع الباقي، و هرب الفلّ إلى دارين فركبوا إليها السّفن، فجمعهم اللّه عزّ و جل بها، و ندب العلاء الناس إلى دارين، و خطبهم فقال: إنّ اللّه عز و جل قد جمع لكم أحزاب الشيطان، و شذّاذ الحرب(7) في هذا اليوم(8)، و قد أراكم من آياته في البرّ لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوّكم ثم استعرضوا البحر إليهم، فإنّ اللّه جل و عزّ قد جمعهم به. فقالوا: نفعل و لا نهاب و اللّه بعد الدهناء هولا(9) ما بقينا! فارتحل و ارتحلوا حتى أتى ساحل البحر فاقتحموا على الخيل، هم و الحمولة و الإبل و البغال، الراكب و الراجل(10)، و دعا و دعوا، و كان [دعاؤه و](11) دعاؤهم: يا أرحم الراحمين، يا كريم يا حليم، يا صمد يا حيّ يا محيي الموتى، يا حيّ يا قيوم، لا إله إلا أنت يا ربّنا فأجازوا ذلك الخليج بإذن اللّه، يمشون على مثل رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، و بين الساحل و دارين مسيرة يوم و ليلة لسفن البحر. و وصل المسلمون إليها فما تركوا من المشركين بها مخبرا(12)، و سبوا الذّراري، و استاقوا الأموال، فبلغ من ذلك نفل الفارس من
ص: 172
المسلمين ستّة آلاف، و الراجل ألفين. فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم، و في ذلك يقول عفيف:
أ لم تر أنّ اللّه ذلّل بحره *** و أنزل بالكفّار إحدى الجلائل
دعونا الذي شقّ البحار فجاءنا *** بأعجب من شقّ البحار الأوائل(1)
/و أقفل العلاء الناس(2) إلاّ من أحبّ المقام، فاختار ثمامة بن أثال الذي نفّله العلاء خميصة الحطم حين نزل على ماء لبني قيس بن ثعلبة، فلمّا رأوه عرفوا الخميصة فبعثوا إليه رجلا فسألوه: أ هو الذي قتل الحطم؟ قال: لا، و لوددت أنّى قتلته. قال: فأنّى لك حلّته؟ قال: نفّلتها. قالوا: و هل ينفّل إلا القاتل. قال: إنها لم تكن عليه إنّما كانت في رحله. قالوا: كذبت. فقتلوه، و كان بهجر راهب فأسلم فقيل له: ما دعاك إلى الإسلام فقال: ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني اللّه بعدها إن أنا لم أفعل: فيض في الرمال، و تمهيد أثباج البحور، و دعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السّحر. قالوا: و ما هو؟ قال: «اللهمّ إنك أنت الرّحمن الرّحيم، لا إله غيرك، و البديع ليس قبلك شيء، و الدائم غير الغافل، و الحيّ الذي لا يموت، و خالق ما يرى و ما لا يرى، و كلّ يوم أنت في شأن، و علمت اللهم كلّ شيء بغير تعليم»(3). فعلمت أنّ القوم لم يعاونوا بالملائكة إلاّ و هم على أمر اللّه جلّ و عز.
فلقد كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يسمعون هذا من ذلك الهجريّ بعد.
يا خليليّ من ملام دعاني *** و ألمّا الغداة بالأظعان
لا تلوما في آل زينب إنّ ال *** قلب رهن بآل زينب عان(4)
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء للغريض، خفيف رمل بالبنصر. و هذا الشعر يقوله في زينب بنت موسى، أخت قدامة بن موسى الجمحيّ.
أخبرني حرمي بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزّبير بن بكار قال: حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد اللّه بن أبي سلمة، قال: حدّثني قدامة بن موسى قال:
خرجت بأختي زينب بنت موسى إلى العمرة، فلما كنت بسرف(5) لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلّم عليّ، فقلت: إنّي أراك متوجّها يا أبا الخطاب؟ قال: ذكرت لي امرأة من قومي برزة الجمال(6)، فأردت الحديث معها. قلت: أ ما علمت أنّها أختي؟ قال: لا و اللّه. و استحيا و ثنى عنق فرسه راجعا إلى مكة.
ص: 173
أخبرني حرمي قال حدّثني الزبير: قال حدّثني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز(1) الزهري قال:
نسب(2) ابن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحيّ، أخت قدامة بن موسى، فقال:
يا خليليّ من ملام دعاني
/و ذكر البيتين و بعدهما:
لم تدع للنّساء عندي نصيبا *** غير ما قلت مازحا بلساني
فقال له ابن أبي عتيق: أمّا قلبك فمغيّب عنّا، و أمّا لسانك فشاهد عليك.
أخبرني الحرمي قال: حدّثني الزبير قال: قال عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز الزهري: لمّا نسب عمر بن أبي ربيعة بزينب قال:
لم تدع للنّساء عندي نصيبا *** غير ما قلت مازحا بلساني
/قال له ابن أبي عتيق: رضيت لهما بالمودّة، و للنساء بالدّهفشة(3).
قال: و الدهفشة: التجميش(4) و الخديعة بالشيء اليسير.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزبير قال: أخبرني مثل ذلك عبد الملك بن عبد العزيز، عن يوسف بن الماجشون قال:
فبلغ ذلك أبا وداعة السهمي فأنكره، فقيل لابن أبي عتيق: أبو وداعة قد اعترض لعمر بن أبي ربيعة دون زينب بنت موسى الجمحيّ و قال: لا أقرّ له أن يذكر في الشعر امرأة من بني هصيص. فقال ابن أبي عتيق: لا تلوموا أبا وداعة أن ينعظ من سمرقند على أهل عدن.
قال عبد الملك: و فيها يقول أيضا عمر:
طال عن آل زينب الإعراض *** للتعزّي و ما بنا الإبغاض
و وليدا قد كان علّقها القل *** ب إلى أن علا الرءوس البياض
حبلها عندنا متين و حبلي *** عندها واهن القوى أنقاض
غنّاه ابن محرز رمل بالبنصر عن حبش. و فيها يقول أيضا:
أيها الكاشح المعيّر بالصّر *** م تزحزح فما بها الهجران
ص: 174
لا مطاع في آل زينب فارجع *** أو تكلّم حتّى يملّ اللسان
فاجعل الليل موعدا حين يمسي *** و يعفّي حديثنا الكتمان
كيف صبري عن بعض نفسي و هل يص *** بر عن بعض نفسه إنسان
/و لقد أشهد المحدّث عند ال *** قصر فيه تعفّف و بيان
في زمان من المعيشة لذّ *** قد مضى عصره و هذا زمان
عروضه من الخفيف، غناه ابن سريج، و لحنه رمل بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية، و وافقته دنانير.
و ذكر يونس. أنّ فيه لابن محرز و لابن عباد الكاتب لحنين، و لم يجنّسهما. و أوّل لحن عباد: «لا مطاع في آل زينب»، و أوّل لحن ابن محرز: «و لقد أشهد المحدّث».
قال: و فيها يقول أيضا:
أحدّث نفسي و الأحاديث جمّة *** و أكبر همّي و الأحاديث زينب
إذا طلعت شمس النهار ذكرتها *** و أحدث ذكراها إذا الشمس تغرب(1)
ذكر حمّاد عن أبيه أنّ فيه للهذليّ لحنا لم ينسبه.
يا نصب عيني لا أرى *** حيث التفتّ سواك شيّا
إنّي لميت إن صدد *** ت و إن وصلت رجعت حيّا
الشعر لعليّ بن أديم الجعفي الكوفي، و الغناء لعمرو بن بانة، رمل بالوسطى.
ص: 175
16 - ذكر علي بن أديم(1) و خبره
هو رجل من تجار أهل الكوفة كان يبيع البزّ، و كان متأدّبا صالح الشّعر، يهوى جارية يقال لها منهلة، و استهيم(2) بها مدّة ثم بيعت فمات أسفا عليها. و له حديث طويل معها في كتاب مفرد مشهور، صنعه أهل الكوفة(3)لهما، فيه ذكر قصصهما وقتا وقتا، و ما قال فيها من الأشعار. و أمرهما متعالم عند العامّة، و ليس مما يصلح الإطالة به.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني محمد بن داود بن الجراح(4) قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: قال دعبل بن علي:
كان بالكوفة رجل يقال له عليّ بن أديم، و كان يهوى جارية لبعض أهلها، فتعاظم أمره و بيعت الجارية فمات جزعا عليها، و بلغها خبره فماتت.
قال: و حدّثني بعض أهل الكوفة أنّه علقها و هي صبية تختلف(5) إلى الكتاب، فكان يجيء إلى ذلك المؤدّب فيجلس عنده لينظر إليها، فلما أن بلغت باعها مواليها لبعض الهاشميين، فمات جزعا عليها. قال: و أنشدني له أيضا:
صاحوا الرّحيل و حثّني صحبي *** قالوا الرواح فطيّروا لبّي
و اشتقت شوقا كاد يقتلني *** و النفس مشرفة على نحب(6)
لم يلق عند البين ذو كلف *** يوما كما لاقيت من كرب
ص: 176
لا صبر لي عند الفراق على *** فقد الحبيب و لوعة الحبّ(1)
الشعر لعليّ بن أديم الكوفي الجعفي، و الغناء لحكم الواديّ. و ذكر حبش أن لإبراهيم بن أبي الهيثم فيه لحنا(2). و اللّه أعلم.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثني أبو بكر العمري قال: حدّثني دعبل بن عليّ قال:
كان بالكوفة رجل من بني أسد يقال له عليّ بن أديم، فهوي(3) جارية لبعض نساء بني عبس، فباعتها لرجل من بني هاشم، فخرج بها عن الكوفة، فمات علي بن أديم جزعا عليها بعد ثلاثة أيام من خروجها، و بلغها خبره فماتت بعده(4)، فعمل أهل الكوفة لهما أخبارا هي مشهورة عندهم.
حدّثني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثنا أبو بكر العمري(5) قال حدّثنا أبو صالح الأزديّ قال: حدّثنا محمد بن الحسين الكوفيّ قال: حدّثنا محمد بن سماعة قال:
/آخر من مات من العشق عليّ بن أديم الجعفيّ، مرّ بمكتب في بني عبس بالكوفة، فرأى فيه جارية تسمّى منهلة، عليها ثياب سواد، فاستهيم بها و أعجبته، و كلف بها و قال فيها:
إنّي لما يعتادني *** من حبّ لابسة السواد
/في فتنة و بليّة *** ما إن يطيقهما فؤادي
فبقيت لا دنيا أصب *** ت و فاتني طلب المعاد
و سأل عنها فإذا لها مالكة عبسية، و كان ابن أديم خزّازا(6)، فتحمّل أبوه بجماعة من التّجّار على مولاتها لتبيعها فأبت، و خرج إلى أمّ جعفر و رفع إليها قصّته يسألها فيها المعونة على الجارية، فخرج له توقيع بما أحبّ، و أقام يتنجّز تمام أمره. فينا هو ذات يوم على باب أم جعفر إذ خرجت امرأة من دارها فقالت: أين العاشق؟ فأشاروا إليه فقالت: أنت عاشق و بينك و بين من تحب القناطر و الجسور، و المياه و الأنهار، مع ما لا يؤمن من حدوث الحوادث، فكيف تصبر على هذا، إنّك لجسور صبور! فخامر قلبه هذا القول و جزع، فبادر(7) فاكترى بغلا إلى الكوفة، على الدخول، فمات يوم دخول الكوفة.
ص: 177
هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد، مولى ثقيف. و كان أبوه صاحب ديوان و وجها من وجوه الكتّاب، و ينسب إلى أمّه بانة [بنت روح](1) القحطبية(2). و كان مغنّيا محسنا، و شاعرا صالح الشعر، و صنعته صنعة متوسّطة، النادر منها ليس بالكثير(3)، و كان يقعده عن اللّحاق بالمتقدّم(4) في الصنعة أنه كان مرتجلا، و المرتجل من المحدثين لا يلحق الضّرّاب. و على ذلك فما فيه مطعن، و لا يقصّر جيّد صنعته عن صنعة [غيره من](5) طبقته و إن كانت قليلة، و روايته أحسن رواية.
و كتابه في «الأغاني» أصل من الأصول، و كان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدي في الغناء و تجنيسه، و يخالف إسحاق و يتعصّب عليه تعصّبا شديدا، و يواجهه بذلك و ينصر إبراهيم بن المهديّ عليه. و كان تيّاها معجبا شديد الذهاب بنفسه، و هو معدود في ندماء الخلفاء و مغنّيهم، على ما كان به من الوضح. و فيه يقول الشاعر:
أقول لعمرو و قد مرّ بي *** فسلّم تسلمية جافية
لئن فضّلوك بفضل الغناء *** لقد فضّل اللّه بالعافية(6)
و قال ابن حمدون: كان عمرو حسن الحكاية لمن أخذ الغناء عنه، حتّى كان من يسمعه لو توارى عن عينه عمرو ثم غنّى لم يشكك في أنّه هو الذي أخذ عنه، لحسن حكايته، و كان محظوظا(7) ممن يعلّمه، ما علّم أحدا قطّ إلا خرج نادرا مبرّزا.
/فأخبرني جحظة قال حدّثني أبو العبيس بن حمدون قال: قال لي عمرو بن بانة: علّمت عشرة غلمان كلّهم
ص: 178
تبيّنت(1) فيهم الثقافة و الحذق، و علمت أنّه يتقدم، أحدهم(2) أنت، و تمرة، و ما تبيّنت(1) قطّ من أحد خلاف ذلك فعلمته.
و قال محمد بن الحسن الكاتب: حدّثني أبو حارثة الباهليّ(3) عن أخيه أبي معاوية قال:
سمعت عمرو بن بانة يقول لإسحاق في كلام جرى بينهما: ليس مثلي يقاس بمثلك، لأنّك تعلّمت الغناء تكسّبا، و تعلّمته تطرّبا، و كنت أضرب لئلا أتعلّمه، و كنت تضرب حتّى تتعلّمه.
و أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن الحسن [بن](4) الحرون قال:
اجتمع عمرو بن بانة و الحسين بن الضّحاك في منزل ابن شعوف، و كان له خادم يقال له مفحم(5)، و كان عمرو يتّهم به، /فلما أخذ(6) فيه الشراب سأل عمرو الحسين بن الضحاك أن يقول في مفحم شعرا ليغني فيه، فقال الحسين:
وا بأبي مفحم لغرّته *** قلت له إذ خلوت مكتتما(7)
تحب باللّه من يخصّك بالح *** بّ فما قال لا و لا نعما(8)
الشعر للحسين بن الضحاك، و الغناء لعمرو بن بانة، ثاني ثقيل بالبنصر.
/قال: فغنى فيه عمرو. و لم يزل هذا الشعر غناءهم، و فيه طربهم، إلى أن تفرّقوا. و أتاهم في عشيّتهم إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسألوا ابن شعوف(9) أن لا يأذن له، فحجبه، و انصرف إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى منزله، فلما تفرّقوا مرّ به الحسين بن الضحاك و هو سكران، فأخبره بجميع ما دار بينهما في مجلسهم، فكتب إسحاق إلى ابن شعوف:
يا ابن شعوف أ ما سمعت بما *** قد صار في الناس كلّهم علما
أتاك عمرو فبات ليلته *** في كلّ ما يشتهى كما زعما
حتّى إذا ما الظلام خالطه *** سرى دبيبا فجامع الخدما
ص: 179
ثمّت لم يرض أن يفوز بذا *** سرّا و لكن أبدى الذي كتما
حتّى تغنّى لفرط صبوته *** صوتا شفى من فؤاده السّقما
«وا بأبي مفحم لغرته *** قلت له إذ خلوت مكتتما(1)
تحبّ باللّه من يخصّك بال *** ودّ فما قال لا و لا نعما»
فهجر ابن شعوف عمرو بن بانة مدّة و قطع عشرته.
و أخبرني محمد بن العباس اليزيدي بهذا الخبر قال: حدّثني ميمون بن الأزرق(2) قال:
كان لمحمد بن شعوف الهاشميّ ثلاثة غلمان مغنّين، و منهم اثنان صقلبيان محبوبان: خاقان و حسين، و كان خاقان أحسن الناس غناء، و كان حسين يغنّي غناء متوسطا، و هو مع ذلك أضرب الناس، و كان قليل الكلام جميل الأخلاق، /أحسن الناس وجها و جسما، و كان الغلام الثالث فحلا يقال له حجّاج، حسن الوجه روميّ [حسن](3)الغناء، فتعشّق عمرو بن بانة منهم المعروف بحسين و قال فيه:
وا بأبي مفحم لغرته *** قلت له إذ خلوت مكتتما
تحبّ باللّه من يخصّك بال *** ودّ فما قال لا و لا نعما
و لم يذكر غير هذا.
و قال محمد بن الحسن: حدّثني أبو الحسين(4) العاصمي قال:
دخلت أنا و صديق لي على عمرو بن بانة في يوم صائف، فصادفناه جالسا في ظلّ طويل ممتع(5)، فدعاني إلى مشاركته فيه، و جعل يغنّينا(6) يومه كلّه لحنه:
نقابك فاتن لا تفتنينا *** و نشرك طيّب لا تحرمينا
و خاتمك اليماني غير شكّ *** ختمت به رقاب العالمينا
الغناء لعمرو بن بانة، هزج خفيف بالبنصر.
قال: فما طربت لغناء قطّ طربي له، و لا سمعت/أشجى و لا أكثر نغما، و لا أحسن من غنائه(7).
ص: 180
أخبرني جحظة قال: حدّثني أبو حشيشة قال:
كنت يوما عند عمرو بن بانة، فزاره خادم كان يحبّه [فأقام عنده](1)، فطلب عمرو في الدنيا كلّها من يضرب عليه فلم يجد أحدا، فقال له جعفر الطبّال: إن أنا/غنّيتك اليوم على عود يضرب به عليك، أيّ شيء لي عندك؟ قال: مائة درهم و دستيجة(2) نبيذ. و كان جعفر متقدّما نادرا(3) طيبا، و كان نذل الهمّة(4)، فقال: أسمعني مخرج صوتك. ففعل فسوّى عليه طبله كما يسوي الوتر، و اتكأ عليه بركبته فأوقع عليه(5). و لم يزل عمرو يغنّي بقية يومه على إيقاعه لا ينكر منه شيئا حتّى انقضى يومنا و دفع إليه مائة درهم، و أحضر الدستيجة(2) فلم يكن له من يحملها، فحملها جعفر على عنقه، و غطّاها بطيلسانه و انصرفنا.
قال أبو حشيشة: فحدّثت بهذا الحديث إسحاق بن عمرو بن بزيع، و كان صديق إبراهيم بن المهدي، فحدّثني أنّ إبراهيم بن المهدي قال له: يا جعفر حذّق فلانة جاريتي ضرب الطبل، و لك مائة دينار أعجّل لك منها خمسين.
قال: نعم. فعجّلت له الخمسون و علّمها، فلما حذقت طالب إبراهيم بتتمّة المائة فلم يعطه، فاستعدى عليه أحمد بن أبي دواد(6) الحسني خليفته فأعداه، و وكّل إبراهيم وكيلا، فلما تقدّم مع الوكيل إلى القاضي(7) أراد الوكيل أن يكسر حجّة جعفر فقال: أصلح اللّه القاضي، سله من أين له هذا الذي يدعي؟ و ما سببه؟ فقال جعفر:
أصلح اللّه القاضي أنا رجل طبّال، و شارطني إبراهيم على مائة دينار على أن أحذّق جاريته فلانة، و عجّل لي بخمسين دينارا و منعني الباقي بعد أن رضي حذقها، فيحضر القاضي الجارية/و طبلها، و أحضر أنا طبلي، و يسمعنا القاضي، فإن كانت مثلي قضى لي عليه، و إلاّ حذّقتها فيه حتى يرضى القاضي. فقال له القاضي: قم عليك و عليها لعنة اللّه، و على من يرضى بذلك منك و منها. فأخذ الأعوان بيده فأقاموه.
كنت عند عمرو بن بانة يوما ففتح باب داره فإذا بخادم أبيض شيخ قد دخل يقود بغلا له عليه مزادة، فلما رآه عمرو صرخ: لا إله إلا اللّه، ما أعجب أمرك يا دنيا! فقلت له: مالك؟ قال: يا أبا عبد اللّه(1)، هذا الخادم رزق غلام(2) علّوية المغني، الذي يقول فيه الحسين بن الضحاك الشاعر:
يا ليت رزقا كان من رزقي *** يا ليته حظّي من الخلق
قد صار إلى ما ترى. ثم غنّاني لحنا له في هذا الشعر، فما سمعت أحسن منه منذ خلقت.
يا ليست رزقا كان من رزقي *** يا ليته حظّي من الخلق
يا شادنا ملّكته رقّي *** فلست أرجو راحة العتق
الشعر للحسين بن الضحاك، و الغناء لعمرو بن بانة، و لحنه من الثقيل الأول بالوسطى.
و قال علي بن محمد الهشامي: حدّثني جدّي - يعني ابن حمدون - قال: كنا عند المتوكّل و معنا عمرو بن بانة، في آخر يوم من شعبان فقال له عمرو: يا أمير المؤمنين، /جعلني اللّه فداءك، تأمر لي بمنزل فإنه لا منزل لي يسعني. فأمر المتوكّل عبيد اللّه بن يحيى بأن يبتاع له منزلا يختاره. قال: و هجم/الصوم و شغل عبيد اللّه، و انقطع عمرو عنا، فلما أهلّ شوال دعا بنا المتوكل فكان أول صوت غناه عمرو في شعر هذا:
ملاّك ربّي الأعياد تخلقها *** في طول عمر يا سيد الناس(3)
دفعت عن منزل أمرت به *** فإنّني عنه مباعد خاس(4)
[فمر بتسليمه إليّ على *** رغم عدوّي بحرمة الكاس](5)
أعوذ باللّه و الخليفة أن *** يرجع ما قتله على راسي
لحن عمرو في هذا الموضع هزج بالبنصر.
فدعا المتوكّل بعبيد اللّه بن يحيى فقال له: لم دافعت عمرا بابتياع المنزل الذي كنت أمرتك بابتياعه؟ فاعتلّ بدخول الصوم و تشعّب الأشغال. فتقدّم إليه أن لا يؤخر ابتياع ذلك إليه، فابتاع له الدور التي في دور سرّ من رأى، بحضرة المعلّى بن أيوب. و فيها توفي عمرو.
ص: 182
أخبرني محمد بن إبراهيم قريص(1) قال: سمعت أحمد بن أبي العلاء [يحدث أستاذي - يعني محمد بن داود بن الجراح](2) قال: جمع عبد اللّه بن طاهر بين المغنين و أراد أن يمتحنهم، و أخرج بدرة دراهم سبقا(3) لمن تقدّم منهم و أحسن، فحضره مخارق، و علّويه، و عمرو بن بانة، و محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، فغنى/فلم يصنع شيئا، و تبعه محمد بن الحارث فكانت هذه سبيله، و امتدت الأعين إلى مخارق و عمرو، فبدأ مخارق فغنّى:
إني امرؤ من خيرهم *** عمّي و خالي من جذام
فما نهنهه عمرو مع انقطاع نفسه حتّى غنى:
يا ربع سلاّمة بالمنحنى *** بخيف سلع جادك الوابل
و كان إبراهيم بن المهدي حاضرا فبكى طربا و قال: أحسنت و اللّه و استحققت، فإن أعطيته و إلا فخذه من مالي، يا حبيبي عنّي أخذت هذا الصوت، و قد و اللّه زدت عليّ فيه و أحسنت غاية الإحسان، و لا يزال صوتي عليك أبدا. فقال له عبد اللّه: من حكمت له بالسّبق فقد حصل. و أمر له بالبدرة فحملت إلى عمرو.
ثمّ حدّثنا بعد ذلك أن إسحاق لقي عمرو بن راشد الخناق فقال له: قد بلغني خبر المجلس الذي جمع عبد اللّه فيه المغنّين يمتحنهم، و لو شاء لكان في راحة من ذلك. قلت: و كيف؟ قال: أمّا مخارق فأحسن القوم غناء إذا اتّفق له أن يحسن، و قلّما يتفق له ذلك. و أما محمد بن الحارث فأحسنهم شمائل، و أملحهم إشارة بأطراف وجهه في الغناء، و ليس له غير ذلك. و أما عمرو بن بانة فأعلم القوم و أرقاهم. و أ ما علّويه فمن أدخله ابن الزانية مع هؤلاء؟
إنّي امرؤ من خيرهم *** عمّي و خالي من جذام
خود كضوء البدر أو *** أضوا لدى الليل التمام(4)
يجري(5) وشاحاها على *** نحر نقيّ كالرّخام
/و الغناء لابن جامع، رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.
يا خليليّ من بني شيبان *** أنا لا شكّ ميّت فابكياني
إنّ روحي لم يبق منها سوى شي *** ء يسير معلّق بلساني
ص: 183
الشعر لأبي العتاهية، و الغناء لإبراهيم، رمل بالوسطى عن عمرو و الهشامي و إبراهيم.
و هذا الشعر يخاطب به أبو العتاهية عبد اللّه، و زائدة بن معن بن زائدة الشيباني، و كان صديقا و خاصا بهما.
ثم إنّ يزيد بن معن غضب لمولاة لهم يقال لها سعدى، و كان أبو العتاهية يشبّب بها، فضربه مائة سوط، فهجاه و هجا إخوته، ثم أصلح بينهم مندل بن عليّ العبدي، و هو مولى أبي العتاهية، فعاد إلى ما كان عليه لهم.
فأخبرني وكيع قال: حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه. و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قالا: قول أبي العتاهية:
يا خليليّ من بني شيبان
يخاطب به عبد اللّه و يزيد ابني معن بن زائدة، أو قال عبد اللّه و زائدة.
أخبرني ابن عمار قال: حدّثني زيد بن موسى بن حماد. و أخبرني محمد بن يحيى قال: حدّثني محمد بن سعيد. قال حدّثني أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية قال:
كان أبو العتاهية في حداثته يهوى امرأة من أهل الحيرة نائحة(1)، لها حسن/و جمال و دماثة، و كان ممن يهواها أيضا عبد اللّه بن معن بن زائدة أبو الفضل؛ و كانت مولاة لهم يقال لها سعدى، و كان أبو العتاهية مغرما بالنساء فقال فيها:
ألا يا ذوات السحق في الغرب و الشرق *** أفقن فإنّ النيك أشهى من السحق
أفقن فإنّ الخبز بالأدم يشتهى *** و ليس يسوغ الخبز بالخبر في الحلق
أراكنّ ترقعن الخروق بمثلها *** و أيّ لبيب يرقع الخرق بالخرق
و هل يصلح المراس إلاّ بعوده *** إذا احتيج منه ذات يوم إلى الدقّ
قال و قال فيه أيضا:
قلت للقلب إذ طوى وصل سعدى *** لهواه البعيدة الأنساب
أنت مثل الذي يفرّ من القط *** ر حذار الندى إلى الميزاب
قال محمد بن محمد في خبره: فغضب عبد اللّه بن معن لسعدى(2)، فضرب أبا العتاهية مائة فقال:
جلدتني بكفّها *** بنت معن بن زائدة
جلدتني بكفّها *** بأبي أنت جالده
جلدتني و بالغت *** مائة غير واحده
ص: 184
اجلدي اجلدي اجلدي *** إنّما أنت والده
أخبرني وكيع قال: حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال:
احتال عبد اللّه بن معن فضرب أبا العتاهية ضربا غير مبرّح، إشفاقا مما يغنّى(1) به، فقال:
اجلدي اجلدي اجلدي *** إنّما أنت والده
/أخبرني محمد بن يحيى قال: حدّثنا الغلابي قال: حدّثني مهدي قال:
تهدد عبد اللّه بن معن أبا العتاهية و خوّفه و نهاه أن يعرض لمولاته سعدى، فقال أبو العتاهية قوله:
ألا قل لابن معن و الذي في الودّ قد حالا
لقد بلّغت ما قال *** فما باليت ما قالا
و لو كان من الأسد *** لما راع و لا هالا
فصغ ما كنت حلّيت *** به سيفك خلخالا
فما تصنع بالسيف *** إذا لم تك قتّالا
و لو مدّ إلى أذني *** ه كفّيه لما نالا
قصير الطّول و الطّول *** فلا شبّ و لا طالا
أرى قومك أبطالا *** و قد أصبحت بطّالا
أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني الحسن بن علي الرازي قال حدّثني أحمد بن أبي فنن قال:
كنّا عند ابن الأعرابي فذكر قول يحيى بن نوفل في عبد الملك بن عمير القاضي:
إذا كلّمته ذات دلّ لحاجة *** فهمّ بأن يقضي تنحنح أو سعل
و أن عبد الملك بن سليمان بن عمير(2) قال: تركني و اللّه و إنّ السّعلة لتعرض لي في الخلاء فأذكر قوله فأتركها. قال: فقلت له: هذا عبد اللّه بن معن بن زائدة يقول له أبو العتاهية:
فصغ ما كنت حلّيت *** به سيفك خلخالا
و ما تصنع بالسيف *** إذا لم تك قتّالا
/قال: فقال عبد اللّه: ما لبست السيف قطّ فلمحني إنسان إلا قلت إنّه يحفظ شعر أبي العتاهية فيّ، فينظر إليّ بسببه. فقال ابن الأعرابي: اعجبوا إليه لعنه اللّه يهجو مولاه(3)! و كان أبو العتاهية من موالي بني شيبان.
ص: 185
و قال محمد بن موسى في خبره: و قال أبو العتاهية يهجو عبد اللّه بن معن:
لا تكثرا يا صاحبي رحلي *** في شتم من أكثر من عذلي
سبحان من خصّ ابن معن بما *** أرى به من قلّة العقل
قال ابن معن و جلا نفسه *** علي من الجلوة يا أهلي(1)
أنا فتاة الحيّ من وائل *** في الشّرف الباذخ و النّبل
ما في بني شيبان أهل الحجى *** جارية واحدة مثلي
يا ليتني أبصرت دلاّلة *** تدلّني اليوم على فحل
وا لهفتا اليوم على أمرد *** يلصق منّي القرط بالحجل
أتيته يوما فصافحته *** فقال دع كفّي و خذ رجلي
يكنى أبا الفضل فيا من رأى *** جارية تكنى أبا الفضل
قد نقّطت في خدّها نقطة *** مخافة العين من الكحل(2)
/إن زرتموها قال حجّابها *** نحن عن الزوّار في شغل
مولاتنا خالية عندها *** بعل و لا إذن على البعل
قولا لعبد اللّه لا تجهلن *** و أنت رأس النّوك و الجهل
أ تجلد الناس و أنت امرؤ *** تجلد في الدّبر و في القبل
/تبذل ما يمنع أهل الندى *** هذا لعمري منتهى البذل
ما ينبغي للناس أن ينسبوا *** من كان ذا جود إلى البخل
و قال في ضربه إياه:
ضربتني بكفّها بنت معن *** أوجعت كفّها و ما أوجعتني
و لعمري لو لا أذى كفّها إذ *** ضربتني بالسّوط ما تركتني
أخبرني ابن عمار قال حدّثني محمد بن موسى. و أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني جبلة بن محمد(3) قالا:
لما اتصل هجاء أبي العتاهية بعبد اللّه بن معن غضب من ذلك أخوه يزيد بن معن، فهجاه أبو العتاهية فقال:
بنى معن و يهدمه يزيد *** كذاك اللّه يفعل ما يريد
فمعن كان للحساد غمّا *** و هذا قد يسرّ به الحسود
يزيد يزيد في منع و بخل *** و ينقص في النوال و لا يزيد
ص: 186
أخبرني محمد بن يحيى عن جبلة بن محمد قال حدّثني أبي قال: [لمّا](1) هجا أبو العتاهية بني معن فمضوا إلى مندل و حيان(2) ابني عليّ العنزبين الفقيهين، و كانا من سادات أهل الكوفة، و هما من بني عمرو بن عمرو، بطن من يقدم بن عنزة(3)، فقالوا لهما: نحن بيت واحد و أهل و لا فرق بيننا(4)، و قد أتانا من مولاكم هذا ما لو أتى من بعيد الولاء لوجب أن تردعاه. فأحضرا أبا العتاهية و لم يكن يمكنه الخلاف عليهما، فأصلحا بينه و بين عبد اللّه و يزيد ابني معن، و ضمنا عنه خلوص النية، و عنهما ألاّ يتتبعاه/بسوء، و كانا ممن لا يمكن خلافهما، فرجعت الحال إلى المودّة و الصفاء، و جعل الناس يعذلون أبا العتاهية فيما فرط منه، و لامه آخرون على صلحه لهم، فقال:
ما لعذّالي و ما لي *** أمروني بالضلال
عذلوني في اغتفاري *** لابن معن و احتمالي
أنا منه كنت أكبى *** زندة في كل حال
كلّ ما قد كان منه *** فلقبح من فعالي
إنّما كانت يميني *** صرمت جهلا شمالي(5)
ماله بل نفسه لي *** و له نفسي و مالي
قل لمن يعجب من حس *** ن رجوعي و انتقالي
قد رأينا ذا كثيرا *** جاريا بين الرجال
ربّ وصل بعد صدّ *** و قلى بعد وصال
/أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا محمد بن موسى قال:
كان أبو العباس زائدة بن معن صديقا لأبي العتاهية، و لم يعن أخويه عليه، فمات فرثاه فقال:
حزنت لموت زائدة بن معن *** حقيق أن يطول عليه حزني
فتى الفتيان زائدة المصفّى *** أبو العباس كان أخي و خدني
فتى قومي و أيّ فتى توارت *** به الأكفان تحت ثرى و لبن(6)
ألا يا قبر زائدة بن معن *** دعوتك كي تجيب فلم تجبني
سل الأيام عن أركان قومي *** أصبت بهنّ ركنا بعد ركن(7)
ص: 187
فما روضة بالحزن طيّبة الثرى *** يمجّ الندى جثجاثها و عرارها
بأطيب من أردان عزّة موهنا *** و قد أوقدت بالمندل الرّطب نارها
فإن خفيت كانت لعينيك قرّة *** و إن تبد يوما لم يعمّمك عارها(1)
من الخفرات البيض لم تر شقوة *** و في الحسب المكنون صاف نجارها
الشعر لكثيّر، و الغناء لمعبد في الأوّل و الثاني، و لحنه من الثقيل الأوّل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و ذكر عمرو بن بانة أنه لابن سريج. و للغريض في الرابع و الثالث(2) ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و حبش.
و ذكر الهشامي أنّ في الأوّل و الثاني رملا لابن سريج بالوسطى.
ذكر عمرو و حبش أنّ فيه رملا لابن جامع بالبنصر.
و في الأبيات خفيف ثقيل يقال إنه لمعبد، و يقال إنه للغريض، و أحسبه للغريض.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبة هكذا موقوفا لم يتجاوز. و أخبرني أنّ كثيّر بن عبد الرّحمن كان غاليا في التشيّع. و أخبر عن قطام صاحبة ابن ملجم في قدمة قدمها الكوفة فأراد الدخول عليها ليوبّخها، فقيل له: لا تردها فإن لها جوابا. فأبى و أتاها فوقف على بابها فقرعه فقالت: من هذا؟ فقال: كثيّر بن عبد الرّحمن الشاعر. فقالت لبنات عمّ لها: تنحين حتى يدخل الرجل. فولجن البيت و أذنت له، فدخل و تنحت من بين يديه، فرآها و قد ولّت/فقال لها: أنت قطام؟ قالت: نعم. قال: صاحبة علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قالت: صاحبة عبد الرّحمن بن ملجم. قال: أ ليس فيك قتل علي بن أبي طالب؟ قالت: بل مات بأجله. قال: أما و اللّه لقد كنت أحبّ أن أراك، فلما رأيتك نبت عيني عنك، فما احلوليت في خلدي. قالت: و اللّه إنّك لقصير القامة، عظيم الهامة، قبيح المنظر، و إنك لكما قال الأوّل: «تسمع بالمعبديّ خير من أن تراه»(3). فقال:
رأت رجلا أودى السّفار بوجهه *** فلم يبق إلا منظر و جناجن(4)
فإن أك معروق العظام فإنني *** إذا وزن الأقوام بالقوم وازن(5)
و إني لما استودعتني من أمانة *** إذا ضاعت الأسرار للسر دافن
ص: 188
فقالت: أنت للّه أبوك كثيّر عزة؟ قال: نعم. قالت: الحمد للّه الذي قصّر بك فصرت لا تعرف/إلا بامرأة! فقال: الأمر كذلك، فو اللّه لقد سار بها شعري و طار بها ذكري، و قرب من الخليفة مجلسي، و أنا لكما قلت:
فإن خفيت كان لعينك قرّة *** و إن تبد يوما لم يعمّك عارها
فما روضة بالحزن طيبة الثرى *** يمجّ الندى جثجاثها و عرارها
بأطيب من أردان عزّة موهنا *** و قد أوقدت بالمندل اللّدن نارها
فقالت: باللّه ما رأيت شاعرا قطّ أنقص عقلا منك، و لا أضعف وصفا، أين أنت من سيدك امرئ القيس حيث يقول:
/أ لم ترياني كلّما جئت طارقا *** وجدت بها طيبا و إن لم تطيّب
فخرج و هو يقول:
الحقّ أبلج لا يخيل سبيله *** و الحقّ يعرفه ذو و الألباب(1)
هاك فاشربها خليلي *** في مدى الليل الطويل
قهوة في ظلّ كرم *** سبيت من نهر بيل(2)
في لسان المرء منها *** مثل طعم الزنجبيل
قل لمن يلحاك فيها *** من فقيه أو نبيل(3)
أنت دعها و ارج أخرى *** من رحيق السلسبيل
تعطش اليوم و تسقى *** في غد نعت الطّلول
الشعر لآدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، و الغناء لإبراهيم الموصلي، هزج بالبنصر عن حبش.
و لإبراهيم بن المهدي في الخامس و السادس و الأوّل خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي. و لهاشم فيها ثاني ثقيل بالبنصر، و قيل لعبد الرّحيم(4).
ص: 189
آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
و أمه أم عاصم بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم أيضا.
و هو أحد من منّ عليه أبو العباس السفاح من بني أمية لمّا قتل من وجد منهم.
و كان آدم في أوّل أمره خليعا ماجنا منهمكا(1) في الشراب، ثم نسك بعد ما عمّر، و مات على طريقة محمودة.
و أخبرني الحسين بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي، عن الزبير بن بكار عن عمّه:
أنّ المهديّ أنشد هذه الأبيات و غنّى فيها بحضرته:
أنت دعها و ارج أخرى *** من رحيق السلسبيل
فسئل عن قائلها فقيل آدم بن عبد العزيز بن عمرو بن عبد العزيز، فدعا به فقال له: ويلك تزندقت؟ قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، و متى رأيت قرشيّا تزندق؟ و المحنة في هذا إليك(2)، و لكنّه طرب غلبني، و شعر طفح على قلبي في حال الحداثة فنطقت به. فخلى سبيله.
قال: و كان المهديّ يحبه و يكرمه، لظرفه و طيب نفسه.
/و روي هذا الخبر عن مصعب الزبيري و إسحاق/بن إبراهيم الموصلي قال:
ص: 190
كان آدم بن عبد العزيز يشرب الخمر و يفرط في المجون، و كان شاعرا، فأخذه المهديّ فضربه ثلاثمائة سوط على أن يقرّ بالزندقة، فقال: و اللّه ما أشركت باللّه طرفة عين، و متى رأيت قرشيّا تزندق؟ قال: فأين قولك:
اسقني واسق غصينا *** لا تبع بالنقد دينا
اسقنيها مزّة الطع *** م تريك الشّين زينا(1)
- في هذين البيتين لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى، و لإبراهيم هزج بالبنصر -.
قال: فقال لئن كنت ذاك فما هو ممّا يشهد على قائله بالزندقة. قال: فأين قولك:
اسقني واسق خليلي *** في مدى الليل الطويل
قهوة صهباء صرفا *** سبيت من نهر بيل
لونها أصفر صاف *** و هي كالمسك الفتيل(2)
في لسان المرء منها *** مثل طعم الزنجبيل
ريحها ينفح منها *** ساطعا من رأس ميل
من ينل منها ثلاثا *** ينس منهاج السبيل(3)
فمتى ما نال خمسا *** تركته كالقتيل
/ليس يدري حين ذاكم *** ما دبير من قبيل(4)
إنّ سمعي عن كلام ال *** لائمي فيها الثقيل
لشديد الوقر، إنّي *** غير مطواع ذليل
قل لمن يلحاك فيها *** من فقيه أو نبيل
أنت دعها و ارج أخرى *** من رحيق السلسبيل
نعطش اليوم و نسقى *** في غد نعت الطول
فقال: كنت فتى من فتيان قريش، أشرب النبيذ و أقول ما قلت على سبيل المجون، و اللّه ما كفرت باللّه قطّ، و لا شككت فيه. فخلّى سبيله و رقّ له.
قال مصعب: و هو الذي يقول:
اسقني يا معاوية *** سبعة أو ثمانية
ص: 191
اسقنيها و غنّني *** قبل أخذ الزّبانيه
اسقنيها مدامة *** مزّة الطعم صافية(1)
ثمّ من لامنا علي *** ها فذاك ابن زانيه
فيه خفيف رمل بالبنصر ينسب إلى أحمد بن المكي، و إلى حكم الواديّ.
قال: و آدم الذي يقول:
أقول و راعني إيوان كسرى *** برأس معان أو أدروسفان(2)
و أبصرت البغال مربّطات *** به من بعد أزمنة حسان(3)
/يعزّ على أبي ساسان كسرى *** بموقفكنّ في هذا المكان
/شربت على تذكّر عيش كسرى *** شرابا لونه كالزعفران
و رحت كأنّني كسرى إذا ما *** علاه التاج يوم المهرجان
قال و هو الذي يقول:
أحبّك حبّين لي واحد *** و آخر أنّك أهل لذاك
فأما الذي هو حبّ الطباع *** فشيء خصصت به عن سواك
و أما الذي هو حبّ الجمال *** فلست أرى ذاك حتّى أراك
و لست أمنّ بهذا عليك *** لك المنّ في ذا و هذا و ذاك
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزبير بن بكار قال: حدّثني عمي عن فليح بن سليمان قال:
مررنا يوما مع خالصة(4) في موكبها، فوقفت على آدم بن عبد العزيز فقالت: يا أخي طلبت منا حاجة فرفعناها لك إلى السيّدة(5) و أمرت بها و هي في الديوان، فساء ظنّك بها فقعدت عن تنجّزها. قال: فموّه لها عذرا اعتذر به فوقفت عن الموكب حتّى مضت، ثم قلت له: أخملت نفسك، و اللّه ما أحسب أنّه حبسك عنها إلا الشراب، أنت ترى الناس يركضون خلفها و هي ترفّ عليك لحاجتك(6). فقال: و اللّه هو ذاك، إذا أصبحت فكل كسرة و لو بملح،
ص: 192
و افتح دنّك فإن كان حامضا دبغ معدتك، و إن كان حلوا خرطك(1)، و إن كان مدركا فهو الذي أردت. /قلت: لا بارك اللّه عليك. و مضيت، ثم أقلع بعد ذلك و تاب. فاستأذن يوما على يعقوب بن الربيع و أنا عنده فقال يعقوب:
ارفعوا الشراب فإنّ هذا قد تاب و أحسبه يكره أن يراه. فرفع و أذن له، فلما دخل قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاٰ أَنْ تُفَنِّدُونِ . قال يعقوب: هو الذي وجدت، و لكنّنا ظنّنا أن يثقل عليك لتركك الشراب. قال: إي و اللّه، إنّه ليثقل عليّ ذاك. قال: فهل قلت في ذلك شيئا منذ تركته؟ قال قتل:
ألا هل فتى عن شربها اليوم صابر *** ليجزيه يوما بذلك قادر
شربت فلمّا قيل ليس بنازع *** نزعت و ثوبي من أذى اللّوم طاهر
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال: حدّثني أبو هفان عن إسحاق قال:
كان مع المهدي رجل من أهل الموصل يقال له سليمان بن المختار، و كانت له لحية عظيمة، فذهب يوما ليركب فوقعت لحيته تحت قدمه في الركاب فذهب عامّتها، فقال آدم بن عبد العزيز قوله:
قد استوجب في الحكم *** سليمان بن مختار
بما طوّل من لحي *** ته جزّا بمنشار
أو السيف أو الحلق *** أو التحريق بالنار
فقد صار بها أشه *** ر من راية بيطار(2)
فقال: ثم أنشدها عمر بن بزيغ المهديّ فضحك، و سارت الأبيات، فقال أسيد بن أسيد، و كان وافر اللحية:
ينبغي لأمير المؤمنين أن يكفّ هذا الماجن عن الناس. فبلغت آدم بن عبد العزيز فقال:
/لحية تمّت و طالت *** لأسيد بن أسيد
/كشراع من عباء *** قطعت حبل الوريد(3)
يعجب الناظر منها *** من قريب و بعيد
هي إن زادت قليلا *** قطعت حبل الوريد
و قال: و كان المهديّ يدني آدم و يحبّه و يقرّبه، و هو الذي قال لعبد اللّه بن علي لما أمر بقتله في بني أمية بنهر أبي فطرس(4): إنّ أبي لم يكن كآبائهم، و قد علمت مذهبه فيكم. فقال: صدقت، و أطلقه. و كان طيّب النفس متصوّفا، و مات على توبة و مذهب جميل.
ص: 193
ألا يا صاح للعجب *** دعوتك ثم لم تجب
إلى القينات و اللذّا *** ت و الصّهباء و الطّرب
و منهنّ التي تبلت *** فؤادك ثمّ لم تتب
الشعر ليزيد بن معاوية، يقوله للحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام. و الغناء لسائب خاثر، خفيف رمل بالوسطى عن حبش.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدّثني المدائني قال:
قدم سلم بن زياد على يزيد فنادمه، فقال له ليلة: أ لا أولّيك خراسان؟ قال: بل و سجستان. فعقد له في ليلته فقال:
/اسقني شربة فروّ عظامي *** ثم عد واسق مثلها ابن زياد
موضع السرّ و الأمانة منّي *** و على ثغر مغنمي و جهادي
قال: و لمّا رجع في خلافة أبيه جلس بالمدينة على شراب، فاستأذن عليه عبد اللّه بن العباس، و الحسين بن علي، فأمر بشرابه فرفع و قيل له: إنّ ابن عباس إن وجد ريح شرابك عرفه. فحجبه و أذن للحسين، فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطّيب فقال: للّه درّ طيبك هذا ما أطيبه، و ما كنت أحسب أحدا يتقدّمنا في صنعة الطيب، فما هذا يا ابن معاوية؟ فقال: يا أبا عبد اللّه، هذا طيب يصنع لنا بالشأم. ثم دعا بقدح فشربه، ثم دعا بقدح آخر فقال: اسق أبا عبد اللّه يا غلام. فقال الحسين: عليك شرابك أيها المرء، لا عين عليك منّي. فشرب و قال:
ألا يا صاح للعجب *** دعوتك ثم لم تجب
إلى القينات و اللذّا *** ت و الصّهباء و الطرب
و باطية مكلّلة *** عليها سادة العرب(1)
و فيهن التي تبلت *** فؤادك ثم لم تتب(2)
فوثب الحسين عليه السلام و قال: بل فؤادك يا ابن معاوية!.
ص: 194
أ أن نادى هديلا يوم فلج *** مع الإشراق في فنن حمام(1)
ظللت كأنّ دمعك درّ سلك *** و هي خيطا و أسلمه النّظام
/تموت تشوّقا طورا و تحيا *** و أنت جدير أنك مستهام
/كأنّك من تذكّر أمّ عمرو *** و حبل و صالها خلق رمام(2)
سلام اللّه يا مطر عليها *** و ليس عليك يا مطر السلام(3)
فإن يكن النكاح أحلّ أنثى *** فإنّ نكاحها مطرا حرام(4)
و لا غفر الإله لمنكحيها *** ذنوبهم و إن صلّوا أو صاموا
فطلّقها فلست لها بكفء *** و إلاّ عضّ مفرقك الحسام(5)
الشعر للأحوص، و الغناء لمعبد من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالبنصر في مجرى الوسطى. و لإبراهيم الموصلي في الأربعة الأبيات الأول ثاني ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر.
أخبرني الحرمي قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثني محمد بن ثابت بن إبراهيم بن خلاّد الأنصاري قال: حدّثني أبو عبد اللّه بن سعد الأنصاري قال:
قدم الأحوص البصرة فخطب إلى رجل من تميم ابنته، و ذكر له نسبه، فقال: هات لي شاهدا واحدا يشهد أنّك ابن حميّ الدّبر(6) و أزوّجك. فجاءه بمن شهد له على ذلك، فزوّجه إياها، و شرطت عليه ألا يمنعها من أحد من أهلها، فخرج إلى المدينة و كانت أختها عند رجل من بني تميم قريبا من طريقهم، فقالت له: اعدل بي إلى أختي.
ففعل، فذبحت لهم و أكرمتهم، و كانت من أحسن الناس، و كان/زوجها في إبله، فقالت زوجة الأحوص له: أقم حتّى يأتي. فلما أمسوا راح مع إبله و رعائه، و راحت غنمه فراح من ذلك أمر كثير(7). و كان يسمّى مطرا، فلما رآه
ص: 195
الأحوص ازدراه و اقتحمته عينه، و كان قبيحا دميما(1)، فقالت له زوجته: قم إلى سلفك(2) و سلّم عليه. فقال و أشار إلى أخت زوجته بإصبعه:
سلام اللّه يا مطر عليها *** و ليس عليك يا مطر السلام
و ذكر الأبيات و أشار إلى مطر بإصبعه، فوثب إليه مطر و بنوه، و كاد الأمر يتفاقم حتى حجز بينهم.
قال الزبير: قال محمد بن ثابت: أبو عبد اللّه(3) بن سعد الذي حدّث بهذا الحديث، أمه بنت الأحوص، و أمها التميميّة أخت زوجة مطر.
و أخبرنا الحسين بن يحيى قال: حدّثنا حماد عن أبيه، أنّ امرأة الأحوص التي تزوّجها، إحدى بني سعد بن زيد مناة بن تميم. و ذكر باقي القصيدة، و هو قوله:
كأنك من تذكّر أمّ عمرو *** و حبل وصالها خلق رمام
صريع مدامة غلبت عليه *** تموت لها المفاصل و العظام
و أنّى من بلادك أمّ عمرو *** سقى دارا تحلّ بها الغمام
تحلّ النّعف من أحد و أدنى *** مساكنها الشّبيكة أو سنام(4)
فلو لم ينكحوا إلا كفيّا *** لكان كفيها الملك الهمام
أخبرني الحسين قال: قال حماد: قرأت على أبي: حدّثنا ابن كناسة قال:
مرّ بنا أشعب و نحن جماعة في المجلس، فأتى جار لنا صاحب جوار يقال له أبان بن سليمان، و عليه رداء خلق، قد بدا منه ظهره و به آثار، فسلّم علينا فرددنا عليه السلام، فلما مضى قال بعض القوم: مدنيّ/مجلود! فأراه سمعها أو سمعها رجل يمشي معه فأخبره، فلما انصرف و انتهى إلى المجلس قال:
سلام اللّه يا مطر عليها *** و ليس عليك يا مطر السلام
فقلت للقوم: أنتم و اللّه مطر.
و مثل ما جرى في هذا الخبر من قوله في المرأة، خبر له آخر شبيه به مع ابن حزم.
أخبرني الحرمي قال حدّثنا الزبير قال: حدّثنا محمد بن فضالة، عن جميع بن يعقوب قال:
ص: 196
خطب أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، بنت عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر، إلى أخيها معمر بن عبد اللّه، فزوّجه إياها، فقال الأحوص أبياتا و قال لفتى من بني عمرو بن عوف: أنشدها معمر بن عبد اللّه في مجلسه و لك هذه الجبّة. فقال الفتى: نعم. فجاءه و هو في مجلسه فقال:
يا معمر يا ابن زيد حين تنكحها *** و تستبدّ بأمر الغيّ و الرشد
فقال: كان ذلك الرجل غائبا. فقال الفتى:
أ ما تذكّرت صيفيّا فتحفظه *** أو عاصما أو قتيل الشّعب من أحد
/قال: ما فعلت و لا تذكّرت. فقال الفتى:
أ كنت تجهل حزما حين تنكحها *** أم خفت، لا زلت فيها جائع الكبد
قال معمر: لم أجهل حزما. فقال الفتى:
أبعد صهر بني الخطّاب تجعلهم *** صهرا و بعد بني العوّام من أسد
فقال معمر: قد كان ذلك. فقال الفتى:
هبها سليلة خيل غير مقرفة *** مظلومة حبست للعير في الجدد(1)
قال: نعم أعانها اللّه و صبّرها. فقال الفتى:
فكلّ ما نالنا من عار منكحها *** شوى إذا فارقته و هي لم تلد
قال: نعم إلى اللّه عز و جل في ذلك الرغبة.
قال الزبير: أمّا قوله «صهر بني الخطاب» فإنّ جميلة بنت أبي الأقلح كانت عند عمر بن الخطاب، فولدت له عاصم بن عمرو. و أمّا «صهر بني العوام» فإنّ نهيسة بنت النعمان بن عبد اللّه بن أبي عقبة، كانت عند يحيى بن حمزة بن عبد اللّه بن الزبير، فولدت له أبا بكر و محمدا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثني مصعب قال: قال الهدير: كرهت أمّ جعفر أصواتا من الغناء القديم، فأرسلت لها رسولا يلقيها في البحر، ثم غنتها جارية بعد ذلك:
سلام اللّه يا مطر عليها *** و ليس عليك يا مطر السلام
/فقالت: هذا أرسلوا به رسولا مفردا إلى دهلك(2) ليلقيه في البحر خاصّة. قال: و الذي حمل أمّ جعفر على هذا التطير على ابنها محمد بن الأمين من هذه الأصوات، أيام محاربته المأمون فمنها قوله:
ص: 197
كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدم(1)
و منها قوله:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه(2)
/و منها قوله:
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد *** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر(3)
و منها قوله:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض(4)
مضى الحديث.
و كنّا كندماني جذيمة حقبة *** من الدّهر حتّى قيل لن يتصدّعا
فلما تفرّقنا كأني و مالكا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
الشعر لمتمّم بن نويرة، يرثي أخاه مالكا. و الغناء لسياط.
ص: 198
هو متمّم بن نويرة بن عمرو(1) بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار. و يكنى متمّم بن نويرة أبا نهشل.
و يكنى أخوه مالك أبا المغوار. و كان مالك يقال له فارس ذي الخمار، قيل له ذلك بفرس كان عنده يقال له «ذو الخمار»، و فيه يقول و قد أحمده في بعض وقائعه:
جزاني دوائي ذو الحمار و صنعتي *** بما بات أطواء بنيّ الأصاغر(2)
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال:
كان مالك بن نويرة شريفا فارسا، و كان فيه خيلاء و تقدّم، و كان ذا لمّة كبيرة، و كان يقال له الجفول(3).
و كان مالك قتل في الرّدّة، قتله خالد بن الوليد بالبطاح في خلافة أبي بكر، و كان مقيما بالبطاح، فلما تنبأت سجاح اتّبعها ثم أظهر أنّه مسلم، فضرب خالد عنقه صبرا، فطعن عليه في ذلك جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، و أبو قتادة الأنصاريّ، لأنه تزوّج امرأة مالك بعده، و قد كان يقال إنّه يهواها في الجاهلية و اتّهم لذلك أنّه قتله مسلما ليتزوّج امرأته بعده.
/حدثنا بالسبب في مقتل مالك بن نويرة محمد بن جرير الطبري قال:
كتب إليّ السريّ بن يحيى، يذكر عن شعيب بن إبراهيم التيمي، عن سيف بن عمر، عن الصّقعب بن عطية عن أبيه:
ص: 199
أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم استعمل عماله على بني تميم، فكان مالك بن نويرة عامله على بني يربوع. قال: و لمّا تنبأت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان و سارت من الجزيرة، راسلت مالك بن نويرة و دعته إلى الموادعة، فأجابها و قنّاها(1) عن غزوها، و حملها على أحياء [من](2) بني تميم، فأجابته و قالت: نعم فشأنك بمن رأيت، و إنّما أنا امرأة من بني يربوع، و إن كان ملك فهو ملككم. فلمّا تزوّجها مسيلمة الكذّاب و دخل بها انصرفت إلى الجزيرة و صالحته أن يحمل عليها النّصف من غلاّت اليمامة، فارعوى حينئذ مالك بن نويرة و ندم و تحيّر في أمره، فلحق بالبطاح، و لم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلاّ ما بقي من أمر مالك بن نويرة و من تأشّب إليه(3) بالبطاح، فهو على حاله متحيّر ما يدري ما يصنع.
و قال سيف: فحدّثني سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد و عمرو بن شعيب قالا: لما أراد خالد بن الوليد المسير خرج [من ظفر(4)] و قد استبرأ أسدا و غطفان وطيئا(5)، فسار يريد البطاح دون الحزن، و عليها مالك بن نويرة/و قد تردّد عليه أمره و قد تردّدت الأنصار على خالد و تخلّفت عنه، و قالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا؛ /فقد عهد إلينا إن نحن فرغنا من البزاخة(6) و استبرأنا بلاد القوم، أن يكتب إلينا بما نعمل. فقال خالد: إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إليّ أن أمضى، و أنا الأمير و إليّ تنتهي الأخبار، و لو أنّه لم يأتني له كتاب و لا أمر ثم رأيت فرصة إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتّى أنتهزها. و كذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل(7) ما بحضرتنا و نعمل به. و هذا مالك بن نويرة بحيالنا، و أنا قاصد له بمن معي من المهاجرين و التابعين لهم بإحسان، و لست أكرههم(8). و مضى خالد و برمت الأنصار و تذامروا(9) و قالوا: لئن أصاب القوم(10) خيرا إنّه لخير حرمتموه، و لئن أصابتهم(11) مصيبة ليجتنبنّكم الناس. فأجمعوا على اللّحاق بخالد، و جرّدوا إليه رسولا، فأقام عليهم حتّى لحقوا به، ثم سار حتّى لحق البطاح فلم يجد به أحدا.
قال السري عن شعيب، عن سيف عن خزيمة بن شجرة العقفاني(12) عن عثمان بن سويد، عن سويد بن المنعبة(13) الرياحي قال:
ص: 200
قدم خالد بن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحدا، و وجد مالك بن نويرة قد فرّقهم(1) في أموالهم و نهاهم عن الاجتماع، فبعث السرايا و أمرهم بداعية الإسلام(2)، فمن أجاب/فسالموه و من لم يجب و امتنع فاقتلوه. و كان فيما أوصاهم أبو بكر: إذا نزلتم [منزلا](3) فأذّنوا و أقيموا، فإن أذّن القوم و أقاموا فكفّوا عنهم، و إن لم يفعلوا فلا شيء إلاّ الغارة. ثم اقتلوهم كلّ قتلة: الحرق فما سواه. فإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم(4)، فإن هم أقرّوا بالزكاة قبلتم منهم، و إلاّ فلا شيء إلا الغارة و لا كلمة. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع، و من بني عاصم(5)، و عبيد، [و عرين](3)، و جعفر، و اختلف السرية فيهم، و فيهم أبو قتادة. و كان ممن شهد أنّهم قد أذّنوا و أقاموا و صلّوا. فلما اختلفوا فيهم أمر بحسبهم، في ليلة باردة لا يقوم لها شيء، و جعلت تزداد بردا، فأمر خالد مناديا فنادى: «دافئوا أسراكم». و كان في لغة كنانة إذا قالوا: «دافأنا الرجل و أدفئوه، فذلك معنى اقتلوه من الدفء. فظنّ القوم أنّه يريد القتل فقتلوهم(6). فقتل ضرار بن الأزور مالكا، فسمع خالد الواعية(7)، فخرج و قد فرغوا منهم فقال: إذا أراد اللّه أمرا أصابه. و قد اختلف القوم فيهم فقال أبو قتادة: هذا عملك.
فزبره خالد [فغضب](8) و مضى حتّى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر حتّى كلّمه عمر بن الخطاب فيه، فلم يرض إلا بأن يرجع إليه، فرجع إليه فلم يزل معه حتّى قدم المدينة، و قد كان تزوّج خالد أم تميم بنت المنهال(9)و تركها لينقضي طهرها، و كانت العرب تكره النساء في الحرب و تعايره، /فقال عمر لأبي بكر: إنّ في سيف خالد رهقا، و حقّ عليه أن تقيده(10). و أكثر عليه في ذلك. و كان أبو بكر لا يقيد من عمّاله و لا من وزعته(11)، فقال: هبه يا عمر تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. و ودى مالكا، و كتب إلى خالد أن يقدم عليه، ففعل و أخبره خبره فعذره. و قبل منه، و عنّفه بالتزويج الذي كانت العرب تعيب عليه من ذلك.
فذكر سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال: شهد قوم من السرية أنّهم أذّنوا و أقاموا و صلّوا، و شهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء فقتلوا. و قدم أخوه متمم ينشد أبا/بكر دمه و يطلب إليه في سبيهم، فكتب له بردّ السّبي، و ألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله و قال: إن في سيفه لرهقا! فقال له: لا يا عمر، لم أكن لأشيم سيفا سلّه اللّه على الكافرين.
ص: 201
حدّثنا محمد بن إسحاق قال: كتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن خزيمة(1) عن عثمان عن سويد(2)قال:
كان مالك من أكثر الناس شعرا، و إنّ أهل العسكر اثّفوا القدور برءوسهم(3)، فما منها رأس إلا وصلت النار إلى بشرته، ما خلا مالكا فإنّ القدر نضجت و ما نضج رأسه من كثرة شعره، و وقى الشعر البشرة من حرّ النار أن تبلغ منه ذلك.
/قال: و أنشد متمم عمر بن الخطاب، ذكر خمصه - يعني قوله:
لقد كفن المنهال تحت ردائه *** فتى غير مبطان العشيّات أروعا
فقال: أ كذاك كان يا متمم؟ قال: أمّا ما أعني فنعم.
أخبرني اليزيديّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب. و حدّثنيه أحمد بن الجعد قال: حدّثنا محمد بن إسحاق المسيّبي قال: حدّثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب:
أنّ مالك بن نويرة كان من أكثر الناس شعرا، و أن خالدا لما قتله أمر برأسه فجعل أثفيّة لقدر، فنضج ما فيها قبل أن تبلغ النار إلى شواته.
أخبرني محمد بن جرير قال: حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا سلمة(4) عن ابن إسحاق، عن طلحة بن عبيد اللّه بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه.
أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه: أن إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتّى تسألوهم ما ذا نقموا، و إذا لم تسمعوا أذانا فشنّوا الغارة و اقتلوا(5) و حرّقوا. فكان ممن(6) شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الأنصاري، و اسمه الحارث بن ربعيّ أخو بني سلمة، و قد كان عاهد اللّه أنّه لا يشهد حربا بعدها أبدا. و كان يحدّث أنّهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل، فأخذ القوم السلاح. قال: فقلنا لهم: [إنا المسلمون.
فقالوا: و نحن المسلمون. /قلنا](7): فما بال السلاح معكم؟ فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح. ففعلوا ثم صلينا و صلّوا. و كان خالد يعتذر في قتله أنّه قال له و هو يراجعه: ما إخال صاحبكم - يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم - إلا و قد كان
ص: 202
يقول كذا و كذا. فقال خالد: أ و ما تعدّه صاحبا؟! ثم قدّمه فضرب عنقه و أعناق أصحابه، فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطّاب تكلّم فيه عند أبي بكر رضي اللّه عنه، و قال: عدوّ اللّه عدا على امرئ مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته.
و أقبل خالد بن الوليد قافلا حتّى دخل المسجد و عليه قباء له، و عليه صدأ الحديد، معتجرا بعمامة قد غرز فيها اسمها، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم(1) من رأسه فحطّمها ثم قال: أ قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته، و اللّه لأرجمنّك بأحجارك(2)! و لا يكلّمه خالد بن الوليد و لا يظنّ إلاّ أن رأى أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتّى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر و اعتذر إليه، فعذره أبو بكر و تجاوز له عمّا كان في حربه تلك.
فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر، و عمر جالس في المسجد الحرام، فقال: هلمّ إليّ يا ابن أم شملة(3). فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلّمه و دخل بيته. و كان الذي قتل مالك بن نويرة عبد [بن](4) الأزور الأسديّ.
و قال محمد بن جرير: /قال ابن الكلبي: الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور.
و هكذا روى أبو زيد عمر بن شبّة(5) عن أصحابه، و أبو خليفة عن محمد بن سلام(6) قال:
قدم مالك بن نويرة على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيمن قدم من أمثاله من العرب، فولاّه صدقات قومه بني يربوع، فلما مات النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم اضطرب فيها فلم يحمد أمره، و فرّق ما في يده من إبل الصدقة، فكلّمه الأقرع بن حابس المجاشعيّ، و القعقاع بن معبد بن زرارة(7) الدارميّ فقالا له: إنّ لهذا الأمر قائما و طالبا، فلا تعجل بتفرقة ما في يدك. فقال:
أراني اللّه بالنّعم المندّى *** ببرقة رحرحان و قد أراني(8)
تمشّى يا ابن عوذة في تميم *** و صاحبك الأقيرع تلحياني
حميت جميعها بالسّيف صلتا *** و لم ترعش يداي و لا بناني
يعني أمّ القعقاع، و هي معاذة بنت ضرار بن عمرو. و قال أيضا:
و قلت خذوا أموالكم غير خائف *** و لا ناظر فيما يجيء من الغد(9)
فإن قام بالأمر المخوّف قائم *** منعنا و قلنا الدين دين محمّد
ص: 203
قال ابن سلام(1): فمن لا يعذر خالدا يقول: إنه قال لخالد: و بهذا أمرك صاحبك - يعني النبي صلّى اللّه عليه و سلّم - و أنّه أراد بهذه القرشية. و من يعذر خالدا يقول: إنّه أراد انتفاء من النبوّة، و يحتجّ بشعريه المذكورين آنفا. و يذكر خالد أن النبيّ/صلى اللّه عليه و سلّم لما وجّهه إلى ابن جلندى قال له: يا أبا سليمان، إن رأت عينك مالكا فلا تزايله أو تقتله.
قال محمد بن سلام: و سمعني يوما يونس و أنا أرادّ التميمية في خالد و أعذره، فقال لي: يا أبا عبد اللّه، أ ما سمعت بساقي أم تميم؟ يعني زوجة مالك التي تزوّجها خالد لما قتله - و كان يقال إنّه لم ير أحسن من ساقيها. قال:
و أحسن ما سمعت من عذر خالد قول متمم بأنّ أخاه لم يستشهد. ففيه دليل على غدر خالد.
أخبرنا اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: حدّثني محمد بن الحكم البجلي عن الأنصاري قال:
صلّى متمم بن نويرة مع أبي بكر الصّبح، ثم أنشده قوله:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت *** تحت الإزار قتلت يا ابن الأزور(2)
أ دعوته باللّه ثمّ قتلته *** لو هو دعاك بذمّة لم يغدر(3)
فقال أبو بكر: و اللّه ما دعوته و لا قتلته. فقال:
لا يضمر الفحشاء تحت ردائه *** حلو شمائله عفيف المئزر
و لنعم حشو الدّرع أنت و حاسرا *** و لنعم مأوى الطارق المتنوّر(4)
قال: ثم بكى حتّى سالت عينه، ثم انخرط(5) على سية قوسه [متكئا](6). يعني مغشيّا عليه.
أخبرني اليزيدي قال حدّثنا الرياشي قال حدّثنى محمد بن صخر بن خلخلة قال:
ذكر متمم بن نويرة أخاه في المدينة فقيل له: إنّك لتذكر أخاك، فما كانت صفته، أو صفه لنا؟ فقال: «كان(7)يركب الجمل الثّفال(8) في الليلة الباردة، يرتوي لأهله(9) بين المزادتين المضرّجتين(10)، عليه الشّملة الفلوت(11)، يقود الفرس الجرور(12)، ثم يصبح ضاحكا».
ص: 204
أخبرني اليزيدي قال: حدّثنا أحمد بن زهير، عن الزبير بن حبيب بن بدر الطائي و غيره: أن المنهال: رجلا من بني يربوع، مرّ على أشلاء مالك بن/نويرة لما قتله خالد، فأخذ ثوبا و كفّنه فيه و دفنه، ففيه يقول متمم:
لعمري و ما دهري بتأبين مالك *** و لا جزع مما أصاب فأوجعا(1)
لقد كفّن المنهال تحت ردائه *** فتى غير مبطان العشيات أروعا
غنّاه عمرو بن أبي الكنّات، ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثنا الحسن بن محمد البصري، قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل القضاعي قال حدّثني أحمد بن عمار العبدي(2)، و كان من العلم بموضع قال: حدّثني أبي عن جدي قال:
صلّيت مع عمر بن الخطاب الصبح، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبا قوسا(3)، و بيده هراوة، فقال: من هذا؟ فقال: متمم بن نويرة. فاستنشده قوله في أخيه، فأنشده:
لعمري و ما دهري بتأبين مالك *** و لا جزع مما أصاب فأوجعا
لقد كفّن المنهال تحت ثيابه *** فتى غير مبطان العشيات أروعا
حتّى بلغ إلى قوله:
و كنا كندماني جذيمة حقبة *** من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا(4)
فلما تفرّقنا كأنّي و مالكا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فقال عمر: هذا و اللّه التأبين، و لوددت أنّي أحسن الشّعر فأرثى أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك. فقال متمم:
لو أنّ أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته - و كان قتل باليمامة شهيدا، و أمير الجيش خالد بن الوليد - فقال عمر: ما عزّاني أحد عن أخي بمثل ما عزّاني به متمم.
قال: و كان عمر يقول: ما هبت الصّبا من نحو اليمامة إلاّ خيّل إليّ أنّى أشم ريح أخي زيد(5).
ص: 205
قال: و قيل لمتمم: ما بلغ من وجدك على أخيك؟ فقال أصبت بإحدى عينيّ فما قطرت منها دمعة عشرين سنة، فلما قتل أخي استهلّت فما ترقأ(1).
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدّثنا عبد اللّه بن لاحق، عن ابن أبي مليكة قال:
مات عبد الرّحمن بن أبي بكر بالحبشيّ خارج مكة(2)، فحمل فدفن بمكة، فقدمت عائشة فوقفت على قبره و قالت متمثلة:
و كنا كندماني جذيمة حقبة *** من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا
فلما تفرّقنا كأني و مالكا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
أما و اللّه لو حضرتك لدفنت حيث متّ، و لو شهدتك ما زرتك.
أخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة:
أنّ متمم بن نويرة دخل على عمر بن الخطاب فقال له عمر: ما أرى في أصحابك مثلك. فقال: يا أمير المؤمنين أما و اللّه إنّي مع ذلك لأركب الجمل الثّفال، و أعتقل الرّمح الشّطون(3)، و ألبس الشّملة الفلوت. و لقد أسرتني بنو تغلب في الجاهلية فبلغ ذلك أخي مالكا فجاء ليفديني منهم(4)، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، و حدّثهم فأعجبهم حديثه، فأطلقوني له بغير فداء.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني/النوفلي عن أبيه و أهله قالوا:
لما أنشد متمم بن نويرة عمر بن الخطاب قوله يرثى أخاه مالكا:
و كنا كندماني جذيمة حقبة *** من الدهر حتّى قيل لن يتصدعا
فلمّا تفرقنا كأنّي و مالكا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
قال له عمر: هل كان مالك يحبّك مثل محبّتك إياه، أم هل كان مثلك؟ فقال: و أين أنا من مالك، و هل أبلغ
ص: 206
مالكا، و اللّه يا أمير المؤمنين لقد أسرني حيّ من العرب فشدّوني وثاقا بالقد، و ألقوني بفنائهم، فبلغه خبري فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم و هم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليّ أعرض عنّي، و نظر القوم إليه فعدل إليهم، و عرفت ما أراد، فسلّم عليهم و حادثهم و ضاحكهم و أنشدهم، فو اللّه إن زال كذلك حتّى ملأهم سرورا، و حضر غداؤهم فسأله ليتغدّى معهم فنزل و أكل، ثم نظر إليّ و قال: إنّه لقبيح بنا أن نأكل و رجل ملقّى بين أيدينا لا يأكل معنا! و أمسك يده عن الطعام. فلما رأى ذلك القوم نهضوا و صبّوا الماء على قدّى حتى لان و خلّوني، ثم جاءوا فأجلسوني معهم على الغداء، فلمّا أكلنا قال لهم: أ ما ترون تحرّم هذا بنا و أكله معنا، إنّه لقبيح بكم أن تردّوه إلى القدّ، فخلّوا سبيلي فكان كما و صفت. و ما كذبت في شيء من صفته إلا أنّي و صفته خميص البطن، و كان ذا بطن.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا أحمد بن نصر العتيقي قال: حدّثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي، عن أبيه عن مروان بن موسى. و وجدت هذا الخبر أيضا في كتاب محمد بن علي بن حمزة العلويّ، عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه:
/أن عمر بن الخطاب قال لمتمّم بن نويرة: إنّكم أهل بيت قد تفانيتم، فلو تزوّجت عسى أن ترزق ولدا يكون فيه بقيّة منكم. فتزوّج امرأة بالمدينة فلم ترض أخلاقه لشدّة حزنه على أخيه، و قلّة حفله بها، فكانت تماظّه(1)و تؤذيه، فطلّقها و قال:
أقول لهند حين لم أرض فعلها *** أ هذا دلال الحب أم فعل فارك(2)
أم الصرم ما تبغي، و كلّ مفارق *** يسير علينا فقده بعد مالك
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال: حدّثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني أحمد بن معاوية، عن سلمويه بن أبي صالح(3)، عن عبد اللّه بن المبارك عن نعيم بن أبي عمرو الرازيّ قال:
بينا طلحة و الزّبير يسيران بين مكّة و المدينة إذ عرض لهما أعرابي، فوقفا ليمضي فوقف فتعجّلا ليسبقاه فتعجّل، فقالا: ما أثقلك يا أعرابيّ تعجّلنا لنسبقك فتعجّلت(4)، فوقفنا لتمضي فوقفت؟ فقال: لا إله إلا اللّه مفني أغدر الناس(5)، أغدر بأصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم؟ هباني خفت الضّلال فأحببت أن أستدلّ بكما؛ أو خفت الوحشة فأحببت أن أستأنس بكما. فقال طلحة: من أنت؟ قال: أنا متمم بن نويرة. فقال طلحة: وا سوأتاه، لقد مللنا غير مملول.
هات بعض ما ذكرت في أخيك من البكاء. فزوّجوه أمّ خالد، فبينا هو واضع رأسه على فخذها إذ بكى فقالت:
لا إله إلا اللّه، أ ما تنسى أخاك. فأنشأ يقول:
/أقول لها لما نهتني عن البكا *** أ في مالك تلحينني أمّ خالد
ص: 207
فإن كان إخواني أصيبوا و أخطأت *** بني أمك اليوم الحتوف الرواصد
/فكلّ بني أم سيمون ليلة *** و لم يبق من أعيانهم غير واحد
أمّا معنى قول متمم:
و كنا كندماني جذيمة حقبة
فإنّه يعني نديمي جذيمة الأبرش الملك، و هو جذيمة [بن مالك](1) بن فهم(2) بن غانم بن دوس بن عدثان(3)الأسديّ(4).
و كان الخبر في ذلك ما أخبرنا به علي بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السكري، عن محمد بن حبيب.
و ذكر ابن الكلبي عن أبيه و الشرقيّ و غيره من الرواة أن جذيمة الأبرش - و أصله من الأزد، و كان أوّل من ملك قضاعة بالحيرة، و أوّل من حدا النعال، و أدلج من الملوك، و رفع له الشّمع(5) - قال يوما لجلسائه: قد ذكر لي عن غلام من لخم، مقيم في أخواله من إياد، له ظرف و لبّ، فلو بعثت إليه يكون في ندماني، و ولّيته كأسي و القيام بمجلسي، كان الرأي. فقالوا: الرأي ما رأى الملك، فليبعث إليه. ففعل فلما قدم فعل به ما أراد له، فمكث كذلك مدّة طويلة ثم أشرفت عليه يوما رقاش ابنة الملك، أخت جذيمة، فلم تزل تراسله حتّى اتصل بينهما، ثم قالت له:
يا عديّ، إذا سقيت القوم فامزج لهم واسق الملك صرفا، فإذا أخذت منه الخمر فاخطبني إليه فإنّه يزوّجك، و أشهد القوم عليه/إن هو فعل. ففعل الغلام ذلك فخطبها فزوّجه، و انصرف الغلام بالخبر إليها فقالت: عرّس بأهلك.
ففعل فلما أصبح غدا مضرّجا بالخلوق، فقال له جذيمة: ما هذه الآثار يا عديّ؟ قال: آثار العرس. قال: أي عرس؟ قال: عرس رقاش. قال: فنخر و أكبّ على الأرض، و رفع عديّ جراميزه، فأسرع جذيمة في طلبه فلم يحسسه(6)، و قيل إنه قتله و كتب إلى أخته:
حدّثيني رقاش لا تكذبيني *** أ بحرّ زنيت أم بهجين(7)
أم بعبد فأنت أهل لعبد *** أم بدون فأنت أهل لدون
قالت: بل زوّجتني امرأ عربيا. فنقلها جذيمة و حصّنها في قصره، و اشتملت على حمل فولدت منه غلاما
ص: 208
و سمّته عمرا و ربّته، فلما ترعرع حلّته و عطرته و ألبسته كسوة مثله(1)، ثم أرته خاله فأعجب به، و ألقيت عليه منه محبّة و مودّة، حتّى إذا وصف(2) خرج الغلمان يجتنون الكمأة في سنة قد أكمأت، و خرج معهم، و قد خرج جذيمة فبسط له في روضة، فكان الغلمان إذا أصابوا الكمأة أكلوها، و إذا أصابها عمرو خبأها، ثم أقبلوا يتعادون و هو معهم يقدمهم و يقول:
هذا جناي و خياره فيه *** إذ كلّ جان يده إلى فيه
فالتزمه جذيمة و حباه و قرب من قلبه، و حلّ منه بكلّ مكان. ثم إنّ الجن استطارته، فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه فلم يسمع له بخبر، فكفّ/عنه. ثم أقبل رجلان يقال لأحدهما عقيل و الآخر مالك، ابنا فالج، و هما يريدان الملك بهدية، فنزلا على ماء و معهما قينة يقال لها أمّ عمرو، فنصبت قدرا و أصلحت طعاما، فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجل أشعث أغبر، قد طالت أظفاره و ساءت حاله، حتّى جلس مزجر الكلب، فمدّ يده فناولته شيئا/ فأكله، ثم مدّ يده فقالت: «إن يعط العبد كراعا يتّسع ذراعا»(3) فأرسلتها مثلا. ثم ناولت صاحبيها من شرابها و أوكأت دنّها، فقال عمرو بن عديّ:
صددت الكأس عنا أمّ عمرو *** و كان الكأس مجراها اليمينا
و ما شرّ الثلاثة أمّ عمرو *** بصاحبك الذي لا تصبحينا
غناه معبد فيما ذكر عن إسحاق في «كتابه الكبير». و قد زعم بعض الرواة أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب(4).
و أخبرنا اليزيدي قال: حدّثنا الخليل بن أسد النّوشجانيّ قال: حدّثنا حفص بن عمرو، عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش(5)، أنّ هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب في ربيعة بن نصر اللخمي.
ص: 209
فقال الرجلان: و من أنت؟ فقال: «إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإنّني عمرو و عديّ أبي»(1)، فقاما إليه فلثماه، و غسلا رأسه و قلّما أظفاره، و قصّرا من لمّته، و ألبساه من طرائف ثيابهما و قالا: ما كنا لنهدي إلى الملك هديّة أنفس عنده و لا هو عليها أحسن صفدا(2) من ابن أخته، فقد ردّه اللّه عز و جل إليه. فخرجا حتّى إذا دفعا إلى باب الملك(3) بشّراه به، فصرفه إلى أمّه، فألبسته ثيابا من ثياب الملوك، و جعلت في عنقه طوقا كانت تلبسه إيّاه و هو صغير، و أمرته بالدخول على خاله، فلما رآه قال: «شبّ عمرو عن الطوق» فأرسلها مثلا. و قال للرجلين اللذين قدما به: احكما فلكما حكمكما. قالا: منادمتك ما بقيت و بقينا. قال: ذلك لكما. فهما نديما جذيمة اللذان ذكرهما متمّم، و ضربت بهما الشعراء المثل. قال أبو خراش الهذلي:
أ لم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا *** خليلا صفاء مالك و عقيل
قال ابن حبيب في خبره(4): و كان جذيمة من أفضل الملوك رأيا، و أبعدهم مغارا، و أشدّهم نكاية، و هو أوّل من استجمع له الملك بأرض العراق، و كانت منازله ما بين الأنبار و بقّة و هيت و عين التمر، و أطراف البر و القطقطانة(5) و الحيرة، فقصد في جموعه/عمرو بن الظّرب بن حسان(6) بن أذينة بن السميدع بن هوبر(7)العاملي، من عاملة العماليق(8)، فجمع عمرو جموعه و لقيه، فقتله جذيمة و فضّ جموعه، فانفلّوا(9) و ملّكوا عليهم ابنته الزبّاء، و كانت من أحزم الناس، فخافت أن تغزوها ملوك العرب فاتّخذت لنفسها نفقا في حصن كان لها على شاطئ الفرات، و سكرت(10) الفرات في وقت قلّة الماء، و بنت أزجا(11) من الآجرّ و الكلس، متصلا بذلك النفق،
ص: 210
و جعلت نفقا آخر في البرّيّة متّصلا بمدينة لأختها، ثم أجرت الماء عليه، فكانت إذا خافت عدوّا دخلت النفق. فلما اجتمع لها أمرها و استحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة بأبيها، فقالت لها أختها و كانت ذات رأي و حزم:
إنّك إن غزوت جذيمة فإنّه امرؤ له ما يصدّه، فإن ظفرت أصبت ثأرك، و إن ظفر بك فلا بقيّة لك، و الحرب سجال، /و لا تدرين كيف تكون(1) أ لك أم عليك، و لكن ابعثي إليك فأعلميه أنّك قد رغبت في أن تتزوّجيه و تجمعي ملكك إلى ملكه، و سليه أن يجيبك إلى ذلك، لأنّه إن اغتر ففعل ظفرت به بلا مخاطرة. فكتبت الزباء في ذلك إلى جذيمة تقول له: إنها قد رغبت في صلة بلدها ببلده، و إنّها في ضعف من سلطانها، و قلّة ضبط لمملكتها، و إنها لم تجد كفؤا غيره، و تسأله الإقبال عليها و جمع ملكها إلى ملكه. فلما/وصل ذلك إليه استخفّه و طمع فيه، فشاور أصحابه فكلّ صوّب رأيه في قصدها و إجابتها، إلاّ قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال(2) بن نمارة بن لخم، فقال: هذا رأي فاتر، و غدر حاضر، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك و إلاّ فلا تمكنها من نفسك فتقع في حبالها و قد وترتها في أبيها. فلم يوافق جذيمة ما قال و قال له: «أنت امرؤ رأيك في الكنّ لا في الضّحّ»(3). و رحل فقال له قصير في طريقة: «انصرف و دمك في وجهك. فقال جذيمة: «ببقّة قضي الأمر» فأرسلها مثلا. و مضى حتّى إذا شارف مدينتها قال لقصير: ما الرأي؟ قال: «ببقّة تركت الرأي». قال: فما ظنّك بالزباء؟ قال: «القول رداف، و الحزم عيرانة لا تخاف»(4). و استقبله رسلها بالهدايا و الألطاف فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال «خطر يسير في خطب كبير»(5)، و ستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، و إن أخذت في جنبيك و أحاطت بك فالقوم غادرون. فلقيته الخيول فأحاطت به، فقال له قصير: اركب العصا فإنّها لا تدرك و لا تسبق - يعني فرسا له كانت تجنب - قبل أن يحولوا بينك و بين جنودك. فلم يفعل، فجال قصير في ظهرها فمرّت به تعدو في أوّل أصحاب جذيمة. و لما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيرا على فرسه العصا في أوّل القوم، فقال: «لحازم من يجري العصا(6)في أوّل القوم». فذكر/أبو عبيدة و الأصمعي أنها لم تكن تقف، حتّى جرت ثلاثين ميلا، ثم وقفت فبالت هناك، فبني على ذلك الموضع برج يسمّى العصا - و أخذ جذيمة فأدخل على الزباء فاستقبلته قد كشفت عن فرجها، فإذا هي قد ضفرت الشعر عليه، فقالت: يا جذيم أ ذات عروس ترى؟ قال: بل أرى متاع أمة لكعاء غير ذات خفر. ثم قال:
«بلغ المدى، و جفّ الثّرى، و أمر غدر أرى. قالت: و اللّه ما ذلك من عدم مواس(7)، و لا قلة أواس(8)، و لكنّها شيمة ما أناس(9). ثم قالت لجواريها: خذن بعضد سيّدكنّ. ففعلن ثم دعت بنطع فأجلسته عليه، و أمرت برواهشه(10)
ص: 211
فقطعت في طست من ذهب يسيل دمه فيه، و قالت له: يا جذيم لا يضيعنّ من دمك شيء فإنّي أريده للخبل(1).
فقال لها: و ما يحزنك من دم أضاعه أهله. و إنما كان بعض الكهّان قال لها: إن نقط من دمه شيء في غير الطست أدرك بثأره. فلم يزل دمه يجري في الطّست حتّى ضعف، فتحرّك فنقطت من دمه نقطة على أسطوانة رخام و مات.
قال: و العرب تتحدّث في أنّ دماء الملوك شفاء من الخبل. قال المتلمس(2):
من الدارميّين الذين دماؤهم *** شفاء من الداء المجنّة و الخبل(3)
/قال: و جمعت دمه في برنيّة و جعلته في خزانتها، و مضى قصير إلى عمرو بن عبد الحرّ(4) التّنوخي فقال له: اطلب بدم ابن عمك و إلاّ سبّتك به العرب. فلم يحفل بذلك فخرج قصير إلى/عمرو بن عديّ ابن أخت جذيمة فقال: هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بثأر خالك؟ فجعل ذلك له، فأتى القادة و الأعلام فقال لهم: أنتم القادة و الرؤساء، و عندنا الأموال و الكنوز. فانصرف إليه منهم بشر كثير، فالتقى بعمرو التنوخي فلما صافّوا القتال(5) تابعه التوخي و مالك بن عمرو بن عديّ، فقال له قصير: انظر ما وعدتني في الزباء. فقال: و كيف و هي أمنع من عقاب الجوّ؟ فقال: أمّا إذ أبيت فإني جادع أنفى و أذني، و محتال لقتلها، فأعنّي و خلاك ذمّ. فقال له عمرو: و أنت أبصر. فجدع قصير أنفه ثم انطلق حتّى دخل على الزباء فقالت: من أنت؟ قال: أنا قصير، لا و ربّ البشر ما كان على ظهر الأرض أحد أنصح لخدمته منّي و لا أغشّ لك حتّى جدع عمرو بن عديّ أنفى و أذني، فعرفت أنّي لن أكون مع أحد أثقل عليه منك. فقالت: أي قصير نقبل ذلك منك، و نصرّ لك في بضاعتنا. و أعطته مالا للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عديّ ما ظنّ أنه يرضيها، و انصرف إليها به، فلما رأت ما جاء به فرحت و زادته، و لم يزل حتّى أنست به فقال لها: إنه ليس من ملك و لا ملكة إلاّ و قد ينبغي له أن يتّخذ نفقا يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها. فقالت: أما أنّي قد فعلت و اتّخذت نفقا تحت سريري هذا، يخرج إلى نفق تحت سرير أختي. و أرته إياه، فأظهر لها سرورا بذلك، و خرج في تجارته كما كان يفعل، و عرف عمرو بن عديّ ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير/في الجوالق حتى إذا صاروا إليها تقدّم قصير يسبق الإبل و دخل على الزباء فقال لها: اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك، و تقدّمي إلى بوّابك فلا يعرض لشيء من أعكامنا(6)، فإنّي قد جئت بمال صامت. و قد كانت أمنته فلم تكن تتّهمه و لا تخافه، فصعدت كما أمرها فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت - و قيل إنه مصنوع منسوب إليها -:
ما للجمال مشيها وئيدا *** أ جندلا يحملن أم حديدا
ص: 212
أم صرفانا باردا شديدا(1) *** أم الرجال جثّما قعودا
فلما دخل آخر الجمال نخس البوّاب عكما من الأعكام بمنخسة معه، فأصابت خاصرة رجل فضرط، فقال البوّاب: «شرّ و اللّه عكمتم به في الجوالقات»(2). فثاروا بأهل المدينة ضربا بالسيف، فانصرفت راجعة فاستقبلها عمرو بن عدي فضربها فقتلها، و قيل بل مصّت خاتمها و قالت: «بيدي لا بيد عمرو»، و خربت المدينة و سبيت الذراريّ، و غنم عمرو كلّ شيء كان لها و لأبيها و أختها، و قال الشعراء في ذلك تذكر ما كان من قصير في مشورته على جذيمة، و في جدعه أنفه، فأكثروا. قال عديّ بن زيد:
/ألا يا أيّها المثري المرجّى *** أ لم تسمع بخطب الأوّلينا(3)
دعا بالبقّة الأمراء يوما *** جذيمة ينتحي عصبا ثبينا(4)
فطاوع أمرهم و عصى قصيرا *** و كان يقول لو سمع اليقينا
و هي طويلة. و قال المتلمس يذكر جدع قصير أنفه:
/و من حذر الأيام ما حزّ أنفه *** قصير و خاض الموت بالسيف بيهس(5)
و في هذا المعنى أشعار كثيرة يطول ذكرها.
و كان جذيمة الملك شاعرا، و إنّما قيل له الوضاح لبرص كان به، و كان يعظم أن يسمّى بذلك، فجعل مكانه الأبرش و الوضّاح. و هو الذي يقول:
و الملك كان لذي نوا *** س حوله تردي يحابر(6)
بالسابغات و بالقنا *** و البيض تبرق و المغافر
أزمان لا ملك يجي *** - ر و لا ذمام لمن يجاور
أودى بهم غير الزما *** ن فمنجد منهم و غائر
و هو الذي يقول:
ص: 213
ربّما أوفيت في علم *** ترفعن ثوبي شمالات(1)
في شباب أنا رابئهم *** هم لذي العورة صمّات(2)
/ليت شعري ما أطاف بهم *** نحن أدلجنا و هم باتوا
ثمّ ابنا غانمين و كم *** كرّ ناس قبلنا ماتوا
فيه غناء يقال إنه ليمان، و يقال إنّه لمعبد، و لم يصح.
في كفّه خيزران ريحه عبق *** من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء و يغضى من مهابته *** فما يكلّم إلا حين يبتسم
الشعر لحزين بن سليمان الدّيليّ، و الغناء لإسحاق، ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش، و فيه لعريب رمل عمله على لحن ابن سريج.
ص: 214
ذكر الواقدي أنه من كنانة و أنّه صليبة(1)، و أنّ الحزين لقب غلب عليه، و أن اسمه عمرو بن عبيد بن وهيب بن مالك - و يكنى أبا الشعثاء - بن حريث بن جابر بن بجير(2) - و هو راعي الشمس الأكبر - بن يعمر بن عديّ بن الدّيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة، عن الواقدي.
قال: و أما عمر بن شبة فإنّه ذكر أنّ الحزين مولى، و أنه الحزين بن سليمان، و يكنى سليمان أبا الشعثاء، و يكنى الحزين أبا الحكم. من شعراء الدولة الأموية حجازيّ مطبوع ليس من فحول طبقته. و كان هجّاء خبيث اللسان ساقطا، يرضيه اليسير، و يتكسّب بالشّرّ(3) و هجاء الناس، و ليس ممن خدم الخلفاء و لا انتجعهم بمدح، و لا كان يريم الحجاز حتّى مات.
و هذا الشّعر يقوله الحزين في عبد اللّه بن عبد الملك بن مروان. و كان عبد اللّه من فتيان بني أمية و ظرفائهم، و كان حسن الوجه حسن المذهب، و أمّه أمّ ولد. و زوجة عبد اللّه رملة بنت عبد اللّه بن عبد اللّه - و عبد اللّه هذا هو عبد الحجر(4) بن عبد المدان بن الديّان(5) بن قطن بن زياد(6) بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب/بن الحارث بن عمرو. و زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد اللّه بن ربيعة بن الأسود بن مطّلب بن أسد بن عبد العزى(7) بن قصيّ - تزوّجها(8) لما كان يقال إنها ناتق في ولادها(9)، /فمات عنها و لم تلد(10) له، فخلفه
ص: 215
محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس على رملة فولدت له محمدا و إبراهيم و موسى، و بنات.
أخبرني بذلك عمر(1) بن عبد اللّه بن جميل العتكي، و أحمد بن عبد العزيز الجوهري، و يحيى بن علي بن يحيى، قالوا: حدّثنا عمر بن شبة عن ابن رواحة و غيره. و أخبرني به الطوسيّ و الحرمي عن الزبير عن عمه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال: حدّثني الزبير قال: حدّثني عمي أنّ عبد اللّه بن عبد الملك حج؛ فقال له أبوه: سيأتيك الحزين الشاعر بالمدينة، و هو ذرب اللسان، فإياك أن تحتجب عنه، و أرضه. و صفته أنّه أشعر(2) ذو بطن عظيم الأنف. فلما قدم عبد اللّه المدينة وصفه لحاجبه و قال له: إيّاك أن تردّه. فلم يأت الحزين حتّى قام فدخل لينام، فقال له الحاجب: قد ارتفع. فلما ولّى ذكر فلحقه فقال: ارجع، فاستأذن له فأدخله، فلما صار بين يديه و رأى جماله و بهاءه، و في يده قضيب خيزران، وقف ساكتا، فأمهله عبد اللّه حتّى ظنّ أنه قد أراح ثم قال له: السلام رحمك اللّه أوّلا. فقال: عليك السلام و حيّا اللّه وجهك وجهك أيّها الأمير، إنّي قد كنت مدحتك بشعر، فلما دخلت عليك و رأيت جمالك/و بهاءك أذهلني عنه فأنسيت ما كنت قلته، و قد قلت في مقامي هذا بيتين. فقال: ما هما؟ قال:
في كفّه خيزران ريحها عبق *** من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء و يغضى من مهابته *** فما يكلّم إلا حين يبتسم
فأجازه فقال: أخدمني(3) أصلحك اللّه، فإنّه لا خادم لي. فقال: اختر أحد هذين الغلامين. فأخذ أحدهما فقال له عبد اللّه: أ علينا ترذل(4)، خذ الأكبر.
و الناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي يمدح بها علي بن الحسين بن أبي طالب عليه السّلام، التي أوّلها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** و البيت يعرفه و الحلّ و الحرم
و هو غلط ممن رواه فيها. و ليس هذان البيتان مما يمدح به مثل علي بن الحسين عليهما السّلام و له من الفضل المتعالم ما ليس لأحد.
حدّثني محمد بن محمد بن سليمان الباغندي قال: حدّثني محمد بن عمر العدني قال: حدّثني سفيان بن عيينة عن الزهري قال: ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين.
ص: 216
حدّثني محمد قال حدّثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدّثنا جرير بن المغيرة قال: كان علي بن الحسين يبخّل، فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة.
حدّثني الحسن بن علي قال: حدّثني محمد بن معرّس قال حدّثنا محمد بن ميمون قال حدّثنا سفيان عن ابن أبي حمزة الثّماليّ قال:
كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدّق به و يقول: «إنّ صدقة اللّيل تطفئ غضب الربّ».
/حدّثني أبو عبد اللّه الصّيرفي قال حدّثنا الفضل بن الحسين(1) المصري قال: حدّثنا أحمد بن سليمان قال حدّثنا ابن عائشة قال: حدّثنا سعد بن عامر، عن جويرية بن أسماء، عن نافع قال:
قال علي بن الحسين: ما أكلت بقرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شيئا قطّ.
حدّثنا الحسن بن علي قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني إسحاق بن موسى الأنصاري قال:
حدّثنا يونس بن بكير، عن/محمد بن إسحاق قال:
كان ناس من أهل المدينة يعيشون ما يدرون من أين عيشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل.
و أما الأبيات التي مدح بها الفرزدق علي بن الحسين و خبره فيها، فحدّثني بها أحمد بن محمد بن الجعد، و محمد بن يحيى قالا: حدّثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدّثنا ابن عائشة قال:
حج هشام بن عبد الملك في خلافة الوليد أخيه، و معه رؤساء أهل الشام، فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس، و أقبل علي بن الحسين و هو أحسن الناس وجها، و أنظفهم ثوبا، و أطيبهم رائحة، فطاف بالبيت، فلما بلغ الحجر الأسود تنحّى الناس كلّهم و أخلوا له الحجر ليستلمه، هيبة و إجلالا له، فغاظ ذلك هشاما و بلغ منه، فقال رجل لهشام: من هذا أصلح اللّه الأمير؟ قال:
لا أعرفه، و كان به عارفا، و لكنه خاف أن/يرغب فيه أهل الشام و يسمعوا منه. فقال الفرزدق و كان لذلك كلّه حاضرا: أنا أعرفه، فسلني يا شاميّ. قال: و من هو؟ قال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** و البيت يعرفه و الحلّ و الحرم
هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم *** هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
فليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرت و العجم
ص: 217
أيّ الخلائق ليست في رقابهم *** لأوّلية هذا أوله نعم(1)
من يعرف اللّه يعرف أوّلية ذا *** فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فحبسه هشام فقال الفرزدق:
أ يحبسني بين المدينة و التي *** إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلّب رأسا لم يكن رأس سيد *** و عينا له حولاء باد عيوبها
فبعث إليه هشام فأخرجه، و وجّه إليه عليّ بن الحسين عشرة آلاف درهم و قال: اعذر يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به. فردّها و قال: ما قلت ما كان إلا للّه، و ما كنت لأرزأ عليه شيئا. فقال له علي: قد رأى اللّه مكانك فشكرك، و لكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئا ما نرجع فيه. فأقسم عليه فقبلها.
و من الناس أيضا من يروي هذه الأبيات لداود بن سلم في قثم بن العباس، و منهم من يرويها لخالد بن يزيد فيه؛ فهي في روايته:
/كم صارخ بك من راج و راجية *** يرجوك يا قثم الخيرات يا قثم
أيّ العمائر ليست في رقابهم *** لأوّلية هذا أوله نعم(2)
في كفّه خيزران ريحها عبق *** من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء و يغضى من مهابته *** فما يكلّم إلا حين يبتسم
/و ممن ذكر لنا ذلك الصولي عن الغلابي(3) عن مهديّ بن سابق، أنّ داود بن سلم قال هذه الأبيات الأربعة سوى البيت الأوّل في شعره في علي بن الحسين عليه السّلام.
و ذكر الرياشي عن الأصمعي أنّ رجلا من العرب يقال له داود وقف لقثم فناداه و قال:
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
كم صارخ بك من راج و راجية *** في الناس يا قثم الخيرات يا قثم
فأمر له بجائزة سنية.
و الصحيح أنّها للحزين في عبد اللّه بن عبد الملك. و قد غلط ابن عائشة في إدخاله البيتين في تلك الأبيات.
و أبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني متشابهة، تنبئ عن نفسها، و هي:
اللّه يعلم أن قد جبت ذا يمن *** ثمّ العراقين لا يثنيني السّأم
ثم الجزيرة أعلاها و أسفلها *** كذاك تسري على الأهوال بي القدم
ص: 218
ثم المواسم قد أوطنتها زمنا *** و حيث تحلق عند الجمرة اللّمم
قالوا دمشق ينبّيك الخبير بها *** ثم ائت مصر فثمّ النائل الغمم
لمّا وقفت عليها في الجموع ضحى *** و قد تعرّضت الحجّاب و الخدم
/حيّيته بسلام و هو مرتفق *** و ضجّة القوم عند الباب تزدحم
في كفّه خيزران ريحها عبق *** من كفّ أروع، في عرنينه شمم
يغضي حياء و يغضى من مهابته *** فما يكلّم إلاّ حين يبتسم
ترى رءوس بني مروان خاضعة *** يمشون حول ركابيه و ما ظلموا
إن هشّ هشّوا له و استبشروا جذلا *** و إن هم آنسوا إعراضه وجموا(1)
كلتا يديه ربيع عند ذي خلف *** بحر يفيض و هادي عارض هزم(2)
و من الناس من يقول: إن الحزين قالها في عبد العزيز بن مروان، لذكره دمشق و مصر. و قد كان ثمّ عبد اللّه بن عبد الملك أيضا في مصر، و الحزين بها.
أخبرني الحرمي قال: حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن يحيى أبو غسان عن عبد العزيز بن عمران(3) الزهري قال:
وفد الحزين على عبد اللّه بن عبد الملك، و في الرقيق أخوان، فقال عبد اللّه للحزين: أيّ الرقيق أعجب إليك؟ قال: ليختر لي الأمير. قال عبد اللّه: قد رضيت لك هذا - لأحدهما - فإنّي رأيته حسن الصلاح. قال الحزين: لا حاجة لي به فأعطني أخاه. فأعطاه إياه. قال: و الغلامان مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز، و تميم أبو محمد بن تميم، و هو الذي اختاره الحزين. قال: فقال في عبد اللّه يمدحه:
اللّه يعلم أن قد حيّيت ذا يمن(4)
و ذكر القصيدة بطولها على هذا السبيل.
أخبرني وكيع عن محمد بن علي بن حمزة العلوي قال: حدّثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال:
كان على المدينة طائف يقال له صفوان، مولى لآل مخرمة بن نوفل، فجاء الحزين الدّيلي إلى شيخ من أهل المدينة فاستعاره حماره(5) و ذهب إلى العقيق فشرب، و أقبل على الحمار و قد سكر، فجاء به الحمار حتّى وقف به
ص: 219
على باب المسجد/كما كان صاحبه عوّده إياه، فمرّ به صفوان فأخذه فحبسه و حبس الحمار، فأصبح و الحمار محبوس معه. فأنشأ يقول:
أيا أهل المدينة خبّروني *** بأيّ جريرة حبس الحمار
فما للعير من جرم إليكم *** و ما بالعير إن ظلم انتصار
فردّوا الحمار على صاحبه، و ضربوا الحزين الحدّ، فأقبل إلى مولى صفوان و هو في المسجد فقال:
نشدتك بالبيت الذي طيف حوله *** و زمزم و البيت الحرام المحجّب
لزانية صفوان أم لعفيفة *** لأعلم ما آتى و ما أتجنّب(1)
فقال مولاه: هو لزانية. فخرج و هو ينادي: إنّ صفوان ابن الزانية! فتعلّق به صفوان فقال: هذا مولاك يشهد أنك ابن زانية. فخلّى عنه.
و قال محمد بن علي بن حمزة: و أخبرني الرياشي أنّ ابن عمّ للحزين استشاره في امرأة يتزوّجها، فقال له: إن لها إخوة مشائيم و قد ردّوا عنها غير واحد، و أخشى أن يردّوك فتطلق عليك ألسنا كانت عنك خرسا. فخطبها و لم يقبل منه فردّوه، فقال الحزين:
/نهيتك عن أمر فلم تقبل النّهى *** و حذّرتك اليوم الغواة الأشائما(2)
فصرت إلى ما لم أكن منه آمنا *** و أشمت أعدائي و أنطقت لائما
و ما بهم من رغبة عنك قل لهم *** فإن تسألوني تسألوا بي عالما(3)
و أخبرني عيسى بن الحسن قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدّثني عمر بن سلام مولى عمر بن الجعّاب(4):
أنّ الحزين الديلي خرج مع ابن لسهيل بن عبد الرّحمن بن عوف، إلى منتزه لهم، فسكر الحزين و انصرف، فبات في الطريق و سلب ثيابه، فأرسل إلى سهيل يخبره الخبر و يستمنحه فلم يمنحه، و بلغ الخبر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان فأرسل إليه بجميع ما يحتاج إليه، و عوّضه ثمن ثيابه، فقال الحزين في ذلك:
هلاّ سهيلا أشبهت أو بعض أعما *** مك يا ذا الخلائق الشكسه(5)
(4) ب، س: «الساعي» مب: «السامي».
ص: 220
ضيّعت ندمانك الكريم و لم تش *** - فق عليه من ليلة نحسه
ثم تعاللت إذ أتاك له *** صبحا رسول بعلّة طفسه(1)
لكنّ سفيان لم يكن وكلا *** لمّا أتتنا صلاته سلسه(2)
سما به أروع و نفس فتى *** أروع ليست كنفسك الدنسة
حدّثنا الصولي قال: حدّثنا ثعلب قال حدّثني عبد اللّه بن شبيب قال:
مرّ الحزين الدّيلي على مجلس لبني كعب بن خزاعة و هو سكران، فضحكوا عليه، فوقف عليهم و قال:
لا بارك اللّه في كعب و مجلسهم *** ما ذا تجمّع من لؤم و من ضرع(3)
لا يدرسون كتاب اللّه بينهم *** و لا يصومون من حرص على الشبع
فوثب إليه مشايخهم فاعتذروا منه، و سألوه الكفّ و أن لا يزيد شيئا على ما قاله، فأجابهم و انصرف.
أخبرني الحرمي قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثنا عمرو(4) بن أبي بكر المؤمّلي قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي عبيدة قال:
كان الحزين قد ضرب على كلّ رجل من قريش/درهمين درهمين في كلّ شهر، منهم ابن أبي عتيق، فجاءه لأخذ درهميه و هو على حمار أعجف، قال: و كثيّر مع ابن أبي عتيق، فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين فقال له الحزين: من هذا معك؟ قال: هذا أبو صخر كثير بن أبي جمعة. قال: و كان قصيرا دميما، فقال له الحزين: أ تأذن لي أن أهجوه ببيت؟ قال: لا لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي، و لكن أشتري عرضه منك بدرهمين آخرين. و دعا له بهما، فأصغى ثم قال: لا بدّ لي من هجائه ببيت. قال: أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين؟ و دعا له بهما فأخذهما و قال: ما أنا بتاركه حتّى أهجوه. قال: أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين؟ فقال له كثير: ائذن له، و ما عسى أن يقول فيّ؟! فأذن له ابن أبي عتيق فقال:
/قصير القميص فاحش عند بيته *** يعضّ القراد باسته و هو قائم
فوثب كثيّر إليه فوكزه(5) فسقط هو و الحمار، و خلص ابن أبي عتيق بينهما و قال لكثير: قبحك اللّه أ تأذن له و تبسط إليه يدك. قال كثيّر: و أنا ظننته يبلغ في هذا كلّه في بيت واحد!.
و لكثير مع الحزين أخبار أخر قد ذكرت في أخبار كثيّر.
ص: 221
أخبرني الحرمي قال: حدّثني عمي عن الضحاك بن عثمان قال: حدّثني ابن عروة(1) بن أذينة قال:
كان الحزين صديقا لأبي و عشيرا على النبيذ، و كان كثيرا ما يأتيه، و كان بالمدينة قينة يهواها الحزين و يكثر غشيانها، فبيعت و أخرجت عن المدينة، فأتى الحزين أبي و هو كثيب حزين كاتمه، فقال له أبي: مالك يا أبا حكيم؟ قال: أنا و اللّه يا أبا عامر كما قال كثيّر:
لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى *** بغى سقما إني إذا لسقيم(2)
سألت حكيما أين شطّت بها النوى *** فخبّرني ما لا أحبّ حكيم
فقال له أبي: أنت مجنون إن أقمت على هذا.
أخبرني أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدّثنا الزّبير قال: حدّثني مصعب قال:
مرّ الحزين على جعفر بن محمد بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث، و عليه أطمار، فقال له: يا ابن أبي الشعثاء، إلى أين أصبحت غاديا؟ قال: أمتع اللّه بك، نزل عبد اللّه بن عبد الملك الحرّة يريد الحجّ، و قد كنت وفدت إليه بمصر فأحسن إليّ. قال: أ فما وجدت شيئا تلبسه غير هذه الثياب؟ قال: قد استعرت من أهل المدينة فلم يعرني أحد منهم غير هذه الثياب. فدعا جعفر غلاما فقال: ائتني بجبّة صوف، و قميص و رداء. فجاه بذلك فقال:
أبل و أخلق. فلما ولّى الحزين قال جلساء جعفر له: ما صنعت؟! إنّه يعمد إلى هذه الثياب التي كسوته إيّاها فيبيعها، و يفسد بثمنها. قال: ما أبالي إذا كافأته بثيابه ما صنع بها. فسمع الحزين قولهم و ما ردّ عليهم، و مضى حتّى أتى عبد اللّه بن عبد الملك فأحسن إليه و كساه. فلما أصبح الحزين أتى جعفرا و معه القوم الذين لاموه بالأمس و أنشده:
و ما زال ينمو جعفر بن محمّد *** إلى المجد حتّى عبهلته عواذله(3)
و قلن له هل من طريف و تالد *** من المال إلاّ أنت في الحقّ باذله(4)
يحاولنه عن شيمة قد علمنها *** و في نفسه أمر كريم يحاوله(5)
/ثم قال له: بأبي أنت و أميّ، سمعت ما قالوا و ما رددت عليهم.
أخبرني الحرمي قال حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال:
ص: 222
صحب الحزين رجلا من بني عامر بن لؤيّ يلقب أبا بعرة، و كان استعمل على سعايات فلم يصنع إليه خيرا(1)، و كان قد صحب قبله عمرو بن مساحق و سعد بن نوفل(2) فأحمدهما(3)، فقال له:
/صحبتك عاما بعد سعد بن نوفل *** و عمرو فما أشبهت سعدا و لا عمرا
و جادا كما قصّرت في طلب العلا *** فحزت به ذمّا و حازا به شكرا
قال: و أبو بعرة هذا هو الذي كان يعبث(4) بجارية لابن أبي عتيق، فشكته إليه فقال لها: عديه فإذا جاءك فأدخليه إليّ. ففعلت فأدخلته عليه، و هو و شيخ من نظرائه جالسان في حجلة(5)، فلما رآهما قال: أقسم باللّه ما اجتمعتما إلاّ على ريبة. فقال له ابن أبي عتيق: استر علينا ستر اللّه عليك.
قال: و آل أبي بعرة هم موالي آل أبي سمير. قال: فلما ولي المهديّ باعوا ولاءهم منه.
قال الزبير: و أنشدني عمي تمام الأبيات التي هجا بها أبا بعرة - و سمّاه لي فقال: و كان اسمه عيسى - و هي:
أولاك الجعاد البيض من آل مالك *** و أنتم بنو قين لحقتم به نزرا
- نصب «نزرا» على الحال، كأنه قال: لحقتم به نزرا قليلا من الرجال -
نسوق بيعورا أميرا كأنما *** نسوق به في كلّ مجمعة وبرا(6)
فإن يكن البيعور ذمّ رفيقه *** قراه فقد كانت إمارته نكرا(7)
و متّبع البيعور يرجو نواله *** فقد زاده البيعور في فقره فقرا(7)
/أخبرني الحرمي قال: حدّثني الزبير قال: حدّثني صالح، عن عامر بن صالح قال:
مدح الحزين عمرو بن عمرو بن الزبير فلم يعطه شيئا.
و أخبرني بهذا الخبر عمي تامّا و اللفظ له، و لم يذكر الزبير منه إلاّ يسيرا، قال: حدّثنا الكراني قال: حدّثنا العمري قال: حدّثني عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان قال:
ص: 223
دخل الحزين على عمرو بن عمرو بن الزّبير بن العوام منزله، فامتدحه و سأله حاجة، فقال له: ليس إلى ما تطلب سبيل، و لا نقدر أن نملأ الناس معاذير، و ما كلّ من سألنا حاجة استحقّ أن نقضيها، و لربّ مستحقّ لها قد منعناه حاجته. فقال الحزين: أ فمن المستحقّين أنا؟ قال: لا و اللّه، و كيف تكون مستحقّا لشيء من الخير و أنت تشتم أعراض الناس(1) و تهتك حريمهم، و ترميهم بالمعضلات، إنّما المستحق من كفّ أذاه، و بذل نداه، و وقم أعداه(2).
فقال له الحزين: أ فمن هؤلاء أنت؟ فقال له عمرو: أين تبعدني لا أمّ لك من هذه المنزلة و أفضل منها! فوثب الحزين من عنده و أنشأ يقول:
حلفت و ما صبرت على يمين *** و لو أدعى إلى أيمان صبر(3)
بربّ الراقصات بشعث قوم *** يوافون الجمار لصبح عشر(4).
لو انّ اللؤم كان مع الثريّا *** لكان حليفه عمرو بن عمرو
و لو أنّي عرفت بأنّ عمرا *** حليف اللؤم ما ضيّعت شعري
فقال العمري: و حدّثني لقيط أنّ الحزين قال فيه أيضا يهجوه و يمدح محمد بن مروان بن/الحكم، و جاءه فشكا إليه عمرا، فوصله و أحسن إليه. قال:
إذا لم يكن للمرء فضل يزينه *** سوى ما ادّعى يوما فليس له فضل
و تلقى الفتى ضخما جميلا رواؤه *** يروعك في النّادي و ليس له عقل
و آخر تنبو العين عنه مهذّب *** يجود إذا ما الضّخم نهنهه البخل
فيا راجيا عمرو بن عمرو و سيبه *** أ تعرف عمرا أم أتاه بك الجهل(5)
فإن كنت ذا جهل فقد يخطئ الفتى *** و إن كنت ذا حزم إذا حارت النّبل(6)
جهلت ابن عمرو فالتمس سيب غيره *** و دونك مرمى ليس في جدّه هزل
عليك ابن مروان الأغرّ محمدا *** تجده كريما لا يطيش له نبل
قال لقيط: فلما أنشد الحزين محمد بن مروان هذا الشّعر أمر له بخمسة آلاف درهم، و قال له: اكفف يا أخا بني ليث عن عمرو بن عمرو و لك حكمك. فقال: لا و اللّه و لا بحمر النّعم و سودها، لو أعطيتها ما كففت عنه، لأنه ما علمت كثير الشرّ، قليل الخير، متسلّط على صديقه، فظّ على أهله. «و خير ابن عمرو بالثريا معلق».
فقال له محمد بن مروان: هذا شعر. فقال: بعد ساعة يصير شعرا، و لو شئت لعجّلته. ثم قال:
ص: 224
شرّ ابن عمرو حاضر لصديقه *** و خير ابن عمرو بالثريّا معلّق
و وجه ابن عمرو باسر إن طلبته *** نوالا إذا جاد الكريم الموفّق(1)
/فبئس الفتى عمرو بن عمرو إذا غدت *** كتائب هيجاء المنيّة تبرق(2)
فلا زال عمرو للبلايا دريّة *** تباكره حتّى يموت و تطرق(3)
يهزّ هرير الكلب عمرو إذا رأى *** طعاما فما ينفكّ يبكي و يشهق
قال: فزجره محمد عنه، و قال له: أفّ لك، قد أكثرت الهجاء، و أبلغت في الشّتيمة.
قال العمري: و حدّثني عطاء بن مصعب عن عبد اللّه بن الليث الليثي، قال: قال الحزين الدّيلي يهجو عمرو بن عمرو بن الزبير:
لعمرك ما عمرو بن عمرو بماجد *** و لكنّه كزّ اليدين بخيل
ينام عن التقوى و يوقظه الخنا *** فيخبط أثناء الظلام يجول(4)
فلا خير في عمرو لجار و لا له *** ذمام و لكن للئام وصول(5)
مواعيد عمرو ترّهات و وجهه *** على كلّ ما قد قلت فيه دليل
جبان و فحّاش لئيم مذمّم *** و أكذب خلق اللّه حين يقول
كلام ابن عمرو صوفة وسط بلقع *** و كفّ ابن عمرو في الرّخاء تطول(6)
[و إن حزبته الحازبات تشنّجت *** يداه و رمح في الهياج كليل](7)
فبلغ شعره عمرا فقال: ما له لعنه اللّه و لعن من ولده، لقد هجاني بنيّة صادقة و لسان صنع ذلق، و ما عداني إلى غيري. قال: فلقي الحزين عروة بن أذينة الليثي فأنشده هذه الأبيات فقال له: ويحك، بعضها كان يكفيك، فقد بنيتها و لم تقم/أودها، و داخلتها و جعلت معانيها في أكمّتها. قال الحزين: ذلك و اللّه أرغب للناس فيها. فقال له عروة: خير الناس من حلم عن/الجهّال، و ما أراه إلا قد حلم عنك. فقال الحزين: حلم و اللّه عنّي شاء أو أبى، برغمه و صغره(8).
ص: 225
لقي شبّان من ولد الزّبير الخزين، فتناولوه بألسنتهم، و همّوا بضربه، فحال بينهم و بينه ابن لمصعب بن الزبير(1)، فقال الحزين يهجوهم و يهجو جماعة من بني أسد بن عبد العزّى، سوى بني مصعب الذين منعوهم منه، قال:
لحا اللّه حيّا من قريش تحالفوا *** على البخل بالمعروف و الجود بالنّكر
فصاروا لخلق اللّه في اللؤم غاية *** بهم تضرب الأمثال في النثر و الشعر
فيا عمرو لو أشبهت عمرا و مصعبا *** حمدت و لكن أنت منقبض البشر
بني أسد، سادت قريش بجودها *** معدّا و سادتكم معدّ يد الدّهر(2)
تجود قريش بالنّدى و رضيتم *** بني أسد باللّؤم و الذّلّ و الغدر
أ عمرو بن عمرو، لست ممن تعدّه *** قريش إذا ما كاثروا الناس بالفخر(3)
أبت لك يا عمرو بن عمرو دناءة *** و خلق لئيم أن تريش و أن تبري
أخبرني الحرمي قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثني محمد بن الضحاك الحزامي قال: حدّثني أبي قال:
كان الحزين سفيها نذلا يمدح بالنّزر إذا أعطيه، و يهجو على مثله إذا منع، فنزل بعاصم بن عمرو بن عثمان فلم يقره، فقال يهجوه بقوله:
/سيروا فقد جنّ الظّلام عليكم *** فباست الذي يرجو القرى عند عاصم(4)
ظللنا عليه و هو كالتّيس طاعما *** نشدّ على أكبادنا بالعمائم(5)
و ما لي من ذنب إليه علمته *** سوى أنّني قد جئته غير صائم
فقيل له: إنّ عاصما كثيرا ما تسمّي به قريش. فقال: أما و اللّه لأبيّننّه لهم فقال:
إليك ابن عثمان بن عفان عاصم ب *** - ن عمرو و سرت عنسي فخاب سراها(6)
فقد صادفت كزّ اليدين مبخّلا *** جبانا إذا ما الحرب شبّ لظاها
بخيلا بما في رحله غير أنه *** إذا ما خلت عرس الخليل أتاها
ص: 226
أخبرني الحرمي قال حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: قال الحزين لهلال بن يحيى بن طلحة قوله:
هلال بن يحيى غرّة لا خفا بها *** على الناس في عسر الزمان و لا اليسر
و سعد بن إبراهيم ظفر موسّخ *** فهل يستريح الناس من وسخ الظفر(1)
يعني سعد بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف، و كان ولي قضاء المدينة من هشام بن عبد الملك، فلم يعط الحزين شيئا فهجاه. و قال فيه أيضا:
أتيت هلالا أرتجي فضل سيبه *** فأفلتني ممّا أحبّ هلال(2)
هلال بن يحيى غرّة لا خفا بها *** لكلّ أناس غرّة و هلال(3)
أ لم تشهد الجونين و الشّعب ذا الصّفا *** و كرّات قيس يوم دير الجماجم(4)
/تحرّض يا بن القين قيسا ليجعلوا *** لقومك يوما مثل يوم الأراقم(5)
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع *** ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت *** يداك و قالوا محدث غير صارم
الشعر لجرير، و الغناء لابن محرز، ثقيل أوّل بالبنصر.
و هذه الأبيات يقولها جرير يهجو الفرزدق، و يعيّره بضربة ضربها بسيفه رجلا من الروم، فحضره سليمان بن عبد الملك فلم يصنع شيئا.
فحدّثنا بخبره في ذلك محمّد بن العباس اليزيدي قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدّثنا صالح بن سليمان، عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكنديّ، و كان شيخا كبيرا، و كان من أصحاب عبد الملك بن مروان، ثم كان من أصحاب المنصور، قال:
كنت حاضرا سليمان بن عبد الملك.
ص: 227
و أخبرنا علي بن سليمان الأخفش و اليزيدي عن السكّريّ عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة، و عن قتادة عن أبي عبيدة في كتاب «النقائض»، عن رؤبة بن العجاج قال:
حجّ سليمان بن عبد الملك و معه الشّعراء، و حججت معهم فمرّ بالمدينة منصرفا فأتي بأسرى من الرّوم نحو من أربعمائة(1)، فقعد سليمان و عنده عبد اللّه بن الحسن/بن الحسن(2) بن علي عليهم السّلام، و عليه ثوبان ممصّران(3)، و هو أقربهم منه مجلسا، فأدنوا إليه بطريقهم و هو في جامعة(4)، فقال لعبد اللّه بن الحسن: قم فاضرب عنقه. فقام فما أعطاه أحد سيفا حتّى دفع إليه حرسيّ سيفا كليلا، فضربه فأبان عنقه و ذراعه، و أطنّ(5) ساعده و بعض الغلّ. فقال له سليمان: اجلس فو اللّه ما ضربته بسيفك و لكن بحسبك(6). و جعل يدفع الأسرى إلى الوجوه [و إلى الناس](7) فيقتلونهم، حتّى دفع إلى جرير رجلا، فدسّت إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض، فضربه فأبان رأسه، و دفع إلى الفرزدق أسيرا فدسّت إليه القيسية سيفا كليلا، فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا، فضحك سليمان و ضحك الناس معه.
هذه رواية أبي عبيدة عن رؤبة.
و أمّا سليمان بن أبي شيخ فإنّه ذكر في خبره أنّ سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا و قال له: اقتله به.
فقال: لا بل أضربه بسيف مجاشع، و اخترط سيفه فضربه به فلم يغن شيئا، فقال له سليمان: أما و اللّه لقد بقي عليك عارها و شنارها! فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها، و منها الصوت المذكور، و أوّلها قوله:
ألا حيّ ربع المنزل المتقادم *** و ما حلّ مذ حلّت به أمّ سالم
و هي طويلة. فقال الفرزدق:
فهل ضربة الرّوميّ جاعلة لكم *** أبا عن كليب أو أبا مثل دارم
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها *** و تقطع أحيانا مناط التمائم
و لا نقتل الأسرى و لكن نفكّهم *** إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
ذكر يونس أنّ في هذه الأبيات لحنا لابن محرز، و لم يجنّسه.
ص: 228
و قال يعرّض بسليمان و يعيّره بنبوّ سيف ورقاء بن زهير العبسيّ عن خالد بن جعفر - و بنو عبس أخوال سليمان - قال:
/فإن يك سيف خان أو قدر أتى *** بتعجيل نفس حتفها غير شاهد(1)
فسيف بني عبس و قد ضربوا به *** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها *** و تقطع أحيانا مناط القلائد
و روي هذا الخبر عن عوانة بن الحكم، قال فيه:
إنّ الفرزدق قال لسليمان: يا أمير المؤمنين، هبّ لي هذا الأسير. فوهبه له فأعتقه، و قال الأبيات التي تقدّم ذكرها، ثم أقبل على رواته و أصحابه فقال: كأنّي بابن المراغة و قد بلغه خبري فقال:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع *** ضربت و لم تضرب بسيف ابنه ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت *** يداك و قالوا محدث غير صارم
قال: فما لبثنا غير مدّة يسيرة حتّى جاءتنا القصيدة و فيها هذان البيتان، فعجبنا من فطنة الفرزدق.
/و أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال: حدّثنا محمد بن عيسى بن حمزة العلوي، قال: حدّثنا أبو عثمان المازني قال:
زعم جهم بن خلف أنّ رؤبة بن العجاج حدّثه. فذكر هذه القصيدة و زاد فيها.
قال: و استوهب الفرزدق الأسير فوهبه له سليمان، فأعتقه و كساه، و قال قصيدته التي يقول فيها:
و لا نقتل الأسرى و لكن نفكّهم *** إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
قال: و قال في ذلك:
تباشر يربوع بنبوة ضربة *** ضربت بها بين الطّلا و الحراقد(2)
و لو شئت قد السيف ما بين عنقه *** إلى علق بين الحجابين جامد(3)
فإن ينب سيف أو تراخت منيّة *** لميقات نفس حتفها غير شاهد
فسيف بني عبس و قد ضربوا به *** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
قال: و قال في ذلك:
أ يضحك الناس أن أضحكت سيّدهم *** خليفة اللّه يستسقى به المطر
فما نبا السيف عن جبن و لا دهش *** عند الإمام و لكن أحرّ القدر
.
ص: 229
و لو ضربت به عمرا مقلّده *** لخرّ جثمانه ما فوقه شعر(1)
و ما يقدّم نفسا قبل ميتتها *** جمع اليدين و لا الصّمصامة الذكر
فأمّا يوم الجونين الذي ذكره جرير، فهو اليوم الذي أغار فيه عتيبة بن الحارث بن شهاب على بني كلاب، و هو يوم الرّغام(2).
أخبرني بخبره عليّ بن سليمان الأخفش و محمد بن العباس اليزيدي، عن السكري عن ابن حبيب، و دماذ عن أبي عبيدة و عن إبراهيم بن سعدان عن أبيه:
أنّ عتيبة بن الحارث بن شهاب أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب يوم الجونين فاطّرد إبلهم، و كان أنس بن العباس الأصمّ، أخو بني رعل من بني سليم، مجاورا في بني كلاب، و كان بين بني ثعلبة بن يربوع و بين بني رعل عهد: لا يسفك دم و لا يؤكل مال. فلمّا سمع الكلابيون الدّعوى: يا لثعلبة! يا لعبيد! يا لجعفر (3)! عرفوهم، فقالوا لأنس/بن العباس: قد عرفنا ما بين بني رعل و بني ثعلبة بن يربوع، فأدركهم فاحبسهم علينا حتّى نلحق. فخرج أنس في آثارهم حتى أدركهم، فلما دنا منهم قال عتيبة بن الحارث لأخيه حنظلة: أغن عنّا هذا الفارس فاستقبله حنظلة فقال له أنس: إنّما أنا أخوكم و عقيدكم، و كنت في هؤلاء القوم فأغرتم على إبلي فيما أغرتم عليه، و هو معكم. فرجع حنظلة إلى أخيه فأخبره الخبر فقال له: حيّاك اللّه، و هلم فوال إبلك(4)، أي اعزلها.
قال: و اللّه ما أعرفها، و بنو أخي و أهل بيتي معي و قد أمرتهم بالركوب في أثري، و هم أعرف بها منّي. فطلع فوارس بني كلاب فاستقبلهم حنظلة بن الحارث في فوارس فقال لهم أنس: إنّما هم بنيّ و بنو أخي(5). و إنما يربّثهم لتلحق فوارس بني كلاب. فلحقوا فحمل/الحوثرة بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر على حنظلة فقتله(6)، و حمل لأم بن سلمة أخو بني ضبارى بن عبيد ثعلبة على الحوثرة هو و ابن مزنة(7) أخو بني عاصم بن عبيد، فأسراه و دفعاه إلى عتيبة فقتله صبرا، و هزم الكلابيّون و مضى بنو ثعلبة بالإبل و فيها إبل أنس، فلم تقرّ أنسا نفسه حتى اتّبعهم رجاء أن يصيب منهم غرة و هم يسيرون في شجراء(8). فتخلّف عتيبة لقضاء حاجته، و أمسك برأس فرسه فلم يشعر إلاّ بأنس قد مرّ في آثارهم، فتقدّم حتى وثب عليه فأسره، فأتى به عتيبة أصحابه فقال بنو عبيدة: قد عرفنا أنّ لأم بن سلمة و ابن مزنة(7) قد أسرا الحوثرة فدفعاه إليك فضربت عنقه؛ فأعقبهما(9) في أنس بن عبّاس، فمن قتلته خير من أنس. فأبى عتيبة أن يفعل ذلك حتّى افتدى أنس نفسه بمائتي بعير.
ص: 230
فقال العبّاس بن مرداس يعيّر عتيبة بن الحارث بفعله:
كثر الضّجاج و ما سمعت بغادر *** كعتيبة بن الحارث بن شهاب
جلّلت حنظلة المخانة و الخنا *** و دنست آخر هذه الأحقاب(1)
و أسرتم أنسا فما حاولتم *** بإسار جاركم بني الميقاب
- الميقاب: التي تلد الحمقى. و الوقب: الأحمق -.
باست التي ولدتك و است معاشر *** تركوك تمرسهم من الأحساب(2)
فقال عتيبة بن الحارث:
/غدرتم غدرة و غدرت أخرى *** فليس إلى توافينا سبيل
كأنّكم غداة بني كلاب *** - تفاقدتم - عليّ لكم دليل
قوله: تفاقدتم، دعاء عليهم أن يفقد بعضهم بعضا.
و بالعفر دار من جميلة هيجت *** سوالف حبّ في فؤادك منصب(3)
و كنت إذا ناءت بها غربة النوى *** شديد القوى لم تدر ما قول مشغب(4)
كريمة حرّ الوجه لم تدع هالكا *** من القوم هلكا في غد غير معقب
أسيلة مجرى الدمع خمصانة الحشا *** بروق الثّنايا ذات خلق مشرعب(5)
العفر(6): منازل لقيس بالعالية. سوالف: مواض. يقول: هيّجت حبّا قد كان ثمّ انقطع. و منصب: /ذو نصب. و نأت و ناءت و بانت(7) بمعنى واحد، أي بعدت. و مشغب: ذو شغب عليك و خلاف في حبها. و يروى:
«مشعب» أي متعدّد يصرفك عنها. و قوله: «لم تدع هالكا» أي لم تندب هالكا هلك فلم يخلف غيره/و لم يعقب.
و معنى ذلك أنها في عدد و قوم يخلف بعضهم بعضا في المكارم، لا كمن إذا مات سيد قومها أو كريم منهم لم يقم أحد منهم مقامه. و المشرعب: الجسيم الطويل. و الشّرعبيّ: الطويل.
الشعر لطفيل الغنوي، و الغناء لجميلة(8) ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. و ذكره حماد عن أبيه لها و لم يجنسه. و روى إسحاق عن أبيه عن سياط عن يونس أنّ هذا أحسن صوت صنعته جميلة.
ص: 231
قال ابن الكبي: هو طفيل بن عوف [بن كعب بن خلف](1) بن ضبيس بن خليف(2) بن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن غنم بن غنيّ بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان.
و وافقه ابن حبيب في النسب إلا في خلف [بن ضبيس](2) فإنه لم يذكر خلفا و قال: هو طفيل بن عوف بن ضبيس. قال أبو عبيدة: اسم غنيّ عمرو(3)، و اسم أعصر منبه، و إنما سمّي أعصر لقوله:
قالت عميرة ما لرأسك بعد ما *** فقد الشباب أتى بلون منكر
أ عمير إنّ أباك غيّر رأسه *** مرّ الليالي و اختلاف الأعصر
فسمّي بذلك.
و طفيل شاعر جاهلي من الفحول المعدودين، و يكنى أبا قرّان، يقال إنه من أقدم شعراء قيس. و هو [من](1)أوصف العرب للخيل.
أخبرني هاشم بن محمد بن هارون بن عبد اللّه بن مالك أبو دلف الخزاعيّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن قريب الأنصاريّ قال: قال لي عمي:
إنّ رجلا من العرب سمع الناس يتذاكرون الخيل و معرفتها و البصر بها، فقال: كان يقال إنّ طفيلا ركب الخيل و وليها لأهله، و إنّ أبا دواد الأياديّ ملكها لنفسه/و وليها(4) لغيره، كان يليها للملوك، و أنّ النابغة الجعدي لما أسلم الناس و آمنوا اجتمعوا و تحدّثوا و وصفوا الخيل، فسمع ما قالوه فأضافه إلى ما كان سمع و عرف قبل ذلك في صفة الخيل. و كان هؤلاء نعّات الخيل.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عبد الرّحمن، قال حدّثني عمي قال:
ص: 232
كان طفيل أكبر من النابغة: و ليس في قيس فحل أقدم منه.
قال: و كان معاوية يقول: خلّوا لي طفيلا و قولوا ما شئتم في غيره من الشعراء.
أخبرني عبد اللّه بن مالك النحوي قال: حدثنا محمد بن حبيب قال:
كان طفيل الغنوي يسمّى «طفيل الخيل» لكثرة وصفه إيّاها.
أخبرني محمد بن الحسين الكندي خطيب مسجد القادسية، قال: حدّثني الرياشي قال: حدّثني الأصمعي قال:
كان أهل الجاهلية يسمّون طفيلا الغنويّ «المحبّر»؛ لحسن وصفه الخيل(1).
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن يزيد قال: قال أبو عبيدة: طفيل الغنويّ، و النابغة الجعديّ، و أبو دواد الإياديّ، أعلم العرب بالخيل و أوصفهم لها.
أخبرني عمي قال حدّثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدّثنا العمري عن لقيط قال: قال قتيبة بن مسلم لأعرابيّ من غنيّ قدم عليه من خراسان: /أيّ بيت قالته العرب أعفّ؟ قال: قول طفيل الغنوي:
/و لا أكون وكاء الزاد أحبسه *** لقد علمت بأنّ الزاد مأكول(2)
قال: فأيّ بيت قالته العرب في الحرب أجود؟ قال: قول طفيل:
بحيّ إذا قيل اركبوا لم يقل لهم *** عواوير يخشون الرّدى أين نركب(3)
قال: فأيّ بيت قالته العرب في الصّبر أجود؟ قال: قول نافع بن خليفة الغنوي:
و من خير ما فينا من الأمر أنّنا *** متى ما نوافي موطن الصّبر نصبر
قال: فقال قتيبة: ما تركت لإخوانك من باهلة؟ قال: قول صاحبهم:
و إنا أناس ما تزال سوامنا *** تنوّر نيران العدوّ مناسمه(4)
ص: 233
و ليس لنا حيّ نضاف إليهم *** و لكن لنا عود شديد شكائمه
[حرام و إن صلّيته و دهنته *** تأوّده ما كان في السيف قائمه](1)
و هذه القصيدة المذكورة فيها الغناء يقولها طفيل في وقعة أوقعها قومه بطيّئ، و حرب كانت بينه و بينهم.
و ذكر أبو عمرو الشيبانيّ و الطّوسيّ فيما رواه عن الأصمعيّ و أبي عبيدة:
أنّ رجلا من غنيّ يقال له قيس النّدامى(2)، وفد على بعض الملوك، و كان قيس سيدا جوادا، فلما حفل المجلس أقبل الملك على من حضره من وفود العرب فقال: لأضعنّ تاجي على أكرم رجل من العرب، فوضعه على رأس قيس و أعطاه ما شاء، /و نادمه مدّة، ثم أذن له في الانصراف إلى بلده، فلما قرب من بلاد طيّئ خرجوا إليه و هم لا يعرفونه، [فلقوه برمّان](3) فقتلوه، فلما علموا أنّه قيس ندموا لأياديه(4) كانت فيهم، فدفنوه و بنوا عليه بيتا.
ثم إنّ طفيلا جمع جموعا من قيس فأغار على طيّئ فاستاق من مواشيهم ما شاء، و قتل منهم قتلى كثيرة. و كانت هذه الوقعة بين القنان و شرقيّ سلمى(5)، فذلك قول طفيل في هذه القصيدة:
فذوقوا كما ذقنا غادة محجّر *** من الغيظ في أكبادنا و التحوّب(6)
فبالقتل قتل و السّوام بمثله *** و بالشّلّ شلّ الغائط المتصوّب(7)
أخبرني علي بن الحسن(8) بن علي قال: حدّثنا الحارث بن محمد، عن المدائني، عن سلمة بن محارب قال:
لما مات محمد بن الحجاج بن يوسف جزع عليه الحجاج جزعا شديدا، و دخل الناس عليه يعزّونه و يسلّونه، و هو لا يسلو و لا يزداد إلاّ جزعا و تفجّعا، و كان فيمن دخل عليه رجل كان الحجاج قتل ابنه يوم الزاوية، فلما رأى جزعه و قلّة ثباته للمصيبة شمت به و سرّ لما ظهر له منه، و تمثّل بقول طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر *** من الغيظ في أكبادنا و التحوب
و في هذه القصيدة يقول طفيل:
ص: 234
/ترى العين ما تهوى و فيها زيادة *** من اليمن إذ تبدو و ملهى لملعب(1)
و بيت تهبّ الرّيح في حجراته *** بأرض فضاء بابه لم يحجّب(2)
سماوته أسمال برد محبّر *** و صهوته من أتحمّى معصّب(3)
أخبرني عيسى بن الحسين بن الوراق قال: حدّثنا الرياشي عن العتبي عن أبيه قال:
قال/عبد الملك بن مروان لولده و أهله: أيّ بيت ضربته العرب [على عصابة](4) و وصفته أشرف حواء، و أهلا و بناء؟ فقالوا فأكثروا، و تكلّم من حضر فأطالوا، فقال عبد الملك: أكرم بيت وصفته العرب بيت طفيل الذي يقول فيه:
و بيت تهبّ الرّيح في حجراته *** بأرض فضاء بابه لم يحجّب
سماوته أسمال برد محبّر *** و صهوته من أتحمّى معصّب(5)
و أطنابه ارسان جرد كأنّها *** صدور القنا من بادئ و معقّب(6)
نصبت على قوم تدرّ رماحهم *** عروق الأعادي من غرير و أشيب(7)
و قال أبو عمرو الشيباني: كانت فزارة لقيت بني أبي بكر بن كلاب و جيرانهم من محارب، فأوقعت بهم وقعة عظيمة، ثم أدركتهم غنيّ فاستنقذتهم، فلما قتلت طيّئ قيس النّدامى، و قتلت بنو عبس هريم بن سنان بن عمرو بن يربوع بن طريف بن خرشة(8) بن عبيد بن سعد بن كعب بن جلاّن بن غنم(9) بن غنيّ، و كان فارسا حسيبا قد ساد و رأس، قتله ابن هدم العبسيّ طريد الملك، فقال له الملك(10): كيف قتلته؟ قال: «حملت عليه في الكبّة، و طعنته في السّبّة، حتى خرج الرمح من اللّبّة(11). و قتل أسماء بن واقد بن رفيد بن رياح بن يربوع بن ثعلبة بن سعد بن
ص: 235
عوف بن كعب بن جلاّن، [و هو من النجوم]، و حصن بن يربوع بن طريف و أمّهم جندع بنت عمرو بن الأغرّ بن مالك بن سعد بن عوف. فاستغاثت غنيّ ببني أبي بكر و بني محارب فقعدوا عنهم، فقال طفيل في ذلك يمنّ عليهم بما كان منهم في نصرتهم، و يرثي القتلى، قال:
تأوّبني همّ من اللّيل منصب *** و جاء من الأخبار ما لا أكذّب
تتابعن حتّى لم تكن لي ريبة *** و لم يك عمّا خبّروا متعقّب(1)
و كان هريم من سنان خليفة *** و حصن و من أسماء لمّا تغيّبوا(2)
/و من قيس الثّاوي برمّان(3) بيته *** و يوم [حقيل فاد آخر](4) معجب
أشمّ طويل السّاعدين كأنه *** فنيق هجان في يديه مركّب(5)
و بالسّهب ميمون النّقيبة قوله *** لملتمس المعروف أهل و مرحب(6)
كواكب دجن كلّما انقض كوكب *** بدا و انجلت عنه الدّجنّة كوكب
الغناء لسليم أخي بابويه، ثاني ثقيل عن الهشامي. و هي قصيدة طويلة، و ذكرت منها هذه الأبيات من أجل الغناء الذي فيها. و من مختار مرثيته فيها قوله:
لعمري لقد خلّى ابن جندع ثلمة *** و من أين إن لم يرأب اللّه ترأب(7)
نداماي أمسوا قد تخلّيت عنهم *** فكيف ألذّ الخمر أم كيف أشرب(8)
مضوا سلفا قصد السّبيل عليهم *** و صرف المنايا بالرجال تقلّب
فديت من بات يغنّيني *** و بتّ أسقيه و يسقيني
/ثم اصطبحنا قهوة عتّقت *** من عهد سابور و شيرين
الشعر و الغناء لمحمد بن حمزة بن نصير وجه القرعة، و لحنه فيه رمل أول بالبنصر، لا نعرف له صنعة غيره.
ص: 236
هو محمد بن حمزة بن نصير الوصيف مولى المنصور، و يكنى أبا جعفر، و يلقّب وجه القرعة.
و هو أحد المغنّين الحذّاق الضرّاب الرّواة. و قد أخذ عن إبراهيم الموصلي و طبقته، و كان حسن الأداء طيّب الصوت، لا علّة فيه، إلا أنّه كان إذا غنّى الهزج خاصّة خرج بسبب لا يعرف(1)، إلا لآفة تعرض للحسّ في جنس من الأجناس فلا يصحّ له بتّة.
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن إسحاق بن محمد الهاشمي حدثه عن أبيه، أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عند عمه هارون بن عيسى، و عنده محمد بن الحسن بن مصعب، قال: فأتانا محمد بن حمزة وجه القرعة، فسرّ به عمّي(2). و كان شرس الخلق أبيّ النفس، فكان إذا سئل الغناء أباه، فإذا أمسك عنه كان هو المبتدئ به، فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتي به فغنّى، و قال:
مرّ بي سرب ظباء *** رائحات من قباء(3)
قال: و كان يحسنه و يجيده، فجعل إسحاق يشرب و يستعيده حتّى شرب ثلاثة أرطال ثم قال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء لي و أنت تتقدّمني فيه، و لا يخلق الغناء ما دام مثلك ينشأ فيه(4).
فإذا برجل راكب على حمار يؤمّنا و هو يصيح: أحسنت يا أبا جعفر، أحسنت و اللّه! فقلنا: اصعد إلينا كائنا من كنت. فصعد و قال: لو منعتموني من الصّعود لما امتنعت. ثم سفر اللّثام عن وجهه فإذا هو مخارق، فقال: يا أبا جعفر أعد عليّ صوتك. فأعاده فشرب رطلا من شرابنا و قال: لو لا أنّي مدعوّ الخليفة لأقمت عندكم و استمعت هذا الغناء الذي هو أحسن من الزّهر، غبّ المطر.
منها:
مرّ بي سرب ظباء *** رائحات من قباء
زمرا نحو المصلّى *** يتمشّين حذائي(1)
فتجاسرت و ألقي *** - ت سرابيل الحياء
و قديما كان لهوي *** و فتوني بالنّساء(2)
/الغناء لإسحاق مما لا يشكّ فيه من صنعته، و لحنه من ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى/و ذكر محمد بن أحمد المكي أنه لجدّه يحيى. و ذكر حبش أنّ فيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى.
و منها:
يا بشر إني فاعلمي *** و اللّه مجتهدا يميني(3)
ما إن صرمت حبالكم *** فصلي حبالي أو ذريني
استبدلوا طلب الحجا *** ز و سرّة البلد الأمين
بحدائق محفوفة *** بالبيت من عنب و تين
يا دار أقفر رسمها *** بين المحصّب و الحجون
أقوت و غيّر آيها *** طول التّقادم و السّنين
الشعر للحارث بن خالد، و الغناء لابن جامع في الأربعة الأبيات الأول، رمل بالوسطى، و لابن سريج في الخامس و السادس و الأول و الثاني ثقيل أول بالبنصر.
ص: 238
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن مهرويه قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدثني الفضل بن المغنّي، عن محمد بن جبر قال:
دخلنا على إسحاق بن إبراهيم الموصليّ نعوده من علّة كان وجدها، فصادفنا عنده مخارقا، و علّوية، و أحمد بن المكي و هم يتحدّثون، فاتّصل الحديث بينهم، و عرض إسحاق عليهم أن يقيموا عنده ليتفرّج(1) بهم، و يخرج إليهم ستارته يغنّون من ورائها، /ففعلوا و جاء محمد بن حمزة وجه القرعة على بقيّة(2) ذلك فاحتبسه إسحاق معهم، و وضع النبيذ و غنّوا، فغنّى أو علّوية صوتا من الغناء القديم، فخالفه محمد فيه و في صانعه، و طال مراؤهما في ذلك، و إسحاق ساكت، ثم تحاكما إليه فحكم لمحمد و راجعه علوية، فقال له إسحاق: حسبك، فو اللّه ما فيكم أدرى بما يخرج من رأسه منه. ثم غنّى أحمد بن يحيى المكّيّ قوله:
قل للجمانة لا تعجل بإسراج(3)
فقال محمد: هذا اللّحن لمعبد و لا يعرف له هزج غيره. فقال أحمد: أمّا على ما شرط أبو محمد آنفا من أنّه ليس في الجماعة أدرى بما يخرج من رأسه منك فلا معارض لك. فقال له إسحاق: يا أبا جعفر، ما عنيتك و اللّه فيما قلت، و لكن قد قال إنّه لا يعرف لمعبد هزج غير هذا، و كلّنا نعلم إنّه لمعبد، فأكذبه أنت بهزج آخر له مما لا يشكّ فيه. فقال أحمد: ما أعرف.
قال محمد بن الحسن: و حدثني إسحاق الهاشميّ عن أبيه:
أنّ محمدا دخل معه على إسحاق الموصليّ مهنئا له بالسلامة من علّة كان فيها، فدعا بعود، فأمر به إسحاق فدفع إلى محمد، فغنّى أصواتا للقدماء و أصواتا لإبراهيم، و أصواتا لإسحاق، في إيقاعات مختلفة، فوجّه إسحاق خادما بين يديه إلى جواري أبيه، فخرجن حتّى سمعنه من وراء حجاب، ثم ودّعه و انصرف، فقال إسحاق للجواري: ما عندكنّ في هذا الفتى؟ فقلن: ذكّرنا و اللّه أباك فيما غنّاه. فقال: صدقتنّ. ثم أقبل علينا فقال: هو مغنّ محسن، و لكنّه لا يصلح للمطارحة لكثرة زوائده، و مثله إذا طارح جسر الذي يأخذ عنه(4) فلم ينتفع له، و لكنّه ناهيك به من مغنّ مطرب.
/قال إسحاق: و حدّثت أنه صار إلى مخارق عائدا، فصادف عنده المغنّين جميعا، فلما طلع تغامزوا عليه،
ص: 239
فسلّم على مخارق و سأله به، فأقبل عليه مخارق ثم قال له: يا أبا جعفر، إنّ جواريك اللواتي في ملكي قد تركن الدّرس من مدّة، فأحبّ أن تدخل إليهن و تأخذ عليهنّ و تصلح من غنائهن. ثم صاح بالخدم فسعوا بين يديه إلى حجرة الجواري، ففعل ما سأله مخارق، ثم خرج، فأعلمه أنه قد أتى ما أحبّه، و التفت إلى المغنّين فقال: قد رأيت غمزكم، فهل فيكم أحد رضي أبو المهنّا أعزّه اللّه حذقه و أدبه و أمانته، و رضيه لحواريه غيري؟ ثم ولّى فكأنما ألقمهم حجرا، فما أجابه أحد.
عفت الدّيار محلّها فمقامها *** بمنى تأبّد غولها فرجامها
فمدافع الرّيّان عرّي رسمها *** خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها
فاقنع بما قسم الإله فإنّما *** قسم الخلائق بيننا علاّمها(1)
عروضه من الكامل. عفت: درست. و منّى: موضع في بلاد بني عامر، و ليس منى مكّة. تأبّد: توحّش.
و الغول و الرّجام: جبلان بالحمى. و الرّيان: واد. مدافعه: مجاري الماء فيه. و عرّي رسمها، أي ترك(2) و ارتحل عنه. يقول: عرّي من أهله. و سلامها: صخورها، واحدتها سلمة.
الشعر للبيد بن ربيعة العامريّ، و الغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و فيه لابن محرز خفيف رمل أوّل بالوسطى عن حبش، و ذكر الهشاميّ(3) إنّ فيه رملا آخر للهذلي في الثالث و الأول.
ص: 240
هو لبيد بن ربيعة بن مالك(1) بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.
و كان يقال لأبيه «ربيع المقترين»(2) لجوده و سخائه. و قتلته بنو أسد(3) في الحرب التي كانت بينهم و بين قومهم و قومه.
و عمّه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، سمي بذلك لقول أوس بن حجر فيه:
فلاعب أطراف الأسنّة عامر *** فراح له حظّ الكتيبة أجمع(4)
و أمّ لبيد تامرة(5) بنت زنباع العبسية، إحدى بنات جذيمة بن رواحة.
و لبيد أحد شعراء الجاهلية المعدودين فيها و المخضرمين ممّن أدرك الإسلام، و هو من أشراف الشّعراء المجيدين الفرسان القرّاء المعمّرين، يقال إنه عمّر مائة و خمسا و أربعين سنة.
أخبرني بخبره في عمره أحمد بن عبد العزيزي الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبّة عن عبد اللّه بن محمد بن حكيم. و أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا/ابن مهرويه قال حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن علي بن الصباح،
ص: 241
عن ابن الكلبي، و عن عليّ بن المسور عن الأصمعيّ، و عن المدائني و عن رجال ذكرهم، منهم أبو اليقظان و ابن دأب، و ابن جعدبة، و الوقاصي.
أن لبيد بن ربيعة قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في وفد بني كلاب بعد وفاة أخيه أربد/و عامر بن الطّفيل، فأسلم و هاجر و حسن إسلامه، و نزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه فأقام بها. و مات بها هناك في آخر خلافة معاوية، فكان عمره مائة و خمسا و أربعين سنة، منها تسعون سنة في الجاهلية، و بقيّتها في الإسلام.
قال عمر بن شبة في خبره: فحدثني عبد اللّه بن محمد بن حكيم أنّ لبيدا قال حين بلغ سبعا و سبعين سنة:
قامت تشكّى إليّ النّفس مجهشة *** و قد حملتك سبعا بعد سبعينا(1)
فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا *** و في الثّلاث وفاء للثمانينا
فلما بلغ التسعين قال:
كأنّي و قد جاوزت عشرين حجّة *** خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
فلما بلغ مائة و عشرا قال:
أ ليس في مائة قد عاشها رجل *** و في تكامل عشر بعدها عمر
فلما جاوزها قال:
و لقد سئمت من الحياة و طولها *** و سؤال هذا الناس كيف لبيد
غلب الرّجال و كان غير مغلّب *** دهر طويل دائم ممدود
/يوما أرى يأتي عليّ و ليلة *** و كلاهما بعد المضاء يعود
و أراه يأتي مثل يوم لقيته *** لم ينتقص و ضعفت و هو يزيد
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم(2) السجستاني قال حدّثنا الأصمعي قال:
وفد عامر بن مالك ملاعب الأسنّة، و كان يكنى أبا البراء، في رهط من بني جعفر، و معه لبيد بن ربيعة، و مالك بن جعفر، و عامر بن مالك عمّ لبيد، على النّعمان، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسيّ و أمّه فاطمة بنت الخرشب، و كان الربيع نديما للنّعمان مع رجل من تجّار الشام يقال له زرجون بن توفيل(3)، و كان حريفا للنّعمان يبايعه(4)، و كان أديبا حسن الحديث و النّدام، فاستخفّه(5) النعمان، و كان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه و إلى
ص: 242
النّطاسيّ: متطبّب(1) كان له، و إلى الربيع بن زياد فخلا بهم، فلما قدم الجعفريّون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم و ذكر معايبهم، و كانت بنو جعفر له أعداء(2)، فلم يزل بالنّعمان حتّى صدّه عنهم، فدخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء، و قد كان يكرمهم و يقرّبهم، فخرجوا غضابا و لبيد متخلّف في رحالهم يحفظ متاعهم، و يغدو بإبلهم كلّ صباح يرعاها، فأتاهم ذات ليلة و هم يتذاكرون أمر الربيع، فسألهم عنه فكتموه، فقال: و اللّه لا حفظت لكم متاعا، و لا سرّحت لكم بعيرا أو تخبروني/فيم أنتم؟ و كانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك و صدّ عنا وجهه. فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني و بينه فأزجره عنكم بقول ممضّ(3) لا يلتفت إليه النعمان أبدا؟ فقالوا: و هل عندك شيء؟ قال: نعم.
قالوا: فإنّا نبلوك. قال: و ما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة - و قدّامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، /لاصقة بالأرض، تدعى التّربة(4) - فقال: «هذه التّربة التي لا تذكي نارا و لا تؤهل دارا، و لا و تسرّ جارا، عودها ضئيل، و فرعها كليل، و خيرها قليل، أقبح البقول مرعى، و أقصرها فرعا، و أشدّها قلعا. بلدها شاسع، و آكلها جائع، و المقيم عليها قانع، فالقوا بي أخا عبس، أردّه عنكم بتعس، و أتركه من أمره في لبس». قالوا: نصبح و نرى فيك رأينا. فقال عامر: انظروا إلى غلامكم هذا - يعني لبيدا - فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء، إنما هو يتكلّم بما جاء على لسانه، و إن رأيتموه ساهرا فهو صاحبه. فرمقوه فوجدوه و قد ركب رحلا و هو يكدم وسطه(5) حتّى أصبح، فقالوا: أنت و اللّه صاحبه. فعمدوا إليه فحلقوا رأسه و تركوا ذؤابته، و ألبسوه حلّة ثم غدا معهم و أدخلوه على النعمان، فوجدوه يتغدّى و معه الربيع بن زياد، و هما يأكلان لا ثالث لهما، و الدار و المجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريّين فدخلوا عليه، و قد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد في ذلك:
أ كلّ يوم هامتي مقزّعه *** يا ربّ هيجا هي خير من دعه
نحن بني أمّ البنين الأربعة *** سيوف حزّ و جفان مترعه
/نحن خيار عامر بن صعصعة *** الضاربون الهام تحت الخيضعة
و المطمعون الجفنة المدعدعة(6) *** مهلا أبيت اللّعن لا تأكل معه
إنّ استه من برص ملمّعه(7) *** و إنّه يدخل فيها إصبعه
يدخلها حتّى يواري أشجعه(8) *** كأنّه يطلب شيئا ضيعه
ص: 243
فرفع النعمان يده من الطعام و قال: خبّثت و اللّه عليّ طعامي يا غلام؛ و ما رأيت كاليوم. فأقبل الربيع على النعمان فقال: كذب و اللّه ابن الفاعلة(1)، و لقد فعلت بأمّه كذا و كذا. فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة أهله و القريبة من أهله، و إن أمي من نساء لم يكن فواعل ما ذكرت. و قضى النعمان حوائج الجعفريّين، و مضى من وقته و صرفهم، و مضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، و أمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه الربيع: إنّي قد عرفت أنّه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، و إنّي لست بارحا حتّى تبعث إليّ من يجرّدني فيعلم من حضرك من الناس أنّي لست كما قال لبيد. فأرسل إليه: إنّك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا، و لا قادرا على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك. فلحق بأهله ثم أرسل إلى النعمان بأبيات شعر قالها، و هي:
لئن رحلت جمال لا إلى سعة *** ما مثلها سعة عرضا و لا طولا
بحيث لو وردت لخم بأجمعها *** لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا(2)
/ترعى الروائم أحرار البقول بها *** لا مثل رعيكم ملحا و غسويلا(3)
فاثبت بأرضك بعدي و اخل متكئا *** مع النّطاسيّ طورا و ابن توفيلا
فأجابه النعمان بقوله:
/شرّد برحلك عنّي حيث شئت و لا *** تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا
فقد ذكرت بشيء لست ناسيه *** ما جاورت مصر أهل الشّام و النّيلا
فما انتفاؤك منه بعد ما جزعت *** هوج المطيّ به نحو ابن سمويلا(4)
قد قيل ذلك إن حقّا و إن كذبا *** فما اعتذارك من قول إذا قيلا
فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة *** فانشر بها الطّرف إن عرضا و إن طولا
قال: و قال لبيد يهجو الربيع بن زياد - و يزعمون أنها مصنوعة. قال:
ربيع لا يسقك نحوي سائق *** فتطلب الأذحال و الحقائق(5)
ص: 244
و يعلم المعيا به و السّابق(1) *** ما أنت إن ضمّ عليك المازق(2)
إلاّ كشيء عاقه العوائق *** إنّك حاس حسوة فذائق
لا بدّ أن يغمز منك العاتق(3) *** غمزا ترى أنك منه ذارق(4)
إنّك شيخ خائن منافق *** بالمخزيات ظاهر مطابق
و كان لبيد يقول الشعر و يقول: لا تظهروه، حتى قال:
عفت الدّيار محلّها فمقامها
و ذكر ما صنع الربيع بن زياد، و ضمرة بن ضمرة(5). و من حضرهم من وجوه الناس، فقال لهم لبيد حينئذ:
أظهروها.
قال الأصمعي في تفسير قوله: الخيضعة، أصله الخضعة بغير ياء، يعني الجلبة و الأصوات، فزاد فيها الياء.
و قال في قوله «بالمخزيات ظاهر مطابق»: يقال طابق الدابة، إذا وضع يديه ثم رفعهما فوضع مكانهما رجليه، و كذلك إذا كان يطأ في شوك. و المأزق: المضيق. و النازق: الخفيف.
نسخت من كتاب مرويّ عن أبي الحكم قال: حدثني العلاء بن عبد اللّه الموقّع قال:
اجتمع عند الوليد بن عقبة سمّاره و هو أمير الكوفة و فيهم لبيد، فسأل لبيدا عما كان بينه و بين الربيع بن زياد عند النّعمان، فقال له لبيد: هذا كان من أمر الجاهلية و قد جاء اللّه بالإسلام. فقال له: عزمت عليك - و كانوا يرون لعزمة الأمير حقّا - فجعل يحدّثهم، فحسده رجل من غنيّ فقال: ما علمنا بهذا. قال: أجل يا ابن أخي، لم يدرك أبوك مثل ذلك، و كان أبوك ممّن لم يشهد تلك المشاهد فيحدّثك.
أخبرني عمي قال حدّثنا الكراني قال حدّثني العمريّ قال: حدثني الهيثم عن ابن عياش عن محمد بن المنتشر قال:
/لم يسمع من لبيد فخره في الإسلام غير يوم واحد، فإنّه كان في رحبة غنيّ مستلقيا على ظهره قد سجّى نفسه بثوبه، إذ أقبل شابّ من غنيّ فقال: قبح اللّه طفيلا حيث يقول:
جزى اللّه عنّا جعفرا حيث أشرفت *** بنا نعلنا في الواطئين فزلّت
ص: 245
أبوا أن يملّونا و لو أنّ أمنّا *** تلاقي الذي يلقون منّا لملّت
فذو المال موفور و كل معصّب *** إلى حجرات أدفأت و أظلّت(1)
و قالت هلمّوا الدار حتّى تبيّنوا *** و تنجلي الغمّاء عمّا تجلّت(2)
ليت شعري ما الذي رأى من بني جعفر حيث يقول هذا فيهم؟ قال: فكشف لبيد الثّوب عن وجهه و قال: يا ابن أخي، إنّك أدركت الناس و قد جعلت لهم شرطة يرعون(3) بعضهم/عن بعض، و دار رزق تخرج الخادم بجرابها فتأتي برزق أهلها، و بيت مال يأخذون منه أعطيتهم، و لو أدركت طفيلا يوم يقول هذا لم تلمه. ثم استلقى و هو يقول: أستغفر اللّه. فلم يزل يقول: أستغفر اللّه؛ حتى قام.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد قال:
قال مرّ لبيد بالكوفة على مجلس بني نهد(4) و هو يتوكأ على محجن له فبعثوا إليه رسولا يسأله عن أشعر العرب، فسأله فقال: الملك الضّليل ذو القروح. فرجع/فأخبرهم فقالوا: هذا امرؤ القيس. ثم رجع إليه فسأله:
ثم من؟ فقال له: الغلام المقتول من بني بكر. فرجع فأخبرهم فقالوا: هذا طرفة. ثم رجع فسأله ثم من؟ فقال: ثم صاحب المحجن، يعني نفسه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو عبيدة قال:
لم يقل لبيد في الإسلام إلاّ بيتا واحدا، و هو:
الحمد للّه إذ لم يأتني أجلي *** حتّى لبست من الإسلام سربالا(5)
أخبرني أحمد قال: أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلّبي قال: حدثنا نصر بن دأب عن داود بن أبي هند عن الشّعبي قال:
كتب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إلى المغيرة بن شعبة و هو على الكوفة: أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام. فأرسل إلى الأغلب الراجز العجليّ، فقال له: أنشدني. فقال:
ص: 246
أ رجزا تريد أم قصيدا *** لقد طلبت هيّنا موجودا
ثم أرسل إلى لبيد فقال: أنشدني. فقال: إن شئت ما عفي عنه - يعني الجاهلية - فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها و قال: أبدلني اللّه هذه في الإسلام مكان الشعر.
فكتب بذلك المغيرة إلى عمر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة و جعلها في عطاء لبيد، /فكان عطاؤه ألفين و خمسمائة، فكتب الأغلب: يا أمير المؤمنين أ تنقص عطائي أن أطعتك؟! فردّ عليه خمسمائة و أقرّ عطاء لبيد على ألفين و خمسمائة.
قال أبو زيد: و أراد معاوية أن ينقصه من عطائه لمّا ولي الخلافة، و قال: هذان(1) الفودان - يعني الألفين - فما بال العلاوة؟ يعني الخمسمائة. فقال له لبيد: إنما أنا هامة اليوم أو غد، فأعرني اسمها(2)، فلعلّي لا أقبضها أبدا فتبقى لك العلاوة و الفودان(3). فرقّ له و ترك عطاءه على حاله، فمات و لم يقبضه.
و قال عمر بن شبّة في خبره الذي ذكره عن عبد اللّه بن محمد بن حكيم. و أخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد اللّه بن مسلم قالا:
كان لبيد من جوداء العرب(4)، و كان قد آلى في الجاهلية أن لا تهبّ صبا إلاّ أطعم، و كان له جفنتان يغدو بهما و يروح في كلّ يوم على مسجد قومه فيطعمهم، فهبّت الصبا يوما و الوليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر فخطب الناس ثم قال: إنّ أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية ألا تهبّ صبا إلاّ أطعم، و هذا يوم من أيامه، و قد هبّت صبا فأعينوه، و أنا أوّل من فعل. ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بكرة، و كتب إليه بأبيات قالها:
أرى الجزّار يشحذ شفرتيه *** إذا هبّت رياح أبي عقيل
/أشمّ الأنف أصيد عامريّ *** طويل الباع كالسّيف الصّقيل
و في ابن الجعفريّ بحلفتيه *** على العلاّت و المال القليل(5)
بنحر الكوم إذ سحبت عليه *** ذيول صبا تجاوب بالأصيل
ص: 247
فلما بلغت أبياته لبيدا قال لابنته: أجيبيه، فلعمري لقد عشت برهة و ما أعيا بجواب شاعر. فقالت ابنته:
إذا هبّت رياح أبي عقيل *** دعونا عند هبّتها الوليدا
أشمّ الأنف أروع عبشميّا *** أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأنّ ركبا *** عليها من بني حام قعودا(1)
أبا وهب جزاك اللّه خيرا *** نحرناها فأطعمنا الثّريدا
فعد إنّ الكريم له معاد *** و ظنّي يا ابن أروى أن تعودا(2)
فقال لها لبيد: أحسنت لو لا أنك استطعمته. فقالت: إنّ الملوك لا يستحيا من مسألتهم. فقال: و أنت يا بنية في هذه أشعر.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني محمد بن عمران الضبي قال: حدّثني القاسم بن يعلى عن المفضّل الضبي قال:
قدم الفرزدق فمرّ بمسجد بني أقيصر، و عليه رجل ينشد قول لبيد:
و جلا السّيول عن الطّلول كأنها *** زبر تجدّ متونها أقلامها
فسجد الفرزدق فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، و أنا أعرف سجدة الشعر.
أخبرنا أحمد بن عبد اللّه بن عمار قال: حدّثنا يعقوب الثقفي، و ابن عيّاش، و مسعر بن كدام، كلّهم عن عبد الملك بن عمير قال:
/أخبرني من أرسله القراء الأشراف - قال الهيثم: فقلت لابن عياش: من القرّاء الأشراف؟ قال: سليمان بن صرد الخزاعيّ، و المسيّب بن نجبة الفزاريّ(3)، و خالد بن عرفطة الزّهري، و مسروق بن الأجدع الهمداني، و هانئ بن عروة المرادي(4) - إلى لبيد بن ربيعة و هو في المسجد، و في يده محجن فقلت: يا أبا عقيل، إخوانك يقرءونك السلام و يقولون: أيّ العرب أشعر؟ قال: الملك الضّليل ذو القروح. فردّوني إليه و قالوا: و من ذو القروح؟ قال: امرؤ القيس. فأعادوني إليه و قالوا: ثم من؟ قال: الغلاء ابن ثمان عشرة سنة. فردّوني إليه فقلت: و من هو؟ فقال: طرفة. فردّوني إليه فقلت: ثم من؟ قال: صاح المحجن حيث يقول:
إنّ تقوى ربّنا خير نفل *** و بإذن اللّه ريثي و عجل
أحمد اللّه و لا ندّ له *** بيديه الخير ما شاء فعل
ص: 248
من هداه سبل الخير اهتدى *** ناعم البال و من شاء أضلّ(1)
يعني نفسه. ثم قال: أستغفر اللّه.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبّة عن ابن البواب قال:
جلس المعتصم يوما للشراب، فغنّاه عض المغنّين قوله:
و بنو العباس لا يأتون «لا» *** و على ألسنهم خفّت «نعم»
/زيّنت أحلامهم أحسابهم *** و كذاك الحلم زين للكرم
/فقال: ما أعرف هذا الشعر، فلمن هو؟ قيل: للبيد. فقال: و ما للبيد و بني العبّاس؟ قال المغنّي: إنما قال:
و بنو الدّيان(2) لا يأتون
فجعلته «و بنو العباس». فاستحسن فعله و وصله.
و كان يعجب بشعر لبيد فقال: من منكم يروي قوله:
بلينا و ما تبلى النجوم الطوالع
فقال بعض الجلساء: أنا. فقال: أنشدنيها. فأنشد:
بلينا و ما تبلى النّجوم الطوالع *** و تبقى الجبال بعدنا و المصانع
و قد كنت في أكناف جار مضنّة *** ففارقني جار بأربد نافع(3)
فبكى المعتصم حتّى جرت دموعه، و ترحّم على المأمون، و قال: هكذا كان رحمة اللّه عليه! ثم اندفع و هو ينشد باقيها و يقول:
فلا جزع إن فرّق الدّهر بيننا *** فكلّ امرئ يوما له الدهر فاجع
و ما الناس إلاّ كالدّيار و أهلها *** بها يوم حلّوها و بعد بلاقع(4)
و يمضون أرسالا و نخلف بعدهم *** كما ضمّ إحدى الراحتين الأصابع
و ما المرء إلا كالشّهاب وضوئه *** يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
و ما البرّ إلا مضمرات من التّقى *** و ما المال إلا عاريات ودائع(5)
/أ ليس ورائي إن تراخت منيّتي *** لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
ص: 249
أخبّر أخبار القرون التي مضت *** أدبّ كأنّي كلما قمت راكع
فأصبحت مثل السّيف أخلق جفنه *** تقادم عهد القين و النصل قاطع
فلا تبعدن إنّ المنية موعد *** علينا فدان للطّلوع و طالع
أعاذل ما يدريك إلاّ تظنّيا *** إذا رحل الفتيان من هو راجع(1)
أ تجزع مما أحدث الدهر بالفتى *** و أيّ كريم لم تصبه القوارع
لعمرك ما تدري الضّوارب بالحصى *** و لا زاجرات الطّير ما اللّه صانع
قال: فعجبنا و اللّه من حسن ألفاظه، و صحّة إنشاده، و جودة اختياره.
أخبرني الحسين بن علي قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه. و حدّثنا محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال(2):
كان عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، فتفكّر يوما في نفسه فقال: و اللّه ما ينبغي لمسلم أن يكون آمنا في جوار كافر و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خائف. فجاء إلى الوليد بن المغيرة فقال له: أحبّ أن تبرأ من جواري. قال:
لعلّه رابك ريب. قال: لا، و لكن أحبّ أن تفعل. قال: فاذهب بنا حتّى أبرأ منك حيث أجرتك(3). فخرج معه إلى المسجد الحرام فلمّا وقف على جماعة قريش قال لهم: هذا ابن مظعون قد كنت أجرته ثم سألني أن أبرأ منه، أ كذاك يا عثمان؟ /قال: نعم. قال: اشهدوا أني منه بريء.
قال: و جماعة يتحدّثون من قريش معهم لبيد بن ربيعة ينشدهم، فجلس عثمان مع القوم فأنشدهم لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل
/فقال له عثمان: صدقت. فقال لبيد:
و كلّ نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان: كذبت. فلم يدر القوم ما عنى. فأشار بعضهم إلى لبيد أن يعيد، فأعاد فصدّقه في النصف الأول و كذّبه في الآخر، لأنّ نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: يا معشر قريش، ما كان مثل هذا يكون في مجالسكم. فقام أبيّ بن خلف أو ابنه فلطم وجه عثمان، فقال له قائل: لقد كنت في منعة من هذا بالأمس. فقال له: ما أحوج عيني هذه الصحيحة إلى أن يصيبها ما أصاب الأخرى في اللّه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثني العمري عن الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عيّاش قال:
ص: 250
كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بإشحاص الشعبيّ إليه، فأشخصه فألزمه ولده، و أمر بتخريجهم و مذاكرتهم، قال: فدعاني يوما في علّته التي مات فيها فغصّ بلقمة و أنا بين يديه، فتساند طويلا ثم قال: أصبحت كما قال الشاعر:
كأنّي و قد جاوزت سبعين حجّة *** خلعت بها عنّي عذار لجام
إذا ما رآني الناس قالوا أ لم يكن *** شديد محال البطش غير كهام
رمتني بنات الدّهر من حيث لا أرى *** و كيف بمن يرمى و ليس برام
و لو أنّني أرمى بسهم رأيته *** و لكنّني أرمي بغير سهام
فقال الشعبيّ: فقلت: إنّا للّه، استسلم الرّجل و اللّه للموت! فقلت: أصلحك اللّه، و لكن مثلك ما قال لبيد:
/باتت تشكّى إليّ الموت مجهشة *** و قد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا *** و في الثّلاث و فاء للثمانينا
فعاش إلى أن بلغ تسعين سنة فقال(1):
كأنّي و قد جاوزت تسعين حجة *** خلعت بها عن منكبيّ ردائيا(2)
فعاش إلى أن بلغ مائة و عشر سنين. فقال:
أ ليس في مائة قد عاشها رجل *** و في تكامل عشر بعدها عمر
فعاش إلى أن بلغ مائة و عشرين سنة فقال:
و لقد سئمت من الحياة و طولها *** و سؤال هذا الناس كيف لبيد
غلب الرجال و كان غير مغلّب *** دهر جديد دائم ممدود
يوم أرى يأتي عليه و ليلة *** و كلاهما بعد المضاء يعود
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا هارون بن مسلم عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال:
/نظر النابغة الذبياني إلى لبيد بن ربيعة و هو صبيّ، مع أعمامه على باب النّعمان بن المنذر، فسأل عنه فنسب له، فقال له: يا غلام، إنّ عينيك لعينا شاعر، أ فتقرض من الشّعر شيئا؟ قال: نعم يا عمّ. قال: فأنشدني شيئا مما قلته. فأنشده قوله:
أ لم تربع على الدّمن الخوالي(1)
فقال له: يا غلام، أنت أشعر بني عامر، زدني يا بنيّ. فأنشده:
طلل لخولة بالرّسيس قديم
فضرب بيديه إلى جنبيه و قال: اذهب فأنت أشعر من قيس كلّها، أو قال: هوازن كلّها.
و أخبرني بهذا الخبر عمي قال: حدّثنا العمري عن لقيط عن أبيه، و حماد الراوية عن عبد اللّه بن قتادة المحاربي قال:
كنت مع النابغة بباب النّعمان بن المنذر، فقال لي النابغة: هل رأيت لبيد بن ربيعة فيمن حضر؟ قلت: نعم.
قال: أيّهم أشعر؟ قلت: الفتى الذي رأيت من حاله كيت و كيت. فقال: اجلس بنا حتّى يخرج إلينا. قال: فجلسنا فلما خرج قال له النابغة: إليّ يا ابن/أخي. فأتاه فقال: انشدني. فأنشده قوله:
أ لم تلمم على الدّمن الخوالي *** لسلمى بالمذانب فالقفال(2)
فقال له النابغة: أنت أشعر بني عامر، زدني. فأنشده:
طلل لخولة بالرّسيس قديم *** فبعاقل فلأنعمين رسوم(3)
/فقال له: أنت أشعر هوازن، زدني. فأنشده قوله:
عفت الدّيار محلّها فمقامها *** بمنى تأبّد غولها فرجامها
فقال له النابغة: اذهب فأنت أشعر العرب.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدثني عبد اللّه بن محمد بن حكيم، عن خالد بن
ص: 252
سعيد، أنّ لبيدا لما حضرته الوفاة قال لابن أخيه و لم يكن له ولد ذكر: يا بنيّ، إنّ أباك لم يمت و لكنّه فني. فإذا قبض أبوك فأقبله القبلة(1) و سجّه بثوبه، و لا تصرخنّ عليه صارخة، و انظر جفنتيّ اللتين كنت أصنعهما فاصنعهما ثم احملهما إلى المسجد، فإذا سلّم الإمام فقدّمها إليهم، فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم. ثم أنشد قوله:
و إذا دفنت أباك فاج *** عل فوقه خشبا و طينا(2)
و سقائفا صمّا روا *** سيها يسدّدن الغصونا(3)
ليقين حرّ الوجه سف *** ساف التّراب و لن يقينا
قال: و هذه الأبيات من قصيدة طويلة.
و قد ذكر يونس أنّ لابن سريج لحنا في أبيات من قصيدة لبيد هذه، و لم يجنّسه.
أ بنيّ هل أبصرت أع *** مامي بني أمّ البنينا
و أبي الذي كان الأرا *** مل في الشّتاء له قطينا
و أبا شريك و المنا *** زل في المضيق إذا لقينا(4)
/ما إن رأيت و لا سمع *** ت بمثلهم في العالمينا
فبقيت بعدهم و كن *** ت بطول صحبتهم ضنينا
دعني و ما ملكت يمي *** ني إن سددت بها الشئونا(5)
و افعل بمالك ما بدا *** لك مستعانا أو معينا
قال: و قال لابنتيه حين احتضر(6)، و فيه غناء:
تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما *** و هل أنا إلاّ من ربيعة أو مضر
فإن حان يوما أن يموت أبوكما *** فلا تخمشا وجها و لا تحلقا شعر
و قولا هو المرء الذي لا حليفه *** أضاع، و لا خان الصّديق و لا غدر
و الأنعمان: جبل ببطن عاقل. «رسوم» كذا في «الديوان»، مب، ها، ف. و في سائر النسخ: «و شوم».
ص: 253
إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما *** و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر
في هذه الأبيات هزج خفيف مطلق في مجرى الوسطى. و ذكر الهشامي إنّه لإسحاق. و ذكر/أحمد بن يحيى أنه لإبراهيم.
قال: فكانت ابنتاه تلبسان ثيابهما في كلّ يوم، ثم تأتيان مجلس بني جعفر بن كلاب فترثيانه و لا تعولان، فأقامتا على ذلك حولا ثم انصرفتا.
سألناه الجزيل فما تأبّى *** فأعطى فوق منيتنا و زادا
و أحسن ثمّ أحسن ثم عدنا *** فأحسن ثم عدت له فعادا
مرارا ما دنوت إليه إلاّ *** تبسّم ضاحكا و ثنى الوسادا
الشعر لزياد الأعجم، و الغناء لشارية، خفيف رمل بالبنصر مطلق.
ص: 254
زياد بن سليمان(1)، مولى عبد القيس، أحد بني عامر بن الحارث، ثم أحد بني مالك بن عامر الخارجية(2).
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري. و أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، عن عمه عن ابن حبيب قال:
هو زياد بن جابر بن عمرو، مولى عبد القيس. و كان ينزل إصطخر فغلبت العجمة على لسانه، فقيل له الأعجم.
و ذكر ابن النّطاح مثل ذلك في نسبه، و خالف في بلده، و ذكر أنّ أصله و مولده و منشأه بأصبهان ثمّ انتقل إلى خراسان، فلم يزل بها حتّى مات.
و كان شاعرا جزل الشّعر فصيح الألفاظ على لكنة لسانه، و جريه على لفظ أهل بلده.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا محمد بن موسى قال:
حدّثت عن المدائني أنّ زيادا الأعجم دعا غلاما له ليرسله في حاجة، فأبطأ فلما جاءه قال له: منذ لدن دأوتك إلى أن قلت لبّى(3) ما كنت تسنأ؟ يريد منذ لدن دعوتك إلى أن قلت لبّيك ما ذا كنت تصنع.
فهذه ألفاظه كما ترى في نهاية القبح و اللّكنة.
قل للقوافل و الغزيّ إذا غزوا *** و الباكرين و للمجدّ الرائح(1)
إنّ المروءة و السّماحة ضمّنا *** قبرا بمرو على الطّريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به *** كوم الهجان و كلّ طرف سابح(2)
و انضح جوانب قبره بدمائها *** فلقد يكون أخادم و ذبائح
يا من بمهوى الشّمس من حيّ إلى *** ما بين مطلع قرنها المتنازح(3)
مات المغيرة عد طول تعرّض *** للموت بين أسنّة و صفائح
و القتل ليس إلى القتال و لا أرى *** حيّا يؤخّر للشّفيق الناصح
و هي طويلة. و هذا من نادر الكلام، و نقيّ المعاني، و مختار القصيد، و هي معدودة من مراثي الشّعراء في عصر زياد و مقدّمها.
لابن جامع في الأبيات الأربعة الأول غناء أوّله نشيد كلّه، ثم تعود الصّنعة إلى الثاني و الثالث في طريقة الهزج بالوسطى.
و قد أخبرني علي بن سليمان الأخفش، عن السكّري عن محمد بن حبيب، أنّ من الناس من/يروي هذه القصيدة للصّلتان العبديّ. و هذا قول شاذّ، و الصحيح أنّها لزياد قد دوّنها الرواة، غير مدفوع عنها.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال:
/رثى زياد الأعجم المغيرة بن المهلب فقال:
إنّ الشّجاعة و السّماحة ضمّنا *** قبرا بمرو على الطّريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به *** كوم الهجان و كلّ طرف سابح
فقال له يزيد بن المهلب: يا أبا أمامة، أ فعقرت أنت عنده؟ قال: كنت على بنت الهمار(4). يريد الحمار.
أخبرني مالك بن محمد الشيباني قال:
كنت حاضرا في مجلس أبي العباس، فقلت و قد قرئ عليه شعر زياد الأعجم، فقرئت عليه قصيدته:
قل للقوافل و الغزيّ إذا غزوا *** و الباكرين و للمجدّ الرائح(5)
ص: 256
قال: فقلت إنّها من مختار الشعر، و لقد أنشدت لبعض المحدثين في نحو هذا المعنى أبياتا حسنة. ثمّ أنشدنا:
أيّها الناعيان من تنعيان *** و على من أراكما تبكيان
اندبا الماجد الكريم أبا إس *** حاق ربّ المعروف و الإحسان
و اذهبا بي إن لم يكن لكما عق *** - ر إلى جنب قبره فاعقراني
و انضحا من دمي عليه فقد كا *** ن دمي من نداه لو تعلمان
أخبرني وكيع قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعيّ عن ابن عائشة عن أبيه قال:
/كان المهلب بن أبي صفرة بخراسان، فخرج إليه زياد الأعجم فمدحه، فأمر له بجائزة فأقام عنده أياما. قال:
فإنّا لبعشيّة نشرب مع حبيب بن المهلّب في دار له، و فيها حمامة، إذ سجعت الحمامة فقال زياد:
تغنّى أنت في ذممي و عهدي *** و ذمّة والدي إن لم تطاري
و بيتك فاصلحيه و لا تخافي *** على صفر مزغّبة صغار
فإنّك كلّما غنّيت صوتا *** ذكرت أحبّتي و ذكرت داري
فإمّا يقتلوك طلبت ثارا *** له نبأ لأنك في جواري
فقال حبيب: يا غلام، هات القوس. فقال له زياد: و ما تصنع بها؟ قال: أرمي جارتك هذه. قال: و اللّه لئن رميتها لاستعدينّ عليك الأمير. فأتى بالقوس فنزع لها سهما فقتلها، فوثب زياد فدخل على المهلّب فحدّثه الحديث و أنشده الشعر، فقال المهلّب: عليّ بأبي بسطام، فأتي بحبيب فقال له: أعط أبا أمامة دية جارته ألف دينار. فقال:
أطال اللّه بقاء الأمير، إنّما كنت ألعب. قال: أعطه كما آمرك. فأنشأ زياد يقول:
فلله عينا من رأى كقضيّة *** قضى لي بها قرم العراق المهلّب
رماها حبيب بن المهلّب رمية *** فأثبتها بالسّهم و السهم يغرب(1)
فألزمه عقل الفتيل ابن حرّة *** و قال حبيب: إنّما كنت ألعب
/فقال: زياد لا يروّع جاره *** و جارة جاري مثل جلدي و أقرب(2)
قال: فحمل حبيب إليه ألف دينار على كره منه، فإنّه ليشرب مع حبيب يوما إذا عربد عليه حبيب، و قد كان حبيب ضغن عليه ممّا جرى، فأمر بشقّ قباء ديباج كان عليه، فقام فقال:
لعمرك ما الدّيباج خرّقت وحده *** و لكنّما خرّقت جلد المهلّب
ص: 257
فبعث المهلّب إلى حبيب فأحضره، و قال له: صدق زياد، ما خرّقت إلاّ جلدي، تبعث هذا على أن يهجوني.
ثم بعث إليه فأحضره، فاستلّ سخيمته من صدره و أمر له بمال و صرفه.
و قد أخبرني وكيع بهذا الخبر أيضا. قال أحمد بن الهيثم بن فراس، قال العمري عن الهيثم بن عديّ قال:
تهاجى قتادة بن مغرب(1) اليشكري و زياد الأعجم بخراسان، و كان زياد يخرج و عليه قباء ديباج، تشبّها بالأعاجم، فمر به يزيد بن المهلّب و هو على حاله تلك، فأمر به فقنّع أسواطا، و مزّقت ثيابه و قال له: أ بأهل الكفر و الشّرك تتشبّه(2) لا أمّ لك؟ فقال زياد:
لعمرك ما الديباج خرّقت وحده *** و لكنّما خرّقت جلد المهلّب
و ذكر باقي الخبر مثله و قال فيه:
فدعا به المهلّب فقال له: يا أبا أمامة، قلت شيئا آخر؟ قال: لا و اللّه أيّها الأمير. قال: فلا تقل. و أعتبه(3)و كساه و حمله، و أمر له بعشرة آلاف درهم و قال له: اعذر ابن أخيك يا أبا أمامة، فإنه لم يعرفك.
/و هذه الأبيات التي فيها الغناء يقولها زياد الأعجم في عمر بن عبيد اللّه بن معمر التّيمي.
أخبرني بخبره في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبّة قال:
أتى زياد الأعجم عمر بن عبيد اللّه بن معمر بفارس، و قدم عليه عراك(4) بن محمّد الفقيه من مصر، فكان عراك يحدّثه الفقهاء، فقال زياد:
يحدّثنا أنّ القيامة قد أتت *** و جاء عراك يبتغي المال من مصر
فكم بين باب النّوب إن كنت صادقا *** و إيوان كسرى من فلاة و من قصر(5)
و قال يمدح عمر بن عبيد اللّه:
سألناه الجزيل فما تأبّى *** و أعطى فوق منيتنا و زادا
و ذكر الأبيات الثلاثة.
نسخت من كتاب ابن أبي الدنيا: أخبرني محمد بن زياد، عن ابن عائشة. و أخبرني هاشم بن محمد قال:
حدّثني عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة، و خبر ابن أبي الدّنيا أتمّ. قال:
ص: 258
كان زياد الأعجم صديقا لعمر بن عبيد اللّه بن معمر قبل أن يلي، فقال له عمر: يا أبا أمامة، لو قد وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبدا. فلما ولي فارس قصده، فلمّا لقيه أنشأ يقول:
أبلغ أبا حفص رسالة ناصح *** أتت من زياد مستبينا كلامها
فإنّك مثل الشّمس لا ستر دونها *** فكيف أبا حفص عليّ ظلامها
/فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبدا. فقال زياد:
لقد كنت أدعو اللّه في السّرّ أن أرى *** أمور معدّ في يديك نظامها
فقال له: قد رأيت ذلك. فقال:
/فلما أتاني ما أردت تباشرت *** بناتي و قلن العام لا شكّ عامها
قال: فهو عامهنّ إن شاء اللّه تعالى. فقال:
فإنّي و أرضا أنت فيها ابن معمر *** كمكّة لم يطرب لأرض حمامها(1)
قال: فهي كذلك يا زياد. فقال:
إذا اخترت أرضا للمقام رضيتها *** لنفسي و لم يثقل عليّ مقامها
و كنت أمني النفس منك ابن معمر *** أمانيّ أرجو أن يتمّ تمامها
قال: قد أتمّها اللّه عليك. فقال:
فلا أك كالمجري إلى رأس غاية *** يرجّي سماء لم يصبه غمامها
قال: لست كذلك فسل حاجتك. قال: نجيبة و رحالتها(2)، و فرس رائع و سائسه، و بدرة و حاملها، و جارية و خادمها، و تخت ثياب(3) و وصيف يحمله. فقال: قد أمرنا لك بجميع ما سألت، و هو لك علينا في كلّ عام.
فخرج من عنده حتّى قدم على عبد اللّه بن الحشرج و هو بسابور، فأنزله و ألطفه(4)، فقال في ذلك:
إنّ السّماحة و المروءة و النّدى *** في قبّة ضربت على ابن الحشرج
ملك أغرّ متوّج ذو نائل *** للمعتفين يمينه لم تشنج
/يا خير من صعد المنابر بالتقى *** بعد النبيّ المصطفى المتحرّج
لما أتيتك راجيا لنوالكم *** ألفيت باب نوالكم لم يرتج(5)
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ص: 259
أخبرنا محمد بن خلف وكيع، عن عبد اللّه بن محمد، عن عبيد اللّه بن الحسن بن عبد الرّحمن بهذا الخبر فقال فيه: «أتى زياد عبد اللّه بن عامر بن كريز». و الخبر الأوّل أصحّ. و زاد في الشعر:
أخ لك لا تراه الدّهر إلاّ *** على العلاّت بسّاما جوادا
فقال له عمر: أحسنت يا أبا أمامة، و لك لكلّ بيت ألف. قال: دعني أتمّها مائة. قال: أما إنّك لو كنت فعلت لفعلت، و لكن لك ما رزقت.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا ابن عائشة قال: حدّثني أبي قال:
لما خرج ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبيد اللّه بن معمر ليقدم عليه، فلما كان بضمير، و هي من الشام، مات بالطاعون، فقام عبد الملك على قبره و قال: أما و اللّه لقد علمت قريش أن قد فقدت اليوم نابا من أنيابها. و قال جدّ خلاّد بن أبي عمرو الأعمى، و كانوا موالي أبي وجرة بن أبي عمرو بن أميّة: أ هو اليوم ناب لمّا مات، و كان أمس ضرسا كليلة؟! أما و اللّه لوددت أنّ السماء وقعت على الأرض فلم يعش بينهما أحد بعده! و سمعها عبد الملك فتغافل عنها.
قال: و قال الفرزدق يرثيه:
يا أيّها الناس لا تبكوا على أحد *** بعد الذي بضمير وافق القدرا
كانت يداه لنا سيفا نصول به *** على العدوّ و غيثا ينبت الشّجرا
/أمّا قريش أبا حفص فقد رزئت *** بالشّام إذا فارقتك البأس و الظفرا
/من يقتل الجوع من بعد الشهيد و من *** بالسيف يقتل كبش القوم إذ عكرا(1)
إنّ النوائح لم يعددن في عمر *** ما كان فيه إذا المولى به افتخرا
إذا عددن فعالا أو له حسبا *** و يوم هيجاء يعشى بأسه البصرا
كم من جبان إلى الهيجا دنوت له *** يوم اللّقاء و لو لا أنت ما صبرا
يغتسل في مستحمّ له، فأخرج يده فصببتها في يده، فقال: وصلت رحما، و قد جاءتنا على حاجة. و أتيت القاسم فأبى أن يقبلها، فقالت لي امرأته: إن كان القاسم ابن عمّه فأنا لابنة عمّه. فأعطيتها. قال: فكان عمر يبعث بهذه الثّياب العمرية يقسّمها بين أهل المدينة، فقال ابن عمر: جزى اللّه من اقتنى هذه الثياب بالمدينة خيرا. و قال لي عمر: لقد بلغني عن صاحبك شيء كرهته. قلت: و ما ذاك؟ قال: يعطي المهاجرين ألفا ألفا، و يعطي الأنصار سبعمائة سبعمائة. فأخبرته فسوّى بينهم(1).
أخبرنا أحمد قال حدّثنا أبو زيد قال:
كانت لرجل جارية يهواها، فاحتاج إلى بيعها، فابتاعها منه عمر بن عبيد اللّه بن معمر، فلما قبض ثمنها أنشأت تقول:
هنيئا لك المال الذي قد قبضته *** و لم يق في كفّيّ غير التحسّر
فإنّي لحزن من فراقك موجع *** أناجي به قلبا طويل التفكّر
فقال: لا ترحلي. ثم قال:
و لو لا قعود الدّهر بي عنك لم يكن *** يفرّقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام زيارة بيننا *** و لا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال: قد شئت، خذ الجارية و ثمنها. فأخذها و انصرف.
أخبرني عمي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني محمد بن زياد قال: حدّثني ابن عائشة قال:
استبطأ زياد الأعجم عمر بن عبيد اللّه بن معمر في زيارته إياه فقال:
أصابت علينا جودك العين يا عمر *** فنحن لها نبغي التمائم و النّشر(2)
أصابتك عين في سماحك صلبة *** و يا ربّ عين صلبة تفلق الحجر
سنرقيك بالأشعار حتّى تملّها *** فإن لم تفق يوما رقيناك بالسّور(3)
فبلغته الأبيات فأرضاه و سرّحه.
أخبرني عمي قال: حدثني الكرانيّ قال حدثني العمريّ قال: حدثني من سمع حمادا الراوية يقول:
ص: 261
/امتدح زياد الأعجم عبّاد بن الحصين الحبطي(1) و كان على شرطة الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة(2) الذي يقال له «القباع»، و طلب حاجة فلم يقضها، فقال زياد:
سألت أبا جهضم حاجة *** و كنت أراه قريبا يسيرا
فلو أنني خفت منه الخلا *** ف و المنع لي لم أسله نقيرا
/و كيف الرّجاء لما عنده *** و قد خالط البخل منه الضميرا
أقلني أبا جهضم حاجتي *** فإني امرؤ كان ظنّي غرورا
أخبرني عمي قال: حدثني الكرانيّ عن العمري، عن عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان قال:
مرّ يزيد بن حبناء الضبّيّ بزياد الأعجم و هو ينشد شعرا قد هجا به قتادة بن مغرب، فأفحش فيه، فقال له يزيد بن حبناء: أ لم يأن لك أن ترعوي و تترك تمزيق أعراض قومك، ويحك! حتّى متى تتمادى في الضلال، كأنّك بالموت قد صبّحك أو مسّاك! فقال زياد فيه:
يحذّرني الموت ابن حبناء و الفتى *** إلى الموت يغدو جاهدا و يروح
و كلّ امرئ لا بدّ للموت صائر *** و إن عاش دهرا في البلاد يسيح
فقل ليزيد يا ابن حبناء لا تعظ *** أخاك وعظ نفسا فأنت جنوح.
/تركت التّقى و الدين دين محمّد *** لأهل التّقى و المسلمين يلوح
و تابعت مرّاق العراقين سادرا *** و أنت غليظ القصريين صحيح(3)
فقال له يزيد بن عاصم الشّنّيّ(4): قبحك اللّه، أ تهجو رجلا وعظك و أمرك بمعروف بمثل هذا الهجاء، هلاّ كففت إذ لم تقبل، أراه و اللّه سيأتي على نفسك ثم لا تحبق فيك عنزان(5)، اذهب ويحك فأته و اعتذر إليه لعلّه يقبل عذرك.
فمشى إليه بجماعة من عبد القيس فشفعوا إليه فيه، فقال: لا تثريب، لست واجدا عليه بعد يومي هذا.
أخبرني أحمد بن علي قال: سمعت جدي علي بن يحيى يحدث عن أبي الحسن عن رجل من جعفيّ قال:
ص: 262
كنت جالسا عند المهلّب إذ أقبل رجل طويل مضطرب، فلما رآه المهلّب قال: اللهمّ إني أعوذ بك من شرّه! فجاء فقال: أصلح اللّه الأمير، أني قد مدحتك ببيت صفده مائة ألف درهم(1). فسكت المهلّب، فأعاد القول فقال له: أنشده. فأنشده:
فتى زاده السّلطان في الخير رغبة *** إذا غيّر السّلطان كلّ خليل
فقال له المهلّب: يا أبا أمامة، مائة ألف؟! فو اللّه ما هي عندنا و لكن ثلاثون ألفا فيها عروض. و أمر له بها، فإذا هو زياد الأعجم.
أخبرني عمي قال: حدثني الكراني و أبو العيناء عن القحذميّ قال:
لقي الفرزدق زيادا الأعجم فقال له الفرزدق: لقد هممت أن أهجو عبد القيس، و أصف من فسوهم شيئا. قال له زياد: كما أنت حتّى أسمعك شيئا. ثم قال: قل إن شئت أو أمسك. قال: هات. قال:
و ما ترك الهاجون لي إن هجوته *** مصحّا أراه في أديم الفرزدق
فإنّا و ما تهدي لنا إن هجوتنا *** لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فقال له الفرزدق: حسبك هلمّ نتتارك(2). قال: ذاك إليك. و ما عاوده بشيء.
و أخبرني بهذا الخبر محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا العتبي عن العباس بن هشام عن أبيه قال: حدثني خراش(3)، و كان عالما راوية لأبي، و لمؤرّج(4)، و لجابر بن كلثوم، قال:
أقبل الفرزدق و زياد ينشد الناس في المربد و قد اجتمعوا حوله، فقال: من هذا؟ قيل: الأعجم. فأقبل نحوه /فقيل له: هذا الفرزدق قد أقبل عليك. فقام فتلقّاه و حيّا كلّ واحد منهما صاحبه، فقال له الفرزدق: ما زالت تنازعني نفسي إلى هجاء عبد القيس منذ دهر. قال زياد: و ما يدعوك إلى ذلك؟ قال: لأنّي رأيت الأشقريّ هجاكم فلم يصنع شيئا، و أنا أشعر منه، و قد عرفت الذي هيّج بينك و بينه. قال: و ما هو؟ قال إنّكم اجتمعتم في قبّة عبد اللّه بن الحشرج بخراسان، فقلت له قد قلت شيئا فمن قال مثله فهو أشعر منّي، و من لم يقل مثله و مدّ إليّ عنقه فإنّي أشعر منه. فقال لك: و ما قلت؟ فقلت: قلت:
/و قافية حذّاء بتّ أحوكها *** إذا ما سهيل في السّماء تلالا(5)
قال لك الأشقريّ:
و أقلف صلّى بعد ما ناك أمّه *** يرى ذاك في دين المجوس حلالا
ص: 263
فأقبلت على من حضر فقلت: يا لأمّ كعب أخزاها اللّه تعالى، ما أنمّها حين تخبر ابنها بقلفتي! فضحك الناس و غلبت عليه في المجلس.
فقال له زياد: يا أبا فراس، هب لي نفسك ساعة و لا تعجل حتّى يأتيك رسولي بهديّتي ثم ترى رأيك. و ظنّ الفرزدق أنه سيهدي إليه شيئا يستكفّه به، فكتب إليه:
و ما ترك الهاجون لي إن أردته *** مصحّا أراه في أديم الفرزدق
و ما تركوا الحما يدقّون عظمه *** لآكله ألقوه للمتعرّق
سأحطم ما أبقوا له من عظامه *** فأنكت عظم الساق منه و أنتقي(1)
فإنا و ما تهدي لنا إن هجوتنا *** لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فبعث إليه الفرزدق: لا أهجو قوما أنت منهم أبدا.
قال أبو المنذر: زياد أهجى من كعب الأشقريّ، و قد أوثر عليه في عدّة قصائد. منها التي يقول فيها.
قبيلة خيرها شرّها *** و أصدقها الكاذب الآثم(2)
و ضيفهم وسط أبياتهم *** و إن لم يكن صائما صائم
و فيه يقول:
إذا عذّب اللّه الرجال بشعرهم *** أمنت لكعب أن يعذّب بالشعر
/و فيه يقول:
أتتك الأزد مصفرّا لحاها *** تساقط من مناخرها الجواف(3)
أخبرني وكيع قال: حدثني أحمد بن عمر بن بكير قال حدثنا الهيثم عن ابن عياش قال:
دخل أبو قلابة الجرميّ مسجد البصرة و إذا زياد الأعجم، فقال زياد: من هذا؟ قال: أبو قلابة الجرميّ، فقام على رأسه فقال:
قم صاغرا يا كهل جرم فإنّما *** يقال لكهل الصّدق قم غير صاغر
ص: 264
فإنّك شيخ ميّت و مورّث *** قضاعة ميراث البسوس و قاشر(1)
قضى اللّه خلق النّاس صم خلقتم *** بقيّة خلق اللّه آخر آخر
/فلم تسمعوا إلاّ بما كان قبلكم *** و لم تدركوا إلاّ بدقّ الحوافر(2)
فلو ردّ أهل الحق من مات منكم *** إلى حقّه لم تدفنوا في المقابر
فقيل له: فأين كانوا يدفنون يا أبا أمامة؟ قال: في النّواويس(3).
تم الجزء الخامس عشر من كتاب الأغاني
ص: 265
ص: 266
الموضوع الصفحة
أخبار جعفر بن الزبير 6
ذكر خبر مضاض بن عمرو 12
ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس و أخبارها 22
ذكر أحيحة بن الجلاح و نسبه و خبره و السبب الذي من أجله قال الشعر 29
ذكر خبر سلامة الزرقاء و محمد بن الأشعث 41
نسب عديّ بن نوفل و خبره 53
نسب الخنساء و خبرها و خبر مقتل أخويها صخر و معاوية 55
خبر تهاجي عبد الرّحمن بن حسان و عبد الرّحمن بن الحكم 78
أخبار حبابة 85
أخبار أبي الطفيل و نسبه 101
أخبار حسان و جبلة بن الأيهم 108
خبر بديح في هذا الصوت و غيره 118
نسب ابن الزبعري و أخباره و قصة غزوة أحد 121
ذكر عمرو بن معديكرب و أخباره 137
رجع الخبر إلى سياقة خبر عمرو 152
ذكر خبر قس بن ساعدة و نسبه و قصته في هذا الشعر 162
ذكر هاشم بن سليمان و بعض أخباره 166
ذكر علي بن أديم و خبره 176
ذكر عمرو بن بانة 178
ذكر آدم بن عبد العزيز و أخباره 190
ذكر متمم و أخباره و خبر مالك و مقتله 199
رجع الحديث إلى سياقه 210
أخبار الحزين و نسبه 215
نسب الطفيل الغنوي و أخباره 232
ص: 267
الموضوع الصفحة
نسب محمد بن حمزة بن نصير الوصيف و أخباره 237
نسب لبيد و أخباره 241
أخبار زياد الأعجم و نسبه 255
ص: 268
الأغاني
سایر نویسندگان
مصحح و مترجم:
مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی
المجلدات : 25ج
زبان: عربی
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374
تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری
ص: 269
ص: 270
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
قال أبو الفرج عليّ بن الحسين:
كانت شارية مولدة من مولدات البصرة، يقال إن أباها كان رجلا من بني سامة بن لؤيّ المعروفين ببني ناجية(1)، و أنه جحدها، و كانت أمها أمة، فدخلت في الرق. و قيل بل سرقت فبيعت، فاشترتها امرأة من بني هاشم، فأدّبتها، و علمتها الغناء، ثم اشتراها إبراهيم بن المهدي، فأخذت غناءها(2) كله أو أكثره عنه، و بذلك يحتج من يقدّمها على عريب، و يقول: إن إبراهيم خرّجها، و كان يأخذها بصحة الأداء/لنفسه، و بمعرفة ما يأخذها به.
و لم تكن هذه حال عريب، لأن المراكبي(3) لم يكن يقارب إبراهيم في العلم، و لا يقاس به في بعضه(4)، فضلا عن سائره.
أخبرني بخبرها محمد بن إبراهيم قريص(5):
أن ابن المعتز دفع إليه كتابه الذي ألّفه في أخبارها، و قال له أن يرويه عنه، فنسخت منه ما كان يصلح لهذا الكتاب على شرطي فيه، و أضفت إليه ما وجدته من أخبارها عن غيره في الكتب، و سمعته أنا عمن رويته عنه.
ص: 271
قال ابن المعتز: حدثني عيسى بن هارون المنصوري:
أن شارية كانت لا مرأة من الهاشميات بصرية، من ولد جعفر بن سليمان. فحملتها لتبيعها ببغداد، فعرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأعطى بها ثلاثمائة دينار، ثم استغلاها بذلك و لم يردها. فجيء بها إلى إبراهيم بن المهدي، فعرضت عليه، فساوم بها. فقالت له مولاتها: قد بذلتها لإسحاق بن إبراهيم بثلاثمائة دينار، و أنت أيها الأمير، أعزك اللّه، بها أحق. فقال: زنوا لها ما قالت. فوزن لها، ثم دعا بقيمته، فقال: خذي هذه الجارية و لا ترينيها(1) سنة، و قولي للجواري يطرحن عليها، /فلما كان بعد سنة أخرجت إليه، فنظر إليها و سمعها.
فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي فدعاه، و أراه إياها، و أسمعه غناءها. و قال: هذه جارية تباع، فبكم تأخذها لنفسك؟ قال إسحاق: آخذها بثلاثة آلاف دينار، و هي رخيصة بها. قال له إبراهيم: أتعرفها؟ قال: لا. قال: هذه الجارية التي عرضتها عليك الهاشمية بثلاثمائة دينار، فلم تقبل. فبقي إسحاق متحيرا، يعجب من حالها و ما انقلبت إليه.
و قال ابن المعتز: حدثني الهشامي(2) عن محمد بن راشد: أن شارية كانت مولدة البصرة، و كانت لها أمّ خبيثة منكرة، تدّعي أنها بنت محمد بن زيد، من بني سامة بن لؤي.
قال ابن المعتز: و حدثني غيره، أنها كانت تدّعي أنها من بني زهرة.
قال الهشامي: فجيء بها إلى بغداد، و عرضت على إبراهيم بن المهدي، فأعجب بها إعجابا شديدا، فلم يزل يعطي بها، حتى بلغت ثمانية آلاف درهم. فقال لي هبة اللّه بن إبراهيم بن المهدي: إنه لم يكن عند أبي درهم و لا دانق، فقال لي: ويحك! قد أعجبتني و اللّه هذه الجارية إعجابا شديدا، و ليس عندنا شيء. فقلت له: نبيع ما نملكه حتى الخزف. و نجمع ثمنها. فقال لي: قد فكرت(3) في شيء؛ اذهب إلى عليّ بن هشام، فأقرئه مني السلام، و قل له: جعلني اللّه فداءك! قد عرضت/عليّ جارية قد أخذت بمجامع قلبي، و ليس عندي ثمنها، فأحب أن تقرضني عشرة آلاف درهم. فقلت له: إن ثمنها ثمانية آلاف درهم، فلم تكثر على الرجل بعشرة آلاف درهم؟ فقال: إذا اشتريناها بثمانية آلاف درهم، لا بدّ أن نكسوها، و نقيم لها ما تحتاج إليه.
/فصرت إلى عليّ بن هشام، فأبلغته الرسالة، فدعا بوكيل له، و قال له: ادفع إلى خادمه عشرين ألفا، و قل له: أنا لا أصلك، و لكن هي لك حلال في الدنيا و الآخرة(4). قال: فصرت إلى أبي بالدراهم، فلو طلعت عليه بالخلافة، لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم.
و كانت أمها خبيثة، فكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهي، ذهبت إلى عبد الوهاب بن عليّ، و دفعت إليه رقعة يرفعها إلى المعتصم، تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم.
ص: 272
قال ابن المعتز: و أخبرني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب، قال: ذكر يوسف بن إبراهيم المصريّ، صاحب إبراهيم بن المهدي:
أن إبراهيم وجّه به إلى عبد الوهاب بن عليّ، في حاجة كانت له، [قال(1)]: فلقيته و انصرفت من عنده، فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى استقبلتني امرأة. فلما نظرت في وجهي سترت وجهها. فأخبرني شاكري(2) أن المرأة هي أم شارية، جارية إبراهيم. فبادرت إلى إبراهيم، و قلت له: أدرك، فإني رأيت أم شارية في دار عبد الوهاب، و هي من تعلم، و ما يفجؤك إلا حيلة قد أوقعتها. فقال لي في جواب ذلك: أشهدك أن جاريتي شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدي، ثم أشهد ابنه هبة اللّه على مثل ذلك(3). و أمرني بالركوب إلى دار ابن أبي دواد، و إحضار من قدرت عليه من الشهود المعدلين عنده، فأحضرته أكثر من عشرين شاهدا. و أمر بإخراج شارية، /فخرجت، فقال لها: اسفري، فجزعت من ذلك. فأعلمها أنه إنما أمرها بذلك لخير يريده بها، ففعلت.
فقال لها: تسمّى. فقالت: أنا شارية أمتك. فقال لهم: تأملوا وجهها، ففعلوا. ثم قال: فإني أشهدكم أنها حرة لوجه اللّه تعالى، و أني قد تزوّجتها، و أصدقتها عشرة آلاف درهم. يا شارية مولاة إبراهيم بن المهديّ، أرضيت؟ قالت: نعم يا سيدي قد رضيت، و الحمد للّه على ما أنعم به عليّ. فأمرها بالدخول، و أطعم الشهود و طيّبهم و انصرفوا.
فما أحسبهم بلغوا دار ابن أبي دواد، حتى دخل علينا عبد الوهاب بن عليّ، فأقرأ عمه سلام المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين: من المفترض عليّ طاعتك، و صيانتك عن كل ما يعرك(4)، إذ كنت عمي، و صنو أبي، و قد رفعت إليّ امرأة من قريش قصة، ذكرت فيها أنها من بني زهرة صليبة(5)، و أنها أم شارية، و احتجت بأنه لا تكون بنت امرأة من قريش أمة، فإن كانت هذه المرأة صادقة في أن شارية بنتها، و أنها من بني زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة؛ و الأشبه بك و الأصلح إخراج شارية من دارك، و سترها عند من تثق به من أهلك، حتى نكشف ما قالت هذه المرأة؛ فإن ثبت ما قالته أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها، و كان في ذلك الحظ لك في دينك و مروءتك؛ و إن لم يصح ذلك، أعيدت الجارية إلى منزلك، و قد زال عنك القول/الذي لا يليق بك و لا يحسن.
فقال له إبراهيم: فديتك يا أبا إبراهيم، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أ تنكر على ابن عباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها؟ فقال عبد الوهاب: لا. فقال إبراهيم: فأبلغ أمير المؤمنين، أطال اللّه بقاءه السلامة، و أخبره أن شارية/حرة، و أني قد تزوجتها بشهادة جماعة من العدول.
ص: 273
و قد كان الشهود بعد منصرفهم من عند إبراهيم صاروا إلى ابن أبي دواد. فشم منهم من رائحة الطيب ما أنكره، فسألهم عنه، فأعلموه أنهم حضروا عتق شارية، و تزوّج إبراهيم إياها. فركب إلى المعتصم، فحدّثه بالحديث معجبا له منه. فقال: ضلّ سعي عبد الوهاب. و دخل عبد الوهاب على المعتصم، فلما رآه يمشي في صحن الدار، سدّ المعتصم أنف نفسه، و قال: يا عبد الوهاب، أنا أشم رائحة صوف محرق، و أحسب أن عمي لم يقنعه ردّك إلا و على أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك. فقال: الأمر على ما ظنّ أمير المؤمنين و أقبح.
و لما انصرف عبد الوهاب من عند إبراهيم، ابتاع إبراهيم منه بنته ميمونة شارية، بعشرة آلاف درهم، و ستر ذلك عنها، فكان عتقه إياها و هي في ملك غيره، ثم ابتاعها من ميمونة، فحل له فرجها، فكان يطؤها على أنها أمته، و هي تتوهم أنه يطؤها على أنها حرة. فلما توفي طلبت مشاركة أم محمد بنت خالد زوجته في الثّمن، فأظهرت خبرها. و سئلت ميمونة و هبة اللّه عن الخبر، فأخبرا به المعتصم. فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة، فابتيعت بخمسة آلاف و خمسمائة دينار، فحوّلت إلى داره، فكانت في ملكه حتى توفّي.
قال ابن المعتز: و قد قيل إن المعتصم ابتاعها بثلاثمائة ألف درهم.
قال: و كان منصور بن محمد بن واضح يزعم أن إبراهيم اقترض ثمن شارية من ابنته، و ملكها إبراهيم و لها سبع سنين، فرباها تربية الولد، حتى لقد ذكرت/أنها كانت في حجره جالسة، و قد أعجب بصوت أخذته منه، إذ طمثت أوّل طمثها، فأحس بذلك، فدعا قيّمة له، فأمرها بأن تأتيه بثوب خام، فلفه عليها، فقال: احمليها، فقد اقشعرّت، و أحسب برد الحشّ قد آذاها(1).
قال: و حدّثت شارية أنها كانت معه في حراقة قد توسط بها دجلة، في ليلة مقمرة، و هي تغني إذ اندفعت فغنت:
لقد حثوا الجمال ليه *** ربوا منا فلم يئلوا
فقام إليها، فأمسك فاها، و قال: أنت و اللّه أحسن من الغريض وجها و غناء، فما يؤمنني عليك؟ أمسكي.
قال: و حدّث حمدون بن إسماعيل: أنه دخل على إبراهيم يوما، فقال له: أ تحب أن أسمعك شيئا لم تسمعه قط؟ قال: نعم. فقال: هاتوا شارية، فخرجت، فأمرها أن تغني لحن إسحاق:
هل بالديار التي حيّيتها أحد؟
قال حمدون: فغنتني شيئا لم أسمع مثله قطّ، فقلت: لا و اللّه يا سيدي ما سمعت هكذا. فقال: أ تحب أن تسمعه أحسن من هذا؟ فقلت: لا يكون. فقال: بلى و اللّه تقر بذاك. فقلت: على اسم اللّه. فغناه هو، فرأيت فضلا عجيبا. فقلت: ما ظننت أن هذا يفضل ذاك هذا الفضل. قال: أ فتحب أن تسمعه أحسن من هذا و ذاك؟ فقلت: هذا الذي لا يكون. فقال: بلى و اللّه. فقلت: فهات. قال: بحياتي يا شارية، قوليه و أحيلى(2) حلقك فيه. فسمعت و اللّه فضلا/بينا، فأكثرت التعجب. فقال لي: يا أبا جعفر، ما أهون هذا على السامع! تدري باللّه كم مرّة رددت عليها
ص: 274
موضعا في هذا الصوت؟ قلت: لا. قال: فقل و أكثر. قلت: مائة مرّة. قال: اصعد ما بدا لك. قلت: ثلاثمائة.
قال: أكثر و اللّه من ألف مرّة، حتى قالته كذا.
قال: و كانت/ريّق تقول: إن شارية كانت إذا اضطربت في صوت، فغاية ما عنده من عقوبتها، انه يقيمها تغنيه على رجليها، فإن لم تبلغ الذي يريد، ضربت ريق(1).
قال: و يقال إن شارية لم تضرب بالعود إلا في أيام المتوكل، لمّا اتصل الشرّ بينها و بين عريب، فصارت تقعد بها عند الضرب، فضربت هي بعد ذلك.
قال ابن المعتز: و حدّث محمد بن سهل بن عبد الكريم، المعروف بسهل الأحول، و كان قاضي الكتاب في زمانه، و كان يكتب لإبراهيم، و كان شيخا ثقة، قال: أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار، فامتنع من بيعها. فعاتبته على ذلك، فلم يجبني بشيء. ثم دعاني بعد أيام، فدخلت و بين يديه مائدة لطيفة. فأحضره الغلام سفّودا فيه ثلاث فراريج، فرمى إليّ بواحدة، فأكلتها و أكل اثنتين، ثم شرب رطلا و سقانيه، ثم أتى بسفود آخر، ففعل كما فعل، و شرب كما شرب و سقاني. ثم ضرب سترا كان إلى جانبه، فسمعت حركة العيدان، ثم قال: يا شارية تغنّى. فسمعت شيئا ذهب بعقلي. فقال: يا سهل، هذه التي عاتبتني في أن أبيعها بسبعين ألف دينار، لا و اللّه، و لا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار.
قال: و كانت شارية تقول: إن أباها من قريش، و إنها سرقت صغيرة، فبيعت بالبصرة من امرأة هاشمية، و باعتها من إبراهيم بن المهديّ. و اللّه أعلم.
أخبرني عمي، قال: حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر، قال: أمرني المعتز ذات يوم بالمقام عنده، فأقمت. فأمر فمدّت الستارة، و خرج من كان يغني وراءها، و فيهنّ شارية، و لم أكن سمعتها قبل ذلك. فاستحسنت ما سمعت منها، فقال لي أمير المؤمنين المعتز: يا عبيد اللّه، كيف ما تسمع منها عندك(2)؟ فقلت: حظ العجب من هذا الغناء، أكثر من حظ الطرب. فاستحسن ذلك، و أخبرها به فاستحسنته.
قال ابن المعتز: و أخبرني الهشاميّ، قال: قالت لي ريّق: كنت ألعب أنا و شارية بالنرد بين يدي إبراهيم، و هو متكئ على مخدّة ينظر إلينا، فجرى بيني و بين شارية مشاجرة في اللعب، فأغلظت لها في الكلام بعض الغلظة.
ص: 275
فاستوى إبراهيم جالسا، و قال: أرك تستخفين بها، فو اللّه لا أحد(1) يخلفك غيرها. و أومأ إلى حلقه بيده(2).
قال: و حدثني الهشاميّ، قال: حدّثني عمرو بن بانة، قال: حضرت يوما مجلس المعتصم، و ضربت الستارة، و خرجت الجواري، و كنت إلى جانب مخارق، فغنت شارية، فأحسنت جدا. فقلت لمخارق: هذه الجارية في حسن الغناء على/ما تسمع، و وجهها وجه حسن، فكيف لم يتحرّم(3) بها إبراهيم بن المهديّ؟ فقال لي: أحد الحظوظ التي رفعت لهذا الخليفة منع إبراهيم بن المهديّ من ذلك.
قال عبد اللّه بن المعتز: و حدّثني أبو محمد الحسن بن يحيى أخو علي بن يحيى، عن ريق قالت:
استزار المعتصم من إبراهيم بن المهديّ جواريه، و كان في جفوة من السلطان تلك الأيام، فنالته ضيقة.
قالت: فتحمل ذهابنا إليه على ضعف، فحضرنا مجلس المعتصم و نحن في سراويلات مرقعة، فجعلنا نرى جواري المعتصم و ما عليهنّ من الجوهر و الثياب الفاخرة، فلم تستجمع إلينا أنفسنا حتى غنوا و غنينا، فطرب المعتصم على غنائنا، و رآنا أمثل من جواريه، فتحوّلت إلينا أنفسنا في التيه و الصلف، و أمر لنا المعتصم بمائة ألف درهم.
قال: و حدّثني أبو العبيس(4)، عن أبيه قال: /كانت شارية أحسن الناس غناء، منذ توفي المعتصم إلى آخر خلافة الواثق.
قال أبو العبيس: و حدّثتني ريق أن المعتصم افتضها، و أنها كانت معها في تلك الليلة.
نكن تطرح بعد ذلك صوتا إلا نقصت من نغمه. و كان المعتمد قد تعشق شرة جاريتها، و كانت أكمل الناس ملاحة و خفة روح، و عجز عن شرائها. فسأل أمّ المعتز أن تشتريها له، فاشترتها من شارية بعشرة آلاف دينار، و أهدتها إليه. ثم تزوّجت بعد وفاة المعتمد بابن البقال المغني، و كان يتعشقها. فقال عبد اللّه بن المعتز، و كان يتعشقها:
أقول و قد ضاقت بأحزانها نفسي *** ألا رب تطليق قريب من العرس
لئن صرت للبقال يا شر زوجة *** فلا عجب قد يربض(1) الكلب في الشمس
و قال يعقوب بن بنان: كانت شارية خاصة بصالح بن وصيف. فلما بلغه رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده، بسبب قتله المعتز، أودع شارية جوهره. فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك. فلما أوقع موسى بصالح، استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبري(2)، و كان أنظف خلق اللّه طعاما، و أسراه مائدة، و أوسخه(3) كل شيء بعد ذلك؛ و كان له بسرّمن رأى منزل، فيه بستان كبير، و كانت شارية تسميه أبي، و تزوره إلى منزله. فتحمل معها كل شيء تحتاج إليه، حتى الحصير الذي تقعد عليه.
قال: و كانت شارية من أكرم الناس، عاشرها(4) أبو الحسن علي بن الحسين عند هارون هذا، ثم أضاق في وقت، فاقترض منها على غير رهن، عشرة آلاف دينار، و مكثت عليه أكثر من سنة، ما أذكرته بها، و لا طالبته، حتى ردّها ابتداء(4).
قال يعقوب بن بنان: و كان أهل(4) سرمن رأى متحازبين، فقوم مع شارية، و قوم مع عريب، لا يدخل أصحاب هذه مع هؤلاء، و لا أصحاب هذه في هؤلاء. فكان أبو الصقر إسماعيل بن بلبل(5) عريبيا، فدعا عليّ بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، و عنده عريب و جواريها. فاتصل الخبر بشارية، فبعثت بجواريها إلى عليّ بن الحسين بعد يوم أو يومين، و أمرت إحداهن، و ما أدري من هي: مهرجان، أو مطرب، أو قمرية، إلا أنها إحدى الثلاثة، أن تغني قوله:
لا تعودنّ بعدها *** فترى كيف أصنع
فلما سمع عليّ الغناء ضحك، و قال: لست أعود.
ص: 277
قال: و كان المعتمد قد وثق بشارية، فلم يكن يأكل إلا طعامها. فمكثت دهرا من الدهور(1) تعدّله في كل يوم جونتين(2)، و كان طعامه منهما في أيام المتوكل.
قال ابن المعتز: و حدثني أحمد بن نعيم عن ريق، قالت: كان مولاي إبراهيم يسمي شارية بنتي، و يسميني أختي.
حدثني جحظة، قال: كنت عند المعتمد يوما، فغنته شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدي و لحنه:
يا طول علة قلبي المعتاد *** إلف الكرام و صحبة الأمجاد
فقال لها: أحسنت و اللّه. فقالت: هذا غنائي و أنا عارية، فكيف لو كنت كاسية؟ فأمر لها بألف ثوب من جميع أنواع الثياب الخاصيّة، فحمل ذلك إليها. فقال لي عليّ بن يحيى المنجم: /اجعل انصرافك معي. ففعلت، فقال لي: هل بلغك أن خليفة أمر لمغنية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية؟ قلت: لا. فأمر بإخراج سير الخلفاء، فأقبل بها الغلمان يحملونها في دفاتر عظام، فتصفحناها كلها؛ فما وجدنا أحدا قبله فعل ذلك.
يا طول علة(3) قلبي المعتاد *** إلف الكرام و صحبة الأمجاد
ما زلت آلف كل قرم ماجد *** متقدم الآباء و الأجداد
الشعر لإبراهيم بن المهدي، و الغناء لعلويه، خفيف رمل لشارية بالبنصر، و لم يقع إلينا فيه طريقة غير هذه.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثني عبد اللّه بن أبي سعيد، قال: حدثني محمد بن مالك الخزاعيّ، قال: حدثتني ملح العطارة، و كانت من أحسن الناس غناء، و إنما سميت العطارة لكثرة استعمالها العطر المطيب، قالت: غنت شارية يوما بين يدي المتوكل و أنا واقفة مع الجواري:
باللّه قولوا لي لمن ذا الرّشا *** المثقل الردف الهضيم الحشا
أظرف ما كان إذا ما صحا *** و أملح الناس إذا ما انتشى
و قد بنى برج حمام له *** أرسل فيه طائرا مرعشا
ص: 278
/يا ليتني كنت حماما له *** أو باشقا يفعل بي ما يشا
لو لبس القوهيّ(1) من رقة *** أوجعه القوهيّ أو خدّشا
و هو هزج(2)، فطرب المتوكل، و قال لشارية: لمن هذا الغناء؟ فقالت: أخذته من دار المأمون، و لا أدري لمن هو.
فقلت له أنا: أعلم لمن هو. فقال: لمن هو يا ملح؟ فقلت: أقوله لك سرا. قال: أنا في دار النساء، و ليس يحضرني إلا حرمي، فقوليه. فقلت: الشعر و الغناء جميعا لخديجة بنت المأمون، قالته في خادم لأبيها كانت تهواه، و غنت فيه هذا اللحن. فأطرق طويلا، ثم قال: لا يسمع هذا منك أحد.
أحبك يا سلمى على غير ريبة *** و ما خير حب لا تعف سرائره
أحبك حبا لا أعنّف بعده *** محبا، و لكني إذا ليم عاذره
و قد مات حبّي(3) أوّل الحب فانقضى *** و لومت أضحى الحب قد مات آخره
و لما تناهى الحب في القلب واردا *** أقام و سدّت فيه عنه مصادره
الشعر للحسين بن مطير الأسدي، و الغناء لإسحاق: هزج بالبنصر.
ص: 279
هو الحسين بن مطير بن مكمّل، مولى لبني أسد بن خزيمة، ثم لبني سعد(1) بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد. و كان جده مكمل عبدا، فأعتقه مولاه. و قيل بل كاتبه، فسعى في مكاتبته حتى أدّاها و أعتق. /و هو من مخضرمي الدولتين: الأموية و العباسية، شاعر متقدم في القصيد و الرجز، فصيح، قد مدح بني أمية و بني العباس.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، عن محمد بن داود بن الجراح، عن محمد بن الحسن بن الحرون: أنه كان من ساكني زبالة(2)، و كان زيه و كلامه يشبه مذاهب الأعراب و أهل البادية. و ذلك بيّن في شعره.
و مما يدل على إدراكه دولة بني أمية، و مدحه إياهم، ما أخبرنا به يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة، قال:
أخبرني أبي، عن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، عن مروان بن أبي حفصة، قال: دخلت أنا و طريح بن إسماعيل الثقفيّ، و الحسين بن مطير الأسدي، في عدة من الشعراء، على الوليد بن يزيد و هو في فرش قد غاب فيها(3)، و إذا رجل كلما أنشد شاعر شعرا، وقف الوليد على بيت بيت منه، و قال: هذا أخذه من موضع كذا و كذا، و هذا المعنى نقله من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعراء. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حماد الرواية. فلما وقفت بين يدي الوليد/لأنشده، قلت: ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين و هو لحانة. فتهانف(4) الشيخ، ثم قال: يا ابن أخي، أنا رجل أكلم العامة، و أتكلم بكلامها، فهل تروي من أشعار العرب شيئا؟ فذهب عني الشعر كله، إلا شعر ابن مقبل، فقلت: نعم، لابن مقبل. فأنشدته:
سل الدار من جنبي حبرّ فواهب *** إلى ما رأى هضب القليب المضيح(5)
ص: 280
ثم جزت. فقال: قف. ما ذا يقول؟ فلم أدر ما يقول. فقال: يا ابن أخي، أنا أعلم الناس بكلام العرب، يقال: تراءى الموضعان: إذا تقابلا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، و الحسن بن عليّ، و يحيى بن عليّ، قالوا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن عليّ، قال: حدّثني أبي:
أن الحسين بن مطير وفد على معن بن زائدة لما ولي اليمن و قد مدحه، فلما دخل عليه أنشده:
أتيتك إذ لم يبق(1) غيرك جابر *** و لا واهب يعطي اللّها و الرغائبا
/فقال له معن: يا أخا بني أسد، ليس هذا بمدح، إنما المدح قول نهار بن توسعة أخي بني تيم اللّه بن ثعلبة، في مسمع بن مالك.
قلدته عرا الأمور نزار *** قبل أن تهلك السراة البحور(2)
قال: و أوّل هذا الشعر:
اظعني من هراة(3) قد مر فيها *** حجج مذ سكنتها و شهور
اظعني نحو مسمع تجديه *** نعم ذو المنثنى(4) و نعم المزور
سوف يكفيك إن نبت بك أرض *** بخراسان أو(5) جفاك أمير
من بني الحصن عامل بن بريح *** لا قليل الندى و لا منزور(6)
و الذي يفزع الكماة إليه *** حين تدمى من الطعان النحور
فاصطنع يا ابن مالك آل بكر *** و اجبر العظم إنه مكسور
فغدا إليه بأرجوزته التي مدحه بها، و أوّلها:
/حديث ريا حبّذا إدلالها
تسأل عن حالي و ما سؤالها
عن امرئ قد شفّه خيالها
و هي شفاء النفس لو تنالها
ص: 281
/يقول فيها يمدحه:
سلّ سيوفا محدثا صقالها
صاب(1) على أعدائه و بالها
و عند معن ذي الندى أمثالها
فاستحسنها، و أجزل صلته.
أخبرني ابن عمار و يحيى بن عليّ، قالا: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أبو المثنى أحمد بن يعقوب بن أخت أبي بكر الأصم قال:
كنا في مجلس الأصمعيّ، فأنشده رجل لدعبل بن عليّ:
أين الشباب و أية سلكا
فاستحسنا قوله(2):
لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى
فقال الأصمعيّ: هذا أخذه من قول الحسين بن مطير:
أين أهل القباب بالدهناء *** أين جيراننا على الأحساء
فارقونا و الأرض ملبسة نو *** ر الأقاحي يجاد بالأنواء(3)
كلّ يوم بأقحوان جديد *** تضحك الأرض من بكاء السماء(4)
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدّثني محمد بن القاسم الدينوريّ، قال: حدّثني محمد بن عمران الضبيّ، قال:
قال المهدي للمفضل الضبيّ: أسهرتني البارحة أبيات الحسين بن مطير الأسديّ. قال: و ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله:
/و قد تغدر الدنيا فيضحي فقيرها *** غنيا و يغنى بعد بؤس فقيرها
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه *** حلاوته تفنى و يبقى مريرها
و كم قد رأينا من تغير عيشة *** و أخرى صفا بعد اكدرار غديرها
فقال له المفضل: مثل هذا فليسهرك يا أمير المؤمنين.
ص: 282
و قد أخبرني بهذا الخبر عمي رحمه اللّه أتم من هذا، قال: نسخت من كتاب المفضل بن سلمة: قال أبو عكرمة الضبيّ: قال المفضل الضبيّ:
كنت يوما جالسا على بابي و أنا محتاج إلى درهم، و عليّ عشرة آلاف درهم(1)، إذ جاءني رسول المهديّ، فقال: أجب أمير المؤمنين. فقلت: ما بعث إليّ في هذا الوقت إلا لسعاية ساع. و تخوّفته، لخروجي - كان - مع إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن(2)، فدخلت منزلي، فتطهرت و لبست ثوبين نظيفين، و صرت إليه. فلما مثلث بين يديه سلمت، فردّ عليّ، و أمرني بالجلوس. فلما سكن جأشي، قال لي: يا مفضل، أيّ بيت قالته العرب أفخر؟ فتشككت ساعة، ثم قلت: بيت الخنساء. و كان مستلقيا فاستوى جالسا، ثم قال: و أي بيت هو؟ قلت قولها:
و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار
فأومأ إلى إسحاق بن بزيع(3)، ثم قال: قد قلت له ذلك فأباه. فقلت: الصواب ما قاله أمير المؤمنين. ثم قال:
حدّثني يا مفضل. قلت: أي الحديث أعجب إلى أمير المؤمنين؟ قال: حديث النساء. فحدّثته حتى انتصف النهار، ثم قال لي: /يا مفضل، أسهرني البارحة بيتا ابن مطير، و أنشد/البيتين المذكورين في الخبر الأول. ثم قال: أ لهذين ثالث يا مفضل؟ نعم يا أمير المؤمنين. فقال: و ما هو؟ فأنشدته قوله:
و كم قد رأينا من تغير عيشة *** و أخرى صفا بعد اكدرار غديرها
و كان المهديّ رقيقا فاستعبر، ثم قال: يا مفضل، كيف حالك؟ قلت: كيف يكون حال من هو مأخوذ بعشرة آلاف درهم؟ فأمر لي بثلاثين ألف درهم، و قال: اقض دينك، و أصلح شأنك. فقبضتها و انصرفت.
أخبرني يحيى بن عليّ، عن عليّ بن يحيى إجازة، و حدّثنا الحسن(4) بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم، عن عبد اللّه بن أبي سعد(5)، قال: حدّثني إسحاق بن عيسى بن موسى بن مجمع، أحد بني سوار بن الحارث الأسديّ، قال: أخبرني جدّي موسى بن مجمع، قال:
قال الحسين بن مطير في المهدي قصيدته التي يقول فيها:
إليك أمير المؤمنين تعسفت *** بنا البيد هو جاء النّجاء خبوب(6)
و لو لم يكن قدامها ما تقاذفت *** جبال بها مغبرة و سهوب
فتى هو من غير التخلق ماجد *** و من غير تأديب الرجال أديب
ص: 283
علا خلقه خلق الرجال و خلقه *** إذا ضاق أخلاق الرجال رحيب
/إذا شاهد الفؤاد سار أمامهم *** جريء على ما يتقون وثوب
و إن غاب عنهم شاهدتهم مهابة *** بها يقهر الأعداء حين يغيب
يعف و يستحي إذا كان خاليا *** كما عف و استحيا بحيث رقيب
فلما أنشدها المهديّ أمر له بسبعين ألف درهم و حصان جواد.
و كان الحسين من الثعلبية(1)، و تلك داره بها. قال ابن أبي سعد: و أرانيها الشيخ.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، عن إسحاق بن عيسى، قال:
دخل الحسين بن مطير على المهدي، فأنشده قوله:
لو يعبد الناس يا مهدي أفضلهم *** ما كان في الناس إلا أنت معبود
أضحت يمينك من جود مصوّرة *** لا بل يمينك منها صوّر الجود
لو أن من نوره مثقال خردلة *** في السود طرا إذن لا بيضت السود
فأمر له لكل بيت بألف درهم.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، قال: حدّثني أبي، قال:
خرج المهديّ يوما، فلقيه الحسين بن مطير، فأنشده قوله:
أضحت يمينك من جود مصوّرة *** لا بل يمينك منها صوّر الجود
فقال: كذبت يا فاسق، و هل تركت من شعرك موضعا لأحد، بعد قولك في معن بن زائدة حيث تقول:
ألمّا بمعن ثم قولا لقبره *** سقيت الغوادي مربعا ثم مربعا
أخرجوه عني، فأخرجوه.
/و تمام الأبيات:
/أيا قبر معن كنت أوّل حفرة *** من الأرض خطت للمكارم مضجعا(2)
أيا قبر معن كيف واريت جوده *** و قد كان منه البر و البحر مترعا
ص: 284
بلى قد وسعت الجود و الجود ميت *** و لو كان حيا ضقت حتى تصدعا
فتى عيش في معروفه بعد موته *** كما كان بعد السيل مجراه ممرعا(1)
أبى ذكر معن أن تموت فعاله *** و إن كان قد لاقى حماما و مصرعا
أخبرني أحمد بن يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة(2) قال: حدّثني ابن مهرويه قال: حدّثني عليّ بن عبيد الكوفي(3) قال: حدّثني الحسين بن أبي الخصيب الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب، قال:
كنت أنا و عبد اللّه بن طاهر عند المأمون و هو مستلق على قفاه، فقال لعبد اللّه بن طاهر: يا أبا العباس، من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم؟ قال: أمير المؤمنين أعلم بهذا و أعلى عينا. فقال له: على ذاك فقل، و تكلم أنت أيضا يا أحمد بن يوسف. فقال عبد اللّه بن طاهر: أشعرهم الذي يقول:
أيا قبر معن كنت أوّل خطة *** من الأرض خطت للمكارم مضجعا(4)
فقال أحمد بن يوسف: بل أشعرهم الذي يقول:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متأخّر عنه و لا متقدم(5)
/فقال: أبيت يا أحمد إلا غزلا! أين أنتم عن الذي يقول:
يا شقيق النفس من حكم *** نمت عن ليلي و لم أنم(6)
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أبو خليفة عن التّوزي، قال: قلت لأبي عبيدة: ما تقول في شعر الحسين بن مطير؟ فقال: و اللّه لوددت أن الشعراء قاربته في قوله:
مخصرة الأوساط زانت عقودها *** بأحسن مما زينتها عقودها
فصفر تراقيها، و حمر أكفها *** و سود نواصيها، و بيض خدودها
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: أنشدنا محمد بن يزيد للحسين بن مطير، قال:
كان سبب قوله هذه الأبيات أن واليا ولي المدينة، فدخل عليه الحسين بن مطير، فقيل له: هذا من أشعر الناس. فأراد أن يختبره، و قد كانت سحابة مكفهرة نشأت، و تتابع منها الرعد و البرق، و جاءت بمطر جود. فقال له: صف هذه السحابة. فقال:
ص: 285
مستضحك بلوامع مستعبر *** بمدامع لم تمرها الأقذاء(1)
فله بلا حزن و لا بمسرة *** ضحك يراوح بينه و بكاء(2)
كثرت لكثرة ودقه أطباؤه *** فإذا تحلّب فاضت الأطباء(3)
/و كأن بارقه حريق تلتقي *** ريح عليه و عرفج و ألاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه *** لم يبق في لجج السواحل ماء
إذا ما أم عبد اللّ *** ه لم تحلل بواديه
و لم تمس قريبا هي *** ج الحزن دواعيه(4)
/غزال راعه القنا *** ص تحميه صياصيه(5)
و ما ذكرى حبيبا و *** قليل ما أواتيه(6)
كذى الخمر تمناها *** و قد أنزف ساقيه(7)
عرفت الربع بالإكلي *** ل عفته سوافيه(8)
بجو ناعم الحوذا *** ن ملتف روابيه(9)
الشعر مختلط، بعضه للنعمان بن بشير الأنصاري، و بعضه ليزيد بن معاوية، فالذي للنعمان بن بشير منه الثلاثة الأبيات الأول و البيت الأخير، و باقيها ليزيد بن معاوية(10). و رواه من لا يوثق به و بروايته لنوفل بن أسد بن عبد العزى. فأما من ذكر أنه للنعمان بن بشير فأبو عمرو الشيباني؛ وجدت ذلك عنه في كتابه، /و خالد بن كلثوم، نسخته من كتاب(11) أبي سعيد السكري في مجموع(12) شعر النعمان. و تمام الأبيات للنعمان بن بشير بعد الأربعة الأبيات التي نسبتها إليه، فإنها متوالية(13)، قال:
ص: 286
فبحت اليوم بالأمر ال *** لذي قد كنت تخفيه(1)
فإن أكتمه يوما *** فإني سوف أبديه
و ما زلت أفدّيه *** و أدنيه و أرقيه
و أسعى في هواه أ *** بدا حتى ألاقيه
فبات الريم مني ح *** ذرا زلت مراقبه(2)
و الغناء لمعبد: خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و ذكره إسحاق في خفيف الرمل بالسبابة في مجرى البنصر، و لم ينسبه إلى أحد. و فيه للغريض ثقيل أوّل بالوسطى، عن الهشامي و حنين.
ص: 287
هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة(1) بن خلاّس(2) بن زيد بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج. و أمه عمرة بنت رواحة، أخت عبد اللّه بن رواحة، التي يقول فيها قيس بن الخطيم:
أجدّ بعمرة غنيانها *** فتهجر أم شاننا شانها(3)
و عمرة من سروات النسا *** ء تنفح بالمسك أردانها
و له صحبة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و لأبيه بشير بن سعد. و كان جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و معه آخر، ليشهد معه غزوة له فيما قيل، فاستصغرهما(4) فردّهما.
و أبوه بشير بن سعد أوّل من قام يوم السقيفة من الأنصار إلى أبي بكر رضي اللّه عنه فبايعه، ثم توالت الأنصار فبايعته. و شهد بشير بيعة العقبة و بدرا و أحدا و الخندق و المشاهد كلها، و استشهد يوم عين التمر(5) مع خالد بن الوليد.
و كان النعمان عثمانيا، و شهد مع معاوية صفين، و لم يكن معه من الأنصار غيره، و كان كريما عليه، رفيعا عنده و عند يزيد ابنه بعده، و عمر إلى خلافة/مروان بن الحكم، و كان يتولى حمص. فلما بويع لمروان، دعا إلى ابن الزبير، و خالف على مروان، و ذلك بعد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط. فلم يجبه أهل حمص إلى/ذلك.
فهرب منهم، و تبعوه فأدركوه فقتلوه، و ذلك في سنة خمس و ستين.
و يقال إن النعمان بن بشير أوّل مولود ولد بالمدينة بعد قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إياها. و قد قيل ذلك في عبد اللّه بن الزبير، إلا أن النعمان أوّل مولود ولد بعد مقدمه عليه السّلام من الأنصار، روى ذلك عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
ص: 288
و روى النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كثيرا.
حدّثني أحمد بن محمد بن الجعد الوشاء. قال حدّثني أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدّثنا عباد بن العوّام، عن الحصين، عن الشعبيّ، قال:
سمعت النعمان بن بشير يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت أمي عمرة: لا أرضى حتى تشهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
فأتى رسول اللّه فقال: ابني من عمرة أعطيته عطية فأمرتني أن أشهدك. فقال: أعطيت كل ولدك مثل هذا؟ قال: لا.
فقال: فاتقوا اللّه و اعدلوا بين أولادكم.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثنا محمد بن سعيد، قال: حدّثنا العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال:
أمر معاوية لأهل الكوفة بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم، و عامله يومئذ على الكوفة و أرضها النعمان بن بشير، و كان عثمانيا، و كان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في عليّ عليه السّلام. فأبى النعمان أن ينفذها لهم. فكلموه و سألوه باللّه، فأبى أن/يفعل. و كان إذا خطب على المنبر أكثر قراءة القرآن. و كان يقول: لا ترون على منبركم هذا أحدا بعدي يقول: إنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فصعد المنبر يوما فقال: يأهل الكوفة. فصاحوا(1): ننشدك اللّه و الزيادة.
فقال: اسكتوا. فلما أكثروا قال: أ تدرون ما مثلي و مثلكم؟ قالوا: لا. قال: مثل الضبع و الضب و الثعلب: فإن الضبع و الثعلب أتيا الضب في وجاره، فنادياه: أبا الحسل. فقال: سميعا دعوتما. قالا: أتيناك لتحكم بيننا. قال:
في بيته يؤتي الحكم. قالت الضبع: إني حللت عيبتي. قال: فعل الحرة فعلت. قالت: فلقطت ثمرة. قال: طيبا لقطت. قالت: فأكلها الثعلب. قال: لنفسه نظر. قالت: فلطمته. قال: بجرمه. قالت: فلطمني. قال: حر انتصر.
قالت: فاقض بيننا. قال: قد فعلت. قال: حدث امرأة حديثين، فإن أبت فعشرة(2).
/فقال عبد اللّه بن همّام السّلولي:
زيادتنا نعمان لا تحبسنها *** خف اللّه فينا و الكتاب الذي تتلو(3)
.
ص: 289
فإنك قد حمّلت منا أمانة *** بما عجزت عنه الصّلاخمة البزل(1)
فلا يك باب الشر تحسن فتحه *** و باب الندى و الخيّرات له قفل(2)
و قد نلت سلطانا عظيما فلا يكن *** لغيرك جمّات الندى و لك البخل
و أنت امرؤ حلو اللسان بليغه *** فما باله عند الزيادة لا يحلو
و قلبك قد كانوا علينا أئمة *** يهمهم تقويمنا و هم عصل(3)
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا *** و لكنّ حسن القول خالفه الفعل(4)
يذمون دنياهم و هم يرضعونها *** أفاويق حتى ما يدرّ لهم ثعل(5)
/فيا معشر الأنصار إني أخوكم *** و إني لمعروف أنى منكم(6) أهل
/و من أجل إيواء النبيّ و نصره *** يحبكم قلبي و غيركم الأصل(7)
فقال النعمان بن بشير: لا عليه ألا يتقرّب(8)، فو اللّه لا أجيزها و لا أنفذها أبدا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدّثنا عمر بن شبة، قال: حدّثنا الأصمعيّ(9)، قال: حدّثني شيخ قديم(10) من أهل المدينة. و أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ، قال: حدّثنا عمر بن شبة(9) قال: حدّثنا أبو غسان، عن أبي السائب المخزوميّ. و أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ عن حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: ذكر لي عن جعفر بن محرز الدوسيّ(11) قال:
ص: 290
دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية و ابن الزبير، فقال: و اللّه لقد أخفقت أذناي من الغناء، فأسمعوني. فقيل له: لو وجهت إلى عزة الميلاء، فإنها من قد عرفت. فقال: إي و رب الكعبة، إنها لممن تزيد النفس طيبا، و العقل شحذا. ابعثوا إليها عن رسالتي، فإن أبت صرت إليها. فقال له بعض القوم: إن النقلة تشتدّ عليها، لثقل بدنها، و ما بالمدينة دابة تحملها. فقال النعمان بن بشير: و أين النجائب عليها الهوادج؟ فوجه إليها بنجب، فذكرت علة. فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه: أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا. فقام هو مع خواص أصحابه حتى طرقوها. فأذنت و أكرمت و اعتذرت، فقبل النعمان عذرها، و قال لها: غني، فغنت:
صوت(1)
أجدّ بعمرة غنيانها *** فتهجر أم شاننا شانها
و عمرة من سروات النسا *** ء تنفح بالمسك أردانها
قال: فأشير إليها أنها أمه، فأمسكت. فقال: غني، فو اللّه ما ذكرت إلا كرما و طيبا، و لا تغنّي سائر اليوم غيره. فلم نزل تغنيه هذا اللحن فقط حتى انصرف.
قال إسحاق: فتذاكروا هذا الحديث عند الهيثم بن عديّ، فقال: أ لا أزيدكم فيه طريفة؟ فقلنا: بلى، يا أبا عبد الرّحمن. فقال: قال لقيط و نحن عند سعيد الزبيريّ(2)، قال عامر الشعبيّ:
اشتاق النعمان بن بشير إلى الغناء، فصار إلى منزل عزة الميلاء، فلما انصرف إذا امرأة بالباب منتظرة له. فلما خرج شكت إليه كثرة غشيان زوجها إياها، فقال النعمان: لأقضين بينكما بقضية لا تردّ عليّ، قد أحل اللّه له من النساء أربعا: مثنى، و ثلاث، و رباع، له مرتان(3) بالنهار، و مرتان(3) بالليل.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال حدّثني عمي، عن العباس بن هشام(4)، عن أبيه؛ و أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الكلبي(5). و أخبرني عمي قال: حدّثنا الكرانيّ قال: حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ، قالوا:
خرج أعشى همدان إلى الشام في ولاية مروان بن الحكم، فلم ينل فيها حظا؛ فجاء إلى النعمان بن بشير و هو عامل على حمص، فشكا إليه حاله. فكلم له النعمان اليمانية، و قال لهم: هذا شاعر اليمن و لسانها، و استماحهم له. فقالوا: نعم، يعطيه كل واحد منا دينارين من عطائه. فقال: أعطه دينارا، و اجعلوا ذلك معجلا. فقالوا له:
ص: 291
أعطه إياه من بيت المال، و احتسب ذلك على كل رجل من عطائه. ففعل النعمان ذلك، و كانوا عشرين ألفا، فأعطاه عشرين ألف دينار، و ارتجعا متهم عند العطاء. فقال الأعشى يمدح النعمان:
و لم أر للحاجات عند التماسها *** كنعمان نعمان الندى ابن بشير
/إذا قال أو في ما يقول و لم يكن *** كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أكفر النعمان لا ألف شاكرا *** و ما خير من لا يقتدي بشكور
فلو لا أخو الأنصار كنت كنازل *** ثوى ما ثوى لم ينقلب بنقير
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، و حبيب بن نصر المهلّبي قالا: حدّثنا عمر بن شبة، قال: حدّثنا يحيى الزبيري(1) قال حدّثني ابن أبي زريق، قال: شبّب عبد الرّحمن بن حسان برملة بنت معاوية، فقال:
رمل هل تذكرين يوم غزال *** إذ قطعنا مسيرنا بالتمني
إذ تقولين عمرك اللّه هل شيء *** و إن جلّ سوف يسليك عني
أم هل اطمعت منكم يا ابن حسا *** ن كما قد أراك أطمعت مني(2)
/فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فغضب و دخل على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، أ لا ترى إلى هذا العلج(3)من أهل يثرب، يتهكم بأعراضنا، و يشبب بنسائنا؟ فقال: و من هو؟ قال: عبد الرّحمن بن حسان. و أنشده ما قال.
فقال: يا يزيد؛ ليس العقوبة من أحد أقبح منها بذوي القدرة، و لكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار، ثم أذكرني به.
فلما قدموا أذكره به. فلما دخلوا، قال: يا عبد الرّحمن، أ لم يبلغني أنك شببت برملة بنت أمير المؤمنين؟ قال:
بلى، و لو علمت أن أحدا أشرف لشعري منها لذكرته. فقال: فأين أنت عن أختها هند؟ قال: و إن لها لأختا يقال لها هند؟ قال: نعم. و إنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعا، فيكذب نفسه. قال: فلم يرض يزيد ما كان من معاوية في ذلك، فأرسل إلى كعب بن الجعيل، فقال: اهج الأنصار. فقال: أفرق من أمير المؤمنين، و لكن أدلك على هذا الشاعر الكافر الماهر الأخطل. قال: فدعاه، فقال له: أهج الأنصار. فقال: أفرق من أمير المؤمنين. قال: لا تخف شيئا، أنا بذلك لك. فهجاهم، فقال:
و إذا نسبت ابن الفريعة خلته *** كالجحش بين حمارة و حمار(4)
لعن الإله من اليهود عصابة *** بالجزع بين صليصل و صدار(5)
ص: 292
/قوم إذا هدر العصير رأيتهم *** حمرا عيونهم من المسطار(1)
خلّوا المكارم لستم من أهلها *** و خذوا مساحيكم بني النجار(2)
إن الفوارس يعرفون ظهوركم *** أولاد كل مقبّح أكار(3)
ذهبت قريش بالمكارم و العلا *** و اللؤم تحت عمائم الأنصار(4)
فبلغ ذلك النعمان بن بشير، فدخل على معاوية، فحسر عمامته عن رأسه، و قال: يا أمير المؤمنين، أ ترى لؤما؟ قال: بل أرى كرما و خيرا. فما ذاك؟ قال: زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار. قال: أو فعل ذلك؟ قال: نعم. قال لك لسانه. و كتب فيه أن يؤتى به. فلما أتى به، سأل الرسول أن يدخله إلى يزيد أولا، فأدخله عليه. فقال له: هذا الذي كنت أخاف. قال: لا تخف شيئا. و دخل إلى معاوية، فقال: علام أرسل إلى هذا الرجل الذي يمدحنا، و يرمي من وراء جمرتنا(5)؟ قال: هجا الأنصار. قال: و من زعم ذلك؟ قال: النعمان بن بشير. قال: لا تقبل قوله عليه، و هو المدعى/لنفسه، و لكن تدعوه بالبينة، فإن أثبت شيئا أخذت به له. فدعاه بالبينة، فلم يأت بها، فخلى سبيله، فقال الأخطل:
و إنى غداة استعبرت أم مالك *** لراض من السلطان أن يتهددا(6)
/و لو لا يزيد ابن الملوك و سعيه *** تجللت حدبارا من الشر أنكدا(7)
فكم أنقدتني من خطوب حباله *** و خرساء لو يرمى بها الفيل بلدا(8)
و دافع عني يوم جلّق غمرة *** و همّا ينسّيني الشراب المبرّدا(9)
و بات نجيّا في دمشق لحية *** إذا همّ لم ينم السليم و أقصدا(10)
يخافته طورا، و طورا إذا رأى *** من الوجه إقبالا ألحّ و أجهدا(11)
أبا خالد دافعت عني عظيمة *** و أدركت لحمي قبل أن يتبددا
ص: 293
و أطفأت عني نار نعمان بعد ما *** أغذ لأمر فاجر و تجردا(1)
و لما رأى النعمان دوني ابن حرّة *** طوى الكشح إذ لم يستطعني و عرّدا(2)
حدّثني عمي، قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، عن أبي بكر الهذلي، قال:
لما أمر يزيد بن معاوية كعب بن الجعيل بهجاء الأنصار، قال له: أ رادّي أنت إلى الكفر بعد الإسلام؟ أ أهجو قوما آووا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/و نصروه؟! قال: أما إذ كنت غير فاعل فأرشدني إلى من يفعل ذلك. قال: غلام منا خبيث الدين نصراني، فدله على الأخطل.
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن أبي الخطاب، قال:
لما كثر الهجاء بين عبد الرّحمن بن حسان بن ثابت و عبد الرّحمن بن الحكم بن أبي العاصي، و تفاحشا، كتب معاوية إلى سعيد بن العاصي و هو عامله على المدينة، أن يجلد كل واحد منهما مائة سوط، و كان ابن حسان صديقا لسعيد، و ما مدح أحدا غيره قط، فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمه، فأمسك عنهما. ثم ولي مروان. فلما قدم أخذ ابن حسان فضربه مائة سوط، و لم يضرب أخاه. فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير و هو بالشام، و كان كبيرا أثيرا مكينا عند معاوية:
ليت شعري أ غائب ليس بالشا *** م خليلي أم راقد نعمان(3)
أية ما يكن فقد يرجع الغا *** ئب يوما و يوقظ الوسنان
إن عمرا و عامرا أبوينا *** و حراما قدما على العهد كانوا
أفهم مانعوك أم قلة الك *** تّاب أم أنت عاتب غضبان
أم جفاء أم أعوزتك القراطي *** س أم امري به عليك هوان
يوم أنبئت أن ساقي رضّت *** و أتتكم بذلك الركبان
ثم قالوا إن ابن عمك في بل *** وى أمور أتى بها الحدثان
/فنسيت(4) الأرحام و الودّ و الصح *** بة فيما أتت به الأزمان
إنما الرمح فاعلمنّ قناة *** أو كبعض العيدان لو لا السنان
و هي قصيدة طويلة. فدخل النعمان بن بشير على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت سعيدا بأن يضرب ابن حسان و ابن الحكم مائة مائة، فلم يفعل، ثم وليت أخاه، /فضرب ابن حسان و لم يضرب أخاه: قال. فتريد ما ذا(5)؟
ص: 294
قال: أن تكتب إليه بمثل ما كتبت به إلى سعيد. فكتب معاوية إليه يعزم عليه أن يضرب أخاه مائة. فضربه خمسين، و بعث إلى ابن حسان بحلة، و سأله أن يعفو عن خمسين. ففعل، و قال لأهل المدينة: إنما ضربني حد الحر مائة، و ضربه حد العبد خمسين. فشاعت هذه الكلمة حتى بلغت ابن الحكم. فجاء إلى أخيه فأخبره، و قال: لا حاجة لي فيما عفا عنه ابن حسان. فبعث إليه مروان: لا حاجة لنا فيما تركت، فهلم فاقتص من صاحبك. فحضر فضربه مروان خمسين أخرى.
أخبرني الحسن بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا المدائني، عن يعقوب بن داود الثقفي و معاوية بن محارب(1):
أن معاوية تزوج امرأة من كلب، فقال لامرأته ميسون أم يزيد بن معاوية: ادخلي فانظري إلى ابنة عمك هذه(2). فأتتها فنظرت إليها، ثم رجعت فقالت: ما رأيت مثلها، و لقد رأيت خالا تحت سرتها ليوضعنّ تحت مكانه في حجرها/رأس زوجها. فتطير من ذلك، فطلقها، فتزوجها حبيب بن مسلمة، ثم طلقها، فتزوجها النعمان بن بشير، فلما قتل وضعوا رأسه في حجرها.
قالوا: و كان النعمان بن بشير لما قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط، في خلافة مروان بن الحكم، أراد أن يهرب من حمص، و كان عاملا عليها، فخالف و دعا لابن الزبير، فطلبه أهل حمص، فقتلوه و احتزوا رأسه. فقالت امرأته هذه الكلبية: ألقوا رأسه في حجري، فأنا أحق به. فألقوه في حجرها، فضمته إلى جسده، و كفنته و دفنته.
أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، قال: حدثنا أبو عبيدة، قال:
نظر معاوية إلى رجل في مجلسه، فراقه حسنا و شارة و جسما، فاستنطقه فوجده سديدا. فقال له: ممن أنت؟ قال: ممن أنعم اللّه عليه بالإسلام، فاجعلني حيث شئت يا أمير المؤمنين. قال: عليك بهذه الأزد الطويلة العريضة، الكثير عددها، التي لا تمنع من دخل فيهم، و لا تبالي من خرج منهم. فغضب النعمان بن بشير، و وثب من بين يديه، و قال: أما و اللّه أنك ما علمت لسيئ المجالسة لجليسك، عاقّ بزورك(3)، قليل الرعاية لأهل الحرمة بك.
فأقسم عليه إلا جلس فجلس. فضاحكه معاوية طويلا، ثم قال له: إن قوما أولهم غسان و آخرهم الأنصار، لكرام.
و سأله عن حوائجه، فقضاها حتى رضى.
نسخت من كتاب أبي سعيد السكري بخطه: أخبرنا ابن حبيب، قال: قال خالد بن كلثوم.
/خرج النعمان بن بشير في ركب من قومه و هو يومئذ حديث السن، حتى نزلوا بأرض من الأردنّ يقال لها
ص: 295
حفير(1)، و حاضرتها بنو القين. فأهدت لهم امرأة من بني القين يقال لها ليلى، هدية(2). فبينا القوم يتحدثون و يذكرون الشعراء، إذ قال بعضهم: يا نعمان هل قلت شعرا؟ قال: لا و اللّه ما قلت، فقال شيخ من الحارث بن الخزرج(3) يقال له ثابت بن سماك: لم تقل شعرا قط؟ قال: لا. قال: فأقسم عليك لتربطن إلى هذه السرحة، فلا تفارقها حتى يرتحل القوم، أو تقول شعرا. فقال عند ذلك، و هو أول شعر قاله:
يا خليليّ و دعا دار ليلى *** ليس مثلي يحل دار الهوان
إن قينية تحل محبا *** و حفيرا فجنبتي ترفلان(4)
لا تؤاتيك في المغيب إذا ما *** حال من دونها فروع قنان(5)
/إن ليلى و لو كلفت بليلى *** عاقها عنك عائق غير و ان(6)
قال: و ضرب الدهر على ذلك، و أتى عليه زمن طويل. ثم أن ليلى القينية قدمت عليه بعد ذلك، و هو أمير على حمص، فلما رآها عرفها فأنشأ يقول:
ألا استأذنت ليلى فقلنا لها لجي *** و مالك ألا تدخلي بسلام
فإن أناسا زرتهم ثم حرّموا *** عليك دخول البيت غير كرام
و أحسن صلتها، و رفدها(7) طول مقامها، إلى أن رحلت عنه.
أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن الحسن بن مسعود، عن أبيه، عن مشيخة من الأنصار، قال:
حضرت وفود الأنصار باب معاوية بن أبي سفيان، فخرج إليهم حاجبه سعد أبو درة(8) - و قد حجب بعده عبد الملك بن مروان - فقالوا له: استأذن للأنصار. فدخل إليه و عنده عمرو بن العاص، فاستأذن لهم. فقال لهم عمرو:
ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ اردد القوم إلى أنسابهم. فقال معاوية: إني أخاف من ذلك الشّنعة. فقال: هي كلمة تقولها، إن مضت عضتهم(9) و نقصتهم، و إلا فهذا الاسم راجع إليهم. فقال له: اخرج فقل: من كان هاهنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل. فقالها الحاجب، فدخل ولد عمرو بن عامر كلهم إلا الأنصار. فنظر معاوية إلى عمرو نظرا
ص: 296
منكرا، فقال له: باعدت جدا. فقال: اخرج فقل: من كان هاهنا من الأوس و الخزرج فليدخل. فخرج فقالها، فلم يدخل(1) أحد. فقال له معاوية: أخرج فقل: من كان هاهنا من الأنصار فليدخل. فخرج فقالها، فدخلوا يقدمهم النعمان بن بشير و هو يقول:
يا سعد لا تعد الدعاء فما لنا *** نسب نجيب به سوى الأنصار(2)
نسب تخيّره الإله لقومنا *** أثقل به نسبا على الكفار(3)
إن الذين ثووا ببدر منكم *** يوم القليب هم وقود النار
/فقال معاوية لعمرو: قد كنا أغنياء عن هذا(4).
و النعمان بن بشير: هو من المعروفين في الشعر سلفا و خلفا، جده شاعر، و أبوه شاعر، و عمه شاعر، و هو شاعر، و أولاده و أولاده شعراء.
فأما جده سعد بن الحصين(5) فهو القائل.
إن كنت سائلة و الحق معتبة *** فالأزد نسبتنا و الماء غسان(6)
شم الأنوف لهم عز و مكرمة *** كانت لهم من جبال الطّود أركان(7)
و عمه الحسين بن سعد أخو بشير بن سعد، القائل:
إذا لم أزلا إلا لآكل أكلة *** فلا رفعت كفي إليّ طعامي
فما أكلة إن نلتها بغنيمة *** و لا جوعة إن جعتها بغرام
و أبوه بشير بن سعد الذي يقول(8):
ص: 297
/لعمرة بالبطحاء بين معرّف *** و بين المطاف مسكن و محاضر(1)
لعمري لحيّ بين دار مزاحم *** و بين الجثا لا يجشم السير حاضر(2)
وحي حلال لا يروع سربهم *** لهم من وراء القاصيات زوافر(3)
أحق بها من فتية و ركائب *** يقطع عنها الليل عوج ضوامر(4)
/تقول و تذري الدمع عن حر وجهها *** لعلك نفسي قبل نفسك باكر(5)
أباح لها بطريق فارس غائطا *** لها من ذرا الجولان بقل و زاهر(6)
/فقرّبتها للرحل و هي كأنها *** ظليم نعام بالسماوة نافر
فأوردتها ماء فما شربت به *** سوى أنه قد بلّ منها المشافر
فباتت سراها ليلة ثم عرست *** بيثرب و الأعراب باد و حاضر
قال خالد بن كلثوم:
و دخل النعمان بن بشير على معاوية لما هجا الأخطل الأنصار، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
معاوي إلاّ تعطنا الحق تعترف *** لحى الأزد مشدودا عليها العمائم
أ يشتمنا عبد الأراقم ضلة *** و ما ذا الذي تجدى عليك الأراقم(7)
ص: 298
فما لي ثأر غير(1) قطع لسانه *** فدونك من يرضيه عنك الدراهم
و أرع رويدا لا تسمتا دنية *** لعلك في غب الحوادث نادم(2)
متى تلق منا عصبة خزرجية *** أو الأوس يوما تخترمك المخارم(3)
و تلقك خيل كالقطا مسبطرّة *** شماطيط أرسال عليها الشكائم(4)
يسوّمها العمران عمرو بن عامر *** و عمران حتى تستباح المحارم
و يبدو من الخود الغريرة حجلها *** و تبيض من هول السيوف المقادم
فتطلب شعب الصدع بعد انفتاقه *** فتعيا به فالآن و الأمر سالم
/و إلا فبزّي لأمة تبعيه *** مواريث آبائي و أبيض صارم
و أجرد خوّار العنان كأنه *** بدومة موشيّ الذراعين صائم(5)
و أسمر خطّي كأن كعوبه *** نوى القسب فيها لهذمي ضبارم(6)
فإن كنت لم تشهد ببدر وقيعة *** أذلت قريشا و الأنوف رواغم
فسائل بنا حي لؤيّ بن غالب *** و أنت بما تخفي من الأمر عالم
أ لم تبتدركم يوم بدر سيوفنا *** و ليلك عما ناب قومك نائم(7)
ضربناكم حتى تفرّق جمعكم *** و طارت أكف منكم و جماجم
و عاذت على البيت الحرام عوانس *** و أنت على خوف عليك تمائم(8)
و عضت قريش بالأنامل بغضة *** و من قبل ما عضت علينا الأباهم(9)
فكنا لها في كل أمر تكيده *** مكان الشّجا و الأمر فيه تفاقم
فما إن رمى رام فأوهى صفاتنا *** و لا ضامنا يوما من الدهر صائم
و إني لأغضي عن أمور كثيرة *** سترقى بها يوما إليك السلالم
أصانع فيها عبد شمس و انني *** لتلك التي في النفس مني أكاتم
ص: 299
فلا تشتمنّا يا ابن حرب فإنما *** ترقّي إلى تلك الأمور الأشائم(1)
فما أنت و الأمر الذي لست أهله *** و لكن ولي الحق و الأمر هاشم
/إليهم يصير الأمر بعد شتاته *** فمن لك بالأمر الذي هو لازم
بهم شرع اللّه الهدى و اهتدى بهم *** و منهم له هاد إمام و خاتم
/قال: فلما بلغت هذه الأبيات معاوية، أمر بدفع الأخطل إليه، ليقطع لسانه. فاستجار بيزيد بن معاوية، فمنع منه، و أرضوا النعمان، حتى رضى و كف عنه.
و قال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه: لما ضرب مروان بن الحكم عبد الرّحمن بن حسان الحد، و لم يضرب أخاه، حين تهاجيا و تقاذفا، كتب عبد الرّحمن إلى النعمان بن بشير يشتكي ذلك إليه، فدخل إلى معاوية، و أنشأ يقول:
يا ابن أبي سفيان ما مثلنا *** جار عليه ملك أو أمير
اذكر بنا مقدم أفراسنا *** بالحنو إذ أنت إلينا فقير
و اذكر غداة الساعديّ الذي *** آثركم بالأمر فيها بشير(2)
و احذر عليهم مثل بدر فقد *** مر بكم يوم ببدر عسير
إن ابن حسان له ثائر *** فأعطه الحق تصحّ الصدور(3)
و مثل أيام لنا شتتت *** ملكا لكم أمرك فيها صغير
أما ترى الأزد و أشياعها *** نحوك خزرا كاظمات تزير(4)
يطوف(5) حولي منهم معشر *** إن صلت صالوا و هم لي نصير
/يأبى لنا الضيم فلا يعتلي *** عز منيع و عديد كثير
و عنصر في حرّ جرثومة *** عاديّة تنقل عنها الصخور(6)
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني أحمد بن الهيثم الفراسي، قال: حدّثني العمري، عن الهيثم بن عديّ، قال:
ص: 300
حضرت الأنصار باب معاوية و معهم النعمان بن بشير، فخرج إليهم سعد أبو درّة، و كان حاجب معاوية، ثم حجب عبد الملك بن مروان، فقال: استأذن لنا. فدخل، فقال لمعاوية: الأنصار بالباب. فقال له عمرو بن العاص: ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسبا؟ أرددهم إلى نسبهم. فقال معاوية: إن علينا في ذلك شناعة. قال: و ما في ذلك؟ إنما هي كلمة مكان كلمة، و لا مردّ لها. فقال له معاوية: اخرج فناد من بالباب من ولد عمرو بن عامر فليدخل. فخرج فنادى بذلك، فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار. فقال له: أخرج فناد من كان هاهنا من الأوس و الخزرج فليدخل. فخرج فنادى ذلك، فوثب النعمان بن بشير، فأنشأ يقول:
يا سعد لا تعد الدعاء فما لنا *** نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإله لقومنا *** أثقل به نسبا على الكفار
إن الذين ثووا ببدر منكم *** يوم القليب هم وقود النار
و قام مغضبا و انصرف. فبعث معاوية فردّه، فترضاه و قضى حوائجه و حوائج من حضر معه من الأنصار.
و من مختار شعر النعمان قوله، رواها خالد بن كلثوم، و اخترت منها:
إذا ذكرت أم الحويرث أخضلت *** دموعي على السربال أربعة سكبا(1)
/كأني لما فرّقت بيننا النّوى *** أجاور في الأغلال تغلب أو كلبا
/و كنا كماء العين و الجفن لا ترى *** لواش بغى نقض الهوى بيننا إربا(2)
فأمسى الوشاة غيّروا ودّ بيننا *** فلا صلة ترعى لديّ و لا قربى
جرى بيننا سعي الوشاة فأصبحت *** كأنّي - و لم أذنب - جنيت لها ذنبا
فإن تصرميني تصرمي بي واصلا *** لدي الود معراضا إذا ما التوى صعبا
عزوفا إذا خاف الهوان عن الهوى *** و يأبى فلا يعطي مودته غصبا
فإن أستطع أصبر و إن يغلب الهوى *** فمثل الذي لاقيت كلفني نصبا(3)
و اخترت هذه الأبيات من قصيدة أخرى، و أوّلها:
أهيّج دمعك رسم الطلل *** عفا غير مطّرد كالخلل(4)
نعم فاستهلّ لعرفانه *** يسح و يهمي بفيض سبل(5)
ديار الألوف و أترابها *** و أنت من الحب كالمختبل(6)
ص: 301
ليالي تسبي قلوب الرجا *** ل تحت الخدور بحسن الغزل
من الناهضات بأعجازهنّ *** حين يقوم جزيل الكفل
كأن الرّضاب و صوب السحا *** ب بات يشاب بذوب العسل
من الليل خالط أنيابها *** بعيد الكرى و اختلاف العلل(1)
/أخذ هذا المعنى جميل منه، فقال:
و كأن طارقها على علل الكرى *** و النجم و هنا قد دنا لتغوّر(2)
يشتمّ ريح مدامة معلولة *** بسحيق مسك في ذكي العنبر(3)
و في هذه القصيدة يقول النعمان:
و أورع ذي شرف حازم *** صروم وصول حبال الخلل(4)
كريم البلاء صبور اللقا *** ء صافي الثناء قليل العذل(5)
عظيم الرماد طويل العما *** د واري الزناد بعيد القفل(6)
أقمت له و لأصحابه *** عمود السّرى بذمول رمل(7)
مداخلة سرحة جسرة *** على الأين دوسرة كالجمل(8)
و من شعراء ولد النعمان بن بشير، ابنه عبد اللّه بن النعمان، و هو القائل:
ما ذا رجاؤك غائبا *** من لا يسرّك شاهدا
و إذا دنوت يزيده *** منك الدنو تباعدا
ص: 302
و منهم عبد الخالق بن أبان بن النعمان بن بشير، شاعر مكثر، و هو القائل في قصيدة طويلة:
و شاد أبونا الشيخ عمرو بن عامر *** بأعلى ذرا العلياء ركنا تأثلا
و خطّ حياض المجد مترعة لنا *** ملاء فعلّ الصفو منها و أنهلا
و أشرع فيها الناس بعد، فما لهم *** من المجد إلا سؤره حين أفضلا(1)
و في غيرنا مجد من الناس كلهم *** فأما كمثل العشر من مجدنا فلا
/و له أشعار كثيرة لم أحب الإطالة بذكرها.
و منهم شبيب بن يزيد(2) بن النعمان بن بشير، شاعر مكثر مجيد، و هو القائل من قصيدة طويلة، يعاتب بني أمية عند اختلاف أمرهم في أيام الوليد بن يزيد و بعده، أوّلها:
يا قلب صبرا جميلا لا تمت حزنا *** قد كنت من أن ترى جلد القوى قمنا(3)
يقول فيها:
بل أيها(4) الراكب المزجي مطيته *** لقّيت حيث توجهت الثّنا الحسنا
/أبلغ أمية أعلاها و أسفلها *** قولا ينفّر عن نوّامها الوسنا
إن الخلافة أمر كان يعظمه *** خيار أوّلكم قدما و أوّلنا
فقد بقرتم بأيديكم بطونكم *** و قد وعظتم فما أحسنتم الأذنا(5)
أغريتم بكم جهلا عدوكم *** في غير فائدة فاستوسقوا سننا(6)
لما سفكتم بأيديكم دماءكم *** بغيا و غشّيتم أبوابكم درنا
و منهم إبراهيم بن بشير بن سعد، أخو النعمان، شاعر مكثر، و هو القائل في قصيدة طويلة:
أ شاقتك أظعان الحدوج البواكر *** كنخل النّجير الشامخات المواقر(7)
ص: 303
على كل فتلاء الذراعين جسرة *** و أعيس نضّاخ المهدّ عذافر(1)
نعم فاستدرت عبرة العين لوعة *** و ما أنت عن ذكرى سليمى بصابر
و لم أر سلمى بعد إذ نحن جيرة *** من الدهر إلا وقفة بالمشاعر
ألا ربّ ليل قد سريت سواده *** إلى ردح الأعجاز غرّ المحاجر(2)
/ليالي يدعوني الصّبا فأجيبه *** أجر إزاري عاصيا أمر زاجري
و إذ لمتي مثل الجناح أثيثة *** أمشّي الهوينى لا يروّع طائري
فأصبحت قد ودعت كم بغيره *** مخافة ربي يوم تبلى سرائري(3)
و بنت النعمان بن بشير، و اسمها حميدة، كانت شاعرة ذات لسان و عارضة و شر، فكانت تهجو أزواجها.
و كانت تحت الحارث بن خالد المخزومي، و قيل بل كانت تحت المهاجر بن عبد اللّه بن خالد، فقالت فيه:
كهول دمشق و شبانها *** أحب إليّ من الجالية(4)
صماحهم كصماح التيو *** س أعيا على المسك و الغاليه(5)
و قمل يدب دبيب الجراد *** أكاريس أعيا على الفاليه(6)
فطلقها. فتزوّجها روح بن زنباع، فهجته، و قالت تخاطب أخاها الذي زوّجها من روح، و تقول:
أضل اللّه حلمك من غلام *** متى كانت مناكحنا جذام
أ ترضى بالأكارع و الذّنابى *** و قد كنا يقر لنا السنام
و قالت تهجو روحا.
بكى الخزّ من روح و أنكر جلده *** و عجّت عجيجا من جذام المطارف
و قال العباء نحن كنا ثيابهم *** و أكسية كدريّة و قطائف(7)
ص: 304
/فطلقها روح، و قال: سلط اللّه عليك بعلا يشرب الخمر و يقيئها في حجرك. فتزوّجت بعده الفيض بن أبي عقيل الثقفي، و كان يسكر و يقيء في حجرها. فكانت تقول: أجيبت فيّ دعوة روح. و قالت في الفيض:
سمّيت فيضا و ما شيء تفيض به *** إلا بسلحك بين الباب و الدار(1)
فتلك دعوة روح الخير أعرفها *** سقى الإله صداه الأوطف الساري(2)
و قالت فيه:
و هل أنا إلا مهرة عربية *** سليلة أفراس تجلّلها بغل(3)
فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى *** و إن كان إقراف فما أنجب الفحل(4)
هكذا روى خالد بن كلثوم هذين البيتين لها، و غيره يرويهما لمالك بن أسماء لما تزوّج الحجاج أخته هندا.
و هي القائلة لما تزوّج الحجاج أختها أم أبان:
قد كنت أرجو بعض ما يرجو الراج *** أن تنكحيه ملكا أو ذا تاج
إذا تذكرت نكاح الحجاج *** تضرّم القلب بحزن وهّاج
و فاضت العين بماء ثجّاج *** لو كان نعمان قتيل الأعلاج
مستوي الشخص صحيح الأوداج *** ما نلت ما تلت بختل الدّراج(5)
فأخرجها الحجاج من العراق، وردها إلى الشام.
نفرت قلوصي من حجارة حرّة *** بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه *** شرّيب خمر مسعر لحروب
لا يبعدنّ ربيعة بن مكدّم *** و سقى الغوادي قبره بذنوب
لو لا السّفار و بعد خرق مهمه *** لتركتها تحبو على العرقوب(6)
ص: 305
يقال إن الشعر لحسان بن ثابت الأنصاريّ، و يقال: إنه لضرار بن الخطاب الفهريّ.
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام، قال: الصحيح أن هذه الأبيات لعمرو بن شقيق، أحد بني فهر بن مالك. و من الناس من يرويها لمكرّز بن حفص بن الأحنف الفهري(1)، و عمرو بن شقيق أولى بها.
و الغناء(2) لمالك: خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر(2).
ص: 306
و هذا الشعر قيل في قتل ربيعة بن مكدّم بن عامر بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن جذل الطّعان بن فراس بن عثمان بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، أحد فرسان مضر المعدودين، و شجعانهم المشهورين، قتله نبيشة بن حبيب السّلمى في يوم الكديد.
و كان السبب في ذلك فيما ذكره محمد بن الحسن بن دريد، إجازة عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة؛ و نسخته أيضا من رواية الأصمعي و حماد صاحب أبي غسان دماذ و الأثرم، فجمعتها هاهنا.
قال أبو عبيدة: قال أبو عمرو بن العلاء: وقع تدارءوا(1) بين نفر من بني سليم بن منصور و بين نفر من بني فراس بن مالك بن كنانة، فقتلت بنو فراس رجلين من بني سليم بن منصور، /ثم إنهم ودوهما. ثم ضرب الدهر ضربانه، فخرج نبيشة بن حبيب السلمي غازيا، فلقى ظعنا من بني كنانة بالكديد، في نفر من قومه، و بصر بهم(2)نفر من بني فراس بن مالك، فيهم عبد اللّه بن جذل الطعان بن فراس، و الحارث بن مكدم أبو الفارعة، قال: بعضهم أبو الفرعة، أخو ربيعة بن مكدم، قال: و هو مجدور يومئذ يحمل في محفة، فلما رآهم أبو الفارعة، قال: هؤلاء بنو سليم يطلبون دماءهم. فقال أخوه ربيعة بن مكدم: أنا أذهب حتى أعلم علم القوم، فآتيكم بخبرهم. فتوجه نحوهم، فلما ولّى، قال بعض الظعن: هرب/ربيعة. فقالت أخته أم عزة بنت مكدم: أين تنتهي نفرة الفتى؟ فعطف و قد سمع قول النساء، فقال:
لقد علمن أنّني غير فرق *** لأطعنن طعنه و أعتنق
أعمل فيهم حين تحمر الحدق *** عضبا حساما و سنانا يأتلق(3)
قال: ثم انطلق يعدو به فرسه، فحمل عليه بعض القوم، فاستطرد له في طريق الظعت. و انفرد به رجل من القوم، فقتله ربيعة. ثم رماه نبيشة أو طعنه، فلحق بالظعن يستدمي، حتى أتى إلى أمه أم سيار، فقال: اجعلي على يدي عصابة، و هو يرتجز و يقول:
شدي عليّ العصب أم سيار
لقد رزيت فارسا كالدينار
يطعن بالرمح أمام الأدبار
ص: 307
فقالت أمه:
إنا بنو ثعلبة بن مالك *** مرزّأ أخيارنا كذلك
من بين مقتول و بين هالك *** و لا يكون الرزء إلا ذلك
قال أبو عبيدة: و شدّت أمه عليه عصابة. فاستسقاها ماء، فقالت: إنك إن شربت الماء مت، فكرّ على القوم. فكر راجعا يشد على القوم و يذبّهم، و نزفه الدم حتى اثخن، فقال للظعن: أوضعن(1) ركابكن خلفي، حتى تنتهين إلى أدنى بيوت الحي، فإني لما بي، و سوف أقف دونكن لهم على العقبة، و أعتمد على رمحي، فلن يقدموا عليكن لمكاني. ففعلن ذلك، فنجون إلى مأمنهن.
/قال أبو عبيدة: قال أبو عمرو بن العلاء: و لا نعلم قتيلا و لا ميتا حمى ظعائن غيره. قال: و إنه يومئذ لغلام له ذؤابة. قال: فاعتمد على رمحه، و هو واقف لهن على متن فرسه، حتى بلغن مأمنهن، و ما تقدّم القوم عليه.
فقال: نبيشة بن حبيب: إنه لمائل العنق، و ما أظنه إلا قد مات. فأمر رجلا من خزاعة كان معه أن يرمي فرسه.
فرماها فقمصت و زالت، فمال عنها ميتا. قال: و يقال بل الذي رمى فرسه نبيشة. فانصرفوا عنه، و قد فاتهم الظّعن.
قال أبو عبيدة: و لحقوا يومئذ أبا الفرعة الحارث بن مكدم، فقتلوه، و ألقوا على ربيعة أحجارا.
فمر به رجل من بني الحارث بن فهر، فنفرت ناقته من تلك الأحجار التي أهليت على ربيعة. فقال يرثيه و يعتذر ألا يكون عقر ناقته على قبره، و حض على قتلته، و عيّر من فر و أسلمه من قومه:
نفرت قلوصى من حجارة حرة *** بنيت على طلق اليدين و هوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه *** سبّاء خمر مسعر لحروب
لو لا السّفار و بعد خرق مهمه *** لتركتها تحبو على العرقوب
/فر الفوارس عن ربيعة بعد ما *** نجّاهم من غمّة المكروب(2)
يدعو عليا حين أسلم ظهره *** فلقد دعوت هناك غير مجيب
للّه در بني عليّ إنهم *** لم يحمشوا غزوا كولغ الذيب(3)
نعم الفتى أدى نبيشة بزّه *** يوم الكديد، نبيشة بن حبيب(4)
لا يبعدن ربيعة بن مكدم *** و سقى الغوادي قبره بذنوب
/قال أبو عبيدة: و يقال إن الذي قال هذا الشعر هو ضرار بن الخطاب بن مرداس، أحد بني محارب بن فهر.
و قال آخر: هو حسان بن ثابت. و قال الأثرم: أنشدني أبو عبيدة مرة أخرى هذا البيت:
و سقى الغوادي قبره بذنوب
ص: 308
و احتج به في قول اللّه عز و جل: ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحٰابِهِمْ (1). فسألته لمن هذا البيت، فقال: لمكرّز بن حفص بن الأحنف، أحد بني عامر بن لؤي، رجل من قريش الظواهر؛ و لم يسمه هاهنا.
و قال عبد اللّه بن جذل الطعان و اسمه بلعاء:
لأطلبن بربيعة بن مكدم *** حتى أنال عصيّة بن معيص
يقال إن عصية من بني سليم، و هو عصية بن معيص بن عامر بن لؤي
و تقاد كل طمرة ممحوصة *** و مقلّص عبل الشّوى ممحوص(2)
و قال رجل من بني الحارث بن الخزرج من الأنصار يرثي ربيعة بن مكدم. و قال أبو عبيدة: زعم أبو الخطاب الأخفش أنه لحسان بن ثابت، يحض على قتلته.
و لأصرفنّ سوى حذيفة مدحتي *** لفتى الشتاء و فارس الأجراف(3)
مأوى الضّريك إذا الرياح تناوحت *** ضخم الدّسيعة مخلف متلاف(4)
/من لا يزال يكب كل ثقيلة *** كوماء غير مسائل منزاف(5)
رحب المباءة و الجناب موطّأ *** مأوى لكل معتق بسواف(6)
فسقى الغوادي قبرك ابن مكدم *** من صوب كل مجلجل وكّاف(7)
أبلغ بني بكر و خص فوارسا *** لحقوا الملامة دون كل لحاف
أسلمتم جذل الطعان أخاكم *** بين الكديد و قلة الأعراف(8)
الأعراف: رمل، قال الأثرم: الأعراف كل ما ارتفع، و منه قول اللّه تعالى: وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ الْأَعْرٰافِ .
حتى هوى متزايلا أوصاله *** للّحد بين جنادل و قفاف(9)
ص: 309
للّه در بني عليّ إن هم *** لم يثأروا عوفا و حيّ خفاف(1)
قال الأثرم: و أنشدنا أبو عبيدة هذه القصيدة مرة لقيس بن الخطيم حين قتل قاتل أبيه، فقال:
تذكر ليلى حسنها و صفاءها
/و قال ابن جذل الطعان في ذلك أيضا:
ألا اللّه در بني فراس *** لقد أورثتم حزنا وجيعا
غداة ثوى ربيعة في مكرّ *** تمج عروقه علقا نجيعا(2)
فلن أنسى ربيعة إذ تعالى *** بكاء الظّعن تدعو يا ربيعا
و قال كعب بن زهير، و أمه من بني أشجع بن عامر بن الليث بن بكر بن كنانة، يرثي ربيعة بن مكدم، و يحض على بني سليم، و يعير بني كنانة(3) بالدماء التي أدّوها إلى بني سليم، و هم لا يدركون قتلاهم عندهم بدرك قتل فيهم و لا دية:
/بان الشباب و كل إلف بائن *** ظعن الشباب مع الخليط الظاعن
قالت أميمة ما لجسمك شاحبا *** و أراك ذا بثّ و لست بدائن
غضّي ملامك إن بي من لومكم *** داء أظن مما طلي أو فاتني
أبلغ كنانة غثّها و سمينها *** الباذلين رباعها بالقاطن(4)
أن المذلة أن تطلّ دماؤكم *** و دماء عوف ضامن في العاهن(5)
أموالكم عوض لهم بدمائهم *** و دماؤكم كلف لهم بظعائن(6)
طلبوا فأدرك و ترهم مولاهم *** و أبت محاملكم إباء الحارن(7)
/شدوا المآزر فاثأروا بأخيكم *** إن الحفائط نعم ربح الثامن(8)
كيف الحياة ربيعة بن مكدم *** يغدى عليك بمزهر أو قائن(9)
ص: 310
و هو التّريكة بالعراء و حارث *** فقع القراقر بالمكان الواتن(1)
كم غادروا لك من أرامل عيّل *** جزر الضّباع و من ضريك واكن(2)
و قالت أم عمرو أخت ربيعة ترثي ربيعة:
ما بال عينك منها الدمع مهراق *** سحّا و لا عازب لا لا و لا راقي(3)
أبكي على هالك أودى و أورثني *** بعد التفرق حزنا بعده باقي
لو كان يرجع ميتا وجد ذي رحم *** أبقى(4) أخي سالما وجدي و إشفاقي
/أو كان يفدى لكان الأهل كلّهم *** و ما أثّر من مال له واقي
لكن سهام المنايا من نصبن له *** لم ينجه طب ذي طب و لا راقى(5)
فاذهب فلا يبعدنك اللّه من رجل *** لاقى الذي كلّ حي مثله لاقي
فسوف أبكيك ما ناحت مطوقة *** و ما سريت مع الساري على ساقي
أبكى لذكرته عبرى مفجّعه *** ما إن يجف لها من ذكره ماقي
و قال عبد اللّه يرثيه:
خلّى عليّ ربيعة بن مكدم *** حزنا يكاد له الفؤاد يزول
فإذا ذكرت ربيعة بن مكدم *** ظلت لذكراه الدموع تسيل
نعم الفتى حيا و فارس بهمة *** يردي بشكته أقبّ ذءول(6)
سقت الغوادي بالكديد رمّة(7) *** و الناس إما هالك و قتيل
فإذا لقيت ربيعة بن مكدم *** فعلى ربيعة من نداه قبول
كيف العزاء و لا تزال خريدة *** تبكي ربيعة غادة عطبول(8)
ص: 311
يأبى لي اللّه المذلة إنما *** يعطى المذلة عاجز تنبيل(1)
و قال عبد اللّه أيضا يرثيه:
نادى الظعائن يا ربيعة بعد ما *** لم يبق غير حشاشة و فواق(2)
/فأجابها و الرمح في حيزومه *** أنفا بطعن كالشّعيب دفاق(3)
/يا ريط إن ربيعة بن مكدم *** و ربيع قومك آذنا بفراق(4)
و لئن هلكت لربّ فارس بهمة *** فرجت كربته و ضيق خناق
و قال أيضا يتوعد بني سليم:
و لست لحاضر إن لم أزركم *** كتائب من كنانة كالصريم(5)
على قبّ الأياطل مضمرات *** أضرّ بنيّها علك الشكيم(6)
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدّثني الطلحي، قال: أخبرني عبد اللّه بن إبراهيم الجمحى و محمد بن الحسن بن زبالة في مجلس واحد، قالا: مرّ حسان بن ثابت بقبر ربيعة بن مكدم الكناني(7)، بثنية كعب، و يقال: بثنية غزال، فقلصت به راحلته، فقال(7):
نفرت قلوصي من حجارة حرّة *** بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه *** شرّيب خمر مسعر لحروب
لو لا السّفار و بعد خرق مهمه *** لتركتها تحبو على العرقوب
فبلغ شعره بني كنانة، فقالوا: و اللّه لو عقرها لسقنا إليه ألف ناقة سود الحدق.
أخبرني محمد بن الحسين بن دريد، قال: حدّثنا السجستانيّ، قال: حدّثنا أبو عبيدة، قال:
خرج دريد بن الصّمة في فوارس من بني جشم، حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة يقال له الأخرم، و هو يريد الغارة على بني كنانة، رفع له رجل من ناحية الوادي معه ظعينة. فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه: صح به أن خلّ عن الظعينة و انج بنفسك، و هو لا يعرفه. فانتهى إليه الرجل، فصاح به، و ألح عليه. فلما أتى ألقى الزمام و قال للظعينة:
ص: 312
سيري على رسلك سير الآمن *** سير رداح ذات جأش ساكن
إن انثنائي دون قرني شائني *** و ابلي بلائي و اخبري و عايني
ثم حمل على الفارس فقتله، و أخذ فرسه، فأعطاه الظعينة. فبعث دريد فارسا آخر، لينظر ما صنع صاحبه، فرآه صريعا. فصاح به، فتصامم عنه، فظنّ أنه لم يسمعه. فغشيه، فألقى الزمام إليها، ثم حمل على الفارس، فطعنه فصرعه، و هو يقول:
خلّ سبيل الحرة المنيعة *** إنك لاق دونها ربيعة
في كفه خطّية مطيعه(1) *** أو لا، فخذها طعنة سريعه
فالطعن منى في الوغى شريعه
فلما أبطأ على دريد بعث فارسا آخر لينظر ما صنعا؟ فانتهى إليهما، فرآهما صريعين، و نظر إليه يقود ظعينته، و يجر رمحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال لها ربيعة: اقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال:
ما ذا تريد من شتيم عابس(2) *** أ لم تر الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس؟
/ثم طعنه فصرعه، و انكسر رمحه. فارتاب دريد، و ظنّ أنهم قد أخذوا الظعينة، و قتلوا الرجل. فلحق بهم، فوجد ربيعة لا رمح معه و قد دنا من الحيّ، و وجد القوم قد قتلوا. /فقال دريد: أيها الفارس، إن مثلك لا يقتل، و إن الخيل ثائرة بأصحابها، و لا أرى معك رمحا، و أراك حديث السنّ، فدونك هذا الرمح، فإني راجع إلى أصحابي، فمثبّط عنك. فأتى دريد أصحابه، و قال: إن فارس الظعينة قد حماها، و قتل فوارسكم، و انتزع رمحي، و لا طمع لكم فيه.
فانصرف القوم. و قال دريد في ذلك:
ما إن رأيت و لا سمعت بمثله *** حامي الظعينة فارسا لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة *** ثم استمرّ كأنه لم يفعل(3)
متهلل تبدو أسرّة وجهه *** مثل الحسام جلته كف الصيقل(4)
يزجي ظعينته و يسحب رمحه *** متوجها بمناه نحو المنزل(5)
و ترى الفوارس من مخافة رمحه *** مثل البغاث خشين وقع الأجدل(6)
يا ليت شعري من أبوه و أمه *** يا صاح من يك مثله لم يجهل!
فقال ربيعة:
ص: 313
إن كان ينفعك اليقين فسائلي *** عني الظعينة يوم وادي الأخرم
عل هي لأول من أتاها نهزة *** لو لا طعان ربيعة بن مكدم
/إذ قال لي أدنى الفوارس ميتة *** خلّ الظعينة طائعا لا تندم
فصرفت راحلة الظعينة نحوه *** عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
و هتكت بالرمح الطويل إهابه *** فهوى صريعا لليدين و للفم
و منحت آخر بعده جياشة *** نجلاء فاغرة كشدق الأضجم(1)
و لقد شفعتهما بآخر ثالث *** و أبى الفرار لي الغداة تكرمي
قال:
فلم يلبث بنو مالك بن كنانة رهط ربيعة بن مكدم، أن أغاروا على بني جشم رهط دريد، فقتلوا و أسروا و غنموا، و أسروا دريد بن الصمة، فأخفى نسبه. فبينا هو عندهم محبوس، إذ جاء نسوة يتهادين إليه. فصرخت امرأة منهنّ، فقالت: هلكتم و أهلكتم، ما ذا جرّ علينا قومنا؟ هذا و اللّه الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة. ثم ألقت عليه ثوبها و قالت: يا آل فراس، أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه من هو؟ فقال: أنا دريد بن الصمة، فمن(2) صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم، قال:(2) فما فعل؟ قالوا: قتله بنو سليم، قال: فمن الظعينة التي كانت معه؟ قالت المرأة: ريطة بنت جذل الطعان، و أنا هي، و أنا امرأته. فحبسه القوم، و امروا أنفسهم، و قالوا: لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد على صاحبنا. و قال بعضهم: و اللّه لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره.
و انبعثت المرأة في الليل، فقالت:
/سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة *** و كل فتى يجزى بما كان قدّما
فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه *** و إن كان شرا كان شرا مذمّما
سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة *** بإعطائه الرمح السديد المقوّما
فقد أدركت كفاه فينا جزاءه *** و أهل بأن يجزى الذي كان أنعما
/فلا تكفروه حق نعماه فيكم *** و لا تركبوا تلك التي تملأ الفما
فلو كان حيا لم يضق بثوابه *** ذراعا، غنيا كان أو كان معدما
ففكوا دريدا من إسار مخارق *** و لا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلما
فأصبح القوم فتعاونوا بينهم، فأطلقوه، و كسته ريطة و جهزته، و لحق بقومه. و لم يزل كافا عن غزو بني فراس حتى هلك.
ص: 314
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك، قال: حدّثني محمد بن يعقوب بن أبي مريم العدويّ(1) البصري، قال: حدّثني محمد بن عمر الأزدي، قال: حدّثني أبو البلاد(2) الغطفاني و قبيصة بن ميمون(3) الصادري، قالا:
سأل عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عمرو بن معد يكرب الزّبيدي: من أشجع من رأيت؟ فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين لأخبرنك عن أحيل(4) الناس، و عن أشجع الناس، و عن أجبن الناس. فقال له عمر: هات. فقال: أربعت المدينة، فخرجت كأحسن ما رأيت، و كانت لي فرس شمقمقة(5) طويلة سريعة الإبقاء(6)، تمطّق(7) بالعرق تمطق الشيخ/بالمرق، فركبتها، ثم آليت لا ألقي أحدا إلا قتلته. فخرجت و عليّ مقدّى(8)، فإذا أنا بفتى بين غرضين(9)، فقلت له: خذ حذرك، فإني قاتلك. فقال: و اللّه ما أنصفتني يا أبا ثور، أنا كما ترى أعزل أميل(10) عوّارة - و العوارة:
الذي لا ترس معه - فأنظرني حتى آخذ نبلي. فقلت: و ما غناؤها عنك؟ قال: أمتنع بها. قلت: خذها. قال: لا و اللّه أو تعطيني من العهود ما يثلجني أنك لا تروّعني حتى آخذها. فأثلجته، فقال: و إله قريش لا آخذها أبدا. فسلم و اللّه مني و ذهبت؛ فهذا أحيل الناس.
ثم مضيت حتى اشتمل عليّ الليل، فو اللّه إني لأسير في قمر زاهر(11)، كالنور الظاهر(12)، إذا بفتى على فرس يقود ظعينة، و هو يقول:
يا لدينا يا لدينا *** ليتنا يعدى علينا
ثم يبلى ما لدينا
ثم يخرج حنظلة من مخلاته، فيرمي بها في السماء، فلا تبلغ الأرض حتى ينظمها بمشقص(13) من نبله. فصحت به:
خذ حذرك ثكلتك أمك، فإني قاتلك. فمال عن فرسه فإذا هو في الأرض. فقلت: إن هذا إلا استخفاف. فدنوت منه، و صحت به: ويلك: ما أجهلك! فما تحلحل و لا زال عن موضعه، فشككت الرمح في إهابه، فإذا هو كأنه قد مات منذ سنة، فمضيت و تركته؛ فهذا أجبن الناس.
ص: 315
ثم مضيت فأصبحت بين دكادك(1) هرشى(2) إلى غزال(3)، فنظرت إلى أبيات، /فعدلت إليها، فإذا فيها جوار ثلاث، كأنهن نجوم الثريا. فبكين حين رأينني، فقلت: ما يبكيكن؟ فقلن: لما ابتلينا به منك، و من ورائنا أخت هي أجمل منا. فأشرفت من فدفد، فإذا بمن لم أر شيئا قط أحسن من وجهه، و إذا بغلام يخصف نعله، عليه ذؤابة يسحبها. فلما نظر إليّ وثب على الفرس مبادرا، ثم ركض، فسبقني إلى البيوت، فوجدهن قد ارتعن، فسمعته يقول لهن:
مهلا نسيّاتي إذن لا ترتعن *** إن يمنع اليوم نساء تمنعن
أرخين أذيال المروط و ارتعن(4)
فلما دنوت منه، قال: أ تطردني أم اطردك؟ قلت: أطردك. فركض و ركضت في أثره، حتى إذا مكنت السنان(5) في لفتته - و اللفتة أسفل من الكتف - اتكأت عليه، فإذا هو و اللّه مع/لبب(6) فرسه، ثم استوى في سرجه. فقلت: أقلني.
قال: اطرد. فتبعته حتى إذا ظننت أن السنان في ماضغيه اعتمدت عليه، فإذا هو و اللّه قائم على الأرض، و السنان ماض زالج. و استوى على فرسه، فقلت: أقلني. قال: اطرد. فطردته، حتى إذا مكنت السنان في متنه، اتكأت عليه و أنا أظن أني قد فرغت منه، فمال في ظهر فرسه(7) حتى نظرت إلى يديه(8) في الأرض، و مضى السنان زالجا. ثم استوى و قال: أبعد ثلاث؟ تريد ما ذا؟ اطردني ثكلتك أمك. فوليت و أنا مرعوب منه. فلما غشيني و وجدت حسن السنان، التفت فإذا هو يطردني بالرمح بلا سنان، /فكف عني و استنزلني، فنزلت و نزل، فجز ناصيتي، و قال:
انطلق، فإني أنفس بك عن القتل. فكان ذلك و اللّه يا أمير المؤمنين عندي أشد من الموت؛ فذاك أشجع من رأيت.
و سألت عن الفتى، فقيل: ربيعة بن مكدم الفراسي، من بني كنانة.
و قد أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري هذا الخبر و فيه خلاف للأول. قال: حدّثنا عمر بن شبة، قال:
حدّثني محمد بن موسى الهذلي، قال: حدّثني سكين بن محمد، قال:
دخل عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فقال له: يا أبا ثور، من أين أقبلت؟ قال:
من عند سيد بني مخزوم، أعظمها هامة، و أمدّها قامة، و أقلها ملامة، و أفضلها حلما، و أقدمها سلما، و أجرؤها مقدما. قال: و من هو؟ قال: سيف اللّه و سيف رسوله(9)، قال: و أيّ شيء صنعت عنده؟ قال: أتيته زائرا، فدعا لي بكعب و قوس و ثور(10). فقال عمر: و أبيك إن في هذا لشبعا. قال: لي أو لك يا أمير المؤمنين؟ قال: لي و لك. قال
ص: 316
له: فو اللّه إني لآكل الجذعة، و أشرب التّبن من اللبن رثيئة و(1) صرفا، فلم تقول هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر:
أي أحياء قومك خير؟ قال: مذحج، و كل قد كان فيه خير، شداد فوارسها، فوارس أبطالها، أهل الربا و الرباح(2).
قال عمر: و أين سعد العشيرة؟ قال: هم أشدنا شريسا، /و أكثرنا خميسا(3)، و أكرمنا رئيسا، و هم الأوفياء البررة، المساعير(4) الفجرة. قال عمر: يا أبا ثور، أ لك علم بالسلاح؟ قال: على الخبير سقطت، سل عما بدا لك. قال:
أخبرني عن النّبل. قال: منايا تخطئ و تصيب. قال: فأخبرني عن الرمح قال: أخوك و ربما خانك. قال: فأخبرني عن التّرس. قال: ذاك مجنّ و عليه تدور الدوائر. قال: أخبرني عن الدرع. قال: مشغلة للفارس، متعبة للراجل.
قال: أخبرني عن السيف. قال: عنه قارعتك(5) لأمك الهبل، قال: لا، بل لأمك. قال عمرو: بل لأمك، فرفع عمر الدّرّة، فضرب بها عمرا، و كان عمرو محتبيا، فانحلت حبوته، فاستوى قائما، و أنشأ يقول:
أ تضربني كأنك ذو رعين *** بخير معيشة أو ذو نواس(6)
فكم ملك قديم قد رأينا *** و عز ظاهر الجبروت قاسي(7)
فأضحى أهله بادوا و أضحى *** ينقّل من أناس في أناس(8)
/قال: صدقت يا أبا ثور، و قد هدم ذلك كله الإسلام، أقسمت عليك لما جلست. فجلس. فقال له عمر: هل كععت(9) من فارس قط ممن لقيت؟ قال:
اعلم يا أمير المؤمنين، أني لم أستحل الكذب في الجاهلية، فكيف أستحله في الإسلام؟ و لقد قلت لجبهة من خيلي، خيل بني زبيد، أغيروا بنا على بني البكّاء. فقالوا: بعيد علينا المغار. فقلت: فعلى بني مالك بن كنانة، قال: فأتينا على/قوم سراة. فقال عمر: ما علمك بأنهم سراة. قال: رأيت مزاود خيلهم كثيرة، و قدورا مثفّاة(10)، و قباب أدم، فعرفت أن القوم سراة. فتركت خيلي حجرة(11)، و جلست في موضع أتسمع كلامهم، فإذا بجارية منهم
ص: 317
قد خرجت من خيمتها، فجلست بين صواحب لها، ثم(1) دعت وليدة من ولائدها، فقالت: ادعي فلانا. فدعت لها برجل من الحي، فقالت له: إن نفسي تحدّثني أن خيلا تغير على الحي، فكيف أنت إن زوجتك نفسي؟ فقال: أفعل و أصنع، و جعل يصف نفسه فيفرط. فقالت له: انصرف حتى أرى رأيي. و أقبلت على صواحباتها، فقالت: ما عنده خير، ادعى لي فلانا. فدعت بآخر. فخاطبته بمثل ما خاطبت به صاحبه، فأجابها بنحو جوابه، فقالت له: انصرف حتى أرى رأيي. و قالت لصواحباتها: و لا عند هذا خير أيضا. ثم قالت للوليدة ادعي لي ربيعة بن مكدّم. فدعته، فقالت له مثل قولها للرجلين، فقال لها: إن أعجز العجز وصف المرء نفسه، و لكني إذا لقيت أعذرت، و حسب المرء غناء أن يعذر. فقالت له: قد زوّجتك نفسي، فاحضر غدا مجلس الحي، ليعلموا ذلك. فانصرف من عندها، و انتظرت حتى ذهب الليل، و لاح الفجر، فخرجت/من مكمني، و ركبت فرسي، و قلت لخيلي: أغيري، فأغارت، و تركتها و قصدت نحو النسوة و مجلسهن، فكشفت عن خيمة المرأة، فإذا أنا بامرأة تامة الحسن. فلما ملأت بصرها مني، أهوت إلي درعها فشقته و قالت: وا ثكلاه؟ و اللّه ما أبكي على مال و لا تلاد، و لكن على أخت من وراء هذا القوز(2)، تبقى بعدي في مثل هذا الغائط، فتهلك ضيعة، و أومأت بيدها إلى قوز رمل إلى جانبهم. فقلت:
هذه غنيمة من وراء غنيمة. فدفعت فرسي حتى أوفيت على الأيفاع، فإذا أنا برجل جلد نجد، أهلب(3) أغلب، يخصف نعله، و إلى جنبه فرسه و سلاحه. فلما رآني رمى بنعله، ثم استوى على فرسه، و أخذ رمحه، و مضى و لم يحفل بي. فطفقت أشجره بالرمح خفقا(4)، و أقول له: يا هذا استأسر(5). فمضى ما يحفل بي، حتى أشرف على الوادي. فلما رأى الخيل تحوي إبله استعبر باكيا، و أنشأ يقول:
قد علمت إذ(6) منحتني فاها *** أني سأحوي اليوم من حواها
بل ليت(7) شعري اليوم من دهاها
فأجبته:
عمرو على طول الوجى(8) دهاها *** بالخيل يحميها على وجاها(9)
حتى إذا حل بها احتواها(10)
فحمل عليّ و هو يقول:
ص: 318
أهون بنضر العيش في دار ندم *** أفيض دمعا كلما فاض انسجم
أنا ابن عبد اللّه(1) محمود الشيم *** مؤتمن الغيب و فيّ بالذمم
أكرم(2) من يمشي بساق و قدم *** كالليث إن هم بتقصام قصم
فحملت عليه و أنا أقول:
أنا ابن ذي التقليد في الشهر الأصمّ *** أنا ابن ذي الإكليل قتال البهم(3)
من يلقني يود كما أودت إرم *** أتركه لحما على ظهر وضم(4)
/و حمل علي و هو يقول:
هذا حمى قد غاب عنه ذائده *** الموت ورد و الأنام وارده
و حمل علي فضربني، فرغت و أخطأني، فوقع سيفه في قربوس(5) السرج، فقطعه و ما تحته، حتى هجم على مسح الفرس. ثم ثنّى بضربة أخرى، فرغت و أخطأني، فوقع سيفه على مؤخر السرج فقطعه حتى وصل إلى فخذ الفرس، و صرت راجلا. /فقلت: ويحك! من أنت؟ فو اللّه ما ظننت أحدا من العرب يقدم عليّ إلا ثلاثة: الحارث بن ظالم، للعجب و الخيلاء؛ و عامر بن الطفيل للسن و التجربة؛ و ربيعة بن مكدم للحداثة و الغرّة، فمن أنت ويلك؟ قال: بل الويل لك، فمن أنت؟ قلت: عمرو بن معد يكرب، قال: و أنا ربيعة بن مكدم. قلت: يا هذا، إني قد صرت راجلا، فاختر مني إحدى ثلاث، إن شئت اجتلدنا بسيفينا حتى يموت الأعجز، و إن شئت اصطرعنا، فأينا صرع صاحبه حكم فيه؛ و إن شئت سالمتك و سالمتني. قال: الصلح إذن إن كان لقومك فيك حاجة، و ما بي أيضا على قومي هوان. قلت: فذاك لك. و أخذت بيده، حتى أتيت أصحابي، و قد حازوا نعمه، فقلت: هل تعلمون أني كععت عن فارس قطّ من الأبطال إذا لقيته؟ قالوا: نعيذك من ذاك. قال: قلت: فانظروا هذا النعم الذي حزتموه، فخذوه مني غدا في بني زبيد، فإنه نعم هذا الفتى، و اللّه لا يوصل إلى شيء منه و أنا حيّ. فقالوا لحاك اللّه فارس قوم! أشقيتنا(6) حتى إذا هجمنا على الغنيمة الباردة فثأتنا(7) عنها. قال: قلت إنه لا بد لكم من ذلك، و أن تهبوها لي و لربيعة بن مكدم. فقالوا: و إنه لهو؟ قلت: نعم. فردوها و سالمته، فأمن حربي و أمنت حربه حتى هلك.
و في بعض هذه الأراجيز التي جرت بين عمرو بن معد يكرب و ربيعة بن مكدم غناء، نسبته، و قد جمع شعراهما معا في لحن واحد، و هو:
ص: 319
أنا ابن ذي التقليد في الشهر الأصمّ *** أنا ابن عبد اللّه قتّال البهم
أكرم من يمشي بساق و قدم *** من يلقني يود كما أودت إرم
أتركه لحما على ظهر و ضم *** كالليث إن همّ بتقصام قصم
مؤتمن الغيب و فيّ بالذمم
ذكر أحمد بن يحيى المكي: أن الغناء في هذا الشعر لحنين، خفيف ثقيل، بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و ذكر الهشاميّ أنه لابن سرجيس الملقب بقراريط.
حدّثني قمرية العمرية جارية عمرو بن بانة، أنها أخذت عن أحمد بن العلاء هذا اللحن، فقال لها: انظري أيّ صوت أخذت، فو اللّه لقد أخذته عن مخارق، فلما استوى لي قال لي مخارق: انظر أي صوت أخذت، فو اللّه لقد أخذته عن يحيى المكي، فلما غنيته الرشيد أطربه، فوهب ليحيى عشرة آلاف درهم.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدّثني محمد بن الحسن الأحول، عن الطّرسوسيّ، عن ابن الأعرابيّ، قال:
أجود بيت و صفت به الطعنة قول أهبان بن عادياء قاتل ربيعة بن مكدم، حيث يقول:
و لقد طعنت ربيعة بن مكدم *** يوم الكديد فخرّ غير موسّد
في ناقع شرقت بما في جوفه *** منه بأحمر كالعقيق المجسد
صوت(1)
أدركت ما منيت نفسي خاليا *** للّه درك يا ابنة النعمان!
إني لحلفك بالصليب مصدق *** و الصّلب(2) أصدق حلفة الرهبان
و لقد رددت على المغيرة ذهنه *** إن الملوك بطيئة الإذعان
يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي *** و الصدق خير مقالة الإنسان
الشعر للمغيرة بن شعبة الثقفي، يقوله في هند بنت النعمان بن المنذر، و قد خطبها فردّته. و خبره في ذلك و غيره يذكرها هنا إن شاء اللّه. و الغناء لحنين، ثاني ثقيل بالبنصر، عن الهشاميّ و إبراهيم.
ص: 320
هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسيّ، و هو ثقيف. و يكنى أبا عبد اللّه. و كان يكنى أبا عيسى، فغيرها عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، و كناه أبا عبد اللّه.
و أمّه أسماء بنت الأفقم بن أبي عمرو بن ظويلم بن جعيل بن عمرو بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن.
و كان المغيرة بن شعبة من دهاة العرب و حزمتها، و ذوي الرأي منها، و الحيل الثاقبة، و كان يقال له في الجاهلية و الإسلام مغيرة الرأي، و كان يقال: ما اعتلج في صدر المغيرة أمران إلا اختار أحزمهما.
و صحب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و شهد معه الحديبية و ما بعدها. و بعثه أبو بكر رضي اللّه عنه إلى أهل النّجير(1). و شهد فتح اليمامة و فتوح الشام. و كان أعور، أصيبت عينه في يوم اليرموك، و شهد القادسية مع سعد بن أبي وقّاص. فلما أراد مراسلة رستم، لم يجد في العرب أدهى منه و لا أعقل، فبعث به إليه، و كان السفير بينهما حتى وقعت الحرب.
و ولاه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عدّة ولايات، إحداها البصرة. ففتح و هو واليها ميسان و دست ميسان و أبر قباذ. و قاتل الفرس بالمرغاب فهزمهم، و نهض إلى من كان بسوق الأهواز، فقاتلهم و هزمهم، و فتحها(2).
و انحازوا إلى نهر تيرى و مناذر الكبرى، فزحف إليهم، فقاتلهم و هزمهم و فتحها. و خرج/إلى المشرق مع النعمان بن المقرّن، و كان المغيرة على(3) مسيرته، و كان عمر قد عهد: إن هلك النعمان، فالأمير حذيفة، فإن هلك حذيفة، فالأمير المغيرة بن شعبة.
و لما فتحت نهاوند، سار المغيرة في جيش إلى همذان ففتحها.
و ولاه عمر رضي اللّه عنه بعد ذلك الكوفة، فقتل عمر و هو و اليها. و ولاه أيضا إياها معاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عنه، فكان عليها إلى أن مات بها.
و هو أوّل من وضع ديوان الإعطاء بالبصرة، و رتب الناس فيه. فأعطاهم على الديوان. ثم صار ذلك رسما لهم بعد ذلك يحتذونه.
ص: 321
قال محمد بن سعد كاتب الواقديّ: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدّثني محمد بن سعيد الثقفيّ، و عبد الرّحمن بن(1) عبد العزيز و عبد الملك بن عيسى الثقفيّ و عبد اللّه بن عبد الرّحمن(1) بن يعلى بن كعب، و محمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه و غيرهم، قالوا: قال المغيرة بن شعبة:
كنا قوما من العرب متمسكين بديننا، و نحن سدنة اللات، فأراني لو رأيت قوما قد أسلموا ما تبعتهم.
فأجمع(2) نفر من بني مالك الوفود(2) على المقوقس، و أهدوا له هدايا. فأجمعت الخروج معهم. فاستشرت عمي عروة بن مسعود، فنهاني، و قال لي: ليس معك من بني أبيك أحد. فأبيت إلا الخروج، و خرجت معهم، و ليس معهم أحد من الأحلاف غيري، حتى دخلنا الإسكندرية، فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر. فركب قاربا حتى حاذيت مجلسه، فنظر إليّ فأنكرني، و أمر من يسائلني ما أنا(1)؟ و ما أريد؟ فسألني المأمور، فأخبرته بأمرنا، /و قدومنا عليه. فأمر بنا أن ننزل في الكنيسة، و أجرى علينا ضيافة. ثم دعا بنا، فنظر إلى رأس بني مالك، فأدناه إليه، و أجلسه معه، ثم سأله: أكل القوم من بني مالك؟ فقال: نعم، إلا رجلا واحدا من الأحلاف. فعرّفه إياي، فكنت أهون القوم عليه. و وضعوا هداياهم بين يديه، فسرّبها، و أمر بقبضها. و أمر لهم بجوائز، و فضل بعضهم على بعض، و قصّر بي، فأعطاني شيئا قليلا لا ذكر له.
و خرجنا، فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم(2) و هم مسرورون، و لم يعرض عليّ أحد منهم مواساة.
و خرجوا، و حملوا معهم خمرا، فكانوا يشربون منها و أشرب معهم، و نفسي تأبى أن تدعني معهم. و قلت: ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا(3) و ما حباهم به الملك، و يخبرون قومي بتقصيره بي، و ازدرائه إياي. فأجمعت على قتلهم.
فقلت: أنا أجد صداعا، فوضعوا شرابهم و دعوني. فقلت: رأسي يصدّع، و لكني أجلس و أسقيكم، فلم ينكروا شيئا، و جلست أسقيهم و أشرب القدح بعد القدح. فلما دبّت الكأس فيهم، اشتهوا الشراب، فجعلت أصرّف لهم و أترع الكأس، فيشربون و لا يدرون. فأهمدتهم(4) الكأس، حتى ناموا ما يعقلون. فوثبت إليهم، فقتلتهم جميعا، و أخذت جميع ما كان معهم.
فقدمت على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فوجدته جالسا في المسجد مع أصحابه، و على ثياب السفر، فسلمت بسلام الإسلام.
فنظر إليّ أبو بكر بن أبي قحافة، و كان بي عارفا، فقال: ابن أخي عروة؟ قلت: نعم، جئت أشهد أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: الحمد للّه الذي هداك إلى الإسلام. /فقال أبو بكر رضي اللّه عنه:
أ فمن مصر أقبلتم؟ قلت: نعم. قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قلت: كان بيني و بينهم بعض ما يكون بين العرب و نحن على دين الشرك، فقتلتهم و أخذت أسلابهم، و جئت بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليخمسها، و يرى فيها
ص: 322
رأيه، فإنما هي غنيمة من مشركين و أنا مسلم مصدّق بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أما إسلامك فنقبله(1)، و لا نأخذ من أموالهم شيئا، و لا نخمسها(1)، لأن هذا غدر، و الغدر لا خير فيه. فأخذني ما قرب و ما بعد، و قلت: يا رسول اللّه، إنما قتلتهم و أنا على دين قومي، ثم أسلمت حين دخلت عليك الساعة. قال: فإن الإسلام(1)/يجبّ ما كان قبله. و كان قتل منهم ثلاثة عشر إنسانا. فبلغ ذلك ثقيفا بالطائف، فتداعوا للقتال، ثم اصطلحوا على أن يحمل عمي عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية.
قال المغيرة: و أقمت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حتى اعتمر عمرة الحديبية، في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فكانت أوّل سفرة خرجت معه فيها، و كنت أكون مع أبي بكر، و ألزم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فيمن يلزم.
و بعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فأتاه يكلمه، و جعل يمس لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا قائم على رأسه، مقنّع في الحديد. فقلت لعروة، و هو يمس لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: اكفف يدك قبل ألا تصل إليك.
فقال عروة: يا محمد، من هذا؟ ما أفظّه و أغلظه! فقال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. فقال عروة: يا عدوّ اللّه، ما غسلت عني سوأتك إلا بالأمس، يا غدر.
أخبرني محمد بن خلف، قال: حدّثني أحمد(2) بن الهيثم الفراسي، قال: حدّثنا العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال: قال المغيرة بن شعبة:
أوّل ما عرفني به العرب من الحزم(3) و الدهاء، أني كنت في ركب من قومي، في طريق لنا إلى الحيرة. فقالوا لي: قد اشتهينا الخمر، و ما معنا إلا درهم زائف. فقلت: هاتوه و هلمّوا زقّين. فقالوا: و ما يكفيك لدرهم زائف زق واحد؟ فقلت: أعطوني ما طلبت و خلاكم ذم، ففعلوا و هم يهزءون بي. فصببت في أحد الزقين شيئا من ماء، ثم جئت إلى خمار، فقلت له: كل لي ملء هذا الزق. فملأه. فأخرجت الدرهم الزائف، فأعطيته إياه، فقال لي: ما هذا؟ ويحك! أ مجنون أنت؟ فقلت: مالك؟ قال: إن ثمن هذا الزق عشرون درهما جيادا، و هذا درهم زائف.
فقلت: أنا رجل بدويّ، و ظننت أن هذا يصلح كما ترى، فإن صلح، و إلا فخذ شرابك. فاكتال مني ما كاله، و بقي في زقي من الشراب بقدر ما كان فيه من الماء، فأفرغته في الزق الآخر، و حملتهما على ظهري، و خرجت، و صببت في الزق الأوّل ماء.
و دخلت إلى خمار آخر، فقلت: إني أريد ملء هذا الزق خمرا، فانظر إلى ما معي منه، فإن كان عندك مثله فأعطني. فنظر إليه، و إنما أردت ألا يستريب بي إذا رددت الخمر عليه. فلما رآه قال: عندي أجود منه. قلت:
هات. فأخرج لي شرابا، فاكتلته في الزق الذي فيه الماء. ثم دفعت إليه الدرهم الزائف، فقال لي مثل قول صاحبه.
ص: 323
فقلت: خذ خمرك. فأخذ ما كان كاله لي، و هو يرى أني خلطته بالشراب الذي أريته إياه. و خرجت فجعلته مع الخمر الأوّل.
/و لم أزل أفعل ذلك بكل خمار في الحيرة، حتى ملأت زقي الأوّل و بعض الآخر. ثم رجعت إلى أصحابي، فوضعت الزقين بين أيديهم، و رددت درهمهم. فقالوا لي: ويحك! أيّ شيء صنعت؟ فحدّثتهم، فجعلوا يعجبون.
و شاع لي الذكر في العرب بالدهاء حتى اليوم.
قال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن معاوية النيسابوري، قال: حدّثنا داود بن خالد، عن العباس بن عبد اللّه بن معبد(1) بن العباس، قال:
أوّل من خضب بالسواد المغيرة بن شعبة. خرج على الناس و كان عهدهم به أبيض الشعر، فعجب الناس منه.
قال محمد: و أخبرني شهاب بن عباد، قال: حدّثنا إبراهيم بن حميد الرّواسي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي خازم، عن المغيرة بن شعبة، قال:
كنت جالسا عند/أبي بكر، إذ عرض عليه فرس له، فقال له رجل من الأنصار: احملني عليها. فقال أبو بكر:
لأن أحمل عليها غلاما قد ركب الخيل على غرلته(2)، أحب إليّ من أن أحملك عليها. فقال له الأنصاري: أنا خير منك و من أبيك. قال المغيرة: فغضبت لما قال ذلك لأبي بكر رضي اللّه عنه، فقمت إليه، فأخذت برأسه، فركبته، و سقط على أنفه، فكأنما كان عزالي(3) مزادة. فتوعدني الأنصار أن يستقيدوا مني، فبلغ ذلك أبا بكر. فقام فقال:
أما بعد. فقد بلغني عن رجال منكم زعموا أني مقيدهم من المغيرة. و و اللّه لأن أخرجهم من دارهم، أقرب إليهم من أن أقيدهم [من] وزعة اللّه(4) الذين يزعون إليه.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ و حبيب بن نصر المهلّبي، قالا: حدّثنا عمر بن شبة، قال: حدّثنا محمد بن سلام الجمحي، قال: حدّثنا حسان بن العلاء الرياحيّ، عن أبيه، عن الشعبي، قال:
ركب المغيرة بن شعبة إلى هند بنت النعمان بن المنذر، و هي بدير هند(5)، منتصرة عمياء، بنت تسعين سنة.
فقالت له: من أنت؟ قال: أنا المغيرة بن شعبة. قالت: أنت عامل هذه المدرة؟ تعني الكوفة. قال: نعم. قالت:
فما حاجتك؟ قال: جئتك خاطبا إليك نفسك. قالت: أما و اللّه لو كنت جئت تبغي جمالا أو دينا أو حسبا لزوّجناك، و لكنك أردت أن تجلس في موسم من مواسم العرب، فتقول: تزوّجت بنت النعمان بن المنذر؛ و هذا و الصليب أمر
ص: 324
لا يكون أبدا، أ و ما يكفيك فخرا أن تكون في ملك النعمان و بلاده، تدبرهما كما تريد! و بكت.
فقال لها: أي العرب كان أحب إلى أبيك. قالت: ربيعة. قال: فأين كان يجعل قيسا؟ قالت: ما كان يستعتبهم من طاعة(1). قال: فأين كان يجعل ثقيفا؟ قالت: رويدا لا تعجل. بينا أنا ذات يوم جالسة في خدر لي، إلى جنب أبي، إذ دخل عليه رجلان، أحدهما من هوازن، و الآخر من بني مازن، كل واحد منهما يقول: إن ثقيفا منا، فأنشأ أبي يقول(2):
/إن ثقيفا لم يكن هوازنا *** و لم يناسب عامرا و مازنا
إلا قريبا فانشر(3) المحاسنا
فخرج المغيرة و هو يقول:
أدركت ما منيت نفسي خاليا *** للّه درك يا ابنة النعمان!
و ذكر الأبيات التي مضت، و ذكرت الغناء فيها.
أخبرني محمد بن خلف، قال: أخبرنا الحارث بن محمد، قال: قال أبو عبيدة: قال العلاء بن جرير العنبري:
بينا حسان بن ثابت ذات يوم جالس بالخيف من منّى و هو يومئذ مكفوف، إذ زفر زفرة، ثم أنشأ يقول:
و كأن حافرها بكل خميلة *** صاع يكيل به شحيح معدم
عاري الأشاجع من ثقيف أصله *** عبد و يزعم أنه من يقدم(4)
قال: و المغيرة بن شعبة يسمع ما يقول، فبعث إليه بخمسة آلاف درهم. فلما أتاه بها الرسول قال: من بعث بهذه؟ قال: المغيرة بن شعبة، سمع ما قلت. فقال: وا سوأتاه! و قبلها.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل العتكي(5)، قال حدثنا محمد بن سلام الجمحيّ، قال:
أحصن المغيرة بن شعبة إلى أن مات ثمانين امرأة، فيهن ثلاث بنات لأبي/سفيان بن حرب، و فيهن حفصة بنت سعد بن أبي وقاص، و هي أم ابنة حمزة بن المغيرة، و عائشة بنت جرير بن عبد اللّه.
ص: 325
و قال أبو اليقظان:
صلى المغيرة بالناس سنة أربعين، في العام الذي قتل فيه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. فجعل يوم الأضحى يوم عرفة، أظنه خاف أن يعزل، فسبق ذلك. فقال الراجز:
سيري رويدا و ابتغى المغيرة *** كلفتها الإدلاج بالظهيره
قال: و كان المغيرة مطلاقا. فكان إذا اجتمع عنده أربع نسوة قال: إنكن لطويلات الأعناق، كريمات الأخلاق، و لكني رجل مطلاق، فاعتددن.
و كان يقول: النساء أربع، و الرجال أربعة: رجل مذكّر و امرأة مؤنّثة، فهو قوّام عليها؛ و رجل مؤنّث و امرأة مذكّرة، فهي قوامة عليه؛ و رجل مذكر و امرأة مذكرة، فهما كالوعلين ينتطحان؛ و رجل مؤنث و امرأة مؤنثة، فهما لا يأتيان بخير، و لا يفلحان.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا الأصمعيّ قال: حدثنا أبو هلال عن مطير(1) الوراق، قال: قال المغيرة بن شعبة:
نكحت تسعا و ثمانين امرأة، أو قال: أكثر من ثمانين امرأة، فما أمسكت امرأة منهن على حب؛ أمسكها لولدها، و لحسبها، و لكذا و لكذا.
قال أبو زيد: و بلغني أنهم ذكروا النساء عند المغيرة بن شعبة، فقال: أنا أعلمكم بهن: تزوجت ثلاثا و تسعين امرأة، منهن سبعون بكرا، فوجدت اليمانية كثوبك: أخذت بجانبه فاتبعك بقيته؛ و وجدت الرّبعية أمتك: أمرتها فأطاعتك؛ و وجدت المضرية قرنا ساورته، فغلبته أو غلبك.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن زيد بن أسلم:
أن رجلا جاء فنادى يستأذن لأبي عيسى، على أمير المؤمنين. فقال عمر: أيكم أبو عيسى؟ قال المغيرة بن شعبة: أنا. فقال له عمر: هل لعيسى من أب؟ أ ما يكفيكم معاشر العرب أن تكتنوا بأبي عبد اللّه، و أبي عبد الرّحمن! فقال له رجل من القوم: أشهد أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كناه بها. فقال له عمر: إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قد غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، و أنا لا أدري ما يفعل بي. فكناه أبا عبد اللّه.
أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة، قال: حدثني عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ، قال:
/كان الجمال بالكوفة ينتهي إلى أربعة نفر: المغيرة بن شعبة؛ و جرير بن عبد اللّه، و الأشعث بن قيس، و حجر بن عديّ، و كلهم كان أعور؛ فكان المغيرة و الأشعث و جرير يوما متواقفين بالكوفة بالكناسة، فطلع عليهم أعرابي. فقال لهم المغيرة: دعوني أحركه. قالوا: لا تفعل، فإن للأعراب جوابا يؤثر. قال: لا بدّ. قالوا: فأنت أعلم. قال له: يا أعرابي، هل تعرف المغيرة بن شعبة؟ قال: نعم أعرفه أعور زانيا. فوجم. ثم تجلد فقال: هل /تعرف الأشعث بن قيس؟ قال: نعم، ذاك رجل لا يعرى قومه(1). قال: و كيف ذاك؟ قال: لأنه حائك ابن حائك.
قال: فهل تعرف جرير بن عبد اللّه؟ قال: و كيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته. قالوا له: قبحك اللّه، فإنك شر جليس، فهل تحب أن نوقر لك بعيرك هذا مالا و تموت أكرم العرب؟ قال: فمن يبلغه أهلي إذن؟ فانصرفوا عنه و تركوه.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني أبو سعيد السكريّ، قال: حدثنا محمد بن أبي السريّ - و اسم أبي السريّ سهل بن سلام الأزدي - قال: حدثني هشام بن محمد قال: أخبرنا عوانة بن الحكم، قال:
خرج المغيرة بن شعبة و هو على الكوفة يومئذ، و معه الهيثم بن الأسود النخعيّ، بعد غبّ مطر، يسير بظهر الكوفة و الحوف، فلقي ابن لسان(2) الحمّرة، أحد بني تيم اللّه بن ثعلبة، و هو لا يعرف المغيرة. فقال له المغيرة:
ص: 327
من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من/السماوة. قال: فكيف تركت الأرض خلفك؟ قال: عريضة أريضة(1). قال:
و كيف كان المطر؟ قال: عفّى الأثر، و ملأ الحفر. قال: ممن أنت؟ قال: من بكر بن وائل. قال: فكيف علمك بهم؟ قال: إن جهلتهم لم أعرف غيرهم. قال: فما تقول في بني شيبان؟ قال: سادتنا و سادة غيرنا. قال: فما تقول في بني ذهل؟ قال: سادة نوكى. قال: فقيس بن ثعلبة؟ إن جاورتهم سرقوك، و إن ائتمنتهم خانوك: قال: فبنو تيم اللّه بن ثعلبة؟ قال: رعاء البقر(2)، و عراقيب الكلاب. قال: فما تقول في بني يشكر؟ قال: صريح تحسبه مولى.
(قال هشام: لأن في ألوانهم حمرة). قال: فعجل؟ قال: أحلاس(3) الخيل. قال: فحنيفة؟ قال: يطعمون الطعام، و يضربون الهام. قال: فعنزة! قال: لا تلتقي بهم الشفتان لؤما(4). قال: فضبيعة أضجم؟(5) قال: جدعا و عقرا(6).
قال: فأخبرني عن النساء. قال: النساء أربع: ربيع مربع، و جميع تجمع، و شيطان سمعمع، و غلّ لا يخلع(7).
قال: /فسّر. قال: أما الربيع المربع فالتي إذا نظرت إليها سرتك، و إذا أقسمت عليها أبرّتك؛ و أما التي هي جميع تجمع، فالمرأة تتزوجها و لها نشب، فتجمع نشبك إلى نشبها؛ و أما الشيطان السمعمع، فالكالحة في وجهك إذا دخلت، و المولولة في أثرك إذا خرجت؛ و أما الغل الذي لا يخلع، فبنت عمك السوداء القصيرة، الفوهاء الدميمة، التي قد نثرت لك بطنها، إن طلقتها ضاع ولدك، و إن أمسكتها فعلى جدع أنفك. فقال له المغيرة: بل أنفك. ثم قال له: ما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة؟ قال: أعور زنّاء. فقال الهيثم: فض اللّه فاك! ويلك! هذا الأمير المغيرة.
فقال: إنها كلمة و اللّه تقال. فانطلق به المغيرة إلى منزله، و عنده يومئذ أربع نسوة، و ستون أو سبعون أمة. قال له:
ويحك! هل يزني الحر و عنده مثل هؤلاء؟ ثم قال لهن المغيرة: ارمين إليه بحلاكن. ففعلن، فخرج الأعرابي بملء كسائه ذهبا و فضة.
أن المغيرة بن شعبة جاء إلى علي بن أبي طالب عليه السّلام، فقال له: أكتب إلى معاوية فولّه الشام، و مره بأخذ البيعة لك، فإنك إن لم تفعل و أردت عزله حاربك. فقال عليّ عليه السّلام: مٰا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً . فانصرف المغيرة و تركه. فلما كان من غد جاءه، فقال: إني فكرت فيما أشرت به عليك أمس، فوجدته خطأ، و وجدت رأيك أصوب. فقال له علي: لم يخف عليّ ما أردت؛ قد نصحتني في الأولى، و غششتني في الآخرة، و لكني و اللّه لا آتي أمرا أجد فيه فسادا لديني، طلبا لصلاح دنياي. فانصرف المغيرة.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني إبراهيم بن سعيد بن شاهين، قال: حدثني محمد بن يونس الشيرازي، قال: حدثني محمد بن غسان الضبيّ، قال: حدثني زاجر بن عبد اللّه الثقفي، مولى الحجاج بن يوسف، قال:
كان بين المغيرة بن شعبة و بين مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ تنازع، فضرع له المغيرة، و تواضع في كلامه، حتى طمع فيه مصقلة. و استعلى عليه، فشتمه. فقدمه المغيرة إلى شريح، و هو القاضي يومئذ، فأقام عليه البينة، فضربه الحد. فآلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها المغيرة بن شعبة ما دام حيا، و خرج إلى بني شيبان، فنزل فيهم إلى أن مات المغيرة. ثم دخل الكوفة، فتلقاه قومه، و سلموا عليه. فما فرغ من التسليم حتى سألهم عن مقابر ثقيف، فأرشدوه إليها. فجعل قوم من مواليه يلتقطون له الحجارة، فقال: ما هذا؟ قالوا: ظننا أنك تريد أن ترجم قبره. فقال: ألقوا ما في أيديكم. فألقوه، و انطلق حتى وقف على قبره، ثم قال: و اللّه لقد كنت ما علمت نافعا لصديقك، ضائرا(1)لعدوّك، و ما مثلك إلا كما قال مهلهل في أخيه كليب:
إن تحت الأحجار حزما و عزما *** و خصيما ألدّ ذا معلاق(2)
حية في الوجار أربد لا ين *** فع منه السليم نفث الراقي
/و أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان، عن أحمد بن القاسم، عن العمري، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبيّ:
أن مصقلة قال له: و اللّه إني لأعرف شبهي في عروة ابنك. فأشهد عليه بذلك، و جلده الحدّ. و ذكر باقي الخبر مثل الذي قبله.
قال رجل من قريش لعمر بن الخطاب رضوان اللّه عليه: أ لا تتزوج أم كلثوم بنت أبي بكر، فتحفظه بعد وفاته، و تخلفه في أهله. فقال عمر: بلى، إني لأحب ذاك؛ فاذهب إلى عائشة، فاذكر لها ذلك، و عد إلي بجوابها. فمضى الرسول إلى عائشة، فأخبرها بما قال عمر، فأجابته إلى ذلك، و قالت له: حبا و كرامة(1). و دخل إليها بعقب ذلك المغيرة بن شعبة، فرآها مهمومة. فقال لها: مالك يا أم المؤمنين؟ فأخبرته برسالة عمر، و قالت: إن هذه جارية حدثة، و أردت لها ألين عيشا من عمر. فقال لها: عليّ أن أكفيك. و خرج من عندها، فدخل على عمر، فقال:
بالرّفاء و البنين، قد بلغني ما أتيته من صلة أبي بكر في أهله، و خطبتك أم كلثوم. فقال: قد كان ذاك. قال: إلاّ أنك، يا أمير المؤمنين، رجل شديد الخلق على أهلك، و هذه صبية حديثة السن، فلا تزال تنكر عليها الشيء، فتضربها فتصيح: يا أبتاه! فيغمك ذلك، و تتألم له عائشة، و يذكرون أبا بكر، فيبكون عليه، فتجدد لهم المصيبة به، مع قرب عهدها في كل/يوم. فقال له: متى كنت عند عائشة(2)، و اصدقني؟ فقال: آنفا. فقال عمر: أشهد أنهم كرهوني، فتضمنت لهم أن تصرفني عما طلبت، و قد أعفيتهم. فعاد إلى/عائشة، فأخبرها بالخبر، و أمسك عمر من معاودتها.
حدّثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري و أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدّثنا عليّ بن محمد النوفلي، عن محمد بن سليمان الباقلاني، عن قتادة، عن غنيم بن قيس، قال:
كان المغيرة بن شعبة يختلف إلى امرأة من ثقيف يقال لها الرّقطاء، فلقيه أبو بكرة، فقال له: أين تريد؟ قال:
أزور آل فلان(3). فأخذ بتلابيبه، و قال: إن الأمير يزار و لا يزور.
و حدّثنا بخبره لما شهد عليه الشهود عند عمر رضي اللّه عنه، أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، و أحمد بن عبد العزيز، قالا: حدثنا عمر بن شبة، فرواه عن جماعة من رجاله، بحكايات متفرقة.
قال عمر بن شبة: حدثني أبو بكر العليمي، قال: أخبرنا هشام، عن عيينة بن عبد الرّحمن بن جوشن، عن أبيه، عن أبي بكرة.
قال عمر بن شبة: و حدّثنا عمرو بن عاصم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عليّ بن يزيد، عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة.
قال أبو زيد عمر بن شبة: و حدثنا عليّ بن محمد بن حباب بن موسى، عن مجالد، عن الشعبيّ.
قال: و حدثنا محمد بن عبد اللّه الأنصاريّ، قال: حدثنا عوف، عن قسامة بن زهير.
قال أبو زيد عمر بن شبة: قال الواقديّ: حدثنا عبد الرّحمن بن محمد بن أبي بكرة، عن أبيه، عن مالك بن أوس(4) بن الحدثان.
ص: 330
/قال: و حدّثني محمد بن الجهم، عن علي بن أبي هاشم، عن إسماعيل بن أبي عبلة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك:
أن المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار، و كان أبو بكرة يلقاه فيقول له: أين يذهب الأمير؟ فيقول: آتي حاجة. فيقول له: حاجة ما ذا؟ إن الأمير يزار و لا يزور.
قال: و كانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة. قال: فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أصحابه و أخويه نافع و زياد، و رجل آخر، يقال له شبل بن معبد، و كانت غرفة جارته تلك بحذاء غرفة أبي بكرة. فضربت الريح باب المرأة ففتحته. فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها. فقال أبو بكرة: هذه بلية ابتليتم بها، فانظروا. فنظروا حتى أثبتوا. فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنه قد كان من أمرك ما قد علمت، فاعتزلنا. قال: و ذهب ليصلي بالناس الظهر، فمنعه أبو بكرة، و قال له: لا و اللّه لا تصلي بنا و قد فعلت ما فعلت.
فقال الناس: دعوه فليصلّ، فإنه الأمير، و اكتبوا بذلكم إلى عمر. فكتبوا إليه، فورد كتابه بأن يقدموا عليه جميعا، المغيرة و الشهود.
و قال المدائني في حديثه عن حباب بن موسى: و بعث عمر بأبي موسى الأشعريّ على البصرة. و عزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة بن شعبة. قال: قال عليّ بن أبي هاشم(1) في حديثه: إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن يرحله من وقته: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين: نتركه يتجهز ثلاثا، ثم يخرج. قال: فصلينا صلاة الغداة بظهر المربد، و دخلنا المسجد، فإذا هم يصلون: الرجال و النساء مختلطين. فدخل رجل على المغيرة، فقال له: إني رأيت أبا موسى في جانب المسجد، عليه/برنس. فقال له المغيرة: ما جاء زائرا و لا تاجرا. فدخلنا(2)عليه و معه صحيفة ملء يده(3)، فلما رآنا(4) قال: الأمير؟ فأعطاه أبو موسى الكتاب. فلما قرأه ذهب يتحرك عن سريره. فقال له أبو موسى: مكانك، تجهز ثلاثا.
و قال الآخرون: إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته. فقال له المغيرة: لقد علمت ما وجهت فيه، فألا تقدمت فصليت. فقال له أبو موسى: ما أنا و أنت في هذا الأمر إلا سواء. فقال له/المغيرة: فإني أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز. فقال: قد عزم عليّ أمير المؤمنين ألا أضع عهدي من يدي إذا قرأته عليك، حتى أرحّلك إليه. قال: إن شئت شفّعتني و أبررت قسم أمير المؤمنين. قال: و كيف؟ قال: تؤجلني إلى الظهر، و تمسك الكتاب في يدك.
قالوا: فقد رئى أبو موسى يمشي مقبلا و مدبرا، و إن الكتاب لفي يده معلقا بخيط. فتجهز المغيرة، و بعث إلى أبي موسى بعقيلة، جارية عربية من سبي اليمامة، من بني حنيفة؛ و يقال إنها مولدة الطائف، و معها خادم لها. و سار المغيرة حين صلّى الظهر، حتى قدم على عمر. و قال في حديث محمد بن عبد اللّه الأنصاريّ: فلما قدم على عمر.
قال له: إنه قد شهد عليك بأمر إن كان حقا لأن تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك.
قال أبو زيد: و حدّثني الحكم بن موسى، قال: حدثنا يحيى بن حمزة، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة، عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن الأنصاريّ، عن مصعب بن سعد:
ص: 331
أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه جلس، و دعا المغيرة و الشهود. فتقدم أبو بكرة. فقال له: أ رأيته بين فخذيها، قال: نعم و اللّه، لكأني انظر إلى تشريم/جدريّ بفخذيها. فقال له المغيرة: لقد ألطفت النظر. فقال له:
لم آل أن أثبت ما يخزيك اللّه به؟ فقال له عمر: لا و اللّه حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه كما يلج المرود في المكحلة.
فقال: نعم أشهد على ذلك. فقال له: اذهب عنك مغيرة، ذهب ربعك.
ثم دعا نافعا فقال له: علام تشهد؟ قال: على مثل شهادة أبي بكرة. قال: لا، حتى تشهد أنه كان يلج فيه ولوج المرود في المكحلة. فقال: نعم حتى بلغ قذذه(1). فقال: اذهب عنك مغيرة، ذهب نصفك. ثم دعا الثالث.
فقال: علا م تشهد؟ فقال: على مثل شهادة صاحبيّ. فقال له عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: اذهب عنك مغيرة، ذهب ثلاثة أرباعك. قال: حتى مكث يبكي إلى المهاجرين، فبكوا. و بكى إلى أمهات المؤمنين، حتى بكين معه، و حتى لا يجالس هؤلاء الثلاثة أحد من أهل المدينة.
قال: ثم كتب إلى زياد، فقدم على عمر. فلما رآه جلس له في المسجد، و اجتمع إليه رءوس المهاجرين و الأنصار. قال المغيرة: و معي كلمة قد رفعتها لأكلم القوم. قال: فلما رآه عمر مقبلا قال: إني لأرى رجلا لن يخزي اللّه على لسانه رجلا من المهاجرين.
قال أبو زيد: و حدّثنا عفان، قال: حدّثنا السّريّ بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الكريم بن رشيد، عن أبي عثمان النهديّ، قال:
لما شهد عند عمر الشاهد الأوّل على المغيرة، تغير لذلك لون عمر. ثم جاء آخر فشهد، فانكسر لذلك انكسارا شديدا. ثم جاء رجل شابّ(2) يخطر بين يديه، فرفع/عمر رأسه إليه، و قال له: ما عندك يا سلح العقاب.
و صاح أبو عثمان صيحة تحكي صيحة عمر. قال عبد الكريم: لقد كدت أن يغشى عليّ.
و قال آخرون: قال المغيرة: فقمت إلى زياد، فقلت له: لا مخبأ لعطر بعد عروس. ثم قلت: يا زياد، اذكر اللّه، و اذكر موقف يوم القيامة؛ فإن اللّه و كتابه و رسوله و أمير المؤمنين قد حقنوا دمي، إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر ما رأيت، فلا يحملك شر منظر رأيته على أن تتجاوزه إلى ما لم تر، فو اللّه لو كنت بين بطني و بطنها ما رأيت أين سلك ذكري منها. قال: فترنقت عيناه، و احمرّ وجهه، و قال: يا أمير المؤمنين، أما أن أحقّ ما حق القوم فليس ذلك عندي؛ و لكني رأيت مجلسا قبيحا، و سمعت نفسا حثيثا و انبهارا، و رأيته متبطّنها. فقال له: أ رأيته يدخله كالميل في المكحلة. فقال: لا.
و قال غير هؤلاء: إن زيادا قال له: /رأيته رافعا برجليها، و رأيت خصيتيه تتردّدان بين فخذيها، و رأيت حفزا شديدا، و سمعت نفسا عاليا. فقال له: أ رأيته يدخله و يخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا. فقال عمر: اللّه أكبر. قم إليهم فاضربهم. فقام إلى أبي بكرة، فضربه ثمانين، و ضرب الباقين، و أعجبه قول زياد، و درأ عن المغيرة الرجم. فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: فإني أشهد أن المغيرة فعل كذا و كذا. فهم عمر بضربه، فقال له عليّ عليه السّلام: إن ضربته رجمت صاحبك. و نهاه عن ذلك.
ص: 332
قال: يعني أنه إن ضربه جعل شهادته بشهادتين، فوجب بذلك الرجم على المغيرة.
قال: و استتاب عمر أبا بكرة. فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي. قال: أجل. قال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا. قال: فلما ضربوا الحدّ/قال المغيرة: اللّه أكبر، الحمد للّه الذي أخزاكم. فقال له عمر: اسكت أخزى اللّه مكانا رأوك فيه(1). قال: و أقام أبو بكرة على قوله، و كان يقول: و اللّه ما أنسى رقط فخذيها. قال: و تاب الاثنان، فقبلت شهادتهما. قال: و كان أبو بكرة بعد ذلك إذا دعي إلى شهادة يقول: اطلب غيري، فإن زيادا قد أفسد عليّ شهادتي.
قال أبو زيد: و حدّثني سليمان بن داود بن عليّ، قال: حدّثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جدّه، قال:
لما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحت، و جعلت جلدها على ظهره. قال: فكان أبي يقول: ما ذلك ذاك إلا من ضرب شديد.
حدّثنا ابن عمار و الجوهريّ قالا: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا عليّ بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال:
كانت أم جميل بنت عمر، التي رمي بها المغيرة بن شعبة بالكوفة، تختلف إلى المغيرة في حوائجها، فيقضيها لها. قال: و واقفت عمر بالموسم و المغيرة هناك، فقال له عمر: أ تعرف هذه؟ قال: نعم؛ هذه أم كلثوم بنت عليّ(2). فقال: له عمر: أ نتجاهل عليّ؟ و اللّه ما أظن أبا بكرة كذب عليك، و ما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء.
حدّثني أحمد بن الجعد، قال: حدّثنا محمد بن عباد، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، قال:
/قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لئن لم ينته المغيرة لأتبعنه أحجاره. و قال غيره: لئن أخذت المغيرة لأتبعنه أحجاره.
أخبرني ابن عمار و الجوهريّ قالا: حدّثنا عمر بن شبة، قال: حدّثنا المدائني، قال:
قال حسان بن ثابت يهجو المغيرة بن شعبة في هذه القصة:
لو أن اللؤم ينسب كان عبدا *** قبيح الوجه أعور من ثقيف
تركت الدين و الإسلام لما *** بدت لك غدوة ذات النّصيف
و راجعت الصّبا و ذكرت عهدا *** من القينات و الغمز اللطيف(3)
ص: 333
أخبرني الجوهريّ و ابن عمار، قالا: حدّثنا عمر بن شبة، قال: حدّثنا المدائني عن عبد اللّه بن سلم الفهري، قال:
لما شخص المغيرة إلى عمر، رأى في طريقه جارية فأعجبته، فخطبها إلى أبيها. فقال له: أنت على هذه الحال؟ قال: و ما عليك؟ إن أعف، فهو الذي تريد؛ و إن أقتل ترثني. فزوّجه.
قال أبو زيد: قال الواقدي. تزوّجها بالرّقم(1). و هي امرأة من بني مرة. فلما قدم بها على عمر، قال: إنك لفارغ القلب، طويل الشّبق.
و قال محمد بن سعد: أخبرني محمد بن/عبد اللّه الأسديّ، قال: حدّثنا مسعر، عن زياد بن علاقة، قال:
سمعت جرير بن عبد اللّه حين مات المغيرة بن شعبة يقول: استغفروا لأميركم هذا، فإنه كان يحب العافية(2).
قال: و كان المغيرة أصهب الشعر جدا، أكشف، يفرق رأسه قرونا أربعة، أقلص الشفتين، مهتوما، ضخم الهامة، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين.
قال: و قال الواقديّ، حدّثني محمد بن موسى الثقفي، عن أبيه، قال: مات المغيرة بن شعبة بالكوفة سنة خمسين، في خلافة معاوية، و هو ابن سبعين سنة. و كان رجلا طوالا أعور، أصيبت عينه يوم اليرموك.
جنية و لها جن يعلمها *** رمى القلوب بقوس ما لها وتر
إن كان ذا قدرا يعطيك نافلة *** منا و يحرمنا، ما أنصف القدر
الشعر لمحمد بن بشير الخارجيّ، و الغناء لإبراهيم: هزج بالبنصر، عن الهشاميّ.
ص: 334
هو محمد بن بشير بن عبد اللّه بن عقيل بن أسعد بن حبيب بن سنان(1) بن عديّ بن عوف بن بكر بن يشكر بن عدوان الخارجيّ، من بني خارجة بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. و يقال لعدوان و فهم: ابنا جديلة، نسبا إلى أمهما جديلة بنت مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، و يكنى محمد بن بشير أبا سليمان؛ شاعر فصيح حجازيّ مطبوع، من شعراء الدولة الأموية. و كان منقطعا إلى أبي عبيدة بن عبد اللّه بن زمعة القرشي، أحد بني أسد بن عبد العزى، و هو جد ولد عبد اللّه بن الحسين بن الحسن، لأمهم هند بنت أبي عبيدة بن زمعة القرشيّ؛ ولدت لعبد اللّه محمدا و إبراهيم و موسى. و كانت لمحمد بن بشير فيه مدائح و مراث مختارة، و هي عيون شعره، و كان يبدو في أكثر زمانه، و يقيم في بوادي المدينة، و لا يكاد يحضر مع الناس.
أخبرني بقطعة من أخباره الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثني مصعب الزبيريّ. قال أحمد: و حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش(2) السعدي و عمي مصعب. و حدّثني بقطعة أخرى منها عيسى بن الحسن الوارق، عن الزبير، عن سليمان بن عياش. و قد ذكرت كل ذلك في مواضعه.
قال ابن أبي خيثمة في روايته عن مصعب و عن الزبير، عن سليمان بن عياش:
/كان الخارجيّ، و اسمه محمد بن بشير بن عبد اللّه بن عقيل بن سعد بن حبيب بن سنان بن عديّ بن عوف بن بكر، شاعرا فصيحا، و يكنى أبا سليمان. فقدم البصرة في طلب ميراث له بها، فخطب عائشة بنت يحيى بن يعمر الخارجية؛ من خارجة عدوان. فأبت أن تتزوجه إلا أن يقيم معها بالبصرة، و يترك الحجاز، و يكون أمرها في الفرقة إليها. فأبى أن يفعل، و قال في ذلك:
أرق الحزين و عاده سهده *** لطوارق الهم التي ترده(3)
و ذكرت من لانت له كبدي *** فأبى فليس تلين لي كبده
و نأى فليس بنازل بلدي *** أبدا، و ليس بمصلحي بلده(4)
ص: 335
فصدعت حين أبى مودته *** صدع الزجاجة دائم أبده
/و عرفت أن الطير قد صدقت *** يوم الكدانة شرّ ما تعده
فاصبر فإن لكل ذي أجل *** يوما يجيء فينقضي عدده
ما ذا تعاتب من زمانك إذ *** ظعن الحبيب و حل بي كمده(1)
قالا: و خاطب أباها يحيى بن يعمر في ذلك، فقال له: إنها امرأة برزة عاقلة، لا يفتات على مثلها بأمرها، و ما عندها عنك من رغبة، و لكنها امرأة في خلقها شدّة، و لها غيرة، و قد بلغني أن لك زوجتين، و ما أراها تصبر على أن تكون ثالثة لهما؛ فانظر في أمرك، و شاور فيه: فإما أن أقمت بالبصرة معها، فعفت لك عن/صاحبتيك، إذ لا مجاورة بينهما و بينها و لا عشرة، و إن شئت فارقتهما(2) و أخرجها معك. فصار إلى رحله مغموما. و شاور ابن عم له يقال له ورّاد بن عمرو في ذلك، فقال له: إن في يحيى بن يعمر لرغبة، لثروته و كثرة ماله، و ما ذكرته(3) من جمال ابنته، و ما نحب أن تفارق زوجتيك - و كانت إحداهما ابنة عمه، و الأخرى من أشجع - فتقيم معها السنة بالبصرة، و تمضي نحن(4)، فإن رغبت فيها تمسكت بها، و أقمت بمكانك، و إن رغبت في العود إلى بلدك، كتبت إلينا فجئناك، حتى تنصرف معنا إلى بلدك.
ففكر ليله أجمع في ذلك، ثم غدا عازما على الرجوع إلى الحجاز، و قال:
لئن أقمت بحيث الفيض في رجب *** حتى أهلّ به من قابل رجبا(5)
و راح في السّفر و راد فهيجني *** إن الغريب إذا هيجته طربا(6)
إن الغريب يهيج الحزن صبوته *** إذا المصاحب حياه و قد ركبا
قد قلت أمس لوارد و صاحبه *** عوجا على الخارجيّ اليوم و احتسبا(7)
و أبلغا أم سعد أنّ عانيها *** أعيا على شفعاء الناس فاجتنبا(8)
لما رأيت نجيّ القوم قلت لهم *** هل يعدونّ نجيّ القوم ما كتبا(9)
/و قلت إني متى أجلب شفاعتكم *** أندم و إنّ أشقّ الغيّ ما اجتلبا(10)
ص: 336
و إنّ مثلي متى يسمع مقالتكم *** و يعرف العين يندم قبل أن يجبا(1)
إني و ما كبّر الحجّاج تحملهم *** بزل المطايا بجنبي نخلة عصبا(2)
و ما أهلّ به الداعي و ما وقفت *** عليا ربيعة ترمى بالحصى الحصبا(3)
جهدا لمن ظن أني سوف أظعنها *** عن ربع غانية أخرى لقد كذبا(4)
أ أبتغي الحسن في أخرى و أتركها *** فذاك حين تركت الدين و الحسبا(5)
و ما انقضى الهم من سعدى و ما علقت *** مني الحبائل حتى رمتها حقبا(6)
و ما خلوت بها يوما فتعجبني *** إلا غدا أكثر اليومين لي عجبا(7)
بل أيها السائلي ما ليس يدركه *** مهلا فإنك قد كلفتني تعبا(8)
كم من شفيع أتاني و هو يحسب لي *** حسبا فأقصره من دون ما حسبا(9)
فإن يكن لهواها أو قرابتها *** حب قديم فما غابا و لا ذهبا
هما عليّ: فإن أرضيتها رضيا *** عني و إن غضبت في باطل غضبا
/كائن ذهبت فردّاني بكيدهما *** عما طلبت و جاءاها بما طلبا(10)
وفد ذهبت فلم أصبح بمنزلة *** إلا أنازع من أسبابها سببا
و يلمّها خلّة لو كنت مسجحة *** أو كنت ترجع من عصريك ما ذهبا
أنت الظعينة لا ترمى برمتها *** و لا يفجّعها ابن العم ما اصطحبا(11)
أخبرني عيسى بن الحسين، قال: حدّثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش السعدي، قال:
قدم أعراب من بني سليم أقحمتهم السنة إلى الرّوحاء، فخطب إلى بعضهم رجل من الموالي من أهل الروحاء، فزوّجه. فركب محمد بن بشير الخارجيّ إلى المدينة، و واليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن
ص: 337
هشام بن الوليد بن المغيرة، فاستعداه الخارجيّ على المولى. فأرسل إبراهيم إليه و إلى النفر السّلميين، و فرق بين المولى و زوجته، و ضربه مائتي سوط، و حلق رأسه و لحيته و حاجبيه. فقال محمد بن بشير في ذلك:
شهدت غداة خصم بني سليم *** وجوها من قضائك غير سود(1)
قضيت بسنة و حكمت عدلا *** و لم ترث الحكومة من بعيد
إذا غمز القنا وجدت لعمري *** قناتك حين تغمز خير عود
إذا عض الثّقاف بها اشمأزت *** أبيّ النفس بائنة الصعود(2)
حمى حدبا لحوم بنات قوم *** و هم تحت التراب أبو الوليد
و في المائتين للمولى نكال *** و في سلب الحواجب و الخدود
/إذا كافأتهم ببنات كسرى *** فهل يجد الموالي من مزيد
فأي الحق أنصف للموالي *** من اصهار العبيد إلى العبيد
حدّثني عمي(3)، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش، قال:
كان للخارجيّ عبد، و كان يتلطف له و يخدمه، حتى أعتقه و أعطاه مالا، فعمل به، و ربح فيه. ثم احتاج الخارجيّ بعد ذلك إلى معونة أو قرض في نائبة لحقته، فبعث إلى مولاه في ذلك، و قد كان المولى أثرى و اتسعت حاله، فحلف له أنه لا يملك شيئا، فقال الخارجيّ في ذلك:
يسعى لك المولى ذليلا مدقعا *** و يخذلك المولى إذا اشتدّ كاهله
فأمسك عليك العبد أوّل وهلة *** و لا تنفلت من راحتيك حبائله
و قال أيضا:
إذا افتقر المولى سعى لك جاهدا *** لترضى و إن نال الغنى عنك أدبرا
حدّثني عيسى بن الحسين(4)، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني سليمان بن عياش السعديّ، قال:
كان محمد بن بشير الخارجيّ بين زوجتين له، و كان يسكن الروحاء، فأجدب عليه منزله، فوجه غنما إلى سحابة وقعت برجفان، و هو جبل يطل على مضيق يليل، فشقت غيبتها عليه. فقال لزوجتيه: لو تحوّلتما إلى غنمنا.
فقالتا له: بل تذهب، فتطلع إليها، و تصرفها إلى موضع قريب، حتى نوافيك فيه. فمضى و زوّدتاه و طبين، و قالتا له: اجمع لنا اللبن، و وعدتاه موضعا من رجفان، يقال له/ذو القشع. فانطلق، /فصرف غنمه إلى ذلك الموضع،
ص: 338
ثم انتظرهما، فأبطأتا عليه. و خالفته سحابة إليهما، فأقامتا، و قالتا: يبلغ إلى غنمه ثم يأتينا. فجعل يصعد في الجبل و ينزل، يتبصرهما فلا يراهما. فبينما هو كذلك إذ أبصر امرأتين قد نزلتا(1)، فقال: أنزل فأتحدّث إليهما، فإذا هو بامرأة مسنة، و معها بنت لها شابة، فأعجبته، فقال لها: أ تزوّجينني ابنتك هذه؟ قالت: إن كنت كفؤا. فانتسب لها، فقالت: أعرف النسب و لا أعرف الوجه، و لكن يأتي أبوها. فجاء أبوها فعرفه، فأخبرته امرأته بما طلب. فقال:
نعم، و زوّجه إياها. فساق إليها قطعة من غنمه، ثم بنى بها، و انتظر، فلم ير زوجتيه تقدمان عليه، فارتحل إليهما بزوجته و بقية غنمه. فلما طلع عليهما وقف، فأخذ بيدها، ثم أنشأ يقول:
كأنى موف للهلال عشية *** بأسفل ذات القشع منتظر القطر
و أنتن تلبسن(2) الجديدة بعد ما *** طردت بطيّ الوطب في البلق و العفر
فكان الذي قلتنّ أعدد بضاعة *** لناهد بيضاء الترائب و النحر
كأنّ سموط الدر منها معلق *** بجيداء في ضال بوجرة أو سدر
تكون بلاغا ثم لست بمخبر *** إذا وديت لي ما وددتن من أمري
أخبرني الحسن(3) بن عليّ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثني مصعب، قال: حدّثني أحمد بن زهير؛ و حدّثني الزبير بن بكار، قال: حدّثني سليمان بن عياش، قالا:
/كان محمد بن بشير يتحدّث إلى امرأة من مزينة، و كان قومها قد جاوروهم، ثم جاء الربيع، و أخصبت بلاد مزينة، فارتحلوا، فقال محمد بن بشير:
لو بيّنت لك قبل يوم فراقها *** أن التفرّق من عشية أو غد
لشكوت إذ علق الفؤاد بهائم *** علق حبائل هائم لم يعهد
و تبرجت لك فاستبتك بواضح *** صلت و أسود في النصيف معقّد(4)
بيضاء خالصة البياض كأنها *** قمر توسط ليل صيف مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد *** إن الجمال مظنة للحسّد
لم يطغها سرف الشباب و لم تضع *** عنها معاهدة النصيح المرشد(5)
خود إذا كثر الكلام تعوّذت *** بحمى الحياء و إن تكلم تقصد
ص: 339
و كأن طعم سلافة مشمولة *** تنصبّ في إثر السواك الأغيد
و ترى مدامعها ترقرق مقلة *** حوراء ترغب عن سواد الإثمد
ما ذا إذا برزت غداة رحيلها *** م الحسن تحت رقاق تلك الأبرد(1)
ولدت بأسعد أنجم فمحلها *** و مسيرها أبدا بطلق الأسعد
اللّه يسعدها(2) و يسقي دارها *** خضل الرباب سرى و لما يرعد
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثني الزبير قال: حدّثني سليمان بن عياش، قال:
/صحب محمد بن بشير رفقة من قضاعة إلى مكة(3)، و كانت فيهم امرأة جميلة، فكان يسايرها و يحادثها. ثم خطبها إلى نفسها(4)، فقالت: لا سبيل إلى ذلك، لأنك لست لي/بعشير(5)، و لا جاري في بلدي، و لا أنا ممن تطمعه(6) رغبة عن بلده و وطنه. فلم يزل يحادثها و يسايرها(7) حتى انقضى الحج، ففرّق بينهما نزوعهما إلى أوطانهما، فقال الخارجيّ في ذلك:
أستغفر اللّه ربي من مخدّرة *** يوما بدا لي منها الكشح و الكتد
من رفقة صاحبونا في ندائهم *** كلّ حرام فما ذمّوا و لا حمدوا
حتى إذا البدن كانت في مناحرها *** يعلو المناسم منها مزبد جسد(8)
و حلّق القوم و اعتمّوا عمائمهم *** و احتل كل حرام رأسه لبد
أقبلت أسألها ما بال رفقتها *** و ما أبالي أغاب القوم أم شهدوا
فقربت لي و احلولت مقالتها *** و عوّقتني و قالت بعض ما تجد(9)
أنّى ينال حجازيّ بحاجته *** إحدى بني القين أدنى دارها برد(10)
ص: 340
أخبرني عيسى بن الحسين، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثنا سليمان بن عياش، قال:
خطب محمد بن بشير امرأة من قومه، فقالت له: طلق امرأتك حتى أتزوّجك. فأبى و انصرف عنها، و قال في ذلك:
أ أطلب الحسن في أخرى و أتركها *** فذاك حين تركت الدين و الحسبا
هي الظعينة لا يرمى برمتها *** و لا يفجّعها ابن العم ما اصطحبا
فما خلوت بها يوما فتعجبني *** إلا غدا أكثر اليومين لي عجبا
حدّثني عيسى قال: حدّثنا الزبير، قال: بلغني عن صالح بن قدامة بن إبراهيم أن محمد بن حاطب الجمحي، يروي شيئا من أخبار الخارجيّ و أشعاره، فأرسلت إليه مولى من موالينا يقال له محمد بن يحيى، كان من الكتاب، و سألته أن يكتب لي ما عنده، فكان فيما كتب لنا، قال:
زعم الخارجيّ، و اسمه محمد بن بشير، و كنيته أبو سليمان، و هو رجل من عدوان، و كان يسكن الرّوحاء، قال:
بينا نحن بالروحاء في عام جدب قليل الأمطار، و معنا سليمان بن الحصين و ابن أخته(1)، و إذا بقطار ضخم كثير الثّقل يهوي، قادم من المدينة، حتى نزلوا بجانب الروحاء الغربي، بيننا و بينهم الوادي، و إذا هم من الأنصار، و فيهم سعيد بن عبد الرّحمن بن حسان بن ثابت. فلبثنا أياما، ثم إذا بسليمان بن الحصين يقول لي: أرسل إليّ النساء يقلن: أ ما لكم في الحديث حاجة؟ فقلت لهن: فكيف برجالكن؟ قلن: بلغنا أن لكم صاحبا يعرف بالخارجيّ، /صاحب صيد، فإن أتاهم فحدثهم عن الصيد انطلقوا معه، و خلوتم فتحدّثتم. قال: فقلت لسليمان:
بئس لعمر اللّه ما أردت مني، أ أذهب إلى القوم فأغرّهم، و آثم و أتعب و تنالون أنتم حاجتكم دوني؟ ما هذا لي برأي.
قال لي سليمان: فأنظرني إذن، أرسل إلى النساء و أخبرهن بقولك. فأرسل إليهن فأخبرهن بما قلت. فقلن: قل له احتل لنا عليهم هذه المرة بما قلنا لك، و علينا أن نحتال لك المرة الأخرى.
قال الخارجيّ: فخرجت حتى أتيت القوم فحدثتهم، و ذكرت لهم الصيد، فطارت إليه أنفسهم. فخرجت بهم، و أخذت لهم كلابا و شباكا، و تزودنا لثلاث. و انطلقت أحدثهم و ألهيهم، فحدّثتهم بالصدق حتى نفد. ثم(2)حدّثتهم بما يشبه الصدق حتى نفد(3). /ثم صرحت لهم بمحض الكذب حتى مضت ثلاث، و جعلت لا أحدثهم حديثا إلا قالوا: صدقت. و غبت بهم ثلاثا ما أعلم أنا عاينّا صيدا، فقلت في ذلك:
إني لأعجب مني كيف أفكههم *** أم كيف أخدع قوما ما بهم حمق(4)!
أظل في البيد ألهيهم و أخبرهم *** أخبار قوم و ما كانوا و ما خلقوا
ص: 341
و لو صدقت لقلت القوم قد قدموا *** حين انطلقنا و آتي ساعة انطلقوا (1)
أم كيف تحرم أيد لم تخن أحدا *** شيئا و تظفر أيديهم و قد سرقوا
و نرتمي اليوم حتى لا يكون له *** شمس و يرمون حتى يبرق الأفق
/يرمون أحور مخضوبا بغير دم *** دفعا و أنت وشاحا صيدك العلق
تسعى بكلبين تبغيه و صيدهم *** صيد يرجّى قليلا ثم يعتنق
ما زلت أحدوهم حتى جعلتهم *** في أصل محنية ما إن بها طرق(2)
و لو تركتهم فيها لمزقهم(3) *** شيخا مزينة إن قالا انعقوا نعقوا
إن كنتم أبدا جاري صديقكم *** و الدهر مختلف ألوانه طرق
فمتعوني فإني لا أرى أحدا *** إلا له أجل في الموت مستبق
قال سليمان بن عياش: و مات سليمان بن الحصين هذا، و كان خليلا للخارجيّ، مصافيا له، و صديقا مخلصا، فجزع عليه، و حزن حزنا شديدا، فقال يرثيه:
يا أيها المتمني أن يكون فتى *** مثل ابن ليلى لقد خلّى لك السبلا
إن ترحل العيس كي تسعى مساعيه *** يشفق عليك و تعمل دون ما عملا
لو سرت في الناس أقصاهم و أقربهم *** في شقة الأرض حتى تحسر الإبلا
تبغي فتى فوق ظهر الأرض ما وجدوا *** مثل الذي غيبوا في بطنها رجلا
اعدد ثلاث خصال قد عرفن له *** هل سب من أحد أو سبّ أو بخلا
قال سليمان بن عياش: لما مات عبد العزيز بن مروان، و نعي إلى أخيه عبد الملك، تمثل بأبيات الخارجيّ هذه، و جعل يرددها و يبكي.
أخبرني عيسى، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني عمي عن أبيه؛ قال: قال الرشيد يوما لجلسائه:
/أنشدوني شعرا حسنا في امرأة خفرة كريمة، فأنشدوا فأكثروا و أنا ساكت، فقال لي: إيه يا ابن مصعب، أما أنك لو شئت لكفيتنا سائر اليوم؛ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، لقد أحسن محمد بن بشير الخارجي حيث يقول:
بيضاء خالصة البياض كأنها *** قمر توسط جنح ليل مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد *** إن الحسان مظنة للحسد
ص: 342
و ترى مدامعها ترقرق مقلة *** حوراء ترغب عن سواد الإثمد
خود إذا كثر الكلام تعوذت *** بحمى الحياء و إن تكلم تقصد
لم يطغها شرف الشباب و لم تضع *** منها معاهدة النصيح المرشد
و تبرجت لك فاستبتك بواضح *** صلت و أسود في النصيف معقد
/و كأن طعم سلافة مشمولة *** بالريق في أثر السواك الأغيد
فقال الرشيد: هذا و اللّه الشعر، لا ما أنشدتمونيه سائر اليوم! ثم أمر(1) مؤدب ابنيه محمد الأمين و عبد اللّه المأمون، فروّاهما الأبيات.
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا الزبير بن بكار، قال: حدّثني سليمان بن عياش، قال:
كان محمد بن بشير الخارجيّ يتحدّث إلى عبدة بنت حسان المزنية، و يقيل(2) عندها أحيانا، و ربما بات عندها ضيفا، لإعجابه بحديثها، فنهاها قومها عنه، و قالوا: ما مبيت رجل بامرأة أيّم؟ فجاءها ذات يوم، فلم تدخله خباءها، و قالت له: قد نهاني قومي عنك، و كان قد أمسى، فمنعته المبيت، و قالت: لا تبت عندنا، فيظن بي و بك شر(3)، فانصرف و قال فيها:
/ظللت لدى أطنابها و كأنني *** أسير معنى في مخلخله كبل
أخيّر إما جلسة عند دارها *** و إما مراح لا قريب و لا سهل(4)
فإنك لو أكرمت ضيفك لم يعب *** عليك الذي تأتين حمو و لا بعل
و قد كان ينميها إلى ذروة العلا *** أب لا تخطاه المطية و الرحل
فهل أنت إلا جنّة عبقرية *** يخالط من خالطت من حبكم خبل(5)
و هل أنت إلا نبعة كان أصلها *** تضارا فلم يفضحك فرع و لا أصل
صددت امرأ عن ظل بيتك ماله *** بواديك لولاكم صديق و لا أهل
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني سليمان بن عياش، قال:
ص: 343
خرج محمد و سليمان ابنا عبيد اللّه بن الحصين الأسلميان، حتى أتيا امرأة من الأنصار، من بني ساعدة، فبرزت لهما، و تحدثا عندها، و قالا لها: هل لك في صاحب لنا ظريف شاعر؟ فقالت: من هو؟ قالا: محمد بن بشير الخارجي. قالت: لا حاجة بي إلى لقائه، و لا تجيئاني به معكما، فإنكما إن أتيتما به لم آذن لكما(1). فجاءا به معهما، و أخبراه بما قالت لهما، و أجلساه في بعض الطريق، و تقدما إليها، فخرجت إليهما، و جاءهما الخارجيّ بعد خروجها إليهما، فرحبا به، و سلما عليه، فقالت لهما: من هذا؟ قالا: هذا الخارجيّ الذي كنا نخبرك عنه. فقالت:
و اللّه ما أرى فيه من خير، و ما أشبهه إلا بعبدنا أبي الجون. فاستحيا الخارجيّ، و جلس هنيهة، ثم قام من عندها، و علقها قلبه، فقال فيها:
/ألا قد رابني و يريب غيري *** عشية حكمها حيف مريب
و أصبحت المودة عند ليلى *** منازل ليس لي فيها نصيب
ذهبت و قد بدا لي ذاك منها *** لأهجوها فيغلبني النسيب
و أنسى غيظ نفسي إن قلبي *** لمن واددت فيئته قريب
فلا قلب مصرّ كل ذنب *** و لا راض بغير رضا، غضوب(2)
فدعها لست صاحبها و راجع *** حديثك إن شأنكما عجيب(3)
قال: و بلغ الأشجعية زوجة محمد بن بشير ما قالته له الأنصارية، فعيرته بذلك، و كانت(4) إذا أرادت غيظه كنته(4) أبا الجون، فقال في ذلك:
و أيدي الهدايا ما رأيت معاتبا *** من الناس إلا الساعدية أجمل
/و قد أخطأتني يوم بطحاء منعم(4) *** لها كفف يصطاد فيها و أحبل
و قد قال أهلي خير كسب كسبته *** أبو الجون(5) فاكسب مثلها حين ترحل
فإن بات إيضاعي بأمر مسرة *** لكن فما تسخطن في العيش أطول
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني سليمان بن عياش، قال:
اجتمع محمد بن بشير الخارجيّ و سائب بن ذكوان راوية كثيّر بمكة، فوافقا نسوة من بني غفار يتحدّثن، فجلسا إليهن، و تحدثنا معهن حتى تفرقن، و بقيت/واحدة منهن تحدّث الخارجيّ، و تستنشده شعره حتى أصبحوا؛
ص: 344
فقال لهم رجل مر بهم: أ ما تبرحون عن هذا الشعر(1) و أنتم حرم، و لا تدعون إنشاده و قول الزور في المسجد! فقالت المرأة: كذبت لعمر اللّه، ما قول الشعر بزور، و لا السّلام و الحديث حرام على محرم و لا محل. فانصرف الرجل، و قال فيها الخارجيّ:
أمالك أن تزور و أنت خلو *** صحيح القلب أخت بني غفار؟
فما برحت تعيرك مقلتيها *** فتعطيك المنية في استتار
و تسهو في حديث القوم حتى *** يبين بعض ذلك ما توارى(2)
فمت يا قلب ما بك من دفاع *** فينجيك الدفاع و لا فرار
فلم أر طالبا بدم كمثلي *** أودّ و حسن مطلوب بثار
إذا ذكروا بثأري قلت سقيا *** لثأري ذي الخواتم و السوار
و ما عرفت دمي فتبوء منه *** برهن في حبالي أو ضمار(3)
و قد زعم العواذل أن يومي *** و يومك بالمحصّب ذي الجمار(4)
من الإغباء ثم زعمت أن لا *** و قلت لدى التنازع و التّمار(5)
كذبتم ما السّلام بقول زور *** و ما اليوم الحرام بيوم ثار(6)
و لا تسليمنا حرما بإثم *** و لا الحب الكريم لنا بعار(7)
فإن لم نلقكم فسقى الغوادي *** بلادك و الرويّات السواري
قال سليمان: و في هذه المرأة يقول الخارجيّ و قد رحلوا عن مكة، فودعها و تفرقوا:
يا أحسن الناس لو لا أن نائلها *** قدما لمن يبتغي ميسورها عسر(8)
و إنما دلّها سحر تصيد به *** و إنما قلبها للمشتكي حجر(9)
هل تذكرين كما لم أنس عهدكم *** و قد يدوم لعهد الخلّة الذّكر(10)
قولي و ركبك قد مالت عمائمهم *** و قد سقاهم بكأس الشقوة السفر
ص: 345
يا ليت أني بأثوابي و راحلتي *** عبد لأهلك هذا العام مؤتجر
فقد أطلت اعتلالا دون حاجتنا *** بالحج أمس فهذا الحل و السفر(1)
ما بال رأيك إذ عهدي و عهدكم *** إلفان ليس لنا في الود مزدجر
فكان حظك منها نظرة طرفت *** إنسان عينك حتى ما بها نظر
/أ كنت أبخل من كانت مواعده *** دينا إلى أجل يرجى و ينتظر(2)
و قد نظرت و ما ألفيت من أحد *** يعتاده الشوق إلا بدؤه النظر(3)
أبقت شجى لك لا ينسى و قادحة *** في أسود القلب لم يشعر بها أخر(4)
جنية أولها جن يعلمها *** رمي القلوب بقوس ما لها وتر(5)
/تجلو بقادمتي ورقاء عن برد *** حمر المفاغر في أطرافها أشر(6)
خود مبتلّة ريا معاصمها *** قدر الثياب فلا طول و لا قصر
إذا مجاسدها اغتالت فواضلها *** منها روادف فعمات و مؤتزر(7)
إن هبت الريح حنت في وشائحها *** كما يجاذب عود القينة الوتر(8)
بيضاء تعشو بها الأبصار إن برزت *** في الحج ليلة إحدى عشرة القمر(9)
أ لا رسول إذا بانت يبلغها *** عنا و إن لم تؤلّف بيننا المرر(10)
أنى - بآية وجد قد ظفرت به *** مني و لم يك في وجدي بكم ظفر
- قتيل يوم تلاقينا و أن دمي *** عنها و عمن أجارت من دمي هدر(11)
تقضين فيّ و لا أقضي عليك كما *** يقضي المليك على المملوك يقتسر
ص: 346
إن كان ذا قدرا يعطيك نافلة *** منا و يحرمنا، ما أنصف القدر(1)
أخبرني عيسى بن الحسين، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني سليمان بن عياش، قال:
/كان الخارجيّ قدم البصرة، فتزوّج بها امرأة من عدوان، كانت موسرة، فأقام عندها بالبصرة مدة، ثم توخم(2) البصرة، فطالبها(3) بأن ترحل معه إلى الحجاز، فقالت: ما أنا بتاركة مالي وضيعتي هاهنا تذهب و تضيع، و أمضى معك إلى بلد الجدب و الفقر و الضيق، فإما أن أقمت هاهنا أو طلقتني. فطلقها و خرج إلى الحجاز، ثم ندم و تذكرها، فقال:
دامت(4) لعينك عبرة و سجوم *** و ثوب بقلبك زفرة و هموم
طيف لزينب ما يزال مؤرقي *** بعد الهدوّ فما يكاد يريم
و إذا تعرض في المنام خيالها *** نكأ الفؤاد خيالها المحلوم
أ جعلت ذنبك ذنبه و ظلمته *** عند التحاكم و المدل ظلوم
و لئن تجنيت الذنوب فإنه *** ذو الداء يعذر و الصحيح يلوم
و لقد أراك غداة بنت و عهدكم *** في الوصل لا حرج و لا مذموم
أضحت تحكمك التجارب و النهي *** عنه، و يكلفه بك التحكيم(4)
صوت(5)
برأ الألى علقوا الحبائل قبله *** فنجوا و أصبح في الوثاق يهيم
و لقد أردت الصبر عنك فعاقني *** علق بقلبي من هواك قديم
ضعفت معاهد حبهن مع الصبا *** و مع الشباب فبن و هو مقيم(6)
/يبقى على حدث الزمان و ريبه *** و على جفائك إنه لكريم
و جنيت(7) حين صححت و هو بدائه *** شتان ذاك مصحّح و سقيم
و أديته زمنا فعاذ بحلمه *** إن المحب عن الحبيب حليم(8)
/و زعمت أنك تبخلين و شفّه *** شوق إليك، و إن بخلت، أليم
ص: 347
غنى في هذه الأبيات الدارميّ خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي؛ و فيه لعريب خفيف ثقيل مطلق، و هو الذي يغني الآن، و يتعارفه الناس.
أخبرني عيسى بن الحسين، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني سليمان بن عياش السعديّ، قال:
كان الخارجيّ منقطعا إلى أبي عبيدة بن عبد اللّه بن زمعة، و كان يكفيه مئونته، و يفضل عليه، و يعطيه في كل سنة ما يكفيه و يغنيه، و يغني قومه و عياله، من البرّ و التمر و الكسوة في الشتاء و الصيف، و يقطعه القطعة بعد القطعة من إبله و غنمه، و كان منقطعا إليه و إلى زيد بن الحسن، و ابنه الحسن بن زيد، و كلهم به برّ، و إليه محسن. فمات أبو عبيدة، و كان ينزل الفرش من ملل، و كان الخارجي ينزل الروحاء، فقال يرثيه:
ألا أيها الناعي ابن زينب غدوة *** نعيت الندى دارت عليه(1) الدوائر
لعمري لقد أمسى قرى الضيف عاتما(2) *** بذي الفرش لما غيبتك المقابر
/إذا سوفوا نادوا صداك و دونه *** صفيح و خوّار من الترب مائر
ينادون من أمسى تقطّع دونه *** من البعد أنفاس الصدور الزوافر
فقومي اضربي عينيك يا هند لن ترى *** أبا مثله تسمو إليه المفاخر
قال الزبير: فحدّثني سليمان بن عياش، قال:
كانت هند بنت أبي عبيدة عند عبد اللّه بن حسن بن حسن، فلما مات أبوها جزعت عليه جزعا شديدا، و وجدت وجدا عظيما، فكلم عبد اللّه بن الحسن محمد بن بشير الخارجيّ أن يدخل إليها، فيعزيها و يسليها(3) عن أبيها، فدخل إليها معه. فلما نظر إليها صاح بأعلى صوته:
قومي اضربي عينيك يا هند لن تري *** أبا مثله تسمو إليه المفاخر
و كنت إذا فاخرت أسميت والدا *** يزين كما زان اليدين الأساور
فإن تعوليه يشف يوما عويله *** غليلك أو يعذرك بالنوح عاذر
و تحزنك ليلات طوال و قد مضت *** بذي الفرش ليلات تسر قصائر
فلقاه رب يغفر الذنب رحمة *** إذا بليت يوم الحساب السرائر
إذا ما ابن زاد الركب(4) لم يمس ليلة *** قفا صفر لم يقرب الفرش زائر
لقد علم الأقوام أن بناته *** صوادق إذ يندبنه و قواصر
ص: 348
/قال: فقامت هند، فصكت وجهها و عينيها، و صاحت بويلها و حربها، و الخارجيّ يبكي معها، حتى لقيا جهدا، فقال له عبد اللّه بن الحسن: أ لهذا دعوتك ويحك؟ فقال له: أ فظننت أني أعزيها عن أبي عبيدة؟ و اللّه ما يسليني عنه أحد؛ و لا لي عنه و لا عن فقده صبر، فكيف يسليها عنه من ليس يسلو بعده(1)!
أخبرني عيسى، قال: حدّثني الزبير، قال: حدّثني سليمان بن عياش، قال:
وعد رجل محمد بن بشير الخارجيّ بقلوص، فمطله، فقال فيه يذمه، و يمدح زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:
لعلك(2) و الموعود حق وفاؤه *** بدا لك في تلك القلوص بداء
فإن الذي ألقى إذا قال قائل *** من الناس: هل أحسستها لعناء(3)
/يقول الذي يبدي الشّمات و قوله *** عليّ و إشمات العدوّ سواء(4)
دعوت - و قد أخلفتني الوعد(5) - دعوة *** بزيد فلم يضلل هناك دعاء
بأبيض مثل البدر عظّم حقه *** رجال من آل المصطفى و نساء(6)
/فبلغت الأبيات زيد بن الحسن، فبعث إليه بقلوص من خيار إبله، فقال يمدحه:
إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة *** نفى جدبها و اخضر بالنبت عودها
و زيد ربيع الناس في كل شتوة *** إذا أخلفت أنواؤها و رعودها
حمول لأشناق الديات كأنه *** سراج الدجى إذ قارنته سعودها
أخبرني عيسى، قال: حدّثني الزبير، قال: حدّثني سليمان بن عياش، قال: نظر الخارجيّ إلى نعش سليمان بن الحصين و قد أخرج، فهتف بهم، فقال:
أ لم تروا أن فتى سيدا *** راح على نعش بني مالك
لا أنفس العيش لمن بعده *** و أنفس الهلك على الهالك
و قال فيه أيضا:
ص: 349
ألا أيها الباكي أخاه و إنما *** تفرّق يوم الفدفد الأخوان(1)
أخي يوم أحجار الثّمام(2) بكيته *** و لو حمّ يومي قبله لبكاني
تداعت به أيامه فاختر منه *** و أبقين لي شجوا بكل زمان(3)
فليت الذي ينعى سليمان غدوة *** بكى عند قبري مثلها و نعاني(4)
فلو قسمت في الجن و الإنس لوعتي *** عليه بكى من حرّها الثقلان
و لو كانت الأيام تطلب فدية *** إليه و صرف الدهر ما ألواني(5)
أخبرني عيسى، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثنا سليمان بن عياش، قال: خرج محمد بن بشير يرمي الأروى و معه جماعة، فيهم رجل من الموالي من أهل السّيالة(6)، فصعد المولى على صفاة بيضاء يرمي من فوقها، فزلت قدمه عنها، فصاح حتى سقط على الأرض، و أحدث في ثيابه، فقال الخارجيّ في ذلك:
حرّق يا صفاة في ذراك *** بالنار إن لم تمنعي أرواك(7)
تعلّمي أن بذي الأراك *** - أيتها الأروى - ذوي عراك(8)
قوما أعدّوا شبك الشّباك(9) *** يبغون ضبعا قتلت أباك
نعم ملوي الحيد المداك(10) *** إذ صوت الجالب(11) في أخراك
و لم يقل منتصحا: إياك *** بين مقاطيها ركبت فاك(12)
فعدت و الطعن على كلاك *** مثل الأضاحي بيد النساك
يرمى بالأكتاف على الأوراك *** كما أطحت العبد عن صفاك
ص: 350
أما السّياليّ(1) فلن ينساك *** لو يرتميك الناس ما رماك(2)
أخبرني عيسى، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثنا سليمان بن عياش، قال: كانت عند الخارجيّ بنت عم له، فهجاه بعض قرابتها، فأجابه الخارجيّ، فغضبت زوجته، و قالت: هجوت قرابتي. فقال الخارجيّ في ذلك:
/أمّا ما أقول لهم فعابت *** عليّ و قد هجيت فما تعيب
فرمت و قد بدا لي ذاك منها *** لأهجوها فيمنعني النسيب(3)
فلا قلب يبصّر كل ذنب *** و لا راض بغير رضا، غضوب(4)
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أحمد بن زهير قال: حدّثني مصعب قال: و حدّثني الزبير عن سليمان بن عياش، قالا:
تزوّج الخارجيّ جارية من بني ليث شابة، و قد أسنّ و أسنت زوجته العدوانية. فضربت دونه حجابا، و توارت عنه، و دعت نسوة من عشيرتها، فجلسن عندها، يلهون و يتغنّين و يضربن بالدفوف، و عرف ذلك محمد فقال:
لئن عانس قد شاب ما بين قرنها *** إلى كعبها و أبيض(5) عنها شبابها
صبت في طلاب اللهو يوما و علّقت *** حجابا لقد كانت يسيرا حجابها
لقد متّعت بالعيش حتى تشعّبت(6) *** من اللهو إذ لا ينكر اللهو بابها
/فبيني برغم ثم ظلّي فربما *** ثوى الرغم منها حيث يثوي نقابها(7)
لبيضاء لم تنسب لجدّ يعيبها(8) *** هجان و لم تنبح لئيما كلابها
تأوّد في الممشى كأنّ قناعها *** على ظبية أدماء طاب شبابها
مهفهفة الأعطاف خفّاقة الحشى *** جميل محياها قليل عتابها
ص: 351
إذا ما دعت بابني نزار و قارعت *** ذوي المجد لم يردد عليها انتسابها(1)
حدّثنا الحسن بن علي قال: حدّثنا أحمد بن زهير قال: حدّثنا الزبير بن بكار قال: حدّثني عمي عن الضحاك بن عثمان، قال:
لما ولي إبراهيم بن هشام الحرمين، دخل إليه محمد بن بشير الخارجيّ، و كان له قبل ذلك صديقا. فأعرض عنه، و لم يظهر له بشاشة و لا أنسا. ثم عاوده فاستأذنه في الإنشاد، فأعرض عنه، و أخرجه الحاجب من داره، و كان إبراهيم بن هشام تياها، شديد الذهاب بنفسه، فوقف له يوم الجمعة على طريقه إلى المسجد، فلما حاذاه صاح به:
يا ابن الهشامين طرّا حزت مجدهما *** و ما تخوّنه نقض و إمرار
لا تشمتنّ بي الأعداء إنهم *** بيني و بينك سمّاع و نظّار
و إن شكري إن ردّوا بغيظهم *** في ذمة اللّه إعلان و إسرار(2)
فاكرر بنائلك المحمود من سعة *** عليّ إنك بالمعروف كرّار
/فقال لحاجبه: قل له يرجع إليّ إذا عدت. فرجع، فأدخله إليه، و قضى دينه، و كساه و وصله، و عاد إلى ما عهده منه.
أخبرني الحسن قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثني مصعب عن أبيه قال:
عثر بعروة بن أذينة حماره عند ثنية العويقل(3)، فقال عروة:
ليت العويقل مسدود و أصبح من *** فوق الثنية فيه ردم يأجوج(4)
فتستريح ذوو الحاجات من غلظ *** و يسلك السهل يمشي كلّ منتوج(5)
فقال محمد بن بشير الخارجيّ يردّ عليه:
سبحان ربك تب مما أتيت به *** ما يسدد اللّه يصبح و هو مرتوج
ص: 352
و هل يسدّ و للحجّاج فيه إذا *** ما أصعدوا فيه تكبير و تلجيج(1)
/ما زال منذ أذلّ(2) اللّه موطأه *** و منذ آذن أنّ البيت محجوج
تهدي له الوفد وفد اللّه مطربة(3) *** كأنه شطب بالقدّ منسوج
/خل الطريق إليها إن زائرها *** و الساكنين بها الشمّ الأباليج(4)
لا يسدد اللّه نقبا كان يسلكه ال *** بيض البهاليل و العوج العناجيج(5)
لو سدّه اللّه يوما ثم عجّ له *** من يسلك النقب أمسى و هو مفروج
أخبرني الحسن قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا مصعب، قال: كان للخارجيّ أخ يقال له بشّار بن بشير، و كان يجالس أعداءه، و يعاشر(6) من يعلم أنه مباين له. و فيه يقول:
و إني قد نصحت فلم تصدّق *** بنصحي و اعتددت فما تبالي(7)
و إني قد بدا لي أنّ نصحي *** لغيبك و اعتدادي في ضلال
فكم هذا أذودك عن قطاعي *** كتذويد المحلّأة النّهال
فلا تبغ الذنوب عليّ و اقصد *** لأمرك من قطاع أو وصال
فسوف أرى خلالك من تصافي *** إذا فارقتني و ترى خلالي(8)
و إن جزاء عهدك إذ تولّى *** بأن أغضي و أسكت لا أبالي(9)
أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدّثنا الزبير بن بكار، قال: حدّثنا سليمان بن عياش، قال:
.
ص: 353
كان الخارجيّ معجبا بزوجته سعدى، و كانت من أسوأ الناس خلقا، و أشدّه على عشير(1)، فكان يلقى منها عنتا. فغاضبها يوما لقول آذته به، و اعتزلها، و انتقل إلى زوجته الأخرى، فأقام عندها ثلاثا. ثم اشتاق إلى سعدى، و تذكرها، و بدا له في الرجوع إلى بيتها، فتحوّل إليها، و قال:
أراني إذا غالبت بالصبر حبّها *** أبى الصبر ما ألقى بسعدى فأغلب
و قد علمت عند التعاتب أننا *** إذا ظلمتنا(2) أو ظلمنا سنعتب
و إنّي و إن لم أجن ذنبا سأبتغي *** رضاها و أعفو ذنبها حين تذنب
و إني و إن أنّبت فيها يزيدني *** بها عجبا من كان فيها يؤنب
أخبرني عيسى قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثنا سليمان بن عياش قال: كان بشار بن بشير أخو محمد بن بشير يعاديه، و يجالس أعداءه(3). فقال الخارجيّ فيه:
كفاني الذي ضيّعت مني و إنما *** يضيع الحقوق(4) ظالما من أضاعها
صنيعة من ولاّك سوء صنيعها *** و ولى سواك أجرها و اصطناعها
أبى لك كسب الخير رأي مقصّر *** و نفس أضاق اللّه بالخير باعها
إذا هي حثّته على الخير مرة *** عصاها و إن همت بشر(5) أطاعها
/فلو لا رجال كاشحون يسرّهم *** أذاك، و قربى لا أحبّ انقطاعها
إذا بان إن زلّت بك النعل زلّة *** فراق خلال لا تطيق ارتجاعها(6)
و أني متى أحمل على ذاك أطّلع *** عليك عيوبا لا أحبّ اطلاعها(7)
/فإن تك أحلام تردّ إخاءنا *** علينا فمن هذا يردّ سماعها
سأنهاك نهيا مجملا و قصائدا *** نواصح تشفى من شئون صداعها(8)
و من يجتلب نحوي القصائد يجتلب *** قراه(9) و يتبع من يحبّ اتباعها
ص: 354
إذا ما الفتى ذو اللب حلت قصائد *** إليه فيخل للقوافي رباعها(1)
أخبرني عيسى بن الحسين الوارق قال: حدثنا الزبير قال: حدثنا سليمان بن عياش قال:
لما دفن زيد بن حسن و انصرف الناس عن قبره، جاء محمد بن بشير إلى الحسن بن زيد، و عنده بنو هاشم و وجوه قريش يعزونه، فأخذ بعضادتي الباب، و قال:
أ عينيّ جودا بالدموع و أسعدا *** بني رحم ما كان زيد يهينها
/و لا زيد إلا أن يجود بعبرة *** على القبر شاكي نكبة يستكينها(2)
و ما كنت تلقى وجه زيد ببلدة *** من الأرض إلا وجه زيد يزينها
لعمر أبي الناعي لعمّت مصيبة *** على الناس و اختصت قصيّا رصينها(3)
و أنّى لنا أمثال زيد و جدّه *** مبلّغ آيات الهدى و أمينها(4)
و كان حليفيه السماحة و النّدى *** فقد فارق الدنيا نداها و لينها
غدت غدوة ترمي لؤيّ بن غالب *** يجعد الثّرى فوق امرئ ما يشينها
أغرّ بطاحيّ بكت من فراقه *** عكاظ فبطحاء الصفا فحجونها
فقل للتي يعلو على الناس صوتها *** ألا(5) لا أعان اللّه من لا يعينها
و أرملة تبكي و قد شقّ جيبها *** عليه فآبت و هي شعث قرونها(6)
و لو فقهت ما يفقه(7) الناس أصبحت *** خواشع أعلام الفلاة و عينها
نعاه لنا الناعي فظلنا كأننا *** نرى الأرض فيها آية حان حينها
و زالت بنا أقدامنا و تقلبت *** ظهور روابيها(8) بنا و بطونها
ص: 355
و آب ذوو(1) الألباب منا كأنما *** يرون شمالا فارقتها يمينها
سقى اللّه سقيا رحمة ترب حفرة *** مقيم على زيد ثراها و طينها
قال: فما رؤي يوم كان أكثر باكيا من يومئذ(2).
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدّثني العمري عن لقيط، قال:
كان محمد بن بشير الخارجيّ من أهل المدينة، و كانت له بنت عم سريّة جميلة، قد خطبها غير واحد من سروات قريش، فلم ترضه. فقال لأبيه: زوّجنيها. فقال له: كيف أزوّجكها و قد ردّ عمك عنها أشراف قريش.
فذهب إلى عمه فخطبها إليه، فوعده بذلك، و قرّب منه. فمضى محمد إلى أبيه فأخبره: فقال له: ما أراه يفعل. ثم عاوده، فزوّجه إيّاها. فغضبت الجارية، و قالت له: خطبني إليك أشراف قريش فرددتهم، و زوّجتني هذا الغلام الفقير؟ فقال لها: هو ابن عمك، و أولى الناس بك. فلما بنى لها جعلت تستخف به و تستخدمه، و تبعثه في غنمها مرة، و إلى نخلها أخرى. فلما رأى ذلك من فعلها قال شعرا، ثم خلا في بيت يترنم به و يسمعها. و هو:
تثاقلت أن كنت ابن عمّ نكحته *** فملت و قد يشفى ذوو الرأي بالعذل
/فإنك إلاّ تتركي بعض ما أرى *** تنازعك أخرى كالقرينة في الحبل
تلزّك(3) ما اسطاعت إذا كان قسمها *** كقسمك حقّا في التّلاد و في البعل
متى تحمليها منك يوما لحالة *** فتتبعها تحملك منها على مثل(4)
قال: فصلحت، و لم ير منها بعد ما سمعت شيئا يكرهه.
اسمه و نسبه و ولاؤه لبني هاشم(1)
هو سديف بن ميمون مولى خزاعة. و كان سبب ادعائه ولاء بني هاشم أنه تزوّج مولاه لآل أبي لهب، فادعى ولاءهم، و دخل في جملة مواليهم على الأيام. و قيل: بل أبوه هو كان المتزوّج مولاة اللّهبيين، فولدت منه سديفا.
فلما يفع، و قال الشعر، و عرف بالبيان و حسن العارضة، ادّعى الولاء في موالي أبيه، فغلبوا عليه.
و سديف شاعر مقلّ، من شعراء الحجاز، و من مخضرمي الدولتين، و كان شديد التعصّب لبني هاشم، مظهرا لذلك في أيام بني أمية. فكان يخرج إلى أحجار صفا في ظهر مكة، يقال لها صفيّ السّباب، و يخرج مولى لبني أمية معه يقال له سبّاب(2)، فيتسابان و يتشاتمان، و يذكران المثالب و المعايب. و يخرج معهما من سفهاء الفريقين من يتعصب لهذا و لهذا. فلا يبرحون حتى تكون بينهم الجراح و الشّجاج، و يخرج السلطان إليهم فيفرقهم، و يعاقب الجناة. فلم تزل تلك العصبية بمكة حتى شاعت في العامة و السّفلة. فكانوا صنفين، يقال(3) لهما السّديفية و السّبّابية، طول أيام بني أمية. ثم انقطع ذلك في أيام بني هاشم، و صارت العصبية بمكة في الحناطين و الحرّارين(4).
أخبرني عمر بن عبيد اللّه بن جميل(5) العتكي، و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني فيلح بن إسماعيل قال:
/قال سديف قصيدة يذكر فيها أمر بني حسن بن حسن(6)، و أنشدها المنصور بعد قتله لمحمد بن عبد اللّه بن حسن. فلما أتى على هذا البيت:
يا سوأتا للقوم لا كفّوا و لا *** إذ حاربوا كانوا من الأحرار
فقال له المنصور: أ تحضهم(7) عليّ يا سديف؟ فقال: لا، و لكني أؤنبهم يا أمير المؤمنين.
ص: 357
و ذكر ابن المعتز أن العوفيّ حدّثه عن أحمد بن إبراهيم الرياحيّ قال:
سلّم سديف بن ميمون يوما على رجل من بني عبد الدار. فقال له العبدريّ: من أنت يا هذا؟ قال: أنا رجل من قومك، أنا سديف بن ميمون. فقال له: و اللّه ما في قومي سديف و لا ميمون. قال: صدقت، لا و اللّه ما كان قطّ فيهم ميمون و لا مبارك.
لعمرك إنني لأحب دارا *** تكون بها سكينة و الرّباب
أحبهما و أبذل جلّ مالي *** و ليس لعاتب عندي عتاب
الشعر للحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام. و الغناء لابن سريج: رمل بالبنصر. و فيه للهذلي ثقيل أول بالسبابة، في مجرى الوسطى، عن إسحاق.
ص: 358
اسم الحسين و نسبه(1)
الحسين بن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و قد تكرر(2) هذا النسب في عدّة مواضع من هذا الكتاب. و اسم أبي طالب: عبد مناف، و اسم عبد المطلب: شيبة، و اسم هاشم: عمرو. و أم عليّ بن أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. و كانت أول هاشمية تزوّجها هاشمي، و هي أم سائر ولد أبي طالب. و أم الحسين بن عليّ بن أبي طالب: فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و أمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ. و كانت خديجة تكنى أم هند، و كانت فاطمة تكنى أم أبيها(3)، ذكر ذلك قعنب بن محرز، قال: حدّثنا أبو نعيم، عن حسين(4) بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه. و كان عليّ بن أبي طالب سمى الحسن حربا، فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الحسن(5). ثم ولد له الحسين فسماه حربا(5)، فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الحسين.
/حدّثني بذلك أحمد بن الجعد، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن صالح، قال: حدّثنا يحيى بن عيسى قال:
حدّثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد(5) قال: قال عليّ بن أبي طالب.
كنت رجلا أحب الحرب، فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربا، فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الحسن، فلما(7)ولد الحسين هممت أن أسميه حربا، فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الحسين(7). ثم قال سميتهما باسمي ابني(8) هارون: شبّر و شبير(8).
و أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن سليمان الحضرمي قال: حدّثنا محمد(9) بن يحيى الأحول قال: حدّثنا خلاد المقرئ قال: حدّثنا(9) قيس بن الربيع بن أبي حصين، عن يحيى بن وثّاب، عن ابن عمر، قال:
كان على الحسن و الحسين تعويذتان حشوهما من زغب جناح جبريل عليه السّلام.
ص: 359
و هذا الشعر يقوله الحسين بن عليّ في امرأته الرّباب بنت امرئ القيس بن عديّ بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن كلب بن وبرة بن تغلب(1) [ابن حلوان] بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، و أمها هند بنت الربيع بن مسعود بن معاذ(2) بن حصين بن كعب بن عليم بن كلب؛ و في ابنته منها سكينة بنت الحسين. و اسم سكينة: أميمة، و قيل أمينة، و قيل آمنة، و سكينة لقب لقبت به.
/قال مصعب فيما أخبرني به الطّوسي عن زبير عنه:
اسمها آمنة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز و إسماعيل بن يونس، قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا أبو نعيم، عن عمر بن ثابت، عن مالك بن أعين، قال:
سمعت سكينة بنت الحسين تقول عاتب عمي الحسن أبي في أمي، فقال:
لعمرك إنني لأحبّ دارا *** تكون(3) بها سكينة و الرّباب
أحبهما و أبذل جلّ مالي *** و ليس لعاتب عندي عتاب
/حدّثنا محمد بن العباس اليزيديّ(4) قال: حدّثنا الخليل بن أسد قال: حدّثنا العمريّ عن ابن الكلبيّ عن أبيه، قال:
قال لي عبد اللّه بن الحسن بن الحسن: ما اسم سكينة بنت الحسين؟ فقلت: سكينة. فقال: لا. اسمها آمنة(5).
و روي أن رجلا سأل عبد اللّه بن الحسن عن اسم سكينة. فقال: أمينة(6)، فقال له: إن ابن الكلبي يقول اميمة. فقال: سل ابن الكلبي عن أمه؟ و سلني عن أمي. و قال المدائني: حدّثني أبو إسحاق المالكي قال:
سكينة لقب، و اسمها آمنة. و هذا هو الصحيح.
أسلم امرؤ القيس بن عديّ على يد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فما صلّى للّه صلاة(1) حتى ولاه عمر، و ما أمسى حتى خطب إليه عليّ عليه السّلام ابنته الرباب/على ابنه الحسين، فزوّجه إياها. فولدت(2) له عبد اللّه و سكينة ولدي الحسين عليهما السّلام. و في سكينة و أمها يقول:
لعمرك إنني لأحب دارا *** تحل بها سكينة و الرّباب
و ذكر البيت الآخر، و زاد على البيتين(3):
فلست لهم و إن غابوا مضيعا(4) *** حياتي أو يغيّبني التراب
و نسخت هذا الخبر من كتاب أبي(5) عبد الرّحمن الغلاّبيّ، و هو أتم. قال:
حدّثنا عليّ بن صالح، عن عليّ بن مجاهد، عن أبي المثنى محمد بن السائب الكلبيّ، قال: أخبرنا عبد اللّه بن حسن بن حسن قال: حدّثني خالي عبد الجبار بن منظور بن زبّان بن سيّار الفزاريّ؛ قال حدّثني عوف بن خارجة المريّ، قال:
و اللّه إني لعند عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في خلافته، إذ أقبل رجل أفحج أجلى أمعر(6)، يتخطى رقاب الناس، حتى قام بين يدي عمر. فحياة بتحية الخلافة، فقال له عمر: فمن أنت؟ قال: أنا امرؤ نصراني، أنا امرؤ القيس بن عديّ الكلبيّ. قال: فلم يعرفه عمر(7). فقال له رجل من القوم: هذا صاحب بكر بن وائل، الذي أغار عليهم في الجاهلية يوم فلج. قال: فما تريد؟ قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه/عمر رضي اللّه عنه، فقبله. ثم دعا له برمح، فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة. فأدبر الشيخ و اللواء يهتز على رأسه. قال عوف: فو اللّه ما رأيت رجلا لم يصلّ للّه ركعة قط أمّر على جماعة من المسلمين قبله.
و نهض عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه من المجلس، و معه ابناه الحسن و الحسين عليهم السّلام حتى أدركه، فأخذ بثيابه. فقال له: يا عم، أنا عليّ بن أبي طالب ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و صهره، و هذان ابناي الحسن و الحسين من ابنته، و قد رغبنا في صهرك فأنكحنا. فقال: قد أنكحتك يا عليّ المحياة بنت امرئ القيس، و أنكحتك يا حسن سلمى بنت امرئ القيس، و أنكحتك يا حسين الرّباب بنت امرئ القيس.
و قال هشام بن الكلبي: كانت الرّباب من خيار النساء و أفضلهن. فخطبت بعد قتل الحسين عليه السّلام، فقالت: ما كنت لأتخذ حما بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
قال المدائني: حدّثني أبو إسحاق المالكي، قال:
ص: 361
قيل لسكينة و اسمها آمنة، و سكينة لقب: أختك فاطمة ناسكة(1) و أنت تمزحين كثيرا؟ فقالت: لأنكم سميتموها باسم جدّتها المؤمنة - تعني فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - و سميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام.
/تعني آمنة بنت وهب، أم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
أخبرني عمي قال: حدّثنا الكناني(2)، عن قعنب بن المحرز الباهلي، عن محمد بن الحكم، عن عوانة، قال:
رثت الرّباب بنت امرئ القيس أم سكينة بنت الحسين، زوجها الحسين عليه السّلام حين قتل، فقالت:
إنّ الذي كان نورا يستضاء به *** بكر بلاء قتيل غير مدفون
سبط النبيّ جزاك اللّه صالحة *** عنا، و جنّبت خسران الموازين
قد كنت لي جبلا صعبا ألوذ به *** و كنت تصحبنا بالرّحم و الدّين
من لليتامى و من للسائلين و من *** يغني و يأوي إليه كلّ مسكين
و اللّه لا أبتغي صهرا بصهركم *** حتى أغيّب بين الرمل و الطين
أخبرني الطوسي قال: حدثني الزبير عن عمه قال: أخبرني إسماعيل بن بكار قال: حدّثني أحمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسين العلوي(3)، عن الزبير عن عمه، قال: و أخبرني إسماعيل بن يعقوب عن عبد اللّه بن موسى، قالا:
كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب خطب إلى عمه الحسين، فقال له الحسين عليهم السّلام: يا ابن أخي، قد كنت أنتظر هذا منك، انطلق معي، فخرج به حتى أدخله منزله، فخيره في ابنتيه فاطمة و سكينة. فاختار فاطمة، فزوّجه إياها. و كان يقال: إن امرأة تختار(4) على سكينة لمنقطعة القرين في الحسن. و قال عبد اللّه بن موسى في خبره: إن الحسين خيره، فاستحيا، فقال له: قد اخترت لك فاطمة، فهي أكثرهما شبها بأمي فاطمة بنت رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و سلّم.
حدّثني أحمد بن محمد بن سعيد قال: حدّثني يحيى بن الحسن العلويّ قال: كتب إليّ عبّاد بن يعقوب يخبرني عن جدّي يحيى بن سليمان بن الحسين العلويّ قال:
كانت سكينة في مأتم فيه بنت لعثمان، فقالت بنت عثمان: أنا بنت الشهيد. فسكتت سكينة: فلما قال المؤذن. أشهد أن محمدا رسول اللّه، قالت سكينة: هذا أبي أو أبوك؟ فقالت العثمانية: لا جرم لا أفخر عليكم أبدا.
ص: 362
أخبرني أحمد بن محمد قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا مروان بن موسى القروي قال: حدّثنا بعض أصحابنا قال:
كانت سكينة تجيء في ستارة يوم الجمعة، فتقوم بإزاء ابن مطيرة، و هو خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم، إذا صعد المنبر، فإذا شتم عليا، شتمته هي و جواريها، فكان يأمر الحرس فيضربون جواريها.
أخبرني الطوسيّ عن الزّبير عن عمه مصعب، قال:
كانت سكينة عفيفة سلمة(1) برزة من النساء، تجالس الأجلّة(2) من قريش، و تجتمع إليها الشعراء، و كانت ظريفة مزاحة.
أخبرني الطوسيّ قال: حدّثنا الزّبير عن عمه قال: حدّثني معاوية بن بكر، قال:
قالت سكينة: أدخلت على مصعب و أنا أحسن من النار الموقدة.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثني محمد بن موسى، عن أبي أبو المديني، عن مصعب، قال:
كانت سكينة أحسن الناس شعرا؛ فكانت تصفّف جمّتها تصفيفا لم ير أحسن منه، حتى عرف ذلك. فكانت تلك الجمة تسمى السّكينية. و كان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلا قد صفّف جمته السّكينية جلده و حلقه.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي/شيخ عن أبيه عن أبي سفيان الحميريّ، قال:
بعثت سكينة بنت الحسين عليهما السّلام إلى حبيش بن دلجة بغالية، لأنه كان من أخوالها. فلما وصلت إليه قال: فأين كانت - حبيش بن دلجة - عن الصّيّاح(3)؟ يقدّر أن الصّيّاح أرفع من الغالية.
و قال هارون بن أبي عبيد اللّه، حدّثني ضمرة بن ضمرة، قال:
أجلست سكينة شيخا فارسيا على سلّة بيض، و بعثت إلى سليمان بن يسار، كأنها تريد أن تسأله عن شيء.
فجاءها إكراما لها، فأمرت من أخرج إليه ذلك الشيخ جالسا على السّلّة فيها البيض. فولّى يسبّح.
/قال: و بعثت سكينة إلى صاحب الشرطة بالمدينة: أنه دخل علينا شاميّ، فابعث إلينا بالشّرط. فركب و معه(1) الشرط. فلما أتى إلى الباب، أمرت ففتح له، و أمرت جارية من جواريها فأخرجت إليه برغوثا. فقال: ما هذا؟ قالت: هذا الشاميّ الذي شكوناه. فانصرفوا يضحكون.
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال: حدّثنا أحمد بن القاسم قال: حدّثنا أبو هفّان قال: حدّثنا سيف(2) بن إبراهيم صاحب بن المهدي قال: حدّثني إبراهيم بن المهدي:
أن الرشيد لما ولاه دمشق استوهبه صحبة دبية و الغاضريّ و عبيدة بن [...](3) و حكم و الوادي. فوهبهم له، فأشخصهم معه.
قال: فكان فيما حدثني به عبيدة قال: قال إبراهيم:
ركبت حمارة و هو عديلي، و نمت على ظهرها. فلما بلغنا ثنية العقاب، اشتد عليّ البرد، فاحتجت إلى الزيادة من الدّثار. فدعوت بدوّاج سمّور، فألقيته على ظهري، و دعوت بمن كان معي في سمري في تلك الليلة، و كانوا حولي. فقلت لابن أشعب: حدّثني بأعجب ما تعلم من طمع أبيك. فقال: أعجب من طمع أبي طمع ابنه. فقلت:
و ما بلغ من طمعك؟ فقال: دعوت آنفا لما اشتد عليك البرد بدوّاج سمّور، لتستدفئ به، فلم أشكّ أنك دعوت به لتجعله عليّ. فغلبني الضحك، و خلعت عليه الدّواج. ثم قلت له: ما أحسب لك قرابة بالمدينة. فقال: اللهم غفرا، لي بالمدينة قرابات و أي قرابات. قلت: أ يكونون عشرة؟ قال: و ما عشرة؟ قلت: فعشرين؟ قال: اللهم غفرا، لا تذكر العشرات و لا المئين، /و تجاوز ذكر الألوف إلى ما هو أكثر منها. قلت: ويحك! ليس بينك و بين أشعب أحد، فكيف يكون هذا؟ فقال:
إن زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان تزوّج سكينة بنت الحسين. فخف أبي على قلبها، فأحسنت إليه، و كانت عطاياها خلاف عطايا مولاه. فمال إليها بكليته.
قال: و حج سليمان بن عبد الملك و هو خليفة، فاستأذن زيد بن عمرو سكينة، و أعلمها أنها أول سنة حج فيها الخليفة، و أنه لا يمكنه التخلّف عن الحج معه. و كانت لزيد ضيعة يقال له العرج، و كان له فيها جوار. فأعلمته أنها لا تأذن له إلا أن يخرج أشعب معه، فيكون عينا لها عليه، و مانعا له من العدول إلى العرج، و من اتخاذ جارية لنفسه في بدأته و رجعته. فقنع بذلك، و أخرج أشعب معه. و كان له فرس كثير الأوضاح، حسن المنظر، يصونه عن
ص: 364
الركوب إلا في مسايرة خليفة أو أمير أو يوم زينة؛ و له سرج يصونه، لا يركب به غير ذلك الفرس. و كان معه طيب لا يتطيب به إلا في مثل ذلك اليوم الذي يركب فيه؛ و حلّة موشية يصونها عن اللّبس إلا في يوم يريد التجمّل/فيه بها.
فحج مع سليمان، و كانت له عنده حوائج كثير، فقضاها و وصله، و أجزل صلته. و انصرف سليمان من حجّه، و لم يسلك طريق المدينة. و انصرف بن عثمان يريد المدينة، فنزل على ماء لبني عامر بن صعصعة. و دعا أشعب، فأحضره و صرّ صرّة فيها أربعمائة دينار، و أعلمه أنه ليس بينه و بين العرج إلا أميال؛ و أنه إن أذن له في المسير إليها، و المبيت بها عند جواريه، غلّس إليه، فوافى وقت ارتحال الناس، و وهب له أربعمائة الدينار. فقبل يده و رجله، و أذن له في السير إلى حيث أحب، و حلف له أنه يحلف لسكينة بالأيمان المحرجة، أنه ما سار إلى العرج، و لا اتخذ جارية منذ فارق سكينة إلى أن رجع إليها. فدفع إليه مولاه الدنانير و مضى.
/قال أبو إسحاق: قال ابن أشعب: حدّثني أبي أنه لا يتوهم أن مولاه سار نصف ميل حتى رأى في الماء الذي كان عليه رحل زيد جاريتين عليهما قربتان. فألقتا القربتين، و ألقتا ثيابهما عنهما، و رمتا بأنفسهما في الغدير، و عامتا فيه، و رأى من مجرّدهما ما أعجبه و استحسنه. فسألهما عند خروجهما من الماء عن نسبهما. فأعلمتاه أنهما من إماء نسوة خلوف، لبني عامر بن صعصعة، هن بالقرب من ذلك الغدير. فسألهما: هل سبيل إلى مولياتهما، لمحادثة شيخ حسن الخلق، طيب العشرة، كثير النوادر؟ فقالتا: و أنى لهن بمن هذه صفته؟ فقال لهما: أنا ذاك. فقالتا:
انطلق معنا. فوثب إلى فرس زيد، فأسرجه بسرجه الذي كان يسرجه به و يركبه، و دعا بحلته التي كان يضن بها فلبسها، و أحضر السّفط الذي كان فيه طيبه، فتطيب منه، و ركب الفرس، و مضى معهما حتى وافى الحيّ، فأقام في محادثة أهله إلى قرب وقت صلاة العصر. فأقبل في ذلك الوقت رجال الحيّ، و قد انصرفوا غانمين من غزاتهم، و أقبلت تمر به الرّعلة بعد الرّعلة، فيقفون به فيقولون: ممن الرجل؟ فينتسب في نسب زيد، فيقول كل من اجتاز به:
ما نرى به بأسا. و ينصرفون عنه. إلى قرب غروب الشمس، فأقبل شيخ فان على حجر هرمة هزيل، ففعل مثل ما كان يفعل من اجتاز، فسأله مثلما يسألون عنه، فأخبره بمثل ما كان يخبر من تقدمه، فقال مثل قولهم.
قال ابن أشعب: قال أبي: ثم رأيت الشيخ قد وقف بعد قوله، فأوجست منه خيفة، لأني رأيته قد جعل يده اليسرى تحت حاجبيه، فرفعهما، ثم استدار ليرى وجهي. فركبت الفرس، فما استويت عليه حتى سمعته يقول:
أقسم باللّه ما هذا قرشيّ، و ما هذا إلا وجه عبد. فركضت و ركض خلفي، فرأى حجره/مقصرة(1). فلما يئس من اللحاق بي، انتزع سهما فرماني به، فوقع في مؤخرة السرج، فكسرها. و دخلتني من صوته روعة(2) أحدثت لها في الحلة. و وافيت رحل مولاي، فغسلت الحلّة و نشرتها، فلم تجف ليلا. و غلّس مولاي من العرج، فوافاني في وقت الرحيل، فرأى الحلة منشورة، و مؤخرة السرج مكسورة، و الفرس قد أضر بها الركض، و سفط الطيب مكسور الختم(3). فسألني عن السبب، فصدقته. فقال لي: ويحك! أ ما كفاك ما صنعت بي حتى انتسبت في نسبي، فجعلتني(4) عند أشراف قومي من العرب جمّاشا(4)، و سكت عني، فلم يقل لي: أحسنت و لا أسأت حتى وافينا
ص: 365
المدينة، فلما وافاها سألته سكينة عن خبره. فقال لها: يا بنت رسول اللّه، و ما سؤالك إياي و لم يزل ثقتك(1) معي، و هو أمين عليّ، فسليه عن خبري يصدقك عنه. فسألتني، فأخبرتها/أني لم أنكر عليه شيئا، و لم أمكنه من ابتياع جارية، و لم أطلق له الاجتياز بالعرج. فاستحلفتني على ذلك، فلما حلفت لها بالأيمان المحرجة فيها طلاق أمّك، وثب فوقف بين يديها، و قال: أي ابنة عم، و يا بنت رسول اللّه، كذبك و اللّه العلج، و لقد(2) أخذ مني أربعمائة دينار، على أن أذن لي في المصير إلى العرج(2)؛ فأقمت بها يوما و ليلة، و غسلت بها عدّة من جواريّ، و ها أنا ذا تائب إلى اللّه مما كان مني، و قد جعلت توبتي هبتهن لك، و تقدّمت في حملهنّ إليك، و هن موافيات المدينة في عشية اليوم، فبيعهن أو عتقهن إليك الأمر فيه، و أنت أعلم بما ترين في العبد السّوء. فأمرتني/بإحضار أربعمائة دينار، فأحضرتها. فأمرت بابتياع خشب بثلاثمائة دينار، و أمرت بنشره، و ليس عندي و لا عند أحد من أهل المدينة علم بما تريده فيه. ثم أمرت بأن يتخذ بيت كبير، و جعلت النفقة عليه في أجرة النجارين من المائة الدينار الباقية.
ثم أمرت بابتياع بيض و تبن و سرجين بما بقي من المائة الدينار بعد أجرة النجارين. ثم أدخلتني البيت، و فيه البيض و التبن و السّرجين، و حلفت بحق جدّها ألا أخرج من ذلك البيت حتى أحضن ذلك البيض كله إنى أن يفقس، ففعلت ذلك، و لم أزل أحضنه حتى فقس كله. فخرج منه الألوف من الفراريج، و ربيت في دار سكينة، فكانت تنسبهنّ إليّ، و تقول: بنات أشعب.
قال أبو إسحاق. قال لي: و بقي ذلك النسل في أيدي الناس إلى الآن، فكلهم إخواني و أهلي. قال:
فضحكت و اللّه حتى غلبت، و أمرت له بعشرة آلاف درهم، فحملت بحضرتي إليه.
أخبرني الطوسيّ(2) و الحرميّ قالا: حدّثنا الزبير بن بكار قال: حدّثني عمي مصعب قال:
تزوّجت سكينة بنت الحسين عليه السّلام عدّة أزواج، أوّلهم عبد اللّه بن الحسن بن عليّ، و هو ابن عمها و أبو عذرتها، و مصعب بن الزبير، و عبد اللّه بن عثمان الحزامي، و زيد بن عمرو بن عثمان، و الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، و لم يدخل بها، و إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف، و لم يدخل بها.
قال مصعب و يحيى بن الحسن العلوي: إن عبد اللّه بن حسن زوجها كان يكنى أبا جعفر، و أمه بنت السّليل بن عبد اللّه البجلي، أخي جرير بن عبد اللّه، قال: /ثم خلفه عليها مصعب بن الزبير، زوّجه إياها أخوها علي بن الحسين، و مهرها مصعب ألف ألف درهم.
قال مصعب: و حدّثني مصعب بن عثمان: أن علي بن الحسين أخاها حملها إليه، فأعطاه أربعين ألف دينار.
قال مصعب: و حدثني معاوية بن بكر الباهلي قال: قالت سكينة:
دخلت على مصعب و أنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القرّة.
قال: فولدت من مصعب بنتا، فقال لها: سميها زهراء(3). قالت: بل أسميها باسم إحدى أمهاتي و سمتها
ص: 366
الرباب(1). فلما قتل مصعب ولى أخوه عروة تركته، فزوّجها يعني الرّباب بنت مصعب ابنه عثمان بن عروة، فماتت و هي صغيرة، فورثها عثمان بن عروة عشرة آلاف دينار.
قال الزبير: فحدّثني محمد بن سلاّم عن شعيب بن صخر(2)، عن أمه سعدة(3) بنت عبد اللّه بن سالم، قالت:
لقيت سكينة بين مكة و منى، فقالت: قفي لي يا ابنة عبد اللّه، فوقفت. فكشفت عن بنتها من مصعب، فإذا هي قد أثقلتها بالحلي و اللؤلؤ، فقالت: ما ألبستها إياه إلا لتفضحه.
قال الزبير: و حدّثني عمي عن الماجشون(4)، قال:
قالت سكينة لعائشة بنت طلحة: أنا أجمل منك. و قالت عائشة: /بل أنا. فاختصمنا إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال لأقضين بينكما؛ أما أنت يا سكينة فأملح منها، و أما أنت يا عائشة فأجمل منها. فقالت سكينة: قضيت لي و اللّه. و كانت سكينة تسمّي عائشة ذات الأذنين، و كانت عظيمة الأذنين.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثني أحمد بن زهير(5) قال: حدّثنا المدائني، قال:
خطب سكينة بنت الحسين عليه السّلام عبد الملك بن مروان. فقالت أمها: لا و اللّه لا يتزوّجها أبدا و قد قتل ابن أخي(6)، تعني مصعبا.
و أما محمد بن سلام الجمحيّ فإنه ذكر فيما أخبرني به أبو الحسن الأسدي عن الرياشي عنه:
أنّ أبا عذرتها هو عندي عبد اللّه بن الحسن بن عليّ. ثم خلف عليها العثماني، ثم مصعب بن الزبير، ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. فقال فيه بعض المدنيين(7):
نكحت سكينة بالحساب ثلاثة *** فإذا دخلت بها فأنت الرابع
قال: و كان يتولى مصر، فكتبت إليه: إن أرض مصر وخمة. فبنى لها مدينة تسمى مدينة الأصبغ. و بلغ عبد الملك تزوّجه إياها، فنفس بها عليه. فكتب إليه. اختر مصر أو سكينة: فبعث إليها بطلاقها و لم يدخل بها، و متّعها بعشرين ألف دينار. و مروا بها في طريقها على منزل، فقالت: ما اسم هذا المنزل؟ قالوا: جوف الحمار. قالت: ما كنت لأدخل جوف الحمار أبدا.
/و ذكر محمد بن سلام في هذا الخبر الذي رواه الرياشيّ عن شعيب بن صخر أن الحزاميّ عبد اللّه بن عثمان
ص: 367
خلف الأصبغ عليها، و ولدت منه بنتا. و ذكر عن أمه سعدة بنت عبد اللّه أن سكينة أرتها بنتها من الحزاميّ، و قد أثقلتها باللؤلؤ، و هي في قبّة، فقالت: و اللّه ما ألبستها إياه إلا لتفضحه. تريد أنها تفضح الحليّ بحسنها، لأنها أحسن منه.
أخبرني ابن أبي الأزهر قال: حدّثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الهيثم بن عديّ، عن صالح بن حسّان و غيره:
أن سكينة كانت عند عمرو بن حكيم بن حزام، ثم تزوّجها بعده زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، ثم تزوّجها مصعب بن الزبير. فلما قتل مصعب، خطبها إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف، فبعثت إليه: أبلغ من حمقك أن تبعث إلى سكينة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تخطبها؟ فأمسك عن ذلك.
قال: ثم تنفّست يوما بنانة جارية سكينة و تنهدت، حتى كادت أضلاعها تتحطم. فقالت لها سكينة: مالك ويلك! قالت: أحب أن أرى في الدار جلبة. تعني العرس. فدعت مولى لها تثق به، فقالت له: اذهب إلى إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف، فقل له: إن الذي كنا ندفعك عنه قد بدا لنا فيه؛ أنت من أخوال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأحضر بيتك. قال: فجمع عدّة من بني زهرة، و أفناء قريش من بني جمح و غيرهم، نحوا من سبعين رجلا أو ثمانين. ثم أرسل إلى علي بن الحسين، و الحسن بن الحسن، و غيرهم من بني هاشم. فلما أتاهم الخبر اجتمعوا، و قالوا: هذه السفيهة تريد أن تتزوّج إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف. /فتنادى بنو هاشم و اجتمعوا، و قالوا: لا يخرجنّ أحد منك إلا و معه عصا. فجاءوا و ما بقي إلا الكلام. فقال: اضربوا بالعصيّ. فاضطربوا هم و بنو زهرة، حتى تشاجّوا، فشجّ بينهم يومئذ أكثر من مائة إنسان. ثم قالت/بنو هاشم: أين هذه؟ قالوا: في هذا البيت. فدخلوا إليها، فقالوا: أبلغ هذا من صنعك؟ ثم جاءوا بكساء طاروقيّ(1)، فبسطوه ثم حملوها، و أخذوا بجوانبه - أو قال:
بزواياه الأربع - فالتفتت إلى بنانة فقالت: يا بنانة، أ رأيت في الدار جلبة؟ قالت: إي و اللّه إلا أنها شديدة.
و قال هارون بن الزيات: أخبرني أبو حذيفة عن مصعب، قال:
كان أوّل أزواج سكينة عبد اللّه بن الحسن بن عليّ، قتل عنها و لم تلد له. و خلف عليها مصعب، فولدت له جارية(2). ثم خلف عليها عبد اللّه بن عثمان بن عبد اللّه بن حكيم بن حزام، فنشزت عليه، فطلقها. ثم خلف عليها الأصبغ بن عبد العزيز فأصدقها صداقا كثيرا. فقال الشاعر:
نكحت سكينة بالحساب ثلاثة *** فإذا دخلت بها فأنت الرابع
إن البقيع إذا تتابع زرعه *** خاب البقيع و خاب فيه الزارع
و بلغ ذلك عبد الملك بن مروان فغضب، و قال: أما تزوّجنا أحسابنا حتى تزوّجنا أموالنا! فطلّقها. فطلقها فخلف عليها العثماني، و شرطت عليه ألاّ يطلقها(3)، و لا يمنعها شيئا تريده، و أن يقيمها حيث خلّتها أم منظور، و لا يخالفها في
ص: 368
أمر تريده. فكانت تقول له: يا ابن عثمان اخرج بنا إلى مكة. فإذا خرج بها فسارت يوما أو يومين، /قالت: ارجع بنا إلى المدينة. فإذا رجع يومه ذاك، قالت: اخرج بنا إلى مكة. فقال له سليمان بن عبد الملك: أعلم أنك قد شرطت لها شروطا لم تف بها، فطلقها. فطلقها. فخلف عليها إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف، فكره ذلك أهلها، و خاصموه إلى هشام بن إسماعيل. فبعث إليها يخيرها. فجاء إبراهيم بن عبد الرّحمن من حيث تسمع كلامه، فقال لها: جعلت فداءك، قد خيرتك فاختاريني. فقالت(1): قلت ما ذا بأبي، تهزأ به. فعرف ذلك(1)، فانصرف.
و خيروها، فقالت: لا أريده.
قال: و ماتت فصلى عليها شيبة بن نصاح(1).
و أما ابن الكلبي فذكر فيما أخبرنا به الجوهريّ، عن عمر بن شبة، عن عبد اللّه بن محمد بن حكيم، عنه:
أن أوّل أزواجها الأصبغ، و مات و لم يرها، ثم زيد بن عمرو العثماني، قال: و ولدت له ابنة عثمان الذي يقال له قرين، ثم الحزامي، ثم خلف عليها مصعب، فولدت له جارية، ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف و لم يدخل بها.
قال عمر بن شبة: و حدّثني محمد بن يحيى قال:
تزوّج مصعب سكينة و هو يومئذ بالبصرة، عامل لأخيه عبد اللّه بن الزبير، و كان بين مصعب و بين أخيه رسول يقال له أبو السّلّاس، و هو الذي جاء بنعيه، فقال ابن قيس فيه:
قد أتانا بما كرهنا أبو السلاّ *** س كانت بنفسه الأوجاع
/و في هذا الشعر غناء قد ذكر في موضعه. و هذا غلط من محمد بن يحيى، ليست قصة أبي السلاس مع مصعب، و إنما هي مع ابن جعفر.
قال محمد بن يحيى: و لما تزوج مصعب سكينة على ألف ألف، كتب عبد اللّه بن همام على يد أبي السلاس إلى عبد اللّه بن الزبير:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة *** من ناصح لك لا يريد خداعا
بضع الفتاة بألف ألف كامل *** و تبيت سادات الجنود جياعا
لو لأبي حفص أقول مقالتي *** و أبث ما أبثثتكم لارتاعا
قال: و كان ابن الزبير قد أوصاه ألا يعطيه أحد كتابا إلا جاء به، فلما أتاه بهذا الكتاب قال: /صدق و اللّه، لو يقول هذه المقالة لأبي حفص لارتاع من تزويج امرأة على ألف ألف درهم. ثم قال: إن مصعبا لما وليته البصرة أغمد سيفه، وسل أيره، و عزله عن البصرة، و أمره أن يجيء على ذات الجيش، و قال: إني لأرجو أن يخسف اللّه بك فيها. فبلغ عبد الملك بن مروان قول عبد اللّه في مصعب، فقال: لكن عبد اللّه و اللّه أغمد سيفه و أيره و خيره.
ص: 369
قال ابن زيد أخبرني محمد بن يحيى عن ابن شهاب الزهريّ قال:
ذكر أن زيد: بن عمرو بن عثمان العثماني خرج إلى مال له مغاضبا لسكينة، و عمر بن عبد العزيز يومئذ و الي المدينة، فأقام سبعة أشهر، فاستعدته سكينة على زيد، و ذكرت غيبته مع ولائده سبعة أشهر، و أنها شرطت عليه أنه إن مس امرأة، أو حال بينها و بين شيء من ماله، أو منعها مخرجا تريده، فهي خلية(1)، فبعث إليه عمر فأحضره، و أمر ابن حزم أن ينظر بينهما.
/قال: حدّثني أبو بكر بن عبد اللّه، قال: بعثني عمر، و بعث معي محمد بن معقل بن يسار الأشجعي، إلى ابن حزم، و قال: اشهدا قضاءه، فدخلنا عليه و عنده زيد جالس، و فاطمة امرأة ابن حزم في الحجلة(2) جالسة، و جاءت سكينة، فقال ابن حزم: أدخلوها وحدها. فقالت: و اللّه لا أدخل إلا و معي ولائدي، فأدخلن معها، فلما دخلت قالت: يا جارية اثني لي هذه الوسادة. ففعلت، و جلست عليها، و لصق زيد بالسرير، حتى كان يدخل في جوفه خوفا منها. فقال لها ابن حزم: يا ابنة الحسين، إن اللّه عز و جل يحب القصد في كل شيء، فقالت له: و ما أنكرت مني، إني و إياك و اللّه كالذي يرى الشعرة في عين صاحبه، و لا يرى الخشبة في عينه. فقال لها: أما و اللّه لو كنت رجلا لسطوت بك. فقالت له: يا ابن فرتنى أ لا تزال لتوعدني؟ و شتمته و شتمها. فلما بلغا ذلك قال ابن أبي الجهم العدوي: ما بهذا أمرنا، فأمض الحكم و لا تشاتم. فقالت لمولاة لها: من هذا؟ قالت: أبو بكر بن عبد اللّه بن أبي الجهم. فقالت: لا أراك(3) هاهنا و أنا أشتم بحضرتك. ثم هتفت برجال قريش، و حضت ابن أبي الجهم، و قالت: أما و اللّه لو كان أصحاب الحرّة أحياء لقتلوا هذا العبد اليهودي عند شتمه إياي، أي عدوّ اللّه، تشتمني و أبوك الخارج مع يهود صبابة بدينهم لما أخرجهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أريحاء، يا ابن فرتنى. قال: و شتمها و شتمته.
قال: ثم أحضرنا زيدا، فكلمها و خضع لها، فقالت: ما أعرفني بك يا زيد، و اللّه لا تراني أبدا، أتراك تمكث مع جواريك سبعة أشهر لا تقربهن؟ املأ عينك/الآن مني، فإنك لا تراني(4) بعد الليلة أبدا، و جعلت تردد هذا القول و مثله، فكلما تكلمت ترفث(5) لابن حزم و امرأته في الحجلة، و هو يقلق لسماع امرأته ذلك فيه. ثم حكم بينهما بأن سكينة إن جاءت ببينة على ما ادّعته، و إلا فاليمين على زيد. فقامت و قالت لزيد، يا ابن عثمان: تزوّد مني بنظرة، فإنك و اللّه لا تراني بعد الليلة أبدا، و ابن حزم صامت. ثم خرجنا و جئنا إلى عمر بن عبد العزيز و هو ينتظرنا في وسط الدار في ليلة شاتية، فسألنا عن الخبر، فأخبرناه، فجعل يضحك حتى أمسك بطنه، ثم دعا زيدا من غد، فأحلفه و ردّ سكينة عليه.
ص: 370
و أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدّثني الزبير بن بكار عن عمه قال:
قالت سكينة لأم أشعب: سمعت للناس خبرا؟ قالت: لا، فبعثت إلى إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف فتزوّجته، و بلغ ذلك بني هاشم/فأنكروه، و حملوا العصيّ، و جاءوا فقاتلوا بني زهرة حتى كثر الشّجاج، ثم فرّق بينهم، و خيرت سكينة فأبت نكاح إبراهيم، ثم التفتت إلى أم أشعب و قالت: أ ترين الآن أنه كان للناس اليوم خبر؟ قالت: إي و اللّه - بأبي أنت - و أي خبر(1).
قال هارون بن الزيات: وجدت في كتاب القاسم بن يوسف: حدّثني الهيثم بن عديّ، عن أشعب، قال:
تزوّج زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان سكينة، و كان أبخل قرشيّ رأيته، فخرج حاجا و خرجت سكينة معه، فلم تدع إوزة و لا دجاجة و لا خبيصا و لا فاكهة/إلا حملته معها، و أعطتني مائة دينار، و قالت(2): يا ابن أم حميدة، اخرج معنا(2). فخرجت و معنا طعام على خمسة أجمال، فلما أتينا السّيالة نزلنا، و أمرت بالطعام أن يقدم، فلما جيء بالأطباق، أقبل أغيلمة من الأنصار يسلمون على زيد، فلما رآهم قال: أوّه. خاصرتي. باسم اللّه، ارفعوا الطعام، و هاتوا الترياق و الماء الحار، فأتي به فجعل يتوجّرهما(2) حتى انصرفوا، و رحلنا و قد هلكت جوعا، فلم آكل إلا مما اشتريته من السّويق(3). فلما كان من الغد أصبحت و بي من الجوع ما اللّه أعلم به، و دعا بالطعام و أتى به. قال: فأمر بإسخانه، و جاءته مشيخة من قريش يسلمون عليه، فلما رآهم اعتل بالخاصرة، و دعا بالتّرياق و الماء الحار، فتوجّره و رفع الطعام، فلما ذهبوا أمر بإعادته، فأتي به و قد برد، فقال لي: يا أشعب، هل إلى إسخان هذا الدجاج سبيل؟ فقلت له أخبرني عن دجاجك هذا؟ أ من آل فرعون، فهو يعرض على النار غدوّا و عشيا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، عن محمد بن الحكم، عن عوانة، قال:
جاء قوم من أهل الكوفة يسلمون على سكينة فقالت لهم: اللّه يعلم أني أبغضكم: قتلتم جدي عليا، و أبي الحسين، و أخي عليا، و زوجي مصعبا، فبأيّ وجه تلقونني، أيتمتموني صغيرة، و أرملتموني كبيرة.
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن المدائني قال: بينما سكينة ذات ليلة تسير، إذ سمعت حاديا يحدو في الليل يقول:
لو لا ثلاث هنّ عيش الدهر
فقالت لقائد قطارها. ألحق بنا هذا الرجل، حتى نسمع منه ما هذه الثلاث. فطال طلبه لذلك حتى أتعبها. فقالت
ص: 371
لغلام لها: سر أنت حتى تسمع منه، فرجع إليها فقال: سمعته يقول:
الماء و النوم و أم عمرو
فقالت: قبحه اللّه! أتعبني منذ الليلة.
قال: و حدّثني المدائني أن أشعب حج مع سكينة، فأمرت له بجمل قويّ يحمل أثقاله، فأعطاه القيّم جملا ضعيفا، فلما جاء إلى سكينة قالت له: أعطوك ما أردت؟ قال: عرسه الطلاق، لو أنه حمل قتبا على الجمل لما حمله، فكيف يحمل محملا(1).
.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبة، عن نعيم بن سالم بن عليّ الأنصاريّ، عن سفيان بن حرب، قال:
رأيت سكينة بنت الحسين عليه السّلام ترمي الجمار، فسقطت من يدها الحصاة السابعة، فرمت بخاتمها مكانها.
و قال هارون بن الزيات: حدّثني أبو حذافة السهميّ قال: أخبرني غير واحد، منهم محمد بن طلحة:
/أن سكينة ناقلت بمالها بالزوراء، إلى قصر يقال له البريديّ(2) بلزق الجماء، فلما سال العقيق، خرجت و معها جواريها تمشي، حتى جاءت السيل، فجلست على جرفه، و مالت برجليها في السيل، ثم قالت: هذا في است المغبون(3). و اللّه لهذه الساعة من هذا القصر خير من الزوراء. قال(4): و كان البريديّ قصرا لا غلة له، و إنما يتنزه فيه، و كانت غلة الزوراء غلة وافرة عظيمة(4).
و قال/هارون: و حدّثني علي بن محمد النوفليّ عن أبيه، و عمه و غيرهما من مشايخ الهاشميين و الطالبيين:
أن سكينة بنت الحسين عليه السّلام، خرجت بها سلعة(4) في أسفل عينها، فكبرت حتى أخذت وجهها و عينها، و عظم شأنها، و كان بدراقس منقطعا إليها في خدمتها، فقالت له: أ لا ترى ما قد وقعت فيه؟ فقال: لها أ تصبرين على ما يمسّك من الألم حتى أعالجك؟ قالت: نعم. فأضجعها، و شق جلد وجهها حتى ظهرت السّلعة، ثم كشط الجلد عنها أجمع، و سلخ اللحم من تحتها حتى ظهرت عروق السلعة، و كان منها شيء تحت الحدقة،
ص: 372
فرفع الحدقة عنه، حتى جعلها ناحية، ثم سل عروق السلعة من تحتها. فأخرجها أجمع، و رد العين إلى موضعها، و عالجها و سكينة مضطجعة لا تتحرك و لا تئن، حتى فرغ مما أراد، فزال ذلك عنها، و برئت منها، و بقي أثر تلك الجراحة في مؤخر عينها، فكان أحسن شيء في وجهها، و كان أحسن على وجهها من كل حلي و زينة، و لم يؤثر ذلك في نظرها، و لا في عينها.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني عيسى بن إسماعيل، عن محمد بن سلام، عن جرير المديني، عن المدائني. و أخبرني به محمد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن محمد بن سلام. و أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن عمر بن شبة موقوفا عليه، قالوا:
اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين عليه السّلام، جرير و الفرزدق و كثيّر و جميل و نصيب، فمكثوا أياما، ثم أذنت لهم، فدخلوا عليها، فقعدت حيث تراهم و لا يرونها، و تسمع كلامهم، ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة و قد روت الأشعار و الأحاديث، فقالت: أيكم الفرزدق؟ فقال لها: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
هما دلّتاني من ثمانين قامة *** كما انحط باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا *** أ حي يرجّى أم قتيل نحاذره
فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا *** و أقبلت في أعجاز ليل أبادره
أبادر بوابين قد وكّلا بنا *** و أحمر(1) من ساج تبصّ مسامره
قال: نعم. قالت: فما دعاك إلى إفشاء سرها و سرك؟ هلاّ سترتها و سترت نفسك(2)؟ خذ هذه الألف، و الحق بأهلك.
ثم دخلت على مولاتها و خرجت، فقالت: أيكم جرير؟ فقال لها: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب و ليس ذا *** حين الزيارة فارجعي بسلام
تجرى السواك على أغرّ كأنه *** برد تحدر من متون غمام
/لو كان عهدك كالذي حدثتنا *** لو صلت ذاك فكان غير رمام(3)
إني أواصل من أردت وصاله *** بحبال لا صلف و لا لوّام
قال: نعم. قالت: أ فلا أخذت بيدها، و رحبت بها، و قلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف و فيك ضعف. خذ هذه الألف و الحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها و خرجت، فقالت: أيكم كثيّر؟ فقال: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
و أعجبني يا عزّ منك خلائق *** كرام إذا عدّ الخلائق أربع
ص: 373
/دنّوك حتى يطمع الطالب الصّبا *** و دفعك أسباب الهوى حين يطمع(1)
و قطعك أسباب الكريم و وصلك ال *** - لئيم و خلاّت المكارم ترفع(2)
فو اللّه ما يدري كريم مماطل *** أ ينساك إذا باعدت أم يتضرع(3)
قال: نعم. قالت: ملّحت و شكّلت. خذ هذه الثلاثة الآلاف، و الحق بأهلك.
ثم دخلت إلى مولاتها و خرجت فقالت: أيكم نصيب؟ قال: ها أنا ذا. قالت: أ أنت القائل:
و لو لا أن يقال صبا نصيب *** لقلت بنفسي النّشأ الصّغار
بنفسي كل مهضوم حشاها *** إذا ظلمت فليس لها انتصار
قال: نعم. قالت: ربيتنا صغارا، و مدحتنا كبارا. خذ هذه الأربعة الآلاف، و الحق بأهلك.
/ثم دخلت على مولاتها و خرجت، فقالت: يا جميل، مولاتي تقرئك السّلام، و تقول لك: و اللّه ما زلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بوادي القرى إني إذا لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة *** و كلّ قتيل عندهن شهيد
جعلت حديثنا بشاشة، و قتلانا شهداء، خذ هذه الأربعة الآلاف(4) الدينار، و الحق بأهلك.
أخبرني ابن أبي الأزهر قال: حدّثنا حماد عن أبيه، عن أبي عبد اللّه الزبيريّ، قال:
اجتمع بالمدينة راوية جرير و راوية كثير و رواية جميل و راوية نصيب و راوية الأحوص، فافتخر كل واحد منهم بصاحبه، و قال: صاحبي أشعر. فحكموا سكينة بنت الحسين بن عليّ عليهما السّلام، لما يعرفونه من عقلها و بصرها بالشعر، فخرجوا يتقادون(5)، حتى استأذنوا عليها، فأذنت لهم، فذكروا لها الذي كان من أمرهم، فقالت لراوية جرير: أ ليس صاحبك الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب و ليس ذا *** حين(6) الزيارة فارجعي بسلام
و أيّ ساعة أحلى للزيارة من الطروق، قبح اللّه صاحبك، و قبح شعره! أ لا قال: فادخلي بسلام! /ثم قالت لراوية كثيّر: أ ليس صاحبك الذي يقول:
ص: 374
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها *** و أحسن شيء ما به العين قرّت
فليس شيء أقرّ لعينها من النكاح، أ فيحب صاحبك أن ينكح؟ قبح اللّه صاحبك، و قبح شعره! ثم قالت لراوية جميل: أ ليس صاحبك الذي يقول:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها *** و لكن طلابيها لما فات من عقلي
فما أرى بصاحبك من هوى، إنما يطلب عقله، قبح اللّه صاحبك و قبح شعره! ثم قالت لراوية نصيب: أ ليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت *** فيا حربا(1) من ذا يهيم بها بعدي
فما أرى له همة إلاّ من يتعشقها بعده! قبحه اللّه و قبح شعره! أ لا قال:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت *** فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أ ليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين تواعدا و تراسلا(2) *** ليلا إذا نجم الثريا حلّقا
/باتا بأنعم ليلة و ألذها *** حتى إذا وضح الصباح تفرّقا
قال: نعم، قالت: قبحه اللّه و قبح شعره! أ لا قال: تعانقا.
قال إسحاق في خبره: فلم تثن على أحد منهم في ذلك اليوم، و لم تقدّمه.
قال: و ذكر لي الهيثم بن عديّ مثل ذلك في جميعهم إلا جميلا، فإنه خالف هذه الرواية، و قال: فقالت، لراوية جميل: أ ليس صاحبك الذي يقول:
فيا ليتني أعمى أصمّ تقودني *** بثينة لا يخفى علي كلامها
/قال: نعم. قالت: رحم اللّه صاحبك كان صادقا في شعره، كان جميلا كاسمه، فحكمت له.
و في الأشعار المذكورة في الأخبار أغان تذكرها هنا نسبتها.
فمنها:
و أخبرني: أبو خليفة في كتابه إليّ قال: حدّثنا محمد بن سلام عن يونس، و حدّثنا به اليزيديّ قال: حدّثنا أحمد بن زهير قال: حدّثنا محمد بن سلام عن يونس قال:
كان للفرزدق غلامان، يقال لأحدهما وقّاع، و للآخر زنقطة. قال: و لوقّاع يقول الفرزدق:
تغلغل وقّاع إليها فأقبلت *** تخوض خداريا من الليل أخضرا(1)
لطيف إذا ما انغلّ أدرك ما ابتغى *** إذا هو للظبي المروع تقتّرا(2)
/و له يقول أيضا:
فأبلغهنّ وحي القول عني *** و أدخل رأسه تحت القرام
أسيّد ذو خريطة نهارا *** من المتلقّطي قرد القمام(3)
فقلن له نواعدك الثريا *** و ذاك إليه مجتمع الرّجام
صوت(4)
ثلاث و اثنتان فهن خمس *** و سادسة تميل مع السّنام
خرجن إليّ لم يطمثن قبلي *** فهن أصح من بيض النعام
فبتن بجانبيّ مصرّعات *** و بت أفضّ أغلاق الختام(5)
في هذه الأبيات الثلاثة لابن جامع، خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ، و فيها هزج يمان بالوسطى عن عمرو بن بانة.
و ذكر حبش أن الهزج لفليح، و أن لحن ابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى.
أخبرني أبو خليفة قال: حدّثنا محمد بن سلام، قال: قال الفرزدق و هو بالمدينة:
هما دلتاني من ثمانين قامة *** كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا *** أ حيّ يرجّى أم قتيل نحاذره
فقلت ارفعوا الأسباب لا يفطنوا بنا *** و وليت في أعجاز ليل أبادره(6)
أبادر بوابين قد وكّلا بنا *** و أحمر من ساج تبص مسامره
ص: 376
و أصبحت في القوم الجلوس و أصبحت *** مغلّقة دوني عليها دساكره(1)
/قال: فأنكرت ذلك قريش عليه، و أزعجه مروان عن المدينة و هو واليها لمعاوية، و أجّله ثلاثة أيام، فقال:
يا مرو إنّ مطيتي محبوسة *** ترجو الحباء(2) و ربها لم ييأس
و أتيتني بصحيفة مختومة *** أخشى عليّ بها حباء النّقرس
/ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن *** نكداء مثل صحيفة المتلمس(3)
و قال في ذلك:
و أخرجني و أجّلني ثلاثا *** كما وعدت لمهلكها ثمود
و ذكر ذلك جرير في مناقضته إياه، فقال:
و شبهت نفسك أشقى ثمود *** فقالوا ضللت و لم تهتد
يعني تأجيل مروان له ثلاثا. و قال فيه أيضا جرير:
تدليت تزني من ثمانين قامة *** و قصّرت عن باع العلا و المكارم
و هما قصيدتان.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق: أنشدني أجود شعر قلته، فأنشده قوله:
عزفت بأعشاش و ما كدت تعزف *** و أنكرت من حدراء ما كنت تعرف
/فقال له: زدني. فأنشده قوله:
ثلاث و اثنتان فهن خمس *** و سادسة تميل إلى الشمام(4)
فقال له سليمان: ما أظنك إلا قد أحللت بنفسك العقوبة؛ أقررت بالزنا عندي و أنا إمام، و لا بد لي من إقامة الحد عليك. قال: إن أخذت فيّ بقول اللّه عز و جل لم تفعل. قال: و ما قال اللّه عز و جل؟ قال: قال: وَ الشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغٰاوُونَ. أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ. وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ (5). فضحك سليمان، و قال: تلافيتها و درأت عن نفسك، و أمر له بجائزة سنية، و خلع عليه.
ص: 377
أخبرني هاشم(1) بن محمد قال: حدثنا أبو غسان دماذ؛ عن أبي عبيدة، قال:
نزل الفرزدق هو و من معه بقوم من العرب، فأنزلوه و أكرموه، و أحسنوا قراه، فلما كان في الليل دبّ إلى جارية منهم، فراودها عن نفسها، فصاحت، فتبادر القوم إليها، فأخذوها من يده و أنبوه، فجعل يفكر و اهتم، فقال له الرجل الذي نزل به: مالك؟ أ تحب أن أزوجك من هذه الجارية. فقال: لا، و اللّه. ما ذلك بي، و لكني كأني بابن المراغة قد بلغه هذا الخبر، فقال فيّ:
و كنت إذا حللت بدار قوم *** رحلت(2) بخزية و تركت عارا
فقال له الرجل: لعله لا يفطن لهذا. فقال: عسى أن يكون ذلك. قال: فو اللّه ما لبثوا(3) أن مر بهم راكب ينشد هذا البيت، فسألوه عنه، فأنشدهم قصيدة لجرير بعيره بذلك الفعل، و فيها هذا البيت بعينه.
/و منها:
<من شعر جرير>
طرقتك صائدة القلوب و ليس ذا *** حين(4) الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغرّ كأنه *** برد تحدّر من متون غمام
هيهات منزلنا بجوّ سويقة *** ممن يحلّ بواطن الآجام(5)
أقر السّلام على سعاد و قل لها *** لوما(6) تردّ رسولنا بسلام
الشعر لجرير. و الغناء لابن سريج: ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن ابن المكي. و ذكره إسحاق في هذه الطريقة أيضا و لم ينسبه إلى أحد، و أظنه من منحول يحيى. و ذكره عمرو/بن بانة أيضا لابن سريج في الثاني و الرابع في هذه الطريقة، و ذكر عليّ بن يحيى أن فيه لابن سريج ثقيل أول في الثاني و الثالث، و أنكر ذلك حبش(7)، و قال:
هو بالوسطى. قال عليّ بن يحيى: و من الناس من ينسبه إلى سياط. و ذكر حبش أن فيه للهذليّ خفيف ثقيل بالبنصر، و للغريض(8) ثاني ثقيل بالوسطى. و منها(8):
ص: 378
من عاشقين تراسلا و تواعدا *** بلقا إذا نجم الثريا حلّقا(1)
بعثا أمامهما مخافة رقبة *** رصدا فمزّق عنهما ما مزّقا
باتا بأنعم ليلة و ألذها *** حتى إذا وضح(2) الصباح تفرقا
الشعر للأحوص. و الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالبنصر، عن يونس و الهشامي.
و روى أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائنيّ، عن أبي يعقوب الثقفيّ، عن عامر الشعبيّ؛ و ذكر أيضا أبو عبيدة معمر بن المثنى:
أن الفرزدق خرج حاجا، فلما قضى حجه خرج إلى المدينة، فدخل على سكينة بنت الحسين عليه السّلام مسلما، فقالت له: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت. أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنّبه عزيز *** عليّ و من زيارته لمام
و من أمسي و أصبح لا أراه *** و يطرقني إذا هجع النّيام
قال: و اللّه لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه. قالت: أقيموه، فأخرج(3). ثم عاد إليها من الغد، فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت. صاحبك أشعر منك حيث يقول:
لو لا الحياء لعادني استعبار(4) *** و لزرت قبرك و الحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها *** كتم الحديث و عفّت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا *** ليل يكرّ عليهم و نهار
فقال: و اللّه لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه. فأمرت به فأخرج؛ ثم عاد إليها في اليوم الثالث، و حولها مولّدات كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن، فأعجب بها. فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ فقال: أنا.
فقالت: كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول:
/إن العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
ص: 379
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به *** و هن أضعف خلق اللّه أركانا
فقال: يا بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، إن لي عليك حقا عظيما. ضربت إليك من مكة أريد التسليم عليك، فكان في دخولي إليك تكذيبي و منعك إياي أن أسمعك(1)، و بي ما قد عيل معه صبري، و هذه المنايا تغدو و تروح، و لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإن/أنا مت فمري أن أدرج في كفني، و أدفن في حر تلك الجارية، يعني الجارية التي أعجبته، فضحكت سكينة، و أمرت له بالجارية، فخرج بها آخذا بريطتها، و أمرت الجواري أن يدفعن في أقفائهما، ثم قالت:
يا فرزدق، أحسن صحبتها، فإني آثرتك بها على نفسي.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، و أحمد بن عبد اللّه العزيز الجوهريّ، قالا: حدّثنا عليّ بن محمد النوفليّ(2)، قال: حدثني أبي عن أبيه و عمومته و جماعة من شيوخ بني هاشم:
أنه لم يصلّ على أحد بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بغير إمام إلا سكينة بنت الحسين عليه السلام، فإنها ماتت و على المدينة خالد بن عبد الملك، فأرسلوا إليه، فآذنوه بالجنازة، و ذلك في أول النهار في حر شديد، فأرسل إليهم: لا تحدثوا حدثا حتى أجيء فأصلي عليها، فوضع النعش في موضع المصلّى على الجنائز، و جلسوا ينتظرونه حتى جاءت الظهر، فأرسلوا إليه، فقال: لا تحدثوا فيها شيئا حتى أجيء، فجاءت العصر، ثم لم يزالوا ينتظرونه حتى صليت العشاء، كل ذلك يرسلون إليه، /فلا يأذن لهم حتى صليت العتمة و لم يجيء، و مكث الناس جلوسا حتى غلبهم النعاس، فقاموا فأقبلوا يصلون عليها جمعا جمعا و ينصرفون، فقال عليّ بن الحسين عليه السلام: من أعان بطيب رحمه اللّه! قال: و إنما أراد خالد بن عبد الملك، فيما ظن قوم، أن تنتن. قال: فأتي بالمجامر، فوضعت حول النعش، و نهض ابن أختها محمد بن عبد اللّه العثماني، فأتى عطّارا كان يعرف عنده عودا، فاشتراه منه بأربعمائة دينار، ثم أتى به، فسجر حول السرير، حتى أصبح و قد فرغ منه، فلما صلّيت الصبح أرسل إليهم: صلوا عليها و ادفنوها. فصلى عليها شيبة ب نصاح(3).
و ذكر يحيى بن الحسين في خبره: أن عبد اللّه بن حسن هو الذي ابتاع لها العود بأربعمائة دينار.
كل قوم صيغة من فضة *** و بنو عبد مناف من ذهب(1)
نحن قوم قد بنى اللّه لنا *** شرفا فوق بيوتات العرب
بنبي اللّه و ابني عمه *** و بعباس بن عبد المطّلب
/الشعر للفضل بن العباس اللّهبيّ، و الغناء لمعبد، ثقيل أوّل بالبنصر، في الأوّل و الثاني و الثالث. و لابن محرز في الأوّل و الثاني خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و ذكر يونس أن فيهما لمعبد و مالك و ابن محرز و ابن مسجح و ابن سريج خمسة ألحان. و ذكر الهشامي أن لحن ابن سريج رمل، و لحن مالك خفيف رمل، و لحن معبد خفيف ثقيل، و لحن ابن محرز ثقيل أوّل. و ذكر ابن المكيّ أن الثقيل الأوّل لمالك. و ذكر عمرو بن بانة في كتابه الثاني أن لابن مسجح أو لابن محرز فيه خفيف رمل. و ذكر(2) الهشاميّ أن فيه رملا آخر بالوسطى لأبي سعيد مولى فائد، و لأبي الحسن مولى سكينة، في الثالث و الرابع، خفيف ثقيل(2). و ذكر حبش أن لابن صاحب/الوضوء(2) في الأوّل و الثاني ثاني ثقيل بالبنصر، و لابن سريج ثقيل أوّل بالبنصر. و ذكر حماد عن أبيه: أن لابن عائشة فيهما لحنا، و وافقه ابن المكيّ. و ذكر أنه خفيف رمل. قال: و قيل(4) إنه لدحمان(4). و ذكر ابن خرداذبه أن لخليدة المكية(3) في الرابع و الثالث خفيف رمل، و في الخامس و السادس و الأوّل رمل، يقال إنه لإبراهيم، و يقال إنه لإسحاق. و الخامس و السادس من هذه الأبيات، و إن كان شعر الفضل بن العباس اللهبي، فليس من القصيدة التي فيها:
و أنا الأخضر من يعرفني
/لكن من قصيدة له أوّلها:
شاب رأسي و لداتي لم تشب *** بعد لهو و شباب و لعب
شيب المفرق مني و بدا *** في حفافي لحيتي مثل العطب
في هذين البيتين لهاشم و نفيلة(4) خفيف رمل بالوسطى، و القصيدة التي فيها:
و أنا الأخضر من يعرفني *** أخضر الجلدة من نسل العرب
أوّلها قوله:
طرب الشيخ و لا حين طرب *** و تصابي و صبا الشيخ عجب
ص: 381
الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، و اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. و كان أحد شعراء بني هاشم المذكورين و فصحائهم. و كان شديد الأدمة. و لذلك قال:
و أنا الأخضر من يعرفني
و هو هاشميّ الأبوين؛ و أمه بنت العباس بن عبد المطلب.
أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيديّ، عن عمه عبيد اللّه، عن ابن حبيب. و إنما أتاه السواد من قبل أمه:
جدته(1)، و كانت حبشية.
و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم زوج عتبة إحدى بناته. فلما بعثه اللّه تعالى نبيا، أقسمت عليه أم جميل أن يطلقها. فجاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: يا محمد، أشهد من حضر أني(2) قد كفرت بربك، و طلقت ابنتك. فدعا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يبعث اللّه عليه كلبا من كلابه يقتله. فبعث اللّه عز و جل عليه أسدا فافترسه(3).
أخبرني الحسن بن القاسم البجليّ الكوفيّ قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن المعلّى قال: حدّثني الوليد بن وهب، عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة قال:
لما نزلت: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ (4)، قال عتبة للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنا أكفر برب النجم إذا هوى. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
اللهم أرسل عليه كلبا من كلابك. قال: فقال ابن عباس: فخرج إلى الشام في ركب فيهم هبّار بن الأسود، حتى إذا كانوا بوادي الغاضرة، و هي مسبعة، نزلوا ليلا، فافترشوا صفا واحدا، فقال عتبة: أ تريدون أن تجعلوني حجرة؟ لا، و اللّه، لا أبيت إلا وسطكم. /فباب وسطهم. قال هبار: فما أنبهني إلا السبع يشمّ رءوسهم رجلا رجلا، حتى انتهى
ص: 382
إليه، فأنشب(1) أنيابه في صدغيه، فصاح: أي قوم، قتلي(2) دعوة محمد(2)، فأمسكوه، فلم يلبث أن مات في أيديهم.
أخبرني الحسن بن الهيثم قال: حدّثنا علي بن إبراهيم قال: حدّثني الوليد بن وهب، عن أبي حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه مثله. إلا أنه قال: قال عتبة: أنا بريء من الذي دَنٰا فَتَدَلّٰى . قال: و قال هبّار: فضغمه الأسد ضغمة، فالتقت أنيابه عليه.
نسخت من كتاب ابن النطّاح عن الهيثم بن عديّ. و قد أخبرنا به محمد بن العباس اليزيديّ في «كتاب الجوابات» قال: حدّثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني، إلا أن رواية ابن النطاح أتم، و اللفظ له، قال:
/مر الفضل اللّهبيّ بالأحوص هو ينشد، و قد اجتمع الناس عليه، فحسده، فقال له: يا أحوص إنك لشاعر، و لكنك لا تعرف الغريب، و لا تعرب. قال: بلى، و اللّه إني لأبصر الناس بالغريب و الإعراب، فأسألك(2)؟ قال:
نعم. قال:
ما ذات حبل يراها الناس كلهم *** وسط الجحيم فلا تخفى على أحد
كل الحبال حبال الناس من شعر *** و حبلها وسط أهل النار من مسد
فقال له الفضل بن العباس:
ما ذا أردت إلى شتمي و منقصتي *** ما ذا أردت إلى حمّالة الحطب؟
أذكرت بنت قروم سادة نجب *** كانت حليلة شيخ ثاقب النّسب
فانصرف عنه.
قال ابن النطاح:
و حدثت أن الحزين الدّيلي(3) مر بالفضل يوم جمعه، و عنده قوم ينشدهم، فقال له الحزين: أ تنشد الشعر و الناس يروحون إلى الصلاة؟ فقال الفضل: ويلك يا حزين! أ تتعرض لي، كأنك لا تعرفني. قال: بلى و اللّه، إني لأعرفك، و يعرفك معي كل من قرأ سورة تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ (4). و قال يهجوه:
إذا ما كنت مفتخرا بجد *** فعرّج عن أبي لهب قليلا
ص: 383
فقد أخزى الإله أباك دهرا *** و قلّد عرسه حبلا طويلا
فأعرض عنه الفضل، و تكرم عن جوابه. و كان الحزين مغرّى بن و بهجائه.
حدّثني الحسن بن علي قال: حدّثنا القاسم بن محمد الأنباريّ قال: حدّثنا أبو عكرمة عامر بن عمران، قال:
/دخل الفرزدق المدينة، فنظر إلى الفضل بن العباس بن عتبة ينشد:
من يساجلني يساجل ماجدا *** يملأ الدلو إلى عقد الكرب
فقال الفرزدق: من المنشد؟ فأخبر به، فقال: ما يساجلك إلا من عضّ بظر أمه.
حدّثني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدّثنا محمد بن الحكم، قال:
قدم الوليد بن عبد الملك حاجا إلى مكة و هو خليفة، فدخل عليه الفضل بن العباس بن عتبة، فشكا إليه كثرة العيال، و سأله فأعطاه مالا و إبلا و رقيقا. فلما مات الوليد ولي سليمان فحج، فأتاه فسأله، فلم يعطه شيئا، فقال:
يا صاحب العيس التي رحلت *** محبوسة لعشية النّفر
/امرر على قبر الوليد فقل له *** صلّى الإله عليك من قبر
يا واصل الرّحم التي قطعت *** و أصابها الجفوات في الدهر
إني وجدت الخلّ بعدك كاذبا *** فبرئت من كذب و من غدر
و لقد مررت بنسوة يندبنه *** بيض السواعد من بني فهر
تبكي لسيدها الأجل و ما *** يبكين من ناب و لا بكر
يبكينه و يقلن: سيدنا *** ضاع الخلافة آخر الدهر(1)
ما ذا لقيت، جزيت صالحة *** من جفوة الإخوان لو تدري
أخبرني وكيع بهذا الخبر، قال: حدّثني محمد بن علي بن حمزة قال: حدثنا أبو غسان قال: أخبرنا أبو عبيدة عن عبد العزيز بن أبي ثابت، قال:
/كان الفضل بن العباس منقطعا إلى الوليد بن عبد الملك، فلما مات الوليد جفاه سليمان و حرمه، فقال:
يا راكب العيس التي وقفت *** للنفر يوم صبيحة النحر(2)
و ذكر الأبيات. قال: كان الوليد فرض له فريضة يعطاها كل سنة، فقال: يا أمير المؤمنين، بقي شارب الريح.
قال: و ما شارب الريح؟ قال: حماري، افرض له شيئا. ففرض له خمسة دنانير، فأخذها و لم يكن يطعمه، فعمد
ص: 384
رجل فكتب رقعة يذكر فيها قصة الحمار، و علقها في عنقه(1)، و جاء بها إلى القاضي، فأضحك منه الناس.
حدّثنا اليزيديّ، قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدّثني أبو الشكر مولى بن هاشم، كوفيّ ظريف، قال:
كان الفضل بن العباس بخيلا، فقدم عليّ بن عبد اللّه بن العباس حاجا، فأتاه في منزله مسلما عليه، فقال له:
كيف أنت، و كيف حالك؟ قال: نحن في عافية. قال: فهل من حاجة؟ قال: لا و اللّه، و إني لأشتهي هذا العنب، و قد أغلاه علينا هؤلاء العلوج. فغمز غلاما له، فذهب فأتاه بسلة عظيمة من عنب، فجعل يغسل له عنقودا عنقودا و يناوله، فكلما فعل ذلك قال: برّتك رحم.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدّثنا الزبير بن بكار عن عمه، قال:
كان الفضل بن العباس بخيلا، و كان ثقيل البدن، إذا أراد يمضي في حاجة استعار مركوبا، فطال ذلك عليه و على أهل المدينة من فعله، فقال له بعض/بني هاشم: أنا أشتري لك حمارا تركبه، و تستغني عن العاريّة. ففعل، و بعث به إليه، فكان يستعير له سرجا إذا أراد أن يركبه، فتواصى الناس بألا يعيره أحد سرجا. فلما طال عليه ذلك، اشترى سرجا بخمسة دراهم، و قال:
و لما رأيت المال مألف أهله *** و صان ذوي الأخطار(2) أن يتبذلوا
رجعت إلى مالي فأعتبت بعضه *** فأعتبني إني كذلك أفعل(3)
ثم قال للذي اشترى له الحمار: إني لا أطيق علفه، فإما أن تبعث إليّ علفه و إلا رددته. فكان يبعث إليه بعلف كل ليلة و شعير، و لا يدع هو أيضا أن يطلب من كل أحد يأنس به علفا لحماره، فيبعث به إليه، فيعلفه التبن دون الشعير، حتى هزل و عطب. فرفع الحزين الكنانيّ إلى ابن حزم أو عبد العزيز بن عبد المطلب رقعة، و كتب في رأسها قصة حمار/الفضل اللهبي، و ذكر فيها أنه يركبه و يأخذ علفه و قضيمه من الناس، و يعلفه التبن، و يبيع الشعير، و يأخذ ثمنه، و يسأل أن ينصف منه. فضحك لما قرأ الرقعة، و قال: لئن كنت مازحا إني لأراك صادقا. و أمر بتحويل حمار اللهبي إلى إصطبله، ليعلفه و يقضمه، فإذا أراد ركوبه دفع إليه.
أخبرني وكيع قال: حدّثني محمد(4) بن سعد الشاميّ، عن ابن عائشة، قال:
ص: 385
كان الفضل اللهبي بغير سرج، فاستعار سرجا، فمطله الرجل، حتى خاف أن تفوته حاجته، فاشترى سرجا و مضى لحاجته، و أنشأ يقول:
و لما رأيت المال مألف أهله
و ذكر البيتين و لم يزد عليهما شيئا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني علي بن محمد النوفليّ قال:
كان أبي عند إسحاق بن عيسى بن عليّ و هو والي البصرة، عنده وجوه أهل البصرة، و قد كانت فيهم بقية حسنة في ذلك الدهر، فأفاضوا في ذكر نبي هاشم، و ما أعطاهم اللّه من الفضل بنبيه صلّى اللّه عليه و سلّم، فمن منشد شعرا، و متحدث و ذاكر فضيلة من فضائل بني هاشم. فقال أبي: قد جمع هذا الكلام الفضل بن العباس اللّهبي في بيت قاله، ثم أنشد قوله:
ما بات قوم كرام يدّعون يدا *** إلا لقومي عليهم منّة و يد
نحن السّنام الذي طالت شظيته *** فما يخالطه الأدواء و العمد
فمن صلّى صلاتنا، و ذبح ذبيحتنا، عرف أن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يدا عليه، بما هداه اللّه عز و جل إلى الإسلام به، و نحن قومه، فتلك منة لنا على الناس.
و في هذين البيتين غناء لابن محرز، هزج بالبنصر في رواية عمرو ب بانة. و قوله «و طالت شظيته»، الشظية:
الشّظى(1)، قال دريد بن الصمة.
سليم الشّظى عبل الشّوى شنج النسا *** أمين القوى نهد طويل المقلّد
و العمد: داء يصيب البعير من مؤخر سنامه إلى عجزه، فلا يلبثه أو يقتله(2)
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قالا: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران، قالا: أخبرني أحمد بن هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، قال:
/قدم الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، على عبد الملك بن مروان، فأنشده و عنده ابن لعبيد اللّه بن زياد، فقال الزياديّ، و اللّه ما أسمع شعرا، فلما كان العشيّ راح إليه الفضل، فوقف بين يديه، ثم قال: يا أمير المؤمنين:
أتيتك حالا و ابن عم و عمة *** و لم أك شعبا لا طه بك مشعب(3)
ص: 386
فصل واشجات بيننا من قرابة *** ألا صلة الأرحام أبقى و أقرب
و لا تجعلني كامرئ ليس بينه *** و بينكم قربى و لا متنسّب
أ تحدب من دون العشيرة كلها *** فأنت على مولاك أحنى و أحدب
فقال الزياديّ: هذا، و اللّه يا أمير المؤمنين، الشعر! فقال عبد الملك: النّخس يكفيك البطيء(1). و جعل يضحك من استرسال الزياديّ في يده(2)، و أحسن صلته.
و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن/عمار قال: حدّثني النوفليّ قال: حدّثني عمي قال:
لما قدم الفضل اللّهبيّ على عبد الملك بن مروان أمر له بعشرة آلاف درهم، ثم حج الوليد فأمر له بمثلها.
فلما قدم الأحيحي(3) على المهديّ فمدحه، قال المهدي لمن حضر: كم كان عبد الملك أعطى الفضل اللّهبيّ لما مدحه، فما أعلم هاشميا مدحه غيره؟ فقيل له: أعطاه عشرة آلاف درهم. قال: فكم أعطاه الوليد؟ قالوا: مثل عطية أبيه. فأمر للأحيحيّ بثلاثين ألف درهم.
/أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثنا عمر بن شبة، قال: حدّثني أحمد بن معاوية، عن عثمان بن إبراهيم الحاطبيّ، قال:
خرج عليّ بن عبد اللّه بن العباس بالفضل اللهبيّ إلى عبد الملك بن مروان بالشام، فخرج عبد الملك يوما رائحا على نجيب له، و معه بغلة تجنب، فحدا حادي عبد الملك به، فقال:
يا أيها البكر الذي أراكا *** عليك سهل الأرض في ممشاكا
ويلك هل تعلم من علاكا *** إن ابن مروان على ذراكا
خليفة اللّه الذي امتطاكا(4) *** لم يعل بكرا مثل من علاكا
فعارضه الفضل اللّهبي، فحدا بعليّ بن عبد اللّه ب عباس، فقال:
يا أيها السائل عن عليّ *** سألت عن بدر لنا بدريّ
أغلب في العلياء غالبيّ(5) *** و ليّن الشيمة هاشمي
جاء على بكر له مهريّ
فنظر عبد الملك إلى عليّ فقال: أ هذا مجنون آل أبي لهب؟ قال: نعم. فلما أعطى قريشا مر به اسمه فحرمه، و قال:
يعطيه عليّ. هكذا رواية عمر بن شبة.
ص: 387
و أخبرني ابن عمار بهذا الخبر عن علي بن محمد بن النوفليّ عن عمه:
أن سليمان بن عبد الملك حج في خلافة الوليد، فجاء إلى زمزم فجلس عندها، و دخل الفضل اللّهبيّ يستقي، فجعل يرتجز و يقول:
يا أيها السائل عن عليّ *** سألت عن بدر لنا بدريّ
مقدّم في الخير أبطحيّ *** و لين الشيمة هاشميّ
زمزمنا بوركت من ركيّ *** بوركت للساقي و للمسقيّ
/فغضب سليمان، و هم بالفضل. فكفه عنه عليّ بن عبد اللّه، ثم أتاه بقدح فيه نبيذ من نبيذ السقاية، فأعطاه إياه، و سأله أن يشربه، فأخذه من يده كالمتعجب، ثم قال: نعم إنه يستحب، و وضعه في يده و لم يشربه. فلما ولي الخلافة و حج لقيه الفضل، فلم يعطه شيئا.
نسخت من كتاب ابن النطاح، قال:
ذكر أبو المدائني أن الحارث بن خالد المخزوميّ، كان يحسد الفضل اللهبي على شعره و يعاديه، لأن أبا لهب كان قامر جده العاصي بن هاشم على ماله فقمره، ثم قامره على رقة فقمره(1)، فأسلمه قينا، ثم بعث به بديلا يوم بدر، فقتله عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فكان(2) إذا أنشد شيئا من شعره يقول: هذا شعر ابن «حمّالة الحطب». فقال الفضل في ذلك:
ما ذا تحاول من شتمي و منقصتي *** ما ذا تعيّر من حمالة الحطب
/غراء سائلة في المجد غرتها *** كانت حليلة شيخ ثاقب النسب
إنا و إن رسول اللّه جاء بنا *** شيخ عظيم شئون الرأس و النشب
يا لعن اللّه قوما أنت سيدهم *** في جلدة بين أصل الثّيل(3) و الذنب
أبا لقيون توافيني تفاخرني *** و تدعي المجد قد أفرطت في الكذب
و في ثلاثة رهط أنت رابعهم *** توعدني واسطا جرثومة العرب
في أسرة من قريش هم دعائمها *** تشفي دماؤهم للخيل و الكلب
أما أبوك فعبد لست تنكسره *** و كان مالكه جدي أبو لهب
النبع عيداننا و المجد شيمتنا *** لسنا كقومك من مرخ و لا غرب
ص: 388
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي عبيد اللّه بن محمد، عن ابن حبيب، عن ابن الأعرابي، قال:
كان رجل من بني كنانة يقال له عقرب حنّاط قد داين الفضل اللّهبيّ فمطله، ثم مر به الفضل و هو يبيع حنطة له، و يقول:
جاءت بها ضابطة التّجار *** صافية كقطع الأوتار
فقال الفضل:
قد تجرت عقرب في سوقنا *** يا عجبا للعقرب التاجرة
قد صافت(1) العقرب و استيقنت *** أن مالها دنيا و لا آخره
فإن تعد عادت لما ساءها *** و كانت النعل لها حاضره
إن عدوا كيده في استه *** لغير ذي كيد و لا نائره(2)
كل عدو يتّقى مقبلا *** و عقرب تخشى من الدابره
كأنها إذ خرجت هودج *** شدّت قواه رفعة باكره
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدّثنا دماذ أبو غسان، عن أبي عبيدة. و وجدته في بعض الكتب عن الرياشيّ عن زكويه العلائي عن ابن عائشة عن أبيه، و الروايتان كالمتفقتين:
أن عمر بن أبي ربيعة وفد على الملك بن مروان، فأدخل عليه، فسأله عن نسبه، فانتسب، فقال له:
لا أنعم اللّه بقين عينا *** تحية السخط إذا التقينا
أ أنت لا أم لك القائل:
نظرت إليها بالمحصّب من منى *** و لي نظر لو لا التحرّج عارم
فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة *** بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط إمّا النوفل *** أبوها و إما عبد شمس و هاشم(3)
ص: 389
الغناء لابن سريج: رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة، و من رواية حماد بن إسحاق عن أبيه. و لمعبد فيه لحن من رواية إسحاق: ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر(1)، أوّله:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل
و في لحن معبد خاصة قوله:
/و مد عليها السجف يوم لقيتها *** على عجل تبّاعها و الخوادم
و تمام الشعر:
فلم أستطعها غير أن قد بدا لنا *** عشية راحت كفّها و المعاصم
معاصم لم تضرب على البهم بالضّحى *** عصاها، و وجه لم تلحه السّمائم
نرجع إلى سياقة الخبر:
ثم قال له عبد الملك: قاتلك اللّه! ما ألأمك! أ ما كانت لك في بنات العرب مندوحة عن بنات عمك! فقال عمر: بئست و اللّه هذه التحية يا أمير المؤمنين لابن العم، على شحط الدار، و نأي المزار. فقال له عبد الملك: أراك مرتدعا عن ذلك؟ فقال: إني إلى اللّه تعالى تائب. فقال عبد الملك: إذن يتوب اللّه عليك، و سيحسن جائزتك.
و لكن أخبرني عن منازعتك اللّهبيّ في المسجد الجامع، /فقد أتاني نبأ ذلك، و كنت أحب أن أسمعه منك. قال عمر: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا جالس في المسجد الحرام، في جماعة من قريش، إذ دخل علينا الفضل بن العباس بن عتبة، فسلم و جلس، و وافقني و أنا أتمثل بهذا البيت:
و أصبح بطن مكة مقشعرّا *** كأن الأرض ليس بها هشام(2)
فأقبل عليّ و قال: يا أخا بني مخزوم، و اللّه إن بلدة تبحبح(3) بها عبد المطلب، و بعث منها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و استقرّ بها بيت اللّه عز و جل، لحقيقة ألا تقشعرّ لهشام، و إن أشعر من هذا البيت و أصدق قول من يقول:
إنما عبد مناف جوهر *** زيّن الجوهر عبد المطلب
فأقبلت عليه فقلت: يا أخا بني هاشم، إن أشعر من صاحبك الذي يقول:
إن الدليل على الخيرات أجمعها *** أبنا مخزوم(4)، للخيرات مخزوم
فقال لي: أشعر و اللّه من صاحبك الذي يقول:
جبريل أهدى لنا الخيرات أجمعها *** إذ أمّ هاشم(4) لا أبناء مخزوم
فقلت في نفسي: غلبني و اللّه. ثم حملني الطمع في انقطاعه عليّ، فخاطبته فقلت: بل أشعر منه الذي يقول:
أبناء مخزوم الحريق إذا *** حركته تارة(5) ترى ضرما
ص: 390
يخرج منه الشّرار مع لهب *** من حاد عن حرّه فقد سلما
/فو اللّه ما تلعثم(1) أن أقبل عليّ بوجهه فقال: يا أخا بني مخزوم، أشعر من صاحبك و أصدق الذي يقول:
هاشم بحر إذا سما(2) و طما *** أحمد حرّ الحريق و اضطرما
و اعلم و خير المقال أصدقه *** بأنّ من رام هاشما هشما
قال: فتمنيت و اللّه يا أمير المؤمنين أن الأرض ساخت بي، ثم تجلدت عليه فقلت: يا أخا بني هاشم، أشعر من صاحبك الذي يقول:
أبناء مخزوم أنجم طلعت *** للناس تجلو بنورها الظّلما
/نجود بالنّيل قبل تسأله *** جودا هنيئا و تضرب البهما(3)
فأقبل عليّ بأسرع من اللحظ(4)، ثم قال: أشعر من صاحبك و أصدق الذي يقول:
هاشم شمس بالسّعد مطلعها *** إذا بدت أخفت النجوم معا
اختار منها ربّي النبيّ فمن *** قارعها(5) بعد أحمد قرعا
فاسودّت الدنيا في عيني، و دير بي، و انقطعت، فلم أحر جوابا. ثم قلت له: يا أخا بني هاشم، إن كنت تفخر علينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فما يسعنا مفاخرتك. فقال: كيف؟ لا أمّ لك، و اللّه لو كان منك لفخرت به عليّ. فقلت: صدقت و أستغفر اللّه، إنه لموضع الفخار. و داخلني السرور لقطعه الكلام، و لئلا ينالني عوز(6) عن إجابته فأفتضح. ثم إنه ابتدأ بالمناقضة، فأفكر هنيهة، ثم قال: قد قلت فلم أجد بدّا من الاستماع، فقلت: هات. فقال:
/نحن الذين إذا سما لفخارهم *** ذو الفخر أقعده هناك القعدد(7)
افخر بنا إن كنت يوما فاخرا *** تلق الألى فخروا بفخرك أفردوا
قل يا ابن مخزوم لكل مفاخر *** منا المبارك ذو الرسالة أحمد
ما ذا يقول ذوو الفخار هنا لكم *** هيهات ذلك، هل ينال الفرقد
فحصرت و اللّه و تبلّدت، و قلت له: إن لك عندي جوابا فأنظرني. و أفكرت مليّا، ثم أنشأت أقول:
لا فخر إلا قد علاه محمد *** فإذا فخرت به فإني أشهد
أن قد فخرت وفقت كلّ مفاخر *** و إليك في الشرف الرفيع المعمد
و لنا دعائم قد بناها أوّل *** في المكرمات جرى عليها المولد
ص: 391
من رامها حاشى النبيّ و أهله *** بالفخر غطمطه الخليج المزبد(1)
دع ذا و رح لغناء خود بضّة *** مما نطقت به و غنّى معبد
مع فتية تندى بطون أكفهم *** جودا إذا هرّ(2) الزمان الأنكد
يتناولون سلافة عانية *** طابت(3) لشاربها و طاب المقعد
فو اللّه يا أمير المؤمنين، لقد أجابني بجواب كان أشد علي من الشعر. قال لي: يا أخا بني مخزوم، أريك السّها و تريني القمر - قال أبو عبد اللّه اليزيديّ(4): أدلّك على الأمر الغامض، و أنت لم تبلغ أن ترى الأمر الواضح. و هذا مثل - أ تخرج من المفاخرة إلى شرب الراح، و هي الخمر المحرمة؟ فقلت له: أ ما علمت أصلحك اللّه/أن اللّه عز و جلّ يقول في الشعراء: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ (5). فقال: صدقت، و قد استثنى اللّه قوما منهم، فقال: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ (6)، فإن كنت منهم فقد دخلت تحت الاستثناء، و قد استحققت العقوبة بدعائك إليها؛ و إن لم تكن منهم فالشرك باللّه عليك أعظم من شرب الخمر. فقلت: أصلحك اللّه، لا أجد للمستخذي شيئا أصلح من السكوت. فضحك و قال: أستغفر اللّه. و قام عني.
قال: فضحك عبد الملك حتى استلقى، و قال يا ابن أبي ربيعة، أ ما علمت أن لبني عبد مناف ألسنة لا تطاق، ارفع حوائجك. قال: فرفعتها فقضاها، و أحسن جائزتي و صرفني(7).
و اللفظ في هذا الخبر لمحمد/بن العباس(8).
منهم خليدة المكية، و هي مولاة لابن شمّاس، كانت هي و عقيلة و ربيحة يعرفن بالشماسيات، و قد أخذن الغناء عن ابن سريج و معبد و مالك.
فأخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و الطّوسيّ قالا: حدّثنا الزبير بن بكار، عن عمه قال:
كانت لهشام بن عروة جفنة يصيب منها هو و بنوه ناحية(9)، و كان محمد بن هشام يصنع الطعام الرقيق، فيشير إليهم، فيمسكون عن الأكل، فيفطن هشام، فيقول: لقد حدث شيء، ثم يقول محمد، فيتسلّل القوم إليه، و جاءت
ص: 392
/خليدة المكية، فصعدوا غرفة، فلما غنّت إذا حفز(1) و نفس، فإذا هو هشام قد طلع و هو ينشد:
يا قدميّ ألحقاني بالقوم *** لا تعداني كسلا بعد اليوم
فلما رآهم، قال: أحسبه قد جلس معهم. و قال لخليدة: غني. فغنت. فقال لها: اكتبي في صدرك قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ و المعوّذتين لا تصيبك العين.
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب، عن ابن خرداذبه قال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، عن الفضل بن الربيع قال:
ما رأيت ابن جامع يضرب لغناء كما يطرب لغناء خليدة المكية، و كانت سوداء، و فيها يقول الشاعر:
فتنت كاتب الأمير رياحا(2) *** يا لقوم خليدة المكية
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدّثنا عمر بن شبة، و نسخت هذا الخبر بعينه من كتاب جعفر بن قدامة بخطه، قال: حدّثني عمر بن شبة قال:
بلغني أن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان أرسل إلى خليدة المكية أبا عون مولاه يخطبها عليه.
فاستأذن فأذنت له و عليها ثياب رقاق لا تسترها، ثم وثبت، فقالت: إنما ظننتك بعض سفهائك، و لكني ألبس لك ثياب مثلك، ثم أخرج إليك. ففعلت. و قالت: قل. قال: أرسلني إليك مولاي، و هو من تعلمين بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و بين عليّ و عثمان، و هو ابن عم أمير المؤمنين، يخطبك. و قالت: قد نسبته فأبلغت، فاسمع نسبي أنا، بأبي أنت.
/إن أبي بيع على غير عقد الإسلام و لا عهده، فعاش عبدا، و مات و في رجله قيد، و في عنقه سلسلة، و على الإباق و السرقة؛ و ولدتني أمي على غير رشدة، و ماتت و هي آبقة، فأنا من تعلم. فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا، أو زنا صراحا، فهلم إليه، فنحن له. فقال: إنه لا يدخل في الحرام. قالت: و لا ينبغي أن يستحي من الحلال. فأما نكاح السّر فلا. و اللّه لا فعلته، و لا كنت عارا على القيان. قال: فأتيت محمدا فأخبرته، فقال: ويلك! أ تزوّجها معلنا و عندي بنت طلحة بن عبيد اللّه! لا. و لكن ارجع إليها، فقال لها تختلف إليّ أردد بصري فيها، لعلي أسلو. فرجعت فأبلغتها الرسالة، فضحكت، و قالت: أما هذا فنعم. لسنا نمنعه منه.
ربّ ليل ناعم أحييته *** في عفاف عند قبّاء الحشى
/و نهار قد لهونا بالتي *** لا ترى شبها لها فيمن مشى
لطلوع الشمس حتى آذنت *** بغروب عند إبان العشا(3)
ص: 393
لسليمى ما دعت قمريّة *** بهديل فوق غصن من غضى
و عقار قهوه باكرتها *** في ندامى كمصابيح الدّجى
و جواد سابح أقحمته *** حومة الموت على زرق القنا
/الشعر للمهاجر بن خالد ب الوليد، فيما ذكر الزّبير بن بكّار. و ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ و خالد بن كلثوم: أنه لابنه خالد بن المهاجر. و الغناء لابن محرز، ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق؛ و فيه لإبراهيم الموصليّ لحنان، أحدهما هزج خفيف بالسبابة، في مجرى البنصر، عن إسحاق و ابن المكي، و الآخر رمل بالبنصر، عن عمرو و ابن المكيّ و الهشاميّ. و فيه المعبد خفيف ثقيل بالخنصر و البنصر، عن ابن المكيّ. قال: و فيه لمالك خفيف ثقيل آخر، نشيد(1)، و وافقه عمرو و الهشامي، و ذكر عمرو في نسخته الأولى أنه لابن محرز، و المعمول عليه الرواية الثانية.
ص: 394
المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ب يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و كان الوليد بن المغيرة سيدا من سادات قريش، و جوادا من جودائها(1). و كان يلقب بالوحيد. و أمه صخرة بنت الحارث بن عبد اللّه بن عبد شمس، امرأة من بجيلة، ثم من قسر. و لما مات الوليد بن المغيرة أرّخت قريش بوفاته مدّة، لإعظامها إياه، حتى كان عام الفيل، فجعلوه تاريخا. هكذا ذكر ابن دأب.
و أما الزبير بن بكار فذكر عن عمرو بن أبي بكر المؤمّليّ، أنها كانت تؤرّخ بوفاة هشام بن المغيرة تسع سنين، إلى أن كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرّخوا بها.
و لخالد بن الوليد من الشهرة بصحبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و الغناء في حروبه المحل المشهور، و لقّبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سيف اللّه، و هاجر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قبل الفتح و بعد الحديبية هو و عمرو بن العاص و عثمان بن طلحة. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لما رآهم: رمتكم مكة بأفلاذ كبدها. و شهد فتح مكة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فكان أوّل من دخلها في مهاجرة العرب من أسفل مكة، و شهد يوم موته. فلما قتل زيد بن حارثة و جعفر بن أبي طالب و عبد اللّه بن رواحة، و رأى ألا طاقة للمسلمين بالقوم، انحاز بهم، و حامى عليهم حتى سلموا، فلقّبه يومئذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: سيف اللّه.
حدّثنا بذلك أجمع الحرميّ بن أبي العلاء و الطوسيّ عن الزبير بن بكار.
/و كان خالد يوم حنين في مقدمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معه بنو سليم، فأصابته جراح كثيرة، فأتاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد هزيمة المشركين، فنفث على جراحه، فاندملت و نهض. و له آثار في قتال أهل الرّدّة، في أيام أبي بكر رضي اللّه عنه مشهورة، يطول ذكرها. و هو فتح الحيرة، بعث إليه أهلها عبد المسيح بن عمرو بن/بقيلة، فكلمة خالد، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من ورائي. قال: و أين تريد؟ قال: أمامي. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل و امرأة.
قال: فأين أقصى أثرك؟ قال: منتهى عمري. قال: أ تعقل؟ قال: نعم، و أقيّد. قال: ما هذه الحصون؟ قال: بنيناها نتقي بها السفيه حتى يردعه الحليم. قال: لأمر ما اختارك قومك، ما هذا في يدك؟ قال: سمّ ساعة. قال: و ما تصنع به؟ قال: أردت أن انظر ما تردني به: فإن بلغت ما فيه صلاح لقومي عدت إليهم، و إلا شربته، فقتلت نفسي، و لم أرجع إلى قومي بما يكرهون. فقال له خالد: أرنيه. فناوله إياه. فقال خالد: باسم اللّه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء، و هو السميع العليم، ثم أكله، فتجللته عشية، ثم أفاق يمسح العرق عن وجهه.
ص: 395
فرجع ابن بقيلة إلى قومه، فأخبرهم بذلك، و قال: ما هؤلاء القوم إلا من الشياطين، و ما لكم بهم طاقة، فصالحوهم على ما يريدون. ففعلوا.
أخبرني بذلك إبراهيم بن السريّ، عن يحيى التميمي، عن أبيه، عن شعيب بن سيف. و أخبرني به الحسن بن عليّ عن الحارث بن محمد عن محمد بن سعد، عن الواقديّ.
و أمّره أبو بكر على جميع الجيوش التي بعثها إلى الشام لحرب الروم، و فيهم أبو عبيدة بن الجراح و معاذ بن جبل، فرضوا به و بإمارته.
قالوا: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد حلق رأسه ذات يوم، فأخذ شعره، في قلنسوة له، فكان لا يلقى جيشا و هي عليه إلا هزمه.
/و روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قد حلق رأسه ذات يوم، فأخذ شعره، فجعله في قلنسوة له، فكان لا يلقى جيشا و هي عليه إلا هزمه.
/و روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الحديث، و حمل عنه. و رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم متدلّيا من هرشى فقال: نعم الرجل خالد بن الوليد.
أخبرنا بذلك الطوسيّ و الحرميّ قالا: حدّثنا الزبير بن بكار قال: حدّثني يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن محمد، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن أبي سعيد(1) المقبريّ، عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال ذلك له.
قال الزبير: و حدّثني محمد بن سلاّم، عن أبان بن عثمان قال:
لما مات خالد بن الوليد لم تبق امرأة من بني المغيرة إلا وضعت لمّتها على قبره، يعني حلقت رأسها، و وضعت شعرها على قبره.
قال ابن سلاّم: و قال يونس النحوي: إن عمر رضي اللّه عنه قال حينئذ: دعوا نساء بني المغيرة يبكين أبا سليمان، و يرقن من دموعهن سجلا أو سجلين، ما لم يكن نقع أو لقلقة.
قال: و النقع: مد الصوت بالنحيب. و اللقلقة: حركة اللسان بالولولة و نحوها.
قال الزبير، فيما ذكره لي من رويت عنه: حدّثني محمد بن الضّحاك عن أبيه:
أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان أشبه الناس بخالد بن الوليد، فخرج عمر سحرا، فلقيه شيخ، فقال له:
مرحبا بك يا أبا سليمان، فنظر إليه عمر، فإذا هو علقمة بن علاثة، فردّ عليه السلام. فقال له علقمة: عزلك عمر بن الخطاب؟ فقال له عمر: نعم. قال: ما شبع، لا أشبع اللّه بطنه! قال له عمر: فما عندك؟ قال: ما عندي إلا السمع و الطاعة.
/فلما أصبح عمر دعا بخالد، و حضره علقمة بن علاثة، فأقبل على خالد، فقال له: ما ذا قال لك علقمة؟ قال: ما قال لي شيئا. قال: اصدقني. فحلف خالد باللّه ما لقيه، و لا قال له شيئا. فقال له علقمة: حلا(2) أبا
ص: 396
سليمان. فتبسم عمر، فعلم خالد أن علقمة قد غلط، و فطن علقمة، فقال له: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، فاعف عني، عف اللّه عنك. فضحك عمر و أخبره الخبر.
أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن الحارث الخرّاز قال: حدّثنا/المدائني، عن شيخ من أهل الحجاز، عن زيد بن رافع مولى المهاجر بن خالد بن الوليد، و عن أبي ذئب(1)، عن أبي سهيل أو ابن سهيل:
أن معاوية لما أراد أن يظهر العهد ليزيد، قال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه، ورق جلده، ودق عظمه، و اقترب أجله، و يريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون؟ فقالوا: عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد. فسكت و أضمرها، و دس ابن أثال الطبيب إليه، فسقاه سمّا فمات. و بلغ ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد خبره و هو بمكة، و كان أسوأ الناس رأيا في عمّه، لأن أباه المهاجر كان مع عليّ عليه السلام بصفّين، و كان عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد مع معاوية، و كان خالد بن المهاجر على رأي أبيه: هاشميّ المذهب، و دخل مع بني هاشم الشّعب، فاضطغن ذلك ابن الزّبير عليه، فألقى عليه زق خمر، و صبّ بعضه على رأسه، و شنّع عليه بأنه وجده ثملا من الخمر، فضربه الحدّ. فلما قتل عمه عبد الرّحمن مرّ به/عروة بن الزبير، فقال له: يا خالد: أتدع ابن أثال ينقي(2) أوصال عمك بالشأم و أنت بمكة مسبل إزارك، تجره و تخطر فيه متخايلا؟ فحمي خالد، و دعا مولى له يدعى نافعا، فأعلمه الخبر، و قال له: لا بد من قتل ابن أثال؛ و كان نافع جلدا شهما.
فخرجا حتى قدما دمشق، و كان ابن أثان يمسي عند معاوية، فجلس له في مسجد دمشق إلى أسطوانة، و جلس غلامه إلى أخرى، حتى خرج. فقال خالد لنافع: إياك أن تعرض له أنت، فإني أضربه، و لكن احفظ ظهري، و اكفني من ورائي، فإن رابك شيء يريدني من ورائي فشأنك. فلما حاذاه وثب عليه فقتله، و ثار إليه من كان معه. فصاح بهم نافع فانفرجوا، و مضى خالد و نافع، و تبعهما من كان معه، فلما غشوهما حملا عليهم، فتفرقوا، حتى دخل خالد و نافع زقاقا ضيقا، ففاتا القوم. و بلغ معاوية الخبر، فقال: هذا خالد بن المهاجر، اقلبوا الزّقاق الذي دخل فيه. ففتّش عليه، فأتي به. فقال: لا جزاك اللّه من زائر خيرا، قتلت طبيبي. قال: قتلت المأمور و بقي الآمر. فقال له: عليك لعنة اللّه! أما و اللّه لو كان تشهّد مرة واحد لقتلتك به، أ معك نافع؟ قال: لا. قال: بلى و اللّه ما اجترأت إلا به. ثم أمر بطلبه فوجد، فأتي به، فضربه مائة سوط. و لم يهج خالدا بشيء أكثر من أن حبسه، و ألزم بني مخزوم دية ابن أثال، اثني عشر ألف درهم. أدخل بيت المال منها ستة آلاف درهم، و أخذ ستة آلاف درهم، و لم يزل ذلك يجري في دية المعاهد، حتى ولي عمر بن عبد العزيز، فأبطل الذي يأخذه السلطان لنفسه، و أثبت الذي يدخل بيت المال.
و خالد بن المهاجر الذي يقول:
ص: 397
يا صاح يا ذا الضامر العنس *** و الرحل ذي الأنساع و الحلس
سير النهار و لست تاركه *** و تجدّ سيرا كلما تمسي
في هذين البيتين و بيت ثالث لم أجده في شعر المهاجر، و لا أدري أ هو له أم ألحقه به المغنون، لحنان: ثقيل أوّل، و حفيف ثقيل. ذكر يونس أن أحدهما لمالك، و لم يذكر طريقة لحنه، و وجدته في جامع غناء معبد، عن الهشاميّ.
و يحيى المكي له فيه خفيف ثقيل. و هكذا ذكر عليّ بن يحيى أيضا، و لعله رواه عن ابن المكيّ. و إن كان هذا لمعبد صحيحا، فلحن مالك هو الثقيل الأوّل. و ذكر حبش، و هو ممن لا يحصّل قوله: أن لحن معبد ثقيل أوّل بالوسطى.
قال: و لما حبس معاوية خالد بن المهاجر قال في الحبس:
إمّا خطاي تقاربت *** مشى المقيّد في الحصار
فبما أمشّي في الأبا *** طح يقتفي أثري إزاري
دع ذا و لكن هل ترى *** نارا تشبّ بذي مرار(1)
ما إن تشبّ لقرّة *** للمصطلين و لا قتار
ما بال ليلك ليس ين *** - قص طوله طول النهار
لتقاصر الأزمان أم *** غرض الأشير من الإسار؟(2)
/قال: فبلغت أبياته معاوية، فرق له و أطلقه. فرجع إلى مكة. فلما قدمها لقي عروة بن الزبير، فقال له: أما ابن أثال فقد قتلته، و ذاك ابن جرموز ينقي(3) أوصال الزّبير بالبصرة، فاقتله إن كنت ثائرا. فشكاه عروة إلى أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، فأقسم عليه أن يمسك عنه، ففعل.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني يعقوب بن نعيم قال: حدّثني إسحاق بن محمد قال: حدّثني عيسى بن محمد القحطبيّ قال: حدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر قال:
غنى إبراهيم بن المهديّ يوما بحضرة المأمون و أنا حاضر:
يا صاح يا ذا الضامر العنس *** و الرحل ذي الأقتاب و الحلس
ص: 398
قال: و كانت لي جائزة قد خرجت، فقلت: تأمر سيدي يا أمير المؤمنين بإلقاء هذا الصوت عليّ مكان جائزتي، فهو أحب إليّ منها؟ فقال له: يا عم، ألق هذا الصوت على محمد. فألقاه عليّ حتى إذا كدت أن آخذه قال: اذهب فأنت أحذق الناس به. فقلت: إنه لم يصلح لي بعد. قال: فاغد غدا عليّ. فغدوت عليه، فأعاده ملتويا(1)، فقلت له:
أيها الأمير، لك في الخلافة ما ليس لأحد؛ أنت ابن الخليفة، و أخو الخليفة، و عمّ الخليفة، تجود بالرغائب، و تبخل عليّ بصوت؟ فقال: ما أحمقك! إن المأمون لم يستبقني محبة لي، و لا صلة لرحمي، و لا ليربّ المعروف عندي، و لكنه سمع من هذا الجرم ما لم يسمعه من غيره. قال: فأعلمت المأمون بمقالته. فقال: إنا لا نكدّر على أبي إسحاق عفونا عنه، فدعه. فلما كانت/أيام المعتصم نشط للصّبوح يوما، فقال: أحضروا عمّي. فجاء في درّاعة بغير طيلسان، فأعلمت المعتصم بخبر الصوت سرّا، فقال: يا عمّ غنّني:
يا صاح يا ذا الضامر العنس *** و الرحل ذي الأقتاب و الحلس
فغناه. فقال: ألقه على محمد، فقال: قد فعلت، و قد سبق مني قول ألا أعيده عليه. ثم كان يتجنب أن يغنيه حيث أحضر.
أقفر بعد الأحبّة البلد *** فهو كأن لم يكن به أحد
شجاك نؤي عفت معالمه *** و هامد في العراص ملتبد
أمّك عنسية مهذّبة *** طابت لها الأمّهات و القصد(2)
/تدعى زهيرية إذا انتسبت *** حيث تلاقى الأنساب و العدد
الشعر لحمزة بن بيض، و الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن عباد ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي و عمرو و ابن المكيّ.
ص: 399
11 - أخبار حمزة بن بيض(1) و نسبه
حمزة بن بيض الحنفيّ: شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، كوفيّ خليع ماجن، من فحول طبقته. و كان كالمنقطع إلى المهلّب بن أبي صفرة و ولده، ثم إلى أبان بن الوليد، و بلال بن أبي بردة. و اكتسب بالشعر من هؤلاء مالا عظيما، و لم يدرك الدولة العباسية.
أخبرني عمي قال: حدّثنا أبو هفان قال: أخبرني أبو محلم عن المفضل قال: أخذ حمزة بن بيض الحنفيّ بالشعر ألف ألف درهم، من مال و حملان(2) و ثياب و رقيق غير ذلك.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، قال:
قدم حمزة بن بيض على بلال بن أبي بردة، فلما وصل إلى بابه قال لحاجبه: استأذن لحمزة بن بيض الحنفيّ، فدخل الغلام إلى بلال، فقال: حمزة بن بيض بالباب. و كان بلال كثير المزح معه، فقال: اخرج إليه فقل: حمزة بن بيض ابن من؟ فخرج الحاجب إليه، فقال له ذلك. فقال: ادخل فقل له: الذي جئت إليه إلى بنيان الحمام و أنت أمرد، تسأله أن يهب لك طائرا، فأدخلك(3) و ناكك، و وهب لك طائرا(3). فشتمه الحاجب. فقال له: ما أنت و ذا؟ بعثك برسالة، /فأخبره بالجواب. فدخل الحاجب و هو مغضب، فلما رآه بلال ضحك، و قال: ما قال لك قبحه اللّه؟ قال: ما كنت لأخبر الأمير بما قال. فقال: يا هذا، أنت رسول فأدّ الجواب. قال: فأبى. فأقسم عليه حتى أخبره. فضحك حتى فحص برجله، و قال: قل له: قد عرفنا العلامة فادخل، فدخل فأكرمه، و رفعه، و سمع مديحه، و أحسن صلته.
قال: و أراد يقوله (ابن بيض ابن من؟) قول الشاعر فيه:
أنت ابن بيض لعمري لست أنكره *** و قد صدقت، و لكن من أبو بيض؟
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن الحسن الأحول، عن الأثرم، عن أبي عمرو، و أخبرني وكيع قال: حدّثني عبيد اللّه بن محمد بن عبيد بن سفيان، قال: حدّثني أبو الحسن الشّيباني قال: حدّثني شعيب بن صفوان، قال:
ص: 400
قدم حمزة بن بيض على مخلد بن يزيد بن المهلب و عنده الكميت، فأنشده قوله فيه:
أتيناك في حاجة فاقضها *** و قل مرحبا يجب المرحب
و لا تكلنّا إلى معشر *** متى يعدوا عدة يكذبوا
فإنك في الفرع من أسرة *** لهم خضع الشرق و المغرب
و في أدب منهم ما نشأت *** و نعم لعمرك ما أدّبوا(1)
بلغت لعشر مضت من سني *** - ك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمّك فيها جسام الأمور *** و همّ لداتك أن يلعبوا
/وجدت فقلت ألا سائل *** فيعطى و لا راغب يرغب
فمنك العطية للسائلين *** و ممن ينوبك أن يطلبوا(2)
/فأمر له بمائة ألف درهم، فقبضها. قال وكيع في خبره: و سأله عن حوائجه، فأخبره بها، فقضى جميعها. و قال أيضا في خبره: فحسده الكميت. فقال له: يا حمزة، أنت كمهدي التمر إلى هجر، قال: نعم، و لكن تمرنا أطيب من تمر هجر.
أخبرني عليّ بن سليمان قال: حدّثني محمد بن يزيد النحويّ، قال: قال الجاحظ:
أصاب حمزة بن بيض حصر(3)، فدخل عليه قوم يعودونه و هو في كرب القولنج، إذ ضرط رجل منهم، فقال حمزة: من هذا المنعم عليه؟
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: قال عليّ بن الصباح: حدّثني هشام بن محمد، عن الشّرقيّ، قال:
زعم هشام بن عروة أن عبد الرّحمن بن عنبسة مرّ فإذا هو بغلام أصبح الغلمان و أحسنهم، و لم يكن لعبد الرّحمن ولد، فسأل عنه، فقيل له: يتيم من أهل الشام، قدم أبوه العراق في بعث(4) فقتل، و بقي الغلام هاهنا، فضمه ابن عنبسة إليه، و تبناه. فوقع الغلام فيما شاء من الدنيا، و مرّ يوما على برذون و معه خدم على ابن بيض، و حول ابن بيض عياله في يوم شات، و هم شعث غبر عراة، فقال ابن بيض: من هذا؟ فقيل: صدقة يتيم ابن عنبسة.
فقال:
ص: 401
يشعث صبياننا و ما يتموا *** و أنت صافي الأديم و الحدقه
فليت صبياننا إذا يتموا *** يلقون ما قد لقيت يا صدقه
/عوّضك اللّه من أبيك و من *** أمك في الشام بالعراق مقه
كفاك عبد الرّحمن فقدهما(1) *** فأنت في كسوة و في نفقه
تظل في درمك(2) و فاكهة *** و لحم طير ما شئت أو مرقه
تأوي إلى حاضن و حاضنة *** زادا على والديك في الشفقه
فكل هنيئا ما عاش ثم إذا *** مات فلغ في الدماء و السرقه
و خالف المسلمين قبلتهم *** و ضلّ عنهم و خادن الفسقه
و اشتر نهد التليل ذا خصل *** لصوته في الصهيل صهصلقه(3)
و اقطع عليه الطريق تلف غدا *** ربّ دنانير جمة ورقه(4)
فلما مات عبد الرّحمن، أصابه ما قال ابن بيض أجمع: من الفساد و السرقة و صحبة اللصوص، ثم كان آخر ذلك أنه قطع الطريق، فأخذ و صلب.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني النوفليّ عن أبيه. قال ابن عمار: و أخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، قال: حدّثني أبي عن أبي سفيان الحميريّ قال:
خرج حمزة بن بيض يريد سفرا، فاضطره الليل إلى قرية عامرة، كثيرة الأهل و المواشي، من الشاء و البقر، كثيرة الزرع، فلم يصنعوا به خيرا، فغدا عليهم، و قال:
لعن الإله قرية يممتها *** فأضافني ليلا إليها المغرب
الزارعين و ليس لي زرع بها *** و الحالبين و ليس لي ما أحلب
/فلعل ذاك الزرع يودي أهله *** و لعل ذاك الشاء يوما يجرب
و لعل طاعونا يصيب علوجها *** و يصيب ساكنها الزمان فتخرب
/قال: فلم يمر بتلك القرية سنة حتى أصابهم الطاعون، فأباد أهلها، و خربت إلى اليوم. فمر بهم ابن بيض، فقال:
كلاّ، زعمت أني لا أعطى منيتي. قالوا: و أبيك لقد أعطيتها، فلو كنت تمنيت الجنة كان خيرا لك. قال: أنا أعلم بنفسي، لا أتمنى ما لست له بأهل، و لكني أرجو رحمة ربي عز و جلّ.
ص: 402
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن زكرياء الغلاّبيّ قال: قال ابن عائشة:
خرج ابن بيض في سفر، فنزل بقوم، فلم يحسنوا ضيافته، و أتوه بخبز يابس، و ألقوا لبغلته تبنا، فأعرض عنهم، و أقبل على بغلته، فقال:
أحسبيها ليلة أدلجتها *** فكلي إن شئت تبنا أو ذري
قد أتى ربّك خبز يابس *** فتعزّي معه و اصطبري(1)
حدّثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال: حدّثنا المدائني، قال:
قال حمزة بن بيض يوما للفرزدق: أيّما أحب إليك، تسبق الخير أو يسبقك؟ قال: لا أسبقه و لا يسبقني، و لكن نكون معا. فأيّما أحب إليك، أن تدخل إلى بيتك، فتجد رجلا قابضا على حر امرأتك، أو تجد امرأتك قابضه على أيره؟ فقال: كلام لا بد من جوابه، و البادي أظلم، بل أجدها قابضة على أيره، قد أغبته(2) عن نفسها.
نسخت من كتاب أبي إسحاق الشايمينيّ(3): قال ابن الأعرابي:
وقع بين بني حنيفة بالكوفة، و بين بني تميم شر، حتى نشبت الحرب بينهم، فقال رجل لحمزة بن بيض: أ لا تأتي هؤلاء القوم، فتدفعهم عن قومك، فإنك ذو بيان و عارضة؟ فقال:
ألا لا تلمني يا بن ماهان إنني *** أخاف على فخّارتي(4) أن تحطّما
و لو أنني أبتاع في السوق مثلها *** و جدّك(5) ما باليت أن أتقدّما
قال: و كان لابن بيض صديق عامل من عمال ابن هبيرة، فاستودع رجلا ناسكا ثلاثين ألف درهم، و استودع مثلها رجلا نبيذيا، فأما الناسك فبنى بها داره، و تزوّج النساء، و أنفقها و جحده. و أما النبيذيّ فأدّى إليه الأمانة في ماله، فقال حمزة بن بيض فيهما:
ألا لا يغرّنك ذو سجدة *** يظل بها دائبا يخدع
كأن بجبهته جلبة(6) *** يسبح طورا و يسترجع
ص: 403
و ما للتّقى لزمت وجهه *** و لكن ليغترّ مستودع
فلا تنفرنّ من اهل النبيذ *** و إن قيل يشرب لا يقلع
فعندك علم بما قد خبر *** ت إن كان علم بهم ينفع
ثلاثون ألفا حواها السجود *** فليست إلى أهلها ترجع
بنى الدار من غير ما ماله *** و أصبح في بيته أربع
مهائر من غير مال حواه *** يقاتون أرزاقهم جوّع(1)
/و أخبرني بهذا الخبر الحسين بن محمد بن زكريا الصّحّاف، قال: حدّثنا قعنب بن المحرز، قال: حدّثنا أبو عبيدة و الأصمعي، و كيسان بن المعرف، فذكروا نحو هذا الخبر، إلا أنه حكى أن حمزة بن بيض هو الذي استودع الرجلين المال، و قال:
/و أدى أخو الكأس ما عنده *** و ما كنت في ردها أطمع
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثنا عبد اللّه بن شبيب قال: حدّثني أحمد بن محمد، عن ابن داجة، قال:
اختصم أبو الجون السّحيمي و حمزة بن بيض، إلى المهاجر بن عبد اللّه الكلابيّ، و هو على اليمامة، فوثب عليه حمزة و قال:
غمّضت في حاجة كانت تؤرقني *** لو لا الذي قلت فيها قلّ تغميضي
فقال: و ما الذي قلت لك؟ قال:
حلفت باللّه لي أن سوف تنصفني *** فساغ في الحلق ربقي بعد تجريضي
قال: و أنا أحلف لأنصفنك. قال:
سل هؤلاء إلى ما ذا شهادتهم *** أم كيف أنت و أصحاب المعاريض
قال: أوجعهم ضربا. فقال:
و سل سحيما إذا وافاك أجمعهم *** هل كان بالشر حوض قبل تحويضي
قال: فقضى له. فأنشأ السحيمي يقول:
أنت ابن بيض لعمري لست أنكره *** حقا يقينا، و لكن من أبو بيض؟
إن كنت أنبضت لي قوسا لترميني *** فقد رميتك رميا غير تنبيض
أو كنت خضخضت لي وطبا لتسقيني *** فقد سقيتك محضا غير ممخوض
ص: 404
قال: فوجم حمزة و قطع به. فقيل له: ويلك! مالك لا تجيبه؟ قال: و بم أجيبه؟ و اللّه لو قلت له: عبد المطلب بن هاشم أبو بيض ما نفعني ذلك، بعد قوله: و لكن من أبو بيض؟ /و أخبرني بهذا الخبر ابن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة بمثله. و قال فيه: إن المخاصم له أبو الحويرث السّحيمي.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا السّكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، قال:
دخل حمزة بن بيض على يزيد بن المهلب السجن، فأنشده:
أغلق دون السماح و الجود و الن *** جدة باب حديده أشب
ابن ثلاث و أربعين مضت *** لا ضرع واهن و لا نكب(1)
لا بطر إن تتابعت نعم *** و صابر في البلاء محتسب
برّزت سبق الجواد في مهل *** و قصّرت دون سعيك العرب
فقال: و اللّه يا حمزة لقد أسأت، إذ نوّهت باسمي في غير وقت تنويه، و لا منزل(2) لك، ثم رفع مقعدا تحته، فرمى إليه بخرقة مصرورة، و عليه صاحب خبر واقف، فقال: خذ هذا الدينار، فو اللّه ما أملك ذهبا غيره. فأخذه حمزة، و أراد أن يردّه، فقال له سرا: خذه و لا تخدع عنه. فقال حمزة: فلما قال لي: لا تخدع عنه، قلت: و اللّه ما هذا بدينار، فقال لي صاحب الخبر: ما أعطاك يزيد؟ فقلت: أعطاني دينارا، فأردت أن أردّه عليه، فاستحييت منه. فلما صرت إلى منزلي حللت الصرة، فإذا فص ياقوت أحمر، كأنه سقط زند، فقلت: و اللّه لئن عرضت هذا بالعراق، ليعلمنّ أني أخذته من يزيد، فيؤخذ مني، فخرجت به إلى خراسان، فبعته من رجل يهودي بثلاثين ألفا، فلما/قبضت المال و صار الفص في يده، قال لي: /و اللّه لو أبيت إلا خمسين ألف درهم، لأخذته منك، فكأنما قذف في قلبي جمرة، فلما رأى تغير وجهي قال: إني رجل تاجر، و لست أشك أني قد غممتك. قلت: إي و اللّه و قتلتني. فأخرج إليّ مائة دينار، فقال: أنفق هذه في طريقك، لتتوفر عليك تلك.
أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد بن إسحاق: قرأت على أبي:
دخل حمزة بن بيض على يزيد بن المهلّب، و هو في حبس عمر بن عبد العزيز، فأنشده قوله فيه:
أصبح في قيدك السماحة و الح *** امل للمعضلات و الحسب
لا بطر إن تتابعت نعم *** و صابر في البلاء محتسب
فقال له: ويحك أ تمدحني على هذه الحال؟ قال: نعم، لئن كنت هكذا لطالما أثبت على الثناء، فأحسنت الثواب و الرّفد، فهل بأس أن نسلفك الآن. قال: أما إذ جعلته سلفا فاقنع بما حضر، إلى أن يمكن قضاء دينك. و أمر
ص: 405
غلامه، فدفع إليه أربعة آلاف درهم، و بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فقال: قاتله اللّه! يعطي في الباطل، و يمنع الحق، يعطي الشعراء، و يمنع الأمراء.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدّثنا عبد الأوّل بن مزيد، قال: حدّثنا العمري عن الهيثم بن عديّ، قال: أخبرني مخلد بن حمزة بن بيض قال:
قدم أبي على يزيد بن المهلب و هو عند سليمان بن عبد الملك، فأدخله إليه، فأنشده:
ساس الخلافة والداك كلاهما *** من بين سخطة ساخط أو طائع
أبواك ثم أخوك أصبح ثالثا *** و على جبينك نور ملك الرابع
/سرّيت خوف بني المهلّب بعد ما *** نظروا إليك بسمّ موت ناقع
ليس الذي ولاك ربّك منهم *** عند الإله و عندهم بالضائع
فأمر له بخمسين ألفا.
أخبرني عمي قال: حدّثنا عبد اللّه بن عمرو قال: حدّثني جعفر بن محمد العاصميّ قال: حدّثني عيينة بن المنهال قال: حدّثني الهيثم بن عديّ قال: حدّثني أبو يعقوب الثقفيّ قال:
قال لي حمزة بن بيض: لما وفد الكميت بن زيد إلى مخلد بن يزيد بن المهلّب و هو يخلف أباه على خراسان، و كان و اليها و له ثماني عشرة سنة، و قد مدحه بقصيدته التي أوّلها:
هلا سألت معالم الأطلال
و هي التي يقول فيها:
يمشين مشي قطا البطاح تأوّدا *** قبّ البطون رواجح الأكفال
و قصيدته التي يقول فيها:
هلا سألت منازلا بالأبرق
أعطاه مائة ألف درهم، سوى العروض و الحملان، فقدم الكوفة في هيئة لم ير مثلها، فقلت في نفسي: و اللّه لأنا أولى من الكميت بما ناله من مخلد بن يزيد، و إني لحليفه و ناصره في العصبية على الكميت، و على مضر جميعا. فهيأت لمخلد مديحا على رويّ قصيدتي الكميت و قافيتيهما، ثم شخصت إليه، فلما كان قبل خروجي إليه بيوم، أتتني جماعة من ربيعة في خمس ديات عليهم لمضر في البدو، فقالوا: إنك تأتي مخلدا و هو فتى العرب، و نحن نعلم أنك لا تؤثر على نفسك، و لكن/إذا فرغ من أمرك، فأعلمه ممشانا إليك، و مسألتنا إياك كلامه، فنرجو أن/تكون عند ظننا. فلما قدمت على مخلد خراسان أنزلني، و فرش لي، و أخدمني، و حملني، و كساني، و خلطني بنفسه، فكنت أسمر معه، فقال لي ليلة: أ عليك دين يا ابن بيض؟ قلت: دعني من مسألتك إياي عن الدين، إنك قد أعطيت الكميت عطية لست أرضى بأقل منها، و إلا لم أدخل الكوفة، و لم أعيّر بتقصيرك بي عنه. فضحك، ثم قال
ص: 406
لي: بل أزيدك على ما أعطيت الكميت. فأمر لي بمائة ألف درهم، كما أعطي الكميت، و زادني عليه، و صنع بي في سائر الألطاف كما صنع به، فلما فرغت من حاجتي أتيته يوما و معي تذكرة بحاجة القوم في الديات، فلما جلس أنشدته:
أتيناك في حاجة فاقضها *** و قل مرحبا يجب المرحب
و لا تكلنّا إلى معشر *** متى يعدوا عدة يكذبوا
فإنك في الفرع من أسرة *** لهم خضع الشرق و المغرب
و في أدب منهم ما نشأت *** و نعم لعمرك ما أدّبوا
بلغت لعشر مضت من سني *** - ك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمّك فيها جسام الأمور *** و همّ لداتك أن يلعبوا
فقال: مرحبا بك و بحاجتك، فما هي؟ فأخرجت إليه رقعة القوم، و قلت: حمالات في ديات. فتبسم، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم. فقلت: أو غير ذلك أيها الأمير؟ قال: و ما هو؟ قلت: أدلّ على قبر المهلّب، حتى أشكو إليه قطيعة ولده. فتبسم، ثم قال: زده يا غلام عشرة آلاف أخرى، فأبيت، و قلت: بل أدل على قبر المهلب، فقال: زده يا غلام عشرة آلاف أخرى، فما زلت أكررها و يزيدني عشرة آلاف، /حتى بلغت سبعين(1) ألفا. فخشيت و اللّه أن يكون يلعب أو يهز أبي، فقلت: وصلك اللّه أيها الأمير، و آجرك، و أحسن جزاءك. فقال مخلد: أما و اللّه لو أقمت على كلامك، ثم أتى ذلك على خراج خراسان لأعطيتكه.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدّثنا الزبير بن بكار قال: حدّثني النضر بن شميل، قال:
دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو و عليّ أطمار مترعبلة(2)؛ فقال لي: يا نضر، تدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟ فقلت: إن حرّ مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق. فقال: لا. و لكنك رجل متقشّف. فتجارينا الحديث، فقال المأمون: حدّثني هشيم بن بشير(3)، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا تزوّج الرجل المرأة لدينها و جمالها كان فيه سداد من عوز». هكذا قال: سداد بالفتح.
فقلت: صدق، يا أمير المؤمنين. حدّثني عوف الأعرابيّ عن الحسن، أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا تزوّج الرجل المرأة لدينها و جمالها، كان فيه سداد من عوز»، و كان المأمون متكئا فاستوى جالسا، و قال: السّداد لحن يا نضر عندك؟ قلت: نعم هاهنا يا أمير المؤمنين؛ و إنما هشيم لحن، و كان لحانة، فقال: ما الفرق بينهما؟ قلت: السّداد: القصد في الدّين/و الطريقة و السبيل. و السّداد: البلغة، و كل ما سددت به شيئا فهو سداد. و قد قال العرجيّ:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهة و سداد ثغر
ص: 407
/قال: فأطرق المأمون مليّا، ثم قال: قبح اللّه من لا أدب له! ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب. قال:
قلت: قول حمزة بن بيض يا أمير المؤمنين:
تقول لي و العيون هاجعة: *** أقم علينا يوما، فلم أقم
قالت: فأيّ الوجوه؟ قلت لها: *** لأيّ وجه إلا إلى الحكم؟
متى يقل حاجبا سرادقه: *** هذا ابن بيض بالباب، يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلا *** فهات إذ حلّ أعطني سلمي(1)
فقال المأمون: للّه درّك، كأنما شق لك عن قلبي! فأنشدني أنصف بيت للعرب. قال: قلت: قول أبي عروبة المدني(2):
إني و إن كان ابن عمي عاتبا(3) *** لمزاحم من خلفه و ورائه
و مفيده نصري و إن كنت(4) امرأ *** متزحزحا عن أرضه و سمائه
و أكون والي سره و أصونه *** حتى يحين عليّ وقت أدائه
و إذا الحوادث أجحفت بسوامه *** قرنت صحيحتنا إلى جربائه
و إذا دعا باسمي ليركب مركبا *** صعبا قعدت له على سيسائه
و إذا أتى من وجهه بطريفة *** لم أطّلع ممّا(5) وراء خبائه
و إذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل: *** يا ليت أن عليّ حسن ردائه
فقال: أحسنت يا نضر؛ أنشدني الآن أقنع بيت قالته العرب. فأنشدته قول ابن عبدل الأسديّ:
/إني امرؤ لم أزل، و ذاك من الل *** - ه قديما، أعلّم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الدا *** ر و إن كنت مازحا طربا
لا أجتوي خلّة الصديق و لا *** أتبع نفسي شيئا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من *** الرّزق بنفسي و أجمل الطلبا
و أحلب الثرة الصفي و لا *** أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا *** رغّبته في صنيعة رغبا
ص: 408
و العبد لا يطلب العلاء و لا *** يعطيك شيئا إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقّع السّوء لا *** يحسن مشيا إلا إذا ضربا(1)
قد يرزق الخافض المقيم و ما *** شد بعيس رحلا و لا قتبا(2)
و يحرم الرزق ذو المطية و الر *** حل و من لا يزال مغتربا
و لم أجد عدّة الخلائق إلاّ *** الدّين لما اعتبرت و الحسبا(3)
فقال: أحسنت يا نضر! و كتب لي إلى الحسن(4) بن سهل بخمسين ألفا، و أمر خادما بإيصال رقعة، و تنجيز ما أمر به لي، فمضيت معه إليه، فلما قرأ التوقيع ضحك، و قال لي: يا نضر، أنت الملحّن/لأمير المؤمنين؟ قلت: لا، بل لهشيم. قال: فذاك إذن، و أطلق لي الخمسين ألف درهم، و أمر لي بثلاثين ألفا.
أخبرني الحسين بن يحيى، قال: حدّثنا حماد عن أبيه، قال:
بلغني أن حمزة بن بيض الحنفيّ كان يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان، و كان/عبد الملك يعبث به عبثا شديدا، فوجه إليه ليلة برسول، و قال: خذه على أي حال وجدته عليها، و لا تدعه يغيرها، و حلّفه على ذلك، و غلّظ الأيمان عليه. فمضى الرسول، فهجم عليه، فوجده يريد أن يدخل الخلاء، فقال: أجب الأمير. فقال: ويحك، إني أكلت طعاما كثيرا، و شربت نبيذا حلوا، و قد أخذني بطني. قال: و اللّه لا تفارقني أو أمضي بك إليه، و لو سلحت في ثيابك. فجهد في الخلاص، فلم يقدر عليه، فمضى به إلى عبد الملك، فوجده قاعدا في طارمة(5) له، و جارية جميلة كان يتحظاها جالسة بين يديه، تسجر الندّ في طارمته، فجلس يحادثه و هو يعالج ما هو فيه.
قال: فعرضت لي ريح، فقلت: أسرحها و أستريح، فلعل ريحها لا يتبين مع هذا البخور، فأطلقتها، فغلبت و اللّه ريح الندّ و غمرته، فقال: ما هذا يا حمزة! قلت: عليّ عهد اللّه و ميثاقه، و عليّ المشي و الهدي إن كنت فعلتها.
و ما هذا إلا عمل هذه الفاجرة. فغضب و احتفظ، و خجلت الجارية، فما قدرت على الكلام، ثم جاءتني أخرى فسرّحتها، و سطع و اللّه ريحها. فقال: ما هذا ويلك! أنت و اللّه الآفة. فقلت: امرأتي فلانة طالق ثلاثا إن كنت فعلتها. قال: و هذه اليمين لازمة لي إن كنت فعلتها، و ما هو إلا عمل هذه الجارية، فقال: ويلك ما قصتك؟ قومي إلى الخلاء إن كنت تجدين حسّا، فزاد خجلها و أطرقت. و طمعت فيها، فسرّحت الثالثة، و سطع من ريحها ما لم يكن في الحساب، فغضب عبد الملك، حتى كاد يخرج من جلده، ثم قال: خذ يا حمزة بيد الزانية، فقد وهبتها لك، و امض فقد نغصت عليّ ليلتي.
فأخذت و اللّه بيدها، و خرجت، فلقيني خادم له، فقال: ما تريد أن تصنع؟ قلت: أمضي بهذه. قال: لا
ص: 409
تفعل، فو اللّه لئن فعلت ليبغضنك بغضا/لا تنتفع به بعدها أبدا، و هذه مائة دينار، فخذها ودع الجارية، فإنه يتحظاها، و سيندم على هبته إياها لك. قلت: و اللّه لا نقصتك من خمس مائة دينار. فلم يزل يزايدني حتى بلغ مائتي دينار، و لم تطب نفسي أن أضيعها، فقلت: هاتها، فأعطانيها، و أخذها الخادم.
فلما كان بعد ثلاث دعاني عبد الملك، فلما قربت من داره لقيني الخادم، فقال: هل لك في مائة دينار و تقول ما لا يضرك، و لعله أن ينفعك؟ قلت: و ما ذاك؟ قال: إذا دخلت إليه ادّعيت عنده الثلاث الفسوات، و نسبتها إلى نفسك، و تنفح(1) عن الجارية ما قرفتها به. قلت: هاتها. فدفعها إليّ، و دخلت على عبد الملك، فلما وقفت بين يديه قلت: أ لي الأمان حتى أخبرك بخبر يسرك، و تضحك منه؟ قال: لك الأمان. قلت: أ رأيت ليلة حضوري و ما جرى؟ قال: نعم. فقلت: فعليّ و عليّ إن كان فسا تلك الفسوات غيري. فضحك حتى سقط على قفاه. ثم قال:
ويلك! فلم لم تخبرني؟ قلت: أردت بذلك خصالا، منها أن قمت فقضيت حاجتي، و قد كان رسولك منعني منها، و منها أني أخذت جاريتك، و منها أن كافأتك على أذاك لي بمثله. فقال: فأين الجارية؟ قلت: ما برحت من دارك و لا خرجت حتى سلمتها إلى فلان الخادم، و أخذت/مائتي دينار. فسرّ بذلك، و أمر لي بمائتي دينار أخرى، و قال:
هذه لجميل فعلك بي، و تركك أخذ الجارية.
قال حمزة بن بيض: و دخلت إليه يوما و كان له غلام لم ير الناس أنتن إبطا منه، فقال لي: يا حمزة، سابق غلامي حتى يفوح صنانكما، فأيكما كان صنانته أنتن، فله مائة دينار. فطمعت في المائة، و يئست منها لما أعلمه من نتن إبط الغلام، فقلت: أفعل. و تعادينا، فسبقني، فسلحت في يدي، ثم لطخت(2) إبطي/بالسّلاح، و قد كان عبد الملك جعل بيننا حكما يخبره بالقصة، فلما دنا الغلام منه فشمه، وثب، و قال: هذا و اللّه لا يساجله(3) شيء.
فصحت به: لا تعجل بالحكم، مكانك. ثم دنوت منه، فألقمت أنفه إبطي حتى علمت أنه قد خالط دماغه، و أنا ممسك لرأسه تحت يدي. فصاح: الموت و اللّه! هذا بالكنف أشبه منه بالآباط! فضحك عبد الملك، ثم قال:
أ فحكمت له؟ قال: نعم. فأخذت الدنانير.
أخبرني عمي قال: حدّثني جعفر العاصميّ قال: حدّثنا عيينة بن المنهال، عن الهيثم بن عديّ، عن أبي يعقوب الثقفيّ، قال: قال حمزة بن بيض:
دخلت يوما على مخلد بن يزيد، فقلت:
أنّ المشارق و المغارب كلها(4) *** تجبى و أنت أميرها و إمامها
فضحك ثم قال: مه؟ فقلت:
ص: 410
أغفيت قبل الصبح نوم مسهّد *** في ساعة ما كنت قبل أنامها
قال: ثم ما ذا كان؟ قلت:
فرأيت أنك جدت لي بوصيفة *** موسومة حسن عليّ قيامها
قال: قد فعلت. فقلت:
و ببدرة حملت إليّ و بغلة *** سفواء ناجية يصلّ لجامها(1)
قال: قد حقق اللّه رؤياك. ثم أمر لي بذلك كله، و ما علم اللّه أني رأيت من ذلك شيئا.
/قال مؤلف هذا الكتاب: و قد روي هذا الخبر بعينه لابن عبدل الأسديّ، و ذكرته في أخباره.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثنا أبو حاتم، قال: حدّثنا عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال:
حج حمزة بن بيض الحنفيّ، فقال له ابن عم له: أحجج بي معك. فأخرجه معه، فحوقل(2) عليه بعد نشاطه، فقال ابن بيض فيه:
و ذي سنة لم يدر ما السير قبلها *** و لم يعتسف خرقا من الأرض مجهلا(3)
و لم يدر ما حلّ الحبال و عقدها *** إذا البرد لم يترك لكفيه معملا
و لم يقر مأجورا و لا حج حجة *** فيضرب سهما أو يصاحب مكتلا(4)
غدونا به كالبغل ينفض رأسه *** نشاطا بناه الخير حتى تفتّلا(5)
ترى المحمل المحسور ناء عرامه *** و بابا إذا أمسى من الشر مقفلا(6)
و إن قلت ليلا: أين أنت لحاجة *** أجاب بأن لبيك عشرا و أقبلا
يسوق مطيّ القوم طورا و تارة *** يقود و إن شئنا حدا ثم جلجلا(7)
فأجّلته خمسا و قلت له: انتظر *** رويدا؛ و أجلنا المطيّ ليدبلا
ص: 411
/فلما صدرنا عن زبالة و ارتمت *** بنا العيس منها منقلا ثم منقلا(1)
ترامت به الموماة حتى كأنما *** يسفّ بمعسول الخزيرة حنظلا(2)
و حتّى نبا عن مزود القوم ضرسه *** و عادى من الجهد الثريد المرعبلا(3)
و حتى لو ان الليث ليث خفيّة *** يحاوله عن نفسه ما تحلحلا
و حتى لو ان اللّه أعطاه سؤله *** و قيل له: ما تشتهي؟ قال: محملا
فقلت له لما رأيت الذي به *** و قد خفت أن ينضى لدينا و يهزلا
أطعني و كلّ شيئا، فقال معذّرا *** من الجهد: أطعمني ترابا و جندلا
فللموت خير منك جارا و صاحبا *** فدعني فلا لبيك ثم تجدلا(4)
و قال: أقلني عثرتي و ارع حرمتي *** و قد فر مني مرتين ليقفلا
فقلت له: لا - و الذي أنا أعبده - *** أقيلك حتى تمسح الركن أوّلا
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثني عبد اللّه بن عمرو بن سعد قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، قال: حدثني أبو عمر العمري، قال: حدثني عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان قال:
قدم حمزة بن بيض على مخلد بن يزيد بن المهلب، فوعده أن يصنع به خيرا، ثم شغل عنه، فاختلف إليه مرارا، فلم يصل إليه، و أبطأت عليه عدته، فقال ابن بيض:
أ مخلد إن اللّه ما شاء يصنع *** يجود فيعطي من يشاء و يمنع
و إنّى قد أملت منك سحابة *** فحالت سرابا فوق بيداء تلمع
/فأجمعت صرما ثم قلت: لعله *** يثوب إلى أمر جميل فيرجع
فأيأسني من خير مخلد أنه *** على كل حال ليس لي فيه مطمع
يجود لأقوام يودون أنه *** من البغض و الشّنآن أمسى يقطّع
و يبخل بالمعروف عمن يودّه *** فو اللّه ما أدري به كيف أصنع؟
أ أصرمه فالصّرم شرّ مغبّة *** و نفسي إليه بالوصال تطلّع
و شتان بيني في الوصال و بينه *** على كل حال أستقيم و يظلع
ص: 412
و قد كان دهرا واصلا لي مودة *** و يمنعني من صرف دهري أضرع(1)
و أعقبني صرما على غير إحنة *** و بخلا و قدما كان لي يتبرع
و غيّره ما غيّر الناس قبله *** فنفسي بما يأتي به ليس تقنع
ثم كتبها في قرطاس و ختمه، و بعث به مع رجل، فدفعه إلى غلامه، فدفعه الغلام إليه، فلما قرأه سأل الغلام: من صاحب الكتاب؟ قال: لا أعرفه. فأدخل إليه الرجل، فقال: من أعطاك هذا الكتاب؟ و من بعث به معك؟ قال: لا أدري، و لكن من صفته كذا و كذا، و وصف صفة ابن بيض، فأمر به فضرب عشرين سوطا على رأسه، و أمر له بخمس مائة درهم، و كساه، و قال: إنما ضربناك أدبا لك، لأنك حملت كتابا لا تدري ما فيه، لمن لا تعرف، فإياك أن تعود لمثلها. قال الرجل: لا و اللّه، أصلحك اللّه، لا أحمل كتابا لمن أعرف، و لا لمن/لا أعرف. قال له مخلد:
احذر، فليس كل أحد يصنع بك صنيعي؛ و بعث إلى ابن بيض، فقال له: أ تعرف ما لحق صاحبك الرجل؟ قال: لا.
فحدثه مخلد بقصته، فقال ابن بيض: و اللّه، أصلحك اللّه، لا تزال نفسه تتوق إلى العشرين/سوطا مع الخمس مائة أبدا. فضحك مخلد، و أمر له بخمسة آلاف درهم، و خمسة أثواب، و قال: و أنت و اللّه لا تزال نفسك تتوق إلى عتاب إخوانك أبدا. قال: أجل و اللّه، و لكن من لي بمثلك يعتبني إذا استعتبته، و يفعل بي مثل فعلك؟ ثم قال:
و أبيض بهلول إذا جئت داره *** كفاني و أعطاني الذي جئت أسأل
و يعتبني يوما إذا كنت عاتبا *** و إن قلت، زدني: قال: حقّا سأفعل
تراه إذا ما جئته تطلب الندى *** كأنك تعطيه الذي جئت تسأل
فاللّه أبناء المهلّب فتية *** إذا لقحت حرب عوان تأكّل
هم يصطلون الحرب و الموت كانع *** بسمر القنا و المشرفية من عل(2)
ترى الموت تحت الخافقات أمامهم *** إذا وردوا علّوا الرماح و أنهلوا
يجودون حتى يحسب الناس أنهم *** لجودهم نذر عليهم يحلّل(3)
غيوث لمن يرجو نداهم وجودهم *** سمام لأقوام ذعاف يثمّل(4)
وفى لي أبناء المهلّب إنهم *** إذا سئلوا المعروف لم يتسعّلوا(5)
فذلك ميراث المهلّب إنه *** كريم نماه للمكارم أوّل
جرى و جرت آباؤه فتحرّزوا *** عن الذمّ في عيطاء لا تتوقّل(6)
ص: 413
فلما أنشده ابن بيض هذه الأبيات، أمر له بعشرة آلاف درهم، و عشرة أثواب، و قال: نزيدك ما زدتنا، و نضعف لك. فقال:
/أ مخلد لم تترك لنفسي بغية *** و زدت على ما كنت أرجو و آمل
فكنت كما قد قال معن فإنه *** بصير بما قد قال إذ يتمثّل
وجدت كثير المال إذ ضنّ معدما *** يذمّ و يلحاه الصديق المؤمّل
و إن أحقّ الناس بالجود من رأى *** أباه جوادا للمكارم يجزل
تربّ الذي قد كان قدّم والد *** أغرّ إذا ما جئته يتهلل(1)
وجدت يزيدا و المهلّب برّزا *** فقلت: فإني مثل ذلك أفعل
ففزت كما فازا و جاوزت غاية *** يقصّر عنها السابق المتمهّل
فأنت غياث لليتامى و عصمة *** إليك جمال الطالبي الخير ترحل
أصاب الذي رجّى نداك مخيلة *** تصبّ عزاليها عليه و تهطل(2)
و لم تلف إذ رجّوا نوالك باخلا *** تضن على المعروف و المال يعقل(3)
و موت الفتى خير له من حياته *** إذا كان ذا مال يضنّ و يبخل
فقال له مخلد: احتكم. فأبى، فأعطاه عشرة آلاف(4) دينار و جارية و غلاما و برذونا.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، قال:
كان حمزة/بن بيض شاعرا ظريفا، فشاتم حماد بن الزبرقان، و كان من ظرفاء أهل الكوفة، و كلاهما صاحب شراب، و كان حماد يتّهم بالزندقة، فمشى الرجال بينهما حتى اصطلحا، فدخلا يوما على بعض ولاة الكوفة، فقال لابن بيض: /أراك قد صالحت حمادا، فقال ابن بيض: نعم، أصلحك اللّه، على ألاّ آمره بالصلاة، و لا ينهاني عنها.
أخبرني محمد بن زكريا الصّحّاف قال: حدّثنا قعنب بن المحرز الباهليّ قال: حدّثني الهيثم بن عديّ قال:
قدم حمزة بن بيض البصرة زائرا لبلال بن أبي بردة بن أبي موسى، و بينهما مودة منذ الصّبا، فطال مقامه عنده، فاشتاق إلى أهله و ولده، فكتب إلى بلال:
ص: 414
كلّت رحالي و أعواني و أحراسي *** إلى الأمير و إدلاجي و إملاسي(1)
إلى امرئ مشبع مجدا و مكرمة *** عادية(2) فهو حال منهما كاسي
فلست منك و لا مما مننت به *** من فضل ودك كالمرميّ في راسي
إني و إياك و الإخوان كلّهم *** في العسر و اليسر لو قيسوا بمقياس
و ذاك مما ينوب الدهر من حدث *** كالورد في المثل المضروب و الآس(3)
يبيد هذا فيبلى بعد جدّته *** غضّا و آخره رهن بإيناس(4)
و أنت لي دائم باق بشاشته *** يهتز في عود لا عشّ و لا عاسي(5)
فعجل له بلال صلته، و سرّحه إلى الكوفة.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثنا إسحاق بن محمد النّخعيّ قال: حدّثنا أبو المعارك الضّبيّ قال:
حدّثني أبو مسكين قال:
دخل حمزة بن بيض على سليمان بن عبد الملك، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
رأيتك في المنام شننت خزا *** عليّ بنفسجا و قضيت ديني
فصدق يا فدتك النفس رؤيا *** رأتها في المنام لديك عيني
/فقال سليمان: يا غلام أدخله خزانة الكسوة، و اشنن عليه كل ثوب خزّ بنفسجيّ فيها: فخرج كأنه مشجب(6). ثم قال له: كم دينك؟ قال: عشرة آلاف درهم. فأمر له بها.
من سره ضرب يرعبل بعضه *** بعضا كمعمعة الأباء المحرق(7)
فليأت مأسدة تسنّ سيوفها *** بين المذاد و بين جزع الخندق
و يروى: يمعمع بعضه بعضا. و المعمعة: و تسنّ: اختلاف الأصوات و شدّة زجلها. و المأسدة: الموضع الذي تجتمع فيه الأسد. و تسنّ: تحدّ. يقال: سيف مسنون. و المذاد: موضع بالمدينة. و الخندق: يعني به الخندق الذي احتفره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه حول المدينة. و الشعر لكعب بن مالك الأنصاريّ. و الغناء لابن محرز: خفيف رمل، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، عن إسحاق و عمرو.
ص: 415
هو كعب بن مالك بن أبي كعب. و اسم أبي كعب: عمرو بن القين بن كعب بن/سواد. و قيل: القين بن سواد (هكذا قال ابن الكلبيّ) بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عليّ بن أسد بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث.
و كان كعب بن مالك من شعراء أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المعدودين، و هو بدري عقبيّ. و أبوه مالك بن أبي كعب بن القين شاعر، و له في حروب الأوس و الخزرج، التي كانت بينهم قبل الإسلام آثار و ذكر. و عمه قيس بن أبي كعب شهد بدرا، و هو شاعر أيضا، و هو الذي حالف جهينة على الأوس. و خبره في ذلك يذكر في موضعه، بعد أخبار كعب و أبيه.
و لكعب بن مالك أصل عريق(1)، و فرع طويل في الشعر: ابنه عبد الرّحمن شاعر، و ابن ابنه بشير بن عبد الرّحمن شاعر(2)، و الزّبير بن خارجة بن عبد اللّه بن كعب شاعر، و معن بن عمرو بن عبد اللّه بن كعب شاعر، و عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب أبو الخطّاب شاعر، و معن بن وهب بن كعب شاعر، و كلهم مجيد مقدّم.
و عمّر كعب بن مالك، و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حديثا كثيرا، و كل بني كعب بن مالك قد روى عنه الحديث.
/فما رواه ابن ابنه بشير(3) عن أبيه عنه: حدّثني أحمد بن الجعد قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا أحمد بن عبد الملك قال: حدّثنا عتّاب(4) بن سلمة عن إسحاق بن راشد عن الزهريّ قال: كان بشير بن عبد الرّحمن بن كعب يحدث عن أبيه: أن كعب بن مالك كان يحدّث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «و الذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنّبل بما تقولون لهم من الشعر».
و مما رواه عنه ابنه عبد اللّه: أخبرني أحمد بن الجعد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا بكر بن عبد الرّحمن قال: حدثنا عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن مسلم، عن عبد اللّه بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يصلي المغرب، ثم يرجع الناس إلى أهاليهم و هم يبصرون مواقع النّبل حين يرمون.
ص: 416
و مما رواه ابنه محمد: أخبرني أحمد بن الجعد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزّبير، عن محمد بن كعب، عن أبيه، أنه حدّثه: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعثه و أوس بن الحدثان(1) أيام التشريق، فنادى:
«إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، و أيام منّى أيام أكل و شرب».
و يقال: كان كعب بن مالك عثمانيا، و هو أحد من قعد عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فلم يشهد معه حروبه، و خاطبه في أمر عثمان و قتلته خطابا نذكره بعد هذا في أخباره، ثم اعتزله. و له مراث في عثمان بن عفان رحمه اللّه، و تحريض للأنصار على نصرته قبل قتله، و تأنيب لهم على خذلانه بعد ذلك، منها قوله:
فلو حلتم من دونه لم يزل لكم *** يد الدهر عزّ لا يبوخ و لا يسري
و لم تقعدوا و الدار كاب دخانها *** يحرّق فيها بالسعير و بالجمر
فلم أر يوما كان أكثر ضيعة *** و أقرب منه للغواية و النّكر
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال:
كان كعب بن مالك الأنصاريّ أحد من عاون عثمان على المصريين، و شهر سلاحه، فلما ناشد/عثمان الناس أن يغمدوا سيوفهم انصرف، و لم ير أن الأمر يخلص إليه، و لا يجري القوم إلى قتله؛ فلما قتل وقف كعب بن مالك على مجلس الأنصار، في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأنشدهم:
من مبلغ الأنصار عنّي آية *** رسلا تقصّ عليهم التّبيانا
أن قد فعلتم فعلة مذكورة *** كست الفضوح و أبدت الشّنآنا(2)
بقعودكم في دوركم و أميركم *** تحشى ضواحي داره النيرانا
بينا يرجّي دفعكم عن داره *** ملئت حريقا كابيا و دخانا
حتى إذا خلصوا إلى أبوابه *** دخلوا عليه صائما عطشانا
يعلون قلّته السيوف و أنتم *** متلبّثون مكانكم رضوانا(3)
/اللّه يعلم أنني لم أرضه *** لكم صنيعا يوم ذاك و شانا
يا لهف نفسي إذ يقول: أ لا أرى *** نفرا من الأنصار لي أعوانا
ص: 417
و اللّه لو شهد ابن قيس ثابت *** و معاشر كانوا له إخوانا
يعني ثابت بن قيس بن شمّاس.
و أبو دجانة و ابن أرقم(1) ثابت *** و أخو المشاهد من بني عجلانا
أبو دجانة: سماك بن خرشة. و ابن أرقم: ثابت البلويّ. و أخو المشاهد من بني عجلان: معن بن عديّ، عقبيّ.
و رفاعة العمريّ و ابن معاذهم *** و أخو معاوي لم يخف خذلانا
رفاعة: ابن عبد المنذر العمريّ. و ابن معاذ: سعد بن معاذ. و أخو معاوية: المنذر بن عمرو الساعديّ، عقبى بدريّ.
قوم يرون الحق نصر أميرهم *** و يرون طاعة أمره إيمانا
إن يتركوا فوضى يروا في دينهم *** أمرا يضيّق عنهم البلدانا
فليعلينّ اللّه كعب وليه *** و ليجعلنّ عدوّه الذّلانا
إني رأيت محمدا اختاره *** صهرا و كان يعدّه خلصانا(2)
محض الضرائب ماجدا أعراقه *** من خير خندف منصبا و مكانا
عرفت له عليا معدّ كلّها *** بعد النبيّ الملك و السلطانا
من معشر لا يغدرون بجارهم *** كانوا بمكة يرتعون زمانا
يعطون سائلهم و يأمن جارهم *** فيهم و يردون الكماة طعانا
/فلو انكم مع نصركم لنبيكم *** يوم اللقاء نصرتم عثمانا!
أنسيتم عهد النبيّ إليكم *** و لقد ألظّ و وكّد الأيمانا(3)
قال: فجعل القوم يبكون، و يستغفرون اللّه عز و جل.
لكن غذاها اللبن الحرّيف *** و المخض و القارص و الصّريف
قال: فاحتفظت الأنصار حيث ذكر المد و التمر، فقالوا لكعب بن مالك: انزل، فنزل، فقال:
لم يغذها مدّ و لا نصيف *** لكن غذاها الحنظل النّقيف
و مذقة كطرّة الخنيف *** تبيت بين الزّرب و الكنيف(1)
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: اركبا.
أخبرني الجوهريّ و المهلّبي قالا: حدثنا عمر بن شبّة قال: حدثنا هوذة بن خليفة قال: حدثنا عوف بن محمد، عن محمد بن سيرين، في حديث طويل قال:
كان يهجوهم يعني قريشا، ثلاثة نفر من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، و كعب بن مالك، و عبد اللّه بن رواحة. و كان حسّان و كعب يعارضانهم بمثل قولهم، بالوقائع و الأيام و المآثر، و يعيرانهم بالمثالب، و كان عبد اللّه بن رواحة يعيّرهم بالكفر، و ينسبهم إليه، و يعلم أن ليس فيهم شيء شرّ من الكفر، فكانوا في ذلك الزمان أشدّ شيء عليهم قول حسان و كعب، و أهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا و فقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة.
أخبرني الجوهريّ و المهلّبيّ قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا عبد اللّه بن بكر السّهميّ قال: حدثني حاتم بن أبي صغيرة قال: حدثنا سماك بن حرب قال:
أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقيل: إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك، فقام ابن رواحة، فقال: يا رسول اللّه ائذن لي فيه. فقال له: أنت الذي تقول: فثبّت اللّه؟ قال: نعم يا رسول اللّه، أنا الذي أقول:
فثبت اللّه ما أعطاك من حسن *** تثبيت موسى، و نصرا كالذي نصرا
فقال: و أنت فعل اللّه بك مثل ذلك. قال: فوثب كعب بن مالك فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي فيه. فقال: أنت الذي تقول: همّت؟ قال: نعم يا رسول اللّه، أنا الذي أقول:
همت سخينة أن تغالب ربّها *** و ليغلبنّ مغالب الغلاّب(2)
فقال: أما إن اللّه لم ينس لك ذلك.
أخبرني الجوهريّ و المهلبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا عبد اللّه بن يحيى مولى ثقيف قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدّثنا مجالد، عن الشعبيّ قال:
ص: 419
لما انهزم المشركون يوم الأحزاب، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إن المشركين لن يغزوكم بعد اليوم، و لكنكم تغزونهم، و تسمعون منهم أذى و يهجونكم، فمن يحمي أعراض المسلمين؟ فقام عبد اللّه بن رواحة، فقال: أنا.
فقال: إنك لحسن الشعر. ثم قام كعب فقال: أنا. فقال: و إنك لحسن الشعر.
أخبرني الجوهريّ و المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثني محمد بن منصور قال: حدّثني سعيد بن عامر قال: حدّثني جويرية بن أسماء قال:
بلغني أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: أمرت عبد اللّه بن رواحة، فقال و أحسن، و أمرت حسّانا فشفى و اشتفى.
أخبرني الجوهريّ و المهلبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثني أحمد بن عيسى قال: حدّثني عبد اللّه بن وهب عن عمرو بن الحارث: /أن يحيى بن سعيد حدّثه عن عبد اللّه بن أنيس عن أمه، و هي بنت كعب بن مالك:
أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خرج على كعب و هو في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ينشد، فلما رآه كأنه انقبض، فقال: ما كنتم فيه؟ فقال كعب: كنت أنشد. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: فأنشد، فأنشد حتى أتى على قوله:
مقاتلنا عن جذمنا كلّ فخمة(1)
/فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا تقل عن جذمنا، و لكن قل: مقاتلنا عن ديننا.
قال أبو زيد: و حدّثني سعيد بن عامر قال: حدّثنا أبو عون عن ابن سيرين قال:
وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بباب كعب بن مالك، فخرج فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إيه، فأنشده، ثم قال: إيه فأنشده، ثم قال: إيه فأنشده (ثلاث مرات). فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: لهذا أشدّ عليهم من مواقع النّبل.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن منصور الرّبعيّ، و ذكر أنه إسناد شآم، هكذا قال، قال ابن عمار في الخبر، و ذكر حديثا فيه طول، لحسان بن ثابت، و النعمان بن بشير، و كعب بن مالك، فذكرت ما كان لكعب فيه، قال:
لما بويع لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام، بلغه عن حسان بن ثابت و كعب بن مالك و النعمان بن بشير - و كانوا عثمانية - أنهم يقدّمون بني أمية على بني هاشم، و يقولون: الشام خير من المدينة. و اتصل بهم أن ذلك قد بلغه،
ص: 420
فدخلوا عليه، فقال له كعب بن مالك: يا أمير المؤمنين؛ أخبرنا عن عثمان: أقتل ظالما، فنقول بقولك؟ أم قتل مظلوما، فنقول بقولنا، و نكلك إلى الشبهة فيه، فالعجب من تيقننا و شكك، و قد زعمت العرب أن عندك علم ما اختلفنا فيه، فهاته نعرفه، ثم قال:
كفّ يديه ثم أغلق بابه *** و أيقن أن اللّه ليس بغافل
و قال لمن في داره: لا تقاتلوا *** عفا اللّه عن كل امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت اللّه صبّ عليهم ال *** عداوة و البغضاء بعد التواصل
و كيف رأيت الخير أدبر عنهم *** و ولّى كإدبار النعام الجوافل
/فقال لهم عليّ عليه السّلام: لكم عندي ثلاثة أشياء: استأثر عثمان فأساء الأثرة، و جزعتم فأسأتم الجزع، و عند اللّه ما تختلفون فيه إلى يوم القيامة. فقالوا: لا ترضى بهذا العرب، و لا تعذرنا به. فقال عليّ عليه السّلام:
أ تردون عليّ بين ظهراني المسلمين، بلا بيّنة صادقة، و لا حجة واضحة؟ اخرجوا عني، و لا تجاوروني في بلد أنا فيه أبدا. فخرجوا من يومهم، فساروا حتى أتوا معاوية، فقال لهم: لكم الولاية و الكفاية. فأعطى حسان بن ثابت ألف دينار، و كعب بن مالك ألف دينار، و ولى النّعمان بن بشير حمص، ثم نقله إلى الكوفة بعد.
أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن الحارث، قال: حدّثنا المدائنيّ عن عبد الأعلى القرشيّ قال:
قال معاوية يوما لجلسائه: أخبروني بأشجع بيت وصف به رجل قومه. فقال له روح بن زنباع: قول كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا *** قدما و نلحقها إذا لم تلحق
فقال له معاوية: صدقت.
و أما أبوه مالك بن أبي كعب، أبو كعب بن مالك، فإني أذكر قبل أخباره شيئا مما يغنّى فيه من شعره، فمن ذلك قوله:
/لعمر أبيها لا تقول حليلتي: *** ألا فرّ عني مالك بن أبي كعب
و هم يضربون الكبش يبرق بيضه *** ترى حوله الأبطال في حلق شهب
/الشعر لمالك بن أبي كعب. و الغناء لمالك، ثقيل أول بالبنصر، عن يونس و الهشاميّ. و فيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى، جميعا عن الهشاميّ. و زعم ابن المكيّ أن خفيف الثقيل هو لحن مالك.
و هذا الشعر يقوله مالك بن أبي كعب في حرب كانت بينه و بين رجل من بني ظفر، يقال له برذع بن عديّ.
ص: 421
و كان السبب فيما ذكره جعفر العاصميّ عن عيينة بن المنهال، و نسخته من كتاب أعطانيه عليّ بن سليمان الأخفش:
أن رجلا من طيئ قدم يثرب بإبل له يبيعها، فنزل في جوار برذع بن عديّ أخي بني ظفر، فباع إبله، و اقتضى أثمانها، و كان مالك بن أبي كعب بن القين أخو بني سلمة، اشترى منه جملا، فجعله ناضحا، فمطله مالك بن أبي كعب بثمن جمله، و حضر شخوص الطائيّ، فشكا ذلك إلى برذع، فمشى معه إلى منزل مالك، ليكلمه أن يوفيه ثمن جمله، أو يرده عليه، فلم يجدا مالكا في منزله، و وجدا الجمل باركا بالفناء، فبعثه برذع، و قال للطائيّ: انطلق بجملك، ثم خرجا مسرعين حتى دخلا في دار النّبيت، فأمنا، فارتحل الطائيّ بالجمل إلى بلاده، و بلغ مالكا ما صنع برذع، فكره أن ينشب بين قومه و بين النبيت حرب، فكف و قد أغضبه ذلك، و جعل يسفّه برذعا في جراءته عليه و ما صنع، فقال برذع بن عديّ في ذلك:
أ من شحط دار من لبابة تجزع *** و صرف النوى مما يشتّ و يجمع
و ليس بها إلا ثلاث كأنها *** مسفّعة أو قد علاهنّ أيدع(1)
قد اقتربت لو كان في قرب دارها *** جداء و لكن قد تضن و تمنع
و كان لها بالمنحنى و جنوبه *** مصيف و مشتى قبل ذاك و مربع
/أتاني و عيد الخزرجيّ كأنني *** ذليل له عند اليهوديّ مضرع
متى تلقني لا تلق نهزة واجد *** و تعلم أني في الهزاهز أروع(2)
معي سمحة صفراء من فرع نبعة *** و لين إذا مسّ الضريبة يقطع
و مطّرد لدن إذا هزّ متنه *** متين كخرص الذابلات و أهزع(3)
فلا و إلهي لا يقول مجاوري: *** ألا إنني قد خانني اليوم برذع(4)
و أحفظ جاري أن أخاتل عرسه *** و مولاي بالنّكراء لا أتطلع
و أجعل مالي دون عرضي إنه *** على الوجد و الإعدام عرض ممنّع
و أصبر نفسي في الكريهة إنه *** لذي كل نفس مستقر و مصرع
و إني بحمد اللّه لا ثوب فاجر *** لبست و لا من خزية أتقنع
فأجابه مالك بن أبي كعب، فقال:
ص: 422
هل للفؤاد لدى شنباء تنويل *** أم لا نوال فإعراض و تحميل(1)
/إن النساء كأشجار نبتن معا *** منهن مرّ و بعض المرّ مأكول(2)
إن النساء و لو صوّرن من ذهب *** فيهن من هفوات الجهل تخبيل
الغناء لسليم، هزج بالوسطى عن الهشاميّ و بذل.
/إنك إن تنه إحداهن عن خلق *** فإنه واجب لا بدّ مفعول
و نعجة من نعاج الرمل خاذلة *** كأن مأقيها بالحسن مكحول(3)
ودّعتها في مقامي ثم قلت لها: *** حياك ربك إني عنك مشغول
و ليلة من جمادى قد شربت بها *** و الزّق بيني و بين الشّرج معدول(4)
و مرجحنّ على عمد دلفت به *** كأنه رجل في الصفّ مقتول(5)
و لا أهاب إذا ما الحرب حرّشها ال *** أبطال و اضطربت فيها البهاليل
أمضي أمامهم و الموت مكتنع *** قدما إذا ما كبا فيها التّنابيل(6)
عليّ فضفاضة كالنّهى سابغة *** و صارم مثل لون الملح مصقول(7)
و لدنة في يدي صفراء تعلبها *** بعامل كشهاب النار موصول(8)
إني من الخزرج الغرّ الذين هم *** أهل المكارم لا يلفى لهم جيل
في الحرب أنهك منهم للعدوّ إذا *** شبت و أعظم نيلا إن هم سيلوا
أشبهت من والدي عزّا و مكرمة *** و برذع مدغم في الأوس مجهول
نبّئته يدّعي عزا و يوعدني(9)*** نوكا و عندي له بالسيف تنكيل
ص: 423
قال: ثم إن مالك بن كعب خرج يوما لبعض حاجته، فبينا هو يمشي وحده، إذ لقيه برذع و معه رجلان من بني ظفر، فلما رأوا مالكا أقبلوا نحوه، فبدرهم مالك إلى مكان من الحرّة كثير الحجارة مشرف، فقام عليه، و أخذ في يده أحجارا، و أقبلوا حتى دنوا منه، فشاتموه و راموه بالحجارة؛ و جعل مالك يلتفت إلى الطريق الذي جاء منه، كأنه يستبطئ ناسا، فلما رآه برذع و صاحباه يكثر الالتفات، ظنوا أنه ينتظر ناسا كانوا معه، و خشوا أن يأتوهم على تلك الحال، فانصرفوا عنه، فقال مالك بن أبي كعب في ذلك:
لعمر أبيها لا تقول حليلتي: *** ألا فرّ عني مالك بن أبي كعب
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا *** و أنجو إذا غمّ الجبان من الكرب
أبى لي أن أعطى الصّغار ظلامة *** جدودي و آبائي الكرام أولو السّلب(1)
هم يضربون الكبش يبرق بيضه *** ترى حوله الأبطال في حلق شهب
و هم أورثوني مجدهم و فعالهم *** فأقسم لا يزري بهم أبدا عقبي
و يروى: لا يخزيهم.
و أرعى لجاري(2) ما حييت ذمامه *** و أعرف ما حقّ الرفيق على الصحب
و لا أسمع النّدمان شيئا يريبه *** إذا الكأس دارت بالمدام على الشّرب
إذا ما اعترى بعض الندامى لحاجة *** فقولي له: أهلا و سهلا و في الرحب
/إذا أنفدوا الزّق الرويّ و صرّعوا *** نشاوى فلم أنقع(3) بقولهم: حسبي
بعثت إلى حانوتها فاستبأتها *** بغير مكاس في السّوام و لا غصب
/و قلت: اشربوا ريّا هنيئا فإنها *** كماء القليب في اليسارة و القرب
يطاف عليهم بالسّديف و عندهم *** قيان يلهّين المزاهر بالضرب
فإن يصبروا لي الدهر أصبرهم بها *** و يرحب لهم باعي و يغزر لهم شربي
و كان أبي في المحل يطعم ضيفه *** و يروي نداماه و يصبر في الحرب
و يمنع مولاه و يدرك تبله *** و لو كان ذاك التبل في مركب(4) صعب
إذا ما منعت المال منكم لثروة *** فلا يهنني مالي و لا ينم لي كسبي
ص: 424
و قد روي أن الشعر المنسوب إلى مالك بن أبي كعب، لرجل من مراد، يقال له مالك بن أبي كعب، و ذكر له خبر في ذلك.
أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان. قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثنا العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، عن عبد اللّه بن عباس، عن مجالد عن الشعبي، قال:
كان رجل من مراد يكنى أبا كعب، و كان له ابن يدعى مالكا، و بنت يقال لها طريفة، فزوج ابنه مالكا امرأة من أرحب، فلم تزل معه حتى مات أبو كعب، فقالت الأرحبية لمالك: إني قد اشتقت إلى أهلي و وطني، و نحن هاهنا في جدب و ضيق عيش، فلو ارتحلت بأهلك و بي، فنزلت على أهلي، لكان عيشنا أرغد، و شملنا أجمع؛ فأطاعها، و ارتحل بها و بأمه و بأخته إلى بلاد أرحب، فمر بحيّ كان بينهم و بين أبيه ثأر، فعرفوا فرسه، فخرجوا إليه، و أحدقوا به، /و قالوا له: استسلم و سلّم الظعينة. فقال: أما و سيفي بيدي و فرسي تحتي فلا، و قاتلهم حتى صرع، فقال و هو يجود بنفسه:
لعمر أبيها لا تقول حليلتي *** ألا فرّ عني مالك بن أبي كعب
و ذكر باقي الأبيات التي تقدم ذكرها قبل هذا الخبر.
قال مؤلف هذا الكتاب: و أحسب هذا الخبر مصنوعا، و أن الصحيح هو الأول.
خيّرت أمرين ضاع الحزم بينهما *** إما الضّياع و إما فتنة عمم
فقد هممت مرارا أن أساجلهم(1) *** كأس المنية لو لا اللّه و الرّحم
الشعر لعيسى بن موسى الهاشميّ، و الغناء لمتيّم الهاشمية، خفيف رمل، من روايتي ابن المعتز و الهشاميّ.
ص: 425
عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. و قد مضى في عدة مواضع من هذا الكتاب ما تجاوزه نسب هاشم إلى أقصى مدى الأنساب. و أمه و أم سائر إخوته و أخواته أم ولد.
و عيسى ممن ولد و نشأ بالحميمة من أرض الشام، و كان من فحول أهله و شجعانهم، و ذوي النجدة و الرأي و البأس/و السّودد منهم. و قبل أن أذكر أخباره، فإني أبدأ بالرواية في أن الشعر له، إذ كان الشعر ليس من شأنه، و لعل منكرا أن ينكر ذلك إذا قرأه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و عمي قالا: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد. و رأيت هذا الخبر بعد ذلك في بعض كتب ابن أبي سعد، فقابلت به ما روياه؛ فوجدته موافقا.
قال ابن أبي سعد: حدثني عليّ بن النطاح قال: حدثني أبو عبد اللّه محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى قال:
لما خلع أبو جعفر عيسى بن موسى، و بايع للمهديّ، قال عيسى بن موسى:
خيّرت أمرين ضاع الحزم بينهما *** إما صغار و إما فتنة عمم
و قد هممت مرارا أن أساقيهم *** كأس المنية لو لا اللّه و الرّحم
و لو فعلت لزالت عنهم نعم *** بكفر أمثالها تستنزل النقم
على هذه الرواية في الشعر، روى من ذكرت. و على ما صدّرت من الخلاف في الألفاظ يغنّى.
/أنشدني طاهر بن عبد اللّه الهاشميّ قال: أنشدني ابن بريهة المنصوريّ(1) هذه الأبيات، و حكى أن ناقدا خادم عيسى كان واقفا بين يديه ليلة أتاه خبر المنصور و ما دبّره عليه من الخلع، قال: فجعل يتململ على فراشه و يهمهم، ثم جلس فأنشد هذه الأبيات، فعلمت أنه كان يهمهم بها، و سألت اللّه أن يلهمه العزاء و الصبر على ما جرى، شفقة عليه.
ص: 426
قال ابن أبي سعد في الخبر الذي قدمت ذكره عنهم: و حدّثني محمد بن يوسف الهاشمي قال: حدّثني عبد اللّه بن عبد الرّحيم قال: حدّثتني كلثم بنت عيسى قالت: قال موسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس:
رأيت في المنام كأني دخلت بستانا، فلم آخذ منه إلا عنقودا واحدا، عليه من الحبّ المرصّف ما اللّه به عليم، فولد له عيسى بن موسى، ثم ولد لعيسى من قد رأيت.
قال ابن أبي سعد في خبره هذا: و حدّثني عليّ بن مسلم الهاشميّ قال: حدّثني عبد الوهاب بن عبد الرّحمن بن مالك، مولى عيسى بن موسى، قال: حدّثني أبي قال:
كنا مع عيسى بن موسى لما سكن الحيرة، فأرسل إليّ ليلة من الليالي، فأخرجني من منزلي، فجئت إليه، فإذا هو جالس على كرسيّ، فقال لي: يا عبد الرّحمن، لقد سمعت الليلة في داري شيئا ما دخل سمعي قطّ إلا ليلة بالحميمة و الليلة، فانظر ما هو. فدخلت أستقري الصوت، فإذا هو في المطبخ، و إذا الطباخون قد اجتمعوا، و عندهم رجل من أهل الحيرة يغنيهم بالعود، فكسرت العود، و أخرجت الرجل، و عدت إليه فأخبرته، فحلف لي أنه ما سمعه قطّ إلا تلك الليلة بالحميمة و ليلته هذه.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و الطّوسي، قالا: حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:
حدّثني عبد اللّه بن محمد بن المنذر عن صفية بنت الزبير بن هشام بن عروة عن أبيه قال:
كان عيسى بن موسى إذا حج، يحج ناس كثير من أهل المدينة: يتعرّضون لمعروفه فيصلهم؛ قالت: فمر أبي بأبي الشدائد الفزاريّ، و هو ينشد بالمصلّى:
عصابة إن حج عيسى حجّوا
و إن أقام بالعراق دجّوا
قد لعقوا لعيقة فلجّوا
فالقوم قوم حجّهم معوجّ
ما هكذا كان يكون الحج
/قال: ثم لقي أبو الشدائد بعد ذلك أبي، فسلم عليه، فلم يردد عليه، فقال له: مالك يا أبا عبد اللّه لا تردّ السّلام عليّ؟ فقال: أ لم أسمعك تهجو حاجّ بيت اللّه الحرام؟ فقال أبو الشدائد:
إني و ربّ الكعبة المبنيّة
و اللّه ما هجوت من ذي نيه
و لا امرئ ذي رعة نقيه
لكنني أرعي على البرية
ص: 427
من عصبة أغلوا على الرعيه
بغير أخلاق لهم سريه
آثار ربع قدما *** أعيا جوابا صمما
سحت عليه ديم *** بمائها فانهدما
كان لسعدى علما *** فصار وحشا رمما
أيام سعدى سقم *** و هي تداوي السّقما
الشعر للرّقاشيّ، و الغناء لابن المكيّ، رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانة.
ص: 428
هو الفضل بن عبد الصمد مولى رقاش. و هو من ربيعة، و كان مطبوعا سهل الشعر، نقيّ الكلام، و قد ناقض أبا نواس، و فيه يقول أبو نواس:
وجدنا الفضل أكرم من رقاش *** لأن الفضل مولاه الرسول
أراد أبو نواس بهذا نفيه عن ولائه، لأنه كان أكرم ممن ينتمي إليه، و ذهب أبو نواس إلى قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: أنا مولى من لا مولى له.
و ذكر إبراهيم بن تميم، عن المعلّى بن حميد:
أن الرقاشيّ كان من العجم من أهل الريّ.
و قد مدح الرقاشيّ الرشيد و أجازه، إلا أن انقطاعه كان إلى آل برمك، فأغنوه عن سواهم.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ قال: حدّثنا أحمد بن يزيد المهلبيّ قال: حدّثني أبي، قال:
كان الفضل الرقاشيّ منقطعا إلى آل برمك، مستغنيا بهم عن سواهم، و كانوا يصولون به على الشعراء، و يروّون أولادهم أشعاره، و يدونون القليل و الكثير منها، تعصبا له، و حفظا لخدمته، و تنويها باسمه، و تحريكا لنشاطه، فحفظ ذلك لهم، فلما نكبوا صار إليهم في حبسهم، فأقام معهم مدّة أيامهم، ينشدهم و يسامرهم، حتى ماتوا، ثم رثاهم فأكثر(1)، و نشر محاسنهم وجودهم و مآثرهم فأفرط، حتى نشر منها ما كان مطويا، و أذاع منها ما كان مستورا؛ و جرى على شاكلته/بعدهم، و كان كالموقوف المديح على جميعهم، صغيرهم و كبيرهم. ثم انقطع إلى طاهر(2) و خرج معه إلى خراسان، فلم يزل بها معه حتى مات.
و كان مع تقدّمه في الشعر ماجنا خليعا، متهاونا بمروءته و دينه، و قصيدته التي يوصي فيها بالخلاعة و المجون مشهورة، سائرة في الناس، مبتذلة في أيدي الخاصة و العامة، و هي التي أوّلها:
أوصى الرقاشيّ إلى إخوانه *** وصية المحمود في ندمانه
ص: 429
و قد رأيت هذه القصيدة بعينها بخط الجاحظ في شعر أبي نعامة، من جملة قصيدة له طويلة، يهجو فيها جماعة، و يأتي في وسطها بقصيدة الرقاشيّ.
و قال عبد اللّه بن المعتز: حدثني ابن أبي الخنساء، عن أبيه، قال:
لما قال أبو دلف:
ناوليني الرمح قد طا *** ل عن الحرب جمامي(1)
مرّ لي شهران مذ لم *** أرم قوما بسهامي
قال الرقاشيّ يعارضه:
جنبيني الدّرع قد طا *** ل عن القصف جمامي
و اكسري المطرد و الب *** - يض و أثني بالحسام
و اقذفي في لجّة البح *** - ر بقوسي و سهامي
و بترسي و برمحي *** و بسرجي و لجامي
فبحسبي أن تريني *** بين فتيان كرام
سادة نغدو مجدي *** - ن على حرب المدام
/و اصطفاق العود و النا *** يات في جوف الظلام
هزم أرواح دنان *** لم ننلها باصطلام
نهزم الراح إذا ما *** همّ قوم بانهزام
ثم خلّ الضرب و الطع *** - ن لأجساد و هام
لشقيّ قال: قد طا *** ل عن الحرب جمامي
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني محمد بن موسى، عن ابن النطاح، قال:
توفّي العباس بن محمد بن خالد بن برمك بالخلد، و الرشيد بالرّصافة، في يوم جمعة، فأخرجت جنازته مع العصر، و حضر الرشيد و الأمين، و أخرجت المضارب إلى مقابر البرامكة بباب البردان، و فرش للرشيد في مسجد هناك، و جاء الرشيد في الحلق بالأعلام و الحراب، فصلى عليه، و وقف على قبره حتى دفن؛ فلما خرج يحيى و محمد أخواه من القبر، قبّلا يد الرشيد، و سألاه الانصراف، فقال: لا، حتى يسوّى عليه التراب، و لم يزل قائما حتى فرغ من أمره، و عزّاهما و أمرهما بالركوب، فقال الرّقاشيّ يرثي العباس بن محمد بن خالد بن برمك:
ص: 430
أ تحسبني باكرت بعدك لذة *** أبا الفضل أو رفّعت عن عاتق سترا
أو انتفعت عيناي بعد بنظرة *** أو ادنيت من كأس بمشمولة ثغرا
جفاني إذن يوما إلى الليل مؤنسي *** و أضحت يميني من ذخائرها صفرا
و لكنني استشعرت ثوب استكانة *** و بتّ كأن الموت يحفر لي قبرا
غنّى في الأول و الثاني من هذه الأبيات الرّفّ، ثاني ثقيل بالبنصر، عن الهشاميّ و عبد اللّه بن موسى. و فيه ثقيل أوّل مجهول، أحسبه لبعض جواري البرامكة. و فيهما لإبراهيم بن المهديّ خفيف رمل، عن عبد اللّه بن موسى.
و من ذلك قوله في جعفر(1).
كم هاتف بك من باك و باكية *** يا طيب للضيف إذ تدعى و للجار
إن يعدم القطر كنت المزن بارقه *** لمع الدنانير لا ما خيّل الساري
و قوله:
لعمرك ما بالموت عار على الفتى *** إذا لم تصبه في الحياة المعاير
و ما أحد حيّ و إن كان سالما *** بأسلم ممن غيبته المقابر
و من كان مما يحدث الدهر جازعا *** فلا بد يوما أن يرى و هو صابر
و ليس لذي عيش عن الموت مقصر *** و ليس على الأيام و الدهر غابر
/و كل شباب أو جديد إلى البلى *** و كل امرئ يوما إلى اللّه صائر
فلا يبعدنك اللّه عني جعفرا *** بروحي و لو دارت علي الدّوائر
فآليت لا أنفكّ أبكيك ما دعت *** علي فنن ورقاء أو طار طائر
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو غسان، عن عبد العزيز بن أبي ثابت، عن محمد بن عبد العزيز:
أن الرقاشيّ الشاعر فني في حب البرامكة حتى خيف عليه.
أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال: حدثني أبي عن أبي عكرمة، قال:
و أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن موسى، عن إسماعيل بن مجمع، عن أحمد بن الحارث، عن المدائني(2).
ص: 431
أنه(1) لما دارت الدوائر على آل برمك، و أمر بقتل جعفر بن يحيى و صلب، اجتاز به الرّقاشيّ الشاعر و هو على الجذع، فوقف يبكي أحرّ بكاء، ثم أنشأ يقول:
أما و اللّه لو لا خوف واش *** و عين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك و استلمنا *** كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى *** حساما قدّه(2) السيف الحسام
على اللذات و الدنيا جميعا *** و دولة آل برمك السلام
فكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى الرشيد، فأحضره، فقال له: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كان إليّ محسنا، فلما رأيته على الحال التي هو عليها حركني إحسانه، فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلت. قال: و كم كان يجري عليك؟ قال: ألف دينار في كل سنة. قال: فإنا قد أضعفناها لك.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف، قال: حدثنا الرّياشيّ قال:
كان الفضل الرّقاشيّ يجلس إلى إخوان له يحادثهم، و يألفونه و يأنسون به، فتفرقوا في طلب المعاش، و ترامت بهم الأسفار، فمر الرقاشيّ بمجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه، فوقف فيه طويلا، ثم استعبر و قال:
لو لا التطيّر قلت غيّركم *** ريب الزمان فخنتم عهدي
درست معالم كنت آلفها *** من بعدكم و تغيرت عندي
أخبرني محمد بن جعفر الصّيدلانيّ النحويّ قال: حدثنا محمد(3) بن القاسم قال: حدثني أبو هفان، عن يوسف بن الدّاية قال:
/كان أبو نواس و الفضل الرّقاشي جالسين، فجاءهما عمرو الوراق، فقال: رأيت جارية خرجت من دور آل سليمان بن عليّ، فما رأيت جارية أحسن منها، هيفاء نجلاء، زجّاء دعجاء، كأنها خوط بان، أو جدل عنان، فخاطبتها فأجابتني بأحلى لفظ، و أحسن لسان، و أجمل خطاب. فقال الرقاشيّ: قد و اللّه عشقتها، فقال أبو نواس:
أو تعرفها؟ قال: لا و اللّه، و لكن بالصفة، ثم أنشأ يقول:
صفات و ظنّ أورثا القلب لوعة *** تضرّم في أحشاء قلب متيّم(4)
تمثّلها نفسي لعيني فأنثني *** إليها بطرف الناظر المتوسّم
ص: 432
يحمّلني حبّي لها فوق طاقتي *** من الشوق دأب الحائر(1) المتقسّم
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: /حدثني عبد الرّحيم بن أحمد بن زيد الحرانيّ قال:
قيل لابن دراج الطفيليّ أ تتطفّل على الرءوس؟ قال: و كيف لي بها؟ قيل: إن فلانا و فلانا قد اشترياها، و دخلا بستان ابن بزيع، فخرج يحضر خوفا من فوتهما، فوجدهما قد لوّحا بالعظام فوقف عليها ينظر، ثم استعبر و تمثل قول الرّقاشيّ:
آثار ربع قدما *** أعيا جوابي صمما
و ابن دراج هذا يقال له عثمان، و هو مولى لكندة، و كان في زمن المأمون، و له شعر مليح، و أدب صالح، و أخبار طيبة، يجري ذكرها هاهنا.
ص: 433
يخاف الكلب(1)
أخبرني الجوهريّ عن ابن مهرويه، عن أبيه قال:
قيل لعثمان بن دراج: أ تعرف بستان فلان؟ قال: إي و اللّه، و إنه للجنة الحاضرة في الدنيا. قيل له: فلم لا تدخل إليه، فتأكل من ثماره، تحت أشجاره، و تسبح في أنهاره؟ قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال.
أخبرني الجوهريّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الرّحيم بن أحمد بن زيد الحرّاني قال:
كان عثمان بن دراج يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطّابي، أحد ولد زيد بن الخطاب، فقال له: ويحك! إني أبخل بأدبك و علمك، و أصونك و أضن بك عما أنت فيه من التطفيل، و لي وظيفة راتبة في كل يوم، فالزمني و كن مدعوّا أصلح لك مما تفعل. فقال: رحمك اللّه أين يذهب بك؛ فأين لذة الجديد، و طيب التنقل كل يوم من مكان إلى مكان؟ و أين نيلك و وظيفتك من احتفال الأعراس؟ و أين ألوانك من ألوان الوليمة؟ قال: فأما إذ أبيت ذاك، فإذا ضاقت عليك المذاهب فإني فيئة لك. قال: أما هذا فنعم.
فبينا هو عنده ذات يوم إذ أتت الخطابيّ مولاة له، فقالت له: جعلت فداك. زوّجت ابنتي من ابن عمّ لها، و منزلي بين قوم طفيليين، لا آمنهم أن يهجموا عليّ، فيأكلوا ما صنعت، و يبقى من دعوت، فوجّه معي بمن يمنعهم. فقال: نعم، هذا أبو سعيد، قم معها يا أبا سعيد. فقال: مرّي بين يديّ، و قام و هو يقول:
ضجت تميم أن تقتّل عامر *** يوم النسار فأعتبوا بالصّيلم
قال: و قال الخطابي هذا لابن درّاج: كيف تصنع بأهل العرس إذا لم يدخلوك؟ قال: أنوح على بابهم، فيتطيّرون بذلك، فيدخلوني.
قال: و قال له رجل: ما هذه الصفرة في لونك؟ قال: من الفترة بين القصفين، و من خوفي كل يوم من نفاد الطعام قبل أن أشبع.
ص: 434
أخبرني أحمد قال: حدثنا ابن مهرويه، عن عبد الرّحيم بن أحمد:
أن ابن دراج صار إلى باب عليّ بن زيد، أيام كان يكتب للعباس بن المأمون، فحجبه الحاجب، و قال: ليس هذا وقتك، قد رأيت القواد يحجبون، فكيف يؤذن لك أنت؟ قال: ليست سبيلي سبيلهم، لأنه يحب أن يراني، و يكره أن يراهم، فلم يأذن له. فبيناهما على ذلك إذ خرج عليّ بن زيد، فقال: ما منعك يا أبا سعيد أن تدخل؟ فقال: منعني هذا البغيض. فالتفت إلى الحاجب، فقال: بلغ بك بغضك أن تحجب هذا؟ ثم قال: يا أبا سعيد، ما أهديت إليّ من النوادر؟ قال: مرت بي جنازة و معي ابني، و مع الجنازة امرأة تبكيه تقول: بك يذهبون إلى بيت لا فرش فيه و لا وطاء، /و لا ضيافة و لا غطاء؛ و لا خبز فيه و لا ماء. فقال لي ابني: يا أبة، إلى بيتنا و اللّه يذهبون بهذه الجنازة. فقلت له: و كيف ويلك! قال: لأن هذه صفة بيتنا. فضحك عليّ و قال: قد أمرت لك بثلاثة مائة درهم.
قال: قد وفّر اللّه عليك نصفها على أن أتغدى معك. قال: و كان عثمان مع تطفيله أشره الناس، فقال: هي عليك موفّرة كلها، و تتغدّى معنا.
و عثمان ابن دراج الذي يقول:
لذة التطفيل دومي *** و أقيمي لا تريمي
أنت تشفين غليلي *** و تسلّين همومي
/عود إلى الرقاشي:
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا العكليّ قال:
دخل الرقاشيّ على بعض أمراء الصدقة، فقال له: قد أصبح خضابك قانيا. قال: لأني أمسيت له معانيا.
قال: و كيف تفعله؟ قال: أنعم الحناء عجنا، و أجعل ماءه سخنا، و أروّي شعري قبله دهنا، فإن بات قنا(1)، و إن لم يفعل أغنى.
من لعين رأت خيالا مطيفا *** واقفا هكذا علينا وقوفا
طارقا موهنا ألم فحيا *** ثم ولّى فهاج قلبا ضعيفا
ليت نفسي و ليت أنفس قومي *** يا يزيد الندى تقيك الحتوفا
عتكي مهلّبيّ كريم *** حاتمي قد نال فرعا منيفا
عروضه من الخفيف، و الشعر لربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم المهلبي. و الغناء لعبد الرّحيم الرف(2)، خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو.
ص: 435
هو ربيعة بن ثابت الأنصاريّ، و يكنى أبا شبابة. و قيل إنه كان يكنى أبا ثابت، و كان ينزل الرّقة، و بها مولده و منشؤه، فأشخصه المهديّ إليه، فمدحه بعدة قصائد، و أثابه عليها ثوابا كثيرا، و هو من المكثرين المجيدين، و كان ضريرا، و إنما أخمل ذكره و أسقطه عن طبقته، بعده عن العراق، و تركه خدمة الخلفاء، و مخالطة الشعراء، و على ذلك فما عدم مفضّلا لشعره، مقدّما له.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثنا محمد بن داود، عن ابن أبي خيثمة(1) عن دعبل قال:
قلت لمروان بن أبي حفصة: من أشعركم جماعة المحدثين يا أبا السّمط؟. قال: أشعرنا أسيرنا بيتا. قلت:
و من هو؟ قال: ربيعة الرقيّ الذي يقول:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليم و الأغر ابن حاتم
و هذا البيت من قصيدة له مدح بها يزيد بن حاتم المهلبيّ، و هجا يزيد بن أسيد السّلمي، و بعد البيت الذي ذكره مروان:
يزيد سليم سالم المال و الفتى *** أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهمّ الفتى الأزديّ إتلاف ماله *** و هم الفتى القيسيّ جمع الدراهم
فلا يحسب التّمتام أني هجوته *** و لكنني فضلت أهل المكارم
فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم *** فتقرع إن ساميته سنّ نادم
/هو البحر إن كلّفت نفسك خوضه *** تهالكت في موج له متلاطم
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني أسيد بن خالد الأنصاريّ، قال:
قلت لأبي زيد النحويّ: إن الأصمعي قال: لا يقال: شتان ما بينهما، إنما يقال: شتان ما هما، و أنشد قول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها
ص: 436
فقال: كذب الأصمعيّ، يقال: شتان ما هما، و شتان ما بينهما، و أنشدني لربيعة الرقيّ، و احتج به:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليم و الأغرّ ابن حاتم
و في استشهاد مثل أبي زيد على دفع مثل قول الأصمعيّ بشعر ربيعة الرقيّ، كفاية له في تفضيله.
و ذكره عبد اللّه بن المعتز فقال: كان ربيعة أشعر غزلا من أبي نواس، لأن في غزل أبي نواس بردا كثيرا، و غزل هذا سليم سهل عذب.
نسخت من كتاب لعمي: حدّثنا ابن أبي فنن(1) قال:
اشتهى جواري المهديّ أن يسمعن ربيعة الرقيّ، فوجه إليه المهديّ من أخذه من مسجده بالرقّة، و حمل على البريد حتى قدم به على المهديّ، فأدخل عليه، فسمع ربيعة حسا من وراء السّتر، فقال: إني أسمع حسا يا أمير المؤمنين، فقال: اسكت يا ابن اللّخناء، و استنشده ما أراد، فضحك و ضحكن منه. قال: و كان فيه لين، و كذلك كان أبو العتاهية، ثم أجازه جائزة سنية، فقال له:
/يا أمير المؤمنين *** اللّه سمّاك الأمينا(2)
سرقوني من بلادي *** يا أمير المؤمنينا
سرقوني فاقض فيهم *** بجزاء السارقينا
قال: قد قضيت فيهم أن يردوك إلى حيث أخذوك. ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الرقة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
امتدح ربيعة الرقيّ العباس بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس، بقصيدة لم يسبق إليها حسنا، و هي طويلة يقول فيها:
لو قيل للعباس يا ابن محمد *** قل: (لا) و أنت مخلّد ما قالها
ما إن أعدّ من المكارم خصلة *** إلا وجدتك عمها أو خالها
/و إذا الملوك تسايروا في بلدة *** كانوا كواكبها و كنت هلالها(1)
إن المكارم لم تزل معقولة *** حتى حللت براحتيك عقالها
/في البيت الأول و البيت الأخير خفيف رمل بالوسطى، يقال إنه لإبراهيم. و يقال إنه للحسين بن محرز.
قال: فبعث إليه بدينارين، و كان يقدّر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين كاد يجن(2) غيظا، و قال للرسول:
خذ الدينارين، فهما لك، على أن ترد الرقعة من حيث لا يدري العباس، ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة، و أمر من كتب في ظهرها:
مدحتك مدحة السيف المحلّى *** لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعا(3) *** كذبت عليك فيها و افتريت
فأنت المرء ليس له وفاء *** كأني إذ مدحتك قد رثيت
ثم دفعها إلى الرسول، و قال له ضعها في الموضع الذي أخذتها منه. فردها الرسول في موضعها. فلما كان من الغد أخذها العباس، فنظر فيها، فلما قرأ الأبيات غضب، و قام من وقته، فركب إلى الرشيد، و كان أثيرا عنده، يبجّله و يقدمه، و كان قد همّ أن يخطب إليه ابنته، فرأى الكراهة في وجهه، فقال: ما شأنك؟ قال: هجاني ربيعة الرّقيّ.
فأحضر، فقال له الرشيد: يا ماصّ كذا و كذا من أمه، أ تهجو عمي، و آثر الخلق عندي، لقد هممت أن أضرب عنقك. فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين، لقد مدحته بقصيدة ما قال مثلها أحد من الشعراء، في أحد من الخلفاء، و لقد بالغت في الثناء، و أكثرت في الوصف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمره بإحضارها. فلما سمع الرشيد ذلك منه سكن غضبه، و أحب أن ينظر في القصيدة، فأمر/العباس بإحضار الرقعة، فتلكأ عليه العباس ساعة، فقال له الرشيد: سألتك بحق أمير المؤمنين إلا أمرت بإحضارها، فعلم العباس أنه قد أخطأ و غلط، فأمر بإحضارها فأحضرت، فأخذها الرشيد و إذا فيها القصيدة بعينها، فاستحسنها و استجادها، و أعجب بها، و قال: و اللّه ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها، لقد صدق ربيعة و برّ. ثم قال للعباس: كم أثبته عليها؟ فسكت العباس:
و تغير لونه، و جرض بريقه، فقال ربيعة: أثابني عليها يا أمير المؤمنين بدينارين، فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من
ص: 438
الموجدة على العباس، فقال: بحياتي يا رقيّ، كم أثابك؟ قال: و حياتك يا أمير المؤمنين ما أثابني إلا بدينارين.
فغضب الرشيد غضبا شديدا، و نظر في وجه العباس بن محمد، و قال: سوأة لك! أية حال قعدت بك عن إثابته؟ أ قلة المال؟ فو اللّه لقد موّلتك جهدي؛ أم انقطاع المادة عنك؟ فو اللّه ما انقطعت عنك، أم أصلك؟ فهو الأصل لا يدانيه شيء، أم نفسك؟ فلا ذنب لي، بل نفسك فعلت ذلك بك، حتى فضحت أباك و أجدادك، و فضحتني و نفسك.
فنكس العباس رأسه و لم ينطق. فقال الرشيد: يا غلام، أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم و خلعة، و احمله على بغلة، فلما حمل المال بين يديه، و ألبس الخلعة، قال له الرشيد: بحياتي يا رقيّ لا تذكره في شيء من شعرك تعريضا و لا تصريحا، و فتر الرشيد عما كان هم به أن يتزوج إليه، و ظهر منه له بعد ذلك جفاء كثير و اطّراح.
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال: حدثني أحمد بن أبي فنن الشاعر، قال: حدثني من لا أحصي من الجلساء:
أن ربيعة الرقيّ كان لا يزال يعبث بالعباس بن محمد بحضرة الرشيد، العبث الذي/يبلغ منه، منذ جرى بينهما في مديحه إياه ما جرى، من حيث لا يتعلق عليه/فيه بشيء، فجاء العباس يوما إلى الرشيد ببرنيّة فيها غالية، فوضعها بين يديه، ثم قال: هذه يا أمير المؤمنين غالية، صنعتها لك بيدي، اختير عنبرها من شحر عمان، و مسكها من مفاوز التّبّت، و بانها من قعر تهامة؛ فالفضائل كلها مجموعة فيها، و النعت يقصر عنها.
فاعترضه ربيعة، فقال: ما رأيت أعجب منك، و من صفتك لهذه الغالية، عند من إليه كل موصوف يجلب، و في سوقه ينفق، و به إليه يتقرّب، و ما قدر غاليتك هذه، أعزك اللّه، حتى تبلغ في وصفها ما بلغت، أ أجريت بها إليه نهرا، أم حملت إليه منها وقرا! إن تعظيمك هذا عند من تجبى إليه خزائن الأرض و أموالها من كل بلدة، و تذل لهيبته جبابرة الملوك المطيعة و المخالفة، و تتحفه بطرف بلدانها، و بدائع ممالكها، حتّى كأنك قد فقت به على كل ما عنده، أو أبدعت له ما لا يعرفه، أو خصصته بما لم يحوه ملكه، لا تخلو فيه من ضعف أو قصر همة. أنشدك اللّه يا أمير المؤمنين، إلا جعلت حظي من كل جائزة و فائدة توصلها إليّ مدة سنتي هذه الغالية، حتى أتلقاها بحقها.
فقال: ادفعوها إليه، فدفعت إليه. فأدخل يده فيها، و أخرج ملئها، و حل سراويله، و أدخل يده فطلى بها استه، و أخذ حفنة أخرى، و طلى بها ذكره و أنثييه، و أخرج حفنتين، فجعلهما تحت إبطيه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، مر غلامي أن يدخل إليّ، فقال: أدخلوه إليه، و هو يضحك، فأدخلوه إليه فدفع إليه البرنية غير مختومة، و قال: اذهب إلى جاريتي فلانة بهذه البرنية، و قل لها: طيبي بها حرك و استك و إبطيك، حتى أجيء الساعة و أنيكك، فأخذها الغلام و مضى و ضحك الرشيد حتى غشي عليه، و كاد العباس يموت غيظا، ثم قام فانصرف، و أمر الرشيد لربيعة بثلاثين ألف درهم(1).
و ذكر علي بن الحسين بن عبد الأعلى، أنه رأى قصيدة لربيعة الرقيّ مكتوبة في دور بساط من بسط السلطان قديم، و كان مبسوطا في دار العامة بسرّمن رأى، فنسخها منه، و هي قوله:
ص: 439
و تزعم أني قد تبدّلت خلّة *** سواها و هذا الباطل المتقوّل
لحا اللّه من باع الصديق(1) بغيره *** فقالت نعم حاشاك إن كنت تفعل
ستصرم إنسانا إذا ما صرمتني(2) *** يحبك فانظر بعده من تبدّل
في هذه الثلاثة الأبيات لحن من الثقيل الأول، ينسب إلى إبراهيم الموصلي، و إلى إبراهيم بن المهديّ، و فيه لعريب رمل من رواية ابن المعتز.
و كان سبب إغراق ربيعة في هجاء يزيد بن أسيد، أنه(3) زاره يستميحه، لقضاء دين كان عليه(3)، فلم يجد عنده ما أحب، و بلغ ذلك يزيد بن حاتم المهلبيّ، فطفّل(3) على قضاء دينه و بره، فاستفرغ ربيعة جهده في مدحه، و له فيه عدة قصائد مختارة، يطول ذكرها، و قد كان أبو الشمقمق عارضه في قوله:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليم و الأغرّ ابن حاتم
في قصيدة مدح بها يزيد بن مزيد، و سلخ بيت الرقيّ، بل نقله و قال:
/لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** إذا عد في الناس المكارم و المجد
يزيد بني شيبان أكرم منهما *** و إن غضبت قيس بن عيلان و الأزد
/فتى لم تلده من رعين قبيلة *** و لا لخم تنميه و لم تنمه نهد
و لكن نمته الغرّ من آل وائل *** و برّة تنميه و من بعدها هند
و لم يسر في هذا المعنى شيء كما سار بيت ربيعة.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدثنا محمد بن داود بن الجراح قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال:
عرض نخاس على أحمد بن يزيد بن أسيد الذي هجاه ربيعة جواري، فاختار جاريتين منهن، ثم قال للنخاس:
أيتهما أحب إليك؟ قال: بينهما أعز اللّه الأمير كما قال الشاعر:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليم و الأغرّ ابن حاتم
فأمر بجر رجله و جواريه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ قال: حدثنا عبد اللّه بن شبيب قال:
لما حج الرشيد لقيه قبل دخوله مكة رجلان من قريش، فانتسب له أحدهما، ثم قال: يا أمير المؤمنين،
ص: 440
نهكتنا النوائب، و أجحفت بأموالنا المصائب، و لنا بك رحم أنت أولى من وصلها، و أمل أنت أحق من صدقه، فما بعدك مطلب، و لا عنك مذهب، و لا فوقك مسئول، و لا مثلك مأمول. و تكلم الآخر، فلم يأت بشيء فوصلهما، و فضل الأول تفضيلا كثيرا، ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال: يا فضل:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليم و الأغرّ ابن حاتم
قال أحمد بن أبي طاهر: حدثني أبو دعامة عليّ بن زيد بن عطاء الملط قال:
لما هجا ربيعة يزيد بن أسيد السّلميّ، و كان جليلا عند المنصور و المهديّ، و فضّل عليه يزيد بن حاتم، قلت لربيعة: يا أبا شبابة، ما حملك على أن هجوت رجلا من قومك، و فضلت عليه رجلا من الأزد؟ فقال: أخبرك.
أملقت فلم يبق لي شيء إلا داري، فرهنتها على خمس مائة درهم، و رحلت إليه إلى إرمينية، فأعلمته ذلك و مدحته، و أقمت عنده حولا، فوهب لي خمس مائة درهم، فتحملت و صرت بها إلى منزلي، فلم يبق معي كبير شيء، فنزلت في دار بكراء، فقلت: لو أتيت يزيد بن حاتم، ثم قلت: هذا ابن عمي فعل بي هذا الفعل، فكيف غيره؟ ثم حملت نفسي على أن أتيته، فأعلم بمكاني، فتركني شهرا حتى ضجرت، فأكريت نفسي من الحمالين، و كتبت بيتا في رقعة و طرحتها في دهليزه، و البيت:
أراني و لا كفران للّه راجعا *** بخفّي حنين من يزيد بن حاتم(1)
فوقعت الرقعة في يد حاجبه، فأوصلها إليه من غير علمي و لا أمري، فبعث خلفي، فلما دخلت عليه قال: هيه، أنشدني ما قلت. فتمنعت، فقال: و اللّه لتنشدنّي، فأنشدته فقال: و اللّه لا ترجع كذلك، ثم قال: انزعوا خفيه، فنزعا فحشاهما دنانير، و أمر لي بغلمان و جوار و كسا، أ فلا ترى لي أن أمدح هذا و أهجو ذاك! قلت: بلى و اللّه. ثم قال:
و سار شعري حتى بلغ المهديّ فكان سبب دخولي إليه.
أخبرني الحسن بن عليّ الأدميّ قال: حدّثني محمد بن الحسن بن عباد بن الشهيد/القرقيسيانيّ قال: حدثني عمي عبد اللّه بن عباد:
أن ربيعة بن ثابت الرقيّ الأسديّ كان يلقب الغاوي، و كان يهوى جارية يقال لها عثمة، أمة لرجل من أهل قرقيسياء، يقال له ابن مرّار، و كان بنو هاشم/في سلطانهم قد ولّوه مصر، فأصاب بها مالا عظيما، و بلغه خبر ربيعة مع جاريته، فأحضره، و عرض عليه أن يهبها له، فقال: لا تهبها لي، فإن كل مبذول مملول، و أكره أن يذهب حبّها من قلبي؛ و لكن دعني أواصلها هكذا، فهو أحب إليّ.
قال: و قال فيها:
اعتاد قلبك من حبيبك عيده *** شوق عراك فأنت عنه تذوده
و الشوق قد غلب الفؤاد فقاده *** و الشوق يغلب ذا الهوى فيقوده
ص: 441
في دار مرّار غزال كنيسة *** عطر عليه خزوزه و بروده
ريم أغر كأنه من حسنه *** صنم يحجّ ببيعة معبوده
عيناه عينا جؤذر بصريمة *** و له من الظبي المربّب جيده
ما ضرّ عثمة أن تلم بعاشق *** دنف الفؤاد متيم فتعوده
و تلده(1) من ريقها فلربما *** نفع السقيم من السّقام لدوده
و هي طويلة مدح فيها بعض ولد يزيد بن المهلب.
أخبرني يحيى بن عليّ قال: حدثني أبي عن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، عن أبي بشر الفزاريّ قال:
لقى ربيعة الرقيّ معن بن زائدة في قدمة قدمها إلى العراق، فامتدحه بقصيدة، و أنشده إياها راويته، فلم يهش له معن، و لا رضي ربيعة لقاءه إياه، و أثابه ثوابا نزرا، فرده ربيعة، و هجاه هجاء كثيرا، فمما هجاه به قوله:
معن يا معن يا ابن زائدة الكل *** ب التي في الذراع لا في البنان
لا تفاخر إذا فخرت بآبا *** ئك و افخر بعمك الحوفزان
/فهشام من وائل في مكان *** أنت ترضى بدون ذاك المكان
و متى كنت يا ابن ظبية ترجو *** أن تثنّي(2) على ابنة الغضبان
و هي حوراء كالمهاة هجان *** لهجان و أنت غير هجان
و بنات السّليل عند بني ظب *** ية، أفّ لكم بني شيبان
قيل: معن لنا فلما اختبرنا *** كان مرعى و ليس كالسّعدان
قال أبو بشر: ظبية التي عيره بها أمة كانت لبني نهار بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، لقيها عبد اللّه بن زائدة بن مطر بن شريك، و كانت راعية لأهلها، و هي في غنمها، فسرقها و وقع عليها، فولدت له زائدة بن عبد اللّه أبا معن بن زائدة، و دجاجة بنت عبد اللّه. قال: و بنت السليل التي عناها: امرأة من ولد الحوفزان.
أخبرني يحيى عن أبيه عن إسحاق عن أبي بشر الفزاريّ، قال:
كان ربيعة الرقيّ يهوى جارية لرجل من أهل الكوفة، يقال لها عثمة، و كان أهلها ينزلون في جوار جعفيّ، فقال فيها في أبيات له:
جعفيّ جيرانها فقد عطرت *** جعفيّ من نشرها و رياها
فقال له رجل من جعفيّ: و أنا جار لها بيت بيت، و اللّه ما شممت من دراهم/ريحا طيبة قطّ. فتشمم ربيعة رائحته
ص: 442
و قال: و ما ذنبي إذا كنت أخشم(1)، و اللّه إني لأجد ريحها و ريح طيبها منك، و أنت لا تجده من نفسك.
أخبرني يحيى عن أبيه عن إسحاق عن أبي بشر قال:
كنت حاضرا ربيعة الرقيّ يوما و جاءته امرأة من منزل هذه الجارية، فقالت: تقول لك فلانة: إن بنت مولاي محمومة، فإن كنت تعرف عوذة تكتبها لها فافعل. فقال: أكتب لها يا أبا بشر هذه العوذة:
/تفو تفو باسم إلهي الذي *** لا يعرض السقم لمن قد شفى
أعيذ مولاتي و مولاتها *** و ابنتها بعوذة المصطفى
من شرّ ما يعرض من علة *** في الصبح و الليل إذا أسدفا
قال: فقلت له: يا أبا ثابت، لست أحسن أن أكتب: تفو تفو، فكيف أكتبها؟ قال: انضح المداد من رأس القلم في موضعين، حتى يكون كالنفث، و ادفع العوذة إليها، فإنها نافعة. ففعلت و دفعتها إليها، فلم تلبث أن جاءتنا الجارية و هي لا تتمالك ضحكا. فقالت له: يا مجنون، ما فعلت بنا؟ كدنا و اللّه نفتضح بما صنعت. قال: فما أصنع بك؟ أ شاعر أنا أم صاحب تعاويذ؟
ألا من بيّن الأخوي *** ن أمّهما هي الثكلى
تسائل من رأى ابنيها *** و تستشفي فما تشفى(2)
فلما استيأست رجعت *** بعبرة واله حرّى
تتابع بين ولولة *** و بين مدامع تترى
عروضه من الهزج(3)، الشعر لجويرية بنت خالد بن قارظ الكنانية، و تكنى أم حكيم، زوجة عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، في ابنيها اللذين قتلهما بسر بن أرطاة، أحد بني عامر بن لؤيّ باليمن.
و الغناء لابن سريج، و لحنه من القدر الأوسط، من الثقيل الأول، بالخنصر في مجرى البنصر. و فيه لحنين الحيريّ، ثاني ثقيل عن الهشاميّ. و فيه لأبي سعيد مولى فائد، خفيف ثقيل الأول، مطلق في مجرى الوسطى.
ص: 443
أخبرني بالسبب في ذلك محمد بن أحمد بن الطّلاّس(1) قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال: حدثنا عليّ بن محمد المدائنيّ، عن أبي مخنف، عن جويرية بن أسماء، و الصّقعب بن زهير، و أبي بكر الهذليّ، عن أبي عمرو الوقاصيّ:
أن معاوية بن أبي سفيان بعث بسر بن أرطاة، أحد بني عامر بن لؤيّ، بعد تحكيم الحكمين، و عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه يومئذ حيّ، و بعث معه جيشا، و وجّه برجل من غامد(2) ضم إليه جيشا آخر. و وجّه الضحاك بن قيس الفهريّ في جيش آخر، و أمرهم أن يسيروا في البلاد، فيقتلوا كل من وجدوه من شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و أصحابه، و أن يغيروا على سائر أعماله، و يقتلوا أصحابه، و لا يكفّوا أيديهم عن النساء و الصبيان. فمضى بسر لذلك على وجهه، حتى انتهى إلى المدينة، فقتل بها ناسا من أصحاب عليّ عليه السّلام، و أهل هواه، و هدم بها دورا من دور القوم. /و مضى إلى مكة، فقتل نفرا من آل أبي لهب، ثم أتى السّراة، فقتل من بها من أصحابه. و أتى نجران، فقتل عبد اللّه بن عبد المدان الحارثيّ و ابنه، و كانا من أصهار بني العباس، ثم أتى اليمن و عليها عبيد اللّه بن العباس، عاملا لعليّ بن أبي طالب، و كان غائبا، و قيل بل هرب لما بلغه خبر بسر، فلم يصادفه بسر، و وجد ابنين له صبيين، فأخذهما بسر لعنه اللّه، و ذبحهما بيده، بمدية كانت معه، ثم انكفأ راجعا إلى معاوية، و فعل مثل ذلك سائر من بعث به. فقصد الغامديّ إلى الأنبار، فقتل ابن حسان البكري، و قتل رجالا و نساء من الشيعة.
فحدثني العباس بن عليّ بن العباس النسائي قال: حدثنا محمد بن حسان الأزرق، قال: حدثنا شبابة بن سوّار قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن عمرو بن قيس، عن أبي صادق، قال:
أغارت خيل لمعاوية على الأنبار، فقتلوا عاملا لعليّ عليه السّلام، يقال له حسان بن حسان(3)، و قتلوا رجالا كثيرا و نساء، فبلغ ذلك عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، فخرج حتى أتى المنبر، فرقيه، فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، ثم قال:
ص: 444
إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه اللّه ثوب الذلة و شمله البلاء، و ديّث(1) بالصّغار، و سيم الخسف. و قد قلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فإنه لم يغز قوم قطّ في عقر(2) دارهم إلا ذلّوا، فتواكلتم و تخاذلتم، و تركتم قولي وراءكم ظهريا، حتى شنّت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد جاء الأنبار، فقتل عاملي عليها حسان بن حسان، و قتل رجالا كثيرا و نساء. و اللّه لقد بلغني أنه كان يأتي المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة، فينزع حجلها و رعاثها(3)، ثم ينصرفون موفورين، لم يكلم أحد منهم كلما، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا، لم يكن عليه ملوما، بل كان به جديرا. يا عجبا، عجبا يميت القلب، و يشعل الأحزان، من اجتماع هؤلاء القوم على ضلالتهم و باطلهم، و فشلكم عن حقكم، حتى صرتم غرضا، ترمون و لا ترمون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون. إذا قلت لكم اغزوهم في الحر، قلتم هذه حمارّة القيظ فأمهلنا، و إذا قلت لكم اغزوهم في البرد، قلتم هذا أوان قرّ و صرّ فأمهلنا. فإذا كنتم من(4) الحر و البرد تفرّون، فأنتم و اللّه من السيف/أشد فرارا. يا أشباه الرجال و لا رجال، و يا طغام(5) الأحلام، و عقول ربات الحجال(6)، وددت و اللّه اني لم أعرفكم، بل وددت أني لم أركم، معرفة و اللّه جرّعت بلاء و ندما، و ملأتم جوفي غيظا بالعصيان و الخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب. ويحهم! هل فيهم أشد مراسا لها مني؟ و اللّه لقد دخلت فيها و أنا ابن عشرين، و أنا الآن قد نيّفت على الستين، و لكن لا رأي لمن لا يطاع.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أنا كما قال اللّه تعالى: لاٰ أَمْلِكُ إِلاّٰ نَفْسِي وَ أَخِي (7) فمرنا بأمرك، فو اللّه لنطيعنك و لو حال بيننا و بينك جمر الغضى(8)، و شوك القتاد. قال: و أين تبلغان مما أريد؛ هذا أو نحوه، ثم نزل.
حدثنا محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدثني عمي عبيد اللّه بن محمد قال: حدثني جعفر بن بشير قال:
حدثني صالح بن يزيد الخراساني، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن ابن أبي الكنود عبد الرّحمن بن عبيد قال:
كتب عقيل بن أبي طالب إلى/أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:
«أما بعد، فإن اللّه عز و جل جارك من كل سوء، و عاصمك من المكروه. إني خرجت معتمرا، فلقيت عبد اللّه بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطّلقاء، فقلت لهم، و عرفت المنكر في وجوههم: يا أبناء الطّلقاء، العداوة و اللّه لنا منكم غير مستنكرة قديما، تريدون بها إطفاء نور اللّه، و تغيير أمره، فأسمعني/القوم
ص: 445
و أسمعتهم. ثم قدمت مكة و أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة، فاحتمل من أموال أهلها ما شاء، ثم انكفأ راجعا، فأفّ لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك. و ما الضحاك؟ و هل هو إلا فقع بقرقرة(1)، و قد ظننت و بلغني أن أنصارك قد خذلوك، فاكتب إليّ يا ابن أمّ برأيك، فإن كنت الموت تريد، تحملت إليك ببني أبيك و ولد أخيك، فعشنا ما عشت، و متنا معك، فو اللّه ما أحب أن أبقى بعدك فواقا(2)، و أقسم باللّه الأعز الأجل، أن عيشا أعيشه في هذه الدنيا بعدك، لعيش غير هنيء و لا مريء و لا نجيع(3). و السّلام».
فأجابه عليّ بن أبي طالب، عليه السّلام: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم:
«أما بعد، كلأنا اللّه و إياك كلاءة من يخشاه بالغيب، إنه حميد مجيد، فقد قدم عليّ عبد الرّحمن بن عبيد الأزديّ بكتابك، تذكر فيه أنك لقيت ابن أبي سرح مقبلا من قديد، في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، و إنّ بنيّ أبي سرح طال ما كاد اللّه و رسوله و كتابه، و صدّ عن سبيله، و بغاها عوجا، فدع بني أبي سرح عنك، ودع قريشا و تركاضهم في الضلالة، و تجوالهم في الشقاق، فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك، إجماعها على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقه، و جحدوا فضله، و بادوه(4) بالعداوة، و نصبوا له الحرب، و جهدوا عليه كل الجهد، و ساقوا إليه جيش الأمرّين. اللهم فاجز عني قريشا الجوازي، فقد قطعت رحمي، و تظاهرت عليّ، و الحمد للّه على كل حال.
/و أما ما ذكرت من غارة الضحاك بن قيس على الحيرة، فهو أقل و أذل من أن يقرب الحيرة، و لكنه جاء في خيل جريدة، فلزم الظهر، و أخذ على السماوة، فمر بواقصة و شراف و ما والى ذلك الصقع، فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين، فلما بلغه ذلك جاز هاربا، فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق و قد أمعن في السير، و قد طفلت(5)الشمس للإياب، فاقتتلوا شيئا كلا و لا(6)، فولّى و لم يصبر، و قتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، و نجا جريضا(7)بعد ما أخذ منه بالمخنّق، فلأيا(8) بلأى ما نجا.
و أما ما سألت عنه أن أكتب إليك فيه برأيي، فإن رأيي قتال المحلّين(9) حتى ألقى اللّه، لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّة، و لا تفرّقهم عني وحشة، لأني محق، و اللّه مع الحق و أهله، و ما أكره الموت على الحق، و ما الحير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا.
ص: 446
و أما ما عرضته عليّ من مسيرك إليّ ببنيك و بني أبيك(1)، فلا حاجة لي في ذلك، فأقم راشدا مهديا، فو اللّه ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت، و لا تحسبنّ ابن أبيك لو أسلمه الزمان و الناس متضرّعا متخشّعا، لكن أقول كما قال أخو بني سليم:
فإن(2) تسأليني كيف أنت فإنني *** صبور على ريب الزمان صليب
يعزّ عليّ أن ترى بي كآبة *** فيشمت عاد(3) أو يساء حبيب
و السّلام».
ثم إن بسر بن أرطاة كر راجعا، و انتهى خبره إلى عليّ عليه السّلام، أنه قتل عبد الرّحمن و قثم ابني عبيد اللّه بن العباس، فسرّح حارثة بن قدامة السعديّ في طلبه، و أمره أن يغذّ السير، فخرج مسرعا، فلما وصل إلى المدينة، و انتهى إليه قتل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و بيعة الحسن رضي اللّه تعالى عنه، ركب في السلاح، و دعا أهل المدينة إلى البيعة للحسن، فامتنعوا، فقال: و اللّه لتبايعنّ و لو بأستاهكم. فلما رأى أهل المدينة الجدّ منه بايعوا للحسن، و كر راجعا إلى الكوفة، فأصاب أمّ حكيم بنت قارظ و لهى على ابنيها، فكانت لا تعقل و لا تصغي إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا، و لا تزال تطوف في المواسم، تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:
يا من أحس بنيّي اللذين هما *** كالدّرّتين تشظّى عنهما الصدف
يا من أحس بنيّي اللذين هما *** سمعي و قلبي، فقلبي اليوم مختطف
يا من أحس بنيّي اللذين هما *** مخّ العظام فمخى اليوم مزدهف
نبئت بسرا و ما صدّقت ما زعموا *** من قولهم و من الإفك الذي اقترفوا
أنحي على و دجى ابنيّ مرهفة *** مشحوذة و كذاك الإثم يقترف
حتى لقيت رجالا من أرومته *** شم الأنوف لهم في قومهم شرف
فالآن ألعن بسرا حقّ لعنته *** هذا لعمر أبي بسر هو السّرف
من دلّ والهة حرّى مدلّهة *** على صبيين ضلا إذ هوى السلف
الغناء لأبي سعيد مولى فائد، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، و فيه خفيف ثقيل، يقال إنه له أيضا. و فيه لعريب رمل نشيد.
ص: 447
قالوا: و لما بلغ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قتل بسر الصبيين، جزع لذلك جزعا شديدا، و دعا على بسر لعنه اللّه، فقال: اللهم اسلبه دينه، و لا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه عقله! فأصابه ذلك، و فقد عقله، فكان يهذي بالسيف و يطلبه، فيؤتى بسيف من خشب، و يجعل بين يديه زقّ منفوخ، فلا يزال يضربه حتى يسأم(1)، ثم مات لعنه اللّه.
و لما كانت الجماعة و استقر الأمر على معاوية، دخل عليه عبيد اللّه بن العباس و عنده بسر بن أرطاة، فقال له عبيد اللّه: أ أنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟ قال بسر: نعم أنا قاتلهما. فقال عبيد اللّه: أما و اللّه لوددت أن الأرض كانت أنبتتني عندك. فقال بسر: فقد أنبتتك الآن عندي. فقال عبيد اللّه: أ لا سيف! فقال له بسر: هاك سيفي. فلما أهوى عبيد اللّه إلى السيف ليتناوله، أخذه معاوية، ثم قال لبسر: أخزاك اللّه شيخا قد كبرت و ذهب عقلك، تعمد إلى رجل من بني هاشم قد وترته و قتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك، إنك لغافل عن قلوب بني هاشم، و اللّه لو تمكن منه لبدأ بي قبلك. فقال عبيد اللّه: أجل، و اللّه، ثم إذن لثنّيت(2) به.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: أخبرني محمد بن مسروق قال: قال الأصمعيّ:
سمع رجل من/أهل اليمن و قد قدم مكة امرأة عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب تندب ابنيها اللذين قتلهما بسر بن أرطاة بقولها:
يا من أحس بنيّي اللذين هما *** كالدرتين تشظّى عنهما الصّدف
/فرقّ لها، فاتصل ببسر حتى وثق به، ثم احتال لقتل ابنيه، فخرج بهما إلى وادي أوطاس، فقتلهما و هرب، و قال:
يا بسر بسر بني أرطاة ما طلعت *** شمس النهار و لا غابت على ناس
خير من الهاشميّين الذين هم *** عين الهدى و سمام الأشوس(3) القاسي
ما ذا أردت إلى طفلي مدلّهة *** تبكي و تندب من أثكلت في الناس
إما قتلتهما ظلما فقد شرقت *** في صاحبيك قناتي يوم أوطاس
فاشرب بكأسهما ثكلا كما شربت *** أم الصبيّين أو ذاق ابن عباس(4)
ص: 448
ألا فاسقياني من شرابكما الوردي *** و إن كنت قد أنفدت فاستر هنا بردي(1)
سواري و دملوجي و ما ملكت يدي *** مباح لكم نهب فلا تقطعوا وردي
عروضه من الطويل. و الشعر لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس. و الغناء لإبراهيم الموصلي، رمل بالوسطى، من رواية عمرو بن بانة.
ص: 449
18 - ذكر أم حكيم و أخبارها(1) قد مضى ذكر نسبها.
و أمّها زينب بنت عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، و كانت هي و أمها من أجمل نساء قريش، فكانت قريش تقول لأم حكيم: الواصلة بنت الواصلة، و قيل: الموصلة بنت الموصلة، لأنهما وصلتا الجمال بالكمال.
و أم زينب عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام: سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي خارجة بن عوف بن أبي حارثة بن لأم الطائيّ. و كانت سعدى بنت عوف عند عبد اللّه بن الوليد بن المغيرة، فولدت له سلمة و ريطة. ثم توفّي عنها، فخلف عليها طلحة بن عبيد اللّه، فولدت له يحيى و عيسى، ثم قتل عنها، فخطبها عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، فتكلم بنوها، و كرهوا أن تتزوج و قد صاروا رجالا، فقالت: إنه قد بقي في رحم أمكم فضلة شريفة، لا بد من خروجها، فتزوجها. فولدت له المغيرة بن عبد الرّحمن الفقيه، و زينب، و هي أمّ أم حكيم.
و كان المغيرة أحد أجواد(2) قريش و المطعمين منهم، و قد قدم الكوفة على عبد الملك بن بشر بن مروان، و كان صديقه، و بها جماعة يطعمون الناس من قريش و غيرهم، فلما قدم تغيبوا، فلم يظهر أحد منهم حتى خرج، و بث المغيرة الجفان في السكك و القبائل يطعم الناس، فقال فيه شاعر من أهل الكوفة:
أتاك البحر طمّ على قريش *** مغيريّ فقد راغ ابن بشر
قال مصعب الزبيريّ: هو - يعني المغيرة - مطعم الجيش بمنى، و هو إلى الآن يطعم عنه. قال: و كانت أخته زينب أحسن الناس وجها و قدّا، و كأن أعلاها/قضيب، و أسفلها كثيب، /فكانت تسمى الموصلة. و سميت بنتها أمّ حكيم بذلك، لأنها أشبهتها.
أخبرني(3) عمي قال: حدثني ابن أبي سعد قال: حدثني عليّ بن محمد بن يحيى الكنانيّ عن أبيه قال:
كانت زينب بنت عبد الرّحمن من لين جسدها يقال لها الموصلة(3):
ص: 450
قال مصعب: فتزوج زينب أبان بن مروان بن الحكم، فولدت له عبد العزيز بن أبان، ثم مات عنها، فخطبها يحيى بن الحكم و عبد الملك بن مروان، فمالوا إلى عبد الملك، فأرسل يحيى إلى المغيرة بن عبد الرّحمن: كم الذي تأمل من عبد الملك؟ و اللّه لا يزيدها على ألف دينار، و لا يزيدك على خمس مائة دينار، و لها عندي خمسون ألف دينار، و لك عندي عشرة آلاف دينار(1) إن زوجتنيها، فزوجه إياها على ذلك. فغضب عليه عبد الملك. و قال:
دخل عليّ في خطبتي. و اللّه لا يخطب على منبر ما دمت(2) حيا، و لا رأى مني ما يحب، فأسقطه. فقال يحيى: لا أبالي، كعكتان و زينب.
قال ابن أبي سعد: و أخبرت عن محمد بن إسحاق المسيّبي قال: حدثني عبد الملك بن إبراهيم الطلحيّ:
أنها لما خطبت قالت: لا أتزوج و اللّه أبدا إلا من يغني أخي المغيرة. فأرسل إليها يحيى بن الحكم: أ يغنيه خمسون ألف دينار؟ قالت: نعم. قال: فهي له، و لك مثلها. فقالت: ما بعد هذا شيء. أرسل إلى أهلك شيئا من طيب، و شيئا من كسوة.
/قال: و يقال إن عبد الملك لما تزوجها يحيى قال: لقد تزوجت أفوه غليظ الشفتين. فقالت زينب: هو خير من أبي الذّبان فما، فما له يعيبه بفمه؟ و قال يحيى: قولوا له أقبح من فمي ما كرهت من فمك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو غسّان، عن عبد العزيز بن أبي ثابت، عن عمه محمد بن عبد العزيز:
أن عبد الملك خطب زينب إلى المغيرة أخيها، و كتب إليه أن يلحق به، و كان بفلسطين أو بالأردن، فعرض له يحيى بن الحكم، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد أمير المؤمنين. قال: و ما تصنع به؟ فو اللّه لا يزيدك على ألف دينار يكرمك بها، و أربع مائة دينار لزينب، و لك عندي ثلاثون ألف دينار، سوى صداق زينب. فقال المغيرة: أو تنقل إليّ المال قبل عقد النكاح؟ قال: نعم، فنقل إليه المال. فتجهز المغيرة، و سيّر ثقله، ثم دخل على يحيى فزوجه، و خرج إلى المدينة، فجعل عبد الملك ينتظر المغيرة، فلما أبطأ عليه قيل له: يا أمير المؤمنين، إنه زوج يحيى بن الحكم زينب بنت عبد الرّحمن، بثلاثين ألف دينار، و أعطاها إياها، و رجع إلى منزله. فغضب على يحيى، و خلعه عن ماله، و عزله عن عمله، فجعل يحيى يقول:
ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر *** إذا بقيت لي كعكتان و زينب
قال: و كانت زينب تسمى الموصلة، من حسن جسدها، و كانت أم حكيم تحت عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، تزوجها في حياة جده عبد الملك، و لما عقد النكاح بينهما، عقد في مجلس عبد الملك، و أمر بإدخال الشعراء ليهنئوهم بالعقد، و يقولوا في ذلك أشعارا كثيرة يرويها الناس، فاختير منهم جرير و عديّ بن الرقاع، فدخلا، و بدأ عديّ لموضعه منهم، فقال:
ص: 451
/قمر السماء و شمسها اجتمعا *** بالسّعد ما غابا و ما طلعا
ما وارت الأستار مثلهما *** من ذا رأى هذا و من سمعا؟
دام السرور له بها و لها *** و تهنّيا طول الحياة معا
/و قال جرير:
جمع الأمير إليه أكرم حرة *** في كل ما حال من الأحوال
حكميّة علت الروابي كلّها *** بمفاخر الأعمام و الأخوال
و إذا النساء تفاخرت ببعولة *** فخرتهم بالسّيّد المفضال
عبد العزيز و من يكلف نفسه *** أخلاقه يلبث بأكسف بال
هنأتكم بمودّة و نصيحة *** و صدقت في نفسي لكم و مقالي
فلتهنك النّعم التي خوّلتها *** يا خير مأمول و أفضل وال
فأمر له عبد الملك بعشرة آلاف درهم، و لعديّ بن الرقاع بمثلها، و قضى لأهله و مواليه يومئذ مائة حاجة، و أمر لجميع من حضر من الحرس و الكتاب بعشرة دنانير عشرة دنانير. فلم تزل أم حكيم عند عبد العزيز مدة، ثم تزوج ميمونة بنت عبد الرّحمن بن أبي بكر، فملكته و أحبها، و ذهبت بقلبه كل مذهب، فلم ترض منه إلا بطلاق أمّ حكيم، فطلقها، فتزوجها هشام بن عبد الملك، ثم مات عبد العزيز، فتزوج هشام ميمونة أيضا، و كان شديد المحبة لأم حكيم، فطلق لها ميمونة، اقتصاصا لها منها فيما فعلته بها في اجتماعهما عند عبد العزيز، و قال لها: هل أرضيتك منها؟ فقالت: نعم. فولدت أم حكيم من هشام ابنه يزيد بن هشام، و كان من رجالات بني أمية، و كان أحد من يطعن على الوليد بن يزيد بن عبد الملك، و يغري الناس به.
و كانت أم حكيم منهومة بالشراب، مدمنة عليه، لا تكاد تفارقه. و كأسها الذي كانت تشرب فيه مشهور عند الناس إلى اليوم، و هو في خزائن الخلفاء حتى الآن، و فيه(1) يقول الوليد بن يزيد:
علّلاني بعاتقات الكروم *** و اسقياني بكأس أمّ حكيم
إنها تشرب المدامة صرفا *** في إناء من الزجاج عظيم
جنّبوني أذاة كل لئيم *** إنه ما علمت شرّ نديم
ثم إن كان في النّدامى كريم *** فأذيقوه مس بعض النعيم
ليت حظي من النساء سليمى *** إن سلماي جنّتي و نعيمي
ص: 452
فدعوني من الملامة فيها *** إن من لا مني لغير حليم(1)
عروضه من الخفيف. غناء عمر الوادي(2) من رواية يونس. و في رواية إسحاق: غناه الغزيل أبو كامل: خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر.
فيقال إن هذا الشعر بلغ هشاما، فقال لأم حكيم: أ تفعلين ما ذكره الوليد؟ فقالت: أو تصدقه الفاسق في شيء، فتصدقه في هذا؟ قال: لا. قالت: فهو كبعض كذبه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدثنا عمر بن شبة قال:
كان يزيد بن هشام هجا الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فقال:
فحسب أبي العباس كأس و قينة *** و زقّ إذا دارت به في الذوائب
و من جلساء الناس مثل ابن مالك *** و مثل ابن جزء و الغلام ابن غالب
/فقال الوليد يهجوه، و يعيره بشرب أمه الشراب:
/إن كأس العجوز كأس رواء *** ليس كأس ككأس أمّ حكيم
إنها تشرب الرّساطون صرفا *** في إناء من الزجاج عظيم
لو به يشرب البعير أو الفي *** - ل لظلاّ في سكرة و غموم
ولدته سكرى فلم تحسن الطّل *** - ق فوافى لذاك غير حليم
و كان لهشام منها ابن يقال له مسلمة، و يكنى أبا شاكر، و كان هشام ينوّه باسمه، و أراد أن يوليه العهد بعده، و ولاه الحج، فحج بالناس، و فيه يقول عروة بن أذينة - لما وفد على هشام - و فرّق في الحجاز على أهلها مالا كثيرا، و أحبه الناس و مدحوه:
أتينا نمّت بأرحامنا *** و جئنا بأمر أبي شاكر
و فيه يقول الوليد بن يزيد بن عبد الملك في حياة أبيه، و أشاع ذلك و غنّى فيه، و أراد أن يعيره بذلك:
يا أيها السائل عن ديننا *** نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفا و ممزوجة *** بالسخن أحيانا و بالفاتر
فقال بعض شعراء أهل الحجاز يجيبه:
ص: 453
يا أيها السائل عن ديننا *** نحن على دين أبي شاكر
الواهب البزل بأرسانها *** ليس بزنديق و لا كافر
فذكر أحمد بن الحارث عن المدائنيّ:
أن هشاما لما أراد أن يوليه العهد، كتب بذلك إلى خالد بن عبد اللّه القسريّ، فقال خالد: أنا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر. فبلغ قوله هشاما، فكان سبب إيقاعه به.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن موسى قمطر، عن إسماعيل بن مجمع قال:
كنا نخرج ما في خزائن المأمون(1) من الذهب و الفضة، فنزكّي عنه، فكان فيما يزكّى عنه، قائم كأس أم حكيم، و كان فيه من الذهب ثمانون مثقالا. قال محمد بن موسى: سألت إسماعيل بن مجمع عن صفته، فقال:
كأس كبير من زجاج أخضر، مقبضه من ذهب. هكذا ذكر إسماعيل.
و قد حدثني علي بن صالح بن الهيثم بمثله(2)، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد المادرائيّ قال:
لما أخرج المعتمد ما في الخزائن ليباع، في أيام ظهور الناجم بالبصرة، أخرج إلينا كأس أم حكيم، فكان كأسا مدوّرا على هيئة القحف(3)، يسع ثلاثة أرطال، فقوّم بأربعة دراهم، فعجبنا من حصول مثله في الخزانة، مع خساسة قدره، فسألنا الخازن عنه. فقال: هذا كأس أمّ حكيم، فرددناه إلى الخزانة. و لعل الذهب الذي كان عليه أخذ منه حينئذ، ثم أخرج ليباع.
قال محمد بن موسى: و ذكر لي عبيد اللّه بن محمد عن أبي الأغرّ، قال: كنا مع محمد بن الجنيد الختّليّ أيام الرشيد، فشرب ذات ليلة، فكان صوته:
علّلاني بعاتقات الكروم *** و اسقياني بكأس أم حكيم
فلم يزل يقترحه و يشرب عليه حتى السحر، فوافاه كتاب خليفته في دار الرشيد: إن الخليفة/على الركوب. و كان محمد أحد أصحاب الرشيد، و من يقدّم دابته، فقال: ويحكم! كيف أعمل و الرشيد لا يقبل لي عذرا و أنا سكران.
فقالوا: لا بدّ من/الركوب، فركب على تلك الحال؛ فلما قدّم إلى الرشيد دابته، قال له: يا محمد، ما هذه الحال التي أراك عليها؟ قال: لم أعلم برأي أمير المؤمنين في الركوب، فشربت ليلي أجمع. قال: فما كان صوتك؟ فأخبره.
فقال له: عد إلى منزلك، فلا فضل فيك، فرجع إلينا و خبّرنا بما جرى، و قال: خذوا بنا في شأننا، فجلسنا على سطح، فلما متع النهار إذا خادم من خدم أمير المؤمنين قد أقبل إلينا على برذون، في يده شيء مغطّى بمنديل،
ص: 454
قد كاد ينال الأرض، فصعد إلينا، و قال لمحمد: أمير المؤمنين يقرأ عليك السّلام و يقول لك: قد بعثنا إليك بكأس أم حكيم، لتشرب فيه، و بألف دينار تنفقها في صبوحك. فقام محمد، فأخذ الكأس من يد الخادم، و قبّلها، وصب فيها ثلاثة أرطال، و شربها قائما، و سقانا مثل ذلك، و وهب للخادم مائتي دينار، و غسل الكأس، و ردّها إلى موضعها، و جعل يفرق علينا تلك الدنانير، حتى بقي معه أقلّها.
علقم ما أنت إلى عامر *** الناقض الأوتار و الواتر(1)
إن تسد الحوص فلم تعدهم *** و عامر ساد بني عامر
عهدي بها في الحي قد درّعت *** صفراء مثل المهرة الضامر
قد حجم الثدي على صدرها(2) *** في مشرق ذي بهجة ناضر
/لو أسندت ميتا إلى نحرها *** عاش و لم يحمل(3) إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجبا للميّت الناشر
عروضه من السريع. و الشعر للأعشى: أعشى بني قيس بن ثعلبة، يمدح عامر بن الطّفيل، و يهجو علقمة بن علاثة.
و الغناء لمعبد في الثالث و ما بعده، خفيف ثقيل الأول بالبنصر. و في الأبيات لحنين ثقيل أول مطلق، في مجرى البنصر، عن إسحاق. و فيها أيضا لحن آخر ذكره في المجرد و لم يجنّسه، و لم ينسبه إلى أحد.
ص: 455
أخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد إجازة، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة.
و نسخت من روايات ابن الكلبي عن أبيه، و من(1) رواية دماذ و الأثرم عن أبي عبيدة و الأصمعيّ(1)، و من رواية ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل، و من رواية أبي عمرو الشيبانيّ عن أصحابه؛ فجمعت رواياتهم، و لكل امرئ منهم زيادة على صاحبه، و نقصان عنه، و اللفظ مشترك في الروايات، إلا ما حكيته مفردا.
قال ابن الكلبيّ: حدثني أبي و محرز بن جعفر، و جعفر بن كلاب الجعفريّ، عن بشر بن عبد اللّه بن حبّان بن سلمى بن مالك(1) بن جعفر، عن أبيه، عن أشياخه و ذكر بعضه أبو مسكين، قالوا:
أول(1) ما هاج النّفار بين عامر بن الطفيل بن مالك بن/جعفر، و بين علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص -
و أم عامر: كبشة بنت عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر، و أمها أم الظباء بنت معاوية، فارس الهرّار، ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة، و أمها خالدة بنت جعفر بن كلاب، و أمها فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف.
و أم أبيه الطّفيل: أم البنين بنت ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة.
قال أبو الحسن الأثرم: و كانت أم علقمة ليلى بنت أبي سفيان بن هلال بن النّخع سبيّة، و أم أبيه ماوية بنت عبد اللّه بن الشّيطان بن بكر بن عوف بن النخع مهيرة - /أن علقمة كان قاعدا ذات يوم يبول، فبصر به عامر، فقال: لم أر كاليوم عورة رجل أقبح. فقال علقمة: أما و اللّه ما تثب على جاراتها، و لا تنازل كنّاتها(2)؛ يعرّض بعامر. فقال عامر: و ما أنت و القروم! و اللّه لفرس أبي «حنوة»(3) أذكر من أبيك؛ و لفحل أبي «غيهب» أعظم ذكرا منك في نجد. قال: و كان فرسه فرسا جوادا، نجا عليه يوم بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، و كان فحله فحلا لبني حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان.
ص: 456
قال الأثرم: و أخبرني رجل من جهينة بدمشق، قال: هو الأشعر(1) بن صرمة.
قال: الأثرم: سمى صرمة غيهب(2) لسواده.
قال ابن الكلبيّ: فاستعاره منهم يستطرقه(3)، فغلبهم عليه، فقال علقمة: أما فرسكم فعارة(4)، و أما فحلكم فغدرة. و لكن إن شئت نافرتك. فقال: قد شئت.
فقال عامر: و اللّه لأنا أكرم منك حسبا، و أثبت منك نسبا، و أطول منك قصبا.
فقال علقمة: لأنا خير منك ليلا و نهارا.
فقال عامر: لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهن منك.
فقال علقمة: على ما ذا تنافرني يا عامر؟ فقال عامر: أنافرك على أني أنحر منك للّقاح، و خير منك في الصباح(5)، و أطعم منك في السنة الشّياح(6).
/فقال علقمة: أنت رجل تقاتل و الناس يزعمون أني جبان، و لأن تلقى العدوّ و أنا أمامك، أعزّ لك من أن تلقاهم و أنا خلفك. و أنت جواد و الناس يزعمون أني بخيل، و لست كذلك، و لكن أنافرك أني خير منك أثرا، و أحدّ منك بصرا، و أعز منك نفرا، و أسرح(7) منك ذكرا.
فقال عامر: ليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد، و بصري ناقص، و بصرك صحيح، و لكني أنافرك على أني أنشر منك أمة(8)، و أطول منك قمّة، و أحسن منك لمّة، و أجعد منك جمّة، و أبعد منك همّة.
قال علقمة: أنت رجل جسيم، و أنا رجل قضيف، و أنت جميل، و أنا قبيح، و لكني أنافرك بآبائي و أعمامي.
فقال عامر: آباؤك أعمامي و لم أكن لأنافرك بهم، و لكني أنافرك أني خير منك عقبا، و أطعم منك جدبا.
قال علقمة: قد علمت أن لك عقبا في العشيرة، و قد أطعمت طيبا(9) إذ سارت؛ و لكني أنافرك أني خير منك، و أولى بالخيرات منك؛ و قد أكثرنا المراجعة منذ اليوم.
قال: فخرجت أم عامر، و كانت تسمع كلامهما، فقالت: يا عامر، نافره أيكما أولى بالخيرات.
قال أبو المنذر: قال أبو مسكين: قال عامر في مراجعته: و اللّه لأنا أركب منك في الحماة، و أقتل منك للكماة، و خير منك للمولى و المولاة.
/فقال له علقمة: و اللّه إني أعز منك. إني لبرّ و إنك لفاجر، و إني لوفيّ و إنك لغادر، ففيم تفاخرني يا عامر؟
ص: 457
فقال عامر: و اللّه إني لأنزل منك للقفرة، و أنحر منك للبكرة، و أطعم منك للهبرة(1)، و أطعن منك للثّغرة(2).
فقال علقمة: و اللّه إنك/لكليل البصر، نكد النظر، وثّاب على جاراتك بالسّحر.
فقال بنو خالد بن جعفر، و كانوا يدا مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر: لن تطيق عامرا، و لكن قل له: أنافرك بخيرنا و أقربنا إلى الخيرات، و خذ عليه بالكبر. فقال له علقمة هذا القول.
فقال عامر: عنز و تيس، و تيس و عنز(3)، فذهبت مثلا. نعم على مائة من الإبل، إلى مائة من الإبل يعطاها الحكم، أينا نفّر عليه صاحبه أخرجها، ففعلوا ذلك، و وضعوا بها رهنا من أبنائهم، على يدي رجل من بني الوحيد، فسمي الضّمين إلى الساعة، و هو الكفيل.
قال: و خرج علقمة و من معه من بني خالد، و خرج عامر فيمن معه من بني مالك، و قد أتى عامر بن الطفيل عمه عامر بن مالك، و هو أبو براء، فقال: يا عماه، أعنّي. فقال: يا ابن أخي، سبّني. فقال: لا أسبك و أنت عمي.
قال: فسبّ الأحوص. فقال عامر: و لا أسب و اللّه الأحوص و هو عمي، فقال: فكيف إذن أعينك، و لكن دونك نعلي، فإني قد ربعت فيها أربعين مرباعا، فاستعن بها في نفارك.
و جعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية، فلم يقل بينهما شيئا، و كره ذلك لحالهما و حال عشيرتهما، و قال: أنتما كركبتي البعير الأدرم(4)، تقعان بالأرض. قالا: فأينا اليمين؟ فقال: كلاكما اليمين. و أبى أن يقضي بينهما. فانطلقا إلى أبي جهل بن هشام، فأبى أن يحكم بينهما، فوثب مروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص بن جعفر، فقال:
يا آل قريش بيّنوا الكلاما *** إنا رضينا منكم الأحكاما
فبيّنوا إن كنتم حكّاما *** كان أبونا لهم إماما
و عبد عمرو منع الفئاما *** في يوم فخر معلم إعلاما
و دعلج أقدمه إقداما *** لو لا الذي أجشمهم إجشاما
لاتخذتهم مدحج نعاما
قال: فأبوا أن يقولوا بينهما شيئا.
و قد كانت العرب تحاكم إلى قريش، فأتيا عيينة بن حصن بن حذيفة، فأبى أن يقول بينهما شيئا. فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثّقفيّ، فردهما إلى حرملة بن الأشعر المرّي، فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاريّ، فانطلقا حتى نزلا به.
ص: 458
و قال بشر بن عبد اللّه بن حبّان بن سلمى: إنهما ساقا الإبل معهما، حتى أشتت و أربعت، لا يأتيان أحدا إلا هاب أن يقضي بينهما؛ فقال هرم: لعمري لأحكمن بينكما، ثم لأفصلن، ثم لست أثق بواحد منكما، فأعطياني موثقا أطمئن إليه أن ترضيا بما أقول، و تسلّما لما قضيت بينكما، و أمرهما/بالانصراف، و وعدهما ذلك اليوم من قابل. فانصرفا حتى إذا بلغ الأجل من قابل، خرجا إليه، فخرج علقمة ببني الأحوص، فلم يتخلف منهم أحد، معهم القباب و الجزر و القدور، ينحرون في كل منزل و يطعمون، و جمع عامر بني مالك، فقال: إنما تخاطرون عن أحسابكم، فأجابوه و ساروا معه، و لم ينهض أبو براء معهم، و قال لعامر: و اللّه لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص منيخا بها، و كره أبو براء ما كان من أمرهما، فقال عامر(1) فيما كره من منافرتهما، و دعاء عامر إياه أن يسير معه:
أ أومر أن أسبّ أبا شريح *** و لا و اللّه أفعل ما حييت
/و لا أهدي إلى هرم لقاحا *** فيحيي بعد ذلك أو يميت
أكلّف سعي لقمان بن عاد *** فيا لأبي شريح ما لقيت
قال: و أبو شريح: هو الأحوص. فكره كل واحد من البطنين ما كان بينهما. و قال عبد عمرو بن شريح بن الأحوص:
لحى اللّه وفدينا و ما ارتحلا به *** من السّوءة(2) الباقي عليهم و بالها
ألا إنما بردى صفاق(3) متينة *** أبى الضيم أعلاها و أثبت حالها
قال: فسار عامر و بنو عامر على الخيل مجنبي الإبل، و عليهم السلاح، فقال رجل من غنيّ: يا عامر، ما صنعت؟ أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص و معهم القباب و الجزر، و ليس معك شيء تطعمه الناس! ما أسوأ ما صنعت! فقال عامر لرجلين من بني عمه: أحصيا كل شيء مع علقمة من قبة أو قدر أو لقحة. ففعلا. فقال عامر: يا بني مالك، إنها المقارعة عن أحسابكم، فاشخصوا بمثل/ما شخصوا به، ففعلوا.
و ثار مع عامر لبيد بن ربيعة و الأعشى، و مع علقمة الحطيئة و فتيان من بني الأحوص، منهم السّندريّ بن يزيد بن شريح، و مروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص، و هم يرتجزون، فقال لبيد:
يا هرما و أنت أهل عدل *** إن نفّر(4) الأحوص يوما قبلي
ليذهبن أهله بأهلي *** لا تجمعنّ شكلهم و شكلي
و نسل آبائهم و نسلي
ص: 459
و قال أيضا:
إني امرؤ من مالك بن جعفر *** علقم قد نافرت غير منفر
نافرت سقبا من سقاب العرعر
فقال قحافة بن عوف بن الأحوص:
نهنه إليك الشعر يا لبيد *** و اصدد فقد ينفعك الصّدود
ساد أبونا قبل أن تسودوا *** سؤددكم مطرف زهيد
و قال أيضا:
إني إذا ما نسي الحياء(1) *** وضاع يوم المشهد اللّواء
أنمى و قد حقّ لي النماء *** إلى ذكور ذكرها سناء(2)
إذ لا تزال جلدة كوماء *** مبقورة لسقبها دعاء(3)
لم ينهنا عن نحرها الصفاء *** لنا عليكم سورة ولاء(4)
المجد و السؤدد و العطاء
و قال أيضا:
أنتم هزلتم عامر بن مالك *** في شتوات مضر الهوالك
يا شرّ أحياء و شرّ هالك(5)
قال: و أنشدها السّندريّ يومئذ، و رفع صوته، فقيل: من هذا؟ فقال:
أنا لمن أنكر صوتي السّندريّ *** أنا الفتى الجعد الطويل الجعفريّ
من ولد الأحوص أخوالي غنيّ
/فقال عامر: أجب يا لبيد. فرغب لبيد عن إجابته، و ذلك لأن السّندريّ كانت جدته أمة اسمها عيساء، فقال:
لما دعاني عامر لأسبّهم(6) *** أبيت و إن كان ابن عيساء ظالما
لكيما يكون السّندريّ نديدتي *** و أشتم أعماما عموما عماعما(7)
ص: 460
و أنشر من تحت القبور أبوّة *** كراما هم شدّوا عليّ التّمائما
لعبت على أكتافهم و حجورهم *** وليدا و سمّوني مفيدا(1) و عاصما
ألا أينا ما كان شرا لمالك *** فلا زال في الدنيا ملوما و لائما
قال: و وثب الحطيئة، فقال:
ما يحبس الحكّام بالفصل(2) بعد ما *** بدا سابق ذو غرّة و حجول
/و قال أيضا:
يا عام قد كنت ذا باع و مكرمة *** لو أن مسعاة من جاريته أمم
جاريت قرما أجاد الأحوصان به *** سمح اليدين و في عرنينه شمم
لا يصعب الأمر إلا ريث(3) يركبه *** و لا يبيت على مال له قسم
هابت بنو مالك مجدا و مكرمة *** و غاية كان فيها الموت لو قدموا
و ما أساءوا فرارا عن مجلّحة(4) *** لا كاهن يمتري فيها و لا حكم
قال: و أقام القوم عنده أياما، و أرسل إلى عامر، فأتاه سرا، لا يعلم به علقمة فقال: يا عامر، قد كنت أرى لك رأيا، و أن فيك خيرا، و ما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك. أ تنافر رجلا لا تفخر أنت و قومك إلا بآبائه؟ فما الذي أنت به خير منه؟ قال عامر: أنشدك اللّه و الرّحم أن لا تفضّل عليّ علقمة، فو اللّه لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدا. هذه ناصيتي فاجززها. و احتكم في مالي، فإن كنت لا بدّ فاعلا فسوّ بيني و بينه. قال: انصرف، فسوف أرى رأيي. فخرج عامر و هو لا يشك أنه ينفّره عليه.
ثم أرسل إلى علقمة سرّا، لا يعلم به عامر، فأتاه فقال: يا علقمة، و اللّه إن كنت لأحسب فيك خيرا، و أن لك رأيا، و ما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك. أ تفاخر رجلا هو ابن عمك في النسب؟ و أبوه أبوك، و هو مع هذا أعظم قومك غناء، و أحمدهم لقاء؟ فما الذي أنت به خير منه؟ فقال له علقمة: أنشدك اللّه و الرّحم ألاّ تنفّر عليّ عامرا. اجزز ناصيتي، و احتكم في مالي، /و إن كنت لا بد أن تفعل فسوّ بيني و بينه. فقال: انصرف فسوف أرى رأيي. فخرج و هو لا يشك أنه سيفضّل عليه عامرا.
قال أبي: و سمعت أن هرما قال لعامر حين دعاه: يا عامر، كيف تفاضل علقمة؟ فقال عامر: و لم يا هرم؟
ص: 461
قال: لأنه أنجل منك عينا في النساء، و أكثر منك نفيرا عند ثورة الدعاء. قال عامر: هل غير هذا؟ قال: نعم. هو أكثر منك نائلا في الثّراء، و أعظم منك حقيقة عند الدعاء. ثم قال لعلقمة: كيف تفاضل عامرا؟ قال: و لم يا هرم؟ قال: هو أنفد منك لسانا، و أمضى منك سنانا. قال علقمة: فهل غير هذا؟ قال: نعم. هو أقتل منك للكماة، و أفك منك للعناة.
قال: ثم إن هرما أرسل إلى بنيه و بني أبيه: إني قائل غدا بين هذين الرجلين/مقالة، فإذا فعلت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة، و يطرد بعضكم عشر جزائر، فلينحرها عن عامر، و فرّقوا بين الناس، لا تكون لهم جماعة.
و أصبح هرم، فجلس مجلسه، و أقبل الناس، و أقبل علقمة و عامر حتى جلسا، فقام لبيد فقال:
يا هرم ابن الأكرمين منصبا *** إنك قد ولّيت حكما معجبا
فاحكم و صوّب رأس من تصوّبا *** إن الذي يعلو علينا ترتبا(1)
لخيرنا عما و أما و أبا *** و عامر خيرهما مركّبا
و عامر أدنى لقيس نسبا
فقام هرم فقال: يا بني جعفر، قد تحاكمتما عندي، و أنتما كركبتي البعير الأدرم: تقعان إلى الأرض معا، و ليس فيكما أحد إلا و فيه ما ليس في صاحبه، و كلاكما سيد كريم.
/و عمد بنو هرم و بنو أخيه إلى تلك الجزر، فنحروها حيث أمرهم هرم عن علقمة عشرا، و عن عامرا عشرا، و فرقوا الناس، فلم يفضّل هرم واحدا منهما على صاحبه، و كره أن يفعل و هما ابنا عم، فيجلب بذلك عداوة، و يوقع بين الحيين شرا.
قال: و كان الأعشى حين رجع من عند قيس بن معد يكرب بما أعطاه طلب الجوار و الخفرة من علقمة، فلم يكن عنده ما طلب، و أجاره و خفره عامر، حتى إذا أداه و ماله إلى أهله قال:
علقم ما أنت إلى عامر *** الناقض الأوتار و الواتر
ثم أتمها بعد النّفار. فلما بلغ علقمة ما قال الأعشى، و أشاع في العرب أن هرما قد فضّل عامرا، توعّد الأعشى، فقال الأعشى:
لعمري لئن أمسى من الحيّ شاخصا
ص: 462
قال ابن الكلبي: حدّثني أبي قال: فعاش هرم حتى أدرك سلطان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فسأله عمر فقال: يا هرم، أيّ الرجلين كنت مفضلا لو فضلت؟ فقال: لو قلت ذاك يا أمير المؤمنين لعادت جذعة، و لبلغت شعاف هجر. فقال عمر: نعم مستودع السّرّ و مسند الأمر إليه أنت يا هرم، مثل هذا فليسد العشيرة. و قال: إلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم.
قال مؤلف الكتاب(1):
و قد أدرك علقمة بن علاثة الإسلام، فأسلم، ثم ارتد فيمن ارتد من العرب. فلما وجه أبو بكر خالد بن الوليد المخزومي إلى بني كلاب ليوقع بهم، و علقمة يومئذ/رئيسهم، هرب و أسلم، ثم أتى أبا بكر رضي اللّه عنه، فأعلمه أنه قد نزع عما كان عليه، فقبل إسلامه و أمّنه. هكذا ذكر المدائنيّ.
و أما سيف بن عمر فإنه روى عن الكوفيين غير ذلك.
حدثنا محمد بن جرير الطبريّ قال: حدثنا السريّ بن يحيى، قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن سهل بن يوسف، قال:
كان علقمة بن علاثة على كلاب و من لافّها(2)، و قد كان علقمة أسلم ثم ارتد في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، ثم خرج بعد فتح الطائف، حتى لحق بالشام مرتدا، فلما توفي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أقبل مسرعا، حتى عسكر في بني كعب، مقدّما رجلا و مؤخرا أخرى، و بلغ ذلك أبا بكر رضي اللّه عنه، فبعث إليه سريّة، و أمّر عليها القعقاع بن عمرو، و قال: يا قعقاع، سر حتى تغير على علقمة بن علاثة، لعلك تأخذه لي/أو تقتله. و اعلم أن شفاء النفس الحوص، فاصنع ما عندك.
فخرج في تلك السرية حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة، و كان لا يبرح أن يكون على رحل، فسابقهم على فرسه مراكضة، و أسلم أهله و ولده، و استبى القعقاع امرأة علقمة و بناته و نساءه و من أقام من الرجال، فاتقوه بالإسلام، فقدم بهم على أبي بكر رضي اللّه عنه، فجحدت زوجته و ولده أن يكونوا مالئوا علقمة على أمره، و كانوا مقيمين في الدار، و لم يكن بلغه عنهم غير ذلك. و قالوا لأبي بكر: ما ذنبنا نحن فيما صنع علقمة؟ فأرسلهم، ثم أسلم علقمة، فقبل ذلك منه.
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال:
/كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ربما حدّث أصحابه، و ربما تركهم يتحدثون و يصغي إليهم و يبتسم، فبينا هم يوما على ذلك يتذاكرون الشعر و أيام العرب، إذ سمع حسان بن ثابت ينشد هجاء أعشى بني قيس بن ثعلبة، علقمة بن علاثة، و مديحه عامر بن الطفيل:
ص: 463
علقم ما أنت إلى عامر *** الناقض الأوتار و الواتر
إن تسد الحوص فلم تعدهم *** و عامر ساد بني عامر
ساد و ألفى رهطه(1) سادة *** و كابرا سادوك عن كابر
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: كفّ عن ذكره يا حسان، فإن أبا سفيان لما شعّث مني(2) عند هرقل، ردّ عليه علقمة، فقال حسان بن ثابت: بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه، من نالتك يده فقد وجب علينا شكره.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال: حدثنا المدائني، عن أبي بكر الهذليّ قال:
لما أطلق عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الحطيئة من حبسه، قال له: يا أمير المؤمنين، اكتب لي كتابا إلى علقمة بن علاثة، لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري. فقال: لا أفعل. فقيل له: يا أمير المؤمنين، و ما عليك من ذلك؟ إن علقمة ليس بعاملك، فتخشى أن تأثم، و إنما هو رجل من المسلمين، تشفع له إليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات و الناس منصرفون عن قبره، فوقف عليه، ثم أنشد قوله:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر *** بحوران أمسى أعلقته الحبائل
فإن تحي لا أملل حياتي و إن تمت *** فما في حياة بعد موتك طائل
و ما كان بيني لو لقيتك سالما *** و بين الغنى إلا ليال قلائل
/فقال له ابنه: يا حطيئة، كم ظننت أن علقمة يعطيك؟ قال: مائة ناقة. قال: فلك مائة ناقة يتبعها مائة من أولادها.
فأعطاه إياها.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزّبير بن بكّار قال: حدثني عمر بن أبي بكر قال: حدثنا عبد الرّحمن بن أبي الزناد و الضحاك بن عثمان قالا:
لما قدم علقمة بن علاثة المدينة، و كان قد ارتد عن الإسلام، و كان لخالد بن الوليد صديقا، لقيه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في المسجد في جوف الليل، و كان عمر يشبّه بخالد، و ذلك أن أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، فسلم عليه، و ظن أنه خالد، /فقال: أعزلك؟ قال: كان ذلك. قال: و اللّه ما هو إلا نفاسة عليك، و حسد لك. فقال له عمر: فما عندك معونة على ذلك؟ قال: معاذ اللّه، إن لعمر علينا سمعا و طاعة، و ما نخرج إلى خلافه. فلما أصبح عمر رضي اللّه عنه أذن للناس، فدخل خالد و علقمة، فجلس علقمة إلى جنب خالد، فالتفت عمر إلى علقمة فقال: إيه يا علقمة، أ أنت القائل لخالد ما قلت؟ فالتفت علقمة إلى خالد، فقال: يا أبا سليمان، أ فعلتها؟ قال: ويحك و اللّه ما لقيتك قبل ما ترى، و إني لأراك لقيت الرجل. قال: أراه و اللّه.
ص: 464
ثم التفت إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، ما سمعت إلا خيرا. قال: أجل. فهل لك أن أوليك حوران؟ قال: نعم.
فولاه إياها، فمات بها.
فقال الحطيئة يرثيه:
لعمري لنعم الحيّ من آل جعفر *** بحوران أمسى أقصدته الحبائل
لقد أقصدت جودا و مجدا و سؤددا *** و حلما أصيلا خالفته المجاهل
فإن تحي لا أملل حياتي و إن تمت *** فما في حياة بعد موتك طائل
و في أول هذه القصيدة التي رثى بها الحطيئة علقمة غناء نسبته:
أرى العيس تخدي بين قوّ فضارج *** كما لاح في الصبح الأشاء الحوامل
فأتبعتهم عينيّ حتى تفرقت *** مع الليل عن ساق الفريد الجمائل
فلأيا قصرت الطرف عنهم بجسرة *** أمون إذا و اكلتها لا تواكل
غنى في هذه الأبيات سائب خاثر ثاني ثقيل بالوسطى، من رواية حماد بن إسحاق و الهشاميّ.
ليت شعري أ فاح رائحة المس *** - ك و ما إن إخال بالخيف إنسي
حين غابت بنو أميّة عنه *** و البهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فرسا *** ن عليها و قالة غير خرس
إخال: أظن. خلت كذا و كذا، فأنا إخاله: إذا ظننته، و خال عليّ الشيء يخيل: إذا شككت فيه. و ليت شعري:
كلمة تقولها العرب عند الشيء تحبّ علمه، و تسأل عنه.
و أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدثني عمر بن شبّة قال: سأل رجل أبا عبيدة: ما أصل «ليت شعري»؟ فقال: كأنه قال: ليتني شعرت بكذا و كذا، ليتني علمت حقيقته.
الشعر لأبي العباس الأعمى، و الغناء لابن سريج، رمل بالبنصر في مجراها.
ص: 465
هو السائب بن فرّوخ مولى بني ليث. و قيل إنه مولى بني الدّيل، و هذا القول هو الصحيح.
ذكر محمد بن معاوية الأسديّ، عن المدائنيّ و الواقديّ:
أن أبا العباس الأعمى الذي يروي عنه حبيب بن أبي ثابت، مولى جذيمة بن عليّ بن الدّيل(1) بن بكر بن عبد مناة، و كان من شعراء بني أمية المعدودين، المقدمين في مدحهم و التشيع لهم، و انصباب الهوى إليهم، و هو الذي يقول في أبي الطفيل عامر بن واثلة، صاحب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:
/لعمرك إنني و أبا طفيل *** لمختلفان، و اللّه الشهيد
أرى عثمان مهتديا و يأبى *** متابعتي و آبى ما يريد
أخبرني بذلك وكيع عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن أبيه، عن عبد اللّه بن أبي سعد.
و قد روى أبو العباس الأعمى عن صدر من الصحابة الحديث، و روى عنه عطاء، و عمرو بن دينار، و حبيب بن أبي ثابت(2).
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء عن أبي العباس الأعمى الشاعر، عن عبد اللّه بن عمر، قال: إنما جمع(3) منزل تدلج منه إذا شئت.
/قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن دلان(4) الخيشي، قال: حدّثنا أحمد بن إسماعيل قال: حدّثنا أبو ضمرة قال: حدّثني أبو الحارث بن عبد الرّحمن، عن أبي ذئب، عن أبي العباس، عن سعيد بن المسيب قال: قال عليّ بن أبي طالب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
إسباغ الوضوء على المكاره، و إعمال الأقدام إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة، يغسل الخطايا غسلا.
ص: 466
حدّثني: أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي قال: حدّثنا أبو قلابة قال: حدّثنا بشر بن عمر قال: حدّثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال:
سمعت أبا العباس السائب بن فرّوخ الأعمى الشاعر يحدث عن عبد اللّه بن عمر، قال:
جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يستأذنه في الجهاد، فقال: أ حيّ والداك؟ قال: نعم. قال: فيهما فجاهد.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال: حدّثنا الفضل بن عبد اللّه الخلنجي بجرجان قال: حدّثني مسلم بن الوليد الأنصاريّ قال: سمعت يزيد بن مزيد يقول: سمعت هارون الرشيد يقول: سمعت المهديّ يقول: سمعت المنصور يقول:
خرجت أريد الشام أيام مروان بن محمد، فصحبني في الطريق رجل ضرير، فسألته عن مقصده، فأخبرني أنه يريد مروان بشعر امتدحه به، فاستنشدته إياه، فأنشدني:
ليت شعري أ فاح رائحة المس *** - ك و ما إن إخال بالخيف إنسي
حين غابت بنو أميّة عنه *** و البهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فرسا *** ن عليها و قالة غير خرس
/لا يعابون صامتين و إن قا *** لوا أصابوا و لم يقولوا بلبس
بحلوم إذا الحلوم تقضّت(1) *** و وجوه مثل الدنانير ملس
و يروى مكان «تقضت»: اضمحلت. قال: فو اللّه ما فرغ من إنشاده حتى توهمت أن العمى قد أدركني، و افترقنا.
فلما أفضت الخلافة إليّ خرجت حاجا، فنزلت أمشي بجبلي زرود، فبصرت بالضرير، ففرّقت من كان معي، ثم دنوت منه فقلت: أ تعرفني؟ قال: لا. فقلت: أنا رفيقك و أنت تريد الشام أيام مروان. فقال: أوّه:
آمت نساء بني أميّة منهم *** و بناتهم بمضيعة أيتام
نامت جدودهم و أسقط نجمهم *** و النجم يسقط و الجدود تنام(2)
/خلت المنابر و الأسرّة منهم *** فعليهم حتى الممات سلام
فقلت: و كم كان مروان أعطاك بأبي أنت؟ قال: أغناني أن أسأل أحدا بعده. فهممت بقتله، ثم ذكرت حق الاسترسال و الصحبة، فأمسكت عنه، و غاب عن عيني، فبدا لي فيه، فأمرت بطلبه، فكأنما البيداء بادت به.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثني عمر بن شبة قال: قال أبو عبيدة:
ص: 467
هوي أبو العباس الأعمى امرأة ذات بعل، فراسلها، فأعلمت زوجها، فقال: أطمعيه. فأطمعته. ثم قال:
أرسلي إليه فليأتك. فأرسلت إليه، فأتاها، و جلس زوجها إلى جانبها، فقال لها أبو العباس: إنك قد وصفت لنا و ما نراك، فألمسينا. فأخذت يده، فوضعتها على أير زوجها، فنفر، و علم أن قد كيد، فنهض من عندها، و قال:
عليّ أليّة ما دمت حيّا *** أمسّك طائعا إلا بعود
و لا أهدي لأرض أنت فيها *** سلام اللّه إلاّ من بعيد
رجوت غنيمة فوضعت كفّي *** على أير أشدّ من الحديد
فخير منك من لا خير فيه *** و خير من زيارتكم قعودي
و قرأت هذه الحكاية مرويّة عن الأصمعيّ غير مذكور راويها عنه. و زعم أن بشارا صاحب القصة، و أنه كان له مجلس يسمّيه البردان، يجتمع إليه فيه النساء، فعشق هذه المرأة و قد سمع كلامها. ثم ذكر الخبر بطوله، و قال فيه: فلما وصل إليها أنشأ يقول:
مليكة قد وصفت لنا بحسن *** و إنا لا نراك فألمسينا
فأخذ زوجها يده، فوضعها على أيره.
ذكر إسحاق أن في البيتين الأولين و الرابع من هذه الأبيات، لحنا من خفيف الثقيل، بالسبابة في مجرى الوسطى، و لم ينسبه إلى أحد. و وجدته في غناء عمرو بن بانة في هذه الطريقة منسوبا إليه، فلا أدري هو ذلك اللحن أو غيره.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني أيوب بن عمر أبو سلمة قال:
قال أبو العباس الأعمى، مولى بني الدّيل بن بكر، يحض بني أمية على عبد اللّه بن الزّبير:
أ بني أميّة لا أرى لكم *** شبها إذا ما التفّت الشّيع
سعة و أحلاما إذا نزعت *** أهل الحلوم فضرّها(1) النّزع
/و حفيظة في كل نائبة *** شهباء لا ينهى لها الرّبع
اللّه أعطاكم و إن رغمت *** من ذاك أنف معاشر رتعوا(2)
أ بني أمية غير أنكم *** و الناس فيما أطمعوا طمعوا
أطمعتم فيكم عدوّكم *** فسما بهم في ذاكم الطّمع
فلو انّكم كنتم لقولكم *** مثل الذي كانوا لكم رجعوا
ص: 468
عما كرهتم أو لردّهم *** حذر العقوبة إنها تزع
و له أشعار كثيرة في مدائح بني أمية، و هجاء آل الزّبير، و أكثرها في هجاء عمرو بن الزبير، ليس ذكرها مما قصدنا له.
و نسخت من كتاب قعنب بن المحرز قال: حدّثنا المدائنيّ، عن/جويرية بن أسماء:
أن ابن الزبير رأى رجلا من حلفاء بني أسد بن عبد العزّى في حالة رثّة، فكساه ثوبين، و أمر له ببرّ و تمر، فقال أبو العباس الأعمى في ذلك:
كست أسد إخوانها و لو انني *** ببلدة إخواني إذا لكسيت
فلم تر عيني مثل حيّ تحمّلوا *** إلى الشام مظلومين منذ بريت
غنى في هذين البيتين دحمان ثقيل أول بالبنصر، من رواية ابن المكي، و رأيت في بعض الكتب لزرزور غلام المارقيّ فيهما صنعة أيضا.
و قال محمد بن معاوية: حدّثني المدائنيّ قال:
قدم البعيث المجاشعيّ مكة، و كان أبو العباس الأعمى الشاعر لا يكاد يفارقها، و كانت جوائز أمية تأتيه من الشام، و كانت قريش كلّها تبرّه للسانه، /و تقرّبا إلى بني أمية ببرّه. قال: فصلى البعيث مع الناس، و سأل في حمالة كانت عليه، و كان سئولا ملحّا شديد الطمع، و كان الرجل من قريش يأتيه بالشيء يتحمّله عنه، فيقول: لا أقبله إلا أن تجيء معي إلى الصرّاف حتى ينقده و يزنه، فإن لم يفعل ذمه و هجاه. فشكوه إلى أبي العباس الأعمى، فقال:
قودوني إليه، ففعلوا. فلما عرف مجلسه رفع عصاه، فضرب بها رأسه، ثم قال له:
فهل أنت إلا ملصق في مجاشع *** نفاك جرير فاضطررت إلى نجد
نفاك جرير بالهجاء إلى نجد
و يروى:
تظلّ إذا أعطيت شيئا سألته *** تطالب من أعطاك بالوزن و النقد
فلا تطمعن من بعد ذا في عطيّة *** وثق بقبيح المنع و الدفع و الردّ
فلست بمبق في قريش خزاية *** تذم و لو أبعدت فيه مدى الجهد(1)
قال فتضاحك به من حضر، و استحيا و لم يحر جوابا. فلما جنّ الليل عليه هرب من مكة.
ص: 469
و قال قعنب بن المحرز: حدّثني المدائنيّ قال:
قال عبد الملك بن مروان لأبي العباس الأعمى مولى بني الدّيل: أنشدني مديحك مصعبا. فاستعفاه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما رثيته بذلك لأنه كان صديقي، و قد علمت أن هواي أمويّ. قال: صدقت، و لكن أنشدني ما قلته. فأنشده:
يرحم اللّه مصعبا فلقد ما *** ت كريما و رام أمرا جسيما
فقال عبد الملك: أجل، لقد مات كريما. ثم تمثل:
و لكنه رام التي لا يرومها *** من الناس إلا كلّ خرق(1) معمّم
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان. قال حدّثني إسحاق بن محمد الأموي قال:
لما حج عبد الملك بن مروان جلس للناس بمكة، فدخلوا إليه على مراتبهم، و قامت الشعراء و الخطباء فتكلموا، و دخل أبو العباس الأعمى، فلما رآه عبد الملك قال: مرحبا مرحبا بك يا أبا العباس، أخبرني بخبر الملحد المحلّ حيث كسا أشياعه و لم يكسك، و أنشدني ما قلت في ذلك.
فأخبره بخبر ابن الزبير، و أنه كسا بني أسد و أحلافها و لم يكسه، و أنشده الأبيات. فقال عبد الملك: أقسم على كل من حضرني من بني أمية و أحلافهم و مواليهم، ثم على كل من حضرني من أوليائي و شيعتي على دعوتهم، إلا كسا أبا العباس.
فخلعت و اللّه حلل الوشي و الخز و القوهيّ، /و جعلت ترمى عليه، حتى إذا غطته نهض فجلس فوق ما اجتمع منها و طرح عليه، قال: حتى رأيت في الدار من الثياب ما ستر عني عبد الملك و جلساءه، و أمر له عبد الملك بمائة ألف درهم.
/أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني عليّ بن محمد بن سليمان النوفليّ. قال: حدّثني أبي و أهلي:
أن عبد اللّه بن الزبير لما غلب على الحجاز، جعل يتتبع شيعة بني مروان، فينفيهم عن المدينة و مكة، حتى لم يبق بهما أحد منهم، ثم بلغه عن أبي العباس الأعمى الشاعر نبذ من كلام، و أنه يكاتب بني مروان بعوراته، و يمدح عبد الملك، و تجيئه جوائزه و صلاته، فدعا به، ثم أغلظ له، و همّ به، ثم كلّم/فيه، و قيل له: رجل مضرور. فعفا عنه، و نفاه إلى الطائف، فأنشأ يقول يهجوه و يهجو آل الزبير:
بني أسد لا تذكروا الفخر إنكم *** متى تذكروه تكذبوا و تحمّقوا
ص: 470
بعيدات(1) بين خيركم لصديقكم *** و شرّكم يغدو عليه و يطرق
متى تسألوا فضلا تضنّوا و تبخلوا *** و نيرانكم بالشرّ فيها تحرّق
إذا استبقت يوما قريش خرجتم *** بني أسد سكتا و ذو المجد يسبق
تجيئون خلف القوم سودا وجوهكم *** إذا ما قريش للأضاميم أصفقوا(2)
و ما ذاك إلا أن للّؤم طابعا *** يلوح عليكم وسمه ليس يخلق
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثني عمي مصعب قال:
قال عمر بن أبي ربيعة لأبي العباس الأعمى الشاعر مولى بني الدّيل بن بكر:
أفتني إن كنت ثقفا شاعرا *** عن فتى أعرج أعمى مختلف(3)
سيّئ السّحنة كاب لونه *** مثل عود الخروع البالي القصف
فقال أبو العباس يرد عليه:
أنت الفتى و ابن الفتى و أخو الفتى(4) *** و سيدنا لو لا خلائق أربع
نكولك في الهيجا و تقوالك الخنا *** و شتمك للمولى و أنك تبّع
قال الزبير: يقال رجل تبع نساء و تبّع نساء: إذا كان كلفا بهن.
أخبرني الحرميّ قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثني عمي قال: حدّثني المكّيّون:
/أن عمر بن أبي ربيعة كان يرامي جارية لأبي العباس الأعمى ببنادق الغالية، فبلغ ذلك أبا العباس، فقال لقائده: قفني على باب بني مخزوم، فإذا مر عمر بن أبي ربيعة، فضع يدي عليه، فلما مر عمر وضع يده عليه، فأخذ بحجزته، و قال:
ألا من يشتري جارا نئوما *** بجار لا ينام و لا ينيم
و يلبس بالنهار ثياب ناس *** و شطر الليل شيطان رجيم
فنهضت إليه بنو مخزوم، فأمسكوا فمه، و ضمنوا له عن عمر أن لا يعاود ما يكرهه.
ص: 471
ألا حيّ من أجل الحبيب المغانبا *** لبسن البلى لما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم و ليلة *** تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا
/الشعر لأبي حيّة النّميريّ. و الغناء لأحمد بن يحيى المكيّ، خفيف رمل بالبنصر، عن الهشاميّ.
ص: 472
أبو حية: الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن جناب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
و كان يقال لمالك الأصقع. و قال قوم: إن الأصقع هو الأصمّ بن مالك بن جناب بن كعب.
و أبو حية شاعر مجيد مقدّم، من مخضرمي الدولتين: الأموية و العباسية، و قد مدح الخلفاء فيهما جميعا، و كان فصيحا مقصّدا راجزا، من ساكني البصرة، و كان أهوج جبانا بخيلا كذابا، معروفا بذلك أجمع. و كان أبو عمرو بن العلاء يقدّمه. و قيل إنه كان يصرع.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أحمد بن زهير قال: حدّثني محمد بن سلاّم الجمحيّ. و أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن يزيد. و أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، قالوا:
كان لأبي حية سيف يسميه لعاب المنية، ليس بينه و بين الخشبة فرق، و كان من أجبن الناس.
قال: فحدثني جار له قال: دخل ليلة إلى بيته كلب، فظنه لصّا، فأشرفت عليه و قد انتضى سيفه لعاب المنية، و هو واقف في وسط الدار و هو يقول: أيها المغترّ بنا، و المجترئ علينا، بئس و اللّه ما اخترت لنفسك، خير قليل، و سيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته. اخرج/بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك. إني و اللّه إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، و ما قيس؟ تملأ و اللّه الفضاء خيلا و رجلا، سبحان اللّه! ما أكثرها و أطيبها! فبينا هو كذلك إذ خرج الكلب، فقال: الحمد للّه الذي مسخك كلبا، و كفاني حربا.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثني محمد بن عليّ بن حمزة قال: حدّثني أبو عثمان المازنيّ قال:
حدّثني سعيد بن مسعدة الأخفش قال:
قال أبو حية النميري: أ تدري ما يقول القدريون؟ قلت: لا. قال: يقولون: اللّه لا يكلف العباد ما لا يطيقون، و لا يسألهم ما لا يجدون، و صدق و اللّه القدريّون، و لكني لا أقول كما يقولون.
قال محمد بن علي بن حمزة: و حدّثني أبو عثمان قال:
قال سلمة بن عياش لأبي حية النّميريّ: أ تدري ما يقول الناس؟ قال: و ما يقولون؟ قال: يقولون إني أشعر منك. قال: إنا للّه! هلك و اللّه الناس!
ص: 473
قال: و كان أبو حية النميريّ مجنونا يصرع، و قد أدرك هشام بن عبد الملك.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أخي الأصمعيّ قال: سمعت عمي يقول:
أبو حية في الشعراء كالرجل الرّبعة، لا يعدّ طويلا و لا قصيرا.
قال: و سمعت أبا عمرو يقول: هو أشعر في عظم الشعر من الراعي.
أخبرني الحسن بن عليّ و عليّ بن سليمان الأخفش، قالا: حدّثنا محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني عبد الصمد بن المعذّل. و أخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال: حدّثنا عبد اللّه بن مسلم، قالوا:
كان أبو حية النميريّ من أكذب الناس، فحدث يوما أنه يخرج إلى الصحراء، فيدعو الغربان فتقع حوله، فيأخذ منها ما شاء. فقيل له: يا أبا حية، أ رأيت إن أخرجناك إلى الصحراء/فدعوتها فلم تأتك، فما نصنع بك؟ قال:
أبعدها اللّه إذن! قال: و حدثنا يوما قال: عن لي ظبي يوما فرميته، فراغ عن سهمي، فعارضه السهم، ثم راغ، فعارضه السهم، فما زال و اللّه يروغ و يعارضه حتى صرعه ببعض الجبّانات.
قال: و قال يوما: رميت و اللّه ظبية، فلما نفذ سهمي عن القوس، ذكرت بالظبية حبيبة لي، فعدوت خلف السهم، حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها.
و ذكر يحيى بن عليّ عن الحسن بن عليل العنزيّ قال: قال الرياشيّ، عن الأصمعيّ قال:
وفد أبو حية النميريّ على المنصور و قد امتدحه، و هجا بني حسن بقصيدته التي أولها:
عوجا نحيّ ديار الحيّ بالسند *** و هل بتلك الديار اليوم من أحد
يقول فيها:
أ حين شيم فلم يترك لهم ترة *** سيف تقلّده الرئبال ذو اللّبد
سللتموه عليكم يا بني حسن *** ما إن لكم من فلاح آخر الأبد
قد أصبحت لبني العباس صافية *** لجدع آناف أهل البغي و الحسد
و أصبحت كلهاة الليث في فمه *** و من يحاول شيئا في فم الأسد؟
فوصله أبو جعفر بشيء دون ما كان يؤمل؛ فاحتجن لعياله أكثره، و صار إلى الحيرة، فشرب عند خمّاره بها، فأعجبه الشرب، فكره إنفاد ما معه، و أحب أن/يدوم له ما كان فيه، فسأل الخمارة أن تبيعه بنسيئة، و أعلمها أنه مدح الخليفة و جماعة من القواد، ففعلت و شرهت إلى فضل النسيئة، و كان لأبي حية أير كعنق الظليم، فأبرز لها عنه، فتدلّهت، و كانت كلما سقته خطّت في الحائط، فأنشأ أبو حية يقول:
ص: 474
إذا أسقيتني كوزا بخطّ *** فخطّي ما بدا لك في الجدار
فإن أعطيتني عينا بدين *** فهاتي العين و انتظري ضماري(1)
خرقت مقدّما من جنب ثوبي *** حيال مكان ذاك من الإزار
فقالت ويلها: رجل و يمشي *** بما يمشي به عجر الحمار(2)
و قالت: ما تريد؟ فقلت: خيرا *** نسيئة ما عليّ إلى يساري
فصدّت بعد ما نظرت إليه *** و قد ألمحتها عنق الحوار
أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد اللّه بن مسلم قال:
لقى ابن مناذر أبا حية، فقال له: أنشدني بعض شعرك. فأنشده:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا
فقال له ابن مناذر: و هذا شعر؟ فقال أبو حية: ما في شعري عيب هو شر من أنك تسمعه. ثم أنشده ابن مناذر شيئا من شعره، فقال له أبو حية: قد عرفتك ما قصتك؟ و هذه القصيدة يفخر فيها أبو حية، و يذكر يوم النّشّاش(3)، و هو يوم لبني نمير.
ص: 475
أحمد بن يحيى بن مرزوق المكيّ، و يكنى أبا جعفر. و كان يلقب ظنينا(1). و قد تقدم ذكر أبيه و أخباره. و هو أحد المحسنين المبرّزين، الرواة للغناء، المحكمي الصنعة. و كان إسحاق يقدّمه و يؤثره، و يشيد بذكره، و يجهر بتفضيله، و كتابه «المجرد» في الأغاني و نسبها أصل من/الأصول المعمول عليها، و ما أعرف كتابا بعد كتاب إسحاق الذي ألفه لشبحا(2)، يقارب كتابه، و لا يقاس به، و كان مع جودة غنائه و حسن صنعته، أحد الضراب الموصوفين المتقدمين.
أخبرني عمي قال: حدثني أبو عبد اللّه الهشاميّ، عن محمد بن أحمد المكيّ:
أن أباه(3) جمع لمحمد بن عبد اللّه بن طاهر ديوانا للغناء و نسبه و جنسه، فكان محتويا على أربعة عشر ألف صوت.
أخبرني جحظة قال: حدثني عليّ بن يحيى، و نسخت من بعض الكتب: حدثني محمد بن أحمد المكي قال:
حدثني عليّ بن يحيى قال:
قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصليّ و قد جرى ذكر أحمد بن يحيى المكي: يا أبا محمد، لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى المكي مملوكا، كم كان يساوي؟ فقال: أخبرك عن ذلك.
/انصرفت ليلة من دار الواثق، فاجتزت بدار الحسن بن وهب، فدخلت إليه، فإذا أحمد عنده، فلما قام لصلاة العشاء الآخرة، قال لي الحسن بن وهب: كم يساوي أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوي عشرين ألف دينار. قال: ثم رجع فغنى صوتا، فقال لي الحسن بن وهب: يا أبا محمد، أضعفها. قال: ثم تغنى صوتا آخر، فقلت للحسن: يا أبا عليّ أضعفها. ثم أردت الانصراف، فقلت لأحمد: غنني:
لو لا الحياء و أن السّتر من خلقي *** إذن قعدت إليك الدهر لم أقم
أ ليس عندك شكر للتي جعلت *** ما ابيضّ من قادمات الرأس كالحمم
ص: 476
الغناء فيه لمعبد، خفيف ثقيل أول في مجرى البنصر، عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنه لمالك، و ليس كما قال، لحن مالك ثقيل أول ذكره الهشاميّ و دنانير و غيرهما.
قال: فغناه أحمد بن يحيى المكي، فأحسن فيه كل الإحسان. فلما قمت للانصراف قلت للحسن: يا أبا عليّ، أضعف الجميع. فقال له أحمد: ما هذا الذي أسمعكما تقولانه، و لست أدري ما معناه. قال: نحن نبيعك و نشتريك منذ الليلة و أنت لا تدري.
و أخبرنا بهذا الخبر يحيى بن عليّ بن يحيى، عن أخيه أحمد بن عليّ، عن عافية بن شبيب، عن أبي حاتم، قال:
كان إسحاق عندنا في منزل أبي عليّ الحسن بن وهب، و عندنا ظنين بن المكيّ، و ذكر الحديث مثله، و قال فيه: إنه قوّمه مائة ألف درهم، و ذكر أن الصوت الذي غناه آخرا:
أ من دمن و خيم باليات *** و سفع كالحمائم جاثمات
أرقت لهنّ شطر الليل حتى *** طلعن من المناقب منجدات
و أن إسحاق لمّا سمعه قال: كم كنت قوّمته؟ قال: مائة ألف درهم. قال: أضعفوا القيمة. قيمته مائتا ألف درهم.
في هذين البيتين لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأول، بالسبابة في مجرى الوسطى، ينسب إلى ابن مسجح، و إلى ابن محرز. و فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، عن عمرو. و للغريض خفيف ثقيل عن الهشاميّ.
أخبرني جحظة قال: حدثني محمد بن أحمد المكي قال:
ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم، و طال/تلاحيهما في الغناء، فقال أبي للمعتصم، يا أمير المؤمنين، من شاء منهم فليغنّ عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة، و أنا أغني عشرة و عشرة و عشرة، لا يعرف أحد منهم صوتا منها. فقال إسحاق: صدق يا أمير المؤمنين. و اتبعه ابن بُسخُنَّر و علّويه، فقالا: صدق(1) يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله. فأمر له بعشرين ألف درهم.
قال محمد: ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظّته يوما، فقال له: قد دعوتك إلى النّصفة، فلم تقبل، و أنا أدعوك و أبدأ بما دعوتك إليه، فاندفع فغنى عشرة أصوات، فلم يعرف أحد منهم منها صوتا واحدا، كلها من الغناء القديم، و الغناء اللاحق به من صنعة المكّيين الحذّاق الخاملي الذكر، فاستحسن المعتصم منها صوتا، و أسكت المغنين له، و استعاده مرات عدّة، و لم يزل يشرب عليه سحابة يومه، و أمر ألا يراجع أحدا/من المغنين كلاما، و لا يعارضه أحد منهم، إذ كان قد أبرّ عليهم، و أوضح الحجة في انقطاعهم، و إدحاض حججهم.
كان الصوت الذي اختاره المعتصم عليه، و أمر له لما سمعه بألفي دينار:
ص: 477
لعن اللّه من يلوم محبّا *** و لحى اللّه من يحبّ فيابى
ربّ إلفين أضمرا الحبّ دهرا *** فعفا اللّه عنهما حين تابا
الغناء ليحيى المكي رمل.
قال محمد، قال أبي:
و كان المعتصم قد خلع علينا في ذلك اليوم مماطر لها شأن من ألوان شتى، فسألني عبد الوهاب بن عليّ أن أرد عليه هذا الصوت، و جعل لي ممطره، فغنيته إياه، فلما خرجنا للانصراف إلى منازلنا، أمر غلمانه بدفع الممطر إلى غلماني، فسلموه إليهم.
أخبرني عبد اللّه بن الربيع، عن أبيه، قال: حدثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:
سألني إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما: من بقي من المغنين؟ قلت: وجه القرعة محمد بن عيسى، مولى عيسى بن جعفر. فقال: صالح كيّس. و من أيضا؟ قلت: أحمد بن يحيى المكي. قال بخ بخ! ذاك المحسن المجمل الضارب المغنّي القائم بمجلسه، لا يحوج أهل المجلس إلى غيره. و من بأبي أنت؟ قلت: ابن مقامرة. قال: لا و اللّه ما سمعت بهذا قطّ. فمن مقامرة هذه؟ زامرة أم نائحة أم مغنية؟ قلت: لا. و لكنها من الناس، و ليست من أهل صناعنه. قال: و من أيضا/بأبي أنت؟ قلت: يحيى بن القاسم ابن أخي سلمة. قال: الذي كان له أخ يغني مرتجلا؟ قلت: نعم. قال: لم يحسن ذاك و لا أبوه شيئا قطّ، و لا أشك أن هذا كذلك، لأنهما مؤدّباه.
و ذكر ابن المكي عن أبيه قال:
قال المعتصم يوما لجلسائه و نحن عنده: خلعت اليوم على فتى شريف ظريف نظيف، حسن الوجه، شجاع القلب، و وليته المصيصة و نواحيها. فقلنا: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: خالد بن يزيد بن مزيد. فقال علّويه: يا أحمد غنّ أمير المؤمنين صوتك في مدح خالد، فأمسكت عنه. فقال المعتصم: مالك لا تجيبه؟ فقلت: يا أمير لمؤمنين، ليس هو مما يغنّى بحضرة الخليفة. فقال: ما من أن تغنيه بدّ. قال: فغنيته صنعة لي في هذا الشعر:
علّم النّاس خالد بن يزيد *** كلّ حلم و كل بأس وجود
فترى الناس هيبة حين يبدو *** من قيام و ركّع و سجود
/فقال المعتصم: يا سمانة(1)، خذ أحمد بإلقاء هذا الصوت على الجواري في غد، و أمر لي بعشرة آلاف درهم.
ص: 478
قال: و غنى أبي يوما محمدا الأمين:
فعش عمر نوح في سرور و غبطة *** و في خفض عيش ليس في طوله إثم
تساعدك الأقدار فيه و تنثني *** إليك و ترعى فضلك العرب و العجم
فأمر له بخمس مائة دينار.
و توفى أحمد بن يحيى المكّيّ في خلافة المستعين في أوّلها.
أخبرني بذلك جحظة البرمكيّ، عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي: أن أباه توفّي في هذا الوقت.
انقضت أخباره.
إن الذين غدوا بلبّك غادروا *** و شلا بعينك ما يزال معينا
غيّضن من عبراتهن و قلن لي: *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا؟
غادروا: تركوا. و الوشل: الماء القليل. و المعين: الماء الصافي الجاري. و غيّضن من عبراتهن: أي كففنها و مسحنها حتى تغيض.
الشعر لجرير، و الغناء لإسحاق، رمل بالوسطى، عن عمرو. و هو من طريف أرمال إسحاق و عيونها. و فيه لابن سريج ثقيل أول بالبنصر، عن الهشاميّ و عمرو. و ذكر عليّ بن يحيى أن فيه لابن سريج رملا آخر. و ذكر عيسى أن الثقيل الأوّل لإبراهيم، و أن فيه للهذليّ ثاني ثقيل بالوسطى، و لإبراهيم أيضا ماخوريّ بالبنصر.
ص: 479
و قد أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب الصائغ قال: حدّثنا عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة:
أن هذين البيتين للمعلوط، و أن جريرا سرقهما منه، و أدخلهما في شعره.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزبير بن بكّار قال: حدّثني عمي و غيره قالوا:
غدا عبد اللّه بن مسلم بن جندب الهذلي على أبي السائب المخزوميّ في منزله، فلما خرج إليه أبو السائب أنشده قول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا *** و شلا بعينك لا يزال معينا
البيتين. فحلف أبو السائب ألاّ يرد على أحد سلاما، و لا يكلّمه إلا بهذين البيتين، حتى يرجع إلى منزله. فخرجا، فلقيهما عبد العزيز بن المطّلب و هو قاض، و كانا يدعيان القرينين لملازمتهما، فلما رآهما قال: كيف أصبح القرينان؟ فغمز أبو السائب بن جندب: أن أخبره(1) بالقصّة، و ابن جندب يتغافل، فقال لابن جندب: ما لأبي السائب؟ فجعل أبو السائب يغمزه، أي أخبره بيميني(1). قال ابن جندب: أحمد اللّه إليك، ما زلت منكرا لفعله منذ خرجنا. فانصرف ابن المطلب إلى منزله و الخصوم ينتظرونه، فصرفهم(1) و دخل منزله مغتما. فلما أتى أبو السائب منزله، و برّت يمينه، خرج إلى ابن جندب فقال: اذهب بنا إلى ابن المطلب، فإني أخاف أن يردّ شهادتي. فاستأذنا عليه، فأذن لهما فقال له أبو السائب: قد علمت - /أعزك اللّه - غرامي بالشعر؛ و إن هذا الضالّ جاءني حين خرجت من منزلي، فأنشدني بيتين، /فحلفت ألا أرد على أحد سلاما، و لا أكلمه إلا بهما. حتى أرجع إلى منزلي. فقال ابن المطلب: اللهم غفرا! أ لا تترك المجون يا أبا السائب.
أخبرني: الحرميّ قال: حدّثنا الزبير بن بكار قال: حدّثني عبد المطلب بن عبد العزيز قال:
أنشدت أبا السائب قول جرير:
غيّضن من عبراتهن و قلن لي *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا!
فقال: يا ابن أخي، أ تدري ما التغييض؟ قلت: لا. قال: هكذا، و أشار بإصبعه إلى جفنه، كأنه يأخذ الدمع ثم ينضحه.
ص: 480
أخبرني الحرميّ قال: حدّثنا الزبير بن بكار قال: حدّثنا المدائنيّ. و أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ، عن أحمد بن زهير، عن الزبير بن بكار قال: عن المدائنيّ قال:
شهد رجل عند قاض بشهادة، فقيل له: من يعرفك؟ قال: ابن أبي عتيق. فبعث إليه يسأله عنه. فقال: عدل رضا. فقيل له: أ كنت تعرفه قبل اليوم؟ قال: لا. و لكني سمعته ينشد:
غيّضن من عبراتهن و قلن لي: *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا!
فعلمت أن هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن، فشهدت له بالعدالة.
أخبرني الحرميّ قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثنا محمد بن الحسن و محمد بن الضحاك قالا:
/كان أبو السائب المخزوميّ واقفا على رأس بئر، فأنشده ابن جندب:
إن الذين غدوا بلبك غادروا *** و شلا بعينك لا يزال معينا
فرمى بنفسه في البئر بثيابه، فبعد لأي ما أخرجوه.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثنا محمد بن الحسن الزّرقيّ قال: حدّثنا العلاء بن عمرو الزّبيريّ، من ولد عمرو بن الزبير، قال: حدّثنا يحيى بن أبي قتيلة(1) قال: حدّثني إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن عليّ عليهم السّلام، عن أشعب قال:
جاءني فتية من قريش، فقالوا لي: نحب أن تسمع سالم بن عبد اللّه بن عمر صوتا من الغناء، و تعلمنا ما يقول لك، و جعلوا لي في ذلك جعلا. فدخلت عليه، فقلت: يا أبا عمروا، لي مجالسة و حرمة، و مودة و سنّ، و أنا مولع بالترنم. قال: و ما الترنم؟ قلت: الغناء. قال: و في أي وقت؟ قلت: في الخلوة، و مع الإخوان في الخارج. و أحب أن أسمعك، فإن كرهته أمسكت عنه. ثم غنيته، فقال: ما أرى بأسا. فخرجت إليهم، فأعلمتهم، فقالوا: و ما غنيته؟ فقلت: غنيته:
قرّبا مربط النعامة مني *** لقحت حرب وائل عن حيال
قالوا: هذا بارد لا حركة فيه، و لسنا نرضى. فلما رأيت دفعهم إياي، و خفت ذهاب ما جعلوا لي، رجعت إليه، فقلت: يا أبا عمرو، آخر. قال: ما لي و لك؟ /و لم أملّكه أمره حتى غنيت، فقال: ما أرى بأسا. فخرجت إليهم فأعلمتهم. قالوا: و ما غنيته؟ قلت:
لم يطيقوا أن ينزلوا و نزلنا *** و أخو الحرب من أطاق النزولا
قالوا: و ليس هذا بشيء. فرجعت إليه، فقلت: آخر. فاستكفّني، فلم أملّكه القول حتى غنيته:
ص: 481
غيّضن من عبراتهن و قلن لي: *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا؟
فقال: مهلا مهلا. قلت: لا و اللّه إلا بذاك الذي فيه تمر عجوة من صدقة عمر. فقال: هو لك. فخرجت عليهم به، و أنا أخطر. فقالوا: مه. فقلت: أطربت الشيخ حتى أعطاني هذا، و قال مرة/أخرى: حتى فرض(1) لي هذا(2). قال:
و و اللّه ما فعل، و إنما كان فدية لأصمت، و أخذت منهم الجعل.
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال: حدّثت عن حماد بن إسحاق قال: حدّثني علّويه الأعسر قال:
أتيت أباك في داره هذه يوما و قد بنى إيوانها و سائرها خراب، فجلسنا على تلّ من تراب، فغناني لحنه في:
غيّضن من عبراتهن و قلن لي: *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا!
فسألته أن يعيده عليّ، ففعل. و أتانا رسول أبيه بطبق رطب، فقال للرسول: قل له: سأرسل إليك برطب أطيب من الرطب الذي بعثت به إليّ، فأبلغه الرسول/ذلك، فقال له: و من عنده؟ فأخبره أنني عنده. فقال: ما أخلقه أن يكون قد أتانا بآبدة(3)، ثم أتانا رسوله بعد ساعة فقال: ما آن لرطبكم أن يأتينا؟ فأرسلني إليه و قد أخذت الصوت، فغنيته إياه، فقال: أجاد و اللّه. أ ألام على هذا و حبه، و اللّه لو لم يكن بيني و بينه قرابة لأحببته، فكيف و هو ابني؟
أ لست ترى يا ضبّ باللّه أنني *** مصاحبة نحو المدينة أركبا(4)
إذا قطعوا حزنا تخبّ ركابهم *** كما حرّكت ريح يراعا مثقّبا
عروضه من الطويل. و الشعر لنائلة بنت الفرافصة. و الغناء لابن عائشة، و لحنه من الثقيل الأول بالوسطى. و وجدت في كتاب بخط عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر أنه مما نحله يحيى المكي لابن عائشة.
ص: 482
هي نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو، و قيل: ابن عفر بن ثعلبة، و قيل: عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عديّ بن جناب الكلبية، زوجة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، تقوله لأخيها لما نقلها إلى عثمان.
أخبرني بخبره و خبرها أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال:
تزوّج سعيد بن العاص و هو على الكوفة هند بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، فبلغ ذلك عثمان، فكتب إليه.
«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم.
أما بعد، فإنه قد بلغني أنك تزوّجت امرأة من كلب، فاكتب إليّ بنسبها و جمالها».
فكتب إليه:
«أما بعد، فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأحوص. و جمالها أنها بيضاء مديدة القامة».
فكتب إليه: «إن كانت لها أخت فزوّجنيها».
فبعث سعيد إلى الفرافصة، يخطب إحدى بناته على عثمان. فأمر الفرافصة ابنه ضبا، فزوجها إياه. و كان ضب مسلما، و كان الفرافصة نصرانيا، فلما أرادوا حملها إليه، قال لها أبوها: يا بنيّة، إنك تقدمين على نساء من نساء قريش، هن/أقدر على الطيب منك، فاحفظي عني خصلتين، تكحّلي، و تطيّبي بالماء، حتى يكون ريحك ريح شنّ(1) أصابه مطر.
فلما حملت كرهت الغربة، و حزنت لفراق أهلها، فأنشأت تقول:
أ لست ترى يا ضبّ باللّه أنني *** مصاحبة نحو المدينة أركبا
/إذا قطعوا حزنا تخبّ ركابهم *** كما زعزعت ريح يراعا مثقّبا
لقد كان في أبناء حصن بن ضمضم *** لك الويل ما يغني الخباء المطنّبا
ص: 483
فلما قدمت على عثمان رضي اللّه عنه، قعد على سريره، و وضع لها سريرا حياله؛ فجلست عليه، فوضع عثمان قلنسيته، فبدا الصلع، فقال: يا ابنة الفرافصة، لا يهولنك ما ترين من صلعي، فإن وراءه ما تحبين. فسكتت.
فقال: إما أن تقومي إليّ، و إمّا أن أقوم إليك. فقالت: أما ما ذكرت من الصلع، فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصّلع. و أما قولك: إما أن تقومي إليّ، و إما أن أقوم إليك، فو اللّه ما تجشمت من جنبات السماوة أبعد مما بيني و بينك، بل أقوم إليك. فقامت، فجلست إلى جنبه، فمسح رأسها، و دعا لها بالبركة، ثم قال لها: اطرحي عنك رداءك، فطرحته، ثم قال لها: اطرحي خمارك، فطرحته، ثم قال لها: انزعي درعك، فنزعته؛ ثم قال: حلّي إزارك. فقالت: ذاك إليك. فحلّ إزارها، فكانت من أحظى نسائه عنده.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثنا علي بن محمد بن عيسى بن يزيد، عن عبد الواحد بن عمير، عن أبي الجرّاح مولى أم حبيبة، قال:
/كنت مع عثمان رضي اللّه عنه في الدار، فما شعرت و قد خرج محمد بن أبي بكر، و نحن نقول: هم في الصلح، إذ أنا بالناس قد دخلوا من الخوخة(1)، و نزلوا بأمراس الحبال من سور الدار، معهم السيوف، فرميت بسيفي(2)، و جلست عليه، و سمعت صياحهم، فكأني انظر إلى مصحف في يد عثمان، و إلى حمرة أديمه، فنشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها، فقال لها عثمان: خذي خمارك، فلعمري لدخولهم عليّ أعظم من حرمة شعرك.
و أهوى رجل إليه رضي اللّه عنه بالسيف، فاتقته نائلة بيدها، فقطع إصبعين من أصابعها، ثم قتلوه، و خرجوا يكبّرون، و مر بي محمد بن أبي بكر، فقال: مالك يا عبد أم حبيبة؟ و مضى فخرجت.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا عبد اللّه بن حكيم الطائيّ، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال:
لما قتل عثمان رحمة اللّه عليه، قالت نائلة بنت الفرافصة:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة(3) *** قتيل التّجيبيّ الذي جاء من مصر
و ما لي لا أبكي و تبكي قرابتي *** و قد غيّبت عنا فضول أبي عمرو
هكذا في هذه الرواية. و قد قيل إن هذين البيتين للوليد بن عقبة.
أخبرني أحمد قال: حدّثني عمر قال: حدّثنا علي بن محمد، عن أبي مخنف، عن نمير بن وعلة، عن الشعبيّ مسلمة بن محارب، عن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية:
ص: 484
/أن نائلة بنت الفرافصة كتبت إلى معاوية بن أبي سفيان، و بعثت بقميص عثمان مع النّعمان بن بشير، أو عبد الرّحمن بن حاطب بن أبي بلتعة:
«من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان.
أما بعد، فإني أذكركم باللّه الذي أنعم عليكم، و علمكم الإسلام، و هداكم من الضلالة، و أنقذكم من الكفر، و نصركم على العدو، و أسبغ النعمة(1)؛ و أنشدكم باللّه، و أذكّركم حقه و حق خليفته الذي لم تنصروه(2)، و بعزمة اللّه عليكم، فإنه عز و جل يقول: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى/اَلْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ (3). و إن أمير المؤمنين بغي عليه، و لو لم يكن له عليكم حقّ إلا حقّ الولاية، ثم أتى إليه بما أتى، لحقّ على كل مسلم يرجو أيام اللّه أن ينصره، لقدمه في الإسلام، و حسن بلائه، و أنه أجاب داعي اللّه، و صدّق كتابه(4)، و اللّه أعلم به إذ انتجبه، فأعطاه شرف الدنيا و شرف الآخرة.
و إني أقص عليكم خبره، لأني كنت مشاهدة أمره كله، حتى أفضي إليه:
و إن أهل المدينة حصروه في داره، يحرسنه ليلهم و نهارهم. قيام على أبوابه بسلاحهم، يمنعونه كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء، يحضرونه الأذى، و يقولون له الإفك. فمكث هو و من معه خمسين ليلة، و أهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر و عمار بن ياسر، و كان عليّ مع المحرّضين من أهل المدينة، و لم يقاتل مع أمير المؤمنين، و لم ينصره، و لم يأمر بالعدل الذي أمر اللّه تبارك و تعالى به. فظلت تقاتل خزاعة و سعد بن بكر و هذيل، و طوائف من مزينة و جهينة، /و أنباط يثرب، و لا أرى سائرهم، و لكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره و آخره. ثم إنه رمي بالنّبل و الحجارة، فقتل ممن كان في الدار ثلاثة نفر، فأتوه يصرخون إليه، ليأذن لهم في القتال، فنهاهم عنه، و أمرهم أن يردوا عليهم نبلهم، فردّوها إليهم، فلم يزدهم ذلك على القتال إلاّ جراءة، و في الأمر إلا إغراء. ثم أحرقوا باب الدار، فجاءه ثلاثة نفر من أصحابه، فقالوا: إن في المسجد ناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل، فاخرج إلى المسجد حتى يأتوك، فانطلق فجلس فيه ساعة، و أسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية، و ما أرى أحدا يعدل، فدخل الدار، و قد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح، فلبس درعه، و قال لأصحابه: لو لا أنتم ما لبست درعا، فوثب عليه القوم، فكلمهم ابن الزبير، و أخذ عليهم ميثاقا في صحيفة، بعث بها إلى عثمان: إن عليكم عهد اللّه و ميثاقه ألاّ تعرّوه بشيء، فكلموه و تحرجوا، فوضع السلاح، فلم يكن إلا وضعه، حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر، حتى أخذوا بلحيته، و دعوه باللّقب. فقال: أنا عبد اللّه و خليفته، فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، و طعنوه في صدره ثلاث طعنات، و ضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه و قد أثخنوه و به حياة، و هم يريدون قطع رأسه، ليذهبوا به، فأتتني بنت شيبة بن ربيعة، فألقت نفسها معي عليه، فوطئنا وطئا شديدا، و عرّينا من ثيابنا، و حرمة أمير المؤمنين أعظم.
فقتلوه رحمة اللّه عليه في بيته، و على فراشه. و قد أرسلت إليكم بثوبه، و عليه دمه، و إنه و اللّه لئن كان أثم من قتله،
ص: 485
لما يسلم من خذله. فانظروا أين أنتم من اللّه جل و عز، فإنا نشكي ما مسنا إليه، و نستنصر وليه و صالح عباده.
و رحمة اللّه على عثمان، و لعن اللّه من قتله، و صرعهم في الدنيا مصارع الخزي و المذلة، و شفى منهم الصدور».
/فحلف رجال من أهل الشام ألا يطئوا النساء حتى يقتلوا قتلته، أو تذهب أرواحهم.
فيا راكبا إما عرضت(1) فبلّغن *** نداماي من نجران أن لا تلاقيا
/أبا كرب و الأيهمين كليهما *** و قيسا بأعلى حضرموت اليمانيا
و تضحك منّي شيخة عبشميّة *** كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا
أقول و قد شدّوا لساني بنسعة(2) *** أ معشر تيم أطلقوا عن لسانيا
الشعر لعبد يغوث بن صلاءة الحارثي. و الغناء لإسحاق، ثقيل أول.
ص: 486
هو عبد يغوث بن صلاءة. و قيل: بل هو عبد يغوث بن الحارث بن وقّاص بن صلاءة - و هو قول ابن الكلبيّ - بن المغفّل، و اسم المغفل: ربيعة بن كعب الأرتّ(1) بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال ابن الكلبي: قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. قال: و كان يقال ليعرب: المرعف.
و كان عبد يغوث بن صلاءة شاعرا من شعراء الجاهلية، فارسا سيدا لقومه من بني الحارث بن كعب، و هو كان قائدهم في يوم الكلاب الثاني، إلى بني تميم، و في ذلك اليوم أسر فقتل. و عبد يغوث من أهل بيت شعر معرق لهم في الجاهلية و الإسلام، منهم اللّجلاج الحارثيّ، و هو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث بن صلاءة، و أخوه مسهر فارس شاعر، و هو الذي طعن عامر بن الطفيل في عينه يوم فيف الريح. و منهم ممن أدرك الإسلام جعفر بن علبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث بن الحارث بن معاوية بن صلاءة، و كان فارسا شاعرا صعلوكا، أخذ في دم، فحبس بالمدينة، ثم قتل صبرا. و خبره يذكر منفردا، لأن له شعرا فيه غناء.
و الشعر المذكور في هذا الموضع لعبد يغوث بن صلاءة، يقوله في يوم الكلاب الثاني(2)، و هو اليوم الذي جمع فيه قومه و غزا بني تميم، فظفرت به بنو تميم، و أسروه و قتل يومئذ.
و كان من حديث هذا اليوم، فيما ذكر أبو عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء، و هشام بن الكلبيّ عن أبيه، و المفضل بن محمد الضبيّ، و إسحاق بن الجصّاص عن العنبريّ، قالوا:
لما أوقع كسرى ببني تميم يوم الصّفا بالمشقّر، فقتل المقاتلة، و بقيت الأموال و الذراريّ، بلغ ذلك مذحجا، فمشى بعضهم إلى بعض، و قالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن و أحلافها من قضاعة، فقالت مذحج للمأمور الحارثيّ، و هو كاهن: ما ترى؟ فقال لهم: لا تغزوا بني تميم، فإنهم يسيرون أغبابا(3)، و يردون
ص: 487
مياها جبابا، فتكون غنيمتكم ترابا. قال أبو عبيدة: فذكر أنه اجتمع من مذحج و لفّها اثنا عشر ألفا، و كان رئيس مذحج عبد يغوث بن صلاءة، و رئيس همدان يقال له مسرّح(1)، و رئيس كندة البراء بن قيس بن الحارث. فأقبلوا إلى تميم، فبلغ ذلك سعدا و الرّباب، فانطلق ناس من أشرافهم إلى أكثم بن صيفيّ، و هو قاضي العرب يومئذ، فاستشاروه، فقال لهم: أقلّوا الخلاف على أمرائكم، و اعلموا أن كثرة الصّياح من الفشل، و المرء يعجز لا محالة.
يا قوم تثبّتوا، فإن أحزم الفريقين الرّكين، و رب عجلة تهب ريثا. و اتّزروا للحرب(2)، و ادّرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، و لا جماعة لمن اختلف.
فلما انصرفوا من عند أكثم تهيئوا، و استعدّوا/للحرب، و أقبل أهل اليمن، من بني الحارث من أشرافهم يزيد بن عبد المدان و يزيد بن مخرّم، و يزيد بن الطيثم(3) بن المأمور، و يزيد بن هوبر، حتى إذا كانوا بتيمن(4) نزلوا قريبا من الكلاب، /و رجل من بني زيد بن رياح بن يربوع، يقال له مشمّت بن زنباع في إبل له، عند خال له من بني سعد، يقال له زهير بن(5) بوّ، فلما أبصرهم المشمّت قال لزهير: دونك الإبل، و تنحّ عن طريقهم، حتى آتي الحيّ فأنذرهم. قال: فركب المشمّت ناقة، ثم سار حتى أتى سعدا و الرّباب و هم على الكلاب، فأنذرهم، فأعدّوا للقوم، و صبّحوهم، فأغاروا على النعم فطردوها، و جعل رجل [من أهل اليمن] يرتجز و يقول:
في كل عام نعم ننتابه *** على الكلاب غيّبا أربابه
قال: فأجابه غلام من بني سعد كان في النّعم، على فرس له، فقال:
عما قليل سترى أربابه *** صلب القناة حازما شبابه
على جياد ضمّر عيابه
قال: فأقبلت سعد و الرّباب، و رئيس الرّباب النعمان بن جساس، و رئيس بني سعد قيس بن عاصم المنقريّ. قال أبو عبيدة: اجتمع العلماء على أن الرئيس كان يومئذ قيس بن عاصم. فقال ضبّيّ حين دنا من القوم:
في كلّ عام نعم تحوونه *** يلقحه قوم و تنتجونه
أربابه نوكى فلا يحمونه *** و لا يلاقون طعانا دونه
أنعم الأبناء تحسبونه *** هيهات هيهات لما ترجونه
فقال ضمرة بن لبيد الحماسيّ(6): انظروا إذا سقتم النعم، فإن أتتكم الخيل عصبا عصبا، و ثبتت الأولى للأخرى، حتى تلحق، فإن أمر القوم هيّن. و إن لحق/بكم القوم، فلم ينظروا إليكم حتى يردّوا وجوه النعم، و لا ينتظر بعضهم بعضا، فإن أمر القوم شديد. و تقدمت سعد و الرّباب، فالتقوا في أوائل الناس، فلم يلتفتوا إليهم، و استقبلوا النّعم من قبل وجوهها، فجعلوا يصرفونها بأرماحهم، و اختلط القوم، فاقتتلوا قتالا شديدا يومهم، حتى إذا كان من
ص: 488
آخر النهار قتل النعمان بن جساس، قتله رجل من أهل اليمن، كانت أمه من بني حنظلة، يقال له عبد اللّه بن كعب، و هو الذي رماه، فقال للنعمان حين رماه: خذها و أنا ابن الحنظلية. فقال النعمان: ثكلتك أمك، رب حنظلية قد غاظتني(1). فذهبت مثلا، و ظن أهل اليمن أن بني تميم سيهدّهم قتل النعمان، فلم يزدهم ذلك إلا جراءة عليهم، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، فباتوا يحرس بعضهم بعضا، فلما أصبحوا غدوا على القتال، فنادى قيس بن عاصم:
يا لسعد، و نادى عبد يغوث: يا لسعد. قيس بن عاصم يدعو سعد بن زيد مناة بن تميم، و عبد يغوث يدعو سعد العشيرة. فلما سمع ذلك قيس نادى: يا لكعب، فنادى عبد يغوث: يا لكعب. قيس يدعو كعب بن سعد، و عبد يغوث يدعو كعب بن عمرو(2). فلما رأى ذلك قيس من صنيع عبد يغوث، قال: ما لهم أخزاهم اللّه ما ندعو بشعار إلا دعوا بمثله. فنادى قيس: يا لمقاعس، يعني بني الحارث بن عمرو بن كعب، و كان يلقب مقاعسا، فلما سمع وعلة بن عبد اللّه الجرميّ الصوت، و كان صاحب اللواء يومئذ، طرحه، و كان أول من انهزم/من اليمن، و حملت عليهم بنو سعد و الرّباب، فهزموهم أفظع هزيمة، و جعل رجل منهم يقول:
يا قوم لا يفلتكم اليزيدان *** مخرّما أعني به و الدّيّان
/و جعل قيس بن عاصم ينادي: يا لتميم: لا تقتلوا إلا فارسا، فإن الرجّالة لكم. و جعل يرتجز و يقول:
لما تولّوا عصبا شوازبا(3) *** أقسمت لا أطعن إلاّ راكبا
إني وجدت الطعن فيهم صائبا
و جعل يأخذ الأسارى، فإذا أخذ أسيرا قال له: ممن أنت؟ فيقول: من بني زعبل، و هو زعبل بن كعب، أخو الحارث بن كعب، و هم أنذال، فكأن الأسارى يريدون بذلك رخص الفداء، فجعل قيس إذا أخذ أسيرا منهم، دفعه إلى من يليه من بني تميم، و يقول: أمسك حتى أصطاد لك زعبلة أخرى، فذهبت مثلا. فما زالوا في آثارهم يقتلون و يأسرون، حتى أسر عبد يغوث، أسره فتى من بني عمير بن عبد شمس. و قتل يومئذ علقمة بن سبّاع(4) القريعيّ، و هو فارس هبّود، و هبّود فرس عمرون الجعيد المراديّ [و كان علقمة قتل عمرا و أخذ فرسه من تحته]، و أسر الأهتم، و اسمه سنان بن سمي بن خالد بن منقر، و يومئذ سمّي الأهتم - رئيس كندة البراء بن قيس، و قتلت التيم الأوبر الحارثيّ، و آخر من بني الحارث يقال له معاوية، قتلهما النعمان بن جساس، و قتل يومئذ من أشرافهم خمسة، و قتلت بنو ضبّة ضمرة بن لبيد الحماسيّ الكاهن، قتله قبيصة بن ضرار بن عمرو الضبيّ.
و أما عبد يغوث فانطلق به العبشميّ إلى أهله، و كان العبشميّ أهوج، فقالت له أمه - و رأت عبد يغوث عظيما جميلا جسيما -: من أنت؟ قال: /أنا سيد القوم. فضحكت، و قالت: قبحك اللّه من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج. فقال عبد يغوث:
و تضحك مني شيخة عبشميّة *** كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا
ثم قال لها: أيتها الحرة، هل لك إلى خير؟ قالت: و ما ذاك؟ قال: أعطي ابنك مائة من الإبل و ينطلق بي إلى الأهتم،
ص: 489
فإني أتخوف أن تنتزعني سعد و الرّباب منه، فضمن له مائة من الإبل، و أرسل إلى بني الحارث، فوجهوا بها إليه، فقبضها العبشميّ، فانطلق به إلى الأهتم، و أنشأ عبد يغوث يقول:
أ أهتم يا خير البرية والدا *** و رهطا إذا ما الناس عدّوا المساعيا
تدارك أسيرا عانيا في بلادكم *** و لا تثقفنّي(1) التيم ألقى الدواهيا
فمشت سعد و الرّباب فيه. فقالت الرباب: يا بني سعد، قتل فارسنا و لم يقتل لكم فارس مذكور، فدفعه الأهتم إليهم، فأخذه عصمة بن أبير(2) التيميّ، فانطلق به إلى منزله، فقال عبد يغوث: يا بني تيم، اقتلوني قتلة كريمة.
فقال له عصمة: و ما تلك القتلة؟ قال: اسقوني الخمر، و دعوني أنح على نفسي، فقال له عصمة: نعم. فسقاه الخمر، ثم قطع له عرقا يقال له الأكحل، و تركه ينزف، و مضى عنه عصمة، و ترك مع ابنين له، فقالا: جمعت أهل اليمن و جئت لتصطلمنا، فكيف رأيت اللّه صنع بك؟ فقال عبد يغوث في ذلك:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا *** فما لكما في اللوم نفع و لا ليا
/أ لم تعلما أن الملامة نفعها *** قليل و ما لومي أخي من شماليا(3)
فيا راكبا إما عرضت فبلّغن *** نداماي من نجران أن لا تلاقيا(4)
/أبا كرب و الأيهمين كليهما *** و قيسا بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى اللّه قومي بالكلاب(5) ملامة *** صريحهم و الآخرين المواليا
و لو شئت نجّتني من الخيل نهدة *** ترى خلفها الحوّ(6) الجياد تواليا
و لكنني أحمي ذمار أبيكم *** و كان الرماح يختطفن المحاميا
و تضحك مني شيخة عبشمية *** كأن لم ترا(7) قبلي أسيرا يمانيا
و قد علمت عرسي مليكة أنني *** أنا الليث معدوّا عليه و عاديا
أقول و قد شدّوا لساني بنسعة *** أ معشر تيم أطلقوا لي لسانيا(8)
ص: 490
أ معشر تيم قد ملكتم فأسجحوا *** فإن أخاكم لم يكن من بوائيا(1)
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدا *** و إن تطلقوني تحربوني بماليا(2)
أ حقّا عباد اللّه أن لست سامعا *** نشيد الرّعاء المعزبين المتاليا(3)
/و قد كنت نحار الجزور و معمل ال *** مطيّ و أمضي حيث لا حيّ ماضيا
و أنحر للشّرب الكرام مطيتي *** و أصدع بين القينتين ردائيا(4)
و عادية سوم الجراد وزعتها *** بكفّي و قد أنحوا إليّ العواليا(5)
كأني لم أركب جوادا و لم أقل *** لخيلي كرّي نفّسي عن رجاليا(6)
و لم أسبأ الزّقّ الرويّ و لم أقل *** لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا(7)
قال: فضحكت العبشمية، و هم آسروه. و ذلك أنه لما أسروه شدوا لسانه بنسعة، لئلا يهجوهم، و أبوا إلا قتله، فقتلوه بالنعمان بن جساس.
فقالت صفية بنت الخرع ترثي النعمان:
نطاقه هندوانيّ و جبّته *** فضفاضة كأضاة النّهي موضونه(8)
لقد أخذنا شفاء النفس لو شفيت *** و ما قتلنا به إلا أمرا دونه
و قال علقمة بن سباع لعمرو بن الجعيد:
لما رأيت الأمر مخلوجة *** أكرهت فيه ذابلا مارنا(9)
قلت له: خذها فإني امرؤ *** يعرف رمحي الرجل الكاهنا
/قوله: «يعرف رمحي الرجل الكاهنا» يريد: أن عمرو بن الجعيد كان كاهنا. و هو أحد بني عامر بن الدّيل بن
ص: 491
شنّ بن أفصى بن عبد القيس، و لم يزل ذلك في ولده. و منهم الرّباب بن البراء، كان يتكهن، ثم طلب خلاف أهل الجاهلية، فصار على دين المسيح عليه السّلام، فذكر أبو اليقظان أن الناس سمعوا في زمانه مناديا ينادي في الليل، و ذلك قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: خير أهل الأرض رباب الشّنّيّ، و بحيرا الراهب، و آخر لم يأت بعد. قال: و كان لا يموت أحد من ولد الرّباب إلا رأوا على قبره طشا(1). و من ولده مخربة، و هو أحد أجواد العرب، و إنما سمي مخربة لأن السلاح خربه، لكثرة لبسه إياه؛ و قد أدرك النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فأسلم، /فأرسله إلى ابن الجلندى العمانيّ. و ابنه المثنّى بن مخربة أحد وجوه أصحاب المختار، و كان قد وجهه إلى البصرة ليأخذها، فحاربه عبّاد بن الحصين فهزمه، و كان ابنه بلج بن المثنّى جوادا، و فيه يقول بعض شعراء عبد القيس:
ألا يا بلج بلج بني المثنّى *** و أنت لكل مكرمة كفاء
ألومك طائعا ما دمت حيّا *** عليّ إذن من اللّه العفاء(2)
كفى قوما مكارم ضيّعوها *** و أحسن حين أبصرهم أساءوا
قال: فأما وعلة بن عبد اللّه الجرميّ، فإنه لحقه رجل من بني سعد، فعقر به، فنزل؛ و جعل يحضر على رجليه، فلحق رجلا من بني نهد يقال له سليط بن قتب، من بني رفاعة، فقال له لما لحقه: أردفني، فأبى، فطرحه، عن فرسه، و ركب عليها، و أدركت الخيل النهديّ فقتلوه، فقال وعلة في ذلك:
/و لما سمعت الخيل تدعو مقاعسا *** علمت بأن اليوم أغبر فاجر
نجوت نجاء ليس فيه و وتيرة(3)*** كأني عقاب دون تيمن(4) كاسر
خداريّة صقعاء لبّد ريشها *** بطخفة يوم ذو أهاضيب ماطر(5)
و قد قلت للنهديّ: هل أنت مردفي *** و كيف رداف الفلّ أمك عاثر(6)
فإن أستطع لا تبتئس بي مقاعس *** و لا يرني باديهم و الحواضر
فدى لكما رجليّ أمي و خالتي *** غداة الكلاب إذ تحز الحناجر
فمن كان يرجو في تميم هوادة *** فليست لجرم في تميم أواصر
و قالت نائحة عمرو بن الجعيد:
أشاب قذال الرأس مصرع سيّد *** و فارس هبّود أشاب النواصيا
ص: 492
و قال محرز بن مكعبر الضّبّيّ:
فدى لقومي ما جمّعت من نشب(1) *** إذ ساقت الحرب أقواما لأقوام
قد حدّثت مذحج عنا و قد كذبت *** أن لا يورّع(2) عن نسواننا حام
دارت رحاهم قليلا ثم واجههم *** ضرب يصبّح منهم(3) مسكن الهام
ساروا إلينا و هم صيد(4) رءوسهم *** فقد جعلنا لهم يوما كأيام
/ظلّت ضباع مجيرات يعدنهم(5) *** و ألحموهن منهم أيّ إلحام
ظلت تدوس(6) بني كعب بكلكلها *** و هم يوم بني نهد بإظلام
و قال أوس بن مغراء:
و في يوم الكلاب إذ اعترتنا(7) *** قبائل أقبلوا متناسبينا
قبائل مذحج اجتمعت و جرم *** و همدان و كندة أجمعينا
و حمير ثم ساروا في لهام *** على جرد جميعا قادرينا
فلما أن أتونا لم نكذّب *** و لم نسألهم أن يمهلونا
/قتلنا منهم قتلى و ولى *** شريدهم شعاعا(8) هاربينا
و فاظت(9) منهم فينا أسارى *** لدينا منهم متخشّعينا
و قال ذو الرّمّة غيلان بن عقبة في ذلك(10):
و عمّي الذي قاد الرّباب جماعة *** و سعدهم الرأس الرئيس المؤمّر
عشية أعطتنا أزمّة أمرها *** ضرار بنو القرم الأغرّ و منقر
و عبد يغوث تحجل الطير حوله *** قد احتزّ عرشيه الحسام المذكّر
العرشان: عرقان في العنق:
عشيّة فرّ الحارثيون بعد ما *** قضى نحبه في معرك الخيل هوبر
ص: 493
و قال أخو جرم ألا لا هوادة *** و لا وزر إلا النجاء المشمر
/أبى اللّه إلاّ أننا آل خندف *** بنا يسمع الصوت الأنام و يبصر
إذا ما تمضّرنا فلا ناس(1) غيرنا *** و نضعف أحيانا و لا نتمضّر
و قال أيضا(2):
فما شهدت خيل امرئ القيس غارة *** بثهلان تحمي عن ثغور الحقائق
أثرنا به نقع الكلاب و أنتم *** تثيرون نقع الملتقى بالمعازق
أدرنا على جرم و أفناء مذحج *** رحى الموت فوق العاملات الخوافق
صدمناهم دون الأمانيّ صدمة *** عماسا بأطواد طوال شواهق
إذا نطحت شهباء شهباء بينها *** شعاع القنا و المشرفيّ البوارق
و قال البراء بن قيس الكنديّ:
قتلتنا تميم يوما جديدا(3) *** قتل عاد و ذاك يوم الكلاب
يوم جئنا يسوقنا الحين سوقا *** نحو قوم كأنهم أسد غاب
سرت في الأزد و المذاحج طرّا *** بين صلّ و كاشر الأنياب(4)
و بني كندة الملوك و لخم *** و جذام و حمير الأرباب
و مراد و خثعم و زبيد *** و بني الحارث الطوال الرّغاب
و حشدنا الصميم نرجو نهابا *** فلقينا البوار دون النّهاب
لقيتنا أسود سعد و سعد *** خلقت في الحروب سوط عذاب
تركوني مسهّدا في وثاق *** أرقب النجم ما أسيغ شرابي
خائفا للردى و لو لا دفاعي *** بمئين عن مهجتي كالضباب
/لسقيت الرّدى و كنت كقومي *** في ضريح مغيّبا في التراب
تذرف الدمع بالعويل نسائي *** كنساء بكت قتيل الرّباب
فلعيني على الألى فارقوني *** درر(5) من دموعها بانسكاب
كيف أبغي الحياة بعد رجال *** قتلوا كالأسود قتل الكلاب
منهم الحارثيّ عبد يغوث *** و يزيد الفتيان و ابن شهاب
ص: 494
/في مئين نعدّها و مئين *** بعد ألف منوا بقوم غضاب
برجال من العرانين شمّ *** أشد حرب ممحوضة الأنساب
و قال وعلة بن عبد اللّه الجرميّ:
عذلتني نهد فقلت لنهد *** حين حاست(1) على الكلاب أخاها
يوم كنا عليهم طير ماء *** و تميم صقورها و بزاها
لا تلوموا على الفرار فسعد *** يا لنهد يخافها من يراها
إنما همّها الطّعان إذا ما *** كره الطعن و الضراب سواها
تركوا مذحجا حديثا مشاعا *** مثل طسم و حمير و صداها
يا لقحطان و ادعوا حيّ سعد *** و ابتغوا سلمها و فضل نداها
إن سعد السعود أسد غياض *** باسل بأسها شديد قواها
فضحت بالكلاب حار(2) بن كعب *** و بنو كندة الملوك أباها
أسلموا للمنون عبد يغوث *** و لعضّ الكبول حولا يراها
بعد ألف سقوا المنيّة صرفا *** فأصابت في ذاك سعد مناها
ليت نهدا و جرمها و مرادا *** و المذاحيج ذو أناة نهاها
/عن تميم فلم تكن فقع قاع(3) *** تبتدرها ربابها و مناها
قل لبكر العراق تستر عمرا *** عمرو قيس فرأي عمرو قراها
عن تميم و لو غزتها لكانت *** مثل قحطان مستباحا حماها
أشكو إليك(1) أبا الخطّاب جارية *** غريرة بفؤادي اليوم قد لعبت
و أنت قيّمها فانظر لعاشقها *** يا ليت(2) قد قرّبت مني و ما بعدت
عروضه من البسيط. الشعر و الغناء لإبراهيم الموصليّ رمل بالبنصر، عن الهشاميّ و علي بن يحيى. و ذكر محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر أن فيه هزجا بالبنصر لإبراهيم بن المهديّ. و ذكر عمرو بن بانة أنه لإبراهيم الموصليّ أيضا.
و أبو الخطاب الذي عناه إبراهيم الموصلي في شعره هذا: رجل نخّاس يعرف بقرين، مولى العباسة بنت المهديّ، و كان إبراهيم يهوى جارية له، يقال لها خنث(3)، و كانت من أجمل النساء و أكملهن، و كان لها خال فوق شفتها العليا، و كانت تعرف بذات الخال، و لإبراهيم و لغيره فيها أشعار كثيرة. نذكر منها كل ما كان فيه غناء بعد خبرها إن شاء اللّه.
ص: 496
أخبرني بخبرها الحسين بن يحيى قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي:
أن جدي كان يتعشق جارية لقرين، المكنّى بأبي الخطّاب النخّاس، و كان يقول فيها الشعر/و يغنّي فيه، فشهرها بشعره و غنائه، و بلغ الرشيد خبرها، فاشتراها بسبعين ألف درهم. فقال لها ذات يوم: أسألك عن شيء، فإن صدقتني و إلا صدقني غيرك و كذّبتك. قالت له: بل أصدقك. قال: هل كان بينك و بين إبراهيم الموصليّ شيء قطّ، و أنا أحلفه أن يصدقني. قال: فتلكأت ساعة، ثم قالت: نعم، مرة واحدة. فأبغضها و قال يوما في مجلسه: أيكم لا يبالي أن يكون كشخانا(1)، حتى أهب له ذات الخال. فبدر حموية الوصيف، فقال: أنا. فوهبها له، و فيها يقول إبراهيم:
أ تحسب ذات الخال راجية ربّا *** و قد فتنت(2) قلبا يهيم بها حبّا
و ما عذرها نفسي فداها و لم تدع *** على أعظمي لحما و لم تبق لي لبّا
الشعر و الغناء لإبراهيم، خفيف(3) رمل بالسّبابة في مجرى الوسطى.
و ذكر أحمد بن أبي طاهر:
أن الرشيد اشتراها بسبعين ألف درهم، و ذكر قصة حموية كما ذكرها حماد، و قال في خبره: فاشتاقها الرشيد يوما بعد ما وهبها لحمّويه، فقال له: ويلك يا حموية، وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، مر فيها بأمرك. قال: نحن عندك غدا. فمضى فاستعد لذلك، و استأجر لها من بعض الجوهريّين بدنة(4) و عقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار. فأخرجها إلى الرشيد و هو عليها، فلما رآها(5)/أنكره. و قال: ويلك يا حموية! و من أين لك هذا و ما وليتك عملا تكسب فيه مثله، و لا وصل إليك مني هذا القدر! فصدقه عن أمره، فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر فأحضرهم، و اشترى الجوهر منهم، و وهبه لها، ثم حلف أ لا تسأله يومه ذلك شيئا إلا أعطاها، و لا حاجة إلا قضاها، فسألته أن يولّي حموية الحرب و الخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك، و كتب له عهده به، و شرط على ولي العهد بعده أن يتمها له إن لم تتمّ في حياته.
ص: 497
حدثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال: حدثني محمد بن عبد اللّه العاصميّ قال: حدثني أحمد بن عبد اللّه طمّاس، عن عبد اللّه و إبراهيم ابني العباس الصّولي قالا:
كانت للرشيد جارية تعرف بذات الخال، فدعته يوما، فوعدها أن يصير إليها، و خرج يريدها، فاعترضته جارية، فسألته أن يدخل إليها، فدخل و أقام عندها، فشقّ ذلك على ذات الخال، و قالت: و اللّه لأطلبنّ له شيئا أغيظه به، و كانت أحسن الناس وجها، و لها خال على خدها لم ير الناس أحسن منه في موضعه، فدعت بمقراض، فقصت الخال الذي كان في خدها، و بلغ ذلك الرشيد، فشق عليه، و بلغ منه، فخرج من موضعه، و قال للفضل بن الربيع:
انظر من بالباب من الشعراء، فقال: الساعة رأيت العباس بن الأحنف. فقال: أدخله. فأدخله، فعرّفه الرشيد القصّة(1) و قال: اعمل في هذا شيئا، على معنى رسمه له، فقال:
تخلّصت ممن لم يكن ذا حفيظة *** و ملت إلى من لا يغيّره حال
فإن كان قطع الخال لما تطلعت *** إلى(2) غيرها نفسي فقد ظلم الخال
/غناه إبراهيم. فنهض الرشيد إلى ذات الخال مسرعا مسترضيا لها، و جعل هذين البيتين سببا، و أمر للعباس بألفي دينار، و أمر إبراهيم الموصليّ فغناه في هذا الشعر.
أخبرني محمد/بن يحيى الصوليّ قال: حدثني محمد بن الفضل قال:
كان محمد بن موسى المنجّم يعجبه التقسيم في الشعر، و يشغف بجيد الأشعار، فكان مما يعجبه قول نصيب:
أبا بعل ليلى كيف تجمع سلمها *** و حربي و فيما بيننا شبّت الحرب
لها مثل ذنبي اليوم إن كنت مذنبا *** و لا ذنب لي إن كان ليس لها ذنب
عروضه من الطويل. و الشعر لنصيب، و يروى للمجنون، و يروى لكعب بن مالك الخثعميّ. و الغناء لمالك، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.
قال: و كان محمد بن موسى ينشد كثيرا للعباس بن الأحنف:
ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى *** عشير الذي ألقى فيلتئم الشّعب
إذا رضيت لم يهنني ذلك الرضا *** لعلمي به أن سوف يتبعه العتب
ص: 498
و أبكي إذا ما أذنبت خوف صدّها *** و أسألها مرضاتها و لها الذنب
وصالكم صرم و حبّكم قلى *** و عطفكم صدّ و سلمكم حرب
و يقول: ما أحسن ما قسّم، حتى جعل بإزاء كل شيء ضدّه، و اللّه إن هذا لأحسن من تقسيمات إقليدس.
الغناء في هذه الأبيات الأربعة لإبراهيم الموصليّ، ثاني ثقيل بالوسطى، عن الهشاميّ.
و كانت ذات الخال إحدى الثلاث الجواري اللواتي كان الرشيد يهواهن، و يقول الشعر فيهن، و هن سحر، و ضياء، و خنث؛ و فيهن يقول الرشيد:
إن سحرا و ضياء و خنث *** هنّ سحر و ضياء و خنث(1)
أخذت سحر و لا ذنب لها *** ثلثي قلبي و ترباها الثّلث
حدّثني محمد بن يحيى الصوليّ قال: حدثنا أحمد بن محمد الأسديّ قال: حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن عليّ بن سويد بن منجوف السّدوسيّ قال: حدّثني محمد بن إسماعيل بن صبيح قال:
وجه الرشيد إلى جاريته سحر لتصير إليه؛ فاعتلت عليه ذلك اليوم بعلّة، ثم جاءته من الغد، فقال الرشيد:
أيا من ردّ ودّي أم *** س لا أعطيكه اليوما
و لا و اللّه لا أعطي *** ك إلا الصدّ و اللّوما
و إن كان بقلبي من *** ك حبّ يمنع النّوما(2)
أيا من سمته الوصل *** فأغلى المهر و السّوما
قال: و فيهن يقول، و قد قيل إن العباس بن الأحنف قالها على لسانه:
ملك الثّلاث الآنسات عناني *** و حللن من قلبي بكلّ مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها *** و أطيعهن و هنّ في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى *** و به عززن(3) أعزّ من سلطاني
غنته عريب خفيف ثقيل الأول بالوسطى.
و روى أحمد بن أبي طاهر عن إسحاق قال:
ص: 499
/وجه الرشيد إلى ذات الخال ليلة و قد مضى شطر الليل، فحضرت، فأخرج إليّ جارية كأنها المهاة، فأجلسها في حجره، ثم قال: غنني، فغنّته:
جئن من الروم و قاليقلا *** يرفلن في المرط و لين الملا
مقرطقات(1) بصنوف الحلى *** يا حبّذا البيض و تلك الحلى
فاستحسنه و شرب عليه، ثم استؤذن للفضل بن الربيع، فأذن له، فلما دخل قال: ما وراءك في هذا الوقت؟ قال:
كل خير يا أمير المؤمنين، و لكن حرى الساعة لي سبب لم يجز لي كتمانه أمير المؤمنين. قال: و ما ذاك؟ قال:
أخرج إليّ في هذا الوقت ثلاث جوار لي: مكية، و مدينية(2)، و عراقية. فقبضت المدينية على ذكري، فلما أنعظت وثبت المكية فقعدت عليه، فقالت لها المدينية: ما هذا التعدي؟ أ لم تعلمي أن مالكا حدثنا عن الزهريّ عن عبد اللّه بن ظالم، عن سعيد بن زيد: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من أحيا أرضا ميّتة فهي له»؟ فقالت الأخرى: أ و لم تعلمي أن سفيان حدّثنا، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «الصيد لمن صاده لا لمن أثاره».
فدفعتهما العراقية عنه، و وثبت عليه، و قالت: هدا لي، و في يدي حتى تصطلحا. فضحك الرشيد، و أمره بحملهن إليه، ففعل، و حظين عنده، و فيهن يقول:
ملك الثلاث الآنسات عناني *** و حللن من قلبي بكل مكان
حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا الغلابيّ قال: حدثني مهديّ بن سابق قال:
حججنا مع الرشيد آخر حجّة، فكان الناس يتناشدون له في جواريه:
/ثلاث قد حللن حمى فؤادي *** و يعطين الرغائب من ودادي(3)
نظمت قلوبهن بخيط قلبي *** فهنّ قرابتي حتى التنادي
فمن يك حلّ من قلب محلاّ *** فهن مع النواظر(4) و السّواد
و مما قاله إبراهيم و غيره في ذات الخال و غنّى فيه:
أ ذات الخال أقصيت *** محبّا بكم صبّا
فلا أنسى حياتي ما *** عبدت الدهر لي ربّا
و قد قلت أنيليني *** فقالت أفرق الذّنبا
ص: 500
الشعر و الغناء لإبراهيم، هزج بالوسطى عن عمرو. و منها:
أ ذات(1) الخال قد طال *** بمن أسقمته الوجع
و ليس إلى سواكم في ال *** - لذي يلقى له فزع
أ ما يمنعك الإسلا *** م من قتلي و لا الورع
و ما ينفكّ لي فيك *** هوى تغترّه خدع
الشعر و الغناء لإبراهيم، هزج بالوسطى، عن عمرو. و منها:
ثعلب يا هذا الكثير العبث *** باللّه لمّا قلت لي عن خنث
عن ظبية تميس في مشيتها *** أحسن من أبصرته في شعث
/فقال: قالت قل له أنت امرؤ *** موكّل فيما ترى بالعبث
و اللّه لو لا خصلة أرقبها *** لقلّ في الدنيا لما بي لبثي
الشعر لإبراهيم، و له فيه لحنان: أحدهما ثقيل الأوّل، عن أبي العنبس. و الآخر هزج بالبنصر عن عمرو. و فيه لعريب ثقيل أول آخر. و ذكر حبش أن فيه لابن جامع هزجا آخر بالوسطى.
و ذكر هارون بن الزيات أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه:
أن ثعلبا هذا، كان مملوكا لإبراهيم، فقال هذه الأبيات في خنث جارية جزء بن مغول الموصليّ، و كانت مغنية محسنه، و خاطب ثعلبا فيها مستخبرا له.
و ذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه:
أنه قال في خنث جارية جزء بن مغول الموصلي، و خاطب في شعره غلاما يقال له ثعلب، و كانت خنث مغنية محسنة، و كانت تعرف بذات الخال.
ثعلب يا هذا الكثير الخبث *** باللّه إلا قلت لي عن خنث
و ذكر الأبيات.
قال: و قال له أيضا:
أبد لذات الخال يا ثعلب *** قول امرئ في الحبّ لا يكذب
ص: 501
إني أقول الحق(1) فاستيقني *** كل امرئ في حبّه يلعب
الشعر و الغناء لإبراهيم، له فيه لحنان: رمل و خفيف ثقيل، عن ابن المكيّ. و منها:
جزى اللّه خيرا من كلفت بحبه *** و ليس به إلا المموه من حبّي
و قالوا: قلوب العاشقين رقيقة *** فما بال ذات الخال قاسية القلب؟
و قالوا لها هذا محبك معرضا *** فقالت: أرى(2) إعراضه أيسر الخطب
فما هو إلا نظرة بتبسم *** فتنشب رجلاه و يسقط للجنب
و منها:
إن لم يكن حب ذات الخال عنّاني *** إذن فحوّلت في مسك(3) ابن زيدان(4)
فإنّ هذي يمين ما حلفت بها *** إلا على الحق في سري و إعلاني
الشعر و الغناء لإبراهيم، هزج بالبنصر.
و منها:
لقد أخلو بذات الخا *** ل و الحراس قد هجعوا
فمن يبصر أبا الخطّا *** ب يطلبها و يتّبع(5)
ألا لم تر محزونا *** تسنّم صبره الجزع
و قارعني ففزت بها *** و حازتها لي القرع
غناه إبراهيم، من رواية بذل عنه، و لم تذكر طريقته.
قال عليّ بن محمد الهشاميّ: حدّثني جدي، يعني ابن حمدون، قال: حدّثني مخارق قال:
كنت عند إبراهيم الموصليّ و معي ابن زيدان صاحب البرامكة، و إبراهيم يلاعبه بالشّطرنج، فدخل علينا
ص: 502
إسحاق، فقال له أبوه: ما أفدت اليوم؟ فقال: أعظم فائدة. سألني رجل ما أفخم كلمة في الفم؟ فقلت: لا إله إلا اللّه. فقال له أبوه إبراهيم: أخطأت. هلا قلت: دنيا و دينا(1). فأخذ ابن زيدان الشاه، فضرب به رأس إبراهيم، و قال له: يا زنديق، أ تكفر بحضرتي؟ فأمر إبراهيم غلمانه فضربوا ابن زيدان ضربا شديدا، فانصرف من ساعته إلى جعفر بن يحيى، فحدّثه بخبره. قال: و علم إبراهيم أنه قد أخطأ و جنى، فركب إلى الفضل بن يحيى، فاستجار به، فاستوهبه الفضل من جعفر، فوهبه له، فانصرف و هو يقول:
إن لم يكن حب ذات الخال عنّاني *** إذا فحوّلت في مسك ابن زيدان
فإن هذي يمين ما حلفت بها *** إلا على الصدق في سري و إعلاني
قال: و له في هذين البيتين صنعة، و هي هزج.
منها:
من يرحم محزونا(2) *** بذات الخال مفتونا
أبى فيها فما يسلو *** و كل الناس يسلونا
/فقد أودى به السّقم *** و قد أصبح مجنونا
فإن دام على هذا *** ثوى في اللحد مدفونا
الشعر و الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل، عن الهشاميّ.
و منها:
لذات الخال أرّقني *** خيال بات يلثمني
بكى و جرى له دمع *** لما بالقلب من حزن
فلا أنساه أو أنسى *** إذا أدرجت في كفني
الشعر و الغناء لإبراهيم، خفيف رمل بالوسطى، عن الهشاميّ.
و منها:
ص: 503
هل علمت اليوم يا عا *** صم يا خير خدين
أنّ ذات الخال تأتي *** ني على رغم قرين
لا تلمني إنّ ذات ال *** خال دنياي و ديني
و إلى حفص خليلي *** و وزيري و أميني
بحت لا أكتمه شي *** ئا من الداء(1) الدفين
إنّ بي من حب ذات ال *** خال شيئا كالجنون
/فيه لإبراهيم هزج بالوسطى، عن ابن المكيّ.
و منها:
تقول ذات الخال *** لي: يا خليّ البال
فقلت: حاشاك من أن *** يكون حالك حالي
أعرضت عنّي لمّا *** أوقعتني في الحبال
إن الخليّ هو الغا *** فل الذي لا يبالي
لإبراهيم من كتابه عن حبش فيه لحن. و ذكر ابن المكيّ أنه رمل.
و منها:
أ ما تعلم ذات الخا *** ل فوق الشفة العليا
بأني لست أهوى غي *** - رها شيئا من الدنيا
و أني عن جميع الن *** اس إلا عنهم أعمى
و أني لو سقيت الدّه *** - ر من ريقك لا أروى
الشعر و الغناء لإبراهيم، رمل بالوسطى، عن عمرو و ابن المكيّ و غيرهما. و قد روى «أ ما تعلم يا ذا الخال»، و هذا هو الصحيح.
و منها:
يا ليت شعري كيف ذات الخال *** أم أين تحسب حالها من حالي
ص: 504
هل أنسين منها و ضمّت مرة *** رأسي إليها ثم قالت: مالي
أ لزلّة أقصيتني نفسي الفدا *** لك(1) أم أطعت مقالة العذال
و اللّه ما استحسنت شيئا مونقا *** ألتذّه إلاّ خطرت ببالي
/الشعر و الغناء لإبراهيم، و له فيه لحنان: هزج بالأصابع كلها، عن ابن المكيّ، و ثقيل أول بالوسطى، عن حبش.
و منها:
يا ليت شعري و النساء غوادر *** خلف العدات وفاؤهن قليل
هل وصل ذات الخال يوما عائد *** فتزول لوعاتي و حرّ غليلي(2)
أم قد تناست عهدنا و أحالها *** عن ذاك ملك حال دون خليل
الشعر و الغناء لإبراهيم من كتابه، ثقيل أوّل بالبنصر، عن إسحاق بن إبراهيم، و ابن المكيّ و الهشاميّ.
انقضت أخبارها.
إن من غرّه النساء بشيء *** بعد هند لجاهل مغرور
حلوة القول و اللسان و مرّ *** كل شيء أجنّ منها الضمير
كل أنثى و إن بدا لك منها *** آية الحبّ حبّها خيتعور(3)
الشعر لحجر بن عمرو آكل المرار. و الغناء لحنين، ثاني ثقيل بالبنصر، عن الهشاميّ. و فيه لنبيه ثقيل أوّل بالوسطى، عن حبش. و فيه رمل له(4).
ص: 505
هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع(1)، و اسمه عمرو بن ثور، و قيل: ابن معاوية بن ثور، و هو كندة بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان(2).
أخبرني بخبره محمد بن الحسن بن دريد إجازة، قال: حدّثني عمي، عن ابن الكلبيّ، عن أبيه، عن الشّرقي بن القطاميّ قال:
أقبل تبّع أيام سار إلى العراق، فنزل بأرض معدّ، فاستعمل عليهم حجر بن عمرو، و هو آكل المرار، فلم يزل ملكا حتى خرف، و له من الولد عمرو و معاوية و هو الجون. ثم إن زياد بن الهبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم بن حماطة بن سعد بن سليح القضاعيّ، أغار عليه و هو ملك في ربيعة بن نزار، و منزله بغمر ذي كندة، و كان قد غزا بربيعة البحرين. فبلغ زيادا غزاته، فأقبل حتى أغار في مملكة حجر، فأخذ مالا كثيرا، و سبى امرأة حجر، و هي هند ابنة ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية، و أخذ نسوة من نساء بكر بن وائل.
فلما بلغ حجرا و بكر بن وائل مغاره و ما أخذ أقبلوا معه، و معه يومئذ أشراف بكر بن وائل، منهم عوف بن محلّم بن ذهل بن شيبان، و صليع بن عبد غنم بن ذهل بن شيبان، و سدوس بن شيبان بن ذهل، و ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، و عامر/بن مالك بن تيم اللّه بن ثعلبة. فتعجل عمرو بن معاوية و عوف بن محلّم، قالا لحجر: إنا متعجّلان إلى الرجل، لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا. فلقياه دون عين أباغ، فكلمه عوف بن محلم، و قال: يا خير الفتيان، اردد عليّ ما أخذته مني. فأعطاه إياه. و كلمة عمرو بن معاوية في فحل إبله، فقال: خذه، فأخذه عمرو؛ و كان قويا. فجعل الفحل ينزع إلى الإبل، فاعتقله عمرو، فصرعه. فقال له ابن الهبولة: أما و اللّه يا بني شيبان، لو كنتم تعتقلون الرجال كما تعتقلون الإبل لكنتم أنتم أنتم. فقال عمرو: أما و اللّه لقد وهبت قليلا، و شتمت جليلا.
و لقد جررت على نفسك شرا، و لتجدني عند ما ساءك. ثم ركض حتى صار إلى حجر، فأخبره الخبر.
فأقبل حجر في أصحابه، حتى إذا كان بمكان يقال له «الحفير» بالبرّ، و هو دون عين أباغ، بعث سدوسا و صليعا يتجسسان له الخبر، و يعلمان له علم العسكر. فخرجا حتى هجما على عسكره، و قد أوقد نارا، و نادى مناد له: من جاء بحزمة من حطب فله فدرة(3) من تمر. و كان ابن الهبولة قد أصاب في عسكر حجر تمرا كثيرا، فضرب قبابه، و أجّج ناره، و نثر التمر بين يديه، فمن جاء بحطب أعطاه تمرا. فاحتطب سدوس و صليع(4)، ثم أتيا به ابن
ص: 506
الهبولة، فطرحاه بين يديه، فناولهما من التمر، و جلسا قريبا من القبة. فأما صليع(1) فقال: هذه آية و علم(2) ما يريد، فانصرف إلى حجر، فأعلمه بعسكره، و أراه التمر. و أما سدوس فقال: لا أبرح حتى آتيه بأمر جليّ. فلما ذهب هزيع من الليل أقبل ناس من أصحابه يحرسونه، و قد تفرّق أهل العسكر في كل ناحية، فضرب سدوس بيده إلى جليس له، فقال له: من أنت؟ مخافة أن يستنكر. /فقال: أنا فلان ابن فلان. قال: نعم. و دنا سدوس من القبة، فكان حيث يسمع الكلام، فدنا ابن الهبولة من هند امرأة حجر، فقبّلها و داعبها، ثم قال لها فيما يقول: ما ظنك الآن/بحجر لو علم بمكاني منك؟ قالت: ظني به و اللّه أنه لن يدع طلبك حتى يطالع القصور الحمر، و كأني انظر إليه في فوارس من بني شيبان يذمّرهم و يدمّرونه، و هو شديد الكلب، سريع الطلب، يزبد شدقاه كأنه بعير آكل مرار. فسمّى حجر آكل المرار يومئذ. قال: فرفع يده فلطمها. ثم قال: ما قلت هذا إلا من عجبك به، و حبك له.
فقالت: و اللّه ما أبغضت ذا نسمة قطّ بغضي له، و لا رأيت رجلا قطّ أحزم منه نائما و مستيقظا، إن كان لتنام عيناه و بعض أعضائه حيّ لا ينام، و كان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسّا مملوءا لبنا، فبينا هو ذات ليلة نائم و أنا قريبة منه انظر إليه، إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه، فنحى رأسه، فمال إلى يديه، و إحداهما مقبوضة، و الأخرى مبسوطة، فأهوى إليها فقبضها، فمال إلى رجليه و قد قبض واحدة، و بسط الأخرى، فأهوى إليها، فقبضها، فمال إلى العسّ: شربه ثم مجه، فقلت: يستيقظ فيشرب فيموت، فأستريح منه. فانتبه من نومه، فقال: عليّ بالإناء، فناولته، فشمه فاضطربت يداه، حتى سقط الإناء فأهريق. و ذلك كله بأذن سدوس. فلما نامت الأحراس خرج يسري ليلته، حتى صبّح حجرا. فقال:
أتاك المرجفون برجم غيب *** على دهش و جئتك باليقين
فمن يك قد أتاك بأمر لبس *** فقد آتي بأمر مستبين
ثم قصّ عليه جميع ما سمع.
فأسف و نادى في الناس: الرحيل. فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهبولة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب ابن الهبولة، و عرفه سدوس، فحمل عليه، /فاعتنقه و صرعه فقتله. و بصر به عمرو بن معاوية، فشدّ عليه، فأخذ رأسه منه، و أخذ سدوس سلبه، و أخذ حجر هندا فربطها بين فرسين، ثم ركضا بها حتى قطّعاها قطعا.
هذه رواية ابن الكلبيّ.
و أما أبو عبيدة فإنه ذكر أن ابن الهبولة لما غنم عسكر حجر، غنم مع ذلك زوجته هند بنت ظالم، و أم أناس بنت عوف بن محلّم الشيباني، و هي أم الحارث بن حجر و هند بنت حجر، و لابنها الحارث ابن يقال له عمرو، و له يقول بشر بن أبي خازم:
فإلى ابن أم أناس أعمل ناقتي *** عمرو فتنجح حاجتي أم ترجف
ملك إذا نزل الوفود ببابه *** غرفوا غوارب مزبد ما ينزف
قال: و بنتها هند هي التي تزوّجها المنذر بن ماء السماء اللخميّ. قال: و كان ابن الهبولة بعد أن غنم يسوق ما معه من السبايا و النّعم، و يتصيد في المسير، و لا يمرّ بواد إلا أقام به يوما أو يومين، حتى أتى على ضريّة، فوجدها
ص: 507
معشبة، فأعجبته، فأقام بها أياما. و قالت له أم أناس: إني لأرى ذات ودك(1)، و سوء درك، كأني قد نظرت إلى رجل أسود أدلم، كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبته، فسمى حجر آكل المرار بذلك. و ذكر باقي القصة نحو ما مضى.
و قال في خبر ابن الهبولة: إن سدوسا أسره، و إن عمرو بن معاوية لما رآه معه حسده، فطعنه فقتله: فغضب سدوس لذلك، و قال: قتلت أسيري وديته دية/الملوك. و تحاكما إلى حجر، فحكم لسدوس على عمرو و قومه بدية ملك؛ و أعانهم في ذلك بماله. و قال سدوس/في ذلك يعاتب بني شيبان:
ما بعدكم عيش و لا معكم *** عيش لذي أنف و لا حسب
لو لا بنو ذهل و جمع بني *** قيس و ما جمّعت من نشب
ما سمتموني خطّة غبنا *** و على ضريّة رمتم غلبي
قال: و قد روي أن حجرا ليس بآكل المرار، و إنما أبوه الحارث آكل المرار. و روي أيضا أنه إنما سمي آكل المرار لأن سدوسا لما أتاه بخبر ابن الهبولة و مداعبته لهند، و أن رأسه كان في حجرها، و حدّثه بقولها و قوله، فجعل يسمع ذلك و هو يعبث بالمرار، و هو نبت شديد المرارة، و كان جالسا في موضع فيه منه شيء كثير، فجعل يأكل من ذلك المرار غضبا و هو يسمع من سدوس و لا يعلم أنه يأكله من شدّة الغضب، حتى انتهى سدوس إلى آخر الحديث، فعلم حينئذ بذلك، و وجد طعمه، فسمي يومئذ آكل المرار.
قال ابن الكلبي: و قال حجر في هند:
لمن النار أوقدت بحفير *** لم تنم عند مصطل مقرور(2)
أوقدتها إحدى الهنود و قالت *** أنت ذا موثق وثاق الأسير
إنّ من غرّه النساء بشيء *** بعد هند لجاهل مغرور
و بعده باقي الأبيات المذكورة متقدّما و فيها الغناء.
طرب الفؤاد و عاودت أحزانه *** و تفرّقت فرقا به أشجانه
و بدا له من بعد ما اندمل الهوى *** برق تألق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرداء و دونه *** صعب الذّرى متمنّع أركانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه *** و الماء ما جادت به أجفانه
الشعر لمحمد بن صالح العلويّ. و الغناء لرذاذ، و يقال إنه لبنان. خفيف ثقيل. و فيه ثقيل أوّل. يقال إنه لأبي العنبس، و يقال إنه للقاسم بن زرزور. و فيه لعمرو الميداني رمل طنبوريّ؛ و هو لحن مشهور.
ص: 508
هو محمد بن صالح بن عبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب. و يكنى أبا عبد اللّه، شاعر حجازيّ ظريف، صالح الشعر، من شعراء أهل بيته المتقدّمين. و كان جدّه موسى بن عبد اللّه أخا محمد و إبراهيم ابني عبد اللّه بن حسن بن حسن الحجازيين الخارجين في أيام المنصور، أمهم جميعا هند بنت أبي عبيدة.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء الطوسيّ قالا: حدّثنا الزّبير بن بكار، و أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمدانيّ قال: حدّثنا يحيى بن الحسن العلويّ. قال: حدّثني الزبير بن بكار:
أن هندا حملت بموسى بن عبد اللّه و لها ستون سنة. قال: و لا تحمل لستين إلا قرشية، و لا تحمل لخمسين إلا عربية. قال: و كان موسى آدم شديد الأدمة، و له تقول أمه هند:
/إنك أن تكون جونا أنزعا *** أجدر أن تضرّهم و تنفعا
و تسلك العيش طريقا مهيعا *** فردا من الأصحاب أو مشيّعا
و كان موسى استتر بعد قتل أخويه زمانا، ثم ظفر به أبو جعفر، فضربه بالسوط، و حبسه مدّة، ثم عفا عنه و أطلقه.
و له أخبار كثيرة ليس هذا موضعها.
و كان محمد بن صالح خرج على المتوكل مع من بيّض في تلك السنة، فظفر به و بجماعة من أهل بيته أبو الساج، فأخذهم و قيّدهم، و قتل بعضهم، و أخرب سويقة، /و هي منزل للحسنيّين، و من جملة صدقات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، و قعر بها نخلا كثيرا، و حرّق منازل لهم بها، و أثر فيهم و فيها آثارا قبيحة، و حمل محمد بن صالح فيمن حمل منهم إلى سرّ من رأى، فحبس ثلاث سنين، ثم مدح المتوكل، فأنشده الفتح قصيدته بعد أن غنّي في شعره المذكور، فطرب، و سأل عن قائله فعرفه، و تلا ذلك إنشاد الفتح قصيدته، فأمر بإطلاقه.
و أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثني أحمد بن أبي خيثمة قال:
أنكر موسى بن عبد اللّه بن موسى على ابن أخيه محمد بن صالح بن عبد اللّه بن موسى، بعض ما ينكره العمومة على بني أخيهم، في شيء من أمور السلطان، و كان محمد بن صالح قد خرج بسويقة، فصار أبو الساج إلى سويقة، فأسلمه عمه موسى و بنوه بعد أن أعطاه أبو الساج الأمان، فطرح سلاحه، و نزل إليه فقيده، و حمله إلى سرّ
ص: 509
من رأى، فلم يزل محبوسا بها ثلاث سنين، ثم أطلق، و أقام بها إلى أن مات. و كان سبب موته أنه جدر، فمات في الجدريّ، و هو الذي يقول في الحبس:
طرب الفؤاد و عاودت أحزانه *** و تشعبت شعبا به أشجانه
و بدا له من بعد ما اندمل الهوى *** برق تألّق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرّداء و دونه *** صعب الذّرا متمنع أركانه
فدنا لينظر كيف لاح فلم يطق *** نظرا إليه و رده سجّانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه *** و الماء ما سحّت(1) به أجفانه
ثم استعاذ من القبيح و ردّه *** نحو العزاء عن الصّبا إيقانه
و بدا له أن الذي قد ناله *** ما كان قدّره له ديّانه
حتى اطمأن ضميره و كأنما *** هتك العلائق عامل و سنانه(2)
/يا قلب لا يذهب بحلمك باخل *** بالنّيل باذل تافه منّانه
يعد القضاء و ليس ينجز موعدا *** و يكون قبل قضائه ليّانه(3)
خدل الشّوى حسن القوام(4) مخصّر *** عذب لماه طيّب أردانه
و اقنع بما قسم الإله فأمره *** ما لا يزال على الفتى إتيانه
و البؤس ماض ما يدوم كما مضى *** عصر النعيم و زال عنك أوانه
أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال:
كنت مع أبي عبد اللّه محمد بن صالح في منزل بعض إخواننا، فأقمنا إلى أن انتصف الليل، و أنا أرى أنه يبيت، فإذا هو قد قام، /فتقلد سيفه، و خرج، فأشفقت عليه من خروجه في ذلك الوقت، و سألته المقام و المبيت، و أعلمته خوفي عليه، فالتفت إليّ مبتسما و قال:
إذا ما اشتملت السيف و الليل لم أهل *** لشيء و لم تقرع فؤادي القوارع
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال:
مرّ محمد بن صالح بقبر لبعض ولد المتوكل، فرأى الجواري يلطمن عنده، فأنشدني لنفسه:
رأيت بسامرّا صبيحة جمعة *** عيونا يروق الناظرين فتورها
ص: 510
تزور العظام الباليات لدى الثّرى *** تجاوز عن تلك العظام غفورها
فلولا قضاء اللّه أن تعمر الثرى *** إلى أن ينادى يوم ينفخ صورها
لقلت عساها أن تعيش و أنها *** ستنشر من جرّا عيون تزورها
/أسيلات مجرى الدمع إمّا تهلّلت *** شئون المآقي ثم سحّ مطيرها
بوبل كأتوام الجمان يفيضه *** على نحرها أنفاسها و زفيرها
فيا رحمة ما قد رحمت بواكيا *** ثقالا تواليها لطافا خصورها
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال:
جاءني محمد بن صالح الحسنيّ، فسألني أن أخطب عليه بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحرّيّ، أو أخته حمدونة. ففعلت ذلك، و صرت إلى عيسى، فسألته أن يجيبه، فأبى، و قال لي: لا أكذبك، و اللّه ما أرده لأني لا أعرف أشرف و أشهر منه لمن يصاهره، و لكني أخاف المتوكل و ولده بعده على نعمتي و نفسي، فرجعت إليه، فأخبرته بذلك، فأضرب عن ذلك مدّة، ثم عاودني بعد ذلك، و سألني معاودته، فعاودته و رفقت به، حتى أجاب، فزوّجه أخته، فأنشدني بعد ذلك محمد:
خطبت إلى عيسى بن موسى فردّني *** فللّه و إلى حرّة و عليقها
لقد ردني عيسى و يعلم أنني *** سليل بنات المصطفى و عريقها
و إن لنا بعد الولادة نبعة *** نبيّ الإله صنوها و شقيقها
فلما ابى بخلا بها و تمنّعا *** و صيّرني ذا خلّة لا يطيقها
تداركني المرء الذي لم يزل له *** من المكرمات رحبها و طليقها
سمي خليل اللّه و ابن وليه *** و حمّال أعباء العلا و طريقتها
و زوّجها و المنّ عندي لغيره *** فيا بيعة وفّتني الربح سوقها
و يا نعمة لابن المدبّر عندنا *** يجدّ على كر الزمان أنيقها
قال ابن مهرويه: قال لي إبراهيم بن المدبر:
فلما نقلت حمدونة إليه شغف بها، و كانت امرأة جميلة عاقلة، فأنشدني لنفسه فيها:
لعمر حمدونة إنّي بها *** لمغرم القلب طويل السّقام
مجاوز للقدر في حبّها *** مباين فيها لأهل الملام
/مطّرح للعذل ماض على *** مخافة النفس و هول المقام
مشايعي قلب يخاف الخنا *** و صارم يقطع صمّ العظام
ص: 511
جشّمني ذلك وجدي بها *** و فضلها بين النساء الوسام
ممكورة الساق ردينيّة *** مع الشّوى الخدل و حسن القوام
صامتة الحجل خفوق الحشا *** مائرة الساق ثقال القيام
ساجية الطّرف نئوم الضّحى *** منيرة الوجه كبرق الغمام
زينها اللّه و ما شانها *** و أعطيت منيتها من تمام
تلك التي لو لا غرامي بها *** كنت بسامرّا قليل المقام
هكذا روى ابن مهرويه عن ابن المدبّر، في خبر محمد بن صالح و تزويجه حمدونة.
و حدّثني عمي عن أبي جعفر بن الدّهقانة النديم قال: حدثني إبراهيم بن المدبّر قال:
جاءني يوما محمد بن صالح الحسني العلويّ بعد أن أطلق من الحبس، فقال لي: إني أريد المقام عندك اليوم على خلوة، لأبثك من أمري شيئا لا يصلح أن يسمعه غيرنا. فقلت: أفعل. فصرفت من كان بحضرتي، و خلوت معه، و أمرت برد دابّته، و أخذ ثيابه؛ فلما اطمأن و أكلنا و اضطجعنا، قال لي: أعلمك أني خرجت في سنة كذا و كذا و معي أصحابي على القافلة الفلانية، فقاتلنا من كان فيها، فهزمناهم و ملكنا القافلة، فبينا أنا أحوزها و أنيخ الجمال، إذ طلعت عليّ امرأة/من العماريّة(1)، ما رأيت قط أحسن منها وجها، و لا أحلى منطقا، فقالت: يا فتى، إن رأيت أن تدعو لي بالشريف المتولّي أمر هذا الجيش، فقلت: و قد رأيته و سمع كلامك. فقالت: سألتك بحق اللّه و حق رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم أنت هو؟ فقلت: نعم و حق اللّه و حق رسوله إني لهو. فقالت: أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحرّي، و لأبي محلّ من سلطانه، و لنا نعمة، إن كنت ممن سمع بها فقد كفاك ما سمعت، و إن كنت لم تسمع بها فسل عنها غيري، و و اللّه لا استأثرت عنك بشيء أملكه، و لك بذلك عهد اللّه و ميثاقه عليّ، و ما أسألك إلا أن تصونني و تسترني، و هذه ألف دينار معي لنفقتي، فخذها حلالا، و هذا حلي عليّ من خمس مائة دينار، فخذه و ضمّني ما شئت بعده، آخذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم، فليس منهم أحد يمنعني شيئا أطلبه، و ادفع عني، و احمني من أصحابك، و من عار يلحقني. فوقع قولها من قلبي موقعا عظيما؛ فقلت لها: قد وهب اللّه لك مالك و جاهك و حالك، و وهب لك القافلة بجميع ما فيها. ثم خرجت فناديت في أصحابي، فاجتمعوا، فناديت فيهم(2): إني قد أجرت هذه القافلة و أهلها، و خفرتها و حميتها، و لها ذمة اللّه و ذمة رسوله و ذمتي، فمن أخذ منها خيطا أو عقالا فقد آذنته بحرب. فانصرفوا معي، و انصرفت.
فلما أخذت و حبست، بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السّجّان و قال لي: إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك، و قد حظر عليّ أن يدخل عليك أحد، إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب، و جعلتاه لي إن أو صلتهما إليك، و قد أذنت لهما، و هما في الدهليز، فاخرج إليهما إن شئت. ففكرت فيمن يجيئني في هذا/البلد/و أنا به
ص: 512
غريب، لا أعرف أحدا، ثم قلت: لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي، فخرجت إليهما، فإذا بصاحبتي، فلما رأتني بكت لما رأت من تغير خلقي، و ثقل حديدي، فأقبلت عليها الأخرى فقالت: أ هو هو؟ فقالت: إي و اللّه، إنه لهو هو، ثم أقبلت عليّ فقالت: فداك أبي و أمي، و اللّه لو استطعت أن أقيك مما أنت فيه بنفسي و أهلي لفعلت، و كنت بذلك مني حقيقا، و و اللّه لا تركت المعاونة لك، و السعي في حاجتك، و خلاصك بكل حيلة و مال و شفاعة، و هذه دنانير و ثياب و طيب، فاستعن بها على موضعك، و رسولي يأتيك في كل يوم بما يصلحك، حتى يفرّج اللّه عنك. ثم أخرجت إلي كسوة و طيبا و مائتي دينار، و كان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف، و تواصل(1) برّها بالسّجّان، فلا يمتنع من كل شيء أريده.
فمنّ اللّه بخلاصي، ثم راسلتها فخطبتها، فقالت: أما من جهتي فأنا لك متابعة مطيعة، و الأمر إلى أبي، فأتيته، فخطبتها إليه، فردني، و قال: ما كنت لاحق عليها ما قد شاع في الناس عنك في أمرها، و قد صيرتها فضيحة، فقمت من عنده منكّسا مستحيا، و قلت له في ذلك:
رموني و إياها بشنعاء هم بها *** أحقّ أدال اللّه منهم فعجّلا
بأمر تركناه و ربّ محمد *** عيانا فإما عفّة أو تجمّلا
فقلت له: إن عيسى صنيعة أخي، و هو لي مطيع، و أنا أكفيك أمره.
فلما كان من الغد لقيت عيسى في منزله، و قلت له: قد جئتك في حاجة لي؛ فقال: مقضية، و لو كنت استعملت ما أحبه لأمرتني فجئتك، و كان أسرّ إليّ. فقلت له: قد جئتك خاطبا إليك ابنتك. فقال: هي لك أمة، و أنا لك عبد، /و قد أجبتك. فقلت: إني خطبتها على من هو خير مني أبا و أما، و أشرف لك صهرا و متّصلا، محمد بن صالح العلويّ. فقال لي: يا سيدي، هذا رجل قد لحقتنا بسببه ظنة، و قيلت فينا أقوال. فقلت: أ فليست باطلة؟ قال: بلى، و الحمد للّه. قلت: فكأنها لم تقل، و إذا وقع النكاح زال كل قول و تشنيع، و لم أزل أرفق به حتى أجاب، و بعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته، و ما برحت حتى زوجته، و سقت الصّداق عنه.
قال أبو الفرج الأصبهاني:
و قد مدح محمد بن صالح إبراهيم بن المدبّر مدائح كثيرة، لما أولاه من هذا الفعل، و لصداقة كانت بينهما، فمن جيد ما قاله فيه قوله:
أ تخبر عنهم الدّمن الدّثور *** و قد ينبي إذا سئل الخبير
و كيف تبيّن الأنباء دار *** تعاقبها الشمائل و الدّبور
يقول فيها في مدحه:
فهلاّ في الذي أولاك عرفا *** تسدّي من مقالك ما تنير(2)
ص: 513
ثناء غير مختلق(1) و مدحا *** مع الركبان ينجد أو يغور
أخ واساك في كلب الليالي *** و قد خذل الأقارب و النصير
حفاظا حين أسلمك الموالي *** و ضنّ(2) بنفسه الرجل الصبور
فإن تشكر فقد أولى جميلا *** و إن تكفر فإنك للكفور
/و ما في آل خاقان اعتصام *** إذا ما عمّم الخطب الكبير
/لئام الناس إثراء و فقرا *** و أعجزهم إذا حمى القتير
قويم(3) لا يزوّجهم كريم *** و لا تسنى لنسوتهم مهور
و إنما ذكر آل خاقان هاهنا لأن عبيد اللّه بن يحيى قصّر به و تحامل عليه، و كان يقول ما يكره، و يؤكّد ما يوجب حبسه، و كان فيه و في ولده نصب(4) شديد.
و لمحمد بن صالح في آل المدبّر مدائح كثيرة، لا معنى لذكرها في هذا الكتاب.
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال: حدثني عبد اللّه بن طالب الكاتب قال:
كان محمد بن صالح العلويّ حلو اللسان، ظريفا أديبا، فكان بسرّمن رأى مخالطا لسراة الناس، و وجوه أهل البلد، و كان لا يكاد يفارق سعيد بن حميد، و كانا يتقارضان الأشعار، و يتكاتبان بها. و في سعيد يقول محمد بن صالح العلويّ:
أصاحب من صاحبت ثمّت أنثني *** إليك أبا عثمان عطشان صاديا
أبى القلب أن يروى بهم و هو حائم *** إليك و إن كانوا الفروع العواليا
و لكن إذا جئناك لم نبغ مشربا *** سواك و روّينا العظام الصّواديا(5)
قال عبد اللّه بن طالب(6):
و كان بعض بني هاشم دعاه، فمضى إليه، و كتب سعيد إليه يسأله المصير إليه، فأخبر بموضعه عند الهاشميّ، فلما عاد عرف خبر سعيد و إرساله إليه، فكتب إليه بهذه الأبيات.
/قال عبد اللّه: و شرب يوما هو و سعيد بن حميد، فسكر محمد بن صالح قبله، فقام لينصرف، و التفت إلى سعيد و قال له:
ص: 514
لعمرك إنني لما افترقنا *** أخو ضنّ بخلصاني سعيد
تبقّته المدام و أزعجتني *** إلى رحلي بتعجيل الورود
قال: و توفى محمد بن صالح بسرّمن رأى، و كان يجهد في أن يؤذن له في الرجوع إلى الحجاز، فلا يجاب إلى ذلك، فقال سعيد يرثيه:
بأيّ يد أسطو على الدهر بعد ما *** أبان يدي عضب الذّنابين قاضب
و هاض جناحي حادث جلّ خطبه *** و سدّت عن الصبر الجميل المذاهب
و من عادة الأيام أنّ صروفها *** إذ سرّ منها جانب ساء جانب
لعمري لقد غال التجلد أننا *** فقد ناك فقد الغيث و العام جادب
فما أعرف الأيام إلا ذميمة *** و لا الدهر إلا و هو بالثأر طالب
و لا لي من الإخوان إلا مكاشر *** فوجه له راض و وجه مغاضب
فقدت فتى قد كان للأرض زينة *** كما زيّنت وجه السماء الكواكب
لعمري لئن كان الردى بك فاتني *** و كلّ امرئ يوما إلى اللّه ذاهب
لقد أخذت مني النوائب حكمها *** فما تركت حقا عليّ النوائب
و لا تركتني أرهب الدهر بعده *** لقد كلّ عني نابه و المخالب
سقى جدثا أمسى الكريم ابن صالح *** يحلّ به، دان(1) من المزن ساكب
/إذا بشّر الرّواد بالغيث برقه *** مرته الصّبا و استحلبته الجنائب
فغادر باقي الدهر تأثير صوبه *** ربيعا زهت منه الرّبا و المذانب
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدّثني المبرّد قال:
لم يزل محمد بن صالح محبوسا حتى توصل بنان له، بأن غنّى بين يدي المتوكل في شعره:
و بدا له من بعد ما اندمل الهوى *** برق تألق موهنا لمعانه
فاستحسن المتوكل الشعر و اللحن، و سأل عن قائله، فأخبر به، و كلّم في أمره، و أحسنت الجماعة رفده، و قام الفتح بأمره قياما تاما. فأمر بإطلاقه من حبسه، على أن يكون عند الفتح و في يده، حتى يقيم كفيلا بنفسه ألاّ يبرح من سرّ من رأى، فأطلق، و أخذ عليه الفتح الأيمان الموثقة ألا يبرح من سرّ من رأى إلا بإذنه، ثم أطلقه.
و لمحمد بن صالح في المتوكل و المنتصر مدائح جياد كثيرة، منها قوله في المتوكل:
ص: 515
ألف التّقى و وفى بنذر الناذر *** و أبى الوقوف على المحل الداثر
و لقد تهيج له الديار صبابة *** حينا و تكلف بالخليط السائر
فرأى الهداية أن أناب و أنه *** قصر المديح على الإمام العاشر
يا ابن الخلائف و الذين بهديهم *** ظهر الوفاء و بان غدر الغادر
و ابن الذين حووا تراث محمد *** دون الأقارب بالنصيب الوافر
نطق الكتاب لكم بذاك مصدّقا *** و مضت به سنن النبيّ الطاهر
و وصلت أسباب الخلافة بالهدى *** إذ نلتها و أنمت عين الساهر
أحييت سنة من مضى فتجدّدت *** و أبنت بدعة ذي الضلال الخاسر
فافخر بنفسك أو بجدّك معلنا *** أودع فقد جاوزت فخر الفاخر
/ما للمكارم غيركم من أول *** بعد النبيّ و ما لها من آخر
إني دعوتك فاستجبت لدعوتي *** و الموت مني قيد شبر الشابر
فانتشتني من قعر موردة الردى *** أمنا(1) و لم تسمع مقالة زاجر
و فككت أسري و البلاء موكّل *** و جبرت كسرا ما له من جابر
و عطفت بالرّحم التي ترجو بها *** قرب المحلّ من المليك القادر
و أنا أعوذ بفضل عفوك أن أرى *** غرضا ببابك للملم الفاقر(2)
أو أن أضيّع بعد ما أنقذتني *** من ريب مهلكة و جدّ عاثر
و لقد مننت فكنت غير مكدّر *** و لقد نهضت بها نهوض الشاكر
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، و محمد بن خلف وكيع قالا: حدّثنا الفضل بن سعيد بن أبي حرب قال:
حدّثني أبو عبد اللّه الجهنيّ قال:
دخلت على محمد بن صالح الحسني في حبس المتوكل، فأنشدني لنفسه يهجو أبا الساج:
أ لم يحزنك يا ذلفاء أنّي *** سكنت مساكن الأموات حيّا
/و أنّ حمائلي و نجاد سيفي *** علون مجدّعا أشروسنيّا(3)
فقصّرهنّ لما طلن حتى اس *** توين عليه لا أمسى سويّا
أما و الراقصات بذات عرق *** تريد البيت تحسبها قسيا
ص: 516
لو أمكنني غداتئذ جلاد *** لألفوني به سمحا سخيا
قال ابن عمار: و أنشدني عبيد اللّه بن طاهر أبو محمد لمحمد بن صالح أيضا:
نظرت و دوني ماء دجلة موهنا *** بمطروفة الإنسان محسورة جدّا
لتؤنس لي نارا بليل(1) توقّدت *** و تاللّه ما كلفتها نظرا قصدا
فلو أنها منها لقلت كأنني *** أرى النار قد أمست تضيء لنا هندا
تضيء لنا منها جبينا و محجرا *** و مبتسما عذبا و ذا غدر جعدا
انقضت أخباره.
يا عديّا لقلبك المهتاج *** أن عفا رسم منزل بالنّباج
غيرته الصّبا و كلّ ملثّ *** دائم الودق ذي أهاضيب داج
و حملنا غلامنا ثم قلنا *** هاجر العيس ليس منك بناج
فانتحى مثل ما انتحى باز دجن *** جوّعته القنّاص للدّرّاج
الشعر لأبي دواد الإياديّ. و الغناء لحنين، ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها، عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنه لابن عائشة. و فيه لعريب هزج. و فيه ثقيل أول، ينسب إلى يزيد الحذّاء، و إلى أحمد النّصيبيّ.
ص: 517
هو فيما ذكر يعقوب بن السكّيت: جارية بن الحجّاج. و كان الحجاج يلقب حمران بن بحر بن عصام بن منبه بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار بن معدّ. و قال ابن حبيب هو جارية بن الحجّاج أحد بني برد بن دعميّ بن إياد بن نزار. شاعر قديم من شعراء الجاهلية، و كان وصافا للخيل، و أكثر أشعاره في وصفها، و له في غير وصفها تصرّف بين مدح و فخر و غير ذلك، إلا أن شعره في وصف الفرس أكثر.
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال: حدّثني الهيثم بن عديّ و ابن الكلبيّ، عن أبيه، و الشّرقيّ:
أن أبا دواد الإياديّ مدح الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، فأعطاه عطايا كثيرة، ثم مات ابن لأبي دواد و هو في جواره فوداه، فمدحه أبو دواد، فحلف له الحارث أنه لا يموت له ولد إلا وداه، و لا يذهب له مال إلا أخلفه، فضربت العرب المثل بجار أبي دواد، و فيه يقول قيس بن زهير:
أطوّف ما أطوّف ثم آوي *** إلى جار كجار أبي دواد
هذه رواية هؤلاء؛ و أبو عبيدة يخالف ذلك.
أخبرني ابن دريد قال: أخبرني أبو حاتم، عن أبي عبيدة قال: جاور أبو دواد الإيادي كعب بن مامة الإيادي، فكان إذا هلك له بعير أو شاة أخلفها، و فيه يقول طرفة يمدح عمرو بن هند:
جار كجار الحذاقيّ الذي انتصفا(1)
و كان لأبي دواد ابن يقال له دواد شاعر، و هو الذي يقول يرثي أباه:
فبات فينا و أمسى تحت هائرة(2) *** ما بعد يومك من ممسى و إصباح
لا يدفع السّقم إلا أن نفدّيه *** و لو ملكنا مسكنا السّقم بالراح
أخبرني عمي قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدثني عليّ بن الصباح قال: أخبرنا أبو المنذر، عن أبيه قال:
ص: 518
تزوج أبو دواد امرأة من قومه، فولدت له دوادا ثم ماتت، ثم تزوج أخرى، فأولعت بدواد، و أمرت أباه أن يجفوه و يبعده، و كان يحبها، فلما أكثرت عليه قالت: أخرجه عني، فخرج به و قد أردفه خلفه، إلى أن انتهى إلى أرض جرداء ليس فيها شيء، فألقى سوطه متعمدا، و قال: أي دواد، انزل فناولني سوطي. فنزل، فدفع بعيره و ناداه:
أ دواد إن الأمر أصبح ما ترى *** فانظر دواد لأي أرض تعمد؟
فقال له دواد: على رسلك. فوقف له فناداه:
و بأي ظنك أن أقيم ببلدة *** جرداء ليس بغيرها متلدّد(1)
فرجع إليه و قال له: أنت و اللّه ابني حقا، ثم رده إلى منزله، و طلق امرأته.
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن أبي عمرو الشيبانيّ قال:
كانت لأبي دواد امرأة يقال لها أم حبتر، و فيها يقول:
في ثلاثين ذعذعتها(2) حقوق *** أصبحت أم حبتر تشكوني
زعمت لي بأنني أفسد الما *** ل و أزويه(3) عن قضاء ديوني
أمّلت أن أكون عبد المالي *** و تهنّا بنافع المال دوني
/و هي طويلة: قال: و لها يقول و قد عاتبته على سماحته بماله فلم يعتبها(4)، فصرمته:
حاولت حين صرمتني *** و المرء يعجز لا محاله
و الدهر يلعب بالفتى *** و الدهر أروغ من ثعاله(5)
و المرء يكسب ماله *** و الشّحّ يورثه الكلالة
و العبد يقرع بالعصا *** و الحرّ تكفيه المقالة(6)
و السّكت خير للفتى *** فالحين من بعض المقالة
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال: حدثني أبي عن إسحاق، عن الأصمعيّ قال:
ثلاثة كانوا يصفون الخيل، لا يقاربهم أحد: طفيل، و أبو دواد، و الجعديّ. فأما أبو دواد فإنه كان على خيل
ص: 519
المنذر بن النعمان بن المنذر(1). و أما طفيل فإنه كان يركبها و هو أغرل(2) إلى أن كبر. و أما الجعديّ فإنه سمع ذكرها من أشعار الشعراء(3)، فأخذ عنهم.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني أبو حاتم، عن أبي عبيدة قال:
دواد أوصف الناس للفرس في الجاهلية و الإسلام، و بعده طفيل الغنويّ و النابغة الجعديّ.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن ابن الأعرابيّ قال:
لم يصف أحد قطّ الخيل إلا احتاج إلى أبي دواد، و لا وصف الخمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، و لا وصف أحد نعامة إلا احتاج إلى علقمة/بن عبدة، و لا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني.
أخبرني عمي قال: حدّثني جعفر بن محمد العاصميّ قال: حدّثنا عيينة بن المنهال قال: حدّثنا شدّاد بن عبيد اللّه قال: حدّثني عبيد اللّه بن الحرّ العنزيّ القاضي، عن أبي عرادة قال:
كان عليّ صلوات اللّه عليه يفطر الناس في شهر رمضان، فإذا فرغ من العشاء تكلم، فأقلّ و أوجز، فأبلغ.
فاختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس، فقال عليّ عليه السّلام لأبي الأسود الدّؤلي: قل يا أبا الأسود. فقال أبو الأسود، و كان يتعصب لأبي دواد الإياديّ: أشعرهم الذي يقول:
و لقد أغتدي يدافع ركني *** أحوذيّ ذو ميعة إضريج(4)
مخلط مزيل مكرّ مفرّ *** منفح مطرح سبوح خروج(5)
سلهب شرجب كأنّ رماحا *** حملته و في السّراة دموج(6)
و كان لأبي الأسود رأي في أبي دواد، فأقبل عليّ على الناس، فقال: كل شعرائكم محسن، و لو جمعهم زمان واحد، و غاية واحدة، و مذهب واحد في القول، لعلمنا أيّهم أسبق إلى ذلك، و كلهم قد أصاب الذي أراد، و أحسن فيه، و إن يكن/أحد فضلهم، فالذي لم يقل رغبة و لا رهبة امرؤ القيس بن حجر، فإنه كان أصحهم بادرة، و أجودهم نادرة.
ص: 520
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى، عن أبيه، عن إسحاق، عن الأصمعيّ قال:
كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد و لا عديّ بن زيد، لمخالفتهما مذاهب الشعراء(1)، قال: و كان أبو دواد على خيل المنذر بن ماء السماء، فأكثر وصفه للخيل.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:
حدّثني ابن أبي الهيذام قال:
اسم أبي دواد الإيادي جويرية بن الحجاج. و كانت له ناقة يقال لها الزّبّاء، فكانت بنو إياد يتبركون بها. فلما أصابتهم السنة تفرّقوا ثلاث فرق، فرقة سلكت في البحر فهلكت، و فرقة قصدت اليمن فسلمت، و فرقة قصدت أرض بكر بن وائل، فنزلوا على الحارث بن همّام.
و كان السبب في ذلك أنهم أرسلوا الزّباء، و قالوا إنها ناقة ميمونة، فخلوها، فحيث توجهت فاتبعوها. و كذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا نجعة. فخرجت تخوض العرب، حتى بركت بفناء الحارث بن همّام، و كان أكرم الناس جوارا، و هو جار أبي دواد المضروب به المثل. فقال أبو دواد يمدح الحارث، و يذكر ناقته الزّباء:
فإلى ابن همّام بن مرّة أصعدت *** ظعن الخليط بهم فقلّ زيالها
أنعمت نعمة ماجد ذي منة *** نصبت عليه من العلا أظلالها
و جعلنا دون الوليّ فأصبحت *** زباء منقطعا إليك عقالها
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدّثنا يحيى بن سعيد قال:
كانت إياد تفخر على العرب، تقول: منا أجود الناس كعب بن مامة، و منا أشعر الناس أبو دواد، و منا أنكح الناس ابن ألغز(2).
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: /حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال: حدّثني القحذميّ قال:
كان ابن ألغز أيّرا، فكان إذا أنعظ احتكت الفصال بأيره، قال: و كان في إياد امرأة تستصغر أيور الرجال، فجامعها ابن ألغز، فقالت: يا معشر إياد، أ بالرّكب تجامعون النساء؟ قال: فضرب بيده على أليتها و قال: ما هذا؟ فقالت و هي لا تعقل ما تقول: هذا القمر. فضرب العرب بها المثل: «أريها استها و تريني القمر». و أنشد و قد كان الحجاج منع من لحوم البقر خوفا من قلّة العمارة في السواد، فقيل فيه:
ص: 521
شكونا إليه خراب السواد *** فحرّم فينا لحوم البقر
فكنا كمن قال من قبلنا *** أريها استها و تريني القمر
أخبرني عمي عن الكراني، عن العمريّ، عن الهيثم بن عديّ بنحوه.
و أخبرني عمي قال: حدّثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدّثني العمريّ عن لقيط قال: أخبرني التّوزي عن أبي عبيدة قال:
كان الحطيئة عند سعيد بن العاص ليلة، فتذاكروا الشعراء، و فضوا بعضهم على بعض و هو ساكت، فقال له:
يا أبا مليكة ما تقول؟ فقال: ما ذكرتم و اللّه أشعر الشعراء، و لا أنشدتم أجود الشعر. فقالوا: فمن أشعر الناس؟ فقال الذي يقول:
/لا أعدّ الإقتار عدما و لكن *** فقد من قد رزئته الإعدام
و الشعر لأبي دواد الإياديّ. قالوا: ثم من؟ قال: ثم عبيد بن الأبرص. قالوا: ثم من؟ قال: كفاكم و اللّه بي إذا أخذتني رغبة أو رهبة، ثم عويت في إثر القوافي عواء الفصيل في إثر أمّه.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أخي الأصمعيّ، قال: حدّثني عمي، و أخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا الأصمعيّ، عن أبي عمرو بن العلاء، عن هجّاس بن مرير الإيادي، عن أبيه، و كان قد أدرك الجاهلية، قال:
بينا أبو دواد و زوجته و ابنه و ابنته على ربوة، و إياد إذ ذاك بالسواد، إذ خرج ثور من أجمة، فقال أبو دواد:
و بدت له أذن توجّس حرّة و أحمّ وارد(1)
و قوائم عوج لها *** من خلفها زمع زوائد(2)
كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم نواهد(3)ثم قال: أنفذي(4) يا أمّ دواد، فقالت:
و بدت له أذن توجّس حرّة و أحمّ مولق
و قوائم عوج لها *** من خلفها زمع معلّق
ص: 522
كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم تألّق /ثم قال: أنفذ يا دواد. فقال:
و بدت له أذن توجس حرّة و أحمّ مرهف
و قوائم عوج لها *** من خلفها زمع ملفّف
كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم تلقّف ثم قال: أنفذي يا دوادة. قالت: و ما أقول مع من أخطأ. قالوا: و من أين أخطأناه؟ قالت: جعلتم له/قرنا واحدا، و له قرنان. قالوا: فقولي. قالت:
و بدت له أذن توجّس حرّة و أحمّتان
و قوائم عوج لها *** من خلفها زمع ثمان
كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم دوان
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرني عمي عن العباس بن هشام، عن أبيه قال:
كان أبو دواد الإياديّ الشاعر جارا للمنذر بن ماء السماء. و إن أبا دواد نازع رجلا بالحيرة من بهراء، يقال له رقبة بن عامر بن كعب بن عمرو، فقال له رقبة: صالحني و حالفني. فقال أبو دواد: فمن أين تعيش إياد إذا، فو اللّه لو لا ما تصيب من بهراء لهلكت، و انصرفا على تلك الحال.
ثم إن أبا دواد أخرج بنين له ثلاثة في تجارة إلى الشام، فبلغ ذلك رقبة البهراني، فبعث إلى قومه فأخبرهم بما قاله له أبو دواد عند المنذر، و أخبرهم أن القوم ولد أبي دواد، فخرجوا إلى الشام، فلقوهم فقتلوهم. و بعثوا برءوسهم إلى رقبة، فلما أتته الرءوس صنع طعاما كثيرا، ثم أتى المنذر، فقال له: قد اصطنعت لك طعاما/كثيرا، فأنا أحب أن تتغدّى عندي، فأتاه المنذر و أبو دواد معه، فبينا الجفان ترفع و توضع، إذ جاءته جفنة عليها بعض(1)رءوس بني أبي دواد، فوثب و قال: أبيت اللعن! إني جارك، و قد ترى ما صنع بي، و كان رقبة أيضا جارا للمنذر.
فوقع المنذر منهما في سوأة، و أمر برقبة فحبس، و قال لأبي دواد: أ ما يرضيك توجيهي بكتيبتيّ الشهباء و الدّوسر إليهم؟ قال: بلى. قال: قد فعلت. فوجه إليهم بالكتيبتين.
فلما بلغ ذلك رقبة قال لامرأته: ويحك! الحقي بقومك فأنذريهم. فعمدت إلى بعض إبل زوجها فركبته، ثم خرجت حتى أتت قومها، فلما قربت منهم تعرت من ثيابها، و صاحت و قالت: أنا النذير العريان. فأرسلتها مثلا.
فعرف القوم ما تريد، فصعدوا إلى أعالي الشام، و أقبلت الكتيبتان فلم تصيبا منهم أحدا، فقال المنذر لأبي دواد: قد
ص: 523
رأيت ما كان منهم، و أنا أدي كل ابن لك بمائتي بعير، فأمر له بستّ مائة بعير، فرضي بذلك، فقال فيه قيس بن زهير العبسيّ:
سأفعل ما بدا لي ثم آوي *** إلى جار كجار أبي دواد
و ركب كأطراف الأسنة عرسوا *** على مثلها و الليل داج غياهبه
لأمر عليهم أن تتمّ صدوره *** و ليس عليهم أن تتم عواقبه
الشعر لأبي تمام الطائي. و الغناء للقاسم بن زرزور، ثاني ثقيل بالوسطى في مجرى البنصر. و فيه لجعفر بن رفعة خفيف ثقيل.
أخبرني: إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه، و حدثني المظفر بن كيغلغ عن القاسم أيضا:
أن المكتفي باللّه أخرج إليهم هذين البيتين بالرقة في رقعة، و هو أمير، و أمر أن يصنع فيهما لحن. فصنع القاسم هذا اللحن، و صنع جعفر خفيف الثقيل.
ص: 524
/أبو تمام حبيب بن أوس الطائيّ، من نفس طيّئ صليبة(1). مولده و منشؤه منبج، بقرية منها يقال لها جاسم.
شاعر مطبوع، لطيف الفطنة، دقيق المعاني، غوّاص على ما يستصعب منها، و يعسر متناوله على غيره. و له مذهب في المطابق، هو كالسابق إليه جميع الشعراء، و إن كانوا قد فتحوه قبله، و قالوا القليل منه، فإن له فضل الإكثار فيه، و السلوك في جميع طرقه. و السليم من شعره النادر شيء لا يتعلق به أحد. و له أشياء متوسطة، و رديئة رذلة جدا.
و في عصرنا هذا من يتعصب له فيفرط، حتى يفضله على كل سالف و خالف، و أقوام يتعمّدون الرديء من شعره فينشرونه، و يطوون محاسنه، و يستعملون القحة و المكابرة في ذلك، ليقول الجاهل بهم: إنهم لم يبلغوا علم هذا و تمييزه إلا بأدب فاضل، و علم ثاقب. و هذا مما يتكسب به كثير من أهل هذا الدهر، و يجعلونه و ما جرى مجراه من ثلب الناس، و طلب معايبهم، سببا للترفّع، و طلبا للرئاسة. و ليست إساءة في القليل، و أحسن في الكثير، مسقطة إحسانه؛ و لو كثرت إساءته أيضا ثم أحسن، لم يقل له عند الإحسان أسأت، و لا عند الصواب أخطأت، و التوسط في كل شيء أجمل، و الحق أحق أن يتّبع.
و قد روي عن بعض الشعراء أن أبا تمام أنشده قصيدة له أحسن في جميعها، إلا في بيت واحد، فقال له: يا أبا تمام، لو ألقيت هذا البيت ما كان في قصيدتك عيب. فقال له: أنا و اللّه أعلم منه مثل ما تعلم، و لكن مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده، فيهم الجميل و القبيح، و الرشيد و الساقط، و كلهم حلو في نفسه، فهو و إن أحب الفاضل، لم يبغض الناقص، و إن هوي بقاء المتقدم، لم يهو موت المتأخر.
/و اعتذاره بهذا ضدّ لما وصف به نفسه في مدحه الواثق، حيث يقول:
جاءتك من نظم اللسان قلادة *** سمطان فيها اللؤلؤ المكنون
أحذاكها صنع اللسان يمدّه *** جفر إذا نضب الكلام معين
و يسيء بالإحسان ظنّا لا كمن *** هو بابنه و بشعره مفتون
فلو كان يسيء بالإساءة ظنّا و لا يفتتن بشعره، كنا في غنى عن الاعتذار له.
ص: 525
و قد فضّل أبا تمام من الرؤساء و الكبراء و الشعراء، من لا يشقّ الطاعنون عليه غباره، و لا يدركون - و إن جدّوا - آثاره، و ما رأى الناس بعده إلى حيث انتهوا له في جيّده نظيرا و لا شكلا؛ و لو لا أن الرواة قد أكثروا في الاحتجاج له و عليه، و أكثر متعصبوه الشرح لجيد شعره، و أفرط معادوه في التسطير لرديئه، و التنبيه على رذله و دنيئه، لذكرت منه طرفا، و لكن قد أتى من ذلك مالا مزيد عليه.
أخبرني عمي قال: حدثني أبي قال: سمعت محمد بن عبد الملك الزيات يقول: أشعر الناس طرّا الذي يقول:
و ما أبالي و خير القول أصدقه *** حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي
فأحببت أن أستثبت إبراهيم بن العباس(1)، و كان في نفسي أعلم من محمد و آدب، فجلست إليه، و كنت أجري عنده مجرى الولد، فقلت له: من أشعر أهل زماننا هذا؟ فقال: الذي يقول:
مطر أبوك أبو أهلّة وائل *** ملأ البسيطة عدّة و عديدا
/نسب كأنّ عليه من شمس الضّحى *** نورا و من فلق الصباح عمودا
ورثوا الأبوّة و الحظوظ فأصبحوا *** جمعوا جدودا في العلا و جدودا(2)
فاتفقا على أن أبا تمام أشعر أهل زمانه.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ، و علي بن سليمان الأخفش قالا: حدثنا محمد بن يزيد النحويّ قال:
قدم عمارة بن عقيل بغداد، فاجتمع الناس إليه، فكتبوا شعره و شعر أبيه(3)، و عرضوا عليه الأشعار. فقال بعضهم: هاهنا شاعر يزعم [قوم](4) أنه أشعر الناس طرّا، و يزعم غيرهم ضدّ ذلك. فقال: أنشدوني قوله.
فأنشدوه:
غدت تستجير الدمع خوف نوى غد *** و عاد قتادا عندها كلّ مرقد
و أنقذها من غمرة الموت أنّه *** صدود فراق لا صدود تعمّد
فأجرى لها الإشفاق دمعا مورّدا *** من الدم يجري فوق خد مورّد
هي البدر يغنيها تودّد وجهها *** إلى كلّ من لاقت و إن لم تودّد
ثم قطع المنشد. فقال له عمارة: زدنا من هذا. فوصل نشيده و قال:
ص: 526
و لكنني لم أحو وفرا مجمّعا *** ففزت به إلا بشمل مبدّد
و لم تعطني الأيام نوما مسكّنا *** ألذّ به إلا بنوم مشرّد
فقال عمارة: للّه درّه! لقد تقدم في هذا المعنى من سبقه إليه، على كثرة القول فيه، حتى لقد حبّب إليّ الاغتراب، هيه. فأنشده:
و طول مقام المرء في الحيّ مخلق *** لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإني رأيت الشمس زيدت محبّة *** إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
فقال عمارة: كمل و اللّه، لئن كان الشعر بجودة اللفظ، و حسن المعاني، و اطراد المراد، و اتساق(1) الكلام، فإن صاحبكم هذا أشعر الناس.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال: حدثني محمد بن موسى بن حمّاد قال: سمعت علي بن الجهم يصف أبا تمّام و يفضله، فقال له رجل: و اللّه لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مدحك هذا. فقال: إن لم يكن أخا بالنسب، فإنه أخ بالأدب و المودة؛ أ ما سمعت ما خاطبني به حيث يقول:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا *** نغدو و نسري في إخاء تالد(2)
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا *** عذب تحدّر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا *** أدب أقمناه مقام الوالد
أخبرني محمد قال: حدثني هارون بن عبد اللّه المهلبيّ قال:
كنا في حلقة دعبل، فجرى ذكر أبي تمام، فقال دعبل: كان يتتبع معانيّ فيأخذها. فقال له رجل في مجلسه:
و أي شيء من ذلك، أعزك اللّه؟ قال: قولي:
و إن امرأ أسدى إليّ بشافع *** إليه و يرجو الشكر مني لأحمق
شفيعك فاشكر في الحوائج إنه *** يصونك عن مكروهها و هو يخلق
فقال الرجل: فكيف قال أبو تمام؟ فقال: قال:
/فلقيت بين يديك(3) حلو عطائه *** و لقيت بين يديّ مرّ سؤاله
و إذا امرؤ أسدى إليك(4) صنيعة *** من جاهه فكأنها من ماله
ص: 527
فقال له الرجل: أحسن و اللّه. فقال: كذبت قبحك اللّه. فقال: و اللّه لئن كان أخذه منك، لقد أجاد، فصار أولى به منك. و إن كنت أخذته منه فما بلغت مبلغه. فغضب دعبل و انصرف.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني عبد اللّه بن محمد بن جرير قال:
سمعت محمد بن حازم الباهليّ يقدم أبا تمام و يفضله، و يقول: لو لم يقل إلا مرثيته التي أولها:
أصمّ بك الناعي و إن كان أسمعا
و قوله:
لو يقدرون مشوا على وجناتهم *** و جباههم فضلا عن الأقدام
لكفتاه.
أخبرني عمي قال: حدثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:
كان عمارة بن عقيل عندنا يوما، فسمع مؤدّبا كان لولد أخي يروّيهم قصيدة أبي تمام:
الحق أبلج و السيوف عوار
فلما بلغ إلى قوله:
سود اللباس كأنما نسجت لهم *** أيدي السّموم مدارعا من قار(1)
بكروا و أسروا في متون ضوامر *** قيدت لهم من مربط النّجار
لا يبرحون و من رآهم خالهم *** أبدا على سفر من الأسفار
فقال عمارة: للّه دره! ما يعتمد معنى إلا أصاب أحسنه، كأنه موقوف عليه.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال: حدثني أبو ذكوان قال: قال لي إبراهيم بن العباس: ما اتكلت في مكاتبتي قطّ إلا على ما جاش به صدري، و جلبه خاطري، إلا أني قد استحسنت قول أبي تمام:
/فإن باشر الإصحار فالبيض و القنا *** قراه و أحواض المنايا مناهله(2)
و إن يبن حيطانا عليه فإنما *** أولئك عقّالاته لا معاقله(3)
و إلا فأعلمه بأنك ساخط *** عليه، فإن الخوف لا شكّ قاتله
فأخذت هذا المعنى في بعض رسائلي، فقلت: «فصار ما كان يحرزهم يبرزهم، و كان كان يعقلهم يعتقلهم». قال:
ص: 528
ثم قال لي إبراهيم: إن أبا تمام اخترم و ما استمتع بخاطره، و لا نزح ركيّ(1) فكره، حتى انقطع رشاء(2) عمره.
أخبرني محمد قال: حدثني أبو الحسين بن السخيّ قال: حدثني الحسين بن عبد اللّه قال:
سمعت عمي إبراهيم بن العباس يقول لأبي تمام، و قد أنشد شعرا له في المعتصم: يا أبا تمام، أمراء الكلام رعية لإحسانك.
أخبرني محمد قال: حدثني هارون بن عبد اللّه قال: قال لي محمد بن جابر الأزديّ، و كان يتعصب لأبي تمام:
أنشدت دعبل بن عليّ(3) شعرا لأبي تمام و لم أعلمه أنه له، ثم قلت له: كيف تراه؟ قال: أحسن من عافية بعد يأس. فقلت: إنه لأبي تمام. فقال: لعله سرقه!
أخبرني محمد قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبيّ عن أبيه قال:
ما كان أحد من الشعراء يقدر على أن يأخذ درهما بالشعر في حياة أبي تمام، فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه.
أخبرني عمي و الحسن بن عليّ و محمد بن يحيى و جماعة من أصحابنا، و أظن أيضا جحظة حدّثنا به، قالوا:
حدّثنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:
لما/قدم أبو تمام إلى خراسان اجتمع الشعراء إليه، و سألوه أن ينشدهم، فقال: قد وعدني الأمير أن أنشده غدا، و ستسمعوني(4). فلما دخل على عبد اللّه أنشده:
هنّ عوادي يوسف و صواحبه *** فعزما فقدما أدرك السؤل طالبه
فلما بلغ إلى قوله:
و قلقل نأي من خراسان جأشها *** فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه
و ركب كأطراف الأسنة عرّسوا *** على مثلها و الليل تسطو غياهبه
لأمر عليهم أن تتم صدوره *** و ليس عليهم أن تتم عواقبه
فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس: ما يستحقّ مثل هذا الشعر غير الأمير أعزه اللّه! و قال شاعر منهم يعرف بالرياحيّ:
لي عند الأمير أعزه اللّه جائزة وعدني بها، و قد جعلتها لهذا الرجل جزاء عن قوله للأمير. فقال له: بل نضعفها لك،
ص: 529
و نقوم له بما يجب له علينا. فلما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار، فلقطها الغلمان، و لم يمسّ منها شيئا، فوجد عليه عبد اللّه و قال: يترفع عن برّي، و يتهاون بما أكرمته به. فلم يبلغ ما أراده منه بعد ذلك.
أخبرني أبو مسلم محمد بن بحر الكاتب و عمي، عن الحزنبل، عن سعيد بن جابر الكرخيّ، عن أبيه:
أنه حضر أبا دلف القاسم بن عيسى و عنده أبو تمام الطائيّ، و قد أنشده قصيدته:
/على مثلها من أربع و ملاعب *** أذيلت مصونات الدموع السواكب
فلما بلغ إلى قوله:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها *** و زادت على ما وطّدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم *** عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
محاسن من مجد متى تقرنوا بها *** محاسن أقوام تكن كالمعايب
فقال أبو دلف: يا معشر ربيعة، ما مدحتم بمثل هذا الشعر قطّ، فما عندكم لقائله؟ فبادروه بمطارفهم يرمون بها إليه. فقال أبو دلف: قد قبلها و أعاركم لبسها، و سأنوب عنكم في ثوابه. تمّم القصيدة يا أبا تمام. فتممها، فأمر له بخمسين ألف درهم، و قال: و اللّه ما هي بإزاء استحقاقك و قدرك. فاعذرنا، فشكره و قام ليقبّل يده، فحلف ألا يفعل، ثم قال له: أنشدني قولك في محمد بن حميد:
و ما مات حتى مات مضرب سيفه *** من الضرب و اعتلت عليه القنا السّمر
و قد كان فوت الموت سهلا فردّه *** إليه الحفاظ المرّ و الخلق الوعر
فأثبت في مستنقع الموت رجله *** و قال لها من تحت أخمصك الحشر
غدا غدوة و الحمد نسج ردائه(1) *** فلم ينصرف إلا و أكفانه الأجر
كأن بني نبهان يوم مصابه *** نجوم سماء خرّ من بينها البدر
يعزّون عن ثاو يعزّى به العلى *** و يبكى عليه البأس و الجود و الشعر
فأنشده إياها، فقال: و اللّه لوددت أنها فيّ. فقال: بل أفدي الأمير بنفسي و أهلي، و أكون المقدم، /فقال: إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر، أو مثله.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني إسحاق بن يحيى الكاتب قال:
/قال الواثق لأحمد بن أبي دواد: بلغني أنك أعطيت أبا تمام الطائيّ في قصيدة مدحك بها ألف دينار. قال:
لم أفعل ذلك يا أمير المؤمنين، و لكني أعطيته خمس مائة دينار رعاية للذي قاله للمعتصم:
فاشدد بهارون الخلافة إنه *** سكن لوحشتها و دار قرار
ص: 530
و لقد علمت بأن ذلك معصم *** ما كنت تتركه بغير سوار
فابتسم و قال: إنه لحقيق بذلك.
أخبرني علي بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن يزيد النحويّ قال:
خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد و هو بأرمينية، فامتدحه، فأعطاه عشرة آلاف درهم و نفقة لسفره، و قال: تكون العشرة الآلاف موفورة، فإن أردت الشخوص فاعجل، و إن أردت المقام عندنا فلك الحباء و البرّ.
قال: بل أشخص. فودّعه؛ و مضت أيام، و ركب خالد يتصيد، فرآه تحت شجرة، و بين يديه زكرة(1) فيها شراب، و غلام يغنيه بالطّنبور. فقال: أبو تمام؟ قال: خادمك و عبدك. قال: ما فعل المال؟ فقال:
علّمني جودك السماح فما *** أبقيت شيئا لديّ من صلتك
ما مرّ شهر حتى سمحت به *** كأنّ لي قدرة كمقدرتك
تنفق في اليوم بالهبات و في الساعة ما تجتنيه في سنتك
فلست أدري من أين تنفق لو *** لا أن ربي يمدّ في هبتك
فأمر له بعشرة أخرى، فأخذها و خرج.
أخبرني محمد بن يحيى الصّولي قال: حدّثنا عون بن محمد الكنديّ قال: حدّثنا محمد بن سعد أبو عبد اللّه الرقّيّ، و كان يكتب للحسن بن رجاء؛ قال:
قدم أبو تمام مادحا للحسن بن رجاء، فرأيت منه رجلا عقله و علمه فوق شعره، فاستنشده الحسن و نحن على نبيذ قصيدته اللامية التي امتدحه بها، فلما انتهى إلى قوله:
أنا من(2) عرفت فإن عرتك جهالة *** فأنا المقيم قيامة العذّال
عادت له أيامه مسودّة *** حتى توهم أنهن ليال
فقال الحسن: و اللّه لا تسودّ عليك بعد اليوم. فلما قال:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى *** فالسيل حرب للمكان العالي
و تنظّري حيث الركاب ينصّها *** محيى القريض إلى مميت المال(3)
فقام الحسن بن رجاء على رجليه، و قال: و اللّه لا أتممتها إلا و أنا قائم. فقام أبو تمام لقيامه، و قال:
لما بلغنا ساحة الحسن انقضى *** عنا تملّك دولة الإمحال
ص: 531
بسط الرجاء لنا برغم نوائب *** كثرت بهن مصارع الآمال
أغلى عذارى الشعر إنّ مهورها *** عند الكرام و إن رخصن غوال
ترد الظّنون بنا(1) على تصديقها *** و يحكّم الآمال في الأموال
أضحى سمي أبيك فيك مصدّقا *** بأجلّ فائدة و أيمن فال
/و رأيتني فسألت نفسك سيبها *** لي ثم جدت و ما انتظرت سؤالي
كالغيث ليس له - أريد غمامه *** أ و لم يرد - بدّ من التّهطال
/فتعانقا و جلسا. و قال له الحسن: ما أحسن ما جلوت هذه العروس! فقال: و اللّه لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها.
قال محمد بن سعد: و أقام شهرين، فأخذ على يدي عشرة آلاف درهم، و أخذ غير ذلك مما لم أعلم به؛ على بخل كان في الحسن بن رجاء.
أخبرني الصّولي قال: حدّثني عون بن محمد قال:
شهدت دعبلا عند الحسن بن رجاء و هو يضع من أبي تمام، فاعترضه عصابة الجرجرائيّ(2)، فقال: يا أبا علي، اسمع مني ما قاله، فإن أنت رضيته فذاك؛ و إلا وافقتك على ما تذمّه منه، و أعوذ باللّه فيك من ألاّ ترضاه، ثم أنشده قوله:
أما إنه لو لا الخليط المودّع *** و مغنى عفا منه مصيف و مربع
فلما بلغ إلى قوله:
هو السيل إن واجهته انقدت طوعه *** و تقتاده من جانبيه فيتبع
و لم أر نفعا عند من ليس ضائرا *** و لم أر ضرّا عند من ليس ينفع
معاد الورى بعد الممات و سيبه *** معاد لنا قبل الممات و مرجع
فقال له دعبل: لم ندفع فضل هذا الرجل، و لكنكم ترفعونه فوق قدره، و تقدمونه على من يتقدمه، و تنسبون إليه ما قد سرقه. فقال له عصابة: إحسانه صيرك له عائبا، و عليه عاتبا.
أخبرني الصّولي قال: حدّثنا الحسن بن وداع كاتب الحسن بن رجاء قال:
حضرت أبا الحسين محمد بن الهيثم بالجبل و أبو تمام ينشده:
أسقى ديارهم أجشّ هزيم *** و غدت عليهم نضرة و نعيم
ص: 532
/قال: فلما فرغ أمر له بألف دينار، و خلع عليه خلعة حسنة، و أقمنا عنده يومنا، فلما كان من غد كتب إليه أبو تمام:
قد كسانا من كسوة الصيف خرق *** مكتس من مكارم و مساع(1)
حلّة سابريّة و رداء *** كسحا القيض أو رداء الشّجاع(2)
كالسّراب الرّقراق في الحسن إلا *** أنه ليس مثله في الخداع(3)
قصبيّا تسترجف الريح متني *** ه بأمر من الهبوب مطاع(4)
رجفانا كأنه الدهر منه *** كبد الضّبّ أو حشا المرتاع
لازما ما يليه تحبسه جز *** ء آمن المتنتين و الأضلاع(5)
يطرد اليوم ذا الهجير و لو شبّه في حرّه بيوم الوداع خلعة من أغرّ أروع رحب الصّدر رحب الفؤاد رحب الذراع(6)
سوف أكسوك ما يعفّي عليها *** من ثناء كالبرد برد الصّناع(7)
حسن هاتيك في العيون و هذا *** حسنه في القلوب و الأسماع
فقال محمد بن الهيثم: و من لا يعطي على هذا ملكه؟ و اللّه لا بقي في داري ثوب إلا دفعته إلى/أبي تمام، فأمر له بكل ثوب كان يملكه في ذلك الوقت.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي الفضل قال: لما شخص أبو تمام إلى عبد اللّه بن طاهر و هو بخراسان، أقبل الشتاء و هو هناك، فاستثقل البلد، و قد كان عبد اللّه وجد عليه، و أبطأ بجائزته، لأنه نثر عليه ألف دينار فلم يمسسها بيده، ترفعا عنها، فأغضبه و قال: يحتقر فعلي، و يترفع عليّ. فكان يبعث إليه بالشيء بعد الشيء كالقوت، فقال أبو تمام:
لم يبق للصيف لا رسم و لا طلل *** و لا قشيب فيستكسى و لا سمل(8)
عدل من الدمع أن يبكي المصيف كما *** يبكى الشباب، و يبكي اللهو و الغزل
ص: 533
يمنى الزمان انقضى معروفها و غدت *** يسراه و هي لنا من بعدها بدل
فبلغت الأبيات أبا العميثل شاعر آل عبد اللّه بن طاهر، فأتى أبا تمام، و اعتذر إليه لعبد اللّه بن طاهر، و عاتبه على ما عتب عليه من أجله، و تضمّن له ما يحبه. ثم دخل إلى عبد اللّه، فقال: أيها الأمير، أ تتهاون بمثل أبي تمّام و تجفوه؟ فو اللّه لو لم يكن له ماله من النباهة في قدره، و الإحسان في شعره، و الشائع من ذكره، لكان الخوف من شره، و التوقّي لذمه، يوجب على مثلك رعايته و مراقبته، فكيف و له بنزوعه إليك من الوطن، و فراقه السّكن، و قد قصدك عاقدا بك أمله، معملا إليك ركابه، متعبا فيك فكره و جسمه، و في ذلك ما يلزمك قضاء حقه، حتى ينصرف راضيا؛ و لو لم يأت بفائدة، و لا سمع فيك منه ما سمع إلا قوله:
تقول في قومس صحبي و قد أخذت *** منا السّرى و خطا المهريّة القود(1)
أ مطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا *** فقلت كلاّ و لكن مطلع الجود
/فقال له عبد اللّه: لقد نبّهت فأحسنت، و شفعت فلطفت، و عاتبت فأوجعت، و لك و لأبي تمام العتبى، ادعه يا غلام. فدعاه، فنادمه يومه، و أمر له بألفي دينار، و ما يحمله من الظّهر، و خلع عليه خلعة تامة من ثيابه، و أمر ببذرقته(2) إلى آخر عمله.
أخبرني جحظة قال: حدّثني ميمون بن هارون قال:
مرّ أبو تمام بمخنّث يقول الآخر: جئتك أمس فاحتجبت عني، فقال له: السماء إذا احتجبت بالغيم رجّي خيرها. فتبينت في وجه أبي تمام أنه قد أخذ المعنى، ليضمنه(3) في شعره، فما لبثنا إلا أياما حتى أنشدت قوله:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا *** إنّ السماء ترجّى حين تحتجب
أخبرني أبو العباس أحمد بن وصيف، و أبو عبد اللّه أحمد بن الحسن بن محمد الأصبهاني ابن عمي، قال:
حدّثنا محمد بن موسى بن حماد قال:
كنا عند دعبل أنا و القاسم(4)، في سنة خمس و ثلاثين و مائتين، بعد قدومه من الشام، فذكرنا أبا تمام، فثلبه، و قال: هو سروق للشعر. ثم قال لغلامه: يا ثقيف، هات تلك المخلاة. فجاء بمخلاة فيها دفاتر، فجعل يمرّها على يده، حتى أخرج منها دفترا، فقال: اقرءوا هذا. فنظرنا فيه، قال مكنف أبو سلمى، من ولد زهير بن أبي سلمى، و كان هجا ذفافة العبسيّ بأبيات منها:
ص: 534
إن الضّراط به تصاعد جدّكم *** فتعاظموا ضرطا بني القعقاع
/قال ثم مات ذفافة بعد ذلك، فرثاه فقال:
أبعد أبي العباس يستعذب الدهر(1) *** فما بعده للدهر حسن و لا عذر
ألا أيّها الناعي ذفافة و الندى *** تعست و شلّت من أنا ملك العشر
/أ تنعى لنا من قيس عيلان صخرة *** تفلّق عنها من جبال العدا الصخر
إذا ما أبو العباس خلّى مكانه *** فلا حملت أنثى و لا نالها طهر
و لا أمطرت أرضا سماء و لا جرت *** نجوم و لا لذّت لشاربها الخمر
كأنّ بني القعقاع يوم مصابه *** نجوم سماء خرّ من بينها البدر
توفّيت الآمال يوم وفاته *** و أصبح في شغل عن السّفر السفر
ثم قال: سرق أبو تمام أكثر هذه القصيدة، فأدخلها في قصيدته:
كذا فليجلّ الخطب و ليفدح الأمر *** و ليس لعين لم يفض ماؤها عدر
أخبرني الصّوليّ قال: حدّثني محمد بن موسى قال:
كان أبو تمام يعشق غلاما خزريا للحسن بن وهب، و كان الحسن يتعشق غلاما روميا لأبي تمام، فرآه أبو تمام يوما يعبث بغلامه، فقال له: و اللّه لئن أعنقت(2) إلى الروم، لنركضنّ إلى الخزر. فقال له الحسن: لو شئت حكّمتنا و احتكمت. فقال أبو تمام: أنا أشبهك بداود عليه السّلام، و أشبه نفسي بخصمه، فقال الحسن: لو كان هذا منظوما خفناه، فأما و هو منثور فلا، لأنه عارض لا حقيقة له، فقال أبو تمام:
أبا عليّ لصرف الدهر و الغير *** و للحوادث و الأيام و العبر(3)
أذكرتني أمر داود و كنت فتى *** مصرّف القلب في الأهواء و الفكر
أ عندك الشمس لم يحظ المغيب بها *** و أنت مضطرب الأحشاء للقمر
إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى *** جآذر الروم أعنقنا إلى الخزر
إن القطوب(4) له مني محلّ هوى *** يحل مني محلّ السمع و البصر
/و ربّ أمنع منه جانبا و حمى *** أمسى و تكّته(5) منّي على خطر
جرّدت فيه جنود العزم فانكشفت *** منه غيابتها عن نيكة هدر(6)
ص: 535
سبحان من سبّحته كلّ جارحة *** ما فيك من طمحان الأير و النظر(1)
أنت المقيم فما تغدو رواحله *** و أيره(2) أبدا منه على سفر
أخبرني الصوليّ قال: حدّثني عبد اللّه بن الحسين قال: حدّثني وهب بن سعيد قال:
جاء دعبل إلى الحسن بن وهب في حاجة بعد موت أبي تمام، فقال له رجل في المجلس: يا أبا عليّ، أنت الذي تطعن على من يقول:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي *** و محّت كما محت و شائع من برد(3)
و أنجدتم من بعد إتهام داركم *** فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
فصاح دعبل: أحسن و اللّه! و جعل يردد «فيا دمع أنجدني على ساكني نجد» ثم قال: رحمه اللّه! /لو كان ترك لي شيئا من شعره لقلت إنه أشعر الناس.
أخبرني عليّ بن سليمان و محمد بن يحيى قالا: حدّثنا محمد بن يزيد قال:
مات لعبد اللّه بن طاهر ابنان صغيران في يوم واحد، فدخل عليه أبو تمام فأنشده:
ما زالت الأيام تخبر سائلا *** أن سوف تفجع مسهلا أو عاقلا(4)
مجد تأوّب طارقا حتى إذا *** قلنا أقام الدهر أصبح راحلا(5)
/نجمان شاء اللّه ألا يطلعا *** إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا
إن الفجيعة بالرياض نواضرا *** لأجل منها بالرياض ذوابلا
لو ينسبان لكان هذا غاربا *** للمكرمات و كان هذا كاهلا(6)
لهفي على تلك المخايل منهما *** لو أمهلت حتى تكون شمائلا
لغدا سكونهما حجى و صباهما *** حلما و تلك الأريحية نائلا
إن الهلال إذا رأيت نموّه *** أيقنت أن(7) سيكون بدرا كاملا
ص: 536
باللّه قل يا طلل *** أهلك ما ذا فعلوا
فإن قلبي حذر *** من أن يبينوا و جل
عروضه من الرجز. الشعر لأبي الشيص. و الغناء لأحمد بن يحيى المكيّ. خفيف ثقيل بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية. و من رواية الهشاميّ.
ص: 537
اسمه محمد بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل - و قيل: ابن بهيش - ابن خراش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفضى بن حارثة بن عمرو مزيقيا ابن عامر بن ثعلبة.
و كان أبو الشيص لقبا غلب عليه. و كنيته أبو جعفر، و هو ابن(1) عم دعبل بن عليّ بن رزين لحّا(2). و كان أبو الشيص من شعراء عصره، متوسّط المحلّ فيهم، غير نبيه الذكر، لوقوعه بين مسلم بن الوليد و أشجع و أبي نواس، فخمل و انقطع إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعيّ، و كان أميرا على الرّقّة، فمدحه بأكثر شعره، فقلما يروى له في غيره. و كان عقبة جوادا فأغناه عن غيره.
و لأبي الشيص ابن يقال له عبد اللّه شاعر أيضا، صالح الشعر، و كان منقطعا إلى محمد بن طالب، فأخذ منه جامع شعر أبيه، و من جهته خرج إلى الناس.
و عمي أبو الشّيص في آخر عمره، و له مراث في عينيه قبل ذهابهما و بعده، نذكر منها مختارها مع أخباره.
و كان سريع الهاجس جدا، فيما ذكر عنه. فحكى عبد اللّه بن المعتز أن أبا خالد العامريّ قال له: من أخبرك أنه كان في الدنيا أشعر من أبي الشيص فكذّبه. و اللّه لكان الشعر عليه أهون من شرب الماء على العطشان. و كان من أوصف الناس للشراب، و أمدحهم للملوك.
و هكذا ذكر ابن المعتز، و ليس توجد هذه الصفات كما ذكر في ديوان شعره، و لا هو بساقط، و لكن هذا سرف شديد.
أخبرني عمي قال: حدّثنا الكرانيّ عن النضر بن عمر قال:
قال لي أبو الشيص: لما مدحت عقبة بن جعفر بقصيدتي التي أوّلها:
ص: 538
/تنكري صدي و لا إعراضي *** ليس المقلّ عن الزمان براض
أمر بأن تعدّ، و أعطاني لكل بيت ألف درهم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: أنشدت إبراهيم بن المهديّ(1) أبيات أبي يعقوب الخريميّ التي يرثي بها عينه، يقول فيها:
إذا ما مات بعضك فابك بعضا *** فإن البعض من بعض قريب
فأنشدني لأبي الشيص يبكي عينيه:
يا نفس بكّي بأدمع هتن *** و واكف كالجمان في سنن
على دليلي و قائدي و يدي *** و نور وجهي و سائس البدن
أبكي عليها بها مخافة أن *** تقرنني و الظلام في قرن
و قال أبو هفّان: حدّثني دعبل أن امرأة لقيت أبا الشّيص، فقالت: يا أبا الشيص: عميت بعدي. فقال: قبحك اللّه، دعوتني باللقب، و عيّرتني بالضّرر!
أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال: حدّثني أبي، عن أحمد بن عبيد قال:
اجتمع مسلم بن الوليد و أبو نواس و أبو الشيص و دعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل واحد منكم أجود ما قاله من الشعر. فاندفع رجل كان معهم فقال: اسمعوا مني أخبركم بما ينشد كلّ واحد منكم قبل أن ينشد. قالوا:
هات فقال لمسلم: أما أنت يا أبا الوليد فكأني بك قد أنشدت:
/إذا ما علت منا ذؤابة واحد *** و إن كان ذا حلم دعته إلى الجهل
هل العيش إلا أن تروح مع الصّبا *** و تغدو صريع الكأس و الأعين النّجل
قال: و بهذا البيت لقّب «صريع الغواني»، لقبه به الرشيد، فقال له مسلم: صدقت.
ثم أقبل على أبي نواس فقال له: كأني بك يا أبا عليّ قد أنشدت:
لا تبك ليلى و لا تطرب إلى هند *** و اشرب على الورد من حمراء كالورد
تسقيك من عينها خمرا و من يدها *** خمرا فما لك من سكرين من بدّ
فقال له: صدقت.
ثم أقبل على دعبل فقال له: و أنت يا أبا عليّ، فكأني بك تنشد قولك:
ص: 539
أين الشباب و أيّة سلكا *** لا أين يطلب ضلّ بل هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى
فقال: صدقت. ثم أقبل على أبي الشيص، فقال له: و أنت يا أبا جعفر، فكأني بك و قد أنشدت قولك:
لا تنكري صدّي و لا إعراضي *** ليس المقلّ عن الزمان براض
فقال له: لا. ما هذا أردت أن أنشد، و لا هذا بأجود شيء قلته. قالوا: فأنشدنا ما بدا لك. فأنشدهم قوله:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متأخّر عنه و لا متقدّم
أجد الملامة في هواك لذيذة *** حبا لذكرك فليلمني اللّوّم
أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم *** إذ كان حظي منك حظّي منهم
/و أهنتني فأهنت نفسي صاغرا(1) *** ما من يهون عليك ممن يكرم(2)
لعريب في هذا الشعر لحنان: ثقيل أوّل، و رمل.
/قال: فقال أبو نواس، أحسنت و اللّه و جودت! و حياتك لأسرقنّ هذا المعنى منك، ثم لأغلبنك عليه، فيشتهر ما أقول، و يموت ما قلت. قال: فسرق قوله:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متأخّر عنه و لا متقدّم
سرقا خفيا(3)، فقال في الخصيب:
فما جازه جود و لا حل دونه *** و لكن يسير الجود حيث يسير
فسار بيت أبي نواس، و سقط بيت أبي الشيص.
نسخت من كتاب جدّي لأمي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه:
حدّثني الحسن بن سعد قال: حدّثني رزين بن عليّ الخزاعيّ أخو دعبل قال:
كنا عند أبي نواس أنا و دعبل و أبو الشيص و مسلم بن الوليد الأنصاريّ، فقال أبو نواس لأبي الشيص: أنشدني قصيدتك المخزية. قال: و ما هي؟ قال: الضادية. فما خطر بخلدي قولك:
ليس المقلّ عن الزمان براض
إلا أخزيتك(4) استحسانا لها، فإنّ الأعشى كان إذا قال القصيدة عرضها على ابنته، و قد كان ثقّفها و علمها ما بلغت به
ص: 540
استحقاق التحكيم و الاختيار لجيد الكلام، ثم يقول لها: عدّي لي المخزيات، فتعدّ قوله:
أغرّ أروع يستسقى الغمام به *** لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
و ما أشبهها من شعره. قال أبو الشيص: لا أفعل. إنها ليست عندي عقد درّ مفصّل، و لكني أكاثر بغيرها، ثم أنشده قوله:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متأخّر عنه و لا متقدّم
/الأبيات المذكورة، فقال له أبو نواس: قد أردت صرفك عنها، فأبيت أن تخلّى عن سلبك، أو تدرك في هربك.
قال: بل أقول في طلبي(1)، فكيف رأيت هذا الطراز؟ قال: أرى نمطا خسروانيا مذهبا حسنا، فكيف تركت:
في رداء من الصّفيح صقيل *** و قميص من الحديد مذال(2)
قال: تركته كما ترك مختار الدّرتين إحداهما، بما سبق في ألحاظه، و زيّن في ناظره.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني ابن مهرويه قال: حدّثني أبي قال:
حدّثني من قال لأبي نواس: من أشعر طبقات المحدثين؟ قال: الذي يقول:
يطوف علينا بها أحور *** يداه من الكأس مخضوبتان
و الشعر لأبي الشّيص.
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال: حدّثني الفضل بن موسى بن معروف الأصبهانيّ قال: حدّثني أبي قال:
دخل أبو الشيص على أبي دلف و هو يلاعب خادما له بالشّطرنج، فقيل له: يا أبا الشيص، سل هذا الخادم أن يحلّ أزرار قميصه. فقال أبو الشيص: الأمير أعزه اللّه أحق بمسألته. قال: قد سألنه، فزعم أنه يخاف العين على صدره، فقل فيه شيئا. فقال:
و شادن كالبدر يجلو الدّجى *** في الفرق منه المسك مذرور
/يحاذر العين على صدره *** فالجيب منه الدهر مزرور
/فقال أبو دلف: و حياتي لقد أحسنت! و أمر له بخمسة آلاف درهم. فقال الخادم: قد و اللّه أحسن كما قلت، و لكنك أنت ما أحسنت! فضحك، و أمر له بخمسة آلاف أخرى.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني علي بن سعد بن إياس الشيبانيّ قال:
ص: 541
تعشق أبو الشيص محمد بن رزين قينة لرجل من أهل بغداد، فكان يختلف إليها، و ينفق عليها في منزل الرجل، حتى أتلف مالا كثيرا. فلما كفّ بصره، و أخفق، جعل إذا جاء إلى مولى الجارية حجبه، و منعه من الدخول، فجاءني أبو الشيص، فشكا إليّ وجده بالجارية، و استخفاف مولاها به، و سألني المضيّ معه إليه، فمضيت معه، فاستؤذن لنا عليه، فأذن، فدخلت أنا و أبو الشيص، فعاتبته في أمره، و عظّمت عليه حقه، و خوفته من لسانه و من إخوانه، فجعل له يوما في الجمعة يزورها فيه، فكان يأكل في بيته، و يحمل معه نبيذه و نقله، فمضيت معه ذات يوم إليها، فلما وقفنا على بابهم، سمعنا صراخا شديدا من الدار، فقال لي: ما لها تصرخ؟ أ تراه قد مات لعنه اللّه! فما زلنا ندق الباب حتى فتح لنا، فإذا هو قد حسر كميه و بيده سوط، و قال لنا: ادخلا، فدخلنا، و إنما حمله على الإذن لنا الفرق مني، فدخلنا و عاد الرجل إلى داخل يضربها، فاستمعنا عليه و اطلعنا، فإذا هي مشدودة على سلّم و هو يضربها أشد ضرب، و هي تصرخ، و هو يقول: و أنت أيضا فاسرقي الخبز. فاندفع أبو الشيص على المكان يقول في ذلك:
يقول و السوط على كفّه *** قد حزّ في جلدتها حزّا
و هي على السّلّم مشدودة *** «و أنت أيضا فاسرقي الخبزا»
/قال: و جعل أبو الشيص يردّدهما، فسمعهما الرجل، فخرج إلينا مبادرا، و قال له: أنشدني البيتين اللذين قلتهما، فدافعه، فحلف أنه لا بد من إنشادهما، فأنشده إياهما، فقال لي: يا أبا الحسن، أنت كنت شفيع هذا، و قد أسعفتك بما تحب، فإن شاع هذان البيتان فضحتني، فقل له يقطع هذا، و لا يسمعهما، و له علي يومان في الجمعة. ففعلت ذلك، و وافقته عليه، فلم يزل يتردد إليه يومين في الجمعة حتى مات.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن عبد الرّحمن الكاتب، عن أبيه قال:
كانت لأبي الشّيص جارية سوداء اسمها تبر، و كان يتعشقها، و فيها يقول:
لم تنصفي يا سمية الذّهب *** تتلف نفسي و أنت في لعب
يا ابنة عم المسك الذكي و من *** لولاك لم يتخذ و لم يطب
ناسبك المسك في السواد و في الرّيح فأكرم بذاك من نسب
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا عليّ بن محمد النّوفليّ، عن عمه قال:
كان أبو الشّيص صديقا لمحمد بن إسحاق بن سليمان الهاشميّ، و هما حينئذ مملقان، فنال محمد بن إسحاق مرتبة عند سلطانه، و استغنى، فجفا أبا الشيص، و تغير له، /فكتب إليه:
الحمد للّه رب العالمين على *** قربي و بعدك مني يا ابن إسحاق
يا ليت شعري متى تجدي عليّ و قد *** أصبحت رب دنانير و أوراق
تجدي عليّ إذا ما قيل من راق *** و التفت الساق عند الموت بالساق
ص: 542
يوم لعمري تهمّ الناس أنفسهم *** و ليس ينفع فيه رقية الراقي
حدثني محمد(1) بن العباس اليزيديّ قال: حدثنا أبو العباس بن الفرات قال:
كنت أسير مع عبيد اللّه بن سليمان، فاستقبله جعفر بن حفص على دابّة هزيل، و خلفه غلام له، و شيخ على بغل له هرم، و ما فيهم إلا نضو، فأقبل عليّ عبيد اللّه بن سليمان فقال: كأنهم و اللّه صفة أبي الشيص حيث يقول:
أكل الوجيف(2) لحومها و لحومهم *** فأتوك أنقاضا على أنقاض
و قال عبد اللّه بن المعتز: حدثني أبو مالك عبد اللّه قال: قال لي عبد اللّه بن الأعمش:
كان أبو الشّيص عند عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعيّ يشرب، فلما ثمل نام عنده، ثم انتبه في بعض الليل، فذهب يدبّ إلى خادم له، فوجأه بسكين، فقال له: ويحك! قتلتني و اللّه! و ما أحب و اللّه أن أفتضح أني قتلت في مثل هذا، و لا تفضح أنت بي، و لكن خذ دستيجة(3) فاكسرها و لوثها بدمي، و اجعل زجاجها في الجرح، فإذا سئلت عن خبري، فقل: إني سقطت في سكري على الدستيجة فانكسرت، فقتلتني، و مات من ساعته. ففعل الخادم ما أمره به، و دفن أبو الشيص، و جزع عقبة عليه جزعا شديدا. فلما كان بعد أيام سكر الخادم، فصدق عقبة عن خبره، و أنه هو قتله، فلم يلبثه أن قام إليه بسيفه، فلم يزل يضربه حتى قتله.
هلاّ سألت معالم الأطلال *** و الرسم بعد تقادم الأحوال
دمنا تهيج رسومها بعد البلى *** طربا و كيف سؤال أعجم بال
/يمشين مشي قطا البطاح تأوّدا *** قبّ البطون رواجح الأكفال
من كل آنسة الحديث حيية *** ليست بفاحشة و لا متفال
أقصى مذاهبها إذا لاقيتها *** في الشهر بين أسرّة و حجال
و تكون ريقتها إذا نبهتها *** كالشهد أو كسلافة الجريال
المتفال: المنتنة الريح. و الجريال فيما قيل: اسم للون الخمر. و قيل: بل هو من أسمائها. و الدليل على أنه لونها قول الأعشى:
و سلافة مما تعتق بابل *** كدم الذبيح سلبتها جريالها
ص: 543
قال سماك بن حرب: حدثني يحنّس بن متّى الحيريّ راوية الأعشى: أنه سأله عن هذا البيت فقال: سلبتها لونها:
شربتها حمراء، و بلتها بيضاء.
الشعر في هذا الغناء المذكور للكميت بن زيد، و الغناء لابن سريج، ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو بن بانة.
و ذكر المكيّ أنه لابن/محرز. و فيه لعطرّد خفيف ثقيل. و هذا الشعر من قصيدة للكميت، يمدح بها مخلد بن يزيد بن المهلّب، يقول فيها:
قاد الجيوش لخمس عشرة حجّة *** و لداته عن ذاك في أشغال
قعدت بهم هماتهم و سمت به *** همم الملوك و سورة الأبطال
فكأنما عاش المهلّب بينهم *** بأغرّ قاس مثاله بمثال
في كفّه قصبات كلّ مقلّد *** يوم الرّهان و فوز كلّ نصال
و متى أزنك بمعشر و أزنهم *** بك ألف وزنك أرجح الأثقال
تمّ الجزء السادس عشر من كتاب الأغاني
ص: 544
الموضوع الصفحة
أخبار شارية 271
أخبار الحسين بن مطير و نسبه 280
أخبار النعمان بن بشير و نسبه 288
أخبار مقتل ربيعة و نسبه 307
أخبار المغيرة بن شعبة و نسبه 321
أخبار محمد بن بشير الخارجيّ و نسبه 335
ذكر سديف و أخباره 357
أخبار الحسين بن علي و نسبه 359
أخبار الفضل بن العباس اللهبي و نسبه 382
أخبار المهاجر بن خالد و نسبه، و أخبار ابنه خالد 395
أخبار حمزة بن بيض و نسبه 400
أخبار كعب بن مالك الأنصاري و نسبه 416
أخبار عيسى بن موسى و نسبه 426
أخبار الرقاشي و نسبه 429
أخبار ابن درّاج الطفيلي 434
أخبار ربيعة الرّقّي و نسبه 436
ذكر الخبر في مقتل ابني عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب 444
ذكر أم حكيم و أخبارها 450
الخبر في هذه القصة، و سبب منافرة عامر و علقمة و خبر الأعشى و غيره معهما فيها 456
أخبار أبي العباس الأعمى 466
أخبار أبي حيّة النّميريّ و نسبه 473
أخبار أحمد بن يحيى المكّي 476
[من غزل جرير] 480
أخبار نائلة بنت الفرافصة و نسبها 483
أخبار عبد يغوث و نسبه 487
ص: 545
الموضوع الصفحة
أخبار ذات الخال 497
نسب حجر بن عمرو و السبب الذي من أجله قال هذا الشعر 506
أخبار محمد بن صالح العلويّ و نسبه 509
ذكر أخبار أبي دواد الإياديّ و نسبه 518
أخبار أبي تمام و نسبه 525
أخبار أبي الشّيص و نسبه 538
فهرس الموضوعات 545
ص: 546