الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
أبو الطّمحان اسمه حنظلة بن الشّرقيّ(1)، أحد بني القين بن جسر بن شيع اللّه، من قضاعة. و قد تقدّم هذا النسب في عدّة مواضع من الكتاب في أنساب شعرائهم.
و كان أبو الطّمحان شاعرا فارسا خاربا(2) صعلوكا. و هو من المخضرمين، أدرك الجاهلية و الإسلام، فكان خبيث الدّين فيهما كما يذكر. و كان تربا للزّبير بن عبد المطّلب في الجاهلية و نديما له. أخبرنا بذلك أبو الحسن الأسديّ عن الرّياشيّ عن أبي عبيدة.
و مما يدلّ على أنه قد أدرك الجاهلية ما ذكره ابن الكلبيّ عن أبيه قال: خرج قيسبة بن كلثوم السّكونيّ، و كان ملكا، يريد الحج - و كانت العرب تحج في الجاهلية فلا يعر (3)، بعضها لبعض - فمرّ ببني عامر بن عقيل، فوثبوا عليه فأسروه و أخذوا/ماله و ما كان معه، و ألقوه في القدّ(3)، فمكث فيه ثلاث سنين، و شاع باليمن أن الجنّ استطارته(4). فبينا هو في يوم شديد البرد في بيت عجوز منهم إذ قال لها: أ تأذنين/لي أن آتي الأكمة فأتشرّق(5)عليها فقد أضرّ بي القرّ(6)؟! فقالت له نعم. كانت عليه جبة له حبرة(7) لم يترك عليه غيرها، فتمشّى في أغلاله
ص: 5
و قيوده حتى صعد الأكمة، ثم أقبل يضرب ببصره نحو اليمن، و تغشاه عبرة فبكى، ثم رفع طرفه إلى السماء و قال:
اللهم ساكن السماء فرّج لي مما أصبحت فيه. فبينا هو كذلك إذ عرض له راكب يسير، فأشار إليه أن أقبل، فأقبل الراكب، فلما وقف عليه قال له: ما حاجتك يا هذا؟ قال: أين تريد؟ قال: أريد اليمن. قال: و من أنت؟ قال [أنا](1) أبو الطّمحان القينيّ، فاستعبر باكيا. فقال [له](1) أبو الطّمحان: من أنت؟ فإني أرى عليك سيما الخير و لباس الملوك، و أنت بدار ليس فيها ملك. قال: أنا قيسبة بن كلثوم السّكونيّ، خرجت عام كذا و كذا أريد الحج، فوثب عليّ هذا الحيّ فصنعوا بي ما ترى، و كشف عن أغلاله/و قيوده؛ فاستعبر أبو الطمحان، فقال له قيسبة: هل لك في مائة ناقة حمراء؟ قال: ما أحوجني إلى ذلك! قال: فأنخ، فأناخ. ثم قال له: أ معك سكّين؟ قال نعم. قال:
ارفع لي عن رحلك، فرفع له عن رحله حتى بدت خشبة مؤخره(2)؛ فكتب عليها قيسبة بالمسند(3)، و ليس يكتب به غير أهل اليمن:
بلّغا كندة(4) الملوك جميعا *** حيث سارت بالأكرمين الجمال
أن ردوا العين بالخميس(5) عجالا *** و اصدروا عنه و الرّوايا(6) ثقال
هزئت جارتي و قالت عجيبا *** إذ رأتني في جيدي الأغلال
إن تريني عاري العظام أسيرا *** قد براني تضعضع و اختلال
فلقد أقدم الكتيبة بالسي *** ف عليّ السلاح و السربال
و كتب تحت الشعر إلى أخيه أن يدفع إلى أبي الطّمحان مائة ناقة. ثم قال له: أقرئ هذا قومي؛ فإنهم سيعطونك مائة ناقة حمراء. فخرج تسير به ناقته، حتى أتى/حضر موت، فتشاغل بما ورد له و نسي أمر قيسبة حتى فرغ من حوائجه. ثم سمع نسوة من عجائز اليمن يتذاكرن قيسبة و يبكين، فذكر أمره، فأتى أخاه الجون بن كلثوم، و هو أخوه لأبيه و أمه، فقال له: يا هذا، إني أدلّك على قيسبة و قد جعل لي مائة من الإبل. قال له: فهي لك.
فكشف عن الرحل، فلما قرأه الجون أمر له بمائة ناقة، ثم أتى قيس بن معديكرب الكنديّ أبا الأشعث بن قيس، فقال له: يا هذا، إن أخي في بني عقيل أسير، فسر معي بقومك، فقال له: أ تسير تحت لوائي حتى أطلب ثأرك و أنجدك، و إلا فامض راشدا. فقال له الجون: مسّ السماء أيسر من ذلك و أهون عليّ مما خيّرته. و ضجّت
ص: 6
السّكون(1) ثم فاءوا و رجعوا و قالوا له: و ما عليك من هذا! هو ابن عمك و يطلب لك بثأرك! فأنعم له بذلك(2).
و سار قيس و سار الجون معه تحت لوائه، و كندة و السّكون معه؛ فهو أوّل يوم اجتمعت فيه السّكون و كندة لقيس، و به أدرك الشرف. فسار حتى أوقع بعامر بن عقيل فقتل منهم مقتلة عظيمة و استنقذ قيسبة. و قال في ذلك سلامة بن صبيح الكنديّ:
لا تشتمونا إذ جلبنا لكم *** ألفي كميت كلّها سلهبه(3)
نحن أبلنا(4) الخيل في أرضكم *** حتى ثأرنا منكم قيسبه
/و اعترضت من دونهم مذحج *** فصادفوا من خيلنا مشغبه(5)
حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن أيّوب قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم قال:
بلغني أنّ أبا الطّمحان القينيّ قيل له، و كان فاسقا خاربا، ما أدنى ذنوبك؟ قال: ليلة الدّير. قيل له: و ما ليلة الدير؟ قال: نزلت بديرانيّة فأكلت عندها طفيشلا(6) بلحم خنزير، و شربت من خمرها، و زنيت بها، و سرقت كساءها(7)، ثم انصرفت عنها.
أخبرني عمي قال حدّثني محمّد بن عبد اللّه الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ عن أبيه قال:
جنى أبو الطّمحان القينيّ جناية و طلبه السلطان، فهرب من بلاده و لجأ إلى بني فزارة فنزل على رجل منهم يقال له: مالك بن سعد أحد بني شمخ؛ فآواه و أجاره و ضرب عليه بيتا و خلطه بنفسه. فأقام مدّة، ثم تشوّق يوما إلى أهله و قد شرب شرابا ثمل منه، فقال لمالك: لو لا أن يدي تقصر عن دية جنايتي لعدت إلى أهلي. فقال له: هذه إبلي فخذ منها دية جنايتك و اردد(8) ما شئت. فلمّا أصبح ندم على ما قاله و كره مفارقة موضعه و لم يأمن على نفسه، فأتى مالكا فأنشده:
سأمدح مالكا في كلّ ركب *** لقيتهم و أترك كل رذل
فما أنا و البكارة أو مخاض *** عظام جلّة سدس و بزل(9)
ص: 7
/
و قد عرفت كلابكم ثيابي *** كأنّي منكم و نسيت أهلي
نمت(1) بك من بني شمخ زناد *** لها ما شئت من فرع و أصل
قال فقال مالك: مرحبا! فإنك حبيب ازداد حبا، إنما اشتقت إلى أهلك و ذكرت أنه يحبسك عنهم ما تطالب به من عقل(2) أو دية، فبذلت لك ما بذلت، و هو لك على كل حال، فأقم في الرّحب و السّعة. فلم يزل مقيما عندهم حتى هلك في دارهم.
قال أبو عمرو في هذه الرواية: و أخبرني أيضا بمثله محمّد بن جعفر النّحوي صهر المبرّد، قال حدّثنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال:
عاتبت أبا الطّمحان القينيّ امرأته في غاراته و مخاطرته بنفسه، و كان لصّا خاربا خبيثا، و اكثرت لومه على ركوب الأهوال و مخاطرته بنفسه في مذاهبه، فقال لها:
لو كنت في ريمان(3) تحرس بابه *** أراجيل أحبوش و أغضف آلف
إذا لأتتني حيث كنت منيّتي *** يخبّ بها هاد بأمري قائف(4)
فمن رهبة آتي المتالف سادرا *** و أيّة أرض ليس فيها متالف(5)
فأمّا البيت الّذي ذكرت من شعره أنّ فيه لعريب صنعة و هو:
أضاءت لهم أحسابهم و وجوههم
فإنه من قصيدة له مدح بها بجير بن أوس بن حارثة بن لأم الطائيّ، و كان أسيرا في يده. فلما مدحه بهذه القصيدة أطلقه و جزّ ناصيته، فمدحه بعد هذا بعدّة قصائد. و أوّل هذه الأبيات:
إذا قيل أيّ الناس خير قبيلة(6) *** و أصبر يوما لا توارى كواكبه
ص: 8
فإنّ بني لأم بن عمرو أرومة *** علت فوق صعب لا تنال مراقبه(1)
أضاءت لهم أحسابهم و وجوههم *** دجى الليل حتى نظّم الجزع(2) ثاقبه
//لهم مجلس لا يحصرون(3) عن النّدى *** إذا مطلب المعروف أجدب راكبه
/و أمّا خبر أسره و الوقعة الّتي اسر فيها فإن عليّ بن سليمان الأخفش أخبرني بها عن أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال:
كان أبو الطّمحان القيني مجاورا في جديلة من طيّئ، و كانت قد اقتتلت بينها و تحاربت الحرب الّتي يقال لها «حرب الفساد»(4) و تحزّبت حزبين: حزب جديلة و حزب الغوث، و كانت هذه الحرب بينهم أربعة أيام، ثلاثة منها للغوث و يوم لجديلة. فأمّا اليوم الّذي كان لجديلة فهو «يوم ناصفة». و أما الثلاثة الأيام الّتي كانت للغوث فإنها «يوم قارات حوق»(5) و «يوم البيضة»(6) و «يوم عرنان»(7) و هو آخرها و أشدّها و كان للغوث، فانهزمت جديلة هزيمة قبيحة، و هربت فلحقت بكلب و حالفتهم و أقامت فيهم عشرين سنة.
و أسر أبو الطّمحان في هذه الحرب: أسره رجلان من طيّئ و اشتركا فيه، فاشتراه منهما بجير بن أوس بن حارثة لمّا بلغه قوله:
/
أرقت و آبتنى الهموم الطّوارق *** و لم يلق ما لاقيت قبلي عاشق
ص: 9
إليكم بني لأم تخبّ هجانها *** بكلّ طريق صادفته شبارق(1)
لكم نائل غمر و أحلام سادة *** و ألسنة يوم الخطاب مسالق(2)
و لم يدع داع مثلكم لعظيمة *** إذا و زمت بالساعدين السّوارق(3)
السوارق: الجوامع(4)، واحدتها سارقة.
قال فابتاعه بجير من الطائيّين بحكمهما، فجزّ ناصيته و اعتقه.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أبو أيّوب المديني قال: حدّثني مصعب بن عبد اللّه الزّبيري قال:
كان أبو الطّمحان القينيّ مجاورا لبطن من طيّئ يقال لهم بنو جديلة، فنطح تيس له غلاما منهم فقتله، فتعلّقوا أبا الطمحان و أسروه حتى أدّى(5) ديته مائة من الإبل. و جاءهم نزيله، و كان يدعى هشاما، ليدفع عنه فلم يقبلوا قوله؛ فقال له أبو الطمحان:
أتاني هشام يدفع الضّيم جاهدا *** يقول ألا ما ذا ترى و تقول
فقلت له قم يا لك الخير أدّها *** مذلّلة إنّ العزيز ذليل
فإن يك دون القين أغبر شامخ *** فليس إلى القين الغداة سبيل(6)
أخبرني عمي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن مالك، عن إسحاق قال:
دخلت يوما على المأمون فوجدته حائرا متفكّرا غير نشيط، فأخذت أحدّثه بملح الأحاديث و طرفها، أستميله لأن يضحك أو ينشط، فلم يفعل. و خطر ببالي بيتان فأنشدته إيّاهما، و هما:
ألا علّلاني قبل نوح النّوائح(7) *** و قبل نشوز(8) النفس بين الجوانح
و قبل غد، يا لهف نفسي على غد *** إذا راح أصحابي و لست برائح(9)
ص: 10
فتنبّه كالمتفزّع ثم قال: من يقول هذا ويحك؟ قلت: أبو الطّمحان القينيّ يا أمير المؤمنين. قال: صدق و اللّه، أعدهما عليّ. فأعدتهما عليه حتى حفظهما. ثم دعا بالطعام فأكل، و دعا بالشراب فشرب. و أمر لي بعشرين ألف درهم.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثني أحمد بن الحارث الخرّاز قال: [حدّثني] المدائنيّ قال:
عاتب عبد الملك بن مروان الحسن بن/الحسن عليهما السلام على شيء بلغه عنه من دعاء أهل العراق إيّاه إلى الخروج معهم على عبد الملك، فجعل يعتذر إليه و يحلف له. فقال له خالد بن يزيد بن معاوية: يا أمير المؤمنين، أ لا تقبل عذر ابن عمك و تزيل عن قلبك ما قد أشربته إيّاه؟ أ ما سمعت قول أبي الطّمحان القينيّ:
/
إذا كان في صدر ابن عمّك إحنة *** فلا تستثرها سوف يبدو دفينها
و إن(1) حمأة المعروف أعطاك صفوها *** فخذ عفوه لا يلتبس بك طينها
قال المدائني: و نزل أبو الطمحان على الزّبير بن عبد المطّلب بن هاشم، و كانت العرب تنزل عليه، فطال مقامه لديه، و استأذنه في الرجوع إلى أهله و شكا إليه شوقا(2) إليهم، فلم يأذن له. و سأله المقام، فأقام عنده مدّة، ثم أتاه فقال له:
ألا حنّت المرقال و ائتبّ(3) ربّها *** تذكّر أوطانا(4) و أذكر معشري
و لو عرفت صرف البيوع لسرّها *** بمكة أن تبتاع حمضا بادخر(5)
أسرّك لو أنّا بجنبي عنيزة(6) *** و حمض(7) و ضمران(8) الجناب و صعتر
/إذا شاء راعيها استقى من وقيعة(9) *** كعين الغراب صفوها لم يكدّر
فلمّا أنشده إيّاها أذن له فانصرف، و كان نديما له.
ص: 11
الأسود بن يعفر - و يقال يعفر بضم الياء(1) - ابن عبد الأسود بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. و أمّ الأسود بن يعفر رهم بنت العبّاب، من بني سهم بن عجل. شاعر متقدّم فصيح، من شعراء الجاهلية، ليس بالمكثر. و جعله محمّد بن سلام في الطبقة الثامنة(2) مع خداش بن زهير، و المخبّل السعديّ، و النّمر بن تولب العكلى. و هو من العشي - و يقال العشو بالواو - المعدودين في الشعراء.
و قصيدته الدالية المشهورة:
نام الخليّ و ما أحسّ رقادي *** و الهمّ مختصر لديّ و سادي
معدودة من مختار أشعار العرب و حكمها، مفضّلية مأثورة.
أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعيّ و أبو الحسن أحمد بن محمّد الأسديّ قالا: حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال:
/تقدّم رجل من أهل البصرة من بني دارم إلى سوّار بن عبد اللّه ليقيم عنده شهادة، فصادفه يتمثّل قول الأسود بن يعفر(3):
و لقد علمت لو أنّ علمي نافعي(4) *** أنّ السّبيل سبيل ذي الأعواد(5)
إنّ المنيّة و الحتوف كلاهما *** يوفي المخارم يرميان سوادي(6)
ص: 13
ما ذا أؤمّل بعد آل محرّق *** تركوا منازلهم و بعد إياد(1)/
/أهل الخورنق و السّدير و بارق *** و القصر ذي الشّرفات من سنداد(2)
نزلوا بأنقرة يفيض عليهم *** ماء الفرات يفيض من أطواد(3)
جرت الرّياح على محلّ ديارهم *** فكأنّما كانوا على ميعاد
ثم أقبل على الدارميّ فقال له: أ تروي هذا الشعر؟ قال: لا. قال: أ فتعرف من يقوله؟ قال: لا. قال: رجل من قومك له هذه النباهة و قد قال مثل هذه الحكمة لا ترويها و لا تعرفه! يا مزاحم، أثبت شهادته عندك، فإني متوقّف عن قبوله حتى أسأل عنه، فإني أظنّه ضعيفا.
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ عن الرياشيّ عن أبي عبيدة بمثله.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني الحكم بن موسى السّلوليّ قال حدّثني أبي قال:
بينا نحن بالرافقة(4) على باب الرّشيد وقوف، و ما أفقد أحدا من وجوه العرب من أهل الشام و الجزيرة و العراق، إذ خرج وصيف كأنه درّة فقال: يا معشر الصحابة، /إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام و يقول لكم:
من كان منكم يروي قصيدة الأسود بن يعفر:
نام الخليّ و ما أحسّ رقادي *** و الهمّ مختصر(5) لديّ و سادي
فليدخل فلينشدها أمير المؤمنين و له عشرة آلاف درهم. فنظر بعضنا إلى بعض، و لم يكن فينا أحد يرويها. قال:
فكأنما سقطت و اللّه البدرة عن قربوسي(6). قال الحكم: فأمرني أبي فرويت شعر الأسود بن يعفر من أجل هذا الحديث.
ص: 14
أخبرني محمّد بن القاسم الأنباريّ قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عبد اللّه بن عبد الرحمن المدائنيّ قال: حدّثنا [أبو](1) أمية بن عمرو بن هشام الحرّانيّ قال: حدّثنا محمّد بن يزيد بن سنان قال: حدّثني جدّي سنان بن يزيد قال:
كنت مع مولاي جرير بن سهم التميميّ و هو يسير أمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام و يقول:
يا فرسي سيري و أمّي الشاما *** و خلّفي الأخوال و الأعماما
و قطّعي الأجواز و الأعلاما(2) *** و قاتلي من خالف الإماما
إني لأرجو إن لقينا العاما *** جمع بني أميّة الطّغاما
أن نقتل العاصي و الهماما *** و أن نزيل من رجال هاما
فلما انتهى إلى مدائن كسرى وقف عليّ عليه السلام و وقفنا، فتمثّل مولاي قول الأسود بن يعفر:
جرت الرّياح على مكان ديارهم *** فكأنّما كانوا على ميعاد
/فقال له عليّ عليه السلام: فلم لم تقل كما قال اللّه جلّ و عزّ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ. وَ زُرُوعٍ وَ مَقٰامٍ كَرِيمٍ. وَ نَعْمَةٍ كٰانُوا فِيهٰا فٰاكِهِينَ. كَذٰلِكَ وَ أَوْرَثْنٰاهٰا قَوْماً آخَرِينَ .
ثم قال: يا ابن أخي، إن هؤلاء كفروا النعمة، فحلّت بهم النّقمة، فإيّاكم و كفر النّعمة فتحلّ بكم النقمة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمّد بن موسى قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
مرّ عمر بن عبد العزيز و معه مزاحم مولاه يوما بقصر من قصور آل جفنة، و قد خرب، فتمثّل مزاحم بقول الأسود بن يعفر:
جرت الرّياح على محلّ ديارهم *** فكأنّما كانوا على ميعاد
و لقد غنوا(3) فيها بأنعم عيشة *** في ظلّ ملك ثابت الأوتاد
فإذا النّعيم و كلّ ما يلهى به *** يوما يصير إلى بلى و نفاد
فقال له عمر: هلاّ قرأت: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ ، إلى قوله جلّ و عزّ: كَذٰلِكَ وَ أَوْرَثْنٰاهٰا قَوْماً آخَرِينَ .
نسخت من كتاب محمّد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل قال:
كان الأسود بن يعفر مجاورا في بني قيس بن ثعلبة ثم في بني مرّة بن عباد بالقاعة(4)، فقامرهم فقمروه، حتى حصل عليه تسعة عشر بكرا، فقالت لهم أمّه و هي رهم بنت العبّاب: يا قوم، أ تسلبون ابن أخيكم(5) ماله؟ قالوا:
ص: 15
فما ذا نصنع؟ قالت: احبسوا قداحه(1). /فلما راح القوم قالوا له: أمسك(2). فدخل ليقامرهم فردّوا قداحه. فقال:
لا أقم بين قوم لا أضرب فيهم بقدح؛ فاحتمل قبل دخول الأشهر الحرم، فأخذت إبله طائفة من بكر بن وائل؛ فاستسعى الأسود بني مرّة بن(3) عباد و ذكّرهم الجوار و قال لهم:
يا لعباد دعوة بعد هجمة *** فهل فيكم من قوّة و زماع(4)
فتسعوا لجار حلّ وسط بيوتكم *** غريب و جارات تركن جياع
و هي قصيدة طويلة، فلم يصنعوا شيئا. فادّعى جوار بني محلّم بن ذهل بن شيبان، فقال:
قل لبني محلّم يسيروا *** بذمّة يسعى بها خفير(5)
لا قدح(6) بعد اليوم حتى توروا
و يروى «إن لم توروا». فسعوا معه حتى استنقذوا إبله، فمدحهم بقصيدته الّتي أوّلها:
أجارتنا غضّي من السّير أو قفي *** و إن كنت قد أزمعت بالبين فاصرفي(7)
أسائلك أو أخبرك عن ذي لبانة *** سقيم الفؤاد بالحسان مكلّف(8)
/يقول فيها:
تداركني أسباب آل محلّم *** و قد كدت أهوي بين نيقين نفنف(9)
هم القوم يمسي جارهم في غضارة *** سويّا سليم اللّحم لم يتحوّف(10)
فلما بلغتهم أبياته ساقوا إليه مثل إبله الّتي استنقذوها من أموالهم.
قال المفضّل: كان رجل من بني سعد بن عوف بن مالك بن حنظلة يقال له طلحة، جارا لبني ربيعة بن عجل بن لجيم(11)، فأكلوا(12) إبله، فسأل في قومه حتّى أتى الأسود بن يعفر يسأله أن يعطيه و يسعى له في إبله. فقال له الأسود: لست جامعهما لك، و لكن اختر أيّهما شئت. قال: أختار أن تسعى لي بإبلي. فقال الأسود لأخواله من بني عجل:
يا جار طلحة هل تردّ لبونه *** فتكون أدنى للوفاء و أكرما
ص: 16
تاللّه لو جاورتموه بأرضه *** حتّى يفارقكم إذا ما أحرما(1)
و هي قصيدة طويلة.
فبعث أخواله من بني عجل بإبل طلحة إلى الأسود بن يعفر فقالوا: أمّا إذ كنت شفيعه فخذها، و تولّ ردّها لتحرز المكرمة عنده دون غيرك.
و قال ابن الأعرابيّ: قتل رجلان من بني سعد بن عجل يقال لهما وائل و سليط ابنا عبد اللّه، عمّا لخالد بن مالك بن ربعيّ النّهشليّ يقال له عامر بن ربعيّ، و كان خالد بن مالك عند النّعمان حينئذ و معه الأسود بن يعفر.
فالتفت النعمان يوما إلى/خالد بن مالك فقال له: أيّ فارسين/في العرب تعرف هما أثقل على الأقران و أخفّ على متون الخيل؟ فقال له: أبيت اللّعن! أنت أعلم. فقال: خالا ابن عمّك الأسود بن يعفر و قاتلا عمّك عامر بن ربعيّ (يعني العجليّين وائلا و سليطا). فتغيّر لون خالد بن مالك. و إنّما أراد النّعمان أن يحثّه(2) على الطّلب بثأر عمّه. فوثب الأسود فقال: أبيت اللعن! عضّ بهن أمّه من رأى حقّ أخواله فوق حقّ أعمامه. ثم التفت إلى خالد بن مالك فقال: يا ابن عمّ، الخمر عليّ حرام حتى أثأر لك بعمك. قال: و عليّ مثل ذلك.
و نهضا يطلبان القوم؛ فجمعا جمعا من بني نهشل بن دارم فأغارا بهم على كاظمة(3)، و أرسلا رجلا من بني زيد بن نهشل بن دارم يقال له عبيد يتجسّس لهم الخبر، فرجع إليهم فقال: جوف كاظمة ملآن من حجّاج و تجار، و فيهم وائل و سليط متساندان(4) في جيش. فركبت بنو نهشل حتى أتوهم، فنادوا: من كان حاجّا فليمض لحجه، و من كان تاجرا فليمض لتجارته. فلمّا خلص لهم وائل و سليط في جيشهما اقتتلوا، فقتل وائل و سليط، قتلهما هزّان بن زهير بن جندل بن نهشل، عادى بينهما(5). و ادّعى الأسود بن يعفر أنه قتل وائلا. ثم عاد إلى النّعمان فلما رآه تبسّم و قال: و في نذرك يا أسود؟ قال: نعم أبيت اللّعن! ثم أقام عنده مدّة ينادمه و يؤاكله.
ثم مرض مرضا شديدا، فبعث النعمان إليه رسولا يسأله عن خبره و هول ما به؛ فقال:
/
نفع قليل إذا نادى الصّدى(6) أصلا *** و حان منه لبرد الماء تغريد
و ودّعوني فقالوا ساعة انطلقوا *** أودى فأودى النّدى و الحزم و الجود
فما أبالي إذا ما متّ ما صنعوا *** كلّ امرئ بسبيل الموت مرصود
ص: 17
و نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ يأثره عن أبيه، قال:
كان أبو جعل أخو عمرو بن حنظلة من البراجم قد جمع جمعا من شذّاذ أسد و تميم و غيرهم، فغزوا بني الحارث بن تيم اللّه بن ثعلبة، فنذروا(1) بهم و قاتلوهم قتالا شديدا حتى فضّوا جمعهم، فلحق رجل من بني الحارث بن تيم اللّه بن ثعلبة جماعة من بني نهشل فيهم جرّاح بن الأسود بن يعفر، و الحرّ بن شمر بن هزّان بن زهير بن جندل، و رافع بن صهيب بن حارثة بن جندل، و عمرو و الحارث ابنا حرير(2) بن سلمى بن جندل، فقال لهم الحارثيّ(3): هلمّ إليّ طلقاء(4)؛ فقد أعجبني قتالكم سائر اليوم، و أنا خير لكم من العطش. قالوا نعم. فنزل ليجزّ نواصيهم. فنظر الجرّاح بن الأسود إلى فرس من خيلهم فإذا هي أجود فرس في الأرض، فوثب فركبها و ركضها و نجا عليها. فقال الحارثيّ للذين بقوا معه: أ تعرفون هذا؟ قالوا: نعم نحن لك عليه خفراء. فلمّا أتى جرّاح أباه أمره فهرب بها في بني سعد فابتطنها(5) ثلاثة أبطن، و كان يقال لها: العصماء. فلما رجع النّفر النّهشليّون إلى قومهم قالوا إنّا خفراء فارس العصماء، فو اللّه لنأخذنّها، فأوعدوه(6). و قال حرير(7) و رافع: نحن الخفيران/بها.
و كان بنو جرول حلفاء بني سلمى بن جندل على بني حارثة بن جندل، فأعانه على ذلك التّيحان بن بلج بن جرول بن نهشل. فقال الأسود بن يعفر يهجوه:
//
أتاني و لم أخش الّذي ابتعثا به *** خفيرا بني سلمى حرير و رافع
هم خيّبوني يوم كلّ غنيمة *** و أهلكتهم(8) لو أنّ ذلك نافع
فلا أنا معطيهم عليّ ظلامة *** و لا الحقّ معروفا لهم أنا مانع
و إني لأقري الضيف وصّى به أبي *** و جار أبي التّيحان ظمآن جائع
فقولا لتيحان ابن عاقرة استها *** أ مجر(9) فلاقي الغيّ أم أنت نازع(10)
و لو أنّ تيحان بن بلج أطاعني *** لأرشدته و للأمور مطالع
و إن يك مدلولا(11) عليّ فإنّني *** أخو الحرب لا قحم(12) و لا متجاذع(13)
ص: 18
و لكنّ تيحان ابن عاقرة استها *** له ذنب(1) من أمره و توابع
قال: فلمّا رأى الأسود أنهم لا يقلعون عن الفرس أو يردّوها، أحلفهم عليها فحلفوا أنهم خفراء لها، فردّ الفرس عليهم و أمسك أمهارها، فردّوا الفرس إلى صاحبها. ثم أظهر الأمهار بعد ذلك، فأوعدوه فيها أن يأخذوها.
فقال الأسود:
أ حقّا بني أبناء سلمى بن جندل *** وعيدكم إياي وسط المجالس
فهلاّ جعلتم نحوه من وعيدكم *** على رهط قعقاع و رهط ابن حابس
/هم منعوا منك تراث أبيكم *** فصار التّراث للكرام الأكايس
هم أوردوكم ضفّة البحر طاميا *** و هم تركوكم بين خاز(2) و ناكس(3)
و قال أبو عمرو: كان مسروق بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل سيّدا جوادا، و كان مؤثرا للأسود بن يعفر، كثير الرّفد له و البرّ به. فمات مسروق و اقتسم أهله ماله، و بان فقده على الأسود بن يعفر فقال يرثيه:
أقول لمّا أتاني هلك سيّدنا *** لا يبعد اللّه ربّ الناس مسروقا
من لا يشيّعه(4) عجز و لا بخل *** و لا يبيت لديه اللّحم موشوقا(5)
مردى حروب(6) إذا ما الخيل ضرّجها(7) *** نضخ الدماء و قد كانت أفاريقا(8)
و الطاعن الطعنة النّجلاء تحسبها *** شنّا(9) هزيما(10) يمجّ الماء مخروقا
و جفنة(11) كنضيح(12) البئر متأقة(13) *** ترى جوانبها باللحم مفتوقا(14)
يسّرتها ليتامى أو لأرملة *** و كنت بالبائس المتروك محقوقا(15)
يا لهف أمّي إذ أودى و فارقني *** أودى ابن سلمى نقيّ العرض مرموقا
ص: 19
و قال أبو عمرو: عاتبت سلمى بنت الأسود بن يعفر أباها على إضاعته ما له فيما ينوب قومه من حمالة(1) و ما يمنحه فقراءهم و يعين به مستمنحهم، فقال لها:
و قالت لا أراك تليق شيئا *** أ تهلك ما جمعت و تستفيد(2)
فقلت بحسبها يسر و عار *** و مرتحل إذا رحل الوفود(3)
فلومي إن بدا لك أو أفيقي *** فقبلك فاتني و هو الحميد
أبو العوراء لم أكمد عليه *** و قيس فاتني و أخي يزيد
مضوا لسبيلهم و بقيت وحدي *** و قد يغني رباعته الوحيد(4)
/فلو لا الشامتون أخذت حقّي *** و إن كانت بمطلبه كئود(5)
و يروى:
و إن كانت له عندي كئود
قال أبو عمرو: و كان الجرّاح بن الأسود في صباه ضئيلا ضعيفا، فنظر إليه الأسود و هو يصارع صبيّا من الحيّ - و قد صرعه الصبيّ - و الصبيان يهزءون منه، فقال:
سيجرح جرّاح و أعقل ضيمه *** إذا كان مخشيّا من الضّلع المبدي(6)
فآباء جرّاح ذؤابة دارم *** و أخوال جرّاح سراة بني نهد
قال: و كانت أمّ الجرّاح أخيذة، أخذها الأسود من بني نهد في غارة أغارها عليهم.
و قال أبو عمرو: لمّا أسنّ الأسود بن يعفر كفّ بصره، فكان يقاد إذا أراد مذهبا. و قال في ذلك:
قد كنت أهدي و لا أهدى فعلّمني *** حسن المقادة أني أفقد البصرا
أمشي و أتبع جنّابا ليهديني *** إنّ الجنيبة مما تجشم الغدرا(7)
الجنّاب: الرجل الّذي يقوده كما تقاد الجنيبة. الجشم: المشي ببطء. و الغدر: مكان ليس مستويا.
ص: 20
و ذكر محمّد بن حبيب، عن ابن الأعرابيّ، عن المفضّل: أن الأسود كان له أخ يقال له حطائط بن يعفر شاعر، و أن ابنه الجرّاح كان شاعرا أيضا. قال: و أخوه حطائط الّذي قال لأمّهما رهم بنت العبّاب، و عاتبته على جوده فقال:
تقول ابنة العبّاب رهم حربتني *** حطائط لم تترك لنفسك مقعدا(1)
إذا ما جمعنا صرمة بعد هجمة *** تكون علينا كابن أمّك أسودا(2)
فقلت و لم أعي الجواب: تأمّلي *** أ كان هزالا حتف زيد و أربدا(3)
أريني جوادا مات هزلا لعلّني *** أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا
ذريني أكن للمال ربّا و لا يكن *** لي المال ربا تحمدي غبّه غدا
/ذريني فلا أعيا بما حلّ ساحتي *** أسود فأكفى أو أطيع المسوّدا
ذريني يكن مالي لعرضي وقاية *** يقي المال عرضي قبل أن يتبدّدا
أ جارة أهلي بالقصيمة لا يكن *** عليّ - و لم أظلم - لسانك مبردا(4)
أ عاذلتي ألا لا تعذلينا *** أقلّي اللوم إن لم تنفعينا
فقد أكثرت لو أغنيت شيئا *** و لست بقابل ما تأمرينا
الشعر لأرطاة بن سهيّة، و الغناء لمحمد بن الأشعث، خفيف رمل بالبنصر، من نسخة عمرو بن بانة.
ص: 21
هو أرطاة بن زفر بن عبد اللّه بن مالك بن شدّاد بن عقفان(1) بن أبي حارثة بن مرّة بن نشبة بن غيظ بن مرّة [بن عوف](2) بن سعد بن ذبيان. و قد تقدّم هذا النسب في عدّة مواضع من هذا الكتاب. و سهيّة أمّه؛ و هي بنت زامل بن مروان بن زهير بن ثعلبة بن حديج بن أبي جشم/بن كعب بن عوف بن عامر بن عوف، سبيّة من كلب، و كانت لضرار بن الأزور ثم صارت إلى زفر و هي حامل فجاءت بأرطاة من ضرار على فراش زفر؛ فلما ترعرع أرطاة جاء ضرار إلى الحارث بن عوف فقال له:
يا حارث افكك لي بنيّ من زفر
- و يروى:
«يا حار أطلق لي»
-
في بعض من تطلق من أسرى مضر
إنّ أباه امرؤ سوء إن كفر(3)
فأعطاه الحارث إياه و قال: انطلق بابنك، فأدركه نهشل بن حرّيّ بن غطفان فانتزعه و ردّه إلى زفر. و في تصداق ذلك يقول أرطاة لبعض أولاد زفر:
فإذا خمصتم(4) قلتم يا عمّنا *** و إذا بطنتم(5) قلتم ابن الأزور
/قال: و لهذا غلبت أمه سهيّة على نسبه فنسب إليها. و ضرار بن الأزور هذا قاتل مالك بن نويرة الّذي يقول فيه أخوه متمّم:
نعم القتيل إذا الرّياح تناوحت *** تحت البيوت، قتلت يا ابن الأزور
و أرطاة شاعر فصيح، معدود في طبقات الشعراء المعدودين من شعراء الإسلام في دولة بني أميّة لم يسبقها و لم يتأخّر عنها. و كان امرأ صدق شريفا في قومه جوادا.
أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان رفيع بن سلمة الملقّب بدماذ، قال: حدّثنا أبو عبيدة قال:
ص: 22
دخل أرطاة بن سهيّة على عبد الملك بن مروان، فاستنشده شيئا مما كان يناقض(1) به شبيب بن البرصاء، فأنشده:
أبي كان خيرا من أبيك و لم يزل *** جنيبا لآبائي و أنت جنيب(2)
فقال له عبد الملك بن مروان: كذبت، شبيب خير منك أبا. ثم أنشده:
و ما زلت خيرا منك مذ عضّ كارها *** برأسك عاديّ النّجاد رسوب(3)
فقال له عبد الملك: صدقت، أنت في نفسك خير من شبيب. فعجب من عبد الملك من حضر و من معرفته مقادير الناس(4) على بعدهم منه في بواديهم، و كان الأمر على ما قال: كان شبيب أشرف أبا من أرطاة، و كان أرطاة أشرف فعلا و نفسا من شبيب.
/أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعيّ قال حدّثنا عمرو بن بحر الجاحظ و دماذ أبو غسّان، قالا جميعا، قال أبو عبيدة:
دخل أرطاة بن سهيّة على عبد الملك بن مروان، فقال له: كيف حالك يا أرطاة؟ - و قد كان أسنّ - فقال:
ضعفت أوصالي، و ضاع مالي، و قلّ منّي ما كنت أحبّ كثرته، و كثر مني ما كنت أحبّ قلّته. قال: فكيف أنت في شعرك؟ فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما أطرب و لا أغضب و لا أرغب و لا أرهب، و ما يكون الشعر إلا من نتائج هذه الأربع، و على أنّي القائل:
رأيت المرء تأكله اللّيالي *** كأكل الأرض ساقطة الحديد
و ما تبغي المنيّة حين تأتي *** على نفس ابن آدم من مزيد
و أعلم أنها ستكرّ حتّى *** توفّي نذرها بأبي الوليد
فارتاع عبد الملك ثم قال: بل توفّى نذرها بك ويلك! ما لي و لك؟ فقال: لا ترع يا أمير المؤمنين، /فإنّما عنيت نفسي - و كان أرطاة يكنى أبا الوليد فسكّن عبد الملك، ثم استعبر باكيا و قال: أما و اللّه على ذلك لتلمّنّ(5) بي.
أخبرني به حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان محمّد بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي ثابت، فذكر قريبا منه يزيد و ينقص و لا يحيل(6) معنى.
أخبرني عبد الملك بن مسلمة القرشيّ الهشاميّ بأنطاكية(7) قال أخبرني أبي عن أهلنا أن أرطاة بن سهيّة دخل على مروان بن الحكم لما اجتمع له أمر الخلافة.
ص: 23
/و فرغ من الحروب الّتي كان بها متشاغلا. و صمد(1) لإنفاذ الجيوش إلى ابن الزّبير لمحاربته، فهنّأه و كان خاصّا به و بأخيه يحيى بن الحكم، ثم أنشده:
تشكّى قلوصي إليّ الوجى *** تجرّ السّريج و تبلي الخداما(2)
تزور كريما له عندها(3) *** يد لا تعدّ و تهدي السّلاما
و قلّ ثوابا له أنّها *** تجيد القوافي عاما فعاما
و سادت معدّا على رغمها *** قريش و سدت قريشا غلاما
جعلت على الأمر فيه صغا(4) *** فما زال غمزك حتى استقاما
لقيت الزّحوف فقاتلتها *** فجرّدت فيهنّ عضبا حساما
تشقّ القوانس(5) حتى تنا *** ل ما تحتها ثم تبري العظاما
نزعت(6) على مهل سابقا *** فما زادك النّزع إلاّ تماما
فزاد لك اللّه سلطانه *** و زاد لك الخير منه فداما
فكساه مروان و أمر له بثلاثين ناقة و أوقرهنّ له برّا و زبيبا و شعيرا.
قال: و كان أرطأة يهاجي شبيب بن البرصاء، و لكلّ واحد منهما في صاحبه هجاء كثير، و كان كلّ واحد منهما ينفي صاحبه عن عشيرته في أشعاره، فأصلح بينهما/يحيى بن الحكم، و كانت بنو مرّة تألفه و تنتجعه لصهره فيهم.
فلما افترقا سبعه(7) شبيب عند يحيى بن الحكم؛ فقال أرطاة له:
رمتك فلم تشو(8) الفؤاد جنوب *** و ما كلّ من يرمي الفؤاد يصيب
و ما زوّدتنا غير أن خلطت لنا *** أحاديث منها صادق و كذوب
ألا مبلغ فتيان قومي أنّني *** هجاني ابن برصاء اليدين شبيب
و في آل عوف من يهود قبيلة *** تشابه منها ناشئون و شيب
أبي كان خيرا من أبيك و لم يزل *** جنيبا لآبائي و أنت جنيب(9)
ص: 24
و ما زلت خيرا منك مذ عضّ كارها *** برأسك عاديّ النّجاد رسوب
فما ذنبنا إن أمّ حمزة جاورت *** بيثرب أتياسا لهنّ نبيب(1)
و إنّ رجالا بين سلع و واقم(2) *** لأير أبيهم في أبيك نصيب
فلو كنت عوفيّا عميت و أسهلت *** كداك و لكنّ المريب مريب(3)
فأخبرني عمي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال: لمّا قال هذا الشعر أرطاة في شبيب بن البرصاء كان كلّ شيخ من بني عوف يتمنّى أن يعمى - و كان العمى شائعا/في بني عوف كلّما أسنّ منهم رجل عمي - فعمر أرطاة و لم يعم، فكان شبيب يعيّره بذلك. ثم مات أرطاة و عمي شبيب، فكان يقول بعد ذلك: ليت أرطاة عاش حتى يراني أعمى فيعلم أنّي عوفيّ.
و نسخت من كتاب ابن الأعرابيّ في شعر أرطاة قال: كان شبيب بن البرصاء يقول: وددت أنّي جمعني و ابن الأمة أرطاة بن سهيّة يوم قتال فأشفي منه غيظي. فبلغ ذلك أرطاة فقال له:
إن تلقني لا ترى غيري بناظرة *** تنس السلاح و تعرف جهة الأسد(4)
ما ذا تظنّك تغنى في أخي رصد *** من أسد خفّان جابي العين ذي لبد(5)
- جابي العين و جائب العين: شديد النظر -
أبى ضراغمة غبر يعوّدها *** أكل الرجال متى يبدأ لها يعد
يا أيها المتمنّي أن يلاقيني *** إن تنأ آتك أو إن تبغني تجد
نقض اللبانة من مرّ شرائعه *** صعب المقادة تخشاه فلا تعد(6)
متى تردني لا تصدر لمصدرة *** فيها نجاة و إن أصدرك لا ترد
لا تحسبنّي كفقع(7) القاع ينقره *** جان(8) بإصبعه أو بيضة(9) البلد
أنا ابن عقفان معروف له نسبي *** إلا بما شاركت أمّ على ولد
ص: 25
لاقى الملوك فأثأى(1) في دمائهم *** ثم استقرّ بلا عقل و لا قود(2)
من عصبة يطعنون الخيل ضاحية(3) *** حتى تبدّد كالمزءودة(4) الشّرد(5)
و يمنعون نساء الحيّ إن علمت *** و يكشفون قتام(6) الغارة العمد
/أنا ابن صرمة إن تسأل خيارهم *** أضرب برجلي في ساداتهم و يدي(7)
و في بني مالك أم و زافرة *** لا يدفع المجد من قيس إلى أحد(8)
ضربت فيهم بأعرافي كما ضربت *** عروق ناعمة في أبطح ثئد(9)
جدّي قضاعة معروف و يعرفني *** جبا رفيدة أهل السّرو و العدد(10)
أخبرني عمي قال حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ عن أبيه قال:
كان أرطاة بن سهيّة يتحدث إلى امرأة من غنيّ يقال لها وجزة، و كان يهواها ثم افترقا و حال الزمان بينهما و كبر أرطاة، ثم اجتمعت غنيّ و بنو مرّة في دار، فمرّ أرطاة بوجزة و قد هرمت و تغيّرت محاسنها و افتقرت، فجلس إليها و تحدّث معها و هي تشكو إليه أمرها، فلما أراد الانصراف أمر راعيه فجاء بعشرة من إبله فعقلها بفنائها و انصرف و قال:
مررت على حدثي(11) برمّان(12) بعد ما *** تقطّع أقران الصّبا و الوسائل
فكنت كظبي مفلت ثمّ لم يزل *** به الحين(13) حتى أعلقته الحبائل(14)
أعوج(1) بأصحابي عن القصد(2) تعتلي(3) *** بنا عرض كسريها(4) المطيّ(5) العرامس(6)/
فقد تركتني لا أعيج(7) بمشرب *** فأروى و لا ألهو إلى من أجالس
و من عجب الأيام أن(8) كلّ منزل *** لوجزة من أكناف رمّان دارس
و قد جاورت قصر العذيب(9) فما يرى *** برمّان إلا ساخط العيش بائس
طلاب بعيد و اختلاف من النوى *** إذا ما أتى من دون و جزة قادس(10)
لئن أنجح الواشون بيني و بينها *** و طال التنائي و النفوس النوافس(11)
لقد طالما عشنا جميعا و ودّنا *** جميع إذا ما يبتغي الأنس آنس(12)
كذلك صرف الدهر ليس بتارك *** حبيبا و يبقى عمره المتقاعس
ش /و قال ابن الأعرابيّ: كانت بين أرطاة بن سهيّة و بين رجل من بني أسد يقال له حيان مهاجاة، فاعترض بينهما حباشة الأسديّ فهجا أرطاة فقال فيه أرطاة:
أبلغ حباشة أني غير تاركه *** حتى أذلّله إذا كان ما كانا
الباعث القول يسديه و يلحمه *** كالمجتدي الثّكل إذ حاورت حيانا
إن تدع خندف بغيا أو مكاثرة *** أدع القبائل من قيس بن عيلانا
قد نحبس الحقّ حتى ما يجاوزنا *** و الحقّ يحبسنا في حيث يلقانا
نبني لآخرنا مجدا نشيّده *** إنّا كذاك ورثنا المجد أولانا
و قال ابن الأعرابيّ: وفد أرطاة بن سهيّة إلى الشام زائرا لعبد الملك بن مروان عام الجماعة(13)، و قد هنّاه
ص: 27
بالظّفر، و مدحه فأطال المقام عنده، و أرجف أعداؤه بموته، فلما قدم - و قد ملأ يديه - بلغه ما كان منهم، فقال فيهم:
إذا ما طلعنا من ثنيّة لفلف(1) *** فخبّر رجالا يكرهون إيابي
و خبّرهم أني رجعت بغبطة *** أحدّد أظفاري و يصرف(2) نابي
و إني ابن حرب لا تزال تهرّني *** كلاب عدوّي أو تهرّ كلابي
و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: وقع بين زميل(3) قاتل ابن دارة و بين أرطاة بن سهيّة لحاء؛ فتوعده زميل، و قال:
إني لأحسبك ستجرع مثل كأس ابن دارة. فقال له أرطاة:
/
يا زمل إني إن أكن لك سائقا *** تركض برجليك النجاة و ألحق
لا تحسبنّي كامرئ صادفته *** بمضيعة فخدشته بالمرفق
إنّي امرؤ أوفي إذا قارعتكم *** قصب الرّهان و ما أشأ أتعرّق(4)
فقال له زميل:
يا أرط إن تك فاعلا ما قلته *** و المرء يستحيي إذا لم يصدق
فافعل كما فعل ابن دارة سالم *** ثم امش هونك(5) سادرا لا تتّق
و إذا جعلتك بين لحيي شابك الأ *** نياب فارعد ما بدا لك و ابرق
أخبرني أبو الحسن الأسديّ، قال: حدّثنا الرّياشيّ، قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: قال أرطاة بن سهية للربيع بن قعنب:
لقد رأيتك عريانا و مؤتزرا *** فما عرفت أ أنثى أنت أم ذكر؟
/فقال له الربيع: لكن سهيّة قد عرفتني. فغلبه و انقطع أرطاة.
أخبرني عمي، قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدّثنا قعنب بن المحرز عن الهيثم بن الربيع عن عمرو بن جبلة الباهليّ قال: تزوّج عبد الرحمن بن سهيل بن عمرو أمّ هشام بنت عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، و كانت من أجمل نساء قريش(6)، و كان يجد بها وجدا شديدا، فمرض مرضته الّتي هلك فيها، فجعل يديم النظر
ص: 28
إليها و هي عند رأسه، فقالت له: إنك لتنظر إليّ نظر رجل له حاجة، قال: إي و اللّه إن لي إليك حاجة لو ظفرت بها لهان علي ما أنا فيه. قالت: و ما هي؟ قال: أخاف أن تتزوّجي بعدي. قالت: فما يرضيك من ذلك؟ قال: أن توثّقي لي/بالأيمان المغلّظة. فحلفت له بكلّ يمين سكنت إليها نفسه ثم هلك. فلما قضت عدتها خطبها عمر بن عبد العزيز و هو - أمير المدينة - فأرسلت إليه: ما أراك إلا و قد بلغتك يميني، فأرسل إليها: لك مكان كلّ عبد و أمة عبدان و أمتان، و مكان كلّ علق(1) علقان، و مكان كلّ شيء ضعفه. فتزوّجته، فدخل عليها بطال بالمدينة، و قيل:
بل كان رجلا من مشيخة قريش مغفّلا، فلما رآها مع عمر جالسة قال:
تبدلت بعد الخيزران جريدة *** و بعد ثياب الخزّ أحلام نائم
فقال له عمر: جعلتني ويلك جريدة و أحلام نائم! فقالت أمّ هشام: ليس كما قلت، و لكن كما قال أرطاة بن سهية:
و كائن ترى من ذات بثّ و عولة *** بكت شجوها بعد الحنين المرجع
فكانت كذات البو(2) لمّا تعطفت *** على قطع من شلوه المتمزّع
متى لا تجده تنصرف لطياتها(3) *** من الأرض أو تعمد لإلف فتربع
عن الدهر فاصفح إنه غير معتب *** و في غير من قد وارت الأرض فاطمع
و هذه الأبيات من قصيدة يرثي بها أرطاة ابنه عمرا.
أخبرني محمّد بن عمران الصّيرفيّ، قال: حدّثنا الحسن بن عليل، قال: حدّثنا قعنب بن المحرز عن أبي عبيدة، قال: كان لأرطاة بن سهيّة ابن يقال له: عمرو، فمات، فجزع عليه أرطاة حتى كاد عقله يذهب، فأقام على قبره، و ضرب بيته عنده لا يفارقه حولا. ثم إن الحيّ أراد الرّحيل بعد حول لنجعة بغوها، فغدا على قبره، فجلس عنده/حتى إذا حان الرواح ناداه: رح يا ابن سلمى معنا! فقال له قومه: ننشدك اللّه في نفسك و عقلك و دينك، كيف يروح معك من مات مذ حول؟ فقال: أنظروني الليلة إلى الغد. فأقاموا عليه، فلمّا أصبح ناداه: اغد يا ابن سلمى معنا، فلم يزل الناس يذكّرونه اللّه و يناشدونه، فانتضى سيفه و عقر راحلته على قبره، و قال: و اللّه لا أتبعكم فامضوا إن شئتم أو أقيموا. فرقّوا له و رحموه، فأقاموا عامهم ذلك، و صبروا على منزلهم. و قال أرطاة يومئذ في ابنه عمرو يرثيه:
وقفت على قبر ابن سلمى فلم يكن *** وقوفي عليه غير مبكى و مجزع
هل انت ابن سلمى إن نظرتك رائح *** مع الركب أو غاد غداة غد معي
أ أنسى ابن سلمى و هو لم يأت دونه *** من الدهر إلا بعض صيف و مربع/
وقفت على جثمان عمرو فلم أجد *** سوى جدث عاف ببيداء بلقع
ص: 29
ضربت عمودى بانة(1) سموا معا *** فخرّت و لم أتبع قلوصي بدعدع
و لو أنها حادت(2) عن الرمس نلتها *** ببادرة من سيف أشهب(3) موقع
تركتك إن تحيي تكوسي(4) و إن تنؤ *** على الجهد تخذلها توال فتصرع
فدع ذكر من قد حالت الأرض دونه *** و في غير من قد وارت الأرض فاطمع
و قد أخبرني بهذا الخبر محمّد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، فذكر أن أرطاة كان يجيء إلى قبر ابنه عشيّا فيقول: هل أنت رائح معي يا ابن سلمى؟ ثم ينصرف فيغدو عليه و يقول له مثل ذلك حولا، ثم تمثّل قول لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما *** و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر
/أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا المدائني قال: قال أرطاة بن سهيّة يوما للربيع بن قعنب كالعابث به:
لقد رأيتك عريانا و مؤتزرا *** فما دريت أ أنثى أنت أم ذكر
فقال له الربيع:
لكن سهيّة تدري إذ أتيتكم *** على عريجاء لما احتلّت الأزر(5)
فغلبه الربيع، و لجّ الهجاء بينهما، فقال الربيع بن قعنب يهجو أرطاة:
و ما عاشت بنو عقفان إلا *** بأحلام كأحلام الجواري
و ما عقفان من غطفان إلا *** تلمّس مظلم بالليل ساري
إذا نحرت بنو غيظ جزورا *** دعوهم بالمراجل و الشّفار
طهاة اللحم حتى ينضجوه *** و طاهي اللحم في شغل و عار
فقال أرطاة يجيبه و يعيّره بأن أمّة من عبد القيس:
و هذا الفسو(6) قد شاركت فيه *** فمن شاركت في أير الحمار(7)
و أيّ الناس أخبث من(8) هبلّ *** فزارىّ و أخبث ريح دار
ص: 30
أخبرني عبد اللّه بن محمّد اليزيديّ، قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز، قال: حدّثنا المدائنيّ عن أبي بكر الهذلي، قال: قدم مسرف بن(1) عقبة المريّ المدينة، و أوقع بأهل الحرة، فأتاه قومه من بني مرّة و فيهم أرطاة فهنّئوه بالظفر و استرفدوه(2) فطردهم و نهرهم، و قام أرطاة بن سهيّة ليمدحه فتجهّمه بأقبح قول و طرده. و كان في جيش مسرف رجل من أهل الشام من عذرة، يقال له عمارة، قد كان رأى أرطاة عند معاوية بن أبي سفيان، و سمع شعره، و عرف إقبال معاوية عليه، و رفده له، فأومأ إلى أرطاة فأتاه، فقال له: لا يغررك ما بدا لك من الأمير، فإنه عليل ضجر، و لو قد صحّ و استقامت الأمور لزال عما رأيت من قوله و فعله، و أنا بك عارف، و قد رأيتك عند أمير المؤمنين - يعني معاوية - و لن تعدم مني ما تحبّ. و وصله و كساه و حمله على ناقة، فقال أرطاة يمدحه و يهجو مسرفا:
/
لحا اللّه فودى مسرف و ابن عمه *** و آثار نعلي مسرف حيث أثرا
مررت على ربعيهما فكأنّني *** مررت بجبّارين(3) من سرو حميرا
- و يروى: «تضيّفت جبّارين» -
على أن ذا العليا عمارة لم أجد *** على البعد حسن العهد منه تغيّرا
حباني ببرديه و عنس(4) كأنما *** بنى فوق متنيها الوليدان قهقرا
و قال أبو عمرو الشيبانيّ: خاصمت امرأة من بني مرة سهية أمّ أرطاة بن سهيّة، و كانت من غيرهم أخيذة أخذها أبوه، فاستطالت عليها المرأة و سبّتها، فخرج أرطاة إليها فسبها و ضربها، فجاء قومه، و لاموه، و قالوا له مالك تدخل نفسك في خصومات النساء! فقال لهم:
يعيّرني قومي المجاهل(5) و الخنا *** عليهم و قالوا أنت غير حليم
هل الجهل فيكم أن أعاقب بعد ما *** تجوّز سبّي و استحلّ حريمي
إذا أنا لم امنع عجوزي منكم *** فكانت كأخرى في النساء عقيم
و قد علمت أفناء(6) مرّة أننا *** إذا ما اجتدانا(7) الشرّ كلّ حميم
ص: 31
حماة لأحساب العشيرة كلّها *** إذا ذمّ يوم الرّوع كلّ مليم(1)
و تمام الأبيات الّتي فيها الغناء، المذكورة قبل أخبار أرطاة بن سهيّة، و ذكرت في قوله في قتلى من قومه قتلوا يوم بنات قين(2) - هو:
فلا و أبيك لا ننفكّ نبكي *** على قتلى هنالك ما بقينا
على قتلى هنالك أوجعتنا *** و أنستنا رجالا آخرينا
/سنبكي بالرّماح إذا التقينا *** على إخواننا و على بنينا
بطعن ترعد الأحشاء منه *** يردّ البيض و الأبدان جونا(3)
كأنّ الخيل إذ آنسن كلبا(4) *** يرين وراءهم ما يبتغينا
عجبت لمسراها و أنّى تخلّصت *** إليّ و باب السجن بالقفل(5) مغلق
ألمّت فحيّت ثم قامت(6) فودّعت *** فلما تولت كادت النفس تزهق
الشعر لجعفر بن علبة الحارثيّ، و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أن فيه خفيفا ثقيلا أوّل بالوسطى لابن سريج. و ذكر حماد بن إسحاق أن فيه خفيف الثقيل للهذلي.
ص: 32
هو جعفر بن علبة بن ربيعة، بن عبد يغوث الشاعر أسير يوم الكلاب بن معاوية(1) بن صلاءة بن المعقّل بن كعب بن الحارث بن كعب، و يكنى أبا عارم، و عارم، ابن له قد ذكره في شعره. و هو من مخضرمي الدولتين الأموية و العباسية، شاعر مقلّ غزل فارس مذكور في قومه، و كان أبوه علبة بن ربيعة شاعرا أيضا، و كان جعفر قتل رجلا من بني عقيل: قيل: /إنه قتله في شأن أمة كانا يزورانها فتغايرا عليها. و قيل: بل في غارة أغارها عليهم. و قيل: بل كان يحدّث نساءهم فنهوه فلم ينته، فرصدوه في طريقه إليهن فقاتلوه فقتل منهم رجلا فاستعدوا عليه السّلطان فأقاد(2) منه. و أخباره في هذه الجهات كلّها تذكر و تنسب إلى من رواها.
أخبرني محمّد بن القاسم الأنباريّ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني الحسن بن عبد الرحمن الرّبعيّ، قال:
حدّثنا أبو مالك اليمانيّ، قال: شرب جعفر بن علبة الحارثيّ حتى سكر فأخذه السّلطان فحبسه، فأنشأ يقول في حبسه:
لقد زعموا أني سكرت و ربّما *** يكون الفتى سكران و هو حليم
لعمرك ما بالسّكر عار على الفتى *** و لكنّ عارا أن يقال لئيم
و إنّ فتى دامت مواثيق عهده *** على دون(3) ما لاقيته لكريم
/قال: ثمّ حبس معه رجل من قومه من بني الحارث بن كعب في ذلك الحبس، و كان يقال له دوران(4)، فقال جعفر:
إذا باب دوران ترنّم في الدّجى *** و شدّ بأغلاق علينا و أقفال
و أظلم ليل قام علج بجلجل(5) *** يدور به حتّى الصباح بإعمال
ص: 33
و حراس سوء ما ينامون حوله *** فكيف لمظلوم بحيلة محتال
و يصبر فيه ذو الشجاعة و النّدى *** على الذّل للمأمور و العلج و الوالي
فأما ما ذكر أن السبب في أخذ جعفر و قتله في غارة أغارها على بني عقيل، فإني نسخت خبره في ذلك من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ يأثره عن أبيه، قال: خرج جعفر بن علبة و عليّ بن جعدب الحارثيّ القنانيّ و النضر بن مضارب المعاويّ، فأغاروا على بني عقيل، و إن بني عقيل خرجوا في طلبهم و افترقوا عليهم في الطريق و وضعوا عليهم الأرصاد على المضايق، فكانوا كلما أفلتوا من عصبة لقيتهم أخرى، حتى انتهوا إلى بلاد بني نهد فرجعت عنهم بنو عقيل، و قد كانوا قتلوا فيهم، ففي ذلك يقول جعفر:
/
ألا لا أبالي بعد يوم بسحبل(1)*** إذا لم أعذّب أن يجيء حماميا
تركت بأعلى سحبل و مضيقه *** مراق دم لا يبرح الدّهر ثاويا
شفيت به غيظي و جرّب موطني(2)*** و كان سناء(3) آخر الدهر باقيا
أرادوا ليثنوني فقلت تجنبوا *** طريقي فما لي حاجة من ورائيا
فدى لبني عمّ أجابوا لدعوتي *** شفوا من بني القرعاء عمّي و خاليا
كأنّ بني القرعاء يوم لقيتهم *** فراخ القطا لاقين صقرا يمانيا
تركناهم صرعى كأنّ ضجيجهم *** ضجيج دبارى(4) النّيب لاقت مداويا
أقول و قد أجلت من اليوم عركة(5)*** ليبك العقيليّين من كان باكيا
فإنّ بقرّى(6) سحبل لأمارة *** و نضح دماء منهم و محابيا
- المحابي: آثارهم، حبوا من الضعف للجراح الّتي بهم - /
و لم أتّرك لي ريبة غير أنني *** وددت معاذا كان فيمن أتانيا
- أراد: وددت أن معاذا كان أتاني معهم فأقتله -.
شفيت غليلي من خشينة بعد ما *** كسوت الهذيل المشرفيّ اليمانيا(7)
أ حقّا عباد اللّه أن لست رائيا *** صحاريّ نجد و الرّياح الذواريا
/و لا زائرا شمّ العرانين أنتمى *** إلى عامر يحللن رملا معاليا
ص: 34
إذا ما أتيت الحارثيات فانعني *** لهن و خبّرهنّ أن لا تلاقيا
و قوّد قلوصي بينهن فإنها *** ستبرد أكبادا و تبكي بواكيا(1)
أوصيكم إن متّ يوما بعارم(2) *** ليغني شيئا أو يكون مكانيا
و يروى:
و عطّل قلوصي في الرّكاب فانها *** ستبرد أكبادا و تبكي بواكيا(3)
و هذا البيت بعينه يروى لمالك بن الرّيب في قصيدته المشهورة الّتي يرثي بها نفسه. و قال في ذلك جعفر أيضا:
و سائلة عنا بغيب و سائل *** بمصدقنا في الحرب كيف نحاول
عشية قرّى سحبل إذ تعطّفت *** علينا السرايا و العدوّ المباسل(4)
ففرج عنا اللّه مرحى(5) عدوّنا *** و ضرب ببيض المشرفيّة خابل
إذا ما قرى(6) هام الرءوس اعترامها(7) *** تعاورها(8) منهم أكفّ و كاهل(9)
/إذا ما رصدنا مرصدا فرجت لنا *** بأيماننا بيض جلتها الصياقل
و لما أبوا إلا المضيّ و قد رأوا *** بأن ليس منا خشية الموت ناكل
حلفت يمينا برّة لم أرد بها *** مقالة تسميع و لا قول باطل(10)
ليختضمنّ الهندوانيّ منهم *** معاقد يخشاها الطبيب المزاول(11)
و قالوا لنا ثنتان لا بد منهما *** صدور رماح أشرعت أو سلاسل
ص: 35
فقلنا لهم تلكم إذا بعد كرة *** تغادر صرعى نهضها متخاذل(1)
و قتلى نفوس في الحياة زهيدة *** إذا اشتجر الخطّيّ و الموت نازل
نراجعهم في قالة بدءوا بها *** كما راجع الخصم البذيّ المناقل(2)
لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبل *** و لي منه ما ضمّت عليه الأنامل
قال: فاستعدت عليهم بنو عقيل السّريّ بن عبد اللّه الهاشميّ عامل مكة لأبي جعفر؛ فأرسل إلى أبيه علبة بن ربيعة فأخذه بهم، و حبسه حتى دفعهم و سائر من كان معهم إليه، فأما النضر فاستقيد(3) منه بجراحة(4)، و أمّا عليّ بن جعدب فأفلت من الحبس، و أما جعفر بن علبة فأقامت عليه بنو عقيل قسامة(5): أنه قتل صاحبهم فقتل به.
هذه رواية أبي عمرو.
و ذكر ابن الكلبيّ أن الّذي هاج الحرب بين جعفر بن علبة و بني عقيل أن إياس بن يزيد الحارثيّ و إسماعيل بن أحمر العقيليّ اجتمعا عند أمة لشعيب بن صامت الحارثيّ، و هي في إبل لمولاها في موضع يقال له صمعر من بلاد بلحارث(6)، فتحدّثا/عندها فمالت إلى العقيليّ، /فدخلتهما مؤاسفة(7) حتى تخانقا بالعمائم، فانقطعت عمامة الحارثيّ و خنقه العقيليّ حتّى صرعه، ثم تفرّقا. و جاء العقيليّون إلى الحارثيّين فحكّموهم فوهبوا لهم، ثم بلغهم بيت قيل، و هو:
أ لم تسأل العبد الزياديّ ما رأى *** بصمعر و العبد الزياديّ قائم
فغضب إياس من ذلك فلقي هو و ابن عمه النضر بن مضارب ذلك العقيليّ، و هو إسماعيل بن أحمر، فشجه شجّتين و خنقه؛ فصار الحارثيّون إلى العقيليّين فحكموهم فوهبوا لهم. ثم لقى العقيليون جعفر بن علبة الحارثيّ فأخذوه فضربوه و خنقوه و ربطوه و قادوه طويلا ثم أطلقوه. و بلغ ذلك إياس بن يزيد فقال يتوجع لجعفر:
أبا عارم كيف اغتررت و لم تكن *** تغرّ إذا ما كان أمر تحاذره
فلا صلح حتى يخفق(8) السيف خفقة *** بكفّ فتى جرّت عليه جرائره
ثم إن جعفر بن علبة تبعهم و معه ابن أخيه جعدب، و النضر بن مضارب، و إياس بن يزيد، فلقوا المهديّ بن عاصم و كعب بن محمّد بحبرّ - و هو موضع بالقاعة(9) - فضربوهما ضربا مبرّحا، ثم انصرفوا فضلّوا عن الطريق، فوجدوا العقيليّين و هم تسعة، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى خلّى لهم العقيليون الطريق ثم مضوا حتى وجدوا من عقيل جمعا آخر
ص: 36
بسحبل فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل جعفر بن علبة رجلا من عقيل يقال له خشينة، فاستعدى العقيليّون إبراهيم بن هشام المخزوميّ عامل مكة، فرفع الحارثيين(1) الأربعة من نجران حتى حبسهم بمكة، ثم أفلت منه رجل فخرج هاربا، فأحضرت عقيل قسامة: حلفوا أن جعفر قتل صاحبهم. فأقاده إبراهيم بن هشام. /قال و قال جعفر بن علبة قبل أن يقتل و هو محبوس:
عجبت لمسراها و أنّي تخلّصت *** إليّ و باب السجن بالقفل(2) مغلق
ألمّت فحيّت ثم قامت فودّعت *** فلما تولّت كادت النفس تزهق
فلا تحسبي أني تخشّعت بعدكم *** لشيء و لا أنّي من الموت أفرق
و كيف و في كفي حسام مذلّق(3) *** يعضّ بها مات الرجال و يعلق
و لا أن قلبي يزدهيه وعيدهم *** و لا أنّني بالمشي في القيد أخرق(4)
و لكن عرتني من هواك(5) صبابة *** كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق
فأما الهوى و الودّ مني فطامح *** إليك و جثماني بمكة موثق
و قال جعفر بن علبة لأخيه [ماعز](6) يحرّضه:
و قل لأبي عون إذا ما لقيته *** و من دونه عرض الفلاة يحول
- في نسخة ابن الأعرابي:
... إذا ما لقيته *** و دونه من عرض الفلاة محول
بالميم، و بشمّ الهاء في «دونه» بالرفع و تخفيفها، و هي لغتهم خاصة - /
تعلّم و عدّ الشّكّ أنّي يشفّني *** ثلاثة أحراس معا و كبول(7)
إذا رمت مشيا أو تبوّأت مضجعا *** يبيت لها فوق الكعاب صليل
و لو بك كانت لابتعثت مطيّتي *** يعود الحفا أخفافها و تجول
/إلى العدل حتى يصدر(8) الأمر مصدرا *** و تبرأ منكم قالة و عدول
ص: 37
و نسخت أيضا خبره من كتاب للنضر بن حديد، فخالف هاتين الرّوايتين، و قال فيه: كان جعفر بن علبة يزور نساء من عقيل بن كعب، و كانوا متجاورين هم و بنو الحارث بن كعب، فأخذته عقيل، فكشفوا دبر قميصه، و ربطوه إلى جمّته، و ضربوه بالسياط، و كتّفوه، ثم أقبلوا به و أدبروا على النّسوة اللاتي كان يتحدّث إليهن على تلك الحال ليغيظوهن، و يفضحوه عندهنّ، فقال لهم: يا قوم، لا تفعلوا فإن هذا الفعل مثلة، و أنا أحلف لكم بما يثلج صدوركم ألا أزور بيوتكم أبدا، و لا ألجها. فلم يقبلوا منه. فقال لهم: فإن لم تفعلوا ذلك فحسبكم ما قد مضى، و منّوا عليّ بالكفّ عنّى فإني أعدّه نعمة لكم و يدا لا أكفرها أبدا، أو فاقتلوني و أريحوني، فأكون رجلا آذى قوما في دارهم فقتلوه. فلم يفعلوا، و جعلوا يكشفون عورته بين أيدي النساء، و يضربونه، و يغرون به سفهاءهم حتى شفوا أنفسهم منه، ثم خلّوا سبيله. فلم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد جعفر و معه صاحبان له، فدفع، راحلته حتى أولجها البيوت، ثم مضى. فلما كان في نقرة من الرمل أناخ هو و صاحباه، و كانت عقيل أقفى خلق اللّه لأثر، فتبعوه حتى انتهوا إليه و إلى صاحبيه، و العقيليّون مغترّون ليس مع أحد منهم عصا و لا سلاح، فوثب عليهم جعفر بن علبة و صاحباه بالسيوف فقتلوا منهم رجلا و جرحوا آخر و افترقوا، فاستعدت عليهم عقيل السريّ/ابن عبد اللّه الهاشميّ عامل المنصور على مكة، فأحضرهم و حبسهم، فأقاد من الجارح، و دافع عن جعفر بن علبة - و كان يحبّ أن يدرأ عنه الحدّ لخئولة أبي العباس السفاح في بني الحارث، و لأن أخت جعفر كانت تحت السريّ بن عبد اللّه، و كانت حظية عنده - إلى أن أقاموا عليه قسامة: أنه قتل صاحبهم. و توعدوه بالخروج إلى أبي جعفر و التظلم إليه، فحينئذ دعا بجعفر فأقاد منه، و أفلت عليّ بن جعدب من السجن فهرب. قال و هو ابن أخي جعفر بن علبة. فلما أخرج جعفر للقود قال له غلام من قومه: أسقيك شربة من ماء بارد؟ فقال له: اسكت لا أمّ لك، إني إذا لمهياف(1).
و انقطع شسع نعله(2) فوقف فأصلحه، فقال له رجل: أ ما يشغلك عن هذا ما أنت فيه؟ فقال:
أشدّ قبال نعلي(3) أن يراني *** عدوّي للحوادث مستكينا
قال: و كان الّذي ضرب عنق جعفر بن علبة نحبة بن كليب أخو المجنون، و هو أحد بني عامر بن عقيل، فقال:
في ذلك:
شفى النفس ما قال ابن علبة جعفر *** و قولي له اصبر ليس ينفعك الصبر
هوى رأسه من حيث كان كما هوى *** عقاب تدلّى طالبا جانب الوكر(4)
أبا عارم، فينا عرام(5) و شدّة *** و بسطة أيمان سواعدها شعر
هم ضربوا بالسيف هامة جعفر *** و لم ينجه برّ عريض و لا بحر
و قدناه قود البكر قسرا و عنوة *** إلى القبر حتى ضم أثوابه القبر
/و قال علبة يرثي ابنه جعفرا:
لعمرك إني يوم أسلمت جعفرا *** و أصحابه للموت لما أقاتل
لمتجنب حبّ المنايا و إنما *** يهيج المنايا كلّ حق و باطل
ص: 38
فراح بهم قوم و لا قوم عندهم *** مغلّلة أيديهم في السلاسل
و رب أخ لي غاب لو كان شاهدا *** رآه التباليّون(1) لي غير خاذل
و قال علبة أيضا لامرأته أمّ جعفر قبل أن يقتل جعفر:
لعمرك إن الليل يا أمّ جعفر *** عليّ و إن علّلتني لطويل
أحاذر أخبارا من القوم قد دنت *** و رجعة أنقاض لهنّ دليل(2)
فأجابته فقالت:
أبا جعفر أسلمت للقوم جعفرا *** فمت كمدا أو عش و أنت ذليل
قال أبو عمرو في روايته: و ذكر شداد بن إبراهيم أن بنتا ليحيى بن زياد بن عبيد اللّه الحارثيّ حضرت الموسم في ذلك العام لما قتل فكفّنته و استجادت له الكفن، و بكته و جميع من كان معها من جواريها، و جعلن يندبنه بأبياته الّتي قالها قبل قتله:
أ حقا عباد اللّه أن لست رائيا *** صحاريّ نجد و الرياح الذّواريا
و قد تقدمت في صدر أخباره. و في هذه القصيدة يقول جعفر:
وددت معاذا كان فيمن أتانيا
/فقال معاذ يجيبه عنها بعد قتله، و يخاطب أباه، و يعرّض له أنه قتل ظلما لأنهم أقاموا قسامة كاذبة عليه حين قتل، و لم يكونوا عرفوا القاتل من الثلاثة بعينه، إلا أن غيظهم على جعفر حملهم على أن ادّعوا القتل عليه:
أبا جعفر سلّب بنجران و احتسب *** أبا عارم و المسمنات العواليا(3)
و قوّد قلوصا أتلف السّيف ربها *** بغير دم في القوم إلا تماريا(4)
إذا ذكرته معصر(5) حارثيّة *** جرى دمع عينيها على الخد صافيا
فلا تحسبنّ الدّين يا علب منسأ *** و لا الثائر الحرّان ينسى التقاضيا
سنقتل منكم بالقتيل ثلاثة *** و نغلي و إن كانت دماء غواليا
تمنيت أن تلقى معاذا سفاهة *** ستلقى معاذا و القضيب اليمانيا
و وجدت الأبيات القافيّة الّتي فيها الغناء في نسخة النّضر بن حديد أتمّ مما ذكره أبو عمرو الشيبانيّ. و أوّلها:
ألا هل إلى فتيان لهو و لذّة *** سبيل و تهتاف الحمام المطوق(6)
ص: 39
و شربة ماء من خدوراء(1) بارد *** جرى تحت أظلال(2) الأراك المسوّق
و سيري مع الفتيان(3) كلّ عشية *** أبارى مطاياهم(4) بصهباء سيلق
/إذا كلحت(5) عن نابها مجّ شدقها *** لغاما(6) كمحّ البيضة المترقرق
و أصهب جونيّ كأن بغامه *** تبغّم مطرود من الوحش مرهق(7)
/برى(8) لحم دفّيه و أدمى أظله اج *** تيابي الفيافي سملقا بعد سملق(9)
و ذكر بعده الأبيات الماضية. و هذا وهم من النضر، لأن تلك الأبيات مرفوعة القافية و هذه مخفوضة، فأتيت بكل واحدة منهما منفردة و لم أخلطهما لذلك.
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال: لما قتل جعفر بن علبة قام نساء الحيّ يبكين عليه، و قام أبوه إلى كلّ ناقة و شاة فنحر أولادها، و ألقاها بين أيديها و قال: ابكين معنا على جعفر! فما زالت النوق ترغو و الشاء تثغو و النساء يصحن و يبكين و هو يبكي معهنّ؛ فما رئى يوم كان أوجع و أحرق مأتما في العرب من يومئذ.
هو - فيما ذكر محمّد بن سلاّم - العجير بن عبد اللّه بن عبيدة(1) بن كعب بن عائشة(2) بن الربيع(3) بن ضبيط بن جابر بن عبد اللّه بن سلول. و نسخت نسبه من نسخة عبيد اللّه بن محمّد اليزيديّ عن ابن حبيب قال: هو العجير بن عبيد اللّه بن كعب بن عبيدة بن جابر بن عمرو بن سلول(4) بن مرة بن صعصعة، أخي عامر بن صعصعة. شاعر مقلّ إسلاميّ من شعراء الدولة الأموية. و جعله محمّد بن سلام في طبقة أبي زبيد الطائيّ؛ و هي الخامسة من طبقات شعراء الإسلام.
أخبرني أبو خليفة في كتابه إليّ قال: حدّثنا محمّد بن سلاّم الجمحيّ، قال: حدّثنا أبو الغرّاف(5) قال: كان العجير السّلوليّ دلّ عبد الملك بن مروان على ماء يقال له مطلوب(6)، و كان لناس من خثعم، فأنشأ يقول:
/
لا نوم إلا غرار العين ساهرة *** إن لم أروّع بغيظ أهل مطلوب(7)
إن تشتموني فقد بدّلت أيكتكم *** ذرق الدّجاج بحفّان اليعاقيب(8)
و كنت أخبركم أن سوف يعمرها *** بنو أمية وعدا غير مكذوب
قال: فركب رجل من خثعم يقال له أميّة إلى عبد الملك حتّى دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، إنّما أراد العجير أن يصل إليك و هو شويعر سآل(9). و حرّبه(10) عليه. فكتب إلى عامله بأن يشدّ يدي العجير إلى عنقه ثم يبعثه في الحديد. فبلغ العجير الخبر فركب في الليل حتّى أتى عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا عندك فاحتبسني
ص: 41
و ابعث من يبصر الأرضين و الضياع، فإن لم يكن الأمر على ما أخبرتك فلك دمي حلّ(1) و بلّ، فبعث فاتخذ ذلك الماء، فهو اليوم من خيار ضياع بني أمية.
نسخت من كتاب عبيد اللّه بن محمّد اليزيديّ عن ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال: هجا العجير قوما من بني حنيفة و شتمهم، فأقاموا عليه البيّنة عند نافع بن/علقمة الكنانيّ، فأمرهم بطلبه و إحضاره ليقيم عليه الحدّ و قال لهم: إن وجدتموه أنتم فأقيموا عليه الحد و ليكن ذلك في ملأ يشهدون به لئلا يدّعي عليكم تجاوز الحق. فهرب العجير منهم ليلا حتى أتى نافع بن علقمة، فوقف له متنكرا حتى خرج من المسجد، ثم تعلق بثوبه و قال:
/
إليك سبقنا السوط و السجن، تحتنا *** حيال يسامين الظلال و لقّح(2)
إلى نافع لا نرتجي ما أصابنا *** تحوم علينا السانحات و تبرح
فإن أك مجلودا فكن أنت جالدي *** و إن أك مذبوحا فكن أنت تذبح
فسأله عن المطر و كيف كان أثره، فقال له:
يا نافع يا أكرم البرية(3) *** و اللّه لا أكذبك العشيّه
إنا لقينا سنة قسيّه(4) *** ثم مطرنا مطرة رويه
فنبت البقل و لا رعيه(5)
- يعني أن المواشي هلكت قبل نبات البقل - فقال له: انج بنفسك فإنّي سأرضي خصومك، ثمّ بعث إليهم فسألهم الصفح عن حقّهم و ضمن لهم أن لا يعاود هجاءهم.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال:
حدّثنا الزبير بن بكّار قال: حدّثني عمر بن إبراهيم السعديّ عن عباس بن عبد الصمد السعديّ قال: قال هشام بن عبد الملك للعجير السلوليّ: أصدقت فيما قلته لابن عمك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إلا أني قلت:
فتى قد قد السيف لا متضائل *** و لا رهل لبّاته و بآدله(6)
/ - هذا البيت يروى لأخت يزيد بن الطّثريّة(7) ترثيه به -
ص: 42
جميل إذا استقبلته من أمامه *** و إن هو ولّى أشعث الرأس جافله(1)
طويل سطيّ(2) الساعدين عذوّر(3) *** على الحيّ حتى تستقلّ مراجله
ترى جارزيه يرعدان و ناره *** عليها عداميل الهشيم و صامله(4)
/يجران ثنيا(5) خيرها عظم جاره *** على عينه لم تعد(6) عنها مشاغله
تركنا أبا الأضياف في كل شتوة(7) *** بمرّ(8) و مردى(9) كلّ خصم يجادله
مقيما سلبناه دريسي مفاضة *** و أبيض هنديّا طوالا حمائله(10)
فقال هشام: هلك و اللّه الرجل.
ص: 43
و نسخت من كتاب ابن حبيب قال ابن الأعرابي: اصطحب العجير و شاعر من خزاعة إلى المدينة فقصد الخزاعيّ الحسن بن الحسن بن عليّ عليهم السلام، و قصد العجير رجلا من بني عامر بن صعصعة كان قد نال سلطانا، فأعطى الحسن بن الحسن الخزاعيّ و كساه و لم يعط العامريّ العجير شيئا، فقال العجير:
يا ليتني يوم حزّمت القلوص له *** يمّمتها هاشميّا غير ممذوق(1)
محض النّجار(2) من البيت الّذي جعلت *** فيه النبوّة يجري غير مسبوق
لا يمسك الخير إلا ريث يسأله *** و لا يلاطم(3) عند اللحم في السوق(4)
فبلغت أبياته الحسن، فبعث إليه بصلة إلى محلّة قومه و قال له: قد أتاك حظّك و إن لم/تتصدّ له.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن دينار الأحول قال: حدّثني بعض الرواة أن العجير بن عبد اللّه السلولي مر بقوم يشربون فسقوه فلما انتشى قال: انحروا جملي و أطعمونا منه. فنحروا و جعلوا يطعمونه و يسقونه و يغنّونه بشعر قال يومئذ، و هو:
علّلاني إنما الدنيا علل *** و اسقياني عللا بعد نهل
و انشلا(5) ما اغبرّ من قدريكما *** و أصبحاني(6) أبعد اللّه الجمل
أصحب الصاحب ما صاحبني *** و أكفّ اللّوم عنه و العذل
و إذا أتلف شيئا لم أقل *** أبدا يا صاح ما كان فعل
/قال: فلما صحا سأل عن جمله فقيل له: نحرته البارحة. فجعل يبكي و يصيح: وا غربتاه! و هم يضحكون منه. ثم وهبوا له بعيرا فارتحله(7) و انصرف إلى أهله.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمّد بن يزيد قال: حجّ العجير السلوليّ فنظر إلى امرأته و كان قد حجّ بها معه و هي تلحظ فتى من بعد و تكلمه فقال فيها:
أيا ربّ لا تغفر لعثمة ذنبها *** و إن لم يعاقبها العجير فعاقب
أشارت و عقد اللّه بينى و بينها *** إلى راكب من دونه ألف راكب
حرام عليك الحجّ لا تقربنّه *** إذا حان حجّ المسلمات التوائب
ص: 44
و قال ابن الأعرابي: غاب العجير غيبة إلى الشآم، و جعل أمر ابنته إلى خالها، و أمره أن يزوّجها بكفء.
فخطبها مولى لبني هلال كان ذا مال، فرغبت أمّها فيه و أمرت خال الصبية الموصى إليه بأمرها أن يزوّجها ففعل.
فلاذت الجارية بأخيها الفرزدق بن العجير، و برجال من قومها، و بابن عمّ لها يقال له قيل، فمنعوا جميعا منها سوى ابن عمها القيل فإنّه ساعد أمها على ما أرادت، و منع منها الفرزدق. فلما قدم العجير أخبر بما جرى ففسخ النكاح و خلع ابنته من المولى و قال:
ألا هل لبعجان الهلاليّ زاجر *** و بعجان مأدوم الطعام سمين
أ ليس أمير المؤمنين ابن عمها *** و بالحنو(1) آساد لها و عرين
و عاذت بحقوى(2) عامر و ابن عامر *** و للّه قد بتت عليّ يمين
تنالونها(3) أو يخضب الأرض منكم *** دم خرّ عنه حاجب و جبين
/و قال أيضا في ذلك:
إذا ما أتيت الخاضبات أكفّها *** عليهنّ مقصور الحجال المروّق(4)
فلا تدعونّ القيل(5) إلا لمشرب *** رواء و لكنّ الشجاع الفرزدق
هو ابن لبيضاء الجبين نجيبة *** تلقّت(6) بطهر لم يجيء و هو أحمق
تداعى إليه أكرم الحيّ نسوة *** أطفن بكسري بيتها حين تطلق(7)
فجاءت بعريان اليدين كأنّه *** من الطير باز ينفض الطّلّ أزرق
و قال ابن الأعرابيّ: كان للعجير رفيق يقال له أصبح، و كانا يصيبان الطريق، و فيه يقول العجير:
و منخرق عن منكبيه قميصه *** و عن ساعديه، للأخلاّء و واصل
إذا طال بالقوم المطافى تنوفة *** و طول السّرى ألفيته غير ناكل(8)
دعوت و قد دبّ الكرى في عظامه *** و في رأسه حتّى جرى في المفاصل
كما دبّ صافي الخمر في مخّ شارب *** يميل بعطفيه، عن اللّبّ ذاهل
ص: 45
فلبّى ليثنيني بثنيي لسانه *** ثقيلين من نوم غلوب الغياطل(1)
فقلت له قم فارتحل ليس هاهنا *** سوى وقفة السّاري مناخ لنازل
فقام اهتزاز الرمح يسرو قميصه *** و يحسر عن عاري الذّراعين ناحل(2)
/و قال ابن الأعرابيّ: كانت للعجير امرأة يقال لها أمّ خالد، فأسرع في ماله فأتلفه و كان جوادا، ثم جعل يدّان حتى أثقل بالدين و مد يده إلى مالها، فمنعته منه و عاتبته على فعله، فقال في ذلك:
تقول و قد غالبتها أمّ خالد *** على مالها أغرقت دينا فأقصر(3)
أبي القصر من يأوى إذا اللّيل جنّني *** إلى ضوء ناري من فقير و مقتر
أيا موقدي ناري ارفعاها لعلّها *** تشبّ لمقو(4) آخر الليل مقفر
أ من راكب أمسى بظهر تنوفة *** أواريك أم من جاري المتنظّر
و لا قدر دون الجار إلاّ ذميمة *** و هذا المقاسي ليلة ذات منكر
تكاد الصّبا تبتزّه من ثيابه *** على الرّحل إلا من قميص و مئزر(5)
و ما ذا علينا أن يخالس ضوأها *** كريم نثاه شاحب المتحسّر(6)
- المتحسر: ما انكشف و تجرد من جسمه -
فيخبرنا عمّا قليل و لو خلت *** له القدر لم نعجب و لم نتخبّر
يؤدّي إليّ النّيل(1) قنيان ماجد *** كريم و مالي سارحا مال مقتر
- القنيان(2): ما اقتنى من المال. يقول: إنه لبذله القرى كأنه موسر، و إذا سرح ماله علم أنه مقتر(3) -
إذا متّ يوما فاحضري أمّ خالد *** تراثك من طرف و سيف و أقدر(4)
قال ابن حبيب: من الناس من يروي هذه الأبيات الأخيرة الّتي أوّلها:
سلي الطارق المعترّ يا أمّ مالك
لعروة بن الورد، و هي للعجير.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا علي بن الصّبّاح عن هشام بن محمّد قال: وفد العجير السّلوليّ - و سلول بنو مرّة بن صعصعة - على عبد الملك بن مروان، فأقام ببابه/شهرا لا يصل إليه لشغل عرض لعبد الملك، ثم وصل إليه فلما مثل بين يديه أنشد:
/
ألا تلك أمّ الهبرزيّ تبيّنت *** عظامي و منها ناحل و كسير(5)
و قالت تضاءلت الغداة و من يكن *** فتى قبل عام الماء فهو كبير(6)
فقلت لها إنّ العجير تقلّبت *** به أبطن أبلينه و ظهور
فمنهنّ إدلاجي على كلّ كوكب *** له من عمانيّ النجوم نظير(7)
ص: 47
و قرعي بكفّي باب ملك كأنّما *** به القوم يرجون الأذين نسور(1)
/و يوم تبارى ألسن القوم فيهم *** و للموت أرحاء بهنّ تدور(2)
لو ان الجبال الصّمّ يسمعن وقعها *** لعدن و قد بانت بهنّ فطور(3)
فرحت جوادا و الجواد مثابر *** على جريه، ذو علة و يسير
فقال له: يا عجير ما مدحت إلاّ نفسك، و لكنّا نعطيك لطول مقامك. و أمر له بمائة من الإبل يعطاها من صدقات بني عامر، فكتب له بها.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثنا محمّد بن سعد الكرانيّ قال: حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال: نظر أبي إلى فتى من بني العبّاس يسحب مطرف(4) خزّ عليه و هو سكران - و كان فتى متهتّكا - فحرك رأسه مليّا ثم قال:
للّه درّ العجير السّلوليّ حيث يقول:
و ما لبس الناس من حلّة *** جديد و لا خلقا يرتدى(5)
كمثل المروءة للاّبسين *** فدعني من المطرف المستدى(6)
فليس يغيّر فضل الكريم *** خلوقة أثوابه و البلى(7)
/و ليس يغيّر طبع اللّئيم *** مطارف خز رقاق السّدى(8)
يجود الكريم على كلّ حال *** و يكبو اللئيم إذا ما جرى
فلئن كذبت المنح من مائة *** فلتقبلن بسائغ وخم(1)
إن الندى و الفضل غايتنا *** و نجاتنا و طريق من يحمي
أخبرني عمّي قال: حدّثنا الكرانيّ قال قال الحرمازي: وقف العجير السّلولي لبعض الأمراء، و قد علق به غريم له من أهله فقال له:
أتيتك إنّ الباهلي يسوقني(2) *** بدين و مطلوب الدّيون رقيق
ثلاثتنا إن يسّر اللّه: فائر *** بأجر، و معطى حقّه، و عتيق
فأمر بقضاء دينه.
و قال ابن الأعرابيّ: كانت للعجير بنت عمّ و كان يهواها و تهواه، فخطبها إلى أبيها فوعده و قاربه(3). ثم خطبها رجل من بني عامر موسر، فخيرها أبوها بينه و بين العجير، /فاختارت العامريّ ليساره، فقال العجير في ذلك:
ألمّا على دار لزينب قد أتى *** لها بلوى ذي المرخ صيف و مربع(4)
و قولا لها قد طالما لم تكلّمي *** و راعاك بالعين الفؤاد المروّع
و قولا لها قال العجير و خصّني *** إليك، و إرسال الخليلين ينفع
أ أنت الّتي استودعتك السّرّ فانتحى *** لي الخون مرّاح من القوم أفرع(5)
إذا مت كان الناس نصفين: شامت *** و مثن بما قد كنت أسدي و أصنع(6)
و مستلحم قد صكّه القوم صكّة *** بعيد الموالي نيل ما كان يمنع(7)
رددت له ما أفرط القتل بالضحى *** و بالأمس حتى اقتاله فهو أصلع(8)
و لست بمولاه و لا بابن عمّه *** و لكن متى ما أملك النفع أنفع(9)
ص: 49
و قال ابن الأعرابيّ: كان العجير يتحدث إلى امرأة من بني عامر يقال لها جمل فألفها و علقها. ثم انتجع أهلها نواحي نصيبين، فتتّبعتها نفسه، فسار إليهم فنزل فيهم مجاورا(1)، ثم رأوه منازلا ملازما محادثة تلك المرأة فنهوه عنها و قالوا: قد رأينا أمرك فإمّا أن انقطعت عنها أو ارتحلت عنّا، أو فأذن بحرب(2). فقال: ما بيني و بينها ما ينكر، و إنما كنت أتحدث إليها كما يتحدّث الرجل الكريم إلى المرأة الحرّة الكريمة، فأمّا الريبة فحاش للّه منها. ثم عاود محادثتها؛ فانتهبوا ماله و طردوه. فأتى محمّد بن مروان بن الحكم و هو يومئذ يتولّى الجزيرة لأخيه عبد الملك بن مروان، فأتاه مستعديا على بني عامر و على الّذي أخذ ماله خصوصيّة(3)، و هو رجل من بني كلاب يقال له ابن الحسام، و أنشده قوله:
عفا يافع من أهله فطلوب *** و أقفر لو كان الفؤاد يثوب(4)
وقفت بها من بعد ما حلّ أهلها *** نصيبين و الرّاقي الدموع طبيب
و قد لاح معروف القتير و قد بدت *** بك اليوم من ريب الزمان ندوب(5)
و سالمت روحات المطيّ و أحمدت *** مناسم منها تشتكي و صلوب(6)
/و ما القلب أم ما ذكره أمّ صبية *** أريكة منها مسكن فهروب(7)
حصان الحميّا حرة حال دونها *** حليل لها شاكي السلاح غضوب(8)
شموس، دنوّ الفرقدين اقترابها، *** لغيّ مقاريف الرجال سبوب(9)
أ حقّا عباد اللّه أن لست ناظرا *** إلى وجهها إلا عليّ رقيب
عدتني العدا عنها بعيد تساعف *** و ما أرتجي منها إليّ قريب(10)
لقد أحسنت جمل لو أنّ تبيعها *** إذا ما أرادت أن تثيب يثيب(11)
تصدّين حتّى يذهب اليأس بالمنى *** و حتّى تكاد النفس عنك تطيب
ص: 50
- هذا البيت يروى لابن الدّمينة، و هو بشعره أشبه، و لا يشاكل أيضا هذا المعنى و لا هو من طريقه؛ لأنه تشكى في سائر الشعر قومها دونها، و هذا بيت يصف فيه الصدّ منها، و لكن/هكذا هو في رواية ابن الأعرابي -
و أنت المنى لو كنت تستأنفيننا *** بخير و لكن معتفاك جديب(1)
أ يؤكل مالي و ابن مروان شاهد *** و لم يقض لي و ابن الحسام قريب
فتى محض أطراف العروق مساور *** جبال العلا طلق اليدين و هوب(2)
فأمر محمّد بن مروان بإحضار ابن الحسام الكلابي فأحضر، فحبسه حتى ردّ مال العجير، و أمر العجير بالانصراف إلى حيّه و ترك النزول على المرأة أو في قومها. قال: و قال العجير فيها أيضا:
/
هاتيك جمل بأرض لا يقرّبها *** إلاّ هبلّ من العيدي معتقد(3)
و دونها معشر خزر عيونهم *** لو تخمد النار من حرّ لما خمدوا(4)
عدّوا علينا ذنوبا في زيارتها *** ليحجبوها و في أخلاقهم نكد(5)
و حال من دونها شكس خلائقه *** كأنّه نمر في جلده الرّبد(6)
فليس إلا عويل كلما ذكرت *** أو زفرة طالما أنّت بها الكبد
و تيّمتني جمل فاستمرّ بها *** شحط من الدار لا أمّ و لا صدد(7)
قالوا غداة استقلت: ما لمقلته *** أ من قذى هملت أم عارها رمد(8)
فقلت لا بل غدت سلمى لطيّتها *** فليتهم مثل وجدي بكرة وجدوا(9)
إن كان وصلك أبلى الدّهر جدّته *** و كلّ شيء جديد هالك نفد(10)
فقد أراني و وجدي إذ تفارقني *** يوما كوجد عجوز درعها قدد(11)
تبكي على بطل حمّت منيته *** و كان واتر أعداء به ابتردوا(12)
و قد خلا زمن لو تصرمين له *** وصلي لأيقنت أنّي ميّت كمد(13)
ص: 51
/
أزمان تعجبني جمل و أكتمه *** جملا حياء، و ما وجد كما أجد
فقد برئت على أني إذا ذكرت *** ينهلّ دمعي و تحيا غصّة تلد(1)
من عهد سلمى الّتي هام الفؤاد بها *** أزمان أزمان سلمى طفلة رؤد(2)
قد قلت للكاشح المبدي عداوته *** قد طالما كان منك الغشّ و الحسد
ألا تبيّن لي لا زلت تبغضني *** حتّام أنت إذا ما ساعفت ضمد(3)
و قال ابن حبيب: قال عبد الملك لمؤدّب ولده: إذا روّيتهم شعرا فلا تروّهم إلاّ مثل قول العجير السلولي:
يبين الجار حين يبين عنّي *** و لم تأنس إليّ كلاب جاري
و تظعن جارتي من جنب بيتي *** و لم تستر بستر من جداري(4)
و تأمن أن أطالع حين آتي *** عليها و هي واضعة الخمار
كذلك هدي آبائي قديما *** توارثه النّجار عن النّجار
فهديي هديهم و هم افتلوني *** كما افتلي العتيق من المهار(5)
/و قال ابن حبيب أيضا: نزل العجير بقوم فأكرموه و أطعموه و سقوه، فلما سكر قام إلى جمله فعقره، و أخرج كبده و جبّ سنامه، فجعل يشوى و يأكل و يطعم و يغني:
علّلاني إنما الدنيا علل *** و اسقياني عللا بعد نهل(6)
و انشلا لي اللحم من قدريكما *** و اصبحاني أبعد اللّه الجمل(7)
فلما أفاق سأل عن جمله فأخبر ما صنع به، فجعل يبكي و يصيح: وا غربتاه! و هم يضحكون منه. ثم أعطوه جملا و زوّدوه، فانصرف حتّى لحق بقومه.
أخبرني عمّي بهذا الخبر قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثنا الحكم بن موسى بن الحسين بن يزيد السلولي قال: حدّثني أبي عن عمّه فقال فيه:
مر العجير بفتيان من قومه يشربون نبيذا لهم فشرب معهم، و ذكر باقي القصّة نحوا مما ذكر ابن حبيب، و لم يقل فيها: - فلما أصبح جعل يبكي و يصيح: وا غربتاه! - و لكنه قال: فلمّا أصبح ساق قومه إليه ألف بعير مكان بعيره.
ص: 52
أخبرني عمّي و حبيب بن نصر المهلبيّ قالا: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني الحكم بن موسى بن الحسين السلولي قال: حدّثني أبي عن عمه قال: عرض العجير لسليمان بن عبد اللّه و هو في الطواف، و على العجير بردان يساويان مائة و خمسين دينارا، فانقطع شسع(1) نعله فأخذها بيده، ثم هتف بسليمان فقال:
و دلّيت دلوي في دلاء كثيرة *** إليك فكان الماء ريّان معلما(2)
/فوقف سليمان ثم قال: للّه درّه ما أفصحه، و اللّه ما رضي أن قال ريان حتى قال معلما، و اللّه إنه ليخيّل إليّ أنه العجير، و ما رأيته قط إلا عند عبد الملك. فقيل له: هو العجير. فأرسل إليه: أن صر إلينا إذا حللنا. فصار إليه، فأمر له بثلاثين ألفا و بصدقات قومه، فردّها العجير عليهم و وهبها لهم.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدّثني هارون بن موسى الفروي(3) قال: كان ابن عم للعجير السّلولي إذا سمع بأضياف عند العجير لم يدعهم حتى يأتي بجزور كوماء(4)، فيطعن في لبّتها عند بيته، فيبيتون في شواء و قدير(5)، ثم مات، فقال العجير يرثيه:
تركنا أبا الأضياف في ليلة الصّبا *** بمرّ و مردي كل خصم يجادله(6)
و ارعيه سمعي كلّما ذكر الأسى *** و في الصّدر مني لوعة ما تزايله
و كنت أعير الدّمع قبلك من بكى *** فأنت على من مات بعدك شاغله
هكذا ذكر هارون بن موسى في هذا الخبر، و البيت الثالث من هذه الأبيات للشّمردل بن شريك لا يشكّ فيه، من قصيدة له طويلة. فيه غناء قد ذكرته في أخباره.
فتاة كأن رضاب العبير *** بفيها يعلّ(7) به الزنجبيل
قتلت أباها على حبّها *** فتبخل إن بخلت أو تنيل
الشعر لخزيمة بن نهد، و الغناء لطويس. خفيف رمل بالبنصر عن يحيى المكيّ.
ص: 53
هو خزيمة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. شاعر مقل من قدماء الشعراء في الجاهلية. و فاطمة الّتي عناها في شعره هذا: فاطمة بنت يذكر بن عنزه بن أسد بن ربيعة بن نزار، كان يهواها فخطبها من أبيها فلم يزوّجه إياها، فقتله غيلة. و إياها عني بقوله:
إذا الجوزاء أردفت الثّريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا(1)
أخبرني بخبره محمّد بن خلف وكيع قال: حدّثنا عبيد اللّه بن سعد الزبيري قال: حدّثني عمّي قال حدّثني أبي - أظنه عن الزهري - قال: كان بدء تفرّق بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام عن تهامة و نزوعهم عنها إلى الآفاق، و خروج من خرج منهم عن نسبه، أنه كان أوّل من ظعن عنها و أخرج منها قضاعة بن معدّ. و كان سبب خروجهم أن خزيمة بن نهد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة بن معدّ كان مشئوما فاسدا، متعرّضا للنساء، فعلق فاطمة بنت يذكر بن عنزة - و اسم يذكر عامر - فشبب بها و قال فيها:
إذا الجوزاء أردفت الثريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا
و حالت دون ذلك من همومي *** هموم تخرج الشجن الدّفينا/
أرى ابنة يذكر ظعنت، فحلّت *** جنوب الحزن يا شحطا مبينا(2)
قال: فمكث زمانا، ثم إن خزيمة بن نهد قال ليذكر بن عنزة: أحب أن تخرج معي حتى نأتي بقرظ. فخرجا جميعا، فلما خلا خزيمة بن نهد بيذكر بن عنزة قتله، فلما رجع - و ليس هو معه - سأله عنه أهله، فقال: لست أدري، فارقني و ما أدري أين سلك. فكان في ذلك شرّ بين قضاعة و نزار ابني معد، و تكلموا فيه فأكثروا، و لم يصحّ على خزيمة عندهم شيء يطالبون به، حتى قال خزيمة بن نهد:
فتاة كأنّ رضاب العبير *** بفيها يعلّ به الزنجبيل(3)
قتلت أباها على حبّها *** فتبخل إن بخلت أو تنيل
ص: 54
فلما قال هذين البيتين تثاور الحيّان فاقتتلوا و صاروا أحزابا، فكانت نزار بن معد و هي يومئذ تنتسب فتقول كندة بن جنادة بن معد. و حاء و هم يومئذ ينتمون فيقولون حاء بن عمرو بن أدّ بن أدد. و كانت قضاعة تنتسب إلى معد، وعك يومئذ تنتمي إلى عدنان فتقول: عك عدنان بن أدّ، و الأشعريون ينتمون إلى الأشعر بن أدد. و كانوا يتبدون(1) من تهامة إلى الشام، و كانت منازلهم بالصّفّاح، و كان مرّ و عسفان لربيعة بن نزار، و كانت قضاعة بين مكة و الطائف، و كانت كندة تسكن من الغمر إلى ذات عرق، فهو إلى اليوم يسمى غمر كندة. و إياه يعني عمر بن أبي ربيعة بقوله:
/
إذا سلكت غمر ذي كندة *** مع الصبح قصد لها الفرقد(2)
هنالك إما تعزى الهوى *** و إما على إثرهم تكمد(3)
و كانت منازل حاء بن عمرو بن أدد، و الأشعر بن أدد، و عكّ بن عدنان بن أدد، فيما بين جدّة إلى البحر.
قال: فيذكر بن عنزة أحد القارظين(4) اللذين قال فيهما الهذلي:
/
و حتّى يئوب القارظان كلاهما *** و ينشر في القتلى كليب لوائل
و الآخر من عنزة، يقال له أبو رهم، خرج يجمع القرظ فلم يرجع و لم يعرف له خبر.
قال: فلما ظهرت نزار(5) على أن خزيمة بن نهد قتل يذكر بن عنزة قاتلوا قضاعة أشدّ قتال، فهزمت قضاعة و قتل خزيمة بن نهد و خرجت قضاعة متفرقين، فسارت تيم اللاّت بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، و فرقة من بني رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة، و فرقة من الأشعريين، نحو البحرين حتى وردوا هجر، و بها يومئذ قوم من النبط، فنزلت عليهم هذه البطون فأجلتهم، فقال في ذلك مالك بن زهير:
نزعنا من تهامة أيّ حيّ *** فلم تحفل بذاك بنو نزار
و لم أك من أنيسكم و لكن *** شرينا دار آنسة بدار
/فلما نزلوا هجر قالوا للزرقاء بنت زهير - و كانت كاهنة - ما تقولين يا زرقاء؟ قالت: «سعف(6) و إهان، و تمر و ألبان، خير من الهوان». ثم أنشأت تقول:
ودّع تهامة لا وداع مخالق *** بذمامه لكن قلى و ملام(7)
لا تنكري هجرا مقام غريبة *** لن تعدمي من ظاعنين تهام(8)
ص: 55
فقالوا لها: فما ترين يا زرقاء؟ فقالت: «مقام و تنوخ، ما ولد مولود و أنقفت(1) فروخ(2)، إلى أن يجيء غراب أبقع، أصمع(3) أنزع(4)، عليه خلخالا ذهب، فطار فألهب(5)، و نعق فنعب، يقع على النخلة السّحوق(6)، بين الدّور و الطريق، فسيروا على و وتيرة، ثم الحيرة الحيرة!». فسمّيت تلك القبائل تنوخ لقول الزرقاء: «مقام و تنوخ». و لحق بهم قوم من الأزد فصاروا إلى الآن في تنوخ، و لحق سائر قضاعة موت ذريع؛ و خرجت فرقة من بني حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة يقال لهم: بنو تزيد، فنزلوا عبقر من أرض الجزيرة، فنسج نساؤهم الصّوف و عملوا منه الزرابيّ(7)؛ فهي الّتي يقال لها العبقرية، و عملوا البرود الّتي يقال لها التّزيدية(8). و أغارت عليهم الترك، فأصابتهم، و سبت منهم. فذلك قول عمرو بن مالك:
ألا للّه ليل لم ننمه *** على ذات الخضاب مجنبينا(9)
و ليلتنا بآمد لم ننمها *** كليلتنا بميّافارقينا(10)
و أقبل الحارث بن قراد البهرانيّ ليعيث في بني حلوان، فعرض له أباغ بن سليح صاحب العين(11)، فاقتتلا، فقتل أباغ، و مضت بهراء حتى لحقوا بالترك، فهزموهم و استنقذوا ما في أيديهم من بني تزيد. فقال الحارث بن قراد في ذلك:
كأنّ الدهر جمّع في ليال *** ثلاث بتّهن بشهرزور(12)
صففنا للأعاجم من معدّ *** صفوفا بالجزيرة كالسّعير
و سارت سليح بن عمرو بن الحاف بن قضاعة يقودها الحدرجان بن سلمة حتى نزلوا ناحية فلسطين على بني أذينة بن السّميدع من عاملة. و سارت أسلم بن الحاف و هي عذرة و نهد و حوتكة و جهينة و الحارث بن سعد، حتى نزلوا من الحجر إلى وادي القرى، و نزلت تنوخ/بالبحرين سنتين. ثم أقبل غراب في رجليه حلقتا ذهب و هم في مجلسهم، فسقط على نخلة في الطريق، فينعق نعقات ثم طار؛ فذكروا قول الزرقاء، فارتحلوا حتّى نزلوا الحيرة.
ص: 56
فهم أوّل من اختطّها(1): منهم مالك بن زهير. و اجتمع إليهم لمّا ابتنوا بها المنازل ناس كثير من سقّاط(2) القرى، فأقاموا بها زمانا؛ ثم أغار عليهم سابور(3) الأكبر، فقاتلوه فكان شعارهم يومئذ: يا آل عباد اللّه! /فسمّوا العباد، و هزمهم سابور، فصار معظمهم و من فيه نهوض إلى الحضر من الجزيرة يقودهم الضّيزن بن معاوية التّنوخي، فمضى حتّى نزل الحضر و هو بناء بناه الساطرون(4) الجرمقاني، فأقاموا به، و أغارت حمير على بقية قضاعة، فخيّروهم بين أن يقيموا على خراج يدفعونه إليهم أو يخرجوا عنهم، فخرجوا عنهم، فخرجوا - و هم كلب، و جرم و العلاف، و هم بنو زبّان بن تغلب بن حلوان، و هو أوّل من عمل الرّحال العلافية، - و علاف لقب زبّان - فلحقوا بالشام، فأغارت عليهم بنو كنانة بن خزيمة بعد ذلك بدهر، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، و انهزموا(5) فلحقوا بالسماوة، فهي منازلهم إلى اليوم.
إني امرؤ كفّني ربي و نزهني *** عن الأمور الّتي في غبّها وخم(6)
و إنما أنا إنسان أعيش كما *** عاش الرجال و عاشت قبلي الأمم
الشعر للمغيرة بن حبناء، من قصيدة مدح بها المهلب بن أبي صفرة، و الغناء لأبي العبيس بن حمدون، ثقيل أوّل بالبنصر، و هو من مشهور أغانيه و جيّدها.
ص: 57
المغيرة بن حبناء بن عمرو بن ربيعة بن أسيد بن عبد عوف بن ربيعة بن عامر بن ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. و حبناء لقب غلب على أبيه و اسمه جبير بن عمرو، و لقّب بذلك لحبن(1) كان أصابه. و هو شاعر إسلاميّ من شعراء الدّولة الأموية، و أبوه حبناء بن عمرو شاعر، و أخوه صخر بن حبناء شاعر، و كان يهاجيه، و لهما قصائد يتناقضانها كثيرة، سأذكر منها طرفا. و كان قد هاجى زيادا الأعجم فاكثر كلّ واحد منهما على صاحبه و أفحش، و لم يغلب أحد منهما صاحبه، كانا متكافئين في مهاجاتهما ينتصف كلّ واحد منهما من صاحبه.
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال: أخبرني عبيد اللّه بن محمّد بن عبد الملك الزيات قال: حدّثني الحسن بن جهور عن الحرمازي قال: قدم المغيرة بن حبناء على طلحة الطلحات الخزاعيّ ثم المليحيّ، أحد بني مليح، فأنشده قوله فيه:
لقد كنت أسعى في هواك و أبتغي *** رضاك و أرجو منك ما لست لاقيا
و أبذل نفسي في مواطن غيرها *** أحبّ، و أعصي في هواك الأدانيا
حفاظا و تمسيكا لما كان بيننا *** لتجزيني ما لا إخالك جازيا(2)
رأيتك ما تنفكّ منك رغيبة *** تقصّر دوني أو تحلّ ورائيا(3)
أراني إذا استمطرت منك رغيبة *** لتمطرني عادت عجاجا و سافيا(4)
//و أدليت دلوي في دلاء كثيرة *** فأبن ملاء غير دلوي كما هيا
/و لست بلاق ذا حفاظ و نجدة *** من القوم حرّا بالخسيسة راضيا
فإن تدن مني تدن منك مودتي *** و إن تنأ عني تلفني عنك نائيا
قال: فلما أنشده هذا الشعر، قال له: أ ما كنّا أعطيناك شيئا؟ قال: لا. فأمر طلحة خازنه فأخرج درجا فيه حجارة ياقوت، فقال له: اختر حجرين من هذه الأحجار أو أربعين ألف درهم. فقال: ما كنت لأختار حجارة على أربعين ألف درهم! فأمر له بالمال. فلما قبضه سأله حجرا منها، فوهبه له، فباعه بعشرين ألف درهم. ثم مدحه، فقال:
أرى الناس قد ملّوا الفعال و لا أرى *** بني خلف إلا رواء الموارد(5)
ص: 58
إذا نفعوا عادوا لمن ينفعونه *** و كائن ترى من نافع غير عائد(1)
إذا ما انجلت عنهم غمامة غمرة *** من الموت أجلت عن كرام مذاود(2)
تسود غطاريف(3) الملوك ملوكهم *** و ماجدهم يعلو على كل ماجد
أخبرني هاشم بن محمّد قال حدّثنا المغيرة بن محمّد المهلبي عن رواة باهلة، أن المهلب بن أبي صفرة لما هزم قطريّ بن الفجاءة بسابور(4) جلس للناس، فدخل إليه وجوههم يهنئونه و قامت الخطباء فأثنت عليه و مدحته الشعراء، ثم قام المغيرة بن حبناء في أخرياتهم فأنشده:
/
حال الشّجا دون طعم العيش و السهر *** و اعتاد عينك من إدمانها الدّرر(5)
و استحقبتك(6) أمور كنت تكرهها *** لو كان ينفع منها النّأي و الحذر
و في الموارد للأقوام تهلكة *** إذا الموارد لم يعلم لها صدر(7)
ليس العزيز بمن تغشى محارمه *** و لا الكريم بمن يجفى و يحتقر
حتى انتهى إلى قوله:
أمسى العباد بشرّ لا غياث لهم *** إلا المهلب بعد اللّه و المطر
كلاهما طيّب ترجى نوافله *** مبارك سيبه يرجى و ينتظر(8)
لا يجمدان عليهم عند جهدهم *** كلاهما نافع فيهم إذا افتقروا(9)
هذا يذود و يحمي عن ذمارهم *** و ذا يعيش به الأنعام و الشّجر(10)
و استسلم الناس إذ حلّ العدوّ بهم *** فلا ربيعتهم ترجى و لا مضر
و أنت رأس لأهل الدين منتخب *** و الرأس فيه يكون السمع و البصر
إن المهلّب في الأيام فضّله *** على منازل أقوام إذا ذكروا
حزم وجود و أيام له سلفت *** فيها يعدّ جسيم الأمر و الخطر
ماض على الهول ما ينفكّ مرتحلا *** أسباب معضلة يعيا بها البشر(11)
سهل الخلائق يعفو عند قدرته *** منه الحياء و من أخلاقه الخفر
ص: 59
/
شهاب حرب إذا حلّت بساحته *** يخزي به اللّه أقواما إذا غدروا
تزيده الحرب و الأهوال إن حضرت *** حزما و عزما و يجلو وجهه السفر
ما إن يزال على أرجاء مظلمة *** لو لا يكفكفها عن مصرهم دمروا(1)
/سهل إليهم حليم عن مجاهلهم *** كأنما بينهم عثمان أو عمر
كهف يلوذون من ذلّ الحياة به *** إذا تكنّفهم(2) من هولها ضرر
أمن لخائفهم فيض لسائلهم *** ينتاب نائله البادون و الحضر
فلما أتى على آخرها قال المهلب: هذا و اللّه الشّعر، لا ما نعلّل به، و أمر له بعشرة آلاف درهم و فرس جواد، و زاده في عطائه خمسمائة درهم.
و القصيدة الّتي منها البيتان اللذان فيهما الغناء المذكور بذكره أخبار المغيرة، من قصيدة له مدح بها المهلب بن أبي صفرة أيضا. و أوّلها:
أ من رسوم ديار هاجك القدم *** أقوت و أقفر منها الطّفّ و العلم(3)
و ما يهيجك من أطلال منزلة *** عفّى معالمها الأرواح و الديم(4)
بئس الخليفة من جار تضنّ به *** إذا طربت أثافي القدر و الحمم(5)
دار الّتي كاد قلبي أن يجنّ بها *** إذا ألم به من ذكرها لمم(6)
إذا تذكرها قلبي تضيّفه *** همّ تضيق به الأحشاء و الكظم(7)
/و البين حين يروع القلب طائفه *** يبدي و يظهر منهم بعض ما كتموا
إني امرؤ كفّني ربي و أكرمني *** عن الأمور الّتي في غبّها وخم(8)
و إنما أنا إنسان أعيش كما *** عاش الرجال و عاشت قبلي الأمم
و هي قصيدة طويلة، و كان سبب قوله إياها أنّ المهلب كان أنفذ بعض بنيه في جيش لقتال الأزارقة، و قد شدّت منهم طائفة تغير على نواحي الأهواز، و هو مقيم يومئذ بسابور، و كان فيهم المغيرة بن حبناء، فلما طال مقامه و استقر الجيش لحق بأهله، فألمّ بهم و أقام عندهم شهرا، ثم عاود و قد قفل الجيش إلى المهلب فقيل له: إن الكتّاب خطّوا على اسمه، و كتب إلى المهلب أنه عصى و فارق مكتبه بغير إذن، فمضى إلى المهلب، فلما لقيه أنشده هذه القصيدة و اعتذر إليه فعذره، و أمر بإطلاق عطائه و إزالة العتب عنه، و فيها يقول يذكر قدومه إلى أهله بغير إذن:
ص: 60
ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا *** عيّ بما صنعوا حولي و لا صمم
و لو أردت قفولا ما تجهمني *** إذن الأمير و لا الكتّاب إذ رقموا(1)
إني ليعرفني راعي سريرهم *** و المحدجون إذا ما ابتلّت الحزم(2)
و الطالبون إلى السلطان حاجتهم *** إذا جفا عنهم السلطان أو كزموا(3)
فسوف تبلغك الأنباء إن سلمت *** لك الشواحج و الأنفاس و الأدم(4)
إن المهلب إن أشتق لرؤيته *** أو امتدحه فإن الناس قد علموا
إن الكريم من الأقوام قد علموا *** أبو سعيد إذا ما عدّت النّعم
و القائل الفاعل الميمون طائره *** ابو سعيد و إن أعداؤه رغموا
/كم قد شهدت كراما من مواطنه *** ليست بغيب و لا تقوالهم زعموا(5)
أيّام أيام إذ عض الزمان بهم *** و إذ تمنى رجال أنهم هزموا(6)
/و إذ يقولون: ليت اللّه يهلكهم *** و اللّه يعلم لو زلت بهم قدم
أيام سابور إذ ضاعت رباعتهم *** لولاه ما أوطنوا دارا و لا انتقموا(7)
إذ ليس شيء من الدنيا نصول به *** إلا المغافر و الأبدان و اللجم(8)
و عاترات من الخطّيّ محصدة *** نفضي بهن إليهم ثم ندّعم(9)
هكذا ذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني في خبر هذه القصيدة، و نسخت من كتابه. و ذكر أيضا في هذا الكتاب أن سبب التهاجي بين زياد الأعجم و المغيرة بن حبناء، أن زيادا الأعجم و المغيرة بن حبناء و كعبا الأشقريّ، اجتمعوا عند المهلب و قد مدحوه، فأمر لهم بجوائز و فضّل زيادا عليهم، و وهب له غلاما فصيحا ينشد شعره، لأن زيادا كان ألكن لا يفصح، فكان راويته ينشد عنه ما يقوله، فيتكلف له مئونة و يجعل له سهما في صلاته، فسأل المهلب يومئذ أن يهب له غلاما كان له يعرفه زياد بالفصاحة و الأدب، فوهبه له، فنفسوا عليه ما فضّل به؛ فانتدب(10) له/المغيرة من بينهم، فقال للمهلب: أصلح اللّه الأمير،. ما السبب في تفضيل الأمير زيادا علينا؟ فو اللّه ما يغني غناءنا - في
ص: 61
الحرب، و لا هو بأفضلنا شعبا، و لا أصدقنا ودا، و لا أشرفنا أبا، و لا أفصحنا لسانا! فقال له المهلب: أما إنّي و اللّه ما جهلت شيئا مما قلت، و إن الأمر فيكم عندي لمتساو، و لكنّ زيادا يكرم لسنّه و شعره و موضعه من قومه، و كلّكم كذلك عندي، و ما فضلته بما ينفس(1) به، و أنا أعوّضكم بعد هذا بما يزيد على ما فضلته به. فانصرف، و بلغ زيادا ما كان منه، فقال يهجوه:
أرى كلّ قوم ينسل اللؤم عندهم *** و لؤم بني حبناء ليس بناسل(2)
يشبّ مع المولود مثل شبابه *** و يلقاه مولودا بأيدي القوابل
و يرضعه من ثدي أمّ لئيمة *** و يخلق من ماء امرئ غير طائل(3)
تعالوا فعدّوا في الزمان الّذي مضى، *** و كل أناس مجدهم بالأوائل
لكم بفعال يعرف الناس فضله *** إذا ذكر الأملاء عند الفضائل(4)
فغازيكم في الجيش الأم من غزا *** و قافلكم في الناس ألأم قافل(5)
و ما أنتم من مالك غير أنكم *** كمغرورة بالبوّ في ظل باطل(6)
بنو مالك زهر الوجوه و أنتم *** تبين ضاحي لؤمكم في الجحافل(7)
يعني برصا كان بالمغيرة بن حبناء.
/أخبرني عبيد اللّه بن محمّد الرازيّ قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز قال: حدّثني المدائني قال:
عيّر زياد الأعجم المغيرة بن حبناء في مجلس المهلّب بالبرص، فقال له المغيرة إن عتاق الخيل لا تشينها الأوضاح(8)، و لا تعير بالغرر و الحجول، و قد قال صاحبنا بلعاء بن قيس لرجل عيّره بالبرص: «إنما أنا سيف اللّه جلاه و استلّه على أعدائه» فهل تغني يا ابن العجماء غنائي، أو تقوم مقامي؟ ثم نشب الهجاء بينهما.
نسخت من نسخة ابن الأعرابي، قال: كان المغيرة بن حبناء يوما يأكل مع المفضّل بن المهلّب، فقال له المفضل:
فلم أر مثل الحنظليّ و لونه *** أكيل كرام أو جليس أمير
فرفع المغيرة يده و قام مغضبا، ثم قال له:
إني امرؤ حنظليّ حين تنسبني *** لام(9) العتيك و لا أخوالي العوق(10)
- العوق من يشكر، و كانوا أخوال المفضل -
ص: 62
لا تحسبنّ بياضا فيّ منقصة *** إن اللّهاميم(1) في ألوانها بلق
و بلغ المهلّب ما جرى، فتناول المفضل بلسانه و شتمه، و قال: أردت أن يتمضّغ هذا أعراضنا، ما حملك على أن أسمعته ما كره بعد مواكلتك إياه؟ أما إن كنت تعافه فاجتنبه أو لا تؤذه. ثم بعث إليه بعشرة آلاف درهم، و استصفحه عن المفضل، و اعتذر إليه عنه، فقبل رفده و عذره، و انقطع بعد ذلك عن مواكلة أحد منهم. / - رجع الخبر إلى سياقته مع زياد و المغيرة - فقال المغيرة يجيب زيادا:
أزياد إنّك و الّذي أنا عبده *** ما دون آدم من أب لك يعلم
فالحق بأرضك يا زياد و لا ترم *** ما لا تطيق و أنت علج(2) أعجم
أ ظننت لؤمك يا زياد يسدّه *** قوس سترت بها قفاك و أسهم
علج تعصّب ثم راق بقوسه(3) *** و العلج تعرفه إذا يتعمّم
ألق العصابة يا زياد فإنما *** أخزاك ربّي إذ غدوت ترنّم
و اعلم بأنك لست منّي ناجيا *** إلا و أنت ببظر(4) أمك ملجم
تهجو الكرام و أنت ألأم من مشى *** حسبا و أنت العلج حين تكلّم
و لقد سألت بني نزار كلّهم *** و العالمين من الكهول فأقسموا
باللّه مالك في معدّ كلّها *** حسب و إنك يا زياد موذّم(5)
فقال زياد يجيبه:
أ لم تر أنّني وتّرت قوسي *** لأبقع من كلاب بني تميم
عوى فرميته بسهام موت *** كذاك يردّ ذو الحمق اللئيم(6)
و كنت إذا غمزت قناة قوم *** كسرت كعوبها أو تستقيم(7)
/هم الحشو القليل لكل حيّ *** و هم تبع كزائدة الظليم(8)
ص: 63
فلست بسابقي هرما و لما *** يمرّ على نواجذك القدوم(1)
فحاول كيف تنجو من وقاعي *** فإنّك بعد ثالثة رميم(2)
سراتكم الكلاب البقع فيكم *** للؤمكم و ليس لكم كريم
فقد قدمت عبودتكم و دمتم *** على الفحشاء و الطبع اللّئيم(3)
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا المدائني قال: قال زياد الأعجم يهجو المغيرة بن حبناء:
عجبت لأبيض الخصيين عبد *** كأنّ عجانه الشّعري العبور(4)
فقيل له: يا أبا أمامة، لقد شرفته إذ قلت فيه:
كأنّ عجانه الشعري العبور
و رفعت/منه. فقال: سأزيده رفعة و شرفا، ثم قال:
لا يبرح الدّهر منهم خارئ أبدا *** إلاّ حسبت على باب استه القمرا
/قال، و تقاولا في مجلس المهلّب يوما، فقال المغيرة لزياد:
أقول له و أنكر بعض شأني *** أ لم تعرف رقاب بني تميم
فقال له زياد:
بلى فعرفتهنّ مقصّرات *** جباه مذلّة و سبال لوم(5)
نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني، قال: كانت ربيعة تقول لزياد الأعجم: يا زياد، أنت لساننا، فاذبب عن أعراضنا بشعرك، فإنّ سيوفنا معك. فقال المغيرة بن حبناء فيه، و قد بلغه هذا القول من ربيعة له:
يقولون ذبّب يا زياد و لم يكن *** ليوقظ في الحرب الملمّة نائما
و لو أنّهم جاءوا به ذا حفيظة *** فيمنعهم أو ماجدا أو مراعما
و لكنّهم جاءوا بأقلف قد مضت *** له حجج سبعون يصبح رازما(6)
لئيما ذميما أعجميّا لسانه *** إذا نال دنّا لم يبال المكارما(7)
ص: 64
و ما خلت عبد القيس إلا نفاية *** إذا ذكر الناس العلا و العظائما(1)
إذا كنت للعبديّ جارا فلا تزل *** على حذر منه إذا كان طاعما
أناسا يعدّون الفساء لجارهم *** إذا شبعوا عند الجباة الدراهما(2).
من الفسو يقضون الحقوق عليهم *** و يعطون مولاهم إذا كان غارما
لهم زجل فيه إذا ما تجاوبوا *** سمعت زفيرا فيهم و هماهما(3)
/لعمرك ما نجّى ابن زروان إذ عوى *** ربيعة من يوم ذلك سالما
أظنّ الخبيث ابن الخبيثين أنّني *** أسلّم عرضي أو أهاب المقاوما
لعمرك لا تهدي ربيعة للحجا *** إذا جعلوا يستنصرون الأعاجما
قال: فجاءت عبد القيس إلى المغيرة، فقالوا: يا هذا، ما لنا و لك، تعمّنا بالهجاء لأن نبحك منّا كلب، فقال و قلت، قد تبرأنا إليك منه، فإن هجاك فاهجه، و خلّ عنا و دعنا، و أنت و صاحبك أعلم، فليس منّا له عليك ناصر.
فقال:
لعمرك إنّي لابن زروان إذ عوى *** لمحتقر في دعوة الودّ زاهد
و ما لك أصل يا زياد تعدّه *** و ما لك في الأرض العريضة والد
أ لم تر عبد القيس منك تبرّأت *** فلاقيت ما لم يلق في الناس واحد
و ما طاش سهمي عنك يوم تبرّأت *** لكيز بن أفصى منك و الجند حاشد
و لا غاب قرن الشّمس حتى تحدّثت *** بنفيك سكان القرى و المساجد(4)
- رفع «المساجد»، لأنه جعل الفعل لها، كأنه قال: و أهل المساجد، كما قال اللّه عزّ و جلّ: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ .
و تحدّثت المساجد، و إنما يريد من يصلّي فيها(5) -
فأصبحت علجا من يزرك و من يزر *** بناتك يعلم أنّهن ولائد(6)
/و أصبحن قلفا يغتزلن بأجرة *** حواليك لم تجرح بهن الحدائد(7)
نفرن من الموسى و أقررن بالتي *** يقرّ عليها المقرفات الكواسد(8)
/بإصطخر لم يلبسن من طول فاقة *** جديدا و لا تلقى لهن الوسائد(9)
ص: 65
و ما أنت بالمنسوب في آل عامر *** و لا ولدتك المحصنات المواجد(1)
و لا ربّبتك الحنظليّة إذ غذت *** بنيها و لا جيبت عليك القلائد(2)
و لكن غذاك المشركون و زاحمت *** قفاك و خدّيك البظور العوارد(3)
و لم أر مثلي يا زياد بعرضه *** و عرضك يستبّان و السيف شاهد(4)
و لو أنّني غشّيتك السيف لم يقل *** إذا مت إلاّ مات علج معاهد(5)
و نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو أيضا، قال: رجع المغيرة بن حبناء إلى أهله و قد ملأ كفّيه بجوائز المهلب و صلاته و الفوائد منه، و كان أخوه صخر بن حبناء أصغر منه، فكان يأخذ على يده و ينهاه عن الأمر ينكر مثله، و لا يزال يتعتّب عليه في الشيء ممّا ينكره عليه، فقال فيه صخر بن حبناء:
رأيتك لما نلت مالا و عضّنا *** زمان نرى في حدّ أنيابه شغبا(6)
تجنّى عليّ الدّهر أنّي مذنب *** فأمسك و لا تجعل غناك لنا ذنبا
فقال المغيرة يجيبه:
لحا اللّه أنآنا عن الضّيف بالقرى *** و أقصرنا عن عرض والده ذبّا
و أجدرنا أن يدخل البيت باسته *** إذا القفّ دليّ من مخارمه ركبا(7)
أ أنبأك الأفّاك عنّي أنّني *** أحرّك عرضي إن لعبت به لعبا
و نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو، قال: جاءت أخت المغيرة بن حبناء إليه تشكو أخاها صخرا، و تذكر أنّه أسرع في مالها و أتلفه، و إنّها منعته شيئا يسيرا بقي لها، فمدّ يده إليها و ضربها، فقال له المغيرة معنّفا:
ألا من مبلغ صخر بن ليلى *** فإني قد أتاني من نثاكا(8)
رسالة ناصح لك مستجيب *** إذا لم ترع حرمته رعاكا
وصول لو يراك و أنت رهن *** تباع، بماله يوما فداكا
يرى خيرا إذا ما نلت خيرا *** و يشجي في الأمور بما شجاكا
ص: 66
فإنّك لا ترى أسماء أختا *** و لا ترينّني أبدا أخاكا
فإن تعنف بها أو لا تصلها *** فإنّ لأمّها ولدا سواكا
يبرّ و يستجيب إذا دعته *** و إن عاصيته فيها عصاكا
و كنت أرى بها شرفا و فضلا *** على بعض الرّجال و فوق ذاكا
جزاني اللّه منك و قد جزاني *** و منّي في معاتبنا(1) جزاكا
و أعقب أصدق الخصمين قولا *** و ولّى اللؤم أولانا بذاكا
/فلا و اللّه لو لم تعص أمري *** لكنت بمعزل عمّا هناكا
قال: فأجابه أخوه صخر بن حبناء فقال:
أتاني عن مغيرة ذرو قول *** تعمّده فقلت له كذاكا(2)
يعمّ به بني ليلى جميعا *** فولّ هجاءهم رجلا سواكا
/فإن تك قد قطعت الوصل منّي *** فهذا حين أخلفني مناكا
تمنّيني إذا ما غبت عني *** و تخلفني مناي إذا أراكا
و توليني ملامة أهل بيتي *** و لا تعطي الأقارب غير ذاكا
فإن تك أختنا عتبت علينا *** فلا تصرم لظنّتها أخاكا
فإنّ لها إذا عتبت علينا *** رضاها صابرين لها بذاكا
و إن تك قد عتبت عليّ جهلا *** فلا و اللّه لا أبغي رضاكا
فقد أعلنت قولك إذ أتاني *** فأعلن من مقالي ما أتاكا
سيغني عنك صخرا ربّ صخر *** كما أغناك عن صخر غناكا
و يغنيني الّذي أغناك عنّي *** و يكفيني الإله كما كفاكا
أ لم ترني أجود لكم بمالي *** و أرمي بالنّواقر من رماكا(3)
و أنّي لا أقود إليك حربا *** و لا أعصيك إن رجل عصاكا
و لكنّي وراءك شمّريّ *** أحامي - قد علمت - على حماكا(4)
و أدفع ألسن الأعداء عنكم *** و يعنيني(5) العدوّ إذا عناكا
و قد كانت قريبة ذات حق *** عليك فلم تطالعها بذاكا
رأيت الخير يقصر منك دوني *** و تبلغني القوارص من أذاكا
ص: 67
و نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو أيضا قال: كان حبناء بن عمرو و قد غضب على قومه في بعض الأمر، فانتقل إلى نجران، و حمل معه أهله و ولده، فنظرت امرأته سلمى إلى غلام من أهل نجران يضرب ابنه المغيرة - و هو يومئذ/غلام - فقالت لحبناء: قد كنت غنيا عن هذا الذّلّ، و كان مقامك بالعراق في قومك أو في حيّ قريب من قومك أعزّ لك! فقال حبناء في ذلك:
تقول سليمى الحنظلية لابنها *** غلام بنجران الغداة غريب
رأت غلمة ثاروا إليه بأرضهم *** كما هرّ كلب الدار(1) بين كليب(2)
فقالت لقد أجرى أبوك لما ترى *** و أنت عزيز بالعراق مهيب
و قال أيضا:
لعمرك ما تدري أ شيء تريده *** يليك أم الشيء الّذي لا تحاوله
متى ما يشأ مستقبس الشرّ يلقه *** سريعا و تجمعه إليه أنامله(3)
أخبرني عيسى بن الحسن الورّاق، قال حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أبو الشّبل النّضري، قال: كان المغيرة بن حبناء أبرص، و أخوه صخر أعور، و أخوه الآخر/مجذوما، و كان بأبيهم حبن، فلقّب حبناء - و اسمه جبير بن عمرو - فقال زياد الأعجم يهجوهم:
إنّ حبناء كان يدعى جبيرا *** فدعوه من لؤمه حبناء
ولد العور منه و البرص و الجذ *** مى، و ذو الداء ينتج الأدواء(4)
فيقال: إنّ هذه الأبيات كانت آخر ما تهاجيا به؛ لأنّ المغيرة قال - و قد بلغه هذا الشعر -: ما ذنبنا فيما ذكره، هذه أدواء ابتلانا اللّه عزّ و جلّ بها، و إني لأرجو أن يجمع اللّه عليه هذه الأدواء كلّها! فبلغ ذلك زيادا من قوله، و إنّه لم يهجه بعقب هذه الأبيات، و لا أجابه بشيء، فأمسك عنه، و تكافأ.
أخبرني محمّد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه، و أخبرني به الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبيه عن الأصمعي، قال:
لم يقل أحد في تفضيل أخ على أخيه و هما لأب و أمّ، مثل قول المغيرة بن حبناء لأخيه صخر:
أبوك أبي و أنت أخي و لكن *** تفاضلت الطّبائع و الظّروف
و أمّك حين تنسب أمّ صدق *** و لكنّ ابنها طبع سخيف(5)
ص: 68
قال: و كان عبد الملك بن مروان إذا نظر إلى أخيه معاوية - و كان ضعيفا - يتمثّل بهذين البيتين.
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثني أحمد بن محمّد بن جدّان، قال: حدّثني أحمد بن محمّد بن مخلد المهلبي، قال:
نظر الحجّاج إلى يزيد بن المهلّب يخطر في مشيته، فقال: لعن اللّه المغيرة بن حبناء حيث يقول:
جميل المحيّا بختريّ إذا مشى *** و في الدّرع ضخم المنكبين شناق(1)
فالتفت إليه يزيد، فقال: إنه يقول فيها:
شديد القوى من أهل بيت إذا وهى *** من الدّين فتق حمّلوا فأطاقوا(2)
مراجيح في اللأواء إن نزلت بهم *** ميامين قد قادوا الجيوش و ساقوا(3)
أخبرني محمّد بن مزيد، قال: حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: حدّثني من حضر ابن حبناء لما قتل - و هو يجود بنفسه - فأخذ بيده من دمه - و كتب بيده على صدره: «أنا المغيرة بن حبناء». ثم مات.
بسطت رابعة الحبل لنا *** فوصلنا الحبل منها ما(4) اتسع
كيف ترجون سقاطي بعد ما *** جلّل الرأس بياض و صلع(5)
ربّ من أنضجت غيظا صدره *** قد تمنّى لي موتا لم يطع(6)
و يراني كالشّجى في حلقه *** عسرا مخرجه ما ينتزع(7)
و يحيّيني إذا لاقيته *** و إذا أمكن من لحمي رتع(8)
و أبيت اللّيل ما أهجعه *** و بعينيّ إذا النّجم طلع(9)
ص: 69
الحبل هاهنا: الوصل؛ و الحبل أيضا: السبب يتعلّق به الرجل من صاحبه، يقال: علقت من فلان بحبل؛ و الحبل:
العهد، و الميثاق، و العقد يكون بين القوم؛ و هذه المعاني كلّها/تتعاقب و يقوم بعضها مقام بعض. و الشّجا: كلّ ما اغتصّ به من لقمة أو عظم أو غيرهما.
الشعر لسويد بن أبي كاهل اليشكريّ، و الغناء لعلّويه، ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو بن بانة في الأول و الثاني من الأبيات، و ليونس الكاتب في الثالث و الرابع و الثاني ما خوري بالوسطى، عن علي بن يحيى، و الهشامي.
و لمالك فيها ثقيل بالبنصر، عن الهشامي أيضا، و لابن سريج فيها خفيف ثقيل، عن علي بن يحيى.
ص: 70
سويد بن أبي كاهل بن حارثة بن حسل بن مالك بن عبد سعد بن جشم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر. و ذكر خالد بن كلثوم أنّ اسم أبي كاهل شبيب، و يكنى سويد أبا سعد.
أنشدني وكيع عن حماد، عن أبيه، لسويد بن أبي كاهل شاهدا بذلك:
أنا أبو سعد إذا اللّيل دجا *** دخلت في سرباله ثمّ النّجا(1)
و جعله محمّد بن سلام في الطبقة السادسة، و قرنه بعنترة العبسيّ و طبقته.
و سويد شاعر متقدّم من مخضرمي الجاهلية و الإسلام، كذلك ذكر ابن حبيب. و كان أبوه أبو كاهل شاعرا، و هو الّذي يقول:
كأنّ رحلي على صقعاء حادرة *** طيّا قد ابتلّ من طلّ خوافيها(2)
أخبرني محمّد بن العباس اليزيدي، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق البغويّ، قال: حدّثنا أبو نصر صاحب الأصمعيّ أنّه قرأ شعر سويد بن أبي كاهل على الأصمعي، فلما قرأ قصيدته:
بسطت رابعة الحبل لنا *** فوصلنا الحبل منها ما اتّسع
فضّلها الأصمعي، و قال: كانت العرب تفضّلها و تقدّمها و تعدّها من حكمها. ثم قال الأصمعي: حدّثني عيسى بن عمر أنّها كانت في الجاهليّة تسمّى: «اليتيمة»(3).
أخبرني محمّد بن خلف وكيع، قال: حدّثني محمّد بن الهيثم بن عديّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن عباس، قال:
قال زياد الأعجم يهجو بني يشكر:
إذا يشكريّ مسّ ثوبك ثوبه *** فلا تذكرنّ اللّه حتّى تطهّرا
فلو أنّ من لؤم تموت قبيلة *** إذا لأمات اللؤم لا شكّ يشكرا
ص: 71
قال: فأتت بنو يشكر سويد بن أبي كاهل ليهجو زيادا، فأبى عليهم، فقال زياد:
و أنبئتهم يستصرخون ابن كاهل *** و للؤم فيهم كاهل و سنام(1)
فإن يأتنا يرجع سويد و وجهه *** عليه الخزايا غبرة و قتام(2)
دعيّ إلى ذبيان طورا، و تارة *** إلى يشكر ما في الجميع كرام
فقال لهم سويد: هذا ما طلبتم لي! و كان سويد مغلّبا(3). و أما قوله:
دعيّ إلى ذبيان طورا و تارة *** إلى يشكر...
فإنّ أم سويد بن أبي كاهل كانت امرأة من بني غبر، و كانت قبل أبي كاهل عند رجل من بني ذبيان بن قيس بن عيلان، فمات عنها، فتزوّجها أبو كاهل، و كانت فيما يقال حاملا، فاستلاط أبو كاهل ابنها لمّا ولدته(4)، و سمّاه سويدا، /و استلحقه(5)، فكان إذا غضب على بني يشكر ادّعى إلى بني ذبيان، و إذا رضي عنهم أقام على نسبه فيهم.
/و ذكر علاّن الشّعوبي، أنّه ولد في بني ذبيان، و تزوّجت أمّه أبا كاهل - و هو غلام يفعة(6) - فاستلحقه أبو كاهل و ادّعاه، فلحق به.
و لسويد بن أبي كاهل قصيدة ينتمي فيها إلى قيس، و يفتخر بذلك، و هي الّتي أوّلها:
أبى قلبه إلاّ عميرة إن دنت *** و إن حضرت دار العدا فهو حاضر
شموس حصان السّرّ ريّا كأنها *** مربّبة مما تضمّن حائر(7)
و يقول فيها أيضا:
أنا الغطفاني زين ذبيان فابعدوا *** فللزّنج أدنى منكم و يحابر(8)
أبت لي عبس أن أسام دنيّة *** و سعد و ذبيان الهجان و عامر(9)
و حيّ كرام سادة من هوازن *** لهم في الملمّات الأنوف الفواخر(10)
ص: 72
أخبرنا محمّد بن العباس اليزيديّ، قال: حدّثنا أحمد بن معتّب الأودي عن الحرمازي(1)، أنّ سويد بن أبي كاهل جاور في بني شيبان، فأساءوا جواره، و أخذوا/شيئا من ماله غصبا، فانتقل عنهم و هجاهم فأكثر، و كان الّذي ظلمه و أخذ ماله أحد بني محلّم، فقال يهجوهم و إخوتهم بني أبي ربيعة:
حشر الإله مع القرود محلّما *** و أبا ربيعة ألأم الأقوام
فلأهدينّ مع الرّياح قصيدة *** منّي مغلغلة(2) إلى همّام
الظاعنين على العمى قدّامهم *** و النازلين بشرّ دار مقام(3)
و الواردين إذا المياه تقسّمت *** نزح الرّكيّ و عاتم الأسدام(4)
و قال يهجو بني شيبان:
لعمري لبئس الحيّ شيبان إن علا *** عنيزة يوم ذو أهابيّ أغبر(5)
فلما التقوا بالمشرفية ذبذبت *** مولّية أستاه(6) شيبان تقطر
يعني يوم عنيزة، و كان لبني تغلب على بني شيبان، و فيه يقول مهلهل:
كأنّا غدوة و بني أبينا *** بجنب عنيزة رحيا مدير(7)
و قال أيضا:
فأدّوا إلى بهراء فيكم بناته *** و أبناءه إنّ القضاعيّ أحمر
كانت بهراء أغارت على بني شيبان، فأخذوا منهم نساء، و استاقوا نعما(8)، ثمّ إنهم اشتروا منهم النّساء و ردّوهنّ(9)، فعيرهم سويد بأنهم رددن حبالى، فقال:
/
ظللن ينازعن العضاريط أزرها *** و شيبان وسط القطقطانة حضّر(10)
فمنا يزيد إذ تحدّى جموعكم *** فلم تفرحوه(11)، المرزبان المسوّر
- يزيد: رجل من يشكر، برز يوم ذي قار إلى أسوار، و حمل على بني شيبان، فانكشفوا من بين يديه -
ص: 73
فاعترضه اليشكريّ دونهم، فقتله، و عادت شيبان إلى موقفها، ففخر بذلك عليهم، فقال:
و أحجمتم حتّى علاه بصارم *** حسام إذا مسّ الضّريبة يبتر(1)/
و منّا الّذي أوصى بثلث تراثه *** على كلّ ذي باع يقلّ و يكثر
ليالي قلتم يا ابن حلّزة ارتحل *** فزابن لنا الأعداء و اسمع و أبصر(2)
فأدّى إليكم رهنكم وسط وائل *** حباه بها ذو الباع عمرو بن منذر
يعني الحارث بن حلّزة، لما خطبه دون بكر بن وائل حتى ارتجع رهائنهم. و قد ذكر خبره في ذلك في موضعه.
قال: فاستعدت بنو شيبان عليه عامر بن مسعود الجمحي، و كان والي الكوفة، فدعا به، فتوعّده، و أمره بالكفّ عنهم بعد أن كان قد أمر بحبسه، فتعصّبت له قيس، و قامت بأمره حتى تخلّصته، فقال في ذلك:
يكفّ لساني عامر و كأنّما *** يكف لسانا فيه صاب و علقم(3)
/أ تترك أولاد البغايا و غيبتي *** و تحبسني عنهم و لا أتكلّم
أ لم تعلموا أنّي سويد و أنّني *** إذا لم أجد مستأخرا أتقدّم
حسبتم هجائي إذ بطنتم غنيمة *** عليّ دماء البدن إن لم تندّموا(4)
قال الحرمازي في خبره هذا: و هاجى سويد بن أبي كاهل حاضر بن سلمة الغبري، فطلبهما عبد اللّه بن عامر بن كريز، فهربا من البصرة، ثم هاجى الأعرج أخا بني حمّال بن يشكر، فأخذهما صاحب الصدقة، و ذلك في أيّام ولاية عامر بن مسعود الجمحي الكوفة، فحبسهما، و أمر أن لا يخرجا من السّجن حتّى يؤديا مائة من الإبل، فخاف بنو حمّال على صاحبهم ففكّوه، و بقي سويد، فخذله بنو عبد سعد، و هم قومه، فسأل بني غبر، و كان قد هجاهم لما ناقض شاعرهم، فقال:
فلما سأل بني غبر، قالوا له: يا سويد «ضيعت البكار بطحال» فأرسلوها مثلا. أي إنك عممت جماعتنا بالهجاء في هذه الأرجوزة، فضاع منك ما قدّرت أنّا نفديك به من الإبل. فلم يزل محبوسا حتى استوهبته عبس و ذبيان لمديحه لهم، و انتمائه إليهم، فأطلقوه بغير فداء.
هو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش بن أوس بن مسعود بن عمرو بن كلثوم الشاعر، و هو ابن مالك عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. شاعر مترسّل بليغ مطبوع، متصرّف في فنون الشّعر و مقدّم. من شعراء الدولة العباسية، و منصور النّمريّ تلميذه و راويته، و كان منقطعا إلى البرامكة، فوصفوه للرّشيد، و وصلوه به، فبلغ عنده كلّ مبلغ، و عظمت فوائده منه، ثم فسدت الحال بينه و بين منصور و تباعدت. و أخبار ذلك تذكر في مواضعها.
و أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثني القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني جعفر بن المفضّل، عن رجل من ولد إبراهيم الحرّاني(1)، قال: كثر الشّعراء بباب المأمون، فأوذن بهم، فقال لعليّ بن صالح صاحب المصلّى:
أعرضهم، فمن كان منهم مجيدا فأوصله إليّ، و من كان غير مجيد فاصرفه. و صادف ذلك شغلا من عليّ بن صالح كان يريد أن يتشاغل به عن أمر نفسه، فقام مغضبا، و قال: و اللّه لأعمّنّهم بالحرمان، ثم جلس لهم، و دعا بهم فجعلوا يتغالبون(2) على القرب منه، فقال لهم: على رسلكم فإنّ المدى أقرب من ذلك، هل فيكم من يحسن أن يقول كما قال أخوكم العتابيّ:
ما ذا عسى مادح يثني عليك و قد *** ناداك في الوحي تقديس و تطهير
فتّ الممادح إلاّ أنّ ألسننا *** مستنطقات بما تحوى الضّمائير
/قالوا: لا و اللّه ما بنا أحد يحسن أن يقول مثل هذا، قال: فانصرفوا جميعا.
/أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو بكر أحمد بن سهل، قال: تذاكرنا شعر العتّابيّ، فقال بعضنا: فيه تكلّف، و نصره بعضنا، فقال شيخ حاضر: ويحكم أ يقال إن في شعره تكلفا؟ و هو القائل:
رسل الضّمير إليك تترى *** بالشّوق ظالعة و حسرى(3)
متزجّيات ما يني *** ن على الوجى من بعد مسرى(4)
ما جفّ للعينين بع *** دك يا قرير العين مجرى
فاسلم سلمت مبرّأ *** من صبوتي أبدا معرّى(5)
ص: 76
إن الصّبابة لم تدع *** منّي سوى عظم مبري(1)
و مدامع عبرى على *** كبد عليك الدّهر حرّى(2)
- في هذين البيتين غناء - أو يقال: إنه متكلّف؟ و هو الّذي يقول:
فلو كان للشكر شخص يبين *** إذا ما تأمّله النّاظر
لمثّلته لك حتّى تراه *** لتعلم أنّي امرؤ شاكر
الغناء في هذين البيتين لأبي العبيس، ثقيل أوّل، و لرذاذ خفيف ثقيل. فحدّثني أبو يعقوب إسحاق بن يعقوب النوبجيّ عن أبي الحسن عليّ بن العباس و غيره من أهله قالوا: لما صنع رذاذ لحنه في هذا الشعر:
فلو كان للشّكر شخص يبين
فتن به الناس، و كان هجّيراهم زمانا(3)، حتى صنع أبو العبيس فيه الثّقيل الأول، فأسقط لحن رذاذ و غلب عليه.
أخبرني إبراهيم بن أيوب، عن عبد اللّه بن مسلم، و أخبرني علي بن سليمان الأخفش، عن محمّد بن يزيد، قالوا جميعا:
كتب المأمون في إشخاص كلثوم بن عمرو العتابي، فلما دخل عليه قال له: يا كلثوم، بلغتني وفاتك فساءتني، ثم بلغتني وفادتك فسرّتني. فقال له العتابي: يا أمير المؤمنين، لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتاها فضلا و إنعاما، و قد خصصتني منهما بما لا يتّسع له أمنية، و لا يبسط لسواه أمل، لأنه لا دين إلاّ بك، و لا دنيا إلا معك. فقال له: سلني. فقال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسّؤال. فوصله صلات سنية، و بلغ به من التقديم و الإكرام أعلى محلّ.
و ذكر أحمد بن أبي طاهر عن عبد اللّه بن أبي سعد الكراني، أنّ عبد اللّه بن سعيد بن زرارة، حدّثه عن محمّد بن إبراهيم اليساري، قال:
لما قدم العتّابي مدينة السلام على المأمون، أذن له، فدخل عليه و عنده إسحاق بن إبراهيم الموصلي، و كان العتّابي شيخا جليلا نبيلا، فسلّم فردّ عليه و أدناه، و قرّبه حتّى قرب منه، فقبّل يده: ثم أمره بالجلوس فجلس، و أقبل عليه يسائله عن حاله، و هو يجيبه بلسان ذلق طلق، فاستظرف المأمون ذلك، و أقبل عليه بالمداعبة و المزاح، فظنّ الشّيخ أنّه استخفّ به، فقال: يا أمير المؤمنين: الإيناس قبل الإبساس(4).
ص: 77
فاشتبه على المأمون قوله، فنظر إلى إسحاق مستفهما، فأومأ إليه، و غمزه على معناه(1) حتّى/فهم، فقال:
يا غلام، ألف دينار! فأتي بذاك، فوضعه بين يدي العتّابي، و أخذوا في الحديث، و غمز المأمون إسحاق بن إبراهيم عليه، فجعل العتابي/لا يأخذ في شيء إلاّ عارضه فيه إسحاق، فبقي العتّابيّ متعجّبا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أ تأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه؟ قال: نعم، سل. فقال لإسحاق: يا شيخ من أنت؟ و ما اسمك؟ قال: أنا من الناس، و اسمي كل بصل. فتبسم العتابي و قال: أمّا أنت فمعروف، و أما الاسم فمنكر. فقال إسحاق: ما أقل إنصافك، أ تنكر أن يكون اسمي كل بصل؟ و اسمك كل ثوم، و كل ثوم من الأسماء، أ و ليس البصل أطيب من الثّوم؟ فقال له العتّابي: للّه درّك، ما أحجّك(2)، أ تأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أصله بما وصلتني به؟ فقال له المأمون:
بل ذلك موفّر عليك و نأمر له بمثله.
فقال له إسحاق: أمّا إذا أقررت بهذا، فتوهّمني تجدني، فقال: ما أظنّك إلا إسحاق الموصليّ، الّذي تناهى إلينا خبره، قال: أنا حيث ظننت. و أقبل عليه بالتحيّة و السلام، فقال المأمون، و قد طال الحديث بينهما: أمّا إذ قد اتّفقتما على المودّة، فانصرفا متنادمين. فانصرف العتّابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.
و ذكر أحمد بن طاهر أيضا أنّ مسعود بن عيسى العبديّ، حدّثه عن موسى بن عبد اللّه التميمي، قال: وفد إلى عبد اللّه بن طاهر جمع من الشّعراء، فعلم أنّهم على بابه، فقال لخادم له أديب: أخرج إلى القوم، و قل لهم: من كان منكم يقول كما قال العتّابيّ للرّشيد:
مستنبط عزمات القلب من فكر *** ما بينهن و بين اللّه معمور(3)
فليدخل، و ليعلم أنّي إن وجدته مقصّرا عن ذلك حرمته، فمن وثق من نفسه أنه يقول مثل هذا فليقم. قال:
فدخلوا جميعا إلاّ أربعة نفر.
أخبرني الحسن بن علي قال، حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا عبد اللّه بن سعد عن إبراهيم بن الحدين، قال: وجد(4) الرّشيد على العتّابي، فدخل سرّا مع المتظلّمين بغير إذن، فمثل بين يدي الرشيد، و قال له:
يا أمير المؤمنين، قد آذتني الناس لك و لنفسي فيك، و ردّني ابتلاؤهم إلى شكرك، و ما مع تذكّرك قناعة بغيرك، و لنعم الصّائن لنفسي كنت، لو أعانني عليك الصبر. و في ذلك أقول:
أخضني المقام الغمر إن كان غرّني *** سنا خلّب أو زلّت القدمان(5)
أ تتركني جدب المعيشة مقترا *** و كفّاك من ماء الندي تكفان
و تجعلني سهم المطامع بعد ما *** بللت يميني بالنّدى و لساني
قال: فأعجب الرّشيد قوله، و خرج عليه الخلع، و قد أمر له بجائزة، فما رأيت العتّابي قطّ أبسط منه يومئذ.
ص: 78
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثنا أحمد بن خلاد، قال: حدّثني أبي، قال: جاء العتّابي و هو حدث إلى بشّار، فأنشده:
أ يصدف عن أمامة أم يقيم *** و عهدك بالصّبا عهد قديم
أقول لمستعار القلب عفّى *** على عزماته السّير العديم(1)
أ ما يكفيك أنّ دموع عيني *** شآبيب يفيض بها الهموم(2)
أشيم فلا أردّ الطرف إلاّ *** على أرجائه ماء سجوم(3)
قال: فمدّ بشّار يده إليه: ثم قال له: أنت بصير؟ قال: نعم. قال: عجبا لبصير ابن زانية، أن يقول هذا /الشّعر. فخجل العتابي و قام عنه.
/أخبرني محمّد بن يونس الأنباري الكاتب، قال: حدّثني الحسن بن يحيى أبو الحمار عن إسحاق، قال:
كلّم العتّابيّ يحيى بن خالد في حاجة بكلمات قليلة، فقال له يحيى: لقد ندر كلامك اليوم و قلّ. فقال له:
و كيف لا يقلّ و قد تكنّفني ذلّ المسألة، و حيرة الطّلب، و خوف الردّ؟! فقال: و اللّه لئن قلّ كلامك لقد كثرت فوائده.
و قضى حاجته.
و أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثنا عثمان الورّاق، قال:
رأيت العتّابي يأكل خبزا على الطّريق بباب الشام، فقالت له: ويحك، أ ما تستحي؟ فقال لي: أ رأيت لو كنّا في دار فيها بقر، كنت تستحي و تحتشم أن تأكل و هي تراك؟ فقال: لا. قال: فاصبر حتى أعلمك أنّهم بقر. فقام فوعظ و قصّ و دعا، حتّى كثر الزّحام عليه، ثم قال لهم: روى لنا غير واحد، أنّه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النّار.
فما بقي واحد إلاّ و أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه، و يقدّره حتّى يبلغها أم لا. فلما تفرقوا، قال لي العتّابي:
أ لم أخبرك أنهم بقر؟
أخبرني الحسن حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو عصام محمّد بن العباس، قال: قال يحيى بن خالد البرمكي لولده: إن قدرتم أن تكتبوا أنفاس كلثوم بن عمرو العتابي، فضلا عن رسائله و شعره، فلن تروا أبدا مثله.
أخبرني أبي، قال: أخبرنا الحارث بن محمّد عن المدائني، و أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثنا الخرّاز عن ابن الأعرابي، قال:
ص: 79
/أنكر العتابي على صديق له شيئا، فكتب إليه: «إما إن تقرّ بذنبك فيكون إقرارك حجّة علينا في العفو عنك، و إلاّ فطب نفسا بالانتصاف منك، فإنّ الشاعر يقول:
أقرر بذنبك ثمّ اطلب تجاوزنا *** عنه فإن جحود الذّنب ذنبان»
.
أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا ابن مهرويه، قال: حدّثني عبد الواحد بن محمّد، قال:
وقف العتّابيّ بباب المأمون يلتمس الوصول إليه، فصادف يحيى بن أكثم جالسا ينتظر الإذن، فقال له: إن رأيت - أعزك اللّه - أن تذكر أمري لأمير المؤمنين إذا دخلت فافعل. قال له: لست - أعزّك اللّه - بحاجبه. قال: فإن لم تكن حاجبا فقد يفعل مثلك ما سألت، و اعلم أنّ اللّه - عزّ و جلّ - جعل في كل شيء زكاة، و جعل زكاة المال رفد(1) المستعين، و زكاة الجاه إغاثة الملهوف. و اعلم أنّ اللّه - عزّ و جلّ - مقبل عليك بالزيادة إنّ شكرت، أو التغيير إن كفرت، و إنّي لك اليوم(2) أصلح منك لنفسك، لأنّي أدعوك إلى ازدياد نعمتك، و أنت تأبى. فقال له يحيى:
أفعل و كرامة. و خرج الإذن ليحيى، فلما دخل، لم يبدأ بشيء بعد السلام إلاّ أن استأذن(3) المأمون للعتابي، فأذن له.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو الشّبل، قال:
قال العتابي لرجل اعتذر إليه: إنّي إن لم أقبل عذرك لكنت ألأم منك، و قد قبلت عذرك، فدم على لوم نفسك في جنايتك، نزد في قبول عذرك، و التّجافي عن هفوتك.
/قال: و قيل له لو تزوّجت! فقال: إنّي وجدت مكابدة العفّة أيسر عليّ من الاحتيال لمصلحة العيال.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: قال جعفر بن المفضل؛ قال لي أبي:
رأيت العتّابيّ جالسا بين يدي المأمون و قد أسنّ، فلما أراد القيام قام المأمون فأخذ بيده، و اعتمد الشّيخ على المأمون، /فما زال ينهضه رويدا رويدا حتّى أقلّه فنهض، فعجبت(4) من ذلك، و قلت لبعض الخدم: ما أسوأ أدب هذا الشيخ، فمن هو؟ قال: العتابي.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني محمّد بن الأشعث، قال: قال دعبل: ما حسدت أحدا قطّ على شعر كما حسدت العتّابي على قوله:
هيبة الإخوان قاطعة *** لأخي الحاجات عن طلبه
فإذا ما هبت ذا أمل *** مات ما أمّلت من سببه(5)
ص: 80
قال ابن مهرويه: هذا سرقه العتّابي من قول عليّ بن أبي طالب، رضي اللّه عنه: «الهيبة مقرونة بالخيبة، و الحياء مقرون بالحرمان، و الفرصة تمرّ مرّ السحاب».
حدّثني محمّد بن داود، عن أبي الأزهر، عن عيسى بن الحسن بن داود الجعفري عن أخيه عن علي بن أبي طالب، رضي اللّه عنه، بذلك.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه عن أبي الشّبل. قال:
دخل العتّابي على عبد اللّه بن طاهر، فمثل بين يديه، و أنشده:
حسن ظني و حسن ما عوّد الل *** ه سواي(1) منك الغداة أتى بي
/أيّ شيء يكون أحسن من حس *** ن يقين(2) حدا إليك ركابي
قال: فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه من الغد، فأنشده:
و دكّ يكفينيك في حاجتي *** و رؤيتي كافية عن سؤال
و كيف أخشى الفقر ما عشت لي *** و إنّما(3) كفّاك لي بيت مال
فأمر له بجائزة، ثم دخل في اليوم الثالث، فأنشده:
بهجات الثّياب يخلقها(4) الدّه *** ر و ثوب الثّناء غضّ جديد
فاكسني ما يبيد أصلحك الل *** ه فاللّه يكسوك ما لا يبيد
فأمر له بجائزة، و أنعم عليه بخلعة سنيّة.
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد، قال: حدثني أبو دعامة، قال:
قال طوق بن مالك للعتابي: أما ترى عشيرتك؟ - يعني بني تغلب - كيف تدلّ علي، و تتمرغ و تستطيل، و أنا أصبر عليهم؟! فقال العتابي: أيّها الأمير، إنّ عشيرك من أحسن عشرتك(5)، و إنّ عمّك خيره، و إنّ قريبك من قرب منك نفعه، و إنّ أخفّ الناس عندك(6) أخفّهم ثقلا عليك، و أنا الّذي أقول:
إنّي بلوت النّاس في حالاتهم *** و خبرت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا *** و إذا المودّة أقرب من الأنساب
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، قال حدّثنا الرياشي، قال:
ص: 81
شكا منصور النمريّ العتّابيّ إلى طاهر بن الحسين، فوجّه طاهر إلى العتّابيّ، فأحضره، و أخفى منصورا في بيت قريب منهما، و سأل طاهر العتّابي أن يصالحه، فشكا سوء فعله به، فسأله أن يصفح عنه، فقال: لا يستحقّ ذلك. فأمر منصورا بالخروج، فخرج و قال للعتابيّ، لم لا أستحقّ هذا منك؟ فأنشأ العتابيّ يقول:
/
أصحبتك الفضل إذ لا أنت تعرفه *** حقّا و لا لك في استصحابه أرب
لم ترتبطك على وصلي محافظة *** و لا أعاذك مما اغتالك الأدب
ما من جميل و لا عرف نطقت به *** إلا إليّ و إن أنكرت ينتسب
قال: فأصلح طاهر بينهما - و كان منصور من تعليم العتابي و تخريجه(1) - و أمر طاهر للعتابي بثلاثين ألف درهم.
أخبرني عمر عن عبد اللّه بن أبي سعد عن الحسين بن يحيى الفهري عن العباس بن أبي ربيعة السلمي، قال:
شكا منصور النمري كلثوم بن عمرو العتابي إلى طاهر. ثم ذكر مثله.
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب، قال: حدّثني أبو هفان، قال:
كان العتّابيّ جالسا ذات يوم ينظر في كتاب، فمرّ به بعض جيرانه، فقال: أيش ينفع العلم و الأدب من لا مال له؟ فأنشد العتّابي يقول:
/
يا قاتل اللّه أقواما إذا ثقفوا *** ذا اللبّ ينظر في الآداب و الحكم(2)
قالوا و ليس بهم إلاّ نفاسته *** أ نافع ذا من الإقتار و العدم(3)
و ليس يدرون أنّ الحظّ ما حرموا *** لحاهم اللّه، من علم و من فهم(4)
أخبرني علي بن صالح و عمي، قالا: حدّثنا أحمد بن طاهر، قال: حدّثنا أبو حيدرة الأسدي، قال:
قال العتابيّ في عزل طاهر بن علي، و كان عدوّه:
يا صاحبا متلوّنا *** متباينا فعلي و فعله
ما إن أحبّ له الرّدى *** و يسرّني و اللّه عزله
لم تعد فيما قلت لي *** و فعلت بي ما أنت أهله
كم شاغل بك عدوتيه *** و فارغ من أنت شغله(5)
أخبرني أحمد بن الفرج، قال: حدّثني أحمد بن يحيى بن عطاء الحراني عن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد بن الفرج، قال:
ص: 82
لمّا سعى منصور النمريّ بالعتابيّ إلى الرشيد اغتاظ عليه، فطلبه، فستره جعفر بن يحيى عنه مدّة، و جعل يستعطفه عليه، حتّى استلّ ما في نفسه، و أمّنه، فقال يمدح جعفر بن يحيى:
ما زلت في غمرات(1) الموت مطّرحا *** قد ضاق عني فسيح الأرض من حيلي
و لم تزل دائبا تسعى بلطفك لي *** حتّى اختلست حياتي من يدي أجلي
/أخبرني عمي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن خلاد عن أبيه، قال:
عاد عبد اللّه بن طاهر و إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، كلثوم بن عمرو العتابيّ، في علّة اعتلّها، فقال الناس:
هذه خطرة خطرت! فبلغ ذلك العتابيّ، فكتب إلى عبد اللّه بن طاهر:
قالوا الزّيارة خطرة خطرت *** و نجار برّك ليس بالخطر(2)
أبطل مقالتهم بثانية *** تستنفد المعروف من شكري
فلما بلغت أبياته عبد اللّه بن طاهر ضحك من قوله، و ركب هو و إسحاق بن إبراهيم، فعاداه مرة ثانية.
أخبرني الحسين بن القاسم الكواكبي، قال: حدّثني/أبو العيناء، قال: حدّثني أبو العلاء المعري(3)، قال:
عتب عبد اللّه بن هشام بن بسطام التّغلبي على كلثوم بن عمرو التغلبيّ في شيء بلغه عنه، فكتب إليه:
لقد سمتني الهجران حتى أذقتني *** عقوبات زلاّتي و سوء مناقبي
فها أنا ساع في هواك و صابر *** على حدّ مصقول الغرارين قاضب(4)
و منصرف عما كرهت و جاعل *** رضاك مثالا بين عيني و حاجبي
قال: فرضي عنه، و وصله صلة سنيّة.
/الغناء في هذه الأبيات لسعيد مولى فائد، ثاني ثقيل بالبنصر، عن يحيى المكي، و ذكر الهشامي أنه منحول يحيى، و ذكر أحمد بن المكي في كتابه، أنّه لأبي سعيد، و جعله في باب الثقيل الأوّل بالبنصر، و لعله على مذهب إبراهيم بن المهدي و من قال بقوله.
أخبرني الحسين بن القاسم، قال: حدّثني محمّد بن عبد الرحمن بن يونس السراج، قال: أخبرني الحسين بن داود الفزاري عن أبيه، قال:
ص: 83
كان أخوان من فزارة يخفران قرية بين آمد و سميساط، يقال لها تلّ حوم، فطال مقامهما بها حتّى أثريا، فحسدهما قوم من ربيعة، و قالوا: يخفران هذان الضياع في بلدنا! فجمعوا لهما جمعا، و ساروا إليهما، فقاتلوهما، فقتل أحدهما، و على الجزيرة يومئذ عبد الملك بن صالح الهاشمي، فشكا القيسيّ أمره إلى وجوه قيس، و عرّفهم قتل ربيعة أخاه، و أخذهم ماله. فقالوا له: إذا جلس الأمير فادخل إليه. ففعل ذلك، و دخل على عبد الملك، و شكا ما لحقه، ثم قال له: و حسب الأمير أنّهم لما قتلوا أخي و أخذوا مالي قال قائل منهم:
اشربا ما شربتما إنّ قيسا *** من قتيل و هالك و أسير
لا يحوزنّ أمرنا مضريّ *** بخفير و لا بغير خفير
فقال عبد الملك: أ تندبني(1): إلى العصبية؟ و زبره(2)، فخرج الرّجل مغموما، فشكا ذلك إلى وجوه قيس، فقالوا: لا ترع، فو اللّه لقد قذفتها في سويداء قلبه، فعاوده. فعاوده في المجلس الآخر، فزبره، و قال له قوله الأوّل، فقال له:
إنّي لم آتك/أندبك للعصبيّة، و إنّما جئتك مستعديا(3)، فقال له: حدّثني كيف فعل القوم؟ فحدّثه و أنشده، فغضب فقال: كذب(4) لعمري، ليحوزنّها. ثم دعا بأبي عصمة أحد قواده، فقال: اخرج فجرّد السيف في ربيعة، فخرج و قتل منها مقتلة عظيمة، فقال كلثوم بن عمرو العتّابيّ قصيدته الّتي أوّلها:
ما ذا شجاك بحوّارين من طلل *** و دمنة كشفت عنها الأعاصير(5)
يقول فيها:
هذي يمينك في قرباك صائلة *** و صارم من سيوف الهند مشهور
إن كان منّا ذوو إفك و مارقة *** و عصبة دينها العدوان و الزّور
فإنّ منّا الّذي لا يستحثّ إذا *** حثّ الجياد و ضمتها المضامير
مستنبط عزمات القلب من فكر *** ما بينهنّ و بين اللّه معمور
/يعني عبد اللّه بن هشام بن بسطام التغلبي، و كان قد أخذ قوّادهم.
فبلغت القصيدة عبد الملك، فأمر أبا عصمة بالكفّ عنهم، فلما قدم الرّشيد الرّافقة أنشده عبد الملك القصيدة، فقال: لمن هذه؟ فقال: لرجل من بني عتاب يقال له كلثوم بن عمرو، فقال: و ما يمنعه أن يكون ببابنا.
فأمر بإشخاصه من رأس(6) عين، فوافى الرشيد و عليه قميص غليظ، و فروة و خفّ، و على كتفه ملحفة جافية بغير سراويل، فلما رفع الخبر بقدومه أمر الرشيد بأن تفرش له حجرة، و تقام له وظيفة، ففعلوا، فكانت المائدة إذا قدّمت إليه أخذ منها رقاقة و ملحا و خلط الملح بالتّراب فأكله بها، فإذا كانت وقت النوم نام على الأرض و الخدم يتفقّدونه، و يتعجبون من/فعله.
ص: 84
و سأل الرشيد عنه، فأخبروه بأمره، فأمر بطرده.
فخرج حتّى أتى يحيى بن سعيد العقيلي و هو في منزله، فسلّم عليه، و انتسب له، فرحّب به، و قال له:
ارتفع. فقال: لم آتك للجلوس، قال: فما حاجتك؟ قال: دابّة أبلغ عليها إلى رأس عين، فقال: يا غلام أعطه الفرس الفلانيّ. فقال: لا حاجة لي في ذلك، و لكن تأمر أن تشتري لي دابة أتبلّغ عليها. فقال لغلامه: امض معه فابتع له ما يريد. فمضى معه، فعدل به العتّابيّ إلى سوق الحمير، فقال له: إنّما أمرني أن أبتاع لك دابّة. فقال له:
إنّه أرسلك معي، و لم يرسلني معك، فإن عملت ما أريد و إلا انصرف. فمضى معه فاشترى حمارا بمائة و خمسين درهما، و قال: ادفع إليه ثمنه، فدفع إليه، فركب الحمار عريا بمرشحة عليه و برذعة، و ساقاه مكشوفتان، فقال له يحيى بن سعيد: فضحتني، أمثلي يحمل مثلك على هذا؟ فضحك، و قال: ما رأيت قدرك يستوجب أكثر من ذلك.
و مضى إلى رأس عين.
و كانت تحته امرأة من باهلة، فلامته، و قالت: هذا منصور النمريّ قد أخذ الأموال فحلّى نساءه، و بنى داره، و اشترى ضياعا، و أنت هاهنا كما ترى! فأنشأ يقول:
تلوم على ترك الغنى باهليّة *** زوي الفقر عنها كلّ طرف و تالد(1)
رأت حولها النّسوان يرفلن في الثّرا *** مقلّدة أعناقها بالقلائد(2)
أسرّك إنّي نلت ما نال جعفر *** من العيش أو ما نال يحيى بن خالد
و إنّ أمير المؤمنين أغصّني *** مغصّهما بالمشرقات البوارد(3)
/رأيت رفيعات الأمور مشوبة *** بمستودعات في بطون الأساود(4)
دعيني تجئني ميتتي مطمئنة *** و لم أتجشم هول تلك الموارد(5)
و هذا الخبر عندي فيه اضطراب؛ لأن القصيدة المذكورة الّتي أوّلها:
ما ذا شجاك بحوّارين(6) من طلل
للعتّابي في الرشيد، لا في عبد الملك، و لم يكن كما ذكره في أيّام الرشيد متنقّصا منه. و له أخبار معه طويلة، و قد حدّثني بخبره هذا لما استوهب رفع السيف عن ربيعة جماعة على غير هذه الرواية.
أخبرني عمي قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني مسعود بن إسماعيل العدويّ عن موسى بن عبد اللّه التميمي قال:
ص: 85
عتب الرشيد على العتابي أيام الوليد بن طريف، فقطع عنه أشياء كان عوّده إياها، فأتاه متنصّلا بهذه القصيدة:
/
ما ذا شجاك بحوّارين من طلل *** و دمنة كشفت عنها الأعاصير
شجاك حتّى ضمير القلب مشترك *** و العين إنسانها بالماء مغمور
في ناظريّ انقباض عن جفونهما *** و في الجفون عن الآماق تقصير
لو كنت تدرين ما شوقي إذا جعلت *** تنأى بنا و بك الأوطان و الدور
علمت أنّ سرى ليلى و مطلعي *** من بيت نجران و الغورين تغوير(1)
إذ الركائب مخوف نواظرها *** كما تضمّنت الدّهن القوارير
نادتك أرحامنا اللاتي نمّت بها *** كما تنادي جلاد الجلّة الخور(2)
/مستنبط عزمات القلب من فكر *** ما بينهنّ و بين اللّه معمور
فتّ المدائح إلا أنّ أنفسنا *** مستنطقات بما تحوي الضّمائير
ما ذا عسى مادح يثني عليك و قد *** ناداك في الوحي تقديس و تطهير
إن كان منّا ذوو إفك و مارقة *** و عصبة دينها العدوان و الزّور(3)
فإنّ منّا الّذي لا يستحثّ إذا *** حثّ الجياد و حازتها المضامير(4)
و من عرائقه السّفّاح عندكم *** مجرّب من بلاء الصّدق مخبور(5)
الآن قد بعدت في خطو طاعتكم *** خطاهم حيث يحتل الغشامير(6)
- يعني يزيد بن مزيد، و هشام بن عمر و التغلبيّ، و هو من ولد سفيح بن السفاح - قال: فرضي عنه و ردّ أرزاقه و وصله.
تطاول ليلى لم أنمه تقلّبا *** كأنّ فراشي حال من دونه الجمر
فإن تكن الأيام فرّقن بيننا *** فقد بان مني تذكّره العذر
الشعر للأبيرد الرّياحيّ، و الغناء لبابويه، ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و فيه رمل نسبه يحيى المكي إلى ابن سريج.
و قيل إنه منحول.
ص: 86
الأبيرد بن المعذّر بن قيس بن عتّاب بن هرميّ بن رياح بن يربوع بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. شاعر فصيح بدويّ، من شعراء الإسلام و أوّل دولة بني أمية.
و ليس بمكثر، و لا ممن وفد إلى الخلفاء فمدحهم.
و قصيدته هذه الّتي فيها الغناء يرثي بها بريدا أخاه، و هي معدودة من مختار المراثي.
أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعيّ قال: حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:
كان الرياحيّ يهوى امرأة من قومه و يجنّ بها حتّى شهر ما بينهما، فحجبت عنه، و خطبها فأبوا أن يزوّجوها إياه، ثم خطبها رجل من ولد حاجب بن زرارة، فزوّجته، فقال الأبيرد في ذلك:
إذا ما أردت الحسن فانظر إلى الّتي *** تبغّى لقيط قومه و تخيّرا(1)
لها بشر لو يدرج الذرّ فوقه *** لبان مكان الذّرّ فيه فأثّرا(2)
/لعمري لقد أمكنت منا عدوّنا *** و أقررت للعادي فأخنى و أهجرا(3)
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب في كتابه إلي قال: حدّثنا محمّد بن سلام الجمحي قال:
/قدم الأبيرد الرياحي على حارثة بن بدر فقال: اكسني بردين أدخل بهما على الأمير - يعني عبيد اللّه بن زياد - و كساه ثوبين فلم يرضهما، فقال فيه:
أ حارث أمسك فضل برديك إنما *** أجاع و أعرى اللّه من كنت كاسيا
و كنت إذا استمطرت منك سحابة *** لتمطرني عادت عجاجا و سافيا(4)
أ حارث عاود شربك الخمر إنني *** أرى ابن زياد عنك أصبح لاهيا
فبلغت أبياته هذه حارثة فقال: قبحه اللّه: لقد شهد بما لم يعلم. و إنما أدع جوابه لما لا يعلم. هكذا ذكر محمّد بن سلام.
ص: 87
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: هجا الأبيرد الرياحيّ حارثة بن بدر فقال:
أ حارث راجع شربك الخمر إنني *** أرى ابن زياد عنك أصبح لاهيا
أرى فيك رأيا من أبيه و عمه *** و كان زياد ماقتا لك فاليا
و ذكر البيتين الآخرين اللذين ذكرهما محمّد بن سلام، و قال في خبره هذا: فكان حارثة يكسوه في كلّ سنة بردين، فحبسهما عنه في تلك السنة، فقال حارثة بن بدر يجيبه:
فإن كنت عن برديّ مستغنيا لقد *** أراك بأسمال الملابس كاسيا(1)
و عشت زمانا أن أعيّنك كسوتي *** قنعت بأخلاق و أمسيت عاريا(2)
و بردين من حوك العراق كسوتها *** على حاجة منها لأمّك باديا(3)
/فقال الأبيرد يهجو حارثة بن بدر:
زعمت غدانة أن فيها سيدا *** ضخما يواريه جناح الجندب(4)
يرويه ما يروي الذّباب و ينتشي *** لؤما و يشبعه ذراع الأرنب
و قال أيضا لحارثة بن بدر:
ألا ليت حظّي من غدانة أنها *** تكون كفافا لا عليّ و لا ليا(5)
أبى اللّه أن يهدي غدانة للهدى *** و أن لا تكون الدهر إلا مواليا(6)
فلو أنني ألقى ابن بدر بموطن *** نعدّ به من أوّلينا المساعيا(7)
تقاصر حتى يستقيد و بذّه *** قروم تسامى من رياح تساميا(8)
أيا فارط الحي الّذي قد حشا لكم *** من المجد إنهاء ملاء الخوابيا(9)
و عمّي الّذي فكّ السّميدع عنوة *** فلست بنعمي يا ابن عقرب جازيا
كلانا غنيّ عن أخيه حياته *** و نحن إذا متنا أشدّ تغانيا(10)
أ لم ترنا إذ سقت قومك سائلا *** ذوي عدد للسائلين معاطيا
ص: 88
بني الردف حمالين كلّ عظيمة *** إذا طلعت و المترعين الجوابيا(1)
و إنا لنعطي النّصف من لو نضيمه *** أقر و لكنا نحب العوافيا(2)
/الردف الّذي عناه هاهنا: جدّه عتاب بن هرمي بن رياح، كان ردف بن المنذر، إذا ركب ركب وراءه، و إذا جلس جلس عن يمينه، و إذا غزا كان له المرباع؛ و إذا شرب الملك سقي بكأسه بعده، و كان بعده ابنه قيس بن عتّاب يردف(3) النعمان. و هو جدّ الأبيرد أيضا.
أخبرني هاشم بن محمّد قال: حدّثنا أبو غسان عن أبي عبيدة قال:
كانت بنو عجل قد جاورت بني رياح بن يربوع في سنة أصابت عجلا، فكان الأبيرد يعاشر رجلا منهم، يقال له سعد، و يجالسه، و كان قصده امرأة سعد هذا، فمالت إليه فومقته، و كان الأبيرد شابا جميلا ظريفا طريرا، و كان سعد شيخا همّا(4)، فذهب بها كلّ مذهب حتى ظهر أمرهما و تحدّث بهما، و اتّهم الأبيرد بها، فشكاه إلى قومه و استعذرهم منه(5)، فقالوا له: مالك تتحدّث إلى امرأة الرجل؟ فقال: و ما بأس بذلك(6)! و هل خلا عربي منه؟ قالوا: قد قيل فيكما ما لا قرار عليه، فاجتنب محادثتها، و إياك أن تعاودها. فقال الأبيرد: إنّ سعدا لا خير فيه لزوجته. قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأني رأيته يأتي فرسه البلقاء، و لا فضل فيه لامرأته، فهي تبغضه لفعله، و هو يتّهمها لعجزه عنها. فضحكوا من قوله، و قالوا له: و ما عليك من ذلك؟ دع الرجل و امرأته و لا تعاودها و لا تجلس إليها. فقال الأبيرد في ذلك:
/
أ لم تر أنّ ابن المعذّر قد صحا *** و ودّع ما يلحى عليه عواذله(7)
غدا ذو خلاخيل عليّ يلومني *** و ما لوم عذّال عليه خلاخله(8)
فدع عنك هذا الحلي إن كنت لائمي *** فإنّي امرؤ لا تزدهيني صلاصله(9)
إذا خطرت عنس به شدنية *** بمطّرد الأرواح ناء مناهله(10)
تبيّن أقوام سفاهة رأيهم *** ترحّل عنهم و هو عفّ منازله
لهم مجلس كالرّدن يجمع مجلسا *** لئاما مساعيه كثيرا هتامله(11)
تبرأت من سعد و خلّه بيننا *** فلا هو معطيني و لا أنا سائله
ص: 89
متى تنتج البلقاء يا سعد أم متى *** تلقّح من ذات الرّباط حوائله(1)
يحدّث سعد أنّ زوجته زنت *** و يا سعد إنّ المرء تزني حلائله
فإن تسم عيناها إليّ فقد رأت *** فتى كحسام أخلصته صياقله(2)
فتى قد قد السّيف لا متضائل *** و لا رهل لبّاته و أباجله(3)
- و هذا البيت الأخير يروى للعجير السّلولي، و لأخت يزيد بن الطثرية - فاعترضه سلمان العجليّ فهجاه و هجا بني رياح فقال:
/
لعمرك إنّني و بني رياح *** لكالعاوي فصادف سهم رام
يسوقون ابن و جرة مزمئرا *** ليحميهم و ليس لهم بحام(4)
و كم من شاعر لبني تميم *** قصير الباع من نفر لئام
كسونا - إذ تخرّق ملبساه - *** دواهي يبترين من العظام(5)
و إن يذكر طعامهم بشرّ *** فإنّ طعامهم شرّ الطعام
/شريج من منيّ أبي سواج *** و آخر خالص من حيض آم(6)
و سوداء المغابن من رياح *** على الكردوس كالفأس الكهام(7)
إذا ما مرّ بالقعقاع ركب *** دعتهم من ينيك على الطّعام(8)
تداولها غواة النّاس حتّى *** تئوب و قد مضى ليل التّمام(9)
و قال الأبيرد أيضا مجيبا له:
عوى سلمان من جوّ فلاقى *** أخو أهل اليمامة سهم رامي
عوى من جبنه و شقيّ عجل *** عواء الذئب مختلط الظلام(10)
بنو عجل أذلّ من المطايا *** و من لحم الجزور على الثّمام(11)
ص: 90
تحيّا المسلمون إذا تلاقوا *** و عجل ما تحيّا بالسّلام
إذا عجلية ولدت غلاما *** إلى عجل فقبّح من غلام
/يمصّ بثديها فرخ لئيم *** سلالة أعبد و رضيع آم(1)
خبيث الريح ينشأ بالمخازي *** لئيم بين آباء لئام
أنا ابن الأكرمين بني تميم *** ذوي الآكال و الهمم العظام(2)
و كائن من رئيس قطّرته *** عواملنا و من ملك همام(3)
و جيش قد ربعناه و قوم *** صبحناه بذي لجب لهام(4)
أخذنا بآفاق السماء فلم ندع *** لسلمان سلمان اليمامة منظرا
من القلح فسّاء ضروط يهرّه *** إذا الطير مرات على الدوح صرصرا(5)
و أقلح عجلي كأن بخطمه *** نواجذ خنزير إذا ما تكشرا(6)
يزلّ النوى عن ضرسه فيردّه *** إلى عارض فيه القوادح أبخرا(7)
إذا شرب العجليّ نجّس كأسه *** و ظلت بكفّي جانب غير أزهرا(8)
شديد سواد الوجه تحسب وجهه *** من الدم بين الشاربين مقيّرا(9)
إذا ما حساها لم تزده سماحة *** و لكن أرته أنّ يصرّ و يحصرا(10)
فلا يشربن في الحيّ عجل فإنّه *** إذا شرب العجليّ أخنى و أهجرا(11)
/يقاسي نداماهم و تلقى أنوفهم *** من الجدع عند الكأس أمرا مذكرا(12)
و لم تك في الإشراك عجل تذوقها *** ليالي يسبيها مقاول حميرا(13)
و ينفق فيها الحنظليون مالهم *** إذا ما سعى منهم سفيه تجبّرا
و لكنها هانت و حرّم شربها *** فمالت بنو عجل لما كان أكفرا
ص: 91
لعمري لئن أزننتم أو صحوتم *** لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا(1)
أخبرني عبيد اللّه بن محمّد الرازي قال: حدّثنا أحمد بن الحارث قال حدّثنا المدائنيّ قال: كان مجائل بن مرة بن محكان السعديّ و ابن عم له يقال له: عرادة، و قد كان عرادة اشترى/غنما له فأنهبها، و كانت مائة شاة، فاشترى مرّة بن محكان مائة من الإبل فأنحر بعضها(2) و أنهب باقيها، و قال أبو عبيدة: إنّهما(3) تفاخرا، فغلبه مرّة، فقال الأبيرد لعرادة:
شرى مائة فأنهبها جميعا *** و بتّ تقسم الحذف(4) النقادا
فبعث عبيد اللّه بن زياد فأخذ مرّة بن محكان فحبسه و قيّده، و وقع بعد ذلك من قومه لحاء، فكانت بينهم شجاج(5)، ثم تكافئوا و توافقوا على الدّيات فأنبئ(6) مرة بن محكان و هو محبوس، فعرف ذلك فتحمّل جميعها في ماله، فقال فيه الأبيرد:
للّه عينا من رأى من مكبّل *** كمرّة إذ شدّت عليه الأداهم(7)
/فأبلغ عبيد اللّه عني رسالة *** فإنك قاض بالحكومة عالم
فإن أنت عاقبت ابن محكان في الندى *** فعاقب هداك اللّه أعظم حاتم(8)
تعاقب خرقا أن يجود بماله *** سعى في ثأى من قومه متفاقم(9)
كأن دماء القوم إذ علقت به *** على مكفهرّ من ثنايا المخارم(10)
أخبرني محمّد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، قال: حدّثنا عمي قال: أتى رجل الأبيرد الرياحيّ و ابن عمه الأخوص، و هما من رهط ردف الملك من بني رياح، يطلب منهما قطرانا لإبله فقالا له: إن أنت بلّغت سحيم بن وثيل الرياحي هذا الشعر أعطيناك قطرانا. فقال: قولا. فقالا: اذهب فقل له:
فإن بداهتي و جراء حولي *** لذو شقّ على الحطم الحرون(11)
ص: 92
قال: فلما أتاه و أنشد الشعر أخذ عصاه، و انحدر في الوادي، و جعل يقبل فيه و يدبر، و يهمهم بالشعر. ثم قال:
اذهب فقل لهما:
فإنّ علالتي و جراء حولي *** لذو شقّ على الضّرع الظّنون(1)
أنا ابن الغرّ من سلفي رياح *** كنصل السيف و ضاح الجبين
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني(2)
/و إنّ مكاننا من حميريّ *** مكان الليث من وسط العرين
و إنّ قناتنا مشط شطاها *** شديد مدّها عنق القرين(3)
- قال الأصمعي: إذا مسست شيئا خشنا فدخل في يدك قيل: مشظت يدي و الشظا: ما تشظّى منها -
و إني لا يعود إليّ قرني *** غداة الغبّ إلا في قرين(4)
بذي لبد يصدّ الركب عنه *** و لا تؤتى فريسته لحين(5)
غدرت البزل إذ هي صاولتني *** فما بالي و بال ابني لبون(6)
و ما ذا تبتغي الشّعراء منّي *** و قد جاوزت رأس الأربعين(7)
أخو الخمسين مجتمع أشدّي *** و نجّذني مداورة الشئون(8)
سأحيا ما حييت و إنّ ظهري *** لذو سند إلى نضد أمين(9)
قال: فأتياه فاعتذرا إليه، فقال: إنّ أحدكم لا يرى أن يصنع شيئا حتّى يقيس شعره بشعرنا، /و حسبه بحسبنا، و يستطيف(10) بنا استطافة المهر الأرن(11). فقالا له: فهل إلى النّزع من سبيل(12). فقال(13): إننا لم تبلغ أنسابنا.
/قال اليزيديّ: أبيات سحيم هذه من اختيارات الأصمعي.
ص: 93
و القصيدة الّتي رثى بها الأبيرد أخاه بريدا و في أوّلها الغناء المذكور، من جيد الشعر، و مختار المراثي، المختار منها قوله:
تطاول ليلي لم أنمه تقلّبا *** كأنّ فراشي حال من دونه الجمر
أراقب من ليل التّمام نجومه *** لدن غاب قرن الشّمس حتّى بدا الفجر(1)
تذكرت قرما بان منّا بنصره *** و نائله يا حبّذا ذلك الذّكر(2)
فإن تكن الأيام فرّقن بيننا *** فقد عذرتنا في صحابتنا العذر(3)
و كنت أرى هجرا فراقك ساعة *** ألا لا بل الموت التّفرّق و الهجر
أ حقّا عباد اللّه أن لست لاقيا *** بريدا طوال الدهر ما لألأ العفر(4)
فتى إن هو استغنى تخرّق في الغنى *** فإن قلّ مالا لم يؤد متنه الفقر(5)
و سامى جسيمات الأمور فنالها *** على العسر حتى أدرك العسر اليسر(6)
ترى القوم في العزّاء ينتظرونه *** إذا ضلّ رأي القوم أو حزب الأمر(7)
فليتك كنت الحي في الناس باقيا *** و كنت أنا الميت الّذي غيب القبر(8)
فتى يشتري حسن الثناء بماله *** إذا السّنة الشهباء قلّ بها القطر(9)
/كأن لم يصاحبنا بريد بغبطة *** و لم يأتنا يوما بأخباره السّفر
لعمري لنعم المرء عالي نعيّه *** لنا ابن عزيز بعد ما قصر العصر(10)
تمضّت به الأخبار حتى تغلغلت *** و لم تثنه الأطباع دوني و لا الجدر(11)
و لما نعى الناعي بريدا تغوّلت *** بي الأرض فرط الحزن و انقطع الظهر(12)
عساكر تغشى النفس حتى كأنني *** أخو سكرة طارت بهامته الخمر(13)
إلى اللّه أشكو في بريد مصيبتي *** و بثّي و أحزانا تضمّنها الصدر
ص: 94
و قد كنت أستعفي إلهي إذا شكا *** من الأجر لي فيه و إن سرّني الأجر
و ما زال في عينيّ بعد غشاوة *** و سمعي عمّا كنت أسمعه وقر(1)
على أنني أقنى الحياء و اتّقي *** شماتة أعداء عيونهم خزر(2)
فحياك عنّي الليل و الصبح إذ بدا *** و هوج من الأرواح غدوتها شهر(3)
سقى جدثا لو أستطيع سقيته *** بأود فروّاه الروافد و القطر(4)
و لا زال يرعى من بلاد ثوى بها *** نبات إذا صاب الربيع بها نضر(5)
حلفت برب الرافعين أكفّهم *** و ربّ الهدايا حيث حلّ بها النحر
و مجتمع الحجاج حيث توافقت *** رفاق من الآفاق تكبيرها جأر(6)
/يمين امرئ آلى و ليس بكاذب *** و ما في يمين قالها صادق وزر
لئن كان أمسى ابن المعذّر قد ثوى *** بريد لنعم المرء غيّبه القبر
/هو الخلف المعروف و الدين و التقى *** و مسعر حرب لا كهام و لا غمر(7)
أقام فنادى أهله فتحمّلوا *** و صرّمت الأسباب و اختلط النّجر(8)
فتى كان يغلي اللحم نيئا و لحمه *** رخيص لجاديه إذا تنزل القدر(9)
فتى الحيّ و الأضياف إن روّحتهم *** بليل و زاد السفر إن أرمل السّفر(10)
إذا جارة حلّت لديه وفى بها *** فآبت و لم يهتك لجارته ستر(11)
عفيف عن السوآت ما التبست به *** صليب فما يلفى لعود به كسر
سلكت سبيل العالمين فما لهم *** وراء الّذي لاقيت معدى و لا قصر(12)
و كل امرئ يوما سيلقى حمامه *** و إن نأت الدعوى و طال به العمر
و أبليت خيرا في الحياة و إنّما *** ثوابك عندي اليوم أن ينطق الشّعر
ص: 95
و قال يرثيه أيضا، و هي قصيدة طويلة:
إذا ذكرت نفسي بريدا تحاملت *** إليّ و لم أملك لعيني مدمعا
و ذكّر نيك الناس حين تحاملوا *** عليّ و أضحوا جلد أجرب مولعا(1)
/فلا يبعدنك اللّه خير أخي امرئ *** فقد كنت طلاّع النّجاد سميدعا(2)
وصولا لذي القربى بعيدا عن الخنا *** إذا ارتادك الجادي من الناس أمرعا(3)
أخو ثقة لا ينتحي القوم دونه *** إذا القوم حالوا أو رجا الناس مطمعا(4)
و لا يركب الوجناء دون رفيقه *** إذا القوم أزجوهنّ حسرى و ظلّعا(5)
يا زائرينا من الخيام *** حيّا كما اللّه بالسلام
يحزنني أن أطفتما بي *** و لم تنالا سوى الكلام(6)
بورك هارون من إمام *** بطاعة اللّه ذي اعتصام
له إلى ذي الجلال قربى *** ليس لعدل و لا إمام
الشعر لمنصور النمري، و الغناء لعبد اللّه بن طاهر، رمل، ذكر ذلك عبيد اللّه ابنه، و لم ينسبه إلى الأصابع الّتي بنى عليها، و فيه للرفّ خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانة. و فيه ثقيل أوّل بالبنصر مجهول الأصابع. ذكر حبش أنه للرف أيضا.
ص: 96
منصور بن الزبرقان بن سلمة - و قيل منصور بن سلمة بن الزبرقان - بن شريك بن مطعم الكبش الرّخم، بن مالك بن سعد بن عامر بن سعد الضّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم اللّه بن النّمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. و إنما سمي عامر الضّحيان لأنّه كان سيّد قومه و حاكمهم، و كان يجلس لهم إذا أضحى النّهار، فسمّي الضّحيان. و سمي جدّ منصور «مطعم الكبش الرخم»، لأنه أطعم ناسا نزلوا به و نحر لهم، ثم رفع رأسه فإذا رخم يحمن حول أضيافه، فأمر بأن يذبح لهم كبش و يرمى به بين أيديهم، ففعل ذلك، فنزلن/عليه، فمزقنه؛ فسمي مطعم الكبش الرخم. و في ذلك يقول أبو نعيجة النمريّ يمدح رجلا منهم:
أبوك زعيم بني قاسط *** و خالك ذو الكبش يقري الرخم(1)
و كان منصور شاعرا من شعراء الدولة العباسية من أهل الجزيرة، و هو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي و روايته، و عنه أخذ، و من بحره استقى، و بمذهبه تشبّه. و العتابي وصفه للفضل بن يحيى بن خالد و قرّضه(2) عنده حتى استقدمه من الجزيرة و استصحبه، ثم وصله بالرشيد. و جرت بعد ذلك بينه و بين العتابي وحشة حتى تهاجرا و تناقضا، و سعى كلّ واحد منهما على هلاك صاحبه، و أخبار ذلك تذكر في مواضعها من أخبارهما - إن شاء اللّه تعالى - و كان النمري قد مدح الفضل بقصيدة و هو مقيم بالجزيرة، فأوصلها العتابيّ إليه، و استرفده له، و سأله استصحابه، فأذن له في القدوم، فحظي عنده، و عرف مذهب الرشيد في الشعر، و إرادته أن يصل/مدحه إياه بنفي الإمامة عن ولد علي بن أبي طالب - عليهم السلام - و الطعن عليهم، و علم مغزاه في ذلك مما كان يبلغه من تقديم مروان بن أبي حفصة، و تفضيله إياه على الشعراء في الجوائز، فسلك مذهب مروان في ذلك، و نحا نحوه، و لم يصرح بالهجاء و السبّ كما كان يفعل مروان، و لكنه حام و لم يقع، و أومأ و لم يحقّق، لأنه كان يتشيع، و كان مروان شديد العداوة لآل أبي طالب، و كان ينطق عن نيّة قويّة يقصد بها طلب الدنيا، فلا يبقي و لا يذر.
أخبرني محمّد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد قال: حدّثنا محمّد بن موسى بن حماد قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد الكراني، و أخبرني به عمي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد حديث محمّد بن جعفر النحوي أنه قال:
حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن آدم بن جشم العبدي قال: حدّثنا ثابت بن الحارث الجشميّ قال:
كان منصور النمريّ مصافيا للبرامكة، و كان مسكنه بالشأم، فكتب يسألهم أن يذكروه للرشيد، فذكروه و وصفوه، فأحبّ أن يسمع كلامه، فأمرهم بإقدامه، فقدم و نزل عليهم، فأخبروا الرشيد بموضعه و أمرهم بإحضاره، و صادف دخوله إليه يوم نوبة مروان، على ما سمعه من بيانه، و كان مروان يقول قبل قدومه: هذا شاميّ و أنا
ص: 97
حجازي، أ فتراه يكون أشعر مني، و دخله من ذلك ما يدخل مثله من الغمّ و الحسد، و استنشد الرشيد منصورا، فأنشده:
أمير المؤمنين إليك خضنا *** غمار الهول من بلد شطير(1)
بخوص كالأهلة خافقات *** تلين على السّرى و على الهجير(2)
/حملن إليك أحمالا ثقالا *** و مثل الصخر و الدر النثير(3)
فقد وقف المديح بمنتهاه *** و غايته و صار إلى المصير
إلى من لا يشير إلى سواه *** إذا ذكر النّدى كفّ المشير
فقال مروان: وددت و اللّه أنّه أخذ جائزتي و سكت.
و ذكر في القصيدة يحيى بن عبد اللّه بن حسن فقال:
يذلّل من رقاب بني علي *** و من ليس بالمنّ الصغير
/مننت على ابن عبد اللّه يحيى *** و كان من الحتوف على شفير(4)
قال مروان: فما برحت حتى أمرني هارون أمير المؤمنين أن أنشده، و كان يتبسم في وقت ما كان ينشده النمريّ، و يأخذ على بطنه، و ينظر إلى ما قال، فأنشدته:
موسى و هارون هما اللذان *** في كتب الأخبار يوجدان
من ولد المهدى مهديّان *** قدّا عنانين على عنان(5)
قد أطلق المهديّ لي لساني *** و شدّ أزري ما به حباني
من اللّجين و من العقيان *** عيديّة شاحطة الأثمان(6)
لو خايلت دجلة بالألبان(7) *** إذا لقيل اشتبه النهران
قال: فو اللّه ما عاج(8) النمريّ بذلك و لا احتفل به، فأومأ إليّ هارون أن زده؛ فأنشدته قصيدتي الّتي أقول فيها:
خلّوا الطريق لمعشر عاداتهم *** حطم المناكب كل يوم زحام
ص: 98
ارضوا بما قسم الإله لكم به *** و دعوا وراثة كلّ أصيد حام(1)
أنّى يكون و ليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام
قال: فو اللّه ما عاج بشيء منها، و خرجت الجائزتان، فأعطى مروان مائة ألف، و أعطى النمريّ سبعين ألفا، و قال: أنت مزيد في ولد علي.
قال: و لقد تخلص النمريّ إلى شيء ليس عليه فيه شيء، و هو قوله:
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم *** و إلا فالنّدامة للكفور
و إن قالوا بنو بنت فحقّ *** و ردّوا ما يناسب للذّكور
قال: فكان مروان يتأسف على هذا المعنى أن يكو قد سبقه إليه، و إلى قوله:
و ما لبني بنات من تراث *** مع الأعمام في ورق الزّبور
أخبرني بهذا الخبر محمّد بن عمران الصيرفي، قال: حدّثني الغنوي عن محمّد بن محمّد بن عبد اللّه بن آدم عن أبي معشر العبديّ، فذكر القصة قريبا مما ذكره محمّد بن جعفر النحويّ يزيد و ينقص، و المعنى متقارب.
أخبرني عمي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن طهمان السّلمي قال: حدّثني أحمد بن سيار الشيبانيّ الشاعر قال:
كان هارون أمير المؤمنين يحتمل أن يمدح بما يمدح به الأنبياء فلا ينكر ذلك و لا يردّه؛ حتّى دخل عليه نفر من الشعراء فيهم رجل من ولد زهير بن أبي سلمى، فأفرط في مدحه حتّى قال فيه:
فكأنّه بعد الرسول رسول
فغضب هارون و لم ينتفع به أحد يومئذ، و حرم ذلك الشاعر فلم يعطه شيئا، و أنشد منصور النمري قصيدة مدحه بها و هجا آل علي و ثلبهم، فضجر هارون و قال له: يا ابن اللّخناء، أ تظنّ أنك تتقرب إليّ بهجاء قوم أبوهم أبي، و نسبهم نسبي، و أصلهم و فرعهم أصلي و فرعي؟! فقال: و ما شهدنا إلا بما علمنا. فازداد غضبه، و أمر مسرورا فوجأ(2) في عنقه و أخرج، ثم وصل إليه يوما آخر بعد ذلك فأنشده:
/
بني حسن و رهط بني حسين *** عليكم بالسّداد من الأمور
فقد ذقتم قراع بني أبيكم *** غداة الرّوع بالبيض الذّكور(3)
أ حين شفوكمو من كلّ وتر *** و ضمّوكم إلى كنف وثير(4)
و جادوكم على ظمإ شديد *** سقيتم من نوالهم الغزير(5)
فما كان العقوق لهم جزاء *** بفعلهم و آدى للثئور(6)
ص: 99
و إنك حين تبلغهم أذاة *** و إن ظلموا لمحزون الضمير(1)
فقال له: صدقت، و إلا فعليّ و عليّ، و أمر له بثلاثين ألف درهم.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا يزيد بن محمّد المهلبي قال: حدّثني عبد الصمد بن المعذّل قال:
/دخل مروان بن أبي حفصة و سلم الخاسر، و منصور النمري على الرشيد، فأنشده مروان قصيدته الّتي يقول فيها:
أنّى يكون و ليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام
و أنشده سلم فقال:
حضر الرّحيل و شدّت الأحداج(2)
و أنشده النمري قصيدته الّتي يقول فيها:
إن المكارم و المعروف أودية *** أحلّك اللّه منها حيث تجتمع
فأمر لكلّ واحد منهم بمائة ألف درهم، فقال له يحيى بن خالد: يا أمير المؤمنين، مروان شاعرك خاصّة قد ألحقتهم به. قال: فليزد مروان عشرة آلاف.
أخبرني عمي قال: أخبرنا ابن أبي سعد قال: حدّثني عليّ بن الحسن الشيبانيّ قال: أخبرني أبو حاتم الطائيّ، عن يحيى بن ضبيئة الطائيّ، عن الفضل قال: حضرت الرشيد و قد دخل منصور النمريّ عليه فأنشده:
ما تنقضي حسرة مني و لا جزع *** إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
بان الشّباب و فاتتني بلذّته *** صروف دهر و أيام لها خدع
ما كنت أو في شبابي كنه غرّته *** حتّى انقضى فإذا الدنيا له تبع
قال: فتحرك الرشيد لذلك ثم قال: أحسن و اللّه، لا يتهنّأ أحد بعيش حتّى يخطر في رداء الشباب.
أخبرني عمي قال: حدّثنا ابن سعد قال: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن آدم العبدي عن أبي ثابت العبديّ عن مروان بن أبي حفصة، قال: خرجنا مع الرشيد/إلى بلاد الروم، فظفر الرشيد، و قد كاد أن يعطب، لو لا اللّه عز و جل ثم يزيد بن مزيد. فقال لي و للنّمري: أنشدا. فأنشدته قولي:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها *** غراء تخلط بالحياء دلالها(3)
و وصفت الرجال من الأسرى كيف أسلموا نساءهم، و الظفر الّذي رزقه، فقال: عدّوا قصيدته؛ فكانت مائة بيت، فأمر لي بمائة ألف درهم، ثم قال للنّمري: كيف رأيت فرسي فإني أنكرته؟ فقال النمريّ:
ص: 100
مضزّ على فأس اللجام كأنّه *** إذا ما اشتكت أيدي الجياد يطير(1)
فظلّ على الصّفصاف يوم تباشرت *** ضباع و ذؤبان به و نسور(2)
فأقسم لا ينسى لك اللّه أجرها *** إذا قسّمت بين العباد أجور
قال النمريّ: ثم قلت في نفسي: ما يمنعني من إذكاره بالجائزة؟ فقلت:
إذا الغيث أكدى و اقشعرّت نجومه *** فغيث أمير المؤمنين مطير(3)
و ما حلّ هارون الخليفة بلدة *** فأخلفها غيث و كاد يضير(4)
فقال: أذكرتني. و رأيته متهلّلا لذلك. قال: فألحقني بمروان و أمر لي بمائة ألف درهم.
أخبرني عمي، قال: حدّثني ابن أبي سعد، قال: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن طهمان، قال حدّثني محمّد الراوية المعروف بالبيدق - و كان قصيرا، فلقب بالبيدق(5)/لقصره، و كان ينشد هارون أشعار المحدثين - و كان أحسن خلق اللّه إنشادا - قال: دخلت على الرشيد و عنده الفضل بن الربيع، و يزيد بن مزيد، و بين يديه خوان لطيف عليه جديان(6) و رغفان سميد(7) و دجاجتان، فقال لي: أنشدني، فأنشدته قصيدة النّمريّ العينية، فلما بلغت إلى قوله:
أيّ امرئ بات من هارون في سخط *** فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم و المعروف أودية *** أحلّك اللّه منها حيث تتسع
إذا رفعت امرأ فاللّه يرفعه *** و من وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك و الأبطال معلمة *** يوم الوغى و المنايا بينها قرع(8)
قال: فرمى بالخوان بين يديه و صاح، و قال: هذا و اللّه أطيب من كل طعام و كل شيء، و بعث إليه بسبعة آلاف دينار، فلم يعطني منها ما يرضيني، و شخص إلى رأس العين، فأغضبني و أحفظني، فأنشدت هارون قوله:
شاء من الناس راتع هامل *** يعللون النفوس بالباطل(9)
فلما بلغت إلى قوله:
إلاّ مساعير يغضبون لها *** بسلّة البيض و القنا الذابل(10)
ص: 101
قال: أراه يحرّض عليّ، ابعثوا إليه من يجيء برأسه. فكلّمه فيه الفضل بن الربيع/فلم يغن كلامه شيئا، و توجّه إليه الرسول فوافاه في اليوم الّذي مات فيه و دفن. قال: و كان إنشاد محمّد البيدق يطرب كما يطرب الغناء.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا ابن أبي سعد، قال: حدّثنا عليّ بن الحسين الشيباني، قال: أخبرني منصور بن جهور، قال: سألت العتابي عن سبب غضب الرشيد عليه، فقال لي: استقبلت منصورا النمري يوما من الأيام فرأيته مغموما واجما كئيبا، فقلت له: ما خبرك؟ فقال: تركت امرأتي تطلق(1)، و قد عسر عليها ولادها، و هي يدي و رجلي، و القيّمة بأمري و أمر منزلي. فقلت له: لم لا تكتب على فرجها «هارون الرشيد»؟ قال: ليكون ما ذا؟ قال:
لتلد على المكان، قال: و كيف ذلك؟ قلت: لقولك:
إن أخلف الغيث لم تخلف مخايله *** أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع(2)
/فقال لي: يا كشخان(3)، و اللّه لئن تخلصت امرأتي لأذكرنّ قولك هذا للرشيد. فلما ولدت امرأته خبّر الرشيد بما كان بيني و بينه، فغضب الرشيد لذلك و أمر بطلبي، فاستترت عند الفضل بن الربيع، فلم يزل يسأل فيّ حتى أذن لي في الظهور؛ فلما دخلت عليه، قال لي: قد بلغني ما قلته للنمريّ، فاعتذرت إليه حتى قبل، ثم قلت: و اللّه يا أمير المؤمنين ما حمله على التكذّب عليّ إلاّ وقوفي على ميله إلى العلويّة، فإن أراد أمير المؤمنين أن أنشده شعره في مديحهم فعلت. فقال: أنشدني. فأنشدته قوله:
شاء من الناس راتع هامل *** يعلّلون النفوس بالباطل(4)
/حتى بلغت إلى قوله:
إلا مساعير يغضبون لها *** بسلّة البيض و القنا الذّابل
فغضب من ذلك غضبا شديدا، و قال للفضل بن الربيع: أحضره الساعة. فبعث الفضل في ذلك، فوجده قد توفّي، فأمر بنبشه ليحرقه، فلم يزل الفضل يلطف له حتى كفّ عنه.
أخبرني عمي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثنا يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدّثني بعض الزينبيّين، قال: حبس الرشيد منصورا النمريّ بسبب الرفض(5)، فتخلّصه الفضل بن الربيع، ثم بلغه شعره في آل عليّ عليه السلام، فقال للفضل: اطلبه. فستره الفضل عنده، و جعل الرشيد يلحّ في طلبه، حتّى قال يوما للفضل:
ص: 102
ويحك يا فضل تفوّتني النمريّ؟ قال: يا سيدي، هو عندي قد حصّلته. قال: فجئني. و كان الفضل قد أمره أن يطوّل شعره، و يكثر مباشرة الشمس ليشحب و تسوء حالته، ففعل، فلما أراد إدخاله عليه ألبسه فروة مقلوبة، و أدخله عليه، و قد عفا(1) شعره، و ساءت حالته، فلما رآه، قال: السيف! فقال الفضل: يا سيدي من هذا الكلب حتى تأمر بقتله بحضرتك؟ قال: أ ليس هو القائل:
إلا مساعير يغضبون لها *** بسلّة البيض و القنا الذابل
/فقال منصور: لا يا سيدي ما أنا قائل هذا، و لقد كذب عليّ، و لكني القائل:
يا منزل الحي ذا المغاني *** انعم صباحا على بلاكا(2)
هارون يا خير من يرجّى *** لم يطع اللّه من عصاكا
في خير دين و خير دنيا *** من اتّقى اللّه و اتقاكا
فأمر بإطلاقه و تخلية سبيله، فقال منصور يمدح الفضل بن الربيع:
رأيت الملك مذ آزر *** ت قد قامت محانيه(3)
هو الأوحد في الفضل *** فما يعرف ثانيه
أخبرني عمي، قال: حدّثنا ابن أبي سعد، قال: حدّثني علي بن مسلم بن الهيثم الكوفيّ عن محمّد بن أرتبيل، قال:
اجتمع عند المأمون قبل خلافته، و ذلك في أيام الرشيد، منصور/النمري و الخزيميّ و العباس بن زفر، و عنده جعفر بن يحيى، فحضر الغداء، فأتي المأمون بلون من الطعام، فأكل منه فاستطابه، فأمر به فوضع بين يدي جعفر بن يحيى، فأصاب منه، ثم أمر به فوضع بين يدي العباس فأكل منه، ثم نحّاه، فأكل منه بعده الخزيمي و غيره - و لم يأكل منه النّمري - و ذلك بعين المأمون، فقال له: لم لم تأكل؟ فقال: لئن أكلت ما أبقى هؤلاء إني لنهم.
قال: فهل قلت في هذا شيئا؟ قال: نعم، قلت:
لهفي أ تطعمها قينسا و آكلها *** إني إذا لدنيء النفس و الخطر(4)
ما كان جدي و لا كان الهمام أبي *** ليأكلا سؤر عباس و لا زفر
/شتان من سؤر عباس و فضلته *** و سؤر كلب مغطّى العين بالوبر(5)
ما زال يلقم و الطّباخ يلحظه *** و قد رأى لقما في الحلق كالعجر(6)
ص: 103
أخبرني محمّد بن عمران الصيرفيّ و عمي، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: أخبرني علقمة بن نصر بن واصل النمري، قال: سمعت أشياخنا يقولون: إن منصور بن بجرة بن منصور بن صليل بن أشيم بن قطن بن سعد بن عامر بن الضّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم اللّه بن النمر بن قاسط، قال هذه القصيدة:
ما تنقضي حسرة مني و لا جزع *** إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
بان الشباب و فاتتني بشّرته *** صروف دهر و أيام لها خدع(1)
ما كنت أول مسلوب شبيبته *** مكسوّ شيب فلا يذهب بك الجزع
فسمعها منصور بن سلمة بن الزبرقان بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن مالك بن سعد بن عامر الضحيان فاستحسنها، فاستوهبها منه فوهبها له، و كان منصور بن بجرة هذا موسرا لا يتصدّى لمدح و لا يفد إلى أحد و لا ينتجعه بالشعر، و كان هارون الرشيد قد جرد السيف في ربيعة، فوجّه منصور بن سلمة هذه القصيدة إلى الرشيد، و كان رجلا تقتحمه(2) العين جدا، و يزدريه من رآه لدمامة خلقه فأمر الرشيد لمّا عرضت عليه بإحضار قائلها. قال منصور: فلما وصلت إليه عرّفني الحاجب أنّه لما عرضت عليه قرأها و اختارها على جميع شعر الشعراء جميعا، و أمره بإدخالي، فلما قربت من حاجبه الفضل بن الربيع ازدراني لدمامة خلقي، و كان قصيرا أزرق أحمر أعمش(3)نحيفا. قال: فردّني، و أمر بإخراجي فأخرجت، /فمرّ بي ذات يوم يزيد بن مزيد الشيبانيّ(4)، فصحت به: يا أبا خالد، أنا رجل من عشيرتك، و قد لحقني ضيم، و عذت بك. فوقف، فعرّفته خبري، و سألته: أن يذكرني إذا مرّت به رقعتي، و يتلطّف في إيصالي، ففعل ذلك، فلمّا دخلت على أمير المؤمنين أنشدته هذه القصيدة:
أ تسلو و قد بان الشباب المزايل
فقال لي: غدا إن شاء اللّه آمر برفع السيف عن ربيعة - و خرج يزيد يركض، فما جاءت العصر من الغد حتّى رفع السيف عن ربيعة بنصيبين و ما يليها، و أنشدته القصيدة، فلما صرت إلى هذا الموضع:
يجرّد فينا السيف من بين مارق *** و عان بجود كلهم متحامل(5)
/
/قالوا: فلما سمع الجلساء هذا البيت، قالوا: ذهب الأعرابي و افتضح، فلما قلت:
و قد علم العدوان و الجور و الخنا *** بأنّك عيّاف لهنّ مزايل(6)
و لو علموا فينا بأمرك لم يكن *** ينال بريّا بالأذى متناول
ص: 104
لنا منك أرحام و نعتدّ طاعة *** و بأسا إذا اصطكّ القنا و القنابل(1)
و ما يحفظ الأنساب مثلك حافظ *** و لا يصل الأرحام مثلك واصل(2)
جعلناك، فامنعنا، معاذا و مفزعا *** لنا حين عضتنا الخطوب الجلائل(3)
و أنت إذا عاذت بوجهك عوّذ *** تطامن خوف و استقرّت بلابل(4)
/فقال الجلساء: أحسن و اللّه الأعرابيّ يا أمير المؤمنين! فقال الرشيد: يرفع السّيف عن ربيعة و يحسن إليهم.
أخبرني عمي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عليّ بن الحسين بن عبيد البكريّ قال: أخبرني أبو خالد الطائي عن الفضل، قال:
كنا عند الرشيد و عنده الكسائي، فدخل إليه منصور النمريّ، فقال له الرّشيد: أنشدني. فأنشده قوله:
ما تنقضي حسرة مني و لا جزع *** إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
فتحرّك الرشيد، ثم أنشده حتى انتهى إلى قوله:
ما كنت أو في شبابي كنه عزّته *** حتّى انقضى فإذا الدّنيا له تبع(5)
فطرب الرّشيد، و قال: أحسنت و اللّه، و صدقت، لا و اللّه لا يتهنّأ أحد يعيش حتى يخطر في رداء الشباب! و أمر به بجائزة سنية.
أخبرني عمي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن طهمان السلمي، قال:
حدّثني أحمد بن سنان البيساني، و أخبرني عمي قال: أخبرنا ابن أبي سعد، قال: حدّثنا مسعود بن عيسى، عن موسى بن عبد اللّه التميمي: أن جماعة من الشعراء اجتمعوا ببغداد و فيهم منصور النمري، و كانوا على نبيذ، فأبى منصور أن يشرب معهم، فقالوا له: إنما تعاف الشرب لأنّك رافضي، و تسمع و تصغي إلى الغناء، و ليس تركك النبيذ من ورع. فقال منصور:
خلا بين ندمانيّ موضع مجلسي *** و لم يبق عندي للوصال نصيب
/و ردّت على السّاقي تفيض و ربّما *** رددت عليه الكأس و هي سليب(6)
و أيّ امرئ لا يستهشّ إذا جرت *** عليه بنان كفّهنّ خضيب
الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل، مطلق في مجرى البنصر. و من الناس من ينسبه إلى مخارق، هكذا في الخبر.
ص: 105
و قد حدّثني علي بن سليمان الأخفض، قال: حدّثنا محمّد بن يزيد المبرّد، قال: كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى منصور النمري قوله:
تقضّت لبانات و لاح مشيب *** و أشفى على شمس النّهار غروب
و ودّعت إخوان الصّبا و تصرّمت *** غواية قلب كان و هو طروب(1)
و ردّت على الساقي تفيض و ربّما *** رددت عليه الكأس و هي سليب
و ممّا يهيج الشّوق لي فيردّه *** خفيف على أيدي القيان صخوب(2)
عطون به حتّى جرى في أديمه *** أصابيغ في لبّاتهنّ و طيب(3)
فأجابه النمري و قال:
أوحشة ندمانيك تبكي فربّما *** تلاقيهما و الحلم عنك عزوب(4)
ترى خلفا من كل نيل و ثروة *** سماع قيان عودهنّ قريب(5)
/يغنيك يا بنتي فتستصحب النّهى *** و تحتازك الآفات حين أغيب(6)
و إنّ امرأ أودى السماع بلبّه *** لعريان من ثوب الفلاح سليب
أخبرني عمي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن آدم بن جشم العبدي أبو مسعر، قال: أتى النمري يزيد بن مزيد و يزيد يومئذ في إضاقة(7) و عسرة، فقال: اسمع منّي جعلت فداك. فأنشده قصيدة له، يقول فيها:
لو لم يكن لبني شيبان من حسب *** سوى يزيد لفاتوا الناس في الحسب
تأوي المكارم من بكر إلى ملك *** من آل شيبان يحويهنّ من كثب
أب و عمّ و أخوال مناصبهم *** في منبت النّبع لا في منبت الغرب(8)
إنّ أبا خالد لما جرى و جرت *** خيل الندى أحرز الأولى من القصب
لما تلغّبهنّ الجري قدّمه *** عتق مبين و محض غير مؤتشب(9)
ص: 106
إن الذين اغتزوا بالحرّ غرّته *** كمغتزي الليث في عرّيسه الأشب(1)
ضربا دراكا و شدّات على عنق *** كأنّ إيقاعها النّيران في الحطب(2)
لا تقربنّ يزيدا عند صولته *** لكن إذا ما احتبى للجود فاقترب(3)
فقال يزيد: و اللّه ما أصبح في بيت مالي شيء، و لكن انظر يا غلام كم عندك فهاته. فجاءه بمائة دينار و حلف أنّه لا يملك يومئذ غيرها.
و قد أخبرني عمي بهذا الخبر، قال: حدّثني محمّد بن علي بن حمزة العلوي، قال: حدّثني عمي عن جدي، قال: قال لي منصور النمريّ: كنت واقفا على جسر بغداد أنا و عبيد اللّه بن هشام بن عمرو التغلبي، و قد وخطني الشّيب يومئذ، و عبيد اللّه شابّ حديث السن، فإذا أنا بقصرية(4) ظريفة قد وقفت، فجعلت انظر إليها و هي تنظر إلى عبيد اللّه بن هشام ثم انصرفت، و قلت فيها:
لمّا رأيت سوام الشيب منتشرا *** في لمّتي و عبيد اللّه لم يشب(5)
سللت سهمين من عينيك فانتضلا *** على سبيبة ذي الأذيال و الطرب(6)
كذا الغواني نرى منهن قاصدة *** إلى الفروع معرّاة عن الخشب(7)
لا أنت أصبحت تعتدّيننا أربا *** و لا و عيشك ما أصبحت من أربي(8)
إحدى و خمسين قد أنضيت جدّتها *** تحول بيني و بين اللهو و اللعب(9)
/لا تحسبنّي و إن أغضيت عن بصري *** غفلت عنك و لا عن شأنك العجب
ثم عدلت عن ذلك فمدحت فيها يزيد بن مزيد فقلت:
لو لم يكن لبني شيبان من حسب *** سوى يزيد لفاقوا الناس بالحسب
لا تحسب الناس قد حابوا بني مطر *** إذا أسلم الجود فيهم عاقد الطنب(10)
الجود أخشن لمسا يا بني مطر *** من أن تبزّكموه كفّ مستلب
/ما أعرف الناس أنّ الجود مدفعة *** للذمّ لكنّه يأتي على النشب(11)
قال: فأعطاني يزيد عشرة آلاف درهم.
ص: 107
حدّثني عمي، قال: حدّثني محمّد بن عبد اللّه التميمي الحزنبل، قال: حدّثني عمرو بن عثمان الموصلي، قال حدّثني ابن أبي روق الهمداني، قال:
قال لي منصور النمري: دخلت على الرشيد يوما و لم أكن أعددت له مدحا، فوجدته نشيطا طيّب النفس، فرمت شيئا فما جاءني، و نظر إليّ مستنطقا، فقلت:
إذا اعتاص المديح عليك فامدح *** أمير المؤمنين تجد مقالا(1)
و عذ بفنائه و اجنح إليه *** تنل عرفا و لم تذلل سؤالا
فناء لا تزال به ركاب *** وضعن مدائحا و حملن مالا
فقال: و اللّه لئن قصّرت القول لقد أطلت المعنى. و أمر لي بصلة سنيّة.
هو عبد اللّه بن الحجاج بن محصن بن جندب بن نصر بن عمرو بن عبد غنم بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. و يكنى أبا الأقرع. شاعر فاتك شجاع من معدودي فرسان مضر ذوي البأس و النّجدة فيهم، و كان ممّن خرج مع عمرو بن سعيد على عبد الملك بن مروان، فلما قتل عبد الملك بن مروان عمرا خرج مع نجدة بن عامر الحنفيّ ثم هرب، فلحق بعبد اللّه بن الزبير، فكان معه إلى أن قتل، ثم جاء إلى عبد الملك متنكّرا، و احتال عليه حتى أمّنه.
و أخباره تذكر في ذلك و غيره هاهنا.
أخبرني بخبره في تنقّله من عسكر إلى عسكر، ثم استئمانه، جماعة من شيوخنا، فذكروه متفرّقا فابتدأت بأسانيدهم، و جمعت خبره من روايتهم.
فأخبرنا الحرميّ ابن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزبير بن بكار، قال: حدّثني اليزيدي أبو عبد اللّه محمّد بن العباس ببعضه، قال: حدّثني سليمان بن أبي شيخ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأموي؛ /و أخبرنا محمّد بن عمران الصيرفي قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدّثنا محمّد بن معاوية الأسدي، قال: حدّثنا محمّد بن كناسة؛ و أخبرني عمي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني علي بن مسلم بن الهيثم الكوفي عن محمّد بن أرتبيل؛ و نسخت بعض هذه الأخبار من نسخة أبي العباس ثعلب، و الألفاظ تختلف في بعضها و المعاني قريبة، قالوا:
كان عبد اللّه بن الحجاج الثعلبي شجاعا فاتكا صعلوكا من صعاليك العرب، و كان متسرعا إلى الفتن، فكان ممن خرج مع عمرو بن سعيد بن العاص، فلما ظفر به عبد الملك/هرب إلى ابن الزّبير، فكان معه حتّى قتل، ثم اندسّ إلى عبد الملك فكلّم فيه فأمّنه.
هذه رواية ثعلب، و قال العنزيّ و ابن سعد في روايتهما:
لما قتل عبد اللّه بن الزبير، و كان عبد اللّه بن الحجاج من أصحابه و شيعته احتال حتى دخل على عبد الملك بن مروان و هو يطعم الناس، فدخل حجرة، فقال له: مالك يا هذا لا تأكل؟ قال: لا أستحلّ أن آكل حتى تأذن لي.
قال: إنّي قد أذنت للناس جميعا. قال: لم أعلم فآكل بأمرك. قال: كل. فأكل، و عبد الملك ينظر إليه و يعجب من فعاله، فلما أكل الناس [و] جلس عبد الملك في مجلسه، و جلس خواصّه بين يديه، و تفرّق الناس، جاء عبد اللّه بن الحجاج فوقف بين يديه، ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له، فأنشده:
أبلغ أمير المؤمنين فإنّني *** مما لقيت من الحوادث موجع
ص: 109
منع القرار فجئت نحوك هاربا *** جيش يجرّ و مقنب يتلمع(1)
فقال عبد الملك: و ما خوفك لا أمّ لك، لو لا(2) أنك مريب! فقال عبد اللّه:
إنّ البلاد علي و هي عريضة *** و عرت مذاهبها و سدّ المطلع
فقال له عبد الملك: ذلك بما كسبت يداك، و ما اللّه بظلاّم للعبيد. فقال عبد اللّه:
كنا تنحّلنا البصائر مرّة *** و إليك إذ عمي البصائر نرجع(3)
إن الّذي يعصيك منا بعدها *** من دينه و حياته متودّع
آتي رضاك و لا أعود لمثلها *** و أطيع أمرك ما أمرت و أسمع
أعطي نصيحتي الخليفة ناخعا *** و خزامة الأنف المقود فأتبع(4)
/فقال له عبد الملك: هذا لا نقبله منك إلا بعد المعرفة بك و بذنبك، فإذا عرفت الحوبة قبلنا التوبة. فقال عبد اللّه:
و لقد وطئت بني سعيد وطأة *** و ابن الزبير فعرشه متضعضع
فقال عبد الملك: للّه الحمد و المنة على ذلك. فقال عبد اللّه:
ما زلت تضرب منكبا عن منكب *** تعلو و يسفل غيركم ما يرفع
و وطئتم في الحرب حتى أصبحوا *** حدثا يكوس و غابرا يتجعجع(5)
فحوى خلافتهم و لم يظلم بها *** القرم قرم بني قصيّ الأنزع(6)
لا يستوي خاوي نجوم أفل *** و البدر منبلجا إذا ما يطلع(7)
/وضعت أميّة واسطين لقومهم *** و وضعت وسطهم فنعم الموضع(8)
بيت أبو العاصي بناه بربوة *** عالي المشارف عزّه ما يدفع(9)
فقال له عبد الملك: إنّ توريتك عن نفسك لتريبني، فأيّ الفسقة أنت؟ و ما ذا تريد؟ فقال:
حربت أصيبيتى يد أرسلتها *** و إليك بعد معادها ما ترجع(10)
ص: 110
و أرى الّذي يرجو تراث محمّد *** أفلت نجومهم و نجمك يسطع(1)
/فقال عبد الملك: ذلك جزاء أعداء اللّه. فقال عبد اللّه بن الحجاج:
فانعش أصيبيتى الألاء كأنّهم *** جحل تدرّج بالشّربة جوّع(2)
فقال عبد الملك: لا أنعشهم اللّه، و أجاع أكبادهم، و لا أبقى وليدا من نسلهم، فإنهم نسل كافر فاجر لا يبالي ما صنع(3). فقال عبد اللّه:
مال لهم مما يضنّ جمعته *** يوم القليب فحيز عنهم أجمع(4)
فقال له عبد الملك: لعلك أخذته من غير حلّه، و أنفقته في غير حقّه، و أرصدت به لمشاقّة(5) أولياء اللّه، و أعددته لمعاونة أعدائه، فنزعه منك إذ استظهرت به على معصية اللّه. فقال عبد اللّه:
أدنو لترحمني و تجبر فاقتي *** فأراك تدفعني فأين المدفع(6)
فتبسم عبد الملك، و قال له: إلى النار، فمن أنت الآن؟ قال: أنا عبد اللّه بن الحجاج الثعلبيّ، و قد وطئت دارك و أكلت طعامك، و أنشدتك، فإن قتلتني بعد ذلك فأنت و ما تراه، و أنت بما عليك في هذا عارف. ثم عاد إلى إنشاده، فقال:
ضاقت ثياب الملبسين و فضلهم *** عنّي فألبسني فثوبك أوسع
فنبذ عبد الملك إليه رداء كان على كتفه، و قال: البسه، لا لبست! فالتحف به، ثم قال له عبد الملك: أولى لك و اللّه، لقد طاولتك طمعا في أن يقوم بعض/هؤلاء فيقتلك، فأبى اللّه ذلك، فلا تجاورني في بلد، و انصرف آمنا، قم حيث شئت.
- قال اليزيدي في خبره: قال عبد اللّه بن الحجاج: ما زلت أتعرّف منه كلّ ما أكره حتى أنشدته قولي:
ضاقت ثياب الملبسين و فضلهم *** عني فألبسني فثوبك أوسع
فرمى عبد الملك مطرفه(7)، و قال: البسه. فلبسته - ثم قال: آكل يا أمير المؤمنين؟ قال: كل. فأكل حتّى شبع، ثم قال: أمنت و ربّ الكعبة؟ فقال: كن من شئت إلا عبد اللّه بن الحجاج. قال: فأنا و اللّه هو، و قد أكلت طعامك، و لبست ثيابك، فأيّ خوف عليّ بعد ذلك؟ فأمضى له الأمان.
و نسخت من كتاب أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي، قال:
ص: 111
كان عبد اللّه بن الحجاج قد خرج مع نجدة بن عامر الحنفيّ الشاري، فلما انقضى أمره هرب، و ضاقت عليه الأرض من شدّة الطلب، فقال في ذلك:
رأيت بلاد اللّه و هي عريضة *** على الخائف المطرود كفّة حابل(1)
تؤدّي إليه أن كلّ ثنيّة *** تيمّمها ترمي إليه بقاتل(2)
/قال: ثم لجأ إلى أحيح بن خالد بن عقبة بن أبي معيط، فسعى به إلى الوليد بن عبد الملك، فبعث إليه بالشّرط، فأخذ من دار أحيح، فأتي به الوليد فحبسه، فقال و هو في الحبس:
/
أقول و ذاك فرط الشوق منّي *** لعيني إذ نأت ظمياء فيضي(3)
فما للقلب صبر يوم بانت *** و ما للدمع يسفح من مغيض
كأن معتقا من أذرعات *** بماء سحابة خصر فضيض(4)
بفيها، إذ تخافتني حياء *** بسرّ لا تبوح به خفيض
يقول فيها:
فإن يعرض أبو العبّاس عنّي *** و يركب بي عروضا عن عروض
و يجعل عرفه يوما لغيري *** و يبغضني فإنّي من بغيض
فإنّي ذو غنى و كريم قوم *** و في الأكفاء ذو وجه عريض
غلبت بني أبي العاصي سماحا *** و في الحرب المذكّرة العضوض(5)
خرجت عليهم في كلّ يوم *** خروج القدح من كفّ المفيض(6)
فدى لك من إذا ما جئت يوما *** تلقاني بجامعة ربوض(7)
على جنب الخوان و ذاك لؤم *** و بئست تحفة الشيخ المريض(8)
كأني إذ فزعت إلى أحيح *** فزعت إلى مقوقية بيوض(9)
إوزة غيضة لقحت كشافا *** لقحقحها إذا درجت نقيض(10)
ص: 112
/قال: فدخل أحيح على الوليد بن عبد الملك، فقال يا أمير المؤمنين: إنّ عبد اللّه بن الحجاج قد هجاك، قال: بما ذا؟ فأنشده قوله:
فإن يعرض أبو العبّاس عنّي *** و يركب بي عروضا عن عروض
و يجعل عرفه يوما لغيري *** و يبغضني فإنّي من بغيض
فقال الوليد: و أيّ هجاء هذا! هو من بغيض إن أعرضت عنه، أو أقبلت عليه، أو أبغضته، ثم ما ذا؟ فأنشده:
كأني إذ فزعت إلى أحيح *** فزعت إلى مقوقية بيوض
فضحك الوليد، ثم قال: ما أراه هجا غيرك. فلما خرج من عنده أحيح أمر بتخلية سبيل عبد اللّه بن الحجاج، فأطلق. و كان الوليد إذا رأى أحيحا ذكر قول عبد اللّه فيه فيضحك منه.
حدّثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثنا خلاد بن يزيد الأرقط عن سالم بن قتيبة. و حدّثني يعقوب بن القاسم الطلحي، قال: حدّثني غير واحد، منهم عبد الرحمن بن محمّد الطّلحيّ، قال: حدّثني أحمد بن معاوية، قال: سمعت أبا علقمة الثقفيّ يحدث. قال أبو زيد(1): و في حديث بعضهم ما ليس في حديث الآخر، و قد ألّفت ذلك، قال:
كان(2) كثير بن شهاب بن الحصين بن ذي الغصّة بن يزيد بن شدّاد بن قنان بن سلمة بن وهب بن عبد اللّه بن ربيعة بن الحارث بن كعب، على ثغر الرّيّ، ولاّه إياه المغيرة بن شعبة إذ كان خليفة/معاوية على الكوفة، و كان عبد اللّه بن/الحجاج معه، فأغار الناس على الدّيلم، فأصاب عبد اللّه بن الحجاج رجلا منهم، فأخذ سلبه، فانتزعه منه كثير، و أمر بضربه، فضرب مائة سوط، و حبس، فقال عبد اللّه في ذلك(3)، و هو محبوس:
تسائل سلمى عن أبيها صحابه *** و قد علقته من كثير حبائل(4)
فلا تسألي عنّي الرفاق فإنّه *** بأبهر لا غاز و لا هو قافل(5)
أ لست ضربت الدّيلميّ أمامهم *** فجدّلته فيه سنان و عامل(6)
فمكث في الحبس مدة، ثم أخلي سبيله، فقال:
سأترك ثغر الري ما كنت واليا *** عليه لأمر غالني و شجاني
فإن أنا لم أدرك بثأري و أتّئر *** فلا تدعني للصّيد من غطفان(7)
تمنّيتني يا بن الحصين سفاهة *** و مالك بي يا بن الحصين يدان(8)
فإنّي زعيم أن أجلّل عاجلا *** بسيفي كفاحا هامة ابن قنان
ص: 113
قال: فلما عزل كثير و قدم الكوفة كمن له عبد اللّه بن الحجاج في سوق التّمّارين - و ذلك في خلافة معاوية و إمارة المغيرة بن شعبة على الكوفة - و كان كثير يخرج من منزله إلى القصر يحدّث المغيرة، فخرج يوما من داره إلى المغيرة يحدّثه فأطال، و خرج من عنده ممسيا يريد داره، فضربه عبد اللّه بعمود حديد على وجهه فهتّم مقاديم أسنانه كلّها، و قال في ذلك:
/
من مبلغ قيسا و خندف أنني *** ضربت كثيرا مضرب الظّربان(1)
فأقسم لا تنفكّ ضربة وجهه *** تذل و تخزي الدّهر كلّ يمان(2)
فإن تلقني تلق امرأ قد لقيته *** سريعا إلى الهيجاء غير جبان
و تلق امرأ لم تلق أمّك برّه *** على سابح غوج اللّبان حصان(3)
و حولي من قيس و خندف عصبة *** كرام على البأساء و الحدثان
و إن تك للسّنخ الّذي غصّ بالحصى *** فإنّي لقرم يا كثير هجان(4)
أنا ابن بني قيس عليّ تعطفت *** بغيض بن ريث بعد آل دجان
من مبلغ قيسا و خندف أنني *** أدركت مظلمتي من ابن شهاب
أدركته أجرى على محبوكة *** سرح الجراء طويلة الأقراب(5)
جرداء سرحوب كأنّ هويّها *** تعلو بجؤجئها هويّ عقاب(6)
خضت الظلام و قد بدت لي عورة *** منه فأضربه على الأنياب
فتركته يكبو لفيه و أنفه *** ذهل الجنان مضرّج الأثواب(7)
/هلا خشيت و أنت عاد ظالم *** بقصور أبهر نصرتي و عقابي(8)
إذ تستحلّ، و كان ذاك مجرّما، *** جلدي و تنزع ظالما أثوابي
ما ضرّه و الحرّ يطلب وتره *** بأشمّ لا رعش و لا قبقاب(9)
ص: 114
/قال: فكتب ناس من اليمانية من أهل الكوفة إلى معاوية: إن سيّدنا ضربه خسيس من غطفان، فإن رأيت أن تقيدنا(1) من أسماء بن خارجة. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: ما رأيت كاليوم كتاب قوم أحمق من هؤلاء. و حبس عبد اللّه بن الحجاج، و كتب إليهم: «إنّ القود ممن لم يجن محظور، و الجاني محبوس، حبسته فليقتصّ منه المجنيّ عليه». فقال كثير بن شهاب: لا أستقيدها إلاّ من سيد مضر. فبلغ قوله معاوية فغضب و قال: أنا سيّد مضر فليستقدها مني، و أمّن عبد اللّه بن الحجاج، و أطلقه، و أبطل ما فعله بابن شهاب، فلم يقتصّ و لا أخذ له عقلا.
عفو كثير عن عبد اللّه بن الحجاج
إن عبد اللّه بن الحجاج لمّا ضربه بالعمود، قال له: أنا عبد اللّه بن الحجاج صاحبك بالريّ، و قد قابلتك بما فعلت بي، و لم أكن لأكتمك نفسي، و أقسم باللّه لئن طالبت فيها بقود لأقتلنّك. فقال له: أنا أقتصّ من مثلك، و اللّه لا أرضى بالقصاص إلا من أسماء بن خارجة! و تكلمت اليمانية و تحارب الناس بالكوفة، فكتب معاوية إلى المغيرة:
أن أحضر كثيرا و عبد اللّه بن الحجاج فلا يبرحان من مجلسك حتى يقتصّ كثير أو يعفو. فأحضرهما المغيرة، فقال:
قد عفوت؟ و ذلك/لخوفه من عبد اللّه بن الحجاج أن يغتاله. قال: و قال لي: يا أبا الأقيرع، و اللّه لا نلتقي أنت و نحن جميعا أهتمان، و قد عفوت عنك.
و نسخت من كتاب ثعلب عن ابن الأعرابي، قال:
كان لعبد اللّه بن الحجاج ابنان يقال لأحدهما: عوين، و الثاني جندب، فمات جندب و عبد اللّه حيّ فدفنه بظهر الكوفة، فمرّ أخوه عوين بحرّاث إلى جانب قبر جندب، فنهاه أن يقربه بفدّانه، و حذّره ذلك، فلما كان الغد وجده قد حرث جانبه، و قد نبشه و أضرّ به، فشد عليه فضربه بالسيف و عقر فدانه(2). و قال:
أقول لحرّاثي حريمي جنّبا *** فدانيكما لا تحرثا قبر جندب(3)
فإنكما إن تحرثاه تشرّدا *** و يذهب فدان منكما كلّ مذهب(4)
قال: فأخذ عوين، فاعتقله السجّان، فضربه حتّى شغله بنفسه، ثم هرب، فوفد أبوه إلى عبد الملك فاستوهب جرمه فوهبه، و أمر بألاّ يتعقّب، فقال عبد اللّه بن الحجاج، يذكر ما كان من ابنه عوين:
لمثلك يا عوين فدتك نفسي *** نجا من كربة إن كان ناجي
عرفتك من مصاص السّنخ لما *** تركت ابن العكامس في العجاج(5)
ص: 115
قال: و لما وفد عبد اللّه بن الحجاج إلى عبد الملك بسبب ما كان من ابنه عوين مثل بين يديه، فأنشده:
/
يا ابن أبي العاصي و يا خير فتى *** أنت النجيب و الخيار المصطفى
أنت الّذي لم تدع الأمر سدى *** حين كشفت الظّلمات بالهدى
ما زلت إن ناز على الأمر انتزى *** قضيته إن القضاء قد مضى(1)
كما أذقت ابن سعيد إذ عصى *** و ابن الزبير إذ تسمّى و طغى
/و أنت إن عدّ قديم و بنى *** من عبد شمس في الشّماريخ العلى(2)
جيبت قريش عنكم جوب الرّحى *** هل أنت عاف عن طريد قد غوى(3)
أهوى على مهواة بئر فهوى *** رمى به جول إلى جول الرجا(4)
فتجبر اليوم به شيخا ذوى *** يعوي مع الذئب إذا الذئب عوى
و إن أراد النوم لم يقض الكرى *** من هول ما لاقى و أهوال الردى
يشكر ذاك ما نفت عين قذى *** نفسي و آبائي لك اليوم الفدا
فأمر عبد الملك بتحمّل ما يلزم ابنه من غرم و عقل، و أمّنه.
و نسخت من كتاب ثعلب عن ابن الأعرابيّ، قال:
وفد عبد اللّه بن الحجاج إلى عبد العزيز بن مروان و مدحه، فأجزل صلته، و أمره بأن يقيم عنده ففعل، فلما طال مقامه اشتاق إلى الكوفة و إلى أهله، فاستأذن عبد العزيز فلم يأذن له، فخرج من عنده غاضبا، فكتب عبد العزيز إلى أخيه بشر/أن يمنعه عطاءه، فمنعه، و رجع عبد اللّه لما أضرّ به ذلك إلى عبد العزيز، و قال يمدحه:
تركت ابن ليلى ضلّة و حريمه *** و عند ابن ليلى معقل و معوّل(5)
أ لم يهدني أنّ المراغم واسع *** و أنّ الديار بالمقيم تنقّل(6)
سأحكم أمري إن بدا لي رشده *** و أختار أهل الخير إن كنت أعقل
و أترك أوطاري و ألحق بامرئ *** تحلّب كفاه النّدى حين يسأل(7)
أبت لك يا عبد العزيز مآثر *** و جري شأى جري الجياد و أوّل(8)
ص: 116
أبي لك إذ أكدوا و قلّ عطاؤهم *** مواهب فيّاض و مجد مؤثّل(1)
أبوك الّذي ينميك مروان للعلى *** و سعد الفتى بالخال لا من يخوّل(2)
فقال له عبد العزيز: أمّا إذ عرفت موضع خطئك، و اعترفت به فقد صفحت عنك. و أمر بإطلاق عطائه، و وصله، و قال له: أقم ما شئت عندنا، أو انصرف مأذونا لك إذا شئت.
و نسخت من كتابه أيضا:
كان عمر بن هبيرة بن معيّة بن سكين قد ظلم عبد اللّه بن الحجاج حقا له، و استعان عليه بقومه، فلقوه في بعلبك، فعاونوا عبد اللّه بن الحجاج عليه، و فرّقوه(3) بالسياط حتى انتزعوا حقّه منه، فقال عبد اللّه في ذلك:
/
ألا أبلغ بني سعد رسولا *** و دونهم بسيطة فالمعاط(4)
أميطوا عنكم ضرط ابن ضرط *** فإنّ الخبث مثلهم يماط(5)
و لي حقّ فراطة أوّلينا *** قديما و الحقوق لها افتراط(6)
فما زالت مباسطتي و مجدي *** و ما زال التهايط و المياط(7)
و جدّي بالسياط عليك حتّى *** تركت و في ذناباك انبساط(8)
متى ما تعترض يوما لحقّي *** تلاقك دونه سعر سباط(9)
من الحيّين ثعلبة بن سعد *** و مرة أخذ جمعهم اعتباط(10)
تراهم في البيوت و هم كسالى *** و في الهيجا إذا هيجوا نشاط
/و القصيدة الّتي فيها الغناء بذكر أمر عبد اللّه بن الحجاج أولها:
نأتك و لم تخش الفراق جنوب *** و شطّت نوى بالظاعنين شعوب(11)
طربت إلى الحيّ الذين تحمّلوا *** ببرقة أحواز و أنت طروب(12)
فظلت كأنّي ساورتني مدامة *** تمنى بها شكس الطّباع أريب(13)
ص: 117
تمرّ و تستحلي على ذاك شربها *** لوجه أخيها في الإناء قطوب
كميت إذا صبت و في الكأس وردة *** لها في عظام الشاربين دبيب(1)
تذكرت ذكرى من جنوب مصيبة *** و مالك من ذكرى جنوب نصيب
/و أنّى ترجّي الوصل منها و قد نأت *** و تبخل بالموجود و هي قريب
فما فوق وجدي إذ نأت وجد واجد *** من النّاس لو كانت بذاك تثيب(2)
برهرهة خود كأنّ ثيابها *** على الشّمس تبدو تارة و تغيب(3)
و هي قصيدة طويلة.
و نسخت من كتاب ثعلب عن ابن الأعرابي، قال:
كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يعرّفه آثار عبد اللّه بن الحجاج، و بلاءه من محاربته، و أنه بلغه أنه أمّنه، و يحرضه و يسأله أن يوفده(4) إليه ليتولّى قتله، و بلغ ذلك عبد اللّه بن الحجاج، فجاء حتّى وقف بين يدي عبد الملك، ثم أنشده:
أعوذ بثوبيك اللّذين ارتداهما *** كريم الثّنا من جيبه المسك ينفح(5)
فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي *** و إن كنت مذبوحا فكن أنت تذبح
فقال عبد الملك: ما صنعت شيئا. فقال عبد اللّه:
لأنت و خير الظّافرين كرامهم *** عن المذنب الخاشي العقاب صفوح
و لو زلقت من قبل عفوك نعله *** ترامى به دحض المقام بريح(6)
نمى بك إن خانت رجالا عروقهم *** أروم و دين لم يخنك صحيح(7)
و عرف سرى لم يسر في الناس مثله *** و شأو على شأو الرجال متوح(8)
/تداركني عفو ابن مروان بعد ما *** جرى لي من بعد الحياة سنيح(9)
رفعت مريحا ناظريّ و لم أكد *** من الهمّ و الكرب الشديد أريح
فكتب عبد الملك إلى الحجاج: إني قد عرفت من خبث عبد اللّه و فسقه ما لا يزيدني علما به، إلا أنه اغتفلني
ص: 118
متنكّرا، فدخل داري، و تحرّم بطعامي، و استكساني فكسوته ثوبا من ثيابي، و أعاذني فأعذته، و في دون هذا ما حظر عليّ دمه، و عبد اللّه أقلّ و أذلّ من أن يوقع أمرا، أو ينكث عهدا في قتله خوفا من شره، فإن شكر النعمة و أقام على الطاعة فلا سبيل عليه، و إن كفر ما أوتي و شاقّ اللّه و رسوله و أولياءه فاللّه قاتله بسيف البغي الّذي قتل به نظراؤه و من هو أشدّ بأسا و شكيمة منه، من الملحدين، فلا تعرض له و لا لأحد من أهل بيته(1) إلا بخير، و السلام.
أخبرني محمّد بن يحيى الصولي، قال: حدّثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني، قال:
كانت في القريتين(2) بركة من ماء، و كان بها رجل من كلب يقال له دعكنة، /لا يدخل البركة معه أحد إلا غطّه(3) حتى يغلبه، فغطّ يومها فيها رجلا من قيس بحضرة الوليد بن عبد الملك حتّى خرج هاربا، فقال ابن هبيرة و هو جالس عليها يومئذ: اللهم اصبب علينا أبا الأقيرع عبد اللّه بن الحجاج. فكان أوّل رجل انحدرت به راحلته، فأناخها و نزل، فقال ابن هبيرة للوليد: هذا أبو الأقيرع و اللّه يا أمير المؤمنين، أيهما أخزى اللّه صاحبه به. فأمره الوليد أن ينحطّ عليه في البركة/و الكلبيّ فيها واقف متعرض للناس و قد صدّوا عنه. فقال له: يا أمير المؤمنين إني أخاف أن يقتلني فلا يرضى قومي إلاّ بقتله، أو أقتله فلا ترضي قومه إلاّ بمثل ذلك، و أنا رجل بدويّ و لست بصاحب مال. فقال دعكنة: يا أمير المؤمنين هو في حلّ و أنا في حلّ. فقال له الوليد: دونك. فتكأكأ(4) ساعة كالكاره حتى عزم عليه الوليد، فدخل البركة، فاعتنق الكلبيّ و هوى به إلى قعرها، و لزمه حتّى وجد الموت، ثم خلّى عنه، فلما علا غطّه غطّة ثانية، و قام عليه ثم أطلقه حتى تروّح، ثم أعاده و أمسكه حتّى مات، و خرج ابن الحجاج و بقي الكلبيّ، فغضب الوليد و همّ به، فكلّمه يزيد و قال: أنت أكرهته، أ فكان يمكّن الكلبيّ من نفسه حتّى يقتله؟ فكف عنه. فقال عبد اللّه بن الحجّاج في ذلك:
نجّاني اللّه فردا لا شريك له *** بالقريتين و نفس صلبة العود
و ذمّة من يزيد حال جانبها *** دوني فأنجيت عفوا غير مجهود(5)
لو لا الإله و صبري في مغاطستي *** كان السليم و كنت الهالك المودي
يا حبّذا عمل الشيطان من عمل *** إن كان من عمل الشيطان حبّيها(6)
لنظرة من سليمى اليوم واحدة *** أشهى إليّ من الدّنيا و ما فيها(7)
الشعر لناهض بن ثومة الكلابيّ، أنشدنيه هاشم بن محمّد الخزاعيّ، قال: أنشدنا الرياشيّ قال: أنشدنا ناهض بن ثومة أبو العطاف الكلابيّ هذين البيتين لنفسه. و أخبرني بمثل ذلك عمي من الكرانيّ عن الرياشي. و الغناء لأبي العبيس ابن حمدون ثقيل أوّل ينشد بالوسطى.
ص: 119
هو ناهض بن ثومة بن نصيح بن نهيك بن إمام بن جهضم بن شهاب بن أنس بن ربيعة بن كعب بن بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. شاعر بدويّ فارس فصيح، من الشعراء في الدولة العباسية، و كان يقدم البصرة فيكتب عنه شعره، و تؤخذ عنه اللغة. روى عنه الرياشي، و أبو سراقة، و دماذ و غيرهم من رواة البصرة. و كان يهجوه رجل من بني الحارث بن كعب، يقال له: نافع بن أشعر الحارثيّ، فأثرى عليه ناهض(1). فمما قاله في جواب قصيدة هجا بها قبائل قيس، قصيدة ناهض الّتي أوّلها:
/
ألا يا أسلما يا أيّها الطلان *** و هل سالم باق على الحدثان
أبينا لنا، حبّيتما اليوم، إننا *** مبينان عن ميل بما تسلان
متى العهد من سلمى الّتي بتّت القوى *** و أسماء إن العهد منذ زمان(2)
و لا زال ينهلّ الغمام عليكما *** سبيل الرّبى من وابل و دجان(3)
فإن أنتما بيّنتما أو أجبتما *** فلا زلتما بالنبت ترتديان
و جرّ الحرير و الفرند عليكما *** بأذيال رخصات الأكفّ هجان(4)
نظرت و دوني قيد رمحين نظرة *** بعينين إنسانا هما غرقان(5)
إلى ظعن بالعاقرين كأنّها *** قرائن من دوح الكثيب ثمان(6)
/لسلمى و أسماء اللتين أكنّتا *** بقلبي كنيني لوعة و ضمان(7)
عسى يعقب الهجر الطويل تدانيا *** و يا ربّ هجر معقب بتداني
ص: 120
خليليّ قد أكثرتما اللوم فاربعا *** كفاني ما بي لو تركت كفاني(1)
إذا لم تصل سلمى و أسماء في الصّبا *** بحبليهما حبلي فمن تصلان
فدع ذا و لكن قد عجبت لنافع *** و معواه من نجران حيث عواني(2)
عوى أسدا لا يزدهيه عواؤه *** مقيما بلوذي يذبل و ذقان(3)
لعمري لقد قال ابن أشعر نافع *** مقالة موطوء الحريم مهان(4)
أ يزعم أنّ العامريّ لفعله *** بعاقبة يرمى به الرجوان(5)
و يذكر إن لاقاه زلّة نعله *** فجيء للذي لم يستبن ببيان
كذبت و لكن بابن علبة جعفر *** فدع ما تمنّى زلّت القدمان
أصيب فلم يعقل و طلّ فلم يقد *** فذاك الّذي يخزى به الأبوان(6)
و حقّ لمن كان ابن أشعر ثائرا *** به الطّلّ حتّى يحشر الثّقلان(7)
ذليل ذليل الرهط أعمى يسومه *** بنو عامر ضيما بكل مكان
/فلم يبق إلاّ قوله بلسانه *** و ما ضرّ قول كاذب بلسان
هجا نافع كعبا ليدرك وتره *** و لم يهج كعب نافعا لأوان
و لم تعف من آثار كعب بوجهه *** قوارع منها وضّح و قوان(8)
و قد خضّبوا وجه ابن علبة جعفر *** خضاب نجيع لا خضاب دهان(9)
فلم يهج كعبا نافع بعد ضربة *** بسيف و لم يطعنهم بسنان
فما لك مهجى يا ابن أشعر فاكتعم *** على حجر و اصبر لكل هوان(10)
إذا المرء لم ينهض فيثأر بعمّه *** فليس يجلّى العار بالهذيان
أبي قيس عيلان و عمّي خندف *** ذوا البذخ عند الفخر و الخطران(11)
ص: 121
إذا ما تجمّعنا و سارت حذاءنا *** ربيعة لم يعدل بنا أخوان
/أ ليس نبيّ اللّه منّا محمّد *** و حمزة و العباس و العمران
و منا ابن عباس و منا ابن عمّه *** عليّ إمام الحق و الحسنان
و عثمان و الصّدّيق منا و إننا *** لنعلم أن الحقّ ما يعدان
و منا بنو العباس فضلا فمن لكم *** هلمّوه أولا ينطقنّ يمان
قال: فأنشد ناهض هذه القصيدة أيوب بن سليمان بن علي بالبصرة، و عنده خال له من الأنصار، فلما ختمها بهذا البيت قال الأنصاري: أخرسنا أخرسه اللّه! و كان جدّه نصيح شاعرا، و هو الّذي يقول:
ألا من لقلب في الحجاز قسيمه *** و منه بأكناف الحجاز قسيم
/معاود شكوى أن نأت أمّ سالم *** كما يشتكي جنح الظلام سليم(1)
سليم لصلّ أسلمته لما به *** رقى قلّ عنه دفعها و تميم(2)
فلم ترم الدار البريصاء فالصفا *** صفاها فخلاّها فأين تريم(3)
وقفت عليها بازلا ناهجيّة *** إذا لم أزعها بالزمام تعوم(4)
كنازا من اللاتي كأنّ عظامها *** جبرن على كسر فهنّ عثوم(5)
أخبرني الحسن بن علي الخفّاف، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم، قال: حدّثني الفضل بن العباس الهاشمي من ولد قثم بن جعفر بن سليمان عن أبيه، قال:
كان ناهض بن ثومة الكلابيّ يفد على جدّي قثم فيمدحه، و يصله جدّي و غيره، و كان بدويّا جافيا كأنّه من الوحش، و كان طيّب الحديث، فحدّثه يوما: أنهم انتجعوا ناحية الشام، فقصد صديقا له من ولد خالد بن يزيد بن معاوية كان ينزل حلب، فإذا نزل نواحيها أتاه فمدحه، و كان برّا به، قال: فمررت بقرية يقال لها قرية بكر بن عبد اللّه
ص: 122
الهلالي، فرأيت دورا متباينة و خصاصا(1) قد ضمّ بعضها إلى بعض، و إذا بها ناس كثير مقبلون و مدبرون، عليهم ثياب تحكي ألوان الزهر، فقلت في نفسي: هذا أحد العيدين: الأضحى أو الفطر. ثم ثاب إليّ ما عزب عن عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في بادية البصرة في صفر، و قد مضى العيدان قبل ذلك، فما هذا الّذي أرى؟ فبينا أنا واقف متعجّب أتاني رجل فأخذ بيدي، /فأدخلني دارا قوراء(2)، و أدخلني منها بيتا قد نجّد في وجهه فرش و مهّدت، و عليها شابّ ينال فروع شعره منكبيه، و الناس حوله سماطان(3)، فقلت في نفسي: هذا الأمير الّذي حكي لنا جلوسه على الناس و جلوس الناس بين يديه، فقلت و أنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير و رحمة اللّه و بركاته. فجذب رجل يدي، و قال: اجلس فإن هذا ليس بأمير. قلت: فما هو؟ قال: عروس. فقلت: وا ثكل أمّاه، لربّ عروس رأيته بالبادية أهون على أهله من هن أمه(4). فلم أنشب(5) أن دخل رجال يحملون هنات(6) مدوّرات، أمّا ما خفّ منها فيحمل حملا، و أما ما كبر و ثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، و تحلّق القوم عليه حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثيابا، و هممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطّعها قميصا، و ذلك أني رأيت نسجا متلاحما /لا يبين له سدى و لا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزّق سريعا، و إذا هو - فيما زعموا - صنف من الخبز لا أعرفه؛ ثم أتينا بطعام كثير بين حلو و حامض، و حار و بارد؛ فأكثرت منه و أنا لا أعلم ما في عقبه من التّخم و البشم؛ ثم أتينا بشراب أحمر في عساس(7)، فقلت: لا حاجة لي فيه، فإني أخاف أن يقتلني. و كان إلى جانبي رجل ناصح لي أحسن اللّه جزاءه، فإنه كان ينصح لي من بين أهل المجلس، فقال: يا أعرابي إنك قد أكثرت من الطعام، و إن شربت الماء همى(8) بطنك. فلما ذكر البطن تذكّرت شيئا أوصاني به أبي و الأشياخ من أهلي، قالوا: لا تزال حيّا ما كان بطنك شديدا فإذا اختلف فأوص(9). فشربت من ذلك الشراب لأتداوى به، و جعلت أكثر منه فلا أملّ شربه، فتداخلني من ذلك/صلف لا أعرفه من نفسي، و بكاء لا أعرف سببه و لا عهد لي بمثله، و اقتدار على أمري أظنّ معه أني لو أردت نيل السّقف لبلغته، و لو ساورت(10) الأسد لقتلته، و جعلت ألتفت إلى الرجل الناصح لي فتحدّثني نفسي بهتم أسنانه و هشم أنفه، و أهمّ أحيانا أن أقول له: يا ابن الزانية! فبينا نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة، أحدهم قد علّق في عنقه جعبة فارسيّة مشنّجة(11) الطرفين دقيقة الوسط، مشبوحة بالخيوط شبحا منكرا؛ ثم بدر الثاني فاستخرج من كمّه هنة سوداء كفيشلة الحمار(12)، فوضعها في فيه، و ضرط ضراطا لم أسمع - و بيت اللّه - أعجب منه، فاستتمّ بها أمرهم، ثم حرّك أصابعه على أجحرة فيها فأخرج منها أصواتا ليس كما بدأ
ص: 123
تشبه بالضراط و لكنّه أتى منها لمّا حرك أصابعه بصوت عجيب متلائم متشاكل بعضه لبعض، كأنه، علم اللّه، ينطق.
ثم بدا ثالث كزّ(1) مقيت عليه قميص وسخ، معه مرآتان، فجعل يصفّق بيديه إحداهما على الأخرى فخالطتا بصوتهما ما يفعله الرجلان(2)، ثم بدا رابع عليه قميص مصون و سراويل مصونة و خفان أجذمان(3) لا ساق لواحد منهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم التبط(4) به على الأرض، فقلت: معتوه و ربّ الكعبة! ثم ما برح مكانه حتّى كان أغبط القوم عندي. و رأيت القوم يحذفونه(5) بالدراهم حذفا منكرا، ثم أرسل النساء إلينا: أن أمتعونا /من لهوكم هذا. فبعثوا بهم، و جعلنا نسمع أصواتهنّ من بعد، و كان معنا في البيت شابّ لا آبه(6) له، فعلت الأصوات بالثناء عليه و الدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عودا فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها و حرّكها بخشبة في يده فنطقت - و ربّ الكعبة - و إذا هي أحسن قينة(7) رأيتها قطّ، و غنّى عليها، فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه، و قلت: بأبي أنت و أمي، فما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب و ما أراها خلقت إلا قريبا. فقال: هذا البربط؟(8) فقلت بأبي أنت و أمّي، فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: الزير(9). قلت: فالذي يليه؟ قال: المثنى(10). قلت: فالثالث؟ المثلث(11). قلت: فالأعلى؟ قال:
البمّ(12). قلت: آمنت باللّه أوّلا، و بك ثانيا، و بالبربط ثالثا، و بالبم رابعا.
قال: فضحك أبي، و اللّه، حتّى سقط، و جعل ناهض يعجب من ضحكه، ثم كان بعد ذلك يستعيده هذا /الحديث، و يطرف به إخوانه فيعيده و يضحكون منه.
و قد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدّثنا عليّ بن محمّد النوفليّ، عن أبيه، قال:
كان محمّد بن خالد بن يزيد بن معاوية بحلب، فأتاه أعرابيّ، فقال له: حدّث أبا عبد اللّه - يعني الهيثم بن النّخعي - بما رأيت في حاضر المسلمين. فحدثه بنحو من هذا الحديث، و لم يسمّ الأعرابيّ باسمه، و ما أجدره بأن يكون لم يعرفه باسمه و نسبه أو لم يعرفه الّذي حدّث به النوفلي عنه.
نسخت من كتاب لعلي بن محمّد الكوفي فيه شعر ناهض بن ثومة قال: كان رجل من بني كعب قد تزوّج امرأة من بني كلاب، فنزل فيهم ثم أنكر منها بعض ما ينكره الرجل من زوجته فطلّقها، و أقام بموضعه في بني كلاب، و كان لا يزالون يستخفّون به و يظلمونه، و إن رجلا منهم أورد إبله الماء فوردت إبل الكعبيّ عليها، فزاحمته، لكنها
ص: 124
ألقته على ظهره فتكشّف، فقام مغضبا بسيفه إلى إبل الكعبي، فعقر منها عدّة، و جلاها عن الحوض، و مضى الكعبيّ مستصرخا بني كلاب على الرجل، فلم يصرخوه، فساق باقي إبله و احتمل بأهله حتى رجع إلى عشيرته، فشكا ما لقى من القوم و استصرخهم، فغضبوا له، و ركبوا معه حتى أتوا حلّة بني كلاب، فاستاقوا إبل الرجل الّذي عقر لصاحبهم، و مضى الرجل فجمع عشيرته، و تداعت هي و كعب للقتال، فتحاربوا في ذلك حربا شديدا، و تمادى الشرّ بينهم، حتى تساعى حلماؤهم في القضية، فأصلحوها على أن يعقل القتلى و الجرحى، و تردّ الإبل، و ترسل من العاقر عدة الإبل الّتي عقرها للكعبي، فتراضوا بذلك و اصطلحوا، و عادوا إلى الألفة، فقال في ذلك ناهض بن ثومة:
أ من طلل بأخطب أبّدته *** نجاء الوبل و الدّيم النّضاح(1)
و مرّ الدهر يوما بعد يوم *** فما أبقى المساء و لا الصباح
فكل محلّة عنيت بسلمى *** لريدات الرياح بها نواح(2)
تطلّ على الجفون الحزن حتى *** دموع العين ناكزة نزاح(3)
/و هي طويلة يقول فيها:
هنيئا للعدى سخط و رغم *** و للفرعين بينهما اصطلاح
و للعين الرقاد فقد أطالت *** مساهرة و للقلب انتجاح
و قد قال العداة نرى كلابا *** و كعبا بين صلحهما افتتاح
تداعوا للسّلام و أمر نجح *** و خير الأمر ما فيه النجاح
و مدّوا بينهم بحبال مجد *** و ثدي لا أجدّ و لا ضياح(4)
أ لم تر أنّ جمع القوم يحشى *** و أن حريم واحدهم مباح
و أن القدح حين يكون فردا *** فيهصر لا يكون له اقتداح(5)
و إنك إن قبضت بها جميعا *** أبت ما سمت واحدها القداح
/أنا الخطّار دون بني كلاب *** و كعب إن أتيح لهم متاح(6)
أنا الحامي لهم و لكل قرم *** أخ حام إذا جد النّضاح(7)
أنا الليث الّذي لا يزدهيه *** عواء العاويات و لا النّباح
سل الشعراء عني هل أقرت *** بقلبي أو عفت لهم الجراح(8)
ص: 125
فما لكواهل الشّعراء بدّ *** من القتب الّذي فيه لحاح(1)
و من توريك راكبه عليهم *** و إن كرهوا الركوب و إن ألاحوا(2)
و نسخت من هذا الكتاب الّذي فيه شعره، أنّ وقعة كانت بين بني نمير و بني كلاب بنواحي ديار مضر، و كانت لكلاب على بني نمير؛ و أن نميرا استغاثت ببني تميم، و لجأت إلى مالك بن زيد سيد تميم يومئذ بديار مضر، فمنع تميما من إنجادهم، و قال: ما كنا لنلقى بين قيس و خندف دماء نحن عنها أغنياء، و أنتم و هم لنا أهل و إخوة، فإن سعيتم في صلح عاونّا، و إن كانت حمالة(3) أعنّا، فأمّا الدماء فلا مدخل لنا بينكم فيها. فقال ناهض بن ثومة في ذلك:
سلام اللّه يا مال بن زيد *** عليك و خير ما أهدى السلاما
تعلم أينا لكم صديق *** فلا تستعجلوا فينا الملاما
و لكنا و حيّ بني تميم *** عداة لا نرى أبدا سلاما
و إن كنا تكاففنا قليلا *** كحرف السّيف ينهار انهداما(4)
و هيض العظم يصبح ذا انصداع *** و قد ظنّ الجهول به التئاما(5)
فلن ننسى الشباب المرد منّا *** و لا الشّيب الجحاجح و الكراما(6)
و نوح نوائح منّا و منهم *** مآتم ما تجفّ لهم سجاما(7)
فكيف يكون صلح بعد هذا *** يرجّي الجاهلون لهم تماما
ألا قل للقبائل من تميم *** و خصّ لمالك فيها الكلاما
فزيدوا يا بني زيد نميرا *** هوانا إنه يدني الفطاما
و لا تبقوا على الأعداء شيئا *** أعزّ اللّه نصركم و داما
/وجدت المجد في حيي تميم *** و رهط الهذلق الموفي الذماما(8)
نجوم القوم ما زالوا هداة *** و ما زالوا لآبيهم زماما(9)
هم الرأس المقدم من تميم *** و غاربها و أوفاها سناما(10)
إذا ما غاب نجم آب نجم *** أغرّ نرى لطلعته ابتساما
ص: 126
فهذي لابن ثومة فانسبوها *** إليه لا اختفاء و لا اكتتاما(1)
و إن رغمت لذاك بنو نمير *** فلا زالت أنوفهم رغاما(2)
قال: يعني بالهذلق الهذلق بن بشير، أخا بني عتيبة بن الحارث بن شهاب، و ابنيه علقمة و صباحا.
قال: و كانت بنو كعب قد اعتزلت الفريقين فلم تصب كلابا و لا نميرا، فلما ظفرت كلاب قال لهم ناهض:
/
ألا هل أتى كعبا على نأي دراهم *** و خذلانهم أنا سررنا بني كعب
بما لقيت منا نمير و جمعها *** غداة أتينا في كتائبنا الغلب(3)
فيا لك يوما بالحمى لا نرى له *** شبيها و ما في يوم شيبان من عتب
أقامت نمير بالحمى غير رغبة *** فكان الّذي نالت نمير من النهب
رءوس و أوصال يزايل بينها *** سباع تدلّت من أبانين و الهضب(4)
/لنا وقعات في نمير تتابعت *** بضيم على ضيم و نكب على نكب(5)
و قد علمت قيس بن عيلان كلّها *** و للحرب أبناء بأنا بنو الحرب
أ لم ترهم طرّا علينا تحزّبوا *** و ليس لنا إلا الرّدينى من حزب(6)
و إنا لنقتاد الجياد على الوجى *** لأعدائنا من لا مدان و لا صقب(7)
ففي أي فجّ ما ركزنا رماحنا *** مخوف بنصب للعدا حين لا نصب(8)
أخبرنا جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب، قال: حدّثني أبو هفّان، قال: حدّثني غرير بن ناهض بن ثومة الكلابي، قال: كان شاعر من نمير يقال له: رأس الكبش، قد هاجى عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير زمانا، و تناقضا الشعر بينهما مدة، فلما وقعت الحرب بيننا و بين بني نمير قال عمارة يحرّض كعبا و كلابا ابني ربيعة على بني نمير في هذه الحرب الّتي كانت بينهم، فقال:
رأيتكما يا بني ربيعة خرتما *** و عوّلتما و الحرب ذات هرير(9)
و صدقتما قول الفرزدق فيكما *** و كذبتما بالأمس قول جرير
ص: 127
فإن أنتما لم تقذعا الخيل بالقنا *** فصيرا مع الأنباط حيث تصير(1)
تسومكما بغيا نمير هضيمة *** ستنجد أخبار بهم و تغور(2)
/قال: فارتحلت كلاب حين أتاها هذا الشعر، حتى أتوا نميرا و هم في هضبات يقال لهنّ واردات(3)، فقتلوا و اجتاحوا، و فضحوا نميرا، ثم انصرفوا، فقال ناهض بن ثومة يجيب عمارة عن قوله:
يحضضنا عمارة في نمير *** ليشغلهم بنا و به أرابوا(4)
و يزعم أننا حزنا و أنا *** لهم جار المقربة المصاب
سلوا عن نميرا هل وقعنا *** بنزوتها الّتي كانت تهاب
أ لم تخضع لهم أسد و دانت *** لهم سعد و ضبة و الرباب
و نحن نكرّها شعثا عليهم *** عليها الشّيب منا و الشباب
رغبنا عن دماء بني قريع *** إلى القلعين إنهما اللباب(5)
صبحناهم بأرعن مكفهرّ *** يدف كأن رايته العقاب(6)
أجشّ من الصواهل ذي دويّ *** تلوج البيض فيه و الحراب(7)
فأشعل حين حلّ بواردات *** و ثار لنقعه ثمّ انصباب(8)
صبحناهم بها شعث النواصي *** و لم يفتق من الصبح الحجاب
/فلم تغمد سيوف الهند حتى *** تعيلت الحليلة و الكعاب(9)
و كأنما أثر النعاج بجوّها *** بمدافع الرّكبين ودع جواري(1)
و سألتها عن أهلها فوجدتها *** عمياء جاهلة عن الأخبار
فكأنّ عيني غرب أدهم داجن *** متعوّد الإقبال و الإدبار(2)
الشعر للمخبل السعدي، و الغناء لإبراهيم، هزج بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. قال الهشامي:
فيه لإبراهيم ثقيل أوّل، و لعنان بنت خوط خفيف رمل.
ص: 129
14 - أخبار المخبل(1) و نسبه
قال ابن الكلبي: اسمه الربيع بن ربيعة، و قال ابن دأب: اسمه كعب بن ربيعة. و قال ابن حبيب و أبو عمرو:
اسمه ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف بن قتال(2) بن أنف الناقة بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية و الإسلام، و يكنى أبا يزيد. و إياه عنى الفرزدق بقوله:
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا *** و أبو يزيد و ذو القروح و جرول
ذو القروح: امرؤ القيس. و جرول: الحطيئة. و أبو يزيد: المخبل. و ذكره ابن سلام فجعله في الطبقة الخامسة من فحول الشعراء، و قرنه بخداش بن زهير، و الأسود بن يعفر، و تميم بن مقبل. و هو من المقلين، و عمر في الجاهلية و الإسلام عمرا كثيرا، و أحسبه مات في خلافة عمر أو عثمان (رضي اللّه عنهما) و هو شيخ كبير. و كان له ابن، فهاجر إلى الكوفة في أيام عمر فجزع عليه جزعا شديدا، حتى بلغ خبره عمر، فردّه عليه.
أخبرني محمّد بن الحسن بن دريد. قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه، و أخبرني به هاشم بن محمّد الخزاعي عن أبي غسان دماذ، عن ابن الأعرابي قال:
هاجر شيبان بن المخبل السعدي، و خرج مع سعد بن أبي وقاص لحرب الفرس، فجزع عليه المخبّل جزعا شديدا، و كان قد أسنّ و ضعف، فافتقر/إلى ابنه فافتقده، فلم يملك الصبر عنه، فكاد أن يغلب على عقله، فعمد إلى إبله و سائر ماله فعرضه ليبيعه و يلحق بابنه، و كان به ضنينا، فمنعه علقمة بن هوذة بن مالك، و أعطاه مالا و فرسا، و قال: أنا أكلّم أمير المؤمنين عمر في ردّ ابنك، فإن فعل غنمت مالك. و أقمت في قومك، و إن أبي استنفقت ما أعطيتك و لحقت به، و خلّفت إبلك لعيالك. ثم مضى إلى عمر - رضوان اللّه عنه - فأخبره خبر المخبّل، و جزعه على ابنه، و أنشده قوله:
أ يهلكني شيبان في كلّ ليلة *** لقلبي من خوف الفراق و جيب(3)
أ شيبان ما أدراك أنّ كلّ ليلة *** غبقتك فيها و الغبوق حبيب(4)
غبقتك عظماها سناما أو انبرى *** برزقك برّاق المتون أريب(5)
ص: 130
/
أ شيبان إن تأبى الجيوش بحدّهم *** يقاسون أياما لهنّ حطوب(1)
و لا همّ إلا البزّ أو كلّ سابح *** عليه فتى شاكي السلاح نجيب(2)
يذودون جند الهرمزان كأنّما *** يذودون أوراد الكلاب تلوب(3)
فإن يك غصني أصبح اليوم ذاويا *** و غصنك من ماء الشباب رطيب
فإنّي حنت ظهري خطوب تتابعت *** فمشي ضعيف في الرجال دبيب
إذا قال صحبي يا ربيع أ لا ترى *** أرى الشخص كالشخصين و هو قريب
و يخبرني شيبان أن لن يعقّني *** تعقّ إذا فارقتني و تحوب(4)
/فلا تدخلنّ الدّهر قبرك حوبة *** يقوم بها يوما عليك حسيب(5)
- يعني بقوله «حسيب» اللّه عز ذكره -
قال: فلما أنشد عمر بن الخطاب هذه الأبيات بكى ورق له، فكتب إلى سعد يأمره أن يقفل شيبان بن المخبل و يردّه على أبيه، فلما ورد الكتاب عليه أعلم شيبان و ردّه فسأله الإغضاء عنه، و قال: لا تحرمنّي الجهاد. فقال له:
إنّها عزمة من عمر، و لا خير لك في عصيانه و عقوق شيخك. فانصرف إليه، و لم يزل عنده حتى مات.
و أخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبيد اللّه بن عمار و الجوهريّ، قالا:
حدّثنا عمر بن شبّة أن شيبان بن المخبل كان يرعى إبل أبيه، فلا يزال أبوه يقول: أحسن رعية إبلك يا بنيّ، فيقول: أراحني اللّه من رعية إبلك. ثم فارق أباه و غزا مع أبي موسى، و انحدر إلى البصرة، و شهد فتح تستر(6)، فقال: فذكر أبوه(7) الأبيات، و زاد فيها قوله:
إذا قلت ترعى قال سوف تريحني *** من الرّعي مذعان العشي خبوب(8)
قال: أبو يزيد و حدّثناه عتاب بن زياد، قال: حدّثنا ابن المبارك، قال حدّثنا مسعود عن معن بن عبد الرحمن فذكر نحوه، و لم يقل: شيبان بن المخبّل، و لكنه قال: «انطلق رجل إلى الشام»، و ذكر القصة و الشعر.
أخبرنا محمّد بن العباس اليزيدي، قال: حدّثني عمّي عبيد اللّه، عن ابن حبيب، قال: خطب المخبّل السعديّ
ص: 131
إلى الزّبرقان بن بدر أخته خليدة، فمنعه إيّاها، و ردّه لشيء كان في عقله، و زوّجها رجلا من بني جشم بن عوف، يقال له: مالك بن أميّة/ابن عبد القيس، من بني محارب.
فقتل رجلا من بني نهشل يقال له الجلاس بن مخربة بن جندل بن جابر بن نهشل اغتيالا، و لم يعلم به أحد، ففقد و لم يعلم له خبر، فبينما جار الزبرقان الّذي من عبد القيس قاتل الجلاس ليلة يتحدث إذ غلط، فحدث هزّالا بقتله الرجل، و ذلك قبل أن يتزوّج هزّال إلى الزبرقان، فأتى هزّال عبد عمرو بن ضمرة بن جابر بن نهشل فأخبره، فدعا هزّال قاتل الجلاس فأخرجه عن البيوت، ثم اعتوره هو و عبد عمرو فضرباه حتى قتلاه، و رجع هزال إلى الحيّ و ضرب عبد عمرو حتّى لجأ إلى أخواله بني عطارد بن عوف.
امرأة مالك تحرض على من قتل زوجها فقالت امرأة مالك بن أمية المقتول:
أجيران ابن مية خبّروني *** أعين لابن ميّة أم ضمار(1)
تجلّل خزيها عوف بن كعب *** فليس لنسلهم منها اعتذار
/قال: فلما زوّج الزبرقان أخته خليدة هزّالا بعد قتله جاره عيب عليه، و عيّر به، و هجاه المخبل، فقال:
لعمرك إن الزبرقان لدائم *** على الناس تعدو نوكه و مجاهله(2)
أ أنكحت هزالا خليدة بعد ما *** زعمت بظهر الغيب أنك قاتله
فأنكحته رهوا كأنّ عجانها *** مشقّ إهاب أوسع السّلخ ناجله(3)
يلاعبها فوق الفراش و جاركم *** بذي شبرمان لم تزيّل مفاصله(4)
قال: و لجّ الهجاء بين المخبل و الزبرقان حتى تواقفا للمهاجاة و اجتمع الناس عليهما فاجتمعا لذلك ذات يوم، و كان الزبرقان أسودهما، فابتدأ المخبل فأنشده قصيدته:
/
أنبئت أن الزبرقان يسبّني *** سفها و يكره ذو الحرين خصالي(5)
قال: و إنما سماه ذا الحرين لأنه كان مبدّنا، فكان له ثديان عظيمان، فسبّه بهما و شبّههما بالحرين. و يقال: إنه إنما عيّره بأخته و ابنته، و لم يكن للمخبّل ابن في الجاهلية، قال:
أ فلا يفاخرني ليعلم أيّنا *** أدنى لأكرم سودد و فعال
فلما بلغ إلى قوله:
و أبوك بدر كان مشترط الخصى *** و أبي الجواد ربيعة بن قتال(6)
فلما أنشده هذا البيت، قال:
و أبوك بدر كان مشترط الخصى *** و أبي...
ص: 132
ثم انقطع عليه كلامه، إمّا بشرق أو انقطاع نفس، فما علم الناس ما يريد أن يقوله بعد قوله: «و أبي». فسبقه الزبرقان قبل أن يتم و يبين، فقال: صدقت، و ما في ذاك إن كان شيخانا قد اشتركا في صنعة. فغلبه الزبرقان، و ضحكوا من قوله و تفرّقوا، و قد انقطع بالمخبل قوله.
أخبرنا اليزيديّ، قال: حدّثني عمي عن عبيد اللّه عن ابن حبيب، قال: كان زرارة بن المخبّل يليط(1) حوضه، فأتاه رجل من بني علباء بن عوف، فقال له: صارعني. فقال له زرارة: إني عن صراعك لمشغول. فجذب بحجزته و هو غافل فسقط، فصاح به فتيان الحي: صرع زرارة و غلب. فأخذ زرارة حجرا، فأخذ به رأس العلباويّ، فسأل المخبل بغيض بن عامر بن شماس أن يتحمّل عن ابنه/الدية، فتحملها و تخلّصه، و كسا المخبل حلة حسنة، و أعطاه ناقة نجيبة، فقال المخبل يمدحه:
لعمر أبيك لا ألقى ابن عمّ *** على الحدثان خيرا من بغيض
أقلّ ملامة و أعزّ نصرا *** إذا ما جئت بالأمر المريض
كساني حلّة و حبا بعنس *** أبسّ بها إذا اضطربت غروضي(2)
غداة جنى بنيّ على جرما *** و كيف يداي بالحرب العضوض(3)
فقد سدّ السبيل أو حميد *** كما سدّ المخاطبة ابن بيض(4)
- أبو حميد: بغيض بن عامر. و أما قوله: «كما سدّ المخاطبة ابن بيض»، فإنّ ابن بيض: رجل من بقايا قوم عاد، كان تاجرا، و كان لقمان بن عاد يجيز له تجارته في كل سنة بأجر معلوم، فأجازة سنة و سنتين، و عاد التاجر و لقمان غائب، فأتى قومه فنزل فيهم، و لقمان في سفره، ثم حضرت/التاجر الوفاة فخاف لقمان على بنيه و ماله فقال لهم: إن لقمان صائر إليكم، و إنّي أخشاه إذا علم بموتي على مالي، فاجعلوا ماله قبلي في ثوبه، وضعوه في طريقه إليكم، فإن أخذه و اقتصر عليه فهو حقّه، فادفعوه إليه و اتّقوه، و إن تعدّاه رجوت أن يكفيكم اللّه إياه. و مات الرجل، و أتاهم لقمان و قد وضعوا حقه على طريقه، فقال: «سدّ ابن(5) بيض الطريق»، فأرسلها مثلا، و انصرف و أخذ حقه. و قد ذكرت ذلك الشعراء، فقال بشامة بن عمرو:
كثوب ابن بيض وقاهم به *** فسدّ على السالكين السبيلا
/قال ابن حبيب: و لما حشدت بنو علباء للمطالبة لدم صاحبهم، حشدت بنو قريع مع بغيض لنصر المخبّل، و مشت المشيخة في الأمر، و قالوا: هذا قتل(6) خطأ، فلا تواقعوا الفتنة، و اقبلوا الدية. فقبلوها و انصرفوا، فقال زرارة بن المخبل يفخر بذلك:
ص: 133
فاز المخالس لما أن جرى طلقا *** أمّا حطيم بن علباء فقد غلبا(1)
إني رميت بجلمود على حنق *** مني إليه فكانت رمية غربا(2)
ليثا إليّ يشقّ الناس منفرجا *** لحياه عنّانة لا يتّقي الخشبا(3)
فأورثتني قتيلا إن لقيت و إن *** أفلتّ كانت سماع السّوء و الحربا(4)
ثم أخذ بنو(5) حازم جارا لبني قشير، فأغار عليه المنتشر بن وهب الباهليّ، فأخذ إبله، فسأل في بني تميم حتّى انتهى إلى المخبل، فلما سأله قال له: إن شئت فاعترض إبلي فخذ خيرها ناقة، و إن شئت سعيت لك في إبلك. فقال: بل إبلي. فقال المخبل(6):
إنّ قشيرا من لقاح ابن حازم *** كراحضة حيضا و ليست بطاهر(7)
فلا يأكلها الباهليّ و تقعدوا *** لدى غرض أرميكم بالنواقر(8)
أغرّك أن قالوا لعزة شاعر *** فناك أباه من خفير و شاعر
فلما بلغهم قول المخبل سعوا بإبله، فردّها عليهم حزن بن معاوية بن خفاجة بن عقيل، فقال المخبل في ذلك:
/
تدارك حزن بالقنا آل عامر *** قفا حضن و الكرّ بالخيل أعسر(9)
فإنّي بذا الجار الخفاجيّ واثق *** و قلبي من الجار العباديّ أوجر(10)
إذا ما عقيليّ أقام بذمّة *** شريكين فيها فالعبادي أوجر(11)
لعمري لقد خارت خفاجة عامرا *** كما خير بيت بالعراق المشقّر(12)
و إنّك لو تعطي العبادي مشقصا *** لراشي كما راشى على الطبع أبخر(13)
- راشى من الرّشوة -
ص: 134
أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعي، قال: حدّثنا الرياشي، قال: حدّثنا الأصمعي، قال: مر المخبل السّعدي بخليدة بنت بدر، أخت الزّبرقان بن بدر، بعد ما أسنّ و ضعف بصره، فأنزلته و قرّبته و أكرمته و وهبت له وليدة، و قالت له إنّي آثرتك بها يا أبا يزيد(1) فاحتفظ بها. فقال: و من أنت حتى أعرفك و أشكرك؟ قالت: لا عليك، قال:
بلى و اللّه أسألك. قالت: أنا بعض من هتكت بشعرك ظالما، أنا خليدة بنت بدر. فقال: وا سوأتاه/منك؛ فإني أستغفر اللّه عزّ و جلّ، و أستقيلك و أعتذر إليك. ثم قال:
لقد ضلّ حلمي في خليدة إنّني *** سأعتب نفسي بعدها و أموت
فأقسم بالرحمن إنّي ظلمتها *** و جرت عليها و الهجاء كذوب
و القصيدة الّتي فيها الغناء المذكور بشعر المخبّل و أخباره يمدح بها علقمة بن هوذة و يذكر فعله به و ما وهبه له من ماله، و يقول:
فجزى الإله سراة قومي نضرة *** و سقاهم بمشارب الأبرار
قوم إذا خافوا عثار أخيهم *** لا يسلمون أخاهم لعثار
أمثال علقمة بن هوذة إذ سعى *** يخشى عليّ متالف الأبصار
أثنوا عليّ و أحسنوا و ترافدوا *** لي بالمخاض البزل و الأبكار(2)
و الشّول يتبعها بنات لبونها *** شرقا حناجرها من الجرجار(3)
أخبرنا أبو زيد، عن عبد الرحمن، عن عمه، و أخبرنا محمّد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي عبيد اللّه، عن ابن حبيب. و أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ، قال: حدّثنا العمريّ، عن لقيط قالوا:
اجتمع الزبرقان بن بدر و المخبل السعديّ و عبدة بن الطبيب و عمرو بن الأهتم قبل أن يسلموا، و بعد مبعث النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فنحروا جزورا، و اشتروا خمرا ببعير، و جلسوا يشوون و يأكلون، فقال بعضهم: لو أنّ قوما طاروا من جودة أشعارهم لطرنا. فتحاكموا إلى أوّل من يطلع عليهم، فطلع عليهم ربيعة بن حذار(4) الأسديّ، و قال اليزيدي:
فجاءهم رجل من بني يربوع يسأل عنهم، فدلّ عليهم و قد نزلوا بطن واد و هم جلوس يشربون، فلما رأوه سرهم، و قالوا له: أخبرنا أيّنا أشعر؟ قال: أخاف أن تغضبوا، فآمنوه من ذلك، فقال: أما عمرو فشعره برود/يمنية تنشر و تطوى، و أما أنت يا زبرقان فكأنك رجل أتى جزورا قد نحرت(5)، فأخذ من أطايبها و خلطه بغير ذلك.
ص: 135
و قال لقيط في خبره، قال له ربيعة بن حذار: و أمّا أنت يا زبرقان فشعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، و لم يترك نيئا فينتفع به، و أما أنت يا مخبّل فشعرك شهب من نار اللّه يلقيها على من يشاء(1)، و أما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة(2) أحكم خزرها فليس يقطر منها شيء.
أخبرنا اليزيدي، عن عمه، عن ابن حبيب، قال: كان رجل من بني امرئ القيس يقال له روق مجاورا في بكر بن وائل باليمامة، فأغاروا على إبله و غدروا به، فأتى المخبل يستمنحه، فقال له: إن شئت فاختر خير ناقة في إبلي فخذها، و إن شئت سعيت لك. فقال: أن تسعى(3) بي أحبّ إليّ. فخرج المخبل فوقف على نادي قومه، ثم قال:
أدّوا إلى روح بن حسّ *** ان بن حارثة بن منذر
كوماء مدفاة كأنّ *** ضروعها حمّاء أجفر(4)
تأبى إلى بصص تس *** حّ المحض باللبن الفضنفر(5)
فقالوا: نعم و نعمة. فجمعوا له بينهم الناقة و الناقتين من رجلين حتى أعطوه بعدّة/إبله.
و قال ابن حبيب في هذه الرواية: «كان رجل من بني ضبة».
اسل عن ليلى علاك المشيب *** و تصابي الشيخ شيء عجيب
و إذا كان النسيب بسلمى *** لذّ في سلمى و طاب النسيب
إنما شبّهتها إذ تراءت *** و عليها من عيون رقيب
بطلوع الشّمس في يوم دجن *** بكرة أو حان منها غروب
إنني فاعلم و إن عزّ أهلي *** بالسّويداء الغداة غريب(6)
الشعر لغيلان بن سلمة الثّقفيّ، وجدت ذلك في جامع شعره بخط أبي سعيد السكريّ، و الغناء لابن زرزور الطائفي، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، عن يحيى المكي، و فيه ليونس الكاتب لحن ذكره في كتابه، و لم يجنّسه(7).
ص: 136
غيلان بن سلمة بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسيّ - و هو ثقيف. و أمّه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أخت أمية بن شمس بن عبد مناف.
أدرك الإسلام فأسلم بعد فتح الطائف، و لم يهاجر، و أسلم ابنه عامر قبله، و هاجر، و مات بالشام في طاعون عمواس(1) و أبوه حيّ.
و غيلان شاعر مقل، ليس بمعروف في الفحول.
و بنته بادية بنت غيلان الّتي قال هيت المخنّث لعمر بن أم سلمة أمّ المؤمنين، أو لأخيه سلمة(2): «إن فتح اللّه عليكم الطائف فسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يهب لك بادية بنت غيلان، فإنها كحلاء؛ شموع نجلاء(3)، خمصانة هيفاء(4)، إن مشت تثنّت، و إن جلست تبنت(5)، و إن تكلّمت تغنت، تقبل بأربع و تدبر بثمان، و بين فخذيها كالإناء المكفأ(6)».
و غيلان فيما يقال أحد من قال من قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و آله: لَوْ لاٰ نُزِّلَ هٰذَا الْقُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ .
قال ابن الكبيّ: حدّثني أبي، قال: تزوّج غيلان بن سلمة خالدة بنت أبي العاص، /فولدت له عمّارا و عامرا، فهاجر عمّار إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فلما بلغه خبره عمد خازن كان لغيلان إلى مال له فسرقه و أخرجه من حصنه فدفنه، و أخبر غيلان أنّ ابنه عمّارا سرق ماله و هرب به، فأشاع ذلك غيلان و شكاه(7) إلى الناس، و بلغ خبره عمارا فلم يعتذر إلى أبيه، و لم يذكر له براءته مما قيل له، فلما شاع ذلك جاءت أمه لبعض ثقيف إلى غيلان، فقالت له: أيّ شيء لي عليك إن دللتك على مالك؟ قال: ما شئت. قالت: تبتاعني و تعتقني؟ قال: ذلك لك. قالت: فاخرج
ص: 137
معي. فخرج معها، فقالت: إني رأيت عبدك فلانا قد احتفر هاهنا ليلة كذا و كذا و دفن شيئا، و إنه لا يزال يعتاده و يراعيه، و يتفقّده في اليوم مرّات، و ما أراه إلا المال. فاحتفر الموضع فإذا هو بماله، فأخذه و ابتاع الأمة فأعتقها، و شاع الخبر في الناس حتّى بلغ ابنه عمارا، فقال: و اللّه لا يراني غيلان أبدا، و لا ينظر في وجهي. /و قال:
حلفت لهم بما يقول محمّد *** و باللّه إنّ اللّه ليس بغافل
برئت من المال الّذي يدفنونه *** أبرّئ نفسي أن ألطّ بباطل(1)
و لو غير شيخي من معدّ يقوله *** تيممته بالسيف غير مواكل
و كيف انطلاقي بالسّلاح إلى امرئ *** تبشّره بي يبتدرن قوابلي
فلما أسلم غيلان، خرج عامر و عمّار مغاضبين له مع خالد بن الوليد، فتوفي عامر بعمواس، و كان فارس ثقيف يومئذ، و هو صاحب شنوءة يوم تثليث(2)، و هو قتل سيّدهم جابر بن سنان أخا دهنة، فقال غيلان يرثي عامرا:
عيني تجود بدمعها الهتّان *** سحّا و تبكي فارس الفرسان(3)
يا عام من للخيل لمّا أجحمت *** عن شدّة مرهوبة و طعان
لو أستطيع جعلت منّي عامرا *** بين الضّلوع و كلّ حيّ فان
يا عين بكّي ذا الحزامة عامرا *** للخيل يوم تواقف و طعان
و له بتثليثات شدّة معلم *** منه و طعنة جابر بن سنان(4)
فكأنّه صافي الحديدة مخذم *** مما يحير الفرس للباذان(5)
نسخت من كتاب أبي سعيد السّكّري، قال: كان لغيلان بن سلمة جار من باهلة، و كانت له إبل يرعاها راعيه في الإبل مع إبل غيلان، فتخطّى بعضها إلى أرض لأبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتّب، فضرب أبو عقيل الراعي و استخفّ به، فشكا الباهليّ ذلك إلى غيلان، فقال لأبي عقيل:
ألا من يرى رأى امرئ ذي قرابة *** أبي صدره بالضغن إلا تطلعا
فسلمك أرجو لا العداوة إنّما *** أبوك أبي و إنّما صفقنا معا(6)
و إنّ ابن عم المرء مثل سلاحه *** يقيه إذا لاقى الكميّ المقنّعا
فإن يكثر المولى فإنّك حاسد *** و إن يفتقر لا يلف عندك مطمعا
فهذا وعيد و ادّخار فإن تعد *** و جدّك أعلم ما تسلّفت أجمعا(7)
ص: 138
و نسخت من كتابه، قال: لما أسنّ غيلان و كثرت أسفاره ملّته زوجته، و تجنّت عليه، و أنكر أخلاقها، فقال فيها:
يا ربّ مثلك في النّساء غريرة *** بيضاء قد صبّحتها بطلاق
لم تدر ما تحت الضّلوع و غرّها *** مني تحمّل عشرتي و خلاقي
و نسخت من كتابه: إنّ بني عامر بن ربيعة جمعوا جموعا كثيرة من أنفسهم و أحلافهم، ثم ساروا إلى ثقيف بالطّائف، و كانت بنو نصر بن معاوية أحلافا لثقيف، فلما بلغ ثقيفا مسير بني عامر استنجدوا بني نصر، فخرجت ثقيف إلى بني عامر و عليهم يومئذ غيلان بن سلمة بن معتّب، فلقوهم و قاتلتهم ثقيف قتالا شديدا، فانهزمت بنو عامر بن ربيعة و من كان معهم، و ظهرت عليهم ثقيف، فأكثروا فيهم القتل، فقال غيلان في ذلك، و يذكر/تخلف بني نصر عنهم:
ودّع بذمّ إذا ما حان رحلتنا *** أهل الحظائر من عوف و دهمانا
القائلين و قد حلّت بساحتهم *** جسر تحسحس عن أولاد هصّانا(1)
و القائلين و قد رابت و طابهم *** أسيف عوف ترى أم سيف غيلانا(2)
أغنوا الموالي عنّا لا أبا لكم *** إنّا سنعني صريح القوم من كانا(3)
لا يمنع الخطر المظلوم قحمته *** حتّى يرى... بالعين من كانا(4)
و نسخت من كتابه، قال: جمعت خثعم جموعا من اليمن، و غزت ثقيفا بالطائف؛ فخرج إليهم غيلان بن سلمة في ثقيف، فقاتلهم قتالا شديدا، فهزمهم و قتل منهم مقتلة عظيمة، و أسر عدّة منهم، ثم منّ عليهم و قال في ذلك:
/
ألا يا أخت خثعم خبّرينا *** بأيّ بلاء قوم تفخرينا
جلبنا الخيل من أكناف وجّ *** و ليث نحوكم بالدّارعينا(5)
رأيناهنّ معلمة رواحا *** يقيتان الصباح و معتدينا(6)
ص: 139
فأمست مسي خامسة جميعا *** تضابع في القياد و قد وجينا(1)
و قد نظرت طوالعكم إلينا *** بأعينهم و حققنا الظنونا
إلى رجراجة في الدار تعشى *** إذا استنّت عيون الناظرينا(2)
تركن نساءكم في الدار نوحا *** يبكّون البعولة و البنينا(3)
جمعتم جمعكم فطلبتمونا *** فهل أنبئت حال الطّالبينا
أخبرنا محمّد بن خلف وكيع، قال: أخبرني محمّد بن سعد الشامي، قال: حدّثني أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن عمرو الثقفي، قال: خرجت مع كيسان بن أبي سليمان أسايره، فأنشدني شعر غيلان بن سلمة، ما أنشدني لغيره، حتّى صدرنا عن الأبلّة، ثم مرّ بالطّف و هو يريد الطّابق(4)، فأنشدني له:
/
و ليلة أرّقت صحابك بالطّ *** فّ و أخرى بجنب ذي حسم(5)
فالجسر فالقصران فالنّهر المرب *** دّ بين النّخيل و الأجم(6)
معانق الواسط المقدّم أو *** أدنو من الأرض غير مقتحم(7)
أستعمل العنس بالقياد إلى ال *** آفاق أرجو نوافل الطّعم(8)
أخبرني عمّي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال:
حدّثني عمر بن عبد العزيز بن أبي ثابت عن أبيه، قال:
لما حضرت غيلان بن سلمة الوفاة، و كان قد أحصن عشرا من نساء العرب في الجاهلية، قال: «يا بنيّ، قد أحسنت خدمة أموالكم، و أمجدت أمّهاتكم فلن تزالوا بخير ما غذوتم من كريم و غذا منكم، فعليكم ببيوتات العرب، فإنها معارج الكرم، و عليكم بكلّ رمكاء(9) مكينة ركينة، أو بيضاء رزينة، في خدر(10) بيت يتبع، أو جدّ
ص: 140
يرتجى، و إيّاكم و القصيرة الرّطلة(1)، فإنّ أبغض الرجال إليّ أن يقاتل/عن إبلي أو يناضل عن حسبي، القصير الرّطل». ثم أنشأ يقول:
و حرّة قوم قد تنوّق فعلها *** و زيّنها أقوامها فتزيّنت
رحلت إليها لا تردّ وسيلتي *** و حمّلتها من قومها فتحمّلت
أخبرني عمي قال: حدّثنا محمّد بن سعد الكراني، قال:
كان غيلان بن سلمة الثّقفيّ قد وفد إلى كسرى فقال له ذات يوم: يا غيلان، أيّ ولدك أحبّ إليك؟ قال:
«الصغير حتى يكبر، و المريض حتّى يبرأ، و الغائب حتى يقسم». قال له: ما غذاؤك؟ قال: خبز البر. قال: قد عجبت من أن يكون لك هذا العقل و غذاؤك غذاء العرب، إنّما البرّ جعل لك هذا العقل.
قال: الكراني، قال العمري: روى الهيثم بن عدي هذا الخبر أتمّ من هذه الرواية، و لم أسمعه منه. قال الهيثم: حدّثني أبي، قال:
خرج أبو سفيان بن حرب في جماعة من قريش و ثقيف يريدون(2) العراق بتجارة، فلما ساروا ثلاثا جمعهم أبو سفيان، فقال لهم: إنّا من مسيرنا هذا لعلى خطر، ما قدومنا على ملك جبّار لم يأذن لنا في القدوم عليه، و ليست بلاده لنا بمتجر؟! و لكن أيّكم يذهب بالعير، فإن أصيب فنحن برآء من دمه، و إن غنم فله نصف الرّبح؟ فقال غيلان بن سلمة: دعوني إذا فأنا لها. فدخل الوادي، فجعل يطوفه و يضرب فروع الشجر و يقول:
و لو رآني أبو غيلان إذ حسرت *** عني الأمور إلى أمر له طبق(3)
لقال رغب و رهب يجمعان معا *** حبّ الحياة و هول النّفس و الشفق(4)
إمّا بقيت على مجد و مكرمة *** أو أسوة لك فيمن يهلك الورق(5)
ثم قال: أنا صاحبكم. ثم خرج في العير، و كان أبيض طويلا جعدا ضخما، فلما قدم بلاد كسرى، تخلّق(6)و لبس ثوبين أصفرين، و شهر أمره، و جلس بباب كسرى حتّى أذن له، فدخل عليه و بينهما شبّاك من ذهب، فخرج إليه التّرجمان؛ و قال له: يقول لك الملك: من أدخلك بلادي بغير إذني؟ فقال: قل له: لست من أهل عداوة لك، و لا أتيتك جاسوسا لضدّ من أضدادك، و إنما جئت بتجارة تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك، و إن لم تردها و أذنت في بيعها لرعيّتك بعتها، و إن لم تأذن في ذلك رددتها. قال: فإنّه ليتكلّم إذ سمع صوت كسرى فسجد، فقال له الترجمان: يقول لك الملك: لم سجدت؟ فقال: سمعت صوتا عاليا حيث لا ينبغي لأحد أن يعلو صوته إجلالا
ص: 141
للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع الصّوت هناك غير الملك فسجدت إعظاما له. قال: فاستحسن كسرى ما فعل، و أمر له بمرفقة توضع تحته(1)، فلما أتى بها رأى عليها صورة الملك، فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى و استحمقه، و قال للترجمان: قل له: إنّما بعثنا إليك بهذه لتجلس عليها. قال: قد علمت، و لكنّي لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك، فلم يكن حقّ صورته على مثلي أن يجلس عليها، و لكن كان حقّها التعظيم، فوضعتها على رأسي، لأنّه أشرف أعضائي و أكرمها عليّ. فاستحسن فعله جدّا، ثم قال له: أ لك ولد؟ قال: نعم. قال: فأيّهم أحبّ إليك؟ قال: الصّغير حتى يكبر، و المريض حتّى يبرأ، و الغائب حتى يئوب. فقال كسرى: زه، ما أدخلك عليّ و دلّك على هذا القول و الفعل إلا/حظّك، فهذا فعل الحكماء و كلامهم، و أنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟ قال: خبز البرّ. قال: هذا العقل من البرّ، لا من اللبن و التمر. ثم اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها، و كساه و بعث معه من الفرس من بنى له أطما(2) بالطّائف، فكان أوّل أطم بني بها.
/أخبرني محمّد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا الزبير بن بكّار، قال: حدّثني عمر بن أبي بكر الموصليّ عن عبد اللّه بن مصعب عن أبيه قال:
استشهد نافع بن سلمة الثّقفي مع خالد بن الوليد بدومة الجندل، فجزع عليه غيلان و كثر بكاؤه، و قال يرثيه:
ما بال عيني لا تغمّص ساعة *** إلا اعترتني عبرة تغشاني
أرعى نجوم الليل عند طلوعها *** وهنا و هنّ من الغروب دوان(3)
يا نافعا من للفوارس أحجمت *** عن فارس يعلو ذرى الأقران
فلو استطعت جعلت منّي نافعا *** بين اللّهاة و بين عكد لساني(4)
قال: و كثر بكاؤه عليه، فعوتب في ذلك، فقال: و اللّه لا تسمح عيني بمائها فأصنّ به على نافع. فلمّا تطاول العهد انقطع ذلك من قوله، فقيل له فيه، فقال: «بلي نافع، و بلي الجرع، و فني و فنيت الدموع، و اللّحاق به قريب».
ألا علّلاني قبل نوح الوادب *** و قبل بكاء المعولات القرائب
و قبل ثوائي في تراب و جندل *** و قبل نشوز النفس فوق الترائب(5)
فإن تأتني الدّنيا بيومي فجاءة *** تجدني و قد قضّيت منها مآربي
الشعر لحاجز الأزديّ، و الغناء لنبيه هزج، بالبنصر، عن الهشامي.
ص: 142
هو حاجز بن عوف بن الحارث بن الأخثم بن عبد اللّه بن ذهل بن مالك بن سلامان بن مفرّج بن مالك بن زهران بن عوف بن ميدعان بن مالك بن نصر بن الأزد. و هو حليف لبني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، و في ذلك يقول:
قومي سلامان إما كنت سائلة *** و في قريش كريم الحلف و الحسب
إنّي متى أدع مخزوما تري عنقا *** لا يرعشون لضرب القوم من كثب(1)
يدعى المغيرة في أولى عديدهم *** أولاد مرأسة ليسوا من الذنب(2)
و هو شاعر جاهليّ مقلّ، ليس من مشهوري الشعراء، و هو أحد الصعاليك المغيرين على قبائل العرب، و ممن كان يعدو على رجليه عدوا يستبق به الخيل.
أخبرني محمّد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثني العباس بن هشام، عن أبيه، عن عوف بن الحارث الأزدي، أنه قال لابنه حاجز بن عوف: أخبرني يا بنيّ بأشدّ عدوك. قال: نعم، أفزعتني خثعم فنزوت نزوات، ثم استفزّتني الخيل و اصطفّ لي ظبيان، فجعلت أنهنههما(3) بيديّ عن الطّريق، و منعاني/أن أتجاوزها في العدو لضيق الطريق حتى اتسع و اتسعت بنا، فسبقتهما. فقال له: فهل جاراك أحد في العدو؟ قال: ما رأيت أحدا جاراني إلاّ أطيلس أغيبر من النّقوم(4)، فإنا عدونا معا فلم أقدر على سبقه.
- قال: النّقوم(4) بطن من الأزد من ولد ناقم، و اسمه عامر بن حوالة بن الهنو بن الأزد -
من كتاب بخط المرهبيّ الكوكبيّ، قال: أغار عوف بن الحارث بن الأخثم على بني هلال بن عامر بن صعصعة في يوم داج مظلم، فقال لأصحابه: انزلوا حتى أعتبر لكم. فانطلق حتى أتى صرما من بني هلال(5)، و قد عصب على يد فرسه عصابا ليظلع(6) فيطمعوا فيه، فلما أشرف عليهم استرابوا به، فركبوا في طلبه، و انهزم من بين أيديهم، و طمعوا فيه، فهجم بهم على أصحابه بني سلامان، فأصيب يومئذ بنو هلال، و ملأ القوم أيديهم من الغنائم(7)، ففي ذلك يقول حاجز بن عوف:
ص: 143
صباحك و اسلمى عنا أماما *** تحيّة وامق و عمي ظلاما
برهرهة يحار الطرف فيها *** كحقّة تاجر شدّت ختاما(1)
فإن تمس ابنة السهميّ منّا *** بعيدا لا تكلّمنا كلاما
فإنّك لا محالة أن تريني *** و لو أمست حبالكم رماما
بناجية القوائم عيسجور *** تدارك نيّها عاما فعاما(2)
سلي عنّي إذا اغبّرت جمادي *** و كان طعام ضيفهم الثماما(3)
ألسنا عصمة الأضياف حتى *** يضحّى مالهم نفلا تواما(4)
/أبى ربع الفوارس يوم داج *** و عمّي مالك وضع السّهاما(5)
فلو صاحبتنا لرضيت منا *** إذا لم تغبق المائة الغلاما(6)
يعني بقوله: وضع السهام، أن الحارث بن عبد اللّه بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صقعب بن دهمان بن نصر بن زهران، كان يأخذ من جميع الأزد إذا غنموا الربع، لأنّ الرئاسة في الأزد كانت لقومه، و كان يقال لهم: «الغطاريف» و هم أسكنوا الأسد بلد السراة، و كانوا يأخذون للمقتول منهم ديتين و يعطون غيرهم دية واحدة إذا وجبت عليهم، فغزتهم بنو فقيم بن عديّ بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فظفرت بهم، فاستغاثوا ببني سلامان فأغاثوهم، حتّى هزموا بني فقيم و أخذوا منهم الغنائم و سلبوهم، فأراد الحارث أن يأخذ الرّبع كما كان يفعل، فمنعه مالك بن ذهل بن مالك بن سلامان، و هو عمّ أبي حاجز، و قال: «هيهات، ترك الرّبع غدوة»(7) فأرسلها مثلا، فقال له الحارث: أ تراك يا مالك تقدر أن تسود؟ فقال: هيهات، الأزد أمنع من ذاك. فقال: أعطني و لو جعبا - و الجعب:
البعر في لغتهم؛ لئلا تسمع العرب أنك منعتني. فقال مالك: «فمن سماعها أفرّ»(8)، و منعه الربيع، فقال حاجز في ذلك:
ألا زعمت أبناء يشكر أننا *** بربعهم باءوا هنالك ناضل(9)
/ستمنعنا منكم و من سوء صنعكم *** صفائح بيض أخلصتها الصياقل
و أسمر خطّيّ إذا هزّ عاسل *** بأيدي كماة جرّبتها القبائل(10)
/و قال أبو عمرو: جمع حاجز ناسا من فهم و عدران، فدلّهم على خثعم، فأصابوا منهم غرّة و غنموا ما شاءوا، فبلغ حاجرا أنهم يتوعدونه و يرصدونه، فقال:
ص: 144
إنّي من إرعادكم و بروقكم *** و إيعادكم بالقتل صمّ مسامعي(1)
و إني دليل غير مخف دلالتي *** على ألف بيت جدّهم غير خاشع
ترى البيض يركضن المجاسد بالضّحى *** كذا كلّ مشبوح الذراعين نازع(2)
على أيّ شيء لا أبا لأبيكم *** تشيرون نحوي نحوكم بالأصابع
و قال أبو عمرو: أغارت خثعم على بني سلامان و فيهم عمرو بن معديكرب، و قد استنجدت به خثعم على بني سلامان، فالتقوا و اقتتلوا، فطعن عمرو بن معديكرب حاجزا فأنفذ فخذه، فصاح حاجز: يا آل الأزد! فندم عمرو و قال: خرجت غازيا و فجعت أهلي. و انصرف، فقال عزيل الخثعمي يذكر طعنة عمرو حاجزا، فقال:
أعجز حاجز منّا و فيه *** مشلشلة كحاشية الإزار(3)
فعز عليّ ما أعجزت منّي *** و قد أقسمت لا يضربك ضار(4)
فأجابه حاجز فقال:
إن تذكروا يوم القريّ فإنه *** بواء بأيام كثير عديدها(5)
/فنحن أبحنا بالشخيصة واهنا *** جهارا فجئنا بالنساء نقودها(6)
و يوم كراء قد تدارك ركضنا *** بني مالك و الخيل صعر خدودها(7)
و يوم الأراكات اللواتي تأخّرت *** سراة بني لهبان يدعو شريدها(8)
و نحن صبحنا الحيّ يوم تنومة *** بملمومة يهوى الشجاع وئيدها(9)
و يوم شروم قد تركنا عصابة *** لدى جانب الطرفاء حمرا جلودها(10)
فما رغمت حلفا لأمر يصيبها *** من الذل إلا نحن رغما نزيدها
حاجز شامة، فنظرت إليها امرأة من خثعم، فصاحت: يا آل خثعم، هذا حاجز. فطاروا يتبعونه، فقالت لهم عجوز كانت ساحرة: أكفيكم سلاحه أو عدوه. فقالوا: لا نريد أن تكفينا عدوه فإن معنا عوفا و هو يعدو مثله، و لكن اكفينا سلاحه. فسحرت لهم سلاحه و تبعه عوف بن الأغر(1) بن همام بن الأسرّ بن عبد الحارث بن واهب بن مالك بن صعب بن غنم بن الفزع الخثعمي، حتى قاربه، فصاحت به خثعم: يا عوف ارم حاجزا، فلم يقدم عليه، و جبن، فغضبوا و صاحوا: يا حاجز، لك الذمام، فاقتل عوفا فإنه قد فضحنا. فنزع في قوسه ليرميه، فانقطع وتره، لأنّ المرأة الخثعمية كانت قد سحرت سلاحه، فأخذ قوس بشير ابن أخيه فنزع فيها فانكسرت، /و هربا من القوم ففاتاهم و وجد حاجز بعيرا في طريقه فركبه فلم يسر في الطريق الّذي يريده و نحا به نحو خثعم؛ فنزل حاجز/عنه، فمرّ فنجا و قال في ذلك:
فدى لكما رجليّ أمي و خالتي *** بسعيكما بين الصفا و الأثائب(2)
أوان سمعت القوم خلفي كأنّهم *** حريق أباء في الرّياح الثواقب
سيوفهم تغشى الجبان و نبلهم *** يضيء لدى الأقوام نار الحباحب(3)
فغير قتالي في المضيق أغاثني *** و لكن صريح العدو غير الأكاذب
نجوت نجاء لا أبيك تبثه *** و ينجو بشير نجو أزعر خاضب(4)
وجدت بعيرا هاملا فركبته *** فكادت تكون شرّ ركبة راكب(5)
و قال أبو عمرو: اجتاز قوم حجّاج من الأزد ببني هلال بن عامر بن صعصعة، فعرفهم ضمرة بن ماعز سيد بني هلال، فقتلهم هو و قومه، و بلغ ذلك حاجزا، فجمع جمعا من قومه و أغار على بني هلال فقتل فيهم و سبى منهم، و قال في ذلك يخاطب ضمرة بن ماعز:
يا ضمر هل نلناكم بدمائنا *** أم هل حذونا نعلكم بمثال(6)
نبكي لقتلى من فقيم قتّلوا *** فاليوم تبكي صادقا لهلال
/و لقد شفاني أن رأيت نساءكم *** يبكين مردفة على الأكفال(7)
يا ضمر إن الحرب أضحت بيننا *** لقحت على الدكّاء بعد حيال(8)
ص: 146
قال أبو عمرو: خرج حاجز في بعض أسفاره فلم يعد، و لا عرف له خبر، فكانوا يرون أنه مات عطشا أو ضلّ، فقالت أخته ترثيه:
أ حيّ حاجز أم ليس حيّا *** فيسلك بين جندف و البهيم(1)
و يشرب شربة من ماء ترج *** فيصدر مشية السبع الكليم(2)
أخبرني هاشم بن محمّد، قال: حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة، قال:
كان حاجز الأزدي مع غاراته كثير الفرار، لقي عامرا فهرب منهم فنجا، و قال:
ألا هل أتى ذات القلائد فرّتي *** عشية بين الجرف و البحر من بعر(3)
عشية كادت عامر يقتلونني *** لدى طرف السلماء راغية البكر(4)
فما الظبي أخطت خلفة الصقر رجله *** و قد كاد يلقى الموت في خلفة الصقر(5)
بمثلي غداة القوم بين مقنّع *** و آخر كالسكران مرتكز يفري(6)
/و فرّ من خثعم و تبعه المرقع الخثعميّ ثم الأكلبيّ، ففاته حاجز، و قال في ذلك:
و كأنما تبع الفوارس أرنبا *** أو ظبي رابية خفافا أشعبا(7)
و كأنّما طردوا بذي نمراته *** صدعا من الأروى أحسّ مكلبا(8)
أعجزت منهم و الأكفّ تنالني *** و مضت حياضهم و آبوا خيّبا
أدعو شنوءة غثّها و سمينها *** و دعا المرقّع يوم ذلك أكلبا(9)
و قال يخاطب(10) عوض أمسى:
أبلغ أميمة عوض أمسّى بزّنا *** سلبا و ما إن سرّها ننكبا(11)
/لو لا تقارب رأفة و عيونها *** حمشا مصعدا و مصوّبا(12)
ص: 147
يا دار من ماويّ بالسّهب *** بنيت على خطب من الخطب(1)
إذ لا ترى إلا مقاتلة *** و عجانسا يرقلن بالرّكب(2)
/و مدجّجا يسعى بشكّته *** محمرّة عيناه كالكلب(3)
و معاشرا صدأ الحديد بهم *** عبق الهناء مخاطم الجرب(4)
الشعر للحارث بن الطفيل الدّوسي، و الغناء لمعبد، رمل بالبنصر، من رواية يحيى المكي، و فيه لابن سريج خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و اللّه أعلم.
ص: 148
هو الحارث بن الطفيل بن عمرو بن عبد اللّه بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عبد اللّه بن عدثان بن عبيد اللّه بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد اللّه بن مالك بن نصر بن الأزد، شاعر فارس، من مخضرمي شعراء الجاهلية و الإسلام، و أبوه الطفيل بن عمرو شاعر أيضا، و هو أوّل من وفد من دوس على النبي صلّى اللّه عليه و سلم، فأسلم و عاد إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام.
أخبرني عمي قال: حدّثنا الحزنبل بن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه، و اللفظ في الخبر له، و اللّه أعلم.
و أخبرني به محمّد بن الحسن بن دريد قال: حدّثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه:
إنّ الطفيل بن عمرو بن عبد اللّه بن مالك الدوسيّ خرج حتى أتى مكة حاجّا، و قد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هاجر إلى المدينة، و كان رجلا يعصو - و العاصي البصير بالجراح، و لذلك يقال لولده: بنو العاصي - فأرسلته قريش إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم و قالوا: انظر لنا ما هذا الرجل، و ما عنده؟ فأتى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فعرض عليه الإسلام، فقال له: إنّي رجل شاعر، فاسمع ما أقول. فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلم: هات. فقال:
لا و إله الناس نألم حربهم *** و لو حاربتنا منهب و بنو فهم
و لمّا يكن يوم تزول نجومه *** تطير به الرّكبان ذو نبأ ضخم(1)
/أسلما على خسف و لست بخالد *** و ما لي من واق إذا جاءني حتمي
فلا سلم حتّى تحفز الناس خيفة *** و يصبح طير كانسات على لحم(2)
فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: و أنا أقول فاستمع، ثم قال: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ، اَللّٰهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. ثم قرأ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، و دعاه إلى الإسلام فأسلم، و عاد إلى قومه، فأتاهم في ليلة مطيرة ظلماء، حتى نزل بروق، و هي قرية عظيمة لدوس فيها منبر، فلم يبصر أين يسلك، فأضاء له نور في طرف سوطه، فبهر الناس ذلك النور، و قالوا: نار أحدثت على القدوم ثم على بروق/لا تطفأ. فعلقوا يأخذون بسوطه فيخرج النور من بين أصابعهم، فدعا أبويه إلى الإسلام فأسلم أبوه و لم تسلم أمّة، و دعا قومه فلم يجبه إلا أبو هريرة، و كان هو و أهله في جبل يقال له ذو رمع(3)، فلقيه بطريق يزحزح، و بلغنا أنه كان يزحف في العقبة من الظلمة و يقول:
يا طولها من ليلة و عناءها *** على أنها من بلدة الكفر نجّت
ص: 149
ثم أتى الطفيل بن عمرو النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و معه أبو هريرة، فقال له: ما وراءك؟ فقال: بلاد حصينة و كفر شديد.
فتوضأ النبي صلّى اللّه عليه و سلم ثم قال: «اللهم اهد دوسا» ثلاث مرات. قال أبو هريرة: فلما صلّى النبي صلّى اللّه عليه و سلم خفت أن يدعو على قومي فيهلكوا، فصحت: وا قوماه! فلما دعا لهم سرّي عني، و لم يحب الطفيل أن يدعو لهم لخلافهم عليه، فقال له: لم أحبّ هذا منك يا رسول اللّه. فقال له: إن فيهم مثلك كثيرا. و كان جندب بن عمرو بن حممة/بن عوف بن غويّة بن سعد بن الحارث بن ذبيان بن عوف بن منهب بن دوس يقول في الجاهلية: إن للخلق خالقا لا أعلم ما هو.
فخرج حينئذ في خمسة و سبعين رجلا حتى أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلم. فأسلم و أسلموا. قال أبو هريرة: ما زلت ألوي الآجرة(1)بيدي، ثم لويت على وسطي حتى كأنّي بجاد(2) أسود، و كان جندب يقرّبهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم رجلا رجلا، فيسلمون.
و هذه الأبيات الّتي فيها الغناء من قصيدة للحارث بن الطفيل، قالها في حرب كانت بين دوس و بين بني الحارث بن عبد اللّه بن عامر بن الحرث بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران.
و كان سبب ذلك فيما ذكر عن أبي عمرو الشيباني أن ضماد بن مسرّح بن النعمان بن الجبّار بن سعد بن الحارث بن عبد اللّه بن عامر بن الحارث بن يشكر، سيد آل الحارث، كان يقول لقومه: أحذركم جرائر أحمقين من آل الحارث يبطلان رئاستكم. و كان ضماد يتعيف(3)، و كان آل الحارث يسودون العشيرة كلّها، فكانت دوس أتباعا لهم، و كان القتيل من آل الحارث تؤخذ له ديتان، و يعطون إذا لزمهم عقل قتيل من دوس دية واحدة، فقال غلامان من بني الحارث يوما: ائتوا شيخ بني دوس و زعيمهم الّذي ينتهون إلى أمره فلنقتله(4). فأتياه، فقالا: يا عم، إن لنا أمرا نريد أن تحكم بيننا فيه. فأخرجاه من منزله، فلما تنحيا به قال له أحدهما: يا عم، إن رجلي قد دخلت فيها شوكة، فأخرجها لي. فنكس الشيخ رأسه لينتزعها و ضربه الآخر فقتله، فعمدت دوس إلى سيّد بني الحارث، و كان نازلا بقنونى(5) فأقاموا له في غيضة في الوادي، و سرحت إبله فأخذوا/منها ناقة فأدخلوها الغيضة و عقلوها، فجعلت الناقة ترغو و تحنّ إلى الإبل، فنزل الشيخ إلى الغيضة ليعرف شأن الناقة، فوثبوا عليه فقتلوه، ثم أتوا أهله، و عرفت بنو الحارث الخبر، فجمعوا لدوس و غزوهم فنذروا(6) بهم فقاتلوهم فتناصفوا، و ظفرت بنو الحارث بغلمة من دوس فقتلوهم، ثم إنّ دوسا اجتمع منهم تسعة و سبعون رجلا، فقالوا: من يكلّمنا، من يمانينا(7) حتّى نغزو أهل ضماد؟ فكان ضماد قد أتى عكاظ، فأرادوا أن يخالفوه/إلى أهله، فمرّوا برجل من دوس و هو يتغنى:
فإنّ السلم زائدة نواها *** و إنّ نوى المحارب لا تروب(8)
فقالوا: هذا لا يتبعكم، و لا ينفعكم أن تبعكم، أ ما تسمعون غناءه في السّلم. فأتوا حممة بن عمرو، فقالوا: أرسل إلينا بعض ولدك. فقال: و أنا إن شئتم. و هو عاصب حاجبيه من الكبر، فأخرج معهم ولده جميعا، و خرج معهم،
ص: 150
و قال لهم: تفرّقوا فرقتين، فإذا عرف بعضكم وجوه بعض فأغيروا، و إياكم و الغارة حتّى تتفارقوا لا يقتل بعضكم بعضا. ففعلوا، فلم يلتفتوا حتّى قتلوا ذلك الحيّ من آل الحارث، و قتلوا ابنا لضماد، فلما قدم قطع أذني ناقته و ذنبها، و صرخ في آل الحارث، فلم يزل يجمعهم سبع سنين و دوس تجتمع بازائه، و هم مع ذلك يتغاورون(1)و يتطرّف بعضهم بعضا(2)، و كان ضماد قد قال لابن أخ له يكنى أبا سفيان لما أراد أن يأتي عكاظ: إن كنت تحرز(3)أهلي، و إلاّ أقمت عليهم. فقال له: أنا أحرزهم من مائة؛ فإن زادوا فلا. و كانت تحت ضماد امرأة من دوس، و هي أخت مربان(4) بن سعد الدوسيّ الشاعر، فلما أغارت دوس على بني الحارث قصدها/أخوها، فلاذت به، و ضمّت فخذها على ابنها من ضماد، و قالت: يا أخي اصرف عنّي القوم، فإنّي حائض لا يكشفوني. فنكز سية القوس في درعها، و قال: لست بحائض، و لكن في درعك سخلة بكذا من آل الحارث، ثم أخرج الصبيّ فقتله، و قال في ذلك:
ألا هل أتى أمّ الحصين و لو نأت *** خلافتنا في أهله ابن مسرّح
و نضرة تدعو بالفناء و طلقها *** ترائبه ينفحن من كلّ منفح(5)
و فرّ أبو سفيان لما بدا لنا *** فرار جبان لأمّه الذلّ مقرح(6)
قال: فلم يزالوا يتغاورون حتّى كان يوم حضرة الوادي، فتحاشد الحيّان، ثم أتتهم بنو الحارث و نزلوا لقتالهم، و وقف ضماد بن مسرّح في رأس الجبل، و أتتهم دوس. و أنزل خالد بن ذي السبلة بناته هندا و جندلة و فطيمة و نضرة، فبنين بيتا، و جعلن يستقين الماء، و يحضّضن(7). و كان الرجل إذا رجع فارّا أعطينه مكحلة و مجمرا(8)، و قلن: معنا فانزل - أي إنك من النساء - و جعلت هند بنت خالد تحرّضهم و ترتجز و تقول:
من رجل ينازل الكتيبة *** فذلكم تزني به الحبيبة
فلما التقوا رمى رجل من دوس رجلا من آل الحارث، فقال: خذها و أنا أبو الزبن(9)، فقال ضماد و هو في رأس الجبل و بنو الحارث بحضرة الوادي: يا قوم زبنتم فارجعوا. ثم رجل آخر(10) من دوس، فقال: خذها و أنا أبو ذكر(11). فقال ضماد: ذهب القوم/بذكرها، فاقبلوا رأيي و انصرفوا. فقال: قد جبنت يا ضماد. ثم التقوا، فأبيدت بنو الحارث. هذه رواية أبي عمرو.
و أما الكلبي فإنه قال: كان عامر بن بكر بن يشكر يقال له الغطريف و يقال لبنيه الغطاريف، و كان لهم ديتان،
ص: 151
و لسائر قومه دية، و كانت لهم على دوس إتاوة يأخذونها كلّ سنة، حتى إن كان الرجل منهم ليأتي بيت الدّوسيّ فيضع سهمه أو نعله على الباب، ثم يدخل، فيجيء/الدوسي، فإذا أبصر ذلك انصرف و رجع عن بيته، حتّى أدرك عمرو بن حممة بن عمرو فقال لأبيه: ما هذا التطوّل(1) الّذي يتطوّل به إخواننا علينا؟ فقال: يا بنيّ، إن هذا شيء قد مضى عليه أوائلنا، فأعرض عن ذكره. فأعرض عن هذا الأمر، و إنّ رجلا من دوس عرّس بابنة عم له، فدخل عليها رجل من بني عامر بن يشكر، فجاء زوجها فدخل على اليشكريّ، ثم أتى عمرو بن حممة فأخبره بذلك، فجمع دوسا و قام فيهم، فحرّضهم و قال: إلى كم تصبرون لهذا الذلّ، هذه بنو الحارث، تأتيكم الآن تقاتلكم، فاصبروا تعيشوا كراما أو تموتوا كراما. فاستجابوا له، و أقبلت إليهم بنو الحارث فتنازلوا، و اقتتلوا، فظفرت بهم دوس، و قتلتهم كيف شاءت، فقال رجل من دوس يومئذ:
قد علمت صفراء حرشاء الذيل(2) *** شرّابة المحض تروك للقيل(3)
ترخى فروعا مثل أذناب الخيل *** أنّ بروقا دونها كالويل
و دونها خرط القتاد بالليل(4)
/و قال الحارث بن الطفيل بن عمرو الدوسي في هذا اليوم، عن أبي عمرو:
يا دار من ماويّ بالسّهب *** بنيت على خطب من الخطب
إذ لا ترى إلا مقاتلة *** و عجانسا يرقلن بالركب(5)
و مدجّجا يسعى بشكته *** محمرّة عيناه كالكلب(6)
و معاشرا صدأ الحديد بهم *** عبق الهناء مخاطم الجرب(7)
لما سمعت نزال قد دعيت *** أيقنت أنّهم بنو كعب(8)
كعب بن عمرو لا لكعب بني ال *** عنقاء و التّبيان في النسب
فرميت كبش القوم معتمدا *** فمضى و راشوه بذي كعب(9)
شكّوا بحقويه القداح كما *** ناط المعرّض أقدح القضب(10)
ص: 152
فكأنّ مهري ظلّ منغمسا *** بشبا الأسنة مغرة الجأب(1)
يا ربّ موضوع رفعت و مر *** فوع وضعت بمنزل اللّصب(2)
و حليل غانية هتكت قرارها *** تحت الوغى بشديدة العضب(3)
كانت على حبّ الحياة فقد *** أحللتها في منزل غرب(4)
«جانيك من يجني عليك و قد *** تعدى الصّحاح مبارك الجرب»(5)
/هذا البيت في الغناء في لحن ابن سريج؛ و ليس هو في هذه القصيدة، و لا وجد في الرواية، و إنما ألحقناه بالقصيدة لأنه في الغناء كما تضيف المغنون شعرا إلى شعر، و إن لم يكن قائلهما واحدا إذا اختلف الرويّ و القافية.
صرفت هواك فانصرفا *** و لم تدع الّذي سلفا
و بنت فلم أمت كلفا *** عليك و لم تمت أسفا
كلانا واجد في النا *** س ممّن ملّه خلفا(6)
/الشعر لعبد الصمد بن المعذّل، و الغناء للقاسم بن زرزور، رمل بالوسطى، و فيه لعمر الميداني هزج.
ص: 153
عبد الصمد بن المعذل بن غيلان بن الحكم بن البختريّ(1) بن المختار بن ذريح بن أوس بن همّام بن ربيعة بن بشير بن حمران بن حدرجان بن عساس(2) بن ليث بن حداد بن ظالم بن ذهل بن عجل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى(3) بن عبد القيس بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. و قيل: ربيعة بن ليث بن حمران.
وجدت في كتاب بخطّ أحمد بن كامل: حدّثني غيلان بن المعذل أخو عبد الصمد، قال: كان أبي يقول:
أفصى أبو عبد القيس هو أفصى بن جديلة بن أسد، و أفصى جدّ بكر بن وائل هو أفصى بن دعميّ. و النسابون يغلطون في قولهم عبد القيس بن أفصى بن دعميّ. و يكنى عبد الصمد أبا القاسم، و أمه أم ولد يقال لها: الزّرقاء.
شاعر فصيح من شعراء الدولة العباسية، بصريّ المولد و المنشأ. و كان هجاء خبيث(4) اللسان، شديد العارضة، و كان أخوه أحمد أيضا شاعرا، إلا أنه كان عفيفا، ذا مروءة و دين و تقدّم في المعتزلة، و له جاه(5) واسع في بلده و عند سلطانه، لا يقاربه عبد الصمد فيه، فكان يحسده و يهجوه فيحلم عنه، و عبد الصمد أشعرهما، و كان أبو عبد الصمد المعذل و جدّه غيلان شاعرين، و قد روى عنهما شيء(6) من الأخبار و اللغة و الحديث ليس بكثير، و المعذّل بن غيلان هو الّذي يقول:
/
إلى اللّه أشكو لا إلى الناس أنني *** أرى صالح الأعمال لا أستطيعها
أرى خلّة في إخوة و أقارب *** و ذي رحم ما كان مثلي يضيعها
فلو ساعدتني في المكارم قدرة *** لفاض عليهم بالنوال ربيعها
أنشدنا ذلك له علي بن سليمان الأخفش، عن المبرّد، و أنشدناه محمّد بن خلف بن المرزبان عن الرّبعي أيضا. قالا: و هو القائل:
و لست بميّال إلى جانب الغنى *** إذا كانت العلياء في جانب الفقر
و إنّي لصبّار على ما ينوبني *** و حسبك أنّ اللّه أثنى على الصبر
أخبرني محمّد بن خلف، قال: حدّثنا النّخعيّ و إسحاق، قال: هجا أبان اللاحقيّ المعذّل بن غيلان، فقال:
كنت أمشي مع المعذّل يوما *** ففسا فسوة فكدت أطير
ص: 154
فتلفت هل أرى ظربانا *** من ورائي و الأرض بي تستدير(1)
فإذا ليس غيره و إذا إع *** صار ذاك الفساء منه يفور
فتعجّبت ثم قلت لقد أع *** رف، هذا فيما أرى خنزير
فأجابه المعذّل فقال(2):
/
صحّفت أمّك إذ سمّ *** تك بالمهد أبانا
قد علمنا ما أرادت *** لم ترد إلا أتانا
صيّرت باء مكان ال *** تاء و اللّه عيانا
قطع اللّه وشيكا *** من مسمّيك اللسانا
أخبرني عمي قال: حدّثنا المبرد قال: مرّ المعذل بن غيلان بعبد اللّه بن سوّار العنبريّ القاضي، فاستنزله عبد اللّه، و كان من عادة المعذّل أن ينزل عنده، فأبى، و أنشده:
أ من حق المودة أن نقضّي *** ذمامكم و لا تقضوا ذماما(3)
و قد قال الأديب مقال صدق *** رآه الآخرون لهم إماما
إذا أكرمتكم و أهنتموني *** و لم أغضب لذلكم فذاما(4)
قال: و انصرف، فبكّر إليه عبد اللّه بن سوار، فقال له: رأيتك أبا عمرو مغضبا. فقال: أجل ماتت بنت أختي و لم تأتني. قال: ما علمت ذلك. قال: ذنبك أشد من عذرك، و ما لي أنا أعرف خبر حقوقك، و أنت لا تعرف خبر حقوقي؟! فما زال عبد اللّه يعتذر إليه حتى رضي عنه.
حدّثني الحسن بن علي الخفّاف، قال: حدّثنا ابن مهرويه عن الحمدوني، قال: كان شروين حسن الغناء و الضّرب، و كان من أراد أن يغنّيه حتى يخرج من جلده جاء بجويرية سوداء فأمرها أن تطالعه، و تلوّح له بخرقة حمراء، ليظنّها امرأة تطالعه، فكان حينئذ يغنّي أحسن ما يقدر عليه تصنّعا لذلك، فغضب عليه عبد الصمد في بعض الأمور، فقال يهجوه:
من حلّ شروين له منزلا *** فلتنهه الأولى عن الثانية
فليس يدعوه إلى بيته *** إلاّ فتى في بيته زانية
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو عمرو البصري، قال: قال عبد الصمد بن المعذّل في رجل زان من أهل البصرة كانت له امرأة تزني، فقال:
ص: 155
/
إن كنت قد صفّرت أذن الفتى *** فطالما صفّر آذانا
لا تعجبي إن كنت كشخنته *** فإنّما كشخنت كشخانا(1)
أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب، قال: حدّثنا سوّار بن أبي شراعة، قال:
كان بالبصرة رجل يعرف بابن الجوهري، و كانت له جارية مغنية حسنة الغناء، و كان ابن الجوهري شيخا همّا قبيح الوجه، فتعشّقت فتى كاتبا كان يعاشره و يدعوه، و كان الفتى نظيفا ظريفا، فاجتمعت معه مرارا في منزله، و كان عبد الصمد يعاشره، فكان الفتى يكاتمه أمره، و يحلف له أنّه لا يهواها، فدخلت عليهما ذات يوم بغتة، فبقي الفتى باهتا لا يتكلّم، و تغير لونه و تخلّج في كلامه، فقال عبد الصمد:
لسان الهوى ينطق *** و مشهده يصدق(2)
لقد نمّ هذا الهوى *** عليك و ما يشفق(3)
إذا لم تكن عاشقا *** فقلبك لم يخفق(4)
/و ما لك إمّا بدت *** تحار فلا تنطق
أشمس تجلّت لنا *** أم القمر المشرق
الغناء في هذه الأبيات لرذاذ، و يقال للقاسم بن زرزور، رمل مطلق.
/قال: ثم طال الأمر بينهما، فهربت إليه جملة، فقال عبد الصمد في ذلك:
إلى امرئ حازم ركبت *** أيّ امرئ عاجز تركت(5)
فتنة ابن الجوهريّ لقد *** أظهرت نصحا و قد أفكت
أكذبتها عزمة ظهرت *** لا تبالي نفس من سفكت
ظفرت فيها بما هويت *** و نجت من قرب من فركت(6)
ثمّ خدود بعدها لطمت *** و جيوب بعدها هتكت
و عيون لا يرقّأن على *** حسن وجه فاتهنّ بكت(7)
خرجت و الليل معتكر *** لم يهلها أيّة سلكت
و عيون النّاس قد هجعت *** و دجى الظّلماء قد حلكت
لم تخف وجدا بعاشقها *** حرمة الشّهر الّذي انتهكت
ص: 156
و رأت لمّا سقت كمدا *** أنّها في دينها نسكت
ملئت كفّ بها ظفرت *** دون هذا الخلق ما ملكت
أيّ ملك إذا خلا و خلت *** فشكا أشجانه و شكت
تجتلي من وجهه ذهبا *** و هو يجلو فضّة فتكت(1)
هكذا فعل الفتاة إذا *** هي في عشّاقها محكت(2)
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني بعض أصحابنا قال:
نظر عبد الصمد بن المعذّل إلى جار له يخطر في مشيته خطرة منكرة، و كان فقيرا رثّ الحال، فقال فيه:
/
يتمشّى في ثوب عصب من العر *** ى على عظم ساقه مسدول(3)
دبّ في رأسه خمار من الجو *** ع سرى خمرة الرحيق الشمول(4)
فبكى شجوه و حنّ إلى الخ *** بز و نادى بزفرة و عويل
من لقلب متيّم برغيفي *** ن و نفس تاقت إلى طفشيل(5)
ليس تسمو إلى الولائم نفسي *** جلّ قدر الأعراس عن تأميلي(6)
هات لونا و قل لتلك تغنّي *** لست أبكي لدارسات الطّلول(7)
أخبرنا سوّار بن أبي شراعة، قال: كان بالبصرة طفيليّ يكنّى أبا سلمة، و كان إذا بلغه خبر وليمة لبس لبس القضاة، و أخذ ابنيه معه و عليهما القلانس الطّوال، و الطّيالسة الرقاق(8)، فيقدّم ابنيه، فيدقّ الباب أحدهما و يقول:
افتح يا غلام لأبي سلمة. ثم لا يلبث البواب حتى يتقدّم لآخر، فيقول: افتح ويلك فقد جاء أبو سلمة. و يتلوهم، فيدقّون جميعا الباب، /و يقولون: بادر ويلك، فإنّ أبا سلمة واقف. فإن لم يكن عرفهم فتح لهم، وهاب منظرهم(9)، و إن كانت معرفته إياهم قد سبقت لم يلتفت إليهم، و مع كلّ واحد منهم فهر مدوّر يسمونه(10) «كيسان»، فينتظرون حتّى يجيء بعض من دعي، فيفتح له الباب، فإذا فتح طرحوا الفهر في العتبة حيث يدور الباب، فلا يقدر البواب على غلقه، و يهجمون عليه فيدخلون. فأكل أبو سلمة/يوما على بعض الموائد لقمة حارّة من فالوذج(11)، و بلعها لشدّة حرارتها، فجمعت أحشاؤه فمات على المائدة، فقال عبد الصمد بن المعذل يرثيه:
ص: 157
أحزان نفسي عليها غير منصرمه *** و أدمعي من جفوني الدّهر منسجمه(1)
على صديق و مولى لي فجعت به *** ما إن له في جميع الصالحين لمه(2)
كم جفنة مثل جوف الحوض مترعة *** كوماء جاء بها طباخها رذمه(3)
قد كلّلتها شحوم من قليّتها *** و من سنام جزور عبطة سنمه(4)
غيّبت عنها فلم تعرف له خبرا *** لهفي عليك و ويلي يا أبا سلمه
و لو تكون لها حيّا لما بعدت *** يوما عليك و لو في جاحم حطمه(5)
قد كنت أعلم أنّ الأكل يقتله *** لكنّني كنت أخشى ذاك من تخمه
إذا تعمّم في شبليه ثم غدا *** فإنّ حوزة من يأتيه مصطلمه(6)
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه، قال:
كان عبد الصمد بن المعذل يتعشّق فتى من المغنين، يقال له: أحمد، فغاضبه الفتى و هجره، فكتب إليه:
سل جزعي مذ صددت عن حالي *** هل خطر الصبر على بالي
لا غيّر اللّه سوء فعلك بي *** إن كنت أعتبت فيك عذّالى
و لا ذممت البكالي عليك و لا *** حمدت حسن السلوّ من سال
لو كنت أبغي سواك ما جهلت *** نفسي أنّ الصّدود أعفى لي(7)
لجحظة في هذه الأبيات رمل مطلق.
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن محمّد النّوفلي، فقال:
هجا عبد الصمد بن المعذّل قينة بالبصرة قال فيها:
تفتّر عن مضحك السّدريّ إن ضحكت *** كرف الأتان رأت إدلاء أعيار(8)
ص: 158
يفوح ريح كنيف من ترائبها *** سوداء حالكة دهماء كالقار(1)
قال: فكسدت و اللّه تلك القينة بالبصرة، فلم تدع و لم تستتبع حتّى أخرجت عنها.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا المبرد، قال:
كتب عبد الصمد بن المعذل إلى بعض الأمراء رقعة فلم يجبه عنها، لشيء كان بلغه عنه، فكتب إليه:
قد كتبت الكتاب ثم مضى اليو *** م و لم أدر ما جواب الكتاب
/ليت شعري عن الأمير لما ذا *** لا يراني أهلا لردّ الجواب/
لا تدعني و أنت رفّعت حالي *** ذا انخفاض بهجرتي و اجتنابي
إن أكن مذنبا فعندي رجوع *** و بلاء بالعذر و الإعتاب
و أنا الصادق الوفاء و ذو العه *** د الوثيق المؤكّد الأسباب
أخبرني الحرميّ بن عليّ، قال: حدّثني أبو الشبل، قال:
كان بالبصرة رجل من ولد المهلّب بن أبي صفرة، يقال له: صبيانة، و كان له بستان سريّ في منزله، فكان يدعو الفتيات إليه، فلا يعطيهنّ شيئا من الدراهم، و يقصر بهن على ما يحملنه من البستان معهنّ، مثل الرّطب و البقول و الرياحين، فقال فيه عبد الصمد قوله(2):
قوم زناة مالهم دراهم *** جذرهم النّمّام و الحماحم(3)
أنذل من تجمعه المواسم *** خسّوا و خسّت منهم المطاعم
فعدلهم إن قسته المظالم(4)
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني سوّار بن أبي شراعة، و أخبرنا به سوار إجازة، قال: حدّثني أبي، قال:
لمّا هجا الجماز عبد الصمد بن المعذّل جاءني فقال لي: أنقذني منه. فقلت له: أمثلك يفرق(5) من الجماز؟ فقال: نعم، لأنه لا يبالي بالهجاء و لا يفرق منه، و لا عرض له، و شعره ينفق(6) على من لا يدري. فلم أزل حتّى أصلحت بينهما بعد أن سار قوله فيه:
/
ابن المعذّل من هو *** و من أبوه المعذّل
سألت وهبان عنه *** فقال بيض محوّل(7)
ص: 159
قال: و كان وهبان هذا رجلا يبيع الحمام(1)، فجمع جماعة من أصحابه و جيرانه، و جعل يغشى المجالس، و يحلف أنّه ما قال: إن عبد الصمد بيض محوّل، و يسألهم أن يعتذروا إليه؛ فكان هذا منه قد صار بالبصرة طرفة و نادرة، فجاءني عبد الصمد يستغيث منه، و يقول لي: أ لم أقل لك إنّ آفتي منه عظيمة، و اللّه لدوران وهبان على النّاس يحلف لهم: إنه ما قال: إني بيض محوّل، أشدّ عليّ من هجائه لي. فبعثت إلى وهبان فأحضرته، و قلت له:
يا هذا، قد علمنا أنّ الجماز قد كذب عليك، و عذرناك فنحبّ أن لا نتكلف العذر إلى الناس في أمرنا، فإنّا قد عذرناك. فانصرف و قد لقي عبد الصمد بلاء.
أخبرني محمّد بن جعفر الصيدلانيّ النحويّ صهر المبرد، قال: حدّثني إسحاق بن محمّد النخعي قال: قال لي أبو شراعة القيسيّ:
بلغ أبا جعفر مضرطان أن عبد الصمد بن المعذّل هجاه، و اجتمعا عند أبي وائلة السّدوسيّ، فقال له مضرطان: بلغني أنك هجوتني. فقال له عبد الصمد(2): من أنت حتى أهجوك؟ قال: هذا شرّ من الهجاء. فوثب إلى عبد الصّمد يضربه، فقال الحمدويّ، و هو إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه، و حمدويه جدّه، و هو الّذي كان يقتل الزنادقة:
/
ألذّ من صحبة القناني *** أو اقتراح على قيان(3)
لكز فتى من بني لكيز *** يهدى له أهون الهوان(4)
أهوى له بازل خدبّ *** يطحن قرنيه بالجران(5)/
فنال منه ثؤور قوم *** باليد طورا و باللّسان(6)
و كان يفسو فصار حقّا *** يضرط من خوف مضرطان
قال: و بلغ عبد الصّمد شعر الحمدويّ، فقال: أنا له. ففزع الحمدويّ منه، فقال:
ترح طعنت به و همّ وارد *** إذ قيل إنّ ابن المعذّل واجد(7)
هيهات أن أجد السّبيل إلى الكرى *** و ابن المعذّل من مزاحي حارد(8)
فرضي عنه عبد الصمد.
أخبرني محمّد بن عمران الصيرفيّ قال: حدّثنا العنزيّ،. قال: حدّثني إبراهيم بن عقبة اليشكريّ، قال:
ص: 160
قال لي عبد الصمد بن المعذل، هجاني الجماز ببيتين سخيفين فسارا في أفواه الناس، حتى لم يبق خاصّ و لا عامّ إلا رواهما، و هما:
ابن المعذل من هو *** و من أبوه المعذّل
سألت وهبان عنه *** فقال بيض محوّل
/فقلت أنا فيه شعرا تركته يتحاجى(1) فيه كلّ أحد، فما رواه أحد و لا فكّر فيه، و ذلك لضعته، و هو قولي:
نسب الجمّاز مقصو *** ر إليه منتهاه
يتراءى نسب النا *** س فما يخفى سواه
يتحاجى في أبي الج *** مّاز من هو كاتباه
ليس يدري من أبو الج *** مّاز إلا من يراه
أخبرني الأخفش، قال: كان لعبد الصمد بستان نظيف عامر، فأنشدنا لنفسه فيه:
إذا لم يزرني(2) ندمانيه *** خلوت فنادمت بستانيه
فنادمته خضرا مؤنقا *** يهيّج لي ذكر أشجانيه
يقرّب مفرحة المستلذّ *** و يبعد همّي و أحزانيه
أرى فيه مثل مداري الظّباء *** تظلّ لأطلائها حانية(3)
و نور أقاح شتيت النبات *** كما ابتسمت عجبا غانيه(4)
و نرجسه مثل عين الفتاة *** إلى وجه عاشقها رانيه(5)
أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب، قال:
كان يزيد بن عبد الملك المسمعيّ يهوى جارية من جواري القيان، يقال لها: عليم، و كان يعاشر عبد الصمد، و يزيد يومئذ شابّ حديث السن، و كان عبد الصمد يسمّيه ابني، و يسمّي الجارية ابنتي، فباع الفتى بستانا له في معقل، وضيعة بالقندل(6)، فاشترى الجارية بثمنها، فقال عبد الصمد:
بنيّتي أصبحت عروسا *** تهدى من ابني إلى عروس
زفّت إليه لخير وقت *** فاجتمعا ليلة الخميس
ص: 161
يا معشر العاشقين أنتم *** بالمنزل الأرذل الخسيس
يزيد أضحى لكم رئيسا *** فاتّبعوا منهج الرئيس
من رام بلاّ لرأس أير *** ذلّل نفسا بحلّ كيس(1)
/أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني يزيد بن محمّد المهلبي، قال:
بلغ عبد الصمد بن المعذل أنّ أبا قلابة الجرميّ تدسّس إلى الجماز لمّا بلغه تعرّضه له، و هجاؤه إياه، فحمله على الزيادة في ذلك، و يضمن له أن ينصره و يعاضده، و قد كان عبد الصمد هجا أبا قلابة حتّى أفحمه، فقال عبد الصمد فيهما:
يا من تركت بصخرة *** صمّاء هامته أميمه(2)
إن الّذي عاضدته *** أشبهته خلقا و شيمه(3)
و كفعل جدّتك الحدي *** ثة فعل جدّته القديمه
فتناصرا، فابن اللئي *** مة ناصر لابن اللئيمة
حدّثني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني أبو العيناء، قال: كان لعبد الصّمد بن المعذّل صديق يعاشره و يأنس به، فتزوّج إليه أمير البصرة، و كان من ولد سليمان بن عليّ، فنبل الرّجل و علا قدره، و ولاّه المتزوّج إليه عملا، فكتب إليه عبد الصمد:
أحلت(4) عمّا عهدت من أدبك *** أم نلت ملكا فتهت في كتبك
أم هل ترى أنّ في مناصفة الإخ *** وان نقصا عليك في حسبك
أم كان ما كان منك عن غضب *** فأيّ شيء أدناك من غضبك(5)
إنّ جفاء كتاب ذي ثقة *** يكون في صدره «و أمتع بك»
كيف بإنصافنا لديك و قد *** شاركت آل النبيّ في نسبك
قل للوفاء الّذي تقدّره *** نفسك عندي مللت من طلبك
أتعبت كفّيك في مواصلتي *** حسبك ما ذا كفيت من تعبك
فأجابه صديقه:
كيف يحول الإخاء يا أملي *** و كلّ خير أنال من نسبك(6)
ص: 162
إن يك جهل أتاك من قبلي *** فامنن بفضل عليّ من أدبك
أنكرت شيئا فلست فاعله *** و لا تراه يخطّ في كتبك
حدّثني الأخفش، قال: حدّثنا المبرد، قال:
كان لعبد الصمد بن المعذّل صديق كثير الكذب، كان معروفا بذلك، فوعده وعدا فأخلفه، و مطله به مطلا طويلا، فقال عبد الصمد:
لي صاحب في حديثه البركة *** يزيد عند السّكون و الحركه
لو قال «لا» في قليل أحرفها *** لردّها بالحروف مشتبكه(1)
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني سوّار بن أبي شراعة، قال:
كان يحيى بن عبد السميع الهاشميّ يعاشر عبد الصمد بن المعذل، و يجتمعان في دار رجل من بني المنجاب له جارية مغنّية، و كان ينزل رحبة المنجاب بالبصرة، ثم استبدّ بها الهاشميّ دون عبد الصمد، فقال فيهم عبد الصمد:
قل ليحيى(2) مللت من أحبابي *** فلينكهم ما شاء من أصحابي
/قد تركنا تعشّق المرد لمّا *** أن بلونا تنعّم العزّاب
و شنئنا المؤاجرين فملنا *** بعد خبر إلى وصال القحاب(3)
حبّذا قينة لأهل بني المن *** جاب حلّت في رحبة المنجاب
صدّقت إذ يقول لي خلق الأح *** راح ليس الفقاح للأزباب(4)
حبّذا تلك إذ تغنّيك يا يح *** يى و تسقيك من ثنايا عذاب
«ذكر القلب ذكرة أمّ زيد *** و المطايا بالسّهب سهب الركاب»(5)
حبّذا إذ ركبتها فتجافت *** تتشكى إليك عند الضّراب
و تغنّت و أنت تدفع فيها *** غير ذي خيفة لهم و ارتقاب
«إن جنبي عن الفراش لناب *** كتجافي الأسرّ فوق الظّراب»(6)
ليت شعري هل أسمعنّ إذا ما *** زاح عني وساوس الكتاب
ص: 163
من فتاة كأنها خوط بان *** مجّ فيها النعيم ماء الشباب(1)
/إذ تغنّيك خلف سجف رقيق *** نغمات تحبّها بصواب(2)
شفّ عنها محقّق جنديّ *** فهي كالشّمس من خلال سحاب(3)
ربّ شعر قد قلته بتباه *** و يغرّى به ذو و الألباب(4)
قد تركت الملحّنين إذا ما *** ذكروه قاموا على الأذناب(5)
قال: و شاعت الأبيات بالبصرة، فامتنع مولى الجارية من معاشرة الهاشميّ، و قطعه بعد ذلك.
أخبرني محمّد بن عمران الصيرفيّ و أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدّثني أحمد بن صالح الهاشميّ، قال:
كان الحسين بن عبد اللّه بن العباس بن جعفر بن سلمان مائلا إلى عبد الصمد بن المعذّل، و كان عبد الصّمد يهجو هشاما الكرنباني، فجرى عن ابني هشام الكرنباني - و هما أبو وائلة و إبراهيم - و بين الحرّ بن عبد اللّه، لحاء في أمر عبد الصّمد، لأنّهما ذكراه و سبّاه، فامتعض له الحسين و سبّهما عنه، فرميا الحسين بابن المعذّل، و نسباه إلى أنّ عبد الصمد يرتكب القبيح، و بلغ الحسين ذلك، فلقيهما في سكة المربد، فشدّ عليهما بسوطه و هو راكب، فضربهما ضربا مبرّحا، و أفلت أبو وائلة، و وقع سبيب(6) السّوط في عين إبراهيم، فأثر فيها أثرا قبيحا، فاستعان بمشيخة من آل سليمان بن علي، و هرب أبو وائلة إلى الأمير عليّ بن عيسى و هو والي البصرة، فوجّه معه/بكاتبه ابن فراس إلى باب الحسين بن عبد اللّه، فطلبه و هرب حسين إلى المحدثة(7)، فلما كان من الغد جاء حسين إلى صالح بن إسحاق بن سليمان، و إلى ابن يحيى بن جعفر بن سليمان، و مشيخة من آل سليمان، فصاروا معه إلى عليّ بن عيسى، و أقبل عبد الصمد بن المعذّل لما رآهم، فدخل معهم لنصرة حسين، فكلّموا عليّ بن عيسى في أمره و قام عبد الصمد، فقال: أصلح اللّه الأمير، هؤلاء أهلك، و أجلّة أهل مصرك(8)، تصدّوا إليك في ابنهم و ابن أخيهم، و [هو و] إن كان حدثا لا ينبسط للحجّة بحداثته(9)، فإن هاهنا من يعبّر عنه، و قد قلت أبياتا، فإن رأى/الأمير أن يأذن(10) في إنشادها فعل. قال: قل. فأنشده عبد الصمد قوله:
يا ابن الخلائف و ابن كلّ مبارك *** رأس الدعائم سابق الأغصان
إنّ العلوج على ابن عمك أصفقوا *** فأتوك عنه بأعظم البهتان(11)
قرفوه عندك بالتعدّي ظالما *** و هم ابتدوه بأعظم العدوان
ص: 164
شتموا له عرضا أغرّ مهذّبا *** أعراضهم أولى بكلّ هوان
و سموا بأجسام إليه مهينة *** وصلت بألأم أذرع و بنان
خلقت لمدّ القلس لا لتناول *** عرض الشّريف و لا لمدّ عنان(1)
لم يحفظوا قرباه منك فينتهوا *** إذ لم يهابوا حرمة السّلطان
/أ يذلّ مظلوما و جدّك جده *** كيما يعزّ بذلّه علجان
و ينال أقلف، كربلاء بلاده، *** ذلّ ابن عمّ خليفة الرحمن(2)
إني أعيذك أن تنال بك الّتي *** تطغى العلوج بها على عدنان
فدعا عليّ بن عيسى حسينا، فضمّه إليه، فقال: انصرف مع مشايخك. و دعا بهشام الكرنباني و ابنيه، فعذلهم(3) في أمره، ثمّ أصلح بينهم بعد ذلك.
أخبرني عليّ بن سليمان، قال: حدّثنا محمّد بن يزيد، قال: كان عبد الصمد بن المعذّل يعاشر عبد اللّه بن المسيّب و يألفه، فبلغه أنّه اغتابه يوما و هو سكران، و عاب شيئا أنشده من شعره، فقال فيه و كتب بها إليه:
عتبي عليك مقارن العذر *** قد زال عند حفيظتي صبري(4)
لك شافع منّى إليّ فما *** يقضي عليك بهفوة فكري
لمّا أتاني ما نطقت به *** في السّكر قلت جناية السكر
حاشا لعبد اللّه يذكرني *** مستعذبا بنقيصتي ذكري
إن عاب شعري أو تحيّفه *** فليهنه ما عاب من شعري
يا ابن المسيب قد سبقت بما *** أصبحت مرتهنا به شكري
فمتى خمرت فأنت في سعة *** و متى هفوت فأنت في عذر
ترك العتاب إذا استحقّ أخ *** منك العتاب ذريعة الهجر
أخبرني الأخفش، قال: حدّثنا المبرّد، قال:
دعا عبد الصمد بن المعدّل شروين المغنّي، و كان محسنا متقدّما في صناعته، فتعالل عليه و مضى إلى غيره، فقال عبد الصّمد: و اللّه لأسمنّه ميسما لا يدعوه بعده أحد بالبصرة إلاّ بعد أن يبذل عرضه و حريمه. فقال فيه:
من حلّ شروين له منزلا *** فلتنهه الأولى عن الثانية
فليس يدعوه إلى بيته *** إلا فتى في بيته زانيه
فتحاماه أهل البصرة حتى اضطرّ إلى أن خرج إلى بغداد و سرّ من رأى.
ص: 165
أخبرني محمّد بن عمران الصيرفيّ و أحمد بن العباس العسكريّ، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزي، قال:
حدّثنا الفضل بن أبي جرزة، قال:
كان أبو قلابة الجرميّ و عبد الصمد بن المعذّل و عبد اللّه/بن محمّد بن أبي عيينة المهلّبيّ أرادوا المسير(1) إلى بيت بحر البكراويّ، و كانت له جارية مغنية، يقال لها: جبلة(2)، و كان أبو رهم إليها مائلا يتعشّقها، ثم اشتراها بعد ذلك، فلما أرادوا الدّخول إليها وافاهم أبو رهم، فأدخلوه وحده و حجبوهم، فانصرفوا إلى بستان ابن أبي عيينة، فقال أبو قلابة: لا بدّ أن نهجو أبا رهم. فقالوا: قل. فقال:
ألا قل لأبي رهم *** سيهوى نعتك الوصف
كما حالفك الغيّ *** كذا جانبك الظّرف
أتانا أنه أهدى *** إلى بحر من الشّغف(3)
/حزيمات من الصّير *** فهلاّ معه رغف(4)
فنادوا اقسمي فينا *** فقد جاءكم اللّطف(5)
فقال له عبد الصمد: سخنت عينك أيش هذا الشعر، بمثل هذا يهجى من يراد به الفضيحة. فقال أبو قلابة:
هذا الّذي حضرني، فقل أنت ما يحضرك. فقال: أفعله و أجوّد. فكان هذا سبب هجاء عبد الصمد أبا رهم، و أوّل قصيدة هجاه بها(6) قوله:
دعوا الإسلام و انتحلوا المجوسا *** و ألقوا الرّيط و اشتملوا القلوسا(7)
بني العبد المقيم بنهر تيرى *** لقد أنهضت طيركم نحوسا(8)
حرام أن يبيت لكم نزيل *** فلا يمسي بأمّكم عروسا
إذا ركد الظلام رأت عسيلا *** يحثّ على نداماه الكئوسا(9)
و يذكرهم أبو رهم بهجو *** فيستدعي إلى الحرم النّفوسا
و يخليهم هشام بالغواني *** و يحمي الفضل بينهم الوطيسا(10)
ص: 166
فتسمع في البيوت لهم هبيبا *** كما أهملت في الزّرب التيوسا(1)
لقد كان الزناة بلا رئيس *** فقد وجد الزناة بهم رئيسا
هم قبلوا الزّناء و أنشئوه *** و هم و سموا بجبهته حبيسا(2)
لئن لم تنف دعوتهم سدوس *** لقد أخزى الإله بهم سدوسا
/و قال فيه:
لو جاد بالمال أبو رهم *** كجوده بالأخت و الأمّ
أضحى و ما يعرف مثل له *** و قيل أسخى العرب و العجم
من برّ بالحرمة إخوانه *** أحقّ أن يشكر بالشتم(3)
و له فيه من قصيدة طويلة:
هو و اللّه منصف *** زوجه زوج زوجته
يقسم الأير عادلا *** بين حرها و فقحته
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثنا العنزيّ، قال: حدّثني أبو الفضل بن عبدان، قال:
خرج عبد الصمد بن المعذّل مع أهله إلى نزهة و قال:
/
قد نزلنا بروضة و غدير *** و هجرنا القصر المنيف المشيدا(4)
بعريش ترى من الزاد فيه *** زكرتي خمرة و صقرا صيودا(5)
و غريرين يطربان الندامى *** كلما قلت أبديا و أعيدا(6)
غنّياني، فغنّياني بلحن *** سلس الرّجع يصدع الجلمودا
«لا ذعرت السّوام في فلق ال *** صّبح مغيرا و لا دعيت يزيدا»(7)
حيّ ذا الزور و انهه أن يعودا *** إنّ بالباب حارسين قعودا(8)
/من يزرنا يجد شواء حبارى *** و قديرا رخصا و خمرا عتيدا(9)
ص: 167
و كراما معذّلين و بيضا *** خلعوا العذر يسحبون البرودا(1)
لست عن ذا بمقصر ما جزائي *** قرّبت لي كريمة عنقودا(2)
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا محمّد بن يزيد المبرد، قال: نظر عبد الصمد بن المعذّل إلى الأفشين بسرّمن رأى و هو غلام أمرد، و كان من أحسن الناس، و هو واقف على باب الخليفة مع أولاد القوّاد، فأنشدنا لنفسه فيه، قال:
أيها اللاحظي بطرف كليل *** هل إلى الوصل بيننا من سبيل
علم اللّه أنني أتمنى *** زورة منك عند وقت المقيل
بعد ما قد غدوت في القرطق الجو *** ن تهادى و في الحسام الصقيل(3)
و تكفّيت في المواكب تختا *** ل عليها تميل كلّ مميل(4)
و أطلت الوقوف منك ببا *** ب القصر تلهو بكلّ قال و قيل
و تحدّثت في مطاردة الصّي *** د بخبر به و رأى أصيل(5)
/ثمّ نازعت في السنان و في الرم *** ح و علم بمرهفات النصول(6)
و تكلّمت في الطّراد و في الطّع *** ن و وثب على صعاب الخيول(7)
فإذا ما تفرّق القوم أقبل *** ت كريحانة دنت لذبول
قد كساك الغبار منه رداء *** فوق صدغ و جفن طرف كحيل
و بدت وردة القسامة من خ *** دّك في مشرق نقي أسيل(8)
ترشح المسك منه سالفة الظب *** ي و جيد الأدمانة العطبول(9)
فأسوف الغبار ساعة ألقا *** ك برشف الخدّين و التقبيل(10)
و أحلّ القباء و السّيف من خص *** رك رفقا باللّطف و التعليل(11)
ثم تؤتى بما هويت من التّش *** ريف عندي و البر و التبجيل
ص: 168
ثم أجلوك كالعروس على الشّر *** ب تهادى في مجسد مصقول(1)
ثم أسقيك بعد شربي من ري *** قك كأسا من الرحيق الشمول(2)
و أغنّيك إن هويت غناء *** غير مستكره و لا مملول
لا يزال الخلخال فوق الحشايا *** مثل أثناء حية مقتول
/فإذا ارتاحت النفوس اشتياقا *** و تمنّى الخليل قرب الخليل
كان ما كان بيننا، لا أسمّي *** ه و لكنّه شفاء الغليل
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ و المبرّد و غيرهما، قالوا:
كانت متيّم جارية لبعض وجوه أهل البصرة، فعلقها عبد الصّمد بن المعذّل، و كانت لا تخرج إلا منتقبة، فخرج عبد الصمد يوما إلى نزهة، و قدمت متيّم إلى عبيد اللّه بن الحسن بن أبي الحرّ القاضي، فاحتاج إلى أن يشهد عليها، فأمرها بأن تسفر، فلما قدم عبد الصمد قيل له: لو رأيت متيّم و قد أسفرها القاضي لرأيت شيئا حسنا لم ير مثله. فقال عبد الصمد قوله:
و لما سرت عنها القناع متيم *** تروّح منها العنبريّ متيّما
رأى ابن عبيد اللّه محكّم *** عليها لها طرفا عليه محكّما
و كان قديما كالح الوجه عابسا *** فلما رأى منها السفور تبسّما
فإن يصب قلب العنبريّ فقبله *** صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
فبلغ قوله يحيى بن أكثم، فكتب إليه: عليك لعنة اللّه، أيّ شيء أردت منّي حتى أتاني شعرك من البصرة؟ فقال لرسوله: قل له: متيّم أقعدتك على طريق القافية!
أخبرني عمي، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد العبديّ، قال: حدّثني الأنيسيّ، قال:
كنت عند إسحاق بن إبراهيم و زاره أحمد بن المعذّل، و كان خرج من البصرة على أن يغزو، فلما دخل على إسحاق بن إبراهيم أنشده:
أفضلت نعمي على قوم رعيت لهم *** حقا قديما من الودّ الّذي درسا(3)
/و حرمة القصد بالأمال إنّهم *** أتوا سواك فما لاقوا به أنسا
لأنت أكرم منه عند رفعته *** قولا و فعلا و أخلاقا و مغترسا(4)
ص: 169
فأمر له بخمسمائة دينار، فقبضها و رجع إلى البصرة، و كان خرج عنها ليجاور في الثّغر، و بلغ عبد الصمد خبره، فقال فيه:
يرى الغزاة بأنّ اللّه همّته *** و إنما كان يغزو كيس إسحاق
فباع زهدا ثوابا لا نفاد له *** و ابتاع عاجل رفد القوم بالباقي(1)
فبلغ إسحاق بن إبراهيم قوله، فقال: قد مسّنا أبو السمّ عبد الصمد بشيء من هجائه. و بعث إليه بمائة دينار، فقال له موسى بن صالح: أبى الأمير إلاّ كرما و ظرفا.
أخبرني محمّد بن عمران الصيرفيّ، قال: حدّثنا الحسن بن عليل، قال: حدّثني الحسن الأسدي، قال:
قدم أبو نبقة من البحرين و قد أهدى إلى قوم من أهل البصرة هداياه، و لم يهد إلى عبد الصّمد شيئا فكتب إليه:
أ ما كان في قسب اليمامة و التمر *** و في أدم البحرين و النّبق الصّفر(2)
و لا في مناديل قسمت طريفها *** و أهديتها حظّ لنا يا أبا بكر
سرت نحو أقوام فلا هنأتهم *** و لم ينتصف منها المقلّ و لا المثري
أ أنت إلى طالوت ذي الوفر و الغنى *** و آل أبي حرب ذوي النّشب الدثر(3)
/و لم تأتني و لا الرياشيّ تمرة *** غصصت بباقي ما ادّخرت من التمر(4)
و لم يعط منها النهشليّ إداوة *** تكون له في القيظ ذخرا مدى الدهر(5)
أقول لفتيان طويت لطيّهم *** عرى البيد، منشور المخافة و الذعر(6)
لئن حكّم السدريّ بالعدل فيكم *** لما أنصف السدريّ في ثمر السدر
لئن لم تكن عيناك عذرك لم تكن *** لدينا بمحمود و لا ظاهر العذر
أخبرنا الحسن بن عليل، قال: حدّثنا أحمد بن يزيد المهلبي، قال:
وقع بين أبي و بين عبد الصمد بن المعذل تباعد، فهجاه و نسبه إلى الشؤم، و كان يقال ذلك في عبد الصمد، فقال فيه:
يقول ذوو التّشؤّم ما لقينا *** كما لقي ابن سهل من يزيد
ص: 170
أتته منيّة المأمون لمّا *** أتاه يزيد من بلد بعيد
فصيّر منه عسكره خلاء *** و فرّق عنه أفواج الجنود
فقلت لهم و كم مشئوم قوم *** أباد لهم عديدا من عديد
رأيت ابن المعذّل يا لعمرو *** بشؤم كان أسرع في سعيد
فمنه موت جلّة آل سلم *** و منه قض آجام البريد(1)
و لم ينزل بدار ثم يمسي *** و لمّا يستمع لطم الخدود
و كلّ مديح قوم قال فيهم *** فإنّ بعقبه «يا عين جودي»
إذا رجل تسمّع منه مدحا *** تنسّم منه رائحة الصعيد(2)
/فلو حصف الذين يبيح فيهم *** أثاروا منه رائحة الطريد(3)
فليس العزّ يمنع منه شؤما *** و لا عتبا بأبواب الحديد(4)
حدّثني الأخفش، قال: حدّثنا المبرد، قال:
مرّ أحمد بن المعذل بأخيه عبد الصمد و هو يخطر، فأنشأ يقول:
إن هذا يرى أرى *** أنّه ابن المهلّب
أنت و اللّه معجب *** و لنا غير معجب
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا أبي و غيره، و حدّثني به بعض آل المعذّل، قال:
مرّ عبد الصمد بن المعذل بغلام يقال له: المغيرة، حسن الصوت حسن الوجه، و هو يقرأ و يقول القصائد، فأعجب به، و قال فيه:
أيها الرافع في المس *** جد بالصّوت العقيره
قتلتني عينك النّج *** لاء، و القتل كبيره
أيّها الحكام أنتم *** فاصلو حكم العشيره
أ حلالا ما بقلبي *** صنعت عينا مغيرة
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثنا زكريا بن مهران بن يحيى، قال:
ص: 171
/جاءنا عبد الصمد بن المعذّل إلى منزل محمّد بن عمر الجرجرائيّ، فأنشدنا قصيدة له في صفة الحمّى، فقال لي محمّد بن عمر: امض إلى منزل عبد الصمد حتى تكتبها. فمضيت إليه حتى كتبتها، /و هي:
هجرت الصّبا ايّما هجره *** و عفت الغواني و الخمره
طوتني عن وصلها سكره *** بكأس الضّنا ايّما سكره
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني عبد اللّه بن يزيد الكاتب، قال:
جمع بين أبي تمّام الطائيّ و بين عبد الصمد بن المعذّل مجلس، و كان عبد الصمد سريعا في قول الشعر، و كان في أبي تمام إبطاء، فأخذ عبد الصمد القرطاس و كتب فيه:
أنت بين اثنتين تبرز للنا *** س، و كلتاهما بوجه مذال(1)
لست تنفكّ طالبا لوصل *** من حبيب أو طالبا لنوال
أي ماء لحرّ وجهك يبقى *** بين ذلّ الهوى و ذل السؤال
قال: فأخذ أبو تمام القرطاس و خلا طويلا، و جاء به و قد كتب فيه:
أ فيّ تنظم قول الزّور و الفند *** و أنت أبرز من لا شيء في العدد(2)
أشرجت قلبك من بغضي على حرق *** كأنّها حركات الرّوح في الجسد(3)
فقال له عبد الصمد: يا ماصّ بظر أمّه، يا غثّ، أخبرني عن قولك «أنزر من لا شيء»، و اخبرني عن قولك «اشرجت قلبك»، قلبي مفرش أو عيبة(4) أو حرج/فأشرجه، عليك لعنة اللّه فما رأيت أغثّ منك. فانقطع أبو تمام انقطاعا ما يرى أقبح منه، و قام فانصرف، و ما راجعه بحرف.
قال أبو الفرج الأصبهاني: كان في ابن مهرويه تحامل على أبي تمّام لا يضرّ أبا تمام هذا منه، و ما أقلّ ما يقدح مثل هذا في مثل أبي تمام.
أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعي، قال: حدّثني العنزي، قال:
كان عبد الصمد بن المعذّل يستثقل رجلا من ولد جعفر بن سليمان بن عليّ يعرف بالفرّاش، و كان له ابن أثقل منه، و كانا يفطران عند المنذر بن عمرو - و كان يخلف بعض أمراء البصرة - و كان الفرّاش هذا يصلّي به، ثم يجلس فيفطر هو و ابنه عنده، فلما مضى شهر رمضان انقطع ذلك عنهما، فقال عبد الصمد بن المعذّل:
غدر الزمان و ليته لم يغدر *** و حدا بشهر الصوم فطر المفطر
ص: 172
و ثوت بقلبك يا محمّد لوعة *** تمري بوادر دمعك المتحدر(1)
و تقسمتك صبابتان لبينه *** أسف المشوق و خلّة المتفكر(2)
فاستبق عينك و احش قلبك يأسه *** و أقر السلام على خوان المنذر
سقيا لدهرك إذ تروّح يومه *** و الشّمس في علياء لم تتهوّر(3)
حتّى تنيخ بكلكل متزاور *** و تمد بلعوما قموص الحنجر(4)
/و ترود منك على الخوان أنامل *** تدع الخوان سراب قاع مقفر(5)
ويح الصّحاف من ابن فرّاش إذا *** أنحى عليها كالهزبر الهيصر(6)
ذو دربة طبّ إذا لمعت له *** بثر الخوان بدا بحلّ المئزر(7)
ودّ ابن فرّاش و فرّاش معا *** لو أنّ شهر الصوم مدّة أشهر
يزرى على الإسلام قلّة صبره *** و تراه يحمد عدّة المتنصّر
/لا تهلكنّ على الصّيام صبابة *** سيعود شهرك قابلا فاستبشر
لا درّ درّك يا محمّد من فتى *** شين المغيب و غير زين المحضر
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني محمّد البصريّ و كان جارا لعبد الصمد بن المعذّل، قال:
كان يزيد بن محمّد المهلبيّ يعادي عبد الصمد و يهاجيه و يسابّه، و يرمي كلّ واحد منهما صاحبه بالشّؤم، و كان يزيد بالبصرة و أبوه يتولّى نهر تيرى و نواحيها، فقال عبد الصمد يهجوه:
أبوك أمير قرية نهر تيرى *** و لست على نسائك بالأمير
و أرزاق العباد على آله *** لهم و عليك أرزاق الأيور
فكم في رزق ربك من فقير *** و ما في أهل رزقك من فقير(8)
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني محمّد بن عبد الرحمن، قال: حدّثني أحمد بن منصور، قال:
ص: 173
شرب علي بن عيسى بن جعفر و هو أمير البصرة الدّهن، فدخل إليه عبد الصّمد بن المعذّل بعد خروجه عنه، فأنشده قوله:
بأيمن طائر و أسر فال *** و أعلى رتبة و أجلّ حال(1)
شربت الدهن ثم خرجت عنه *** خروج المشرفيّ من الصقال
تكشف عنك ما عانيت عنه *** كما انكشف الغمام عن الهلال(2)
و قد أهديت ريحانا طريفا *** به حاجيت مستمعا سؤالي(3)
و ما هو غير ياء بعد حاء *** و قد سبقا بميم قبل دال(4)
و ريحان الشباب يعيش يوما *** و ليس يموت ريحان المقال
و لم يك مؤثرا تفّاح شمّ *** على تفّاح أسماع الرجال
أخبرني(5) جحظة، قال: حدّثني ميمون بن مهران(6)، قال: حدّثني أحمد بن المغيرة العجليّ، قال:
كنت عند أبي سهل الإسكافيّ و عنده عبد الصمد بن المعذّل، فرفع إليه رجل رقعة، فقرأها فإذا فيها:
هذا الرحيل فهل في حاجتي نظر *** أو لا فاعلم ما آتي و ما أذر
/فدفعها إلى عبد الصمد، و قال: الجواب عليك. فكتب فيها:
النفس تسخو و لكن يمنع العسر *** و الحرّ يعذر من بالعسر يعتذر(7)
ثم قال عبد الصمد لعليّ بن سهل: هذا الجواب قولا، و عليك أعزك اللّه الجواب فعلا، و نجح سعي الآمل حقّ واجب على مثلك. فاستحيا و أمر للرجل بمائة دينار.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي و علي بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمّد بن يزيد الأزدي، قال:
كان لابن المعذّل ابن(8) ثقيل تيّاه الذّهاب بنفسه، و كان مبغضا عند أهل البصرة، فمرّ يوما بعمّه عبد الصمد، فلما رآه قال لمن معه:
إن هذا يرى أرى *** أنّه ابن المهلّب
أنت و اللّه معجب *** و لنا غير معجب
ص: 174
قال: و قال فيه أيضا:
/
لو كان يعطى المنى الأعمام في ابن أخ *** أصبحت في جوف قرقور إلى الصين(1)
قد كان همّا طويلا لا يقام له *** لو كان رؤيتنا إياك في الحين
فكيف بالصّبر إذ أصبحت أكثر في *** مجال أعيننا من رمل يبرين(2)
يا أبغض النّاس في عسر و ميسرة *** و أقذر الناس في دنيا و في دين
لو شاء ربّي لأضحى واهبا لأخي *** بمدّ ثكلك أجرا غير ممنون
/و كان خيرا له لو كان مؤتزرا *** في السّالفات على غرمول عنّين(3)
و قائل لي ما أضناك قلت له *** شخص ترى وجهه عيني فيضنيني
إن القلوب لتطوى منك يا ابن أخي *** إذا رأتك على مثل السّكاكين
هو عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. و أمّه أمّ أخيه مروان، آمنة بنت صفوان بن أمية بن محرّث بن شق بن رقبة بن مخدج من بني كنانة. و يكنى عبد الرحمن أبا مطرف، شاعر إسلامي متوسّط الحال(1) في شعراء زمانه، و كان يهاجي عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت فيقاومه و ينتصف كلّ واحد منهما من صاحبه.
أخبرني محمّد بن العبّاس العسكريّ قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، عن العمريّ، عن العتبيّ و الهيثم بن عديّ، عن صالح بن حسان.
و أخبرني به عمي عن الكراني، عن العمريّ، عن الهيثم، عن صالح بن حسان قال:
قدم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية بن أبي سفيان، و قد عزل أخاه مروان عن الحجاز و ولّى سعيد بن العاص، و كان مروان وجّه به و قال له: القه أمامي فعاتبه لي و استصلحه. و قال عمّي(2) في خبره: كان عبد الرحمن بدمشق، فلما بلغه خبر أخيه خرج إليه فتلقّاه، و قال له: أقم حتى أدخل إلى الرجل، فإن كان عزلك عن موجدة دخلت إليه منفردا. و إن كان عن غير موجدة دخلت إليه مع الناس. قال: فأقام مروان و مضى عبد الرحمن أمامه، فلما قدم عليه دخل إليه و هو يعشّي الناس، فأنشأ يقول:
أتتك العيس تنفخ في براها *** تكشّف عن مناكبها القطوع
بأبيض من أميّة مضرحيّ *** كأنّ جبينه سيف صنيع
/فقال معاوية: أ زائرا جئت أم مفاخرا أم مكاثرا؟ فقال: أيّ ذلك شئت. فقال له: ما أشاء من ذلك شيئا(3)، و أراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الّذي عنّ له، فقال: على أيّ الظهر أتيتنا؟ قال: /على فرسي. قال: و ما صفته؟ قال: أجشّ هزيم»، يعرّض بقول النّجاشي له:
و نجّى ابن حرب سابح ذو علالة *** أجشّ هزيم و الرماح دواني(4)
إذا خلت أطراف الرّماح تناله *** مرته به السّاقان و القدمان(5)
فغضب معاوية، و قال: أما إنّه لا يركبه صاحبه في الظّلم إلى الرّيب، و لا هو ممّن يتسوّر على جاراته و لا
ص: 176
يتوثّب على كنائنه(1) بعد هجعة الناس - و كان عبد الرحمن يتهم بذلك في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن و قال: يا أمير المؤمنين، و ما حملك على عزل ابن عمّك، أ لجناية أوجبت سخطا، أم لرأي رأيته، و تدبير استصلحته؟ قال:
لتدبير استصلحته. قال: فلا بأس بذلك، و خرج من عنده فلقي أخاه مروان، فأخبره بما جرى بينه و بين معاوية، فاستشاط غيظا، و قال لعبد الرحمن: قبحك اللّه، ما أضعفك، أ عرّضت للرجل بما أغضبه حتى إذا انتصف منك أحجمت عنه؟ ثم لبس حلّته، و ركب فرسه، و تقلّد سيفه، و دخل على معاوية، فقال له حين رآه و تبيّن الغضب في وجهه: مرحبا بأبي عبد الملك، لقد زرتنا عند اشتياق منّا إليك. قال: لاها(2) اللّه ما زرتك لذلك، و لا قدمت عليك فألفيتك إلاّ عاقّا قاطعا، و اللّه/ما أنصفتنا و لا جزيتنا جزاءنا. لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص، و الصّهر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لهم، و الخلافة فيهم، فوصلوكم يا بني حرب و شرّفوكم، و ولّوكم فما عزلوكم و لا آثروا عليكم، حتّى إذا ولّيتم و أفضى الأمر إليكم، أبيتم إلا أثرة و سوء صنيعة، و قبح قطيعة، فرويدا رويدا، قد بلغ بنو الحكم و بنو بنيه نيّفا و عشرين، و إنما هي أيّام قلائل حتّى يكملوا أربعين و يعلم امرؤ أين يكون منهم حينئذ، ثم هم للجزاء بالحسنى و بالسوء بالمرصاد.
قال عمّي في خبره: فقال له معاوية: عزلتك لثلاث لو لم يكن منهنّ إلاّ واحدة لأوجبت عزلك: إحداهنّ إنّي أمّرتك على عبد اللّه بن عامر و بينكما ما بينكما، فلم تستطع أن تشتفي منه. و الثانية كراهتك لأمر زياد. و الثالثة أن ابنتي رملة استعدتك(3) على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها(4). فقال له مروان: أما ابن عامر فإنّي لا أنتصر في سلطاني، و لكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه. و أمّا كراهتي أمر زياد فإنّ سائر بني أمية كرهوه، ثم جعل اللّه لنا في ذلك الكره خيرا كثيرا. و أما استعداء رملة على عمرو فو اللّه إنّى لتأتي عليّ سنة أو أكثر و عندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا - يعرّض بأن رملة إنما تستعدي عليه طلبا للنكاح - فقال له معاوية: يا ابن الوزغ(5)، لست هناك.
فقال له مروان: هو ذاك الآن، و اللّه إني لأبو عشرة و أخو عشرة و عمّ عشرة، و قد كاد ولدي أن يكملوا العدّة - يعني أربعين - و لو قد بلغوها لعلمت أين تقع منّي! فانخزل معاوية ثم قال:
/
فإن آك في شراركم قليلا *** فإنّي في خياركم كثير
بغاث الطّير أكثرها فراخا *** و أمّ الصّقر مقلات نزور(6)
قال: فما فرغ مروان من كلامه حتى استخذى معاوية في يده و خضع له، و قال: لك العتبى(7)، و أنا رادّك إلى عملك. فوثب مروان و قال له: كلاّ و اللّه و عيشك لا رأيتني عائدا إليه أبدا. /و خرج، فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت لك قطّ سقطة مثلها، ما هذا الخضوع لمروان؟ و أيّ شيء يكون منه و من بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ و أيّ شيء تخشاه منهم؟ فقال له: ادن منّي أخبرك بذلك. فدنا منه، فقال له: إنّ الحكم بن أبي العاص كان أحد من وفد مع أختي أمّ حبيبة(8) لما زفّت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو الّذي تولّى نقلها إليه، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يحدّ النّظر إليه، فلما خرج من عنده قيل له: يا رسول اللّه، لقد أحددت النّظر إلى الحكم! فقال: «ابن المخزومية؛ ذلك رجل إذا بلغ
ص: 177
ولده ثلاثين - أو قال: أربعين - ملكوا الأمر بعدي». فو اللّه لقد تلقّاها مروان من عين صافية. فقال له الأحنف: لا يسمعنّ هذا أحد منك، فإنّك تضع من قدرك و قدر ولدك بعدك، و إن يقض اللّه عزّ و جلّ أمرا يكن. فقال له معاوية:
فاكتمها عليّ يا أبا بحر إذا، فقد لعمري صدقت و نصحت.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال، حدّثنا عمر بن شبة قال: حدّثني يعقوب بن القاسم الطّلحي قال:
حدّثني ثمال عن أيوب بن درباس بن دجاجة قال:
/شخص مروان بن الحكم و معه أخوه عبد الرحمن، إلى معاوية، ثم ذكر نحوا من الحديث الأول، و لم يذكر فيه مخاطبة معاوية في أمرهم للأحنف، و زاد فيه: فقال عبد الرحمن في ذلك:
أ تقطر آفاق السماء له دما *** إذا قيل هذا الطّرف أجرد سابح(1)
فحتّى متى لا نرفع الطّرف ذلة *** و حتّى متى تعيا عليك المنادح(2)
أخبرني عمي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعيد قال: حدّثنا عليّ بن الصباح عن ابن الكلبيّ عن أبيه، قال:
كان عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي عند يزيد بن معاوية، و قد بعث إليه عبيد اللّه بن زياد برأس الحسين بن عليّ - عليهما السلام - فلما وضع بين يدي يزيد في الطّشت بكى عبد الرحمن ثم قال:
أبلغ أمير المؤمنين فلا تكن *** كموتر أقواس و ليس لها نبل(3)
لهام بجنب الطّفّ أدنى قرابة *** من ابن زياد الوغد ذي الحسب الرذل(4)
سميّة أمسى نسلها عدد الحصى *** و بنت رسول اللّه ليس لها نسل
/فصاح به يزيد: اسكت يا ابن الحمقاء، و ما أنت و هذا؟!
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني هارون بن معروف قال: حدّثنا بشر بن السري قال: حدّثنا عمر بن سعيد عن أبي مليكة قال: رأيتهم - يعني بني أميّة - يتتايعون(5) نحو ابن عبّاس حين نفى ابن الزبير بني أمية عن الحجاز، فذهبت معهم و أنا غلام، فلقينا رجلا خارجا من عنده، فدخلنا عليه، فقال له عبيد بن عمير، ما لي أراك تذرف عيناك؟ فقال له: إن هذا - يعني عبد الرحمن بن الحكم - قال بيتا أبكاني، و هو:
و ما كنت أخشى أن ترى الذلّ نسوتي *** و عبد مناف لم تغلها الغوائل
فذكر قرابة بيننا و بين بني عمّنا بني أمية، و إنّا إنّما كنّا أهل بيت واحد في الجاهلية، حتّى جاء الإسلام فدخل الشيطان بيننا أيّما دخل.
ص: 178
أخبرني عمي قال: حدّثنا الكرانيّ قال: /حدثنا العمريّ عن الهيثم قال: حدّثني أخي عباس: أنّ عبد الرحمن بن الحكم كان يولع بجارية لأخيه مروان يقال لها «شنباء» و يهيم بمحبّتها، فبلغ ذلك مروان، فشتمه و توعّده و تحفّظ منه في أمر الجارية و حجبها، فقال فيها عبد الرحمن:
لعمر أبي شنباء إنّي بذكرها *** و إن شحطت دار بها لحقيق(1)
و إني لها، لا ينزع اللّه ما لها *** عليّ و إن لم ترعه، لصديق
و لمّا ذكرت الوصل قالت و أعرضت *** متى أنت عن هذا الحديث مفيق
/أخبرني عمي قال: حدّثنا الكراني قال: حدّثنا الخليل بن أسد عن العمري، و لم أسمعه من العمريّ، عن الهيثم بن عديّ قال:
لما ادّعى معاوية زيادا قال عبد الرحمن بن الحكم في ذلك - و الناس ينسبونها إلى ابن مفرغ لكثرة هجائه إلى زياد، و ذلك غلط - قال:
ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرجل الهجان(2)
أ تغضب أن يقال أبوك عفّ *** و ترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد إن رحمك من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان
و أشهد أنّها ولدت زيادا *** و صخر من سميّة غير داني
فبلغ ذلك معاوية بن حرب، فحلف ألا يرضى عن عبد الرحمن حتى يرضى عنه زياد، فخرج عبد الرحمن إلى زياد، فلما دخل عليه قال له: إيه(3) يا عبد الرحمن، أنت القائل:
ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرجل الهجان
قال: لا أيّها الأمير، ما هكذا قلت، و لكنّي قلت:
ألا من مبلغ عني زيادا *** مغلغلة من الرّجل الهجان
من ابن القرم قرم بني قصيّ *** أبي العاصي بن آمنة الحصان(4)
حلفت بربّ مكّة و المصلّى *** و بالتّوراة أحلف و القرآن
لأنت زيادة في آل حرب *** أحبّ إليّ من وسطى بناني
/سررت بقربه و فرحت لمّا *** أتاني اللّه منه بالبيان
و قلت له أخو ثقة و عمّ *** بعون اللّه في هذا الزمان(5)
كذاك أراك و الأهواء شتّى *** فما أدري بغيب ما تراني
ص: 179
فرضي عنه زياد، و كتب له بذلك إلى معاوية، فلما دخل عليه بالكتاب قال: أنشدني ما قلت لزياد. فأنشده، فتبسّم ثم قال: قبح اللّه زيادا، ما أجهله، و اللّه لما قلت له أخيرا حيث تقول:
لأنت زيادة في آل حرب
شرّ من القول الأوّل، و لكنّك خدعته فجازت خديعتك عليه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثنا عمر بن شبة قال: استعمل معاوية بن أبي سفيان الحارث بن الحكم بن أبي العاصي على غزاة البحر، فنكص و استعفى، فوجّه مكانه ابن أخيه عبد الملك بن مروان، فمضى و أبلى و حسن بلاؤه، فقال عبد الرحمن بن الحكم لأخيه الحارث:
/
شنئتك إذ رأيتك حوتكيّا *** قريب الخصيتين من التراب(1)
كأنّك قملة لقحت كشافا *** لبرغوث ببعرة او صوأب(2)
كفاك الغزو إذا أحجمت عنه *** حديث السن مقتبل الشّباب(3)
فليتك حيضة ذهبت ضلالا *** و ليتك عند منقطع السّحاب(4)
أخبرني محمّد بن الحسن بن دريد قال: حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: لطم عبد الرحمن بن الحكم مولى لأهل المدينة حنّاطا، و أخوه مروان يومئذ وال لأهل المدينة، فاستعداه الحنّاط عليه، فأجلسه مروان بين يديه و قال له: الطمه - و هو أخو مروان لأبيه و أمه - فقال الحنّاط: و اللّه ما أردت هذا، و إنّما أردت أن أعلمه أنّ فوقه سلطانا ينصرني عليه، و قد وهبتها لك. قال: لست أقبلها منك فخذ حقّك. فقال: و اللّه لا ألطمه، و لكنّي أهبها لك. فقال له مروان: إن كنت ترى أن ذلك يسخطني فو اللّه لا أسخط، فخذ حقّك. فقال: قد وهبتها لك، و لست و اللّه لاطمه.
قال: لست و اللّه قابلها، فإن وهبتها فهبها لمن لطمك، أو للّه عزّ و علا. فقال: قد وهبتها للّه تعالى. فقال عبد الرحمن يهجو أخاه مروان:
كلّ ابن أم زائد غير ناقص *** و أنت ابن أمّ ناقص غير زائد
وهبت نصيبي منك يا مرو كلّه *** لعمرو و عثمان الطّويل و خالد
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدّثني عمر بن شبّة قال: حدّثني المدائني عن شيخ من أهل مكة قال:
/عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحكم خيله، فمرّ به فرس فقال له: كيف تراه؟ فقال: هذا سابح. ثم عرض عليه آخر فقال: هذا ذو علالة. ثم مرّ به آخر فقال: و هذا أجشّ هزيم. فقال له معاوية: قد علمت ما أردت، إنّما عرّضت بقول النجاشيّ فيّ:
و نجّى ابن حرب سابح ذو علالة *** أجشّ هزيم و الرماح دوان(1)
سليم الشّظي عبل الشّوى شنج النّسا *** كسيد الغضى باق على النّسلان(2)
أخرج عنّي فلا تساكنّي في بلد، فلقي عبد الرحمن أخاه مروان فشكا إليه معاوية، و قال له عبد الرحمن:
و حتّى متى نستذلّ و نضام؟ فقال له مروان: هذا عملك بنفسك. فأنشأ يقول:
أ تقطر آفاق السّماء لنا دما *** إذا قلت هذا الطّرف أجرد سابح
فحتّى متى لا نرفع الطّرف ذلّة *** و حتّى متى تعيا عليك المنادح(3)
فدخل مروان على معاوية، فقال له مروان: حتّى متى هذا الاستخفاف بآل أبي العاصي؟ أما و اللّه إنّك لتعلم قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم و آله فينا، و لقلّ ما بقي من الأجل(4). فضحك معاوية و قال: لقد عفوت لك عنه(5) يا أبا عبد الملك. و اللّه أعلم بالصواب(6).
قولا لنائل ما تقضين في رجل *** يهوى هواك و ما جنّبته اجتنبا
يمسي معي جسدي و القلب عندكم *** فما يعيش إذا ما قلبه ذهبا(7)
الشعر لمسعدة بن البختريّ، و الغناء لعبادل، ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و فيه لعريب ثقيل أوّل آخر عن ابن المعتزّ، و لها فيه أيضا خفيف رمل عنه.
ص: 181
هو مسعدة بن البختريّ بن المغيرة بن أبي صفرة، بن أخي المهلّب بن أبي صفرة. و قد مضى نسبه متقدّما في نسب يزيد بن محمّد المهلبي و ابن أبي عيينة و غيرهما.
و هذا الشعر يقوله في نائلة بنت عمر بن يزيد الأسيديّ و كان يهواها.
أخبرني بخبره في ذلك أبو دلف هاشم بن محمّد الخزاعي قال: حدّثني عيسى بن إسماعيل تينة، عن القحذميّ قال:
كان مسعدة بن البختريّ بن المغيرة بن أبي صفرة، يشبّب بنائلة بنت عمر بن يزيد الأسيديّ أحد بني أسيّد بن عمرو بن تميم(1)، و كان أبوها سيّدا شريفا، و كان على شرط العراق من قبل الحجّاج، و فيها يقول:
أ نائل إنّني سلم *** لأهلك فاقبلي سلمي
قال القحذميّ: و أمّ نائلة هذه عاتكة بنت الفرات بن معاوية البكّائي، و أمّها الملاءة بنت زرارة بن أوفى الجرشيّة، و كان أبوها فقيها محدّثا من التابعين. و قد شبّب الفرزدق بالملاءة و بعاتكة ابنتها.
قال عيسى: فحدثني محمّد بن سلام قال: لا أعلم أنّ امرأة شبّب بها و بأمّها وجدتها غير نائلة. فأمّا نائلة فقد ذكر ما قال فيها مسعدة، و أمّا عاتكة فإنّ يزيد بن المهلب تزوّجها؛ فقتل عنها يوم العقر، و فيها يقول الفرزدق:
/
إذا ما المزونيات أصبحن حسّرا *** و بكّين أشلاء على غير نائل(2)
فكم طالب بنت الملاءة إنّها *** تذكر ريعان الشّباب المزايل(3)
و في الملاءة أمّها يقول الفرزدق:
كم للملاءة من طيف يؤرّقني *** إذا تجر ثم هادي الليل و اعتكرا(4)
أخبرني الحرمي بن العلاء قال: حدّثني الزّبير بن بكّار قال: حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه قال:
ص: 182
خرجت عاتكة بنت الملاءة إلى بعض بوادي البصرة فلقيت بدويا معه سمن فقالت له: أ تبيع هذا السّمن؟ فقال: نعم. قالت: أرناه. ففتح نحيا(1) فنظرت إلى ما فيه، ثم ناولته إياه و قالت: افتح آخر. ففتح أخر فنظرت إلى ما فيه ثم ناولته إياه، فلما شغلت يديه أمرت جواريها فجعلن يركلن في استه و جعلت تنادي: يا لثارات ذات النّحيين!
قال الزّبير: تعني ما صنع بذات النّحيين في الجاهلية؛ فإنّ رجلا يقال له: خوّات بن جبير رأى امرأة معها نحيا سمن فقال: أريني هذا. ففتحت له أحد النّحيين، فنظر إليه ثم قال: أريني الآخر. ففتحته، ثم دفعه إليها، فلما شغل يديها وقع عليها، فلا تقدر على الامتناع خوفا من أن يذهب السمن، فضربت/العرب المثل بها، و قالت:
«أشغل من ذات النّحيين». فأرادت عاتكة بنت الملاءة أنّ هذا لم يفعله أحد من النساء برجل كما يفعله الرّجل بالمرأة غيرها، و أنّها ثأرت للنّساء ثأرهنّ من الرّجال بما فعلته.
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال: حدّثنا أبو هفّان عن إسحاق الموصليّ عن الزبير و المسيّبي(2)و محمّد بن سلام و غيرهم من رجاله: أنّ الملاءة بنت زرارة لقيت عمر بن أبي ربيعة بمكة و حوله جماعة ينشدهم، فقالت لجارية: من هذا؟ قالت: عمر بن أبي بربيعة، المنتقل من منزله من ذات وداد إلى أخرى، الّذي لم يدم على وصل، و لا لقوله فرع و لا أصل، أما و اللّه لو كنت كبعض من يواصل لما رضيت منه بما ترضين، و ما رأيت أدنا من نساء أهل الحجاز و لا أقرّ منهنّ بخسف، و اللّه لأمة من إمائنا آنف منهنّ! فبلغ ذلك عمر عنها، فراسلها فراسلته، فقال:
حيّ المنازل قد عمرن خرابا *** بين الجرين و بين ركن كسابا(3)
بالثّني من ملكان غيّر رسمها *** مرّ السحاب المعقبات سحابا(4)
و ذيول معصفة الرّياح تجرّها *** دققا فأصبحت العراص يبابا(5)
و لقد أراها مرّة مأهولة *** حسنا جناب محلّها معشابا(6)
دارّ الّتي قالت غداة لقيتها *** عند الجمار فما عييت جوابا
هذا الّذي باع الصّديق بغيره *** و يريد أن أرضى بذاك ثوابا
/قلت اسمعي منّي المقال و من يطع *** بصديقه المتملّق الكذّابا
ص: 183
[و تكن لديه حباله أنشوطة *** في غير شيء يقطع الأسبابا](1)
إن كنت حاولت العتاب لتعلمي *** ما عندنا فلقد أطلت عتابا
أو كان ذلك للبعاد فإنّه *** يكفيك ضربك دونك الجلبابا
و أرى بوجهك شرق نور بيّن *** و بوجه غيرك طخية و ضبابا(2)
أسعداني يا نخلتي حلوان *** و ارثيا لي من ريب هذا الزمان
و اعلما أنّ ريبه لم يزل يف *** رق بين الألاّف و الجيران
أسعداني و أيقنا أنّ نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان
و لعمري لو ذقتما ألم الفر *** قة أبكاكما كما أبكاني
كم رمتني به صروف الليالي *** من فراق الأحباب و الخلاّن
الشعر لمطيع بن إياس، و الغناء لحكم الواديّ، هزج بالوسطى عن عمرو و الهشامي.
ص: 184
هو مطيع بن إياس الكناني. ذكر الزّبير بن بكار أنه من بني الدّيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. و ذكر إسحاق الموصليّ عن سعيد بن سلم أنه من بني ليث بن بكر. و الدّيل و ليث أخوان لأب و أمّ، أمّهما أمّ(1) خارجة، و اسمها عمرة بنت سعد بن عبد اللّه بن قراد بن ثعلبة بن/معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. و هي الّتي يضرب بها المثل فيقال: «أسرع من نكاح أم خارجة». و قد ولدت(2) عدّة بطون من العرب حتّى لو قال قائل: إنه لا يكاد يتخلّص من ولادتها كبير أحد منهم كان مقاربا. فمن ولدت الديل و ليث و الحارث و بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، و غاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، و العنبر و أسيّد و الهجيم، بنو عمرو بن تميم، و خارجة بن يشكر - و به كانت تكنى - ابن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن مزيقيا، و هو أبو المصطلق.
قال النسابون: بلغ من سرعة نكاحها أنّ الخاطب كان يأتيها فيقول لها: خطب، فتقول له: نكح.
و زعموا أنّ بعض أزواجها طلّقها فرحل بها ابن لها عن حيّه إلى حيّها، فلقيها راكب فلما تبيّنته قالت لابنها:
هذا خاطب لي لا شكّ فيه، أ فتراه يعجلني أن أنزل عن بعيري(3)؟ فجعل ابنها يسبّها.
/و لا أعلم أنّي وجدت نسب مطيع متصلا إلى كنانة في رواية أحد إلاّ في حديث أنا ذاكره؛ فإن راويه ذكر أن أبا قرعة الكنانيّ جدّ مطيع، فلا أعلم أ هو جدّه الأدنى فأصل نسبه به، أم هو بعيد منه، فذكرت الخبر على حاله.
أخبرني به عيسى بن الحسن الورّاق قال: حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدّثني العمري و أبو فراس عمّي جميعا، عن شراحيل بن فراس، أنّ أبا قرعة الكناني، و اسمه سلمى بن نوفل - قال: و هو جدّ مطيع بن اياس الشّاعر - كانت بينه و بين ابن الزّبير قبل أن يلي مقارضة(4)، فدخل سلمى و ابن الزبير يخطب الناس، و كان منه و جلا، فرماه ابن الزّبير ببصره حتّى جلس، فلما انصرف من المجلس دعا حرسيّا فقال: امض إلى موضع كذا و كذا من المسجد، فادع لي سلمى بن نوفل. فمضى فأتاه به، فقال له الزبير: إيها أيّها الضبّ. فقال: إنّي لست بالضبّ و لكنّ الضبّ بالضّمر(5) من صخر. قال: إيها أيّها الذّيخ(6). قال: إن أحدا لم يبلغ سنّي و سنّك إلاّ سمّي ذيخا.
ص: 185
قال: إنّك لها هنا يا عاضّ بظر أمّه. قال: أعيذك باللّه أن يتحدث العرب أنّ الشيطان نطق على فيك بما تنطق به الأمة الفسلة، و ايم اللّه ما هاهنا داد أريده على المجلس أحد(1) إلاّ قد كانت أمّه كذلك.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا علي بن محمّد بن سليمان النوفلي عن أبيه قال: كان إياس بن مسلم، أبو مطيع بن إياس شاعرا، و كان قد وفد إلى نصر بن سيّار بخراسان فقال فيه:
/
إذا ما نعالي من خراسان أقبلت *** و جاوزت منها مخرما ثم مخرما(2)
ذكرت الّذي أوليتني و نشرته *** فإن شئت فاجعلني لشكرك سلّما
جد مطيع بن إياس فأما نسب أبي قرعة هذا فإنه سلمى بن نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر بن نفاثة بن عديّ بن الدّيل بن بكر بن عبد مناة. ذكر ذلك المدائني. و كان سلمى بن نوفل جوادا. و فيه يقول الشاعر:
يسوّد أقوام و ليسوا بسادة *** بل السيّد الميمون سلمى بن نوفل(3)
و هو شاعر من مخضرمي الدّولتين الأمويّة و العباسية، و ليس من فحول الشعراء في تلك، و لكنه كان ظريفا خليعا حلو العشرة، مليح النّادرة، ماجنا متّهما في دينه بالزندقة، و يكنى أبا سلمى. و مولده و منشؤه الكوفة، و كان أبوه من أهل فلسطين الذين أمدّ بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير و ابن الأشعث، فأقام بالكوفة و تزوّج بها، فولد له مطيع.
أخبرني بذلك الحسين بن يحيى، عن حمّاد عن أبيه، و كان منقطعا إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، و متصرّفا بعده في دولتهم، و مع أوليائهم و عمّالهم و أقاربهم لا يكسد عند أحد منهم، ثم انقطع في الدولة العباسية إلى جعفر بن أبي جعفر المنصور، فكان معه حتّى مات، و لم أسمع له مع أحد منهم خبرا إلا حكاية بوفوده على سليمان بن علي، و أنّه ولاّه عملا. و أحسبه مات في تلك الأيام.
حدّثني عمي الحسن بن محمّد، قال: حدّثني محمّد بن سعد الكرانيّ عن العمري عن العتبي عن أبيه قال:
قدم البصرة علينا شيخ من أهل الكوفة لم أر قطّ أظرف لسانا و لا أحلى حديثا منه، و كان يحدّثني عن مطيع بن إياس، و يحيى بن زياد، و حماد الراوية، و ظرفاء الكوفة، بأشياء من أعاجيبهم و طرفهم، فلم يكن يحدّث عن أحد بأحسن مما كان يحدّثني عن مطيع بن إياس، فقلت له: كنت و اللّه أشتهي أن أرى مطيعا، فقال: و اللّه لو رأيته للقيت
ص: 186
منه بلاء عظيما. قال: قلت: و أيّ بلاء ألقاه من رجل أراه؟ قلت: كنت ترى رجلا يصبر عنه العاقل إذا رآه، و لا يصحبه أحد إلاّ افتضح به.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا أبو سعيد السكري عن محمّد بن حبيب قال: سألت رجلا من أهل الكوفة كان يصحب مطيع بن إياس عنه فقال: لا ترد أن تسألني عنه. قلت: و لم ذاك؟ قال: و ما سؤالك إيّاي عن رجل كان إذا حضر ملكك(1)، و إذا غاب عنك شاقك، و إذا عرفت بصحبته فضحك.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال: حدّثني محمّد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو قال: حدّثني أبو توبة صالح بن محمّد عن محمّد جبير، عن عبد اللّه بن العباس الربيعي قال: حدّثني إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى: ذكر حكم الواديّ، أنه غنّى الوليد بن يزيد ذات ليلة و هو غلام حديث السنّ، فقال:
إكليلها ألوان *** و وجهها فتّان
و خالها فريد *** ليس لها جيران
إذا مشت تثنّت *** كأنّها ثعبان
/فطرب حتّى زحف عن مجلسه إليّ، و قال: أعد فديتك بحياتي. فأعدته حتى صحل صوتي(2)، فقال لي:
ويحك، من يقول هذا؟ فقلت: عبد لك يا أمير المؤمنين أرضاه لخدمتك. فقال: و من هو فديتك؟ فقلت: مطيع بن إياس الكناني. فقال: و أين محله؟ قلت: الكوفة. فأمر أن/يحمل إليه على البريد، فحمل إليه، فما أشعر يوما إلا برسوله قد جاءني، فدخلت إليه و مطيع بن إياس واقف بين يديه، و في يد الوليد طاس من ذهب يشرب به، فقال له:
غنّ هذا الصوت يا واديّ. فغنّيته إياه، فشرب عليه، ثم قال لمطيع: من يقول هذا الشعر؟ قال: عبدك أنا يا أمير المؤمنين. فقال له: ادن مني. فدنا منه، فضمّه الوليد و قبّل فاه و بين عينيه، و قبّل مطيع رجله و الأرض بين يديه، ثم أدناه منه حتّى جلس أقرب المجالس إليه، ثم تمّ يومه(3) فاصطبح أسبوعا متوالي الأيام على هذا الصوت.
لحن هذا الصوت هزج مطلق في مجرى البنصر، و الصنعة لحكم. و قد حدّثني بخبره هذا مع الوليد جماعة على غير هذه الرواية، و لم يذكروا فيها حضور مطيع.
حدّثني به أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثنا عليّ بن محمّد النوفلي عن أبيه قال: بلغني عن حكم الواديّ، و أخبرني الحسين بن يحيى، و محمّد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا: حدّثنا حماد بن إسحاق قال: حدّثني أحمد بن يحيى المكي عن أمّه عن حكم الواديّ قال:
وفدت على الوليد بن يزيد مع المغنّين، فخرج يوما إلينا و هو راكب على حمار، و عليه درّاعة وشي(4)؛ و بيده عقد جوهر، و بين يديه كيس فيه ألف دينار، فقال: /من غنّاني فأطربني فله ما عليّ و ما معي. فغنّوه فلم يطرب، فاندفعت و أنا يومئذ أصغرهم سنّا فغنّيته:
إكليلها ألوان *** و وجهها فتّان
ص: 187
و خالها فريد *** ليس له جيران
إذا مشت تثنّت *** كأنّها ثعبان
فرمى إليه بما معه من المال و الجوهر، ثم دخل فلم يلبث أن خرج إليّ رسوله بما عليه من الثّياب و الحمار الّذي كان تحته.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:
كان مطيع بن إياس، و يحيى بن زياد الحارثيّ، و ابن المقفّع و والبة بن الحباب يتنادمون و لا يفترقون، و لا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال و لا ملك، و كانوا جميعا يرمون بالزّندقة.
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني عليّ بن محمّد النوفليّ عن أبيه و عمومته، أنّ مطيع بن إياس و عمارة بن حمزة من بني هاشم، و كان مرميّين بالزندقة، نزعا إلى عبد اللّه بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب لمّا خرج في آخر دولة(1) بني أمية، و أوّل ظهور الدّولة العباسية بخراسان، و كان ظهر على نواح من الجبل: منها أصبهان و قمّ و نهاوند، فكان مطيع و عمارة ينادمانه و لا يفارقانه.
قال النوفلي: فحدثني إبراهيم بن يزيد بن الخشك قال:
/دخل مطيع بن إياس على عبد اللّه بن معاوية يوما و غلام واقف على رأسه يذبّ عنه بمنديل - و لم يكن في ذلك الوقت مذابّ، إنّما المذابّ عباسية - قال: و كان الغلام الّذي يذبّ أمرد حسن الصّورة، يروق عين الناظر، فلما نظر مطيع إلى الغلام كاد عقله يذهب، و جعل يكلّم ابن معاوية يلجلج، فقال:
إنّي و ما أعمل الحجيج له *** أخشى مطيع الهوى على فرج(2)
أخشى عليه مغامسا مرسا *** ليس بذي رقبة و لا حرج(3)
/أخبرني أحمد بن عبيد اللّه قال: حدّثنا عليّ بن محمّد النوفلي قال: حدّثني أبي عن عمه عيسى قال:
كان لابن معاوية صاحب شرطة يقال له: قيس بن عيلان العنسيّ النوفلي [و عيلان] اسم أبيه، و كان شيخا كبيرا دهريّا لا يؤمن باللّه، و كان إذا عسّ لم يبق أحد إلا قتله، فأقبل يوما فنظر إليه ابن معاوية و معه عمارة بن حمزة و مطيع بن إياس، قال:
إن قيسا و إن تقنّع شيبا *** لخبيث الهوى على شمطه(4)
أجزيا عمارة. فقال:
ابن سبعين منظرا و مشيبا *** و ابن عشر يعدّ في سقطه(5)
ص: 188
فأقبل على مطيع فقال: أجز. فقال:
و له شرطة إذا جنّه اللي *** ل فعوذوا باللّه من شرطه
قال النوفليّ: و كان مطيع فيما بلغني مأبونا، فدخل عليه قومه فلاموه على فعله، و قالوا له: أنت في أدبك و شرفك و سؤددك و شرفك ترمى بهذه الفاحشة القذرة؟ فلو أقصرت عنها! فقال: جرّبوه أنتم ثم دعوا إن كنتم صادقين. فانصرفوا عنه، و قالوا: قبح اللّه فعلك و عذرك، و ما استقبلتنا به.
أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدّثنا حمّاد عن أخيه عن النضر بن حديد قال: أخبرني أبو عبد الملك المرواني قال: حدّثني مطيع بن إياس قال:
قال لي حمّاد عجرد: هل لك في أن أريك خشّة صديقي(1)، و هي المعروفة بظبية الوادي؟ قلت: نعم. قال:
إنّك إن قعدت عنها و خبثت عينك في النّظر أفسدتها عليّ. فقلت: لا و اللّه لا أتكلّم بكلمة تسوءك، و لأسرّنّك.
فمضى و قال: و اللّه لا أتكلم، لئن خالفت ما قلت لأخرجنّك. قال: قلت: إن خالفت ما تكره فاصنع بي ما أحببت.
قال: امض بنا. فأدخلني على أظرف خلق اللّه و أحسنهم وجها، فلما رأيتها أخذني الزّمع(2) و فطن لي: فقال: اسكن يا ابن الزانية. فسكنت قليلا، فلحظتني و لحظتها أخرى، فغضب و وضع قلنسيته عن رأسه، و كانت صلعته حمراء كأنّها است قرد، فلما وضعها وجدت للكلام موضعا فقلت:
وار السّوأة السوآ *** ء يا حمّاد عن خشّه(3)
عن الأترجّة(4) الغضّ *** ة و التفاحة الهشّه
فالتفت إليّ، و قال: فعلتها يا ابن الزّانية؟ فقالت له: أحسن و اللّه، ما بلغ صفتك بعد(5)، فما تريد منه؟ فقال لها: يا زانية! فقالت له: الزانية أمّك! و ثاورته(6) و ثاورها، فشقّت قميصه، و بصقت في وجهه، و قالت له: ما تصادقك و تدع مثل هذا إلاّ زانية! و خرجنا و قد لقي كلّ بلاء، و قال لي: أ لم أقل لك يا ابن الزانية: إنّك ستفسد عليّ مجلسي. فأمسكت عن جوابه، و جعل يهجوني و يسبّني، و يشكوني إلى أصحابنا، فقالوا لي: اهجه و دعنا و إيّاه.
فقلت فيه:
و زين المصر و الدّار *** و زين الحيّ و النادي
و ذات المبسم العذب *** و ذات الميسم البادي(1)
أما باللّه تستحيي *** ن من خلّة حمّاد(2)
/فحمّاد فتى ليس *** بذي عزّ فتنقادي(3)
و لا مال و لا عزّ(4) *** و لا حظّ لمرتاد
فتوبي و اتّقي اللّه *** و بتّي جبل جرّاد(5)
فقد ميّزت بالحسن *** عن الخلق بإفراد
و هذا البين قد حمّ *** فجودي منك بالزّاد
/ - في الأوّل و الثاني و السابع و الثامن من هذه الأبيات لحكم الواديّ رمل.
قال: فأخذ أصحابنا رقاعا فكتبوا الأبيات فيها، و ألقوها في الطريق، و خرجت أنا فلم أدخل إليهم ذلك اليوم(6)، فلما رآها و قرأها قال لهم: يا أولاد الزّنا، فعلها ابن الزانية، و ساعدتموه عليّ!
قال: و أخذها حكم الواديّ فغنّى فيها، فلم يبق بالكوفة سقّاء و لا طحّان و لا مكار إلاّ غنّى فيها، ثم غنيت مدّة و قدمت(7)، فأتاني فما سلّم عليّ حتّى قال لي: يا ابن الزانية، ويلك أ ما رحمتني من قولك لها:
أما باللّه تستحيي *** ن من خلة حمّاد
باللّه قتلتني قتلك اللّه! و اللّه ما كلّمتني حتّى الساعة. قال: قلت: اللهم أدم هجرها له و سوء آرائها فيه، و آسفه(8) عليها، و أغره بها! فشتمني ساعة. قال مطيع: ثم قلت له: قم بنا حتّى أمضي بك فأريك أختي. قال مطيع، فمضينا فلمّا خرجت إلينا دعوت قيّمة لها فأسررت إليها في أن تصلح لنا طعاما و شرابا، و عرّفتها أنّ الّذي معي حمّاد. فضحكت ثم أخذت صاحبتي في الغناء، و قد علمت بموضعه و عرفته، فكان أوّل صوت غنت:
أما باللّه تستحيي *** ن من خلّة حمّاد
فقال لها: يا زانية! و أقبل عليّ فقال لي: و أنت يا زاني يا ابن الزانية. و شاتمته صاحبتي ساعة، ثم قامت فدخلت، و جعل يتغيّظ عليّ فقلت: أنت ترى أنّي أمرتها أن تغنّي بما غنّت؟ قال: أرى ذلك و أظنّه ظنّا، لا و اللّه، و لكنّي أتيقّنه! فحلفت له/بالطلاق على بطلان ظنه، فقالت: و كيف هذا؟ فقلت: أراد أن يفسد هذا المجلس من أفسد ذلك المجلس. فقالت: قد و اللّه فعل. و انصرفنا.
ص: 190
أخبرني محمّد بن خلف وكيع قال: حدّثني هارون بن محمّد بن عبد الملك الزيّات قال: حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجل من أصحابه قال:
قال يحيى بن زياد الحارثيّ لمطيع بن إياس: انطلق بنا إلى فلانة صديقتي؛ فإنّ بيني و بينها مغاضبة، لتصلح بيننا، و بئس المصلح أنت. فدخلا إليها فأقبلا يتعاتبان، و مطيع ساكت، حتّى إذا أكثر قال يحيى لمطيع: ما يسكتك، أسكت اللّه نأمتك(1)؟ فقال لها مطيع:
أنت معتلّة عليه و ما زا *** ل مهينا لنفسه في رضاك
فأعجب يحيى ما سمع، و هشّ له مطيع:
فدعيه و واصلي ابن إياس *** جعلت نفسي الغداة فداك
فقام يحيى إليه بوسادة في البيت، فما زال يجلد بها رأسه و يقول: أ لهذا جئت بك يا ابن الزانية! و مطيع يغوّث(2)حتّى ملّ يحيى، و الجارية تضحك منهما، ثم تركه و قد سدر(3).
حدّثني الحسن بن عليّ الخفّاف قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني محمّد بن عمر الجرجاني قال:
مرض حمّاد عجرد، فعاده أصدقاؤه جميعا إلاّ مطيع بن إياس، و كان خاصّة به، فكتب إليه حمّاد:
/
كفاك عيادتي من كان يرجو *** ثواب اللّه في صلة المريض
فإن تحدث لك الأيام سقما *** يحول جريضه دون القريض(4)
يكن طول التأوّه منك عندي *** بمنزلة الطّنين من البعوض
أخبرني محمّد بن أبي الأزهر عن حمّاد عن أبيه قال: قدم مطيع بن إياس من سفر فقدم بالرغائب، فاجتمع هو و حمّاد عجرد بصديقته ظبية الوادي، و كان عجرد على الخروج مع محمّد بن أبي العباس إلى البصرة، و كان مطيع قد أعطى صاحبته من طرائف ما أفاد، فلما جلسوا يشربون غنّت ظبية الوادي فقالت(5):
أظنّ خليلي غدوة سيسير *** و ربّي على أن لا يسير قدير
فما فرغت من الصوت حتّى غنّت صاحبة مطيع:
ما أبالي إذا النّوى قربتهم *** و دنونا من حلّ منهم و ساروا
فجعل مطيع يضحك و حماد يشتمها.
ص: 191
أظنّ خليلي غدوة سيسير *** و ربّي على أن لا يسير قدير
عجبت لمن أمسى محبّا و لم يكن *** له كفن في بيته و سرير
غنّى في هذين البيتين إبراهيم الموصليّ، و لحنه ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى البنصر، و فيهما لحن يمان قديم خفيف رمل بالوسطى.
/حدثني الحسن قال: حدّثني ابن مهرويه قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر عن محمّد بن عمر الجرجاني قال:
كان لمطيع بن إياس صديق يقال له: عمر بن سعيد، فعاتبه في أمر قينة يقال لها «مكنونة» كان مطيع يهواها حتى اشتهر بها، و قال له: إن قومك يشكونك و يقولون: إنّك تفضحهم بشهرتك نفسك بهذه المرأة، و قد لحقهم العيب و العار من أجلها! فأنشأ مطيع يقول:
قد لا مني في حبيبتي عمر *** و اللّوم في غير كنهه ضجر(1)
قال أفق، قلت لا، قال بلى *** قد شاع في الناس عنكما الخبر
قلت قد شاع فاعتذاري ممّا *** ليس لي فيه عندهم عذر
عجز لعمري و ليس ينفعني *** فكفّ عني العتاب يا عمر
و ارجع إليهم و قل لهم قد أبى *** و قال لي لا أفيق فانتحروا(2)
أعشق وحدي فيؤخذون به *** كالتّرك تغزو فيقتل الخزر(3)
أخبرني الحسن قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني ابن أبي أحمد عن أبي العبر/الهاشميّ قال: حدّثني أبي أنّ مطيع بن إياس مرّ بيحيى بن زياد، و حماد الراوية و هما يتحدّثان، فقال لهما: فيم أنتما؟ قالا: في قذف المحصنات. قال: أو في الأرض محصنة فتقذفانها؟!
حدّثني عيسى بن الحسن الورّاق قال: حدّثني عمر بن محمّد بن عبد الملك الزيات. و حدثنيه الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن عمر بن محمّد بن عبد الملك الزيات، قال: حدّثني محمّد بن هارون قال:
/أخبرني الفضل بن إياس الهذليّ الكوفيّ أنّ المنصور كان يريد البيعة للمهديّ، و كان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك، فأمر بإحضار الناس فحضروا، و قامت الخطباء فتكلّموا، و قالت الشعراء فأكثروا في وصف المهديّ و فضائله، و فيهم مطيع بن إياس، فلما فرغ من كلامه في الخطباء و إنشاده في الشعراء قال للمنصور: يا أمير المؤمنين، حدّثنا فلان عن فلان أنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «المهديّ منا محمّد بن عبد اللّه و أمّه من غيرنا، يملؤها عدلا كما
ص: 192
ملئت جورا» و هذا العباس بن محمّد أخوك(1) يشهد على ذلك. ثم أقبل على العباس، فقال له: «أنشدك اللّه هل سمعت هذا؟ فقال: نعم. مخافة من المنصور، فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهديّ.
قال: و لمّا انقضى المجلس، و كان العباس بن محمّد لم يأنس به، قال: أ رأيتم هذا الزنديق إذ كذب على اللّه عزّ و جلّ و رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم حتّى استشهدني على كذبه، فشهدت له خوفا، و شهد كلّ من حضر عليّ بأني كاذب؟! و بلغ الخبر جعفر بن أبي جعفر، و كان مطيع منقطعا إليه يخدمه، فخافه، و طرده عن خدمته. قال: و كان جعفر ماجنا، فلما بلغه قول مطيع هذا غاظه، و شقّت عليه البيعة لمحمد، فأخرج أيره ثم قال: إن كان أخي محمّد هو المهديّ فهذا القائم من آل محمّد.
أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: كان مطيع بن إياس يخدم جعفر بن أبي جعفر المنصور و ينادمه، فكره أبو جعفر ذلك، لما شهر به مطيع في الناس و خشي أن يفسده، فدعا بمطيع و قال له: عزمت على أن تفسد ابني عليّ و تعلّمه زندقتك؟ فقال: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين من أن/تظنّ بي هذا، و اللّه ما يسمع منّي إلا ما إذا وعاه جمّله و زيّنه و نبّله! فقال: ما أرى ذلك و لا يسمع منك إلا ما يضرّه و يغرّه. فلما رأى مطيع إلحاحه في أمره قال له: أ تؤمنني يا أمير المؤمنين عن غضبك حتّى أصدقك؟ قال: أنت آمن. قال: و أيّ مستصلح فيه؟ و أيّ نهاية لم يبلغها في الفساد و الضّلال؟ قال: ويلك، بأيّ شيء؟ قال: يزعم أنّه ليعشق امرأة من الجنّ و هو مجتهد في خطبتها، و جمع أصحاب العزائم عليها، و هم يغرونه و يعدونه بها و يمنونه، فو اللّه ما فيه فضل لغير ذلك من جدّ و لا هزل و لا كفر إيمان. فقال له المنصور: ويلك، أ تدري ما تقول؟ قال: الحق و اللّه أقول. فسل عن ذلك، فقال له: عد إلى صحبته و اجتهد أن تزيله عن هذا الأمر، و لا تعلمه أنّي علمت بذلك حتّى أجتهد في أزالته عنه.
أخبرني عمي قال: حدّثني الكراني عن ابن عائشة قال:
كان مطيع بن إياس منقطعا إلى جعفر بن أبي جعفر المنصور، فدخل أبوه المنصور عليه يوما، فقال لمطيع:
قد أفسدت ابني يا مطيع. فقال له مطيع: إنّما نحن رعيّتك فإذا أمرتنا بشيء فعلنا.
قال: و خرج جعفر من دار حرمه فقال/لأبيه: ما حملك على أن دخلت داري بغير إذن؟ فقال له أبو جعفر:
لعن اللّه من أشبهك، و لعنك! فقال: و اللّه لأنا أشبه بك منك بأبيك - قال: و كان خليعا - فقال: أريد أن أتزوّج امرأة من الجنّ! فأصابه لمم، فكان يصرع بين يدي أبيه و الربيع واقف، فيقول له: يا ربيع، هذه قدرة اللّه.
و قال المدائنيّ في خبره الّذي ذكرته عن عيسى بن الحسين عن أحمد بن الحارث عنه: فأصاب جعفرا من كثرة ولعه(2) بالمرأة الّتي ذكر أنه يتعشّقها من الجنّ صرع، /فكان يصرع في اليوم مرّات حتّى مات، فحزن عليه المنصور حزنا شديدا، و مشى في جنازته، فلما دفن و سوّي قبره قال للربيع: أنشدني قول مطيع بن إياس في مرثية يحيى بن زياد. فأنشده:
يا أهلي ابكوا لقلبي القرح *** و للدموع الذّوارف السّفح(3)
ص: 193
راحوا بيحيى و لو تطاوعني ال *** أقدار لم يبتكر و لم يرح(1)
يا خير من يحسن البكاء له ال *** يوم و من كان أمس للمدح
قال: فبكى المنصور، و قال: صاحب هذا القبر أحقّ بهذا الشعر.
أخبرني به عمّي أيضا عن الخزاز عن المدائني، فذكر مثله.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال: حدّثني المغيرة بن هشام الرّبعيّ قال: سمعت ابن عائشة يقول:
مرّ مطيع بن إياس بالرّصافة، فنظر إلى جارية قد خرجت من قصر الرّصافة كأنّها الشمس حسنا، و حواليها و صائف يرفعن أذيالها، فوقف ينظر إليها إلى أن غابت عنه، ثم التفت إلى رجل كان معه و هو يقول:
لمّا خرجن من الرّصا *** فة كالتّماثيل الحسان
يحففن أحور كالغزا *** ل يميس في جدل العنان(2)
قطّعن قلبي حسرة *** و تقسّما بين الأماني
ويلي على تلك الشما *** ئل و اللطيف من المعاني
يا طول حرّ صبابتي *** بين الغواني و القيان
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعيد، عن ابن توبة صالح بن محمّد، قال: حدّثني بعض ولد منصور بن زياد عن أبيه قال: قال محمّد بن الفضل بن السّكونيّ:
رحل(3) مطيع بن إياس إلى هشام بن عمرو و هو بالسّند مستميحا له، فلما رأته بنته قد صحّح العزم على الرّحيل بكت، فقال لها:
اسكتي قد حززت بالدّمع قلبي *** طالما حزّ دمعكنّ القلوبا
و دعي أن تقطّعي الآن قلبي *** و تريني في رحلتي تعذيبا
فعسى اللّه أن يدافع عني *** ريب ما تحذرين حتّى أءوبا
ليس شيء يشاؤه ذو المعالي *** بعزيز عليه فادعي المجيبا
أنا في قبضة الإله إذا ما *** كنت بعدا أو كنت منك قريبا(4)
و وجدت هذه الأبيات في شعر مطيع بغير رواية، فكان أوّلها:
/
و لقد قلت لابنتي و هي تكوي *** بانسكاب الدّموع قلبا كئيبا
و بعده بقية الأبيات.
ص: 194
أخبرني الحسن بن علي الحفّاف قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني عليّ بن محمّد النوفليّ، عن صالح الأصمّ قال:
كان مطيع بن إياس مع إخوان له على نبيذ، و عندهم قينة تغنيهم، فأومأ إليها مطيع بقبلة، فقالت له: تراب! فقال مطيع:
إنّ قلبي قد تصابى *** بعد ما كان أنابا
و رماه الحبّ منه *** بسهام فأصابا
قد دهاه شادن يل *** بس في الجيد سخابا(1)
فهو بدر في نقاب *** فإذا ألقى النقابا
قلت شمس يوم دجن *** حسرت عنها السّحابا
ليتني منه على كش *** حين قد لانا و طابا(2)
أحضر النّاس بما أك *** رهه منه جوابا
فإذا قلت أنلني *** قبلة قال ترابا
لحكم الواديّ في هذه الأبيات هزج، بالبنصر، من رواية الهشاميّ.
أخبرنا أبو الحسن الأسدي قال: ذكر موسى بن صالح بن سنح بن عميرة أنّ مطيع بن إياس كان أحضر الناس جوابا و نادرة، و أنّه ذات يوم كان جالسا يعدّد بطون قريش و يذكر مآثرها و مفاخرها، فقيل له: فأين بنو كنانة؟ قال:
بفلسطين يسرعون الرّكوبا
أراد قول عبيد اللّه بن قيس الرقيات:
حلق من بني كنانة حولي *** بفلسطين يسرعون الرّكوبا
أخبرني عمي قال: حدّثنا الكراني عن العمري عن العتبيّ قال:
كان أبو دهمان صديقا لمطيع، و كان يظهر للناس تألّها(3) و مروءة و سمتا حسنا، و كان ربّما دعا مطيعا ليلة من الليالي أن يصير إليه، ثم قطعه عنه شغل، فاشتغل و جاء مطيع فلم يجده، فلما كان من الغد جلس مطيع مع أصحابه، فأنشدهم فيه:
ص: 195
ويلي ممّن جفاني *** و حبّه قد براني(1)
و طيفه يلقاني *** و شخصه غير دان
أغرّ كالبدر يعشى *** بحسنه العينان(2)
جاريّ لا تعذلاني *** في حبّه و دعاني
فربّ يوم قصير *** في جوسق و جنان
بالراح فيه يحيّا *** و القصف و الريحان(3)
و عندنا قينتان *** وجهاهما حسنان
عوداهما غردان *** كأنّما ينطقان(4)
/و عندنا صاحبان *** للدّهر لا يخضعان
فكنت أوّل حام *** و أوّل السّرعان(5)
في فتية غير ميل *** عند اختلاف الطّعان
من كلّ خوف مخيف *** في السرّ و الإعلان
/حمّال كلّ عظيم *** تضيق عند اليدان
و إن ألحّ زمان *** لم يستكن للزمان
فزال ذاك جميعا *** و كلّ شيء فان
من عاذري من خليل *** موافق ملدان(6)
مداهن متوان *** يكنى أبي دهمان(7)
متى يعدك لقاء *** فالنّجم و الفرقدان
و ليس يعتم إلاّ *** سكران مع سكران(8)
يسقيه كلّ غلام *** كأنّه غصن بان
من خندريس عقار *** كحمرة الأرجوان(9)
قال: فلقيه بعد ذلك أبو دهمان، فقال: عليك لعنة اللّه فضحتني، و هتفت بي، و أذعت سرّي، لا أكلّمك أبدا، و لا أعاشرك ما بقيت، فما تفرق بين صديقك و عدوّك.
ص: 196
أخبرني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجليّ العطّار بالكوفة، قال: حدّثني عليّ بن عمروس عن عمّه عليّ بن القاسم قال:
كنت آلف مطيع بن إياس، و كان جاري، و عنّفني في عشرته جماعة، و قالوا لي: إنه زنديق. فأخبرته بذلك، فقال: و هل سمعت منّي أو رأيت شيئا يدلّ على ذلك، أو هل وجدتني أخلّ بالفرائض في صلاة أو صوم؟ فقلت له:
و اللّه ما اتّهمتك و لكنّي خبّرتك بما قالوا. و استحييت منه. فعجل على السكر ذات يوم في منزله، فنمت عنده و مطرنا(1) في جوف اللّيل و هو معي، فصاح بي مرّتين أو ثلاثا، /فعلمت أنّه يريد أن يصطبح، فكسلت أن أجيبه، فلما تيقّن أنّي نائم جعل يردّد على نفسه بيتا قاله، و هو قوله:
أصبحت جمّ بلابل الصّدر *** عصرا أكاتمه إلى عصر(2)
فقلت في نفسي: هذا يعمل شعرا في فنّ من الفنون. فأضاف إليه بيتا ثانيا، و هو قوله:
إن بحت طلّ دمي و إن تركت *** و قدت عليّ توقّد الجمر(3)
فقلت في نفسي: ظفرت بمطيع. فتنحنحت، فقال لي: أما ترى هذا المطر و طيبه، أقعد بنا حتّى نشرب أقداحا.
فاغتنمت ذلك، فلما شربنا أقداحا قلت له: زعمت أنّك زنديق. قال: و ما الّذي صحّح(4) عندك أنّي زنديق؟ قلت:
قولك: «إن بحت طلّ دمي» و أنشدته البيتين، فقال لي: كيف حفظت البيتين و لم تحفظ الثالث؟ فقلت: و اللّه ما سمعت منك ثالثا. فقال: بلى قد قلت ثالثا. قلت: فما هو؟ قال:
ممّا جناه علي أبي حسن *** عمر و صاحبه أبو بكر(5)
/و حدّثني الحسن بن علي قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال: حدّثني محمّد بن عمر الجرجاني قال:
جاء مطيع بن إياس إلى إخوان له و كانوا على شراب، فدخل الغلام يستأذن له، فلمّا سمع صاحب البيت بذكره خرج مبادرا، فسمعه يقول:
/
أمسيت جمّ بلابل الصدر *** دهرا أزجّيه إلى دهر(6)
إن فهت طلّ دمي و إن كتمت *** وقدت عليّ توقّد الجمر
فلما أحسّ مطيع بأنّ صاحب البيت قد فتح له استدرك البيتين بثالث فقال:
ممّا جناه علي أبي حسن *** عمر و صاحبه أبو بكر
و كان صاحب البيت يتشيّع، فأكبّ على رأسه يقبّله و يقول: جزاك اللّه يا أبا مسلم خيرا!
ص: 197
و ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب:
أنّ الرشيد أتيّ ببنت مطيع بن إياس في الزّنادقة، فقرأت كتابهم و اعترفت به، و قالت: هذا دين علّمنيه أبي، و تبت منه. فقبل توبتها و ردّها إلى أهلها.
قال أحمد: و لها نسل بجبل في قرية يقال لها: «الفراشيّة» قد رأيتهم، و لا عقب لمطيع إلاّ منهم.
أخبرني عمي قال: حدّثنا الكراني عن ابن عائشة قال: كان مطيع بن إياس نازلا بكرخ بغداد، و كان بها رجل يقال له: الفهميّ، مغنّ محسّن، فدعاه مطيع و دعا بجماعة من إخوانه و كتب إلى يحيى بن زياد يدعوه بهذه الأبيات.
قال:
عندنا الفهميّ مسرو *** ر و زمّار مجيد
و معاذ و عياذ *** و عمير و سعيد
و ندامى يعملون ال *** قلز و القلز شديد
بعضهم ريحان بعض *** فهم مسك و عود
/قال: فأتاه يحيى، فأقام عنده و شرب معهم، و بلغت الأبيات المهديّ، فضحك منها، و قال: تنايك القوم و ربّ الكعبة.
قال الكراني: القلز: المبادلة(1).
وجدت هذا الخبر بخطّ ابن مهرويه، عن إبراهيم بن المدبّر عن محمّد بن عمر الجريدي. فذكر أنّ مطيعا اصطبح يوم عرفة و شرب يومه و ليلته، و اصطبح يوم الأضحى، و كتب إلى يحيى من اللّيل بهذه الأبيات:
قد شربنا ليلة الأض *** حى و سقينا يزيد
عندنا الفهميّ مسرو *** ر و زمّار مجيد
و سليمان فتانا *** فهو يبدي و يعيد
و معاذ و عياذ *** و عمير و سعيد
و ندامى كلّهم يق *** لز و القلز شديد
بعضهم ريحان بعض *** فهم مسك و عود
غالت الأنفس عنهم *** و تلقّتهم سعود
فترى القوم جلوسا *** و الخنا عنهم بعيد
/و مطيع بن إياس *** فهو بالقصف وليد
و على كرّ الجديدي *** ن و ما حلّ جليد
ص: 198
و وجدت في كتاب بعقب هذا: و ذكر محمّد بن عمر الجرجاني أنّ عوف(1) بن زياد كتب يوما إلى مطيع: «أنا اليوم نشيط للشّرب، فإن كنت فارغا فسر إليّ، و إن/كان عندك نبيذ طيّب، و غناء جيّد جئتك». فجاءته رقعته(2)و عنده حماد الراوية و حكم الواديّ، و قد دعوا غلاما أمرد، فكتب إليه مطيع:
نعم لنا نبيذ *** و عندنا حمّاد
و خيرنا كثير *** و الخير مستزاد
و كلّنا من طرب *** يطير أو يكاد
و عندنا واديّنا *** و هو لنا عماد
و لهونا لذيذ *** لم يلهه العباد
إن تشته فسادا *** فعندنا فساد
أو تشته غلاما *** فعندنا زياد
ما إن به التواء *** عنا و لا بعاد
قال: فلما قرأ الرقعة صار إليهم، فأتم به يومه معهم.
أخبرنا محمّد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثني أبو بكر العامريّ عن عنبسة القرشيّ الكريزيّ عن أبيه قال:
مدح مطيع بن إياس الغمر بن يزيد بقصيدته الّتي يقول فيها:
لا تلح قلبك في شقائه *** ودع المتيّم في بلائه(3)
كفكف دموعك أن يفض *** ن بناظر غرق بمائه
ودع النسيب و ذكره *** فبحسب مثلك من عنائه
كم لذّة قد نلتها *** و نعيم عيش في بهائه
/بنواعم شبه الدّمى *** و الليل في ثنيي عمائه(4)
و اذكر فتى بيمينه *** حتف الزمان لدى التوائه
و إذا أميّة حصّلت *** كان المهذّب في انتمائه
و إذا الأمور تفاقمت *** عظما فمصدرها برائه(5)
و إذا أردت مديحه *** لم يكد قولك في بنائه(6)
ص: 199
في وجهه علم الهدى *** و المجد في عطفي ردائه
و كأنّما البدر المن *** ير مشبّه به في ضيائه(1)
فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أوّل قصيدة أخذ بها جائزة سنية، و حرّكته و رفعت من ذكره، ثم وصله بأخيه الوليد فكان من ندمائه.
أنشدني محمّد بن العباس اليزيديّ عن عمّه، لمطيع بن إياس يستعطف يحيى بن زياد في هجرة(2) كانت بينهما و تباعد: /
يا سمي النبيّ الّذي خ *** صّ به اللّه عبده زكريا(3)
فدعاه الإله يحيى و لم يج *** عل له اللّه قبل ذاك سميّا
كن بصبّ أمسى بحبك برّا *** إنّ يحيى قد كان برّا تقيا
رثاؤه له و أنشدني له يرثي يحيى بعد وفاته:
قد مضى يحيى و غودرت فردا *** نصب ما سرّ عيون الأعادي(4)
/و أرى عيني مذ غاب يحيى *** بدّلت من نومها بالسّهاد
وسّدته الكفّ منّي ترابا *** و لقد أرثي له من وساد
بين جيران أقاموا صموتا *** لا يحيرون جواب المنادي
أيّها المزن الّذي جاد حتّى *** أعشبت منه متون البوادي
اسق قبرا فيه يحيى فإنّي *** لك بالشكر مواف مغاد(5)
نسخت من نسخة بخط هارون بن محمّد بن عبد الملك قال:
لما بيعت جوهر الّتي كان مطيع بن إياس يشبّب بها قال فيها - و فيه غناء من خفيف الرمل أظنه لحكم -:
صاح غراب البين بالبين *** فكدت أنقدّ بنصفين
قد صار لي خدنان من بعدهم *** همّ و غمّ شرّ خدنين
أفدي الّتي لم ألق من بعدها *** أنسا و كانت قرّة العين
أصبحت أشكو فرقة البين *** لمّا رأت فرقتهم عيني
ص: 200
أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعي قال: حدّثنا العباس بن ميمون [بن] طائع قال: حدّثني ابن خرداذبه قال:
خرج مطيع بن إياس، و يحيى بن زياد حاجّين، فقدّما أثقالهما و قال أحدهما للآخر: هل لك في أن نمضي إلى زرارة فنقصف ليلتنا عنده، ثم نلحق أثقالنا؟ فما زال ذلك دأبهم حتّى انصرف الناس من مكة. قال: فركبا بعيريهما و حلقا رءوسهما و دخلا مع الحجّاج المنصرفين. و قال مطيع في ذلك:
/
أ لم ترني و يحيى قد حججنا *** و كان الحجّ من خير التجاره
خرجنا طالبي خير و برّ *** فمال بنا الطريق إلى زرارة
فعاد الناس قد غنموا و حجّوا *** و أبنا موقرين من الخساره
و قد روي هذا الخبر لبشّار و غيره.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدّثنا الفضل بن محمّد اليزيديّ عن إبراهيم الموصلي عن محمّد بن الفضل قال:
خرج جماعة من الشّعراء في أيام المنصور عن بغداد في طلب المعاش، فخرج يحيى بن زياد إلى محمّد بن العباس و كنت في صحابته، فمضى إلى البصرة، و خرج حماد عجرد إليها معه، و عاد حمّاد الراوية إلى الكوفة، و أقام مطيع بن إياس ببغداد و كان يهوى جارية يقال لها: «ريم» لبعض النخّاسين و قال فيها:
لو لا مكانك في مدينتهم *** لظعنت في صحبي الألى ظعنوا(1)
/أو طنت بغدادا بحبّكم *** و بغيرها لولاكم الوطن(2)
قال: و قال مطيع في صبوح اصطبحه معها:
و يوم ببغداد نعمنا صباحه *** على وجه حوراء(3) المدامع تطرب
ببيت ترى فيه الزّجاج كأنه *** نجوم الدّجى بين النّدامى تغلّب
يصرّف ساقينا و يقطب تارة *** فيا طيبها مقطوبة حين يقطب(4)
علينا سحيق الزعفران و فوقنا *** أكاليل فيها الياسمين المذهّب
فما زلت أسقى بين صنج و مزهر *** من الرّاح حتّى كادت الشمس تغرب(5)
/و فيها يقول:
أمسى مطيع كلفا *** صبّا حزينا دنفا(6)
حرّ لمن يعشقه *** برقّه معترفا
ص: 201
يا ريم فاشفي كبدا *** حرّى و قلبا شغفا(1)
و نوّليني قبلة *** واحدة ثمّ كفى
قال و فيها يقول:
يا ريم قد أتلفت روحي فما *** منها معي إلاّ القليل الحقير
فأذنبي إن كنت لم تذنبي *** فيّ ذنوبا إنّ ربّي غفور
ما ذا على أهلك لو جدت لي *** و زرتني يا ريم فيمن يزور
هل لك في أجر تجازي به *** في عاشق يرضيه منك اليسير
يقبل ما جدت به طائعا *** و هو و إن قلّ لديه الكثير
لعمري من أنت له صاحب *** ما غاب عنه في الحياة السّرور
قال و فيها يقول:
يا ريم يا قاتلتي *** إن لم تجودي فعدي(2)
بيّضت بالمطل و إخلا *** فك و عدي كبدي
حالف عيني سهدي *** و ما بها من رمد(3)
يا ليتني في الأحد *** أبليت منّي جسدي
لمن به من شقوتي *** أخذت حتفي بيدي
أنشدني علي بن سليمان الأخفش قال: أنشدني محمّد بن الحسن بن الحرون عن ابن النطّاح لمطيع بن إياس، يقوله في جوهر جارية بربر:
يا بأبي وجهك من بينهم *** فإنّه أحسن ما أبصر
يا بأبي وجهك من رائع *** يشبهه البدر إذا يزهر
جارية أحسن من حليها *** و الحلي فيه الدرّ و الجوهر
و جرمها أطيب من طيبها *** و الطّيب فيه المسك و العنبر(4)/
جاءت بها بربر مكنونة *** يا حبّذا ما جلبت بربر
كأنّما ريقتها قهوة *** صبّ عليها بارد أسمر(5)
أخبرني الحسين بن القاسم قال: حدّثنا ابن أبي الدنيا قال: حدّثني منصور بن بشر العمركي عن محمّد بن الزبرقان قال:
ص: 202
كان مطيع بن إياس كثير العبث، فوقف على أبي العمير: رجل من أصحاب المعلّى الخادم، فجعل يعبث به و يمازحه إلى أن قال:
ألا أبلغ لديك أبا العمير *** أراني اللّه في استك نصف أير
فقال له أبو العمير: يا أبا سلمى، لوجدت لأحد بالأير كلّه لجدت به إلى ما بيننا من الصداقة، و لكنك بحبّك لا نريده كلّه إلا لك. فأفحمه، و لم يعاود العبث به.
قال: و كان مطيع يرمى بالأبنة.
قال: و سقط لمطيع حائط، فقال له بعض أصدقائه: احمد اللّه على السلامة! قال: احمد اللّه أنت الّذي لم ترعك هدّته، و لم يصبك غباره، و لم تعدم أجرة بنائه.
/أخبرني إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع الشّيعيّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال:
وفد مطيع بن إياس إلى جرير بن يزيد بن خالد بن عبد اللّه القسريّ و قد مدحه بقصيدته:
أ من آل ليلى عزمت البكورا *** و لم تلق ليلى فتشفي الضّميرا
و قد كنت دهرك فيما خلا *** لليلى و جارات ليلى زءورا
ليالي أنت بها معجب *** تهيم إليها و تعصي الأميرا
و إذ هي حوراء شبه الغزا *** ل تبصر في الطّرف منها فتورا(1)
تقول ابنتي إذ رأت حالتي *** و قرّبت للبين عنسا و كورا(2)
إلى من أراك، وقتك الحتو *** ف نفسي، تجشّمت هذا المسيرا
فقلت: إلى البجليّ الّذي *** يفكّ العناة و يغني الفقيرا(3)
أخي العرف أشبه عند الندى *** و حمل المئين أباه جديرا(4)
عشير الندى ليس يرضى النّدى *** يد الدّهر بعد جرير عشيرا
إذا استكثر المجتدون القلي *** ل للمعتفين استقلّ الكثيرا
إذا عسر الخير في المجتدي *** ن كان لديه عتيدا يسيرا
و ليس بمانع ذي حاجة *** و لا خاذل من أتى مستجيرا
فنفسي وقتك أبا خالد *** إذا ما الكماة أغاروا النّمورا(5)
/إلى ابن يزيد أبي خالد *** أخي العرف أعملتها عيسجورا(6)
ص: 203
لنلقى فواضل من كفّه *** فصادفت منه نوالا غزيرا
فإن يكن الشّكر حسن الثّنا *** ء بالعرف منّي تجدني شكورا
بصيرا بما يستلذّ الرّوا *** ة من محكم الشّعر حتّى يسيرا
فلما بلغ يزيد خبر قدومه دعا به ليلا، و لم يعلم أحد بحضوره، ثم قال له: قد عرفت خبرك، و إنّي متعجّل لك جائزتك ساعتي هذه، فإذا حضرت غدا فإني سأخاطبك مخاطبة فيها جفاء، /و أزوّدك نفقة طريقك و أصرفك، لئلاّ يبلغ أبا جعفر خبري فيهلكني. فأمر له بمائتي دينار، فلما أصبح أتاه، فاستأذنه في الإنشاد، فقال له: يا هذا لقد رميت بآمالك غير مرمى، و في أيّ شيء أنا حتّى ينتجعني الشعراء؟ لقد أسأت إليّ لأني لا أستطيع تبليغك محابّك(1)، و لا آمن سخطك و ذمّك. فقال له: تسمع ما قلت فإنّي أقبل ميسورك، و أبسط عذرك. فاستمع منه كالمتكلّف المتكره، فلما فرغ قال لغلامه: يا غلام كم مبلغ ما بقي من نفقتنا؟ قال: ثلاثمائة درهم. قال: أعطه مائة درهم لنفقة طريقه، و مائة درهم ينصرف بها إلى أهله، و احتبس لنفقتنا مائة درهم. ففعل الغلام ذلك، و انصرف مطيع عنه شاكرا، و لم يعرف أبو جعفر خبره.
أنشدني وكيع عن حمّاد بن إسحاق عن أمّه، لمطيع بن إياس، و فيه غناء:
واها لشخص رجوت نائله *** حتّى انثنى لي بودّه صلفا
لانت حواشيه لي و أطمعني *** حتّى إذا قلت نلته انصرفا
قال: و أنشدني حمّاد أيضا عن أبيه، لمطيع بن إياس، و فيه غناء أيضا:
خليلي مخلف أبدا *** يمنّيني غدا فغدا
/و بعد غد و بعد غد *** كذا لا ينقضي أبدا
له جمر على كبدي *** إذا حرّكته وقدا
و ليس بلابث جمر ال *** غضى أن يحرق الكبدا(2)
و في هذه الأبيات لعريب هزج.
أخبرني أحمد بن العبّاس العسكري قال: حدّثنا العنزي عن مسعود بن بشر قال:
قال الوليد بن يزيد لمطيع بن إياس: أيّ الأشياء أطيب عندك؟ قال: «صهباء صافية، تمزجها غانية، بماء غادية».
قال: صدقت.
ص: 204
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثني أبو عبد اللّه التميمي قال: حدّثنا أحمد بن عبيد. و أخبرني عمّي قال: حدّثنا الكراني عن العمريّ عن العتبي قال:
سكر مطيع بن إياس ليلة، فعربد على يحيى بن زياد عربدة(1) قبيحة و قال له و قد حلف بالطلاق:
لا تحلفا بطلاق من *** أمست حوافرها رقيقه
مهلا فقد علم الأنا *** م بأنّها كانت صديقه
فهجر يحيى و حلف ألاّ يكلّمه أبدا، فكتب إليه مطيع:
إن تصلني فمثلك اليوم يرجى *** عفوه الذّنب عن أخيه و وصله
و لئن كنت قد هممت بهجري *** للذي قد فعلت إنّي لأهله
/و أحقّ الرّجال أن يغفر الذّن *** ب لإخوانه الموفّر عقله
الكريم الّذي له الحسب الثّا *** قب في قومه و من طاب أصله
و لئن كنت لا تصاحب إلاّ *** صاحبا لا تزلّ ما عاش نعله(2)
لا تجده و إن جهدت، و أنّى *** بالذي لا يكاد يوجد مثله
إنّما صاحبي الّذي يغفر الذن *** ب و يكفيه من أخيه أقلّه
/الّذي يحفظ القديم من العه *** د و إن زلّ صاحب قلّ عذله
و رعى ما مضى من العهد منه *** حين يؤذي من الجهالة جهله(3)
ليس من يظهر المودّة إفكا *** و إذا قال خالف القول فعله
وصله للصّديق يوما فإن طا *** ل فيومان ثم ينبت حبله
قال: فصالحه يحيى و عاود عشرته.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا هارون بن محمّد بن عبد الملك قال: حدّثني أبو أيّوب المدنيّ قال:
حدّثني أحمد بن إبراهيم الكاتب قال: حدّثني أبي عن رجل من أهل الشام قال:
كنت يوما نازلا بدير كعب، قد قدمت من سفر، فإذا أنا برجل قد نزل الدّير معه ثقل(4) و آلة و عيبة، فكان قريبا من موضعي، فدعا بطعام فأكل، و دعا الراهب فوهب له دينارين، و إذا بينه و بينه صداقة، فأخرج له شرابا فجلس يشرب و يحدّث(5) الراهب، و أنا أراهما، إذ دخل الدّير رجل فجلس معهما، فقطع/حديثهما و ثقل في مجلسه،
ص: 205
و كان غثّ الحديث، فأطال. فجاءني بعض غلمان الرجل النازل فسألته عنه، فقال: هذا مطيع بن إياس. فلمّا قام الرجل و خرج كتب مطيع على الحائط شيئا، و جعل يشرب حتّى سكر، فلما كان من غد رحل، فجئت موضعه فإذا فيه مكتوب:
طربة ما طربت في دير كعب *** كدت أقضي من طربتي فيه نحبي
و تذكّرت إخوتي و نداما *** ي فهاج البكاء تذكار صحبي(1)
حين غابوا شتّى و أصبحت فردا *** و نأوا بين شرق أرض و غرب
و هم ما هم، فحسبي لا أب *** غي بديلا بهم لعمرك حسبي
طلحة الخير منهم و أبو المن *** ذر خلّي و مالك ذاك تربى(2)
أيّها الداخل الثقيل علينا *** حين طاب الحديث لي و لصحبي
خفّ عنا فأنت أثقل و الل *** ه علينا من فرسخي دير كعب
و من النّاس من يخفّ و منهم *** كرحى البزر ركّبت فوق قلبي
أخبرنا الحسن بن علي قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثنا عمر بن محمّد قال: حدّثنا الحسين(3) بن إياس، و يحيى بن زياد، و زاد العمل(4) حتّى حلف يحيى بن زياد على بطلان شيء كلّمه به مما دار بينهما، فقال مطيع:
/
لا تحلفا بطلاق من *** أمست حوافرها رقيقه
هيهات قد علم الأمي *** ر بأنّها كانت صديقه
فغضب يحيى و حلف ألاّ يكلّم مطيعا أبدا، و كانا لا يكادان يفترقان(5) في فرح و لا حزن، و لا شدّة و لا رخاء، فتباعد ما بين يحيى و بينه، و تجافيا مدّة، فقال مطيع في ذلك، و ندم على ما فرط منه إلى يحيى؛ فكتب إليه بهذا الشّعر، قال:
كنت و يحيى كيد واحدة *** نرمي جميعا و ترانا معا
إن عضّني الدّهر فقد عضّه *** يوجعنا ما بعضنا أوجعا
/أو نام نامت أعين أربع *** منّا و إن أسهر فلن يهجعا
يسّرني الدّهر إذا سرّه *** و إن رماه فلنا فجّعا
حتّى إذا ما الشّيب في مفرقي *** لاح و في عارضه أسرعا
سعى وشاة فمشوا بيننا *** و كاد حبل الودّ أن يقطعا
فلم ألم يحيى على فعله *** و لم أقل ملّ و لا ضيّعا
لكنّ أعداء لنا لم يكن *** شيطانهم يرى بنا مطمعا
ص: 206
بينا كذا غاش على غرة *** فأوقد النّيران مستجمعا(1)
فلم يزل يوقدها دائبا *** حتّى إذا ما اضطرمت أقلعا
أخبرنا الحسين بن يحيى المرداسيّ، عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمّد بن الفضل السّكوني. و أخبرنا محمّد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ عن عمّه. قال إسحاق في خبره: «دخل على إخوان يشربون»، و قال الأصمعيّ:
/دخل سراعة بن الزندبور على مطيع بن إياس و يحيى بن زياد، و عندهما قينة تغنّيهما، فسقوه أقداحا و كان على الريق، فاشتدّ ذلك عليه، فقال مطيع للقينة: غنّي سراعة. فقالت له: أيّ شيء تختار؟ فقال: غني:
طبيبيّ داويتما ظاهرا *** فمن ذا يداوي جوى باطنا
ففطن مطيع لمعناه، فقال: ابك أكل؟ قال: نعم. فقدّم إليه طعاما فأكل ثم شرب معهم. و اللّه أعلم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني محمّد بن هارون الأزرقيّ مولى بني هاشم أخي أبي عشانة قال: حدّثني الفضل بن محمّد بن الفضل الهاشمي عن أبيه قال:
كان مطيع بن إياس [يهوى] ابن مولى لنا يقال له محمّد بن سالم، فأخرجت أباه إلى ضيعة لي بالريّ لينظر فيها، فأخرجه أبوه معه، و لم أكن عرفت خبر مطيع معه حتّى أتاني، فأنشدني لنفسه:
أيا ويحه لا الصّبر يملك قلبه *** فيصبر لمّا قيل سار محمّد
فلا الحزن يفنيه ففي الموت راحة *** فحتّى متى في جهده يتجلّد
قد اضحى صريعا باديات عظامه *** سوى أنّ روحا بينها تتردّد
كئيبا يمنّي نفسه بلقائه *** على نأيه و اللّه بالحزن يشهد
يقول لها صبرا عسى اليوم آئب *** بإلفك أو جاء بطلعته الغد
و كنت يدا كانت بها الدهر قوّتي *** فأصبحت مضنى منذ فارقني يدي
في أخبار مطيع الّتي تقدّم ذكرها آنفا أغان أغفلت عن نسبتها حتى انتهيت إلى هذا الموضع فنسبتها فيه:
الشعر فيما ذكر عبد اللّه بن شبيب عن الزبير بن بكّار، لعمرو بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشيّ العدوي، و الغناء لمعبد، و لحنه ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق و عمرو، و فيه لأبي العبيس بن حمدون ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، و هو من صدور أغانيه و مختارها و ما تشبّه فيه بالأوائل. و لو قال قائل: إنه أحسن صنعة له صدق.
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، أن غيلان بن خرشة الصّبيّ دخل إلى قوم من إخوانه و عندهم قينة، فجلس معهم و هو لا يدري فيم هم، حتّى غنت القينة:
طبيبيّ داويتما ظاهرا *** فمن ذا يداوي جوى باطنا
و كان أعرابيّا جافيا به لوثة(1)، فغضب و وثب و هو يقول: السوط و ربّ غيلان يداوي ذلك الجوى! و خرج من عندهم.
و هذا الخبر مذكور في أخبار معبد من كتابي هذا و غيره، و لكنّ ذكره هاهنا حسن فذكرته.
أمسيت جمّ بلابل الصدر *** دهرا أزجّيه إلى دهر
إن فهت طلّ دمي و إن كتمت *** وقدت عليّ توقّد الجمر(2)
الغناء لحكم الواديّ، هزج بالبنصر عن حبش الهشاميّ.
أخبرني ابن الحسين قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن صباح بن خاقان قال:
دخلت علينا جوهر المغنية جارية بربر(3)، و كانت محسنة جميلة ظريفة، و عندنا مطيع بن إياس و هو يلعب بالشطرنج، و أقبل عليها بنظره و حديثه، ثم قال:
و لقد قلت معلنا *** لسعيد و جعفر
إن أتتني منيتي *** فدمي عند بربر(4)
قتلتني بمنعها *** [لي] من وصل جوهر
قال: و جوهر تضحك منه.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعيد عن أبي توبة قال:
ص: 208
بلغ مطيع بن إياس أن حماد عجرد عاب شعرا ليحيى بن زياد قاله في منقذ بن بدر الهلالي، فأجابه منقذ عنه بجواب، فاستخفّهما [حمّاد] عجرد، و طعن عليهما، فقال فيه مطيع:
/
أيها الشاعر الّذي *** عاب يحيى و منقذا
أنت لو كنت شاعرا *** لم تقل فيهما كذا
لست و اللّه فاعلمنّ *** لدي النقد جهبذا(1)/
تعدل الصبر بالرضى *** شائب الصّفو بالقذى(2)
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي توبة عن ابن أبي منيع الأحدب قال:
كنت جالسا مع مطيع بن إياس، فمرّت بنا مكنونة جارية المروانية، و كان مطيع و أصحابنا يألفونها، فلم تسلّم، و عبث بها مطيع بن إياس فشتمته، فالتفت إليّ و أنشأ يقول:
فديت من مرّ بنا *** يوما و لم يتكلم
و كان فيما خلا من *** ه كلما مر سلّم
و إن رآني حيّا *** بطرفه و تبسّم
لقد تبدّل - فيما *** أظنّ - و اللّه أعلم
فليت شعري ما ذا *** عليّ في الود ينقم
يا ربّ إنك تعلم *** أني بمكنون مغرم
و أنني في هواها *** ألقى الهوان و أعظم
يا لائمي في هواها *** احفظ لسانك تسلم
و اعلم بأنك مهما *** أكرمت نفسك تكرم
/إنّ الملول إذا ما *** ملّ الوصال تجرّم(3)
أو لا فما لي أجفى *** من غير ذنب و أحرم
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان مطيع بن إياس يألف جواري بربر، و يهوى منهنّ جاريتها المسماة جوهر، و فيها يقول؛ و لحكم فيه غناء:
خافي اللّه يا بربر *** لقد أفسدت ذا العسكر(4)
ص: 209
إذا ما أقبلت جوهر *** يفوح المسك و العنبر
و جوهر درّة الغوّا *** ص من يملكها يحبر(1)
لها ثغر حكى الدرّ *** و عينا رشإ أحور(2)
في هذه الأبيات هزج لحكم الواديّ. قال و فيها يقول:
أنت يا جوهر عندي جوهره *** في قياس الدرر المشتهرة
أو كشمس أشرقت في بيتها *** قذفت في كل قلب شرره
و كأنّي ذائق من فمها *** كلما قبّلت فاها سكّره
و كأنّي حين أخلو معها *** فائز بالجنة المختضرة
قال: فجاءها يوما، فاحتجبت عنه فسأل عن خبرها، فعرف أن فتى من أهل الكوفة يقال له ابن الصّحّاف يهواها متخلّ(3) معها، فقال مطيع يهجوها:
ناك و اللّه جوهر الصّحّاف *** و عليها قميصها الأفواف(4)
/شام فيها أيرا له ذا ضلوع *** لم يشنه ضعف و لا إخطاف(5)
جدّ دفعا فيها فقالت ترفّق *** ما كذا يا فتى تناك الظّراف
/أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا هارون بن محمّد بن عبد الملك قال، قال محمّد بن صالح بن النطاح: أنشد المهديّ قول مطيع بن إياس:
خافي الله يا بربر *** لقد أفتنت ذا العسكر
بريح المسك و العنبر *** و ظبي شادن أحور(6)
و جوهر درّة الغوّا *** من يملكها يحبر(7)
أما و الله يا جوهر *** لقد فقت على الجوهر
فلا و الله ما المهديّ *** أولى منك بالمنبر
فإن شئت ففي كفي *** ك خلع ابن أبي جعفر
فقال المهدي: اللهم العنهما جميعا، ويلكم! أجمعوا بين هذين قبل أن تخلعنا هذه القحبة. و جعل يضحك من قول مطيع. و وجدت أبيات مطيع الثلاثة الّتي هجا بها جوهر في رواية يحيى بن علي أتمّ من رواية إسحاق و هي بعد البيتين الأوّلين:
ص: 210
زعموها قالت و قد غاب فيها *** قائما في قيامه استحصاف
و هو في جارة استها يتلظّى *** يا فتى هكذا تناك الظّراف(1)
ناكها ضيفها و قبّل فاها *** يا لقومي لقد طغى الأضياف
لم يزل يرهز الشهيّة حتى *** زال عنها قميصها و العطاف(2)
/و قال هارون بن محمّد في خبره:
بيعت جوهر جارية بربر، فاشترتها امرأة هاشمية من ولد سليمان بن علي كانت تغني بالبصرة و أخرجتها، فقال مطيع فيها:
لا تبعدي يا جوهر *** عنّا و إن شطّ المزار
ويلي لقد بعدت ديا *** رك سلّمت تلك الديار
يشفى بريقتها السّقا *** م كأنّ ريقتها العقار(3)
بيضاء واضحة الجبي *** ن كأنّ غرّتها نهار
القلب قلبي و هو عن *** د الهاشميّة مستعار
أخبرني محمّد بن عمران الصيرفيّ قال حدّثنا العنزي قال: حدّثنا علي بن منصور المؤدب أن صديقا لمطيع دعاه إلى بستان له بكلواذي(4)، فمضى إليها، فلم يستطبها، فقال يهجوها:
بلدة تمطر التراب(5) على النا *** س كما يمطر السماء الرذاذا
و إذا ما أعاذ ربي بلادا *** من خراب كبعض ما قد أعاذا
خربت عاجلا(6) و لا أمهلت يو *** ما و لا كان أهلها كلواذي
أخبرني محمّد بن جعفر النحوي قال حدّثنا طلحة بن عبد اللّه أبو إسحاق الطلحي قال حدّثني عافية بن شبيب بن خاقان التميمي أبو معمر قال:
كان لمطيع بن إياس معامل من تجار الكوفة، فطالت صحبته إياه و عشرته له/حتى شرب النبيذ، و عاشر تلك الطبقة، و أفسدوا دينه، فكان إذا شرب يعمل كما يعملون، و قال كما يقولون، و إذا صحا تهيّب ذلك/و خافه، فمرّ يوما بمطيع بن إياس و هو جالس على باب داره، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: شيّعت صديقا لي حجّ، و رجعت كما ترى ميتا من ألم الحرّ و الجوع و العطش. فدعا مطيع بغلامه و قال له: أيّ شيء عندك؟ فقال له: عندي من الفاكهة كذا، و من البوارد و الحارّ كذا، و من الأشربة و الثلج و الرياحين كذا، و قد رشّ الخيش و فرغ من الطعام. فقال
ص: 211
له: كيف ترى هذا؟ فقال: هذا و اللّه العيش و شبه الجنّة. قال: أنت الشريك فيه على شريطة إن وفيت بها و إلا انصرفت. قال: و ما هي؟ قال: تشتم الملائكة و تنزل. فنفر التاجر و قال: قبح اللّه عشرتكم قد فضحتموني و هتكتموني. و مضى فلم يبعد حتى لقيه حمّاد عجرد فقال له: ما لي أراك نافرا جزعا؟ فحدثه حديثه. فقال: أساء مطيع - قبحه اللّه - و أخطأ، و عندي و اللّه ضعف ما وصف لك؛ فهل لك فيه؟ فقال: أجل(1)، بي و اللّه إليه أعظم فاقة. قال: أنت الشريك فيه على أن تشتم الأنبياء فإنّهم تعبّدونا بكل أمر معنت متعب، و لا ذنب للملائكة فنشتمهم.
فنفر التاجر و قال: أنت أيضا فقبحك اللّه، لا أدخل! و مضى فاجتاز بيحيى بن زياد الحارثيّ فقال له: ما لي أراك يا أبا فلان مرتاعا؟ فحدثه بقصّته. فقال: قبحهما اللّه لقد كلّفاك شططا، و أنت تعلم أن مروءتي فوق مروءتهما، و عندي و اللّه أضعاف ما عندهما، و أنت الشّريك فيه على خصلة تنفعك و لا تضرّك، و هي خلاف ما كلفاك إيّاه من الكفر.
قال: ما هي؟ قال: تصلي ركعتين تطيل ركوعهما و سجودهما، و تصليهما و تجلس، فنأخذ في شأننا، فضجر التاجر و تأفّف و قال: هذا شرّ من ذاك، أنا تعب ميّت، تكلّفني صلاة طويلة في غير برّ/و لا لإطاعة يكون ثمنها أكل سحت(2) و شرب خمر و عشرة فجرة و سماع مغنيات قحاب. و سبّه و سبّهما و مضى مغضبا. فبعث خلفه غلاما و أمره بردّه، فردّه كرها، و قال: انزل الآن على أ لا تصلّي اليوم بتة. فشتمه أيضا و قال: و لا هذا. فقال: انزل الآن كيف شئت و أنت ثقيل غير مساعد. فنزل عنده. و دعا يحيى مطيعا و حمادا، فعبثا بالتاجر ساعة و شتماه، ثم قدّم الطعام، فأكلوا و شربوا و صلّى التاجر الظهر و العصر، فلما دبّت الكأس فيه قال له مطيع: أيّما أحب إليك: تشتم الملائكة أو تنصرف؟ فشتمهم. فقال له حماد: أيما أحب إليك: تشتم الأنبياء أو تنصرف؟ فشتمهم. فقال له يحيى: أيما أحب إليك: تصلي ركعتين أو تنصرف؟ فقام فصلّى الركعتين، ثم جلس فقالوا له: أيما أحب إليك: تترك باقي صلاتك اليوم أو تنصرف؟ قال: بل أتركها بابني الزانية و لا أنصرف. فعمل كلّ ما أرادوه منه.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمّد بن الفضل السّكوني قال:
رفع صاحب الخبر إلى المنصور أنّ مطيع بن إياس زنديق، و أنه يعاشر ابنه جعفرا و جماعة من أهل بيته، و يوشك أن يفسدوا أديانهم و ينسبوا إلى مذهبه. فقال له المهدي: أنا به عارف، أمّا الزندقة فليس من أهلها، و لكنه خبيث الدين فاسق مستحلّ للمحارم. قال: فأحضره و انهه عن صحبة جعفر و سائر أهله. فأحضره المهدي و قال له:
يا خبيث يا فاسق، قد أفسدت أخي و من تصحبه من أهلي، و اللّه لقد بلغني أنهم يتقادعون(3) عليك، و لا يتمّ لهم سرور إلا بك، فقد/غرّرتهم و شهّرتهم في الناس، و لو لا أني شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة مما نسبت إليه بالزندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك. و قال للربيع: اضربه مائتي/سوط و احبسه. قال: و لم يا سيدي؟ قال: لأنك سكّير خمّير(4) قد أفسدت أهلي كلّهم بصحبتك. فقال له: إن أذنت و سمعت احتججت. قال: قل. قال: أنا امرؤ شاعر، و سوقي إنما تنفق مع الملوك، و قد كسدت عندكم، و أنا في أيامكم مطّرح، و قد رضيت فيها مع سعتها للناس جميعا بالأكل على مائدة أخيك، لا يتبع ذلك عشيرة، و أصفيته على ذلك شكري و شعري، فإن كان ذلك عائبا عندك تبت منه. فأطرق، ثم قال: قد رفع إليّ صاحب الخبر أنك تتماجن على السّؤّال و تضحك منهم. قال: لا، و اللّه ما ذلك من فعلي و لا شأني، و لا جرى مني قط إلا مرة؛ فإنّ سائلا أعمى اعترضني - و قد عبرت الجسر على بغلتي -
ص: 212
و ظنّني من الجند، فرفع عصاه في وجهي ثم صاح: اللهم سخر الخليفة لأن يعطي الجند أرزاقهم، فيشتروا من التجار الأمتعة، و يربح التجار عليهم فتكثر أموالهم، فتجب فيها الزكاة عليهم، فيصدّقوا عليّ منها. فنفرت بقلبي من صياحه و رفعه عصاه في وجهي حتى كدت أسقط في الماء، فقلت: يا هذا ما رأيت أكثر فضولا منك، سل اللّه أن يرزقك و لا تجعل هذه الحوالات و الوسائط الّتي لا يحتاج إليها، فإن هذه المسائل فضول، فضحك الناس منه، و رفع عليّ في الخبر قولي له هذا. فضحك المهدي و قال: خلّوه و لا يضرب و لا يحبس. فقال له: أدخل عليك لموجدة(1) و أخرج عن رضى و تبرأ ساحتي من عضيهة(2) و أنصرف بلا جائزة؟ قال: لا يجوز هذا، أعطوه مائتي دينار و لا يعلم بها الأمير، فيتجدّد عنده ذنوبه.
قال: و كان المهدي يشكر له قيامه في الخطباء و وضعه الحديث لأبيه في أنه المهديّ. فقال له: اخرج عن بغداد و دع صحبة جعفر حتى ينساك أمير المؤمنين غدا. فقال له: فأين أقصد؟ قال: /أكتب لك إلى سليمان بن علي فيولّيك عملا و يحسن إليك. قال: قد رضيت. فوفد إلى سليمان بكتاب المهدي، فولاّه الصدقة بالبصرة و كان عليها داود بن أبي هند، فعزله به.
حدّثني محمّد بن هاشم بن محمّد الخزاعي قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة عن ابن عائشة أن مطيع بن إياس قدم على سليمان بن علي بالبصرة - و واليها على الصدقة داود بن أبي هند - فعزله و ولّى عليها مطيعا.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبو توبة عن بعض البصريين قال:
كان مالك بن أبي سعدة عمّ جابر الشطرنجي جميل الوجه حسن الجسم، و كان يعاشر حماد عجرد و مطيع بن إياس و شرب معهما فأفسد بينهما و بينه و تباعد. فقال حماد عجرد يهجوه:
أتوب إلى اللّه من مالك *** صديقا و من صحبتي مالكا
فإن كنت صاحبته مرة *** فقد تبت يا ربّ من ذلكا
قال: و أنشدها مطيعا، فقال له مطيع: سخنت عينك! هكذا تهجو الناس؟ قال: فكيف كنت أقول؟ قال: كنت تقول:
نظرة ما نظرتها *** يوم أبصرت مالكا
/في ثياب معصفرا *** ت على الوجه باركا
تركتني ألوط من *** بعد ما كنت ناسكا
نظرة ما نظرتها *** أو ردتني المهالكا
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدّثنا حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال:
كان مطيع بن إياس منقطعا إلى جعفر بن المنصور، فطالت صحبته له بغير فائدة، فاجتمع يوما مطيع و حماد
ص: 213
عجرد و يحيى بن زياد، فتذاكروا أيام بني أمية وسعتها و نضرتها و كثرة ما أفادوا فيها، و حسن مملكتهم(1) و طيب دارهم بالشأم، و ما هم فيه ببغداد من القحط في أيام المنصور، و شدّة الحرّ، و خشونة العيش، و شكو الفقر فأكثروا، فقال مطيع بن إياس: قد قلت في ذلك شعرا فاسمعوا. قالوا: هات. فأنشدهم:
حبّذا عيشنا الّذي زال عنا *** حبذا ذاك حين لا حبّذا(2) ذا
أين هذا من ذاك سقيا لهذا *** ك و لسنا نقول سقيا لهذا(3)
زاد هذا الزمان عسرا و شرا *** عندنا إذ أحلّنا بغداذا
بلدة تمطر التراب على النا *** س كما يمطر السماء الرّذاذا
خربت عاجلا و أخرب ذو العر *** ش بأعمال أهلها كلواذي(4)
أخبرني عيسى بن الحسين عن حماد عن أبيه قال:
لما خرج حماد بن العباس إلى البصرة، عاشر جماعة من أهلها و أدبائها و شعرائها، فلم يجدهم كما يريد، و لم يستطب عشرتهم و استغلظ طبعهم، و كان هو و مطيع بن إياس و حماد الراوية و يحيى بن زياد كأنّهم نفس واحدة، و كان أشدّهم أنسا به مطيع بن إياس، فقال حماد يتشوّقه:
/
لست و اللّه بناس *** لمطيع بن إياس
ذاك إنسان له فض *** ل على كلّ أناس
غرس الله له في *** كبدي أحلى غراس
فإذا ما الكاس دارت *** و احتساها من أحاسي
كان ذكرانا مطيعا *** عندها ريحان كاسي
حدّثنا عيسى بن الحسين عن حماد عن أبيه قال:
دعا مطيع بن إياس صديقا له من أهل بغداد إلى بستان له بالكرخ، يقال له بستان صبّاح، فأقام معه ثلاثة أيام في فتيان من أهل الكرخ مرد و شبّان، و مغنّين و مغنّيات، فكتب مطيع إلى يحيى بن زياد الحارثي يخبره بأمره و يتشوّقه، قال:
كم ليلة بالكرخ قد بتّها *** جذلان في بستان صبّاح
في مجلس تنفح أرواحه *** يا طيبها من ريح أرواح
يدير كأسا فإذا ما دنت *** حفّت بأكواب و أقداح
في فتية بيض بها ليل ما *** إن لهم في الناس من لاح(5)
/
ص: 214
لم يهنني ذاك لفقد امرئ *** أبيض مثل البدر وضّاح
كأنما يشرق من وجهه *** إذا بدا لي ضوء مصباح
قال: فلما قرأ يحيى هذه الأبيات قام من وقته، فركب إليهم، و حمل إليهم ما يصلحهم من طعام و شراب و فاكهة، فأقاموا فيه أياما على قصفهم حتى ملّوا، ثم انصرفوا.
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمّد بن الفضل قال: قال مطيع بن إياس:
جلست أنا و يحيى بن زياد إلى فتى من أهل الكوفة كان ينسب إلى الصّبوة(1) و يكتم ذاك، ففاوضناه و أخذنا في أشعار العرب و وصفها البيد و ما أشبه ذلك، فقال:
لأحسن من بيد يحار بها القطا *** و من جبلي طيّ و وصفكما سلعا(2)
تلاحظ عيني عاشقين كلاهما *** له مقلة في وجه صاحبه ترعى
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني أبو المضاء قال:
عاتب المهدي مطيع بن إياس في شيء بلغه عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن كان ما بلغك عني حقا فما تغني المعاذير، و إن كان باطلا(3) فما تضر الأباطيل. فقبل عذره و قال: فإنّا ندعك على حملتك و لا نكشفك. و اللّه أعلم.
حدّثني عمي الحسن بن محمّد قال حدّثنا الكراني قال حدّثنا العمري عن الهيثم بن عديّ قال:
اجتمع حماد الراوية و مطيع بن إياس و يحيى بن زياد و حكم الواديّ يوما على شراب لهم في بستان بالكوفة، و ذلك في زمن الربيع، و دعوا جوهر المغنية، و هي الّتي يقول فيها مطيع:
أنت يا جوهر عندي جوهره *** في قياس الدّرر المشتهرة
فشربوا تحت كرم معروش حتى سكروا، فقال مطيع في ذلك:
خرجنا نمتطي الزهرا *** و نجعل سقفنا الشجرا
و نشربها معتّقة *** تخال بكأسها شررا
و جوهر عندنا تحكي *** بدارة وجهها القمرا
يزيدك وجهها حسنا *** إذا ما زدته نظرا
و جوهر قد رأيناها *** فلم نر مثلها بشر
ص: 215
غنى فيه حكم غناء خفيفا، فلم يزالوا يشربون عليه بقية يومهم. و قد روي أن بعض هذا الشعر للمهدي و أنه قال منه واحدا، و أجازه بالباقي بعض الشعراء. و هذا أصح. لحن حكم في هذا الشعر خفيف رمل بالوسطى.
حدّثنا محمّد بن خلف وكيع قال حدّثني حماد عن أبيه قال:
كان مطيع بن إياس عاقا بأبيه شديد البغض له و كان يهجوه، فأقبل يوما من بعد، و مطيع يشرب مع إخوان له، فلما رآه أقبل على أصحابه فقال:
هذا إياس مقبلا *** جاءت به إحدى الهنات(1)
هوّز فوه و أنفه *** كلمنّ في إحدى الصّفات/
و كأنّ سعفص بطنه *** و الثغر شين قريشات(2)
لما رأيتك آتيا *** أيقنت أنك شرّ آت
حدّثني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب قال حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمّد بن الفضل السكوني قال:
مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة بقصيدته الّتي أوّلها:
/
أهلا و سهلا بسيّد العرب *** ذي الغرر الواضحات و النّجب
فتى نزار و كهلها و أخي ال *** جود حوى غايتيه من كثب(3)
قيل أتاكم أبو الوليد فقا *** ل الناس طرّافي السهل و الرّحب
أبو العفاة الّذي يلوذ به *** من كان ذا رغبة و ذا رهب
جاء الّذي تفرج الهموم به *** حين يلزّ الوضين بالحقب(4)
جاء و جاء المضاء يقدمه *** رأي إذا همّ غير مؤتشب(5)
شهم إذا الحرب شبّ دائرها *** أعادها عودة على القطب(6)
يطفئ نيرانها و يوقدها *** إذا خبت نارها بلا حطب
إلاّ بوقع المذكّرات يشبّه *** ن إذا ما انتضين بالشّهب(7)
ص: 216
لم أر قرنا له يبارزه *** إلا أراه كالصقر و الخرب(1)
ليث بخفّان قد حمى أجما *** فصار منها في منزل أشب(2)
شبلاه قد أدّبا به فهما *** شبهاه في جدّه و في لعب(3)
قد ومقا شكله و سيرته *** و أحكما منه أكرم الأدب(4)
نعم الفتى تقرن الصّعاب به *** عند تجاثي الخصوم للرّكب(5)
/و نعم ما ليلة الشتاء إذا اس *** تنبح كلب القرى فلم يجب
لا و نعم عنده مخالفة *** مثل اختلاف الصّعود و الصّبب(6)
يحصر من لا فلا يهمّ بها *** و منه تضحي نعم على أرب(7)
ترى له الحلم و النّهى خلقا *** في صولة مثل جاحم اللّهب
سيف الإمامين ذاك و ذا إذا *** قلّ بناة الوفاء و الحسب
ذا هودة لا يخاف نبوتها *** و دينه لا يشاب بالريب(8)
فلما سمعها معن قال له: إن شئت مدحناك كما مدحتنا و إن شئت أثبناك. فاستحيا مطيع من اختيار الثواب على المديح و هو محتاج إلى الثواب، فأنشأ يقول لمعن:
ثناء من أمير خير كسب *** لصاحب فاقة و أخى ثراء(9)
و لكنّ الزمان برى عظامي *** و ما مثل الدراهم من دواء
فضحك معن حتى استلقى و قال: لقد لطفت(10) حتى تخلصت منها، صدقت، لعمري ما مثل الدراهم من دواء! و أمر له بثلاثين ألف درهم، و خلع عليه و حمله(11).
أخبرني محمّد بن يحيى الصولي قال حدّثني المهلّبي عن أبيه عن إسحاق قال: كان لمطيع بن إياس صديق من/العرب يجالسه، فضرط ذات يوم و هو عنده، فاستحيا و غاب عن المجلس، فتفقّده مطيع و عرف سبب انقطاعه، فكتب إليه و قال:
ص: 217
أظهرت منك لنا هجرا و مقلية *** و غبت عنا ثلاثا لست تغشانا(1)
هوّن عليك فما في الناس ذو إبل *** إلا و أنيقه يشردن أحيانا
/أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدّثني العباس بن ميمون طائع قال حدّثنا بعض شيوخنا البصريين الظرفاء و قد ذكرنا مطيع بن إياس، فحدثنا عنه قال:
اجتمع يحيى بن زياد و مطيع بن إياس و جميع أصحابهم، فشربوا أياما تباعا، فقال لهم يحيى ليلة من الليالي و هم سكارى: ويحكم! ما صلينا منذ ثلاثة أيام فقوموا بنا حتى نصلي. فقالوا: نعم. فقام مطيع فأذّن و أقام، ثم قالوا: من يتقدم؟ فتدافعوا ذلك، فقال مطيع للمغنّية: تقدّمي فصلي بنا. فتقدمت تصلي بهم عليها غلالة رقيقة مطيّبة بلا سراويل، فلما سجدت بان فرجها، فوثب مطيع و هي ساجدة فكشف عنه و قبّله و قطع صلاته، ثم قال:
و لما بدا فرجها جاثما *** كرأس حليق و لم تعتمد
سجدت إليه و قبّلته *** كما يفعل الساجد المجتهد
فقطعوا صلاتهم، و ضحكوا و عادوا إلى شربهم.
حدّثني عمي الحسن بن محمّد قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمّد بن القاسم مولى موسى الهادي قال:
كتب المهدي إلى أبي جعفر يسأله أن يوجّه إليه بابنه موسى، فحمله إليه، فلما قدم عليه قامت الخطباء تهنئه، و الشعراء تمدحه، فأكثروا حتى آذوه و أغضبوه، فقام مطيع بن إياس فقال:
أحمد اللّه إله ال *** خلق ربّ العالمينا
الّذي جاء بموسى *** سالما في سالمينا
الأمير ابن الأمير اب *** ن أمير المؤمنينا
فقال المهدي: لا حاجة بنا إلى قول بعد ما قاله مطيع. فأمسك الناس، و أمر له بصلة.
/قال أبو الفرج:
و نسخت من كتاب لأبي سعيد السّكري بخطه. قال: حدّثني ابن أبي فنن. أخبرني يحيى بن علي بن يحيى بهذا الخبر فيما أجاز لنا أن يرويه عنه عن أبي أيوب المدائني عن ابن أبي الدواهي، و خبر السكري أتم و اللفظ له، قال:
كان بالكوفة رجل يقال له أبو الأصبغ له قيان، و كان له ابن وضيء حسن الصورة يقال له الأصبغ(2)، لم يكن بالكوفة أحسن وجها منه، و كان يحيى بن زياد و مطيع بن إياس و حماد عجرد و ضرباؤهم يألفونه و يعشقونه
ص: 218
و يطرفونه(1)، و كلهم كان يعشق ابنه أصبغ، حتى كان يوم نوروز(2) و عزم أبو الأصبغ على أن يصطبح مع يحيى بن زياد، و كان يحيى قد أهدى له من الليل جداء و دجاجا و فاكهة و شرابا، فقال أبو الأصبع لجواريه: إن يحيى بن زياد يزورنا اليوم، فأعددن له كلّ ما يصلح لمثله. و وجّه بغلمان له ثلاثة في حوائجه، و لم يبق بين يديه أحد، فبعث بابنه أصبغ إلى يحيى يدعوه و يسأله التعجيل، فلما جاءه استأذن له الغلام، فقال له يحيى: قل له يدخل، و تنحّ أنت و أغلق/الباب و لا تدع الأصبغ يخرج إلا بإذني. ففعل الغلام و دخل الأصبغ، فأدّى إليه رسالة أبيه، فلما فرغ راوده يحيى عن نفسه، فامتنع، فثاوره(3) يحيى و عاركه حتى صرعه، ثم رام حلّ تكّته، فلم يقدر عليها، فقطعها و ناكه، فلما فرغ أخرج من تحت مصلاّه أربعين دينار، فأعطاه إياها، فأخذها، و قال له يحيى: امض فإني بالأثر. فخرج أصبغ من عنده، فوافاه مطيع بن إياس، فرآه يتبخّر و يتطيّب و يتزيّن، فقال له: كيف أصبحت؟ فلم يجبه، و شمخ بأنفه، و قطّب حاجبيه، و تفخّم؛ فقال له: ويحك مالك؟ نزل عليك/الوحي؟ كلمتك الملائكة؟ بويع لك بالخلافة؟ و هو يومئ برأسه: لا لا، في كل كلامه، فقال له: كأنك قد نكت أصبغ بن أبي الأصبغ قال: إي و اللّه الساعة نكته، و أنا اليوم في دعوة أبيه. فقال مطيع: فامرأته طالق إن فارقتك أو نقبّل متاعك. فأبداه له يحيى حتى قبّله، ثم قال له: كيف قدرت عليه؟ فقال يحيى ما جرى و حدثه بالحديث، و قام يمضي إلى منزل أبي الأصبغ، فتبعه مطيع، فقال له: ما تصنع معي و الرجل لم يدعك؟ و إنما يريد الخلوة. فقال: أشيّعك إلى بابه و نتحدث. فمضى معه، فدخل يحيى و ردّ الباب في وجه مطيع، فصبر ساعة، ثم دقّ الباب فاستأذن، فخرج إليه الرسول، و قال له: يقول لك أنا اليوم على شغل لا أتفرّغ معه لك. فتعذّر(4). قال: فابعث إليّ بدواة و قرطاس، فكتب إليه مطيع(5):
يا أبا الأصبغ لا زلت على *** كل حال ناعما متّبعا
لا تصيّرنى في الودّ كمن *** قطع التّكّة قطعا شنعا
و أتى ما يشتهي لم يثنه *** خيفة أو حفظ حق ضيّعا
لو ترى الأصبغ ملقى تحته *** مستكينا خجلا قد خضعا
و له دفع عليه عجل *** شبق شاءك ما قد صنعا(6)
فادع بالأصبغ و اعلم حاله *** سترى أمرا قبيحا شنعا
قال فقال أبو الأصبغ ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية؟ قال: لا و اللّه. فضرب بيده إلى تكّة ابنه، فرآها مقطوعة، و أيقن يحيى بالفضيحة، فتلكأ الغلام، فقال له يحيى: قد كان الّذي كان، و سعى بي إليك مطيع ابن الزانية، و هذا ابني و هو و اللّه أفره(7) من ابنك، و أنا عربي ابن عربية و أنت نبطيّ ابن نبطية، فنك ابني عشر مرات/مكان المرّة الّتي نكت ابنك، فتكون قد ربحت الدنانير، و للواحد عشرة. فضحك و ضحك الجواري، و سكن غضب أبي الأصبغ، و قال لابنه: هات الدنانير يا ابن الفاعلة. فرمى بها إليه، و قام خجلا، و قال يحيى: و اللّه لا أدخل مطيع الساعي ابن الزانية. فقال أبو الأصبغ و جواريه: و اللّه ليدخلنّ، فقد نصحنا و غششتنا. فأدخلناه و جلس يشرب و معهم يحيى يشتمهم بكل لسان، و هو يضحك، و اللّه أعلم.
ص: 219
أخبرني عمي الحسن بن محمّد قال حدّثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال:
حضر مطيع بن إياس و شراعة بن الزندبوذ و يحيى بن زياد و والبة بن الحباب و عبد اللّه بن العيّاش المنتوف و حماد عجرد، مجلسا لأمير من أمراء الكوفة، فتكايدوا جميعا عنده، ثم اجتمعوا على مطيع/يكايدونه و يهجونه فغلبهم جميعا، حتى قطعهم ثم هجاهم بهذين البيتين و هما.
و خمسة قد أبانوا لي كيادهم *** و قد تلظّى لهم مقلى و طنجير(1)
لو يقدرون على لحمي لمزّقه *** قرد و كلب و جرواه و خنزير(2)
أخبرني وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمّد بن الفضل قال:
دخل صديق لمطيع بن إياس، فرأى غلاما تحته ينيكه، و فوق مطيع غلام له يفعل كذلك، فهو كأنه في تخت(3)، فقال له: ما هذا يا أبا سلمى؟ قال: هذه اللذة المضاعفة.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:
كان حماد الراوية قد هجر مطيعا لشيء بلغه عنه، و كان مطيع حلقيا، فأنشد شعرا ذات يوم و حماد حاضر، فقيل له: من(4) يقول هذا يا أبا سلمى؟ قال: الحطيئة. /قال حماد: نعم هذا شعر الحطيئة لما حضر الكوفة و صار بها حلقيا. يعرّض حماد بأنّه كذاب، و أنّه حلقي، فأمسك مطيع عن الجواب و ضحك.
حدّثني محمّد بن العباس اليزيدي قال حدّثني محمّد بن إسحاق البغوي قال حدّثنا بن الأعرابي عن الفضل قال:
جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطبا. قال: لمن؟ قال: لمودّتك. قال: قد أنكحتكها و جعلت الصداق ألا تقبل فيّ قول قائل. و يقال إن الأبيات الّتي فيها الغناء المذكور بذكرها أخبار مطيع بن إياس يقولها في جارية له يقال لها جودانة(5) كان باعها فندم، فذكر الجاحظ أن مطيعا حلف أنها كانت تستلقي على ظهرها فيشخص كتفاها و مأكمتاها، فتدحرج تحتها الرمان فينفذ إلى الجانب الآخر. و يقال إنه قالها في امرأة من أبناء الدّهاقين(6) كان يهواها، و شعره يدل على صحة هذا القول، و القول الأوّل غلط.
أخبرني بخبره مع هذه الجارية أبو الحسن الأسدي قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سعيد بن سالم قال:
ص: 220
أخبرني مطيع بن إياس الليثي - و كان أبوه من أهل فلسطين من أصحاب الحجاج بن يوسف - أنه كان مع سلم(1) بن قتيبة، فلما خرج إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، كتب إليه المنصور يأمره باستخلاف رجل على عمله و القدوم عليه في خاصّته على البريد، قال مطيع: و كانت لي(2) جارية يقال لها جودانة كنت أحبها، فأمرني سلم بالخروج معه، فاضطررت إلى بيع الجارية، فبعتها و ندمت على ذلك بعد خروجي و تمنيت أن أكون أقمت، و تتبّعتها نفسي، و نزلنا/حلوان، فجلست على العقبة أنتظر ثقلي و عنان دابّتي في يدي و أنا مستند إلى نخلة على العقبة و إلى جانبها نخلة أخرى، فتذكرت الجارية و اشتقتها و قلت:
أسعداني يا نخلتي حلوان *** و ابكيا لي من ريب هذا الزمان(3)
و اعلما أنّ ريبه لم يزل يف *** رق بين الألاّف و الجيران
و لعمري لو ذقتما ألم الفر *** قة قد أبكاكما الّذي أبكاني(4)
أسعداني و أيقنا أن نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان
كم رمتني صروف هذي الليالي *** بفراق الأحباب و الخلاّن/
غير أني لم تلق نفسي كما *** لاقيت من فرقة ابنة الدّهقان
جارة لي بالرّيّ تذهب همّي *** و يسلّي دنوّها أحزاني(5)
فجعتني الأيام أغبط ما كن *** ت بصدع للبين غير مدان
و برغمي أن أصبحت لا تراها ال *** عين مني و أصبحت لا تراني
إن نكن ودّعت فقد تركت بي *** لهبا في الضمير ليس بوان
كحريق الضّرام في قصب الغا *** ب زفته ريحان تختلفان(6)
فعليك السلام [منّي](7) ما سا *** غ سلاما عقلي و فاض لساني
هكذا ذكر أبو الحسن الأسديّ في هذا الخبر و هو غلط.
نسخت خبر هذا من خط أبي أيوب المدائني عن حماد، و لم يقل عن أبيه عن سعيد بن سالم عن مطيع قال:
كانت لي بالرّي جارية أيام مقامي بها مع سلم بن قتيبة، فكنت أتستّر بها، و كنت أ تعشق امرأة من بنات الدّهاقين كنت نازلا/إلى جنبها في دار لها، فلما خرجنا بعت الجارية و بقيت في نفسي علاقة من المرأة الّتي كنت أهواها، فلما نزلنا عقبة حلوان جلست مستندا إلى إحدى النخلتين اللتين على العقبة فقلت:
أسعداني يا نخلتي حلوان *** و ارثيا لي من ريب هذا الزمان
و ذكر الأبيات، فقال لي سلم: ويلك فيمن هذه الأبيات؟ أ في جاريتك؟ فاستحييت أن أصدقه فقلت: نعم. فكتب من وقته إلى خليفته أن يبتاعها لي، فلم ألبث أن ورد كتابه: إني وجدتها قد تداولها الرجال، فقد عزفت نفسي
ص: 221
عنها. فأمر لي بخمسة آلاف درهم، و لا و اللّه ما كان في نفسي منها شيء، و لو كنت أحبها لم أبال إذا رجعت إليّ بمن تداولها، و لم أبال لو ناكها أهل منى كلّهم.
أخبرني عمي عن الحسن عن أحمد بن أبي طاهر عن عبد اللّه بن أبي سعد عن محمّد بن الفضل الهاشمي عن سلام الأبرش قال:
لما خرج الرشيد إلى طوس هاج به الدم بحلوان، فأشار عليه الطبيب أن يأكل جمّارا(1)، فأحضر دهقان حلوان و طلب منه جمّارا، فأعلمه أن بلده ليس بها نخل، و لكن على العقبة نخلتان، فمر بقطع إحداهما. فقطعت، فأتي الرشيد بجمارتها، فأكل منها و راح(2). فلما انتهى إلى العقبة نظر إلى إحدى النخلتين مقطوعة و الأخرى قائمة، و إذا على القائمة مكتوب:
أسعداني يا نخلتي حلوان *** و ابكيا لي من ريب هذا الزمان
أسعداني و أيقنا أنّ نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان
فاغتم الرشيد، و قال: يعزّ عليّ أن أكون نحستكما، و لو كنت سمعت بهذا الشعر ما قطعت هذه النخلة و لو قتلني الدم.
/أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا الحارثي بن أبي أسامة قال حدّثني محمّد بن أبي محمّد القيسيّ عن أبي سمير عبد اللّه بن أيوب قال:
لما خرج المهدي فصار بعقبة حلوان استطاب الموضع فتغدّى و دعا بحسنة فقال لها: أ ما ترين طيب هذا الموضع؟ غنيني بحياتي حتى أشرب هاهنا أقداحا، فأخذت محكّة كانت في يده و أوقعت على/مخدّة(3) و غنّته:
أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا *** إذا نام حراس النخيل جناكما
فقال: أحسنت، و لقد هممت بقطع هاتين النخلتين - يعني نخلتي حلوان - فمنعني منهما هذا الصوت. و قالت له حسنة: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين أن تكون النحس المفرق بينهما. فقال لها: و ما ذاك؟ فأنشدته أبيات مطيع هذه.
فلما بلغت إلى قوله:
أسعداني و أيقنا أن نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان
قال: أحسنت و اللّه فيما قلت، إذ نبهتني على هذا، و اللّه لا أقطعهما أبدا، و لأوكلنّ بهما من يحفظهما و يسقيهما ما حييت. ثم أمر بأن يفعل، فلم يزل في حياته على ما رسمه إلى أن مات.
أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا *** إذا نام حرّاس النخيل جناكما
فطيبكما أربى على النخل بهجة *** و زاد على طول الفتاء فتاكما(4)
ص: 222
يقال إن الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة، و فيه لعطرد رمل بالوسطى من روايته و رواية الهشاميّ.
أخبرني عمي عن أحمد بن طاهر عن الخرّاز عن المدائني أن المنصور اجتاز بنخلتي حلوان و كانت إحداهما على الطريق، فكانت تضيّقه و تزحم الأثقال عليه، فأمر بقطعهما، فأنشد قول مطيع:
و اعلما ما بقيتما أنّ نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان
قال: لا و اللّه ما كنت ذلك النحس الّذي يفرق بينهما، و تركهما.
و ذكر أحمد بن إبراهيم عن أبيه عن جده إسماعيل بن داود أنّ المهدي قال: قد أكثر الشعراء في نخلتي حلوان و لهممت أن آمر بقطعهما. فبلغ قوله المنصور، فكتب إليه:
«بلغني أنك هممت بقطع نخلتي حلوان، و لا فائدة لك في قطعهما، و لا ضرر عليك في بقائهما، فأنا أعيذك باللّه أن تكون النّحس الّذي يلقاهما، فتفرق بينهما». يريد قول مطيع.
و مما قالت الشعراء في نخلتي حلوان قول حماد عجرد، و فيه غناء قد ذكرته في أخبار حماد:
جعل اللّه سدرتي قصر شيري *** ن فداء لنخلتي حلوان(1)
جئت مستسعدا فلم يسعداني *** و مطيع بكت له النخلتان(2)
و أنشدني جحظة و وكيع عن حماد عن أبيه لبعض الشعراء و لم يسمّه:
أيّها العاذلان لا تعذلاني *** و دعاني من الملام دعاني
و ابكيا لي فإنّني مستحق *** [منكما] بالبكاء أن تسعداني(3)
إنني منكما بذلك أولى *** من مطيع بنخلتي حلوان
فهما تجهلان ما كان يشكو *** من هواه و أنتما تعلمان
فكأنّ الغريّ قد كان فردا *** و كأن لم تجاور النخلتان(1)
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني مصعب الزبيري عن أبيه قال:
جلس مطيع بن إياس في العلة الّتي مات فيها في قبة خضراء و هو على فرش خضر، فقال له الطبيب: أي شيء تشتهي اليوم؟ قال: أشتهي أ لا أموت. قال: و مات في علته هذه، و ذلك بعد ثلاثة أشهر مضت له من خلافة الهادي.
قال أبو الفرج: ما وجدت فيه غناء من شعر مطيع، قال:
أمرّ مدامة صرفا *** كأنّ صبيبها ودج(2)
كأنّ المسك نفحتها *** إذا بزلت لها أرج(3)
فظلّ تخاله ملكا *** يصرفها و يمتزج(4)
/الغناء لإبراهيم، ثاني ثقيل بالخنصر و الوسطى عن ابن المكي. و فيه لحن آخر لابن جامع. و هذه الطريقة بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
جدلت كجدل الخيزرا *** ن و ثنيت فتثنّت
و تيقّنت أن الفؤا *** د يحبها فأدلّت
الغناء لعبد اللّه بن عباس الربيعي خفيف رمل، و ذكر حبش أنه لمقامة.
إلا إن أهل الدار قد ودّعوا الدارا *** و قد كان أهل الدار في الدار أجوارا(1)
يبكّي على إثر الجميع فلا يرى *** سوى نفسه فيها من القوم ديّارا(2)
الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة. و ذكر ابن المكي أن فيه لابن سريج لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر.
انقضت أخبار مطيع و للّه الحمد.
فيّ انقباض و حشمة فإذا *** صادفت أهل الوفاء و الكرم
أرسلت نفسي على سجيّتها *** و قلت ما قلت غير محتشم
/ الشعر لمحمد بن كناسة الأسديّ، و الغناء لقلم الصالحية، ثقيل أوّل بالوسطى. و ذكر ابن خرداذبه أنّ فيه لإسماعيل بن صالح لحنا.
ص: 225
هو محمّد بن كناسة، و اسم كناسة عبد اللّه بن عبد الأعلى بن عبيد اللّه بن خليفة بن زهير بن نضلة بن أنيف بن مازن بن صهبان - و اسم صهبان كعب - بن دويبة(1) بن أسامة بن نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة؛ و يكنى أبا يحيى. شاعر من شعراء الدولة العباسية، كوفي المولد و المنشأ، قد حمل عنه شيء من الحديث؛ و كان إبراهيم بن أدهم الزاهد خاله، و كان امرأ صالحا لا يتصدّى لمدح و لا لهجاء؛ و كانت له جارية شاعرة مغنية يقال لها دنانير؛ و كان أهل الأدب و ذوو المروءة يقصدونها للمذاكرة و المساجلة في الشعر.
أخبرني محمّد بن خلف وكيع قال حدّثني إبراهيم بن أبي عثمان قال حدّثني مصعب الزّبيري قال:
قلت لمحمد بن كناسة الأسدي و نحن بباب أمير المؤمنين: أ أنت الّذي تقول في إبراهيم بن أدهم العابد:
رأيتك ما يغنيك ما دونه الغنى *** و قد كان يغنى دون ذاك ابن أدهما
و كان يرى الدنيا صغيرا عظيمها *** و كان لحقّ اللّه فيها معظّما
و أكثر ما تلقاه في القوم صامتا *** فإن قال بذ القائلين و أحكما
فقال محمّد بن كناسة: أنا قلتها و قد تركت أجودها. فقال:
أهان الهوى حتى تجنّبه الهوى *** كما اجتنب الجاني الدّم الطالب الدّما
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني عليّ بن مسرور العتكي(2) قال حدّثني أبي قال قال ابن كناسة:
/لقد كنت أتحدّث بالحديث فلو لم يجد سامعه إلا القطن الّذي على وجه أمه في القبر لتعلّل عليه حتى يستخرجه و يهديه إليّ، و أنا اليوم أتحدّث بذلك الحديث فما أفرغ منه حتى أهيّئ له عذرا.
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان إجازة قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثني عبيد اللّه بن يحيى بن فرقد قال سمعت محمّد بن كناسة يقول:
كنت في طريق الكوفة، فإذا أنا بجويرية تلعب بالكعاب(3) كأنها قضيب بان، فقلت لها: أنت أيضا لو ضعت لقالوا ضاعت جارية، و لو قالوا ضاعت ظبية كانوا أصدق. فقالت: ويلي عليك يا شيخ! و أنت أيضا تتكلم بهذا الكلام؟ فكسفت و اللّه إلى بالي ثم تراجعت فقلت:
ص: 226
و إنّي لحلو مخبري إن خبرتني *** و لكن يغطّيني و لا ريب بي شيخ(1)
فقالت لي و هي تلعب و تبسمت: فما أصنع بك أنا إذا؟ فقلت: لا شيء. و انصرفت.
أخبرنا ابن المرزبان قال حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال:
سألت محمّد بن كناسة عن قول الشاعر(2):
إذا الجوزاء أردفت الثريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا
فقال: يقول إذا صارت الجوزاء في الموضع الّذي ترى فيه الثريا خفت تفرّق الحيّ من مجمعهم؛ و الثريا تطلع بالغداة في الصيف، و الجوزاء تطلع بعد ذلك في أوّل القيظ.
أخبرني/ابن المرزبان قال حدّثني ابن أبي سعد قال حدّثني صالح بن أحمد بن عباد قال:
مرّ محمّد بن كناسة في طريق بغداد، فنظر إلى مصلوب على جذع، و كانت عنده امرأة يبغضها، و قد ثقل عليه مكانها، فقال يعنيها:
أيا جذع مصلوب أتى دون صلبه *** ثلاثون حولا كاملا هل تبادل
فما أنت بالحمل الّذي قد حملته *** بأضجر مني بالذي أنا حامل
أخبرني ابن المرزبان قال حدّثنا عبد اللّه بن محمّد. و أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن محمّد بن عمران عن عبيد بن حسن قال:
رأى رجل محمّد بن كناسة يحمل بيده بطن شاة، فقال: هاته أحمله عنك. فقال: لا. ثم قال:
لا ينقص الكامل من كماله *** ما جرّ من نفع إلى عياله
أخبرني وكيع قال أخبرني ابن أبي الدّنيا قال حدّثني محمّد بن علي بن عثمان عن أبيه قال:
كنت يوما عند ابن كناسة، فقال لنا: أعرّفكم شيئا من فهم دنانير؟ يعني جاريته. قلنا: نعم. فكتب إليها:
«إنك أمة ضعيفة لكعاء، فإذا جاءك كتابي هذا فعجّلي بجوابي. و السلام». فكتبت إليه: «ساءني تهجينك إياي عند أبي الحسين(3)، و إنّ من أعيا العيّ الجواب عما لا جواب له. و السلام».
أخبرني وكيع قال أخبرني ابن أبي الدنيا قال كتب إليّ الزبير بن بكّار أخبرني عليّ بن عثمان الكلابيّ قال:
/جئت يوما إلى منزل محمّد بن كناسة فلم أجده، و وجدت جاريته دنانير جالسة، فقالت لي: مالك محزونا يا أبا الحسين؟ فقلت: رجعت من دفن أخ لي من قريش. فسكتت ساعة ثم قالت:
ص: 227
بكيت على أخ لك من قريش *** فأبكانا بكاؤك يا عليّ
فمات و ما خبرناه و لكن *** طهارة صحبه الخبر الجليّ
أخبرني الحسن بن علي الخفّاف قال حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمّد بن عمران الضبّي قال:
أملق محمّد بن كناسة فلامه قومه في القعود عن السلطان و انتجاعه الأشراف بأدبه و علمه و شعره، فقال لهم مجيبا عن ذلك:
تؤنّبني أن صنت عرضي عصابة *** لها بين أطناب اللئام بصيص(1)
يقولون لو غمّضت لازددت رفعة *** فقلت لهم إني إذن لحريص(2)
أتكلم وجهي لا أبا لأبيكم *** مطامع عنها للكرام محيص
معاشي دوين القوت و العرض وافر *** و بطني عن جدوى اللئام خميص(3)
سألقى المنايا لم أخالط دنيّة *** و لم تسر بي في المخزيات قلوص(4)
حدّثنا الحسن بن علي قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني محمّد بن عمر الجرجاني قال حدّثني إسحاق الموصلي قال:
/أنشدني محمّد بن كناسة لنفسه قال:
فيّ انقباض و حشمة فإذا *** صادفت أهل الوفاء و الكرم
أرسلت نفسي على سجيّتها *** و قلت ما قلت غير محتشم/
قال إسحاق فقلت لابن كناسة: وددت أنه نقص من عمري سنتان و أني كنت سبقتك إلى هذين البيتين فقلتهما.
حدّثني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني محمّد بن عمران الضّبيّ قال حدّثني محمّد بن المقدام العجلي قال:
كانت أم محمّد بن كناسة امرأة من بني عجل، و كان إبراهيم بن أدهم خاله أو ابن خاله، فحدثني ابن كناسة أن إبراهيم بن أدهم قدم الكوفة فوجّهت أمّه إليه بهدية معه، فقبلها و وهب له ثوبا، ثم مات إبراهيم، فرثاه ابن كناسة فقال:
رأيتك ما يكفيك ما دونه الغنى *** و قد كان يكفي دون ذاك ابن أدهما(5)
ص: 228
و كان يرى الدنيا قليلا كثيرها *** فكان لأمر اللّه فيهما معظّما
أمات الهوى حتى تجنّبه الهوى *** كما اجتنب الجاني الدّم الطالب الدّما
و للحلم سلطان على الجهل عنده *** فما يستطيع الجهل أن يترمرما(1)
و أكثر ما تلقاه في القوم صامتا *** و إن قال بذّ القائلين و أحكما
يرى مستكينا خاضعا متواضعا *** و ليثا إذا لاقى الكتيبة ضيغما
على الجدث الغربيّ من آل وائل *** سلام و برّ ما أبرّ و أكرما
أخبرني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني زكريا بن مهران قال: عاتب محمّد بن كناسة صديق له شريف كان ابن كناسة يزوره و يألفه على تأخره عنه، فقال ابن كناسة:
ضعفت عن الإخوان حتى جفوتهم *** على غير زهد في الوفاء و لا الودّ
و لكنّ أيامي تخرّمن منّتي *** فما أبلغ الحاجات إلا على جهد(2)
حدّثني الحسن بن علي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني محمّد بن عمران الضّبّيّ قال أنشدني ابن كناسة - قال الضّبّيّ: و كان يحيى يستحسنها و يعجب بها -:
و من عجب الدنيا تبقّيك للبلى *** و أنّك فيها للبقاء مريد
و أيّ بني الأيام إلا و عنده *** من الدهر ذنب طارف و تليد
و من يأمن الأيام أما انبياعها *** فخطر و أما فجعها فعتيد(3)
إذا اعتادت النفس الرّضاع من الهوى *** فإنّ فطام النفس عنه شديد
حدّثني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني محمّد بن عمران الضبي قال قال لي عبيد بن الحسن:
قال لي ابن كناسة ذات يوم في زمن الربيع: اخرج بنا ننظر إلى الحيرة فإنها حسنة في هذا الوقت. فخرجت معه حتى بلغنا الخورنق، فلم يزل ينظر إلى البر و إلى رياض الحيرة و حمرة الشقائق، فأنشأ يقول:
الآن حين تزيّن الظّهر *** ميثاؤه و براقه العفر(4)
بسط الربيع بها الرياض كما *** بسطت قطوع اليمنة الخمر(5)
/برّيّة في البحر نابتة *** يجبى إليها البرّ و البحر
ص: 229
و جرى الفرات على مياسرها *** و جرى على أيمانها الزهر/
و بدا الخورنق في مطالعها *** فردا يلوح كأنه الفجر(1)
كانت منازل للملوك و لم *** يعلم بها لمملّك قبر
قال: ثم قال يصف تلك البلاد:
سفلت عن برد أرض *** زادها البرد عذابا
و علت عن حرّ أخرى *** تلهب النار التهابا
مزجت حينا ببرد *** فصفا العيش و طابا
أخبرني محمّد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدّثني إسحاق بن محمّد الأسدي قال حدّثني عبد الأعلى بن محمّد بن كناسة قال:
رآني أبي مع أحداث لم يرضهم، فقال لي:
ينبيك عن عيب الفتى *** ترك الصلاة أو الخدين
فإذا تهاون بالصّلا *** ة فما له في الناس دين
و يزنّ ذو الحدث المري *** ب بما يزنّ به القرين(2)
إن العفيف إذا تكنّ *** فه المريب هو الظنين(3)
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد قال أخبرنا عباد بن الحسين بن عباد بن كناسة - قال: كان محمّد بن كناسة عمّ أبيه - قال:
/كان يجيء إلى محمّد بن كناسة رجل من عشيرته فيجالسه، و كان يكتب الحديث و يتفقه و يظهر أدبا و نسكا، و ظهر محمّد بن كناسة منه على باطن يخالف ظاهره، فما جاءه قال له:
ما من روى أدبا فلم يعمل به *** و يكفّ عن دفع الهوى بأديب(4)
حتى يكون بما تعلّم عاملا *** من صالح فيكون غير معيب
و لقلما يغني إصابة قائل *** أفعاله أفعال غير مصيب
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن كناسة عن أبيه عن جده قال:
ص: 230
أتيت امرأة من بني أود تكحلني من رمد كان أصابني، فكحلتني ثم قالت: اضطجع قليلا حتى يدور الدواء في عينك. فاضطجعت، ثم تمثلت قول الشاعر:
أ مخترمي ريب المنون و لم أزر *** طبيب بني أود على النّأي زينبا(1)
فضحكت ثم قالت: أ تدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا و اللّه. فقالت: فيّ و اللّه قيل، و أنا زينب الّتي عناها، و أنا طبيب أود، أ فتدري من الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال أخبرني عليّ بن عثّام الكلابيّ قال:
/كانت لابن كناسة جارية شاعرة مغنية، يقال لها دنانير، و كان له صديق يكنى أبا الشّعثاء، و كان عفيفا مزّاحا، فكان يدخل إلى ابن كناسة يسمع غناء جاريته و يعرّض لها بأنه يهواها، فقالت فيه:
لأبي الشعثاء حبّ باطن *** ليس فيه نهضة للمتّهم/
يا فؤادي فازدجر عنه و يا *** عبث الحبّ به فاقعد و قم
زارني منه كلام صائب *** و وسيلات المحبّين الكلم
صائد تأمنه غزلانه *** مثل ما تأمن غزلان الحرم(2)
صلّ إن أحببت أن تعطى المنى *** يا أبا الشّعثاء للّه وصم
ثمّ ميعادك يوم الحشر في *** جنّة الخلد إن اللّه رحم
حيث ألقاك غلاما ناشئا *** يافعا قد كملت فيه النّعم(3)
أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ المؤدّب قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني أحمد بن محمّد الأسديّ قال حدّثني جدي موسى بن صالح قال: ماتت دنانير جارية ابن كناسة، و كانت أديبة شاعرة، فقال يرثيها بقوله:
الحمد للّه لا شريك له *** يا ليت ما كان منك لم يكن
إن يكن القول قلّ فيك فما *** أفحمني غير شدّة الحزن
قال أبو الفرج: و قد روى ابن كناسة حديثا كثيرا، و روى عنه الثقات من المحدثين؛ فممن روى ابن كناسة عنه سليمان بن مهران الأعمش، و إسماعيل بن أبي خالد، و هشام بن عروة بن الزبير، و مسعر بن كدام، و عبد العزيز بن أبي داود، و عمر بن ذر الهمداني(4)، و جعفر بن برقان، و سفيان الثّوري، و فطر بن خليفة(5) و نظراؤهم.
ص: 231
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا محمّد بن سعد العوفي(1) قال حدّثنا محمّد بن كناسة قال حدّثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول اللّه إن الرجل يحب القوم و لم يلحق بهم. قال:
«المرء مع من أحبّ»(2).
أخبرني الحسن قال حدّثنا محمّد بن سعد قال حدّثنا محمّد بن كناسة قال حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد اللّه بن جعفر قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «خير نسائها مريم بنت عمران، و خير نسائنا خديجة». و اللّه أعلم(3).
أخبرني الحسن قال حدّثنا محمّد بن سعد قال حدّثنا ابن كناسة قال حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن زرّ بن حبيش قال:
كانت في أبيّ بن كعب شراسة، فقلت له: يا أبا المنذر، اخفض جناحك يرحمك اللّه، و أخبرنا عن ليلة القدر. فقال: هي ليلة سبع و عشرين. و قد روى حديثا كثيرا ذكرت منه هذه الأحاديث فقط، ليعلم صحة ما حكيته عنه، و ليس استيعاب هذا الجنس مما يصلح هاهنا.
ص: 232
كانت قلم الصالحية جارية مولّدة صفراء حلوة حسنة الغناء و الضرب حاذقة، قد أخذت عن إبراهيم و ابنه إسحاق، و يحيى المكيّ، و زبير بن دحمان. و كانت لصالح بن عبد الوهّاب أخي أحمد بن عبد الوهّاب كاتب صالح بن الرشيد، و قيل: بل كانت لأبيه. و كانت لها صنعة يسيرة نحو عشرين صوتا، و اشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار.
فأخبرني محمّد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثني رذاذ أبو الفضل المغنّي مولى المتوكل على اللّه، قال حدّثني/أحمد بن الحسين بن هشام، قال:
كانت قلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب إحدى المغنّيات المحسنات المتقدمات، فغنى بين يدي الواثق لحن لها في شعر محمّد بن كناسة، قال:
فيّ انقباض و حشمة فإذا *** صادفت أهل الوفاء و الكرم
أرسلت نفسي على سجيّتها *** و قلت ما قلت غير محتشم
فسأل: لمن الصنعة فيه؟ فقيل: لقلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب. فبعث إلى محمّد بن عبد الملك الزيّات فأحضره. فقال: ويلك! من صالح بن عبد الوهاب هذا؟ فأخبره. قال: أين هو؟ قال: ابعث فأشخصه و أشخص معه جاريته. فقدما على الواثق، فدخلت عليه قلم، فأمرها بالجلوس و الغناء، فغنّت، فاستحسن غناءها و أمر بابتياعها. فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينار و ولاية مصر. فغضب الواثق من ذلك، و ردّ عليه(1). ثم غنّى بعد ذلك زرزور(2) الكبير في مجلس الواثق صوتا، الشعر فيه لأحمد بن عبد الوهاب أخي صالح، و الغناء لقلم، و هو:
/
أبت دار الأحبّة أن تبينا *** أجدّك ما رأيت لها معينا(3)
تقطّع نفسه من حبّ ليلى *** نفوسا ما أثبن و لا جزينا
فسأل: لمن الغناء؟ فقيل: لقلم جارية صالح، فبعث إلى ابن الزّيات: أشخص صالحا و معه قلم. فلما أشخصهما دخلت على الواثق، فأمرها أن تغنّيه هذا الصوت، فغنته، فقال لها: الصنعة فيه لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: بارك اللّه عليك. و بعث إلى صالح فأحضر، فقال(4): أما إذا وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين
ص: 233
فما يجوز أن أملك شيئا له فيه رغبة، و قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فإنّ من حقّها عليّ إذا تناهيت في قضائه أن أصيّرها ملكه، فبارك اللّه له فيها. فقال له الواثق: قد قبلتها. و أمر ابن الزيات أن يدفع إليه خمسة آلاف دينار، و سماها احتياطا، فلم يعطه ابن الزيات المال و مطله به، فوجّه صالح إلى قلم من أعلمها ذلك، فغنت الواثق و قد اصطبح صوتا، فقال لها: بارك اللّه فيك و فيمن ربّاك. فقالت: يا سيدي و ما نفع من ربّاني منّي إلا التعب و الغرم عليّ و الخروج منّي صفرا؟ قال: أ و لم آمر له بخمسة آلاف دينار؟ قالت: بلى! و لكنّ ابن الزيّات لم يعطه شيئا. فدعا بخادم من خاصّة الخدم و وقّع إلى آبن الزيات بحمل الخمسة آلاف الدينار إليه، و خمسة آلاف دينار أخرى معها.
قال صالح: فصرت مع الخادم إليه بالكتاب، فقربني و قال: أما الخمسة الآلاف الأولى فخذها فقد حضرت، و الخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها إليك بعد جمعة. فقمت، ثم تناساني كأنه لم يعرفني، و كتبت أقتضيه، فبعث إليّ: اكتب لي قبضا(1) بها و خذها بعد جمعة. فكرهت أن أكتب قبضا بها فلا يحصل لي شيء، فاستترت و هو في منزل صديق/لي؛ فلما بلغه استتاري خاف أن أشكوه إلى الواثق، فبعث إليّ بالمال و أخذ كتابي بالقبض. ثم لقيني الخادم بعد ذلك فقال لي: أمرني أمير المؤمنين أن أصير إليك فأسألك، هل قبضت المال؟ قلت: نعم قد قبضته.
قال صالح: و ابتعت بالمال ضيعة و تعلّقت بها و جعلتها معاشي، و قعدت عن عمل/السلطان فما تعرضت منه لشيء بعدها.
أخبرني محمّد بن يحيى قال أخبرني ابن إسحاق الخراسانيّ. قال: و حدّثني محمّد بن مخارق قال:
لما بويع الواثق بالخلافة دخل عليه علي بن الجهم فأنشده قوله:
قد فاز ذو الدّنيا و ذو الدّين *** بدولة الواثق هارون
و عمّ بالإحسان من فعله *** فالناس في خفض و في لين
ما أكثر الداعي له بالبقا *** و أكثر التّالي بآمين
و أنشده أيضا قوله فيه:
وثقت بالملك الوا *** ثق باللّه النّفوس
ملك يشقى به الما *** ل و لا يشقى الجليس
أسد تضحك عن شدّ *** اته الحرب العبوس
أنس السيف به و اس *** توحش العلق النفيس(2)
يا بني العباس يأ *** بى اللّه إلاّ أن تسوسوا
/قال: فوصله الواثق صلة سنيّة.
ص: 234
و تغنّت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، فسمع الواثق الشّعرين و اللحنين من غيرها فأراد شراءها، و أمر محمّد بن عبد الملك الزيات بإحضار مولاها و إحضارها، و اشتراها منه بعشرة آلاف دينار.
و كنت أعير الدمع قبلك من بكى *** فأنت على من مات قبلك شاغله
سقى جدثا أعراف غمرة دونه *** ببيشة ديمات الربيع و وابله(1)
و ما بي حبّ الأرض إلا جوارها *** صداه و قول ظنّ أنّي قائله
الشعر للشمردل بن شريك من قصيدة طويلة مشهورة يرثي بها أخاه، و الغناء لعبد اللّه بن العباس الربيعي ثقيل أوّل بالوسطى، ابتداؤه نشيد، و لمقاسة بن ناصح فيه خفيف رمل بالوسطى جميعا عن الهشامي، و ذكر حبش أن خفيف الرمل لخزرج.
ص: 235
الشّمردل بن شريك بن عبد الملك بن رؤبة بن سلمة بن مكرم بن ضبارى(1) بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع. و هو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، كان في أيام جرير و الفرزدق.
أخبرني أبو دلف هاشم بن محمّد الخزاعي، قال: حدّثنا أبو غسان دماذ و اسمه رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال:
كان الشمردل بن شريك شاعرا من شعراء بن تميم في عهد جرير و الفرزدق، و قد خرج هو و إخوته حكم و وائل و قدامة إلى خراسان مع وكيع بن أبي سود، فبعث وكيع أخاه وائلا في بعث لحرب الترك، و بعث أخاه قدامة إلى فارس في بعث آخر، و بعث أخاه حكما في بعث إلى سجستان، فقال له/الشمردل: إن رأيت أيها الأمير أن تنفذنا معا في وجه واحد، فإنا إذا اجتمعنا تعاونّا و تناصرنا و تناسبنا(2). فلم يفعل ما سأله، و أنفذهم إلى الوجوه الّتي أرادها، فقال الشمردل يهجوه، و كتب بها إلى أخيه حكم مع رجل من بني جشم(3) بن أدّ بن طابخة:
إني إليك إذا كتبت قصيدة *** لم يأتني لجوابها مرجوع
أ يضيعها الجشميّ فيما بيننا *** أم هل إذا وصلت إليك تضيع
و لقد علمت و أنت عنّي نازح *** فيما أتى كبد الحمار وكيع
و بنو غدانة كان معروفا لهم *** أن يهضموا و يضيمهم يربوع
و عمارة العبد المبيّن إنه *** و اللؤم في بدن القميص جميع
و ما أنا إلا مثل من ضربت له *** أسى الدهر عن ابني أب فارقا مثلي(1)
أقول إذا عزّيت نفسي بإخوة *** مضوا لاضعاف في الحياة و لا عزل
أبى الموت إلا فجع كلّ بني أب *** سيمسون شتّى غير مجتمعي الشّمل
سبيل حبيبيّ اللّذين تبرّضا *** دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي(2)
كأن لم نسر يوما و نحن بغبطة *** جميعا و ينزل عند رحليهما رحلي
فعينيّ إن أفضلتما بعد وائل *** و صاحبه دمعا فعودا على الفضل
خليليّ من دون الأخلاّء أصبحا *** رهيني وفاء من وفاة و من قتل
فلا يبعدا للدّاعيين إليهما *** إذا اغبر آفاق السماء من المحل(3)
فقد عدم الأضياف بعدهما القرى *** و أخمد نار الليل كلّ فتى و غل(4)
و كانا إذا أيدي الغضاب تحطمت *** لواغر صدر أو ضغائن من تبل(5)
/تحاجز أيدي جهّل القوم عنهما *** إذا أتعب الحلم التترّع(6) بالجهل
كمستأسدي عرّيسة لهما بها *** حمى هابه من بالحزونة و السّهل(7)
و منها الصوت الّذي ذكرت أخباره بذكره.
قال أبو عبيدة: و قال يرثي أخاه وائلا، و هي من مختار المراثي و جيد شعره:
لعمري لئن غالت أخي دار فرقة *** و آب إلينا سيفه و رواحله(8)
و حلّت به أثقالها الأرض و انتهى *** بمثواه منها و هو عفّ مآكله(9)
لقد ضمّنت جلد القوى كان يتّقى *** به جانب الثغر المخوف زلازله
وصول إذا استغنى و إن كان مقترا *** من المال لم يحف الصديق مسائله(10)
محلّ لأضياف الشّتاء كأنما *** هم عنده أيتامه و أرامله(11)/
رخيص نضيج اللحم مغل بنيئه *** إذا بردت عند الصّلاء أنامله(12)
ص: 237
أقول و قد رجّمت عنه فأسرعت *** إليّ بأخبار اليقين محاصله(1)
إلى اللّه أشكو لا إلى الناس فقده *** و لوعة حزن أوجع القلب داخله
و تحقيق رؤيا في المنام رأيتها *** فكان أخي رمحا ترفّض عامله(2)
/سقى جدثا أعراف غمرة دونه *** ببيشة ديمات الربيع و وابله(3)
بمثوى غريب ليس منا مزاره *** بدان و لا ذو الودّ منّا مواصله(4)
إذا ما أتى يوم من الدهر دونه *** فحيّاك عنا شرقه و أصائله(5)
سنا صبح إشراق أضاء و مغرب *** من الشمس وافى جنح ليل أوائله(6)
تحية من أدّى الرسالة حبّبت *** إليه و لم ترجع بشيء رسائله(7)
أبى الصبر أن العين بعدك لم يزل *** يخالط جفنيها قذى لا يزايله(8)
و كنت أعير الدمع قبلك من بكى *** فأنت على من مات بعدك شاغله
يذكرني هيف الجنوب و منتهى *** مسير الصّبا رمسا عليه جنادله(9)
و هتّافة فوق الغصون تفجّعت *** لفقد حمام أفردتها حبائله
من الورق بالأصياف نواحة الضحى *** إذا الغرقد التفت عليه غياطله(10)
و سورة أيدي القوم إذ حلّت الحبا *** حبا الشّيب و استعوى أخا الحلم جاهله(11)
فعينيّ إذ أبكاكما الدهر فابكيا *** لمن نصره قد بان منا و نائله(12)
/إذا استعبرت عوذ النساء و شمّرت *** مآزر يوم ما توارى خلاخله(13)
و أصبح بيت الهجر قد حال دونه *** و غال امرأ ما كان يخشى غوائله
ص: 238
وثقن به عند الحفيظة فارعوى *** إلى صوته جاراته و حلائله(1)
إلى ذائد في الحرب لم يك خاملا *** إذا عاذ بالسيف المجرّد حامله
كما ذاد عن عرّيسة الغيل مخدر *** يخاف الردى ركبانه و رواحله(2)
فما كنت ألفي لامرئ عند موطن *** أخا بأخي، لو كان حيّا أبادله
و كنت به أغشى القتال فعزّني *** عليه من المقدار من لا أقاتله(3)
لعمرك إنّ الموت منا لمولع *** بمن كان يرجى نفعه و نوافله
فما البعد إلا أننا بعد صحبة *** كأن لم نبايت وائلا و نقايله(4)
سقى الضّفرات الغيث ما دام ثاويا *** بهنّ و جادت أهل شوك مخايله(5)
و ما بي حبّ الأرض إلاّ جوارها *** صداه و قول ظنّ إنّي قائله
قال أبو عبيدة: ثم قتل أخوه حكم أيضا في وجهه، و برز بعض عشيرته إلى قاتله فقتله، و أتى أخاه الشمردل أيضا نعيه فقال يرثيه(6):
/
يقولون احتسب حكما و راحوا *** بأبيض لا أراه و لا يراني
و قبل فراقه أيقنت أنّي *** و كلّ ابنى أب متفارقان(7)/
أخ لي لو دعوت أجاب صوتي *** و كنت مجيبه أنّى دعاني
فقد أفنى البكاء عليه دمعي *** و لو أني الفقيد إذا بكاني(8)
مضى لسبيله لم يعط ضيما *** و لم ترهب غوائله الأداني
قتلنا عنه قاتله و كنّا *** نصول به لدى الحرب العوان(9)
قتيلا ليس مثل أخي إذا ما *** بدا الخفرات من هول الجنان(10)
و كنت سنان رمحي من قناتي *** و ليس الرّمح إلا بالسّنان
و كنت بنان كفّي من يميني *** و كيف صلاحها بعد البنان
ص: 239
و كان يهابك الأعداء فينا *** و لا أخشى وراءك من رماني
فقد أبدوا ضغائنهم و شدّوا *** إليّ الطّرف و اغتمزوا لياني(1)
فداك أخ نبا عنه غناه *** و مولى لا تصول له يدان
حدّثني هاشم بن محمّد الخزاعي، قال حدّثنا أبو غسان عن أبي عبيدة عن أبي عمرو و أبي سهيل قالا:
وقف الفرزدق على الشمردل و هو ينشد قصيدة له فمر فيها هذا البيت:
و ما بين من لم يعط سمعا و طاعة *** و بين تميم غير جز الحلاقم
/فقال له الفرزدق: و اللّه يا شمردل لتتركنّ لي هذا البيت، أو لتتركن لي عرضك. فقال: خذه لا بارك اللّه لك فيه. فادّعاه وجد له في قصيدة ذكر فيها قتيبة بن مسلم الّتي أوّلها:
تحنّ بزوراء المدينة ناقتي *** حنين عجول تبتغي البوّ رائم(2)
حدّثنا هاشم قال حدّثنا غسان عن أبي عبيدة قال:
رأى(3) الشمردل فيما يرى النائم كأن سنان رمحه سقط، فعبره على بعض من يعبر الرؤيا، فأتاه نعي أخيه وائل، فذلك قوله:
و تحقيق رؤيا في المنام رأيتها *** فكان أخي رمحا ترفّض عامله(4)
حدّثنا هاشم قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:
كان الشمردل مغرما بالشّراب، و كان له نديمان يعاشرانه في حانات الخمارين بخراسان، أحدهما يقال له ديكل من قومه، و الآخر من بني شيبان يقال له قبيصة، فاجتمعوا يوما على جزور و نحروه و شربوا حتّى سكروا، و انصرف قبيصة حافيا و ترك نعله عندهم، و أنسيها من السّكر، فقال الشمردل:
شربت و نادمت الملوك فلم أجد *** على الكأس ندمانا(5) لها مثل ديكل
/أقلّ مكاسا في جزور و إن غلت *** و أسرع إنضاجا و إنزال مرجل(6)
ترى البازل الكوماء فوق خوانه *** مفصّلة أعضاؤها لم تفصّل(7)
ص: 240
سقيناه بعد الرّي حتى كأنما *** يرى حين أمسى أبرقي ذات مأسل(1)
عشية أنسينا قبيصة نعله *** فراح الفتى البكريّ غير منعّل
حدّثنا هاشم قال: حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:
مدح الشمردل بن شريك هلال بن أحوز المازنيّ و استماحه، فوعده الرفد، ثم ردّده زمانا طويلا حتى ضجر، ثم أمر له بعشرين درهما فدفعها إليه وكيله غلّة فردّها، و قال يهجوه: /
يقول هلال كلّما جئت زائرا *** و لا خير عند المازني أعاوده
ألا ليتني أمسي و بيني و بينه *** بعيد مناط الماء غبر فدافده(2)
غدا نصف حول منه إن قال لي غدا *** و بعد غد منه كحول أراصده(3)
و لو أنني خيّرت بين غداته *** و بين برازي ديلميّا أجالده
تعوّضت من ساقيّ عشرين درهما *** أتاني بها من غلّة السّوق ناقده(4)
و لو قيل مثلا كنز قارون عنده *** و قيل التمس موعوده لا أعاوده
و مثلك منقوص اليدين رددته *** إلى محتد قد كان حينا يجاحده(5)
حدّثنا هاشم قال:
حدّثنا أبو غسان عن أبي عبيدة أن رجلا من بني ضبّة كان عدوّا للشمردل، و كان نازلا في بني دارم بن مالك، ثم خرج في البعث الّذي بعث مع وكيع، فلما قتل إخوة الشّمردل و ماتوا، بلغه عن الضبيّ سرور بذلك، و شماتة بمصيبته فقال:
يا أيّها المبتغي شتمي لأشتمه *** إن كان أعمى فأنّي عنك غير عم(6)
ما أرضعت مرضع سخلا أعقّ بها *** في الناس لا عرب منها و لا عجم(7)
من ابن حنكلة كانت و إن عربت *** مذالة لقدور الناس و الحرم(8)
عوى ليكسبها شرّا فقلت له *** من يكسب الشر ثديي أمّه يلم
و من تعرّض شتمي يلق معطسه *** من النّشوق الّذي يشفى من اللّمم(9)
ص: 241
متى أجئك و تسمع ما عنيت به *** تطرق على قذع أو ترض بالسّلم(1)
أولا فحسبك رهطا أن يفيدهم *** لا يغدرون و لا يوفون بالذمم
ليسوا كثعلبة المغبوط جارهم *** كأنه في ذرى ثهلان أو خيم(2)
يشبّهون قريشا من تكلّمهم *** و طول أنضية الأعناق و الأمم(3)
إذا غدا المسك يجري في مفارقهم *** راحوا كأنهم مرضى من الكرم
جزّوا النواصي من عجل و قد وطئوا *** بالخيل رهط أبي الصهباء و الحطم
و يوم أفلتهن الحوفزان و قد *** شالت عليه أكفّ القوم بالجذم(4)
/إني و إن كنت لا أنسى مصابهم *** لم أدفع الموت عن زيق و لا حكم(5)
لا يبعدا فتيا جود و مكرمة *** لدفع ضيم و قتل الجوع و القرم(6)
و البعد غالهما عني بمنزلة *** فيها تفرّق أحياء و مخترم(7)
و ما بناء و إن سدّت دعائمه *** إلا سيصبح يوما خاوي الدّعم(8)
لئن نجوت من الأحداث أو سلمت *** منهنّ نفسك لم تسلم من الهرم
حدّثنا هاشم قال: حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:
كان عمر بن يزيد الأسيدي صديقا للشمردل بن شريك، و محسنا إليه كثير البر به و الرفد له، فأتاه نعيه و هو بخراسان، فقال يرثيه:
لبس الصّباح و أسلمته ليلة *** طالت كأنّ نجومها لا تبرح(9)
من صولة يجتاح أخرى مثلها *** حتى ترى السّدف القيام النّوّح(10)/
عطّلن أيديهنّ ثم تفجعت *** ليل التّمام بهنّ عبرى تصدح
و حليلة رزئت و أخت و ابنة *** كالبدر تنظره عيون لمّح
لا يبعد ابن يزيد سيّد قومه *** عند الحفاظ و حاجة تستنجح
ص: 242
حامي الحقيقة لا تزال جياده *** تغدو مسوّمة به و تروّح(1)
للحرب محتسب القتال مشمّر *** بالدرع مضطمر الحوامل سرّح(2)
/ساد العراق و كان أوّل وافد *** تأتي الملوك به المهارى الطّلّح(3)
يعطي الغلاء بكل مجد يشتري *** إن المغالي بالمكارم أربح(4)
حدّثنا هاشم قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:
كان الشمردل صاحب قنص و صيد بالجوارح، و له في الصقر و الكلب أراجيز كثيرة، و أنشدنا قوله:
قد أغتدي و الصبح في حجابه *** و الليل لم يأو إلى مآبه
و قد بدا أبلق من منجابه *** بتوّجيّ صاد في شبابه(5)
معاود قد ذلّ في إصعابه *** قد خرّق الضّفار من جذابه(6)
و عرف الصوت الّذي يدعى به *** و لمعة الملمع في أثوابه(7)
فقلت للقانص إذ أتى به *** قبل طلوع الآل أو سرابه
ويحك ما أبصر إذ رأى به *** من بطن ملحوب إلى لبابه(8)
قشعا ترى التبّت من جنابه(9) *** فانقضّ كالجلمود إذ علا به
غضبان يوم قنية رمى به *** فهنّ يلقين من اغتصابه
تحت جديد الأرض أو ترابه *** من كلّ شحّاج الضّحى ضغّابه(10)
إذ لا يزال حربه يشقى به *** منتزع الفؤاد من حجابه
/جاد و قد أنشب في إهابه *** مخالبا ينشبن في إنشابه
مثل مدى الجزار أو حرابه *** كأنما بالحلق من خضابه
عصفرة الفؤاد أو قضابه(11) *** حوى ثمانين على حسابه
ص: 243
من خرب و خزر يعلى به(1) *** لفتية صيدهم يدعى به(2)
واعدهم لمنزل بتنا به *** يطهى به الخربان أو يشوى به(3)
فقام للطبخ و لاحتطابه *** أروع يهتاج إذا هجنا به
أخبرنا هاشم قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:
كان ذئب قد لازم مرعى غنم للشمردل، فلا يزال يفرس منها الشاة بعد الشاة، فرصده ليلة حتى جاء لعادته، ثم رماه بسهم فقتله و قال فيه:
هل خبّر السّرحان إذ يستخبر *** عني و قد نام الصّحاب السّمّر(4)
لما رأيت الضّأن منه تنفر *** نهضت و سنان و طار المئزر(5)
و راع منها مرح مستيهر(6) *** كأنه إعصار ريح أغبر/
فلم أزل أطرده و يعكر(7) *** حتى إذا استيقنت ألا أعذر
و إنّ عقرى غنمي ستكثر(8) *** طار بكفي و فؤادي أوجر(9)
ثمّت أهويت له لا أزجر *** سهما فولّى عنه و هو يعثر
و بتّ ليلي آمنا أكبّر
حتى ينال حبالهنّ معلقا *** عقل الشّريد و هنّ غير شراد(1)
و الحبّ يصلح بعد هجر بيننا *** و يهيج معتبة بغير بعاد
خليليّ لا تستعجلا أن تزوّدا *** و إن تجمعا شملي و تنتظرا غدا
و إن تنظراني اليوم أقض لبانة *** و تستوجبا منّا عليّ و تحمدا
الشعر للحصين بن الحمام المري، و الغناء لبذل الكبرى ثاني ثقيل بالبنصر، من روايتها و من رواية الهشامي.
ص: 245
ص: 246
الموضوع الصفحة
أخبار أبي الطّمحان القينيّ 5
أخبار الأسود و نسبه 13
أخبار أرطأة و نسبه 22
أخبار جعفر بن علبة الحارثي و نسبه 33
أخبار العجير السّلوليّ و نسبه 41
أخبار خزيمة بن نهد و نسبه 54
نسب المغيرة بن حبناء و أخباره 58
أخبار سويد بن أبي كاهل و نسبه 71
أخبار العتابي و نسبه 76
أخبار الأبيرد و نسبه 87
أخبار منصور النمريّ و نسبه 97
نسب عبد اللّه بن الحجاج و أخباره 109
أخبار ناهض بن ثومة و نسبه 120
أخبار المخبل و نسبه 130
أخبار غيلان و نسبه 137
أخبار حاجز و نسبه 143
أخبار الحارث بن الطفيل و نسبه 149
أخبار عبد الصمد بن المعذل و نسبه 154
أخبار عبد الرحمن و نسبه 176
أخبار مسعدة و نسبه 182
أخبار مطيع بن إياس و نسبه 185
أخبار محمّد بن كناسة و نسبه 226
أخبار قلم الصّالحيّة 233
أخبار الشمردل و نسبه 236
فهرس الموضوعات 247
ص: 247