الأغاني المجلد 11-12

هویة الکتاب

الأغاني

المؤلفين الآخرين

مدقق لغوي ومترجم:

مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي

المجلدات : 25ج

لسان: العربية

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374

إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري

ص: 1

المجلد 11

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *

1 - أخبار النابغة و نسبه

نسب النابغة:

النابغة اسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب(1) بن يربوع بن غيظ بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. و يكنى أبا أمامة(2). و ذكر أهل الرّواية أنه إنما لقّب النّابغة لقوله:

فقد نبغت لهم منّا شئون

من الطبعة الأولى:

و هو أحد الأشراف الذين غضّ الشعر منهم. و هو من الطبقة الأولى المقدّمين على سائر الشعراء.

سأل عمر بن الخطاب عن شعر فلما أخبر أنه له قال إنه أشعر العرب:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو نعيم قال حدّثنا شريك عن مجاهد عن الشّعبيّ عن ربعيّ بن حراش قال:

/قال عمر: يا معشر غطفان، من الّذي يقول:

أتيتك عاريا خلقا ثيابي *** على خوف تظنّ بي الظّنون

قلنا: النابغة. ذاك أشعر شعرائكم.

أخبرني أحمد و حبيب قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبيد بن جنّاد قال حدّثنا معن بن عبد الرحمن عن عيسى بن عبد الرحمن السّلميّ عن جدّه عن الشّعبيّ قال: قال عمر: من أشعر الناس؟ قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين. قال: من الّذي يقول:

إلاّ سليمان إذ قال الإله له(3) *** قم في البريّة فاحددها عن الفند(4)

و خبّر(5) الجنّ أنّي قد أذنت لهم *** يبنون تدمر(6) بالصّفّاح و العمد(7)

ص: 5


1- في «شرح التبريزي للمعلقات العشر»: «جابر بن يربوع» بدل «جناب بن يربوع».
2- و يكنى أيضا: «أبا ثمامة». كني بابنتيه أمامة و ثمامة. (راجع «شرح المعلقات العشر» للتبريزي و كتاب «الشعر و الشعراء».)
3- و يروى: «إذ قال المليك». (و الروايات المشار إليها هنا و فيما يأتي عن «شرح التبريزي للمعلقات العشر»).
4- فاحددها: فامنعها. و يروى: «فازجرها». و الفند: الخطأ.
5- في «ج» و «ديوانه» و «شرح التبريزي»: «و خيس الجن إني إلخ» أي ذللهم.
6- تدمر: مدينة قديمة مشهورة كانت ببرية الشام. و كانوا يزعمون أنها مما بنته الجن لسليمان عليه السلام.
7- الصفاح (بالضم): حجارة دقاق عراض، واحدها صفاحة. و العمد (بفتحتين و بضمتين): جمع عمود.

قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول:

أتيتك عاريا خلقا ثيابي *** على خوف تظنّ بي الظنون

قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** و ليس وراء اللّه للمرء مذهب

لئن كنت قد بلّغت عنّي خيانة *** لمبلغك الواشي أغشّ و أكذب

/و لست بمستبق أخا لا تلمّه(1) *** على شعث أيّ الرجال المهذّب

قالوا: النابغة. قال: فهو أشعر العرب.

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّه قال حدّثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدّثنا عمر بن أبي زائدة عن الشّعبيّ قال: ذكر الشّعر عند عمر؛ ثم ذكر مثله.

سئل ابن عباس عن أشعر الناس فأمر أبا الأسود بالجواب فذكره:

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثني عليّ بن محمد عن المدائنيّ عن عبد اللّه بن الحسن عن عمر بن الحباب عن أبي المؤمّل قال:

قام رجل إلى ابن عبّاس فقال: أيّ الناس أشعر؟ فقال ابن عباس: أخبره يا أبا الأسود الدّؤليّ: قال الذي يقول:

فإنّك كاللّيل الذي هو مدركي *** و إنّ خلت أنّ المنتأى(2) عنك واسع

حوار في شعر له في مجلس الجنيد بن عبد الرحمن:

أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد قرأت على أبي جرير بن شريك بن جرير بن عبد اللّه البجليّ قال: كنّا عند الجنيد بن عبد الرحمن بخراسان و عنده بنو مرة و جلساؤه من الناس، فتذاكروا شعر النابغة حتى أنشدوا قوله:

فإنّك كاللّيل الذي هو مدركي *** و إن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

/فقال شيخ من بني مرّة: ما الّذي رأى في النّعمان حيث يقول له هذا! و هل كان النّعمان إلا على منظرة من مناظر الحيرة! و قالت ذلك القيسيّة فأكثروا. فنظر إليّ/الجنيد و قال: يا أبا خالد! لا يهولنّك قول هؤلاء الأعاريض(3)! فأقسم باللّه أن لو عاينوا من النّعمان ما عاين صاحبهم لقالوا أكثر مما قال، و لكنهم قالوا ما تسمع و هم آمنون.

كان يجلس للشعراء بعكاظ فمدح شعر الخنساء و حواره مع حسان:

أخبرني حبيب بن نصر و أحمد بن عبد العزيز قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو بكر العليميّ قال حدّثني

ص: 6


1- استبقى الصاحب: عفا عن زلله فاستبقى مودّته. و لم الأمر: جمعه و أصلحه. و الشعث (بالفتح و بالتحريك): انتشار الأمر و فساده؛ يقال: لم اللّه شعثه يلمه لما أي جمع ما تفرّق من أموره و أصلحه. و قوله «أي الرجال المهذب» يقول: و أي الناس لا تكون فيه خصلة غير مرضية.
2- المنتأى: اسم مكان من انتأى إذا بعد.
3- كذا في «الأصول»: و لعلها: «هؤلاء الأعاريب».

عبد الملك بن قريب(1) قال:

كان يضرب للنابغة قبّة من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. قال: و أوّل من أنشده الأعشى ثم حسّان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء، ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشّريد:

و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به *** كأنّه علم في رأسه نار

فقال: و اللّه لو لا أنّ أبا بصير أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجنّ و الإنس. فقام حسّان فقال: و اللّه لأنا أشعر منك و من أبيك!. فقال له النابغة: يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن تقول:

فإنّك كاللّيل الذي هو مدركي *** و إن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

خطاطيف(2) حجن في حبال متينة *** تمدّ بها أيد إليك نوازع

قال: فخنس(3) حسّان لقوله.

تذاكر قوم الشعر و هم في الصحراء فإذا هم بجني يقول إنه أشعر الناس:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الأصمعيّ قال حدّثنا أبو عمرو بن العلاء قال قال فلان لرجل سمّاه فأنسيته:

بينا نحن نسير بين أنقاء(4) من الأرض تذاكرنا الشعر، فإذا راكب أطيلس(5) يقول أشعر الناس زياد بن معاوية؛ ثم تملّس(6) فلم نره.

فضله أبو عمرو على زهير:

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدثنا الأصمعيّ قال سمعت أبا عمرو يقول: ما كان ينبغي للنابغة إلاّ أن يكون زهير أجيرا له.

سأل عبد الملك عن شعر له في اعتذاره للنعمان و قال إنه أشعر العرب:

ص: 7


1- عبد الملك بن قريب: هو اسم الأصمعي الراوية المشهور.
2- الخطاطيف: جمع خطاف (بالضم). و خطاف البئر: حديدة حجناء تستخرج بها الدلاء و غيرها. و حجن: معوجة، واحدها أحجن و الأنثى حجناء و نوازع: جواذب. يقول: لك خطاطيف هذه صفتها أجرّ بها إليك. و هذا تمثيل. يريد أنه في قبضة يده و أنه لا مفرّ له منه.
3- خنس: انقبض، أو رجع و تنحى.
4- الأنقاء: جمع نقا و هو القطعة من الرمل تنقاد محدودبة. و يقال في تثنيته نقوان و نقيان.
5- أطيلس: تصغير أطلس، و هو ما في لونه غيرة إلى السواد.
6- تملس: تملص و أفلت.

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال عمرو بن المنتشر المراديّ:

وفدنا على عبد الملك بن مروان فدخلنا عليه، فقام رجل فاعتذر من أمر و حلف عليه. فقال له عبد الملك: ما كنت حريّا أن تفعل و لا تعتذر. ثم أقبل على أهل الشام فقال: أيّكم يروي من اعتذار النابغة إلى النّعمان:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** و ليس وراء اللّه للمرء مذهب

فلم يجد فيهم من يرويه؛ فأقبل عليّ فقال: أ ترويه؟ قلت نعم! فأنشدته القصيدة كلّها؛ فقال: هذا أشعر العرب.

سئل حماد بم تقدّم النابغة فأجاب:

أخبرنا حبيب بن نصر و أحمد بن عبد العزيز قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:

قال معاوية بن بكر الباهليّ قلت لحمّاد الراوية: بم تقدّم النابغة؟ قال: باكتفائك بالبيت الواحد من شعره، لا بل بنصف بيت، لا بل بربع بيت، مثل قوله:

/

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** و ليس وراء اللّه للمرء مذهب

[كلّ نصف يغنيك عن صاحبه، و قوله: «أيّ الرجال المهذّب» ربع بيت يغنيك عن غيره(1)].

و هذه القصيدة العينيّة(2) يقولها في النّعمان بن المنذر يعتذر إليه بها و بعدّة قصائد قالها فيه تذكر في مواضعها.

و لقد اختلفت الرّواة في السبب الذي دعاه إلى ذلك.

كان أثيرا عند النعمان فدخل على زوجته المتجردة فوصفها:

فأخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة عن أبي/عبيدة و غيره من علمائهم:

انّ النابغة كان كبيرا(3) عند النّعمان خاصّا به و كان من ندمائه و أهل أنسه؛ فرأى زوجته المتجرّدة يوما و غشيها تشبيها(4) بالفجاءة، فسقط نصيفها و استترت بيدها و ذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لعبالتها و غلظها؛ فقال قصيدته التي أوّلها:

أ من آل ميّة رائح(5) أو مغتدي *** عجلان ذا زاد و غير مزوّد

زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا *** و بذاك تنعاب الغراب الأسود

لا مرحبا بغد و لا غير أنّ ركابنا *** لمّا تزل برحالنا و كأن قد

في إثر غانية رمتك بسهمها *** فأصاب قلبك غير أن لم تقصد(6)

ص: 8


1- التكملة عن «شرح الديوان» للوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي.
2- هي قصيدته التي مطلعها: عفا ذو حسا من فرتني فالفوارع فجنبا أريك فالقلاع الدوافع
3- في «ج» أ، «كثيرا». و لعل صوابه: «كان أثيرا عند النعمان... إلخ».
4- لعله «شبيها بالفجاءة» أي غشيها غشيانا شبيها بالمفاجأة.
5- رائح: خبر لمحذوف، و التقدير: أ من آل مية أنت رائح، كما قال الأصمعي.
6- تقصد: تقتل؛ يقال: أقصد الشيء إذا ضربه أو رماه فمات مكانه.

بالدّرّ

و الياقوت زيّن نحرها *** و مفضّل من لؤلؤ و زبرجد

/عروضه من الكامل. و غنّاه أبو كامل من رواية حبش ثقيلا أول بالبنصر. و غنّاه الغريض من روايته ثاني ثقيل بالوسطى. و غنّاه ابن سريج من رواية إسحاق ثقيلا أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى.

قوله: أ من آل ميّة: يخاطب نفسه كالمستثبت. و عجلان: من العجلة، نصبه على الحال. و الزاد في هذا الموضع: ما كان من تسليم و ردّ تحيّة. و البوارح: ما جاء من ميامنك إلى مياسرك فولاّك مياسره. و السانح ما جاء من مياسرك فولاّك ميامنه؛ حكى ذلك أبو عبيدة عن رؤبة و قد سأله يونس عنه. و أهل نجد يتشاءمون بالبوارح، و غيرهم من العرب تتشاءم بالسانح و تتيمّن بالبارح؛ و منهم من لا يرى ذلك شيئا؛ قال بعضهم(1):

و لقد غدوت و كنت لا *** أغدو على واق و حاتم(2)

فإذا الأشائم كالأيا *** من و الأيامن كالأشائم

و تنعاب الغراب: صياحه؛ يقال: نعب الغراب ينعب نعيبا و نعبانا، و التنعاب تفعال من هذا. و كان النابغة قال في هذا البيت: «و بذاك خبّرنا الغراب الأسود» ثم ورد يثرب فسمعه يغنّى فيه، فبان له الإقواء، فغيّره في مواضع من شعره.

كان يقوى فلما ذهب إلى يثرب تبين له هذا العيب فأصلحه:
اشارة

و أخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي:

قال أبو عبيدة: كان فحلان من الشعراء يقويان: النابغة و بشر بن أبي خازم. فأمّا النابغة فدخل يثرب فهابوه أن يقولوا له لحنت و أكفأت(3)، فدعوا قينة و أمروها أن تغنّي في شعره ففعلت. فلمّا سمع الغناء و «غير مزوّد» و «الغراب الأسود» و بان له ذلك في اللحن فطن لموضع الخطأ فلم يعد. و أمّا بشر بن أبي خازم فقال له أخوه سوادة: إنّك تقوي. قال) و ما ذاك؟ قال: قولك:

و ينسي مثل ما نسيت جذام(4)

ص: 9


1- هو مرقش السدومي، و قيل: إنه لخزز (بضم ففتح) بن لوزان. (عن «لسان العرب»).
2- الواقي (وزان القاضي) هنا: الصرد (بضم ففتح) و هو طائر فوق العصفور كانت العرب تتطير بصوته. و الحاتم هنا: الغراب الأسود. و قبل البيتين: لا يمنعنك من بغا الخير تعقاد التمائم و بعدهما: و كذاك لا خير و لا شر على أحد بدائم قد خط ذلك في ذلك في الزبو ر الأوّليات القدائم «الزبور»: الكتب، واحدها زبر (بالكسر). (راجع «لسان العرب» مادتي وقى و حتم).
3- الإكفاء في الشعر عند العرب: الفساد في قوافيه باختلاف الحركات أو الحروف القريبة المحارج بأن يكون روي القافية ميما ثم يجيء الرويّ في بعض القصيدة نونا. و الإكفاء عند أهل العروض: اختلاف إعراب القوافي.
4- في «الأصول»: أ من الأحلام إذ صحبي نيام و التصويب من «خزانة الأدب» (ج 2 ص 262)؛ فإن الشطر الأوّل في «الأصول» من الرمل، و الثاني من الوافر. و تمام البيت الأوّل: أ لم تر أن طول الدهر يسلي و ينسي مثل ما نسيب جذام تمام البيت الثاني: و كانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشآم

ثم قلت بعده «إلى البلد الشآم». ففطن فلم يعد.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا خلاّد الأرقط و غيره من علمائنا قالوا:

كان النابغة يقول: إنّ في شعري لعاهة ما أقف عليها. فلمّا قدم المدينة غنّي في شعره؛ فلمّا سمع قوله:

«و اتّقتنا باليد» و «يكاد من اللّطافة يعقد» تبيّن له لمّا مدّت «باليد» فصارت الكسرة ياء و مدّت «يعقد» فصارت الضمّة كالواو؛ ففطن فغيّره و جعله:

غنم على أغصانه لم يعقد

/و كان يقول: وردت يثرب و في/شعري بعض العاهة، فصدرت عنها و أنا أشعر الناس. و قوله لا مرحبا: لا سعة؛ و نصبه هاهنا شبيه بالمصدر؛ كأنه قال لا رحب رحبا و لا أهل أهلا. و أزف: قرب.

قال: و قال في قصيدته هذه يذكر ما نظر إليه من المتجرّدة و سترها وجهها بذراعها:

صوت

سقط النّصيف و لم ترد إسقاطه *** فتناولته و اتّقتنا باليد

بمخضّب رخص كأنّ بنانه *** عنم على أغصانه لم يعقد

و يفاحم رجل أثيث نبته *** كالكرم مال على الدّعام المسند

نظرت إليك بحاجة لم تقضها *** نظر السّقيم إلى وجوه العوّد

غنّاه ابن سريج، و لحنه من خفيف الثّقيل الأوّل بالوسطى عن عمرو. و النّصيف: الخمار، و الجمع أنصفة و نصف.

و العنم، فيما ذكر أبو عبيدة، يساريع(1) حمر تكون في البقل في الربيع. و قال الأصمعيّ: الغنم: شجر يحمرّ و ينعم(2) نبته. و الفاحم: الشديد السواد. و الرّجل: الذي ليس بجعد. و الأثيث: المتكاثف؛ قال امرؤ القيس:

أثيث(3) كقنو النخلة المتعثكل

و يقال: شعر رجل و رجل. و يروى:

و رنت إليّ بمقلتي مكحولة

/و المكحولة: البقرة. و قوله: لم تقضها: يعني المرأة أي لم تقدر على الكلام من مخافة أهلها، فهي كالسّقيم الذي ينظر إلى من يعوده.

غنّاه ابن سريج خفيف ثقيل أوّل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة.

ص: 10


1- اليساريع: جمع يسروع (بضم الياء و فتحها، و يقال فيها أسروع بضم الهمزة و فتحها) و هي دودة حمراء تكون في البقل، تشبه بها الأصابع.
2- نعم العود (من باب فرح): اخضرّ و نضر.
3- صدر البيت: و فرع يغشى المتن أسود فاحم و الفرع: الشعر الطويل. و المتن: الظهر. و القنو: العذق (و هو من المخل كالعنقود من العنب). و المتعثكل: ذو العثاكيل (الشماريخ).
قال صالح بن حسان إنه كان مخنثا:

و أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ قال:

قال الهيثم بن عديّ قال لي صالح بن حسّان: كان و اللّه النابغة مخنّثا. قلت: و ما علمك به؟ أ رأيته قط؟ قال:

لا و اللّه!. قلت: أ فأخبرت عنه؟ قال لا.

قلت: فما علمك به؟ قال: أ ما سمعت قوله:

سقط النّصيف و لم ترد إسقاطه *** فتناولته و اتّقتنا باليد

لا و اللّه ما أحسن هذه الإشارة و لا هذا القول إلا مخنّث.

هروبه من النعمان إلى ملوك غسان و اختلاف الرواة في سببه:

قال: فأنشدها النابغة مرّة بن سعد القريعيّ، فأنشدها مرّة النّعمان، فامتلأ غضبا فأوعد النابغة و تهدده؛ فهرب منه فأتى قومه، ثم شخص إلى ملوك غسّان بالشأم فامتدحهم. و قيل: إنّ عصام بن شهبر الجرميّ حاجب النّعمان أنذره(1) و عرّفه ما يريده النّعمان، و كان صديقه، فهرب. و عصام الذي يقول فيه الراجز:

نفس عصام سوّدت عصاما *** و علّمته الكرّ و الإقداما

و جعلته ملكا هماما

/و قال من رويت عنه خبر النابغة: إنّ السبب في هربه من النّعمان أنّ عبد القيس بن خفاف التّميميّ و مرّة بن(2) سعد بن قريع السّعديّ عملا هجاء في النّعمان على لسانه، و أنشدا النّعمان منه أبياتا يقال فيها:

ملك يلاعب أمّه و قطينه *** رخو المفاصل أيره كالمرود

و منه:

قبّح اللّه ثم ثنّى بلعن *** وارث الصائغ الجبان الجهولا

من يضرّ الأدنى و يعجز عن ضرّ الأقاصي و من يخون الخليلا /

يجمع الجيش ذا الألوف و يغزو *** ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا

يعني بوارث الصائغ النّعمان؛ و كان جدّه لأمّه صائغا بفدك(3) يقال له عطيّة. و أمّ النّعمان سلمى بنت عطيّة.

فأخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمي عبيد اللّه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل: أنّ مرّة بن سعد القريعيّ الذي وشى بالنابغة كان له سيف قاطع يقال له ذو الرّيقة من كثرة فرنده و جوهره، فذكر النابغة للنعمان، فأخذه. فاضطغن ذلك حتى وشى به إلى النّعمان و حرّضه عليه.

و أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء، و أخبرنا إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة، و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبّة، قالوا جميعا:

ص: 11


1- أنذره: أعلمه.
2- في «خزانة الأدب» (ج 1 ص 371 و 427) و «شرح لديوانه»: «ابن ربيعة» بدل «ابن سعد».
3- فدك: قرية بالحجاز من نواحي خيبر.

/إنّ الذي من أجله هرب النابغة من النّعمان أنه كان و المنخّل بن عبيد بن عامر اليشكريّ جالسين عنده، و كان النّعمان دميما أبرش(1) قبيح المنظر، و كان المنخّل بن عبيد من أجمل العرب، و كان يرمى بالمتجرّدة زوجة النّعمان، و يتحدّث العرب أنّ ابني النّعمان منها كانا من المنخّل. فقال النّعمان للنابغة: يا أبا أمامة، صف المتجرّدة في شعرك؛ فقال قصيدته التي وصفها فيها و وصف بطنها و روادفها و فرجها. فلحقت المنخّل من ذلك غيرة، فقال للنّعمان: ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلاّ من جرّبه. فوقر ذلك في نفس النّعمان. و بلغ النّابغة فخافه فهرب فصار في غسّان.

كان المنخل اليشكري يهوى هندا بنت عمرو بن هند فتغزل فيها فقتله:
اشارة

قالوا: و كان المنخّل يهوى هندا بنت عمرو بن هند، و فيها يقول:

صوت

و لقد دخلت على الفتا *** ة الخدر في اليوم المطير

الكاعب الحسناء تر *** فل في الدّمقس و في الحرير

فدفعتها(2) فتدافعت *** مشي القطاة إلى الغدير

و لثمتها فتنفّست *** كتنفّس الظّبي البهير(3)

- غنّاه إبراهيم الموصليّ من رواية عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق.

/و بدت(4) و قالت يا منخّل ما بجسمك من فتور؟ ما مسّ جسمي غير حبّك فاهدئي(5) عنّي و سيري

و لقد شربت من المدى *** مة بالكبير و بالصغير

فإذا سكرت فإنّني *** ربّ الخورنق و السّدير(6)

و إذا صحوت فإنّني *** ربّ الشّويهة و البعير

يا هند هل من نائل *** يا هند للعاني الأسير

و أحبّها و تحبّني *** و تحبّ(7) ناقتها بعيري

- و قال حمّاد بن إسحاق عن أبيه في كتاب أغاني ابن مسحج: في هذا الصوت لمالك و معبد و ابن سريج و ابن

ص: 12


1- الأبرش: الذي في لونه اختلاف بأن تكون نقطة حمراء و أخرى سوداء أو غبراء أو نحو ذلك.
2- في «الأغاني» في ترجمة «المنخل اليشكري» (ج 18 ص 154 طبعة بلاق): «دافعتها». و في رواية هذه القصيدة هنا و في ترجمة المنخل فيما سيأتي في «الأغاني» و في كتاب «الشعر و الشعراء». اختلاف في بعض الكلمات سنشير إلى بعضه هاهنا.
3- البهير: الذي تتابع نفسه من الأعباء و التعب؛ يقال: انبهر و بهر (مبنيا للمجهول) فهو مبهور و بهير. و رواية البيت في كتاب «الشعر و الشعراء»: و عطفتها فتعطفت كتعطف الظبي الغرير
4- في ترجمة «المنخل»: «و رنت». و في كتاب «الشعر و الشعراء»: «فترت».
5- كذا في ح، أ، و ترجمة «المنخل» فيما يأتي و كتاب «الشعر و الشعراء». و في سائر الأصول هنا: «فاعزبي».
6- الخورنق و السدير: قصران، و قيل: هما نهران.
7- في ترجمة «المنخل» و كتاب «الشعر و الشعراء»: «و يحب».

محرز و الغريض و ابن مسحج لكلهم فيه ألحان - قال: فبلغ عمرا خبر المنخّل فأخذه فقتله. و قال المنخل قبل أن يقتله و هو محبوس في يده يحضّ قومه على طلب الثأر به:

/

ظلّ وسط العراق قتلي بلا جر *** م و قومي ينتجون السّخالا

رجع الخبر إلى سياقه. قالوا جميعا: فلمّا صار النّابغة إلى غسّان نزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر(1) - و أمّ الحارث الأعرج مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع(2) الكنديّة/و هي ذات القرطين اللّذين يضرب بهما المثل فيقال لما يغلى به الثمن «[خذه و لو(3)] بقرطي مارية». و أختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار. و إيّاها عنى حسّان بقوله في جبلة بن الأيهم:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم *** قبر ابن مارية الجواد المفضل

مدح عمرو بن الحارث الأصغر الغساني و أخاه النّعمان:
اشارة

و لذلك خبر يأتي في موضعه - فمدحه النابغة و مدح أخاه النّعمان. و لم يزل مقيما مع عمرو حتى مات، و ملك أخوه النّعمان؛ فصار معه إلى أن استطلعه(4) النّعمان فعاد إليه. فممّا مدح به عمرا قوله:

صوت

كليني لهمّ يا أميمة(5) ناصب *** و ليل أقاسيه بطيء الكواكب

و صدر أراح الليل عازب همّه *** تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب

تقاعس حتى قلت ليس بمنقض *** و ليس الذي يهدي النّجوم بآئب

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب

عروضه من الطويل. غنّي في البيتين الأوّلين ابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو. و غنّى فيه الأبجر من رواية حبش ثاني ثقيل بالوسطى. و غنّى مالك في البيت الرابع ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات. و غنى في الأربعة الأبيات عبد اللّه ابن العبّاس الرّبيعيّ ماخوريّا عن حبش، و غنّى فيها طويس رملا بالوسطى بحكايتين عن حبش. /هكذا روي قوله «يا أميمة» مفتوح الهاء. قال الخليل: من عادة العرب أن تنادي المؤنّث بالترخيم فتقول يا أميم و يا عزّ و يا سلم؛ فلمّا لم يرخّم لحاجته إلى الترخيم(6) أجراها على لفظها مرخّمة(7) و أتى بها بالفتح. و كليني أي دعيني. و وكلته إلى كذا أكله و كالة(8).

ص: 13


1- يقال فيه أيضا شمر (بكسر أوله و سكون ثانيه). (راجع «خزانة الأدب» ج 1 ص 371).
2- ضبطه الحافظ في «التبصير» كمحسن، و ضبطه الصاغاني في «العباب» كمحدّث. (عن «القاموس و شرحه»).
3- التكملة عن كتب الأمثال.
4- استطلعه: طلب طلوعه إليه. يريد: استقدمه إليه.
5- أميمة: تصغير أمامة و هي بنته. و أقاسيه: أكابده و أعالج طوله.
6- لعل صوابه: «لحاجته إلى ترك الترخيم» لأن الترخيم هنا يفسد وزن الشعر.
7- هذا رأي الجمهور، قالوا: إن أميمة مرخم، و الأصل يا أميم، ثم دخلت الهاء غير معتد بها، و فتحت لأنها وقعت موقع ما يستحق الفتح و هو ما قبل هاء التأنيث. و فيه آراء أخرى مبسوطة في كتب النّحو.
8- الذي في كتب اللغة أنه يقال: وكل الأمر إليه يكله وكلا و وكولا إذا سلمه إليه و تركه، و وكله إلى نفسه وكلا و وكولا. و الوكالة (بالفتح و بالكسر أيضا): اسم من التوكيل.

و ناصب(1): متعب. و بطيء الكواكب أي قد طال حتى إن كواكبه لا تجري و لا تغور. أراح: ردّ. يقال أراح الرجل إبله أي ردّها. فيقول: ردّ هذا الليل إليّ ما عزب من همّي بالنهار؛ لأنه يتعلّل نهارا بمحادثة النّاس و التشاغل بغير الفكر، فإذا خلا بالليل راح إليه همّه. و تقاعس تأخّر؛ و أصل التقاعس الرجوع إلى خلف القهقري، فشبّه اللّيل في طوله بالمتقاعس. و الذي يهدي النّجوم أوّلها، شبهها بهواديها(2). و قوله «ليست بذات عقارب» أي لا يكدّرها و لا يمنّها.

/و مما يغنّى فيه هذه القصيدة:

حلفت يمينا غير ذي مثنويّة(3) *** و لا علم إلاّ حسن ظنّي(4) بصاحب

لئن كان للقبرين قبر بجلّق(5) *** و قبر بصيداء الذي عن حارب

و للحارث(6) الجفنيّ سيّد قومه *** ليلتمسن بالجيش دار المحارب

- غنّاه إسحاق خفيف ثقيل أوّل بالبنصر على مذهبه من رواية عمرو بن بانة عنه و من رواية/حبش. و غنّاه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر. يقول: ليس لي علم بما يكون من صاحبي إلا أنّي أحسن الظنّ به. و قوله: «لئن كان للقبرين» يعني لئن كان عمرو ابنا للمدفونين في هذين القبرين، يعني قبر أبيه و جدّه و هما الحارث الأكبر و الحارث الأعرج، ليلتمسنّ جيشه دار المحارب له؛ يحرّضه بذلك و يروي «أرض المحارب» -

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول(7) من قراع الكتائب

إذا استنزلوا(8) عنهنّ للطعن أرقلوا *** إلى الموت إرقال الجمال المصاعب

ص: 14


1- أي فناصب بمعنى منصب من النّصب (بالتحريك) و هو التعب جيء به على طرح الزوائد. و حمله سيبويه على النّسب أي ذو نصب، كما يقال، طريق خائف أي ذو خوف. و قال أبو عمرو: همّ ناصب من قولك نصب به الهم أي حل. و قال ابن الأعرابي: نصب له الهم إذا كان لا يفارقه. (راجع «خزانة الأدب البغدادي» ج 1 ص 370، و شروح «ديوان» النابغة).
2- في هذه الجملة غموض، قد يرجع إلى سهو النّساخ عن بعض الكلام. و معنى «و ليس الذي يهدي النّجوم بآئب»، كما في شروح «الديوان»، أن الذي يهدي النّجوم ما يتقدّمها؛ إذ هادي كل شيء ما يتقدّمه. فقيل المراد به أوّل النّجوم، و معنى كونه غير آئب: غير راجع إلى مسقطه و مغيبه. و قيل المراد بهادي النّجوم الشمس لأنها تتقدّم النّجوم في المغيب، و معنى كونها غير آئبة: غير راجعة إلى مشرقها؛ فكأنه ليل لا نهار بعده. و يروى: «و ليس الذي يرعى النّجوم...».
3- غير ذي مثنوية: حال من فاعل حلفت أي لم أستثن فيها.
4- رواية «ديوان» النابغة و شروحه: «إلا حسن ظن» بتنكير الظن.
5- جلق (بكسر الجيم و تشديد اللام مكسورة أو مفتوحة): موضع بالشام، و قيل: هو اسم مدينة دمشق نفسها، و قيل: اسم لكورة الغوطة كلها، و قيل موضع بقرية من قرى دمشق. و صيداء: مدينة على ساحل بحر الشام شرقي صور بينهما ستة فراسخ. و حارب: موضع.
6- الحارث الجفني: هو الحارث بن أبي شمر الجفني الغساني.
7- فلول: ثلوم. و القراع: المجالدة، يقال: قارعه مقارعة و قراعا. و الكتيبة: الجيش أو القطعة منه. و هذا الضرب من الاستثناء يسميه أصحاب البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، و مثله: فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد فما يبقى من المال باقيا
8- الضمير في «عنهن» للخيل في قوله: على عارفات للطعان عوابس و هو وارد في «الديوان» قبل هذا البيت مباشرة.
صوت

لهم شيمة لم يعطها اللّه غيرهم *** من النّاس و الأحلام غير عوازب

على عارفات للطّعان عوابس *** بهنّ كلوم بين دام و جالب

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

إذا استنزلوا عنهنّ للطعن أرقلوا *** إلى الموت إرقال الجمال المصاعب

حبوت بها غسّان إذ كنت لاحقا *** بقومي و إذ أعيت عليّ مذاهبي

وجدت في كتاب لهارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات في البيتين(1) و الثالث و الرابع لحنا منسوبا إلى معبد من خفيف الرمل بالوسطى. و أحسبه من لحن يحيى المكّيّ. الشّيمة: الطبيعة، و جمعها شيم. غير عوازب أي لا تعزب أحلامهم فتنفذ عنهم. و عارفات للطعان أي صابرات عليه عوّدت أن يحارب عليها. و عوابس كوالح. و جالب أي عليه جلبة و هي قشرة تكون على الجرح؛ يقال جلب الجرح يجلب جلوبا و أجلب إجلابا. و الإرقال: مشي يشبه الخبب سريع. و المصاعب واحدها مصعب و هو الفحل الذي لم يمسسه الحبل و إنما يقتنى للفحلة، و يقال له قرم و مقرم. و قوله «حبوت بها» يعني بالقصيدة. و روى أبو عبيدة «إذ كنت لاحقا بقوم» و قال: يعني إذ كنت لاحقا بغيركم أي بقوم آخرين، فكنتم أحقّ بالمدح منهم.

قالوا: فنظر إلى النّعمان بن الحارث أخى عمرو و هو يومئذ غلام فقال:

هذا غلام حسن وجهه *** مقتبل الخير سريع التّمام

للحارث الأكبر و الحارث ال *** أصغر و الأعرج خير الأنام(2)

/ثم لهند و لهند فقد *** أسرع في الخيرات منه إمام(3)

خمسة آباء و هم ما هم *** هم خير من يشرب صوب الغمام(4)

غنّاه حنين خفيف رمل بالبنصر عن حبش.

فضله الشعبي على الأخطل في مواجهته في مجلس عبد الملك:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا هارون بن عبد اللّه الزبيريّ قال حدّثنا شيخ يكنى أبا داود عن الشعبيّ قال:

دخلت على عبد الملك بن مروان و عنده الأخطل و أنا لا أعرفه. فقلت حين دخلت: عامر بن شراحيل الشّعبيّ. فقال(5): على علم ما أذنّا لك. فقلت في نفسي: خذ واحدة على وافد أهل العراق. فسأل عبد الملك

ص: 15


1- كذا في «الأصول» (؟).
2- كذا في كتاب «الشعر و الشعراء» و «خزانة الأدب». و في «الأصول» هنا و فيما يأتي: «و الحارث خير الأنام».
3- في كتاب «الشعر و الشعراء» و «خزانة الأدب»: ........... و قد ينجع في الروضات ماء الغمام
4- في هذين المصدرين: «يشرب صفو المدام».
5- أي الأخطل.

الأخطل: من أشعر النّاس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين. فقلت لعبد الملك: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فتبسّم و قال:

هذا الأخطل. فقلت في نفسي: خذها ثنتين على وافد أهل العراق، فقلت: أشعر منك الذي يقول:

/

هذا غلام حسن وجهه *** مستقبل الخير سريع التّمام

للحارث الأكبر و الحارث ال *** أصغر و الأعرج خير الأنام

خمسة آباء و هم ما هم *** هم خير من يشرب ماء الغمام

- و الشعر للنابغة - فقال الأخطل: إنّ أمير المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه، و لو سألني عن أشعر أهل الجاهليّة لكنت حريّا أن أقول كما قلت أو شبيها به. فقلت في نفسي: خذها ثلاثا على وافد أهل العراق. (يعني أنه أخطأ ثلاث مرات). و نسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخرّاز و لم أسمعه من/أحد، و وجدته أتمّ مما رأيت في كل موضع، فأتيت به في هذا الموضع و إن لم يكن من خاصّ خبر النّابغة لأنه أليق به. قال أحمد بن الحارث الخرّاز حدّثني المدائنيّ عن عبد الملك بن مسلم قال:

كتب عبد الملك إلى الحجّاج: إنه ليس شيء من لذّة الدنيا إلاّ و قد أصبت منه، و لم يكن عندي شيء ألذّه إلا مناقلة الإخوان للحديث. و قبلك عامر الشّعبيّ، فابعث به إليّ يحدّثني. فدعا الحجّاج الشغبيّ فجهّزه و بعث به إليه و قرّظه و أطراه في كتابه. فخرج الشعبيّ، حتى إذا كان بباب عبد الملك قال للحاجب: استأذن لي. قال: من أنت؟ قال: أنا عامر الشعبيّ. قال: حيّاك اللّه! ثم نهض فأجلسني على كرسيّه. فلم يلبث أن خرج إليّ فقال: ادخل يرحمك اللّه. فدخلت، فإذا عبد الملك جالس على كرسيّ و بين يديه رجل أبيض الرأس و اللّحية على كرسيّ، فسلّمت فردّ عليّ السلام، ثم أومأ إليّ بقضيبه فقعدت عن يساره، ثم أقبل على الذي بين يديه فقال: ويحك! من أشعر النّاس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين. قال الشعبيّ. فأظلم عليّ ما بيني و بين عبد الملك، فلم أصبر أن قلت: و من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر النّاس؟! - قال: فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي - قال: هذا الأخطل. فقلت: يا أخطل! أشعر و اللّه منك الذي يقول:

هذا غلام حسن وجهه *** مستقبل الخير سريع التّمام

للحارث الأكبر و الحارث ال *** أصغر و الأعرج خير الأنام

ثم لهند و لهند فقد *** أسرع في الخيرات منه إمام

خمسة آباء و هم ما هم *** هم خير من يشرب صوب الغمام

فردّدتها حتى حفظها عبد الملك. فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الشعبيّ. قال فقال: صدق و اللّه يا أمير المؤمنين، النابغة و اللّه أشعر منّي. فقال الشعبيّ: ثم أقبل عليّ فقال: كيف أنت يا شعبيّ؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين فلا زلت به. ثم ذهبت لأضع معاذيري لما كان من خلافي(1) على الحجاج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فقال: مه(2)! إنّا لا نحتاج إلى هذا المنطق و لا تراه منّا في قول و لا فعل حتى تفارقنا. ثم أقبل عليّ فقال: ما تقول في النّابغة؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين، قد فضّله عمر بن الخطّاب في غير موطن على الشعراء

ص: 16


1- كذا في «أمالي السيد المرتضى» (ج 3 ص 102 الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بالقاهرة). و في «الأصول»: «... خلافي عن الحجاج».
2- مه: اسم فعل بمعنى اكفف.

أجمعين، و ببابه وفد غطفان فقال: يا معشر غطفان، أيّ شعرائكم الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** و ليس وراء اللّه للمرء مذهب

/لئن كنت قد بلّغت عنّي خيانة *** لمبلغك الواشي أغشّ و أكذب

و لست بمستبق أخا لا تلمّه *** على شعث أيّ الرجال المهذّب

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: فأيّكم الذي يقول:

فإنك كاللّيل الذي هو مدركي *** و إن خلت أن المنتأى عنك واسع

خطاطيف جحن في حبال متينة *** تمدّ بها أيد إليك نوازع

قالوا: النابغة. قال: فأيّكم الذي يقول:

إلى اين محرّق أعملت نفسي *** و راحلتي و قد هدت(1) العيون

أتيتك عاريا خلقا ثيابي *** على خوف تظنّ بي الظّنون

فألفيت الأمانة لم تخنها *** كذلك كان نوح لا يخون

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: هذا أشعر شعرائكم. قال: ثم أقبل على الأخطل فقال: أ تحبّ أنّ لك قياضا(2) بشعرك شعر أحد من العرب أو(3) تحبّ أنك قلته؟ قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، إلاّ أنّي وددت أن كنت قلت أبياتا قالها رجل منّا، كان و اللّه ما علمت مغدف(4) القناع قليل السّماع قصير الذّراع. قال: و ما قال؟ فأنشد قصيدته:

إنّ محيّوك فاسلم أيّها الطّلل *** و إن بليت و إن طالت بك الطّيل(5)

ليس الجديد به(6) تبقى بشاشته *** إلا قليلا و لا ذو خلّة يصل

و العيش لا عيش إلاّ ما تقرّ به *** عين و لا حال إلاّ سوف تنتقل

إن ترجعي من أبي عثمان منجحة(7) *** فقد يهون على المستنجح العمل

و الناس من يلق خيرا قائلون له *** ما يشتهي و لأمّ المخطئ الهبل

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته *** و قد يكون مع المستعجل الزلل

حتى أتى على آخرها. قال الشعبيّ: فقلت: قد قال القطاميّ أفضل من هذا. قال: و ما قال؟ قلت قال:

ص: 17


1- أصله «هدأت» بالهمز، فسهلت الهمزة ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
2- كذا في «ج» و «أمالي السيد المرتضى». و في سائر الأصول: «نياطا» و هو تحريف.
3- كذا في «أمالي السيد المرتضى». و في الأصول: «أم تحب».
4- كذا في «أمالي السيد المرتضى». و قد وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرفة؛ ففي بعضها: «مفرق القناع»، و في بعضها: «مغرف القناع». و إغداف القناع: إرساله على الوجه.
5- الطلل: ما شخص من آثار الديار. و الطيل: جمع طيلة و هي الدهر.
6- الضمير في «به» للدهر في بيت قبل هذا البيت و هو: كانت منازل منا قد نحل بها حتى تغير دهر خائن خبل
7- الخطاب لناقته. و منجحة: ظافرة. و المستنجح: طالب النجاح.

طرقت

جنوب رحالنا من مطرق *** ما كنت أحسبها قريب المعنق(1)

/قطعت إليك بمثل جيد جداية(2)*** حسن معلّق تومتيه مطوّق

و مصرّعين من الكلال كأنما *** شربوا(3) الغبوق من الرّحيق المعرق

متوسّدين ذراع(4) كلّ نجيبة *** و مفرّج عرق المقذّ منوّق

و جثت(5) على ركب تهدّ بها الصّفا *** و على كلاكل كالنّقيل المطرق

و إذا سمعن إلى هماهم(6) رفقة *** و من النجوم غوابر(7) لم تخفق

جعلت تميل خدودها آذانها *** طربا بهنّ إلى حداء السّوق

كالمنصتات إلى الغناء سمعنه *** من رائع لقلوبهن مشوّق

و إذا نظرن إلى الطريق رأينه *** لهقا(8) كشاكلة الحصان الأبلق

و إذا تخلّف بعدهنّ لحاجة *** حاد يشسع نعله(9) لم يلحق

/و إذا يصيبك و الحوادث جمّة *** حدث حداك إلى أخيك الأوثق

/لئن الهموم عن الفؤاد تفرّقت(10)*** و خلا التّكلّم للّسان المطلق

قال: فقال عبد الملك: هذا و اللّه أشعر، ثكلت القطاميّ أمّه!. قال: فالتفت إليّ الأخطل فقال: يا شعبيّ، إن لك

ص: 18


1- و في الأصول: «قريب المعنق». و التصويب من «ديوان القطامي» و «أمالي السيد المرتضى» و «لسان العرب». و المعنق: المكان الذي أعنقت منه. يقول: لم أظن أنها تقدر على أن تعنق و تسرع من هذا المكان. و العنق: ضرب من السير سريع؛ يقال عانق و أعنق إذا أسرع.
2- الجداية (بالفتح و يكسر): الغزال. و التومة (بالضم): اللؤلؤة، و القرط فيه حبة كبيرة.
3- في الأصول: «سمر و الغبوق من الرحيق المغبق». و التصويب من «الديوان» و «لسان العرب» (مادة عرق). و فيهما «الطلاء» بدل الرحيق. و الكلال: الإعياء و التعب. و الغبوق: ما يشرب بالعشي، و هو أيضا الشرب بالعشي. و الرحيق: من أسماء الخمر. و المعرق: القليل الماء؛ يقال: أعرقت الكأس و عرّقتها (بتشديد الراء) إذا أقللت ماءها.
4- في «لسان العرب» (مادة فرج): «زمام كل نجيبة»: و النجيبة من الإبل: الكريمة. و المفرج: ما بان مرفقه عن إبطه، و هي صفة ممدوحة في الإبل. و المقذ: ما خلف الأذن. و عرق (بضم ففتح): كثير العرق. و بعير منوّق: مذلل كأنه ناقة، أو هو الذي قد اختير و تنوّق فيه.
5- جثا يجثو و جثى يجثي جثوا و جثيا (على فعول فيهما): جلس على ركبتيه. و الصفا: جمع صفاة و هي الحجر الصلد الضخم. و الكلاكل: الصدور، واحدها كلكل. و النقيل: رقاع النعل و الخف، واحدتها نقيلة. و المطرق: الذي وضع بعضه فوق بعض، أي هي شديدة كأنها نعال مرقعة.
6- رواية «الديوان»: «فإذا سمعن هماهما من رفقة». و الهماهم: جمع همهمة و هي الكلام الخفي أو ترديد الصوت في الصدر.
7- كذا في «الديوان». و غوابر: بواق. تخفق: تغيب. و في الأصول: «غوائر لم تلحق».
8- كذا في «ج» و «الديوان». و في سائر الأصول: «كهفا» و هو تحريف. و اللهق (بكسر الهاء و فتحها): الشديد البياض. و الشاكلة: الخاصرة. و الأبلق من الخيل: الذي ارتفع تحجيله إلى فخذيه.
9- شسع نعله (بالتشديد): جعل لها شسعا. و مثله شسع (بالتخفيف) و أشسع. و الشسع (بالكسر): أحد سيور النعل، و هو الذي يدخل بين الأصبعين و يدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل.
10- كذا في «الديوان». و فيه «تفرجت» بدل «تفرقت». و جواب القسم في البيت الذي بعده و هو: لأعلقن على المطي قصائدا أذر الرواة بها طويلى المنطق و في «الأصول»: «ليت الهموم...».

فنونا في الأحاديث، و إنما لنا فنّ واحد؛ فإن رأيت ألاّ تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضا(1)!. فقلت: لا أعرض لك في شيء من الشعر أبدا، فأقلني في هذه المرّة. قال: من يتكفّل بك؟ قلت: أمير المؤمنين. فقال عبد الملك: هو عليّ ألاّ يعرض لك أبدا؛ ثم قال: يا شعبيّ، أيّ نساء الجاهليّة أشعر؟ قلت: خنساء. قال: و لم فضّلتها على غيرها؟ قلت: لقولها:

و قائلة و النّعش(2) قد فات خطوها *** لتدركه يا لهف نفسي على صخر

ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به *** إلى القبر! ما ذا يحملون إلى القبر

فقال عبد الملك: أشعر منها و اللّه التي تقول(3):

مهفهف(4) الكشح و السربال منخرق *** عنه القميص لسير الليل محتقر

/لا يأمن الناس ممساه و مصبحه *** في كلّ فجّ و إن لم يغز ينتظر(5)

ثم قال: يا شعبيّ، لعلّك شقّ عليك ما سمعت. قلت: إي و اللّه يا أمير المؤمنين أشدّ المشقّة. إني أحدّثك منذ شهرين لم أفدك(6) إلاّ أبيات النابغة في الغلام. قال: يا شعبيّ، إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أنّ أهل العراق يتطاولون على أهل الشام، يقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم و الرواية؛ و أهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق؛ ثم ردّ عليّ الأبيات أبيات ليلى(7) حتى حفظتها، و لم أزل عنده؛ فكنت أوّل داخل و آخر خارج. قال: فمكثت كذلك سنين(8)، و جعلني في ألفين من العطاء و عشرين رجلا من ولدي و أهل بيتي في ألفين ألفين؛ فبعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر و كتب إليه: يا أخي، إني قد بعثت إليك الشعبيّ، فانظر هل رأيت مثله قطّ؟! ثم أذن فانصرفت.

ص: 19


1- الحرض (بالتحريك) الرديء من الناس. يريد: أجعلهم بهجائي من أراذل الناس. و الحرض يوصف به المفرد مذكرا و مؤنثا و المثنى و الجمع بلفظ واحد لأنه مصدر. و يقال رجل حرض (بكسر الراء) و حارض؛ و هذان الوصفان مؤنثان و يثنيان و يجمعان.
2- في الأصول: «و الناس». و التصويب من «أمالي السيد المرتضى» (ج 3 ص 105).
3- هي ليلى أخت المنتشر بن وهب الباهلي - و قيل الدعجاء أخته - ترثيه بقصيدة منها هذان البيتان. و الذي في «الكامل» للمبرد أن هذين البيتين من قصيدة لأعشى باهلة يرثي بها المنتشر هذا.
4- مهفهف الكشح: ضامره. و هفهفة السربال: رقته و خفته. و منخرق عنه القميص أي «لا يبالي كيف كانت ثيابه لأنه لا يزين نفسه، إنما يزين حسبه و يصون كرمه. و قيل معناه أنه غليظ المناكب، و إذا كان كذلك أسرع الخرق إلى قميصه. و قيل: أرادت أنه كثير الغزوات متصل الأسفار؛ فقميصه منخرق لذلك». بهذا شرح أبو زكريا التبريزي قول ليلى الأخيلية في «ديوان الحماسة»: و مخرّق عنه القميص تخاله وسط البيوت من الحياء سقيما
5- رواية «الكامل» للشطر الأوّل من البيت الأوّل: مهفهف أهضم الكشحين منخرق و للشطر الثاني من البيت الثاني: من كل أوب و إن لم يأت ينتظر
6- كذا في «ج»، و «أمالي السيد المرتضى». و «لم أفدك» جملة حالية و في «أ، م»: «إلا أفدك إلا...» و في «ب، س»: «إني إن أحدثك» بزيادة «إن» قبل «أحدثك».
7- تراجع الحاشية رقم 4 من ص 25 من هذا الجزء.
8- في «ج»: «سنتين».
حديث حسان عنه حين وفد على النعمان:
اشارة

أخبرني الحسين بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ، و أخبرني ببعضه أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عمر بن شبّة عن أبي بكر الهذليّ قال:

/قال حسّان بن ثابت: قدمت على النّعمان بن المنذر و قد امتدحته، فأتيت حاجبه عصام بن شهبر فجلست إليه، فقال: إنّي لأرى عربيا، أ فمن الحجاز أنت؟ قلت نعم. قال: فكن قحطانيّا. فقلت: فأنا قحطانيّ. قال: فكن يثربيا.

قلت: فأنا يثربيّ. قال: فكن خزرجيا. قلت: فأنا خزرجيّ. قال: فكن حسّان بن ثابت. قلت: فأنا هو. قال: أ جئت بمدحة الملك؟ قلت نعم. قال: فإني أرشدك: إذا دخلت إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم و يسبّه، فإيّاك أن تساعده على ذلك، و لكن أمرّ ذكره إمرارا لا توافق فيه و لا تخالف، و قل: ما دخول مثلي أيّها الملك بينك و بين جبلة و هو منك و أنت منه!. و إن دعاك إلى الطعام فلا تؤاكله، فإن أقسم عليك فأصب منه اليسير إصابة بارّ قسمه متشرّف بمؤاكلته لا أكل جائع سغب، و لا تطل محادثته، و لا تبدأه بإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك، و لا تطل الإقامة في مجلسه. فقلت: أحسن اللّه رفدك! قد أوصيت واعيا. و دخل ثم خرج إليّ فقال لي: ادخل. فدخلت فسلّمت و حيّيت تحيّة الملوك. فجاراني من أمر جبلة ما قاله عصام كأنه/كان حاضرا، و أجبت بما أمرني، ثم استأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته. ثم دعا بالطعام، ففعلت ما أمرني عصام به، و بالشراب ففعلت مثل ذلك. فأمر لي بجائزة سنيّة و خرجت.

فقال لي عصام: بقيت عليّ واحدة لم أوصك بها، قد بلغني أنّ النابغة الذّبيانيّ قدم(1) عليه، و إذا قدم فليس لأحد منه حظّ سواه، فاستأذن حينئذ و انصرف مكرّما خير من أن تنصرف مجفوا، فأقمت ببابه شهرا. ثم قدم عليه الفزاريّان و كان بينهما و بين النعمان دخلل (أي خاصّة) و كان معهما النابغة قد استجار بهما/و سألهما مسألة النعمان أن يرضى عنه.

فضرب عليهما قبّة من أدم، و لم يشعر بأنّ النابغة معهما. و دسّ النابغة قينة تغنّيه بشعره:

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

فلمّا سمع الشعر قال: أقسم باللّه إنه لشعر النابغة! و سأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريّين، فكلّماه فيه فأمنه.

و قال أبو زيد عمر بن شبّة في خبره: لمّا صار معهما إلى النعمان كان يرسل إليهما بطيب و ألطاف مع قينة من إمائه، فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة قبلهما. فذكرت ذلك للنّعمان، فعلم أنّه النابغة. ثم ألقى عليها شعره هذا و سألها أن تغنّيه به إذا أخذت فيه الخمر، ففعلت فأطربته، فقال: هذا شعر علويّ(2)، هذا شعر النابغة!. قال: ثم خرج في غبّ سماء، فعارضه الفزاريّان و النابغة بينهما قد خضب بحنّاء فقنأ(3) خضابه. فلما رآه النّعمان قال: هي بدم كانت أحرى أن تخضب. فقال الفزاريّان: أبيت اللّعن! لا تثريب(4)، قد أجرناه، و العفو أجمل. فأمّنه و استنشده أشعاره. فعند ذلك قال حسّان بن ثابت: فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت له أشدّ حسدا:

على إدناء النّعمان له بعد المباعدة و مسامرته(5) له و إصغائه إليه، أم على جودة شعره، أم على مائة بعير من

ص: 20


1- لعله «قادم عليه».
2- علوي (بالضم): نسبة إلى العالية على غير القياس، و هي ما فوق نجد إلى أرض تهامة إلى ما وراء مكة و قرى بظاهر المدينة.
3- في «الأصول»: «فأفنأ». و التصويب من كتب اللغة. و قنوه الخضاب: اشتداد حمرته.
4- التثريب: اللوم و التعيير بالذنب و التذكير به.
5- في «ج»: «و مسايرته له».

عصافيره(1) أمر له بها.

قال أبو عبيدة: قيل لأبي عمرو: أ فمن مخافته امتدحه و أتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك؟ فقال: لا لعمر اللّه ما لمخافته فعل، إن كان لآمنا من أن يوجّه النعمان له/جيشا، و ما كانت عشيرته لتسلمه لأوّل وهلة، و لكنه رغب في عطاياه و عصافيره. و كان النابغة يأكل و يشرب في آنية الفضّة و الذهب من عطايا النعمان و أبيه و جدّه، لا يستعمل غير ذلك. و قيل: إنّ السبب في رجوعه إلى النّعمان بعد هربه منه أنه بلغه عليل لا يرجى، فأقلقه ذلك و لم يملك الصبر على البعد عنه مع علّته و ما خافه عليه و أشفق من حدوثه به، فصار إليه و ألفاه محمولا(2) على سريره ينقل ما بين الغمر و قصور الحيرة. فقال لعصام بن شهبر حاجبه - فيما أخبرنا به اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه و ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل -:

صوت

أ لم أقسم عليك لتخبرنّي *** أ محمول على النّعش الهمام

فإنّي لا ألومك في دخولي *** و لكن ما وراءك يا عصام

فإن يهلك أبو قابوس(3) يهلك *** ربيع النّاس و الشهر الحرام

و نمسك(4) بعده بذناب عيش *** أجبّ الظهر ليس له سنام

غنّاه حنين ثقيلا أوّل بالبنصر عن حبش.

قال أبو عبيدة: كانت ملوك العرب إذا مرض/أحدهم حملته الرجال على أكتافها يتعاقبونه، فيكون كذلك على أكتاب الرجال، لأنه عندهم أوطأ من الأرض.

/و قوله:

فإني لا ألومك في دخولي

أي لا ألومك في ترك الإذن لي في الدخول، و لكن أخبرني بكنه أمره. و قوله:

ربيع الناس و الشهر الحرام

يريد أنه كالربيع في الخصب لمجتديه، و كالشهر الحرام لجاره، لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد.

ص: 21


1- العصافير: إبل نجائب كانت للملوك.
2- في «الأصول»: مجموما على سريره و هو تحريف.
3- أبو قابوس: كنية النعمان بن المنذر.
4- نمسك معطوف على جواب الشرط في البيت الذي قبله، فيجوز فيه الجزم بالعطف، و النصب بأن مقدرة، و الرفع على الاستئناف. و يروى: «و نأخذ بعده». و ذناب كل شيء (بكسر أوّله): عقبه و مؤخره. و أجب الظهر: مقطوع السنام، كأن سنامه قد جب أي قطع من أصله، يقال: بعير أجب، و ناقة جباء. يقول: و نمسك بعده بطرف عيش قليل الخير بمنزلة البعير المهزول الذي ذهب سنامه و انقطع لشدّة هزاله. و الأحسن في «الظهر» الجر بالإضافة، و يجوز في مثله الرفع على قبح، و النصب على ضعف. قال ابن مالك في الكافية: و الرفع و النصب حكوا و الجرا في قول من قال أجب الظهرا
صوت
مما يغنى فيه من شعره:
اشارة

رأيتك ترعاني(1) بعين بصيرة *** و تبعث حراسا عليّ و ناظرا(2)

فآليت(3) لا آتيك إن كنت مجرما *** و لا أبتغي جارا سواك مجاورا

و أهلي فداء لامرئ إن أتيته(4) *** تقبّل معروفي و سدّ(5) المفاقرا(6)

ألا أبلغ النّعمان حيث لقيته *** و أهدي له اللّه الغيوث البواكرا

غنّاه خليد(7) الواديّ رملا بالبنصر من رواية حبش.

/و مما يغنّى فيه من قصائد النابغة التي يعتذر فيها إلى النعمان:

صوت

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند *** أقوت و طال عليها سالف الأمد

وقفت فيها أصيلانا أسائلها *** أعيت جوابا و ما بالرّبع من أحد

إلا الأواريّ لأيا ما أبيّنها *** و النّؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

ردّت عليه أقاصيه و لبّده *** ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد(8)

خلّت سبيل أتيّ كان يحبسه *** و رفّعته إلى السّجفين فالنّضد

أضحت خلاء و أضحى و أضحى أهلها احتملوا *** أخنى عليها الذي أخنى على لبد

الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لجميلة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو و حبش.

قال الأصمعيّ: قوله «يا دار ميّة» يريد أهل دار ميّة، كما قال امرؤ القيس:

ألاعم صباحا أيّها الطّلل البالي

يريد أهل الطلل. و قال الفرّاء. إنما نادى الدار لا أهلها أسفا عليها و تشوّقا إلى أهلها و تمنّيه أن تكون أهلا.

ص: 22


1- ترعاني: تحرسني و تحفظني.
2- في «شرح لديوانه» (طبع المطبعة الوهبية بمصر سنة 1293 ه): «و ناصرا».
3- آليت: أقسمت. و مجرما: مذنبا، يقال: جرم فهو جارم، و أجرم فهو مجرم. بقول: أقسمت لا آتيك حتى أعتبك و أرضيك. و يروي «محرما» بالحاء المهملة. أي لا آتيك و معي حرمة من أحد. و قيل: معنى «محرم» داخل في الشهر الحرام، و من دخل في الشهر الحرام أمن. أي لا آتيك في الشهر الحرام من خوفك و لكني آتيك في شهور الحل و أنا آمن بأمانك.
4- في بعض نسخ «الديوان»: «إذ أتيته». قال الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب البطليوسي: رواية الطوسي «إذ أتيته» و فسره فقال: «إذ لما مضى، و هو الآن غائب عنه، فأخبر بإتيانه إياه فيما مضى و إحسانه إليه».
5- يريد بمعروفه الذي تقبله ثناءه عليه و مدحه إياه.
6- يقال: سدّ اللّه مفاقره أي أغناه و سد وجوه فقره، لا واحد له من لفظه، و قيل: هو جمع فقر على غير قياس، كحسن و محاسن.
7- هو خليد بن عتيك أحد المغنين بوادي القرى. (راجع ص 280 س 12 ج 6 من هذه الطبعة).
8- الكلام على حذف مضاف أي في موضع الثأد، و موضع الثأد التراب الندي المبلول، و هو إذا ضرب بالمسحاة التصق بعضه ببعض و انخفض.

و العلياء: المكان المرتفع بناؤه، يقال من ذلك علا يعلو و علي يعلى، مثل حلا يحلو و حلي، و سلا يسلو و سلي يسلي. و السّند: سند الجبل و هو ارتفاعه حيث يسند فيه أي يصعد. أقوت: أقفرت و خلت من أهلها. و قال أبو عبيدة في قوله يا دارميّة ثم قال أقوت و لم يقل أقويت: إنّ من شأن العرب أن يخاطبوا الشيء ثم يتركوه و يكفّوا عنه.

و روي الأصمعيّ «أصيلانا(1)» و هو/تصغير أصلان(2). و يروي «عيّت(3) جوابا» أي عييت بالجواب. و الأواريّ:

جمع آري(4). و لأيا: بطئا. و المظلومة: التي لم يكن فيها أثر فحفر أهلها فيها حوضا، و ظلمهم إيّاها إحداثهم فيها ما لم يكن فيها. شبّه النّؤى بذلك الحوض لاستدارته. و الجلد: الأرض الصّلبة الغليظة من غير حجارة. و إنما جعلها جلدا لأنّ الحفر فيها لا يسهل. و قوله «ردّت عليه(5) أقاصيه» يعني أمة فعلت ذلك، أضمرها و لم يكن جرى لها ذكر. و أقاصيه: يعني أقاصي النّؤي على أدناه ليرتفع. و لبّده: طأمنه(6). و الوليدة: الأمة الشابّة. و الثأد: النّدى.

و السبيل: الطريق. و الأتيّ: النهر المحفور، و الأتيّ: السيل من حيث كان. يقول: لمّا/أفسدت طريق الأتيّ سهّلت له طريقا حتى جرى. و رفعته أي قدّمت الحفر إلى موضع السجفين، و ليس رفعته هاهنا من ارتفاع العلوّ(7).

و السّجفان: ستران رقيقان يكونان في مقدّم البيت. و النّضد: /ما نضد من المتاع. و أخنى: أفسد(8). و لبد. آخر نسور لقمان التي اختار أن يعمّر مثل أعمارها، و له حديث ليس هذا موضعه.

صوت

أسرت(9) عليه من الجوزاء سارية *** تزجي الشمال عليه جامد البرد(10)

فارتاع من صوت كلاّب فبات له *** طوع الشّوامت من خوف و من صرد

فبثّهن(11) عليه و استمرّ به *** صمع الكعوب بريّات من الحرد

ص: 23


1- و يروى «أصيلالا» بابدال النون لاما. و يروى «أصيلا كي أسائلها». و يروى «طويلا كي أسائلها».
2- أصلان: قيل: إنه جمع أصيل و هو العشي، كرغيف و رغفان. و رد هذا القول بأنه لو كان جمع كثرة لما صح تصغيره، إذ يدل بصيغته على التكثير و بتصغيره على التقليل، فيكون المرء مكثرا مقللا، و هذا لا يكون، و أن الصحيح أنه مفرد بني من الأصيل على وزن الغفران و التكلان.
3- هذه هي الرواية الصحيحة، يقال: عيّ بالجواب (بالإدغام) و عي بالجواب (بالتصحيح). و أما أعيا ففي المشي، يقال: أعيا الرجل في المشي فهو معي. و في «لسان العرب» في الكلام على هذا البيت: «و لا ينشد أعيت جوابا».
4- الأريّ: الآخية التي تشدّ بها الدابة.
5- و يروي: «ردت» بضم الراء بالبناء للمفعول. و تنتفي على هذه الرواية ضرورة تسكين الياء في «أقاصيه»، و ضرورة إضمار الفاعل من غير أن يجري له ذكر.
6- طامنه: خفضة و سكنه.
7- قال البطليوسي في شرحه «لديوانه»: «معنى البيت أن الأمة لما خافت من السيل على بيتها خلت سبيل الماء في الأتي بتنقيتها له من التراب كأنه كان انكبس فكنسته و محت ما فيه من مدر و غير ذلك مما كان يحبس الماء فيه حتى بلغت بحفرها إلى موضع السجفين... و الهاء في رفعته تعود على النؤى أي قدمت النؤى حتى بلغت إلى سجفي البيت لتقى السجفين و متاع البيت من السيل».
8- قال التبريزي في «شرح المعلقات»: «أخنى: فيه قولان، أحدهما أن المعنى: أتى عليها. و القول الآخر، و هو الجيد، أن المعنى أفسد، لأن الخنا الفساد و النقصان».
9- هذه رواية الأصمعي، و يروي أيضا: «سرت» بدون ألف و هي المناسبة لقوله «سارية». و يرى الأصمعي أنه جاء باللغتين.
10- البرد (بالتحريل): حب الغمام.
11- بثهن: فرقهن. و فاعل «استمر» «صمع الكعوب» أي مضت به كعوبه الصمع. يريد أنه جدّ و أسرع.

و كان ضمران(1) منه حيث يوزعه *** طعن المعارك عند المحجر النّجد

شكّ الفريصة بالمدرى فأنفذها *** طعن المبيطر إذ يشفى من العضد

غنى فيه إبراهيم الموصليّ هزجا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة. و فيه لحن لمالك. يعني أنّ سحابة مرّت عليه ليلا و أن أنواء الجوزاء أسرت عليه بها. و تزجي: تسوق و تدفع. عليه أي على الثور(2). و الكلاّب: صاحب الكلاب. و قوله «بات له طوع/الشوامت» أي بات له ما يسرّ السوامت اللّواتي شمتن(3) به. و صمع الكعوب: يعني قوائمه أنها لازقة محدّدة الأطراف ليست برهلات. و أصل الصّمع رقّة الشيء و لطافته. و الحرد(4): داء يعيبه، يقال بعير أحرد، و ناقة حرداء. و المحجر: الملجأ. و النّجد(5): الشجاع. و الفريصة: مرجع الكتف إلى الخاصرة و المدري: القرن.

و المبيطر: البيطار. و العضد: داء يأخذ في العضد.

و في لحن إبراهيم الموصليّ بعد «فارتاع من صوت كلاّب»:

كأنّ رحلي و قد زال النّهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس(6) وحد

من وحش وجرة موشيّ أكارعه *** طاوي المصير كسيف الصّيقل الفرد

قال الأصمعيّ: زال النهار بنا أي انتصف. و «بنا» هاهنا في موضع «علينا». و من روى «مستوجس» فإنه يعني أنه قد أوجس شيئا خافه(7) فهو يستوجس. و الجليل(8): الثّمام، واحدته جليلة. و وجرة: طرف السّيّ(9) و هي فلاة بين مرّان و ذات عرق و هي/ستون ميلا يجتمع فيها الوحش. و موشيّ أكارعه أي أنه أبيض في قوائمه نقط سود و في وجهه سفعة(10). و طاوي المصير: ضامر. و المصير المعى، و جمعه المصران. و الفرد: المنقطع القرين، يقال:

فرد و فرد و فرد.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال:

ص: 24


1- ضمران: اسم كلب: و كان الرياشي يرويه بالفتح عن الأصمعي. و يوزعه: يغريه. أي كان الكلب من الثور بالمكان الذي يغريه الكلاب، كما تقول للرجل: أنا حيث يحب. و نصب طعن بمحذوف أي طعنه طعن المعارك. و المعارك: المقاتل. يريد أنه لما دنا الكلب من الثور طعنه الثور فنشب في قرنه. و إذا ففي الكلام إيجاز بالحذف.
2- الثور المذكور في قوله: «كأن رحلى... إلخ» البيتين الآتيين، و هما مذكوران في «الديوان» قبل هذا البيت.
3- هذا الشرح الذي ذكره المؤلف إنما هو على رواية «طوع الشوامت» بالرفع. قال ابن السكيت في بيان هذه الرواية: يقول بات له ما أطاع شامته من البرد و الخوف أي بات له ما تشتهي شوامته. قال: و سرورها به هو طوعها، و من ذلك يقال: اللهم لا تطيعن بي شامتا أي لا تفعل بي ما يحب فتكون كأنك أطعته. و يروي «طوع الشوامت» بالنصب. و الشوامت على هذه الرواية هي القوائم، واحدتها شامتة. يقول: فبات له الثور طوع شوامته أي قوائمه أي بات قائما. (راجع «لسان العرب» في مادة شمت).
4- الحرد: استرخاء عصب في يدي البعير من شد العقال و ربما كان خلقه. و إذا كان به هذا الداء نفض يديه و ضرب بهما الأرض ضربا شديدا.
5- هذا على رواية ضم الجيم، و هو حينئذ صفة للمعارك. و يروي «النجد» بكسر الجيم وصفا من النجد (بالتحريك) و هو العرق من عمل أو كرب أو غيره. و هو على هذه الرواية يكون وصفا للمحجر، أي المحجر المكروب.
6- قال ابن الأعرابي: الاستئناس: النظر و التوجس كأنه يخاف الإنس.
7- في «الأصول»: «عاقه» و هو تحريف.
8- و الجليل أيضا: اسم موضع ينبت فيه الثمام، و لعله هو المراد.
9- السيّ (بكسر أوله): موضع بتلك الجهة التي ذكرها المؤلف.
10- السفعة: السواد أو هي سواد مشرب حمرة.

غنّى مخارق بين يدي الرشيد:

سرت عليه من الجوزاء سارية

فلمّا بلغ إلى قوله:

فارتاع من صوت كلاّب فبات له

قال: فارتاع (بضم العين)، فأردت أن أردّ عليه خطأه، ثم خفت أن يغضب الرشيد و يظنّ أنّي حسدته على منزلته منه و أردت إسقاطه. فالتفت إليه بعض من حضر - أظنّه قال محمد بن عمر الروميّ - فقال له: ويلك يا مخارق! أ تغنّي بمثل هذا الخطأ القبيح لسوقة فضلا عن الملوك! ويلك! /لو قلت: «فارتاع» كان أخفّ على اللسان و أسهل من قولك «فارتاع». فخجل مخارق، و كفيت ما أردته بغيري. قال: و كان مخارق لحّانا.

و منها:

صوت

قالت ألا ليتما هذا الحمام(1) لنا *** إلى حمامتنا و نصفه فقد

يحفّه جانبا نيق و تتبعه *** مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد

/فحسبوه فألفوه كما حسبت(2) *** تسعا و تسعين لم تنقص و لم تزد

فكمّلت مائة فيها حمامتها *** و أسرعت حسبة في ذلك العدد

غنّاه ابن سريج خفيف ثقيل عن الهشاميّ. هذا خبر روي عن زرقاء اليمامة(3)، و يروى عن بنت الخسّ(4).

أخذ معنى لزرقاء اليمامة:
اشارة

حدثنى محمد بن العباس اليزيدي قال سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الأحول يقول: هذا أخذه النابغة من زرقاء اليمامة، قالت:

ليت الحمام ليه *** و نصفه قديه(5)

إلى حمامتيه *** تمّ الحمام ميه

فسلخه النابغة. و قال الأصمعيّ: سمعت أناسا من أهل البادية يتحدّثون أنّ بنت الخسّ كانت قاعدة في جوار، فمرّ بها قطا وارد في مضيق من الجبل، فقالت:

يا ليت ذا القطاليه *** و مثل نصف معيه

إلى قطاة أهليه *** إذا لنا قطا ميه

ص: 25


1- يروي بنصب الحمام على أن «ليت» عاملة، و يروي بالرفع على أنها مكفوفة عن العمل بما.
2- و يروي: «كما زعمت».
3- زرقاء اليمامة: امرأة من بقايا طسم و جديس كانت حديدة النظر و كانوا يزعمون أنها تبصر مسيرة ثلاثة أيام.
4- بنت الخس: امرأة من إياد كانت مشهورة بالفصاحة، اسمها هند، و قيل: جمعة.
5- قديه: حسبي، و الهاء الساكنة للسكت.

و أتبعت فعدّت على الماء فإذا هي ستّ و ستّون. و قوله: «فقد» أي فحسب. و يحفّه(1) أي يكون من ناحية هذا الثّمد، يقال: حفّ القوم بالرجل أي اكتنفوه. /و النّيق: الجبل. و مثل الزجاجة: يريد عينا صافية كصفاء الزجاجة.

الحسبة: الهيئة التي تحسب، يقال: ما أحسن حسبته، مثل الجلسة و اللّبسة و الرّكبة.

و منها:

صوت

نبّئت أنّ أبا قابوس أو عدني *** و لا قرار على زأر من الأسد

مهلا فداء لك الأقوام كلّهم *** و ما أثّر من مال و من ولد

إن كنت قلت الذي بلّغت معتمدا *** إذا فلا رفعت سوطي إليّ يدي

هذا الثناء فإن تسمع به حسنا *** فلم أعرّض أبيت اللّعن بالصّفد

غنّاه الهذليّ، و لحنه من الثقيل الأوّل عن الهشاميّ. أثّر: أصلح و أجمع. و الزّأر: صياح الأسد، يقال: زأر زئيرا و هو الزأر. و الصّفد(2): العطيّة، يقال: أصفده يصفده إصفادا إذا أعطاه، و صفده يصفده صفدا(3) إذا أوثقه.

رواية أخرى في حديث حسان عنه حين وفد على النعمان:
اشارة

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني الصّلت بن مسعود قال حدّثنا أحمد بن شبّويه عن سليمان بن صالح عن عبد اللّه بن المبارك عن فليح بن سليمان عن رجل قد سمّاه عن حسّان بن ثابت، و نسخت من كتاب ابن أبي خيثمة عن أبيه عن مصعب الزبيريّ قال قال حسّان بن ثابت، و أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي يوسف بن محمد عن عمه إسماعيل/بن أبي محمد قال قال أبو عمرو الشيبانيّ قال حسان بن ثابت - و قد جمعت رواياتهم و ذكرت اختلافهم فيها، و أكثر اللفظ للجوهريّ - قال: خرجت إلى النّعمان بن المنذر، فلقيت رجلا - و قال اليزيديّ في خبره: فلقيت صائغا من أهل فدك - فلما رآني/قال: كن يثربيا، فقلت: الأمر كذلك. قال: كن خزرجيا، قلت: أنا خزرجيّ. قال: كن نجّاريا، قلت: أنا نجّاريّ. قال: كن حسّان بن ثابت، قلت: أنا هو. فقال: أين تريد؟ قلت: إلى هذا الملك. قال: تريد أن أسدّدك إلى أين تذهب و من تريد؟ قلت نعم. قال: إن لي به علما و خبرا. قلت: فأعلمني ذلك. قال: فإنك إذا جئته متروك شهرا قبل أن يرسل إليك ثم عسى أن يسأل عنك رأس الشهر، ثم إنك متروك أخر بعد المسألة ثم عسى أن يؤذن لك. فإن أنت خلوت(4) به و أعجبته فأنت مصيب منه خيرا، فأقم ما أقمت، فإن رأيت أبا أمامة فاظعن، فلا شيء لك عنده. قال:

فقدمت ففعل بي ما قال الرجل ثم أذن لي و أصبت منه مالا كثيرا و نادمته و أكلت معه. فبينا أنا على ذلك و أنا معه في قبّة له إذا رجل يرتجز حولها:

ص: 26


1- يريد الشاعر أن جانبي الجبل أحاطا بالحمام فكان الحمام بينهما. قال الأصمعيّ: «إذا كان الحمام بين جانبي نيق ضاق عليه فركب بعضه بعضا أشدّ لعده و جزره، و إذا كان في موضع واسع كان أسهل لعده، فكان أحكم لها إذا أصابته في هذه الحال». و بهذا يعلم ما في الأصول لشرح كلمة «بحقه» هنا من غموض.
2- و يقال فيه أيضا الصفد (بسكون الفاء).
3- و مثله صفده تصفيدا.
4- في «الأصول»: «خلوته». و الذي في كتب اللغة أنّه يقال: خلا الرجل بصاحبه و إليه و معه، إذا اجتمع معه في خلوة.

أصمّ أم يسمع ربّ القبّه *** يا أوهب الناس لعنس(1) صلبه

ضرّابة بالمشفر الأذبه(2) *** ذات هباب(3) في يديها جلبة(4)

في لاحب(5) كأنّه الأطبّه

- و في رواية اليزيدي «في يديها خدبة(6)» أي طول و اضطراب. و الأطبّة: جمع طباب(7) و هو الشّراك يجمع فيه بين الأديمين في الخرز. و قال عمر بن شبّة في خبره: قال/فليح بن سليمان: أخذت هذا الرجز عن ابن دأب - قال فقال: أ ليس بأبي أمامة؟ قالوا بلى. قال: فأذنوا له. و دخل فحيّاه و شرب معه. ثم وردت النّعم السّود، و لم يكن لأحد من العرب بعير أسود يعرف مكانه و لا يفتحل أحد بعيرا أسود غير النعمان. فاستأذنه في أن ينشده كلمته على الباء، فأذن له أن ينشده قصيدته التي يقول فيها:

فإنّك شمس و الملوك كواكب *** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

و وردت عليه مائة من الإبل السّود الكلبيّة فيها رعاؤها و بيتها و كلبها، فقال: شأنك بها يا أبا أمامة، فهي لك بما فيها. قال حسّان. فما أصابني حسد في موضع ما أصابني يومئذ، و ما أدري أيّما كنت أحسد له عليه: ألما أسمع من فضل شعره، أم ما أرى من جزيل عطائه، فجمعت جراميزي(8) و ركبت إلى بلادي. و قد روى الواقديّ عن محمد بن صالح الخبر فذكر أن حسّان قدم على جبلة بن أبي شمر، و لعله غلط. أخبرنا به محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي يوسف قال حدّثني عمّي إسماعيل عن الواقديّ عن محمد بن صالح قال:

كان حسّان بن ثابت يقدم على جبلة بن الأيهم سنة و يقيم سنة في أهله. فقال: لو وفدت على الحارث، فإن له قرابة و رحما بصاحبي، و هو أبذل الناس لمعروف، و قد يئس منّي أن أقدم عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة.

فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة حتى قدمت على الحارث و قد هيّأت مديحا. فقال لي حاجبه و كان لي ناصحا: إنّ الملك قد سرّ بقدومك/عليه، و هو لا يدعك حتى تذكر جبلة. فإيّاك أن تقع فيه فإنه يختبرك، فإنّك إن وقعت فيه زهد فيك و إن ذكرت محاسنه ثقل عليه، فلا تبتدئ بذكره، فإن سألك عنه فلا تطنب/في الثناء عليه و لا تعبه، امسح ذكره مسحا و جاوزه. و إنه سوف يدعوك إلى الطعام و هو يثقل عليه أن يؤكل طعامه أو يشرب شرابه، فلا تضع يدك في شيء حتى يدعوك إليه. فشكرت له ذلك. ثم دعاني فسألني عن البلاد و الناس و عن عيشنا في الحجاز و كيف ما بيننا من الحرب، و كلّ ذلك أخبره، حتى انتهى إلى ذكر جبلة فقال: كيف تجد جبلة، فقد انقطعت إليه و تركتنا؟ فقلت له: إنما جبلة منك و أنت منه، فلم أجر معه في مدح و لا ذمّ، و فعلت في الطعام

ص: 27


1- في ج، م: «لعيس». و العنس: الناقة القوية. و العيس من الإبل: التي تضرب إلى الصفرة أو هي البيض مع شقرة يسيرة، واحدها أعيس و الأنثى عيساء.
2- الأذبة: جمع قلة الذباب.
3- الهباب (بالكسر): النشاط و السرعة، يقال: هب يهب (بالكسر) هبا و هبوبا و هبابا إذا نشط و أسرع. و في «الأصول»: «ذات هيات» و هو تصحيف.
4- كذا في «أ». و في «سائر الأصول»: «خلبة» بالخاء المعجمة.
5- اللاحب: الطريق الواضح.
6- في «أكثر الأصول»: «جذبة». و التصويب من «أ، م».
7- طباب: جمع طبابة (بكسر الطاء) و معناها ما ذكره المؤلّف في تفسير جمعها.
8- يقال: جمع فلان إليه جراميزه إذا رفع ما انتشر من ثيابه ثم مضى.

و الشراب كما قال لي الحاجب. قال: ثم قال لي الحاجب: قد بلغني قدوم النابغة و هو صديقه و آنس به، و هو قبيح أن يجفوك بعد البرّ، فاستأذنه من الآن فهو أحسن. فاستأذنته فأذن لي و أمر لي بخمسمائة دينار و كسا و حملان(1)، فقبضتها و انصرفت إلى أهلي.

صوت

ملوك و إخوان إذا ما لقيتهم *** أحكّم في أموالهم و أقرّب

و لكنّني كنت امرأ لي جانب *** من الأرض فيه مستراد و مطلب

الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل. الجانب هنا: المتّسع من الأرض. و المستراد: المختلف يذهب فيه و يجيء، و يقال: راد الرجل لأهله إذا خرج رائدا لهم في طلب الكلى و نحوه. ثم ذكر مستراده فقال: «ملوك و إخوان».

و من القصيدة العينيّة:

صوت

عفا ذو حسا من قرتنا فالفوارع *** فجنبا أريك فالتّلاع الدوافع(2)

/فمجتمع الأشراج غيّر رسمها *** مصايف مرّت بعدنا و مرابع(3)

توهّمت آيات لها فعرفتها *** لستّة(4) أعوام و ذا العام سابع

رماد ككحل العين ما إن أبينه(5) *** و نؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

غنّاه معبد من رواية حبش رملا بالبنصر.

صوت

آذنتنا ببينها أسماء *** ربّ ثاو يملّ منه الثّواء

بعد عهد لها ببرقة شمّا *** ء فأدنى ديارها الخلصاء

عروضه من الخفيف. آذنتنا: أعلمتنا. و البين: الفرقة. و الثاوي: المقيم، يقال ثوى ثواء. و البرقة: أرض ذات رمل و طين. و شمّاء و الخلصاء: موضعان. الشعر للحارث بن حلّزة اليشكريّ. و الغناء لمعبد، ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و من الناس من ينسبه إلى حنين.

ص: 28


1- الحملان (بالضم): دواب الحمل في الهبة خاصة.
2- عفا: درس و امحى، يقال: عفت الدار، و عفت الريح الدار، فهو لازم و متعدّ. و ذو حسا و أريك: موضعان. و فرتنا: اسم امرأة. و الفوارع: تلال مشرفات المسائل. و في «الأصول»: «فالقوارع» و التصويب من نسخ «الديوان». و التلاع: جمع تلعة، و هي هنا: مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الأرض. و الدوافع: التي تدفع بالماء إلى الوادي.
3- الأشراج: جمع شرج (بالفتح و يجمع جمع كثرة على شراج و شروج) و هو مجرى الماء من الحرار إلى السهولة. و المصايف: جمع مصيف من الصيف، و مثله المرابع من الربيع. أي غير رسمها ما يحدث في المصايف و المرابع من رياح و أمطار، أو غيره تعاقبهما عليها و طول اختلافهما.
4- اللام هنا بمعن «بعد» أي بعد ستة أعوام.
5- في بعض نسخ «الديوان»: لأيا أبيته» أي أبيته بعد جهد و مشقة. و النؤي: حفير حول الخيمة ليحجز عنها الماء. و جذم كل شيء: أصله. ذكر الشاعر في هذا البيت بعض الآيات التي توهمها فعرف بها الدار، و هي رماد ككحل العين في سواده، و قلته، و نؤي متثلم متكسر قد ذهب شخصه و لم يبق منه إلاّ ما يبقى من الحوض إذا تهدّم.

2 - أخبار الحارث بن حلزة و نسبه

نسب الحارث بن حلزة:

هو الحارث بن حلّزة بن مكروه بن يزيد(1) بن عبد اللّه بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن/جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار.

السبب في قول قصيدته المعلقة:

قال أبو عمرو الشيبانيّ: كان من خبر هذه القصيدة و السبب الذي دعا الحارث إلى قولها أنّ عمرو بن هند الملك، و كان جبّارا عظيم الشأن و الملك، لمّا جمع بكرا و تغلب ابني وائل و أصلح بينهم، أخذ من الحيّين رهنا من كلّ حيّ مائة غلام ليكفّ بعضهم عن بعض، فكان أولئك الرّهن يكونون معه في مسيره و يغزون معه، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامّة التّغلبيّين و سلم البكريّون. فقالت تغلب لبكر: أعطونا ديات أبنائنا، فإن ذلك لكم لازم، فأبت بكر بن وائل. فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم و أخبروه بالقصة. فقال عمرو [ابن كلثوم لتغلب: بمن ترون بكرا تعصب أمرها اليوم؟ قالوا: بمن عسى إلاّ برجل من أولاد ثعلبة. قال عمرو(2)]: أرى و اللّه الأمر سينجلي عن أحمر أصلج(3) أصمّ من بني يشكر. فجاءت بكر بالنّعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر، و جاءت تغلب بعمرو بن كلثوم. فلما اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصمّ! جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم و هم يفخرون عليك!. فقال النّعمان: و على من أظلت/السماء كلّها يفخرون ثم لا ينكر ذلك. فقال عمرو بن كلثوم له: أما و اللّه لو لطمتك لطمة ما أخذوا لك بها. فقال له النّعمان: و اللّه لو فعلت ما أفلتّ بها قيس أير أبيك. فغضب عمرو بن هند و كان يؤثر بني تغلب على بكر، فقال: يا جارية(4) أعطيه لحيا بلسان(5) أنثى (أي سبّيه بلسانك). فقال: أيها الملك أعط ذلك أحبّ أهلك إليك. فقال: يا نعمان أ يسرّك أنّي أبوك؟ قال: لا! و لكن وددت أنّك أميّ فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا حتى همّ بالنّعمان. و قام الحارث بن حلّزة فارتجل قصيدته هذه ارتجالا، توكّأ على قوسه و أنشدها و انتظم(6) كفّه و هو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها. قال ابن الكلبيّ: أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة و كان به

ص: 29


1- في شرح «المعلقات العشر للتبريزي»: «بديد».
2- الزيادة من شرح «المعلقات السبع لابن الأنباري» (نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 153 أدب ش) و شرح «المعلقات العشر للتبريزي».
3- في «شرحي ابن الأنباري و التبريزي للمعلقات»: «أصلع». و الأصلج: الأصم، و الأصلج في لغة بعض قيس: الأصلع.
4- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «يا حارثة» و هو تصحيف.
5- في «الأصول»: لحنا» بالنون، و التصويب من «شرح المعلقات العشر للتبريزي» و «شرح المعلقات السبع لابن الأنباري». و العبارة فيهما: «أعطيه لحيا بلسان. يقول الحية».
6- كذا في «ج» و «شرح ابن الأنباري و التبريزي للمعلقات». و انتظم هنا: طعن. يريد: و جرح كفه. و في «م»: «و اقتط». و في «سائر الأصول»: و اقتطم».

وضح(1)، فقيل لعمرو بن هند: إنّ به وضحا، فأمر أن يجعل بينه و بينه ستر. فلمّا تكلّم أعجب بمنطقه، فلم يزل عمرو يقول: أدنوه أدنوه حتى أمر بطرح السّتر و أقعده معه قريبا منه لإعجابه به. هذه رواية أبي عمرو. و ذكر الأصمعيّ نحوا من ذلك و قال: أخذ منهم ثمانين غلاما من كل حيّ و أصلح بينهم بذي المجاز(2)، و ذكر أنّ الغلمان من بني تغلب كانوا معه في حرب فأصيبوا. و قال في خبره: إنّ الحارث بن حلّزة لمّا ارتجل هذه القصيدة بين يدي عمرو قام عمرو بن كلثوم فارتجل قصيدته:

قفي قبل التفرّق يا ظعينا

و غير الأصمعيّ ينكر ذلك و ينكر أنه السبب في قول عمرو بن كلثوم.

/و ذكر ابن الكلبيّ عن أبيه أنّ الصلح كان بين بكر و تغلب عند المنذر بن ماء السماء، و كان قد شرط: أيّ رجل وجد قتيلا في دار قوم فهم ضامنون لدمه، و إن وجد بين محلّتين قيس ما بينهما فينظر أقربهما إليه فتضمن ذلك القتيل. و كان الذي ولي ذلك و احتمى لبني تغلب قيس بن شراحيل بن مرة بن همّام. ثم إنّ المنذر أخذ من الحيّين أشرافهم و أعلامهم فبعث بهم إلى مكة، فشرط بعضهم على بعض و تواثقوا على ألاّ يبقي واحد منهم لصاحبه غائلة و لا يطلبه بشيء مما كان من الآخر من الدّماء. و بعث المنذر معهم رجلا من بني تميم يقال له الغلاّق. و في ذلك يقول الحارث بن حلّزة:

فهلاّ سعيت لصلح الصّديق *** كصلح ابن مارية الأقصم(3)

/و قيس تدارك بكر العراق *** و تغلب من شرّها الأعظم

و بيت شراحيل في وائل *** مكان الثّريا من الأنجم

فأصلح ما أفسدوا بينهم *** كذلك فعل الفتى الأكرم

- ابن مارية هو قيس بن شراحيل. و مارية أمّه بنت الصبّاح بن شيبان من بني هند - فلبثوا كذلك ما شاء اللّه، و قد أخذ المنذر من الفريقين رهنا بأحداثهم، فمتى التوى أحد منهم بحقّ صاحبه أقاد من الرّهن. فسرّح النّعمان بن المنذر ركبا من بني تغلب إلى جبل طيّئ في أمر من أمره، فنزلوا بالطرفة(4) و هي لبنى شيبان و تيم اللات. فذكروا أنهم أجلوهم عن الماء و حملوهم على المفازة، فمات القوم عطشا. فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا و أتوا عمرو بن هند فاستعدوه على بكر، و قالوا: غدرتم و نقضتم العهد و انتهكتم الحرمة و سفكتم الدّماء و قالت بكر: أنتم الذين فعلتم ذلك، /قذفتمونا بالعضيهة(5) و سمّعتم الناس بها، و هتكتم الحجاب و السّتر بادّعائكم الباطل علينا قد سقيناهم إذ وردوا، و حملناهم على الطريق إذ خرجوا، فهل علينا إذ حار القوم و ضلّوا!. و يصدّق ذلك قول الحارث بن حلّزة:

لم يغرّوكم غرورا و لكن *** يرفع(6) الآل جرمهم و الضّحاء

ص: 30


1- الوضح هنا: البرص.
2- ذو المجاز: «موضع سوق من أسواق العرب بعرفة.
3- الأقصم: المكسور الثنية من النصف.
4- لم نجد هذا الاسم في «كتب البلدان».
5- العضيهة: الإفك و البهتان و القالة القبيحة.
6- في «الأصول»: «يدفع» بالدال، و التصويب من «المعلقات». و الآل: السراب، و هو ما يرى كالماء نهارا بين السماء و الأرض يرفع الشخوص. و قيل: الآل ما كان في الضحى و العشي، و السراب ما كان نصف النهار. و الضحاء: ارتفاع النهار. يقول: ما أتوكم على غرة و إنما أتوكم نهارا ظاهرين و أنتم ترونهم، يرفع الآل أشخاصهم و يكشفها الضحاء. و يروي. «يرفع الآل شخصهم»، و يروي: «جمعهم».
كان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجاله معلقته في موقف واحد، و شرح أبيات منها:

و قال يعقوب بن السّكّيت: كان أبو عمرو الشيبانيّ يعجب لارتجال الحارث هذه القصيدة في موقف واحد و يقول: لو قالها في حول لم يلم. قال: و قد جمع فيها ذكر عدّة من أيّام العرب عيّر ببعضها بني تغلب تصريحا، و عرّض ببعضها لعمرو بن هند، فمن ذلك قوله:

أ علينا جناح كندة أن يغ *** نم غازيهم و منّا الجزاء

قال: و كانت كندة قد كسرت الخراج على الملك، فبعث إليهم رجالا من بني تغلب يطالبونهم بذلك، فقتلوا و لم يدرك بثأرهم، فعيّرهم بذلك. هكذا ذكر الأصمعيّ. و ذكر غيره أنّ كندة غزتهم فقتلت و سبت و استاقت، فلم يكن في ذلك منهم(1) شيء و لا أدركوا ثأرا. قال: و هكذا البيت الذي يليه و هو:

أم علينا جرّى(2) قضاعة أم لي *** س علينا فيما جنوا أنداء(3)

/فإنه عيّره بأن قضاعة كانت غزت بني تغلب ففعلت بهم فعل كندة، و لم يكن منهم في ذلك شيء و لا أدركوا منهم ثأرا. قال: و قوله:

أم علينا جرّى حنيفة أم ما *** جمّعت من محارب غبراء(4)

قال: و كانت حنيفة محالفة لتغلب على بكر، فأذكر الحارث عمرو بن هند بهذا البيت قتل شمر بن عمرو الحنفيّ أحد بني سحيم المنذر بن ماء السماء غيلة لمّا حارب الحارث بن جبلة الغسّانيّ، و بعث الحارث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه و يكون من قبله، فركن المنذر إلى ذلك و أقام الغلمان معه، فاغتاله شمر بن عمرو الحنفيّ فقتله غيلة، و تفرّق من كان مع المنذر، و انتهبوا عسكره. فحرّضه بذلك على حلفاء بني تغلب بني حنيفة. قال و قوله:

و ثمانون من تميم بأيدي *** هم رماح صدورهنّ القضاء(5)

/يعني عمرا أحد بني سعد [بن زيد] مناة، خرج في ثمانين رجلا من تميم فأغار على قوم من بني قطن من تغلب يقال لهم بنو رزاح كانوا يسكنون أرضا تعرف بنطاع قريبة من البحرين، فقتل فيهم و أخذ أموالا كثيرة، فلم يدرك منه بثأر. قال: و قوله:

ثمّ خيل(6) من بعد ذاك مع الغلاّق و لا رأفة و لا إبقاء

ص: 31


1- في «الأصول هنا»: «تغيير» بدل «شيء»، و قد تكررت هذه العبارة بعد ثلاثة أسطر، فأثبتناها هنا كما وردت هناك.
2- الجرى (و يمد): الجناية.
3- وردت هذه الكلمة محرفة في «الأصول» بين «أتواء» و «أنواء» و «أفراء» و التصويب من «المعلقات». و الأنداء: جمع ندى، و هو هنا ما يلحق الإنسان من الشر، يقال: ما لحقني من فلان ندى أي شر، و ما نديني من فلان شيء أكرهه أي ما بلني و لا أصابني.
4- غبراء أي جماعة غبراء، يريد الفقراء و الصعاليك، و قيل لهم غبراء لما عليهم من أثر الفقر و الضر. يريد: أم ما جمعت صعاليك محارب. و الغبراء أيضا: الأرض، و يقال للفقراء بنو غبراء، لأنهم لا مأوى لهم إلاّ الصحراء و ما أشبهها.
5- القضاء هنا: الموت.
6- يريد: ثم غزتهم من بعد بني تميم خيل مع الغلاق فقتلت فيهم و لم يدرك منها بثأر. و معنى قوله: لا رأفة و لا إبقاء أي ليس لأصحاب الغلاق رأفة بهم و لا إبقاء عليهم.

قال: الغلاّق صاحب هجائن النّعمان بن المنذر، و كان من بني حنظلة بن زيد مناة تميميا.

/و كان عمرو بن هند دعا بني تغلب بعد قتل المنذر إلى الطلب بثأره من غسّان، فامتنعوا و قالوا: لا نطيع أحدا من بني المنذر أبدا! أ يظنّ ابن هند أنّا له رعاء!. فغضب عمرو بن هند و جمع جموعا كثيرة من العرب، فلما اجتمعت آلى ألاّ يغزو قبل تغلب أحدا، فغزاهم فقتل منهم قوما، ثم استعطفه من معه لهم و استوهبوه جريرتهم، فأمسك عن بقيّتهم، و طلّت(1) دماء القتلى. فذلك قول الحارث:

من أصابوا من تغلبيّ فمطلو *** ل عليه(2) إذا تولّى العفاء

ثم اعتدّ على عمرو بحسن بلاء بكر عنده فقال:

من لنا عنده من الخير آيا *** ت ثلاث في كلّهن القضاء(3)

آية شارق(4) الشّقيقة إذ جا *** ءوا جميعا لكل حيّ لواء

حول قيس مستلئمين(5) بكبش *** قرظيّ كأنه عبلاء

فرددناهم(6) بضرب كما يخ *** رج من خربة المزاد الماء

ثم حجرا(7) أعني ابن أمّ قطام *** و له فارسيّة(8) خضراء

/أسد في اللّقاء ذو(9) أشبال *** و ربيع إن شنّعت(10) غبراء

فرددناهم بطعن كما تن *** هز(11) في جمّة الطّويّ الدّلاء

و فككنا غلّ امرئ القيس عنه *** بعد ما طال حبسه و العناء

و أقدناه(12) ربّ غسّان بالمن *** ذر كرها و ما تكال(13) الدّماء

ص: 32


1- طل دمه: أهدر و لم يثأر به، يقال: طل دمه و أطل مبنيين للمفعول. و جوز أبو عبيدة و الكسائي أن يقال: طل دمه مبينا للفاعل.
2- في «الأصول»: «عليهم» و التصويب من المعلقات. و يروي: «إذا أصيب» بدل «إذا تولى». و عليه العفاء: دعاء. و العفاء هنا: الدروس و الهلاك، أي ينسى فيصير كالشيء الدارس.
3- الآيات: العلامات. و قوله «في كلهن القضاء» أي في كلهن يقضي لنا بولاء الملك.
4- شارق: جاء من قبل المشرق.
5- المستلئم: لابس اللاّمة و هي الدرع. و المراد بالكبش هنا الرئيس. و قرظيّ: نسبة إلى البلاد التي ينبت بها القرظ و هي اليمن. و العبلاء: الصخرة البيضاء.
6- و يروي: «فجبهناهم» أي تلقينا جباههم بضرب... إلخ. و الخربة هاهنا: عزلاء المزادة (القربة) و هي مسيل الماء منها. فشبه خروج الدم و نزوه من الجروح التي يصيبونهم بها بخروج الماء من أفواه القرب و ثقوبها.
7- نصب حجر بالنسق على الضمير المتصوب في «فرددناهم» أي ثم رددنا حجرا.
8- فارسية: يريد كتيبة سلاحها من عمل فارس. و وصفها بالخضرة لكثرة ما تحمل من سلاح.
9- و يروي: «ورد هموس» و الورد: الذي يضرب لونه إلى الحمرة. و الهموس: المختال الذي يخفي وطأه حتى يأخذ فريسته.
10- شنعت: جاءت بأمر شنيع. و الغبراء هنا: السنة التي لا مطر بها.
11- نهز الدلاء: تحريكها لتمتلئ، يقال: نهزت بالدلو في البئر إذا ضربت بها في الماء لتمتلئ، و نهزتها إذا نزعت بها. و الجمة (بالفتح): المكان الذي يجتمع فيه الماء، و الجمة (بالضم): الماء الكثير أو معظم الماء. و الطويّ: البئر المطوية، أي المبنية بالحجارة.
12- أقدت القاتل بالقتيل: قتلته به. و رب غسان: ملكها.
13- في «الأصول»: «و ما تطل الدماء»، و التصويب من «المعلقات». و معنى «و ما تكال الدماء» أي لا تحصى لكثرتها، أو لا يقام لها كيل و لا وزن فتذهب هدرا. و يروى: «إذ ما تكال».

و فديناهم بتسعة أملا *** ك كرام أسلابهم(1) أغلاء

[و مع الجؤن(2) جون آل بني الأو *** س عنود(3) كأنها دفواء]

يعني بهذه الأيّام أيّاما كانت كلها لبكر مع المنذر، فمنها يوم الشّقيقة و هم قوم من شيبان جاءوا مع قيس بن معد يكرب و معه جمع عظيم من أهل اليمن يغيرون على إبل لعمرو بن هند، فردّتهم بنو يشكر و قتلوا فيهم، و لم يوصل إلى شيء من إبل عمرو بن هند. و منها يوم غزا حجر الكنديّ، و هو حجر بن أمّ قطام، امرأ القيس و هو/ماء السماء بن المنذر، لقيه و مع حجر جمع كثير من كندة، و كانت بكر مع امرئ القيس، فخرجت إلى حجر فردّته و قتلت جنوده. و قوله:

ففككنا غلّ امرئ القيس عنه

و كانت غسّان أسرته يوم قتل المنذر أبيه، فأغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام فقتلوا ملكا من ملوك غسّان و استنقذوا امرأ القيس بن المنذر، و أخذ عمرو بن هند بنتا لذلك الملك يقال لها ميسون. و قوله: «و فديناهم بتسعة...» يعني بني حجر آكل المرار. و كان المنذر وجّه خيلا من بكر في طلب بني حجر، فظفرت بهم بكر بن وائل فأتوا المنذر بهم و هم تسعة، فأمر بذبحهم في ظاهر الحيرة/فذبحوا بمكان يقال له جفر الأملاك. قال: و الجون جون آل بني الأوس: ملك من ملوك كندة و هو ابن عم قيس بن معد يكرب. و كان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار و معه كتيبة خشناء، فحاربته بكر فهزموه، و أخذوا بني الجون فجاءوا بهم إلى المنذر فقتلهم.

قال: فلمّا فرغ الحارث من هذه القصيدة حكم عمرو بن هند أنه لا يلزم بكر بن وائل ما حدث على رهائن تغلب، فتفرقوا على هذه الحال. ثم لم يزل في نفسه من ذلك شيء حتّى هم باستخدام أمّ عمرو بن كلثوم تعرّضا لهم و إذلالا، فقتله عمرو بن كلثوم. و خبره يذكر هناك.

قصيدة له دالية:
اشارة

قال يعقوب بن السّكّيت أنشدني النّضر بن شميل للحارث بن حلّزة - و كان يستحسنها و يستجيدها و يقول: للّه درة ما أشعره -:

صوت

من حاكم بيني و بي *** ن الدّهر مال عليّ عمدا

أودى بسادتنا و قد *** تركوا لنا حلقا و جردا(4)

/خيلي و فارسها و ربّ أبيك كان أعزّ فقدا فلو انّ ما يأوي إليّ أصاب من ثهلان(5) هدّا

ص: 33


1- الأسلاب: جمع سلب (بالتحريك) و هو ما يكون مع القوم من ثياب و سلاح و دواب. و أغلاء: غالية.
2- أثبتنا هذا البيت زيادة على ما في «الأصول» لأن المؤلّف سيتعرّض له في شرحه.
3- عنود: يريد هنا كتيبة، كأنها تعند في سيرها أي تطغي و تجور عن القصد. و الدفواء: المائلة. و الدفواء: العقاب لعوج منقارها. فيحتمل أنه يريد: كأنها مائلة من بغيها، أو كأنها عقاب لأنها تنقض على العدو كما تنقض العقاب على الصيد.
4- الحلق هنا: الدروع. و الجرد: الخيل القصيرة الشعر، واحدها أجرد.
5- ثهلان: جبل.

فضعي قناعك إنّ ري *** ب الدّهر قد أفنى معدّا

فلكم رأيت معاشرا *** قد جمّعوا مالا و ولدا

و هم زباب حائر(1) لا يضر *** لا تسمع(2) الآذان رعدا

فعش بجدّ(3) لا يضر *** ك النّوك ما لا لاقيت جدا

العيش خير في ظلا *** ل النّوك ممن عاش كذا(4)

في البيت الأوّل من القصيدة و البيتين الأخيرين خفيف ثقيل أوّل بالوسطى لعبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ، و من الناس من ينسبه إلى بابويه.

صوت

ألا(5) هبيّ بصحنك فاصبحينا *** و لا تبقي خمور الأندرينا

/مشعشعة(6) كأنّ الحصّ فيها *** إذا ما الماء خالطها سخينا(7)

عروضه من الوافر. الشعر لعمرو بن كلثوم التّغلبيّ. و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى من روايته. و فيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.

ص: 34


1- الزباب: ضرب من الفئرة لا تسع، يشبه بها الجاهل، و الواحدة زبابة.
2- أي لا تسمع آذانها الرعد لما بها من صمم.
3- الجد (بفتح الجيم): الحظ. و النوك (بالضم و بالفتح): الحمق. و يحتمل أن يكون الأصل: «عيشن بجد» إلخ.
4- استشهد أصحاب المعاني بهذا البيت على الإيجاز المخل. إذ هو يريد أن العيش الناعم في ظل النوك خير من العيش الشاق في ظل العقل، و ألفاظ البيت لا تفي بهذا المعنى.
5- هبي: قومي من نومك، يقال: هب من نومه هبا إذا انتبه و قام من مضجعه. و الصحن: القدح الواسع الضخم. و اصبحينا: اسقينا الصبوح و هو شراب الغداة. و أندرين: قرية كانت جنوبي حلب في طرف البرية و كانت من القرى الشهيرة بالخمر. و قد قال اللغويون فيها غير هذا القول أقوالا كثيرة فندها جميعا ياقوت في كتابه «معجم البلدان».
6- مشعشعة: ممزوجة بالماء و أرق مزجها. و هي منصوبة على أنها مفعول «أصبحينا» أو على أنها حال من «خمور الأندرين» أو بدل منها، و يجوز الرفع على تقدير هي مشعشعة. و الحص (بالضم): الورس (نبت أصفر باليمن) أو هو الزعفران. شبه صفرتها بصفرته.
7- سخينا: حال من الماء، قال أبو عمرو الشيباني: كانوا يسخنون لها الماء ثم يمزجونها به، أو نعت لمحذوف، و المعنى: فاسقينا شرابا سخينا. و قيل: أن «سخينا» فعل و فاعل أي جدنا. و في فعل «سخا» لغات، يقال: سخى يسخى (و زان فرح) سخا و سخوة، و سخا يسخو، و سخا يسخى (و زان فتح) سخاء، و سخو يسخو (و زان كرم) سخاء و سخوا و سخاوة.

3 - نسب عمرو بن كلثوم و خبره

نسب عمرو بن كلثوم من قبل أبويه:

هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب بن سعد بن زهير بن جشم [بن بكر(1)] بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان. و أمّ عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل أخي كليب، و أمّها بنت بعج(2) بن عتبة بن سعد بن زهير.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني العكليّ(3) عن العبّاس بن هشام عن أبيه عن خراش بن إسماعيل عن رجل من بني تغلب ثم من بني عتّاب قال: سمعت الأخذر - و كان نسّابة - يقول:

لمّا تزوّج مهلهل بنت بعج بن عتبة أهديت(4) إليه، /فولدت له ليلى بنت مهلهل. فقال مهلهل لامرأته هند:

اقتليها. فأمرت خادما لها أن تغيّبها عنها. فلمّا نام هتف به هاتف يقول:

كم من فتى يؤمّل *** و سيّد شمردل(5)

و عدّة لا تجهل *** في بطن بنت مهلهل

و استيقظ فقال: يا هند أين بنتي؟ قالت: قتلتها. قال: كلاّ و إله ربيعة! - فكان أوّل من حلف بها - فاصدقيني، فأخبرته. فقال: أحسني غداءها. فتزوّجها كلثوم بن مالك بن عتّاب. فلما حملت بعمرو بن كلثوم قالت: إنّه أتاني آت في المنام فقال:

/

يا لك ليلى من ولد *** يقدم إقدام الأسد

من جشم فيه العدد *** أقول قيلا لا قند

فولدت غلاما فسمّته عمرا. فلما أتت عليه سنة قالت أتاني ذلك الآتي في الليل أعرفه، فأشار إلى الصبيّ و قال:

إنّي زعيم لك أمّ عمرو *** بماجد الجدّ كريم النّجر(6)

أشجع من ذي لبد(7) هزبر *** وقّاص أقران(8) شديد الأسر(9)

ص: 35


1- زيادة عن «خزانة الأدب» (ج 1 ص 519) و «شرح التبريزي» لل «معلقات» و كتاب «المعارف» لابن قتيبة و «شرح ديوان المفضليات» لأبي محمد الأنباري.
2- لم نوفق لضبط هذا الاسم. و الذي في «خزانة الأدب»: «هند بنت عتيبة» بحذف «بعج» و تصغير «عتبة».
3- في «الأصول»: «... حدّثني العكليّ بن العباس».
4- هدى العروس إلى زوجها و أهداها: زفها إليه.
5- الشمردل: القوي الفتيّ الحسن الخلق.
6- النجر: الأصل.
7- اللبدة: شعر الأسد الذي على كتفيه. و الهزبر: من أسماء الأسد.
8- وردت هذه الكلمة محرّفة في «الأصول». و التصويب من «خزانة الأدب». و الوقص: الكسر و الدق.
9- شديد الأسر: معصوب الخلق غير مسترخ.

يسودهم في خمسة و عشر

قال الأخذر: فكان كما قال ساد و هو ابن خمسة عشر، و مات و له مائة و خمسون سنة.

قصة قتله لعمرو بن هند:

قال أبو عمرو حدّثني أسد بن عمرو الحنفيّ و كرد بن السّمعيّ و غيرهما، و قال ابن الكلبي حدّثني أبي و شرقيّ بن القطاميّ، و أخبرنا إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة:

أنّ عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمّه من خدمة أمّي؟ فقالوا: نعم! أم عمرو بن كلثوم. قال: و لم؟ قالوا: لأنّ أباها مهلهل بن ربيعة، و عمّها كليب وائل أعزّ العرب، و بعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، و ابنها عمرو و هو سيّد قومه. فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره و يسأله أن يزير أمّه أمّه. فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة بني تغلب. و أمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة و الفرات، و أرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب. فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، /و دخلت ليلى و هند في قبّة من جانب الرّواق. و كانت هند عمّة امرئ القيس بن حجر الشاعر، و كانت أمّ ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أمّ امرئ القيس، و بينهما هذا النسب. و قد كان عمرو بن هند أمر أمّه أن تنحّي الخدم إذا دعا بالطّرف و تستخدم ليلى. فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطّرف. فقالت هند:

ناوليني يا ليلى ذلك الطّبق. فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فأعادت عليها و ألحّت. فصاحت ليلى:

وا ذلّاه! يا لتغلب! فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدّم في وجهه، و نظر إليه عمرو بن هند فعرف الشرّ في وجهه، فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلّق بالرّواق ليس هناك سيف غيره، فضرب به رأس عمرو بن هند، و نادى في بني تغلب، فانتهبوا ما في الرّواق و ساقوا نجائبه، و ساروا نحو الجزيرة. ففي ذلك يقول عمرو بن كلثوم:

ألا هبّي بصحنك فاصبحينا

تعظيم تغلب بقصيدته المعلقة:

و كان قام بها خطيبا بسوق عكاظ و قام بها في/موسم مكة. و بنو تغلب تعظّمها جدّا و يرويها صغارهم و كبارهم، حتى هجوا بذلك؛ قال بعض شعراء بكر بن وائل:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة *** قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يروونها(1) أبدا مذ كان أوّلهم *** يا للرجال لشعر غير مسئوم

فخر شعراء تغلب بقتله عمرو بن هند:

و قال الفرزدق يردّ على جرير في هجائه الأخطل:

ما ضرّ تغلب وائل أ هجوتها *** أم بلت حيث تناطح البحران

قوم هم قتلوا ابن هند عنوة *** عمرا و هم قسطوا(2) على النّعمان

ص: 36


1- و يروى: «يفاخرون بها».
2- قسطوا: جاروا؛ يقال: أقسط إذا عذل، و قسط إذا جار.

/و قال أفنون(1) صريم التّغلبيّ يفخر بفعل عمرو بن كلثوم في قصيدة له:

لعمرك ما عمرو بن هند و قد دعا *** لتخدم ليلى(2) أمّه بموفّق

فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا(3) *** فأمسك من ندمانه(4) بالمخنّق

و جلّله عمرو على الرأس ضربة *** بذي شطب(5) صافي الحديدة رونق

قال: و كان لعمرو أخ يقال له مرّة بن كلثوم، فقتل المنذر بن النّعمان و أخاه. و إيّاه عنى الأخطل بقوله لجرير:

أ بني كليب إنّ عمّيّ اللّذا(6) *** قتلا الملوك و فكّكا الأغلالا

و كان لعمرو بن كلثوم ابن يقال له عبّاد، و هو قاتل بشر بن عمرو بن عدس. و لعمرو بن كلثوم عقب باق، و منهم كلثوم(7) بن عمرو العتّابيّ الشاعر صاحب الرسائل.

أغار على بني تميم ثم انتهى إلى بني حنيفة فأسره يزيد ابن عمرو ثم أطلقه فمدحه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابيّ قال:

أغار عمرو بن كلثوم التغلبيّ على بني تميم ثم مرّ من غزوة ذلك على حيّ من بني قيس بن ثعلبة، فملأ يديه منهم و أصاب أسارى و سبايا؛ و كان فيمن أصاب/أحمد بن جندل السّعديّ، ثم انتهى إلى بني حنيفة باليمامة و فيهم أناس من عجل، فسمع به(8) أهل حجر(9)؛ فكان أوّل من أتاه من بني حنيفة بنو سحيم عليهم يزيد بن عمرو بن شمر. فلما رآهم عمرو بن كلثوم ارتجز فقال:

من عاذ منّي بعدها فلا اجتبر *** و لا سقى الماء و لا أرعى الشّجر

بنو لجيم(10) و جعاسيس(11) مضر *** بجانب الدّوّ(12) يدهدون العكر

ص: 37


1- أفنون: لقب صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن تغلب، توفي بالألاهة (موضع) و له في وفاته بها قصة ذكرها ياقوت في «معجم البلدان». و في «الأصول»: «أفنون بن صريم» بزيادة «ابن» و هو تحريف. (راجع «النقائض» ص 886 طبع أوربا و «القاموس» و شرحه و «معجم البلدان» لياقوت في كلامه على الألاهة).
2- في «الأصول»: «لتخدم أمي أمه» و التصويب من «النقائض».
3- أصلت السيف: جرّده من غمده؛ فهو مصلت (بكسر اللام) و السيف مصلت (بفتحها).
4- الندمان «بفتح النون»: الذي ينادمك على الشراب. و المخنق: موضع حبل الخنق من العنق.
5- شطب السيف: طرائقه في متنه من شدّة بريقه، الواحدة شطبة. و الرونق: ماء السيف و صفاؤه و حسنه.
6- أي اللذان، فحذف النون تخفيفا.
7- له ترجمة في «الأغاني» في أوّل الجزء الثاني عشر من طبعة بلاق.
8- في «الأصول»: «فسمع بها»، و ظاهر أن مرجع الضمير عمرو بن كلثوم.
9- حجر (بالفتح): عاصمة اليمامة.
10- هو لجيم بن صعب؛ و حنيفة أبو القبيلة أحد أولاده. و سياق الكلام قبله يرجح أن يكون الخطاب لبني سحيم. فلعل «لجيما» محرف عن «سحيم».
11- الجعاسيس: اللئام الخلق و الخلق، و الواحد جعسوس.
12- الدوّ: الفلاة. و يدهدون: يدحرجون و يقلبون؛ يقال: «دهدي الشيء إذا قلب بعضه على بعض، مثل دهدهه. و العكر (بالتحريك) درديّ كل شيء. و في «ج»: «يدهون» و في «أ، م»: «نجائب الدوّ يدهون». و في «ب، س»: «يديهون» و كله تحريف؛ إذ الظاهر أنه يريد أن يذم هؤلاء القوم فوصفهم بأنهم يعملون في أحقر الأشياء و لا شأن لهم و لا خطر.

فانتهى إليه يزيد بن عمرو فطعنه فصرعه عن فرسه و أسره. و كان يزيد شديدا جسيما، فشدّه في القدّ و قال له: أنت الذي تقول:

متى تعقد(1) قرينتنا بحبل *** تجذّ الحبل أو تقص القرينا

أما إنّي سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما(2) جميعا. فنادى عمرو بن كلثوم يا لربيعة! أمثلة!. قال: فاجتمعت بنو لجيم(3) فنهوه و لم يكن يريد ذلك به. فسار به حتّى أتى قصرا بحجر من قصورهم، و ضرب عليه قبّة و نحر له و كساه و حمله على نجيبه و سقاه الخمر. فلما أخذت برأسه تغنّى:

/

أ أجمع صحبتي السّحر ارتحالا *** و لم أشعر ببين منك هالا(4)

و لم أر مثل هالة في معدّ *** أشبّه حسنها إلاّ الهلالا

ألا أبلغ بني جشم بن بكر *** و تغلب كلّما أتيا حلالا(5)

/بأنّ الماجد القرم ابن عمرو *** غداة نطاع(6) قد صدق القتالا

كتيبته(7) ململمة رداح *** إذا يرمونها تفني النّبالا

جزى اللّه الأغرّ يزيد خيرا *** و لقّاه المسرّة و الجمالا

بمأخذه ابن كلثوم بن عمرو *** يزيد الخير نازله نزالا

بجمع من بني قرّان(8) صيد *** يجيلون الطعان إذا أجالا

يزيد يقدم السفراء(9) حتى *** يروّي صدرها الأسل النّهالا

حواره مع عمرو بن أبي حجر الغساني حين مر ببني تغلب فلم يكرموه:

أخبرني عليّ بن سليمان قال أخبرنا الأحول عن ابن الأعرابيّ قال:

زعموا أنّ بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء فلحقوا بالشأم خوفا منه. فمرّ بهم عمرو(10) بن أبي حجر

ص: 38


1- رواية «المعلقات» في عدة نسخ «متى نعقد» بالنون. و القرينة: التي تقرن إلى غيرها أي تربط مع غيرها بحبل. و تجذ: تقطع، و هو مجزوم في جواب الشرط، فيجوز فيه الكسر لالتقاء الساكنين و هو المختار، و الفتح للتخفيف، و الضم اتباعا لضمة ما قبله. و تقص: تكسر؛ يقال: وقص عنقه يقصها وقصا إذا كسرها و دقها.
2- طرد الإبل: ساقها.
3- تقدّم أن «لجيما» جد أعلى لهم، و أن الجد الذي ينتسبون إليه «سحيم».
4- يريد: يا هالة.
5- حلال: جمع حلة (بالكسر) و هي جماعة بيوت الناس، و مجتمع القوم.
6- نطاع: أرض، و قد ذكرها المؤلف في صفحة 46 من هذا الجزء.
7- الكتيبة: الجيش أو فرقة منه. و ململمة: مجتمعة. و رداح: ثقيلة جرارة.
8- قرّان حصن باليمامة، نسب إليه أهله كأنه أب لهم. (راجع شرح «ديوان المفضليات» لأبي محمد الأنباري ص 434 طبعة مطبعة الآباء اليسوعيين ببيروت سنة 1920 م)
9- كذا في «الأصول». و لم نوفق لوجه الصواب فيه.
10- في كتاب «الكامل» لابن الأثير أنه الحارث بن أبي شمر الغساني. و سياق هذا الخبر فيه أتم و أوضح مما هنا. و أحسب أن مصدر الغموض و الاضطراب في «الأغاني» هنا سقوط كلام من النساخ. و نص الخبر في كتاب «الكامل»: «..... فخرج ملك غسان بالشام و هو الحارث بن أبي شمر الغساني، فمر بأفاريق من تغلب فلم يستقبلوه. و ركب عمرو بن كلثوم التغلبي فلقيه فقال له: ما منع قومك أن يتلقوني؟! فقال لم يعلموا بمرورك. فقال: لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم أيقاظا لقدومي. فقال عمرو: ما استيقظ قوم قط إلا نبل رأيهم و عزت جماعتهم؛ فلا توقظن نائمهم. فقال: كأنك تتوعدني بهم! أما و اللّه لتعلمن إذا نالت (لعلها أجالت) غطاريف غسان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها: تجتث أصولهم و ينقى فلهم إلى اليابس الجرد و النازح الثمد. ثم رجع عمرو بن كلثوم عنه و جمع قومه و قال: ألا فاعلم... إلخ».

الغسّاني، فتلقّاه عمرو بن كلثوم. فقال له: يا عمرو، ما منع/قومك أن يتلقّوني؟! فقال له: يا عمرو يا خير الفتيان، فإن قومي لم يستيقظوا لحرب قطّ إلا علا فيها أمرهم و اشتدّ شأنهم و منعوا ما وراء ظهورهم. فقال له:

أيقاظ(1) نومة ليس فيها حلم، أجتثّ فيها أصولهم، و أنفى فلّهم(2) إلى اليابس الجرد، و النازح الثّمد. فانصرف عمرو بن كلثوم و هو يقول:

ألا فاعلم أبيت اللّعن أنّا *** على عمد سنأتي ما نريد

تعلّم أنّ محملنا ثقيل *** و أنّ زناد كبتنا(3) شديد

و أنّا ليس حيّ من معدّ *** يوازينا إذا لبس الحديد

هجاؤه للنعمان بن المنذر:

قال: و قال ابن الأعرابيّ: بلغ عمرو بن كلثوم أنّ النعمان بن المنذر يتوعّده، فدعا كاتبا من العرب فكتب إليه:

ألا أبلغ النّعمان عنّي رسالة *** فمدحك حوليّ و ذمّك قارح(4)

متى تلقني في تغلب ابنة وائل *** و أشياعها ترقى إليك المسالح(5)

و هجا النّعمان بن المنذر هجاء كثيرا، منه قوله يعيّره بأمّه سليمى:

حلّت سليمى بخبت(6) بعد فرتاج *** و قد تكون قديما في بني ناج

/إذ لا ترجّي سليمى أن يكون لها *** من بالخورنق من قين و نسّاج

و لا يكون على أبوابها حرس *** كما تلفّف قبطيّ بديباج

تمشي بعدلين من لؤم و منقصة *** مشي المقيّد في الينبوت(7) و الحاج

ص: 39


1- في «الأصول»: «إيقاظي» بياء في آخرها.
2- الفل: القوم المنهزمون. و الجرد (بالتحريك): من الأرض ما لا ينبت. و الثمد (بالفتح بالتحريك): الماء القليل الذي لا مادّ له. و النازح: الذي نفد ماؤه؛ يقال نزحنا البئر، و نزحت البئر، فهو لازم متعدّ. يريد أن ينفي المنهزمين منهم إلى أرض لا نبات فيها و لا ماء.
3- كذا في «ج». و الكبة (بالفتح): الحملة في الحرب و الدفعة في القتال، و كبة كل شيء شدته و دفعته مثل كبة الشتاء و الجري. و في «أ، م»: «و أن زناد كتبنا» بتقديم التاء المثناة من فوق على الباء الموحدة. و في «ب، س»: «زناد كتبتنا» بزيادة تاء قبل النون. و أحسب أن صوابه: «و أن ذياد كبتنا شديد» أي أن دفع حملتنا في القتال شديد لا يطاق.
4- الحولي: ما أتى عليه حول. و القارح من ذي الحافر: الذي شق نابه. و هو في السنة الأولى حولي ثم ثنى ثم رباع ثم قارح.
5- المسالح: جمع مسلحة، و هي القوم ذوو السلاح.
6- الخبت: المطمئن من الأرض، و اسم لعدة مواضع. و فرتاج (بكسر الفاء): موضع. و بنو ناج: بطن من عدوان.
7- في «أكثر الأصول»: «اليابوت». و في «ج»: «اليلبوت»، و كلاهما تحريف. و الينبوت: نبات، و هو ضربان، أحدهما ذو شوك، و هو المراد هنا. و الحاج: الشوك أو ضرب منه. يريد أنها تمشي مثقلة بما تحمل من لؤم و منقصة كما يمشي المقيد في هذين الضربين من الشوك.

قال و قال في النعمان:

لحا اللّه أدنانا إلى اللّؤم زلفة(1) *** و ألأمنا خالا و أعجزنا أبا

و أجدرنا أن ينفخ الكير خاله *** يصوغ القروط و الشّنوف بيثربا

وفاته و نصيحته لبنيه:
اشارة

أخبرني الحسين بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عليّ بن المغيرة عن ابن الكلبيّ عن رجل من النّمر بن قاسط قال:

لمّا حضرت عمرو بن كلثوم الوفاة و قد أتت عليه خمسون و مائة سنة، جمع بنيه فقال: يا بنيّ، قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، و لا بدّ أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. و إني و اللّه/ما عيّرت أحدا بشيء إلا عيّرت بمثله، إن كان حقّا فحقّا، و إن كان باطلا فباطلا. و من سبّ سبّ؛ فكفّوا عن الشتم فإنه أسلم لكم، و أحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم، و امنعوا من ضيم الغريب؛ فربّ رجل خير من ألف، و ردّ خير من خلف. و إذا حدّثتم فعوا، و إذا حدّثتم فأوجزوا؛ فإن مع الإكثار تكون الأهذار(2). و أشجع القوم العطوف بعد الكرّ، كما أنّ أكرم المنايا /القتل. و لا خير فيمن لا رويّة له عند الغضب، و لا من إذا عوتب لم يعتب(3). و من الناس من لا يرجى خيره، و لا يخاف شرّه؛ فبكئوه(4) خير من درّه، و عقوقه خير من برّه. و لا تتزوّجوا في حيّكم فإنه يؤدّي إلى قبيح البغض.

صوت

لمن الديار ببرقة الرّوحان(5) *** إذ لا نبيع زماننا بزمان

صدع الغواني إذ رمين فؤاده *** صدع الزّجاجة ما لذاك تداني

إن زرت أهلك لم أنوّل حاجة *** و إذا هجرتك شفّني هجراني

الشعر لجرير يهجو الأخطل و يردّ عليه حكومته التي حكم بها للفرزدق عليه. و الغناء، فيما ذكره عليّ بن يحيى المنجّم في كتابه الذي لقّبه بالمحدث، لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى، و ذكر الهشاميّ أنّه لحنين، قال و يقال: إنه لمعبد. و فيه ليزيد حوراء لحن ذكره عبد الملك بن موسى عنه، و قال: لا أدري أ هو الثقيل الأوّل أم خفيف الرمل.

و ذكر حبش أنّ الثقيل الأوّل للغريض و أنّ خفيف الرمل بالبنصر للدّلال.

ص: 40


1- الزلفة (بالضم) - و مثلها الزلفى و الزلف (بالتحريك) -: القربة و الدرجة و المنزلة.
2- الأهذار: جمع هذر (بالتحريك) و هو سقط الكلام.
3- الإعتاب: رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، و الاسم منه العتبي.
4- أصل البكء: قلة اللبن أو انقطاعه، يقال: بكأت الناقة أو الشاة تبكأ بكاء (من باب فتح) و بكؤت تبكؤ (من باب كرم) بكاءة و بكوءا. و المعنى المراد: فمنعه خير من عطائه.
5- راجع الحاشية رقم 1 ص 63 من هذا الجزء.

4 - ذكر الخبر عن السبب في اتصال الهجاء بين جرير و الأخطل

سبب التهاجي بين جرير و الأخطل:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش و محمد بن العبّاس اليزيديّ قالا حدّثنا أبو سعيد السكّريّ عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة و عن أبي غسّان دماذ عن أبي عبيدة، و أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل قال حدّثنا أبو غسّان عن أبي عبيدة، و أخبرنا الصّوليّ عن إبراهيم بن المعلّى الباهليّ عن الطوسيّ عن ابن الأعرابيّ و أبي عمرو الشيبانيّ، و قد جمعت رواياتهم. قال أبو عبيدة حدّثني عامر بن مالك المسمعيّ قال:

كان الذي هاج التهاجي بين جرير و الأخطل أنّه لمّا بلغ الأخطل تهاجي جرير و الفرزدق قال لابنه مالك - و هو أكبر ولده و به كان يكنى -: انحدر إلى العراق حتّى تسمع منهما و تأتيني بخبرهما. فانحدر مالك حتى لقيهما و سمع منهما ثم أتى أباه. فقال له: كيف وجدتهما؟ قال: وجدت جريرا يغرف من بحر، و وجدت الفرزدق ينحت من صخر. فقال الأخطل: الذي يغرف من بحر أشعرهما؛ و قال يفضّل جريرا على الفرزدق:

إنّي قضيت قضاء غير ذي جنف *** لمّا سمعت و لمّا جاءني الخبر

أنّ الفرزدق قد شالت نعامته *** و عضّه حيّة من قومه ذكر

و في رواية ابن الأعرابيّ «قد سال الفرات به». قال أبو عبيدة: ثم إن بشر بن مروان دخل الكوفة، فقدم عليه الأخطل، فبعث إليه محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بألف درهم و كسوة و بغلة و خمر، و قال له: لا تعن على شاعرنا، /و اهج هذا الكلب الذي/يهجو بني دارم؛ فإنك قد قضيت على صاحبنا، فقل أبياتا و اقض لصاحبنا عليه. فقال الأخطل:

أ جرير إنّك و الذي تسمو له *** كأسيفة(1) فخرت بحدج حصان

عملت لربّتها فلمّا عوليت(2) *** نسلت تعارضها مع الرّكبان

أتعدّ مأثرة لغيرك فخرها *** و ثناؤها في سالف الأزمان

تاج(3) الملوك و فخرهم في دارم *** أيّام يربوع(4) مع الرّعيان

ص: 41


1- الأسيفة: الأمة. و الحدج (بالكسر): مركب من مراكب النساء يشبه المحفة. و الحصان العفيفة. و يعنى بها هنا الحرة لمقابلتها للأمة.
2- في «ديوان» الأخطل: «حملت». و ربتها: سيدتها. و عوليت: رفعت أي حملت على مركب. و نسلت: أسرعت في المشي؛ و قيل: أصل النسلان للذئب ثم استعمل في غيره.
3- رواية «الديوان»: في دارم تاج الملوك و صهرها
4- يربوع: جدّ لجرير.

و هي طويلة يقول فيها:

فاخسأ إليك كليب إنّ مجاشعا *** و أبا الفوارس نهشلا أخوان

سبقوا أباك بكلّ أعلى(1) تلعة *** في المجد عند مواقف الرّكبان

قوم إذا خطرت عليك قرومهم *** ألقتك بين كلاكل و جران(2)

و إذا وضعت أباك في ميزانهم *** رجحوا و شال أبوك في الميزان(3)

/و قال جرير يردّ حكومة الأخطل:

لمن الدّيار ببرقة الرّوحان(4) *** إذ لا نبيع زماننا بزمان

و هي طويلة يقول فيها:

يا ذا الغباوة(5) إنّ بشرا قد قضى *** ألاّ تجوز حكومة النّشوان(6)

فدعوا الحكومة لستم من أهلها *** إنّ الحكومة في بني شيبان

قتلوا كليبكم بلقحة جارهم *** يا خزر تغلب لستم بهجان(7)

قصيدة للأخطل و شرح بعض كلماتها:
اشارة

و مما غنيّ فيه من نقائض جرير و الأخطل:

صوت

أناخوا فجرّوا شاصيات كأنّها *** رجال من السّودان لم يتسربلوا

فقلت اصبحوني(8) لا أبا لأبيكم *** و ما وضعوا الأثقال إلاّ ليفعلوا

تمرّ بها الأيدي سنيحا و بارحا *** و ترفع(9) باللّهمّ حيّ و تنزل

الشاصيات: الشائلات القوائم من امتلائها. و عنى بالشاصيات هاهنا الزّقاق، لأنها إذا امتلأت شالت أكارعها؛

ص: 42


1- في «الديوان»: «مجمع تلعة».
2- القرم (بالفتح): الفحل من الإبل، و يستعمل في السيد المعظم من الرجال على التشبيه. و الكلاكل: الصدور. و الجران: باطن عنق البعير أو مقدمة من مذبحه إلى منحره.
3- شولان الميزان (بالتحريك): ارتفاع إحدى كفتيه؛ و يستعمل في المفاخرة على التمثيل؛ يقال: فاخرت فلانا فشال ميزانه أو شال في ميزانه، أي فخرته و غلبته.
4- برقة الروحان: روضة باليمامة. و في «الأصول» هنا: «ببرقة الريحان» و التصويب من «الأغاني» (ج 5 ص 186 من هذه الطبعة) و «النقائض» و «معجم البلدان» لياقوت.
5- كذا في «كل الأصول» هنا. و قد أثبت في الجزء الثامن: «يا ذا العباءة». (راجع فيه الحاشية رقم 5 ص 17).
6- في «الأصول»: «النسوان» بالسين المهملة و هو تصحيف.
7- اللقحة: الناقة الحلوب. و الخزر (بالضم): جمع أخزرة و الخزر: صغر العين و ضيقها. و الهجان: البيض الكرام. يشير في هذا البيت إلى مقتل كليب بن ربيعة و سببه.
8- صبحه: سقاه الصبوح و هو الشراب بالغداة. و الأثقال: الأمتعة، واحدها ثقل (بالتحريك).
9- في «بعض الأصول»: «و ترفعها باللم» و هو تحريف. يعني أنه يسمى عليها بذكر اللّه في رفعها و إنزالها. و يروى: «و توضع...... ... و تحمل».

يقال) شصا برجله إذا رفعها، و شصا ببصره إذا شخص؛ قال الراجز يصف الشاخص.

/

و بقر خماص(1)*** ينظرن من خصاص(2)

بأعين شواصي *** كفلق(3) الرّصاص

و السانح و السنيح: ما جاء عن يمينك يريد شمالك. و البارح: ما جاء عن شمالك يريد يمينك. و الجابه: ما جاء من أمامك مواجها لك. و القعيد و الخفيف: ما جاء من ورائك. شبّه دور الكأس و اختلافها بينهم بالسوانح و البوارح.

الشعر للأخطل. و الغناء لمالك، فيه لحنان كلاهما له، أحدهما رمل بالبنصر في مجراها في الأبيات الثلاثة على الولاء من رواية إسحاق، و الآخر خفيف رمل بالوسطى في الثالث ثم الأوّل و الثاني عن عمرو. و ذكر عمرو أنّ الرمل ايضا لابن سريج و أنه بالوسطى. و فيه بالبنصر في الاول و الثاني عن الهشاميّ و عمرو. و فيه لابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و الهشاميّ.

و منها:

صوت

خفّ القطين فراحوا منك أو بكروا *** و أزعجتهم نوّى في صرفها غير

كأنّني شارب يوم استبدّ بهم *** من قرقف ضمّنتها حمص(4) أو جدر

جادت بها ذوات القار مترعة *** كلفاء ينحتّ من خرطومها المدر

يا قاتل اللّه وصل الغانيات إذا *** أيقنّ أنّك ممن قد زها الكبر

أعرضن لمّا حنى قوسي موتّرها *** و ابيضّ بعد سواد اللّمّة الشّعر

/استبدّ بهم أي علي(5) عليهم. و القرقف: التي تأخذ شاربها رعدة لشدّتها. و الكلفاء: الخابية في لونها كلف(6).

و قوله «زها الكبر» يعني استخفّه و أضعفه؛ يقال: زهاه و ازدهاه. و قال أبو عبيدة: الأصل في زهاه رفعه؛ فكأنه أراد أنه رفعه في علوّ سنّه عما يردن منه. و اللّمّة: الشعر المجتمع.

الشعر للأخطل يمدح عبد الملك بن مروان و يهجو قيسا و بني كليب و يقول فيها:

أمّا كليب بن يربوع فليس لها *** عند التفاخر(7) إيراد و لا صدر

مخلّفون و يقضي الناس أمرهم *** و هم بغيب و في عمياء ما شعروا

ص: 43


1- خماص: ضامرات البطون، الواحد خمصان (بفتح الخاء و ضمها) للمذكر، و خمصانة للمؤنث.
2- الخصاص: الخروق، واحدها خصاصة.
3- في «الأصول»: «تعلق بالرصاص». و التصويب من «لسان العرب» (مادة شصا). و فيه زيادة عما هنا، هي: يا رب مهر شاص و موضعه في أول الرجز.
4- حمص: مدينة مشهورة بالشام بين دمشق و حلب في نصف الطريق. و جدر: قرية بين حمص و سلمية تنسب إليها الخمر.
5- في «الأصول»: «علا عليهم» و هو تحريف. يعني أنهم غلبوا على أمرهم.
6- الكلف: حمرة كدرة، أو هو لون بين السواد و الحمرة.
7- في «الديوان»: «عند التفارط»: و التفارط التقدم في طلب الماء.

ملطّمون بأعقار(1) الحياض فما *** ينفكّ من دارميّ فيهم أثر

بئس الصحاة(2) و بئس الشّرب شربهم *** إذا جرى فيهم المزّاء و السّكر

قوم تناهت إليهم كلّ مخزية *** و كلّ فاحشة سبّت بها مضر

الآكلون خبيث الزّاد وحدهم *** و السائلون بظهر الغيب ما الخبر

و هذه القصيدة من فاخر شعر الأخطل و مقدّمه و مما غلّب فيه على جرير. و قد احتاج جرير إلى سلخ(3) بيته هذا الأخير فردّه عليه بعينه في نقيضة هذه القصيدة، و ضمّنه بيتين من شعره فقال:

/

الآكلون خبيث الزّاد وحدهم *** و النازلون إذا واراهم الخمر(4)

و الظاعنون على العمياء إن رحلوا *** و السائلون بظهر الغيب ما الخبر

و في هذه القصيدة يقول الأخطل يمدح عبد الملك:

إلى امرئ لا تعرّينا(5) نوافله *** أظفره اللّه فليهنئ له الظّفر

الخائض الغمر و الميمون طائره *** خليفة اللّه يستسقى به المطر

و الهمّ بعد نجيّ النفس يبعثه(6) *** بالحزم و الأصمعان(7) القلب و الحذر

و ما الفرات إذا جاشت غواربه *** في حافتيه و في أوساطه العشر(8)

و زعزعته(9) رياح الصّيف(10) و اضطربت *** فوق الجآجئ(11) من آذيّه غدر

مسحنفر(12) من جبال(13) الروم يستره *** منها أكافيف(14) فيها دونه زور

ص: 44


1- الأعقار: جمع عقر (بالضم) و هو مؤخر الحوض حيث تقف الإبل إذا وردت، أو هو مقام الشاربة منه.
2- كذا في «الديوان». و هو يريد أن يذم بني يربوع في حل سكرهم إذا شربوا و صحوهم. و في «الأصول»: «بئس الصحاب». و المزاء (بالضم): من أسماء الخمر؛ سميت بذلك للذعها اللسان.
3- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «نسخ بيته».
4- الخمر (بالتحريك): ما واراك من شجر و غيره.
5- كذا في «الديوان». و في «أكثر الأصول»: «لا تعدينا». و في «ح»: «لا يعدينا».
6- في «الأصول»: «بلغته» و التصويب من «الديوان».
7- في الأصول «و الأصمعين» و التصويب من «الديوان»؛ إذ المعنى المراد: و الأصمعان القلب و الحذر يبعثانه أيضا. و القلب الأصمع: الذكي المتوقد الفطن، و كذلك يوصف بالصمع الرأي الحازم.
8- جاشت: هاجت. و الغوارب: المتون؛ يريد أمواجه و أعاليه. و في «الديوان»: «حوالبه» و هي أمواجه. و العشر: شجر.
9- زعزعته: حركته، و قيل حركته تحريكا شديدا. و في «الديوان»: «ذعذعته» بالذال المعجمة، و هما بمعنى واحد.
10- في «الأصول»: «رياح الطير» و التصويب من «الديوان».
11- الجآجيّ: الصدور، واحدها جؤجؤ. و الآذيّ: الموج. و الغدر: جمع غدير. و في «الأصول» عذر (بعين مهملة و ذال معجمة) و التصويب من «الديوان».
12- مسحنفر: سريع الجري.
13- في «الأصول»: «من بلاد الروم» و التصويب من «الديوان» و «لسان العرب».
14- في «الأصول»: «أكاليف» و التصويب من «الديوان» و «لسان العرب» (مادة كفف). و أكافيف الجبل: حيوده أي حروفه الناتئة في أعراضه. و الزور (بالتحريك): الميل. يصف الفرات و جريه في جبال الروم المطلة عليه حتى يشق بلاد العراق.

/

يوما بأجود منه حين تسأله *** و لا بأجهر(1) منه حين يجتهر

في نبعة(2) من قريش يعصبون(3) بها *** ما إن يوازى بأعلى نبتها الشجر

حشد على الخير عيّافو الخنا أنف *** إذا ألمّت بهم مكروهة صبروا

لا يستقلّ(4) ذوو الأضغان حربهم *** و لا يبيّن في عيدانهم خور

شمس(5) العداوة حتى يستقاد لهم *** و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا

مدح الرشيد بيتا للأخطل:

أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصبّاح عن أبيه:

أنّ الرشيد قال لجماعة من أهله و جلسائه: أيّ بيت مدح به الحلفاء منّا و من بني أميّة أفخر؟ فقالوا و أكثروا.

فقال الرشيد: أمدح بيت و أفخره قول ابن النّصرانيّة في عبد الملك:

شمس العداوة حتى يستقاد لهم *** و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا

مدح آدم بن عمر بن عبد العزيز بيتا للأخطل في مجلس المهدي فأغضبه:
اشارة

أخبرني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:

قال المهدي يوما و بين يديه مروان بن أبي حفصة: أين ما تقوله فينا من قولك في أمير المؤمنين المنصور:

/

له لحظات عن حفافي سريره *** إذا كرّها فيها عقاب و نائل

فاعترضه آدم بن عمر بن عبد العزيز فقال: هيهات و اللّه يا أمير المؤمنين أن يقول هذا و لا ابن هرمة كما قال الأخطل:

شمس العداوة حتى يستقاد لهم *** و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا

قال: فغضب المهديّ حتى استشاط و قال: كذب و اللّه ابن النّصرانيّة العاضّ بظر أمّه و كذبت يا عاضّ بظر أمّك! و اللّه لو لا أن يقال: إني خفرت(6) بك لعرّفتك من أكثر شعرا! خذوا برجل ابن الفاعلة فأخرجوه عنّي! فأخرجوه على تلك الحال، و جعل يشتمه و هو يجرّ و يقول: يا بن الفاعلة! أراها في رءوسكم و أنفسكم!.

صوت

إنّي أرقت و لم يأرق معي صاح *** لمستكفّ بعيد النّوم لوّاح

ص: 45


1- في «الأصول»: «بأجهد» و التصويب من «الديوان». أي بأعظم و لا أحسن مرآة منه؛ يقال جهرت فلانا و اجتهرته إذا رأيته عظيما حسن المرآة في عينك.
2- النبع: ضرب من الشجر و هو من أجوده.
3- هذه رواية «الديوان». و في «الأصول»: «يعصمون بها». و يعصبون بها: يطيفون بها و يلزمونها.
4- استقل الشيء: حمله. يريد أن خصومهم لا يستطيعون أن ينهضوا بحربهم. و يبين: يتضح و يظهر.
5- شمس: جمع شموس، و هو من الرجال العسر في عداوته الشديد الخلاف على من عانده. و الأصل في هذا الجمع أن يكون مضموم العين، و يجوز فيه التسكين كما ورد في البيت هنا.
6- كذا في «الأصول». و الذي في كتب اللغة أنه يقال: خفرت فلانا و خفرت به إذا أجرته و أمنته، و أخفرته إذا غدرته، و يقال خفرت ذمته إذا لم يوف بها.

دان مسفّ فويق الأرض هيدبه *** يكاد يدفعه من قام بالرّاح

عروضه من البسيط. الشعر لأوس بن حجر - و هكذا رواه الأصمعيّ، أخبرنا بذلك اليزيديّ عن الرّياشيّ عنه، و وافقه بعض الكوفيين، و غير هؤلاء يرويه لعبيد بن الأبرص - و الغناء لإبراهيم الموصليّ ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و لحسين بن محرز لحن في البيت الثاني و بعده:

إن أشرب الخمر أو أغلى بها ثمنا *** فلا محالة يوما أنني صاح

و طريقته خفيف رمل بالوسطى.

/قوله: مستكفّ: يعني مستديرا؛ و كلّ طرّة كفّة. أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الريّاشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال سمعت أبا مهديّ يقول و هو يصف شجاعا(1) عرض له في طريقه: تبعني شجاع من هذه الشّجعان، فمرّ خلفي/كأنه سهم زالج، فحدت عنه، و استكفّ كأنه كفّة حابل، فرميته فنظرت ثلاثة أثنائه(2)و كذلك يقال كفّة الحابل و كفّة الميزان بالكسر، و الأولى مضمومة(3). و لوّاح: من قولهم لاح يلوح إذا ظهر.

و مسفّ: قد أسفّ على وجه الأرض إذا صار عليها أو قرب منها أو دنا إليها؛ و من هذا يقال: أسفّ الطائر إذا طار على وجه الأرض؛ و يقال ذلك للسهم أيضا. و هيدبه: الذي تراه كالمتعلّق بالسحاب. يقول: هذا السحاب يكاد من مقام أن يمسّه و يدفعه براحته لقربه من الأرض؛ و هو أحسن ما وصف به السحاب.

ص: 46


1- الشجاع (بضم الشين و كسرها، و جمعه شجعان بضم الشين و كسرها): الحية الذكر، أو الحية مطلقا، أو هو ضرب من الحيات.
2- أثناء الحية: مطاويها إذا تحوّت و تثنت، واحدها ثني (بالكسر). و يقال أيضا مثاني الحية، جمع مثناة (بفتح الميم و كسرها).
3- لأهل اللغة في ضبط كلمة «كفة» في معانيها المختلفة آراء كثيرة مبسوطة في كتاب «لسان العرب». و غيره.

5 - ذكر أوس بن حجر و شيء من أخباره

نسب أوس بن حجر:

و قد اختلف في نسبه، فقال الأصمعي، فيما أخبرنا به محمد بن العبّاس اليزيديّ عن الرياشي عنه، هو أوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن نمير. و قال ابن حبيب، فيما ذكره السكّريّ عنه،: هو أوس بن حجر من شعراء الجاهليّة و فحولها.

و ذكر أبو عبيدة أنه من الطبقة الثالثة، و قرنه بالحطيئة نابغة بني جعدة.

في الشعر:

فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال أبو عبيدة حدّثنا يونس عن(1) أبي عمرو قال:

كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة و زهير، فهو شاعر تميم في الجاهليّة غير مدافع.

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا الأصمعيّ قال سمعت أبا عمرو يقول: كان أوس بن حجر فحل الشعراء؛ فلما نشأ النابغة طأطأ منه. و أمّا الكلبيّ فإنه زعم أنّ من هذه الطبقة لبيد بن ربيعة و الشّمّاخ بن ضرار. قال:

و تميم إلى الآن مقيمة على تقديم أوس. قال: و منهم من يقول بتقديم عديّ؛ و أنشد لحارثة بن بدر الغدانيّ:

و الشّعر كان مبيته و مظلّه *** عند العباديّ الذي لا يجهل

و قال يعقوب بن سليمان قال حمّاد: أدركت رجالا من بني تميم لا يفضّلون على عديّ في الشعر أحدا.

أخبرني اليزيديّ عن الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال: تميم تروى هذه القصيدة الحائيّة لعبيد، و ذلك غلط؛ و من الناس من يخلطها بقصيدته التي على وزنها و رويّها لتشابههما.

غنت فتاة أعرابية بشعر له في السحاب:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السّكّريّ قال حدّثنا عليّ بن الصبّاح قال حدّثني عبيد اللّه بن الحسين بن المسوّد بن وردان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال:

خرج أعرابيّ مكفوف و معه ابنة عمّ له لرعي غنم لهما. فقال الشيخ: أجد ريح النّسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري. فقالت: أراها كأنها ربرب معزى هزلي. قال: ارعي و احذري. ثم قال لها بعد ساعة: إني أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري. فقال: أراها كأنها بغال دهم تجرّ جلالها. قال: ارعي و احذري. ثم مكث ساعة ثم قال: إني لأجد ريح النسيم قد دنا، فانظري. قالت: أراها كأنها بطن حمار أصحر. فقال: ارعي و احذري. ثم

ص: 47


1- في «الأصول»: «حدّثنا يونس بن أبي عمرو...» و هو تحريف.

مكث ساعة فقال: إني لأجد ريح النسيم، فما ترين؟ قالت: أراها كما قال الشاعر:

دان مسفّ فويق الأرض هيدبه *** يكاد يدفعه من قام بالراح

/كأنما بين أعلاه و أسفله *** ريط منشّرة أو ضوء مصباح

فمن بمحفله كمن بنجوته *** و المستكنّ كمن يمشي بقرواح

فقال: انجي لا أبا لك! فما انقضى كلامه حتى هطلت السماء عليهما.

البيت الثاني من هذه الأبيات ليس من رواية ابن حبيب و لا الأصمعيّ.

معنى قول الجارية «كأنها بطن حمار أصحر»: تعني أنه أبيض فيه حمرة. و الصحرة لون كذلك. و قوله: «فمن بمحفله كمن بنجوته»: يعني من هو بحيث احتفل السيل - و احتفال كل شيء معظمه - كمن في نجوته. و قد روي «بمحفشه»، و هما واحد، و معناهما مجرى معظم السيل. يقول: فمن هو في هذا الموضع منه كمن بنجوته (أي ناحية عنه) سواء لكثرة المطر. و القرواح: الفضاء؛ /يقال قرواح و قرياح. و يقال في معنى المحفش: حفشت الأودية إذا سالت، و تحفّشت المرأة على ولدها إذا قامت عليه.

كان يسير ليلا فصرعته ناقته، فأكرمه فضالة بن كلدة، فمدحه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني عليّ بن أبي عامر السّهميّ المصريّ قال حدّثني أبو يوسف الأصبهانيّ قال حدّثني أبو محمد الباهليّ عن الأصمعيّ، و ذكر هذا الخبر أيضا التّوّزيّ عن أبي عبيدة، فجمعت روايتيهما، قالا:

كان أوس بن حجر غزلا مغرما بالنساء؛ فخرج في سفر، حتى إذا كان بأرض بني أسد بين شرج و ناظرة(1)، فبينا هو يسير ظلاما إذ جالت به ناقته فصرعته فاندقّت فخذاه فبات مكانه؛ حتى إذا أصبح غدا جواري الحيّ يجتنين الكمأة و غيرها من نبات الأرض و الناس في ربيع. فبينا هنّ كذلك إذ بصرن بناقته تجول و قد علق زمامها في شجرة و أبصرنه ملقى، ففزعن فهربن. فدعا بجارية منهن فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا حليمة بنت فضالة بن كلدة، و كانت أصغرهن؛ فأعطاها حجرا و قال لها: اذهبي إلى أبيك فقولي له: ابن هذا يقرئك السلام. فأخبرته فقال: يا بنيّة، لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل. ثم احتمل هو و أهله حتى بنى عليه بيته حيث صرع و قال: و اللّه لا أتحوّل أبدا حتى تبرأ؛ و كانت حليمة تقوم عليه حتى استقلّ. فقال أوس بن حجر في ذلك:

جدلت(2) على ليلة ساهره *** بصحراء شرج إلى ناظره

تزاد لياليّ في طولها *** فليست بطلق و لا ساكره(3)

أنوء برجل بها ذهنها(4) *** و أعيت بها أختها الغابرة

ص: 48


1- شرج و ناظره: موضعان.
2- الجدل: الصرع؛ يقال: جدله و جدّله تجديلا فانجدل و تجدّل. و في «الأصول» و «الديوان»: «خذلت» و ظاهر أنه تصحيف.
3- ليلة طلق و طلقة: طيبة لا خرّ فيها و لا برد و لا مطر و لا قر؛ و يقال: يوم طلق. و ليلة ساكرة: ساكنة الريح؛ يقال: سكرت الريح تسكر (على وزان قعد) سكورا و سكرانا إذا سكنت بعد الهبوب.
4- كذا في «اللسان» (في مادة ذهن). و الذهن: القوّة. و الغابرة: الباقية. و في «الأصول» و «الديوان»:... دهيها... العاثرة.

/و قال في حليمة:

لعمرك ما ملّت ثواء ثويّها(1) *** حليمة إذ ألقى مراسي مقعد(2)

و لكن تلقت باليدين ضمانتي(3) *** و حلّ بشرج م القبائل(4) عوّدي

و لم تلهها(5) تلك التكاليف إنّها *** كما شئت من أكرومة و تخرّد(6)

سأجزيك أو يجزيك(7) عنّي مثوّب *** و قصرك(8) أن يثنى عليك و تحمدي

رثى فضالة بن كلدة حين مات:
اشارة

قالا: ثم مات فضالة بن كلدة، و كان يكنى أبا دليجة، فقال فيه أوس بن حجر يرثيه.

يا عين لا بدّ من سكب و تهمال *** على فضالة جلّ الرّزء العالي

/و يروى «عينيّ». العالي: الأمر العظيم الغالب. و هي طويلة جدّا. و فيها مما يغنّى فيه:

صوت

أبا دليجة من توصي بأرملة *** أم من لأشعث(9) ذي طمرين ممحال

أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ *** أمسوا من الأمر في لبس و بلبال

لا زال مسك و ريحان له أرج *** على صداك(10) بصافي اللّون سلسال

/غنّى فيه دحمان خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و ذكر حبش أنّ فيه لابن عائشة رملا بالوسطى عن عمرو. و ذكر حبش أنّ فيه لابن عائشة رملا بالبنصر، و لداود بن العباس ثاني ثقيل، و لابن جامع خفيف ثقيل.

و من فاضل مراثيه إياه و نادرها قوله:

أيّتها النفس أجملي جزعا *** إنّ الذي تكرهين قد وقعا

إنّ الذي جمّع السماحة و ال *** نّجدة و الحزم و القوى جمعا

ص: 49


1- الثواء: الإقامة. و الثوى هنا: الضيف.
2- المقعد: الذي به داء يقعده. و في بعض «الأصول» و «الديوان»: «مقعدي» بياء في آخره.
3- الضمانة: الداء في الجسد من كبر أو بلاء أو غير ذلك. و مثل الضمانة الضمان و الضمن (بالتحريك) و الضمنة (بالتحريك) و الضمنة (بالضم)؛ يقال: رجل ضمن (بالتحريك) لا يثنى و لا يجمع لأنه وصف بالمصدر، و رجل ضمن (بكسر عينه) و ضمين؛ و هذان الوصفان يثنيان و يجمعان؛ و جمع الأوّل: ضمنون، و الثاني: ضمني.
4- أي من القبائل. و في «الأصول»: «فالقبائل» و التصويب من «الديوان».
5- يقال: لهى عن الشيء يلهى (و زان فرح) إذا كف عنه و تركه. يريد: لم يجعلها تتركه ما تلاقيه في القيام عليه من تكاليف.
6- التخرد: الحياء و الخفر؛ يقال: خردت الفتاة خردا (من باب فرح) و تخرّدت.
7- المثوب هنا: الذي يعطي المحسن ثواب ما عمل؛ يقال: أثابه اللّه و أثوبه و ثوّبه.
8- قصرك: غايتك و كفايتك؛ و مثله قصارك و قصاراك (بضم القاف فيهما).
9- رجل أشعث: مغبر الرأس متلبد الشعر أو منتشره لقلة تعهده بالدهن و الاستحداد. و الطمر: الثوب الخلق. و ممحال: مجدب. يريد أنّه فقير.
10- الصدى هنا: جثة الميت في قبره. و بصافي اللون أي مع صافي اللون، يريد الماء. و الدعاء للقبور بالسقيا معروف عند العرب.

المخلف المتلف(1) المرزّأ لم *** يمتع بضعف و لم يمت طبعا

أودى و هل تنفع الإشاحة(2) من *** شيء لمن قد يحاول البدعا

و هي قصيدة أيضا يمدحه بها في حياته و يرثيه بعد وفاته. و له فيه قصائد غير هذه.

صوت

رأيت زهيرا كلكل خالد *** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر

فشلّت يميني يوم أضرب خالدا *** و يمنعه مني الحديد المظاهر

عروضه من الطويل. الشعر لورقاء بن زهير. و الغناء لكردم، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق، و ذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد، و ذكر إسحاق أنه ينسبه إلى معبد من لا يعلم، و روى عن أبى سياط عن يونس أنه أخذه من كردم و أعلمه أن الصنعة فيه له.

ص: 50


1- المخلف المتلف: يريد أنه يتلف ماله كرما، و يخلفه نجدة؛ كما قال آخر: فأتلف ذاك متلاف كسوب و المرزأ: الذي تناله الرزيات في ماله لما يعطي و يسأل. و الإمتاع: الإقامة. يقول: لم يقم و هو ضعيف. و الطبع: الدنس. و أصل الطبع (بالتحريك): الوسخ و الصدأ يغشيان السيف و غيره. و قد استعير لما يغشي النفس من الخلال الذميمة.
2- أودى هلك. و الإشاحة: الحذر. يقول: هل ينفع الحذر و الخوف شيئا لمن يحاول دفع الموت. و عبر عن محاولة دفع الموت بمحاولة البدع، إذ محاولة دفع الموت بدعة. و في «الأصول»: «لمن قد يحاول النزعا». و التصويب من «لسان العرب» (مادة شيح) و «الكامل» للمبرد (ص 730 طبعة أوربا).

6 - خبر ورقاء بن زهير و نسبه و قصة شعره هذا:

اشارة

هو ورقاء بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة من مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس(1) بن بغيض بن ريث بن غطفان، يقوله لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة(2)، أباه زهير بن جذيمة. و كان السبب في ذلك - فيما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر قالا حدّثنا عمر بن شبّة، و نسخت بعض هذا الخبر عن الأثرم و رواية ابن الكلبيّ، و أضفت بعض الروايات إلى بعض إلاّ ما أفردته و جلبته عن راويه. قال أبو عبيدة حدّثني عبد الحميد بن عبد الواحد بن عاصم بن عبد اللّه بن رافع بن مالك بن عبد بن جلهمة بن حدّاق بن يربوع بن سعد بن تغلب بن سعد بن عوف بن جلاّن بن غنم بن أعصر، قال حدّثني أبي عبد الواحد و عمّي صفوان ابنا عاصم عن أبيهما عاصم بن عبد اللّه عمن أدرك شأس بن زهير. قال: كان مولد عاصم قبل مبعث النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، و كان عاصم جاهليّا. قال: و قال عبد الحميد حدّثني سيّار بن عمرو أحد بني عبيد بن سعد بن عوف بن جلاّن بن غنم - /قال أبو عبيدة: و كان أعلم غنيّ(3) - عن شيوخهم -:

مقتل شأس بن زهير أخيه و البحث عن قاتله ثم محاولة الثأر منه:

أن شأس بن زهير بن جذيمة أقبل من عند ملك - قال أبو عبيدة: أراه النعمان - و كان بينه و بين زهير صهر - قال أبو عبيدة: ثم حدّثني مرّة أخرى قال: كانت ابنة زهير عنده - فأقبل شأس بن زهير من عنده و قد حباه أفضل/الحبوة مسكا و كسا و قطفا و طنافس، فأناخ ناقته في يوم شمال و قرّ على ردهة(4) في جبل و رياح بن الأسكّ(5) أحد بني رباع بن عبيد بن سعد بن عوف بن جلاّن على الرّدهة ليس غير بيته بالجبل؛ فأنشأ شأس يغتسل بين الناقة و البيت؛ فاستدبره رياح فأهوى له بسهم فبتر به صلبه. قال أبو عبيدة و حدّثني رجل يخيّل إليّ أنه أبو يحيى الغنويّ قال: ورد شأس و قد حباه الملك بحبوة فيها قطيفة حمراء ذات هدب و طيب، فورد منعجا(6) و عليه خباء ملقى لرياح بن الأسكّ فيه أهله في الظّهيرة؛ فألقى ثيابه بفنائه ثم قعد يهريق عليه الماء، و المرأة قريبة منه (يعني امرأة رياح) فإذا هو مثل الثور الأبيض. فقال رياح لامرأته: أنطيني(7) قوسي؛ فمدّت إليه قوسه و سهما، و انتزعت المرأة نصله لئلا يقتله؛ فأهوى عجلان إليه فوضع السهم في مستدقّ الصّلب بين فقارتين ففصلهما، و خرّ ساقطا؛ و حفر له حفرا فهدمه عليه، و نحر جمله و أكله. قال: و قال عبد الحميد: أكل ركوبته و أولج متاعه بيته. و قال

ص: 51


1- كذا في كتاب «المعارف» لابن قتيبة و «القاموس». و في «الأصول»: «قطيعة بن قيس».
2- في «الأصول»: «حفصة» و هو تحريف.
3- كذا في ج. و في «سائر الأصول»: «و كان بلغني عن شيوخهم» و هو تحريف.
4- الردهة (بالفتح): النقرة في الجبل أو في الصخر يستنقع فيها الماء.
5- في كتاب «الكامل» لابن الأثير (ج 1 ص 411): «رياح بن الأشل».
6- منعج (بفتح فسكون فكسر): موضع.
7- في «أ، م»: «اعطيني». و أنطيني لغة في اعطيني.

عبد الحميد: و فقد شأس و قصّ أثره و نشد، و ركبوا إلى الملك فسألوه عن حاله. فقال لهم الملك: حبوته و سرّحته.

فقالوا: و ما متّعته به؟ قال: مسك و كسا و نطوع و قطف. فأقبلوا يقصّون أثره فلم تتّضح لهم سبيله. فمكثوا كذلك ما شاء اللّه، لا أدري كم، حتى رأوا امرأة رياح باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من حباء الملك، فعرفت و تيقّنوا أن رياحا ثأرهم. قال أبو عبيدة: و زعم الآخر قال: نشد(1) زهير بن جذيمة الناس، فانقطع ذكره على منعج وسط غنيّ، ثم أصابت الناس جائحة و جوع، فنحر زهير ناقة(2)، فأعطى امرأة شطّيها(3)/فقال: اشترى لي الهدب و الطّيب. فخرجت بذلك الشحم و السّنام تبيعه حتى دفعت(4) إلى امرأة رياح، فقالت: إنّ معي شحما أبيعه في الهدب و الطّيب؛ فاشترت المرأة منها. فأتت المرأة زهيرا بذلك، فعرف الهدب. فأتى زهير غنيّا، فقالوا: نعم! قتله رياح بن الأسكّ، و نحن برءاء منه. و قد لحق بخاله من بني الطمّاح و بني أسد بن خزيمة. فكان يكون اللّيل عنده و يظهر في أبان(5) إذا أحسّ الصبح، يرمي الأروى(6)؛ إلى أن أصبح ذات يوم و هو عنده و عبس تريغه(7). فركب خاله جملا و جعله على كفل(8) وراءه. فبينا هو كذلك إذا دنت، فقالوا(9): هذه خيل عبس تطلبك. فطمر(10) في قاع شجر فحفر في أصل سوقه. و لقيت الخيل خاله فقالوا: هل كان معك أحد؟ قال لا. فقالوا: ما هذا المركب وراءك؟ لتخبرنّا أو لنقتلنّك! قال: لا كذب، هو رياح في ذلك القاع. فلما دنوا منه قال الحصينان: يا بني عبس دعونا و ثأرنا، فخنسوا(11) عنهما. فأخذ رياح نعلين من سبت(12) فصيّرهما على صدره حيال كبده، و نادى: هذا غزالكما الذي تبغيان. فحمل عليه أحدهما فطعنه، فأزالت النعل الرمح إلى حيث شاكلته، و رماه رياح مولّيا فجذم(13) صلبه. قال: ثم جاء الآخر فطعنه فلم يغن شيئا، و رماه مولّيا فصرعه. فقالت عبس: أين تذهبون إلى هذا! و اللّه/ليقتلنّ منكم عدد مراميه، و قد جرحاه فسيموت. قال: و أخذ رياح رمحيهما و سلبيهما و خرج حتى سند إلى أبان. فأتته عجوز و هو يستدمي(14) على الحوض ليشرب منه/و قالت: استأسر تحي، فقال: جنّبيني(15) حتى أشرب. قال: فأبت و لم تنته. فلما غلبته أخذ مشقّصا(16) و كنّع(17) به كرسوعي يديها. قال فقال عبد الحميد: فلما

ص: 52


1- يريد: سأل الناس.
2- كذا في «ح». و في «سائر الأصول»: «ناقته».
3- شطيها: جانبي سنامها.
4- دفعت: انتهت.
5- أبان: جبل.
6- الأروى: اسم جمع للأروية و هي أنثى الوعول.
7- تريغه: تطلبه.
8- الكفل (بالكسر): شيء مستدير يتخذ من الخرق و نحوها و يوضع على سنام البعير.
9- كذا في «الأصول». و لعل صوابه: «إذ دنت الخيل فقال هذه... إلخ».
10- طمر: معناها هنا استخفى.
11- خنسوا: تأخروا و تنحوا.
12- السبت: (بالكسر): الجلد المدبوغ.
13- جذمه: قطعه بسرعة.
14- يستدمي: يطأطئ رأسه يقطر منه الدم.
15- جنبيني: ابعدي عني؛ يقال: جنبه تجنيبا و تجنبه و جانبه و تجانبه و اجتنبه إذا بعد عنه. و في «الأصول»: «اجنبيني» بزيادة الألف، و هو تحريف. و يقال: جنبه الشيء يجنبه (من باب نصر)، و جنّبه إياه تجنيبا، و أجنبه إياه، إذا نحاه عنه.
16- المشقص: نصل عريض أو هو سهم فيه ذلك النصل.
17- كتع (بالتضعيف): قطع. و في بعض «الأصول»: «كنع» بالتاء، و هو تصحيف.

استبان لزهير بن جذيمة أنّ رياحا ثأره قال يرثي شأسا:

رثاء زهير بن جذيمة لابنه شأس:

بكيت لشأس حين خبّرت أنّه *** بماء غنيّ آخر اللّيل يسلب

لقد كان مأتاه الرّداه لحتفه *** و ما كان لو لا غرّة اللّيل يغلب

فتيل غنيّ ليس شكل كشكله *** كذاك لعمري الحين للمرء يجلب

سأبكي عليه إن بكيت بعبرة *** و حقّ لشأس عبرة حين تسكب

و حزن عليه ما حييت و عولة *** على مثل ضوء البدر أو هو أعجب

إذا سيم(1) ضيما كان للضيم منكرا *** و كان لدي الهيجاء يخشى و يرهب

و إن صوّت الداعي إلى الخير مرّة *** أجاب لما يدعو له حين يكرب(2)

ففرّج عنه ثم كان وليّه *** فقلبي عليه لو بدا القلب ملهب

و قال زهير بن جذيمة حين قتل شأس: شأس و ما شأس! و البأس و ما البأس! لو لا مقتل شأس، لم يكن بيننا بأس.

قال: ثم انصرف إلى قومه، فكان لا يقدر على غنويّ إلاّ قتله.

قال عبد الحميد: فغزت بنو عبس غنيّا قبل أن يطلبوا قودا أو دية مع أخي شأس الحصين بن زهير بن جذيمة و الحصين بن أسيد بن جذيمة ابن أخي زهير. فقيل/ذلك لغنيّ؛ فقالت لرياح: انج، لعلنا نصالح على شيء أو نرضيهم بدية و فداء. فخرج رياح رديفا لرجل من بين كلاب - و زعم أبو حيّة النّميريّ أنه من بني جعد(3) - و كان معهما صحيفة فيها آراب(4) لحم، لا يريان إلاّ أنهما قد خالفا وجهة القوم، فأوجفا أيديهما في الصّحيفة فأخذ كل و اخذ منهما و ذرة(5) ليأكلها، مترادفين لا يقدران على النزول. قال: فمرّ فوق رءوسهما صرد(6) فصرصر، فألقيا اللحم و أمسكا بأيديهما و قالا: ما هذا! ثم عادا إلى مثل ذلك فأخذ كل واحد منهما عظما، و مرّ الصّرد فوق رءوسهما فصرصر؛ فألقيا العظمين و أمسكا بأيديهما و قالا: ما هذا! ثم عادا الثالثة فأخذ كل واحد منهما قطعة، فمرّ الصّرد فوق رءوسهما فصرصر، فألقيا القطعتين(7)؛ حتى فعلا ذلك ثلاث مرات، فإذا هما بالقوم أدنى ظلم (و أدنى ظلم(8) أي أدنى شيء) و قد كانا يظنّان أنهما قد خالفا وجهة القوم. فقال صاحبه لرياح: اذهب فإني آتي القوم أشاغلهم عنك و أحدّثهم حتى تعجزهم ثم ماض إن تركوني. فانحدر رياح عن عجز الجمل فأخذ

ص: 53


1- سامه الأمر: كلفه إياه، و أكثر ما يستعمل في العذاب و الشر و الظلم.
2- يكرب: يصيبه الكرب و هو الحزن و الغم الذي يأخذ بالنفس.
3- لم نجد المظان «بني جعد». فلعله «من بني جعدة».
4- آراب لحم: قطع لحم. و في «الأصول»: «أداب لحم» و هو تحريف.
5- كذا في «ج». و الوذرة (بالفتح و يحرك): القطعة الصغيرة من اللحم لا عظم فيها، و قيل: هي ما قطع من اللحم مجتمعا عرضها بغير طول. و في «سائر الأصول»: «و ضرة» و هو تحريف.
6- الصرد. طائر أبقع ضخم الرأس يكون في الشجر، نصفه أبيض و نصفه أسود، و هو من سباع الطير، ضخم المنقار عظيم البرثن، كانت العرب تتطير من صوته.
7- كذا في «ح». و في «سائر الأصول»: «العظمين».
8- في «الأصول»: «و أدنى ظلام» و ظاهر أنه تحريف؛ إذ هو ما قبله، و كرره المؤلف ليفسره.

أدراجه(1) و عدا أثر الراحلة حتى أتى ضفّة(2) فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب فولج فيه، ثم أخذ نعليه فجعل إحداهما على سرّته و الأخرى على صفنه(3) ثم شدّ عليهما العمامة، و مضى صاحبه حتى لقي القوم، فسألوه فحدّثهم و قال: هذه غنيّ كاملة و قد دنوت منهم، فصدّقوه و خلّوا سربه(4). فلما ولّى رأوا مركب الرجل خلفه، /فقالوا: من الذي كان خلفك/فقال: لا مكذبة! ذلك رياح في الأول من السّمرات. فقال الحصينان لمن معهما: قفوا علينا حتى نعلم علمه فقد أمكننا اللّه من ثأرنا، و لم يريدا أن يشركهما فيه أحد، فمضيا و وقف القوم عنهما. قالوا قال رياح: فإذا هما ينقلان فرسيهما، فما زالا يريغاني، فابتدراني فرميت الأوّل فبترت صلبه، و طعنني الآخر قبل أن أرميه و أراد السّرّة فأصاب الرّبلة(5)، و مرّ الفرس يهوي به، فاستدبرته بسهم فرشقت به صلبه فانفقر منحنى الأوصال، و قد بترت صلبيهما. قال أبو عبيدة قال أبو حيّة: بل قال رياح: استدبرته بسهم و قد خرجت قدمه فقطعتها، فكأنما نشرت بمنشار. قال عبد الحميد: و ندّ فرساهما فلحقا(6) بالقوم. قال رياح: فأخذت رمحيهما فخرجت بهما حتى أتيت رملة فسندت فغرزت الرمحين فيها ثم انحدرت. قال: و طلبه القوم، حتى إذا رفع لهم الرمحان لم يقربوهما علم اللّه حتى وجدوا أثر رياح خارجا قد فات. و انطلق رياح خارجا حتى ورد ردهة عليها بيت أنمار بن بغيض و فيه امرأة و لها ابنان قريبان منها و جمل لها راتع في الجبل، و قد مات رياح عطشا. فلمّا رأته يستدمي طمعت فيه و رجت أن يأتيها ابناها، فقالت له: استأسر. فقال لها: دعيني ويحك أشرب، فأبت. فأخذ حديدة إمّا سكّينا و إمّا مشقصا فجذم به رواهشها(7) فماتت، و عبّ في الماء حتى نهل(8) ثم توجّه إلى قومه. فقال رياح فيها و في الحصينين:

قالت لي استأسر لتكتفني *** حينا و يعلو قولها قولي

و لأنت أجرأ من أسامة(9) أو *** منّي غداة وقفت للخيل

/إذ الحصين لدى الحصين كما *** عدل الرّجازة جانب الميل

قال الأثرم: الرّجازة شيء يكون مع المرأة في هودجها، فإذا مال أحد الجانبين وضعته في الناحية الأخرى ليعتدل. قال أبو عبيدة: يعني حصين بن زهير بن جذيمة، و حصين بن أسيد بن جذيمة و هو ابن عمه.

قال أبو عبيدة قال عبد الحميد: و اللّه لقد سمعت هذا الحديث على ما حدثتك به منذ ستين سنة قال عبد الحميد: و ما سمعت أنّ بني عبس أدركوا بواحد منهم و لا اقتادوا و لا أنذروا، و لا سمعت فيه من الشعر لنا و لا لغيرنا في الجاهليّة بأكثر مما أنشدتك. و إلى هذا انتهى حديثنا و حديثه، و لا و اللّه ما قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة في حربنا، غير أنّ الكميت بن زيد الأسديّ، و كانت له أمّان من غنيّ، ذكر من مقتل

ص: 54


1- الأدراج: الطرق.
2- الضفة: جانب النهر و الوادي.
3- الصفن (بالتحريك و بالفتح): وعاء الخصبة.
4- السرب (بالفتح و هو الأرجح، و قال أبو عمرو بالكسر): الطريق.
5- الربلة (بالفتح و بالتحريك و هو الأفصح): باطن الفخذ.
6- في «الأصول»: «فلحقنا».
7- الرواهش: العصب الذي في ظاهر الذراع، و قيل: هي عصب و عروق في باطن الذراع، واحدها راهشة و راهش.
8- نهل هنا: روى.
9- أسامة: اسم علم للأسد.

أخواله(1) من غنيّ في بني عبس و من قتلوا من بني نمير بن عامر في كلمة له واحدة؛ فلعلّه لهذا الحديث قالها و ذكر إدراكاتهم و ذكر قتل شبيب بن سالم النّميريّ، فقال في ذلك:

أنا ابن غنيّ والداي كلاهما *** لأمّين فيهم في الفروع و في الأصل

هم استودعوا هوى شبيب بن سالم(2) *** و هم عدلوا بين الحصينين بالنّبل

و هم قتلوا شأس الملوك و رغّموا *** أباه زهيرا بالمذلّة و الثّكل

فما أدركت فيهم جذيمة وترها *** بما قود يوما لديها و لا عقل

/قال أبو عبيدة: فذكر عبد الحميد أنه أتى عليهم هنيئة من الدهر لا أدرى كم وقت ذلك بعد انصرام أمر شأس. قال: فما زادوا على هذا فهو باطل. قال الأثرم: هنيئة من الدهر و هنيهة و برهة و حقبة بمعنى الدهر.

ص: 55


1- في «ب، س»: «ذكر من قتل من أخواله....».
2- كذا ورد هذا الشطر في «الأصول». و لم نهتد فيه إلى وجه نطمئن إليه.

7 - مقتل زهير بن جذيمة العبسيّ

قتله خالد بن جعفر و تعظيم هوازن له:

قتله خالد بن جعفر بن كلاب. قال أبو عبيدة قال أبو حيّة النّميريّ: كان بين انصراف حديث شأس و حديث قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة ما بين العشرين سنة إلى الثلاثين سنة. قال أبو عبيدة: و هوازن بن منصور لا ترى زهير بن جذيمة إلاّ ربّا(1). قال: و هوازن يومئذ لا خير فيها؛ و لم تكثر(2) عامر بن صعصعة بعد، فهم أذلّ من يد في رحم(3)، و أنّما هم رعاء الشّاء في الجبال. قال: و كان زهير يعشرهم(4)، و كان إذا كان أيّام عكاظ أتاها زهير و يأتيها النّاس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم فيأتونه بالسّمن و الأقط و الغنم؛ و ذلك بعد ما خلع ذلك من أبي الجنّاد أخي بني أسيّد بن عمرو بن تميم. ثم إذا تفرّق الناس عن عكاظ نزل زهير بالنفرات(5).

حلف خالد بن جعفر أن يقتله و شعره في ذلك:

قال أبو عبيدة عن عبد الحميد و أبي حيّة النّميريّ قالا: فأتته عجوز رهيش(6) من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن - و قال أبو حيّة: بل أتته عجوز من هوازن - بسمن في نحي، و اعتذرت إليه و شكت السنين التي تتابعن على الناس. فذاقه فلم يرض طعمه، فدعّها(7) بقوس في يده عطل(8) في صدرها، فاستلقت لحلاوة(9)القفا فبدت/عورتها؛ فغضب من ذلك هوازن و حقدت(10) عليه إلى ما كان في صدرها من الغيظ و الدّمن(11)و أوحرها(12) من الحسك(13). قال: و قد أمرت(14) عامر بن صعصعة يومئذ؛ فآلى خالد بن جعفر فقال: و اللّه لأجعلنّ ذراعي وراء عنقه حتى أقتل أو يقتل. قال: و في ذلك يقول خالد بن جعفر بن كلاب:

ص: 56


1- الرب هنا: الملك و السيد.
2- في «الأصول»: «و لم يلبث عامر بن صعصعة يعد فيهم أذل... إلخ». و التصويب من «خزانة الأدب» (ج 4 ص 377) و «أمالي السيد المرتضى» (ج 1 ص 152).
3- هذا مثل يضرب في الضعف و الهوان.
4- يعشرهم: يأخذ عشر أموالهم. و في «الأصول»: «يعزهم» و التصويب من «خزانة الأدب».
5- في «ح» «النقرات». و ظاهر أنه هنا اسم مكان، و لم نجده في مظانة.
6- عجوز رهيش: ضعيفة أو مهزولة.
7- دعها: دفعها بعنف.
8- قوس عطل: لا وتر عليها.
9- حلاوة القفا (بفتح الحاء و ضمها): وسطه.
10- في «الأصول»: «و أصمدت عليه».
11- الدمن هنا: الأحقاد.
12- أوحرها: جعلها توحر أي تغضب و تحقد.
13- كذا في «ج». و الحسك هنا: العداوة و الحقد. و في «سائر الأصول»: «من الحسد».
14- أمرت: كثرت. و في «الأصول»: «و تذامرت...». و التصويب من «أمالي السيد المرتضى».

أديروني إدارتكم(1) فإنّي *** و حذفة كالشّجى تحت الوريد

مقرّبة أسوّيها بجزء(2) *** و ألحفها ردائي في الجليد

و أوصي الرّاعيين ليؤثرها *** لها لبن الخليّة(3) و الصّعود

تراها في الغزاة و هنّ شعث *** كقلب(4) العاج في الرّسغ الجديد

يبيت رباطها بالليل كفّي *** على عود الحشيش و غير عود

لعل اللّه(5) يمكنني(6) عليها *** جهارا من زهير أو أسيد

فإمّا تثقفوني فاقتلوني *** فمن أثقف فليس إلى خلود

/و قيس في المعارك غادرته *** قناتي في فوارس كالأسود

و يربوع بن غيظ يوم ساق *** تركناهم كجارية و بيد(7)

تركت بها نساء بني عصيم *** أرامل ما تحنّ إلى(8) وليد

يلذن بحارث جزعا عليه *** يقلن لحارث لو لا تسود(9)

و منّي بالظّويلم قارعات *** تبيد المخزيات و لا تبيد

/و حكّت بركها(10) ببني جحاش *** و قد أجروا إليها من بعيد

تركت ابني جذيمة في مكرّ *** و نصرا قد تركت لها شهودي

وصف مقتله و ما كان قبله من حوادث:

قال أبو عبيدة و حدّثني أبو سرّار الغنويّ قال: كان زهير رجلا عدوسا(11)، فانتقل من قومه ببنيه و بني أخويه

ص: 57


1- في كتاب «نسب الخيل» و «أمالي السيد المرتضى» و «خزانة الأدب»: «أريغوني أراغنكم». و الإراغة: الطلب. يقول: افعلوا ما شئتم فإني و فرسي غصة في حلوق الأعداء.
2- في «الأصول»: «بخز» و التصويب من كتاب «نسب الخيل». و جزء: اسم ابن له، و به كان يكنى.
3- الخلية: الناقة تنتج و هي غزيرة، فيجر ولدها من تحتها فيجعل تحت أخرى و تخلى هي للحلب. و لأهل اللغة في معنى الخلية أقوال أخرى غير هذا. و الصعود: الناقة التي تخدج (تسقط) ولدها لغير تمام، فتعطف على ولد عام أوّل أو ولد غيرها فتدرّ عليه.
4- القلب: السوار. و الجديد: صفة للقلب.
5- روى بجر اللّه؛ و استشهد بهذا البيت النحويون على أن «لعل» قد يجربها.
6- كذا في كتاب «نسب الخيال» و «أمالي السيد المرتضى» و «خزانة الأدب». و في «الأصول»: «يفردني». و لعله محرف عن «يقدرني» كما ورد في «خزانة الأدب» في رواية أخرى.
7- كذا في «الأصول». و لعل صوابها: «كجارية وئيد». و الجارية الوئيد: الفتاة التي تدفن حية، و يكون المعنى أنهم صيروا يربوع بن غيظ قتلى كالفتاة الوئيد. و قد ورد بعض أبيات من هذه القصيدة فيما يأتي (ص 94 من هذا الجزء) و في روايتها هناك اختلاف عن روايتها هنا.
8- الرواية فيما سيأتي «يشتكين» و هي الأنسب بالمقام، كما يفهم من سياق الكلام هناك.
9- في هذا البيت و الذي بعده إقواء.
10- البرك: الصدر. يريد: نزلت بهم.
11- عدوس: قوى على سير الليل.

زنباع و أسيد بركبة يريغ الغيث في عشراوات(1) له وشول. قال: و بنو عامر قريب منهم و لا يشعر بهم. قال عبد الحميد و أبو حيّة: بل بنو عامر بدمخ(2) و زهير بالنفرات و بينهم ليلتان أو ثلاث. قال فقال أبو سرّار: فأتى الحارث بني عامر، و اللّه ما تغيّر طعم اللّبن الذي زوّده(3) الحارث بن عمرو بن الشّريد السّلميّ/حتى أتى بني عامر فأخبرهم. قال أبو عبيدة أخبرني سليمان بن المزاحم المازنيّ عن أبيه قال: بل كانت بنو عامر بالجريثة(4) و زهير بالنفرات، و كانت تماضر بنت عمرو بن الشّريد بن رياح بن يقظة بن عصيّة بن خفاف السّلميّ امرأة زهير بن جذيمة و هي أمّ ولده. فمرّ بها أخوها الحارث بن عمرو. فقال زهير لبنيه: إنّ هذا الحمار لطليعة عليكم فأوثقوه. فقالت أخته لبنيها: أ يزوركم خالكم فتوثقوه و تحرموه! فخلّوه. فقالت تماضر لأخيها الحارث: إنه ليريبني [اكبئنانك و قروبك، فلا يأخذنّ فيك] ما قال زهير؛ فإنه رجل بيذارة غيذارة شنوءة(5). قال: ثم حلبوا له وطبا و أخذوا منه يمينا ألاّ يخبر عنهم و لا ينذر بهم أحدا. قال أبو عبيدة: و زعم أبو حيّة النّميريّ أنه لمّا أتوه بقراهم أراهم أنه يشربه في الظّلمة و جعل يهوي به إلى جيبه فيصبّه بين سرباله و صدره أسفا و غيظا. قال: و كان الذي حلب له الوطب و قراه الحارث بن زهير، و به سمّي. قال: فخرج يطير حتّى أتى عامرا عند ناديهم، فأتى حاذة(6) أو شجرة غيرها فألقى الوطب تحتها و القوم ينظرون، ثم قال: أيتها الشجرة الذليلة اشربي من هذا اللبن فانظري ما طعمه. فقال أهل المجلس: هذا رجل مأخوذ عليه [عهد] و هو يخبركم خبرا. فأتوه فإذا هو الحارث بن عمرو، و ذاقوا اللّبن فإذا هو حلو لم يقرص بعد، فقالوا: إنه ليخبرنا أنّ طلبنا قريب. فركب معه ستّة فوارس لينظروا ما الخبر، و هم خالد بن جعفر بن كلاب على حذفة، و حندج بن البكّاء، و معاوية بن عبادة بن عقيل فارس الهرّار و هو الأخيل جدّ ليلى الأخيلية - قال: و الأخيل هو معاوية، قال: و هو يومئذ غلام له ذؤابتان، و كان/أصغر من ركب - و ثلاثة فوارس من سائر بني عامر؛ فاقتصّوا أثر السير، حتى إذا رأوا إبل بني جذيمة نزلوا عن الخيل. فقالت النساء: إنا لنرى حرجة(7) من عضاه أو غابة رماح بمكان لم نكن نرى به شيئا، ثم راحت الرّعاء فأخبروا بمثل ما للنساء. قال:

و أخبرت راعية أسيد بن جذيمة أسيدا بمثل ذلك؛ فأتى أسيد أخاه زهيرا فأخبره بما أخبرته به الرّاعية و قال: إنما رأت خيل بني عامر و رماحها. فقال زهير: «كلّ أزبّ(8) نفور» - فذهبت مثلا؛ و كان أسيد كثير الشّعر خناسيا(9) - و أين بنو عامر! أمّا بنو كلاب فكالحيّة إن تركتها تركتك، و إن وطئتها عضّتك. و أمّا بنو كعب فإنهم يصيدون اللأي

ص: 58


1- العشراء من النوق: التي مضى لحملها عشرة أشهر ثم لا يزال يطلق عليها هذا الاسم إلى ما بعد الوضع، فهي بعد الوضع عشراء أيضا. قال ابن الأثير: قد اتسع في هذا حتى قيل لكل حامل عشراء. و الشول: جمع شائلة، على غير قياس، و هي الناقة التي أتى عليها من يوم نتاجها سبعة أشهر فخف لبنها و ارتفع ضرعها.
2- دمخ: جبل.
3- في «الأصول»: «زودت الحارث» بالتاء، و هو تحريف؛ إذ ليس في الكلام هنا ما يرجع إليه الضمير.
4- في «أ، م»: «بالحريثة». و لم نجد هذا الاسم في مظانه.
5- ورد بعض هذه الكلمات في «الأصول» محرفا تحريفا شنيعا. و التكملة و التصويب من «أمالي السيد المرتضى»، و الاكبئنان هنا: الغم. و القروب: السكوت. و قال الأثرم: «و البيذارة: الكثير الكلام. و العيذان: السيئ الخلق». و الشنوءة المبغض. (راجع «أمالي السيد المرتضى».).
6- الحاذة: واحدة الحاذ، و هو ضرب من الشجر.
7- الحرجة: الغيضة أي الشجر الكثير الملتف. و العضاه من الشجر: كل ما له شوك، و قيل هو أعظم الشجر.
8- الزبب: كثرة الشعر و طوله. و البعير الأزب، و هو الذي يكثر شعر حاجبيه، ينفر إذا ضربت الريح شعرات حاجبيه.
9- كذا في «الأصول»، و لم تجد لها معنى. فلعل «خناسيا» محرفة عن «جبان» أو ما يشبهها.

(يريد الثور الوحشيّ). و أمّا بنو نمير فإنهم يرعون إبلهم(1) في رءوس الجبال. و أمّا بنو هلال فيبيعون العطر. قال:

فتحمّل عامّة بني رواحة، و آلي زهير لا يبرح مكانه حتى يصبح. و تحمّل من كان معه غير ابنيه ورقاء و الحارث.

قال: و كان لزهير ربيئة(2) من الجنّ فحدّثه(3)/ببعض أمرهم حتى أصبح، و كانت له مظلّة دوج يربط فيها أفراسه لا تريمه(4) حذرا من الحوادث. قال: فلمّا أصبح صهلت فرس منها حين أحسّت بالخيل و هي القعساء. فقال زهير: ما لها؟! فقال ربيئته: أحسّت الخيل فصهلت إليهن. فلم تؤذنهم(5) بهم إلا و الخيل دوائس(6)/محاضير بالقوم غديّة. فقال زهير و ظنّ أنهم أهل اليمن: يا أسيد ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين تعمّي حديثهم منذ اللّيلة.

قال: و ركب أسيد فمضى ناجيا. قال: و وثب زهير و كان شيخا نبيلا(7) فتدثّر القعساء فرسه، و هو يومئذ شيخ قد بدن و هو يومئذ عقوق متّهم، و اعرورى(8) ورقاء و الحارث ابناه فرسيهما، ثم خالفوا جهة ما لهم ليعمّوا على بني عامر مكان ما لهم فلا يأخذوه. فهتف هاتف من بني عامر: يا ليحامر - يريد يحامر و هو شعار لأهل اليمن - لأن يعمّي على الجذميّين(9) من القوم. فقال زهير: هذه اليمن، قد علمت أنها أهل اليمن! و قال لابنه ورقاء: انظر يا ورقاء ما ترى؟ قال ورقاء: أرى فارسا على شقراء يجهدها و يكدّها بالسّوط قد ألحّ عليها (يعني خالدا). فقال زهير:

«شيئا(10) ما يريد السّوط إلى الشّقراء» فذهبت مثلا، و قال في المرة الثانية: «شيئا ما يطلب السّوط إلى الشقراء» و هي حذفة فرس خالد بن جعفر، و الفارس خالد بن جعفر. قال: و كانت الشقراء من خيل غنيّ. قال: و تمرّدت(11)القعساء بزهير؛ و جعل خالد يقول: لا نجوت إن نجا مجدّع (يعني زهيرا). فلمّا تمعّطت(12) القعساء بزهير و لم تتعلّق بها حذفة، قال خالد لمعاوية الأخيل بن عبادة و كان على الهرّار (حصان أعوج)(13): أدرك معاوي، فأدرك معاوية زهيرا، و جعل ابناه ورقاء و الحارث يوطّشان(14) عنه (أي عن أبيهما). قال فقال خالد: اطعن يا معاوية/في نساها، فطعن في إحدى رجليها فانخذلت القعساء بعض الانخذال و هي في ذلك تمعّط. فقال زهير: اطعن الأخرى، يكيده بذلك لكي تستوي رجلاها فتحامل(15). فناداه خالد: يا معاوية أفدّ طعنتك (أي اطعن مكانا واحدا)، فشعشع الرّمح في رجلها فانخذلت. قال: و لحقه خالد على حذقة فجعل يده وراء عنق زهير، فاستخفّ به

ص: 59


1- في «ح»: «يرعون إليهم».
2- ربيئة: طليعة يستطلع له الأشياء و يخبره بها.
3- في «الأصول»: «فحدثته».
4- لا تريمه: لا تبرحه.
5- تؤذنهم: تعلمهم.
6- يقال: أتتهم الخيل دوائس، أي يتبع بعضها بعضا. و المحاضير: جمع محضير أو محضار و هو الشديد الحضر (بالضم) أي العدو. و في «الأصول»: «دواس محاضر» و ظاهر أنه تحريف.
7- نبيلا هنا: جسيما. و تدثر فرسه: وثب عليها فركبها، و قيل: ركبها من خلفها.
8- اعرورى فلان فرسه: ركبه عريانا أي ليس عليه سرج.
9- نسبة إلى «جذيمة». و في «الأصول»: «الجذيميين».
10- «ما» زائدة. و هو يضرب لمن طلب حاجة و جعل يدنو من قضائها و الفراغ منها.
11- تمردت هنا: طغت و جاوزت الحد في عدوها.
12- التمعط هنا: ضرب من العدو. و في «لسان العرب»: «التمعط في حضر الفرس أن يمد ضبعيه حتى لا يجد مزيدا و يحبس رجليه حتى لا يجد مزيدا للحاق، و يكون ذلك منه في غير الاجتلاط (الغضب) يملخ بيديه و يضرح برجليه في اجتماعهما كالسابح».
13- في «الأصول»: «حصان عوج». و الأعوج من الخيل: ما اعوجت قوائمه، و يستحب ذلك فيها.
14- يوطشان: يدفعان.
15- أي فنتحامل، فحذفت التاء.

عن الفرس حتى قلبه، و خرّ خالد فوقع فوقه، و رفع المغفر عن رأس زهير و قال: يا لعامر اقتلونا معا! فعرفوا أنّهم بنو عامر. فقال ورقاء: وا انقطاع ظهراه! إنها لبنو عامر! سائر اليوم. و قال غيره: فقال بعض بني جذيمة: وا انقطاع ظهري!. قال: و لحق حندج بن البكّاء و قد حسر خالد المغفر عن رأس زهير فقال: نحّ رأسك يا أبا جزء، لم يحن(1) يومك. قال: فنحّى خالد رأسه و ضرب حندج رأس زهير، و ضرب ورقاء بن زهير رأس خالد بالسيف و عليه درعان، و كان أسجر(2) العينين، أزبّ أقمر، مثل الفالج، فلم يغن شيئا. قال: و أجهض(3) ابنا زهير القوم عن زهير فانتزعاه مرتثّا. فقال خالد حين استنقذ زهيرا ابناه. وا لهفتاه! قد كنت أظنّ أن هذا المخرج سيسعكم(4)! و لام حندجا. فقال حندج و كان لجلالته غصة(5) إذا تكلم. السيف حديد، و الساعد شديد، و قد ضربته و رجلاي متمكّنتان في الركابين و سمعت السيف قال قب حين وقع برأسه، و رأيت على ظبته مثل ثمر المرار، و ذقته فكان حلوا. /فقال خالد: قتلته بأبي أنت!. و نظر بنو زهير فإذا الضربة قد بلغت الدّماغ. و نهي بنو زهير أن يسقوا أباهم الماء، فاستسقاهم فمنعوه حتى نهك عطشا. قال: و ذلك أنّ المأموم(6)/يخاف عليه الماء، حتى بلغ(7) منه العطش، فجعل يهتف: أ ميّت أنا عطشا(8)، و ينادي: يا ورقاء - قال أبو حيّة: فجعل ينادي يا شأس - فلمّا رأوا ذلك سقوه فمات لثالثة، فقال ورقاء بن زهير:

شعر ورقاء بن زهير حين قتل والده:

رأيت زهيرا تحت كلكل خالد *** فأقبلت أسعى كالعجول(9) أبادر

إلى بطلين ينهضان كلاهما *** يريغان نصل السّيف و السيف نادر(10)

فشلّت يميني إذ ضربت ابن جعفر *** و أحرزه منّي الحديد المظاهر

قال أبو عبيدة: و سمعت أبا عمرو بن العلاء ينشد هذا البيت فيها:

و شلّت يميني يوم أضرب خالدا *** و شلّ بناناها و شلّ الخناصر

قال أبو عبيدة: و أنشدني أبو سرّار أيضا فيها:

فيا ليتني من قبل أيّام خالد *** و يوم زهير لم تلدني تماضر

تماضر بنت عمرو بن الشّريد بن رياح بن يقظة بن عصيّة بن خفاف السّلميّ امرأة زهير بن جذيمة. قال أبو عبيدة:

ص: 60


1- وردت هذه الكلمة محرفة في «الأصول» بين لم «يجز» و «لم يجز».
2- سجرة العين أن يخالط بياضها حمرة. و أزب: كثير الشعر. و القمرة: لون إلى الخضرة، أو هي بياض فيه كدرة. و الفالج هنا: الجمل الضخم ذو السنامين.
3- أي نحياهم عنه و غلباهم عليه. و المرتث: الذي يحمل من المعركة و به رمق.
4- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «سينفعكم».
5- كذا في أكثر الأصول. و في «ج»: «لجلالابه غصة...». و لعل صوابه: «و كان لجلاجا به غصة إذا تكلم». و اللجلاج: الذي يجول لسانه في شدقه فلا يبين كلامه.
6- المأموم: الذي أصيب في أم رأسه. و أم الرأس: الدماغ.
7- في «الأصول»: «حتى بلغه العطش».
8- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «أمية أنا عطش» و هو تحريف.
9- العجول من النساء و الإبل: الواله التي فقدت ولدها الثكلى لعجلتها في جيئتها و ذهابها جزعا.
10- أراغ الشيء: طلبه و أراده. و نادر: ساقط.

أنشدني أبو سرّار(1) فيها:

لعمري لقد بشّرت بي إذ ولدتني *** فما ذا الذي ردّت عليك البشائر

شعر لخالد بن جعفر يمنّ على هوازن بقتله زهير:

و قال خالد بن جعفر يمنّ على هوازن بقتله زهيرا و يصدق الحديث - قال أبو عبيدة أنشدنيه مالك بن عامر بن عبد اللّه بن بشر بن عامر ملاعب الأسنّة -:

/

بل كيف تكفرني هوازن بعد ما *** أعتقهم فتوالدوا أحرارا

و قتلت ربّهم زهيرا بعد ما *** جدع الأنوف و أكثر الأوتارا(2)

و جعلت حزن بلادهم و جبالهم *** أرضا فضاء سهلة و عشارا

و جعلت مهر بناتهم و دمائهم *** عقل الملوك هجائنا أبكارا(3)

قال أبو عبيدة: أ لا ترى أنه ذكر في شعره أنّ زهيرا كان ربّهم و قد كان جدعهم، و أنه قتله من أجلهم لا من أجل غنيّ، و أن غنيّا ليسوا من ذلك(4) في ذكر و لا لهم فيه معنى.

شعر لورقاء بن زهير:

قال: و قال ورقاء بن زهير:

أمّا كلاب فإنّا نسالمها *** حتى يسالم ذئب الثّلّة(5) الرّاعي

بنو جذيمة حاموا حول سيّدهم *** إلاّ أسيدا نجا إذ ثوب الداعي

شعر للفرزدق ينعي فيه على بني عبس ضربة ورقاء خالدا:

قال: ثم نعى الفرزدق على بني عبس ضربة ورقاء خالدا، و اعتذر بها إلى سليمان بن عبد الملك فقال:

إن يك سيف خان أو قدر أبى(6) *** لتأخير نفس حتفها غير شاهد

فسيف بني عبس و قد ضربوا به *** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها *** و تقطع أحيانا مناط القلائد

و لو شئت قد السيف ما بين عنقه *** إلى علق تحت الشّراسيف(7) جامد

ص: 61


1- في «جميع الأصول» هنا: «أبو يسار». و قد ورد هذا الاسم في هذه القصة أكثر من مرة كما وضعناه.
2- كذا في «ج» و كتاب «الكامل» لابن الأثير. و في «أكثر الأصول»: «و أكثر الأوزارا».
3- في كتاب «الكامل» لابن الأثير: «و بكارا».
4- في «الأصول»: «و أن غنيا ليس...».
5- الثلة (بالفتح): الجماعة من الغنم، أما الثلة (بالضم) فالجماعة من الناس.
6- كذا في «ج» و «النقائض» (ص 384) و فيه الخرم، و هو حذف الحرف المتحرك من أول البيت، و يقع في أوّل القصيدة. و في «سائر الأصول»: فإن يك سيف خان أو قدر أتى
7- العلق: الدم ما كان، و قيل هو الدم الجامد الغليظ. و الشراسيف: أطراف الأضلاع، واحدها شرسوف.

/قال: و كان ضلع بني عبس مع جرير، فقال الفرزدق فيهم هذه الأبيات. هذه رواية أبي عبيدة.

و أمّا الأصمعيّ فإنه ذكر، فيما رواه الأثرم عنه، قال حدّثني غير واحد من الأعراب أنّ سبب مقتل زهير العبسيّ أنّ ابنه شأس بن زهير وفد إلى بعض الملوك فرجع/و معه حباء(1) قد حبي به، فمرّ بأبيات من بني عامر بن صعصعة و أبيات من بني غنيّ على ماء لبني عامر أو غيرهم - الشكّ من الأصمعيّ -. قال: فاغتسل، فناداه الغنويّ: استتر، فلم يحفل بما قال. فقال: استتر ويحك! البيوت بين يديك؛ فلم يحفل. فرماه الغنويّ رياح بن الأسكّ بسهم أو ضربه فقتله و الحيّ خلوف(2)، فاتّبعه أصحاب شأس و هم في عدّة، فركب الفلاة و اتّبعوه فرهقوه(3)، فقتل حصينا و أخاه(4) حصينا، ثم نجا على وجهه حتى أدركه العطش، فلجأ إلى منزل عجوز من بني إنسان (و بنو إنسان حيّ من بني جشم). فقالت له العجوز: لا تبرح حتى يأتي بنيّ فيأسروك. قال الأصمعيّ: فأخبرني مخبران اختلفا؛ فقال أحدهما: إنه أخذ سكّينا فقطع عصبتي يديها، و قال الآخر: أخذ حجرا فشدخ به رأسها، ثم أنشأ يقول:

و لأنت أشجع من أسامة أو *** منّي غداة وقفت للخيل

إذ(5) الحصين لدى الحصين كما *** عدل الرّجازة جانب الميل

و إذا أنهنهها(6) لأفتلها *** جاشت ليغلب قولها قولي

/قال: فضرب للزمان ضربانه(7)، فالتقى خالد بن جعفر بن كلاب و زهير بن جذيمة العبسيّ. فقال خالد لزهير:

أ ما آن لك أن تشتفي و تكفّ؟ - قال الأصمعيّ: يعني مما قتل بشاس - قال: فأغلظ له زهير و حقّره. قال الأصمعيّ:

و أخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيّب أنّ ذلك الكلام بينهما كان بعكاظ عند قريش. فلمّا حقّره زهير و سبّه قال خالد: عسى إن كان! يتهدّده ثم قال: اللّهمّ أمكن يدي هذه الشقراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة ثم أعنّي عليه. فقال زهير: اللهم أمكن يدي هذه البيضاء الطويلة من عنق خالد ثم خلّ بيننا. فقالت قريش: هلكت و اللّه يا زهير!. فقال: إنكم و اللّه الذين لا علم لكم.

قال الأصمعيّ: ثم نرجع إلى حديث العبسيّين و العامريّين، و بعضه من حديث أبي عمرو بن العلاء. قال:

فجاء(8) أخو امرأة زهير - و كانت امرأته فاطمة بنت الشّريد السّلميّة، و هي أمّ قيس بن زهير، و كان زهير قد أساء إليهم في شيء - فجاء أخوها إلى بني عامر فقال: هل لكم في زهير بن جذيمة ينتج إبله ليس معه أحد غير أخيه أسيد بن جذيمة و عبد راع لإبله! و جئتكم من عنده، و هذا لبن حلبوه لي. فذاقوه فإذا هو ليس بحازر(9)، فعلموا أنّه قريب. فخرج حندج بن البكّاء و خالد بن جعفر و معاوية(10) بن عبادة بن عقيل، ليس على أحدهم درع غير خالد

ص: 62


1- الحباء: العطاء.
2- خلوف: غيب.
3- رهقوه: غشوه و لحقوه.
4- هو ابن عمه، كما تقدّم.
5- في «الأصول» هنا: «عدل الحصين لدى الحصين...». و قد تقدّمت هذه الأبيات في ص 80 من هذا الجزء مع اختلاف في الرواية.
6- نهنهه: زجره و كفه. و فلته عن كذا: صرفه و لواه، مثل لفته عنه. و جاشت: هاجت و غلت كما تجيش القدر.
7- يقولون: ضرب الدهر ضربانه، و من ضربانه، و من ضربه إذا ذهب بعضه.
8- في «الأصول»: «فجاءه» و لا يستقيم بها الكلام.
9- في «ب، س»: «بخاثر».
10- في «الأصول»: هنا: «و عمرو بن عبادة بن عقيل». و التصويب مما تقدّم في ص 85 و 87.

كانت عليه درع أعاره إيّاها عمرو بن يربوع الغنويّ، و كانت درع ابن الأجلح المراديّ(1) كان قتله فأخذها منه. و كان يقال لها ذات الأزمّة. و إنما سميت بذلك لأنها كانت لها عرى تعلّق فضولها/بها إذا أراد أن يشمّرها. قال:

فطلعوا. فقال أسيد بن جذيمة - قال الأصمعيّ: و كان أسيد شيخا كبيرا، و كان كثير شعر الوجه و الجسد - أتيت و ربّ الكعبة. فقال زهير: «كلّ أزبّ نفور» فذهبت مثلا. فلم يشعر بهم زهير إلاّ في سواد اللّيل، فركب فرسه ثم وجّهها، فلحقه قوم أحدهم حندج أو العقيليّ - و اختلفوا فيهما - فطعن فخذ الفرس طعنة خفيفة، ثم أراد أن يطعن الرّجل الصحيحة، فناداه خالد: يا فلان لا تفعل/فيستويا، أقبل على السقيمة. قال: فطعنها فانخذلت الفرس فأدركوه. فلما أدركوه رمى بنفسه، و عانقه خالد فقال: اقتلوني و مجدّعا!. فجاء حندج - و كان أعجم اللّسان - فقال لخالد و هو فوق زهير: نحّ رأسك يا أبا جزء، فنحّى رأسه، فضرب حندج زهيرا ضربة على دهش، ثم ركبوا و تركوه. قال فقال خالد: ويحك يا حندج ما صنعت؟ فقال: ساعدي شديد، و سيفي حديد، و ضربته ضربة فقال السيف قب، و خرج عليه مثل ثمرة المرار، فطعمته فوجدته حلوا (يعني دماغه). قال: إن كنت صدقت فقد قتلته. قال:

فجاء قوم زهير فاحتملوه و منعوه الماء كراهة أن يبتلّ دماغه فيموت. فقال: يا آل غطفان أ أموت عطشا! فسقي فمات، و ذلك بعد أيّام. ففي ذلك يقول ورقاء بن زهير و كان قد ضرب خالدا ضربة فلم يصنع شيئا، فقال:

رأيت زهيرا تحت كلكل خالد *** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر

إلى بطلين ينهضان كلاهما *** يريدان نصل السّيف و السيف نادر

قال الأصمعيّ: فضرب الدهر من ضربانه إلى أن التقى خالد بن جعفر و الحارث بن ظالم.

ص: 63


1- في «ب، س»: «المراري».

8 - ذكر مقتل خالد بن جعفر بن كلاب

مقتل خالد بن جعفر و سببه:

قتله الحارث بن ظالم المرّيّ. قال أبو عبيدة: كان الذي هاج من الأمر بين الحارث بن ظالم و خالد بن جعفر أنّ خالد بن جعفر أغار على رهط الحارث بن ظالم من بني يربوع بن غيظ بن مرّة و هم في واد يقال له حراض، فقتل الرجال حتى أسرع(1)، و الحارث يومئذ غلام، و بقيت النساء. و زعموا أنّ ظالما هلك في تلك الوقعة من جراحة أصابته يومئذ. و كانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النّعم، فلمّا بقين بغير رجال طفقن يدعون الحارث، فيشدّ عصاب(2) الناقة ثم يحلبنها، و يبكين رجالهن و يبكي الحارث معهن، فنشأ على بغض خالد. و أردف ذلك قتل خالد زهير بن جذيمة؛ فاستحقّ العداوة في غطفان. فقال خالد بن جعفر في تلك الوقعة:

تركت نساء يربوع بن غيظ *** أرامل يشتكين إلى وليد(3)

يقلن لحارث جزعا عليه *** لك الخيرات مالك لا تسود

تركت بني جذيمة في مكرّ *** و نصرا قد تركت لدى الشهود

و منّي سوف تأتي قارعات *** تبيد المخزيات و لا تبيد

و قيس ابن المعارك غادرته *** قناتي في فوارس كالأسود

و حلّت بركها ببني جحاش *** و قد مدّوا إليها من بعيد

و حيّ بني سبيع يوم ساق *** تركناهم كجارية و بيد(4)

/قال أبو عبيدة. فمكث خالد بن جعفر برهة(5) من دهره، حتى كان(6) من أمره و أمر زهير بن جذيمة ما كان، و خالد يومئذ رأس هوازن. فلمّا استحقّ عداوة عبس و ذبيان أتى النّعمان بن المنذر(7) ملك الحيرة لينظر ما قدره عنده، و أتاه بفرس؛ فألفى عنده الحارث بن ظالم قد أهدى له فرسا فقال: أبيت اللّعن، نعم صباحك، و أهلي

ص: 64


1- كذا في «الأصول»: و لعل صوابها. «حتى أسرف».
2- عصاب الناقة: ما تشدّ به لتدر؛ يقال: عصب الناقة يعصيها عصبا و عصابا إذا شد فخذيها أو أدنى منخريها بحبل لتدر. و يقال للحبل الذي تشد به عصاب.
3- تقدّمت هذه الأبيات ضمن أبيات من هذه القصيدة في صفحة 83 مع اختلاف في بعض الكلمات.
4- راجع الحاشية رقم 1 من صفحة 84 من هذا الجزء.
5- البرهة (بالضم و بالفتح): المدّة الطويلة.
6- في «الأصول»: «حتى إذا كان» بزيادة «إذا». و ظاهر أن الكلام لا يستقيم بها.
7- الذي في «الكامل» لابن الأثير أن الملك الذي اجتمع عنده خالد بن جعفر و الحارث بن ظالم ثم قتل الحارث خالدا في جواره ثم قتل ابنه بعد ذلك فأخذ يطارد الحارث لقتله ابنه و من استجار به، هو النعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة. ثم قال ابن الأثير بعد كلام كثير: و قيل إن الملك الذي قتل ابنه كان الأسود بن المنذر. و من هذا نفهم معنى إلحاح الأسود في مطاردة الحارث في صفحة 106 و ما بعدها؛ فإن ذلك بناء على هذا القول الآخر.

فداؤك! هذا فرس من خيل بني مرّة(1)، فلن تؤتى(2) بفرس يشقّ غباره، إن لم تنسبه(3) انتسب، كنت ارتبطته لغزو بني عامر بن صعصعة؛ /فلمّا أكرمت خالدا أهديته إليك. و قام الربيع بن زياد العبسيّ فقال: أبيت اللّعن! نعم صباحك، و أهلي فداؤك! هذا فرس من خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنة لم يخفق في غزوة و لم يعتلك(4) في سفر، و فضله على هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم. قال: فغضب النّعمان عند ذلك و قال: يا معشر قيس، أرى خيلكم أشباها(5)! أين اللواتي كأنّ أذنابها شقاق(6) أعلام و كأنّ مناخرها و جار(7) الضّباع، و كأنّ عيونها بغايا النساء، /رقاق المستطعم(8) تعالك(9) اللّجم في أشداقها، تدور على مذاودها(10) كأنما يقضمن(11)حصى. قال خالد: زعم الحارث - أبيت اللّعن - أنّ تلك الخيل خيله و خيل آبائه. فغضب النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم. فلمّا أمسوا اجتمعوا عند قينة من أهل الحيرة يقال لها بنت عفزر يشربون. فقال خالد: تغنّي:

دار لهند و الرّباب و فرتنى *** و لميس قبل(12) حوادث الأيّام

و هنّ خالات الحارث بن ظالم، فغضب الحارث بن ظالم حتى امتلأ غيظا و غضبا، و قال: ما تزال تتبع أولى بآخره!. قال أبو عبيدة: ثم إنّ النّعمان بن المنذر دعاهم بعد ذلك و قدّم لهم تمرا؛ فطفق خالد بن جعفر يأكل و يلقي نوى ما يأكل من التمر بين يدي الحارث. فلمّا فرغ القوم قال خالد بن جعفر: أبيت اللعن! انظر إلى ما بين يدي الحارث بن ظالم من النّوى! ما ترك لنا تمرا إلاّ أكله. فقال الحارث: أمّا أنا فأكلت التمر و ألقيت النّوى، و أمّا أنت فأكلته بنواه. فغضب خالد و كان لا ينازع، فقال: أ تنازعني يا حارث و قد قتلت حاضرتك و تركتك يتيما في حجور النساء!. فقال الحارث: ذلك يوم لم أشهده، و أنا مغن اليوم بمكاني. قال خالد: فهلاّ تشكر لي إذا قتلت زهير بن جذيمة و جعلتك سيّد غطفان!. قال: بلى أشكرك على ذلك. فخرج الحارث بن ظالم إلى بنت عفزر، فشرب عندها و قال لها تغنّي(13):

تعلّم أبيت اللّعن أنّي فاتك *** من اليوم أو من بعده بابن جعفر

/أ خالد قد نبّهتني غير نائم *** فلا تأمنن فتكي يد الدهر و احذر

ص: 65


1- في «الأصول»: «من خيل بني قرة» و هو تحريف؛ إذ هو يفتخر بخيله و خيل آبائه من بني مرة.
2- في «الأصول»: «نؤتي» بالنون.
3- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «إن لم ننسبه» بالنون.
4- لعل صوابه: «... و لم يعتلل».
5- في «أكثر الأصول»: «أي خيلكم أشباهنا». و التصويب في «ج».
6- في «الأصول الخطية» جميعا: «شقاق الحلام». و الشقاق: جمع شقة و هي نصب الشيء أو القطعة منه إذا شق. و الشقاق أيضا: جمع الشقة (بالضم) ضرب من الثياب معروف، و هي السبية المستطيلة.
7- الوجار (بالفتح و بالكسر): حجر الضبع و غيرها. و كان ينبغي أن يكون «وجر الضباع» أو «أوجرة الضباع» ليكون تشبيه جمع بجمع.
8- مستطعم الفرس: حجفلته و ما حولها.
9- كذا في «ب، س». و لم نجد في «معجمات اللغة» التي بين أيدينا هذا الفعل من علك. و في «الأصول الخطية»: «تهالك اللجم...».
10- المذاود: جمع مذود (وزان منبر) و هو معتلف الدابة. و في «الأصول»: «على مداودها» بالدال المهملة و هو تصحيف.
11- القضم: الأكل بأطراف الأسنان أو هو أكل الشيء اليابس.
12- في «الأصول»: «قول حوادث الأيام». و التصويب للأستاذ المرحوم الشنقيطي في نسخته الخاصة من طبع بلاق.
13- الذي في «ج»: «فشرب عندها ثم تغنى و قال».

أ عيّرتني أن نلت منّا فوارسا *** غداة حراض مثل جنّان عبقر(1)

أصابهم الدّهر الختور بختره(2) *** و من لا يق اللّه الحوادث يعثر

فعلّك يوما أن تنوء بضربة *** بكفّ فتى من قومه غير جيدر(3)

يغصّ بها عليا هوازن، و المنى *** لقاء أبي جزء(4) بأبيض مبتر

قال: فبلغ خالد بن جعفر قوله فلم يحفل به. فقال عبد اللّه بن جعدة - و هو ابن أخت خالد، و كان رجل قيس رأيا - لابنه: يا بنيّ ائت أبا جزء فأخبره أنّ الحارث بن ظالم سفيه موتور، فأخف مبيتك الليلة؛ فإنه قد غلبه الشراب. فإن أبيت فاجعل بينك و بينه رجلا ليحرسك. فوضعوا رجلا بإزائه، و نام ابن جعدة دون الرجل، و خالد من خلف الرجل.

و عرف أنّ ابن عتبة و ابن جعدة يحرسان خالدا. فأقبل الحارث فانتهى إلى ابن جعدة فتعدّاه، و مضى إلى الرجل و هو يحسبه خالدا فعجنه بكلكله حتى كسره و جعل/يكدمه(5) لا يعقل، فخلّى عنه و الرجل تحته، و مضى إلى خالد و هو نائم، فضربه بالسّيف حتى قتله. فقال لعروة(6): أخبر الناس أنّي قتلت خالدا. و قال في ذلك:

ألا سائل النّعمان إن كنت سائلا *** و حيّ كلاب هل فتكت بخالد

عشوت عليه(7) و ابن جعدة دونه *** و عروة يكلا(8) عمّه غير راقد

/و قد نصبا رجلا(9) فباشرت جوزه *** بكلكل مخشيّ العداوة حارد

فأضربه بالسّيف يأفوخ(10) رأسه *** فصمّم حتى نال نوط القلائد

و أفلت عبد اللّه منّي بذعره *** و عروة من بعد ابن جعدة شاهدي

فلمّا أبت غطفان أن تجيره غضبت لذلك بنو عبس. و بعث إليه قيس بن زهير بن جذيمة بهذه الأبيات:

شعر قيس بن زهير للحارث حين قتل خالدا و إجابته له:

جزاك اللّه خيرا من خليل *** شفى من ذي تبولته(11) الخليلا

أزحت بها جوى و دخيل حزن *** تمخّخ(12) أعظمي زمنا طويلا

ص: 66


1- عبقر: موضع بالبادية كانت العرب تزعم أنه كثير الجن.
2- الختر: الخديعة أو هو أسوأ الغدر و أقبحه.
3- غير جيدر: غير قصير.
4- أبو جزء: كنية خالد بن جعفر. و أبيض مبتر أي سيف قاطع.
5- الكدم: العض و التأثير بحديدة و نحوها. و في «الأصول الخطية»: «يكرمه». و في «ب، س»: «و جعل يكلمه».
6- هو عروة بن عتبة و هو ابن أخي خالد بن جعفر، كما يفهم من الشعر الذي بعده.
7- في «أ، م»: «عشوت إليه».
8- يكلا: يحفظ و يحرس. و هو مهموز. و لو ترك همزة جاز أن يقال فيه يكلا مثل يخشى (كما ورد هنا) و يكلو مثل يدعو. كذلك قال الفراء. («لسان العرب» في مادة كلأ).
9- الرجل (بسكون الجيم): لغة في الرجل (بضمها). و جوز كل شيء: وسطه. و حارد: غاضب.
10- اليأفوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس مع عظم مؤخره، و هو الموضع الذي يتحرك من رأس الطفل. و صمم: خمضي. و نوط: جمع نياط. و نياط كل شيء معلقة. و في «الأصول»: نيط القلائد» و هو تحريف.
11- التبولة: جمع تبل (بالفتح) و هو هنا الثأر.
12- تمخخ العظم: أخرج مخه.

كسوت الجعفريّ أبا جزيء *** و لم تحفل به سيفا صقيلا

أبأت(1) به زهير بني بغيص *** و كنت لمثلها و لها حمولا

كشفت له القناع و كنت ممن *** يجلّي العار و الأمر الجليلا

فأجابه الحارث بن ظالم:

أتاني عن قيس بني زهير *** مقالة كاذب ذكر التّبولا

فلو كنتم كما قلتم لكنتم *** لقاتل ثأركم حرزا أصيلا

و لكن قلتم جاور سوانا *** فقد جلّلتنا حدثا جليلا

و لو كانوا هم قتلوا أخاكم *** لما طردوا الذي قتل القتيلا

إباء غطفان جوار الحارث و لحوقه ببني تميم و طلب بني عامر له:

قال أبو عبيدة: فلمّا منعته غطفان لحق بحاجب بن زرارة، فأجاره و وعده أن يمنعه من بني عامر. و بلغ بني عامر مكانه في بني تميم، فساروا في عليا هوازن. /فلمّا كانوا قريبا من القوم في أوّل واد من أوديتهم، خرج رجل من بني غنيّ ببعض البوادي، فإذا هو بامرأة من بني تميم ثم من بني حنظلة تجتني الكمأة، فأخذها فسألها عن الخبر، فأخبرته بمكان الحارث بن ظالم عند حاجب بن زرارة و ما وعده من نصرته و منعه. فانطلق بها الغنويّ إلى رحله؛ فانسلّت في وسط من الليل، فأتى الغنويّ الأحوص بن جعفر، فأخبره أنّ المرأة قد ذهبت و قال: هي منذرة عليك.

فقال له الأحوص: و متى عهدك بها؟ قال: عهدي بها و المنيّ يقطر من فرجها. قال: و أبيك إنّ عهدك بها لقريب.

و تبع المرأة عامر بن مالك يقصّ أثرها حتى انتهى إلى بني زرارة و المرأة عند حاجب و هو يقول لها: أخبريني أيّ قوم أخذوك؟ قالت: أخذني قوم يقبلون بوجوه الظّباء، و يدبرون بأعجاز النّساء. قال: أولئك بنو عامر. قال: فحدّثيني من في القوم؟ قالت: رأيتهم يغدون على شيخ كبير لا ينظر بمأقيه(2) حتى يرفعوا له من حاجبيه. قال: ذلك الأحوص بن جعفر. قالت: و رأيت شابا شديد الخلق، كأنّ شعر ساعديه/حلق الدّرع يعذم(3) القوم بلسانه عذم الفرس العضوض. قال: ذلك عتبة بن بشير بن خالد. قالت: و رأيت كهلا إذا أقبل معه فتيان(4)، يشرف القوم إليه، فإذا نطق أنصتوا. قال: ذلك عمرو بن خويلد، و الفتيان ابناه زرعة و يزيد. قالت: و رأيت شابّا طويلا حسنا، إذا تكلّم بكلمة أنصتوا لها ثم يؤلّون(5) إليه كما تؤلّ الشّول(6) إلى فحلها. قال: ذلك عامر بن مالك. قال أبو عبيدة:

فدعا حاجب الحارث بن ظالم فأخبره برأيه و خبر القوم و قال: يا بن ظالم، هؤلاء بنو عامر قد أتوك، فما أنت صانع؟ قال الحارث: ذلك إليك، إن شئت أقمت/فقاتلت(7) القوم، و إن شئت تنحّيت. قال حاجب: تنحّ عنّي

ص: 67


1- أبأت القاتل بالقتيل. قتلته به. و الظاهر أن في الكلام قلبا، أي أبأته بزهير بني بغيض.
2- الماق: لغة في موق العين و هو مؤخرها أو مقدّمها.
3- العذم: العض. و المراد بعذم اللسان اللوم و التعنيف.
4- ظاهر أن في الكلام نقصا، و تقدير الكلام: «... إذا أقبل أقبل معه فتيان» أو «... كان معه فتيان».
5- الأل: السرعة.
6- الشول: جمع شائلة و هي الناقة التي خف لبنها و ارتفع ضرعها.
7- في «الأصول الخطية»: «فقابلت» بالياء الموحدة.

غير ملوم. فغضب الحارث من ذلك و قال:

شعر الحارث حين أمره حاجب بالتنحي و رد حاجب عليه:

لعمري لقد جاورت في حيّ وائل *** و من وائل جاورت في حيّ تغلب

فأصبحت في حيّ الأراقم لم يقل *** لي القوم يا حار بن ظالم اذهب

و قد كان ظنّي إذ عقلت إليكم *** بني عدس ظنّي بأصحاب يثرب

غداة أتاهم تبّع في جنوده *** فلم يسلموا المرين(1) من حيّ يحصب

فإن تك في عليا هوازن شوكة *** تخاف ففيكم حدّ ناب و محلب

و إن يمنع المرء الزّراريّ جاره *** فأعجب بها من حاجب ثم أعجب

فغضب حاجب فقال:

لعمر أبيك الخير يا حار إنني *** لأمنع جارا من كليب بن وائل

و قد علم الحيّ المعدّيّ أنّنا *** على ذاك كنّا في الخطوب الأوائل

و أنّا إذا ما خاف(2) جار ظلامة *** لبسنا له ثوبي وفاء و نائل

و أنّ تميما لم تحارب قبيلة *** من النّاس إلا أولعت بالكواهل

و لو حاربتنا عامر يا بن ظالم *** لعضت علينا عامر بالأنامل

و لاستيقنت عليا هوازن أنّنا *** سنوطئها في دارها بالقنابل(3)

و لكنّني لا أبعث الحرب ظالما *** و لو هجتها لم ألف شحمة آكل

/قال: فتنحّى الحارث بن ظالم عن بني زرارة فلحق بعروض اليمامة. و دعا معبدا و لقيطا ابني زرارة فقال: سيرا في الظّعن، فموعدكما رحرحان؛ فإنّا مقيمون في حامية الخيل حتى تأتينا بنو عامر. و خرج عامر بن مالك إلى قومه بالخبر. فقالوا: ما ترى؟ قال: أن ندعهم بمكانهم و نسبقهم إلى الظّعن. قال: فلقوها برحرحان، فاقتتلوا قتالا شديدا فأصابوها، و أسر معبد و جرح لقيط. فبعثوا بمعبد إلى رجل بالطائف كان يعذّب الأسرى. فقطّعه إربا إربا حتى قتله. و قال عامر(4) بن مالك يردّ على حاجب قوله:

ص: 68


1- كذا في «الأصول». و إن صحت هذه الحروف فلعل صوابه «المرأين» مثنى المرء، أو لعل «المرين» جمع مري (نسبة إلى مرة) بحذف ياء النسب، كما يقال أشعرون جمع أشعريّ. و لم نهتد إلى هذه الحادثة التي يشير إليها الحارث بن ظالم فيما رجعنا إليه من المظان.
2- في «الأصول الخطية»: «إذا ما خاف جاء ظلامه». و في «س، ب»: «إذا ما جاء جاء...». و قد أثبتناه كما ترى لاستقامة المعنى به مع مناسبته لسياق الكلام.
3- في «الأصول»: «القبائل». و التصويب للأستاذ المرحوم الشنقيطي في نسخته. و القنابل: الجماعات من الخيل و الناس، و الواحدة قنبلة و قنبل (بالفتح فيهما).
4- في «الأصول»: «عمر بن مالك» و التصويب للمرحوم الشنقيطي في نسخته.
شعر لعامر بن مالك يرد به على حاجب:

ألكني(1) إلى المرء الزّراريّ حاجب *** رئيس تميم في الخطوب الأوائل

و فارسها في كلّ يوم كريهة *** و خير تميم بين حاف و ناعل

لعمري لقد دافعت عن حيّ مالك *** شآبيب(2) من حرب تلقّح حائل(3)

على كل جرداء السّراة طمرّة *** و أجرد خوّار العنان مناقل(4)

/نصحت له إذ قلت إن كنت لاحقا *** بقوم فلا تعدل بأبناء وائل

/و لو ألجأته(5) عصبة تغلبيّة *** لسرنا إليهم بالقنا و القنابل(6)

و لو رمتم أن تمنعوه رأيتم *** هناك أمورا غيّها غير طائل

لشاب وليد الحيّ قبل مشيبه *** و عضّت تميم كلّها بالأنامل

و قامت رجال منكم خندقيّة *** ينادون جهرا ليتنا لم نقاتل

قتل الحارث لابن النعمان:

قال: فخرج الحارث بن ظالم من فوره ذلك حتى أتى سلمى بنت ظالم و في حجرها ابن النّعمان، فقال لها: إنه لن يجيرني من النّعمان إلا تحرّمي بابنه، فادفعيه إليّ. و قد كان النّعمان بعث إلى جارات للحارث بن ظالم فسباهنّ؛ فدعاه ذلك إلى قتل الغلام فقتله.

أخذ النعمان عم الحارث فاعتذر إليه فخلى عنه، و قال شعرا:

فوثب النّعمان على عم الحارث بن ظالم فقال له: لأقتلنّك أو لتأتينّي بابن أخيك. فاعتذر إليه فخلّى عنه.

فأقبل ينطلق فقال:

يا حار إنّي(7) أحيا من مخبّأة *** و أنت أجرأ من ذي لبدة ضاري(8)

ص: 69


1- ألكني إلى فلان أي كن رسولي إليه. يقال: ألك بين القوم ألكا و ألوكا إذا ترسل. و الاسم منه الألوك و الألوكة و المألكة و المألك (بضم اللام فيهما) بمعنى الرسالة. فإذا عدّيته بالهمزة قلت ألكته إليه برسالة. و الأصل فيه «أألكته» بهمزتين، فأخرت الهمزة بعد اللام و خففت بنقل حركتها إلى ما قبلها و حذفت. فإن أمرت من هذا الفعل المتعدي بالهمزة قلت ألكني إليها برسالة. و كان مقتضى هذا اللفظ أن يكون معناه أرسلني إليها برسالة، إلا أنه جاء على القلب؛ إذ المعنى: كن رسولي إليها بهذه الرسالة. (عن «لسان العرب» في مادة ألك).
2- كذا في «ح». و في «أكثر الأصول»: «سبائب» و هو تحريف. و الشآبيب: جمع شؤبوب. و شؤبوب كل شيء: حده، أو الدفعة منه.
3- يقال: تلقحت الناقة إذا شالت بذنبها لترى أنها لاقح و هي ليست كذلك. و حائل: غير حامل.
4- الأجرد من الخيل: القصير الشعر، و الخيل تمدح بذلك. و السراة: الظهر. و الطمرة: أنثى الطمر (و يقال فيه الطمرير و الطمرور) و هو الفرس الجواد، أو المشمر الخلق، أو المستفز للوثب و العدو، أو الطويل القوائم الخفيف. و فرس خوار العنان: سهل المعطف (أي إذا عطف كان لينا سهل الانقياد). و المناقل من الخيل: الذي يتقي في عدوه الحجارة و هو أن يضع يديه و رجله على غير حجر لحسن نقله في الحجارة.
5- ألجأته هنا: عصمته.
6- القنابل: الجماعات من الناس و من الخيل الواحدة قنبلة و قنبل (بالفتح فيهما).
7- في «الأصول»: «إنك». و التصويب للمرحوم الشنقيطي في نسخته.
8- الضاري من السباع: الذي يضري بالصيد و يلهج بالفرائس.

قد كان بيتي فيكم بالعلاء فقد *** أحللت بيتي بين السّيل و النار

مهما أخفك على شيء تجيء به *** فلم أخفك على أمثالها حار

و لم أخفك على ليث لن تخاتله(1) *** عبل الذّراعين للأقران هصّار

و قد علمت بأنّي لن ينجّيني *** مما فعلت سوى الإقرار بالعار

فقد عدوت على النّعمان ظالمة *** في قتل طفل كمثل البدر و معطار(2)

فاعلم بأنّك منه غير منفلت *** و قد عدوت على ضرغامة شاري(3)

شعر للحارث في قتله ابن النعمان:

و قال الحارث بن ظالم في ذلك:

قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما *** محارب(4) مولاه، و ثكلان نادم

حسبت أبا قابوس أنّك سابقي(5) *** و لمّا تذق فتكي و أنفك راغم

أ خصيي حمار بات يكدم نحمة(6) *** أ تؤكل جاراتي و جارك سالم

تمنّيته جهرا على غير ريبة *** أحاديث(7) طسم، إنما أنت حالم

فإن تك أذوادا(8) أصبت(9) و نسوة *** فهذا ابن سلمى أمره(10) متفاقم

ص: 70


1- في «الأصول»: «تختله» و هو تحريف. و تخاتله: تخادعه.
2- معطار: يتعهد بالطيب و يكثر له منه. و هذا كناية عن أنه نعمة و ترف.
3- الضرغامة: الأسد، و الرجل الشجاع، فإما أن يكون على تشبيهه بالأسد أو أن ذلك أصل فيه. شاري: وصف من شري يشري (وزان فرح) إذا غضب ولج في الأمر.
4- شرح المؤلف هذا البيت فيما سيأتي (صفحة 108).
5- سيأتي في «الأصول» ص 108: «... فائت. و لما تذق ثكلا». و في «ديوان المفضليات»: «... سالم. و لما تصب ذلا». و في «الكامل» لابن الأثير: «... مخفري. و لما تذق ثكلا». و هذا البيت يرجح أن يكون الملك الذي قتل الحارث ابنه و قتل خالد بن جعفر في جواره هو النعمان بن المنذر؛ فإن «أبا قابوس» كنية له. لكن الأصمعي قال عن هذا البيت إنه ليس من القصيدة؛ لأن المقتول ابن عمرو بن الحارث جدّ النعمان الذي كان يكنى أبا قابوس، و المقتول الغلام عم أبي قابوس. (عن شرح ابن الأنباري ل «ديوان المفضليات» صفحة 616 طبع مطبعة الآباء اليسوعيين ببيروت سنة 1920 م). و يلاحظ أن كلام الأصمعي هذا لا يتفق مع ما ورد في شعر الحارث الذي رواه صاحب «الأغاني» في هذا المقام من توجيه الخطاب إلى «النعمان». (و راجع الحاشية 3 صفحة 95 من هذا الجزء).
6- يكدم: يعض بأدنى الفم. و النجم من النبات ما لا ساق له، و الشجر ما له ساق طال أو قصر. و نجمة هنا: واحدة النجم و هو ضرب من النبت يقال له الثيل. شبهه بخصي الحمار لتحقيره و تصغيره، أو أنه مشنج الوجه متغضنه كخصي الحمار إذا كدم نجمة، و ذلك لصلابتها. (راجع شرح «ديوان المفضليات»).
7- في «ج»: «أحادث طسم». و في «سائر الأصول»: «أ حارث ظلما» و هو تحريف. و أحاديث طسم: يقال لما لا أصل له. تقول لمن يخبرك بما لا أصل له: «أحاديث طسم و أحلامها». و طسم: إحدى قبائل العرب البائدة.
8- الذود: القطيع من الإبل الثلاث إلى التسع أو ما بين الثلاث إلى العشر، و فيه أقوال أخرى. و لا يكون إلا من الإناث.
9- كذا في «أ، م» و «الكامل» لابن الأثير. و في «سائر الأصول»: فإن تك أذواد أصبن و نسوه
10- كذا في «كل الأصول» هنا. و في «أ، م» فيما يأتي (صفحة 108): «رأسه» و هي رواية «المفضليات» و «الكامل» لابن الأثير.

علوت بذي الحيّات(1) مفرق رأسه *** و كان سلاحي تجتويه(2) الجماجم

/فتكت به فتكا(3) كفتكي بخالد *** و هل يركب المكروه إلا الأكارم

بدأت بهذي ثم أثني بمثلها *** و ثالثة(4) تبيضّ منها المقادم

شفيت غليل(5) الصدر منه بضربة *** كذلك يأبى المغضبون القماقم(6)

فقال النعمان بن المنذر: ما يعني بالثالثة غيري. قال سنان بن أبي حارثة المرّيّ - و هو يومئذ رأس غطفان -: أبيت اللّعن! و اللّه ما ذمّة الحارث لنا بذمّة، و لا جاره لنا بجار، و لو أمّنته ما أمّناه. فبلغ ابن ظالم قول سنان بن أبي حارثة، فقال في ذلك:

شعر للحارث يخاطب به النعمان:

ألا أبلغ النّعمان عنّي رسالة *** فكيف بخطّاب الحطوب الأعاظم

/و أنت طويل البغي أبلخ(7) معور(8) *** فزوع إذا ما خيف إحدى العظائم

فما غرّه و المرء يدرك وتره *** بأروع ماضي الهمّ من آل ظالم

أخي ثقة ماضي الجنان مشيّع(9) *** كميش(10) التّوالي عند صدق العزائم

فأقسم لو لا من تعرّض دونه *** لعولي بهنديّ الحديدة صارم

فأقتل أقواما لئاما أذلّة *** يعضّون من غيظ أصول الأباهم

تمنّى سنان ضلّة أن يخيفني *** و يأمن، ما هذا بفعل المسالم

تمنّيت جهدا أن تضيع ظلامتي *** كذبت و ربّ الراقصات الرّواسم(11)

يمين امرئ لم يرضع اللّؤم ثديه *** و لم تتكنّفه عروق الألائم

ص: 71


1- ذو الحيات: اسم سيف الحارث، كانت على سيفه تماثيل حيات.
2- كذا في «ديوان المفضليات». و في شرحه: «و قال يعقوب تجتويه لا يوافقها. يقال اجتويت بلدة كذا إذا لم توافقني». و في «الأصول» و «الكامل» لابن الأثير. «تحتويه» بالحاء.
3- رواية «المفضليات» و «الكامل» لابن الأثير و «الأصول» فيما سيأتي: فتكت به كما فتكت بخالد
4- و يروى: «و ثالثة» بالرفع.
5- في «الأصول»: «عليك» و هو تحريف.
6- القماقم: جمع قمقام، و هو من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل.
7- الأبلخ: المتكبر في نفسه الجريء على ما يأتي من الفجور. و في «ج»: «أبلح» بالحاء المهملة. و في «سائر الأصول»: «أبلج» بالجيم. و الأبلج (بالجيم) وصف مدح فلا يناسب الهجو هنا.
8- معور: قبيح السريرة، أو مريب.
9- المشيع: الشجاع، لأن قلبه لا يخذله فكأنه يشيعه، أو لأن نفسه تشيعه على ما يقدم عليه - و مثله تشايعه - أي تتبعه و تشجعه.
10- كميش التوالي: يريد أنه مشمر جادّ. و توالي كل شيء: أواخره.
11- رقص الإبل: ضرب من سيرها و هو الخبب. و الرسيم: ضرب من سيرها أيضا و هو فوق الذميل. و الذميل: سير لين.
أخذ مصدق للنعمان إبلا لديهث فاستجارت بالحارث فردها إليها:

قال: فأمّنه النعمان، و أقام حينا. ثم إنّ مصدّقا للنّعمان أخذ إبلا لامرأة من بني مرّة يقال لها ديهث؛ فأتت الحارث فعلّقت دلوها بدلوه و معها بنيّ لها، فقالت: أبا ليلى! إني أتيتك مضافة(1). فقال الحارث: إذا أورد القوم النّعم فنادي بأعلى صوتك:

دعوت باللّه و لم تراعي *** ذلك راعيك فنعم الرّاعي(2)

و تلك ذود الحارث الكساع(3) *** يمشي لها بصارم قطّاع

يشفي به(4) مجامع الصّداع

و خرج الحارث في أثرها يقول:

أنا أبو ليلى و سيفي المعلوب(5) *** كم قد أجرنا من حريب محروب

و كم رددنا من سليب مسلوب *** و طعنة طعنتها بالمنصوب

ذاك جهيز الموت عند المكروب

ثم قال لها: لا تردنّ عليك ناقة و لا بعير تعرفينه إلا أخذتيه ففعلت؛ فأتت على لقوح لها يحلبها حبشيّ، فقالت: يا أبا ليلى! هذه لي. فقال الحبشيّ: كذبت. فقال الحارث: أرسلها لا أمّ لك! فضرط الحبشيّ. فقال الحارث: «است الحالب أعلم»، فسارت مثلا. قال أبو عبيدة: ففي ذلك يقول في الإسلام الفرزدق:

كما كان أوفى إذ ينادي ابن ديهث *** و صرمته(6) كالمغنم المتنهّب

فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم *** و كان متى ما يسلل السّيف يضرب

و ما كان جارا غير دلو تعلّقت *** بحبلين في مستحصد(7) القدّ مكرب

خروج الحارث إلى صديق من كندة:

قال أبو عبيدة حدّثني أبو محمد عصام العجليّ قال: فلمّا قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر في جوار الملك خرج هاربا حتى أتى صديقا له من كندة يحلّ شعبي - قال: شعبي غير ممدود - فلمّا ألحّ الأسود(8) في طلب

ص: 72


1- مضافة: ملجأة.
2- في «الأصول»: ذلك داعيك فنعم الداعي بالدال. و التصويب للمرحوم الشنقيطي في نسخته. و سيأتي هذا الشطر بعد قليل في رجز آخر صحيحا.
3- الكسع: الضرب على الدبر؛ يقال: ولي القوم فكسعهم بالسيف، إذا اتبع أدبارهم فضربهم به.
4- في «الأصول»: «بها» و مرجع الضمير السيف الصارم في الشطر الذي قبل هذا الشطر.
5- المعلوب: اسم سيف له.
6- الصرمة هنا: القطعة من الإبل.
7- في «ديوان» الفرزدق (نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2605 أدب): «في مستحصد الحبل». و المستحصد: الذي أحكم فتله. و المكرب: المشدود بالكرب (بالتحريك) و هو حبل يشد على عراقي الدلو ثم يثنى و يثلث. و في «ديوان» الفرزدق: «و المكرب العقد الذي على عرقوة الدلو».
8- راجع الهامشة 3 صفحة 95 من هذا الجزء.

الحارث قال له الكنديّ: ما أرى لك نجاة إلاّ أن ألحقك بحضرموت ببلاد اليمن فلا يوصل إليك. فسار معه يوما و ليلة، فلمّا غرّبه(1) قال: إنّني أنقطع ببلاد اليمن فأغترب بها، و قد برئت منك خفارتي.

لجوؤه إلى بني عجل بن لجيم:

فرجع حتّى أتى أرض بكر بن وائل، فلجأ إلى بني عجل بن لجيم، فنزل على زبّان فأجاره و ضرب عليه قبّة.

و في ذلك يقول العجليّ:

و نحن منعنا بالرّماح ابن ظالم *** فظلّ يغنّي آمنا في خبائنا

/قال أبو عبيدة: فجاءته بنو ذهل بن ثعلبة و بنو عمرو بن شيبان فقالوا: أخرج هذا المشئوم من بين أظهرنا، لا يعرّنا بشرّ؛ فإنّا لا طاقة بالملحاء(2) (و الملحاء كتيبة الأسود) فأبت عجل أن تخفره(3)، فقاتلوه فامتنعت بنو عجل. فقال الحارث بن ظالم في الكنديّ و فيهم:

يكلّفني الكنديّ سير تنوفة *** أكابد فيها كلّ ذي صبّة مثري

- الصّبّة: قطعة من الغنم أو بقيّة منها -

و أقبل دوني جمع ذهل كأنّني *** خلاة(4) لذهل و الزّعانف من عمرو

و دوني ركب من لجيم مصمّم *** و زبّان جاري و الخفير على بكر

لعمري لا أخشى ظلامة ظالم *** و سعد بن عجل مجمعون على نصري

لحوقه بطيء:

قال أبو عبيدة: ثم قال لهم الحارث: إنّي قد اشتهر أمري فيكم و مكاني، و أنا راحل عنكم. فارتحل فلحق بطيّئ. فقال الحارث في ذلك:

لعمري لقد حلّت بي اليوم ناقتي *** إلى ناصر من طيّئ غير خاذل

فأصبحت جارا للمجرّة منهم *** على باذخ يعلو على المتطاول

أخذ الأسود أموال جارات له فردها هو إليهن:

قال أبو عبيدة و حدّثني أبو حيّة أنّ الأسود حين قتل الحارث خالدا سأل عن أمر يبلغ منه. فقال له عروة بن عتبة: إنّ له جارات من بليّ بن عمرو، و لا أراك تنال منه شيئا أغيظ له من أخذهنّ و أخذ أموالهنّ، فبعث الأسود فأخذهنّ و استاق أموالهنّ. فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الحين فانساب في غمار الناس حتى عرف موضع جاراته و مرعى إبلهنّ، فأتى الإبل فوجد حالبين يحلبان ناقة لهنّ يقال لها اللّفاع، و كانت لبونا كأغزر الإبل، إذا حلبت

ص: 73


1- غربه: نجاه عن بلاده و أبعده.
2- في «بعض الأصول»: «بالملجإ» و هو تحريف.
3- الإخفار: الغدر و نقض العهد.
4- الخلاة: واحدة الخلى و هو الرطب من الحشيش. يقول: أقبل دوني هؤلاء القوم كأني خلاة يأخذها الآخذ كيف شاء، و الواقع أني في عز و منعة.

اجترّت، و دمعت عيناها، و أصغت برأسها(1)، و تفاجّت(2) تفاجّ البائل، و هجمت في المحلب هجما حتى تسنّمه(3)، و تجاوبت أحاليلها(4) بالشّخب هثّا(5) و هثيما حتى تصفّ بين ثلاثة محالب(6). فصاح الحارث بهما و رجز فقال:

إذا سمعت حنّة اللّفاع *** فادعي أبا ليلى و لا تراعي

ذلك راعيك فنعم الرّاعي *** يجبك رحب الباع و الذّراع

منطّقا(7) بصارم قطّاع

/خليّا عنها! فعرفاه فضرط البائن. فقال الحارث: «است الضارط(8) أعلم» فذهبت مثلا - قال الأثرم:

البائن الحالب الأيمن، و المستعلي الحالب الأيسر - ثم عمد إلى أموال جاراته و إلى جاراته فجمعهنّ و ردّ أموالهن و سار معهنّ حتى اشتلاهنّ (أي أنقذهنّ).

رواية أخرى في قتله بن الملك:

قال أبو عبيدة: و لحق الحارث ببلاد قومه مختفيا. و كانت أخته سلمى بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المرّيّ. قال أبو عبيدة: و كان الأسود بن المنذر قد تبنّى سنان بن أبي حارثة المرّيّ ابنه شرحبيل، فكانت سلمى بنت كثير بن ربيعة من بني غنم بن دودان(9) امرأة سنان بن أبي حارثة المرّيّ ترضعه و هي أمّ هرم، و كان هرم غنيّا يقدر على ما يعطي سائليه. فجاء الحارث، و قد كان اندسّ في بلاد غطفان، فاستعار سرج سنان، و لا يعلم سنان، و هم نزول بالشّربّة، فأتى به سلمى ابنة/ظالم فقال: يقول لك بعلك: ابعثي بابن الملك مع الحارث حتى أستأمن له و يتخفّر به، و هذا سرجه آية إليك. فزيّنته ثم دفعته إلى الحارث، فأتى بالغلام، ناحية من الشّربّة فقتله، ثم أنشأ يقول:

قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما *** محارب مولاه، و ثكلان نادم(10)

- ثكلان نادم: يعني الأسود لأنه قتل ابنه شرحبيل. محارب مولاه: يعني الحارث نفسه. و مولاه: سنان -

أ خصيي حمار بات يكدم نجمة *** أ تؤكل جاراتي و جارك سالم

حسبت أبيت اللّعن أنك فائت *** و لمّا تذق ثكلا و أنفك راغم

ص: 74


1- كذا في «الأصول». و يلاحظ أن «أصغى» يتعدّى بنفسه. فلعل صوابه: «صغت يرأسها» أو «أصغت رأسها».
2- تفاجت: باعدت ما بين رجليها.
3- تسنمه: تملؤه حتى يصير فوقه مثل السنام.
4- الأحاليل: جمع إحليل، و هو هنا مخرج اللبن من الضرع. و الشخب (بالفتح): صوت اللبن عند الحلب. و الشخب (بالفتح و بالضم): ما يخرج من الضرع من اللبن. و قيل: الشخب (بالضم): ما امتد من اللبن حين يحلب متصلا بين الإناء و الطبى.
5- كذا في «الأصول الخطية». و في «ب، س»: «هشا و هشيما». و الهث: اختلاط الصوت في حرب أو صخب. و المراد هنا اختلاط أصوات الأحاليل عند الحلب. أما «الهيشم» أو «الهشيم» فلم نهتد لوجهه الصواب فيه.
6- أي حتى تملأ ثلاثة محالب فيصف أحدها بعد الآخر.
7- منطقا: مشدودا في وسطه.
8- و يروى: «است البائن أعلم».
9- في «الأصول»: «... غنم بن وردان». و التصويب للمرحوم الأستاذ الشنقيطي في نسخته.
10- تقدّمت هذه الأبيات في صفحة 103 من هذا الجزء، فلتراجع الحواشي التي كتبت عليها.

فإن تك أذوادا أصبت و نسوة *** فهذا ابن سلمى رأسه متفاقم

/علوت بذي الحيّات مفرق رأسه *** و كان سلاحي تجتويه الجماجم

فتكت به كما فتكت بخالد *** و لا يركب المكروه إلاّ الأكارم

بدأت بتلك و انثنيت بهذه *** و ثالثة تبيضّ منها المقادم

قال: ففي ذلك يقول عقيل بن علّفة في الإسلام و هو من بني يربوع بن غيظ بن مرّة لمّا هاجى شبيب بن البرصاء، و أبوه يزيد، و هو من بني نشبة بن غيظ بن مرّة ابن عمّ سنان بن أبي حارثة، فعيّره بقتل الحارث بن ظالم شرحبيل لأنه ربيب بني حارثة بن مرّة(1) بن نشبة بن غيظ رهط شبيب، ففي ذلك يقول عقيل:

قتلنا شرحبيلا ربيب أبيكم *** بناصية المعلوب ضاحية غصبا(2)

فلم تنكروا أن يغمز القوم جاركم *** بإحدى الدّواهي ثم لم تطلعوا نقبا(3)

قال أبو عبيدة: و هرب الحارث، فغزا الأسود بني ذبيان إذ نقضوا العهد و بني أسد بشطّ أريك. قال أبو عبيدة:

و سألته عنه فقال: هما أريكان الأسود و الأبيض، و لا أدري بأيّهما كانت الوقعة. قال أبو عبيدة و قال آخرون: إنّ سلمى امرأة سنان التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسد. قال: فإنّما غزا الأسود بني أسد لدفع الأسديّة سلمى ابنه إلى الحارث، فقتل فيهم قتلا ذريعا و سبى و استاق أموالهم. و في ذلك يقول [الأعشى ميمون]:

و شيوخ(4) صرعى بشطّي أريك *** و نساء كأنّهن السّعالي(5)

/من نواصي دودان إذ نقضوا العه *** د و ذبيان و الهجان الغوالي

ربّ رفد هرقته ذلك اليو *** م و أسرى من معشر أقتال(6)

هؤلاء ثم هؤلاء كلاّ احذي *** ت نعالا محذوّة بمثال

و رأى من عصاك أصبح مخذو *** لا و كعب الذي يطيعك عالي

ص: 75


1- في «الأصول»: «.. بني حارثة فعيره بن نشبة غيظ...» و هو تحريف.
2- في «الأصول»: «بناحية المغلوب ضاحية عضبا». و قد رجحنا ما وضعناه لدلالة سياق الكلام عليه. و المعلوب: سيف الحارث بن ظالم. و ضاحية: علانية و جهرا.
3- النقب: الطريق، أو الطريق الضيق في الجبل. و يظهر أنه كني بعدم طلوع النقب عن عدم السعي في طلب الثأر.
4- موضع هذا البيت من القصيدة بعد قوله «رب رفد» البيت الآتي؛ فشيوخ مجرور بالعطف على المجرور برب في البيت الذي قبل هذا البيت في القصيدة. و يروى «و شيوخ حربى» جمع حريب؛ يقال حرب فلان ماله أي سلبه فهو محروب و حريب.
5- السعالي: جمع سعلاة (بكسر السين) و يقال فيها سعلا (بالمد و بالقصر)، و هي الغول أو ساحرة الجن. و إذا كانت المرأة قبيحة الوجه سيئة الخلق شبهت بالسعلاة.
6- المرفد (بالفتح و بالكسر) هنا: القدح الضخم. و المعنى المراد «رب قتلى» فإن إراقة الرفد يكنى به عن الموت؛ قال الزمخشري في أساس البلاغة: «و هريق رفد فلان إذا قتل، كما يقال: صفرت و طابه و كفئت جفنته». و قال شارح «ديوان الأعشى»: «أبو عبيدة: رب رفد أهرقته، بألف. أي رب رجل كانت له إبل يحلبها فاستقتها فذهب ما كان يحلبه في الرفد، و الرفد القدح بما فيه». و الأقتال: جمع قتل (بالكسر) و هو العدوّ، و الشبيه في القتال؛ و بكلا المعنيين فسر البيت. و يروى: «من معشر أقيال». و القيل: الملك، أو الملك من ملوك حمير، أو هو من دون الملك الأعلى.
وجود نعل شرحبيل بن الأسود في بني محارب و تعذيب الأسود لهم:

قال: و وجد نعل شرحبيل عند أضاخ. و هو من الشّربّة في بني محارب بن خصفة(1) بن قيس عيلان. قال:

فاحمي لهم الأسود الصّفا التي بصحراء أضاخ و قال لهم: إنّي أحذيكم نعالا، فأمشاهم على الصّفا المحمى فتساقط لحم أقدامهم. فلمّا كان الإسلام قتل جوشن/الكنديّ رجلا من بني محارب فأقيد به جوشن بالمدينة. و كان الكنديّ من رهط عبّاس بن يزيد الكنديّ، فهجا بني محارب فعيّرهم بتحريق الأسود أقدامهم فقال:

على عهد كسرى نعّلتكم ملوكنا *** صفا من أضاخ حاميا يتلهّب

قال أبو عبيدة: و صار ذلك مثلا يتوعّد به الشعراء من هجوه و يحذّرونهم مثل ذلك. و من ذلك أن ابن عتّاب(2)الكلبي ورد على بني النوس(3) من جديلة طيئ، فسرقوا سهاما له؛ فقال يحذّرهم:

/

بني النوس ردّوا أسهمي إن أسهمي *** كنعل شرحبيل التي(4) في محارب

و قال في الجاهليّة ابن أمّ كهف الطائيّ في مدحه لمالك بن حمار(5) الشّمخيّ، فذكر نعل شرحبيل فقال:

و مولاك الذي قتل ابن سلمى *** علانية شرحبيل ابن نعل

لأنه لو لا النعل لم يعرف، و إنما عرف بما صنع أبوه ببني محارب من أجل نعله التي وجدت في بني محارب.

أخذ الأسود لسنان بن أبي حارثة الذي قتل ابنه عنده و اعتذار الحارث بن سفيان عنه:

قال أبو عبيدة: و أخذ الأسود سنان بن أبي حارثة؛ فأتاه الحارث بن سفيان أحد بني الصارد(6)، و هو الحارث بن سفيان بن مرّة بن عوف بن الحارث بن سفيان أخو سيّار بن عمرو بن جابر الفزاريّ لأمّه، فاعتذر إلى الأسود أن يكون سنان بن أبي حارثة علم أو اطّلع، و لقد كان أطرد الحارث من بلاد غطفان، و قال: عليّ دية ابنك ألف بعير دية الملوك، فحمّلها إيّاه و خلّى عن سنان، فأدى إلى الأسود منها ثمانمائة بعير ثم مات. فقال سيّار بن عمرو أخوه لأمّه: أنا أقوم فيما بقي مقام الحارث بن سفيان. فلم يرض به الأسود. فرهنه سيّار قوسه، فأدّى البقيّة.

فلمّا مدح قراد بن حنش الصارديّ(7) بني فزارة جعل الحمالة كلّها لسيّار بن عمرو فقال:

و نحن رهنّا القوس تمّت فوديت *** بألف على ظهر الفزاري أقرعا(8)

بعشر مئين للملوك سعى بها(9) *** ليوفي سيّار بن عمرو فأسرعا

ص: 76


1- في «ب، س، ج»: «حفصة» و هو تحريف.
2- الذي في «خزانة الأدب» (ج 4 ص 183): «ابن عباد الكلابي».
3- كذا في «الأصول». و في «خزانة الأدب»: «بني البوس». و لم نجد هذا الاسم في جديلة طيئ و لا في غيرها. فلعل صوابه «بني الأوس»؛ فإن من فروع جديلة طيئ بني الأوس.
4- في «الأصول»: «الذي». و التصويب من «خزانة الأدب».
5- في «ب، س»: «حماد» بالدال المهملة و هو تحريف.
6- في «الأصول»: «بني الصادر» و هو تحريف. (راجع كتاب «الاشتقاق» لابن دريد صفحة 176 و «لسان العرب» في مادة صرد).
7- في «الأصول»: «قراد بن حبش الصادري» و هو تحريف.
8- بألف أقرع أي تام.
9- في «الأصول»: «بعشر ملوك الملوك سفالها» و التصويب من «خزانة الأدب» (ج 3 ص 304). و قد صححها المرحوم الشنقيطي: «؟؟».

/

رمينا صفاه بالمئين فأصبحت *** ثناياه(1) للساعين في المجد مهيعا

قال و يقال: بل قالها ربيع بن قعنب، فردّ عليه قراد فقال:

ما كان ثعلب ذي(2) عاج ليحملها *** و لا الفزاريّ جوفان بن جوفان(3)

لكن تضمّنها ألفا فأخرجها *** على تكاليفها حار بن سفيان(4)

و قال عويف القوافي بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في الإسلام يفخر على أبي منظور الوبريّ حين هاجاه أحد بني وبر بن كلاب:

فهل وجدتم حاملا كحاملي *** إذ رهن القوس بألف كامل

بدية ابن الملك الحلاحل *** فافتكّها من قبل عام قابل

/سيّار الموفي بها ذو السائل(5)

لحوق الحارث ببني دارم:

قال أبو عبيدة: فلمّا قتل الحارث شرحبيل لحق ببني دارم فلجأ إلى بني ضمرة. قال: و بنو عبد اللّه بن دارم يقولون: بل جاور معبد بن زرارة فأجاره، فجرّ جواره يوم رحرحان، و جرّ يوم رحرحان يوم جبلة. و طلبه الأسود ابن المنذر بخفرته(6).

/فلمّا بلغه نزوله ببني دارم أرسل فيه إليهم أن يسلموه فأبوا. فقال يمنّ على بني قطن بن نهشل بن دارم بما كان من النّعمان بن المنذر في أمر بني رشيّة و هي رميلة حين طلبهم من لقيط بن زرارة حتى استنقذهم. و رشيّة أمة كانت لزرارة(7) بن عدس بن زيد المجاشعيّ، فوطئها رجل من بني نهشل فأولدها؛ و كان زرارة يأتي بني نهشل يطلب الغلمة التي ولدت، و ولدت الأشهب بن رميلة و الرّباب بن رميلة و غيرهما، و كانوا يسمعونه ما يكره، فيرجع إلى ولده فيقول: أسمعني بنو عمّي خيرا و قالوا: سنبعث بهم إليك عاجلا، حتى مات زرارة. فقام لقيط ابنه بأمرهم؛ فلمّا أتاهم أسمعوه ما كره، و وقع بينهم شرّ. فذهب النهشليّ إلى الملك فقال: أبيت اللّعن! لا تصلني

ص: 77


1- الثنايا: جمع ثنية و هي طريق العقبة؛ من ذلك قولهم: فلان طلاع الثنايا، و إذا كان ساميا لمعالي الأمور. و المهيع: الطريق الواسع الواضح. و الظاهر أنه يريد أن يقول: إننا حملناه من التكاليف ما حملناه فاحتملها، حتى أصبحت سبيله في ذلك سبيلا لمبتغى المجد.
2- ذو عاج: واد في بلاد قيس.
3- الجوفان (بالضم): أير الحمار. و لعله نبز الفزاريّ بذلك لما كانت تعير به فزارة من أكل الجوفان؛ قال سالم بن دارة: لا تأمنن فزاريا خلوت به على قلوصك و اكتبها بأسيار لا تأمننه و لا تأمن بوائقه بعد الذي امتل أير العير في النار امتله: وضعه في الملة. و يقول فيها: أطعمتم الضيف جوفانا مخاتلة فلا سقاكم إلهي الخالق الباري
4- يريد: حارث بن سفيان. و الترخيم في غير النداء يأتي في الشعر قليلا.
5- كذا في «الأصول». و لعل صوابها: «ذو النائل». و النائل: العطاء.
6- الخفرة: (بالضم): الذمة.
7- تقدّم في «ترجمة الأشهب بن رميلة» (ج 9 ص 269 من طبعة دار الكتب) أنها كانت أمة لخالد بن مالك بن ربعي... (فليراجع ما هناك).

و تصل قومي بأفضل من طلبتك إلى لقيط الغلمة ليكفّ عنّي. فدعاه فشرب معه، ثم استوهبهم منه فوهبهم له. فقال الأسود بن المنذر في ذلك:

كأيّن لنا من نعمة في رقابكم *** بني قطن فضلا عليكم و أنعما

و كم منّة كانت لنا في بيوتكم *** و قتل كريم لم تعدّوه مغرما

فإنكم لا تمنعون ابن ظالم *** و لم يمس بالأيدي الوشيج المقوّما(1)

فأجابه ضمرة بن ضمرة فقال:

سنمنع جارا عائذا في بيوتكم(2) *** بأسيافنا حتى يئوب مسلّما

إذا ما دعونا دارما حال دونه *** عوابس يعلكن الشّكيم المعجّما(3)

/و لو كنت حربا(4) ما وردت طويلعا *** و لا حوفه إلاّ خميسا عرمرما

تركت بني ماء السماء و فعلهم *** و أشبهت تيسا بالحجاز مزنّما(5)

و لن أذكر النّعمان إلاّ بصالح *** فإنّ له فضلا علينا و أنعما(6)

قال: و بلغ ذلك بني عامر، فخرج الأحوص غازيا لبني دارم طالبا بدم أخيه خالد بن جعفر حين انطووا على الحارث و قاموا دونه، فغزاهم فالتقوا برحرحان، فهزمت بنو دارم، و أسر معبد بن زرارة، فانطلقوا به حتى مات في أيديهم، و حديثه في يوم رحرحان يأتي بعد.

أسر بني قيس و بني هزان للحارث و حديثه معهم:

ثم أسر بنو هزّان الحارث بن الظالم. و قال أبو عبيدة: خرج الحارث من عندهم، فجعل يطوف في البلاد حتى سقط في ناحية من بلاد ربيعة، و وضع سلاحه و هو في فلاة ليس فيها أثر و نام، فمرّ به نفر من بني قيس ابن ثعلبة و معهم قوم من بني هزّان من عنزة و هو نائم، فأخذوا فرسه و سلاحه ثم أوثقوه، فانتبه و قد شدّوه فلا يملك من نفسه شيئا. فسألوه من أنت؟ فلم يخبرهم و طوى عنهم الخبر، فضربوه ليقتلوه على تأن يخبرهم من هو فلم يفعل. /فاشتراه القيسيّون من الهزّانيّين بزقّ خمر و شاة - و يقال: اشتراه رجل من بني سعد

ص: 78


1- ورد هذا البيت هكذا ب «الأصول». و الوشيج: شجر الرماح، أو هو من القنا أصلبه. و المقوّم هنا: الذي أزيل عوجه.
2- لعله: «في بيوتنا».
3- علكه: لاكه و حركه في فيه. و الشكيمة من اللجام: الحديدة المعترضة في الفم و المعجم: المعضوض.
4- ورد هذا البيت في «الأصول» هكذا: و لو كنت حواما وردت طويلعا و لا حومة إلا خميسا عرمرما و صوبنا ما فيه من تحريف عن «معجم البلدان» لياقوت في كلامه على طويلع و «لسان العرب» (في مادة حوف) و رواية البيت في «معجم البلدان» فلو كنت حربا ما بلغت طويلعا و لا جوفه....... إلخ و في «لسان العرب»: «... ما طلعت طويلعا. و لا حوفه...». و حوف الوادي: حرفه و ناحيته. ثم قال: «و يروى جوفه، و جوّه». و الحرب: العدوّ المحارب. و طويلع: ماء أو واد. و الخميس: الجيش. و العرمرم: الكثير.
5- المزنم من الشاء: ما له هنة معلقة في حلقه تحت لحيته، و خص بعضهم به العنز. و المزنم أيضا: الذي تقطع أذنه و تترك زنمة.
6- رواية «اللسان» (و قد ذكر هذا البيت و الذي قبله في مادة زنم): فإن له عندي يديا و أنعما و يديّ (على وزن فعول و فعيل مثل كلب و كليب): جمع يد بمعنى النعمة.

بإغلاق(1)/بكرة و عشرين من الشاء - ثم انطلقوا به إلى بلادهم. فقالوا له: من أنت؟ و ما حالك؟ فلم يخبرهم.

فضربوه ليموت فأبى. قال: و هو قريب من اليمامة. قال: فبينما(2) هم على تلك الحال و هم يريغونه ضربا مرّة و تهدّدا أخرى و لينا مرّة ليخبرهم بحاله و هو يأبى، حتى ملّوه، فتركوه في قيده حتى انفلت ليلا، فتوجّه نحو اليمامة و هي قريب منه، فلقي غلمة يلعبون، فنظر إلى غلام منهم أخلقهم للخير عنده فقال: من أنت؟ قال: أنا بجير بن أبجر العجليّ، و له ذؤابة يومئذ و أمّه امرأة قتادة بن مسلمة الحنفيّ. فأتاه و أخذ بحقويه و التزمه و قال: أنا لك جار.

فيقال: إنّ عجلا أجارته في هذا اليوم لا في اليوم الأوّل الذي ذكرناه في أوّل الحديث. فأتى الغلام أباه فأخبره و أجاره و قال: ائت عمّك قتادة بن مسلمة الحنفيّ فأخبره؛ فأتى قتادة فأخبره فأجاره.

قال أبو عبيدة: و أمّا فراس(3) فزعم أنه أفلت من بني قيس فأقبل شدّا حتى أتى اليمامة، و اتّبعوه حتى انتهى إلى نادي بني حنيفة و فيه قتادة بن مسلمة. فلمّا رأوه يهوي نحوهم قال: إنّ هذا لخائف، و بصر بالقوم خلفه فصاح به: الحصن الحصن! فأقبل حتى ولج الحصن. و جاءت بنو قيس، فحال دونه و قال: لو أخذتموه قبل دخوله الحصن لأسلمته إليكم، فأمّا إذ تحرّم بي فلا سبيل إليه. قال فقالوا: أسيرنا اشتريناه بأموالنا، و ما هو لك بجار و لا تعرفه، و إنما أتاك هاربا من أيدينا، و نحن قومك و جيرانك. قال: أمّا أن أسلمه أبدا فلا يكون ذلك، و لكن اختاروا منّي: إن شئتم فانظروا ما اشتريتموه به فخذوه منّي، و إن شئتم أعطيته سلاحا كاملا و حملته على فرس و دعوه حتى يقطع الوادي بيني و بينه ثم دونكموه. فقالوا: رضينا. فقال ذلك للحارث فقال نعم. فألبسه سلاحا كاملا و حمله على فرسه و قال له: إن أفلّتهم فردّ إليّ الفرس و السلاح لك. قال: فخرج، و تركوه حتى جاز الوادي، /ثم اتّبعوه ليأخذوه، فلم يزل يقاتلهم و يطاردهم حتى ورد بلاد بني قشير، و هو قريب من اليمامة أيضا بينهما أقلّ من يوم. فلمّا صار إلى بلاد بني قشير يئسوا منه فرجعوا عنه. و عرفه بنو قشير فانطووا عليه و أكرموه. و ردّ إلى قتادة بن مسلمة فرسه و أرسل إليه بمائة من الإبل، لا أدري أ أعطاه إيّاها بنو قشير من أموالهم ليكافئ بها قتادة أم كانت له، لم يفسّر أبو عبيدة أمرها و لا سألته عنها. فقال الحارث بن ظالم في ابني حلاكة و هما من الذين باعوه من القيسيّين و فيما كان من أمره - قال أبو عبيدة: و يقال أسره راعيان من بني هزّان يقال لهما ابنا حلاكة -:

أبلغ لديك بني قيس مغلغلة *** أنّي أقسّم في هزّان أرباعا

ابنا حلاكة باعاني بلا ثمن *** و باع ذو آل هزان بما باعا

يا بني حلاكة لمّا تأخذا ثمني *** حتّى أقسّم أفراسا و أدراعا

قتادة الخير نالتني حذيّته(4) *** و كان قدما إلى الخيرات طلاّعا

و قال في ذلك أيضا:

/

همّت عكابة أن تضيم لجيما(5)*** فأبت لجيم ما تقول عكابه

ص: 79


1- أغلاق الرهن: إيجابه للمرتهن إذا لم يفك. و المراد هنا إعطاء من باعه بكرة و عشرين من الشاء.
2- جواب «بينما» في هذه الجملة لم يصرح به.
3- في «الأصول» هنا: «فراش» بالشين المعجمة و هو تصحيف. و فراس الذي يروى عنه أبو عبيدة هو أبو المختار فراس بن خندق القيسي.
4- الحذية: العطية.
5- لجيم: اسم القبيلة بضم اللام و فتح الجيم و سكون الياء؛ و بهذا لا يتزن الشعر. فلعل الشاعر تصرف فيه فشدد الياء.

فاسقي بجيرا من رحيق مدامة *** و السقي الخفير و طهّري أثوابه

جاءت حنيفة قبل جيئة يشكر *** كلاّ وجدنا أوفياء(1) ذؤابة

مروره برجل من بني أسد:

و زعم أبو عبيدة أنّ الحارث لمّا هزمت بنو تميم يوم رحرحان مرّ برجل من بني أسد بن خزيمة؛ فقال: يا حار إنك مشئوم و قد فعلت ما فعلت، فانظر إذا كنت بمكان كذا و كذا من برقة رحرحان فإنّ لي به جملا أحمر فلا تعرض له. و إنما يعرّض/له و يكره أن يصرّح فيبلغ الأسود فيأخذه. فلمّا كان الحارث بذلك المكان أخذ الجمل فنجا عليه، و إذا هو لا يساير من أمامه و لا يسبق من ورائه. فبلغ ذلك الأسود، فأخذ الأسود الأسديّ و ناسا من قومه.

و بلغ ذلك الحارث بن ظالم فقال كأنه يهجوهم لئلا يتّهمهم الأسود:

أراني اللّه بالنّعم المندّى(2) *** ببرقة رحرحان و قد أراني

لحيّ الأنكدين و حيّ عبس *** و حيّ نعامة و بني غدان

لحوقه بمكة و انتماؤه إلى قريش:

قال: فلمّا بلغ قوله الأسود خلّى عنهم. و لحق الحارث بمكة و انتمى إلى قريش؛ و ذلك قوله:

و ما(3) قومي بثعلبة بن سعد *** و لا بفزارة الشّعر الرّقابا

و قومي إن سألت بنو لؤيّ *** بمكّة علّموا مضر الضّرابا

قال: فزوّده و حمله رواحة الجمحيّ على ناقة؛ فذلك قوله:

و هشّ رواحة الجمحيّ رحلي *** بناجية(4) و لم يطلب ثوابا

كأنّ الرّحل و الأنساع منها *** و ميثرتي(5) كسين أقبّ جابا

لحوقه بالشام عند ملك من غسان و مقتله:

- يروى «حشّ» و «هشّ» و هما لغتان. و حشّ سوّى - قال: فلحق الحارث بالشأم بملك من ملوك غسّان - يقال

ص: 80


1- في «ب، س»: «أربياء ذؤابة». و في «الأصول المخطوطة»: «أرفياء». و لعله يريد أنه وجد كلا الفريقين أوفياء له لأنهم أجاروه، و هم سادة في قومهم. يقال فلان ذؤابة قومه و هم ذؤابة قومهم و ذوائبهم إذا كانوا سادتهم و أشرافهم.
2- كذا في «س» و «خزانة الأدب» (ج 1 ص 236)، و قد ورد هذا البيت فيها أول أبيات سنة منسوبة لمالك بن نويرة، و كذلك صححها المرحوم الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و تندية الإبل: أن يوردها الرجل الماء حتى تشرب قليلا ثم يجيء حتى ترعى ساعة ثم يردها إلى الماء. و في «سائر الأصول»: «المبدي» بالياء. يقال: أبديت الإبل و بديتها (بتشديد الدال) إذا أبرزتها إلى موضع الكلأ.
3- في «الأصول»: فيما سيأتي (صفحة 125) و «ديوان المفضليات» (ص 619) و «الشواهد الكبرى» للعيني: «فما قومي» بالفاء. و الشعر: جمع أشعر؛ يقال رجل أشعر إذا كان كثير شعر الجسد. و قد استشهد النحويون بهذا البيت على نصب «الرقاب» بعد الصفة المشبهة على التشبيه بالمفعول به، أو أنه تمييز على مذهب من يجيز في التمييز أن يكون معرفة.
4- الناجية: الناقة السريعة تنجو بمن ركبها.
5- الأنساع: جمع نسع (بالكسر) و هو سير مضفور تشدّ به الرحال. و الميثرة هنا: وطاء محشوّ يوضع على رحل البعير تحت الراكب. و الأقب: الضامر. و الجاب (يهمز و لا يهمز): القوي الغليظ. يريد (كأن رحله و أدواته وضعت على عير وحشي أو ثور وحشي لقوّة الناقة التي رحل عليها و سرعتها.

[هو(1)] النّعمان، و يقال بل هو يزيد بن عمرو الغسّانيّ - فأجاره. و كانت للملك ناقة محمّاة في عنقها مدية و زناد و صرّة ملح، و إنما يختبر بذلك رعيّته هل يجترئ عليه أحد منهم. و مع الحارث امرأتان، فوحمت إحدى امرأتيه - قال أبو عبيدة: و أصابت الناس سنة شديدة - فطلبت الشّحم إليه. قال: ويحك! و أنّي لي بالشحم و الودك! فألحت عليه، فعمد إلى الناقة فأدخلها بطن واد فلبّ في سبلتها(2) (أي طعن(3). فأكلت امرأته و رفعت ما بقي من الشحم في عكّتها. قال: و فقدت الناقة فوجدت نحيرا لم يؤخذ منها إلاّ السّنام، فأعلموا ذلك الملك، و خفي عليهم من فعله. فأرسل إلى الخمس التّغلبيّ - و كان كاهنا - فقال: من نحر الناقة؟ فذكر أنّ الحارث نحرها. فتذمّم(4) الملك و كذّب عنه. فقال: إن أردت أن تعلم علم ذلك فدسّ امرأة تطلب إلى امرأته شحما، ففعل. فدخل الحارث و قد أخرجت امرأته إليها شحما، فعرف(5) الداء فقتلها و دفنها في بيته. فلمّا فقدت المرأة قال الخمس: غالها ما غال الناقة، فإن كره الملك أن يفتّشه عن ذلك فليأمر بالرحيل، فإذا ارتحل بحث بيته، ففعل. و استثار الخمس مكان بيته؛ فوثب عليه الحارث فقتله؛ فأخذ الحارث فحبس. فاستسقى ماء فأتاه رجل بماء فقال: أ تشرب؟ فأنشأ الحارث يقول:

/

لقد قال لي عند المجاهد(6) صاحبي *** و قد حيل دون العيش(7) هل أنت شارب

وددت بأطراف البنان لو انّني *** بدى أرونى ترمي ورائي الثّعالب

/ - الثعالب: من مرّة و هم رماة. أرونى: مكان. و قال مرّة أخرى: الثعالب بنو ثعلبة. يقول: كانوا يرمون عنّي و يقومون بأمري - قال: فأمر الملك بقتله. فقال: إنك قد أجرتني فلا تغدرني(8). فقال: لا ضير! إن غدرت بك مرّة فقد غدرت بي مرارا. فأمر مالك بن الخمس التغلبيّ أن يقتله بأبيه. فقال: يا بن شرّ الأظماء أنت تقتلني! فقتله. و قال ابن الكلبيّ: لمّا قام ابن الخمس إلى الحارث ليقتله قال: من أنت؟ قال: ابن الخمس. قال: أنت ابن شرّ الأظماء. قال: و أنت ابن شرّ الأسماء؛ فقتله فقال رجل من ضريّ(9) - و هم حيّ من جرهم - يرثي الحارث بن ظالم:

يا حار حنّيّا(10) *** حرّا قطاميّا

ما كنت ترعيّا(11) *** في البيت ضجعيّا

ص: 81


1- زيادة وضعها الشنقيطي، و هي ضرورية.
2- سبلة البعير هنا: ثغرة نحره.
3- يقال: لب البعير إذا ضربه في لبته أي طعنه في منحره.
4- تذمم: استنكف.
5- في «ب، س»: «فعرف الرأي».
6- المجاهد: الشدائد.
7- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «دون الميش». و الميش: الخلط، كخلط الشعر بالصوف، و الصدق بالكذب، و الهزل بالجد، و اللبن الحلو باللبن الحامض، و هو لا يتفق مع السياق هنا.
8- يقال غدره، و غدر به.
9- في «أ، م»: «من فرس». و لم نجد هاتين الكلمتين في أسماء القبائل.
10- كذا في «الأصول». و لعل حنيا: منسوب إلى الحن (بكسر الحاء) و هو حيّ أو ضرب من الجن. و القطامي (قيس يفتحون القاف و سائر العرب يضمون): الصقر، و يستعمل في غير الصقر على التشبيه به.
11- الترعي و مثله الترعية (بكسر التاء و ضمها و تشديد الياء): الذي يجيد رعية الإبل؛ لأنه يحسن الالتماس و الارتياد للكلإ، و هذا من عمل أصاغر الناس لا السادة و الأشراف. و الضجعي بكسر (الضاد و ضمها): الذي يلزم البيت لا يكاد يبرح منزله و لا ينهض لمكرمة.

أدعى(1) لباخيّا(2) *** مملّأ عيّا

و أخذ ابن الخمس سيف الحارث بن ظالم المعلوب، فأتى به سوق عكاظ في الحرم، فجعل يعرضه على البيع و يقول: هذا سيف الحارث بن ظالم. فاسترآه إيّاه(3) قيس بن زهير بن جذيمة فأراه إيّاه، فعلاه به حتى قتله في الحرم. فقال قيس بن زهير(4) يرثي الحارث بن ظالم:

/

ما قصرت(5) من حاضن ستر بيتها *** أبرّ و أوفى منك حار بن ظالم

أعزّ و أحمى(6) عند جار و ذمّة *** و أضرب في كاب من النّقع قاتم

هذه رواية أبي عبيدة و البصريّين. و أمّا الكوفيون فإنهم يذكرون أنّ النّعمان بن المنذر هو الذي قتله. أخبرني بذلك عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أبو سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل قال:

لمّا هرب الحارث إلى مكة أسف النّعمان بن المنذر على فوته إيّاه، فلطف(7) له و راسله و أعطاه الأمان، و أشهد على نفسه وجوه العرب من ربيعة و مضر و اليمن أنه لا يطلبه بذحل و لا يسوؤه في حال، و أرسل به مع جماعة ليسكن الحارث إليهم، و أمرهم أن يتكفلوا له بالوفاء و يضمنوا له عنه أنه لا يهجيه، ففعلوا ذلك. و سكن إليه الحارث، فأتى النعمان و هو في قصر بني مقاتل، فقال للحاجب: استأذن لي، و الناس يومئذ عند النعمان متوافرون، فاستأذن له، فقال النعمان: ائذن له و خذ سيفه. فقال له: ضع سيفك و ادخل. فقال الحارث: و لم أضعه؟ قال:

ضعه، فلا بأس عليك. فلمّا ألحّ عليه وضعه و دخل و معه الأمان. فلمّا دخل قال: انعم صباحا أبيت اللّعن. قال: لا أنعم اللّه صباحك!. فقال الحارث: هذا كتابك!. قال النّعمان: كتابي و اللّه ما أنكره، أنا كتبته لك، و قد غدرت و فتكت مرارا، فلا ضير أن غدرت بك مرّة. ثم نادى: من يقتل هذا؟ فقام ابن الخمس التغلبيّ - و كان الحارث فتك بأبيه - فقال: أنا أقتله. و ذكر باقي الخبر في قصّته مع ابن الخمس [مثل] ما ذكره أبو عبيدة.

ص: 82


1- لعلها «تدعى» لأن الظاهر أنه خطاب للحارث.
2- لباخي: ضخم كثير اللحم.
3- استرآه إياه: طلب إليه أن يريه إياه. و في «الأصول»: «فاشتراه» و هو تصحيف.
4- كذا في «س». و في «سائر الأصول»: «قيس بن زحك».
5- قصر الستر: أرخاه. و لعل نصب «أبر» على حذف الجار؛ أي ما أرخت حاضن ستر بيتها على أبر و أوفى منك... إلخ.
6- في «أ، م»: «و أوفى».
7- في «أساس البلاغة» أنه يقال في المدينة «ألطف له في القول».

9 - خبر الحارث و عمرو بن الإطنابة

اشارة

و إنما ذكرها هنا لاتّصاله بمقتل خالد بن جعفر، و لأنّ فيما تناقضاه من الأشعار أغاني/صالح ذكرها في هذا الموضع.

عضب عمرو بن الإطنابة على الحارث لقتله خالدا و شعره في ذلك:

قال أبو عبيدة: كان عمرو بن الإطنابة الخزرجيّ ملك الحجاز، و لمّا بلغه قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر، و كان خالد مصافيا له، غضب لذلك غضبا شديدا، و قال: و اللّه لو لقي الحارث خالدا و هو يقظان لما نظر إليه، و لكنه قتله نائما، و لو أتاني لعرف قدره؛ ثم دعا بشرابه و وضع التاج على رأسه و على بقيانه، فتغنّين له:

علّلاني و علّلا صاحبيّا *** و اسقياني من المروّق(1) ريّا

إنّ فينا القيان يعزفن بالدّفّ *** لفتياننا و عيشا رخيّا(2)

يتبارين في النّعيم و يصبب *** ن خلال القرون مسكا ذكيّا

إنّما همّهنّ أن يتحلّي *** ن سموطا و سنبلا فارسيّا

من سموط المرجان فضّل بالشّذ *** ر فأحسن بجليهنّ حليّا

و فتى يضرب الكتيبة بالسّي *** ف إذا كانت السيوف عصيّا

إنّنا لا نسرّ في غير نجد *** إنّ فينا بها فتى خزرجيّا

يدفع الضّيم و الظّلامة عنها *** فتجافي عنه لنا يا منيّا

أبلغ الحارث بن ظالم الرّع *** ديد و الناذر النّذور عليّا

أنما يقتل(3) النّيام و لا يق *** تل يقظان ذا سلاح كميّا(4)

/و معي شكّتي(5) معابل كالجم *** ر و أعددت صارما مشرفيّا

لو هبطت البلاد أنسيتك القت *** ل كما ينسئ النّسيء النّسيا(6)

ص: 83


1- المروق من الشراب: المصفى.
2- العيش الرخي: الناعم.
3- في «كتاب سيبويه»: «أنما تقتل......» بتاء الخطاب.
4- الكميّ: الشجاع المتكمي في سلاحه، لأنه كمى نفسه أي سترها بالدرع و البيضة، و الجمع كماة، كأنهم جمعوا كاميا مثل قاض و قضاة.
5- في «ج»: «و معي شكمتي». و في «سائر الأصول»: «و معي مشتكي معابل...». و الشكة: السلاح. و المعابل: جمع معبلة (بكسر الميم) و هي نصل طويل عريض. و المشرفي من السيوف: المنسوب إلى المشارف، و هي قرى من أرض اليمن، و قيل من بلاد العرب تدنو من الريف.
6- كذا ورد هذا البيت.
مسير الحارث إلى عمرو و انخذال عمرو عنه و شعر الحارث في ذلك:

قال: فلمّا بلغ الحارث شعره هذا ازداد حنقا و غيظا، فسار حتى أتى ديار بني الخزرج، ثم دنا من قبّة عمرو بن الإطنابة، ثم نادى: أيّها الملك أغثني فإني جار مكثور(1) و خذ سلاحك، فأجابه و خرج معه. حتى برز له عطف عليه الحارث و قال: أنا أبو ليلى! فاعتركا مليّا من اللّيل. و خشي عمرو أن يقتله الحارث فقال له: يا حار، إني شيخ كبير و إنّي تعتريني سنة، فهل لك في تأخير هذا الأمر إلى غد؟ فقال: هيهات! و من لي به في غد! فتجاولا ساعة، ثم ألقى عمرو الرّمح من يده و قال: يا حار أ لم أخبرك أنّ النّعاس قد يغلبني! قد سقط رمحي فاكفف، فكفّ. قال: أنظرني إلى غد. قال: لا أفعل. قال: فدعني آخذ رمحي. قال: خذه. قال: أخشى أن تعجلني عنه أو تفتك بي إذا أردت أخذه. قال: و ذمّة ظالم لا أعجلتك و لا قاتلتك و لا فتكت بك حتى تأخذه. قال: و ذمّة الإطنابة لا آخذه و لا أقاتلك. فانصرف الحارث إلى قومه و قال مجيبا له:

اعزفا لي بلذّة قينتيّا *** قبل أن يبكر المنون عليّا

قبل أن يبكر العواذل إنّي *** كنت قدما لأمرهنّ عصيّا

ما أبالي أ راشد فاصبحاني *** حسبتني عواذلي أم غويّا

بعد ألاّ أصرّ للّه إثما *** في حياتي و لا أخون صفيّا

/من سلاف كأنها دم ظبي(2) *** في زجاج تخاله رازقيّا(3)

/بلغتنا مقالة المرء عمرو *** فأنفنا و كان ذاك بديّا

قد هممنا بقتله إذا برزنا *** و لقيناه ذا سلاح كميّا

غير ما نائم تعلّل بالحل *** م معدّا بكفّه مشرفيّا

فمننّا عليه بعد علوّ *** بوفاء و كنت قدما وفيّا

و رجعنا بالصّفح عنه و كان ال *** منّ منا عليه بعد تليّا

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
اشارة

<منها في شعر عمرو بن الإطنابة:>

صوت
الغناء في شعر عمرو و الحارث:

علّلاني صاحبيّا *** و اسقياني من المروّق ربّا

إنّ فينا القيان يعزفن بالدفّ *** لفتياننا و عيشا رخيّا

ص: 84


1- مكثور: كثر أعداؤه أي غلبوه بكثرتهم.
2- يصف الخمر بطيب الريح، فشبهها بدم الظبي و هو المسك؛ فإن المسك من دماء الظباء.
3- الرازقي: الكتان أو ثياب بيض تتخذ منه، و الرازقي أيضا: ضرب من عنب الطائف أبيض طويل الحب.

غنّته عزّة الميلاء من رواية حمّاد عن أبيه خفيف رمل بالوسطى. قال حمّاد أخبرني أبي قال بلغني أنّ معبدا قال:

دخلت على جميلة و عندها عزّة الميلاء تغنّيها لحنها في شعر عمرو بن الإطنابة الخزرجيّ:

علّلاني و عللا صاحبيّا

على معزفة(1) لها و قد أسنّت، فما سمعت قطّ مثلها و ذهبت بعقلي و فتنتني، فقلت: هذا و هي كبيرة مسنّة! فكيف بها لو أدركتها و هي شابّة! و جعلت أعجب منها.

/و منها في شعر الحارث بن ظالم:

صوت

ما أبالي إذا اصطبحت ثلاثا *** أ رشيدا حسبتني أم غويّا

من سلاف كأنها دم ظبي *** في زجاج تخاله رازقيّا

غنّاه فليح بن أبي العوراء رملا بالبنصر عن عمرو بن بانة. و غنّاه ابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالخنصر من رواية حبش.

و منها:

صوت

بلغتنا مقالة المرء عمرو *** فأنفنا و كان ذاك بديّا

قد هممنا بقتله إذا برزنا *** و لقيناه ذا سلاح كميّا

غنّاه مالك خفيف رمل بالبنصر من رواية حبش، و ذكر إسحاق في مجرّده أنّ الغناء في هذين البيتين ليونس الكاتب، و لم ينسب الطريقة و لا جنّسها.

و نذكر هاهنا خبر رحرحان و يوم قتله إذ كان مقتل الحارث و خبره خبرهما
يوم رحرحان الثاني و السبب فيه:

أخبرني عليّ بن سليمان و محمد بن العبّاس اليزيديّ في كتاب النقائض قالا قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال:

كان من خبر رحرحان(2) الثاني أنّ الحارث بن ظالم المرّيّ لمّا قتل خالد بن جعفر بن كلاب غدرا عند النّعمان بن المنذر بالحيرة هرب فأتى زرارة بن عدس فكان/عنده، و كان قوم الحارث قد تشاءموا به فلاموه، و كره أن يكون لقومه زعم عليه و - الزعم المنّة - فلم يزل في بني تميم عند زرارة/حتى لحق بقريش. و كان يقال(3): إنّ

ص: 85


1- المعزفة: آلة العزف. و في «الأصول»: «معرفة» بالراء المهملة و هو تصحيف.
2- يوم رحرحان الأوّل كان بين دارم و عامر بن صعصعة. (راجع الحاشية رقم 1 ص 21 ج 5 من هذه الطبعة من «الأغاني»).
3- عبارة «النقائض»: «و كان يقال إن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان هو مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، و هو قول الحارث بن ظالم حين انتهى إلى قريش. رفعت السيف... إلخ».

مرّة بن عوف من لؤيّ بن غالب، و هو قول الحارث بن ظالم ينتمي إلى قريش:

رفعت السّيف إذ قالوا قريش *** و بيّنت الشّمائل و القبابا(1)

فما قومي بثعلبة بن سعد *** و لا بفزارة الشّعر الرّقابا

و أتاهم لذلك النّسب، فكان عند عبد اللّه بن جدعان. فخرجت بنو عامر إلى الحارث بن ظالم حيث لجأ إلى زرارة و عليهم الأحوص بن جعفر، فأصابوا امرأة من بني تميم وجدوها تحتطب، و كان [في(2)] رأس الخيل التي خرجت في طلب الحارث بن ظالم شريج بن الأحوص، و أصابوا غلمانا يجتنون الكمأة. و كان الذي أصاب تلك المرأة رجلا من غنيّ، فأرادت بنو عامر أخذها منه، فقال الأحوص: لا تأخذوا أخيذة خالي. و كانت(3) أمّ جعفر (يعني أبا الأحوص) * خبيّة بنت رياح [الغنويّ(2)] و هي إحدى المنجبات. و يقال: أتى شريج بن/الأحوص بتلك المرأة [إليه(3)]، فسألها عن بني تميم، فأخبرتهم أنهم لحقوا [بقومهم(4)] حين بلغهم مجيئكم. فدفعها الأحوص إلى الغنويّ فقال: اعفجها(5) الليلة و احذر أن تنفلت. فوطئها الغنويّ ثم نام، فذهبت على وجهها. فلمّا أصبح دعوا بها فوجدوها قد ذهبت. فسألوه عنها فقال: هذا حري رطبا من زبّها. و كانت المرأة يقال لها حنظلة(6)، و هي بنت أخي زرارة بن عدس. فأتت قومها، فسألها عمّها زرارة عمّا رأت، فلم تستطع أن تنطق. فقال بعضهم: اسقوها ماء حارّا فإن قلبها قد برد من الفرق، ففعلوا و تركوها حتى اطمأنّت. فقالت: يا عمّ! أخذني القوم أمس و هم فيما أرى يريدونكم، فاحذر أنت و قومك. فقال: لا بأس عليك يا بنت أخي، فلا تذعري قومك و لا تروعيهم، و أخبريني ما هيئة [القوم و ما(4)] نعتهم. قالت: أخذني قوم يقبلون بوجوه الظّباء، و يدبرون بأعجاز النّساء. قال زرارة: أولئك بنو عامر، فمن رأيت فيهم؟ قالت: رأيت رجلا قد سقط حاجباه على عينيه فهو يرفع حاجبيه، صغير العينين، عن أمره يصدرون. قال: ذاك الأحوص بن جعفر. قالت: و رأيت رجلا قليل المنطق، إذا تكلّم اجتمع القوم لمنطقه كما تجتمع الإبل لفحلها، و هو من أحسن الناس وجها، و معه ابنان له لا يدبر أبدا إلاّ و هما يتبعانه، و لا يقبل إلاّ و هما بين يديه. قال: ذلك مالك بن جعفر، و ابناه عامر و طفيل. قالت: و رأيت رجلا أبيض هلقامة جسيما - و الهلقامة الأفوه(7) - و قال: ذلك ربيعة بن عبد اللّه بن أبي بكر بن كلاب. [قالت: و رأيت رجلا أسود أخنس قصيرا، إذا تكلّم عذم(8) القوم عذم المنخوس. قال: ذلك ربيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب(4)]. /قالت: و رأيت رجلا صغير العينين، أقرن الحاجبين، كثير شعر السّبلة، يسيل لعابه على لحيته إذا تكلّم. قال: ذلك حندج بن البكّاء. قالت:

ص: 86


1- كذا في «ديوان المفضليات» و «النقائض». و في «الأصول»: «و العتابا» ما عدا «ج» فإن الإعجام فيها غير واضح. يقول: أظهرت لهم ما تجن صدورنا و تشتمل عليه أحشاؤنا من الود المكنون. و معنى رفعت السيف: أريت الناس و قال الخلاف بيننا و أن آلة الحرب موضوعة فينا مستغنى عنها. (عن هامش «المفضليات» طبع مطبعة الآباء اليسوعيين ببيروت سنة 1920 م نقلا عن شرح المرزوقي لل «مفضليات» نسخة برلين). و رواية «المفضليات»: «رفعت الرمح... و شبهت...».
2- الزيادة من «النقائض» (طبعة أوربا صفحة 1061).
3- وردت هذه العبارة في «الأصول» هكذا: «و كانت أم جعفر خبية يعني أبا الأحوص بنت رياح». و ظاهر أن النساخ قد وضعوا «خبية» في غير موضعها. و عبارة «النقائض»: «و كانت أم بني جعفر خبية بنت رياح الغنوي...».
4- التكملة من «النقائض».
5- كذا في «ج». و العفج: الجماع. و في «سائر الأصول»: «اعجفها» و هو تحريف. و في «النقائض»: «اكفتها» أي ضمها إليك.
6- في «النقائض» «حنطة».
7- الأفوه: العظيم الفم.
8- أصل العذم: العض، و المراد هنا اللوم.

و رأيت رجلا صغير العينين، ضيّق الجبهة طويلا يقود فرسا له، معه جفير لا يجاوز يده. قال: ذلك ربيعة بن عقيل.

قالت: و رأيت رجلا آدم، معه ابنان له حسنا الوجه أصهبان، إذا أقبلا نظر القوم إليهما [حتى ينتهيا، و إذا أدبرا نظروا إليهما(1)]. قال: ذلك عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب، و ابناه يزيد و زرعة. و يقال قالت: و رأيت فيهم رجلين أحمرين جسيمين ذوي غدائر لا يفترقان في ممشى و لا مجلس، فإذا أدبرا اتّبعهما القوم بأبصارهم، و إذا أقبلا لم يزالوا ينظرون إليهما حتى يجلسا. قال: ذانك خويلد و خالد/ابنا نفيل. قالت: و رأيت رجلا آدم جسيما كأنّ رأسه مجزّ(2) غضورة - و الغضورة: حشيش دقاق خشن قائم يكون بمكة. تريد أنّ شعره قائم خشن كأنه حشيش قد جزّ -. قال: ذلك عوف بن الأحوص. قالت: و رأيت رجلا كأنّ شعر فخذيه حلق الدّروع. قال: ذلك شريح بن الأحوص. قالت: و رأيت رجلا أسمر(3) طويلا يجول في القوم كأنه غريب. [قال: ذلك عبد اللّه بن جعدة. و يقال قالت: و رأيت رجلا كثير شعر الرأس، صخّابا لا يدع طائفة من القوم إلاّ أصخبها(1)]. قال: ذلك عبد اللّه بن جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

أسر معبد بن زرارة و مقتله:

فسارت بنو عامر نحوهم، و التقوا برحرحان، و أسر يومئذ معبد بن زرارة، أسره عامر بن مالك، و اشترك في أسره طفيل بن مالك و رحل من غنيّ يقال له أبو عميلة و هو عصمة بن وهب و كان أخا طفيل بن مالك من الرّضاعة.

و كان معبد/بن زرارة [رجلا كثير المال. فوفد لقيط بن زرارة(4)] على عامر بن مالك في الشهر الحرام. و هو رجب، و كانت مضر تدعوه الأصمّ؛ لأنهم كانوا لا يتنادون فيه يا لفلان و يا لفلان، و لا يتغازون و لا يتنادون فيه بالشّعارات(5)، و هو أيضا منصل الألّ. و الألّ: الأسنّة؛ كانوا إذا دخل رجب أنصلوا(6)، الأسنّة من الرّماح حتى يخرج الشهر. و سأل لقيط عامرا أن يطلق أخاه. فقال: أمّا حصّتي فقد وهبتها لك، و لكن أرض أخي و حليفي اللّذين اشتركا فيه. فجعل لقيط لكلّ واحد مائة من الإبل، فرضيا و أتيا عامرا فأخبراه. فقال عامر للقيط: دونك أخاك، فأطلق عنه. فلمّا أطلق فكّر لقيط في نفسه فقال: أعطيهم مائتي بعير ثم تكون لهم النعمة عليّ بعد ذلك! لا و اللّه لا أفعل ذلك! و رجع إلى عامر فقال: إنّ أبي زرارة نهاني أن أزيد على مائة دية مضر، فإن أنتم رضيتم أعطيتكم مائة من الإبل. فقالوا: لا حاجة لنا في ذلك؛ فانصرف لقيط. فقال له معبد: ما لي يخرجني من أيديهم. فأبى ذلك عليه فقال: إذا يقتسم العرب بني زرارة. فقال معبد لعامر بن مالك: يا عامر! أنشدك اللّه لمّا خلّيت سبيلي، فإنما يريد ابن الحمراء أن يأكل كلّ مالي - و لم تكن أمّه أمّ لقيط -. فقال له عامر: أبعدك اللّه! إن لم يشفق عليك أخوك فأنا أحقّ ألاّ أشفق عليك. فعمدوا إلى معبد فشدّوا عليه القدّ و بعثوا به إلى الطائف، فلم يزل به حتى مات. فذلك قول شريح بن الأحوص:

ص: 87


1- التكملة من «النقائض».
2- في «الأصول»: «مجن غضورة». و التصويب من «النقائض».
3- في «النقائض»: «أشم طويلا».
4- في «الأصول»: «و كان معبد بن زرارة أغار على عامر بن مالك...». و التكملة و التصويب من «النقائض».
5- كذا في «ح» و «النقائض». و شعار القوم: علامتهم و اصطلاحهم الذي يتنادون به في الحرب. و كان شعار أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم في غزوهم: «يا منصور أمت أمت». و في «سائر الأصول»: «بالثارات».
6- أنصل السنان من الرمح: أزاله عنه.

لقيط و أنت امرؤ ماجد *** و لكنّ حلمك لا يهتدي

/و لمّا أمنت و ساغ الشّرا *** ب و احتلّ بيتك في ثهمد(1)

رفعت برجليك فوق الفرا *** ش تهدي القصائد في معبد

و أسلمته عند جدّ القتال *** و تبخل بالمال أن تفتدي(2)

شعر لعوف بن عطية يعير لقيطا:

و قال في ذلك عوف بن عطيّة بن الخرع(3) التّيميّ يعيّر بن زرارة:

هلاّ فوارس رحرحان هجوتهم *** عشرا تناوح في سرارة واد(4)

لا تأكل الإبل الغراث نباته *** ما إن يقوم عماده بعماد(5)

هلاّ كررت على أخيّك(6) معبد *** و العامريّ يقوده بصفاد

و ذكرت من لبن المحلّق شربة *** و الخيل تعدو بالصّفاح بداد

- بداد(7): متفرقة. و الصّفاح: موضع. و المحلّق: موسومة بحلق على وجوهها. يقول ذكرت/لبنها، يعني إبله -

لو كنت إذ لا تستطيع(8) فديته *** بهجان أدم طارف و تلاد

/لكن تركته في عميق قعرها *** جزرا لخامعة(9) و طير عواد

لو كنت مستحيا(10) لعرضك مرّة *** قاتلت أو لفديت بالأذواد(11)

و فيها يقول نابغة بني جعدة:

ص: 88


1- ثهمد: جبل أحمر فارد بديار غنيّ.
2- في «الأصول»: «يفتدي» بالمثناة من تحت. و التصويب من «النقائض».
3- في «الأصول»: «الجزع» بجيم و زاي معجمة و هو تصحيف.
4- العشر: من العضاة، و هو من كبار الشجر و له صمغ حلو، و هو عريض الورق، ينبت صعدا في السماء. و تناوح: تتقابل. و سرارة الوادي: وسطه و هي أفضل موضع فيه. يهجو فوارس رحرحان و هم قوم لقيط بن زرارة بأنهم لهم مظهر و ليس لهم مخبر مثل عشر سرارة الوادي.
5- أي هو أضعف العماد. و الغراث: الجياع. يصف في هذا البيت الشجر الذي ذكره بأنه كريه و ضعيف. و يروى: «إذ لا يقوم» و «أو لا يقوم». («النقائض» صفحة 228).
6- كررت: رجعت. و يروى: «على ابن أمك». قال أبو عبيدة: «و ليست أمهما واحدة و لكن لهما أمهات تجمعهما فوق ذلك».
7- كلمة «بداد» مبنية على الكسر.
8- كذا في «ج» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «يستطيع» بياء مثناة من تحت.
9- الخامعة: الضبع، لأنها تخمع (تعرج) إذا مشت. و رواية «النقائض» و «خزانة الأدب»: «لجيألة». و جيألة (و مثلها جيأل): اسم علم للضيع.
10- مستحيا: مستبقيا، و هو وصف من «استحى» لغة في «استحيا».
11- الذود: القطيع من الإبل، و لا يكون إلا من الإناث. و اختلف في مقدار الذود، فقيل من ثلاث إلى تسع، و قيل من ثلاث إلى خمس عشرة، و قيل فيه غير ذلك.

هلاّ سألت بيومي رحرحان و قد *** ظنّت هوازن أنّ العزّ قد(1) زالا

مما قاله الشعراء في وقعة رحرحان:

و فيها يقول مقدام أخو [بني(2)] عدس بن زيد(3) في الإسلام، و قتلت بنو طهيّة ابنا للقعقاع بن معبد، فتوادوا(4)فأخذت بنو طهيّة منهم الفضل:

و أنتم بنو ماء السماء زعمتم *** و مات أبوكم يا بني معبد هزلا

و قال المخبّل السّعديّ يذكر معبدا:

فإن تك نالتنا كليب بقرّة *** فيومك فيهم بالمصيفة أبرد

هم قتلوا يوم المصيفة مالكا *** و شاط(5) بأيديهم لقيط و معبد

و فيها يقول عياض بن مرثد بن أسيد بن قريط بن لبيد في الإسلام:

نحن أسرنا معبدا يوم معبد *** فما افتكّ حتّى مات من شدّة الأسر

و نحن قتلنا بالصّفا بعد معبد *** أخاه بأطراف الرّدينيّة السّمر

/ *

و هذا يوم شعب جبلة:
السبب في يوم جبلة:

قال أبو عبيدة: و أمّا يوم جبلة، و كان من عظام أيّام العرب؛ و كان عظام أيّام العرب ثلاثة(6): يوم كلاب(7)

ص: 89


1- في «ج»: «العر» بمهملتين. و في «سائر الأصول»: «القر» و التصويب من «الأغاني» (ج 5 ص 15 من هذه الطبعة). و في «النقائض»: «أن ألغى».
2- الزيادة عن «النقائض».
3- في «أكثر الأصول»: «ابن يزيد» و التصويب عن «ج» و «النقائض».
4- في «الأصول»: «فتنادوا فأجابت». و التصويب عن «النقائض». و توادوا أي دفع كل من الفريقين ديات قتلى الآخر.
5- شاط هنا: هلك.
6- كانت هذه الأيام كذلك لكثرة من كان فيها من المقاتلين.
7- كذا في «الأصول». و عبارة «النقائض»: «و كانت عظام أيام العرب ثلاثة أيام يوم الكلاب، و يوم ذي قار لربيعة، و يوم جبلة». و الكلاب: ماء لبني تميم بين الكوفة و البصرة، بين أدناه و أقصاره مسيرة يوم، أعلاه مما يلي اليمن و أسفله مما يلي العراق. و للعرب في الكلاب يومان عظيمان: الأوّل كان بين شرحبيل و سلمة ابني الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار، و هو جد امرئ القيس الشاعر. و ذلك أن الحارث كان قد فرق أولاده ملوكا على القبائل. فلما مات تفاسد ما بين القبائل، فوقعت حرب بين ابنه شرحبيل و معه بكر و الرباب و بنو يربوع، و ابنه سلمة و معه تغلب و النمر و بهراء، فقتل شرحبيل يومئذ و انهزمت شيعته. و أما يوم الكلاب الثاني فإن بني تميم كانوا أغاروا على لطيمة (عير تحمل طيبا) لكسرى؛ فأوقع بهم كسرى بهجر حتى وهنوا؛ و يقال لهذا اليوم يوم الصفقة. فخشيت تميم أن تغير عليهم القبائل لما صاروا إليه من ضعف، فتشاوروا فيما بينهم فرأوا أن يلتجئوا إلى الكلاب ليستجموا فيه، و هم آمنون أن تقطع إليهم الصحاري التي دونه إذ كان الوقت قيظا. فرآهم في هذا المكان من دل بني الحارث بن عبد المدان عليهم، فجمعوا لهم، فكان بينهم ذلك اليوم المشهور الذي انتصرت فيه تميم على المغيرين عليها. و في هذا اليوم أسر عبد يغوث ثم قتل، و قال في أسره قصيدته التي مطلعها: أيا راكبا إما عرضت فبلغن نداماي من نجران أن لا تلاقيا

ربيعة، و يوم جبلة، و يوم ذي(1) قار. و كان الذي هاج و يوم جبلة أنّ بني عبس بن بغيض حين(2) خرجوا هاربين من بني ذبيان بن بغيض و حاربوا/قومهم خرجوا متلدّدين(3). فقال الربيع بن زياد العبسيّ: أما و اللّه لأرمينّ العرب بحجرها، اقصدوا لبني(4) عامر؛ فخرج حتى نزل مضيقا من وادي بني عامر ثم قال: امكثوا. فخرج ربيع و عامر(5)ابنا زيد و الحارث بن خليف(6) حتى نزلوا على ربيعة بن شكل بن كعب بن الحريش(7)، و كان العقد من بني عامر إلى [بني(8)] كعب بن ربيعة [و كانت الرئاسة في بني كلاب بن ربيعة(9)]. فقال ربيعة بن شكل: يا بني عبس، شأنكم(10) جليل، و ذحلكم الذي يطلب منكم عظيم، و أنا أعلم و اللّه أنّ هذه الحرب أعزّ حرب(11) حاربتها العرب قطّ. و لا و اللّه ما بدّ من بني كلاب، فأمهلوني حتى أستطلع طلع قومي. فخرج في قوم من بني كعب حتى جاءوا بني كلاب، فلقيهم عوف بن الأحوص فقال: يا قوم، أطيعوني في هذا الطّرف من غطفان، فاقتلوهم(12) و اغنموهم لا تفلح غطفان بعده أبدا. و و اللّه إن تزيدون على أن تسمّنوهم و تمنعوهم ثم يصيروا لقومكم أعداء. فأبوا عليه، و انقلبوا حتى نزلوا على الأحوص بن جعفر فذكروا له من أمرهم(13). فقال لربيعة بن شكل: أ ظلّلتهم ظلّك و أطعمتهم طعامك؟ قال نعم. قال: قد و اللّه أجرت القوم!. فأنزلوا القوم وسطهم/بحبوحة دارهم.

و ذكر بشر بن عبد اللّه بن حيّان الكلابيّ أنّ عبسا لمّا حاربت قومها أتوا بني عامر و أرادوا عبد اللّه بن جعدة و ابن الحريش ليصيروا حلفاءهم دون كلاب؛ فأتى قيس بن زهير و أقبل نحو بني جعفر هو و الربيع بن زياد حتى انتهيا إلى الأحوص/ [جالسا قدام بيته(14)]. فقال قيس للربيع: إنه لا حلف و لا ثقة دون أن أنتهي إلى هذا الشيخ. فتقدّم إليه قيس فأخذ بمجامع ثوبه من وراء فقال: هذا مقام العائذ بك! قتلتم أبي فما أخذت له عقلا و لا قتلت به أحدا، و قد أتيتك لتجيرنا. فقال الأحوص: نعم! أنا لك جار مما أجير منه نفسي، و عوف بن الأحوص عن ذلك غائب. فلما سمع عوف بذلك أتى الأحوص و عنده بنو جعفر فقال: يا معشر بين جعفر، أطيعوني اليوم و اعصوني أبدا، و إن كنت

ص: 90


1- ذو قار: واد متاخم لسواد العراق. و يوم ذي قار المعدود من عظام أيام العرب كان بين قبائل بكر بن وائل من العرب و كسرى ملك الفرس. و سببه أن النعمان بن المنذر لما قتل عدي بن زيد دس له ابنه زيد عند كسرى (راجع تفصيل كل هذا في ترجمة عدي بن زيد في «الأغاني» ج 2 ص 97 من هذه الطبعة) فطلب كسرى النعمان، فخشيه و استودع حريمه و أمواله و سلاحه عند هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، ثم ذهب إلى كسرى فقتله، ثم طالب كسرى هانئ بن قبيصة بودائعه فامتنع، فكان ذلك سبب يوم ذي قار المشهور بين قبائل بكر من العرب و الفرس و كان الظفر فيه للعرب.
2- في «الأصول»: «حيث» و التصويب من «النقائض».
3- التلدد: التلفت يمينا و شمالا تحيرا.
4- في «ب، س»: «بني عامر».
5- في «النقائض»: «عمارة» بدل «عامر».
6- كذا في «ح» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «خلف».
7- في «الأصول»: «الحارث» و التصويب من «النقائض» و «القاموس» و شرحه (في مادة حرش). و سيأتي كذلك في «الأصول» بعد أسطر.
8- الزيادة من «النقائض».
9- كذا في «ح» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «شانئكم» و هو تحريف.
10- كذا في «ح» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «أعز حرب ما حاربتها العرب قط».
11- في «الأصول»: «حتى جازوا». و التصويب من «النقائض».
12- كذا في «النقائض» و في «الأصول»: «فاقطعوهم».
13- في «ح»: «فذكروا له ما أمرهم».
14- ما بين المربعين ورد في «الأصول» مكانه: «قد لم ينته» فألصق النساخ الألف بالميم و صحفوا «بيته». و التصويب من «النقائض».

و اللّه فيكم معصيّا. إنّهم و اللّه لو لقوا بني ذبيان لولّوكم أطراف الأسنّة إذا نكهوا في أفواههم بكلام!. فابدءوا بهم فاقتلوهم و اجعلوهم مثل البرغوث دماغه [في(1)] دمه. فأبوا عليه و حالفوهم. فقال: و اللّه(2) لا أدخل في هذا الحلف!. قال: و سمعت بهم حيث قرّ قرارهم بنو ذبيان، فحشدوا و استعدّوا و خرجوا و عليهم حصن بن حذيفة بن بدر و معه الحليفان أسد و ذبيان يطلبون بدم حذيفة، و أقبل معهم شرحبيل(3) بن أخضر بن الجون - و الجون هو معاوية؛ سمي بذلك لشدّة سواده - ابن آكل المرار الكنديّ في جمع من كندة، و أقبلت بنو حنظلة بن مالك و الرّباب عليهم [لقيط بن زرارة(2)] يطلبون بدم معبد بن زرارة و يثربيّ بن عدس، و أقبل معهم حسّان(4) بن عمرو بن الجون في جمع عظيم من كندة و غيرهم، فأقبلوا إليهم(5) بوضائع(6) كانت تكون بالحيرة مع الملوك و هم الرابطة. و كان في الرّباب رجل من أشرافهم يقال له النّعمان بن قهوس التّيميّ، و كان معه لواء من سار إلى جبلة، و كان من فرسان العرب. و له تقول دختنوس بنت لقيط بن زرارة يومئذ:

شعر لدختنوس بنت لقيط تعير ابن قهوس:

قرّ ابن قهوس الشّجا *** ع بكفّه رمح متلّ

يعدو به خاظي البضي *** ع(7) كأنّه سمع أزلّ(8)

إنّك من تيم فدع *** غطفان إن ساروا و حلّوا

- متلّ: مستقيم، يتلّ(9) به كلّ شيء. الخاظي: الشيء المكتنز. و السّمع: ولد الضّبع [من الذّئب(10)].

و العسبار: ولد الذّئب من الكلبة -.

لا منك عدّهم و لا *** آباك إن هلكوا و ذلّوا

فخر البغيّ(11) بحدج ربّ *** تها إذا النّاس استقلّوا

لا حدجها ركبت و لا *** لرغال(12) فيه مستظلّ

و لقد رأيت أباك وس *** ط القوم يربق(13) أو يجلّ

ص: 91


1- التكملة من «النقائض».
2- في «الأصول»: «فقال رجل لا أدخل...». و التصويب من «النقائض».
3- و «النقائض»: «و أقبل معهم معاوية بن شرحبيل...».
4- كذا في «النقائض». و يؤيده ما ورد في شعر نابغة بني جعدة الآتي. و في «الأصول» هنا: «كيسان».
5- كذا في «النقائض». و في «أ، م»: «إليه». و في «سائر الأصول»: «عليه».
6- الوضائع هنا: قوم من الجند يوضعون في كورة لا يغزون منها.
7- البضيع: اللحم.
8- أزل: أرسح أي قليل لحم الفخذين.
9- يتل: يصرع.
10- التكملة من «النقائض».
11- البغي هنا: الأمة، و في غير هذا الموضع الفاجرة. و الحدج (بالكسر): مركب من مراكب النساء يشبه المحفة. و ربتها: سيدتها.
12- وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرفة، بين «لرغاء فيها» و «لرعاء فيها». و «لوعاء فيها». و التصويب من «النقائض» و «لسان العرب» (في مادة رغل) و رغال: الأمة.
13- في «الأصول المخطوطة»: «يبرق». و في «ب، س»: «يبزو». و التصويب من «النقائض». و يربق: يشد البهيمة بالربقة و هي عروة في حبل تشد بها البهيمة.

متقلّدا ربق الفرا *** ر كأنه في الجيد غلّ

تشاور بني عامر في أمرهم:

- يجلّ: يلقط البعر. و الفرار: أولاد الغنم، واحدها فرارة -.

قال: و كان معهم رؤساء بني تميم: حاجب بن زرارة و لقيط بن زرارة و عمرو بن عمرو و عتيبة(1) بن الحارث بن شهاب، /و تبعهم غثاء من غثاء الناس يريدون الغنيمة، فجمعوا جمعا لم يكن الجاهليّة قطّ مثله أكثر كثرة، فلم تشكّ العرب في هلاك بني عامر. [فجاءوا(2)] حتى مرّوا ببني سعد/بن زيد مناة، فقالوا لهم: سيروا معنا إلى بني عامر. فقالت لهم بنو سعد: ما كنّا لنسير معكم و نحن نزعم أنّ عامر بن صعصعة ابن سعد [بن زيد مناة(3)]. فقالوا: أمّا إذا أبيتم أن تسيروا(4) معنا فاكتموا علينا. فقالوا: أمّا هذا فنعم. فلمّا سمعت بنو عامر بمسيرهم اجتمعوا إلى الأحوص بن جعفر، و هو يومئذ شيخ كبير قد وقع حاجباه على عينية و قد ترك الغزو غير أنه يدبّر أمر الناس، و كان مجرّبا حازما ميمون النّقيبة، فأخبروه الخبر. فقال لهم الأحوص: قد كبرت، فما أستطيع أن أجيء بالحزم و قد ذهب الرأي منّي. و لكنّي إذا سمعت عرفت، فأجمعوا آراءكم ثم بيتوا ليلتكم هذه ثم اغدوا عليّ فاعرضوا عليّ آراءكم، ففعلوا. فلمّا أصبحوا غدوا عليه، فوضعت له عباءة بفنائه فجلس عليها. و رفع حاجبيه عن عينيه بعصابة ثم قال: هاتوا ما عندكم. فقال قبس بن زهير العبسيّ: بات في كنانتي الليلة مائة رأي. فقال له الأحوص يكفينا منها رأي واحد حازم صليب مصيب، هات فانثر كنانتك. فجعل يعرض كلّ رأي رآه حتى أنفد. فقال له الأحوص: ما رأي بات في كنانتك الليلة رأي واحد!. و عرض الناس آراءهم حتى أنفدوا. فقال: ما أسمع شيئا و قد صرتم إليّ، احملوا(5) أثقالكم و ضعفاءكم ففعلوا، ثم قال: احملوا ظعنكم فحملوها، ثم قال: اركبوا فركبوا، و جعلوه في محفّة، و قال: انطلقوا حتى تعلوا في اليمين(6)، فإن أدرككم أحد كررتم عليه، و إن أعجزتموهم مضيتم. فسار الناس حتى أتوا وادي بحار(7) ضحوة، فإذا الناس يرجع بعضهم على بعض. فقال الأحوص: ما هذا؟ قيل هذا عمرو بن عبد اللّه بن/جعدة في فتيان(8) من بني عامر يعقرون(9) بمن أجاز بهم و يقطعون بالنّساء حواياهنّ(10).

فقال الأحوص: قدّموني، فقدّموه حتى وقف عليهم فقال: ما هذا الذي تصنعون؟! قال عمرو: أردت أن تفضحنا و تخرجنا هاربين من بلادنا و نحن أعزّ العرب، و أكثرهم(11) عددا و جلدا و أحدّهم شوكة! تريد أن تجعلنا موالي في

ص: 92


1- في «الأصول»: «... و عمرو بن عمرو بن عيينة و الحارث بن شهاب». و التصويب من «النقائض».
2- الزيادة عن «النقائض».
3- الزيادة عن «النقائض».
4- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «أن تصيروا...».
5- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «اجمعوا».
6- لعله «في اليمن»؛ فإن الوادي الذي أتوه ضحوة و هو وادي بحار يقال أنه من بلاد اليمن. (راجع «معجم البلدان» في بحار).
7- في «الأصول»: «وادي نجار». و التصويب من «النقائض» و «معجم البلدان» لياقوت.
8- كاذ في «ج» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «قدم في فتيان» بزيادة كلمة «قدم» و هي لا موضع لها هنا.
9- في «الأصول»: «يعدون». و التصويب من «النقائض».
10- الحوايا: جمع حوية و هي مركب من مراكب النساء.
11- كذا في «النقائض». و في «الأصول الخطية»: «و أكثره عددا و جلدا و أحده شوكة». و في «ب، س»: و أكثر... و أحدّ...» بدون ضمير.

العرب إذ خرجت بنا هاربا(1)!. قال: فكيف أفعل و قد جاءنا ما لا طاقة لنا به! فما الرأي؟ قال: نرجع إلى شعب جبلة فتحرز النساء و الضّعفة و الذّراريّ و الأموال في رأسه و نكون في وسطه ففيه ثمل(2) (أي خصب و ماء). فإن أقام من جاءك أسفل أقاموا على غير ماء و لا مقام لهم، و إن صعودا عليك قاتلتهم من فوق رءوسهم بالحجارة، فكنت في حرز و كانوا في غير حرز، و كنت على قتالهم أقوى منهم على قتالك. قال: هذا و اللّه الرأي، فأين كان هذا عنك حين استشرت الناس؟ قال: إنما جاءني الآن. قال الأحوص للناس: ارجعوا فرجعوا. ففي ذلك يقول نابغة لبني جعدة:

و نحن حبسنا الحيّ عبسا و عامرا *** لحسّان و ابن الجون إذ قيل أقبلا

و قد صعدت وادي بحار(3) نساؤهم *** كإصعاد(4) نسر لا يرومون منزلا

عطفنا لهم عطف الضّروس فصادفوا *** من الهضبة الحمراء عزّا و معقلا(5)

- الضّروس: الناقة العضوض(6) - فدخلوا شعب جبلة. و جبلة: هضبة حمراء بين/الشّريف/و الشّرف.

و الشّريف: ماء لبني نمير. و الشّرف: ماء لبني كلاب. و جبلة: جبل عظيم(7) له شعب عظيم واسع، لا يؤتى(8)الجبل إلا من قبل الشّعب، و الشّعب متقارب [المدخل(9)] و داخله متّسع، و به اليوم عرينة من بجيلة.

دخولهم شعب جبلة:

فدخلت بنو عامر شعبا منه يقال له مسلّح، فحصّنوا النساء و الذراريّ و الأموال في رأس الجبل، و حلّوا الإبل عن الماء، و اقتسموا الشّعب بالقداح فأقرع بين القبائل في شظاياه(10)، فخرجت بنو تميم و معهم بارق (حيّ من الأزد حلفاء يومئذ لبني نمير. و بارق هو سعد بن عديّ بن حارثة بن عمرو(11) مزيقياء بن عامر ماء السماء. و سمّي مزيقياء لأنه كان يمزّق عليه كلّ يوم حلّة) فولجوا الخليف (و الخليف: الطريق بين الشّعبين شبه الزّقاق(12) لأنّ سهمهم تخلّف. و فيه يقول معقّر بن أوس بن حمار البارقيّ:

و نحن الأيمنون بنو نمير *** يسيل(13) بنا أمامهم الخليف

ص: 93


1- في «أ، م، ح»: «هرابا» جمع هارب.
2- في «الأصول»: «ففيه تمثل». و التصويب من «النقائض».
3- في «النقائض» و «معجم البلدان»: «عن ذي بحار». و راجع الحاشية الخامسة في الصفحة السابقة.
4- في «الأصول»: «لإصعاد سير». و التصويب من «النقائض» و «معجم البلدان».
5- كذا في «ج» و «النقائض» و «معجم البلدان». و في «سائر الأصول»: «و مفضلا» و هو تحريف.
6- الضروس: الناقة الحديثة النتاج. و إنما سميت ضروسا لأنه يعتريها عند نتاجها عضاض أياما حذارا على ولدها ثم يذهب عنها.
7- في «النقائض»: «طويل».
8- في «الأصول»: «لا ترى الجبل...». و التصويب من «النقائض».
9- التكملة من «النقائض».
10- في «الأصول»: «بالقداح و القرع بين القبائل في شكاياه» و التصويب من «النقائض». و الشظايا: القطع من رءوس الجبال، الواحدة شظية.
11- في «الأصول»: «... عمرو بن مزيقياء بن عامر بن ماء السماء». و مزيقياء لقب عمرو، و ماء السماء لقب عامر.
12- الزقاق: الطريق الضيق.
13- في «الأصول»: «يسير». و التصويب من «النقائض».

قال: و كان معقّر يومئذ شيخا كبيرا و معه هؤلاء ابنة له تقود به جمله. [فجعل يقول لها:] من أسهل(1) من الناس؟ فتخبره و تقول(2) هؤلاء بنو فلان، و هؤلاء بنو فلان، حتى إذ تناهى الناس قال: اهبطي، لا يزال الشّعب منيعا سائر هذا اليوم، و هبط(3). و كانت كبشة بنت عروة الرّحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب يومئذ حاملا بعامر بن الطّفيل، فقالت: ويلكم يا بني عامر ارفعوني! فو اللّه إنّ في بطني لعزّ بني عامر. /فصفّوا(4) القسيّ على عواتقهم ثم حملوها حتى أثووها بالقنّة (يقال قنّة و قنان). فزعموا أنها ولدت عامرا يوم فرغ الناس من القتال.

من شهد الوقعة من القبائل:

فشهدت بنو عامر كلّها جبلة إلاّ هلال بن عامر و عامر بن ربيعة بن عامر، و شهدها مع بني عامر من العرب بنو عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم و كان لهم بأس و حزم و عليهم مرداس بن أبي عامر، و هو أبو العبّاس بن مرداس. و كانت بنو عبس بن رفاعة حلفاء(5) بني عمرو بن كلاب.

تفرق بجيلة في بطون بنى عامر:

و زعم بعض بني عامر(6) أنّ مرداسا كان مع أخواله [غنيّ](7)، و [كانت(7)] أمّه فاطمة بنت جلهمة الغنويّة.

و شهدتها غنيّ و باهلة و ناس من بني سعد بن بكر و قبائل بجيلة كلّها إلا قسرا(8) لحرب كانت بين قسر و قومها، فارتحلت بجيلة فتفرقت في بطون بني عامر، فكانت عادية بن عامر بن قداد من بجيلة في بني عامر بن ربيعة، و كانت سحمة(9) من بجيلة في بني جعفر بن كلاب - و يقال: عمرو بن كلاب - و كانت عرينة من بجيلة في عمرو بن كلاب و كانت بنو قيس كبّة (لفرس يقال لها كبّة) من بجيلة في بني عامر بن ربيعة و كانت فتيان(10) في بني عامر بن ربيعة، و بنو قطيعة(11) من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب، و نصيب(12) بن عبد اللّه من بجيلة [في بني نمير، و كانت ثعلبة و الخطام من بجيلة(7)]، في بني عامر بن ربيعة، و بنو عمرو بن معاوية بن زيد من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب معهم يومئذ نفير من عكل، فبلغ جمعهم ثلاثين ألفا. و عمي/على بني عامر الخبر. فجعلوا لا يدرون ما قرب القوم من بعدهم.

ص: 94


1- في «الأصول»: «... جملة من أسفل من الناس» و التكملة و التصويب من «النقائض».
2- عبارة «النقائض»: «فتخبره و هو يقول هؤلاء بنو فلان حتى إذا تتاموا قال اهبطي... إلخ».
3- في «النقائض»: «و هبط الناس».
4- في «النقائض»: «فوضعوا».
5- في «النقائض»: «... حلفاء في بني عامر بن كلاب».
6- في «النقائض»: «و زعم بعضهم».
7- الزيادة من «النقائض».
8- في «الأصول»: «... إلا قشير لحرب كانت بين قيس و قومها...» و التصويب من «النقائض» و «القاموس».
9- في «الأصول»: «شحمة» بالشين المعجمة. و التصويب من «النقائض» و «القاموس» و «معجم ما استعجم» للبكري.
10- في «أكثر الأصول»: «قينان» و التصويب من «ج» و «القاموس» و «معجم ما استعجم». و في «النقائض» بدل هذه العبارة: «و كانت بنو عامر بن معاوية بن زيد من بجيلة في بني عامر بن ربيعة».
11- في «الأصول»: «و بنو قطيفة» بالفاء، و هو تحريف.
12- كذا ورد هذا الاسم مضبوطا في «النقائض». و ورد في «معجم ما استعجم» (ج 1 ص 40) مضبوطا بضم أوّله و فتح ثانيه. و قد سموا نصيبا مكبرا و مصغرا.
ما فعله كرب بن صفوان لتميم و أسد:

و أقبلت تميم و أسد و ذبيان و لفهم نحو جبلة، فلقوا كرب بن صفوان بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فقالوا له: أين تذهب؟ أ تريد أن تنذر بنا بني عامر؟ قال لا. قالوا: فأعطنا عهدا و موثقا ألاّ تفعل؛ فأعطاهم فخلّوا سبيله. فمضى مسرعا على فرس له عري(1)، حتى إذا نظر إلى مجلس بني عامر/و فيهم الأحوص نزل تحت شجرة حيث يرونه؛ فأرسلوا إليه يدعونه، قال: لست فاعلا، و لكن إذا رحلت فأتوا منزلي فإنّ الخبر فيه.

فلما(2) جاءوا منزله إذا فيه تراب في صرّة و شوك قد كسر رءوسه و فرّق جهته، و إذا حنظلة موضوعة، و إذا وطب معلّق فيه لبن. فقال الأحوص: هذا رجل قد أخذ عليه المواثيق ألاّ يتكلّم، و هو يخبركم أنّ القوم مثل التّراب كثرة، و أنّ شوكتهم كليلة [و هم متفرّقون(3)]، و جاءتكم بنو حنظلة. انظروا ما في الوطب، فاصطبّوه فإذا فيه لبن حزر (قرص(4). فقال: القوم منكم على قدر حلاب اللّبن إلى أن يحزر. فقال رجل من بني يربوع - و يقال قالته دختنوس بنت لقيط بن زرارة -

كرب بن صفوان بن شجنة لم يدع *** من دارم أحدا و لا من نهشل

أ جعلت يربوعا كقورة دائر *** و لتحلفن باللّه أن لم تفعل

و ذلك قول عامر بن الطّفيل بعد جبلة بحين:

ألا أبلغ لديك جموع سعد(5) *** فبيتوا لن نهيجكم نياما

نصحتم بالمغيب و لم تعينوا(6) *** علينا إنكم كنتم كراما

/و لو كنتم مع ابن الجون كنتم *** كمن أودى و أصبح قد ألاما

صعود بني عامر الشعب و تشاور أعدائهم في الصعود إليهم:

فلمّا استيقنت(7) بنو عامر بإقبالهم صعدوا الشّعب، و أمر الأحوص بالإبل التي ظمّئت قبل ذلك فقال:

اعقلوها كلّ بعير بعقالين [في(8)] يديه جميعا. و أصبح لقيط و الناس نزول به، و كانت مشورتهم إلى لقيط؛ فاستقبلهم جمل عود(9) أجرب أخذ أعصل كاشر عن أنيابه؛ فقال الحزاة من بني أسد - و الحازي العائف(10) -

ص: 95


1- في «ج» و «النقائض»: «عربي» بدل «عري». و فرس عري لا سرج عليه.
2- في «النقائض»: «فلما رحل جاءوا منزله فإذا... إلخ».
3- التكملة من «النقائض».
4- في «الأصول»: «فإذا فيه لبن جبن قارص» إلا «ج» ففيها «قرص» على الصحة. و التصويب من «النقائض».
5- كذا في «النقائض». و يرجحه أن كرب بن صفوان المقول فيه هذا الشعر ينتهي نسبه إلى سعد. و في «الأصول»: «جموع تيم».
6- في «الأصول»: «و لن تغيبوا». و التصويب من «النقائض».
7- كذا في «النقائض» و في «الأصول»: «فلما استثبت...».
8- التكملة من «النقائض».
9- العود هنا: المسن من الإبل. و الأحذ هنا: خفيف شعر الذنب، أو قصير الذنب. و الأعصل: الملتوي الذنب.
10- في «الأصول»: «فقال الحزارة من بني أسد و الحازر و القائف» إلا «ج» «ففيها الحازي»، على الصحة، و هو تحريف. و العائف: الذي يزجر الطير.

اعقروه. فقال لقيط: و اللّه لا يعقر حتّى يكون فحل(1) إبلي غدا -. و كان البعير من عصافير المنذر التي أخذها قرّة بن هبيرة(2) بن عامر بن سلمة بن قشير. و العصافير: إبل كانت للملوك نجائب - ثم استقبلهم معاوية بن عبادة بن عقيل و كان أعسر فقال:

أنا الغلام الأعسر *** الخير فيّ و الشّر

و الشرّ(3) فيّ أكثر

فتشاءمت بنو أسد و قالوا: ارجعوا عنهم و أطيعونا. فرجعت بنو أسد فلم تشهد جبلة مع لقيط إلا نفيرا يسيرا، منهم شأس بن أبي بليّ(4) أبو عمرو بن شأس الشاعر، و معقل بن عامر بن موألة(5) المالكيّ. و قال الناس للقيط: ما ترى؟ فقال: أرى أن تصعدوا إليهم. فقال شأس: لا تدخلوا على بني عامر؛ فإني أعلم النّاس بهم، قد قاتلتهم و قاتلوني و هزمتهم و هزموني، فما رأيت قوما قطّ أقلق بمنزل من بني عامر! /و اللّه ما وجدت لهم مثلا إلاّ الشّجاع؛ فإنه لا يقرّ في حجره قلقا، و سيخرجون إليكم. و اللّه لئن بتّم(6) هذه الليلة لا تشعرون بهم إلاّ و هم منحدرون عليكم. فقال لقيط. و اللّه لندخلنّ عليهم. فأتوهم و قد أخذوا حذرهم. و جعل الأحوص ابنه شريحا على تعبئة الناس. فأقبل لقيط و أصحابه مدلّين فأسندوا(7) إلى الجبل حتى ذرّت الشمس. فصعد لقيط في الناس و أخذ بحافتي الشّجن(8). فقالت بنو عامر للأحوص: قد أتوك. فقال: دعوهم. حتى إذا نصفوا الجبل و انتشروا فيه، قال الأحوص: حلّوا عقل/الإبل ثم احدروها و اتّبعوا آثارهم(9)، و ليتبع كلّ رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة، ففعلوا ثم صاحوا بها، فلم يفجأ الناس إلاّ الإبل تريد الماء و المرعى، و جعلوا يرمونهم بالحجارة و النّبل؛ و أقبلت الإبل تحطم كلّ شيء مرّت به، و جعل البعير يدهدي بيديه(10) كذا و كذا حجرا. و قد كان لقيط و أصحابه سخروا منهم حين صنعوا بالإبل ما صنعوا. فقال رجل من بني أسد:

زعمت أنّ العير لا تقاتل *** بلى إذا تقعقع(11) الرحائل

و اختلف الهنديّ و الذّوابل *** و قالت الأبطال من ينازل

بلى و فيها حسب و نائل

ص: 96


1- في «أ، م، ج»: «فحل أبي غدا». و في «ب، س»: «محل أبي غدا». و التصويب من «النقائض»، و فيها «نذرا» بدل كلمة «غدا».
2- في «الأصول»: «قرة بن زهير». و التصويب من «النقائض» و «تاريخ الطبري».
3- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «و الضرفيّ...».
4- في «الأصول»: «... شأس بن أبي ليلى...» و التصويب من «النقائض» شرح التبريزي ل «ديوان الحماسة» ص 139 طبع مدينة بن سنة 1828 م).
5- في «الأصول»: «موالكة». و التصويب من «النقائض» و كتب اللغة.
6- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «لئن نمتم...».
7- أسندوا إلى الجبل: اعتمدوا عليه. فقال: سند و تساند و أسند إلى الشيء و استند إذا اعتمد عليه.
8- الشجن: (بالفتح): أعلى الوادي. و في «النقائض»: «بحافتي الشعب».
9- في «النقائض»: «أدبارها».
10- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «بصدره».
11- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «إذا ما قعقع». و تقعقع الشيء: اضطرب و تحرك. و الرحائل: جمع رحالة و هي السرج من جلود لا خشب فيه يتخذ للركض الشديد.
شعر لبعض بني عامر في الوقعة:

فانحطّ الناس منهزمين من(1) الجبل حتى السّهل. فلمّا بلغ الناس السّهل لم يكن لأحد منهم همّة إلا أن يذهب على وجهه، فجعلت بنو عامر يقتلونهم و يصرعونهم بالسيوف في آثارهم، فانهزموا شرّ الهزيمة. فجعل رجل من بني عامر يومئذ يرتجز و يقول:

/

لم أر يوما مثل يوم جبله *** يوم أتتنا أسد و حنظله

و غطفان و الملوك أزفله(2)*** نضربهم بقضب منتخله(3)

لم تعد أن أفرش عنها الصّقله(4)*** حتى حدوناهم حداء الزّومله(5)

و جعل معقل بن عامر(6) يرتجز و يقول:

نحن حماة الشّعب(7) يوم جبله *** بكلّ عضب صارم و معبله

و هيكل نهد معا(8) و هيكله

المعبلة: السهم إذا كان نصله عريضا فهو معبلة، و الرقيق: القطبة.

قتال بني تميم ضد بني عامر:

و خرجت بنو تميم من الخليف على الخيل فكركروا الناس (يعني ردّوهم) و انقطع شريح بن الأحوص في فرسان حتى أخذ الجرف فقاتل الناس قتالا شديدا هناك، و جعل لقيط يومئذ(9) و هو على برذون له مجفّف(10)بديباج أعطاه إيّاه كسرى - و كان أوّل عربيّ جفّف - يقول:

عرفتكم و الدمع العين يكف(11) *** لفارس أتلفتموه ما خلف

إنّ النّشيل و الشّواء و الرّغف *** و القينة الحسناء و الكأس الأنف(12)

/و صفوة القدر و تعجيل اللّقف(13) *** للطاعنين الخيل و الخيل قطف(14)

ص: 97


1- في «الأصول»: «في الجبل». و التصويب من «النقائض».
2- الأزفلة: الجماعة. و في «الأصول»: «أرفلة» بالراء. و التصويب من «النقائض».
3- منتخلة: مختارة.
4- أفرش عنه: أقلع. و الصقلة: جمع صاقل، من صقل السيف إذا جلاه. يريد أنها حديثة الجلاء.
5- الزوملة: الإبل. و في «الأصول»: «حتى حذوناهم حذاء الرفلة». و التصويب من «النقائض».
6- في «الأصول»: «معقل بني عامر». و التصويب من «النقائض».
7- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «نحن سماة الخيل».
8- هيكل هنا: ضخم. و النهد من الخيل: كثير اللحم حسن الجسم مع ارتفاع.
9- في «الأصول الخطية»: «و جعل لقيط يومئذ و هو الحارث على برذون له...» بزيادة «الحارث». و في «النقائض»: «و جعل لقيط و هو يومئذ على الجرف على برذون...».
10- مجفف: عليه تجفاف (بفتح التاء و كسرها) و هو شيء يتخذ من حديد أو غيره يجعل على ظهر الفرس ليقيه الأذى، و قد يلبسه الإنسان أيضا.
11- كذا في «النقائض». و يكف: يسيل. و في «الأصول»: «بالعين بكف».
12- النشيل هنا: اللحم المطبوخ، أو الذي ينشل من القدر قبل النضج، و اللبن ساعة يحلب. و الشواء (بالكسر و يضم): ما شوي من اللحم و غيره أي عرض لحرارة النار فنضج و صلح للأكل. و الكأس الأنف: التي لم يشرب بها قبل ذلك.
13- اللقف: يريد به ما يلقف و يتناول من الطعام. و في بعض الأصول: «و تعجيل اللفف» بفاءين.
14- كذا في «النقائض». و قطف: جمع قطوف و هو المتقارب الخطو أو البطيء من الدواب. و في «الأصول الخطية»: «جنف» و في «ب، س»: «جفف» و هو تحريف.

و جعل لا يمرّ به أحد من الجيش إلاّ قال [له(1)]: أنت و اللّه قتلتنا و شتمتنا(2). فجعل يقول:

يا قوم قد أحرقتموني باللّؤم *** و لم أقاتل عامرا قبل اليوم

فاليوم إذ قاتلتهم فلا لوم *** تقدّموا و قدّموني للقوم

شتّان هذا و العناق و النّوم *** و المضجع البارد في ظلّ الدّوم

و قال شأس بن أبي بليّ(3) يجيبه:

لكن أنا قاتلتها قبل اليوم *** إذ كنت لا تعصي أموري في القوم

و جعل لقيط يقول: من كرّ فله خمسون ناقة، و جعل يقول:

أ كلّكم يزجركم أرحب(4) هلا *** و لن تروه الدّهر إلاّ مقبلا

/يحمل زغفا و رئيسا(5) حجفلا *** و سائلا في أهله ما فعلا

و جعل يقول أيضا:

أشقر(6) إن لم تتقدّم تنحر *** و إن تأخّر عن هياج تعقر

ثم عاد يقول:

إنّ الشواء و النّشيل و الرّغف

/فأجابه شريح بن الأحوص:

إن كنت ذا صدق فأقحمه الجرف *** و قرّب الأشقر حتى تعترف

وجوهنا إنّا بنو البيض العطف(7)

سقوط لقيط في الموقعة:

و بينه و بينه جرف منكر، فضرب لقيط فرسه و أقحمه عليه الجرف؛ فطعنه شريح [فسقط(8)]. و قد اختلفوا في ذلك، فذكروا أنّ الذي طعنه جزء بن خالد بن جعفر، و بنو عقيل تزعم أنّ عوف بن المنتفق العقيليّ قتله يومئذ و أنشأ يقول:

ص: 98


1- زيادة عن «النقائض».
2- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «و شاتمتنا».
3- راجع الحاشية الثامنة من صفحة 140 المتقدّمة.
4- في «الأصول»: «رحب هلا». و التصويب من «النقائض»، و فيها: «أكلهم يزجره». و أرحب و هلا: مما تزجر به الخيل؛ يقال للخيل: أرحب و أرحبي أي توسعي و تباعدي و تنحي. و هلا أي اسكني و قري.
5- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «ربيا» بدل «رئيسا». و رواية هذا الشطر في «النقائض»: يقود جيشا و رئيسا جحفلا و ليس فيها الشطر الأخير. و الزغف و الزغفة (و تحرك الغين فيهما): الدرع المحكمة أو اللينة، و الجمع الزغف (بالفتح) كالواحد.
6- أشقر: اسم فرسه يخاطبه.
7- العطف: جمع عطوف، و هو وصف من عطف عليه يعطف عطفا إذا رجع عليه بما يكره أوله بما يريد.
8- زيادة عن «النقائض».

ظلّت تلوم لما بها عرسي(1) *** جهلا و أنت حليمة أمس

إن تقتلوا بكري و صاحبه *** فلقد شفيت بسيفه نفسي

فقتلته في الشّعب أوّل فارس(2) *** في الشّرق قبل ترحّل الشمس

فزعموا أن عوفا هذا قتل يومئذ ستّة نفر، و قتل ابن له و ابن أخ له. و أمّ العلماء فلا يشكّون أن شريحا قتله، و ارتثّ و به طعنات - و الارتثاث أن يحمل و هو مجروح، فإن حمل ميّتا فليس بمرتثّ - فبقي يوما ثم مات. فجعل لقيط يقول عند موته:

يا ليت شعري عنك دختنوس *** إذا أتاك الخبر المرسوس(3)

أ تحلق القرون أم تميس *** لا بل تميس إنّها عروس

دختنوس بنت لقيط بن زرارة، و كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس. و جعلت بنو عبس(4) يضربونه و هو ميّت، فقالت دختنوس:

شعر لدختنوس في أبيها:

ألا يا لها الويلات ويلات من بكى *** لضرب بني عبس لقيطا و قد قضى

لقد ضربوا وجها عليه مهابة *** و ما تحفل(5) الصّمّ الجنادل من ردى

فلو أنّكم كنتم غداة لقيتم *** لقيطا صبرتم(6) للأسنّة و القنا

غدرتم و لكن كنتم مثل خضّب(7) *** أصاب(8) لها القنّاص من جانب الشّرى

فما ثأره فيكم و لكنّ ثأره *** شريح و أردته الأسنّة إذ هوى(9)

فإن تعقب الأيّام من عامر يكن(10) *** عليهم حريقا لا يرام إذا سما

ليجزيهم(11) بالقتل قتلا مضعّفا *** و ما في دماء الحمس يا مال من بوا(12)

ص: 99


1- العرس: الزوجة. و في البيت التفات من الغيبة إلى الخطاب.
2- وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرفة، ففي «ب، س»: «فقتله في الشعب وا فرسي» و في «أ، م»: «في الشعر كي و فارس» و في «ج»: «أو فارس» و التصويب من «النقائض».
3- المرسوس: اسم مفعول من قولهم: رس له الخبر إذا ذكره له.
4- في «الأصول»: «بنو عامر» و التصويب من «النقائض»، و يؤيده ما في الشعر الذي بعده.
5- في «ب، س، ج»: «و ما تحمل الضيم الجنادل». و في «أ، م»: «و ما يحمل الصم الجنادل» و التصويب من «النقائض». وردى هنا: رمى.
6- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «ضربتم بالأسنة». و جواب «لو» محذوف، أي لأصابكم منا القتل الذريع.
7- الخضب: النعام. و الظليم الخاضب: الذي احمرت ساقاه من أكل الربيع.
8- في «الأصول»: «أضاءت». و التصويب من «النقائض»؛ و فيها: «أصاب له». و أصاب هنا: سقط و نزل ضد أصعد. و الشرى: موضع.
9- في «الأصول»: «أ أردته الأسنة أو هوى». و التصويب من «النقائض».
10- كذا في «النقائض» في «الأصول»: «... من فارس تكن. عليكم........».
11- في «ب، س»: «ليجزيكم».
12- البواء (بالمد، و قصر هنا للشعر): السواء و التكافؤ؛ يقال فلان بواء فلان إذا كان كفؤه إذا قتل به.

و لو قتلتنا غالب كان قتلها *** علينا من العار المجدّع للعلى

لقد صبرت كعب و حافظت *** كلاب و ما أنتم هناك لمن رأى

و قالت دختنوس أيضا:

لعمري لئن لاقت من الشرّ(1) دارم *** عناء لقد آبت حميدا ضرابها

/فما جبنوا بالشّعب إذ صبرت لهم *** ربيعة يدعى كعبها و كلابها

/عصوا(2) بسيوف الهند و اعتكرت لهم(3) *** براكاء موت لا يطير غرابها

براكاء: مباركة القتال و هو الجدّ في القتال. يقال للرجل إذا وقع في خطب لا يطير غرابه(4). و قالت دختنوس:

بكر النّعيّ بخير خن *** دف كهلها و شبابها

و بخيرها نسبا إذا *** عدّت إلى أنسابها

فرّت(5) بنو أسد حرو(6) *** د الطير عن أربابها

لم يحفلوا نسبا و لم *** يلووا لفيء عقابها(7)

من قتل في الموقعة و من نجا و أخبارهم:

و قتل يومئذ قريظ بن معبد بن زرارة، و زيد بن عمرو بن عدس قتله الحارث بن الأبرص بن ربيعة بن عامر بن عقيل، و قتل الفلتان بن المنذر [بن سلمى(8) بن جندل بن نهشل، و قتل أبو إياس بن حرملة بن جعدة بن العجلان] بن حشورة بن عجب بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان و هو يقول:

أقدم قطين(9) إنهم بنو عبس *** المعشر الحلّة في القوم الحمس

ص: 100


1- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: لعمري لقد لاقت من الشق دارم عناء و قد آبت حميدا ضرابها و في «أ، م»: «من النسق» مكان «من الشق».
2- يقال: عصا بالسيف يعصو، و عصى به يعصي (و زان فرح) إذا أخذه أخذ العصا أو ضرب به ضربه بها.
3- كذا في «النقائض». و اعتكرت: اختلط سوادها و اشتد من النقع المثار. و في بعض الأصول: «و اعتقلت». و في بعضها: «و اعتلقت».
4- ظاهر أن في العبارة حذفا من النساخ. و مقتضى السياق أن تكون العبارة هكذا: «يقال للرجل إذا وقع في ضيق شديد: وقع فلان من خطب لا يطير غرابه».
5- في «الأصول»: «قرت» و التصويب من «النقائض».
6- كذا في «النقائض». و الحرود: التنحي. و قد وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرفة؛ ففي بعض الأصول: «و خر الطير». و في بعضها: «و جزء الطير» و في بعضها: «و خرء الطير».
7- كذا ورد هذا البيت في «النقائض». و ورد في «الأصول» محرفا هكذا: لم يجعلوا كسبا و لم يأذوا لفيء عقابها و لعل المراد بالعقاب هنا: الراية.
8- التكملة من «النقائض».
9- في «النقائض»: «أقدم قطيب». و من أسماء خيلهم «قطيب» مكبرا و مصغرا، كما في «القاموس». و في كتاب «أسماء خيل العرب و فرسانها» «صدام» و ذكر هذا البيت.

/الحلّة(1): لم يكونوا يتشدّدون في دينهم. قال: و استلحم(2) [عمرو بن] حسحاس(3) بن وهب بن أعياء بن طريف الأسديّ، فاستنقذه [معقل بن] عامر بن موألة فداواه و كساه. فقال معقل في ذلك:

يديت(4) على ابن حسحاس بن وهب *** بأسفل ذي الجذاة يد الكريم

قصرت له من الدّهماء لمّا *** شهدت و غاب من له من حميم(5)

و لو أنّي أشاء لكنت منه *** مكان الفرقدين من النّجوم

أخبّره بأن الجرح يشوي *** و أنّك فوق عجلزة جموم(6)

يقول: إن الجرح الذي بك شوى لم يصب منك مقتلا -

ذكرت تعلّة الفتيان يوما *** و إلحاق الملامة بالمليم

قال: و حمل معاوية بن يزيد(7) الفزاريّ فأخذ كبشة بنت الحجّاج بن معاوية بن قشير، و كانت عند مالك بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، فحمل معاوية بن خفاجة أخو(8) مالك على معاوية بن يزيد فقتله و استنقذ كبشة، و قال: يا بني عامر، إنهم/يموتون، و قد كان(9) قيل لهم إنهم لا يموتون. و نزل حسّان بن عامر(10) بن الجون و صاح: يا آل كندة! فحمل عليه شريح بن الأحوص؛ فاعترض دون ابن الجون رجل من كندة يقال له حوشب، فضربه شريح بن الأحوص في رأسه فانكسر السيف فيه، فخرج يعدو بنصف(11) السيف و كان مما رعب(12) الناس مكانه. و شدّ طفيل بن مالك بن جعفر فأسر حسّان بن الجون، و شدّ عوف بن الأحوص على معاوية بن الجون فأسره و جزّ ناصيته و أعتقه على الثواب، فلقيته بنو عبس، فأخذه قيس بن زهير فقتله. فأتاهم عوف فقال: قتلتم طليقي فأحيوه أو ائتوني بملك مثله. فتخوّفت بنو عبس شرّه و كان مهيبا، فقالوا: أمهلنا.

فانطلقوا حتى أتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر يستغيثونه على عوف، فقال: دونكم سلمى بن مالك فإنه نديمه/و صديقه - و كانا مشتبهين أحمرين(13) أشقرين ضخمة أنوفهما، و كان في سلمى حياء -

ص: 101


1- عبارة «النقائض»: «الحمس قريش و ما ولدت من قبائل العرب يتشدّدون في دينهم، و الحلة لم يكونوا كذلك».
2- استحلم الرجل (بالبناء للمجهول): روهق في القتال و احتوشه العدوّ.
3- في «الأصول»: «و استحلم حسحاس بن مرة بن أعياء...» و التكملة و التصويب من «النقائض»، و يؤيده الشعر الذي بعده.
4- يديت: اتخذت عنده يدا، و الأكثر في اتخاذ اليد أن يقال أيديت بالألف؛ أما يديت فقليل. و يقال يديت فلانا إذا أصبت يده؛ و هذا مطرد في سائر الأعضاء. و ذو الجذاة (بفتح الجيم و كسرها كما في كتاب «معجم ما استعجم» للبكري): موضع.
5- كذا في النقائض. و في ج: «من لك من حميم». و في أ، م: «من كد حميم». و في «س»: «على كر الحميم». و في «ب»: «من كرمن حميم» و في «معجم البلدان» (في كلامه على الجداة بالجيم و الدال المهملة): «عن دار الحميم».
6- العجلزة (بكسر العين و اللام لهجة قيس، و بفتحهما لهجة تميم): الشديدة الخلق القوية، توصف بها النوق و الخيل، و في الخيل أعرف. و الجموم من الخيل: الذي إذ ذهب منه إحضار جاءه إحضار، يوصف به المذكر و المؤنث.
7- في «النقائض»: «بدر» بدل «يزيد».
8- في «الأصول»: «أبو مالك». و التصويب من «النقائض».
9- عبارة «النقائض»: «يا بني عامر إنهم يموتون. أحمد: و قد يروى أنه قال إنهم لا يموتون».
10- في «النقائض»: «عمرو».
11- في «النقائض»: «بقصدة السيف».
12- في «الأصول»: «رغب الناس» بالغين المعجمة. و التصويب من «النقائض».
13- كذا في «النقائض». و في «بعض الأصول»: «أخوين أشعرين». و في بعضها: «أحويين أشعرين».

[فأتوه(1)] فقال: سأكلّم لكم طفيلا حتى يأخذ أخاه فإنه لا ينجيكم من عوف إلاّ ذلك، و ايم اللّه ليأتينّ شحيحا.

فانطلقوا إليه، فقال طفيل: قد أتوني بك، ما أعرفني بما جئتم له! أتيتموني تريدون منّي ابن الجون تقيدون به من عوف، خذوه، فأعطاهم إيّاه؛ فأتوا به(2) عوفا فجزّ ناصيته و أعتقه؛ فسمّي الجزّاز. فذلك قول نافع بن الخنجر(3)ابن الحكم بن عقيل بن طفيل بن مالك في الإسلام:

/

قضينا الجون عن عبس و كانت *** منيّة(4) معبد فينا هزالا

قال: و شهدها لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر و هو ابن تسع سنين، و يقال: كان ابن بضع عشرة سنة، و عامر بن مالك يقول له: اليوم يتمت من أبيك إن قتل أعمامك. و قتل يومئذ زهير بن عمرو بن معاوية، وجد مقتولا بين ظهراني صفوف بني عامر حيث لم يبلغ القتال؛ و هو(5) معاوية الضّباب بن كلاب. فقال أخوه حصين للذي قتله:

يا ضبعا عثواء لا تستأنسي(6) *** تلتقم الهبر من السّقب الرّذي(7)

أقسم باللّه و ما حجّت بلي(8) *** [و ما على العزّى تعزّه غني

و قد حلفت عند منحر(9) الهدي] *** أعطيكم(10) غير صدور المشرفي

/فليس مثلي عن زهير بغنى *** هو الشّجاع و الخطيب اللّوذعي

و الفارس الحازم و الشهم الأبي *** و الحامل الثّقل إذا ينزل بي

و ذكروا أنّ طفيل بن مالك لما رأى القتال يوم جبلة قال: ويلكم! و أين نعم هؤلاء! فأغار على نعم عمرو و إخوته و هم من بني عبد اللّه بن غطفان ثم من بني الثّرماء، فاستاق ألف بعير. فلقيه عبيدة بن مالك فاستجداه، فأعطاه مائة بعير، و قال: كأنّي بك قد لقيت ظبيان بن مرّة بن خالد فقال لك: أعطاك من ألفه مائة! فجئت مغضبا. فلقى عبيدة ظبيان، فقال له: كم أعطاك؟ قال: مائة. فقال: أ مائة من ألف! فغضب عبيدة. قال: و ذكر أن عبيدة تسرّع يومئذ إلى

ص: 102


1- التكملة من «النقائض».
2- هذه عبارة «النقائض». و عبارة «الأصول»: «فأتوه فجز...».
3- كذا في «النقائض»، و قد سمت العرب خنجرا. و في «أ، م»: «نافع بن الجنجرة» بجيمين. و في «سائر الأصول»: «نافع بن الحنجرة بن الحكيم...».
4- كذا في «النقائض». و في «أكثر الأصول»: «صنيعة معبد». و في «ج»: «منيعة معبد».
5- كذا في «ج» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «... لم يبلغ القتال هو و معاوية الضباب...» و هو تحريف.
6- في «ج»: «عشواء لا ستهافسي». و في «سائر الأصول»: «عشواء لسترمانسي». و التصويب من «النقائض». و الضبع العثواء: الكثيرة الشعر. و العثا: لون إلى السواد مع كثرة شعر.
7- كذا في «النقائض». و ورد هذا الشطر مضطربا في «الأصول»؛ ففي «ج، ب، س»: «تلتهم الهبر من الشعب الذوي». و في «أ، م»: تلتهم الخبز من السغب الردي». و الهبر: قطع اللحم. و السقب: ولد الناقة أو هو ساعة يولد. و الرذي (بالذال المعجمة»: المهزول الهالك. و الردي: الهالك.
8- بلى: قبيلة من العرب.
9- في «الأصول بدل هذين الشطرين: «و ما على العدي من الهدي» و التكملة و التصويب من «النقائض». و العزى: شجرة من السمر كانت لغطفان يعبدونها و كانوا بنوا عليها بيتا و أقاموا عليها سدنة، فبعث إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خالد بن الوليد فهدم البيت و أحرق السمرة و هو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت اللّه قد أهانك و غني: قبيلة من غطفان. و الهدي (بفتح أوّله و كسر ثانيه و تشديد الياء مثل الهدي بالفتح): ما يهدي لمكة من النعم.
10- يريد: لا أعطيكم. و حذف «لا» النافية في مثل هذا الموضع كثير، و هي أن تكون داخلة على فعل مضارع و قبلها قسم.

القتال، فنهاه أخواه عامر و طفيل أن يفعل حتى يرى مقاتلا، فعصاهما و تقدّم، فطعنه رجل(1) في كتفه حتى خرج السّنان من فوق ثديه فاستمسك فيه السنان، فأتى طفيلا فقال له: دونك السّنان فانزعه، فأبى أن يفعل ذلك غضبا، فأتى عامرا فلم ينزعه منه غضبا، فأتى سلمى(2) بن مالك فانتزعنه منه، و ألقي جريحا مع النساء حتى فرغ القوم من القتال. و قتلت بنو عامر يومئذ من تميم ثلاثين(3) غلاما أغرل(4). و خرج حاجب بن زرارة منهزما، و تبعه الزّهدمان زهدم و قيس ابنا حزن بن وهب بن عويمر بن رواحة العبسيان، فجعلا يطردان حاجبا و يقولان له: استأسر و قد قدرا عليه، فيقول: من أنتما؟ فيقولان: الزّهدمان، فيقول: لا استأسر اليوم(5) لموليين. فبينما هم كذلك إذ أدركهم مالك ذو الرّقيبة بن سلمة بن قشير، فقال لحاجب: استأسر. قال:

/و من أنت؟ قال: أنا مالك ذو الرّقيبة. فقال: أفعل، فلعمري ما أدركتني حتى كدت أن أكون عبدا. فألقى إليه رمحه؛ و اعتنقه زهدم فألقاه عن فرسه. فصاح/حاجب: يا غوثاه. [و ندر السيف(6)]، و جعل زهدم يريغ(7) قائم السيف. فنزل مالك فاقتلع زهدما عن حاجب. فمضى زهدم و أخوه حتى أتيا قيس بن زهير بن جذيمة فقالا: أخذ مالك أسيرنا من أيدينا. قال: و من أسيركما؟ قالا: حاجب بن زرارة. فخرج قيس يتمثّل قول حنظلة بن الشّرقيّ القينيّ أبي الطّمحان رافعا صوته يقول:

أجدّ بني الشّرقيّ أولع أنّني *** متى أستجر جارا و إن عزّ يغدر

إذا قلت أوفى أدركته دروكة *** فيا موزع الجيران بالغيّ أقصر

حتى وقف على بني عامر فقال: إنّ صاحبكم أخذ أسيرنا. قالوا: من صاحبنا؟ قال: مالك ذو الرّقيبة أخذ حاجبا من الزّهدمين. فجاءهم مالك فقال: لم آخذه منهما، و لكنه استأسر لي و تركهما. فلم يبرحوا حتى حكّموا حاجبا في ذلك و هو في بيت ذي الرّقيبة، فقالوا: من أسرك يا حاجب؟ فقال: أمّا من ردّني عن قصدي و منعني أن أنجو و رأى منّي عورة فتركها فالزهدمان. و أمّا الذي استأسرت له فمالك؛ فحكّموني في نفسي. قال له القوم: قد جعلنا إليك الحكم في نفسك. فقال: أمّا مالك فله ألف ناقة، و للزهدمين مائة. فكان بين قيس بن زهير و بين الزهدمين مغاضبة [بعد(6) ذلك]؛ فقال قيس:

جزاني الزهدمان جزاء سوء *** و كنت المرء يجزى بالكرامه

و قد دافعت قد علمت معدّ *** بني قرط و عمّهم قدامه

/ركبت بهم طريق الحقّ حتّى *** أثبتهم(8) بها مائة ظلامه

و قال جرير في ذلك:

ص: 103


1- في «الأصول»: «فطعنه رجل منهم». و كلمه «منهم» ليست في «النقائض» لا معنى لها في السياق.
2- في «الأصول»: «سالم». و التصويب من «النقائض».
3- في «النقائض»: «ثمانين غلاما».
4- في «الأصول»: «أعزل». و التصويب من «النقائض». و أغرل: أقلف لم تقطع غزلته. يريد أنهم كانوا صغارا.
5- في «النقائض»: «الدهر».
6- زيادة عن «النقائض».
7- يريغ: يطلب. و في «الأصل» يراوغ» و التصويب من «النقائض».
8- في «أكثر الأصول»: «أتيتهم بها» و التصويب من «ج» و «النقائض».

و يوم الشّعب قد تركوا لقيطا *** كأنّ عليه حلّة أرجوان(1)

و كبّل(2) حاجب بشمام(3) حولا *** فحكّم ذا الرّقيبة و هو عاني

و أمّا عمرو بن [عمرو بن] عدس فأفلت يومئذ. فزعمت بنو سليم أنّ الخيل عرضت على مرداس بن أبي عامر يوم جبلة، و كان أبصر الناس بالخيل، فعرضت عليه فرس لغلام من بني كلاب، فقال: و اللّه لا أعجزها و لا أدركها ذكر و لا أنثى؛ فهذا ردائي بها و خمس و عشرون ناقة. فلمّا انهزم الناس يوم جبلة خرج الكلابيّ على فرسه تلك يطلب عمرو بن عمرو. قال(4) الكلابيّ: فراكضته نهارا على السّواء، و اللّه ما علمت أنه سبقني بمقدار أعرفه، ثم زاد مكانه و نقصت(5). فقلت: قمر و اللّه مرداس. و هوى عمرو إلى فرسه فضربها(6) بالسّوط فانكشفت، فإذا هي خنثى، لا ذكر و لا أنثى، فأخبرتهم أنّي سبقت. فقالوا: قمر السّلميّ. فقلت لا، ثم أخبرتهم الخبر. فقال مرداس:

تمطّت كميت كالهراوة ضامر *** لعمرو بن عمرو بعد ما مسّ باليد

/فلو لا مدى الخنثى و بعد جرائها *** لقاظ ضعيف النّهض حقّ مقيّد(7)

تذكّر ربطا(8) بالعراق و راحة *** و قد خفق الأسياف فوق المقلّد(9)

و زعم علماء بني عامر(10) أنه لمّا انهزم الناس خرجت بنو عامر و حلفاؤهم في آثارهم يقتلون/و يأسرون و يسلبون، فلحق قيس بن المنتفق بن عامر [بن طفيل(11)] بن عقيل بن عمرو بن عمرو فأسره. فأقبل الحارث بن الأبرص بن ربيعة بن عقيل في سرعان الخيل(12)، فرآه عمرو مقبلا فقال لقيس: إن أدركني الحارث قتلني وفاتك ما تلتمس عندي، فهل أنت محسن إليّ و إلى نفسك! تجزّ ناصيتي فتجعلها في كنانتك، و لك العهد لأفينّ لك، ففعل.

و أدركهما الحارث و هو ينادي قيسا و يقول: اقتل اقتل. فلحق عمرو بقومه. فلمّا كان الشهر(13) الحرام خرج قيس إلى عمرو و يستثيبه، و تبعه الحارث بن الأبرص حتّى قدما على عمرو بن عمرو؛ فأمر عمرو بن عمر ابنة أخيه آمنة(14) بنت زيد بن عمرو فقال: اضربي على قيس الذي أنعم على عمّك هذه القبّة. و قد كان الحارث قتل أباها زيدا

ص: 104


1- الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة.
2- وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرفة، و التصويب من «النقائض».
3- شمام: موضع، و يروى بالكسر على البناء مثل قطام، و بالفتح على أنه لا ينصرف.
4- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «و قال الكلابي» بزيادة الواو.
5- في «الأصول»: «ثم ذلك مكانه و نهضت». و التصويب من «النقائض».
6- في «ج» و «النقائض»: «و يهوى عمرو إلى فرسه فيضربها...».
7- كذا في «ح» و «النقائض» (صفحة 671). و لعله يريد: لو لا سرعة الخنثى لوقع أسيرا فأقام مدّة القيط ضعيف النهض حق مقيد، أي مقيدا حق التقييد، و ورد هذا الشطر في «سائر الأصول» محرفا. و يروى هذا البيت في «النقائض» (صفحة 409): فلو لا مدى الخنثى و طول جرائها لرحت بطيء المشي حق مقيد
8- في «ج»: «ريطا» و الربط (بضمتين و سكنت عينه هنا، و هذا التسكين جائز في مثل هذا الجمع، و الواحد ربيط): جماعات الخيل.
9- خفوق السيف اضطرابه. و المقلد: موضع القلادة من العنق، و موضع نجاد السيف على المنكبين.
10- هذه عبارة «النقائض». و في «ج»: «و زعم علماء بني أنه». و في «أكثر الأصول»: «و زعم علماؤنا أنهم لما انهزم الناس...».
11- الزيادة من «النقائض».
12- سرعان الخيل (بفتح الراء و سكونها): أوائلها.
13- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «في الشهر الحرام» بزيادة «في».
14- في «النقائض» «أمية».

يوم جبلة. فجاءت بالقبّة فرأت الحارث أهيأهما(1)، و أجملهما، فظنّته قيسا فضربت القبّة على رأسه و هي تقول: هذا و اللّه رجل/لم يطّلع الدّهر عليه بما اطّلع به عليّ. فلمّا رجعت إلى عمّها عمرو قال: يا ابنة أخي، على من ضربت القبّة؟ فنعتت له نعت الحارث. فقال: ضربتها و اللّه على رجل قتل أباك و أمر بقتل عمّك. فجزعت مما قال لها عمّها. فقال الحارث بن الأبرص:

أ ما تدرين يا ابنة آل زيد *** أمين(2) بما أجنّ اليوم صدري

فكم من فارس لم ترزئيه *** فتى الفتيان في عيص و قصر(3)

رأيت مكانه فصددت عنه *** فأعيا أمره و شددت أزري

لقد امرته فعصى إماري *** بأمّ عزيمة(4) في جنب عمرو

أمرت به لتخمش(5) حنّتاه *** فضيّع أمره قيس و أمري

- الحنّة: الزوجة. يقال حنّته، و طلّته(6) -. ثم إن عمرا قال: يا حار، ما الذي جاء بك! فو اللّه ما لك عندي نعمة، و لقد كنت سيّئ الرأي فيّ، قتلت(7) أخي و أمرت بقتلي. فقال: بل كففت [عنك(8)]، و لو شئت إذا أدركتك لقتلتك. قال: ما لك عندي من يد، ثم تذمّم منه فأعطاه مائة من الإبل، ثم انطلق فذهب الحارث فلمّا جاء(9) عمرا قيس أعطاه إبلا كثيرة، فخرج قيس بها، حتى إذا دنا من أهله سمع به/الحارث بن الأبرص فخرج في فوارس من بني أبيه عرض لقيس فأخذ ما كان معه. فلمّا أتى قيس بني أبيه بني المنتفق اجتمعوا إليه و أرادوا الخروج. فقال: مهلا! لا تقاتلوا إخوتكم؛ فإنه يوشك أن يرجع و أن يؤول إلى الحق فإنه رجل حسود. فلمّا رأى الحارث أن قيسا قد كفّ عنه ردّ إليه ما أخذ منه.

و أمّا عتيبة بن الحارث بن شهاب فإنه أسر يومئذ فقيّد في القدّ، و كان يبول على قدّه حتى عفن. فلمّا دخل الشهر الحرام هرب فأفلت منهم بغير فداء.

و غنم مرداس بن أبي عامر(10) غنائم و أخذ رجلا فأخذ منه مائة(11) ناقة، فانتزعها منه بنو أبي بكر بن كلاب؛ فخرج مرداس إلى يزيد بن الصّعق، و كان له خليلا، فانتهى إليه مرداس و هو يقول:

لعمرك ما ترجو معدّ ربيعها *** رجائي يزيدا بل رجائي أكثر

ص: 105


1- في «الأصول»: «أحياهما». و التصويب من «النقائض».
2- أمين: مصغر أمنة تصغير ترخيم. و في «النقائض»: «أميّ» كروايته الأولى.
3- كذا في «الأصول». و في «النقائض» (في صفحة 672): «في عيص و يسر»، و في 409 «أخي الفتيان في عرف و نكر».
4- في «الأصول»: «بأم غوية». و التصويب من «النقائض» (ص 672). و في 409 منها «بأم حزامة». يشير بهذا إلى قوله لقيس بن المنتفق حين أسر عمرو بن عمرو: اقتل اقتل، فأبى قيس أن يقتله.
5- الخمش: الخدش في الوجه، و قد يستعمل في سائر الجسد. يريد: ليقتل فتبكى عليه حنتاه فتخمشا وجوههن من كثرة اللدم لها.
6- في «الأصول»: «كلته» و هو تحريف.
7- في «الأصول»: «و قتلت» بزيادة الواو و ليست في «النقائض».
8- زيادة من «النقائض».
9- عبارة «النقائض»: «فلما خلا عمرو بقيس...».
10- في «الأصول»: «أبي غاز»، و التصويب من «النقائض» و من نسخة المرحوم الشنقيطي.
11- في «الأصول»: «و أخذ رجلا و مائة ناقة» و التصويب من «النقائض».

يزيد بن عمرو خير من شدّ ناقة *** بأقتادها(1) إذا الرياح تصرصر

/تداعت بنو بكر عليّ كأنما *** تداعت عليّ بالأحزّة(2) بربر

تداعوا(3) عليّ أن رأوني بخلوة *** و أنتم بأحدان(4) الفوارس أبصر

/و يروى «بوحدان». فركب يزيد حتى أخذ الإبل من بني أبي بكر فردّها إليه. فطرقه البكريّون فسقوه الخمر حتى سكر، ثم سألوه الإبل فأعطاهم إيّاها. فلمّا أصبح ندم، فخرج إلى يزيد فوجد الخبر قد جاءه. فقال له يزيد: أ صاح أنت أم سكران؟! فانصرف فاطّرد إبلا من إبل بني جعفر فذهب بها و أنشأ يقول:

أجنّ بليلى(5) قلبه أم تذكّرا *** منازل منها حول قرّى و محضرا

تخرّ(6) الهدال فوق خيمات أهلها *** و يرسون حسّا بالعقال(7) مؤطّرا

- الحسّ: الفرس الخفيفة. و المؤطّر: المعطوف -

سآبى و أستغني كما قد أمرتني *** و أصرف عنك العسر لست بأفقرا

و إنّ سليما و الحجاز مكانها *** متى آتهم أجد لبيتي مهجرا

- المهجر: الموضع الصالح؛ يقال: هذا أهجر من هذا إذا كان أجود [منه] و أصلح -

يفرّج عنّي حدّهم(8) و عديدهم *** و أسرج لبدي خارجيّا مصدّرا(9)

قصرت عليه الحالبين فجوده(10)*** إذا ما عدا بلّ الحزام و أمطرا

- الحالبين: الراعيين. يقول احتبستهما -

فخذ إبلا إنّ العتاب(11) كما ترى *** على خذم(12) ثم ارم للنصر جعفرا

ص: 106


1- الأقتاد: جمع قتد (بالتحريك و بالكسر) و هو خشب الرحل أو كل أداة الرحل. و في «ب، س»: «أو أقتادها» و هو تحريف.
2- كذا في «النقائض». و الأحزة: جمع حزيز، و هو ما غلظ من الأرض و انقاد. و في «ج»: «بالأخرة» (بالخاء المعجمة و الراء المهملة) جمع خرير، و هو المكان المنهبط بين الربوتين ينقاد، و في «سائر الأصول»: «بالأخيرة» و هو تحريف: و بربر: جيل من الناس.
3- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «تداعت» و التناسب بين الضمائر في البيت أولى.
4- كذا في «ح» و النقائض». و وردت هذه الكلمة محرفة في «سائر الأصول». و أحدان: جمع واحد كراكب و ركبان؛ يقال فيه وحدان على الأصل، و أحدان بقلب الواو همزة.
5- في «الأصول»: «أحن بليل» و التصويب من «النقائض» و «معجم البلدان» في كلامه على «محضر». و قرى و محضر: موضعان.
6- في «أكثر الأصول»: «تحن الهزال». و في «ج»: «تحن الهدال». و ما أثبتناه عن «النقائض». و الهدال هنا ضربت من الشجر يكون بالحجاز له ورق عراض، أو هو ما تدلي من الأغصان.
7- في «الأصول»: «بالفعال» و التصويب من «النقائض».
8- كذا في «النقائض». و الحدّ هنا الشوكة و القوّة. و في «الأصول»: «عدهم».
9- المصدّر من الخيل: السابق.
10- المراد بالجود هنا العرق.
11- كذا في «الأصول» و «النقائض»!.
12- الخذم (بالتحريك): السرعة في السير. و في «النقائض»: «ادع» بدل «ارم».

/

فإنّ بأكناف البحار(1) إلى الملا *** و ذي النّخل مصحى إن صحوت(2) و مسكرا

و أرعى من الأظلاف(3) أثلا و حمضة(4)*** و ترعى من الأطواء أثلا و عرعرا

و انصرف يومئذ سنان بن أبي حارثة المرّيّ في بني ذبيان على حاميته، فلحق بهم معاوية بن الصّموت بن الكامل(5) الكلابيّ، و كان يسمّى الأسد المجدّع، و معه حرملة العكليّ و نفر من النّاس، فلحق بسنان بن أبي حارثة و مالك بن حمار الفزاريّ في سبعين فارسا من بني ذبيان. فقال سنان: يا مالك كرّ و احمنا و لك خولة بنت سنان ابنتي أزوّجكها. فكرّ مالك فقتل معاوية، ثم اتّبعه حرملة العكليّ و هو يقول:

لأيّ يوم يخبأ المرء السّعه *** مودّع و لا ترى(6) فيه الدّعه

فكّر عليه مالك فقتله، ثم اتّبعه رجل من بني كلاب، فكرّ عليه مالك فقتله، ثم اتّبعه رجلان من قيس كبّة من بجيلة، فكرّ عليهما فقتلهما، و مضى مالك و أصحابه. فقال مالك في ذلك:

/

و لقد صددت عن الغنيمة حرملا *** و لقيته لددا(7) و خيلي تطرد

أقبلته(8) صدر الأغرّ و صارما *** ذكرا فخرّ على اليدين الأبعد

و ابن الصموت تركت حين لقيته *** في صدر مارنة يقوم و يقعد

و ابنا ربيعة في الغبار كلاهما *** و ابنا غنيّ عامر و الأسود(9)

/حتى تنفّس بعد نكظ مجحرا(10)*** أذهبت عنه و الفرائص ترعد

- النكظ الجهد. قال: -

يعدو ببزّي سابح ذو ميعة *** نهد المراكل ذو تليل(11) أقود

ص: 107


1- كذا في «النقائض». و في «ج، ب، س»: «فإن بأكناف الرحال» و في «أ، م»: «فإن بأكناف النجار». و هما تحريف. و البحار: جمع بحرة (بالفتح) و هي الفجوة من الأرض تتسع، أو هي الوادي الصغير يكون في الأرض الغليظة، أو هي الروضة العظيمة مع سعة. و الملا: الأرض الواسعة أو الفلاة.
2- كذا في «النقائض». و في «الأصول»: «إن سمعت».
3- في «النقائض»: «من الأكلاء». و الأظلاف: جمع ظلف (بالتحريك) و هو ما غلظ من الأرض و صلب.
4- كذا في «النقائض». و لعل المراد بالحمضة الحمض لحقته هاء التأنيث. و الحمض من النبات: كل نبت مالح أو حامض يقوم على سوق و لا أصل له. و في «ج»: «و خضمة» بالضاد المعجمة. و في «أ، م»: «و خصمة» بالصاد المهملة. و في «ب، س»: «و خطمة».
5- كذا في «أكثر الأصول». و في «ج»: «الكاهن». و في «النقائض»: «الكاهل». و لم نهتد لوجه الصواب فيه.
6- في «الأصول»: «و لا يرى فيها الدعة» و التصويب من «النقائض». و المودّع: المترف المنعم. و الدعة هنا: الخفض في العيش و الراحة. يقول: هو مترف منعم و لا ترى عليه آثار النعمة.
7- وردت هذه الكلمة في «الأصول» مضطربة؛ ففي «ب، س»: «لدا». و في «أ، م»: «لدوا». و في «ج»: «للدا». و التصويب من «النقائض»، و الرواية فيها: «و بغيته لددا». و اللدد: مصدر لددت فلانا ألده إذا خصمته و جادلته.
8- أقبلت الشيء الشيء: جعلته قبالته.
9- رواية «النقائض»: و ابنا بجيلة في الغبار كلاهما و ابن الغني و عامر و الأسود
10- المجحر: المضطر الملجأ.
11- في «الأصول»: «يعدو بين» بدون الياء. و التصويب من «النقائض». و السابح: الفرس الحسن مدّ اليدين في الجري. و ميعة كل شيء: أوّله و أنشطه. و النهد: الجسم المرتفع. و مركل الدابة: حيث يركله الراكب برجله ليحثه على السير. و التليل: العنق. و الأقود: إن كان وصفا لنهد فهو المنقاد الذليل، و إن كان وصفا لتليل فهو الطويل، و يكون في البيت إقواء.

فخطب إليه مالك خولة فأبى أن يزوّجه.

و أمّا بنو جعفر فيزعمون أن عروة الرّحّال بن عتبة بن جعفر وجد سنان بن أبي حارثة و ابنيه هرما و يزيد على غدير قد كاد العطش أن يهلكهم، فجرّ نواصيهم و أعتقهم. ثم إن عروة أتى سنانا بعد ذلك يستثيبه ثوابا يرضاه [فلم يثبه شيئا(1)].

فقال عروة في ذلك:

ألا من مبلغ عنّي سنانا *** ألوكا لا أريد بها عتابا

أ في الخضراء تقسم هجمتيكم(2) *** و عروة لم يثب إلا التّرابا

/فلو كان الجعافر طاوعوني *** غداة الشّعب لم تذق(3) الشّرابا

أ تجزي القين نعمتها عليكم *** و لا تجزي بنعمتها كلابا

و أمّا بنو عامر فيزعمون أن سنانا انصرف ذات يوم هو و ناس من طيّئ و غيرهم قبل الوقعة، فبلغه أنّ بني عامر يقولون: مننّا عليه؛ فأنشأ يقول:

و اللّه ما منّوا و لكن شكّتي *** منّت و حادرة المناكب صلدم(4)

بخرير شول(5) يوم يدعى عامر *** لا عاجز ورع(6) و لا مستسلم

و أمّا بارق فتدّعي أسر سنان يومئذ على الثّواب، ثم أتوه فلم يصنع بهم خيرا. فقال معقّر بن أوس بن حمار البارقيّ:

متى تك في ذبيان منك صنيعة *** فلا تحمدنها الدّهر بعد سنان

يظلّ يمنّينها بحسن ثوابه(7) *** لكم مائة يحدو بها فرسان

مخاض أؤدّيها و جلّ لقائح(8) *** و أكرم مثوى منكم من أتاني

/فجئناه للنّعمى فكان ثوابه *** رغوث و وطبا حازر مذقان(9)

ص: 108


1- زيادة عن «النقائض».
2- الخضراء من الناس: سوادهم و معظمهم. و الهجمة: القطعة الضخمة من الإبل و اختلف في مقدارها على عدة أقوال.
3- في «الأصول»: «يذق» بالياء المثناة من تحت. و التصويب من «النقائض».
4- الشكة: السلاح. و حادرة المناكب: غليظتها. و المناكب: جمع منكب (بكسر الكاف) و هو من الإنسان و غيره مجتمع رأس الكتف و العضد. و قد عللوا ورود الجمع في مثل هذا فقال اللحياني: هو من الواحد الذي يفرّق فيجعل جمعا، و العرب تفعل هذا كثيرا. و قياس قول سيبويه أن يكونوا ذهبوا في ذلك إلى تعظيم العضو، كأنهم جعلوا كل طائفة منه منكبا. و صلدم: صلب شديد أو هو شديد الحاقر. و يلحظ أن «حادرة المناكب» وصف لأنثى، «و صلدما» وصف مذكر، و الأنثى «صلدمة» بهاء التأنيث.
5- في «ج»: «بجزير سول». و في «النقائض»: بجزير سول» بحاء مهملة و زاءين معجمتين و قد أثبتنا ما ورد فيه.
6- الورع: الجبان. و الضعيف في رأيه و عقله و بدنه.
7- في «أكثر الأصول»: «يظل فينأى محسن بثوابه» و التصويب من «ج» و «النقائض».
8- ورد هذا الشطر في «النقائض» هكذا: مخاض أؤديها لقائح مائة
9- في «أكثر الأصول»: رغوثا و وطبا خازرا» و التصويب من «ج» و «النقائض». و المراد بالرغوث هنا: ذات اللبن. و الوطب: سقاء اللبن. و الحازر: الحامض. و المذق: اللبن المخلوط بالماء. يقال: مذقت اللبن أمذقه مذقا من باب نصر) إذا خلطته بالماء، فاللبن ممذوق و مذيق و مذق (بفتح فكسر) الأخيرة على النسب.

و ظلّل ثلاثا يسأل الحيّ ما يرى *** يؤامرهم(1) فيناله أملان

فإن كنت هذا الدهر لا بدّ شاكرا *** فلا تثقن بالشكر في غطفان(2)

تاريخ يوم جبلة:

قال: و كان جبلة قبل الإسلام بتسع(3) و خمسين سنة قبل مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم(4) بتسع عشرة سنة. و ولد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عام الفيل، ثم أوحى اللّه إليه بعد أربعين سنة، و قبض و هو ابن ثلاث و ستّين سنة، و قدم عليه عامر بن الطّفيل في السنة التي قبض فيها صلّى اللّه عليه و سلّم، قال: و هو ابن ثمانين سنة.

ما قيل في هذا اليوم من الشعر:
اشارة

و قال المعقّر بن أوس بن حمار البارقيّ حليف بني نمير بن عامر:

أ من آل شعثاء(4) الحمول البواكر *** مع اللّيل أم(5) زالت قبيل الأباعر(6)

و حلت سليمى في هضاب و أيكة *** فليس عليها يوم ذلك قادر

و ألقت عصاها و استقرّت بها النّوى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر

/و صبّحها أملاكها بكتيبة *** عليها إذا أمست من اللّه ناظر

/معاوية بن الجون ذبيان حوله *** و حسّان في جمع الرّباب مكاثر

فمرّوا بأطناب(7) البيوت فردّهم *** رجال بأطراف الرماح مساعر(8)

و قد جمعوا جمعا كأن زهاءه *** جراد هوى في هبوة(9) متطاير

فباتوا لنا ضيفا و بتنا بنعمة *** لنا مسمعات بالدّفوف و سامر

و لم نقرهم(10) شيئا و لكنّ قصدهم *** صبوح لدينا مطلع الشّمس حازر

ص: 109


1- يؤامرهم: يشاورهم.
2- كذا ورد هذا البيت في «الأصول». و روايته في «النقائض»: فإن كنت هذا الدهر لا بدّ منعما فلا تبغين الشكر في غطفان و المعنى على هذه الرواية واضح؛ إذ هو يقول: إن كنت لا بدّ منعما في دهرك على أحد فلا تنعم على أحد من غطفان؛ فإنهم قوم يكفرون النعمة و يجحدون الصنيع. و ظاهر أن الغموض في «رواية الأصل» يرجع إلى تحريف فيها.
3- في «النقائض»: «بسبع».
4- في «ب، س»: «آل شعفاء» بالفاء و هو تحريف.
5- في «الأصول»: «أن زالت» و التصويب من «النقائض».
6- كذا في «ج» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «الأعاصر» و هو تحريف.
7- الأطناب: حبال تشدّ بها البيوت. و المراد بأطناب البيوت هنا: أطرافها و نواحيها و من ذلك الحديث: «ما بين طنبي المدينة أحوج مني إليها» أي ما بين طرفيها. و المراد بالبيوت هنا الخيام التي تشدّ بأطناب.
8- مساعر: جمع مسعر (بكسر الميم و فتح العين) يقال: فلان مسعر حرب، إذا كان يورثها، فتحمي به الحرب.
9- الهبوة: الغبار الثائر.
10- في «الأصول»: و لم يغرهم شيئا و لكن قصدهم صبوح لنا من مطلع الشمس خازر و التصويب من «النقائض». و حازر: حامض.

صبحناهم عند الشّروق كتائبا(1) *** كأركان سلمى شبرها متواتر

كأنّ نعام الدّوّ باض عليهم(2) *** و أعينهم تحت الحبيك جواحر(3)

- الحبيك في البيض إحكام عملها و طرائقها -

من الضاربين الكبش(4) يمشون مقدما *** إذا غصّ بالريق القليل الحناجر

و ظنّ سراة القوم ألاّ يقتّلوا(5)*** إذا دعيت بالسّفح(6) عبس و عامر

/ضربنا حبيك البيض في غمر لجّة *** فلم يبق(7) في الناجين منهم مفاخر

و لم ينج إلاّ من يكون طمرّة(8)*** يوائل أو نهد ملحّ مثابر

هوى زهدم تحت الغبار لحاجب *** كما انقضّ أقنى(9) ذو جناحين ماهر(10)

هما بطلان يعثران كلاهما *** أراد(11) رئاس السيف و السيف نادر

و لا فضل إلا أن يكون جراءة *** و ذبيان تسمو(12) و الرءوس حواسر

ينوء و كفّا زهدم من ورثه *** و قد علقت ما بينهن الأظافر

يفرّج عنّا كلّ ثغر نخافه *** مسحّ كسرحان القصيمة ضامر(13)

- القصيدة من الرمل: ما أنبتت الغضى و الرّمث -

و كلّ طموح في العنان كأنّها *** إذا اغتمست في الماء فتخاء(14) كاسر

ص: 110


1- الكتائب: فرق الجيش، واحدها كتيبة. و سلمى هنا: جبل في بلاد طيئ. و الشبر: الإعطاء. و متواتر: متتابع. يصف الكتائب بالضخامة كأنها أركان جبل سلمى المعروف. و المراد بإعطائها المتواتر: فتكها المتواصل.
2- يريد تشبيه ما على رءوسهم من بيض الحديد ببيض النعام.
3- جواحر: غائرات. و في «ب، س»: «جواهر» و هو تحريف.
4- كبش القوم: رئيسهم و سيدهم أو هو حاميهم و المنظور إليه فيهم.
5- في «ج» و «النقائض»: «أن لن يقتلوا».
6- في «الأصول»: «بالصفح» و التصويب من «النقائض». و سفح الجبل: أسفله حيث يسفح فيه الماء. و لعله يعني به مكانا بعينه.
7- في «النقائض»: «فلم ينج في الناجين».
8- في «أكثر الأصول»: «بطمره. بوائل» و التصويب من «ح» و «النقائض». و الطمر: الفرس الجواد، أو المستفز للوثب، أو هو الطويل القوائم الخفيف. و يوائل: يبادر إلى ملجأ لينجو. و النهد: القوي الضخم. يقال فرس نهد، و شاب نهد.
9- القنا: تنوء في وسط قصبة الأنف و إشراف، و قيل: هو في الصقر و البازي اعوجاج في المنقار.
10- في «أ، م»: «قاهر».
11- وردت هذه الكلمة محرفة في «الأصول»؛ ففي «ح»: «إذا أراد بأس السيف». و في «سائر الأصول». إذا ردّ بأس السيف». و التصويب من «النقائض». و رئاس السيف مقبضه. و نادر: ساقط. يقول: إن كل واحد منهما يطلب رئاس السيف لقتل صاحبه.
12- في «النقائض». «و ذو بدنين و الرءوس». و البدن هنا الدرع.
13- في «النقائض»: «جاسر». و المسح: الفرس الجواد السريع كأنّه يصب الجري صبا، شبه بالمطر في سرعة انصبابه. و السرجان: الذئب.
14- الفتخاء الكاسر: العقاب. و الفتح (بالتحريك): اللين في المفاصل و غيرها. و العقاب إذا انحطت كسرت جناحيها و غمزتها، و هذا لا يكون إلا من اللبن، فهي فتخاء.

لها ناهض(1) في المهد قد مهدت له *** كما مهدت(2) للبعل حسناء عاقر

/ - و بهذا البيت سمّي معقّرا و اسمه سفيان بن أوس. و إنما خصّ العاقر لأنها أقلّ دلاّ(3) على الزوج من الولود فهي تصنع له و تداريه -

تخاف نساء يبتدرن حليلها *** محرّدة(4) قد خرّدتها الضراء

و قال عامر بن الطّفيل بعد ذلك بدهر:

و يوم الجمع لاقينا لقيطا *** كسونا رأسه عضبا حساما(5)

أسرنا حاجبا فثوى بقدّ(6) *** و لم نترك لنسوته سواما

و جمع الجون(7) إذ دلفوا إلينا *** صبحنا جمعهم جيشا لهاما(8)

و قال لبيد بن ربيعة في ذلك:

و هم حماة الشّعب يوم تواكلت *** أسد و ذبيان الصّفا و تميم

فارتثّ(9) كلماهم عشيّة هزمهم *** حيّ(10) بمنعرج المسيل مقيم

/تم اليوم و الحمد للّه.

صوت

أ يجمل ما يؤتى إلى فتياتكم *** و أنتم رجال فيكم عدد النّمل

فلو أننا كنا رجالا و كنتم *** نساء حجال لم نقرّ(11) بذا الفعل

/الشعر لعفيرة بنت عفار(12) - و قيل بنت عبّاد - الجديسيّة التي يقال لها الشّموس. و الغناء لعريب خفيف ثقيل أوّل

ص: 111


1- الناهض: الفرخ الذي وفر جناحاه حتى استقل للنهوض.
2- في «الأصول»: «نهدت» و التصويب من «النقائض».
3- في «ح» و «النقائض»: «دالة».
4- التحريد هنا: من الحرد بمعنى الغيظ و الغضب، أي إن ضرائرها أغضبتها و غظنها.
5- العضب: السيف. و حسام: قاطع.
6- كذا في «ح» و «النقائض». و في «سائر الأصول»: «بقيد». و القدّ (بالكسر): سير بقد من جلد غير مدبوغ. و السوام: الإبل الراعية. يريد أنه لم يترك للنساء مالا.
7- في «الأصول»: «و جمع الحزم». و التصويب من «النقائض».
8- وردت هذه الكلمة في «الأصول»: محرفة؛ ففي «ح»: «كحيا لهاما». و في «سائر الأصول»: «كجبال هاما». و التصويب من «النقائض». و اللهام: الكثير.
9- الارتثاث: أن يحمل الجريح من المعركة و هو ضعيف قد أثخنته الجراح. و الكلمي: جمع كليم و هو الجريح.
10- في «ب، س»: «حتى» و هو تحريف.
11- كذا في «ح» و «كل الأصول» فيما يأتي (ص 166). و في «سائر الأصول» هنا: «لم نعير». و في «كتاب الصبح المنير» في شعر أبي بصير (ص 74 طبع مطبعة آدلف هلز هوسن بيانة): «لا نقر على الذل».
12- كذا في «الصبح المنير» و نسخة من «الكامل» لابن الأثير أشير إليها في ذيل النسخة المطبوعة في أوربا (ج 1 ص 251). و في «الأصول»: «بنت «عفان».

مطلق في مجرى البنصر. و فيه لحن من الثقيل الأوّل قديم.

عمليق ملك طسم و جديس و سبب قتله:

أخبرني بهذا الشعر و السبب الذي من أجله قيل عليّ بن سليمان الأخفش عن السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضّل أن عمليقا ملك طسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، و جديس بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، و كانت منازلهم في موضع اليمامة، كان(1) في أوّل مملكته قد تمادى في الظّلم و الغشم و السّيرة بغير الحقّ، و أنّ امرأة من جديس كان يقال لها هزيلة، و كان لها زوج يقال له قرقس(2)، فطلّقها و أراد أخذ ولدها منها، فخاصمته إلى عمليق، فقالت: «يا أيها الملك إنّي حملته تسعا، و وضعته دفعا، و أرضعته شفعا، حتى إذا تمّت أوصاله، و دنا فصاله، أراد أن يأخذه منّي كرها، و يتركني من بعده ورها(3)». فقال لزوجها:

ما حجّتك؟ قال: «حجّتي أيها الملك أنّي قد أعطيتها المهر كاملا، و لم أصب منها طائلا، إلاّ وليدا خاملا(4)، فافعل ما كنت فاعلا. فأمر بالغلام أن ينزع منهما جميعا و يجعل في غلمانه، و قال لهزيلة: «ابغيه ولدا، /و لا تنكحي أحدا، و اجزيه صفدا(5)». فقالت هزيلة: «أمّا النكاح فإنما يكون بالمهر، و أمّا السّفاح فإنما يكون بالقهر، و ما لي فيهما من أمر». فلما سمع ذلك عمليق أمر بأن تباع هي و زوجها، فيعطى زوجها خمس ثمنها، و تعطى هزيلة عشر ثمن زوجها. فأنشأت تقول:

أتينا أخا طسم ليحكم بيننا *** فأنفذ حكما في هزيلة ظالما

لعمري لقد حكّمت لا متورّعا *** و لا كنت فيما تبرم(6) الحكم عالما

ندمت و لم أندم و أنّى بعثرتي(7) *** و أصبح بعلي في الحكومة نادما

أمر أ لا تزوّج بكر من جديس حتى يفترعها:

فلمّا سمع عمليق قولها أمر ألاّ تزوّج بكر من جديس و تهدى إلى زوجها حتى يفترعها هو قبل زوجها، فلقوا من ذلك بلاء و جهدا و ذلاّ. فلم يزل يفعل هذا حتى زوّجت الشّموس و هي عفيرة بنت عبّاد أخت الأسود الذي وقع(8) إلى جبل طيّئ فقتلته طيئ و سكنوا الجبل من بعده. فلمّا أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله، و معها القيان يتغنّين:

ابدي(9) بعمليق و قومي فاركبي *** و بادري الصّبح لأمر معجب

ص: 112


1- في «الأصول الخطية»: «و كان...» بزيادة الواو و هو تحريف.
2- كذا في «ح». و في «أ، م»: «فرس». و في «ب، س»: «ما شق». و لم نهتد إليه.
3- كذا في «الأصول»: و كتاب «الكامل» لابن الأثير. و الورهاء (بالمد و قصرت هنا للسجع): الخرقاء. و في نسخة من كتاب «الكامل» لابن الأثير أشير إليها في ذيل النسخة المطبوعة في أوربا: «و لهى». و الوله: الحزن و ذهاب العقل لفقدان الحبيب. و هذه الرواية هي المناسبة هنا.
4- في «الأصول»: «حاملا» بالحاء المهملة، و التصويب من «الكامل» لابن الأثير و «الصبح المنير».
5- الصفد (بالتحريك): العطاء.
6- في «الأصول»: «يبرم» بالياء المثناة من تحت. و في «الكامل» لابن الأثير: «فيمن يبرم». و في «الصبح المنير»: «ممن يبرم».
7- كذا في «ح» و «الكامل» لابن الأثير. و في «ب، س»: لعترتي». و في «أ، م»: «قدمت و لم أندم و أني بعترتي». و كلاهما تحريف.
8- في «ب، س»: «دفع».
9- ابدي: أمر للأنثى من «بدأ» مع تسهيل الهمزة.

فسوف تلقين الذي لم تطلبي *** و ما لبكر عنده(1) من مهرب

تحريض عفيرة بنت عباد قومها عليه:

فلمّا أن دخلت عليه افترعها و خلّى سبيلها. فخرجت إلى قومها في دمائها شاقّة درعها من قبل و من دبر و الدّم يسيل و هي في أقبح منظر، و هي تقول:

/

لا أحد أذلّ من جديس *** أ هكذا يفعل بالعروس

/يرضى بهذا يا لقومي حرّ(2)*** أهدى و قد أعطى و سيق المهر

لأخذة الموت كذا لنفسه *** خير من ان يفعل ذا بعرسه

و قالت تحرّض قومها فيما أتى إليها:

أ يجمل ما يؤتى إلى فتياتكم *** و أنتم رجال فيكم عدد النّمل

و تصبح تمشي في الدّماء(3) عفيرة *** جهارا(4) و زفّت في النساء إلى بعل

و لو أننا كنا رجالا و كنتم *** نساء لكنّا لا نقرّ بذا الفعل

فموتوا كراما أو أميتوا عدوّكم *** و دبّوا لنار الحرب بالحطب الجزل

و إلا فخلّوا بطنها و تحمّلوا *** إلى بلد قفر و موتوا من الهزل

فللبين خير من مقام(5) على أذى *** و للموت خير من مقام على الذّلّ

و إن أنتم لم تغضبوا بعد هذه *** فكونوا نساء لا تعاب(6) من الكحل

و دونكم طيب العروس فإنما *** خلقتم لأثواب العروس و للغسل(7)

فبعدا و سحقا للذي ليس دافعا *** و يختال يمشي بيننا مشية الفحل

ائتمار جديس للغدر به و بقومه:

فلمّا سمع الأسود أخوها ذلك و كان سيّدا مطاعا قال لقومه: يا معشر جديس! إن هؤلاء القوم ليسوا بأعزّ منكم في داركم إلاّ بما كان من ملك صاحبهم علينا و عليهم، و لو لا عجزنا و إدهاننا(8) ما كان له فضل علينا. و لو امتنعنا لكان لنا منه النّصف(9). فأطيعوني فيما آمركم به، فإنّه عزّ الدهر، و ذهاب الذلّ العمر، و اقبلوا/رأيي. قال: و قد أحمى

ص: 113


1- في «الصبح المنير»: «بعد ذا».
2- في «الكامل»: يرضى بذا يا قوم بعل حر
3- في «ج»: «في الدجاء». و في «سائر الأصول»: «في الرعاء». و التصويب من كتاب «الكامل» لابن الأثير و «الصبح المنير».
4- هذه رواية «الكامل». و في «الأصول»: «عفيرة زفت». و في «الصبح المنير»: «عشية زفت».
5- كذا في «ج» و كتاب «الكامل» و «الصبح المنير». و في «سائر الأصول»: «من تماد».
6- في «الصبح المنير»: «لا تغب عن الكحل».
7- كذا في «ج» و كتاب «الكامل». و في «سائر الأصول»: «و للنسل». و الغسل (بالكسر): ما يغتسل به.
8- الإدهان: المصانعة و اللين مثل المداهنة.
9- النصف (بالتحريك): إعطاء الحق مثل النصفة و الإنصاف.

جديسا ما سمعوا من قولها فقالوا: نطيعك، و لكنّ القوم أكثر و أحمى و أقوى. قال فإنّي أصنع للملك طعاما ثم أدعوهم له جميعا. فإذا جاءوا يرفلون في الحلل ثرنا إلى سيوفنا و هم غارّون(1) فأهمدناهم بها. قالوا: نفعل.

فصنع طعاما كثيرا و خرج به إلى ظهر بلدهم، و دعا عمليقا و سأله أن يتغدى عنده هو و أهل بيته، فأجابه(2)إلى ذلك و خرج مع أهله يرفلون في الحلي و الحلل، حتى إذا أخذوا مجالسهم و مدّوا أيديهم إلى الطعام، أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم فشدّ الأسود على عمليق فقتله، و كلّ رجل منهم على جليسه حتى أماتوهم. فلمّا فرغوا من الأشراف شدّوا على السّفلة فلم يدعوا منهم أحدا. فقال الأسود في ذلك:

ذوقي ببغيك يا طسم مجلّلة *** فقد أتيت لعمري أعجب العجب

إنّا أبينا(3) فلم ننفكّ نقتلهم *** و البغي هيّج منّا سورة الغضب

و لن يعود علينا بغيهم أبدا *** و لن يكونوا كذى أنف و لا ذنب

و إن رعيتم لنا قربى مؤكّدة *** كنّا الأقارب في الأرحام و النسب

غزوة حسان بن تبع لجديس و هروب الأسود و قتل طيئ له:
اشارة

ثم إن بقيّة طسم لجئوا إلى حسّان بن تبّع، فغزا جديسا فقتلها و أخرب بلادها. فهرب الأسود قاتل عمليق، فأقام بجبلي طيّئ قبل نزول طيئ إيّاهما. و كانت طيئ تسكن الجرف من/أرض اليمن، و هو اليوم محلّة مراد و همدان، و كان سيّدهم يومئذ أسامة بن لؤيّ بن الغوث بن طيّئ، و كان الوادي مسبعة، و هم قليل عددهم، و قد كان ينتابهم بعير في أزمان الخريف و لم يدر أين يذهب و لم يروه إلى قابل، و كانت/الأزد قد خرجت من اليمن أيام العرم(4)، فاستوحشت طيّئ(5) لذلك و قالت: قد ظعن إخواننا فصاروا إلى الأرياف. فلما همّوا بالظّعن قالوا لأسامة: إنّ هذا البعير يأتينا من بلد ريف و خصب، و إنّا لنرى في بعره النّوى. فلو أننا نتعهّده عند انصرافه فشخصنا معه لكنا نصيب مكانا خيرا من مكاننا هذا. فأجمعوا أمرهم على ذلك. فلمّا كان الخريف جاء البعير فضرب في إبلهم، فلمّا انصرف احتملوا و اتّبعوه يسيرون بسيره و يبيتون حيث يبيت حتى هبط على الجبلين. فقال أسامة بن لؤيّ:

اجعل ظريبا كحبيب ينسى(6) *** لكل قوم مصبح و ممسى

قال: و طريب(7) اسم الموضع الذي كانوا ينزلون به. فهجمت طيئ على النخل في الشّعاب و على مواش

ص: 114


1- الغارّ: الغافل: و أهمدنانهم: أمتناهم.
2- في «الأصول»: «فأجابهم».
3- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «أتيتا».
4- كذا في «ج» و قد صححها كذلك المرحوم الشنقيطي في نسخته الخاصة من طبعة بلاق. و في «سائر الأصول»: «أيام الصرم» و هو تحريف.
5- في «الأصول»: «بلى» و التصويب من نسخة الشنقيطي.
6- كذا صححه المرحوم الشنقيطي في نسخته. و في «الأصول»: «جعلت طريفا كحب يبسا» و في «ج»: «ينسى» و هو تحريف. و في كتاب «صفة جزيرة العرب» لأبي محمد الحسن بن أحمد الهمداني صفحة 253 طبع مدينة ليدن سنة 1884 م: «و طريب موضع طيئ الذي انتجعوا منه إلى الجبلين».
7- في «الأصول»: «و طريف» و هو تحريف كما تقدّم.

كثيرة، و إذا هم برجل في شعب من تلك الشّعاب و هو الأسود بن عبّاد، فهالهم ما رأوا من عظم خلقه و تخوّفوه، و قد نزلوا ناحية من الأرض و استبروها هل يرون بها أحدا غيره فلم يروا. فقال أسامة بن لؤيّ لابن له يقال له الغوث: أي بنيّ! إنّ قومك قد عرفوا فضلك عليهم في الجلد و البأس و الرمي، فإن كفيتنا هذا الرجل سدت قومك آخر الدهر، و كنت الذي أنزلتنا هذا البلد. فانطلق الغوث حتى أتى الرجل فكلّمه و ساءله. فعجب الأسود بن صغر خلق الغوث فقال له: من أين أقبلتم؟ قال: من اليمن، و أخبره خبر البعير و مجيئهم معه، /و أنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه و صغرهم عنه، و شغلوه بالكلام، فرماه الغوث بسهم فقتله، و أقامت طيئ بالجبلين بعده، فهم هنالك إلى اليوم.

صوت

إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي *** ثناياه لم يحرج و كان له أجرا

فإن زاد زاد اللّه في حسناته *** مثاقيل يمحو اللّه عنه بها وزرا

الشعر لرجل من عذرة. و الغناء لعريب ثقيل أوّل بالوسطى.

حديث عمر بن أبي ربيعة عن صاحبه الجعد بن مهجع العذري:

نسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن موسى بن حمّاد قال ذكر الرّياشيّ قال قال حماد الراوية. أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة، فتذاكروا من العذريّين، فقال عمر بن أبي ربيعة: كان لي صديق من عذرة يقال له الجعد بن مهجع، و كان أحد سلامان، و كان يلقى مثل الذي ألقى من الصّبابة بالنساء و الوجد بهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة و لا سريع السّلوة، و كان يوافي الموسم في كلّ سنة؛ فإذا راث(1) عن وقته ترجّمت(2) عنه الأخبار، و توكفت له الأسفار حتى يقدم. فغمّني ذات سنة إبطاؤه حتى قدم حجّاج عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي، و إذا غلام قد تنفّس الصّعداء ثم قال: أ عن أبي المسهر تسأل؟ قلت: عنه أسأل و إيّاه أردت. قال: هيهات هيهات! أصبح و اللّه أبو المسهر لا مؤيسا فيهمل و لا مرجوا فيعلّل، /أصبح و اللّه كما قال القائل:

لعمرك ما حبّي لأسماء تاركي *** أعيش و لا أقضي به فأموت

/قال قلت: و ما الذي به؟ قال: مثل الذي بك من تهوّركما في الضّلال، و جرّكما أذيال الخسار، فكأنكما لم تسمعا بجنّة و لا نار. قلت: من أنت منه يا ابن أخي؟ قال: أخوه. قلت: أما و اللّه يا ابن أخي ما يمنعك أن تسلك مسلك أخيك من الأدب و أن تركب منه مركبه إلا أنّك و أخاك كالبرد و البجاد لا ترقعه و لا يرقعك، ثم صرفت وجه ناقتي و أنا أقول:

أ رائحة حجّاج عذرة وجهة *** و لمّا يرح في القوم جعد بن مهجع

خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى *** متى ما يقل أسمع و إن قلت يسمع

ألا ليت شعري أيّ شيء أصابه *** فلى زفرات هجن ما بين أضلعي

ص: 115


1- راث: أبطأ.
2- ترجمت: تظننت، من الرجم بمعنى الظن و الحدس. و توكفت توقعت و انتظرت. و الأسفار: جماعة المسافرين؛ يقال قوم أسفار، و سفار (بضم السين و تشديد الفاء) و سفر بفتح فسكون)، و سافرة.

فلا يبعدنك اللّه خلا فإنني *** سألقى كما لا لاقيت في كلّ

ثم انطلقت حتى وقفت موقفي من عرفات. فبينا أنا كذلك إذ أنا بإنسان قد تغيّر لونه و ساءت هيئته، فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما، ثم عانقني و بكى حتى اشتدّ بكاؤه. فقلت: ما وراءك؟ فقال: برح العذل، و طول المطل، ثم أنشأ يقول:

لئن كانت عديّة ذات لبّ *** لقد علمت بأنّ الحبّ داء

أ لم تنظر إلى تغيير جسمي *** و إنّي لا يفارقني البكاء

و لو أنّي تكلّفت الذي بي *** لقفّ(1) الكلم و انكشف الغطاء

فإنّ معاشري و رجال قومي *** حتوفهم الصّبابة و اللّقاء

إذا العذريّ مات خليّ ذرع *** فذاك العبد يبكيه الرّشاء

/فقلت: يا أبا المسهر إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض و غربها، فلو دعوت اللّه كنت قمنا أن تظفر بحاجتك و أن تنصر على عدوّك. قال: فتركني و أقبل على الدعاء. فلمّا نزلت الشمس للغروب و همّ الناس أن يفيضوا سمعته يتكلّم بشيء، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول:

يا ربّ كلّ غدوة و روحه *** من محرم يشكو الضّحى و لوحه

أنت حسيب الخلق يوم الدّوحة

الجعد بن مهجع يذكر لعمر سبب عشقه و مسعى عمر في زواجه من عشقها:
اشارة

فقلت له: و ما يوم الدوحة؟ قال: و اللّه لأخبرنّك و لو لم تسألني: فيمّمنا نحو مزدلفة، فأقبل عليّ و قال: إني رجل ذو مال كثير من نعم و شاء، و ذو المال لا يصدره و لا يرويه الثّماد(2). و قطر(3) الغيث أرض كلب، فانتجعت أخوالي منهم، فأوسعوا لي عن صدر المجلس و سقوني جمّة(4) الماء، و كنت فيهم في خير أخوال. ثم إنّي عزمت على موافقة إبلي بماء لهم يقال له الحوذان، فركبت فرسي و سمطت(5) خلفي شرابا كان أهداه إليّ بعضهم ثم مضيت، حتى إذا كنت بين الحيّ و مرعى النّعم رفعت(6) لي دوحة عظيمة، فنزلت عن فرسي و شددته بغصن من أغصانها و جلست في ظلّها. فبينا أنا كذلك إذ سطع غبار من ناحية الحيّ و رفعت لي شخوص/ثلاثة، ثم تبيّنت فإذا فارس يطرد مسحلا(7) و أتانا، فتأمّلته فإذا عليه درع أصفر و عمامة خزّ سوداء، و إذا فروع شعره تضرب خصريه، فقلت: غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذّة الصيد فترك ثوبه و لبس ثوب امرأته. فما جاز عليّ إلا يسيرا حتى طعن المسحل و ثنّى طعنة للأتان فصرعهما، و أقبل راجعا نحوي و هو يقول:

ص: 116


1- قف: يبس، يريد التأم. يقول: لو أني حاولت الذي بي و تكلفته لسهل على أن أبرأ منه، و لكنه قدر من اللّه لا محيص منه.
2- الثماد: جمع ثمد (بالتحريك و بالفتح) و هو الماء القليل الذي لا مادّ له.
3- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «و نضر الغيث» و هو تحريف.
4- جمة الماء (بالضم): معظمه.
5- سمط هنا: علق.
6- رفع لي الشيء: أبصرته من بعيد.
7- المسحل: الحمار الوحشي. و الأتان: الحمارة الوحشية.

/

نطعنهم سلكى و مخلوجة *** كرّك لأمين على نابل(1)

فقلت: إنك قد تعبت و أتعبت، فلو نزلت! فثنى رجله فنزل فشدّ فرسه بغصن من أغصان الشجرة و ألقى رمحه و أقبل حتى جلس، فجعل يحدّثني حديثا ذكرت به قول أبي ذؤيب:

و إنّ حديثا منك لو تبذلينه *** جنى النّحل في ألبان عوذ مطافل(2)

فقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره ثم رجعت، و قد حسر العمامة عن رأسه، فإذا غلام كأنّ وجهه الدينار المنقوش. فقلت: سبحانك اللّهمّ! ما أعظم قدرتك و أحسن صنعتك! /فقال: ممّ ذاك؟ قلت: مما راعني من جمالك و بهرني من نورك. قال: و ما الذي يروعك من حبيس التّراب، و أكيل الدوابّ، ثم لا يدري أ ينعم بعد ذلك أم يبأس. قلت: لا يصنع اللّه بك إلاّ خيرا. ثم تحدّثنا ساعة، فأقبل عليّ و قال: ما هذا الذي أرى قد سمعت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إليّ بعض أهلك، فهل لك فيه من أرب؟ قال: أنت و ذاك. فأتيته به، فشرب/منه و جعل ينكت أحيانا بالسّوط على ثناياه، فجعل و اللّه يتبيّن لي ظلّ السوط فيهن. فقلت: مهلا فإني خائف أن تكسرهنّ، فقال: و لم؟ قلت: لأنهن رقاق و هنّ عذاب. قال: رفع عقيرته يتغنّى:

إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي *** ثناياه لم يأثم و كان له أجرا

فإن زاد زاد اللّه في حسناته *** مثاقيل يمحو اللّه عنه بها الوزرا

ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره ثم رجع. قال: فبرقت لي بارقة تحت الدّرع. فإذا ثدي كأنه حقّ عاج. فقلت:

نشدتك اللّه امرأة؟ قالت: إي و اللّه إلاّ أنّي أكره العشير و أحبّ الغزل. ثم جلست فجعلت تشرب معي ما أفقد من أنسها شيئا حتى نظرت إلى عينيها كأنّهما عينا مهاة مذعورة. فو اللّه ما راعني إلاّ ميلها على الدوحة سكرى. فزيّن لي و اللّه الغدر و حسن في عيني، ثم إنّ اللّه عصمني منه، فجلست حجرة منها. فما لبثت إلاّ يسيرا حتى انتبهت فزعة، فلاثت عمامتها برأسها، و جالت في متن فرسها، و قالت: جزاك اللّه عن الصّحبة خيرا. قلت: أ و ما تزوّدينني منك زادا؟ فناولتني يدها، فقبّلتها فشممت و اللّه منها ريح المسك المفتوت، فذكرت قول الشاعر:

كأنها إذ تقضّى النوم و انتبهت *** سحابة ما لها عين و لا أثر

قلت: و أين الموعد؟ قالت: إنّ لي إخوة شرسا و أبا غيورا. و و اللّه لأن أسرّك أحبّ إليّ من أن أضرّك، ثم انصرفت.

فجعلت أتبعها بصري حتى غابت، فهي و اللّه يا ابن ربيعة أحلّتني هذا المحلّ و أبلغتني. فقلت له: يا أبا المسهر إنّ الغدر بك مع ما تذكر لمليح. فبكى و اشتدّ/بكاؤه. فقلت: لا تبك؛ فما قلت لك ما قلت إلا مازحا، و لو لم أبلغ

ص: 117


1- البيت لامرئ القيس. و السلكى: الطعنة المستقيمة تلقاء الوجه. و المخلوجة: الطعنة المعوجة عن يمين و شمال. و اللام: السهم عليه ريش لؤام. و اللؤام من الريش: ما يلائم بعضه بعضا، و هو ما كان بطن القذة منه يلي ظهر الأخرى، و هو أجود ما يكون. فإذا التقى بطنان أو ظهران فهو لغاب و لغب. و النابل: صاحب النبل. يصف الطعن بأنه كان يذهب فيهم و يرجع سريعا كما تردّ سهمين على رام رمى بهما. و قيل سئل امرؤ القيس و هو يشرب مع علقمة بن عبدة عن معنى قوله «كرك لأمين» فقال: مررت بنابل و صاحبه يناوله الريش لؤاما و ظهرا، فما رأيت أسرع منه فشبهت به. و قال القتيبي: إنما هو «كر كلامين» أي تكرير كلام بمعنى قول القائل للرامي: ارم ارم، أي ليس بين الطعن و الطعن إلا بمقدار ارم ارم. و قال زيد بن كندة: يريد أن يطعن طعنتين مختلفتين و يوالي بينهما كما يوالي هذا القائل بين هاتين الكلمتين. (راجع «لسان العرب» في الموادّ خلج و سلك و لأم، و شرح «ديوان امرئ القيس» للوزير أبي بكر عاصم بن أيوب).
2- عوذ، جمع عائذ و هي الحديثة النتاج إلى خمسة عشر يوما أو نحوها ثم هي بعد ذلك مطفل.

في حاجتك بمالي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه، فقال لي: /خيرا. فلمّا انقضى الموسم شددت على ناقتي و شدّ على ناقته، و دعوت غلامي فشدّ على بعير له، و حملت عليه قبّة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة المخزوميّ، و حملت معي ألف دينار و مطرف خزّ، و انطلقنا حتى أتينا بلاد كلب، فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادي قومه، و إذا هو سيّد الحيّ و إذا الناس حوله. فوقفت على القوم فسلّمت، فردّ الشيخ السلام، ثم قال: من الرجل؟ قلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة. فقال: المعروف غير المنكر، فما الذي جاء بك؟ قلت: خاطبا. قال: الكف، و الرّغبة. قلت: إني لم آت ذلك لنفسي عن غير زهادة فيك و لا جهالة بشرفك، و لكني أتيت في حاجة ابن أختكم العذريّ، و ها هو ذاك. فقال: و اللّه إنّه لكفيء الحسب رفيع البيت، غير أنّ بناتي لم يقعن إلاّ في هذا الحيّ من قريش. فوجمت لذلك، و عرف التغيّر في وجهي فقال: أما إنّي صانع بك ما لم أصنعه بغيرك. قلت: و ما ذاك فمثلي من شكر؟ قال: أخيّرها فهي و ما اختارت. قلت: ما أنصفتني إذ تختار لغيري و تولي الخيار غيرك. فأشار إليّ، العذريّ أن دعه يخيّرها. فأرسل إليها: إنّ من الأمر كذا و كذا. فأرسلت إليه: ما كنت لأستبدّ برأي دون القرشيّ، فالخيار في قوله، حكمه. فقال لي: إنها قد ولّتك أمرها فاقض ما أنت قاض. فحمدت اللّه عزّ و جلّ و أثنيت عليه و قلت: اشهدوا أنّي قد زوّجتها من الجعد بن مهجع و أصدقتها هذا الألف الدّينار، و جعل تكرمتها العبد و البعير و القبّة، و كسوت الشيخ المطرف، و سألته أن يبني بها عليه في ليلته. فأرسل إلى أمّها، فقالت: أ تخرج ابنتي كما تخرج الأمة!. فقال الشيخ: هجّري(1) في جهازها، فما برحت حتى ضربت القبّة في وسط الحريم، ثم أهديت إليه ليلا، و بتّ أنا عند الشيخ. فلمّا أصبحت أتيت القبّة فصحت بصاحبي، فخرج إليّ و قد أثّر السرور/فيه، فقلت:

كيف كنت بعدي و كيف هي بعدك؟ فقال لي: أبدت لي و اللّه كثيرا مما كانت أخفته عنّي يوم لقيتها. فسألتها عن ذلك فأنشأت تقول:

صوت

كتمت الهوى لما رأيتك جازعا *** و قلت فتى بعض الصديق يريد

و أن تطرحنّي(2) أو تقول فتيّة *** يضرّ بها برح الهوى فتعود

فورّيت عمّا بي و في داخل الحشى *** من الوجد برح فاعملنّ شديد

فقلت: أقم على أهلك، بارك اللّه لك فبهم، و انطلقت و أنا أقول:

كفيت أخي العذريّ ما كان نابه *** و إني لأعباء النوائب حمّال

أما استحسنت منّي المكارم و العلا *** إذا طرحت! إنّي لمالي بذّال

و قال العذريّ:

إذا ما الخطّاب خلّى مكانه *** فأفّ لدنيا ليس من أهلها عمر

ص: 118


1- هجري: أي بادري و أسرعي.
2- فتحنا الهمزة على تقدير و خشية أن تطرحني إلخ... أي و كتمت الهوى خشية أن يكون ذلك. و في «الأصول»: «يطرحني أو يقول...» بالياء المثناة من تحت.

فلا حىّ فتيان الحجازين بعده *** و لا سقيت أرض الحجازين بالمطر

صوت

/

إنّ الخليط قد ازمعوا تركي *** فوقفت في عرصاتهم أبكي

جنّيّة برزت لتقتلني *** مطليّة الأصداغ بالمسك

عجبا لمثلك لا يكون له *** خرج العراق و منبر الملك

الشعر لابن قيس الرّقيّات يقوله في عائشة بنت طلحة. و الغناء لمعبد، ثقيل أوّل السبّابة في مجرى البنصر.

و السبب في قول ابن قيس هذا الشعر فيها يذكر في أخبارها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 119

10 - أخبار عائشة بنت طلحة و نسبها

نسب عائشة بنت طلحة:

عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه بن عثمان بن عامر(1) بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. و أمّها أمّ كلثوم بنت أبي بكر الصّدّيق. أخبرني الحسن بن يحيى قال قال حمّاد قال أبي قال مصعب:

كانت لا تستر وجهها و عتاب مصعب لها في ذلك:

كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد. فعاتبها مصعب في ذلك، فقالت: إنّ اللّه تبارك و تعالى و سمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس و يعرفوا فضلي(2) عليهم، فما كانت لأستره، و و اللّه ما فيّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد. و طالت مرادّة مصعب إيّاها في ذلك، و كانت شرسة الخلق. قال: و كذلك نساء بني تيم هنّ أشرس خلق اللّه و أحظاه(3) عند أزواجهن. و كانت عند الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليهما أمّ إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: و اللّه لربّما حملت و وضعت و هي مصارمة لي لا تكلّمني.

غضبت على مصعب فبعث إليها ابن قيس الرقيات:

قال: نالت عائشة من مصعب و قالت: عليّ كظهر أمّي، و قعدت في غرفة و هيّأت فيها ما يصلحها. فجهد مصعب أن تكلّمه فأبت. فبعث إليها ابن قيس الرقيّات، فسألها كلامه، فقالت: كيف بيميني؟ فقال: هاهنا الشّعبيّ فقيه أهل العراق فاستفتيه. فدخل عليها فأخبرته، فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أ تحلّني و تخرج خائبا! فأمرت له بأربعة آلاف درهم. و قال ابن قيس الرّقيّات لمّا رآها:

/

جنّيّة برزت لتقتلنا *** مطليّة الأقراب(4) بالمسك

و ذكر باقي الأبيات:

غضبت على مصعب فاسترضاها أشعب فرضيت:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن إسحاق اليعقوبيّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم قال:

كان أشعب يألف مصعبا، فغضبت عليه عائشة بنت طلحة يوما، و كانت من أحبّ الناس إليه، فشكا ذلك إلى أشعب. فقال: ما لي إن رضيت؟ قال: حكمك. قال: عشرة آلاف درهم. قال: هي لك. فانطلق حتى أتى عائشة فقال: جعلت فداءك! قد علمت حبّي لك و ميلي قديما و حديثا إليك من غير منالة و لا فائدة. و هذه حاجة قد عرضت

ص: 120


1- في الكتب التي وردت فيها ترجمة طلحة بن عبيد اللّه مثل كتاب «المعارف» لابن قتيبة و كتب «تراجم الصحابة التي بين أيدينا»: «عثمان بن عمرو بن كعب... إلخ» و ليس فيها «عامر».
2- في «ب، س»: «فضله» و هو تحريف.
3- في «ب، س»: «أحظى عند أزواجهن» و هو تحريف.
4- الأقراب: جمع قرب (بالضم و بضمتين) و هو الخاصرة. و إنما للإنسان قربان، و لكن العرب يتوسعون في مثل هذا فيجمعونه.

تقضين بها حقّي و ترتهنين بها شكري. قالت: و ما عناك؟ قال: قد جعل لي الأمير عشرة آلاف درهم إن رضيت عنه.

قالت: ويحك! لا يمكنني ذلك. قال: بأبي أنت فارض عنه حتى يعطيني ثم عودي إلى ما عوّدك اللّه من سوء الخلق. فضحكت منه و رضيت عن مصعب. و قد ذكر المدائنيّ أن هذه القصة كانت لها مع عمر بن عبيد اللّه بن معمر، و أن الرسول إليها و المخاطب لها بهذه المخاطبة ابن أبي عتيق.

وصف عزة الميلاء لها و لعائشة بنت عثمان و أم القاسم بنت زكريا:
اشارة

و أخبرني الحسين/بن يحيى قال قال حماد قال أبي حدّثت عن صالح بن حسّان قال:

كان بالمدينة امرأة حسناء تسمّى عزّة الميلاء يألفها الأشراف و غيرهم من أهل المروءات، و كانت من أظرف الناس و أعلمهم بأمور النساء. فأتاها مصعب بن الزبير و عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر و سعيد بن العاص، فقالوا: إنّا خطبنا/فانظري لنا. فقالت لمصعب: يا ابن أبي عبد اللّه و من خطبت؟ فقال: عائشة بنت طلحة. فقالت:

فأنت يا ابن أبي أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان. قالت: فأنت يا ابن الصّدّيق؟ قال: أمّ القاسم بنت زكريّا بن طلحة.

قالت: يا جارية هاتي منقليّ (تعني خفّيها) فلبستهما و خرجت و معها خادم لها، فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضا، فقالت: يا جارية انظري ما هذا. فنظرت ثم رجعت فقالت: امرأة أخذت مع رجل. فقالت: داء قديم، امض ويلك. فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك! كنّا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء و خلقهن فذكروك، فلم أدر كيف أصفك فديتك. فألقي ثيابك، ففعلت فأقبلت و أدبرت فارتجّ كلّ شيء منها. فقالت لها عزّة: خذي ثوبك فديتك. فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك و بقيت حاجتي. قالت عزّة: و ما هي بنفسي أنت؟ قالت: تغنّيني صوتا. فاندفعت تغنّي لحنها:

صوت

خليليّ عوجا بالمحلّة من جمل *** و أترابها بين الأصيفر و الخبل(1)

نقف بمغان قد محا رسمها البلى *** تعاقبها الأيّام بالريح و الوبل

فلو درج النمل الصّغار بجلدها *** لأندب(2) أعلى جلدها مدرج النمل

و أحسن خلق اللّه جيدا و مقلة *** تشبّه في النسوان بالشادن(3) الطّفل

- الشعر لجميل بن عبد اللّه بن معمر العذريّ. و الغناء لعزّة الميلاء ثقيل أوّل بالوسطى - فقامت عائشة فقبّلت ما بين عينيها و دعت لها بعشرة أثواب و بطرائف من أنواع/الفضّة و غير ذلك، فدفعته إلى مولاتها فحملته. و أتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن، حتى أتت القوم في السقيفة. فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يا بن أبي عبد اللّه، أمّا عائشة فلا و اللّه إن رأيت مثلها مقبلة و مدبرة، محطوطة(4) المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب(5)، نقيّة الثغر

ص: 121


1- لعل صوابها «و الحبل» بالحاء المهملة؛ فإننا لم نجد في المظان «الخبل» بالخاء المعجمة من أسماء الأمكنة.
2- أندب أعلى جلدها: ترك فيه ندوبا. و الندب (بالتحريك): أثر الجرح.
3- الشادن من أولاد الظباء: الذي قوي و طلع قرناه و استغنى عن أمه. و الطفل بالفتح: الناعم الرخص.
4- محطوطة المتنين ممدودتهما. و المتنان. جنبتا الظهر، و يقال لهما المتنتان.
5- الترائب: موضع القلادة أو هي عظام الصدر.

و صفحة الوجه، فرعاء(1) الشعر: لفّاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة(2) البطن، ذات عكن، ضخمة السّرّة، مسرولة الساق. يرتجّ ما بين أعلاها إلى قدميها. و فيها عيبان، أمّا أحدهما فيواريه الخمار، و أمّا الآخر فيواريه الخفّ: عظم القدم و الأذن. و كانت عائشة كذلك. ثم قالت عزّة: و أما أنت يا ابن أبي أحيحة فإني و اللّه ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قطّ، ليس فيها عيب. و اللّه لكأنما أفرغت إفراغا، و لكن في الوجه ردّة(3)، و إن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به. و أمّا أنت يا ابن الصّدّيق فو اللّه ما رأيت مثل أمّ القاسم، كأنها خوط(4) بانة تنثني، و كأنها جدل عنان، أو كأنها جانّ(5) يتثنّى على رمل، لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت. و لكنها شختة الصدر و أنت عريض الصدر؛ فإذا كان ذلك كان قبيحا، /لا و اللّه حتى يملأ كلّ شيء مثله. قال: فوصلها الرجال و النساء و تزوجوهن.

/

أمها، و خالتها، و زواجها من ابن خالها و أولادها منه:

/ أخبرني الطّوسيّ و حرميّ عن الزّبير عن عمّه، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الزبيريّ و المدائنيّ، و نسخت بعض هذه الأخبار من كتاب أحمد بن الحارث عن المدائنيّ و جمعت ذلك، قالوا جميعا:

إنّ أمّ عائشة بنت طلحة أمّ كلثوم بنت أبي بكر الصّدّيق، و أمها حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الخزرج بن الحارث. قالوا: و كانت عائشة بنت طلحة تشبّه بعائشة أمّ المؤمنين خالتها. فزوّجتها عائشة عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر و هو ابن أخيها و ابن خال عائشة بنت طلحة، و هو أبو عذرها(6)، فلم تلد من أحد من أزواجها سواه؛ ولدت له عمران و به كانت تكنى، و عبد الرحمن، و أبا بكر، و طلحة، و نفيسة و تزوّجها الوليد بن عبد الملك، و لكلّ هؤلاء عقب. و كان ابنها طلحة من أجواد قريش، و له يقول الحزين الدّيليّ:

فإن تك يا طلح أعطيتني *** عذافرة(7) تستخفّ الضّفار(8)

فما كان نفعك لي مرّة *** و لا مرّتين و لكن مرارا

أبوك الذي صدّق المصطفى *** و سار مع المصطفى حيث سارا

و أمّك بيضاء تيميّة *** إذا نسب الناس كانوا نضارا

مصارمتها لزوجها و إيلاؤه منها:

قال: فصارمت عائشة بنت طلحة زوجها، و خرجت من دارها غضبى، فمرّت في المسجد و عليها ملحفة تريد عائشة

ص: 122


1- فرعاء الشعر: طويلته. و اللفف في الفخذين: التفافهما أو ضخامتهما و اكتناز لحمهما.
2- خميصة البطن: ضامرته. و العكن: الأطواء في البطن من السمن، الواحدة عكنة (بالضم).
3- الردّة: القبح مع شيء من الجمال.
4- الخوط: الغصن الناعم.
5- كذا في «ج». و الجان هنا: حية كحلاء العينين لا تؤذي. شبهتها بالحية في اللين. و في «سائر الأصول»: «أو كأنها خشف». و الخشف (مثلثة الخاء): ولد الظبية.
6- أبو عذر المرأة و أبو عذرتها: الذي اقتضها و افترعها.
7- العذافرة: الناقة الشديدة العظيمة.
8- كذا في «ج». و الضفار (بفتح الضاد): ما يشدّ به البعير من الشعر المضفور. أي تستخف زمامها لقوّتها. و في «سائر الأصول»: «تستخف العقارا». و لعله «القفار» بالقاف بدل العين.

أمّ المؤمنين، فرآها أبو هريرة فقال: سبحان اللّه! كأنها من الحور العين. فمكثت عند عائشة أربعة أشهر. و كان زوجها/قد آلى منها، فأرسلت عائشة: إني أخاف عليك الإيلاء(1)، فضمّها إليه و كان موليا منها فقيل له: طلّقها، فقال:

يقولون طلّقها لأصبح ثاويا *** مقيما عليّ الهمّ، أحلام نائم

و إنّ فراقي أهل بيت أحبّهم *** لهم زلفة عندي لإحدى العظائم

زواجها من مصعب بن الزبير:

فتوفي عبد اللّه بعد ذلك و هي عنده، فما فتحت فاها عليه، و كانت عائشة أمّ المؤمنين تعدّد عليها هذا في ذنوبها التي تعدّدها. ثم تزوّجها بعده مصعب بن الزبير، فأمهرها خمسمائة ألف درهم و أهدى لها مثل ذلك. و بلغ ذلك أخاه فقال: إن مصعبا قدّم أيره، و أخّر خيره. فبلغ ذلك من قوله عبد الملك بن مروان فقال: لكنّه أخّر أيره و خيره، و كتب ابن الزبير إلى مصعب يؤنّبه على ذلك و يقسم عليه أن يلحق به بمكة و لا ينزل المدينة و لا ينزل إلا بالبيداء، و قال له: إني لأرجو أن تكون الذي يخسف به بالبيداء، فما أمرتك بنزولها إلا لهذا. و صار إليه و أرضاه من نفسه، فأمسك عنه.

كانت تعاسر مصعبا فاحتال له كاتبه ابن أبي فروة حتى ياسرته:

قال و حدّثني المدائنيّ عن سحيم بن حفص قال:

كان مصعب بن الزبير لا يقدر عليها إلاّ بتلاح ينالها منه و بضربها. فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه. فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لي. قال: نعم! افعل ما شئت فإنّها أفضل شيء نلته من الدنيا. فأتاها ليلا و معه أسودان فاستأذن عليها. فقالت له: أ في مثل هذه الساعة! قال نعم. فأدخلته. فقال للأسودين: احفراها هنا بئرا. فقالت له جاريتها: و ما تصنع بالبئر؟ قال: /شؤم/ملاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حيّة و هو أسفك خلق اللّه لدم حرام.

فقالت عائشة: فانظرني أذهب إليه. قال: هيهات! لا سبيل إلى ذلك، و قال للأسودين: احفرا. فلمّا رأت الجدّ منه بكت ثم قالت: يا بن أبي فروة إنك لقاتلي ما منه بدّ؟ قال: نعم، و إني لأعلم أن اللّه سيجزيه بعدك، و لكنه قد غضب و هو كافر الغضب. قالت: و في أيّ شيء غضبه. قال: في امتناعك عنه، و قد ظنّ أنك تبغضينه و تتطلّعين إلى غيره فقد جنّ. فقالت: أنشدك اللّه إلاّ عاودته. قال: إني أخاف أن يقتلني. فبكت و بكى جواريها. فقال: قد رققت لك، و حلف أنّه يغرّر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عنّي ألاّ أعود أبدا. قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقّك ما عشت. قال: فأعطيني المواثيق، فأعطته. فقال للأسودين: مكانكما، و أتى مصعبا فأخبره. فقال له:

استوثق منها بالأيمان، ففعلت و صلحت بعد ذلك لمصعب.

أخبار لها مع مصعب:

قال: و دخل عليها مصعب يوما و هي نائمة متصبّحة(2) و معه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها

ص: 123


1- الإيلاء: اليمين، و في الشرع أن يقسم الزوج ألا يقرب امرأته. و حكمه أن يتربص به أربعة أشهر ثم يوقف، فإما أن يطلق بعد ذلك أو يرجع.
2- التصبح: نوم الغداة.

و نثر اللؤلؤ في حجرها. فقالت له: نومتي كانت أحبّ إليّ من هذا اللؤلؤ.

قال: و صارمت مصعبا مرة، فطالت مصارمتها له و شقّ ذلك عليها و عليه، و كانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد و قد ظفر، فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها. فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه. فخرجت فهنّأته بالفتح و جعلت تمسح التراب عن وجهه. فقال لها مصعب: إني أشفق عليك من رائحة الحديد. فقالت: لهو و اللّه عندي أطيب من ريح المسك الأذفر.

/أخبرني ابن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسعر قال:

كان مصعب من أشدّ الناس إعجابا بعائشة بنت طلحة، و لم يكن لها شبه في زمانها حسنا و دماثة و جمالا و هيئة و متانة و عفّة، و إنها دعت يوما نسوة من قريش فلمّا جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان و الفواكه و الطّيب و متانة و عفّة، و إنها دعت يوما نسوة من قريش فلمّا جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان و الفواكه و الطّيب [و(1)] المجمر، و خلعت على كل امرأة منهن، خلعة تامّة من الوشي و الخزّ و نحوهما، و دعت عزة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك و أضعفت، ثم قالت لعزّة: هاتي يا عزّة فغنّينا، فغنّتهن في شعر امرئ القيس:

و ثغر أغرّ شتيت النبات *** لذيذ المقبّل و المبتسم

و ما ذقته غير ظنّ به *** و بالظن يقضي عليك الحكم

و كان مصعب قريبا منهن و معه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهن و الستور مسبلة، فصاح: يا هذه إنّا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك اللّه فيك يا عزّة! ثم أرسل إلى عائشة: أمّا أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، و أمّا عزّة فتأذنين لها أن تغنّينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت. و خرجت عزّة إليه فغنّته هذا الصوت مرارا و كاد مصعب أن يذهب عقله فرحا. ثم قال لها: يا عزّة إنك لتحسنين القول و الوصف، و أمرها بالعود إلى مجلسها، و تحدّث ساعة مع القوم ثم تفرّقوا.

خطبها بشر بن مروان فتزوجت عمر بن عبيد اللّه:

و قال المدائني، و ذكر القحذميّ أيضا في خبره،: فلمّا قتل مصعب عن عائشة خطبها بشر بن مروان، و قدم عمر بن عبيد اللّه بن معمر التيميّ من الشام فنزل/الكوفة، فبلغه أن بشر بن مروان خطبها، /فأرسل إليها جارية لها و قال: قولي لابنة عمّي يقرؤك السلام ابن عمك و يقول لك أنا خير من هذا المبسور المطحول، و أنا ابن عمّك و أحقّ بك، و إن تزوّجت بك ملأت بيتك خيرا، و حرك أيرا. فتزوّجته فبنى بها بالحيرة و مهدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع، فأصبح ليلة بنى بها عن تسع. قال: فلقيته مولاة لها فقالت: أبا حفص فديتك! قد كملت في كل شيء حتى في هذا.

و قال مصعب في خبره إن بشرا بعث إليها عمر بن عبيد اللّه بن معمر يخطبها عليه، فقالت له: يا مصارع(2)قلة! أ ما وجد بشر رسولا إلى ابنه عمّك غيرك! فأين بك عن نفسك؟! قال: أو تفعلين؟ قالت نعم، فتزوّجها. و قال معصب الزبيريّ في خبره: لمّا بنى بها عمر قال لها: لأقتلنك الليلة، فلم يصنع إلا واحدة. فقالت له لمّا أصبح: قم يا قتّال. قال: و قالت له حينئذ:

ص: 124


1- الزياد عن «ج». و المجمر (بكسر فسكون ففتح و بضم فسكون فكسر): العود الذي تبخر به.
2- كذا في «أكثر الأصول». و في «ج» هكذا: «يا مصارع فكه». و ظاهر أنها تريد أن تؤنبه، بيد أننا لم نهتد إلى وجه نطمئن إليه في هذه الكلمة.

قد رأيناك فلم تحل لنا *** و بلوناك فلم ترض الخبر

و هذه الحكاية تحامل من مصعب الزبيريّ و عصبيّة. و الخبر في رضاها عنه و الحكاية في هذا غير ما حكاه و هو ما سبق.

ما كان في يوم زواجها من عمر بن عبيد اللّه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد عن القحذميّ أنّ عمر بن عبيد اللّه لمّا قدم الكوفة تزوّج عائشة بنت طلحة، فحمل إليها ألف ألف درهم: خمسمائة ألف درهم مهرا و خمسمائة ألف هديّة، و قال لمولاتها: لك عليّ ألف دينار إن دخلت بها اللّيلة. و أمر بالمال فحمل فألقى/في الدار و غطّي بالثياب.

و خرجت عائشة فقالت لمولاتها: أ هذا فرش أم ثياب؟ قالت: انظري إليه، فنظرت فإذا مال، فتبسّمت. فقالت:

أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزبا! قالت: لا و اللّه، و لكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزيّن له و أستعدّ. قالت: فيم ذا! فوجهك و اللّه أحسن من كل زينة، و ما تمدّين يدك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فرش إلا و هو عندك. و قد عزمت عليك أن تأذني له. قالت: افعلي. فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة. فجاءهم عند العشاء الآخرة(1)، فأذني إليه طعام فأكل الطعام كلّه حتى أعرى الخوان، و غسل يده، و سأل عن المتوضّأ فأخبرته فتوضّأ، و قام يصلّي حتى ضاق صدري و نمت، ثم قال: أ عليكم إذن؟ قلت: نعم، فدخل، فأدخلته و أسبلت السّتر عليهما. فعددت له في بقيّة الليل على قلّتها سبع عشرة مرة دخل المتوضّأ فيها. فلمّا أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أ تقولين شيئا؟ قلت: نعم! و اللّه ما رأيت مثلك، أكلت أكل سبعة، و صلّيت صلاة سبعة، و نكت نيك سبعة. فضحك و ضرب بيده على منكب عائشة، فضحكت و غطّت وجهها و قالت:

قد رأيناك فلم تحل لنا *** و بلوناك فلم نرض الخبر

و يدلّ أيضا على بطلان خبره أنه لمّا مات ندبته قائمة، و لم تندب أحدا من أزواجها إلا جالسة فقيل لها في ذلك، فقالت: إنه كان أكرمهم عليّ و أمسّهم رحما بي، و أردت ألاّ أتزوّج بعده و كانت ندبة المرأة زوجها قائمة مما تفعله من لا تريد أن تتزوج بعد زوجها أخبرني بذلك الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير بن حرب عن محمد بن سلاّم. و هذا دليل على خلاف ما ذكره مصعب.

ثم رجع الخبر إلى سياقة خبرها:
حديث امرأة عنها و قد اختلى بها عمر:

قال المدائنيّ في خبره: قالت امرأة: كنت عند عائشة بنت طلحة، فقيل لها: قد جاء الأمير، فتنحّيت، و دخل عمر بن عبيد اللّه، و كنت بحيث أسمع كلامهما، فوقع عليها فجاءت بالعجائب ثم خرج، فقلت لها: أنت في نفسك و موضعك و شرفك تفعلين هذا! فقالت: إنا نتشهّى لهذه الفحول بكل ما حرّكها و كلّ ما قدرنا عليه.

طلبت ضرتها من مولاة لها أن تراها متجردة ثم ندمت أن رأتها

قال المدائنيّ: و حدّثني مسلمة بن محارب قال:

ص: 125


1- في «ج، ب، س»: «الأخيرة» و هو تحريف.

قالت رملة بنت عبد اللّه بن خلف - و كانت تحت عمر بن عبيد اللّه بن معمر، و قد ولدت منه ابنه طلحة الجود - لمولاة لعائشة بنت طلحة: أريني عائشة متجرّدة و لك ألفا درهم. فأخبرت عائشة بذلك. قالت: فإني أتجرّد، فأعلميها و لا تعرّفيها أني أعلم. فقامت عائشة كأنها تغتسل، و أعلمتها فأشرفت عليها مقبلة و مدبرة، فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم، و قالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم و لم أرها. قال: و كانت رملة قد أسنّت، و كانت حسنة الجسم قبيحة الوجه عظيمة الأنف. و فيها و في عائشة يقول الشاعر:

انعم بعائش عيشا غير ذي رنق *** و انبذ برملة نبذ الجورب الخلق

و يقال: إنّ رملة قد أسنّت عند عمر بن عبيد اللّه، فكانت تجتنبه في أيّام أقرائها ثم تغتسل، تريه أنها تحيض، و ذلك بعد انقطاع حيضها. فقال في ذلك بعض الشعراء:

جعل اللّه كلّ قطرة حيض *** قطرت منك في حماليق عين

/أخبرنا بذلك الجوهريّ عن عمر بن شبّة.

أخبار لها مع عمر بن عبيد اللّه:

و ذكر هارون بن الزيّات عن أبي محلّم عن أبي بكر بن عيّاش قال:

قال عمر بن عبيد اللّه لعائشة بنت طلحة و قد أصاب منها طيب نفس: ما مرّ بي مثل يوم أبي فديك(1).

فقالت له: اعدد أيّامك و اذكر أفضلها، فعدّ يوم سجستان و يوم قطريّ بفارس و نحو ذلك. فقالت عائشة. قد تركت يوما لم تكن في أيّامك أشجع منك فيه. قال: و أيّ يوم؟ قالت: يوم أرخت عليها و عليك رملة السّتر.

تريد قبح وجهها.

قال: فمكثت عائشة عند عمر بن عبيد اللّه بن معمر ثماني سنين، ثم مات عنها في سنة اثنتين و ثمانين، فتأيّمت بعده، فخطبها جماعة فردّتهم، و لم تتزوج بعده أحدا(2).

قال المدائنيّ: كان عمر بن عبيد اللّه من أشدّ الناس غيرة، فدخل يوما على عائشة و قد ناله حرّ شديد و غبار، فقال لها: انفضى التراب عنّي. فأخذت منديلا تنفض به عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحد قطّ كان أحسن منه على وجه مصعب، قال: فكاد عمر يموت غيظا.

و قال أحمد بن حمّاد بن جميل حدّثني القحذميّ قال.

كانت عائشة بنت طلحة من أشدّ الناس مغايظة لا زواجها، و كانت تكون لمن يجيء يحدّثها في رقيق الثياب، فإذا قالوا: قد جاء الأمير ضمّت عليها مطرفها/و قطّبت. و كانت كثيرا ما تصف لعمر بن عبيد اللّه مصعبا و جماله، تغيظه بذلك فيكاد يموت.

ص: 126


1- أبو فديك هو عبد اللّه بن ثور من بني قيس بن ثعلبة، كان من الخوارج، فوجه إليه عبد الملك بن مروان سنة 73 ه عمر بن عبيد اللّه بن معمر و أمره أن يندب معه من أحب، فندب عشرة آلاف من أهل الكوفة و عشرة آلاف من أهل البصرة و سار بهم حتى انتهوا إلى البحرين. و هنالك التقوا بأبي فديك و أصحابه، فكانت بينهم وقعة شديدة قتل فيها أبو فديك و كثير من أصحابه، و أسر منهم فريق. (راجع «تاريخ الطبري» القسم الثاني صفحة 852-853).
2- في «ج، ب، س»: «أبدا».
طلبت من الوليد بن عبد الملك أعوانا حين حجت:

و قال المدائنيّ حدّثني مسلمة بن محارب و عبيد اللّه بن فائد، و أخبرنا به حرميّ عن الزبير عن عمه و محمد(1)ابن الضحّاك، قالوا:

دخلت عائشة بنت طلحة على الوليد بن عبد الملك و هو بمكّة، فقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي/بأعوان فضمّ إليها قوما يكونون معها، فحجّت و معها ستّون بغلا عليها الهوادج و الرحائل. فعرض لها عروة بن الزّبير فقال:

عائش يا ذات البغال الستّين *** أ كلّ عام هكذا تحجّين

فأرسلت إليه: نعم يا عريّة، فتقدّم إن شئت؛ فكفّ عنها. و لم تتزوّج حتى ماتت.

حجت مع سكينة بنت الحسين و كانت أحسن آلة و ثقلا:

و قال غير المدائنيّ: إن عائشة بنت طلحة حجّت و سكينة بنت الحسين عليهما السلام معا، و كانت عائشة أحسن آلة و ثقلا(2). فقال حاديها:

عائش يا ذات البغال الستّين *** لا زلت ما عشت كذا تحجّين

فشق ذلك على سكينة، و نزل حاديها فقال:

عائش هذي ضرّة تشكوك *** لو لا أبوها ما اهتدى أبوك

فأمرت عائشة حاديها أن يكفّ فكفّ.

بهر موكب عاتكة بنت يزيد في الحج:

و قال: إسحاق بن إبراهيم في خبره حدّثني محمد بن سلاّم عن يزيد بن عياض قال:

استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحجّ، فأذن لها و قال: ارفعي حوائجك و استظهري؛ فإنّ عائشة بنت طلحة تحجّ، ففعلت فجاءت بهيئته جهدت/فيها. فلمّا كانت بين مكة و المدينة إذا موكب قد جاء فضغطها و فرّق جماعتها. فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها. ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم، فسألت عنه، فقالوا: هذا ماشطتها. ثم جاءت مواكب على هذا إلى سننها(3). ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمائة راحلة عليها القباب و الهوادج. فقالت عاتكة: ما عند اللّه خير و أبقى.

و قال هارون بن الزيّات حدّثني قبيصة عن ابن عائشة عن أمّه عن سلاّمة مولاة جدّته أثيلة بنت المغيرة بن عبد اللّه(4) بن معمر قالت:

ص: 127


1- في «ب، س»: «و يحيى بن الضحاك» و هو تحريف.
2- الثقل: (بالتحريك): المتاع.
3- كذا في «ح». و في «ب، س»: «أي سننها». و في «أ، م»: «إلى يسنها». و ظاهر أن المراد «ثم جاءت مواكب على هذا السنن».
4- كذا في «الأصول». و لعل عبد اللّه بن معمر أبا المغيرة عم عمر بن عبيد اللّه بن معمر.
كان كبر عجيزتها مثار العجب:

زرت مع مولاتي خالتها عائشة بنت طلحة و أنا يومئذ وصيفة(1)، فرأيت عجيزتها من خلفها و هي جالسة كأنها غيرها، فوضعت إصبعي عليها لأعلم ما هي، فلمّا وجدت مسّ إصبعي قالت: ما هذا؟ قلت: جعلت فداءك! لم أدر ما هو، فجئت لأنظر. فضحكت و قالت: ما أكثر من يعجب مما عجبت منه.

إعجاب أبي هريرة بجمالها:

و زعم بكر بن عبد اللّه بن عاصم مولى عرينة عن أبيه عن جدّه: أنّ عائشة نازعت زوجها إلى أبي هريرة، فوقع خمارها عن وجهها، فقال أبو هريرة: سبحان اللّه! ما أحسن ما غذّاك أهلك! لكأنما خرجت من الجنّة.

وفدت على هشام فأعجب سامروه بعلمها:

قال ابن عائشة و حدّثني أبي أنّ عائشة بنت طلحة وفدت على هشام، فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء المطر، و منع السلطان الحقّ. قال: فإني أبلّ رحمك و أعرف حقّك، ثم بعث إلى مشايخ بني أميّة فقال: إنّ عائشة عندي، فاسمروا عندي الليلة فحضروا، فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب و أشعارها و أيّامها/إلا أفاضت معهم فيه، و ما طلع نجم و لا غار إلا سمّته. فقال لها هشام: أمّا الأوّل فلا أنكره، و أمّا النجوم فمن أين لك؟ قالت:

أخذتها عن خالتي عائشة. فأمر لها بمائة ألف درهم و ردّها إلى المدينة.

مر بها النميري الشاعر فاستنشدته و خبره معها:

أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن المغيرة بن محمد(2) المهلّبيّ عن محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد اللّه قال/حدّثني ابن عمران البزّازيّ قال:

لمّا تأيّمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة، و بالمدينة سنة، تخرج إلى مال لها بالطائف عظيم و قصر لها فتنزّه و تجلس فيه بالعشيّات، فتناضل بين الرّماة. فمرّ بها النّميريّ الشاعر، فسألت عنه فنسب لها، فقالت:

ائتوني به. فقالت له لمّا أتوها به: أنشدني ممّا قلت في زينب(3). فامتنع و قال: ابنة عمّي و قد صارت عظاما بالية.

قالت: أقسمت لمّا فعلت. فأنشدها قوله:

نزلن بفخّ ثم رحن عشيّة *** يلبّين للرحمن معتمرات(4)

يخبّئن أطراف الأكفّ من التّقى *** و يخرجن شطر الليل معتجرات(5)

و لمّا رأت ركب النميريّ أعرضت *** و كنّ من ان يلقينه حذرات

ص: 128


1- أي جارية شابة.
2- في «الأصول»: «عن المغيرة عن محمد المهلبي» و هو تحريف. و المغيرة بن محمد المهلبي ذكر كثيرا في «الأغاني».
3- هي زينب بنت يوسف أخت الحجاج بن يوسف الثقفي.
4- فخ: واد بمكة. و فيه يقول بلال يحن إليه: ألا ليت شعري هلى أبيتن ليلة بفخ و عندي إذخر و جليل و الاعتمار: القصد و الزيارة، و هو في الشرع: زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة معروفة في كتب الفقه.
5- الاعتجار: ليّ الثوب على الرأس من غير أن يدار تحت الحنك.

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت *** به زينب في نسوة خفرات

فقالت: و اللّه ما قلت إلاّ جميلا، و لا وصفت إلا كرما و طيبا و تقى و دينا، أعطوه ألف درهم. فلمّا كانت الجمعة الأخرى تعرّض لها، فقالت: عليّ به فجاء. فقالت: /أنشدني من شعرك في زينب. فقال: أو أنشدك من قول الحارث فيك؟ فوثب مواليها، فقالت: دعوه؛ فإنه أراد يستقيد لابنة عمّه، هات. فأنشدها:

ظعن(1) الأمير بأحسن الخلق *** و غدوا بلبّك مطلع الشّرق

و تنوء تثقلها عجيزتها *** نهض الضعيف ينوء بالوسق

ما صبّحت زوجها بطلعتها *** إلاّ غدا بكواكب الطّلق

قرشيّة عبق العبير بها *** عبق الدّهان بجانب الحقّ

بيضاء من تيم كلفت بها *** هذا الجنون و ليس بالعشق

قالت: و اللّه ما ذكر إلا جميلا، ذكر أنّي إذا صبّحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطّلق، و أني غدوت مع أمير تزوّجني إلى الشرق. أعطوه ألف درهم و اكسوه حلّتين، و لا تعد لإتياننا يا نميريّ.

أخر الحارث بن خالد الصلاة لتتم طوافها:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن سلاّم:

أن عبد الملك ولّى الحارث بن خالد على مكّة. فأذّن المؤذّن، و خرج للصلاة، فأرسلت إليه عائشة بنت طلحة: قد بقي من طوافي شيء لم آته، و كان يتعشّقها، فأمر المؤذّن فكفّ عن الإقامة، ففرغت من طوافها. و بلغ ذلك عبد الملك فعزله. فقال: ما أهون و اللّه غضبه و عزله إيّاي عليّ عند رضاها عنّي.

كانت معناة بعجيزتها:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز حدّثني عمر بن شبّة قال:

قال سلم بن قتيبة: رأيت عائشة بنت طلحة بمنى أو مسجد الخيف، فسألتني من أنت؟ قلت: سلم بن قتيبة.

فقالت: رحم اللّه مصعبا! ثم ذهبت تقوم و معها/امرأتان تنهضانها، فأعجزتها(2) أليتاها من عظمهما، فقالت: إنّي بكما لمعنّاة. فذكرت قول الحارث:

و تنوء تثقلها عجيزتها *** نهض الضعيف ينوء بالوسق

و روى هذا الخبر هارون بن الزيّات عن جعفر بن محمد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو عمرو بن خلاّد عن المدائنيّ قال:

قال أبو هريرة/لعائشة بنت طلحة: ما رأيت شيئا أحسن منك إلاّ معاوية أوّل يوم خطب على منبر

ص: 129


1- مرت هذه الأبيات مع اختلاف يسير في «الرواية» في ترجمة الحارث بن خالد المخزومي في الجزء الثالث صفحة 319 من هذه الطبعة.
2- في «ج»: «فانخزلت أليتاها» أي انقطعتا و تميزتا كأنهما شيء آخر؛ قال الأعشى: إذا تقوم يكاد الخصر ينخزل

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. فقالت: و اللّه لأنها أحسن من النار في الليلة القرّة في عين المقرور.

خطبها أبان بن سعيد على يد أخيه فأبت:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة قال:

كتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة، ففعل. فقال ليحيى: ما أنزل أخاك أيلة؟ قال: أراد العزلة. قالت: اكتب إلى أخيك:

حللت محلّ الضّبّ لا أنت ضائر *** عدوّا و لا مستنفع بك نافع

صوت

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه *** صنيعة تقوى أو صديق توامقه

منعت و بعض المنع حزم و قوّة *** فلم يفتلتك المال إلاّ حقائقه(1)

/عروضه من الطويل. توامقه: تفاعله من الموامقة، أي تودّه و يودّك؛ يقال: و مقته أمقه أي أحببته. و يفتلتك أي يخرجه من يدك و قبضتك. الشعر لكثيّر. و الغناء لمالك بن أبي السّمح، و يقال إنه للهذلي، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر.

سئل ابن عمران الطلحيّ أن يعاون صيرفيا أفلس فتمثل ببيتين لكثير:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا طلحة بن عبد اللّه قال حدّثني أبو معمر عافية بن شيبة قال حدّثني العتبيّ قال:

أفلس صيرفيّ بالمدينة، فخرج قوم يسألون له، فمرّوا بابن عمران الطّلحي و قد فتح بابه و اجتمع له أصحابه، فسألوه، فقرع بمخصرته(2) ثم رفع رأسه إليهم فقال:

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه *** صنيعة تقوى أو صديق توامقه

بخلت و بعض البخل حزم و قوّة *** فلم يفتلتك المال إلاّ حقائقه

إنّا و اللّه ما نحيد عن الحق، و لا نتدفق في الباطل، و إنّ لنا لحوقا تشغل فضول أموالنا، و ما كلّ من أفلس من صيارفة المدينة قدرنا أن نجبره، قوموا. قال: فقمنا نستبق الباب.

أن يفرض له فأبى فتمثل الأبرش ببيتين لكثير:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا عمر شبّة قال حدّثنا أبو مسلمة(3) المدينيّ قال أخبرني أبي قال:

كان رجل من الأنصار من بني حارثة مملقا ليس في ديوان و لا عطاء، و كان صديقا لإبراهيم بن هشام بن إسماعيل. فقال له يوما: إنّ أمير المؤمنين مسابق عدا بين الخيل، و قد أمرت الحرس ألاّ يعرضوا لك حتى تكلّمه.

قال: فسبق هشاما يومئذ ابن له، و كان السبق(4) يشتدّ عليه. فعرض له الأنصاريّ فقال: /يا أمير المؤمنين، أنا

ص: 130


1- حقائقه أي حقوقه.
2- المخصرة: ما يختصره الإنسان أي يمسكه ليتوكأ عليه مثل العصا و القضيب و المقرعة.
3- في «ج»: «أبو سلمة المديني».
4- هذه عبارة «ج». و في «سائر الأصول»: «و كان إذا سبق يشتدّ عليه».

امرؤ من الأنصار، و قد بلغت هذه السنّ(1) و لست في ديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يفرض لي فعل. قال:

فأقبل عليه هشام فقال: و اللّه لا أفرض لك حتّى مثل هذه الليلة من السنة المقبلة، ثم أقبل على الأبرش فقال: يا أبرش أخطأ أخو الأنصار المسألة. فقال: يا أمير المؤمنين، ابن أبي جمعة يقول:

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه *** صنيعة تقوى أو خليل توامقه

منعت و بعض المنع حزم و قوّة *** فلم يفتلتك المال إلاّ حقائقه

من شعر عمرو بن شأس:
صوت

/

فوا ندمي على الشباب و وا ندم *** ندمت وبال اليوم منّي بغير ذم

و إذ إخوتي حولي و إذ أنا شامخ *** و إذ لا أجيب العاذلات من الصّمم

إرادت عرارا بالهوان و من يرد *** عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم

فإن كنت منّي أو تريدين صحبتي *** فكوني له كالسّمن ربّت له الأدم

و إلاّ فبيني(2) مثل ما بان راكب *** تيمّم خمسا ليس في ورده يتم

فإنّ عرارا إن يكن ذا شكيمة *** تعافينها منه فما أملك الشّيم

و إنّ عرارا إن يكن غير واضح *** فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم

و إني لأعطي غثّها و سمينها *** و أسري إذا ما الليل ذو الظّلم ادلهم

حذارا على ما كان قدّم والدي *** إذا روّحتهم حرجف تطرد الصّرم

عروضه من الطويل. الشعر لعمرو بن شأس الأسديّ. و الغناء في الأوّل و الثاني من الأبيات لمعبد، ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى، عن إسحاق. و ذكر عمرو/أن فيهما لمالك خفيف رمل بالبنصر. و في الثامن و التاسع لابن جامع هزج بالوسطى عن الهشاميّ و عليّ بن يحيى، و فيهما لإبراهيم ماخوريّ بالبنصر من نسخة عمرو الثانية، و لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش، و فيهما رمل مجهول و قيل: إنه لسليم. الشامخ: الذي يشمخ بأنفه زهوا و كبرا. و أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. و الشيمة: الطبيعة. ربّت له: يعني للسّمن فلا تفسده(3). و الأدم جمع واحدها أديم و جمعها(4) أدم، كما يقال أفيق و أفق(5). و اليتم: الغفلة(6) و الضّيعة؛ و اليتيم مأخوذ من هذا.

ص: 131


1- في «الأصول»: «هذا السن» و السن مؤنثة.
2- و يروى هذا البيت في «ديوان الحماسة»: و إلا فسيري مثل ما سار راكب تجشم خمسا ليس في سيره أمم و الأمم هنا: القرب و القصد.
3- يريد أن الأدم التي هي أوعية السمن إذا دهنت بالرب، منعت فساد السمن و زادت في طيب ريحه. و الرب: خلاصة التمر بعد طبخه و عصره.
4- في «ج»: «و جمعت أدما».
5- في «الأصول»: «أنيق و أنق» و هو تحريف. و الأفيق و الأديم كلاهما الجلد المدبوغ.
6- قيل معنى اليتم هنا الإبطاء. (راجع «لسان العرب» في مادة يتم).

و اليتيم من البهائم: ما اختلج عن أمّه. و العرب تقول: «لا تخلج الفصيل عن أمه، فإنّ الذئب عالم بمكان الفصيل [اليتيم(1)]. و يقال: فلان شديد الشكيمة أي شديد اللسان كثير البيان؛ و منه شكيمة اللّجام، و جمعها شكائم. قال عويف القوافي:

أقول لفتيان كرام تروّحوا *** على الجرد في أفواههن الشكائم

و الواضح: الأبيض. و الجون: الأسود و الأبيض أيضا، و هو من الأضداد. و العمم: الطويل؛ يقال رجل عمم، و امرأة عمم، و رجل عميم، و امرأة عميمة، و نخل عميم، و نبت عميم. و السّرى: السير ليلا. و ادلهمّ: اشتدّ سواده.

و الحرجف: الريح الشديدة الباردة. و الصّرم: جمع صرمة(2) و هي القطعة من الإبل. يعني أن هذه الريح إذا هبّت طرد الرعاء الإبل إلى مراحها و أعطانها فتسكن فيها.

11 - نسب عمرو بن شأس و أخباره في هذا الشعر و غيره:

نسب عمرو بن شأس:

هو عمرو بن شأس بن عبيد بن ثعلبة بن ذؤيبة(3) بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. و هذا الشعر يقوله في امرأته أمّ حسّان و ابنه عرار بن عمرو، و كانت تؤذيه و تعيّره بسواده.

كانت امرأته تؤذي ابنه عرارا و تشتمه و يشتمها، فقال هو شعرا يخاطبها به:

و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن الحسن الأحول قال قال ابن الأعرابيّ:

كانت امرأة عمرو بن شأس من رهطه، و يقال لها أمّ حسّان، و اسمها(4) حيّة بنت الحارث بن سعد، و كان له ابن يقال له عرار من أمة له سوداء/و كانت تعيّره و تؤذي عرارا و تشتمه و يشتمها. فلمّا أعيت عمرا قال فيها:

ديار ابنة السّعديّ هيه تكلّمي *** بدافقة الحومان فالسّفح من رمم(5)

لعمر ابنة السّعديّ إنّي لأتّقي *** خلائق تؤبى(6) في الثّراء و في العدم

وقفت بها و لم أكن قبل أرتجي *** إذا الحبل من إحدى حبائبي انصرم

و إنّي لمزر(7) بالمطيّ تنقّلي *** عليه و إيقاعي المهنّد بالعصم

و إنّي لأعطي غثّها و سمينها *** و أسرى إذا ما الليل ذو الظّلم ادلهم

/إذا الثلج أضحى في الديار كأنه *** مناثر ملح في السّهول و في الأكم(8)

ص: 132


1- التكملة من «لسان العرب» (في مادة يتم).
2- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «جمع صريمة» و هو تحريف.
3- الذي في شرح التبريزي ل «ديوان الحماسة» (طبع مدينة بن سنة 1828 م ص 139): «رويبة» بدل «ذؤيبة».
4- كذا في «أ، م». و في «سائر الأصول»: «و أمها».
5- هيه: كلمة استزاده للحديث، مثل إيه. و الحومان و رمم: موضعان.
6- تؤبى: تغاف و تكره.
7- مزر: مستخف متهاون. و تنقلي عليه: بدل من المطي. و العصم: القلائد، واحدتها عصمة، و المراد مواضعها يريد أنه كثير الأسفار كثير الإغارة.
8- مناثر: جمع منثر (وزان مكتب)، و هو اسم مكان من نثر ينثر. و هو يريد كأن الثلج ملح منثور، فشبه مساقط الثلج بمناثر الملح. و الأكم (بفتحتين و بضمتين): جمع أكمة (بفتحتين) و هي دون الجبل.

حذارا على ما كان قدّم والدي *** إذا روّحتهم حرجف تطرد الصّرم

و أترك ندماني(1) يجرّ ثيابه *** و أوصاله من غير جرح و لا سقم

و لكنّها من ريّة بعد ريّة *** معتّقة صهباء راووقها رذم(2)

من العانيات(3) من مدام كأنها *** مذابح غزلان يطيب بها الشّمم

و إذ إخوتي حولي و إذ أنا شامخ *** و إذ لا أجيب العاذلات من الصمم

أ لم يأتها أنّي صحوت و أنّني *** تحالمت حتى ما أعارم من عرم(4)

و أطرقت إطراق الشّجاع و لو يرى *** مساغا لنابيه الشجاع لقد أزم(5)

و قد علمت سعد بأنّي عميدها *** قديما و أنّي لست أهضم من هضم

- يقول: لا أظلم أحدا من قومي و أتهضّمه(6) فيطلبني بمثل ذلك، أي أرفع نفسي عن هذا -

خزيمة ردّاني(7) الفعال و معشر(8)*** قديما بنوا لي سورة المجد و الكرم

/إذا ما وردنا الماء كانت حماته *** بنو أسد يوما على رغم من رغم(9)

أرادت عرارا بالهوان و من يرد *** عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم

لما يئس من الصلح بين امرأته و ابنه طلقها ثم ندم و قال شعرا:

و ذكر باقي الأبيات. قال ابن الأعرابيّ و أبو بكر الشّيبانيّ: فجهد عمرو بن شأس أن يصلح بين ابنه و امرأته أمّ حسّان فلم يمكنه ذلك، و جعل الشرّ يزيد بينهما. فلمّا رأى ذلك طلّقها، قم ندم و لام نفسه؛ فقال في ذلك:

تذكّر ذكرى أمّ حسّان فاقشعر *** على دبر لمّا تبيّن ما ائتمر(10)

فكدت أذوق الموت لو أنّ عاشقا *** أمر بموساه(11) الشوارب فانتحر

ص: 133


1- الندمان: الذي يوافقك في شرابك. و الأوصال: المفاصل، واحدها وصل (بكسر الواو و ضمها).
2- راووق الخمر: ناجودها الذي تروّق فيه و الرذم (بالتحريك): اسم من الامتلاء وصف به.
3- في «الأصول»: «من الغانيات» بالغين المعجمة، و هو تصحيف. و العانيات: الأسيرات، أي هي من المحتبسات في دنانها. و قوله «كأنها مذابح غزلان» يريد أن يصفها بطيب الريح، حتى كأنها مواضع شق نوافج المسك.
4- يقال: عرم يعرم (من بابي نصر و ضرب) و عرم (بكسر عين الفعل) و عرم (بضمها) عرامة و عراما (بضم أوله) إذا اشتدّ.
5- الإطراق: السكوت في سكون. و الشجاع هنا: الحية الذكر. و أزم عض؛ يقال: أزمه يأزمه و عليه (من باب ضرب) إذا عضه.
6- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «و انهضه». و هو تحريف.
7- ردّاني: ألبسني. و الفعال (بالفتح): الخير. يريد: ورثني شمائل الخير.
8- كذا في «الأصول». و قد أثبتها المرحوم الشيخ سيد بن علي المرصفي في كتابه «أسرار الحماسة». «و معشري» بياء المتكلم، و هي الأنسب بالسياق. و سورة المجد: يريد منزلة المجد. و السورة من البناء: ما حسن و طال.
9- الرغم (مثلث آراء) هنا: الكره و القسر. و رغم: ذل؛ يقال رغم أنف فلان (بفتح الغين و كسرها و ضمها) إذا ذل و انقاد.
10- دبر كل شيء: آخره. و أتمر هنا: عمل برأيه. و المؤتمر يصيب مرة و يخطئ أخرى. يقول: تذكر أم حسان أخيرا فاقشعر حين تبين له خطأ ما فعل.
11- في العبارة هنا قلب أي أمر موساه بالشواب. و الشوارب هنا: عروق في الحلق. و الانتحار هنا: قتل المرء نفسه.

تذكّرتها وهنا و قد حال دونها *** رعان و قيعان بها الزّهر و الشجر(1)

فكنت كذات البوّ(2) لما تذكّرت *** لها ربعا حنّت لمعهده سحر

حفاظا و لم تنزع هراي أثيمة *** كذلك شأوا المرء يخلجه القدر

قال ابن الأعرابيّ: الأثيمة الفعيلة من الإثم، و هي مرفوعة بفعلها، كأنه قال: [لم] تنزع الأثيمة هواي. تخلجه:

تصرفه. شأوه: همّه و نيّته. قال و قال فيها أيضا:

/

أ لم تعلمي يا أمّ حسّان أنني *** إذا عبرة نهنهتها(3) فتخلت

رجعت إلى صدر كجرّة حنتم(4)*** إذا قرعت صفرا من الماء صلّت

خبر ابنه عرار مع عبد الملك حين جاءه رسولا من قبل الحجاج:

/أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق بن محمد بن سلاّم، و أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن سلاّم:

لمّا قتل الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بعث برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس الأسديّ، فلمّا ورد به و أوصل كتاب الحجاج، جعل عبد الملك يعجب من بيانه و فصاحته مع سواده، فقال متمثّلا:

و إنّ عرارا إن يكن غير واضح *** فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم

فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك؛ فقال له: ممّ ضحكت ويحك قال: أ تعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قبل فيه هذا الشعر؟! قال لا. قال: أنا و اللّه هو. فضحك عبد الملك ثم قال: حظّ وافق كلمة، و أحسن جائزته و سرّحه.

قال شعرا في قتل ملك من غسان يقال له عديّ:
اشارة

و قال الطوسيّ: أغار ملك من ملوك غسّان يقال له عديّ و هو ابن أخت الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ علي بني أسد، فلقيته بنو سعد بن ثعلبة بن دودان بالفرات و رئيسهم ربيعة بن حذار(5)، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتلت بنو سعد عديّا، اشترك في قتله عمرو و عمير ابنا حذار أخوا ربيعة، و أمّهما امرأة من كنانة يقال لها تماضر إحدى بني فرّاس بن غنم و هي التي يقال لها مقيّدة الحمار. فقالت فاختة بنت عديّ:

/

لعمرك ما خشيت على عديّ *** رماح بني مقيّدة الحمار

و لكنّي خشيت على عديّ *** رماح الجنّ أو إيّاك حار

ص: 134


1- الوهن: نحو نصف الليل، أو بعد ساعة منه، أو هو حين يدبر الليل، و مثله الموهن. و رعان: جمع رعن (بالفتح) و هو أنف يتقدم الجبل، و الجبل الطويل. و القيعان جمع قاع، و هو أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال و الآكام.
2- البوّ: جلد ولد الناقة أو البقرة يحشى تبنا أو نحوه ثم يقرب إلى أمه فتعطف عليه و تدر. و الربع (بضم ففتح): الفصيل ينتج في الربيع و هو أول انتاج، فإن نتج في آخره فهو هبع (بضم و فتح).
3- العبرة: الدمعة قبل أن تفيض. و نهنهتها: كففتها.
4- في «الأصول»: «... إلى صبر كطسة خنتم». و التصويب من «اللسان» (في مادة حنتم). و الحنتم: جرار خضر تضرب إلى الحمرة. وصلت: صوّتت.
5- و قيل في ضبطه إنه ككتاب.

- تغنى الحارث بن أبي شمر خاله -

قتيل ما قتيل ابني حذار *** بعيد الهمّ طلاّع النجار

و يروى: «جواب الصحاري». فقال عمرو بن شأس في ذلك:

صوت

متى تعرف العينان أطلال دمنة *** لليلى بأعلى ذي معارك(1) تدمعا

على النحر و السّربال حتى تبلّه(2) *** سجوم و لم تجزع على الدار مجزعا

خليليّ عوجا اليوم نقض لبانة *** و إلاّ تعوجا اليوم لا ننطلق معا

و إن تنظراني اليوم أتبعكما غدا *** قياد النجيب أو أذلّ و أطوعا(3)

و هي قصيدة. غنّى في هذه الأبيات إبراهيم ثقيلا أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. و الدمنة في هذا الموضع: آثار الناس و ما سوّدوا، و هي في غير هذا الموضع الحقد؛ يقال: في صدره عليّ إحنة، و ترة، و ضبّ، و حسيكة، و دمنة.

و عوجا: احبسا و تلبّثا، عاج يعوج عياجا(4). و ما أعيج(5) بكلامك أي ما ألتفت إليه. و اللّبانة: الحاجة؛ /يقال:

لي في كذا لبانة و لبونة(6) و لماسة، و وطر، و حوجاء ممدودة. و قوله: «لا ننطلق معا»، يقول إن لم تقفا تأخّرت عنكما فتفرّقنا. و تنظراني تنظراني؛ يقال نظرته أنظره، و أنظرته أنظره إنظارا و نظرة أيضا إذا أخّرته؛ قال اللّه عزّ و جلّ: فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ . و الجنيب: المجنوب من فرس و غيره، و الجنيب أيضا الذي يشتكي رئته من شدّة العطش.

خطب بنت رجل كان مجاورا له فلما أحس منه امتناعا أراد أن يصيبها سبية ثم تذمم و قال شعرا:
اشارة

و قال الطوسيّ قال الأصمعيّ: جاور رجل من بني عامر بن صعصعة عمرو بن شأس و معه بنت له من أجمل الناس و أظرفهم، فخطبها عمرو إلى أبيها. /فقال أبوها: أمّا دمت جارا لكم فلا، لأني أكره أن يقول الناس غصبه أمره، و لكن إذا أتيت قومي فأخطبها إليّ أزوّجكها. فوجد عمرو من ذلك في نفسه و اعتقد ألاّ يتزوّجها أبدا إلا أن يصيبها مسبيّة. فلمّا ارتحل أبوها همّ عمرو بغزو قومها، فسار في أثر أبيها. فلمّا وقعت عينه عليه و ظفر به استحيا من جواره و ما كان بينهما من العهد و الميثاق، فنظر إلى الجارية أمامهم و قد أخرجت رأسها من الهودج تنظر إليه. فلمّا رآها رجع مستحييا متذمّما منها. و كان عمرو مع شجاعته و نجدته من أهل الخير؛ فقال في ذلك:

ص: 135


1- ذو معارك: موضع في ديار بني تميم. و في «الأصول»: «ذي معازل» و التصويب من كتاب «معجم ما استعجم» و «طبقات الشعراء» لابن سلام. (صفحة 47 طبعة مدينة ليدن سنة 1916 م).
2- الضمير المرفوع في «تبله» و ما بعده مراد به العين. و جائز في مثل هذا المثنى أن يعود الضمير إليه مفردا. و في «طبقات الشعراء» «رشاشا» بدل «سجوم». و قوله: و لم تجزع على الدار، يريد أن تذراف العين بالدموع لم يكن لجزعها على الدار، و إنما كان على أهلها الذين فارقوها.
3- رواية «طبقات الشعراء»: أذل قيادا من جنيب و أطوعا
4- الذي في «القاموس»: عاج عوجا و معاجا.
5- عين هذا الفعل ياء، و عين الأول واو. و بنو أسد يقولون: ما أعوج بكلامك.
6- لم نجد هذه الكلمة فيما لدينا من كتب اللغة.
صوت

إذا نحن أدلجنا(1) و أنت أمامنا *** كفى لمطايانا بوجهك هاديا

أ ليس يزيد العيس(2) خفّة أذرع *** و إن كنّ حسرى أن تكوني أماميا

/و لو لا اتّقاء اللّه و العهد قد رأى *** منيّته منّي أبوك اللّياليا

و نحن بنو خير السّباع أكيلة *** و أحربه(3) إذا تنفّس عاديا

بنو أسد و زد يشقّ بنابه *** عظام الرجال لا يجيب الرّواقيا(4)

متى تدع قيسا أدع خندف إنّهم *** إذا ما دعوا أسمعت ثمّ الدّواعيا

لنا حاضر لم يحضر الناس مثله *** و باد إذا عدّوا علينا البواديا

الغناء لإسحاق الموصليّ ثاني ثقيل في الأوّل و الثاني من الأبيات، و فيه لحن قديم.

سئل ابن سيرين عن النسيب فأنشد بيتين في شعره دلالة على جوازه:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا الحزاميّ قال حدّثنا معن بن عيسى عن رجل عن سويد بن أبي رهم قال: قلت لابن سيرين: ما تقول في الشعر؟ قال: هو كلام، حسنه حسن، و قبيحه قبيح. قلت: فما تقول في النّسيب؟ قال: لعلك تريد مثل قول الشاعر:

إذا نحن أدلجنا و أنت أمامنا *** كفى لمطايانا بوجهك هاديا

أ ليس يزيد العيس خفّة أذرع *** و إن كنّ حسرى أن تكوني أماميا

قال: و أراد بإنشاده إيّاهما أنك قد رأيتني أحفظ هذا الجنس و أرويه و أنشدتك إياه، فلو كان به بأس ما أنشدته.

صوت

فإن تكن القتلى بواء فإنّكم *** فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

فتى كان أحيا من فتاة حييّة *** و أشجع من ليث بخفّان خادر

/عروضه من الطويل. البواء بالباء: التكافؤ؛ يقال ما فلان لفلان ببواء، أي ما هو له بكفء أن يقتل به. و «ما» في قولها «فتى ما قتلتم» صلة. و آل عوف نداء. و خفّان: موضع مشهور. و خادر: مقيم في مكمنة و غيله، و هو مأخوذ من الخدر(5).

الشعر لليلى الأخيليّة ترثي توبة بن الخميّر. و الغناء لإسحاق بن إبراهيم الموصليّ، رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و فيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش. و في هذه القصيدة عدّة أغان تذكر مع سائر ما قاله توبة/في ليلى و قالت فيه من الشعر عند انقضاء الخبر في مقتله إن شاء اللّه تعالى.

ص: 136


1- الإدلاج: سير الليل.
2- العيس من الإبل: البيض مع شقرة يسيرة، الواحد أعيس و عيساء. و الحسرى: جمع حسير و هي الدابة المعيبة المتعبة.
3- و أحربه: يريد أنه أحرب السباع أي أشدها في الحرب و المقاتلة. و العادي من السباع: الظالم الذي يفترس الناس.
4- هذا كناية عن أن فريسته لا سبيل إلى شفائها و سلامتها.
5- من معاني الخدر (بالكسر): أجمة الأسد، و من معاني الخدر (بالفتح): الإقامة.

12 - ذكر ليلى و نسبها و خبر توبة بن الحميّر معها و خبر مقتله

نسب ليلى الأخيلية:

هي ليلى بنت عبد اللّه بن الرّحّال - و قيل ابن الرحّالة - بن شدّاد بن كعب بن معاوية، و هو الأخيل و هو فارس الهرّار(1)، ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. و هي من النساء المتقدّمات(2) في الشعر من شعراء الإسلام.

كان توبة بن الحمير يهواها و نسبه:

و كان توبة بن الحميّر يهواها. و هو توبة بن الحميّر بن حزم بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل.

جاءها توبة يوما فسفرت له لتحذره:

أخبرني ببعض أخبارهما أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و محمد بن حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد الورّاق(3) قال حدّثنا محمد بن عليّ أبو المغيرة قال حدّثنا أبي عن أبي عبيدة قال حدّثني أنيس بن عمرو العامريّ قال:

كان توبة بن الحميّر أحد بني الأسديّة، و هي عامرة بنت والبة بن الحارث، و كان يتعشّق ليلى بنت عبد اللّه بن الرحّالة و يقول فيها الشعر، فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوّجه إيّاها و زوّجها في بني الأدلع. فجاء يوما كما كان يجيء لزيارتها، فإذا هي سافرة و لم ير منها إليه بشاشة، فعلم أنّ ذلك لأمر ما كان، فرجع إلى راحلته فركبها و مضى، و بلغ بني الأدلع أنّه أتاها فتبعوه ففاتهم. فقال توبة في ذلك:

/

نأتك بليلى دارها لا تزورها *** و شطّت نواها و استمرّ مريرها(4)

و هي طويلة، يقول فيها:

و كنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت *** فقد رابني منها الغداة سفورها

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كان توبة بن الحميّر إذا أتى ليلى الأخيليّة خرجت إليه في برقع. فلمّا شهر أمره شكوه إلى السّلطان، فأباحهم دمه إن أتاهم. فمكثوا له في الموضع الذي كان يلقاها فيه. فلمّا علمت به خرجت سافرة حتى جلست في طريقه فلمّا رآها سافرة فطن لما أرادت و علم أنه قد رصد، و أنها سفرت لذلك تحذّره، فركض فرسه فنجا. و ذلك قوله:

ص: 137


1- ورد اسم هذا الفرس في «الأصول» هنا محرفا. و قد تقدم في صفحتي 85 و 87 من هذا الجزء.
2- في «أ، م»: «المقدمات».
3- في «الأصول» هنا: «عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد الوراق». و قد ورد كثيرا من الأجزاء الماضية كما أثبتناه.
4- يقال: نآه و نأي عنه إذا بعد عنه. و شطت. بعدت. و النوى هنا: الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد، و مثله النية. و استمر: استحكم. و المرير هنا: العزيمة، و مثله المريرة. يقال: استمرت مريرة فلان على كذا إذا استحكم أمره عليه و قويت شكيمته فيه و ألفه و اعتاده.

و كنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت *** فقد رابني منها الغداة سفورها

قال أبو عبيدة و حدّثني غير أنيس أنه كان يكثر زيارتها، فعاتبه أخوها و قومها فلم يعتب(1)، و شكوه إلى قومه فلم يقلع، فتظلّموا منه إلى السّلطان فأهدر دمه إن أتاهم. و علمت ليلى بذلك، و جاءها زوجها و كان غيورا فحلف لئن لم تعلمه بمجيئه ليقتلنّها، و لئن أنذرته بذلك ليقتلنّها. قالت ليلى: و كنت أعرف الوجه الذي يجيئني منه، فرصدوه بموضع و رصدته بآخر، فلمّا أقبل لم أقدر على كلامه لليمين، فسفرت و ألقيت البرقع عن رأسي. فلمّا رأى ذلك أنكره فركب راحلته و مضى ففاتهم.

عرفها رجل من بنى كلاب و خبره معها و مع زوجها:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن معاوية بن بكر قال حدّثني أبو زياد الكلابيّ قال:

/خرج رجل من بني كلاب ثم من بني الصحمة(2) يبتغي إبلا له حتى أوحش و أرمل(3)، ثم أمسى بأرض فنظر إلى بيت بواد، فأقبل حتى نزل حيث ينزل الضيف، فأبصر امرأة و صبيانا يدورون بالخباء فلم يكلّمه/أحد. فلمّا كان بعد هدأة من الليل سمع جرجرة إبل رائحة، و سمع فيها صوت رجل حتى(4) جاء بها فأناخها على البيت، ثم تقدّم فسمع الرجل يناجي المرأة و يقول: ما هذا السّواد حذاءك؟ قالت: راكب أناخ بنا حين غابت الشمس و لم أكلّمه.

فقال لها: كذبت، ما هو إلا بعض خلاّنك، و نهض يضربها و هي تناشده، قال الرجل: فسمعته يقول: و اللّه لا أترك ضربك حتى يأتي ضيفك هذا فيغيثك. فلمّا عيل صبرها(5) قالت: يا صاحب البعير يا رجل! و أخذ الصحميّ هرواته ثم أقبل يحضر(6) حتى أتاها و هو يضربها، فضربه ثلاث ضربات أو أربعا، ثم أدركته المرأة فقالت: يا عبد اللّه، ما لك و لنا! نحّ عنّا نفسك، فانصرف فجلس على راحلته و أدلج ليلته كلّها و قد ظنّ أنه قتل الرجل و هو لا يدري من الحيّ بعد(7)، حتى أصبح في أخبية من الناس، و رأى غنما فيها أمة مولّدة، فسألها عن أشياء حتى بلغ به الذكر(8)، فقال: أخبريني عن أناس وجدتهم بشعب كذا(9). فضحكت و قالت: إنك لتسألني عن شيء و أنت به عالم. فقال:

و ما ذاك للّه بلادك؟ فو اللّه ما أنا به عالم. قالت: ذاك خباء ليلى الأخيليّة، و هي أحسن الناس وجها، و زوجها رجل غيور فهو يعزب بها عن الناس/فلا يحلّ بها معهم، و اللّه ما يقربها أحد و لا يضيفها، فكيف نزلت أنت بها؟ قال.

إنما مررت فنظرت إلى الخباء و لم أقربه، و كتمها الأمر. و تحدّث الناس عن رجل نزل بها فضربها زوجها فضربه الرجل و لم يدر من هو. فلمّا أخبر(10) باسم المرأة و أقرّ على نفسه تغنّى بشعر دلّ فيه على نفسه و قال:

ص: 138


1- أي لم يرضهم.
2- في «مختار الأغاني»: «من بني الصمح» و كذلك ورد في الشعر الآتي: «أنا الصمحيّ» و لم نهتد لوجه الصواب فيه.
3- أوحش هنا: جاع. و أرمل: نفد زاده.
4- كلمة «حتى» ليست في «ج».
5- في «مختار الأغاني» لابن منظور: «فلما عيل صبرها غوّثت و قالت...».
6- في «ب، س»: «يحفز» و هو تحريف. و الإحضار: العدو.
7- زاد في «مختار الأغاني»: «و لا من الرجل».
8- كذا في «مختار الأغاني». و في «الأصول»: «... بها الذكر».
9- كذا في مختار الأغاني. و في «الأصول» «بشعب كذا و كذا» و لا معنى لتكرار هذه الكلمة.
10- في «مختار الأغاني»: «فلما أخبر باسم المرأة أقر على نفسه بشعر قاله و هو...».

ألا يا ليل أخت بني عقيل *** أنا الصّحميّ إن لم تعرفيني

دعتني دعوة فحجزت(1) عنها *** بصكّات رفعت بها يميني

فإن تك غيرة أبرئك منها *** و إن تك قد جننت فذا جنوني(2)

سألها الحجاج هل كان بينها و بين توبة ريبة و جوابها له:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا رشد(3) بن خنتم الهلاليّ قال حدّثني أيّوب بن عمرو عن رجل يقال له ورقاء قال:

سمعت الحجّاج يقول لليلى الأخيليّة: إنّ شبابك قد ذهب، و اضمحلّ أمرك و أمر توبة؛ فأقسم عليك إلاّ صدقتني، هل كانت بينكما ريبة قطّ أو خاطبك في ذلك قطّ؟ فقالت: لا و اللّه أيّها الأمير إلا أنّه قال لي ليلة و قد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له.

و ذي حاجة قلنا له لا تبح بها *** فليس إليها ما حييت سبيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه *** و أنت لأخرى فارغ و حليل(4)

/فلا و اللّه ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرّق بيننا الموت. قال لها الحجاج: فما كان منه بعد ذلك؟ قالت: وجّه صاحبا له إلى حاضرنا فقال: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل فاعل شرفا ثم اهتف بهذا البيت:

عفا اللّه عنها هل أبيتنّ ليلة *** من الدهر لا يسري إليّ خيالها

فلمّا فعل الرجل ذلك عرفت المعنى فقلت له:

/

و عنه عفا ربّي و أحسن حفظه(5)*** عزيز علينا حاجة لا ينالها

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء، و هو أجمع في قصيدة توبة.

نأتك بليلى دارها لا تزورها

صوت

حمامة بطن الواديين ترنّمي *** سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها

أبيني لنا لا زال ريشك ناعما *** و لا زلت في خضراء دان بريرها(6)

ص: 139


1- حجزت: كففت و دفعت.
2- في «ج»: «فذو جنون». و كلا الرسمين يستقيم به المعنى. و معنى البيت: إن كان ما حملك على ضرب زوجك غيره فأنا أشفيك منها، و إن كان جنونا فأنا ذو جنون يغلب جنونك، أو فهذا الذي رأيته مني جنوني. و في «مختار الأغاني»: «فذق جنوني».
3- لم نعثر على ضبط هذا الاسم، و قد سموا رشدا (بضم فسكون) و رشدا (بالتحريك).
4- في «بعض الأصول»: «و خليل». و في كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي (ج 1 ص 88 طبع مطبعة دار الكتب المصرية): «صاحب» بدل «فارغ». و حليل المرأة زوجها، و هي حليلته، لأن كليهما يحال الآخر أي يكون معه في محل واحد.
5- في «الأمالي»: «... و أحسن حاله فعزت...».
6- في «الأمالي»: «غض نضيرها». و البرير: ثمر الأراك.

و أشرف بالقوز اليفاع(1) لعلّني *** أرى نار ليلى أو يراني بصيرها(2)

و كنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت *** فقد رابني منها الغداة سفورها

عليّ دماء البدن(3) إن كان بعلها *** يرى لي ذنبا غير أنّي أزورها

و أنّي إذا ما زرتها قلت يا اسلمي *** و ما كان في قولي اسلمي ما يضيرها

/و غيّرني(4) إن كنت لمّا تغيّري *** هواجر تكتنّينها(5) و أسيرها

و أدماء(6) من سرّ المهاري كأنّها *** مهاة صوار(7) غير ما مسّ كورها

قطعت بها أجواز كلّ تنوفة *** مخوف رداها كلّما استنّ مورها(8)

ترى ضعفاء القوم فيها كأنّهم *** دعاميص(9) ماء نشّ(10) عنها غديرها

غنّى في الأربعة الأبيات الأول فليح بن أبي العوراء ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و غنّى في الثالث و الرابع ابن سريح رملا بالوسطى عن الهشاميّ و عليّ بن يحيى المنجّم، و ذكر غيرهما أنه لمحمد بن إسحاق بن عمرو بن بزيع.

و غنّى فيها الهذليّ ثقيلا أوّل بالبنصر عن حبش. و غنّى ابن محرز في «عليّ دماء البدن» و الذي بعده خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و عن ابن مسجح في:

و غيّرني إن كنت لمّا تغيّري

و ما بعده لحن ذكر أنّ عبد اللّه بن جعفر روّاه الأبيات و أمره أن يغنّي بها، أخبرني بذلك إسماعيل بن يونس الشّيعيّ عن عمر بن شبّة عن إسحاق الموصليّ عن ابن الكلبيّ في خبر قد ذكرته في أخبار ابن مسجح(11)، و ذكر الهشاميّ أن اللحن ثقيل أوّل بالوسطى.

رأي الأصمعيّ فيما تضمنه شعر لتوبة:

ص: 140


1- كذا في «ج». و القوز: الكثيب من الرمل. و اليفاع: المشرف. و في «بعض الأصول» «بالغور» بالغين المعجمة، و في بعضها الآخر «بالفور» بالفاء و هو تصحيف.
2- أي أو يراني البصير المجاور للنار، فأضاف البصير إلى النار لهذه المناسبة. و ظاهر أنه يريد بالبصير ليلى.
3- البدن (بالضم، و بضمتين أيضا): جمع بدنة (بالتحريك) و هي الناقة أو البقرة تسمن و تذبح بمكة.
4- تقدّمت هذه الأبيات الأربعة التي أوّلها هذا البيت في «الأغاني» (ج 3 ص 280 من هذه الطبعة).
5- وردت هذه الكلمة محرفة هاهنا في «الأصول»، و التصويب مما تقدّم في الجزء الثالث و كتاب «منتهى الطلب من أشعار العرب».
6- الأدمة في الإبل: لون مشرب سوادا أو بياضا أو هو البياض الواضح. و المهاري: جمع مهرية و هي إبل منسوبة إلى مهرة بن حيدان أبي حي من العرب، و قيل: هي منسوبة إلى بلد. و قال الأزهري: هي نجائب تسبق الخيل. و سرها: محضها و أفضلها. و في «أكثر الأصول» هنا: «من حر المهاري» و ما أثبتناه هو ما في «ج» و الرواية فيما تقدّم. و في كتاب «منتهى الطلب من أشعار العرب»: «من سر الهجان».
7- كذا في «ج» و «منتهى الطلب» و الرواية فيما تقدّم. و في «سائر الأصول»: «مهاة صحار». و المهاة: البقرة الوحشية. و الصوار: قطيع البقر.
8- أجواز: جمع جوز، و جوز كل شيء وسطه. و التنوفة: الفلاة التي لا ماء فيها. و استن: هاج و ثار. و المور: الغبار تثيره الرياح.
9- الدعاميص: دود أسود يكون في الغدران إذا نشّت.
10- كذا في «ج» و «منتهى الطلب» و فيما تقدّم. و في «سائر الأصول» هنا: «جف». و نش: يبس و نضب.
11- راجع الجزء الثالث صفحة 280 من هذه الطبعة.

حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال حدّثني محمد بن يعقوب بالأنبار قال حدّثني من أنشد(1) الأصمعيّ:

عليّ دماء البدن إن كان زوجها *** يرى لي ذنبا غير أنّي أزورها

و أنّي إذا ما زرتها قلت يا اسلمى *** فهل كان من قولي اسلمي ما يضيرها

فقال الأصمعيّ: شكوى مظلوم، و فعل ظالم.

مقتل توبة و سببه و كيف كان:

أخبرني بالسبب في مقتل توبة محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم السّجستانيّ عن أبي عبيدة، و الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عليّ بن المغيرة عن أبيه عن أبي عبيدة، و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السّكّري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي، و رواية أبي عبيدة أتمّ و اللّفظ له. قال أبو عبيدة:

كان الذي هاج مقتل توبة بن الحميّر بن حزم(2) بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر/بن صعصعة أنّه كان بينه و بين بني عامر بن عوف بن عقيل لحاء(3)، ثم إنّ توبة شهد بني خفاجة و بني عوف و هم يختصمون عند همّام بن مطرف العقيليّ في بعض أمورهم. قال: و كان مروان بن الحكم يومئذ أميرا/على المدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان، فاستعمله على صدقات بني عامر. قال: فوثب ثور بن أبي سمعان بن كعب بن عامر بن عوف بن عقيل على توبة بن الحميّر فضربه بجرز(4) و على توبة الدرع و البيضة، فجرح أنف البيضة وجه توبة. فأمر همام بثور بن أبي سمعان فأقعد بين يدي توبة، فقال: خذ بحقّك يا توبة. فقال له توبة: ما كان هذا إلاّ عن أمرك، و ما كان ليجترئ عليّ عند غيرك. و أمّ همّام صوبانة بنت جون(5) بن عامر بن عوف بن عقيل، فاتّهمه توبة لذلك، فانصرف و لم يقتصّ منه. فمكثوا غير كثير، و إنّ توبة بلغة أنّ ثور بن أبي سمعان خرج في نفر من رهطه إلى ماء من مياه قومه يقال له قوباء(6) يريدون مالهم(7) بموضع يقال له جرير بتثليث - قال: و بينهما فلاة - فاتّبعه توبة في ناس من أصحابه، فسأل عنه و بحث حتى ذكر له أنه عند رجل من بني عامر بن عقيل يقال له سارية بن عمير(8) بن أبي عديّ و كان صديقا لتوبة. فقال توبة: و اللّه لا نطرقهم(9) عند سارية الليلة حتى يخرجوا

ص: 141


1- في «الأصول»: «من أنشده الأصمعي... إلخ».
2- في «ج» هنا: «جون» بدل «حزم». و في «منتهى الطلب»: «حزن». و في «المختلف و المؤتلف» للآمديّ: «سفيان». و سيأتي في صفحة 222: «... حمير بن ربيعة» و هي رواية أبي عبيدة عن مزرع.
3- لحاء: مصدر لاحاه ملاحاة و لحاء إذا نازعه.
4- الجرز (بالضم) عمود من حديد.
5- في «مختار الأغاني»: «طوبانة بنت حزن». و لم نهتد لوجه الصواب فيه.
6- كذا في «أكثر الأصول». و في «ج»: «قويا». و في «مختار الأغاني»: «هوفا». و لم نجد شيئا من هذه الرسوم في المظانّ. و في كتاب «صفة جزيرة العرب» لأبي محمد الهمدانيّ: «القوفاء» وردت في قصيدة لشاعر نجدي يقال له الحزازة العامريّ، و قد كان ذهب مع قومه إلى البيت الحرام يستسقون، فوصف أرضهم بلدا بلدا و واديا واديا و جبلا جبلا، و ورد في هذه القصيدة بعد «القوفاء» بقليل «تثليث». فلعل ما في «الأصول» محرف عنه.
7- في ج و «مختار الأغاني»: «يريدون ماء لهم يقال له جرير...».
8- في «مختار الأغاني»: «سارية بن عريم...».
9- في «ب، س»: «و اللّه لأنظرنهم».

عنه. فأرادوا أن يخرجوا حين يصبحون. فقال لهم سارية. ادّرعوا(1) الليل؛ فإنّي لا آمن توبة عليكم الليلة فإنه لا ينام عن طلبكم. قال: فلمّا تعشّوا ادّرعوا الليل في الفلاة. و أقعد له توبة رجلين فغفل صاحبا توبة.

فلمّا/ذهب الليل فزع توبة و قال: لقد اغتررت إلى رجلين ما صنعا شيئا، و إنّي لأعلم أنهم لم يصبحوا بهذا البلاد، فاقتصّ آثارهم، فإذا هو بأثر القوم قد خرجوا، فبعث إلى صاحبيه فأتياه، فقال: دونكما هذا الجمل فأوقراه من الماء في مزادتيه ثم اتّبعها أثري، فإن خفي عليكما أن تدركاني فإني سأنوّر لكما إن أمسيتما دوني.

و خرج توبة في أثر القوم مسرعا، حتى إذا انتصف النهار جاوز علما يقال له أفيح(2) في الغائط. فقال لأصحابه:

هل ترون سمرات إلى جنب قرون بقر؟ - و قرون بقر مكان هنالك - فإنّ ذلك مقيل القوم لم يتجاوزوه فليس وراءه(3) ظلّ. فنظروا فقال قائل: أرى رجلا يقود بعيرا(4) كأنه يقوده لصيد. قال توبة: ذلك ابن الحبتريّة، و ذلك من أرمى من رمى. فمن له يختلجه(5) دون القوم فلا ينذرون(6) بنا؟ قال: فقال عبد اللّه أخو توبة: أنا له.

قال: فاحذر لا يضربنّك، و إن استطعت أن تحول بينه و بين أصحابه فافعل. فخلّي طريق فرسه في غمض(7) من الأرض، ثم دنا منه فحمل عليه، فرماه لابن الحبتريّة - قال: و بنو الحبتر(8) ناس من مذحج في بني عقيل - فعقر(9) فرس عبد اللّه أخي توبة و اختلّ(10) السهم ساق عبد اللّه، فانحاز الرجل حتى أتى أصحابه فأنذرهم، فجمعوا ركابهم و كانت متفرّقة. قال: و غشيهم توبة و من معه، فلمّا رأوا ذلك صفّوا رحالهم و جعلوا السّمرات في نحورهم و أخذوا سلاحهم و درقهم، و زحف إليهم توبة، فارتمى القوم لا يغني أحد منهم شيئا/في أحد. ثم إنّ توبة و كان يترس(11) له أخوه عبد اللّه، قال: يا أخي لا تترّس لي؛ فإني رأيت ثورا كثيرا ما يرفع التّرس، عسى أن أوافق منه عند رفعه(12) مرمى فأرميه. قال: ففعل، فرماه توبة على حلمة ثديه فصرعه. و جال(13)/القوم فغشيهم توبة و أصحابه فوضعوا فيهم السّلاح حتى تركوهم صرعى و هم سبعة نفر. ثم إنّ ثورا قال انتزعوا هذا السهم عنّي. قال توبة: ما وضعناه لننتزعه. فقال أصحاب توبة: انج بنا نأخذ آثارنا و نلحق راويتنا، فقد أخذنا ثأرنا من هؤلاء و قد متنا عطشا(14). قال توبة: كيف بهؤلاء القوم الذي لا يمنعون و لا يمتنعون!. فقالوا: أبعدهم اللّه. قال توبة: ما أنا بفاعل و ما هم إلاّ عشيرتكم، و لكن تجيء(15) الراوية فأضع لهم ماء و أغسل عنهم دماءهم

ص: 142


1- في «ج، ب، س»: ادّرعوا الليلة». يقال: ادّرع الليل و تدرعه إذا دخل فيه يسري، كأنه لبس ظلمته.
2- ضبط الأصمعي «أفيح» بضم أوّله و فتح ثانيه، و ضبطه غيره بفتح أوّله و كسر ثانيه.
3- عبارة «مختار الأغاني»: «فإن ذلك مقيل لم يتجاوزه القوم و ليس لهم وراءه ظل».
4- في «الأصول»: «نرى رجلا يقود بعيرا له... إلخ» و التصويب عن «مختار الأغاني».
5- يختلجه: ينتزعه.
6- فلا ينذرون بنا: فلا يعلمون.
7- الغمض: المطمئن المنخفض من الأرض.
8- في «الأصول»: «و بنو الحبترية» و التصويب من «مختار الأغاني».
9- في «الأصول»: «فعقروا» بضمير الجمع، و هو تحريف.
10- اختله السهم: أصابه و نفذه.
11- يترس له: يستره بالترس.
12- في «الأصول»: «عند رميه» و التصويب من «مختار الأغاني».
13- في «الأصول»: «و جاء القوم» و التصويب من «مختار الأغاني».
14- كذا في «مختار الأغاني». و «عبارة الأصول»: «... انج فقد أخذنا ثأرنا و نلقى راويتنا فقد متنا عطشا».
15- في «مختار الأغاني»: «و لكن حتى تجيء...» بزيادة «حتى».

و أخيل(1) عليهم من السّباع و الطير لا تأكلهم حتى أوذن قومهم بهم بعمق(2). فأقام توبة حتّى أتته الراوية قبل اللّيل، فسقاهم من الماء و غسل عنهم الدماء، و جعل في أساقيهم(3) ماء، ثم خيّل لهم بالثّياب على الشجر، ثم مضى حتى طرق من اللّيل سارية بن عويمر(4) بن أبي عديّ العقيليّ فقال: إنّا قد تركنا رهطا من قومكم بسمرات من قرون بقر، فأدركوهم، فمن كان حيّا فداووه، و من كان ميّتا فادفنوه، ثم انصرف فلحق بقومه. و صبّح/سارية القوم فاحتملهم و قد مات ثور بن أبي سمعان و لم يمت غيره. فلم يزل توبة خائفا. و كان السّليل بن ثور المقتول راميا كثير البغي و الشرّ، فأخبر(5) بغرّة من توبة و هو(6) بقنّة من قنان الشّرف يقال لها قنّة بني الحميّر، فركب في نحو ثلاثين فارسا حتى طرقه؛ فترقّى توبة و رجل من إخوته في الجبل، فأحاطوا بالبيوت، فناداهم و هو في الجبل: ها أنا ذا من تبغون فاجتنبوا(7) البيوت. فقالوا: إنكم لن تستطيعوه و هو في الجبل، و لكن خذوا ما استدفّ(8) لكم من ماله، فأخذوا أفراسا له و لإخوته و انصرفوا. ثم إنّ توبة غزاهم، فمرّ على أفلت(9) بن حزن بن معاوية بن خفاجة ببطن بيشة(10). فقال: يا توبة أين تريد؟ قال: أريد الصبيان من بني عوف بن عقيل. قال: لا تفعل فإنّ القوم قاتلوك، فمهلا. قال: لا أقلع عنهم ما عشت، ثم ضرب بطن فرسه فاستمرّ به يحضر(11) و [هو(12)] يرتجز و يقول:

تنجو إذا قيل لها يعاط(13) *** تنجو بهم من خلل الأمشاط

حتى انتهى إلى مكان، يقال له حجر الرّاشدة، ظليل، أسفله كالعمود، و أعلاه منتشر، فاستظلّ فيه [هو(12)] و أصحابه. حتى إذا كان بالهاجرة مرّت عليه إبل هبيرة بن السّمين أخي/بني عوف بن عقيل واردة ماء لهم يقال له طلوب، فأخذها و خلّى طريق راعيها، و قال له: إذا أتيت صدغ البقرة(14) مولاك فأخبره أنّ توبة أخذ الإبل، ثم انصرف توبة [يطرد الإبل(15)]. قال: فلمّا ورد العبد على مولاه فأخبره نادى في بني عوف و قال: حتّام هذا!.

ص: 143


1- التخييل هنا: وضع خيال على الشيء لتفزع منه السباع، يقال: خيل له، و خيل عليه.
2- عمق: موضع. و في «مختار الأغاني»: «حتى أوذن قومهم يغمونهم».
3- الأساقي: جمع أسقية، و الأسقية: جمع سقاء (بالكسر) و هو وعاء الماء. فالأساقي جمع الجمع. و في «مختار الأغاني»: «و جعل لهم في أشنانهم ماء». و الأشنان: جمع شن، و هو القربة الخلق، و هي طيبة الماء لأنه ذهب منها ما يغير ماءها.
4- تقدم في صفحة 211 «سارية بن عمير...» و لم نهتد لوجه الصواب فيه.
5- كذا في «مختار الأغاني». و في «الأصول»: «و أخبر».
6- في «الأصول»: «و هم» و التصويب من «مختار الأغاني».
7- في «الأصول»: «هذا من تبغون فأجيبوا» و التصويب من «مختار الأغاني».
8- كذا في «ج». و استدف: تهيأ و أمكن. يقال خذ ما دف لك و استدف، أي خذ ما تهيأ و أمكن و تسهل. و في «سائر الأصول»: «ما استدنى».
9- في «الأصول»: «قلب بن حزن» و التصويب من «مختار الأغاني».
10- في «الأصول»: «يبطن نفسه». و التصويب من «مختار الأغاني».
11- كذا في «ج» و «مختار الأغاني». و الإحضار؛ عدو سريع. و في «سائر الأصول»: «يخطر».
12- زيادة عن «مختار الأغاني».
13- في «الأصول»: «ينجو إذا قيل لهم معاط» و في «ج»: «يعاط» صحيحة. و التصويب من «مختار الأغاني». و قد وردت البيت فيه هكذا: تنجو إذا قيل لها نعاط تنجو و لو من خلل الأمشاط و يعاط (وزان قطام): زجر للإبل، و يزجر به الذئب و غيره. و تنجو: تسرع.
14- في «مختار الأغاني»: «ضرع البقرة».
15- زيادة عن «مختار الأغاني».

فتعاقدوا بينهم نحوا من ثلاثين فارسا ثم اتّبعوه. و نهضت امرأة من بني خثعم من بني الهرّة(1) كانت في بني عوف و كانت تؤخّذ(2) لهم، فقالت: أروني أثره، فخرجوا بها فأروها أثره، فأخذت من ترابه فسافته فقالت: اطلبوه فإنّه [سيحبس(3)] عليكم. فطلبوه فسبقهم، فتلاوموا [بينهم(3)] و قالوا: ما نرى له أثرا، و ما نراه إلا و قد سبقكم. قال:

و خرج توبة حتى إذا كان بالمضجع من أرض بني كلاب جعل نذارته(4) و حبس أصحابه. حتى إذا كان بشعب من هضبة قال لها هند(5) من كبد المضجع جعل ابن عمّ له(6) يقال له قابض بن عبد اللّه ربيئة [له(3)] على رأس الهضبة فقال: انظر فإن شخص لك شيء فأعلمنا. /فقال عبد اللّه(7) بن الحميّر: يا توبة إنّك حائن(8)، أذكّرك اللّه، فو اللّه ما رأيت يوما أشبه/بسمرات بني عوف يوم أدركناهم في ساعتهم التي أتيناهم فيها منه(9)، فانج إن كان بك نجاة.

قال: دعني، فقد جعلت ربيئة ينظر لنا. قال: و يرجع بنو عوف بن عقيل حين لم يجدوا أثر توبة فيلقون رجلا من غنيّ، فقالوا له: هل أحسست في مجيئك أثر خيل أو أثر إبل؟ قال: لا و اللّه. قالوا: كذبت و ضربوه. فقال: يا قوم لا تضربوني، فإني لم أجد أثرا، و لقد رأيت زهاء كذا و كذا إبلا شخوصا في هاتيك الهضبة، و ما أدري ما هو. فبعثوا رجلا منهم يقال له يزيد بن رويبة لينظر حتّى ما في الهضبة. فأشرف على القوم، فلما رآهم ألوى بثوبه لأصحابه حتّى جاءوا، فحمل أوّلهم على القوم حتى غشي(10) توبة، و فزع توبة و أخوه إلى خيلهما، فقام توبة إلى فرسه فغلبته لا يقدر على أن يلجمها و لا وقفت له، فخلّى طريقها، و غشيه(10) الرّجل فاعتنقه، فصرعه توبة و هو مدهوش و قد لبس الدّرع على السيف فانتزعه ثم أهوى به ليزيد بن رويبة فاتّقاه بيده فقطع منها، و جعل يزيد يناشده رحم صفيّة، و صفيّة أمّ له(11) من بني خفاجة. و غشي القوم توبة من ورائه فضربوه فقتلوه، و علقهم عبد اللّه بن الحميّر يطعنهم بالرّمح حتى انكسر. قال: فلمّا فرغوا من توبة لووا على عبد اللّه بن الحميّر فضربوا رجله فقطعوها. فلمّا وقع بالأرض أشرع سيفه وحده ثم جثا على ركبتيه و جعل يقول: هلمّوا، و لم يشعر القوم بما أصابه. و انصرف بنو عوف بن عقيل، و ولّى قابض منهزما حتى لحق بعبد العزيز بن زرارة الكلابيّ/فأخبره الخبر. قال: فركب عبد العزيز حتى أتى توبة فدفنه و ضمّ أخاه. ثم ترافع القوم إلى مروان بن الحكم، فكافأ بين الدّمين(12) و حملت الجراحات.

ص: 144


1- في «مختار الأغاني»: «من بني الهدة».
2- تؤخذ لهم أي تعالج لهم السحر.
3- زيادة عن «مختار الأغاني».
4- النذارة: الإنذار. و إذ صح ما في «الأصول» فلعله يريد: وضع من ينذره أمر العدوّ أي وضعه حيث يعلم أمرهم إن قدموا فيخبره بهم، فاستعمل النذارة في المنذر. و عبارة «مختار الأغاني»: «... جعل يحبس أصحابه».
5- كذا في «الأصول». و في كتاب «معجم ما استعجم» في الكلام على هيدة (بالدال المهملة): «... و لم تختلف الرواية عن أبي عبيدة في كتابيه كتاب «أيام العرب» و كتاب «مقاتل الفرسان» أن الهضبة التي قتل فيها توبة اسمها بنت هند، على لفظ اسم المرأة...».
6- في «الأصول»: «ابن عمة له». و التصويب من «مختار الأغاني». و في كتاب «معجم ما استعجم» في الكلام على هيدة ذكر قول ليلى الأخيلية ترثي توبة: تخلى عن أبي حرب فولى بهيدة قابض قبل القتال ثم قال: «تعني قابض بن عبد اللّه المسلم لابن عمه توبة...».
7- في «ب، س»: «عبد اللّه بن جسوسا بن الحمير» و هو غلط سببه أن قارئا لنسخة «ج» فسر «ربيئة» فقال «أي جاسوسا» فكان التفسير فوق «عبد اللّه» فظن الناشر أنه أبوه.
8- الحائن: الهالك. و في «ب، س»: «حائر» و هو تحريف.
9- عبارة «مختار الأغاني»: «من هذه الساعة من هذا اليوم».
10- غشيه هنا: لحقه و أدركه.
11- كذا في «مختار الأغاني». و في «الأصول»: «و صفية امرأة من بني خفاجة».
12- في «ج»: «بين الدميين». و يقال في تثنية الدم دمان و دميان، و شذ دموان.

و نزل بنو عوف بن عقيل(1) البادية و لحقوا بالجزيرة و الشام.

رواية لأبي عبيدة في مقتله و سببه:

قال أبو عبيدة: و قد كان توبة أيضا يغير زمن معاوية بن أبي سفيان على قضاعة و خثعم و مهرة و بني الحارث بن كعب. و كانت بينهم و بين بني عقيل مغاورات(2)، فكان توبة إذا أراد الغارة عليهم حمل الماء معه في الرّوايا ثم دفنه في بعض المفازة على مسيرة يوم منها؛ فيصيب ما قدر عليه من إبلهم فيدخلها المفازة فيطلبه(3) القوم، فإذا دخل المفازة أعجزهم فلم يقدروا عليه فانصرفوا عنه. قال: فمكث كذلك حينا. ثم إنه أغار في المرّة الأولى التي قتل فيها هو و أخوه(4) عبد اللّه بن الحميّر و رجل يقال له قابض بن أبي عقيل(5)، فوجد القوم قد حذروا فانصرف توبة مخفقا لم يصب شيئا. فمرّ برجل(6) من بني عوف بن عامر بن عقيل متنحّيا عن قومه، فقتله توبة و قتل رجلا كان معه من رهطه و اطّرد إبلهما، ثم خرج عامدا يريد عبد العزيز بن زرارة بن جزء بن سفيان بن عوف بن كلاب، و خرج ابن عمّ لثور بن أبي سمعان(7) المقتول، فقال له خزيمة: صر إلى بني عوف بن عامر بن عقيل فأخبرهم الخبر. فركبوا في طلب توبة فأدركوه في أرض بني خفاجة، و قد أمن في نفسه فنزل، و قد كان أسرى يومه و ليلته، فاستظلّ ببرديه و ألقى عنه درعه و خلّى عن فرسه الخوصاء تتردّد/قريبا(8) منه، و جعل قابضا ربيئة له و نام، فأقبلت بنو عوف بن عامر متقاطرين لئلاّ يفطن لهم أحد، فنظر قابض فأبصر رجلا منهم فأقبل إلى توبة فأنبهه. فقال توبة: ما رأيت؟ قال: رأيت شخص/رجل واحد، فنام و لم يكترث له، و عاد قابض إلى مكانه فغلبته عيناه فنام. قال: فأقبل القوم على تلك الحال فلم يشعر بهم قابض حتى غشوه، فلما رآهم طار على فرسه. و أقبل القوم إلى توبة، و كان أوّل من تقدّم غلام أمرد على فرس عري(9) يقال له يزيد بن رويبة بن سالم بن كعب بن عوف بن عامر بن عقيل؛ ثم تلاه ابن عمّه عبد اللّه بن سالم ثم تتابعوا. فلمّا سمع توبة وقع الخيل نهض و هو وسنان فلبس درعه على سيفه ثم صوّت بفرسه الخوصاء فأتته، فلمّا أراد أن يركبها أهوت ترمحه(10)، ثلاث مرّات، فلمّا رأى ذلك لطم وجهها فأدبرت، و حال القوم بينه و بينها. فأخذ رمحه و شدّ على يزيد بن رويبة فطعنه فأنفذ فخذيه جميعا(11). و شدّ على توبة ابن عمّ الغلام عبد اللّه بن سالم فطعنه فقتله، و قطعوا رجل عبد اللّه. فلمّا رجع عبد اللّه بعد ذلك إلى قومه لاموه و قالوا له: فررت عن أخيك، فقال عبد اللّه بن الحميّر في ذلك(12). قال أبو عبيدة و حدّثني أيضا مزرّع بن عبد اللّه بن همّام بن مطرّف بن الأعلم قال:

ص: 145


1- في «الأصول»: «و بنو عقيل» و التصويب من «مختار الأغاني».
2- في «ب، س»: «غارات».
3- في «ب، س»: «فيطلبهم» و هو تحريف.
4- معطوف على فاعل «أغار».
5- تقدّم في صفحة 215 أنه: «قابض بن عبد اللّه». فلعل «أبا عقيل» جدّ من أجداده، أو هو تحريف.
6- الذي تقدّم في صفحة 214 أنه «مرت عليه إبل هبيرة بن السمين أخي بني عوف بن عقيل».
7- في «الأصول» هنا: «أبي سفيان» و هو تحريف.
8- في «ج»: «قريبة منه».
9- في «الأصول»: «على فرس عربي». و الفرس العري (بضم العين و سكون الراء): الذي لا سرج عليه.
10- ترمحه: ترفسه.
11- في «أ، م»: «فطعنه فقتله».
12- أي قال القصيدة الآتية التي مطلعها: تأوبني بعارمة الهموم

كان أهل دار من بني جشم بن بكر بن هوازن يقال لهم بنو الشّريد حلفاء لبني عداد(1) بن خفاجة في الإسلام، فكان بينهم و بين خميس بن ربيعة رهط قومه قتال على مائة تدعى الحليفة و عامّتها لجدّ بن همّام. قال و شهد عبد اللّه بن الحميّر ذلك و هو/أعرج، عرج يوم قتل توبة فلم يغن كثير غناء. فقالت بنو عقيل: لو توبة تلقّاهم لبلوا [منه(2)] بغير أفوق ناصل(3). فقال عبد اللّه بن الحميّر يعتذر إليهم:

قصيدة لعبد اللّه بن الحمير يعتذر فيها إلى قومه بعد قتل أخيه:

تأوّبني(4) بعارمة الهموم *** كما يعتاد ذا الدّين الغريم

كأنّ الهمّ ليس يريد غيري *** و لو أمسى له نبط و روم

علام تقوم عاذلتي تلوم *** تؤرّقني(5) و ما انجاب الصّريم(6)

فقلت لها رويدا كي تجلّى *** غواشي النّوم و الليل البهيم

أ لمّا تعلمي أنّي قديما *** إذا ما شئت أعصي من يلوم

و أنّ المرء لا يدري إذا ما *** يهمّ علام تحمله الهموم

و قد تعدي(7) على الحاجات حرف *** كركن(8) الرّعن ذعلبة عقيم

مداخلة الفقار(9) و ذات لوث *** على الحزّان(10) مقحمة غشوم

/كأنّ الرّحل منها فوق جأب(11) *** بذات الحاذ(12) معقله الصّريم

ص: 146


1- لم نجد هذا الاسم في مظانه.
2- زيادة عن «ج».
3- الأفوق من السهام: الذي كسر فوقه و هو مشق الوتر منه. و الناصل من السهام: ذو النصل، و الذي سقط نصله. و المراد هنا ساقط النصل. و نصل السهم: الحديدة التي في رأسه. و في حديث عليّ كرم اللّه وجهه يؤنب قوما: «و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل».
4- تأويني الشيء: رجع إلي ليلا. و يحتمل أن يكون «تتأوّبني» هنا فعلا مضارعا أي تتأوّبني. و عارمة: موضع. و في «الأصول»: «بغازية» و التصويب من كتاب «منتهى الطلب».
5- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «تؤنبني».
6- الصريم: الليل، و الصريم: الصبح، ضد. و قد وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرّفة. و انجاب: انشق.
7- تعدي: تعين. و الحرف هنا: الناقة الصلبة الضامرة، شبهت بحرف الجبل في الصلابة.
8- كذا في «ج» و كتاب «منتهى الطلب». و في «ب، س»: «كركب الرعن» و في «أ، م»: «كرعب الرعن» و هو تحريف. و الرعن الجبل الطويل، و أنف يتقدم الجبل. و ذعلبة: سريعة.
9- في «منتهى الطلب»: «مداخلة الفقارة ذات لوث». و اللوث هنا: القوة.
10- كذا في «ج» و «منتهى الطلب». و الحزان (بالضم و بالكسر): جمع حزيز و هو المكان الغليظ المنقاد. و في «أ، م»: «الحران» بالراء المهملة و هو تصحيف. و في «ب، س»: «الحرات». جمع حرة و هي أرض ذات حجارة نخرة سود كأنها أحرقت النار. و من معاني المقحم: البعير الذي يسير في المفازة من غير راع و لا سائق. و لعل المراد بمقحمة هنا أنها تلقي بنفسها في السير من غير روية. و غشوم: يريد أنها جريئة ماضية تركب رأسها إذا سارت لا يثنيها شيء عن هواها.
11- الجأب (بالهمز و قد تسهل همزته): الغليظ الصلب من الحمر الوحشية و الثيران الوحشية. و تشبيه الناقة بالحمار الوحشي أو الثور الوحشي في القوة و الصلابة كثير مستغيض في الشعر العربي القديم.
12- الحاذ: ضرب من الشجر واحده حاذة، و الحاذ: موضع بنجد. قال طرفه بن العبد: حيثما قاظوا بنجد و شتوا حول ذات الحاذ من ثنى وقر و الصريم هنا: القطعة المنقطعة من معظم الرمل، و مثله الصريمة. و يحتمل أنه يريد مكانا بعينه.

طباه(1) برجلة البقّار برق *** فبات الليل منتصبا يشيم

فبينا ذاك إذ هبطت عليه *** دلوح(2) المزن واهية هزيم

تهبّ لها الشّمال فتمتريها(3) *** و يعقبها بنافحة نسيم

يكبّ(4) إذا الرّذاذ جرى عليه *** كما يصغي(5) إلى الآسي الأميم

إذا ما قال أقشع جانباه *** نشت(6) من كلّ ناحية غيوم

فأشعر(7) ليلة أرقا و قرّا *** يسهّره كما أرق السليم

/ألا من يشتري رجلا برجل *** تخوّنها السّلاح فما تسوم(8)

/تلومك في القتال بنو عقيل *** و كيف قتال أعرج و لا يقوم

و لو كنت القتيل و كان حيّا *** لقاتل لا ألّف(9) و لا سئوم

و لا جثّامة(10) ورع هيوب *** و لا ضرع إذا يمسي(11) جثوم

قال: ثم إنّ خفاجة رهط توبة جمعوا لبني عوف بن عامر عقيل الذين قتلوا توبة، فلمّا بلغهم الخبر لحقوا ببني الحارث بن كعب، ثم افترقت بنو خفاجة. فلمّا بلغ ذلك بني عوف رجعوا، فجمعت لهم بنو خفاجة أيضا قبائل عقيل. فلمّا رأت كذلك بنو عوف بن عامر بن عقيل لحقوا بالجزيرة فنزلوها؛ و هم رهط إسحاق بن مسافر بن ربيعة بن عاصم بن عمرو بن عامر بن عقيل. ثمّ إنّ بني عامر بن صعصعة صاروا في أمرهم إلى مروان بن الحكم و هو والي المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، فقالوا: ننشدك(12) اللّه أن تفرّق جماعتنا،

ص: 147


1- طباه هنا: دعاه أو قاده. و رجلة البقار: موضع. و يشيم: ينظر.
2- الدلوح من السحاب: كثيرة الماء. و المزن: السحاب أو أبيضه أو ذو الماء. الواهية من السحاب: التي تنبثق بالماء انبثاقا شديدا. و هزيم هنا: تنبعج بالماء لا تستمسك.
3- تمتريها: تحتلبها أي تنزل ماءها. و النافحة: وصف من نفحت الريح إذا هبت.
4- كذا في «منتهى الطلب». و في «الأصول»: «يلث إذا الرباب» و في «ج»: «الرثاث» بمثلثة بدل «الرباب» و كله تحريف. و يكب: يريد أنه يطأطئ رأسه.
5- كذا في «ج». و «منتهى الطلب» و يصغى يميل. و في «أكثر الأصول» «يصفي» بالفاء و هو تصحيف. و الآسي: الطبيب. و الأميم: المشجوج في أم رأسه أي دماغه. يصف الجأب بأنه يميل رأسه إذا جرى ماء المطر عليه كما يفعل مشجوج الرأس حين يميل رأسه للطبيب.
6- نشت: أصله نشأت، سهلت الهمزة ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
7- أي جعل القر و الأرق شعارا له في ليلة. و يجوز أن يرفع «ليلة» على أن يجعل الأرق و القر شعارا له تجوزا في الإسناد، كما يقال نهار فلان صائم، و ليله قائم. و السليم: اللديغ.
8- تخوّنها: تنقصها و غيّر حالها. و السوم هنا: سرعة المر.
9- الألف هنا: الثقيل الكثير اللحم، و هو عيب في الرجال دون النساء. و الألف أيضا المقرون الحاجبين و هو غير مراد هنا. و سئوم: ملول.
10- الجثامة هنا: النئوم الذي لا ينهض للمكارم أو البليد، و الجثامة أيضا: السيد الحليم و هو غير مراد هنا. و الورع: الجبان و الصغير الضعيف لا غناء عنده. و الضرع (بالتحريك): الضعيف و الجبان، يستوي فيه المفرد و الجمع؛ و الضرع (بالكسر): المتذلل الخاضع. و الجثوم: الذي يلزم مكانه فلا يبرح، و الذي يتلبد بالأرض.
11- كذا في «ج» و «منتهى الطلب». و في «سائر الأصول»: «يمشي» بالشين المعجمة، و هو تصحيف.
12- أي نسألك باللّه أن تتلافى تفرق جماعتنا. يقال: نشدتك اللّه و باللّه أي سألتك و استحلفتك باللّه.

فعقل(1) توبة و عقل الآخرين معاقل العرب مائة من الإبل، فأدّتها بنو عامر. قال: فخرجت بنو عوف بن عامر قتله توبة/فلحقوا بالجزيرة، فلم يبق بالعالية(2) منهم أحد، و أقامت بنو ربيعة بن عقيل و عروة بن عقيل و عبادة بن عقيل(3) بمكانهم بالبادية.

رواية أبي عبيدة عن مزرّع في مقتله و سببه:

قال أبو عبيدة و حدّثنا مزرّع(4) بن عمرو بن همّام - قال أبو عبيدة: و كان مع أبو الخطّاب و غيره - قال: توبة ابن حميّر بن ربيعة بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، و أمّه زبيدة. فهاج بينه و بين السّليل بن ثور بن أبي سمعان بن عامر ابن عوف بن عقيل كلام، و كان شرّيرا و نظير توبة في القوّة و البأس، فبلغ الحور(5) (و هو الكلام) إلى أن أوعد كلّ واحد منهما صاحبه، فالتقى بعد ذلك توبة و السّليل على غدير من ماء السماء، فرمى توبة السليل فقتله. ثم إنّ توبة أغار ثانية على إبل بني السّمين بن كعب بن عوف بن عقيل واردة ماءهم فاطّردها. و اتبعوه و هم سبعة نفر: يزيد بن رويبة، و عبد اللّه بن سالم، و معاوية بن عبد اللّه - قال أبو عبيدة: و لم يذكر غير هؤلاء - فانصرفوا يجنبون(6) الخيل يحملون المزاد، فقصّوا أثر توبة و أصحابه فوجدوهم و قد أخذوا في المضجع من أرض بني كلاب في أرض دمثة(7) تربة، فضلّت فرس توبة الخوصاء من اللّيل، فأقام و اضطجع حتى أصبح، و ساق أصحابه الإبل، و هم ثلاثة نفر سوى توبة: المحرز أحد بني عمرو بن كلاب، و قابض(8) بن أبي عقيل أحد بني خفاجة، و عبد اللّه بن حميّر أخو توبة لأمّه و أبيه. فلمّا/أصبح توبة إذا فرسه الخوصاء راتعة أدنى ظلم(9) قريبة(10) منه ليس دونها وجاح(11)فأشلاها(12) حتى أتته، ثم خرج يعدو حتى لحق بأصحابه، فانتهوا إلى هضبة بكبد المضجع، فارتقى توبة فوقها ينظر الطّلب(13)، فرآه القوم و لم يرهم عند طلوع الشمس، و بالت الخوصاء حين انتهت إلى الهضبة، فقال القوم: إنه لطائر أو إنسان. فركب يزيد بن رويبة و كان أحدث القوم سنّا، و أمّه بنت عمّ توبة، فأغار ركضا حتى انتهى إلى الهضبة، فإذا بول الفرس و عليه بقيّة من رغوته، و إذا أثر توبة يعرفونه، فرجع فخبّر أصحابه. و اندفع توبة و أصحابه حتى نزلوا إلى طرف هضبة يقال لها الشّجر من أرض بني/كلاب، فقالوا بالظّهيرة، فلم يشعر شعره إلاّ و الإبل قد نفرت، و كانت بركا(14) بالهاجرة، من وئيد(15) الخيل. فوثب توبة، و كان لا يضع السيف، فصبّ الدّرع على السيف

ص: 148


1- عقل فلانا: وداه أي دفع ديته.
2- العالية: اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة من قراها و عمائرها إلى تهامة، و ما كان دون ذلك من جهة تهامة فهي السافلة.
3- في «الأصول»: «عبادة بن مقعل» و هو تحريف.
4- تقدّم في صفحة 218: «مزرّع بن عبد اللّه بن همام».
5- الحور: الاسم من المحاورة. يقال: إن فلانا لضعيف الحور، أين المحاورة، و هي المراجعة في الكلام.
6- جنب الدابة: قادها إلى جنبه. و في «الأصول»: «يجيبون» و هو تصحيف.
7- في «الأصول»: «دمنة» و هو تصحيف. و الأرض الدمثة: السهلة اللينة.
8- كذا في «ج». و في «سائر الأصول» هنا: «قابض بن عقيل». (راجع الحاشية رقم 6 من صفحة 217 من هذا الجزء طبعة دار الكتب).
9- أدنى ظلم أي أدنى شيء. و قد شرح المؤلف هذه الكلمة فيما تقدّم (صفحة 79 من هذا الجزء طبعة دار الكتب).
10- في «ج»: «قريبا منه».
11- الوجاح (مثلث الأوّل): الستر. و في «الأصول»: «وجاج» بجيمين و هو تصحيف.
12- أشلى الدابة: دعاها إليه.
13- الطلب هنا: جمع لطالب.
14- البرك هنا: جماعة الإبل الباركة، الواحد بارك و الأنثى باركة.
15- الوئيد هنا: الصوت العالي الشديد.

متقلّده وهلا، و داجت(1) القوم، فطلب قائم السيف فلم يقدر عليه تحت الدّرع فلم يستطع سلّه، فطار إلى الرّمح فأخذه، فأهوى به طعنا إلى يزيد بن رويبة، و قد كان يزيد عاهد اللّه ليقتلنّه أو ليأخذنّه، فأنفذ فخذ يزيد، و اعتنقه يزيد فعضّ بوجنتيه، و استدبره عبد اللّه بالسيف ففلق رأس توبة. و هيّت(2) توبة حين اعتوره الرجلان بقابض: يا قابض فلم يلو عليه، و فرّ قابض [و] الكلابيّ، و ذبّ عبد اللّه/بن حميّر عن أخيه؛ فأهوى له معاوية بن عبد اللّه بالسيف فأصاب ركبته فاختلعت (أي سقطت). فأتى قابض من فوره ذلك عبد العزيز بن زرارة أحد بين أبي بكر بن كلاب فقال: قتل توبة. فنادى في قومه، فجاءه أبوه زرارة فقال: أين تريد؟ فقال: قتل توبة. فقال أبوه طوط(3)سحقا لك! أ تطلب بدم توبة أن قتلته بنو عقيل ظالما لها باغيا عاديا عليها! قال لكنّي أجنّه(4) إذا. قال أبوه. أمّا هذه فنعم. فألقى السّلاح و انطلق حتى أجنّه، و حمل أخاه عبد اللّه بن حميّر. قال: فأهل البادية يزعمون أنّ محرزا سحر فأخذ عن سيفه. فقالت ليلى الأخيلية بنت عبد اللّه بن الرحّالة بن شدّاد بن كعب بن معاوية فارس الهرّار ابن عبادة بن عقيل:

رثت ليلى توبة بعدّة قصائد:
اشارة

نظرت و ركن من ذقانين دونه *** مفاوز حوضي(5) أيّ نظرة ناظر

/لأونس(6) إن لم يقصر الطّرف عنهم(7) *** فلم تقصر الأخبار و الطّرف قاصري

فوارس أجلي شأوها عن عقيرة *** لعاقرها فيها عقيرة عاقر

شأوها(8): سرعتها و هو الطّلق و جريها، و قال غيره: غايتها. عقيرة: تعني توبة. لعاقرها: تعني لعاقر توبة، تريد

ص: 149


1- كذا في «أكثر الأصول». و في «ج»: «و دامت القوم». و ظاهر أن فيه تحريفا، و يحتمل أن يكون صوابه: «و زاحف القوم» أو «و واجه القوم» أو ما يشبه ذلك، و يحتمل أن يكون محرفا عما يدل على القدوم أو الهجوم على أن يكون «القوم» فاعلا.
2- هيت بفلان: صاح به و دعاه.
3- كذا وردت هذه الكلمة في «أكثر الأصول». و في «ج»: «ظوط» بظاء معجمة في أوله فطاء مهملة في آخره. و لم نجد في معاني هذه الكلمة ما يناسب المقام هنا. و الظاهر من السياق أن المراد بها التهكم به، أو لعلها من زيادات النساخ.
4- أجنه: كفنه و ستره.
5- وردت هذه الكلمة محرّفة في «الأصول»، بين «دفانين» و «دفاتين». و «دنانين». و التصويب من «معجم ما استعجم». و ذقان (بكسر الذال) اسم جبل، و هما جبلان أحدهما لبني عمرو بن كلاب، و الآخر لبني أبي بكر بن كلاب. (راجع «معجم ما استعجم» للبكري). و رواية هذا البيت في «منتهى الطلب من أشعار العرب»: نظرت و دوني من عماية منكب و بطن الركاء أي نظرة ناظر و في «الكامل» للمبرد (طبعة أوربا): نظرت و ركن من بوانة دوننا و أركان حسمي أي نظرة ناظر و يجوز في «أي نظرة ناظر» النصب و الرفع، فالنصب على أنه معمول لنظرت، أي نظرت أيّ نظرة ناظر، و معناه نظرت نظرة كاملة، كما تقول أنت رجل أي رجل، أي أنت رجل كامل في الرجولية. و الرفع على القطع و الابتداء و المخرج مخرج استفهام، و تقديره أي نظرة هي، كما تقول سبحان اللّه أي رجل زيد. (راجع «الكامل» للمبرد). و حوضي هنا: نجد من منازل بني عقيل، و حوضي أيضا: ماء لبني طهمان بن عمرو بن سلمة بن سكن بن قريط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب إلى جنب جبل في ناحية الرمل. (راجع «معجم البلدان»).
6- في «ب، س»: «لآنس» و هو تحريف.
7- في «منتهى الطلب»: «دونهم».
8- الذي في «لسان العرب». «الشأو: الطلق و الشوط، و الشأو: الغاية و الأمد».

يزيد بن رويبة. و وجه آخر(1): في عقيرة عاقر معنى مدح أي عقيرة كريمة لعاقرها. و وجه آخر: عقيرة لعاقرها: فيها الهلاك بعقرها -

فآنست خيلا بالرّقيّ(2) مغيرة *** سوابقها(3) مثل القطا المتواتر

قتيل بني عوف و أيصر(4) دونه *** قتيل بني عوف قتيل يحابر(5)

توارده أسيافهم فكأنّما *** تصادرن عن أقطاع(6) أبيض باتر

/من الهندوانيات في كلّ قطعة *** دم زلّ عن أثر من السيف(7) ظاهر

أتته المنايا دون زغف(8) حصينة *** و أسمر خطّيّ و خوصاء ضامر

على كلّ حرداء السّراة(9) و سابح *** درأن(10) بشبّاك الحديد زوافر

عوابس تعدو الثّعلبيّة(11) ضمّرا *** و هنّ شواح بالشّكيم الشواجر

فلا يبعدنك اللّه يا توب(12) إنّما *** لقاء المنايا دارعا مثل حاسر(13)

ص: 150


1- ذكر المؤلف في معنى قوله: «لعاقرها فيها عقيرة عاقر» وجهين، و هذا الوجه هو الأوّل، و هو كقولهم «ثأر منيم» و هو الذي إذا أصابه المثئر هدأ و استقرّ لأنه أصاب كفؤا. ثم ذكر الوجه الثاني بعد.
2- الرقيّ: موضع.
3- في «منتهى الطلب»: «أوائلها». و المتواتر: الذي يجيء بعضه في إثر بعض.
4- كذا في «رغبة الآمل» من كتاب «الكامل» للأستاذ المرحوم سيد بن عليّ المرصفي. و أيصر: موضع ببلاد بني عقيل، و قد ورد هذا الاسم أيضا في شعر ليلى الأخيلية: و لم يملك الجرد الجياد يقودها بسرة بين الأشمسات فأيصر و سيأتي هذا البيت في قصيدة لليلى في صفحة 232 و في «الأصول المخطوطة»): «و يتبرونه» و فوق الواو في «أ، م» همزة. و في «ب، س»: «و يثبر دونه» و في «منتهى الطلب»: قتيل بني عوف فواترتا له و الترة: الثأر.
5- كذا في «ج» و «منتهى الطلب». و يحابر: قبيلة. و في «سائر الأصول»: «قتيل لجابر». و في «رغبة الآمل» من كتاب «الكامل»: «قتيل لعامر». و لعل هذه الرواية هي المناسبة للسياق.
6- في «منتهى الطلب»: «عن حامي الحديدة». و الأقطاع: جمع قطع (بكسر فسكون) و هو ما قطع من حديد أو غيره. و الأبيض الباتر: السيف.
7- الأثر (بالفتح) و الإثر (بالكسر): فرند السيف و رونقه. و زاد في «لسان العرب» «الأثر» بضمتين، و زاد في «القاموس» «الأثير».
8- الزغف: الدروع المحكمة. و الأسمر الخطيّ: الرمح. و الخوصاء الضامر: الفرس.
9- الجرداء من الخيل: القصيرة الشعر، و هو مدح في الخيل. و السراة: الظهر. و السابح من الخيل: الحسن مدّ اليدين في الجري.
10- كذا في «رغبة الآمل». و الدره: الدفع. و في «الأصول»: «لهن». و في «منتهى الطلب»: «درأت». و شباك الحديد هنا: اللجم المشتبكة. و زوافر. مخرجات أنفاسهن. تصف الخيل بسرعة الاندفاع.
11- الثعلبية: أن يعدو الفرس عدو الكلب. و شواح: فاتحات أفواهها. و الشكيم: واحدته شكيمة و هي الحديدة المعترضة في الفم من اللجام. و الشواجر: المشتبكة. و ورد هذا البيت في «الأصول» هكذا: عوابس تعدو التغلبية ضمرا و هن شواح بالشكيم السواجر و التصويب من «منتهى الطلب»: و «رغبة الآمل» و نسخة الشنقيطي.
12- كذا في «ج» و «منتهى الطلب». و في «سائر الأصول»: «فلا يبعدنك اللّه توبة».
13- تريد: إنما لقاء المنايا دارعا مثل لقائها حاسرا.

فإلاّ تك(1) القتلى بواء فإنّكم *** ستلقون يوما ورده غير صادر

و إنّ السليل إذ يباوي قتيلكم *** كمرحومة من عركها غير طاهر(2)

/فإن تكن القتلى بواء فإنكم *** فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

/فتى لا تخطّاه الرّفاق و لا يرى *** لقذر عيالا دون جار مجاور

و لا تأخذ الكوم الجلاد رماحها *** لتوبة في نحس الشّتاء الصّنابر(3)

إذا ما رأته قائما بسلاحه *** تقته(4) الخفاف بالثّقال البهازر

إذا لم يجد منها برسل فقصره *** ذرى المرهفت و القلاص التّواجر(5)

قرى سيفه منها مشاشا(6) و ضيفه *** سنام المهاريس السّباط المشافر

و توبة أحيا من فتاة حييّة *** و أجرأ من ليث بخفّان خادر(7)

/و نعم الفتى إن كان توبة فاجرا *** و فوق الفتى إن كان ليس بفاجر(8)

فتى ينهل الحاجات ثم يعلّها *** فيطلعها عنه ثنايا المصادر

ص: 151


1- في «منتهى الطلب» «فإن تكن القتلى».
2- يباوي: يساوي، و أصله الهمز. تريد إذ يقتل بقتيلكم. و في «الأصول»: «يباري» و هو تحريف. و مرحومة: بها داء في الرحم؛ يقال رحمت المرأة (بالبناء للمفعول) رحما (بالفتح) إذا أخذها داء في رحمها فهي تشتكي منه، و يقال أيضا رحمت رحما (وزان فرح فرحا) فهي رحمة، و رحمت (بضم عين الفعل) رحامة فهي رحوم و رحماء. و العرك: الحيض؛ يقال عركت المرأة تعرك (بالضم) عروكا فهي عارك. تقول: إن السليل الذي قتلناه منكم صغير القدر لا يباوي قتيلكم الذي قتلتموه منا، فهو مثل المرأة العارك و يشبه الساقطون من الرجال بالنساء العوارك؛ قال الشاعر: أ في السلم أعيارا جفاء و غلظة و في الحرب أمثال النساء العوارك و في «الأصول»: «كمرجومة» بالجيم، و هو تصحيف.
3- الكوم: جمع كوماء و هي العظيمة السنام من الإبل. و الجلاد من الإبل: الغزيرات اللبن كالمجاليد أو ما لا لبن لها و لا نتاج. يقال: أخذت الإبل رماحها إذا حسنت في عين صاحبها فامتنع من نحرها نفاسة بها. و أخذ الإبل رماحها إنما هو على التمثيل. و نحس الشتاء: ريحه الباردة. و صنابر الشتاء: شدّة برده. و الصنابر: جمع صنبر (بكسر الصاد و تشديد النون المفتوحة و تكسر، و سكون الباء)؛ يقال غداة صنبر. و لعل الصنابر وصف للشتاء باعتبار أيامه و لياليه، أو وصف لنحس الشتاء على أن يكون المراد بنحس الشتاء جمعا. و رواية البيت في «منتهى الطلب»: و لا تأخذ الإبل الزهاري رماحها لتوبة عن صرف السرى في الصنابر
4- كذا في «ج» و «منتهى الطلب». و في «سائر الأصول»: «بسلاحه ات قته». و يقال اتقاه و تقاه (مثل قضى يقضي) بمعنى واحد. و البهازر من الإبل: العظام، واحدتها بهزرة (بضم الباء و الزاي و سكون الهاء بينهما).
5- الرسل «بالكسر»: اللبن. و المرهفات الدقيقات. و القلاص: جمع قلوص و هي الشابة من النوق كالجارية من النساء. و التواجر هنا: الإبل النافقة في التجارة و في السوق. و في «الأصول الخطية»: «النواحر». و في «ب، س»: «النواجر» و التصويب من «منتهى الطلب».
6- كذا في «ج» و «منتهى الطلب» و «رغبة الآمل». و في «سائر الأصول» «منهن شأسا» و هو تحريف. و المشاش: رءوس العظام مثل الركبتين و المرفقين، الواحدة مشاشة. و المهاريس من الإبل: الجسام الثقال، سميت بذلك لشدّة وطئها كأنها تهرس ما وطئته و تدقه. و في «الأصول»: «البهاريس» و التصويب من «منتهى الطلب» و «رغبة الآمل». و سباط المشافر: طويلتها، و واحد السباط سبط ككتف. و في «بعض الأصول: «السياط» بالمثناة و هو تصحيف. و المشفر للبعير كالشفة للإنسان.
7- خفان: موضع قرب الكوفة و هو مأسدة. و خادر مقيم.
8- كذا في «منتهى الطلب». و في «الأصول»: و نعم فتى الدنيا و إن كان فاجرا
صوت

كأنّ فتى الفتيان توبة لم ينخ *** قلائص يفحصن الحصا بالكراكر(1)

و لم يبن أبرادا عتاقا(2) لفتية *** كرام و يرحل قبل(3) فيء الهواجر

- في هذين البيتين لحن من الثّقيل الأوّل لمحمد بن إبراهيم قريض و هو من خاصّ صنعته و غنائه -

و لم يتجلّ الصّبح عنه و بطنه *** لطيف كطيّ السّبّ(4) ليس بحادر

فتى كان للمولى(5) سناء و رفعة *** و للطارق الساري قرى غير باسر

و لم يدع يوما للحفاظ و للنّدا(6)*** و للحرب يرمي(7) نارها بالشرائر

/و للبازل الكوماء يرغو حوارها *** و للخيل تعدو بالكماة المساعر(8)

كأنّك لم تقطع(9) فلاة و لم تنخ *** قلاصا لدى(10) فأو من الأرض غائر(11)

و تصبح بموماة(12) كأنّ صريفها *** صريف خطاطيف الصّرى في المحاور

طوت نفعها عنّا كلاب و آسدت(13)*** بنا أجهليها بين غاو و شاعر

ص: 152


1- الكراكر: جمع كركرة (بالكسر) و هي هنا رحى زور البعير أو صدره.
2- في «الكامل»: «أبرادا رقاقا» ثم شرحها المبرد فقال: «تريد الخيام».
3- كذا في «ج» و «الكامل» للمبرد. ثم قال المبرد: «و قولها: و يرحل قبل فيء الهواجر، تريد أنه متيقظ ظعان». و في «سائر الأصول»: «قبلهم في الهواجر».
4- السب: الثوب الرقيق. و الحادر هنا: الغليظ السمين. و في «أكثر الأصول» «بحاذر» بالذال المعجمة؛ و التصويب من «ج» و «منتهى الطلب». تصفه بهضم الكشح، و هو مدح؛ قال زياد بن منقذ: يغدو أمامهم في كل مربأة طلاع أنجدة في كشحه هضم و رواية البيت في «منتهى الطلب»: و لم يتخل الضيف عنه و بعلته خميص كطي السبت ليس بحادر
5- المولى هنا: ابن العم أو الحليف الذي ينضم إليك فيعز بعزك و يمتنع بمنعتك. و باسر: عابس. و في «رغبة الآمل» «... قرى غير قاتر». و غير قاتر: غير ضيق، من قتر عيشه يقتر (بالكسر و الضم) قترا و قتورا فهو قاتر ضاق لا يمسك إلا الرمق.
6- كذا في «ج» و «منتهى الطلب». و في «سائر الأصول»: «و للعدا».
7- في «منتهى الطلب»: «يذكي».
8- البازل: الناقة التي انشق نابها؛ و هي ما استكملت السنة الثامنة و طعنت في التاسعة. و هذا اللفظ مما يستوي فيه المذكر و المؤنث؛ يقال: ناقة بازل و جمل بازل. و الكوماء: الناقة العظيمة السنام. و الحوار (بالضم و قد يكسر): ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم، أو هو حوار ساعة تضعه أمه خاصة و المساعر: جمع مسعر (بكسر الميم و سكون السين و فتح العين). و المسعر هو الذي يوقد نار الحرب. يقال: فلان مسعر حرب إذا كان يورثها، أي تحمي به الحرب. و في «الأصول»: «المشاعر» بالشين المعجمة. و التصويب من «منتهى الطلب»، و قد صححها كذلك المرحوم الشنقيطي في نسخته.
9- في «أكثر الأصول»: «كأن لم تكن تقطع» و في «ج»: «كأنما لم تقطع». و التصويب من «منتهى الطلب».
10- كذا في «ج». و في «أكثر الأصول»: «لدى بأو» و هو تحريف. و الفأو: بطن من الأرض تطيف به الرمال. و في «منتهى الطلب» «لدى واد».
11- في «الأصول»: «غابر» بالموحدة و هو تصحيف.
12- في «منتهى الطلب» «جنوحا بموماة». و الموماة: المفازة الواسعة أو التي لا ماء فيها و لا أنيس بها. و الصريف: الصوت. و الخطاطيف: جمع خطاف (بالضم)، و هو حديدة حجناء تعقل بها البكرة من جانبيها و فيها المحور. و الصري: الماء الذي طال مكثه فتغير. و هذه رواية «ج» و «منتهى الطلب». و في «سائر الأصول»: «خطاطيف المدى في المحافر» و هو تحريف. و المحاور: جمع محور و هو الحديدة التي تجمع بين الخطاف و البكرة، و هو أيضا الخشبة التي تجمع المحالة.
13- كذا في «ج» و «منتهى الطلب». و في «أ، م»: «و آسرت». و في «ب، س»: «و أثرت» و كلاهما تحريف. و آسدت: هيجت و أغرت. يقال: آسدت الكلب و أوسدته (بقلب الهمزة واوا) بالصيد إذا أغريته به.

و قد كان حقّا أن تقول سراتهم *** لعا(1) لأخينا عاليا(2) غير عاثر

/و دويّة قفر يحار بها القطا *** تخطّيتها بالنّاعجات(3) الضّوامر

فتا للّه تبني بيتها أمّ عاصم(4) *** على مثله أخرى(5) الليالي الغوابر

فليس شهاب الحرب توبة بعدها *** بغاز و لا غاد بركب مسافر(6)

و قد كان طلاّع النّجاد(7) و بيّن الل *** سان و مدلاج(8) السّرى غير فاتر

و قد كان قبل الحادثات إذا انتحى(9) *** و سائق أو معبوطة لم يغادر

و كنت إذا مولاك خاف ظلامة *** دعاك و لم يهتف(10) سواك بناصر

فإن يك عبد اللّه آسى ابن أمّه *** و آب بأسلاب الكميّ المغاور(11)

و كان(12) كذات البوّ تضرب عنده *** سباعا و قد ألقينه في الجراجر(13)

/فإنك(14) قد فارقته لك عاذرا *** و أنّي لحيّ عذر من في المقابر

فأقسمت أبكي(15) بعد توبة هالكا *** و أحفل من نالت صروف المقادر

ص: 153


1- في «أكثر الأصول»: «لما». و التصويب من «ج» و «منتهى الطلب». ولعا. كلمة يدعى بها للعاثر بأن ينتعش. يقال: لعا لفلان عاليا إذا دعى له، فإذا دعي عليه قيل: لا لعا له.
2- في «الأصول»: «عائشا» و هو تحريف.
3- الدوية، و مثلها الداوية: الفلاة الواسعة المستوية. و الناعجات من الإبل: البيض الكريمة، أو هي التي يصاد بها فعاج الوحش من الظباء و البقر. و النعج (بفتح فسكون) ضرب من سير الإبل سريع.
4- في «منتهى الطلب»: «أم عامر».
5- في «الأصول»: «إحدى الليالي» و التصويب من «منتهى الطلب». و الغوابر هنا: الباقيات. تقول: إن هذه المرأة لا يشتمل بيتها على مثله آخر الدهر؛ فإن الدهر بمثله بخيل.
6- في «بعض الأصول»: «مماقر»، و في بعضها «ممافر». و التصويب من «منتهى الطلب».
7- يقال: فلان طلاع النجاد، و طلاع أنجد، و طلاع أنجدة، إذا كان ضابطا للأمور غالبا لها. و قال الجوهري: يقال فلان طلاع أنجد و طلاع الثنايا إذا كان ساميا لمعالي الأمور. (عن «لسان العرب»).
8- في «منتهى الطلب»: «و مجذام السرى».
9- انتحى: قصد. و الوسيقة: الجماعة من الإبل و نحوها كفرقة من الناس، وصف من الوسق بمعنى الطرد لأنها إذا سرقت طردت معا. و المعبوطة: المذبوحة من غير داء و لا كسر. تريد أنه إذا قصد إبلا مغصوبة أو معبوطة لم يتركها تفلت منه.
10- كذا في «منتهى الطلب». و في «الأصول»: «و لم يعدل».
11- آساه هنا: شاركه أو أصابه بخير. و الكمي: الشجاع المتكمي في سلاحه لأنه كمى نفسه أي سترها بالدرع و البيضة، و الجمع كماة كأنهم جمعوا كاميا مثل قاض و قضاة. و المغاور: المقاتل الكثير الغارات، و مثله المغوار.
12- كذا في «منتهى الطلب». و في «الأصول»: «فكان» بالفاء؛ و جواب الشرط إنما هو قوله: «فإنك قد فارقته...» البيت الذي بعده.
13- الجراجر: الحلوق.
14- ورد هذا البيت في «الأصول» هكذا: فإن تك قد فارقته لك غادرا و أي لحي غدر من في المقابر و التصويب من «منتهى الطلب». و الشطر الثاني في «منتهى الطلب». و أني و أني عذر من في المقابر
15- فأقسمت أبكي: أي لا أبكي. و حذف «لا» في مثل هذا كثير.

/

على مثل همّام و لابن مطرّف *** لتبك(1) البواكي أو لبشر بن عامر

غلامان كانا استوردا كلّ سورة(2)*** من المجد ثم استوثقا في المصادر

ربيعي حيا كانا يفيض نداهما *** على كلّ مغمور نداة(3) و غامر

كأنّ سنا ناريهما كلّ شتوة *** سنا البرق يبدو للعيون النواظر

و قالت أيضا ترثي توبة - عن أمّ حميّر، و أمّها ابنة أخي توبة، عن أمّها. قال أبو عبيدة: أم حميّر أخت أبي الجرّاح العقيليّ. قال: و أمها بنت أخي توبة بن حميّر. قال: و كان الأصمعيّ يعجب بها -:

أيا عين بكّي توبة ابن حميّر *** بسحّ كفيض الجدول المتفجّر

لتبك عليه من خفاجة(4) نسوة *** بماء شئون الغبرة المتحدّر

سمعن بهيجا(5) أرهقت فذكرنه *** و لا يبعث الأحزان مثل التذكّر

/كأنّ فتى الفتيان توبة لم يسر(6) *** بنجد و لم يطلع مع المتغوّر(7)

و لم يرد الماء السّدام(8) إذا بدا *** سنا الصّبح في بادي الحواشي منوّر(9)

و لم يغلب الخصم الضّجاج و يملأ ال *** جفان سديفا يوم نكباء صرصر(10)

و لم يعل بالجرد الجياد يقودها *** بسرّة بين الأشمسات فايصر(11)

و صحراء موماة يحار القطا *** قطعت على هول الجنان بمنسر(12)

ص: 154


1- في «الأصول»: «لتبكي». و في «منتهى الطلب»: «تبكي».
2- السورة (بالفتح) من «المجد»: أثره و علامته و ارتفاعه.
3- في «ب، س»: «تراه» و هو تحريف.
4- خفاجة: رهط توبة و هو جدّ له.
5- الهيجا (بالمد و القصر): الحرب. و أرهقت: أدركت، أو ألحقت و أغشت، أي جعلت من فيها من المحاربين يغشون خصمهم و يلحقونه. و في «منتهى الطلب»: «أضلعت»، أي أثقلت. و في «الكامل» للمبرد: «أزحفت».
6- في «الكامل» للمبرد (ص 733 طبعة أوربا): «لم ينخ».
7- كذا في «أ، م» و «منتهى الطلب» و «الكامل». و في «سائر الأصول»: «من المتغور». و المتغور: الذي يأتي الغور. و الغور: ما انخفض من الأرض. و النجد: ما أشرف من الأرض.
8- الماء السدام: القديم المندفن.
9- رواية «الكامل»: «في أعقاب أخضر مدبر» و هي الرواية الواضحة المعنى. و الأخضر هنا الليل. و العرب تسمى الأسود أخضر.
10- في «الكامل»: «و لم يقدع الخصم الألد». و القدع. و الكف. و الألد: الشديد الخصام. و الضجاج: مصدر ضاجه مضاجة و ضجاجا إذا جادله و شارّه و شاغبه، و الاسم الضجاج (بالفتح). و هو وصف بالمصدر للمبالغة. و السديف: قطع السنام. و النكباء: الريح التي تنحرف في مهبها فتجيء بين ريحين. و الصرصر: الشديدة الصوت أو البرد.
11- ورد في هذا الشطر تحريف في «الأصول» و في «منتهى الطلب». و قد صوّبناه من كتاب «معجم ما استعجم»، و فيه: «و لم يملك الجرد» بدل: «و لم يعل بالجرد». و أشمس (بفتح أوّله و سكون ثانيه و فتح الميم و ضمها معا): جبل في شق بلاد بني عقيل. و جمعته ليلى لأنها أرادت الجبل و ما يليه من البقاع. كذا ذكر البكري في معجمه. و سرة و أيصر: موضعان.
12- المنسر (وزان منبر و مجلس) هنا: قطعة من الجيش تمر قدّام الجيش الكبير، و هو أيضا الجماعة من الخيل، و في مقدارها عدّة أقوال، و ليس هذا المعنى مرادا هنا.

يقودون قبّا كالسّراحين لاحها *** سراهم و سير الراكب المتهجّر(1)

/فلمّا بدت أرض العدوّ سقيتها *** مجاج بقيّات المزاد المقيّر(2)

و لمّا أهابوا بالنّهاب حويتها *** بخاظي(3) البضيع كرّه غير أعسر

ممرّ(4) ككرّ الأندريّ مثابر *** إذا ما ونين(5) مهلب(6) الشّدّ محضر

فألوت بأعناق طوال و راعها *** صلاصل(7) بيض سابغ و سنّور

أ لم تر أنّ العبد يقتل ربّه *** فيظهر جدّ العبد من غير مظهر

قتلتم فتى لا يسقط الرّوع رمحه *** إذا الخيل جالت في قنا متكسّر

فيا توب للهيجا و يا توب للنّدى *** و يا توب للمستنبح(8) المتنوّر

ألا ربّ مكروب أجبت و نائل *** بذلت و معروف لديك و منكر

/و قالت ترثيه:

أقسمت(9) أرثي بعد توبة هالكا *** و أحفل من دارت عليه الدوائر

لعمرك ما بالموت عار على الفتى *** إذا لم تصبه في الحياة المعاير

و ما أحد حيّ و إن عاش سالما *** بأخلد ممن غيّبته المقابر

و من كان مما يحدث الدهر جازعا *** فلا بدّ يوما أن يرى و هو صابر

و ليس لذي عيش عن الموت مقصر(10) *** و ليس على الأيّام و الدهر غابر(11)

ص: 155


1- القب: الدقاق الخصور، و الواحد أقب و قباء. و السراحين: الذئاب واحدها سرحان. و لاحها: غيّرها. و السري: سير الليل. و المتهجر: الذي يسير في الهاجرة و هي نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر، و المراد سير النهار، أي غيرها سير الليل و سير النهار.
2- في «أكثر الأصول»: «المغبر» و التصويب من «ح» «منتهى الطلب». و رواية «منتهى الطلب»: فلما بدت أولى العدوّ سقيتها صبابة مثلوب المزاد المقير و سقيتها أي الخيل. و المجاج (بضم الميم): اسم لما تمجه من فيك. و المزاد: الأسقية، الواحدة مزادة. و المقير: المطلي بالقار و هو الزفت.
3- النهاب: جمع نهب و هو الغنيمة. و الخاظي: المكتنز اللحم. و البضيع: اللحم. يريد جوادا هذه صفته.
4- الممر: اسم مفعول من أمر فلان الحبل إذا أجاد فتله. تريد أنه مجدول الخلق. و الكر هنا: الحبل الغليظ أو حبل يصعد به على النخل. و الأندري: المنسوب إلى أندرين قرية كانت بالشام.
5- ونين: فترن و ضعفن، تريد الخيل. تصف الجواد بالمثابرة على العدو إذا فترت الخيل التي معه و ضعفت.
6- إلهاب الفرس للشد: متابعته للجري؛ يقال: هلب (مثل كتب) الفرس و أهلب إذا تابع جريه. و إحضار الفرس: ارتفاعه في عدوه.
7- راعها: أفزعها. و صلاصل البيض: أصواتها، واحدتها صلصلة. و البيض من الحديد: ما يتقي به الرأس من السلاح، واحدته بيضة و هي الخوذة. و السنّور: جملة السلاح، و خص بعضهم به الدروع.
8- المستنبح: الذي يكون في مضلة فيخرج صوته على مثل نباح الكلب ليسمعه كلب الحي فيتوهمه كلبا فينبح، فيستدل بنباحه فيهتدي. و المتنور: الذي يبصر النار من بعيد.
9- أي أقسمت لا أرثي... و لا أحفل. و حذف «لا» في مثل هذا الموضع جائز و كثير.
10- تريد: ليس عنه محيد و لا مصرف.
11- غابر هنا: باق.

و لا الحيّ مما يحدث الدهر معتب(1) *** و لا الميت إن لم يصبر الحيّ ناشر

/و كلّ شباب أو جديد إلى بلى *** و كلّ امرئ يوما إلى اللّه صائر

و كلّ قريني ألفة لتفرّق *** شتاتا و إن ضنّا و طال التّعاشر

فلا يبعدنك اللّه حيّا و ميّتا *** أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر

و يروى:

(فلا يبعدنك اللّه يا توب هالكا *** أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر)

فآليت لا أنفكّ أبكيك ما دعت *** على فنن ورقاء أو طار طائر

قتيل بني عوف فيا لهفتا له *** و ما كنت إيّاهم عليه أحاذر

و لكنما أخشى عليه قبيلة *** لها بدروب الروم باد و حاضر

/و قالت ترثيه:

كم هاتف بك من باك و باكية *** يا توب للضيف إذ تدعى و للجار

و توب للخصم إن جاروا و إن عدلوا(2) و بدّلوا الأمر نقضا بعد إمرار(3)

إن يصدروا الأمر تطلعه(4) موارده *** أو يوردوا الأمر تحلله(4) بإصدار

و قالت ترثيه:

هراقت بنو عوف دما غير واحد *** له نبأ نجديّه(5) سيغور

تداعت له أفناء عوف(6) و لم يكن *** له يوم هضب الرّدهتين نصير

و قالت ترثيه:

يا عين بكّي بدمع دائم السّجم(7) *** و أبكي لتوبة عند الرّوع و البهم(8)

على فتى من بني سعد(9) فجعت به *** ما ذا أجنّ به في الحفرة الرّجم(10)

من كلّ صافية صرف و قافية *** مثل السّنان و أمر غير مقتسم

ص: 156


1- معتب: اسم مفعول؛ يقال أعتبت فلانا إذا أرضيته. و ناشر: وصف من نشر اللازم؛ يقال: نشر اللّه الميت، فنشر الميت، فهو لازم متعد.
2- كذا في «مختار الأغاني». و في «الأصول»: «و إن عندوا» و هو تحريف.
3- في «الأصول»: «بعد إبراري» و التصويب من «مختار الأغاني».
4- في «مختار الأغاني»: «يطلعه» في الموضعين و بضمير الغائب.
5- في «الأصول»: «نجدية».
6- أفناء الناس: أخلاطهم و هم النزاع من هاهنا و هاهنا.
7- ظاهر أنها تريد دائم القطران، فحركت الجيم للشعر. أما السجم (بالتحريك) فهو الماء و الدمع.
8- البهم هنا: مشكلات الأمور، واحدتها بهمة (بالضم).
9- يلاحظ أن ليس في نسب توبة المتقدّم «سعد». و هذا مما يبعث الريب في هذا الشعر.
10- الرجم (بالتحريك) هنا: القبر.

و مصدر حين يعيي القوم مصدرهم *** و جفنة عند نحس الكوكب الشّبم(1)

و قالت تعيّر قابضا:

جزى اللّه شرّا قابضا بصنيعه *** و كلّ امرئ يجزى بما كان ساعيا

/دعا قابضا و المرهفات يردنه(2) *** فقبّحت مدعوّا و لبّيك داعيا

و قالت لقابض و تعذر عبد اللّه(3) أخا توبة:

دعا قابضا و الموت يخفق ظلّه *** و ما قابض إذ لم يجب بنجيب

و آسى عبيد اللّه ثمّ ابن أمّه *** و لو شاء نجّى يوم ذاك حبيبي

خرج توبة إلى الشام فلقيه زنجي و خبره معه:

أخبرني الحسن بن عليّ عن(4) عبد اللّه بن أبي سعد عن أحمد بن معاوية بن بكر قال حدّثني أبو الجرّاح العقيليّ عن أمّه دينار بنت خيبريّ بن الحميّر عن توبة بن الحميّر قال:

خرجت إلى الشام، فبينا أنا أسير ليلة في بلاد لا أنيس بها ذات شجر نزلت لأريح، و أخذت ترسي فألقيته فوقي، و ألقيت نفسي بين المضطجع و البارك. فلمّا وجدت طعم النّوم إذا شيء قد تجلّلني عظيم ثقيل قد برك عليّ، و نشزت(5) عنه ثم قمصت(6) منه قماصا فرميت به على وجهه، و جلست إلى/راحلتي فانتضيت السيف، و نهض نحوي فضربته ضربة انخزل منها، و عدت إلى موضعي و أنا لا أدري ما هو أ إنسان أم سبع، فلمّا أصبحت إذا هو أسود زنجيّ يضرب برجليه و قد قطعت وسطه حتى كدت أبريه، و انتهيت إلى ناقة مناخة موقرة ثيابا من سلبه، و إذا جارية شابة ناهد و قد أوثقها و قرنها بناقته. فسألتها عن خبرها، فأخبرتني أنه/قتل مولاها و أخذها منه. فأخذت الجميع و عدت إلى أهلي. قال أبو الجرّاح قالت أمّي: و أنا أدركتها في الحيّ تخدم أهلنا.

حديث معاوية مع ليلى في توبة:

أخبرنا اليزيديّ عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال أخبرنا عطاء بن مصعب القرشيّ عن عاصم اللّيثيّ عن يونس بن حبيب الضّبيّ عن أبي عمرو بن العلاء قال:

سأل معاوية بن أبي سفيان ليلى الأخيليّة عن توبة بن الحميّر فقال: ويحك يا ليلى! أ كما يقول الناس كان توبة؟ قالت: يا أمير المؤمنين ليس كل ما يقول الناس حقّا، و الناس شجرة بغي يحسدون أهل النّعم حيث كانوا و على من كانت. و لقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان، حديد اللّسان، شجا للأقران، كريم المخبر(7)، عفيف

ص: 157


1- كذا في «ح». و الشبم: البارد. و نحس الكوكب الشبم كناية عن الشتاء. و في «سائر الأصول»: «الشئم» بالهمز و هو تصحيف.
2- في «الكامل»: «ينشنه» أي يتناوله.
3- في «الكامل»: «عبيد اللّه» بالتصغير. و قد ورد كذلك في البيت الأخير من البيتين الآتيين. و لكنه تقدّم غير مرة في ترجمة توبة في «الشعر و النثر» «عبد اللّه». فلعله صغر هنا للشعر.
4- في «الأصول» هنا: «... الحسن بن علي بن عبد اللّه بن أبي سعد» و هو تحريف.
5- في «الأصول»: «و نشرت عنه» بالراء المهملة و هو تصحيف. يريد ارتفعت و بعدت. و في «مختار الأغاني»: «و ثرت عنه».
6- القماص (بالضم و بالكسر معا): الوثب.
7- في «الأصول»: «كريم المختبر».

المئزر، جميل المنظر. و هو يا أمير المؤمنين كما قلت له. قال: و ما قلت له؟ قالت قلت و لم أتعدّ الحقّ و علمي فيه:

بعيد الثّرى لا يبلغ القوم قعره *** ألدّ ملدّ(1) يغلب الحقّ باطله

إذا حلّ ركب في ذراه و ظلّه *** ليمنعهم مما تخاف نوازله

حماهم بنصل السّيف من كلّ فادح(2) *** يخافونه حتى تموت خصائله(3)

فقال لها معاوية: ويحك! يزعم الناس أنه كان عاهرا خاربا(4). فقالت من ساعتها:

معاذ إلهي كان و اللّه سيّدا *** جوادا على العلاّت(5) جمّا نوافله

أغرّ خفاجيّا(6) يرى البخل سبّة *** تحلّب كفّاه النّدى و أنامله

/عفيفا بعيد الهمّ صلبا قناته *** جميلا محيّاه قليلا غوائله

و قد علم الجوع الذي بات ساريا *** على الضّيف و الجيران أنّك قاتله

و أنك رحب الباع يا توب بالقرى *** إذا ما لئيم القوم ضاقت منازله

يبيت قرير العين من بات جاره *** و يضحي بخير ضيفه و منازله

فقال لها معاوية: ويحك يا ليلى! لقد جزت بتوبة قدره. فقالت: و اللّه يا أمير المؤمنين لو رأيته و خبرته لعرفت أنّي مقصّرة في نعته و أنّي لا أبلغ كنه ما هو أهله. فقال لها معاوية: من أيّ الرجال كان؟ قالت:

أتته المنايا حين تمّ تمامه *** و أقصر عنه كلّ قرن يطاوله(7)

و كان كليث الغاب يحمي عرينه *** و ترضى به أشباله و حلائله

غضوب حليم حين يطلب حلمه *** و سمّ زعاف(8) لا تصاب مقاتله

قال: فأمر لها بجائزة عظيمة و قال لها: خبّريني بأجود ما قلت فيه من الشعر. قالت: يا أمير المؤمنين، ما قلت فيه شيئا إلاّ و الذي فيه من خصال الخير أكثر منه. و لقد أجدت حين قلت:

جزى اللّه خيرا و الجزاء بكفه *** فتى من عقيل ساد غير مكلّف

/فتى كانت الدّنيا تهون بأسرها *** عليه و لا ينفكّ جمّ التّصرّف

ينال عليّات الأمور بهونة(9) *** إذا هي أعيت كلّ خرق مشرّف

ص: 158


1- الألد: الكثير الجدل و الخصومة الشحيح الذي يزيغ إلى الحق. و ملد وصف من ألددت بفلان إذا عسرت عليه في الخصومة.
2- في «الأصول»: «من كل قادح» بالقاف. و الفادح هنا: الخطب من خطوب الدهر.
3- الخصائل: جمع خصيلة، و هي كل لحمة فيها عصب. و الظاهر أنها كنت بموت خصائل الفادح عن سكونه و ذهابه.
4- خارب: لص.
5- على العلات: أي على كل حال من عسره و يسره.
6- خفاجي: منسوب إلى خفاجة و هو من آباء توبة.
7- في «ب، س»: «يصاوله».
8- السم الزعاف (و مثله الذعاف بالذال): القاتل لساعته. و في «ب، س»: «ذعاق» بالقاف و هو تصحيف.
9- الهونة: الرفق و السهولة. و أعياه الشيء: أكله و أعجزه. و الخرق (بالكسر): السخيّ أو الظريف في سخاوة، أو الفتى الحسن الكريم الخليفة. و مشرف: جعل له شرف.

/

هو الذّوب(1) بل أرى الخلايا شبيهه *** بدرياقة من خمر بيسان قرقف

فيا توب ما في العيش خير و لا ندى *** يعدّ و قد أمسيت في ترب نفنف(2)

و ما(3) نلت منك النّصف حتى ارتمت بك ال *** منايا بسهم صائب الوقوع أعجف

فيا ألف ألف كنت حيّا مسلّما *** لألقاك مثل القسور(4) المتطرّف

كما كنت إذ كنت المنحّى من الرّدى *** إذا الخيل جالت بالقنا المتقصّف(5)

و كم من لهيف محجر(6) قد أجبته *** بأبيض قطّاع الضّريبة مرهف

فأنقذته و الموت يحرق(7) نابه *** عليه و لم يطعن و لم يتنسّف

ما كان بين توبة و جميل أمام بثينة:

أخبرني الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن ابن سعد قال حدّثت عن القحذميّ عن محارب بن غصين(8)العقيليّ قال:

كان توبة قد خرج إلى الشام، فمرّ ببني عذرة، فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه، فشقّ ذلك على جميل، و ذلك قبل أن يظهر حبّه لها. فقال له جميل: من أنت؟ /قال: أنا توبة بن الحميّر. قال: هل لك في الصّراع؟ قال: ذلك إليك، فشدّت عليه بثينة ملحفة مورّسة(9) فأتزر بها، ثم صارعه فصرعه جميل. ثم قال: هل لك في النّضال(10)؟ قال نعم، فناضله فنضله جميل. ثم قال له: هل لك في السّباق؟ فقال نعم، فسابقه فسبقه جميل. فقال له توبة: يا هذا إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة، و لكن اهبط بنا الواديّ، فصرعه توبة و نضله و سبقه.

ص: 159


1- كذا ورد هذا الشطر في «ج». و في «سائر الأصول»: هو الذوب بل أسدي الخلايا شبيهة و في «معجم البلدان» (في الكلام على بيسان): هو الذوب أو أرى الضحا لي شبته و لعل صوابه: هو الذوب بل أرى الخليات شبته و الذوب: العسل. و الأرى: العسل أيضا. و الشوب: الخلط و المزج. و الدرياقة: الخمر. و بيسان بلدة كانت بالشام مشهورة بالخمر. و القرقف: الخمر يرعد عنها صاحبها.
2- النفنف هنا: المفازة.
3- في «ج»: «و ما نيل» بدل: «و ما نلت». و النصف هنا: إعطاء الحق، مثل الإنصاف و النصف و النصفة (محركين). و السهم الأعجف: الرقيق.
4- القسور: الأسد و المتطرف: المغير.
5- القنا المتقصف: المتكسر. و جولان الخيل: كناية عن الحرب.
6- المحجر: المضيق عليه.
7- حرق الأنياب: حكها بعضها ببعض، و هو كناية عن الغضب و الغيظ. و تنسف في الصراع: قبض بيده على خصمه ثم عرض له رجله فعثره.
8- في «أ، م»: «ابن غص». و في «سائر الأصول»: «ابن غضين» بالغين و الضاد المعجمتين. و قد سموا غصينا و غصنا.
9- مصبوغة: بالورس و هو نبت أصفر.
10- النضال: المباراة في الرمي. و نضله: سبقه فيه.
سأل عبد الملك بن مروان ليلى عما رآه توبة فيها فأجابته:

أخبرنا إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة قال:

بلغني أنّ ليلى الأخيلية دخلت على عبد الملك بن مروان و قد أسنّت و عجزت، فقال لها: ما رأى توبة فيك حين هويك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين ولّوك. فضحك عبد الملك حتى بدت له سنّ سوداء كان يخفيها.

وفود ليلى على الحجاج و حديثه معها:

و أخبرني الحسن بن عليّ عن [ابن] أبي سعد عن أحمد بن رشيد بن حكيم الهلاليّ عن أيّوب بن عمرو عن رجل من بني عامر يقال له ورقاء قال:

كنت عند الحجاج بن يوسف، فدخل عليه الآذن فقال: أصلح اللّه الأمير، بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير النادّ(1). قال: أدخلها. فلمّا دخلت نسبها فانتسبت له. فقال: ما أتى بك يا ليلى؟ قالت: إخلاف النّجوم(2)، [و قلّة الغيوم(3)]، و كلب(4) البرد، و شدّة الجهد، و كنت لنا بعد اللّه الرّدّ(5). قال: فأخبريني عن الأرض. قالت:

الأرض مقشعرّة(6)، و الفجاج مغبرّة، و ذو الغنى مختلّ، و ذو الحدّ منفلّ. قال: و ما سبب ذلك؟ /قالت: أصابتنا سنون(7) مجحفة مظلمة، لم تدع لنا فصيلا و لا ربعا، و لم تبق عافطة؛ و لا نافطة؛ فقد أهلكت الرجال، و مزّقت العيال، و أفسدت الأموال، ثم أنشدته الأبيات التي ذكرناها متقدّما(8). و قال في الخبر: قال الحجّاج: هذه التي تقول(9)

نحن الأخائل لا يزال غلامنا *** حتّى يدبّ على العصا مشهورا

تبكي الرّماح إذا فقدن أكفّنا *** جزعا و تعرفنا الرّفاق بحورا

ثم قال لها: يا ليلى، أنشدينا بعض شعرك في توبة، فأنشدته قولها:

ص: 160


1- النادّ: الشارد.
2- إخلاف النجوم: تريد امتناع المطر.
3- زيادة من كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي.
4- كلب البرد: شدته.
5- الرد (بالكسر): الكهف و المعقل.
6- اقشعرار الأرض: تقبصها من المحل. و الفجاج: جمع فج، و هو كل سعة بين نشازين. و مختل: محتاج، من الخلة (بالفتح) و هي الحاجة. و منفل: منكسر متثلم.
7- السنون هنا: القحوط. و مجحفة: قاشرة تجترف المال و تذهب به. و في كتاب «الأمالي»: «مبلطة» يدل «مظلمة». و المبلطة: المفقرة، أي تلزق الناس بالبلاط، و هو الأرض المستوية. و الفصيل: ولد الناقة أو البقرة إذا فصل من أمه للفطام. و في كتاب «الأمالي»: «لم تدع لنا هبعا...» بضم الهاء و فتح الباء، و هو المناسب لما بعده. و الهبع: ما نتج في الصيف. و الربع ما نتج في الربيع. و العافطة: الضائنة. و الناقطة: الماعزة.
8- لم تتقدّم أبيات تتصل بالحجاج. و الذي في «الأمالي» أنها أنشدته الأبيات التي أوّلها: أ حجّاج لا يفلل سلاحك إنها ال منايا بكف اللّه حيث تراها و ستأتي هذه الأبيات في صفحة 48.
9- في «أ، م»: «هذه التي يقول فيها قوله». و في «سائر الأصول»: «هذه التي يقول فيها». و التصويب من كتاب «زهر الآداب» للحصري.

/

لعمرك ما بالموت عار على الفتى *** إذا لم تصبه في الحياة المعاير

و ما أحد حيّ و إن عاش سالما *** بأخلد ممن غيّبته المقابر

فلا الحيّ(1) مما أحدث الدّهر معتب *** و لا الميت إن لم يصبر الحيّ ناشر

و كلّ جديد أو شباب إلى بلى *** و كلّ امرئ يوما إلى الموت صائر

قتيل بني عوف فيا لهفتا له *** و ما كنت إيّاهم عليه أحاذر

و لكنّني أخشى عليه قبيلة *** لها بدروب الشام باد و حاضر

/فقال الحجّاج لحاجبه: اذهب فاقطع لسانها. فدعا لها بالحجّام ليقطع لسانها، فقالت: ويلك! إنّما قال لك الأمير اقطع لسانها بالصّلة و العطاء، فارجع إليه و استأذنه. فرجع إليه فاستأمره(2)، فاستشاط عليه و همّ بقطع لسانه، ثم أمر بها فأدخلت عليه، فقالت: كاد و عهد اللّه يقطع مقولي، و أنشدته:

حجّاج أنت الذي لا فوقه أحد *** إلاّ الخليفة و المستغفر الصّمد

حجّاج أنت سنان الحرب إن نهجت(3) *** و أنت للنّاس في الداجي لنا تقد

أخبرنا الحسن قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبو الحسن ميمون الموصليّ عن سلمة بن أيّوب بن مسلمة الهمدانيّ قال: كان جديّ عند الحجّاج، فدخلت عليه امرأة برزة(4)، فانتسبت له فإذا هي ليلى الأخيليّة.

و أخبرني بهذا الخبر محمد بن العبّاس اليزيديّ، و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ(5) قال: كنت عند الحجاج.

و أخبرني وكيع عن إسماعيل بن محمد بن المدائني عن جويرية عن بشر(6) بن عبد اللّه بن أبي بكر: أنّ ليلى دخلت على الحجّاج، ثم ذكر مثل الخبر الأوّل، و زاد فيه: فلمّا قالت:

غلام إذا هزّ القناة سقاها

قال لها: لا تقولي «غلام»، قولي «همام». و قال فيه: فأمر لها بمائتين. فقالت: زدني، فقال: اجعلوها ثلاثمائة.

فقال بعض جلسائه: إنّها غنم. فقالت: الأمير/أكرم من ذلك و أعظم قدرا من أن يأمر لي إلاّ بالإبل. قال: فاستحيا و أمر لها بثلاثمائة بعير، و إنما كان أمر لها بغنم لا إبل.

و أخبرنا [به(7)] وكيع عن إبراهيم بن إسحاق الصالحيّ عن عمر بن شبّة عن عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ عن أبيه، و قال فيه: أ لا قلت مكان غلام همام! و ذكر باقي الخبر الذي ذكره من تقدّم، و قال فيه: فقال لها: أنشدينا ما

ص: 161


1- تقدّمت هذه الأبيات في صفحة 234 مع أبيات أخرى. (فراجع ما كتب على هذا البيت هناك).
2- استأمره: استشاره.
3- كذا في «الأصول». و نهجت: سلكت. و يخيل إلينا أن هذه الكلمة محرّفة عن «لقحت» كما وردت في «الأمالي». و رواية هذه البيت فيه: حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت و أنت للناس نور في الدجى يقد
4- المرأة البرزة: المتجاهرة الكهلة الجليلة تبرز للقوم يجلسون إليها و يتحدثون و هي عفيفة، و البرزة أيضا: البارزة المحاسن.
5- كذا في «أ، م». و صاحب «الأغاني» يروي عن محمد بن العباس اليزيدي، و عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري. و في «سائر الأصول»: «... اليزيدي أخبرنا ابن عبد العزيز الجوهري»، و هو تحريف. و ظاهر أن في السند نقصا.
6- في «أ، م»: «بشير». و لم نهتد إليه.
7- تكملة يقتضيها سياق الكلام.

قلت في توبة، فأنشدته قولها:

فإن تكن القتلى بواء(1) فإنكم *** فتى ما قلتم آل عوف بن عامر

فتى كان أحيا من فتاة حييّة *** و أشجع من ليث بخفّان خادر

أتته المنايا دون درع حصينة *** و أسمر خطّيّ و جرداء ضامر

فنعم الفتى إن كان توبة فاجرا *** و فوق الفتى إن كان ليس بفاجر

كأنّ فتى الفتيان توبة لم ينخ *** قلائص يفحصن الحصا بالكراكر

فقال لها أسماء بن خارجة: أيتها المرأة إنك لتصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه العرب فيه. فقالت: أيها الرجل هل رأيت توبة قطّ؟ قال لا. فقالت: أما و اللّه لو رأيته لوددت أنّ كلّ/عاتق(2) في بيتك حامل منه؛ فكأنّما فقئ في وجه أسماء حبّ الرّمّان. فقال له الحجاج: و ما كان لك و لها!.

وفاتها و كيف كانت:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن أبي سعد عن محمد بن عليّ بن المغيرة قال سمعت أبي يقول سمعت الأصمعيّ يذكر أنّ الحجّاج أمر لها بعشرة آلاف درهم، و قال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: نعم أصلح اللّه الأمير، تحملني إلى ابن عمّي/قتيبة بن مسلم، و هو على خراسان يومئذ فحملها إليه، فأجازها و أقبلت راجعة تريد البادية، فلمّا كانت بالرّيّ ماتت، فقبرها(3) هناك. هكذا ذكر الأصمعيّ في وفاتها و هو غلط. و قد أخبرني عمّي عن الحزنبل الأصبهانيّ عمّن أخبره عن المدائنيّ، و أخبرني الحسن بن عليّ عن ابن مهديّ عن ابن أبي سعد عن محمد بن الحسن النّخعيّ عن ابن الخصيب الكاتب، و اللّفظ في الخبر للحزنبل، و روايته أتمّ:

أنّ ليلى الأخيليّة أقبلت من سفر، فمرّت بقبر توبة و معها زوجها و هي في هودج لها. فقالت: و اللّه لا أبرح حتى أسلّم على توبة، فجعل زوجها يمنعها من ذلك و تأبى إلاّ أن تلمّ به. فلمّا كثر ذلك منها تركها، فصعدت أكمة عليها قبر توبة، فقالت: السلام عليك يا توبة، ثم حوّلت وجهها إلى القوم فقالت: ما عرفت له كذبة قطّ قبل هذا.

قالوا: و كيف؟ قالت: أ ليس القائل:

صوت

و لو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت *** عليّ و دوني(4) تربة و صفائح

لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا(5) *** إليها صدى من جانب القبر صائح

و أغبط من ليلى بما لا أناله *** ألا كلّ ما قرّت به العين صالح

فما باله لم يسلّم عليّ كما قال!. و كانت إلى جانب القبر بومة كامنة، فلمّا رأت الهودج و اضطرابه فزعت و طارت

ص: 162


1- وردت هذه الأبيات في قصيدة تقدّمت (صفحة 224 و ما بعدها. فليراجع الكلام عليها هناك).
2- العاتق: الشابة.
3- في «ب، س»: «فقبرت هناك».
4- في «ج»: «و فوقي». و يروى «جندل» بدل «تربة».
5- زقا: صاح. و الصدى هنا: طائر كالبومة كانت العرب تزعم أنه يخرج من رأس القتيل و يصيح اسقوني اسقوني حتى يؤخذ بثأره.

في وجه الجمل، فنفر فرمى بليلى على راسها، فماتت من وقتها، فدفنت إلى جنبه. و هذا هو الصحيح من خبر وفاتها.

/غنّى في الأبيات المذكورة آنفا حكم الواديّ لحنين، أحدهما رمل بالوسطى عن عمرو، و الآخر خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش، و قال حبش: و فيها لحنان لجميلة و الميلاء رملان بالبنصر، و ذكر أبو العبيس بن حمدون أنّ الرمل لعمر الواديّ.

كان توبة شريرا كثير الغارات:

قال أبو عبيدة: كان توبة شرّيرا كثير الغارة على بني الحارث بن كعب و خثعم و همدان، فكان يزور نساء منهن يتحدّث إليهن، و قال:

أ يذهب ريعان الشّباب و لم أزر *** غرائر من همدان بيضا نحورها

قال أبو عبيدة: و كان توبة ربّما ارتفع إلى بلاد مهرة فيغير عليهم، و بين بلاد مهرة و بلاد عقيل مفازة منكرة لا يقطعها الطّير، و كان يحمل مزاد الماء فيدفن منه على مسيرة كلّ يوم مزادة ثم يغير عليهم فيطلبونه فيركب بهم المفازة، و إنما كان يتعمّد حمارّة القيظ و شدّة الحرّ، فإذا ركب المفازة رجعوا عنه.

خبر ليلى مع عبد الملك بن مروان حين رآها عند زوجته عاتكة:

أخبرني حرميّ عن الزّبير عن يحيى بن المقدام الرّبعيّ عن عمّه موسى بن يعقوب قال:

دخل عبد الملك بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فرأى عندها امرأة بدويّة أنكرها، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا/الوالهة الحرّى ليلى الأخيليّة. قال: أنت التي تقولين:

أريقت(1) جفان ابن الخليع فأصبحت *** حياض النّدى زالت(2) بهنّ المراتب

/فعفاته لهفى يطوفون حوله(3) *** كما انقضّ عرش البئر و الورد عاصب(4)

قالت: أنا الّتي أقول ذلك. قال: فما أبقيت لنا؟ قالت: الذي أبقاه اللّه لك. قال: و ما ذاك؟ قالت: نسبا قرشيّا، و عيشا رخيّا، و إمرة مطاعة. قال: أفردته بالكرم! قالت: أفردته بما أفرده اللّه به. فقالت عاتكة: إنها قد جاءت

ص: 163


1- تريد أنه قد مات فأريقت جفانه و مات الندى بموته. و الخليع: من آباء توبة. و في شرح «القاموس»: «و قال ابن الكلبي»: ولد ربيعة بن عقيل رباحا و عمرا و عامرا و عويمرا و كعبا و هم الخلعاء». و كعب أحد هؤلاء الخلفاء من آباء توبة.
2- كذا في «مختار الأغاني» لابن منظور. و في «الأصول»: «زلت».
3- في «الأصول»: فلهى و عفى بطن قود و حوله و التصويب من «مختار الأغاني». على أن فيه عيبا في الوزن و هو حذف الحرف الثالث من «فعولن»، و هو واقع في وتد، و الأوتاد لا تدخلها العلل و الزحافات. و إنما الجائز في الوتد من «فعولن» حذف أوّله إذا وقع في أوّل قصيدة. و هذا الحذف يسمى الخرم. على أنه يحتمل أن يكون صوابه «فعفاؤه» (بضم العين و تشديد الفاء) جمع عاف. و هذا الجمع في «فاعل» وصفا معتل العين نادر؛ يقال قوم عزّى و غزّاء، جمعا لغاز. و العفاة: طالبوا المعروف. و اللهف (بالتحريك): الحزن و التحسر، و الوصف منه لهف (ككتف) و لهيف و لهفان.
4- المناسب من معاني «الورد» هنا: الماء المورود. و عاصب هنا: جامع. أي كما انقض عرش البئر و قد جمع «الورد المستقين». و يحتمل أن يكون «عاصب» هنا شديدا، على أن يكون «الورد» العطش.

تستعين بنا عليك في عين تسقيها(1) و تحميها لها. و لست ليزيد إن شفّعتها في شيء من حاجاتها، لتقديمها أعرابيا جلفا على أمير المؤمنين. قال: فوثبت ليلى فقامت على رجلها و اندفعت تقول:

ستحملني و رحلي ذات وخد(2) *** عليها بنت آباء كرام

إذا جعلت سواد الشّأم جنبا *** و غلّق دونها باب اللّئام

فليس بعائد أبدا إليهم *** ذوو الحاجات في غلس الظّلام

أ عاتك لو رأيت غداء بنّا *** عزاء النّفس عنكم و اعتزامي

إذا لعلمت و استيقنت أنّي *** مشيّعة و لم ترعي ذمامي

أ أجعل مثل توبة في نداه *** أبا الذّبّان(3) فوه الدّهر دامي

/معاذ اللّه ما عسفت(4) برحلي *** تغذّ(5) السّير للبلد التّهامي(6)

أقلت خليفة فسواه أحجى *** بإمرته و أولى باللّثام

لثام الملك حين تعدّ كعب(7) *** ذوو الأخطار و الخطط الجسام

فقيل لها: أيّ الكعبين عنيت؟ قالت: ما أخال كعبا(8) ككعبي.

رواية أخرى في وفودها على الحجاج:
اشارة

أخبرنا اليزيديّ عن الخليل بن أسد عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ عن أبي يعقوب الثّقفيّ عن عبد الملك بن عمير عن محمد بن الحجّاج بن يوسف قال:

بينا الأمير جالس إذ استؤذن لليلى. فقال الحجّاج: و من ليلى؟ قيل: الأخيليّة صاحبة توبة. قال: أدخلوها.

فدخلت امرأة طويلة دعجاء العينين حسنة المشية إلى الفوه(9) ما هي، حسنة الثّغر، فسلّمت فردّ الحجّاج عليها و رحّب بها فدنت، فقال الحجّاج: دراك(10) ضع لها وسادة يا غلام، فجلست. فقال: ما أعملك إلينا؟ قالت:

السلام على الأمير، و القضاء لحقّه، و التعرّض لمعروفه. قال: و كيف خلفت قومك؟ قالت: تركتهم في حال خصب

ص: 164


1- تسقيها أي تجعلها لها سقيا.
2- كذا في «مختار الأغاني». و الوخد: ضرب من السير. و في «الأصول»: «ذات رحل».
3- أبو الذبان، كنية عبد الملك بن مروان لشدّة بخره و موت الذباب إذا دنت من فيه. (عن كتاب «ما يعول عليه في المضاف و المضاف إليه»).
4- عسفت: سارت و خبطت.
5- في «الأصول»: «تعد» بالعين و الدال المهملتين، و هو تصحيف.
6- في «مختار الأغاني»: «البلد الحرام».
7- في «الأصول»: ......... تعد بكر ذوو الأخطار و الخطى الحسام و في «ج»: «و الخطو الحسام» و التصويب من «مختار الأغاني».
8- كعب: من آباء ليلى.
9- الفوه: سعة الفم.
10- كذا في «ج». و دراك: اسم فعل بمعنى أدرك. و في «سائر الأصول»: «وراءك».

و أمن و دعة. أمّا الخصب ففي الأموال و الكلأ. و أمّا الأمن فقد أمّنهم اللّه عزّ و جلّ بك. و أمّا الدعة فقد خامرهم من خوفك ما أصلح بينهم. ثم قالت: أ لا أنشدك؟ فقال: إذا شئت. فقالت:

/

[أ حجّاج إنّ اللّه أعطاك غاية *** يقصّر عنها من أراد مداها(1)]

أ حجّاج لا يفلل سلاحك إنّما ال *** منايا بكفّ اللّه حيث تراها

إذا هبط الحجّاج أرضا مريضة *** تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الدّاء العضال الّذي بها *** غلام إذا هزّ القناة سقاها

سقاها دماء المارقين و علّها *** إذا جمحت يوما و خيف أذاها

/إذا سمع الحجّاج رزّ(2) كتيبة *** أعدّ لها قبل النّزول قراها

أعدّ لها مصقولة فارسيّة *** بأيدي رجال يحلبون صراها(3)

أ حجّاج لا تعط العصاة مناهم *** و لا اللّه يعطي للعصاة مناها

و لا كلّ حلاّف تقلّد بيعة *** فأعظم عهد اللّه ثم شراها

فقال الحجّاج ليحيى بن منقذ، للّه بلادها ما أشعرها!. فقال: ما لي بشعرها علم. فقال: عليّ بعبيدة بن موهب و كان حاجبه، فقال: أنشديه فأنشدته، فقال: عبيدة: هذه الشاعرة الكريمة، قد وجب حقّها. قال: ما أغناها عن شفاعتك! يا غلام مر لها بخمسمائة درهم؛ و أكسها خمسة أثواب أحدها كساء خزّ، و أدخلها على ابنة عمّها هند بنت أسماء فقل لها: حلّيها. فقالت: أصلح اللّه الأمير. أضرّ بنا العريف في الصدقة، و قد خربت بلادنا، و انكسرت قلوبنا، فأخذ خيار المال. قال: اكتبوا لها إلى الحكم بن أيّوب فليبتع لها خمسة أجمال و ليجعل أحدها نجيبا(4)، /و اكتبوا إلى صاحب اليمامة بعزل العريف الذي شكته. فقال ابن موهب: أصلح اللّه الأمير، أ أصلها؟ قال نعم، فوصلها بأربعمائة درهم، و وصلتها [هند(5)] بثلاثمائة درهم، و وصلها محمد بن الحجّاج بوصيفتين.

قال الهيثم: فذكرت هذا الحديث لإسحاق بن الجصّاص فكتبه عنّي، ثم حدّثني عن حمّاد الراوية قال: لمّا فرغت ليلى من شعرها أقبل الحجّاج على جلسائه فقال لهم: أ تدرون من هذه؟ قالوا: لا! و اللّه ما رأينا امرأة أفصح و لا أبلغ منها و لا أحسن إنشادا. قال: هذه ليلى صاحبة توبة. ثم أقبل عليها فقال لها: باللّه يا ليلى أ رأيت من توبة أمرا تكرهينه أو سألك شيئا يعاب؟ قالت: لا و اللّه الذي أسأله المغفرة ما كان ذلك منه قطّ. فقال: إذا لم يكن فيرحمنا اللّه و إيّاه.

أخبرني أحمد(6) بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبّة عن عبد اللّه بن محمد ابن حكيم الطائيّ عن خالد بن

ص: 165


1- زيادة عن «مختار الأغاني».
2- كذا في «ج» و «الأمالي» لأبي علي القالي. و الرز: الصوت تسمعه من بعيد. و في «سائر الأصول»: «صوت كتيبة».
3- كذا في «الأمالي»: و فيه «مسمومة» بدل «مصقولة». و في «أ، م»: «يحلبون مراها» و هو تحريف. و في «سائر الأصول»: «يحسنون غذاها». و الصري هنا بقية اللبن. و الصري أيضا: اللبن يبقى فيتغير طعمه.
4- النجيب: الكريم.
5- التكملة من «مختار الأغاني».
6- في «الأصول»: «محمد بن عبد العزيز». و هو تحريف.

سعيد عن أبيه قال: كنت عند الحجّاج فدخلت عليه ليلى الأخيليّة، ثم ذكر مثل الخبر الأوّل، و زاد فيه: فلمّا قالت:

غلام إذا هزّ القناة سقاها

قال: لا تقولي غلام، قولي همام.

صوت

سالني الناس أين يعمد هذا *** قلت أتى في الدّار قرما سريّا

ما قطعت البلاد أسري و لا يمّ *** مت إلاّ إيّاك يا زكريّا

كم عطاء و نائل و جزيل *** كان لي منكم هنيّا مريّا

عروضه من الخفيف، الشّعر للأقيشر الأسديّ. و الغناء لدحمان، و له فيه لحنان، أحدهما خفيف ثقيل من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق، [و الآخر] ثقيل أوّل بالبنصر في الثالث و الثاني عن عمرو، و ذكر يونس أنه للأبجر و لم يجنّسه، و ذكر الهشاميّ أنّ لحن الأبجر خفيف ثقيل، و أنّ لحن ابن بلوع في الثالث ثاني ثقيل. و ليحيى ابن واصل ثقيل أوّل بالوسطى.

ص: 166

13 - ذكر الأقيشر و أخباره

نسب الأقيشر و اسمه و لقبه و كنيته:

/الأقيشر: لقب [غلب عليه(1)]؛ لأنه كان أحمر الوجه أقشر(2)، و اسمه المغيرة بن عبد اللّه بن معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. و كان يكنى أبا معرض، و قد ذكر ذلك في شعره في مواضع عدّة، منها قوله:

فإنّ أبا معرض إذ حسا *** من الرّاح كأسا على المنبر

خطيب لبيب أبو معرض *** فإن ليم في الخمر لم يصبر

و عمّر عمرا طويلا، فكان أقعد(3) بني أسد نسبا، و ما أخلقه بأن يكون ولد في الجاهليّة و نشأ في أوّل الإسلام؛ لأنّ سماك بن مخرمة الأسديّ صاحب مسجد سماك بالكوفة بناه في أيّام عمر، و كان عثمانيّا، و أهل تلك المحلّة إلى اليوم كذلك. فيروي أهل الكوفة أنّ عليّ بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه - لم يصلّ فيه، و أهل الكوفة إلى اليوم يجتنبونه. و سماك الذي بناه هو سماك بن مخرمة بن حمين بن بلث(4) بن عمرو بن معرض بن عمرو بن أسد، و الأقيشر أقعد(5) نسبا منه. و قال الأقيشر في ذكر مسجد سماك شعرا.

/أخبرني محمد بن الحسن الكنديّ الكوفيّ قال أخبرني الحسن بن عليل العنزيّ عن محمد بن معاوية - و كنيته أبو عبد اللّه محمد بن معاوية - قال: الأقيشر من رهط خريم(6) بن فاتك الأسديّ. و خريم إنما نسب إلى جدّ أبيه فاتك، و هو خريم بن الأخرم [ابن شدّاد(7)] بن عمرو بن فاتك الأسديّ، و فاتك بن قليب بن عمرو بن أسد.

و الأقيشر هو المغيرة بن عبد اللّه بن معرض بن عمرو بن أسد.

قال في مسجد سماك بالكوفة شعرا ذم فيه بني دودان ثم ترضاهم ببيت:

قال: و هو القائل لمّا بني سماك بن مخرمة مسجده الذي بالكوفة، و هو أكبر مسجد لبني أسد، و هو في خطّة بني نصر بن قعين:

ص: 167


1- زيادة عن «مختصر الأغاني». و في «الأصول»: «الأقيشر لقب به».
2- الأقشر: وصف من القشر (بالتحريك) و هو شدة الحمرة.
3- أقعدهم نسبا أي أقلهم آباء إلى الجد الأكبر.
4- ورد هذا النسب في «الأصول» محرفا؛ ففي «ج»: «سماك بن عمير بن ثلب بن عمرو... إلخ». و عمير محرف عن «حمين» و «ثلب» مصحف عن «بلث». و في «أ، م»: «سماك بن حرب بن ثابت بن عوف بن عمرو بن معرض...» و في «ب، س»: سماك بن عمير بن ثابت بن عمرو...» و التصويب من «القاموس» (في مادتي حمن و بلث) و «معجم البلدان» (في مسجد سماك).
5- في «الأصول»: «أبعد» و هو تحريف.
6- خريم بن فاتك هذا صحابي شهد بدرا. و روي أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «نعم الرجل خريم الأسدي لو لا طول جمته و إسبال إزاره». فبلغ ذلك خريما فقطع جمته إلى أذنه و رفع إزاره إلى نصف ساقه.
7- زيادة من الكتب التي ترجمت للصحابة رضوان اللّه عليهم.

غضبت دودان من مسجدنا *** و به يعرفهم كلّ أحد

لو هدمنا غدوة بنيانه *** لانمحت أسماؤهم طول الأبد

اسمهم فيه و هم جيرانه *** و اسمه الدّهر لعمرو بن أسد

كلّما صلّوا قسمنا أجره *** فلنا(1) النّصف على كلّ جسد

فحلف بنو دودان ليضربنّه. فأتاهم فقال: قد قلت بيتا محوت به كلّ ما قلت. قالوا: و ما هو يا فاسق؟ قال قلت:

و بنو دودان حيّ سادة *** حلّ بيت المجد فيهم و العدد

فتركوه.

كان خليعا ماجنا مدمنا لشرب الخمر:

أخبرني وكيع عن إسماعيل بن مجمّع عن المدائنيّ قال، و أخبرني أبو أيّوب المدينيّ عن محمد بن سلاّم قال:

كان الأقيشر كوفيّا خليعا ماجنا مدمنا لشرب الخمر، و هو الذي يقول لنفسه:

فإنّ أبا معرض إذ حسا *** من الرّاح كأسا على المنبر

خطيب لبيب أبو معرض *** فصار خليعا على المكبر(2)

أحلّ الحرام أبو معرض *** فإن ليم في الخمر لم يصبر

يجلّ(3) اللّئام و يلحى الكرام *** و إن أقصروا عنه لم يقصر

اجتاز على مجلس لبني عبس فناداه أحدهم بلقبه و كان يغضب منه فهجاه:

/أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن المدائنيّ، و أخبرني عبد الوهّاب بن عبيد الصّحّاف الكوفيّ عن قعنب بن محرز الباهليّ عن المدائنيّ:

أنّ الأقيشر مرّ يريد الحيرة(4)، فاجتاز على مجلس لبني عبس، فناداه أحدهم: يا أقيشر، و كان يغضب منها، فزجره الأشياخ، و مضى الأقيشر ثم عاد إليه معه رجل و قال له: قف معي، فإذا أنشدت بيتا فقل لي: و لم ذلك، ثم انصرف، و خذ هذين الدرهمين. فقال له: أنا أصير معك إلى حيث شئت يا أبا معرض و لا أرزؤك شيئا، قال:

فافعل. فأقبل به حتى أتى مجلس القوم، فوقف عليهم ثم تأمّلهم و قد عرف الشابّ، فأقبل عليه و قال:

أ تدعوني الأقيشر ذلك اسمي *** و أدعوك ابن مطفئة السّراج

فقال له الرجل: و لم ذاك؟ فقال:

تناجي خذنها باللّيل سرّا *** و ربّ الناس يعلم ما تناجي

قال قعنب في خبره. فلقّب ذلك الرجل ابن مطفئة السراج.

ص: 168


1- في «الأصول»: «فلها» و التصويب من «مختار الأغاني». و فيه: على كل أحد».
2- وضع هذا الشطر في «ب، س» موضع الشطر الذي بعده و الذي بعد موضعه. و المكبر (وزان منزل) الكبر في السن.
3- في «ج»: «يحب».
4- كذا في «مختار الأغاني». و في «الأصول»: «بدير الحيرة».
كتب له أبو الضحاك التميمي شعرا يذمه فرد عليه و تكرر ذلك:

و قال قعنب في خبره عن المدائنيّ أخبرنا به اليزيديّ عن الخرّاز عن المدائنيّ في كتاب الجوابات، و لم يروه الباقون:

كان الأقيشر يكتري بغلة أبي المضاء المكاري فيركبها إلى الخمّارين بالحيرة. فركبها يوما و مضى لحاجته، و عند أبي المضاء رجل من تميم يكنى أبا الضّحّاك، فقال له: من هذا؟ قال: الأقيشر. فأخذ طبق الميزان و كتب فيه:

عجبت لشاعر من حيّ سوء *** ضئيل الجسم مبطان هجين

و قال لأبي المضاء: إذا جاء فأقرئه هذا. فلمّا جاء أقرأه. فقال له الأقيشر: ممن هو؟ قال: من بني تميم. فكتب الأقيشر تحت كتابه:

فلا أسدا أسبّ و لا تميما *** و كيف يجوز سبّ الأكرمين

و لكنّ التّميمي حال بيني *** و بينك يا ابن مضرطة العجين(1)

فهرب إلى الكوفة فلم يزد على هذا.

و قال قعنب في خبره عن المدائنيّ: فجاء التميمي فقرأ ما كتب، فكتب تحته:

يا أيها المبتغي حشّا(2) لحاجته *** وجه الأقيشر حشّ غير ممنوع

فلما قرأه قال: اللهم أني أستعديك عليه، و كتب تحته:

إني أتاني مقال كنت آمنة *** فجاء من فاحش في الناس مخلوع

عبد العزيز أبو الضحّاك منيته *** فيه من اللّؤم و هي غير ممنوع

و لم تبت أمّه إلاّ مطاحنة(3) *** و أن تؤاجر في سوق المراضيع

/ينساب ماء البرايا في استها سربا(4) *** كأنما انساب في بعض البلاليع

من ثمّ جاءت به و البظر حنّكه *** كأنه في استها تمثال يسروع(5)

فلمّا جاءه جزع و مشى إليه بقوم من بني تميم، فطلبوا أن يكفّ ففعل. و أمّا عبد اللّه بن خلف فذكر عن أبي عمرو الشيبانيّ أنّ الأقيشر قال هذا في مسكين.

و الشعر الذي فيه/الغناء يقوله الأقيشر في زكريّا بن طلحة الذي يقال له الفيّاض، و كان مدّاحا له.

ص: 169


1- يريد أن أمه يستخدمها الناس في شئونهم و منها ملك العجين، فكنى بمضرطة العجين عن أنها خادم. و إضراط العجين: ما يسمع عند ملكه من صوت. و هذا المعنى واضح في البيت الثالث من الأبيات العينية الآتية.
2- الحش هنا: بيت الخلاء.
3- يريد أن الناس يؤاجرونها لطحن برهم.
4- سربا: سائلا.
5- حنكه هنا: أحكمه. و اليسروع (بفتح الياء و ضمها، و يقال فيه الأسروع بضم الهمزة و فتحها أيضا و الجمع الأساريع): دودة حمراء الرأس بيضاء الجسد أو هي مخططة بسواد و حمرة.
سمع عبد الملك بن مروان شعرا له في طلحة الفياض فمدحه:

أخبرني الحسن بن عليّ عن العنزيّ عن [محمد بن] معاوية قال: غنّت جارية عند عبد الملك بن مروان بشعر الأقيشر:

قرّب اللّه بالسلام و حيّا *** زكريّا بن طلحة الفيّاض

معدن الضّيف إن أناخوا إليه *** بعد أين الطلائح الأنقاض(1)

ساهمات العيون خوص(2) رذايا *** قد براها الكلال بعد إياض(3)

زاده خالد ابن عمّ أبيه *** منصبا كان في العلا ذا انتقاض

فرع تيم من تيم مرّة حقّا *** قد قضى ذاك لابن طلحة قاض

/فقال عبد الملك للجارية: ويحك! لمن هذا؟ قالت: للأقيشر. قال: هذا المدح لا على طمع و لا فرق، و أشعر الناس الأقيشر.

لقيه الكميت فسمع من شعره و أثنى عليه:

و ذكر عبد اللّه بن خلف أنّ أبا عمرو الشيبانيّ أخبره أنّ الكميت بن زيد لقي الأقيشر في سفرة(4)، فقال له: أين تقصد يا أبا معرض؟ فقال:

سالني الناس أين يقصد هذا *** قلت آتى في الدار قرما سريّا

و ذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء، فلم يزل الكميت يستعيده إيّاها مرارا، ثم قال: ما كذب من قال إنك أشعر الناس.

كان عنينا فقال شعرا في ضدّ ذلك داعب به رجلا من قيس:

أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن ابن سلاّم قال:

كان الأقيشر عنّينا، و كان لا يأتي النساء، و كان كثيرا ما كان يصف ضدّ ذلك من نفسه. فجلس إليه يوما رجل من قيس، فأنشده الأقيشر:

و لقد أروح بمشرف ذي شعرة(5) *** عسر المكرّة ماؤه يتفصّد

ص: 170


1- معدن: اسم من عدن بالمكان إذا أقام به. و الأين: التعب. و في «الأصول»: «ابن» بالموحدة و هو تصحيف. و الطلائح: جمع طليح و طليحة، و هو الذي أعياه السير. و في «الأصول» ما عدا ج: «الطلائع»، و هو تحريف. و الأنقاض: جمع نقض (بالكسر) و هو المهزول من السير.
2- ساهمات العيون: متغيراتها. و المعروف في هذا أن يقال ساهم الوجه أي متغيره. قال عنترة: و الخيل ساهمة الوجوه كأنما يسقي فوارسها نقيع الحنظل و خوص: غائرات العيون، الواحد أخوص و خوصاء. و رذايا: مهزولات، و الواحد رذي و رذية.
3- كذا في «أكثر الأصول». و في «ج» هكذا: «أباض» بالباء الموحدة. و لم نهتد إلى ما نطمئن إليه في هذه الكلمة.
4- في «الأصول»: «في سفره».
5- في «أ، م»: «ذي كرة». و يتفصد: يسيل. و قد أورد هذين البيتين و معهما ثالث الخطيب التبريزي في «شرح ديوان الحماسة» لأبي تمام هكذا: و لقد غدوت بمشرف يافوخه عسر المكره ماؤه يتفصد مرح يمج من المراح لعابه و يكاد جلد إهابه يتقدّد حتى علوت به مشق ثنية طورا أغور بها و طورا أنجد

مرح يطير من المراح لعابه *** و تكاد جلدته به تتقدّد(1)

ثم قال للرجل: أتبصر الشعر؟ قال نعم. قال: فما وصفت؟ قال: فرسا قال: أ فكنت لو رأيته ركبته؟ قال: إي و اللّه و أثني عطفه. فكشف عن أيره و قال: هذا وصفت، فقم فاركبه. فوثب الرجل من مجلسه و جعل يقول له: قبحك اللّه من جليس! سائر اليوم.

دعاه عابس و هو في جنازة بنت زياد العصفري لغداء و شراب فقال شعرا:

و نسخت من كتاب عبد اللّه بن خلف: حدّثني أبو عمرو الشيبانيّ قال:

ماتت بنت زياد العصفريّ، فخرج الأقيشر في جنازتها، فلمّا دفنوها انصرف، فلقيه عابس مولى عائذ اللّه، فقال له: هل لك في غداء و طلاء(2) أتيت به من طيزناباذ(3)؟ قال نعم. فذهب به إلى منزله فغدّاه و سقاه، فلمّا شرب قال:

فليت زيادا لا يزلن(4) بناته *** يمتن و ألقى كلّما عشت عابسا

فذلك يوم غاب عنّي شرّه *** و أنجحت فيه بعد ما كنت آيسا

أخذه الشرط من حانة فتخلص منهم برشوة و قال شعرا:

و نسخت من كتابه: حدّثني أبو عمرو قال:

شرب الأقيشر في بيت خمّار بالحيرة، فجاءه الشّرط ليأخذوه، فتحرّز منهم و أغلق بابه و قال: لست أشرب، فما سبيلكم عليّ! قالوا: قد رأينا العسّ(5) في كفّك و أنت تشرب. قال: إنما شربت من لبن لقحة(6) لصاحب الدار، فلم يبرحوا حتى أخذوا منه درهمين. فقال:

إنّما لقحتنا باطية *** فإذا ما مزجت كانت عجب

/لبن أصفر صاف لونه *** ينزع الباسور من عجب الذّنب

إنما نشرب من أموالنا *** فسلوا الشّرطيّ ما هذا الغضب

سأل عبد الملك وفد بني أسد عنه و قال إنه شاعرهم:

أخبرني الحسن بن عليّ عن العنزيّ عن محمد بن معاوية قال:

دخل وفد بني أسد على عبد الملك بن مروان، فقال: من شاعركم يا بني أسد؟ قالوا: إنّ فينا لشعراء ما يرضى

ص: 171


1- المراح (وزان كتاب): اسم من المرح و هو الأشر و النشاط. و تتقدد: تنقطع.
2- الطلاء: من أسماء الخمر.
3- طيزناباذ: موضع بين الكوفة و القادسية على حافة الطريق.
4- أثبت الأقيشر هاهنا علامة الجمع في الفعل و هو غير الفصيح.
5- العس: القدح العظيم.
6- اللقحة (بالكسر و يفتح): الناقة الحلوب.

قومهم أن يفضّلوا عليهم أحدا. قال لهم: فما/فعل الأقيشر؟ قالوا: مات. قال: لم يمت، و لكنه مشتغل بعشقه، و ما أبعد أن يكون شاعركم إلاّ أنه يضيع نفسه. أ ليس هو القائل:

يا أيّها السائل عمّا مضى *** من علم هذا الزّمن الذاهب

إن كنت تبغي العلم أو أهله *** أو شاهدا يخبر عن غائب

فاعتبر الأرض بأسمائها *** و اعتبر الصاحب بالصاحب

سأل جارا له طحانا كان يقرض الناس فلم يعطه فقال فيه شعرا:

و ذكر عبد اللّه بن خلف عن أبي عمرو الشيبانيّ أنّ جارا للأقيشر طحّانا كان ينسئ(1) الناس يكنى أبا عائشة.

فأتاه الأقيشر يسأله فلم يعطه، فقال له:

يريد النساء و يأبى الرجال *** فما لي و ما لأبي عائشه

أدام له اللّه كدّ الرّجال *** و أثكله ابنته عائشه

فأعطاه ما أراد و استعفاه من أن يزيد شيئا.

تعرض له رجل من هجيم فهجاهم فاستكفوه فكف:

سخت من كتاب عبيد اللّه بن محمد اليزيديّ بخطّه: قال الهيثم بن عديّ حدّثني عطّاف بن عاصم بن الحدثان قال:

مرّ أعرابيّ من بني تميم كان يهزأ بالأقيشر، فقال له:

أبا معرض كن أنت إن متّ دافني *** إلى جنب قبر فيه شلو المضلّل

فعلّي أن أنجو من النار إنّها *** تضرّم للعبد اللئيم المبخّل

بذلك أوصاها الإله و لم تزل *** تحشّ(2) بأوصال و ترب و جندل

و أنت بحمد اللّه إن شئت مفلتي *** بحزمك فاحزم يا أقيشر و اعجل

فقال له: ممن أنت؟ قال: من بني تميم ثم أحد بني الهجيم بن عمرو بن تميم، فقال الأقيشر:

تميم بن مرّ كفكفوا عن تعمّدي *** بذلّ فإنّي لست بالمتذلّل

أ يهزأ بي العبد الهجيميّ ضلّة *** و مثلي رمي ذا التّدرأ(3) المتضلّل

ص: 172


1- ينسئ الناس: يريد ينسئ الناس الدين أي يقرضهم و يؤخرهم بالدين.
2- حش النار أوقدها. و الأوصال: المفاصل، واحدها وصل (بضم أوله و كسره و سكون ثانيه). و الوصل: كل عظم على حدة لا يكسر و لا يخلط بغيره و لا يوصل به غيره. و الجندل: الحجارة.
3- في «الأصول الخطية»: «ذا النذرا» بالنون و الذال المعجمة. و في «ب، س»: «ذا الناذر» و هما تحريف. يقال: فلان ذو تدرإ أي ذو حفاظ و منعة و قوّة على أعدائه و مدافعة، يكون ذلك في الحرب و في الخصومة. و المتضلل إن جعل وصفا لذي تدرإ كان جره للمجاورة؛ كما قال امرؤ القيس: كأنّ ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل و إن جعل وصفا لتدرإ أي حفاظ و قوّة كان الوصف به على التجوّز، و يكون المعنى: و مثلي رمى ذا الحفاظ الأحمق العنيف.

بداهية دهياء لا يستطيعها *** شماريخ(1) من أركان سلمى و يدبل

و باللّه لو لا أنّ حلمي زاجري *** تركت تميما ضحكة كلّ محفل(2)

فكفّوا رماكم ذو الجلال بخزية *** تصبّحكم في كلّ جمع و منزل

فأنتم لئام الناس لا تنكرونه *** و ألأمكم طرّا حريث بن جندل

فصار إليه شيوخ من بني الهجيم و اعتذروا إليه و استكفّوه فكفّ.

شرب مع مقعد و أعمى و غناهم مغن فطربوا فقال هو شعرا:

أخبرني الأخفش قال حدّثني أبو الفيّاض بن أبي شراعة عن أبيه قال:

شرب الأقيشر بالحيرة في بيت فيه خيّاط مقعد و رجل أعمى، و عندهم مغنّ مطرب، فطرب الأقيشر، فسقاهم من شربه، فلمّا انشتوا وثب الأعمى يسعى في حوائجهم، و قفز الخيّاط المقعد يرقص على ظلعة(3)/و يجهد في ذلك كلّ جهد. فقال الأقيشر:

/

و مقعد قوم قد مشى من شرابنا *** و أعمى سقيناه ثلاثا(4) فأبصرا

شرابا كريح العنبر الورد ريحه *** و مسحوق هنديّ من المسك أذفرا(5)

من الفتيات الغرّ من أرض بابل *** إذا شفّها(6) الحاني من الدّنّ كبّرا

لها من زجاج الشام عنق غريبة *** تأنّق فيها صانع و تخيّرا

ذخائر فرعون التي جبيت له *** و كلّ يسمّى بالعتيق مشهّرا

إذا ما رآها بعد إنقاء غسلها *** تدور علينا صائم القوم أفطرا

كان صاحب سراب و ندامى تفرق أصحابه فقال شعرا:

أخبرنا علي بن سليمان قال حدّثني سوّار قال حدّثني أبي قال:

كان الأقيشر صاحب شراب و ندامى، فأشخص الحجّاج بعض ندمائه إلى بعض [النواحي(7)]، و مات بعضهم، و نسك بعضهم، و هرب بعضهم؛ فقال في ذلك:

غلب الصّبر فاعترتني هموم *** لفراق الثّقات من إخواني

مات هذا و غاب هذا و هذا *** دائب في تلاوة القرآن

ص: 173


1- الشماريخ هنا: رءوس الجبال، واحدها شمراخ. و سلمى و يذبل جبلان.
2- يريد: صيرتهم ضحكة في كل محفل.
3- الظلع: العرج.
4- في «ج»: «شرابا».
5- المسك الأذفر: البالغ الغاية في الجودة.
6- كذا في «الأصول»!. و الحاني هنا: بائع الخمر، نسبة إلى الحانية و هي الحانوت: المكان الذي تباع فيه الخمر، أو نسبة إلى الحانة. و خففت ياء النسب للشعر.
7- زيادة يقتضيها السياق.

و لقد كان قبل إظهاره النّس *** ك قديما من أظرف الفتيان(1)

شعر له في بغل أبي المضاء و كان يكتريه فيركبه إلى الحيرة:

و أخبرني أبو الحسن الأسديّ عن العنزيّ قال قال ابن الكلبيّ حدّثني سلمة بن عبد سواع(2) عن أبيه قال:

كان الأقيشر لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم، يجعل درهمين في كراء بغل إلى الحيرة، و درهمين للشراب، و درهما للطعام. و كان له جار يكنى أبا المضاء له بغل يكريه، و كان يعطيه درهمين و يأخذ بغله فيركبه إلى الحيرة، حتى يأتي بيت/الخمّار فينزل عنده و يربطه بلجامه و سرجه - فيقال إنه أعطى ثمنه في الكراء - ثم يجلس فيشرب حتى يمسي، ثم يركبه و ينصرف. فقال في ذلك:

يا بغل بغل أبي المضاء تعلّمن *** أنّي حلفت و لليمين نذور

لتعسّفنّ(3) و إن كرهت مهامها *** فيما أحبّ و كلّ ذاك يسير

بالرغم يا ولد الحمار قطعتها *** عمدا و أنت مذلّل مصبور

حتى تزور مسمّعا(4) في داره *** و ترى المدامة بالأكفّ تدور

لا يرفعون بما يسوؤك نعرة *** و إذا سخطت فخطب ذاك صغير

خدعته امرأة بأنها أم حنين الخمار و أخذت منه درهمين، فأخذ يهجو أم حنين حتى استرضاه حنين:

قال: فأتى يوما من الأيّام بيت الحمّار الذي كان يأتيه فلم يصادفه فجعل ينتظره، و دخلت الدار امرأة عباديّة(5)، فقال لها: ما فعل فلان؟ قالت: مضى في حاجة و أنا امرأته، فما تريد؟ قال: نبيذا. قالت بكم؟ قال:

بدرهمين. قالت: هلمّ درهميك و انتظرني. قال لا(6). قالت: فذلك إليك، و مضت و تبعها، فدخلت دارا لها بابان و خرجت من أحدهما و تركته. فلمّا طال جلوسه خرج إليه بعض أهل الدار، قالوا: و ما يجلسك؟ فأخبرهم. فقالوا له: تلك امرأة محتالة يقال لها أمّ حنين من العباديّين. فعلم أنه قد خدع، فانصرف إلى خمّاره فأخبره بالقصة و قال له: أنسئني(7) اليوم فاسقني ففعل. و أنشأ الأقيشر يقول:

/

لم يغرّر بذات خفّ سوانا *** بعد أخت العباد أمّ حنين

وعدتنا بدرهمين نبيذا *** أو طلاء معجّلا غير دين

ثم ألوت بالدرهمين جميعا *** يا لقومي لضيعة(8) الدرهمين

ص: 174


1- في «ح»: «في أظرف الفتيان». و في «أ، م»: «في أظهر الفتيان».
2- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «عبد سراع» بالراء.
3- عسف المفازة: (بالتشديد) مثل عسفها و اعتسفها و تعسفها أي قطعها بغير قصد و لا هداية. و المهامة: جمع مهمة، و هو المفازة البعيدة و البلد القفر.
4- في «ج»: «سميعا». و يجب أن يكون مشدّد الياء ليستقيم الوزن، و إنما سمى العرب سميعا (وزان زبير).
5- عبادية: نسبة إلى العباد و هم قبائل شتى اجتمعوا على النصرانية بالحيرة.
6- يريد: لا أنتظر، أما الدرهما فيدل سياق الكلام على أنه أعطاهما إياها.
7- كذا في «ج». و الإنساء و النسيء: التأخير في الدين و في العمر. و في «سائر الأصول»: «أنشنى اليوم فامتعني».
8- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «لصعبة الدرهمين» و هو تحريف.

و ذكر هذا الخبر عبد اللّه بن خلف عن أبي عمرو الشّيبانيّ و زاد فيه: أنّ الخمّار كان يسمّى بحنين، و أنّ المرأة المحتالة قالت له: إنها أمّ حنين الخمّار الذي كان يعامله حتى أخذت الدرهمين ثم هربت منه، و ذكر الأبيات الثلاثة التي تقدّمت، و بعدها:

عاهدت زوجها و قد قال إنّي *** سوف أغدو لحاجتي و لديني

فدعت كالحصان أبيض جلدا *** وافر الأير مرسل الخصيتين

قال ما أجر ذا هديت فقالت *** سوف أعطيك أجره مرّتين

فأبدأ الآن بالسّفاح فلمّا *** سافحته أرضته بالأخريين

تلّها(1) للجبين ثمّ امتطاها *** عالم الأير أفحج(2) الحالبين

بينما ذاك منهما و هي تحوي *** ظهره بالبنان و المعصمين

جاءها زوجها و قد شام فيها *** ذا انتصاب موثّق الأخدعين(3)

فتأسّى و قال ويل طويل *** لحنين من عار أمّ حنين

قال: فجاء حنين الخمّار فقال له: يا هذا ما أردت بهجائي و هجاء أمّي؟!. قال: أخذت منّي درهمين و لم تعطيني شرابا. قال: و اللّه ما تعرفك أمّي و لا أخذت منك شيئا قطّ، فانظر إلى أمّي فإن كانت هي صاحبتك غرمت لك الدرهمين. قال: لا و اللّه ما أعرف غير أمّ حنين، ما قالت لي إلاّ ذلك، و لا أهجو إلاّ أمّ حنين/و ابنها، فإن كانت أمّك فإيّاها أعني. و إن كانت أمّ حنين أخرى فإيّاها أعني. فقال: إذا لا يفرّق الناس بينهما. قال: فما عليّ إذا! أ ترى درهميّ يضيعان! فقال له: هلمّ إذا أغرمهما لك و أقم ما تحتاج إليه، لا بارك اللّه لك! ففعل.

استكتبه العريان بن الهيثم من ملحه ثم أرسل له خمسين درهما فاستقلها و هجاه، ثم استرضاه أبوه الهيثم:

قال عبد اللّه و حدّثني أبو عمرو قال:

كان العريان بن الهيثم النّخعيّ صديقا للأقيشر، فقال له: يا أقيشر إنّي أريد أن أمتدّ إلى الشام فأكتبني(4) من ملحك فأكتبه. فخرج إلى الشام فأصاب مالا، فبعث إلى الأقيشر بخمسين درهما، ففعل(5) و قال: هات. قال المولى: على أن تهجوه إذ وضع منك؟ قال نعم، فأعطاه خمسين درهما. و قال الأقيشر:

و سألتني يوم الرّحيل قصائدا *** فملأتهنّ قصائدا و كتابا

إنّي صدقتك إذ وجدتك صادقا(6) *** و كذبتني فوجدتني كذّابا

و فتحت بابا للخيانة عامدا *** لمّا فتحت من الخيانة بابا

ص: 175


1- تلها للجبين: صرعها. يريد أنه قلبها و ألقاها على وجهها.
2- أفحج الحالبين: متباعد ما بينهما.
3- الأخدعان: عرقان في جانبي العنق.
4- الإكتاب هنا: الإملاء. و في «ب، س»: «فاكتب لي» و هو تحريف.
5- كذا في «الأصول». و الكلام هنا غير واضح؛ و أحسب أنه وقع بين الأقيشر و المولى رسول العريان حوار سقط من النساخ.
6- في «الأصول»: «كاذبا» و هو تحريف.

و كان أبو العريان على الشّرطة، فخافه الأقيشر من هجاء ابنه. و بلغ الهيثم هذه الأبيات فبعث إليه بخمسمائة درهم و سأله الكفّ عن ابنه و ألاّ يشهّره(1)، فأخذها و فعل.

خطب رجل من حضر موت امرأة من بني أسد و سأله عنها فهجاه:

قال أبو عمرو: و خطب رجل من حضر موت امرأة من بني أسد، فأقبل يسأل عنها و عن حسبها و أمّهاتها، حتى جاء الأقيشر فسأله عنها. فقال له: من [أين(2)] أنت؟ قال: من حضر موت. /فأنشأ يقول:

/

حضر موت فتّشت أحسابنا *** و إلينا حضر موت تنتسب

إخوة القرد و هم أعمامه *** برئت منكم إلى اللّه العرب

طلبت إليه عمته أن يصلي فقال اختاري إما الصلاة أو الوضوء:

أخبرني الحسن بن عليّ عن أبي أيّوب المدينيّ قال قال أبو طالب الشاعر حدّثني رجل من بني أسد قال:

سمعت عمّة الأقيشر تقول له يوما: اتّق اللّه و قم فصلّ، فقال: لا أصلّي. فأكثرت عليه، فقال: قد أبرمتني، فاختاري خصلة من خصلتين. إمّا أن أصلّي و لا أتطهّر، و إمّا أن أتطهّر و لا أصلّي. قالت: قبحك اللّه! فإن لم يكن غير هذا فصلّ بلا وضوء.

جاءه شرطي و هو يشرب فخافه و سقاه بأنبوب من ثقب الباب:

قال أبو أيّوب: و حدّثت أنه شرب يوما في بيت خمّار بالحيرة، فجاء شرطيّ من شرط الأمر ليدخل عليه، فغلّق الباب دونه. فناداه الشّرطيّ اسقني نبيذا و أنت آمن. فقال: و اللّه ما آمنك، و لكن هذا ثقب في الباب فاجلس عنده و أنا أسقيك منه، ثم وضع له أنبوبا من قصب في الثّقب و صبّ فيه نبيذا من داخل و الشرطيّ يشرب من خارج الباب حتّى سكر. فقال الأقيشر:

سأل(3) الشّرطيّ أن نسقيه *** فسقيناه بأنبوب القصب

إنما نشرب من أموالنا *** فسلوا الشّرطيّ ما هذا الغضب

أعطاه قيس بن محمد مالا و نجمه له فكرر ذلك مرارا فرده فهجاه:

أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن قعنب بن المحرز، و حدّثنا(4) محمد بن خلف عن أبي أيّوب المدينيّ عن قعنب(5) بن الهيثم بن عديّ قال:

كان قيس بن محمد بن الأشعث ضرير البصر، فأتاه الأقيشر فسأله، فأمر قهرمانة(6) فأعطاه ثلاثمائة درهم،

ص: 176


1- كذا في ج. و في «سائر الأصول»: «و الاستهزاء» و هو تحريف.
2- زيادة يقتضيها السياق.
3- في «ب، س»: «سالني».
4- في «أكثر الأصول»: «قال حدّثنا محمد بن خلف...». و التصويب من ج. و المؤلف يروي كثيرا عن محمد بن خلف وكيع عن أبي أيوب المديني.
5- لم نجد هذا الاسم في الرواة. و يخيل إلينا أن في السند تحريفا.
6- القهرمان: الوكيل أو أمين الدخل و الخرج.

فقال: لا أريدها جملة، و لكن مر القهرمان أن/يعطيني في كلّ يوم ثلاثة دراهم حتى تنفد. فكان يأخذها منه، فيجعل درهما لطعامه، و درهما لشرابه، و درهما لدابّة تحمله إلى بيوت الخمّارين. فلمّا نفدت الدراهم أتاه الثانية فسأله فأعطاه و فعل مثل ذلك، و أتاه الثالثة فأعطاه و فعل مثل ذلك، و أتاه الرابعة فسأله. فقال له قيس: لا أبا لك! كأنّك قد جعلت هذا خراجا علينا. فانصرف و هو يقول:

أ لم تر قيس الأكمه ابن محمد *** يقول و لا تلقاه للخير يفعل

رأيتك أعمى العين و القلب ممسكا *** و ما خير أعمى العين و القلب يبخل

فلو صمّ تمّت لعنة اللّه كلّها *** عليه و ما فيه من الشرّ أفضل

فقال قيس: لو نجا أحد من الأقيشر لنجوت منه.

كان سكران فحكموه في الصحابة فقال شعرا:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ عن العنزيّ عن محمد بن معاوية قال:

اختصم قوم بالكوفة في أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ، فقالوا: نجعل بيننا أوّل من يطلع علينا. فطلع الأقيشر عليهم و هو سكران. فقال بعضهم لبعض: انظروا من حكمنا. فقالوا: يا أبا معرض قد حكّمناك. قال: في ما ذا؟ فأخبروه. فمكث ساعة ثم أنشأ يقول:

إذا صلّيت خمسا كلّ يوم *** فإنّ اللّه يغفر لي فسوقي

و لم أشرك بربّ الناس شيئا *** فقد أمسكت بالحبل الوثيق

/و هذا الحقّ ليس به خفاء *** و دعني من بنيّات الطّريق(1)

أعطاه ابن رأس البغل مهر ابنة عم له فمدحه فاعترض عليه فأجابه:

قال محمد بن معاوية: و تزوّج الأقيشر ابنة عمّ له يقال لها الرّباب، على أربعة آلاف درهم، و يقال على عشرة آلاف درهم، فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا؛ فأتى ابن رأس البغل و هو دهقان الصّين و كان مجوسيّا، فسأله فأعطاه الصّداق. فقال الأقيشر:

كفاني المجوسيّ مهر الرّباب *** فدى للمجوسيّ خالي(2) و عم

شهدت بأنّك رطب(3) المشاش *** و أنّ أباك الجواد الخصم

و أنّك سيّد أهل الجحيم *** إذا ما تردّيت فيمن ظلم

تجاور قارون في قعرها *** و فرعون و المكتنى بالحكم

ذهب إلى عكرمة بن ربعيّ فلم يعطه فهجاه:

ص: 177


1- بنيات الطريق: الطرق الصغار المتشبعة من الطريق الأعظم. و يضرب بها المثل فيقال: «دع عنك بنيات الطريق» أي عليك بمعظم الأمر و دع الروغان. (عن كتاب ما يعول عليه في المضاف و المضاف إليه).
2- في «ج»: «خال و عم».
3- يقال: فلان لين المشاش إذا كان طيب النحيرة عفيفا عن الطمع. و يقال: فلان طيب المشاش إذا كان كريم النفس.

فقال له المجوسيّ: ويحك! سألت قومك فلم يعطوك و جئتني فأعطيتك، فجزيتني هذا القول و لم أفلت من شعرك و شرّك! قال: أ و ما ترضى أن جعلتك مع الملوك و فوق(1) أبي جهل!. ثم جاء إلى عكرمة بن ربعيّ التميميّ فلم يعطه، فقال فيه:

سألت ربيعة من شرّها *** أبا ثم أمّا فقالوا لمه

فقلت لأعلم من شرّكم *** و أجعل بالسبّ فيه سمه(2)

فقالوا لعكرمة المخزيات *** و ما ذا يرى الناس في عكرمه

فإن يك عبدا زكا ماله *** فما غير ذا فيه من مكرمه

شرب بما معه و بثيابه ثم جلس في تبن و حديث الخمار معه:

قال ابن الكلبيّ: و شرب الأقيشر في حانة خمّار حتى أنفد ما معه، ثم شرب بثيابه حتى غلقت(3) فلم يبق عليه شيء، و جلس في تبن إلى جانب البيت إلى حلقه مستدفئا به. فمرّ رجل به ينشد ضالّة، فقال: اللّهمّ اردد عليه و احفظ علينا. فقال/له الخمّار: سخنت عينك! أيّ شيء يحفظ عليك ربّك؟ قال: هذا التّبن لا تأخذه فأموت من البرد. فضحك الخمّار و ردّ عليه ثيابه و قال: اذهب فاطلب ما تشرب به، و لا تجئني بثيابك فإنّي لا أشتريها بعد ذلك.

لقيه هشام الشرطي و هو سكران فحاوره في سكره:

قال ابن الكلبيّ: و اجتاز الأقيشر برجل يقال له هشام(4) و كان على شرطة عمرو بن حريث و هو سكران، فدعا به فقال له: أنت سكران؟ قال لا. قال: فما هذه الرائحة؟ قال: أكلت سفرجلا، ثم قال:

يقولون لي انكه(5) شربت مدامة *** فقلت كذبتم بل أكلت سفر جلا

فضحك منه ثم قال: فإن لم تكن سكران فأخبرني كم تصلّي في كلّ يوم. فقال:

يسائلني هشام(6) عن صلاتي *** صلاة المسلمين فقلت خمس

صلاة العصر و الأولى ثمان *** مواترة فما فيهنّ لبس

و عند مغيب قرن الشمس وتر *** و شفع بعدها فيهنّ حبس

و غدوة اثنتان معا جميعا *** و لمّا تبد للراءين شمس

و بعدهما لوقتهما صلاة *** لنسك بالضّحاء إذا نبسّ(7)

ص: 178


1- في «أ، م»: «و دون».
2- سمة: علامة.
3- الغلق هنا: ضد الفك. و هو يريد هنا حتى صارت حقا للخمار.
4- كذا في «ج». و في «سائر الأصول» هنا: «هشيم». و لم نهتد لوجه الصواب فيه. و قد ذكر هذا الاسم في هذا الخبر أربع مرات و سننبه على رسمه في كل موضع.
5- نكه فلان (من بابي ضرب و منع): أخرج نفسه إلى أنف آخر، و نكهه (من بابي سمع و منع) و استنكهه: شم ريح فمه.
6- في «كل الأصول» هنا: «هشيم».
7- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «تبس» بالتاء. و للنبس عدّة معان، و لك منها معناه عمل من أعمال الحياة. و لعله يريد أن صلاة النسك بالضحاء تكون حين نقوم بشئوننا في الحياة.

/

أ أحصيت الصلاة أيا هشاما(1)*** فذاك مكدّر الأخلاق جبس(2)

/تعوّد أن يلام فليس يوما *** بحامده من(3) الأقوام انس

قال: فضحك هشام(4) و قال: بلى قد أخبرتنا يا أبا معرض، فانصرف راشدا.

استنشد قتيبة بن مسلم مرداس بن جذام شعره في قدامة بن جعدة:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي عبيدة قال:

قدم رجل من بني سلول على قتيبة بن مسلم بكتاب عامله على الريّ و هو المعلّى بن عمرو المحاربيّ، فرآه(5)على الباب قدامة بن جعدة بن هبيرة المخزوميّ و كان صديقا لقتيبة، فدخل عليه فقال له: ببابك ألأم العرب، سلوليّ رسول محاربيّ إلى باهليّ. فتبسّم قتيبة تبسّما فيه غيظ. و كان قدامة بن جعدة يتّهم بشرب الخمر، و كان الأقيشر ينادمه. فقال قتيبة: ادعوا لي مرداس بن جذام الأسديّ فدعي. فقال له: أنشدني ما قال الأقيشر في قدامة بن جعدة و هو بالحيرة. فأنشده [قوله(6)]:

ربّ ندمان كريم ماجد *** سيّد الجدّين من فرعي مضر

قد سقيت الكأس حتى هرّها(7) *** لم يخالط صفوها منه كدر

قلت قم صلّ فصلّى قاعدا *** تتغشّاه سمادير(8) السّكر

قرن الظّهر مع العصر كما *** تقرن الحقّة(9) بالحقّ الذّكر

/ترك الفجر فما يقرؤها *** وقرا الكوثر من بين السّور

قال: فتغيّر لون القرشيّ(10) و خجل. فقال له قتيبة: هذه بتلك، و البادئ أظلم.

استنشده عبد الملك أبياته في الخمر و حاوره فيها:

أخبرني الأخفش عن محمد بن الحسن(11) بن الحرون قال حدّثنا الكسرويّ(12) عن الأصمعيّ قال:

قال عبد الملك للأقيشر: أنشدني أبياتك في الخمر، فأنشده قوله:

ص: 179


1- كذا في «ج». و في: «سائر الأصول»: «أبا هشام».
2- في «الأصول»: «حبس». و الحبس: الجامد الثقيل الروح، و الفاسق، و الجبان، و اللئيم. و لعله يعرّض بشخص آخر.
3- كذا في «أ، م». و في «سائر الأصول»: «إلى الأقوام».
4- في «كل الأصول» هنا: «هشام».
5- في «الأصول» ما عدا «ج»: «فرأى» و هو تحريف.
6- زيادة عن «ج».
7- هرها: كرهها. و وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرفة، ففي بعضها «هرما». و في بعضها «مرها».
8- السمادير هنا: شيء يتراءى للإنسان من ضعف بصره عند السكر.
9- الحقة من الإبل: الداخلة في السنة الرابعة.
10- كذا في «الأصول». و لعل صوابه «المخزومي» فإنه كذلك تقدم، و إن كان بنو مخزوم من قريش.
11- راجع الحاشية رقم 4 صفحة 26 من الجزء الثاني من طبعة دار الكتب المصرية.
12- في «أكثر الأصول»: «السكري» و التصويب من «ج». (و راجع الحاشية رقم 5 صفحة 26 ج 2 من طبعة دار الكتب المصرية).

تريك القذى من دونها و هي دونه *** لوجه أخيها في الإناء قطوب

كميت إذا فضّت و في الكأس وردة *** لها في عظام الشاربين دبيب

فقال له: أحسنت يا أبا معرض! و لقد أجدت وصفها، و أظنّك قد شربتها، فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين إنه ليريبني منك معرفتك بهذا.

قصة له مع بعض ندمائه في حانة:

أخبرني الحسن بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن ابن الكلبيّ عن رجل من الأزد قال:

كان الأقيشر يأتي إخوانا له يسألهم فيعطونه، فأتى رجلا منهم فأمر له بخمسمائة درهم، فأخذها و توجّه إلى الحانة و دفعها إلى صاحبها و قال له: أقم لي ما أحتاج إليه ففعل ذلك، و انضمّ إليه رفقاء له، فلم يزل معهم حتى نفدت الدّراهم، فأتاهم بعد إنفاقها بيوم ثم أتاهم من غد فاحتملوه، فلمّا أتاهم في اليوم الثالث نظر إليه أصحابه من بعيد فقالوا لصاحب الحانة: أصعدنا إلى غرفتك هذه و أعلم الأقيشر أنّا لم نأت اليوم. فلمّا جاء الأقيشر أعلمه ما قالوه له. فعلم الأقيشر أنه لا فرج له عند صاحب/الحانة إلا برهن، فطرح إليه ثيابه و قال له: أقم لي ما أحتاج إليه ففعل. فلما أخذ فيه الشراب أنشأ يقول:

يا خليليّ اسقياني كأسا *** ثم كأسا حتّى أخّر نعاسا

إنّ في الغرفة التي فوق رأسي *** لأناسا يخادعون أناسا

يشربون المعتق الراح صرفا *** ثم لا يرفعون بالزّور راسا

/فلمّا سمع أصحابه هذا الشعر فدوه بآبائهم و أمّهاتهم ثم قالوا له: إمّا أن تصعد إلينا أو ننزل إليك، فصعد إليهم.

قصته مع عمه و بشر بن مروان حين مدح بشرا فوصله:

أخبرني الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه قال حدّثني أبو مسلم المستملي عن المدائني قال:

مدح الأقيشر بشر بن مروان و دخل إليه فأنشده القصيدة(1) و عنده أيمن بن خزيم بن فاتك الأسديّ، فقال أيمن: هذا و اللّه كلام حسن من جوف خرب. فأجابه بالبيت(1) المذكور. و قال أبو عمرو أيضا في خبره: فلمّا صار الأقيشر إلى منزله بعث عمّه فأخذ منه الألف الدّرهم و قال: و اللّه لا أخلّيك تفسدها و تشرب بها الخمر. قال: فتصنع بها ما ذا؟ قال: أكسوك و اكسو عيالك و أعدّ لك قوت عامك. فتركه و دخل على بشر فقال له:

أبلغ أبا مروان أنّ عطاءه *** أزاغ(2) به من ليس لي بعيال

قال: و من ذلك؟ فأخبره الخبر. فأمر صاحب شرطته أن يحضر عمّه و ينتزع منه الألف الدرهم و يسلّمها إليه، و قال:

خذها و نحن نقوم لعيالك بما يصلحهم.

مدح خمارة بشعر داعر فسرّت به:

أخبرني هاشم بن محمد عن أبي غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال:

ص: 180


1- سياق هذا الخبر يدل على أن في الكلام سقطا من النساخ؛ فإن الكلام كله هاهنا مضطرب.
2- كذا في «الأصول»!.

مرّ الأقيشر بخمّارة بالحيرة يقال لها دومة، فنزل عندها فاشترى منها نبيذا، ثم قال لها جوّدي لي الشّراب حتى أجيد لك المدح ففعلت. فأنشأ يقول:

ألا يا دوم دام لك النّعيم *** و أسمر ملء كفّك مستقيم

شديد الأسر ينبض(1) حالباه *** يحمّ كأنّه رجل سقيم

يروّيه الشراب فيزدهيه *** و ينفخ فيه شيطان رجيم

قال: فسرّت به الخمّارة و قالت: ما قيل فيّ أحسن من هذا و لا أسرّ لي منه.

مدح فاتك بن فضالة حين وفد على عبد الملك:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال: كان فاتك بن فضالة بن شريك الأسديّ كريما على بني أميّة، و هو الوافد على عبد الملك بن مروان قبل أن ينهض إلى حرب ابن الزّبير، فضمن له على أهل العراق طاعتهم و تسليم بلادهم إليه، و أن يسلموا مصعبا إذا لقيه و يتفرّقوا عنه. و له يقول الأقيشر في هذه الوفادة.

وفد الوفود فكنت أفضل وافد *** يا فاتك بن فضالة بن شريك

تولى الكوفة رجل من بني تميم فانكسر المنبر من تحته فهجاهم:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن السّكّريّ قال حدّثني ابن حبيب قال:

ولي الكوفة رجل من بني تميم يقال له مطر(2)؛ فلما علا المنبر انكسرت الدّرجة من تحته فسقط عنها؛ فقال الأقيشر:

/

ابني تميم ما لمنبر ملككم *** ما يستقرّ قراره يتمرمر(3)

إنّ المنابر أنكرت أستاهكم *** فادعوا خزيمة يستقرّ المنبر

سئل عن قريظة بن قرظة فتكاسل عن ذكر اسمه فهجاه فرد عليه:

أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال:

مرّ رجل من محارب يقال له قريظة بن يقظة بالأقيشر الأسديّ و هو في مجلس من مجالس بني أسد، فسلّم على الأقيشر و كان به عارفا. فقال له القوم: من هذا يا أبا معرض؟ و كان/مخمورا، فقال:

و من لي بأن أستطيع أن أذكر اسمه *** و أعيا عقالا أن يطيق له ذكرا(4)

ص: 181


1- الأسر: شدّة الخلق. و ينبض: يتحرك.
2- في «ج، ب، س»: «مطرف» و هو تحريف. و هو مطر بن ناحية اليربوعي، كان غلب على الكوفة أيام الضحاك بن قيس الشاري. (راجع كتاب «الشعر و الشعراء» صفحة 353) و فيه بعد البيتين اللذين ذكرهما المؤلف: خلعوا أمير المؤمنين و بايعوا مطرا لعمرك بيعة لا تظهر و استخلفوا مطرا فكان كقائل بدل لعمرك من يزيد أعور
3- يتمرمر: يهتز و يضطرب.
4- كذا في «الأصول». و يحتمل أن يكون صوابه «و أوعيا عقالا أن أطيق له ذكرا» أي أعيا أنا أن أطيق له ذكر الاعتقال لساني. على أننا لم نجد «عقالا» في «معجمات اللغة» بمعنى اعتقال اللسان.

قال: فضحك القوم و قالوا: سبحان اللّه! أيّ شيء تقول؟ فقال: اسمه و نسبه أعظم من أن أقدر على ذكرهما في يوم، فإن شئتم سميته اليوم و نسبته غدا، و إن شئتم نسبته اليوم و سمّيته غدا. قالوا: هات اسمه اليوم. فقال:

قريظة(1). فقال رجل منهم: ينبغي أن يكون ابن يقظة. فقال الأقيشر: صدقت و اللّه و أصبت، و لقد أثقلني اسمه حين ذكرته أن أقول نعم. فبلغ قريظة(2) قوله و كان شاعرا فقال:

لسانك من سكر ثقيل عن التّقى *** و لكنّه بالمخزيات طليق

و أنت حقيق يا أقيشر أن ترى *** كذاك إذا ما كنت غير مفيق

تسفّ من الصهباء صرفا تخالها *** جنى النّحل يهديه إليك صديق

فبلغ الأقيشر قول المحاربيّ و كان يكنى أبا الذيّال، فأجابه فقال:

عدمت أبا الذيّال من ذي نوالة(3) *** له في بيوت العاهرات طريق

/أبا الخمر عيّرت امرأ ليس مقلعا *** و ذلك رأيي لو علمت وثيق

سأشربها ما دمت حيّا و إن أمت *** ففي النّفس منها زفرة و شهيق

سمع الرشيد من يتغنى بشعر له في توبته من الخمر فأعجب به:

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

بلغني أنّ الرشيد سمع ليلة رجلا يغنّي:

إن كانت الخمر قد عزّت و قد منعت *** و حال من دونها الإسلام و الحرج

فقد أباكرها صرفا و أشربها *** أشفي بها غلّتي صرفا و أمتزج(4)

و قد تقوم على رأسي مغنّية *** لها إذا رجّعت في صوتها غنج

و ترفع الصوت أحيانا و تخفضه *** كما يطنّ ذباب الرّوضة الهزج

قال: فوجّه في أثر الصوت من جاءه بالرجل و هو يرعد، فقال: لا ترع فإنّما أعجبني حسن صوتك. فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما تغنّيت بهذا الشعر إلاّ و أنا قد تبت من شرب النّبيذ، و هذا شعر يقوله الأقيشر في توبته من النّبيذ.

فقال له الرشيد: و ما حملك على تركه؟ قال: خشية اللّه. و إنّي فيه يا أمير المؤمنين كما قال زيد بن ظبيان:

جاءوا بقاقزّة(5) صفراء مترعة *** هل بين ذي كبرة و الخمر من نسب

ص: 182


1- في «ج» «قرظة».
2- في هذا البيت إقواء.
3- كذا في «الأصول»!.
4- في «ديوان أبي محجن» (نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية): فقد أباكرها ريا و أشربها صرفا و أطرب أحيانا فأمتزج و قال شارحه: «أراد فقد باكرتها و شربتها صرفا و ربما طربت فمزجتها. و كان ينبغي أن يقول شربتها ممزوجة و ربما طربت فأصرفتها. و لما قاله وجه، و هو أنه إذا طرب مزجها لئلا تدخله في السكر. و جاء بلفظ المستقبل و هو يريد الماضي».
5- القاقزة: الصغيرة من القوارير (أي الكأس الصغيرة)، و يقال فيها «قاقوزة» و «قازوزة» فارسية معربة.

بئس الشّراب شرابا حين تشربه *** يوهي العظام و طورا مفتر العصب

إنّي أخاف مليكي أن يعذّبني *** و في العشيرة أن يزري على حسبي

/فقال له الرشيد: أنت(1) و ما اخترت أعلم، فأعد الصوت، فأعاده. و أمر بإحضار المغنّين و استعاده، و أمرهم بأخذه عنه فأخذوه، و وصله و انصرف، و كان صوت الرّشيد أيّاما. هكذا ذكر إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة في هذا الخبر أنّ الأبيات للأقيشر، و وجدتها في شعر أبي محجن الثّقفيّ له لمّا تاب من الشّراب.

خرج لغزو الشام فباع حماره و أنفق ثمنه في الفجور ثم رجع مع الغازين:

أخبرني عليّ بن سليمان قال/حدّثنا أبو سعيد عن محمد بن حبيب قال:

كان القباع(2)، و هو الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة، قد أخرج الأقيشر مع قومه لقتال أهل الشّأم، و لم يكن عند الأقيشر فرس فخرج على حمار، فلمّا عبر جسر سورا(3) فوصل لقرية يقال لها قنّين(4) توارى عند خمّار نبطيّ يبرز زوجته للفجور، فباع حماره و جعل ينفقه هناك و يشرب بثمنه و يفجر إلى أن قفل الجيش، و قال في ذلك:

خرجت من المصر الحواريّ(5) أهله *** بلا ندبة فيها احتساب و لا جعل

إلى جيش أهل الشّأم أغزيت(6) كارها *** سفاها بلا سيف حديد و لا نبل

و لكن بترس ليس فيه(7) حمالة *** و رمح ضعيف الزّجّ متصدع النّصل

/حباني به ظلم القباع و لم أجد *** سوى أمره و السّير شيئا من الفعل

فأزمعت أمري ثم أصبحت غازيا *** و سلّمت تسليم الغزاة على أهلي

و قلت لعلّي أن أرى ثمّ راكبا *** على فرس أو ذا متاع على بغل

جوادي حمار كان حينا لظهره *** إكاف و إشناق(8) المزادة و الحبل

و قد خان عينيه بياض و خانه *** قوائم سوء حين يزجر في الوحل(9)

إذا ما انتحى في الماء و الوحل لم ترم *** قوائمه حتّى يؤخّر بالحمل

أنادي الرّفاق بارك اللّه فيكم *** رويدكم حتّى أجوز إلى السّهل

ص: 183


1- الواو هنا بمعنى الباء، أي أنت أعلم بما اخترت.
2- راجع في «الأغاني» (ج 1 صفحة 110 من طبعة دار الكتب المصرية) بعض سيرته و سبب تلقيبه بالقباع.
3- سورا (بالضم و القصر): قرية بالعراق من أرض بابل، و قد نسبوا إليها الخمر. و سوراء (بالضم و المدّ): موضع قرب بغداد، و قيل هو بغداد نفسها. و قد وردت هذه الكلمة في شعر الأقيشر الآتي ممدودة، فالظاهر أنه يريد الأخيرة، و يحتمل أن يكون أراد الأولى فمدها كما مدّها عبيد اللّه بن الحر في قوله: و يوما بسوراء التي عند بابل أتاني أخو عجل بذي لجب مجر
4- لم نهتد إلى هذه القرية في مظانها.
5- أي الصديق أهله.
6- في «الأصول»: «أغريت» بالراء المهملة. و هو تصحيف. و أغزاه: حمله على الغزو.
7- في «الأصول» «فيها».
8- كذا في «الأصول». و الذي في كتب اللغة أنه يقال شنق المزادة و أشنقها إذا أوكاها و ربطها. و البيت بعد ذلك غير واضح.
9- الوحل (بسكون الحاء): لغة قليلة في الوحل (بالتحريك).

فسرنا إلى قنّين يوما و ليلة *** كأنّا بغايا ما يسرن إلى بعل

إذا ما نزلنا لم نجد ظلّ ساحة *** سوى يابس الأنهار(1) أو سعف النخل

مررنا على سوراء نسمع جسرها *** يئطّ(2) نقيضا عن سفائنه الفضل(3)

فلمّا بدا جسر السّراة و أعرضت *** لنا سوق فراغ الحديث إلى شغل

نزلنا إلى ظلّ ظليل و باءة(3) *** حلال برغم القلطمان(4) و ما نفل(5)

يشارطه(6) من شاء كان بدرهم *** عروسا بما بين السّبيئة(3) و النّسل

فأتبعت رمح السّوء سمية(3) نصله *** و بعت حماري و استرحت من الثّقل

/تقول ظبايا قل قليلا ألا ليا *** فقلت لها أصوي فإنّي على رسل(7)

مهرت(8) لها جرديقة فتركتها *** بمرها كطرف العين شائلة الرّجل

مما يغنى فيه من شعره:
اشارة

و مما يغنّى فيه من شعر الأقيشر:

صوت

لا أشربن(9) أبدا راحا مسارقة(10) *** إلاّ مع الغرّ أبناء البطاريق(11)

أفنى تلادي و ما جمّعت من نشب(12) *** قرع القواقيز أفواه الأباريق(13)

ص: 184


1- كذا في «الأصول»!.
2- يئط: يصوّت. و النقيض: الصوت مثل صوت المحامل و الرحال إذا ثقل عليها الركبان.
3- الباءة: النكاح.
4- كذا في «الأصول». و أحسب أنها محرفة عن «القلطبان» و هو الديوث الذي لا غيرة له على أهله مثل القرطبان.
5- كذا في «الأصول». و أحسب أن صوابه: «و ما نغلي» أن تبلغ ما تريد من الباءة و غيرها دون أن نعطي ثمنا غاليا. و يجوز أن يكون «و ما يغلي» أي لا يطلب القلطبان ثمنا غاليا.
6- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «بشارطة».
7- كذا ورد في هذا البيت في «الأصول». و أحسب أن بعض كلماته نبطيّ أورده الشاعر حكاية لما كان بينه و بين من ظفر بها من بنات النبط من حوار.
8- كذا ورد في هذا البيت في «الأصول»!.
9- في الشواهد الكبرى للعيني: «لا تشربن» و هي الرواية التي توافق سياق القصيدة؛ إذ قبل هذا البيت: عليك كل فتى سمح خلائقه محض العروق كريم غير ممذوق و لا تصاحب لئيما فيه مقرفة و لا تزورن أصحاب الدوانيق و أحسب أن ما هاهنا من تغيير المغنين.
10- في حاشية الأمير على مغني اللبيب (في الباب الخامس): «مسردة» و فسر المسردة بالمتوالية.
11- الغر هنا: السادة الأشراف؛ يقال رجل أغر إذا كان كريم الأفعال واضحها. و البطاريق: جمع بطريق و هو القائد أو العظيم من الروم. و يقال: إن البطريق عربي و افق العجمي.
12- التلاد: المال القديم من تراث و غيره. و النشب: المال الثابت كالدار و نحوها، أو هو المال الأصيل من الناطق و الصامت.
13- القواقيز: ضرب من الرواطيم و هو الكئوس الصغيرة. و إضافة القرع إلى القواقيز من إضافة المصدر إلى فاعله، و أفواه الأباريق مفعوله. و يروى برفع الأفواه، فيكون المصدر مضافا إلى مفعوله، و الأفواه فاعله.

الغناء لحنين هزج بالبنصر عن عمرو. و فيه لعمر الواديّ رمل بالبنصر عن الهشاميّ. و فيه ثقيل أوّل ينسب إلى حنين و عمر و حكم جميعا. و هذا الغناء المذكور من قصيدة للأقيشر طويلة، أوّلها:

/

إنّي يذكّرني هندا و جارتها *** بالطّفّ صوت حمامات على نيق(1)

صوت

دعاني دعوة و الخيل تردي *** فلا أدري أبا سمي أم كناني

و كان إجابتي إيّاه أنّي *** عطفت عليه خوّار العنان

الشعر لابن الغريزة النّهشليّ. و الغناء ليحيى المكيّ رمل بالوسطى عن الهشاميّ. و قد جعل المغنّون معه هذا البيت و لم أجده في قصيدته، و لا أدري أ هو له أم لغيره.

ألا يا من لذا البرق اليماني *** يلوح كأنّه مصباح بان(2)

ص: 185


1- الطف: موضع بناحية الكوفة. و النيق: حرف من حروف الجبل، و أرفع موضع فيه.
2- الباني هنا: الداخل بأهله. و أصله أنه كان كل من أراد منهم الزفاف بنى قبة على أهله، ثم قيل لكل داخل بان و إن كان قد دخل عليها دارا قد بنيت قبله. و يضرب بمصباح الباني المثل فيما يبقي ليله و لا يزول. (راجع «ما يعول عليه في المضاف و المضاف إليه»).

14 - أخبار ابن الغريزة و نسبه

اشارة

14 - أخبار ابن الغريزة(1) و نسبه

نسب ابن الغريزة:

كثير بن الغريزة التميميّ أحد بني نهشل. و الغريزة أمّه. و هو مخضرم، أدرك الجاهليّة و الإسلام، و قال الشعر فيهما. و هذا الشعر يقوله ابن الغريزة في غزاة غزاها الأقرع بن حابس و أخوه بالطّالقان(2) و جوزجان و تلك البلاد، فأصيب من أصحابه قوم بالطّالقان فرثاهم ابن الغريزة.

قصيدته التي يذكر فيها يوم الطالقان و يرثي من قتل فيه:
اشارة

أخبرني الصّوليّ عن الحزنبل عن ابن أبي عمرو الشّيبانيّ عن أبيه قال:

بعث عمر بن الخطّاب الأقرع بن حابس و أخاه على جيش إلى الطّالقان و جوزجان و تلك البلاد، فأصيب من أصحابه قوم بالطّالقان، فقال ابن الغريزة النّهشليّ و قد شهد تلك الوقعة يرثيهم و يذكر ذلك اليوم:

سقى مزن السّحاب إذا استهلّت *** مصارع فتية بالجوزجان

إلى القصرين من رستاق خوط(3) *** أبادهم هناك الأقرعان(4)

و ما بي أن أكون جزعت إلاّ *** حنين القلب للبرق اليماني

و محبور برؤيتنا يرجّي ال *** لقاء و لن أراه و لم يراني

/و ربّ أخ أصاب الموت قبلي *** بكيت و لو نعيت له بكاني

دعاني دعوة و الخيل تردي(5) *** فما أدري أبا سمي أم كناني

فكان إجابتي إيّاه أنّي *** عطفت عليه خوّار العنان(6)

و أيّ فتى دعوت و قد تولّت *** بهنّ الخيل ذات العنظوان(7)

ص: 186


1- كذا في شرح التبريزي لل «ديوان الحماسة» (صفحة 460 طبعة مدينة «بن» سنة 1828 م) و «معجم البلدان» في الكلام على «جوزجان» و «معجم الشعر» للمرزباني. و في «الأصول» في كل المواضع: «الغريرة» بالراء المهملة.
2- الطالقان: بلدتان، إحداهما بخراسان بين مرو الروز و بلخ، بينها و بين مرو الروز ثلاث مراحل. و الأخرى بلدة و كورة بين قزوين و أبهر، و بها عدّة قرى يطلق عليها هذا الاسم. (عن «معجم البلدان» لياقوت باختصار». و جوزجان: كورة واسعة من كور بلخ بخراسان، و هي بين مرو الروز و بلخ.
3- القصران هنا: مدينة السيرجان بكرمان كانت تسمى القصرين. (عن «معجم البلدان»). و خوط هنا: من قرى بلخ. و رستاقها: سوادها و قراها.
4- يريد بالأقرعين الأقرع بن حابس و أخاه.
5- ردت الفرس تردى (وزان رمى) رديا (بالفتح) و رديانا (بالتحريك): رجمت الأرض بحوافرها، أو هو ضرب من السير بين العدو و المشي.
6- خوّار العنان من الخيل: السهل المعطف الكثير الجري.
7- كذا في «الأصول»!.

و أيّ فتى إذا ما متّ تدعو *** يطرّف(1) عنك غاشية السّنان

فإن أهلك فلم أك ذا صدوف(2) *** عن الأقران في الحرب العوان

و لم أدلج لأطرق عرس جاري(3) *** و لم أجعل على قومي لساني(4)

و لكنّي إذا ما هايجوني *** منيع الجار مرتفع البنان

و يكرهني إذا استبسلت قرني *** و أقضي واحدا ما قد قضاني

فلا تستبعدا يومي فإنّي *** سأوشك مرّة أن تفقداني

و يدركني الّذي لا بدّ منه *** و إن أشفقت من خوف الجنان(5)

و تبكيني نوائح معولات *** تركن بدار معترك الزّمان

/حبائس بالعراق منهنهات(6) *** سواحي الطّرف كالبقر الهجان

/أ عاذلتيّ من لوم دعاني *** و للرّشد المبيّن فاهدياني

و عاذلتيّ صوتكما قريب *** و نفعكما بعيد الخير و اني

فردّا الموت عنّي إن أتاني *** و لا و أبيكما لا تفعلان

*

صوت

دار(7) لقاتلة الغرانق ما بها *** غير الوحوش خلت(8) له و خلالها

ظلّت تسائل بالمتيّم ما به *** و هي الّتي فعلت به أفعالها

الشعر لأعشى بني تغلب من قصيدة يمدح بها مسلمة بن عبد الملك و يهجو جريرا و يعين الأخطل عليه. و يروى «ربع لقانصة الغرانق(9)» و هو الصحيح هكذا، و يغنّى «دار لقاتلة» لأنّه يقول في آخر البيت «خلت له(10) و خلالها».

و الغناء لعبد اللّه بن العبّاس ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة و ابن المكّيّ. و فيه لمخارق رمل من جميع أغانيه.

ص: 187


1- يقال: طرّف عن العسكر إذا قاتل عن أطرافه. و إنما أراد هنا يحميك و يصرف عنك غاشية السنان أي يجعلها عنك في طرف و ناحية.
2- في «الأصول»: «ذا صروف» و هو تحريف. و الصدوف: الإعراض. يريد أنه لا يعرض عن أقرانه و لا يفر من لقائهم.
3- الإدلاج: السير من أوّل الليل. و عرس الرجل: زوجه.
4- يريد أنه لا يشتم قومه و لا يهجوهم.
5- لعل الجنان هنا: الظلام، على أن يكون المخوف ظلام القبر.
6- نهنه فلان دمعه: كفه. و سواجي الطرف. ساكنات العيون. و الهجان: البيض.
7- قيل هذا البيت: ألمم على دمن تقادم عهدها بالجزع و استلب الزمان جمالها و الغرانق - و مثله الغرانيق -: جمع غرنوق (بالضم) و غرنوق (بكسر فسكون ففتح) و غرنيق (بالكسر) و هو الشاب الناعم.
8- في «الأصول»: «خلت لها» و التصويب من شعر الأعشين، و يدل عليه كلام المؤلف بعد.
9- في شعر الأعشين: «رسم لقاتلة الغرانق».
10- في «الأصول»: «خلت لها» و هو لا يساير سياق الكلام.

15 - أخبار أعشى بني تغلب و نسبه

نسب أعشى تغلب و كان نصرانيا:

قال أبو عمرو الشيبانيّ: اسمه ربيعة. و قال ابن حبيب: اسمه النّعمان بن يحيى بن معاوية، أحد بني معاوية بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، شاعر من شعراء الدولة الأمويّة، و ساكني الشام إذا حضر، و إذا بدا نزل في بلاد قومه بنواحي الموصل و ديار ربيعة. و كان نصرانيّا، و على ذلك مات.

قصته مع الحر بن يوسف:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السّكّريّ(1) قال حدّثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيبانيّ قال:

كان أعشى بني تغلب ينادم الحرّ بن يوسف بن يحيى بن الحكم. فشربا يوما في بستان له بالموصل، فسكر الأعشى فنام في البستان. و دعا الحرّ بجواريه فدخلن عليه قبّته. و استيقظ الأعشى فأقبل ليدخل القبّة، فمانعه الخدم، و دافعهم حتى كاد أن يهجم على الحرّ مع جواريه، فلطمه خصيّ منهم؛ فخرج إلى قومه فقال لهم: لطمني الحرّ. فوثب معه رجل من بني تغلب يقال له ابن أدعج و هو شهاب بن همّام بن ثعلبة بن أبي سعد، فاقتحما الحائط(2) و هجما على الحرّ حتى لطمه الأعشى ثم رجعا. فقال الأعشى:

كأنّي و ابن أدعج إذ دخلنا *** على قرشيّك الورع(3) الجبان

/هزبرا غابة و قصا(4) حمارا *** فظلاّ حوله يتناهشان

أنا الجشميّ من جشم بن بكر *** عشيّة رعت طرفك بالبنان

- أي لطمتك. و قوله «أنا الجشميّ» أي مثلي يفعل ذلك بمثلك -

فما يستطيع ذو ملك عقابي *** إذا اجترمت يدي و جنى لساني

عشيّة غاب عنك بنو هشام *** و عثمان استها و بنو أبان

تروح إلى منازلها(5) قريش *** و أنت مخيّم بالزّرّقان

ص: 188


1- في «الأصول»: «السدي» و هو تحريف. و رواية علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب وردت كثيرا في «الأغاني»، و من ذلك ما ورد في الجزء الثالث (صفحة 10 من طبعة دار الكتب المصرية).
2- الحائط: البستان.
3- الورع: الضعيف الجبان.
4- وقص عنقه: كسرها و دقها.
5- كذا صححه الشنقيطي بقلمه في نسخته. و في «الأصول»: «منازلنا». و هو تحريف.

/و الزّرّقان: قرية كانت للحرّ بسنجار(1).

مدح مدركا الكناني فأساء ثوابه فهجاه:

قال ابن حبيب: مدح أعشى بني تغلب مدرك بن عبد اللّه الكنانيّ أحد بني أقيشر بن جذيمة بن كعب فأساء ثوابه؛ فقال الأعشى:

لعمرك إنّي يوم أمدح مدركا *** لكالمبتني حوضا على غير منهل

أمرّ الهوى دوني و فيّل(2) مدحتي *** و لو لكريم قلتها لم تفيّل

شعره في شمعلة بن عامر حين قطع الخليفة بضعة من فخذه:

قال ابن حبيب: كان شمعلة بن عامر بن عمرو بن بكر أخو بني فائد و هم رهط الفرس(3) نصرانيّا و كان ظريفا، فدخل على بعض خلفاء بني أميّة، فقال: أسلم يا شمعلة. قال: لا و اللّه أسلم كارها أبدا، و لا أسلم إلاّ طائعا إذا شئت. فغضب فأمر به فقطعت بضعة من فخذه و شويت بالنار و أطعمها. فقال أعشى بني تغلب في ذلك:

أ من حذّة(4) بالفخذ منك تباشرت *** عداك فلا عار عليك و لا وزر

و إنّ أمير المؤمنين و جرحه *** لكالدّهر لا عار بما فعل الدهر

وفد على عمر بن عبد العزيز فلم يعطه فقال شعرا:

و قال ابن حبيب قال أبو عمرو:

كان الوليد بن عبد الملك محسنا إلى أعشى بني تغلب، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد إليه و مدحه فلم يعطه شيئا، و قال: ما أرى للشّعراء في بيت المال حقّا، و لو كان لهم فيه حقّ لما كان لك؛ لأنّك امرؤ نصراني.

فانصرف الأعشى و هو يقول:

لعمري لقد عاش الوليد حياته *** إمام هدى لا مستزاد و لا نزر

كأنّ بني مروان بعد وفاته *** جلاميد لا تندى و إن بلّها القطر

شعره حين قعد مالك بن مسمع عن معاونة بني شيبان:
اشارة

و قال ابن حبيب عن أبي عمرو: كانت بين بني شيبان و بين تغلب حروب، فعاون مالك بن مسمع بني شيبان في بعضها ثم قعد عنهم. فقال أعشى بني تغلب في ذلك:

بني أمّنا مهلا فإنّ نفوسنا *** تميت عليكم عتبها و مصالها(5)

و ترعى بلا جهل قرابة بيننا *** و بينكم لمّا قطعتم وصالها

ص: 189


1- سنجار: مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة بينها و بين الموصل ثلاثة أيام. (عن «معجم البلدان»).
2- فيله: قبحه و خطأه. يريد أن الممدوح لم يقدر مدحته قدرها و لم يثبها ثوابها.
3- كذا في «الأصول»!.
4- في «الأصول»: «جذوة» بالجيم و هو تحريف. و الحذة (بالضم): القطعة من اللحم.
5- المصال: لعله هنا مصدر صال يصول إذا سطا.

جزى اللّه شيبانا و تيما ملامة *** جزاء المسيء سعيها و فعالها

أبا مسمع من تنكر الحقّ نفسه *** و تعجز عن المعروف يعرف ضلالها

أ أوقدت نار الحرب حتّى إذا بدا *** لنفسك ما تجني الحروب فهالها

نزعت و قد جرّدتها ذات منظر *** قبيح مهين حيث ألقت حلالها(1)

ألسنا إذا ما الحرب شبّ سعيرها *** و كان صفيح(2) المشرفيّ صلالها(3)

/أجارتنا حلّ لكم أن تناولوا(4) *** محارمها و أن(5) تميزوا حلالها

كذبتم يمين اللّه حتى تعاوروا *** صدور العوالي بيننا و نصالها(6)

و حتى ترى عين الذي كان شامتا *** مزاحف(7) عقرى بيننا و مجالها

صوت

و يفرح بالمولود من آل برمك *** بغاة النّدى و الرّمح و السّيف و النّصل

و تنبسط الآمال فيه لفضله *** و لا سيّما إن كان من ولد الفضل

الشعر لأبي النّضير. و الغناء لإسحاق، ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع إسحاق. و قال حبش: فيه لإبراهيم الموصليّ ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع إسحاق. و قال حبش: فيه لإبراهيم الموصليّ ثقيل آخر بالوسطى. و لقضيب و براقش جاريتي يحيى بن خالد فيه لحنان.

ص: 190


1- الحلال هنا: متاع الرحل.
2- كذا في «أ، م». و في «سائر الأصول»: «سفيح» بالسين. و الصفيح: جمع صفيحة و هي هنا السيف العريض. و المشرفيّ: المنسوب إلى المشارف و هي قرى قرب حوران تنسب إليها السيوف المشرفية، نسب إلى المفرد. و قال الأصمعيّ: الشرفية منسوبة إلى مشارف و هي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، و حكى الواحدي أنها بأرض اليمن. و أحسب أن صوابه «و كان الصفيح المشرفيّ».
3- كذا!.
4- في «ب، س»: «أن تنازلوا» و هو تحريف.
5- في «أ، م»: «أو أن تميزوا». و كلمة «تميزوا» هاهنا غير واضحة في السياق، و لم نهتد إلى ما نطمئن إليه في تصويبها.
6- تعاوروا الشيء: تداولوه. و العوالي: أطراف الرماح، الواحدة عالية. و النصال: جمع نصل و هو حديدة السهم و الرمح، و هو حديدة السيف ما لم يكن لها مقبض، فإن كان لها مقبض فهو سيف.
7- المزاحف: جمع مزحف و هو مكان الزحف أي المشي. و عقرى: جمع عقير، كجريح و جرحى.

16 - أخبار أبي النّضير و نسبه

اسم أبي النضير و نسبه:

أبو النضير اسمه عمر بن عبد الملك، بصريّ، مولى لبني جمح.

أخبرنا بذلك عمّي عن ابن مهرويه عن إسحاق بن محمد النّخعيّ عن إسحاق بن خلف الشاعر قال: قلت لأبي النّضير بن أبي الياس: لمن أنت(1)؟ فقال: لبني جمح.

هو شاعر بصري انقطع إلى البرامكة فأغنوه:

و ذكر أبو يحيى اللاّحقيّ أنّ اسمه الفضل بن عبد الملك. شاعر من شعراء البصريّين، صالح المذهب، ليس من المعدودين(2) المتقدّمين و لا من المولّدين الساقطين. و كان يغنّي بالبصرة على جوار له مولّدات، و يظهر الخلاعة و المجون و الفسق، و يعاشر جماعة ممن يعرف بذلك الشأن. و كان أبان اللاّحقيّ يعاشره ثم تصارما، و هجاه و هجا جواريه و افترقا على قلّى، ثم انقطع أبو النّضير إلى البرامكة فأغنوه إلى أن مات.

قال إسحاق الموصلي إنه أظرف الناس:

أخبرنا ابن أبي الأزهر عن حمّاد بن إسحاق قال سمعت أبي يقول: لو قيل لي من أظرف من رأيته قطّ أو عاشرته، لقلت: أبو النّضير.

دخل على الفضل بن يحيى فهنأه بمولود ارتجالا:

أخبرني عيسى الورّاق عن الفضل اليزيدي عن إسحاق، و أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه قال:

ولد للفضل بن يحيى مولود، فوفد عليه أبو النّضير و لم يكن عرف الخبر فيعدّ له تهنئة، فلمّا مثل بين يديه و رأى الناس يهنّئونه نثرا و نظما قال ارتجالا:

/

و يفرح بالمولود من آل برمك *** بغاة النّدى و السّيف و الرّمح و النّصل

و تنبسط الآمال فيه لفضله*** .................

ثم أرتج عليه فلم يدر ما يقول. فقال الفضل يلقّنه

و لا سيّما إن كان من ولد الفضل

فاستحسن الناس بديهة الفضل في هذا، و أمر لأبي النّضير بصلة.

ص: 191


1- كذا في «أ»، و تبعتها «ب، س» من المطبوعتان. و في «م»: «من أبي الياس لمن أنت». و في «ج»: «ابن أبي الناس أنت». و ظاهر أن فيها جميعا تحريفا من النساخ. و لعل صوابه: «... قلت لأبي النضير من أي الناس أنت؟ فقال: من بني جمح» أو «... لأي الناس أنت؟ فقال لبني جمح».
2- في «الأصول»: «المعمودين».
نقد الفضل بن يحيى شعرا له في مدحهم فأجابه:

و أخبرني حبيب بن نصر عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني بعض الموالي قال:

حضرت الفضل بن يحيى و قد قال لأبي النّضير: يا أبا النضير أنت القائل فيّا:

إذا كنت من بغداد في رأس فرسخ *** وجدت نسيم الجود من آل برمك

لقد ضيّقت علينا جدّا. قال: أ فلأجل ذلك أيها الأمير ضاقت عليّ صلتك و ضاقت عنّي مكافأتك و أنا الذي أقول:

تشاغل النّاس ببنيانهم *** و الفضل في بنيانه جاهد

كلّ ذوي الفضل و أهل النّهى *** للفضل في تدبيره حامد

و على ذلك فما قلت البيت الأوّل كما بلغ الأمير، و إنّما قلت:

إذا كنت من بغداد منقطع الثّرى(1) *** وجدت نسيم الجود من آل برمك

فقال الفضل: إنّما أخّرت عنك لأمازحك، و أمر له بثلاثين ألف درهم.

كتب إلى عنان و كان يهواها فأجابته:

أخبرني ابن/عمّار عن أبي إسحاق الطّلحيّ عن أبي سهيل(2) قال:

كان أبو النضير يهوى عنان جارية النّاطفيّ، و كتب إليها:

إنّ لي حاجة فرأيك فيها *** لك نفسي الفدا من الأوصاب

/و هي ليست ممّا يبلّغه غي *** ري و لا أستطيعه بكتاب

غير أنّي أقولها حين ألقا *** ك رويدا أسرّها من ثيابي

فأجابته و قالت:

أنا مشغولة بمن لست أهوا *** ه و قلبي من دونه في حجاب

فإذا ما أردت أمرا فأسرر *** ه و لا تجعلنّه في كتاب

قال: و قال أبو النّضير فيها:

شعر له في عنان:
صوت

أنا و اللّه أهواك *** و أهواك و أهواك

و أهوى قبلة منك *** على برد ثناياك

و أهوى لك ما أهوى *** لنفسي و كفى ذاك

ص: 192


1- أحسب أن صوابه «الندى» بمعنى الخير و المعروف.
2- في «ج» هنا: «أبي سهل» و تبعتها «ب، س». و قد تكرر هذا السند في أخبار أبي النضير، و في المواضع الآتية في «الأصول» جميعا: «أبو سهيل».

فهل ينفعني ذل *** ك يوما حين ألقاك

أنا و اللّه أهواك *** و ما يشعر مولاك

فإيّاك بأن يعل *** م إيّاك و إيّاك

فيه لعلّى بن المارقيّ رمل بالبنصر عن الهشاميّ.

طلبت منه مكتومة المغنية صوتا كان يغنيه فمازحها:

حدّثنا ابن عمّار عن الطّلحيّ عن أبي سهيل قال:

كان أبو النضير يغنّي غناء صالحا، فغنّى ذات يوم صوتا كان استفاده ببغداد. فقالت له قينة كانت ببغداد يقال لها مكتومة: اطرح عليّ هذا الصوت يا أبا النّضير. فقال: لا تطيب نفسي به محابيا، و لكنّي أبيعك إيّاه. قالت:

بكم؟ قال: برأس ماله. قالت: و ما رأس ماله؟ قال: ناكني فيه الذي أخذته منه. فغطّت وجهها و قالت: عليك و على هذا الصوت الدّمار.

شعر له في مدح أبي جعفر عبد اللّه بن هشام:
اشارة

أخبرني ابن عمّار الطّلحيّ عن أبي سهيل قال:

قال أبو النضير، و فيه غناء لإبراهيم،:

صوت

أ يصحو فؤادك أم يطرب *** و كيف و قد شحطت زينب

جرى الناس قبل أبي جعفر *** زمانا فلم يدر من غلّبوا

فلمّا جرى بأبي جعفر *** بنو تغلب سبقت تغلب

قال أبو سهيل: و أبو جعفر الذي عناه أبو النّضير هو عبد اللّه بن هشام بن عمرو التّغلبيّ الذي يذكره العتّابيّ في شعره و رسائله، و كان جوادا سخيّا. و كان ابن هشام ولي السّند، و فيه يقول أبو النّضير:

ألا أيّها الغيث الّذي سحّ وبله *** كأنّك تحكي راحة ابن هشام

كأنّك تحكيها و لكنّ جوده *** يدوم و قد تأتي بغير دوام

و فيك جهام(1) ربّما كان مخلفا *** و راحته تغدو بغير جهام

كان يرى أن الغناء على تقطيع العروض:

أخبرني ابن عمّار عن الطّلحيّ عن أبي سهيل قال:

كان أبو النّضير يزعم أنّ الغناء على/تقطيع العروض، و يقول: هكذا كان الذين مضوا يقولون، و كان مستهزئا بالغناء حتى تعاطى أن يغنّي، و كان إبراهيم الموصليّ يخالفه في ذلك و يقول: العروض محدث، و الغناء قبله بزمان.

فقال إسحاق بن إبراهيم ينصر أباه:

ص: 193


1- الجهام: السحاب لا ماء فيه، و السحاب الذي هراق ماءه.

سكتّ عن الغناء فلا أماري *** بصيرا لا و لا غير البصير

مخافة أن أجنّن فيه نفسي *** كما قد جنّ فيه أبو النّضير

قاطعه أبان اللاحقي و قال شعرا يهجوه:

أخبرني الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه قال حدّثني أبو طلحة الخزاعيّ عن اللاّحقيّ قال:

كان جدّي أبان يشرب مع إخوان له على شاطئ دجلة بعد مصارمته أبا النّضير، و كان القوم أصدقاء له و لأبي النضير، فذكروه. فقال جدي: إن حضر انصرفت، فأمسكوا. فقال جدي فيه:

ربّ يوم بشطّ دجلة لذّ *** و ليال نعمت فيها لذاذ

غيبة لم تطل عليّ و ما ذا *** خير قرب المطرمذ الملاّذ(1)

ترك الأشربات ليس بعاط *** لرساطونها(2) و لا الرّاقياذ(3)

و حكى الأحمق الذي ليس يدري *** أنّ خير الشراب(4) هذا اللذاذ

ضلّ رأي أراه ذاك كما ض *** لّ غواة لا ذوا بشرّ ملاذ

أنت أعمى فيما ادّعيت كما لس *** ت لصوغ الألحان بالأستاذ

كان ذنبا أتوب منه إلى الل *** ه اختياريك صاحبا و اتّخاذي

إنّ للّه صوم شهرين شكرا *** أن قضى منك عاجلا إنقاذي

لا لدين و لا لدنيا و لا يص *** لح(5) في علم ما ادّعى بنفاذ

كتب إلى حماد عجرد يسأله عن حاله في الشراب فأجابه:

حدّثني ابن عمّار عن الطّلحيّ عن أبي سهيل قال:

كتب أبو النّضير إلى الحمّاد عجرد يسأل عن حاله في الشّراب و شربه إيّاه و من يعاشر عليه. فكتب إليه حمّاد:

أبا النّضير اسمع كلامي و لا *** تجعل سوى الإنصاف من بالكا

سألت عن حالي، و ما حال من *** لم يلق إلاّ عابدا ناسكا

يظهر لي ذا فمتى يفترص(6) *** شيئا تجده عاديا فاتكا

يعني حريث بن عمرو. و كان حمّاد نزل عليه، و كان حريث هذا مشهورا بالزّندقة، و كذلك حمّاد هذا كان مشهورا بها، فنزل عليه لذلك.

ص: 194


1- المطرمذ: الذي يقول و لا يفعل، و الذي لا يحقق في الأمور. و الملاذ: المطرمذ المتصنع الذي لا تصح مودته.
2- العاطي: المتناول. و الرساطون: شراب يتخذه أهل الشام من الخمر و العسل، و الكلمة رومية.
3- كذا في «أكثر الأصول». و في «ج»: «الراقباذ» بالياء الموحدة. و لم تهتد إليه في المظان التي راجعناها. و ظاهر أنّ المراد به ضرب من الشراب.
4- في «ج»: «الشباب». و اللذاذ: مصدر لذذت الشيء لذاذا و لذاذة أي وجدته لذيذا. و ظاهر أن في هذا الشطر تحريفا لم نهتد إليه.
5- في «الأصول»: «تصلح» بتاء الخطاب، و لا يستقيم به سياق الكلام.
6- افترض الشيء: انتهزه و أصابه و اغتنمه.
كتب إلى حمدان اللاحقي يشكو إليه عمر بن يحيى و يهجوه:

أخبرني الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن أبي طلحة الخزاعيّ عن أبي يحيى اللاّحقيّ قال:

كتب أبو النضير إلى عمّي حمدان(1) بن أبان، و كان له صديقا، يشكو إليه عمر ابن يحيى الزّياديّ و كان عربد عليه و شتمه:

أقر حمدان سلام ال *** لّه من فضل و قل له

يا فتى لست بحمد ال *** لّه أخشى أن أملّه

ذاك أنّ اللّه قد أن *** هله الظّرف و علّه

و ذرابيت رقاش(2) *** و علاها قد أحلّه

/إنّ شتم السّفلة الكش(3) *** خان ذي القرنين ضلّه(4)

/و لو انّ القلب(5) هاجى *** عمرا يوما لغلّه(6)

ذاك أنّ اللّه قد أخ *** زى ابن يحيى و أذلّه

من يهاجي رجلا يس *** توعب الجردان(7) كلّه

ما يسيل الأير إلاّ *** أدخل الأير و بلّه

و إذا عاين أيرا *** وافي الفيشة(8) غلّه

هذه قصّة من قد *** جعل المردان شغله

أنشد الفضل بن الربيع شعرا في امرأة تزوجها و طلقها:
اشارة

حدّثني عمّي عن أبي العيناء عن أبي النّضير قال:

دخلت على الفضل بن الرّبيع فقال: هل أحدثت بعدي شيئا؟ قلت: نعم، قلت أبياتا في امرأة تزوّجتها و طلّقتها لغير علّة إلاّ بغضي لها، و أنّها لبيضاء بضّة، كأنّها سبيكة فضّة. فقال لي: و ما قلت فيها؟ فقلت قلت:

رحلت سكينة بالطّلاق *** فأرحت(9) من غلّ الوثاق

رحلت فلم تألم لها *** نفسي و لم تدمع مآقي

ص: 195


1- كذا في «ب، م» و في «سائر الأصول»: «حماد» و هو تحريف. و قد ورد في أول الشعر الآتي «حمدان» صحيحا. و لحمدان بن أبان هذا شعر ورد في كتاب «الكامل» للمبرد (ص 475 طبعة أوربا).
2- جدّ حمدان الأعلى كان مولى لبني رقاش، و نسبه: حمدان بن أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفر مولى بني رقاش.
3- الكشخان (بالفتح و يكسر): الديوث الذي لا غيرة له على أهله.
4- أي ضلال.
5- كذا في «الأصول»: و أحسب أن كلمة «القلب» محرفة عن «الكلب» أو نحوه.
6- غلة هنا: وضع الغل في عنقه أو يده. على أنه يحتمل أن يكون «لفلّه» بالفاء بمعنى كسره أي غلبه و ظهر عليه.
7- الجردان: قضيب ذوات الحافر أو هو عام.
8- الفيشة: أعلى هامة الذكر. غلة هنا: أدخله.
9- أراح فلان: وجد راحة. و يجوز أن يكون «أرحت» مبنيا للمفعول.

لو لم تبن بطلاقها *** لأبنت نفسي بالإباق

و شفاء ما لا تشتهي *** ه النّفس تعجيل الفراق

فقال: يا غلام، الدواة و القرطاس، فأتي بهما، فأمرني فكتبت له الأبيات، ثم قلت له: أنت و اللّه تبغض بنت أبي العبّاس الطّوسيّ. فقال: اسكت أخزاك اللّه! ثم ما لبث أن طلّقها.

صوت

ما بال عينك جائلا أقذاؤها *** شرقت بعبرتها و طال بكاؤها

ذكرت عشيرتها و فرقة بينها *** فطوت(1) لذلك غلّة أحشاؤها

الشعر لعبد اللّه بن عمر العبليّ. و الغناء لأبي سعيد مولى فائد، رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكيّ، و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و لم ينسبه إلى أحد، و قيل: إنه من منحول يحيى إلى أبي سعيد.

ص: 196


1- الغلة: العطش أو شدته، و المراد هنا حرارة الحزن، و طوت هنا: أضمرت. و المعنى: فانطوت أحشاؤها لذلك على غلة من الحزن.

17 - أخبار العلبيّ و نسبه

نسبه، و هو من مخضرمي الدولتين:

اسمه عبد اللّه بن عمر بن عبد اللّه بن عليّ بن عديّ بن ربيعة بن عبد العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف، و يكنى أبا عديّ(1)، شاعر مجيد من شعراء قريش، و من مخضرمي الدّولتين، و له أخبار مع بني أميّة و بني هاشم تذكر في غير هذا الموضع.

سبب نسبه إلى العبلات:

و يقال له عبد اللّه بن عمر العبليّ، و ليس منهم؛ لأنّ العبلات من ولد أميّة الأصغر بن عبد شمس. سمّوا بذلك لأنّ أمّهم عبلة بنت عبيد بن حارك(2) بن قيس بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، و هؤلاء يقال لهم براجم بني تميم، ولدت لعبد شمس بن عبد مناف(3) أميّة الأصغر، و عبد أميّة و نوفلا، و أمه من بني عبد شمس(4)، فهؤلاء يقال لهم العبلات، و لهم جميعا عقب. أمّا أميّة الأصغر فإنّهم بالحجاز، و هم بنو الحارث بن أميّة، منهم عليّ بن عبد اللّه بن الحارث، و منهم الثّريا صاحبة ابن أبي ربيعة.

/و أمّا بنو نوفل و عبد أميّة(5) فإنّهم بالشام كثير. و عبد العزّى بن عبد شمس كان يقال له أسد البطحاء. و إنّما أدخلهم النّاس في العبلات لمّا صار الأمر لبني أميّة الأكبر و سادوا و عظم شأنهم في الجاهليّة و الإسلام و كثر أشرافهم، فجعل/سائر بني عبد شمس من لا يعلم قبيلة واحدة، فسمّوهم أميّة الصّغرى، ثم قيل لهم العبلات لشهرة الاسم.

و عليّ بن عديّ جدّ هذا الشاعر شهد مع عائشة يوم الجمل. و له يقول شاعر بني ضبّة لعنة اللّه عليه:

يا ربّ اكبب(6) بعليّ جمله *** و لا تبارك في بعير حمله

إلاّ عليّ بن عديّ ليس له

كان في أيام بني أمية يميل إلى بني هاشم ثم خرج على المنصور مع محمد بن عبد اللّه بن الحسن:

فأمّا عبد اللّه بن عمر هذا الشاعر فكان في أيّام بني أميّة يميل إلى بني هاشم و يذمّ بني أميّة، و لم يكن منهم إليه صنع جميل، فسلم بذلك في أيّام بني العبّاس، ثم خرج على المنصور في أيّامه مع محمد بن عبد اللّه بن الحسن.

فرّق هشام بن عبد الملك أموالا و لم يعطه فقال شعرا:

ص: 197


1- في «الأصول» هنا: «أبا عليّ» و هو تحريف.
2- كذا في «الأصول»: و في تاج العروس (في مادة عبل): «... قال الدارقطني: هي عبلة بنت عبيد بن جادل بن قيس بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. و قال غيره: هي عبلة بنت نافذ ابن قيس بن حنظلة». و في كتاب «الأنساب» للسمعاني: (في الكلام على العبلي): «... و علبة بنت عبيد بن حافل بن قيس بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم...».
3- في «الأصول»: «لعبد شمس بن مناة» و هو تحريف.
4- كذا في «الأصول»: و جملة «و أمه من بني عبد شمس» غير واضحة.
5- في كتاب «المعارف»: لابن قتيبة أن عبد أمية مات و هو ابن ثمان سنين.
6- في «م»: و هامش «أ»: «اكسر».

أخبرني الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير عن مصعب الزّبيريّ قال:

العبليّ عبد اللّه بن عمر بن عبد اللّه بن عليّ بن عديّ بن ربيعة بن عبد العزّى ابن عبد شمس، و يكنى أبا عديّ، و له أخبار كثيرة مع بني هاشم و بني أميّة. و قسم هشام بن عبد الملك أموالا و أجاز بجوائز، فلم يعطه شيئا. فقال:

خسّ حظّي أن كنت من عبد شمس *** ليتني كنت من بني مخزوم

فأفوز الغداة منهم بسهم *** و أبيع الأب الشريف بلوم

استقدمه المنصور و استنشده فغضب عليه فذهب إلى المدينة:

فلمّا استخلف المنصور كتب إلى السّريّ بن عبد اللّه أن يوجّه به إليه ففعل. فلمّا قدم عليه قال له: أنشدني ما قلت في قومك، فاستعفاه. فقال: لا أعفيك. فقال: أعطني الأمان فأعطاه، فأنشده:

ما بال عينك جائلا أقذاؤها *** شرقت بعبرتها فطال بكاؤها

/حتى انتهى إلى قوله:

فبنو أميّة خير من وطئ الحصى *** شرفا و أفضل ساسة أمراؤها

فقال له: اخرج عنّي لا قرّب اللّه دارك! فخرج حتى قدم المدينة، فألفى محمد بن عبد اللّه بن حسن قد خرج فبايعه.

أخذت حرمه و أمواله فمدح السفاح فأكرمه و ردّ إليه ما أخذ منه:

أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن العمريّ عن العتبيّ عن أبيه قال:

كان أبو عديّ الذي يقال له العبليّ مجفوّا في أيّام بني مروان و كان منقطعا إلى بني هاشم، فلمّا أفضت الدولة إليهم لم يبقوا على أحد من بني أميّة، و كان الأمر في قتلهم جدّا إلاّ من هرب و طار على وجهه. فخاف أبو عديّ أن يقع به مكروه في تلك الفورة فتوارى؛ و أخذ داود بن عليّ حرمه و ماله، فهرب حتّى أتى أبا العبّاس السفّاح، فدخل عليه في غمار النّاس متنكّرا و جلس حجرة(1) حتى تقوّض(2) القوم و تفرّقوا، و بقي أبو العبّاس مع خاصّته. فوثب إليه أبو عديّ فوقف بين يديه و قال:

ألا قل للمنازل بالسّتار(3) *** سقيت الغيث من دمن قفار

فهل لك بعدنا علم بسلمى *** و أتراب لها شبه الصّوار(4)

أوانس لا عوابس جافيات *** عن الخلق الجميل و لا عواري

/و فيهنّ ابنة القصويّ سلمى(5) *** كهمّ النّفس مفعمة الإزار

/تلوث خمارها بأحمّ جعد *** تضلّ الفاليات به المداري(6)

ص: 198


1- حجرة: ناحية.
2- كذا في «الأصول الخطية»: يقال: تقوّض القوم إذا انقضوا و انصرفوا. و في «ب، س»: «انقض القوم».
3- الستار: اسم لعدّة مواضع.
4- الصوار (بالكسر و يضم): القطيع من البقر.
5- كذا في «ج»: و القصويّ: نسبة إلى قصيّ. و في «سائر الأصول»: «سلمى» و هو تحريف.
6- تلوث: تلف. و الأحم: الأسود. و الجعد من الشعر: خلاف السبط و هو ما فيه التواء و تقبض. و الفاليات: من فلا الرأس يفلوه و يفليه. و المداري: جمع مدري. و المدري و المدارة: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط و أطول منه يسرح به الشعر المتلبد. و إضلال المداري في الشعر كناية عن كثرته.

برهرهة منعّمة نمتها *** أبوّتها إلى الحسب النّضار(1)

فدع ذكر الشباب و عهد سلمى *** فما لك منهما غير ادّكار

و أهد لهاشم غرر القوافي *** تنخّلها(2) بعلم و اختيار

لعمرك إنّني و لزوم نجد *** و لا ألقى حباء(3) بني الخيار

لكالبادي لأبرد مستهل *** بحوباء كبطن العير عار(4)

سأرحل رحلة فيها اعتزام *** و جدّ في رواح و ابتكار

إلى أهل الرسول غدت برحلي *** عذافرة(5) ترامى بالصّحاري

تؤمّ المعشر الأبرار تبغي *** فكاكا للنّساء من الإسار

أيا أهل الرسول و صيد(6) فهر *** و خير الواقفين على الجمار

أ تؤخذ نسوتي و يحاز مالي *** و قد جاهرت لو أغنى جهاري

/و اذعر أن دعيت لعبد شمس *** و قد أمسكت بالحرم الصّواري(7)

بنصرة هاشم شهّرت نفسي *** بداري للعدا و بغير داري

بقربى هاشم و بحقّ صهر *** لأحمد لفّه طيب النّجار

و منزل هاشم من عبد شمس *** مكان الجيد من عليا الفقار

فقال له السفّاح: من أنت؟ فانتسب له. فقال له: حقّ لعمري أعرفه قديما و مودّة لا أجحدها، و كتب له إلى داود بن عليّ بإطلاق من حبسه من أهله و ردّ أمواله عليه و إكرامه، و أمر له بنفقة تبلّغه المدينة.

وفد على عبد اللّه بن حسن و أجازه هو و ابناه و زوجه:

أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمدانيّ قال حدّثنا يحيى بن الحسن العلويّ عن موسى بن عبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه بن حسن قال حدّثني أبي قال:

ص: 199


1- البرهرهة: التارّة التي تكاد ترعد من الرطوبة، أو هي البيضاء، و قيل هي الرقيقة الجلد كأن الماء يجري فيها من النعمة. و النضار هنا: الخالص الذي لم يشبه ما يدنسه.
2- تنخلها: تخيرها.
3- الحباء: العطاء.
4- البادي: الخارج إلى البادية. و الأبرد هنا: النمر. و مستهل هنا: رافع صوته. و بطن العير: المعروف أنه يقال للمكان الذي لا خير فيه جوف العير. و الحوباء: النفس. و أحسب أن هذه الكلمة هنا محرّفة عما يدل على مكان مقفر. و لعلها «بموماة».
5- العذافرة من الإبل: العظيمة الشديدة.
6- الصيد: جمع أصيد، و هو هنا الذي يرفع رأسه كبرا. يريد سادات فهر و ملوكها.
7- كذا في «الأصول». فإن صح فلعل «الصواري» جمع «صائرة»، و الأصل «الصوائر» فوقع فيه القلب، كما يقال «الأوالي» في «الأوائل». و الصوائر: العاطفة؛ يقال صار فلان الشيء يصوره و أصاره إذا أماله. و في حديث عمر و ذكر العلماء فقال: تنعطف عليهم بالعلم قلوب لا تصورها الأرحام، أي لا تميلها.

قال سعيد بن عقبة الجهنيّ: إنّي لعند عبد اللّه بن الحسن إذ أتاه آت فقال له: هذا رجل يدعوك، فخرجت فإذا أنا بأبي عديّ الأمويّ الشاعر، فقال: أعلم أبا محمد. فخرج إليه عبد اللّه بن حسن و ابناه و قد ظهرت المسوّدة و هم خائفون، فأمر له عبد اللّه بن حسن بأربعمائة دينار، فخرج من عندهم بألف دينار.

استنشده عبد اللّه بن حسن مما رثى به قومه ثم أكرمه هو و أهله:

و أخبرني حرميّ(1) عن الزّبير، و أخبرني الأخفش عن المبرّد عن المغيرة بن محمد المهلّبيّ عن الزّبير عن سليمان بن عيّاش السعديّ قال:

/جاء عبد اللّه بن عمر بن عبد اللّه العبليّ(2) إلى سويقة(3) و هو طريد بني العبّاس، و ذلك بعقب أيّام بني أميّة و ابتداء خروج ملكهم إلى بني العباس، فقصده عبد اللّه و الحسن ابنا الحسن بسويقة، فاستنشده عبد اللّه شيئا من شعره فأنشده. فقال له: أريد أن تنشدني شيئا مما رثيت به قومك، فأنشده:

تقول(4) أمامة لمّا رأت *** نشوزي عن المضجع الأنفس

/و قلّة نومي على مضجعي *** لدى هجعة الأعين النّعّس

أبي ما عراك؟ فقلت الهموم *** عرون(5) أباك فلا تبلسي(6)

عرون أباك فحبّسنه *** من الذّلّ في شرّ ما محبس

لفقد العشيرة إذ نالها *** سهام من الحدث المبئس(7)

رمتها المنون بلا نصّل(8) *** و لا طائشات و لا نكّس(9)

بأسهمها الخالسات النّفوس *** متى ما اقتضت مهجة تخلس(10)

فصرعاهم في نواحي البلا *** د تلقى بأرض و لم ترمس(11)

كريم أصيب و أثوابه *** من العار و الذّام لم تدنس

و آخر قد طار خوف الرّدى *** و كان الهمام فلم يحسس(12)

ص: 200


1- في «ب، س»: «و أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد حرمي...» و مثله في «ح» إلا أنه وضع فوقه علامة الشطب.
2- في «الأصول»: «العقيلي» و هو تحريف.
3- سويقة هنا: موضع قرب المدينة كان يسكنه آل علي بن طالب رضي اللّه عنه.
4- تقدّم أكثر أبيات هذه القصيدة في الجزء الرابع من هذه الطبعة (صفحة 339 و ما بعدها) مع اختلاف في بعض الكلمات.
5- في «الأصول» هنا: «منعن». و التصويب من الجزء الرابع.
6- الإبلاس: اليأس و التحير، و السكوت من الغم و الحزن.
7- في «الأصلين المطبوعين» تحريف في هذا الشطر، و في «الأصول المخطوطة» تحريف و نقص. و التصويب من الجزء الرابع.
8- كذا في «ج». و النصل: جمع ناصل. و الناصل من السهام هنا: الذي سقط نصله؛ و الناصل أيضا: ذو النصل. و في «سائر الأصول»: «بلا أنصل». و في الجزء الرابع: «بلا نكل».
9- الذي في كتب اللغة أنه يقال سهم نكس (بكسر أوّله و سكون ثانيه) و هو الذي ينكس أو يكسر فوقه فيجعل أعلاه أسفله، و الجمع أنكاس. و غريب أن يكون «نكس» (بضم أوّله و تشديد ثانيه) وصفا للسهام.
10- في «الأصول» هنا: «تخنس» و التصويب من الجزاء الرابع.
11- لم ترمس: لم تدفن؛ يقال: رمست الميت و أرمسته إذا دفنته.
12- رواية هذا البيت في الجزء الرابع: و آخر قد دس في حفرة و آخر قد طار لم يحسس أي لم يشعر به لاختفائه.

فكم غادروا من بواكي العيو *** ن مرضى و من صبية بؤّس

إذا(1) ما ذكرنهم لم تنم *** لحرّ الهموم و لم تجلس

يرجّعن مثل بكاء الحما *** م في مأتم قلق(2) المجلس

فذاك الذي غالني فاعلمي *** و لا تسأليني فتستنحسي(3)

و أشياء قد ضفنني(4) بالبلاد *** و لست لهنّ بمستحلس

أفاض المدامع قتلى كدى *** و قتلى بكثوة(5) لم ترمس

و قتلى بوجّ و باللاّبتي *** ن من يثرب خير ما أنفس

و بالزّابيين نفوس ثوب *** و قتلى(6) بنهر أبي فطرس(7)

أولئك قوم تداعت بهم(8) *** نوائب من زمن متعس

/أذلّت قيادي لمن رامني *** و ألزقت الرّغم بالمعطس(9)

فما أنس لا أنس قتلاهم *** و لا عاش بعدهم من نسي

قال: فلمّا أتى عليها بكى محمد بن عبد اللّه بن حسن. فقال له عمّه الحسن بن حسن بن عليّ عليهم السلام: أ تبكي على بني أميّة و أنت تريد ببني العبّاس ما تريد!. فقال: و اللّه يا عمّ لقد كنّا نقمنا على بني أميّة ما نقمنا، فما بنو العبّاس إلاّ أفلّ خوفا للّه منهم، و إنّ الحجّة على بني العبّاس لأوجب منها عليهم. و لقد كانت للقوم أخلاق و مكارم و فواضل ليست لأبي جعفر. فوثب حنس و قال: أعوذ باللّه من شرّك، و بعث إلى أبي عديّ بخمسين دينارا، و أمر له عبد اللّه بن حسن بمثلها، و أمر له كلّ واحد من محمد و إبراهيم ابنيه بخمسين خمسين، و بعثت إليه أمّهما هند بخمسين دينارا، و كانت منفعته بها كثيرة. فقال أبو عديّ في ذلك:

ص: 201


1- في «الأصول»: «إذا ما ذكرتهم» بالتاء. و يرجح أن يكون بالنون قوله «يرجعن» بعد هذا البيت. و مرجع الضمير «بواكي العيون» و رواية هذا البيت في الرابع: إذا عنّ ذكرهم لم ينم أبوك و أوحش في المجلس
2- في «الأصول»: «فلق المجلس» بالفاء. و قلق المجلس: اضطراب من فيه من الحزن.
3- يقال: استنحس فلان الأخبار و نحسها و تنحسها إذا تندّسها و تجسسها، و استنحس عنها: طلبها و تتبعها بالاستخبار. و رواية هذا الشطر في الرابع: و لا تسألي بامرئ متعس
4- ضفنني: نزلن بي. و المستحلس للشيء: الملازم له.
5- في «الأصول» هنا: «ببكة». و التصويب من «الجزء الرابع» و «معجم البلدان» (في كثوة و اللايتين). و راجع الكلام على هذه المواضع و الوقائع في الجزء الرابع.
6- في الجزء الرابع و «معجم البلدان»: «و أخرى».
7- في «الأصول» هنا: «أبي قرطس» و هو تحريف.
8- في الرابع: أولئك قومي أناخت بهم
9- الرغم: التراب. و المعطس (كمجلس و مقعد): الأنف.

أقام ثويّ(1) بيت أبي عديّ *** بخير منازل الجيران جارا

تقوّض بيته و جلا(2) طريدا *** فصادف خير دور النّاس دارا

و إنّي إن نزلت بدار قوم *** ذكرتهم و لم أذمم جوارا

/فقالت هند لعبد اللّه و ابنيها منه: أقسمت عليكم إلاّ أعطيتموه خمسين دينارا أخرى فقد أشركني معكم في المدح، فأعطوه خمسين دينارا أخرى عن هند.

ولى الطائف لمحمد بن عبد اللّه بن حسن ثم فرّ إلى اليمن و شعره في ذلك:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق عن أبي أيّوب المدينيّ قال ذكر محمد بن موسى مولى أبي عقيل قال:

/قدم أبو عديّ العبليّ الطائف واليا من قبل محمد بن عبد اللّه بن حسن أيّام خروجه على(3) أبي جعفر و معه أعراب من مزينة و جهينة و أسلم فأخذ الطائف و أتى محمد بن أبي بكر العمريّ حتى بايع، و كان مع أبي عديّ أحد عشر رجلا من ولد أبي بكر الصّدّيق، فقدمها بين أذان الصّبح و الإقامة، فأقام بها ثلاثا، ثم بلغه خروج الحسن(4)بن معاوية من مكة، فاستخلف على الطائف عبد الملك بن أبي زهير و خرج ليتلقّى الحسن بالعرج، فركب [الحسن(5)] البحر، و مضى أبو عديّ هاربا على وجهه إلى اليمن. فذلك حين يقول:

هيّجت للأجزاع حول عراب(6) *** و اعتاد قلبك عائد الأطراب

و ذكرت عهد معالم بلوي الثّرى(7) *** هيهات تلك معالم الأحباب

هيهات تلك معالم من ذاهب *** أمسى بحوضي أو بحقل قباب(8)

قد حلّ بين أبارق(9) ما إن له *** فيها من اخوان و لا أصحاب

شطّت نواه عن الأليف و ساقه *** لقرى يمانية حمام كتاب(10)

يا أخت آل أبي عديّ أقصري *** و ذري الخضاب فما أوان خضاب

أ تخضّبين و قد تخرّم غالبا(11) *** دهر أضرّ بها حديد الناب

ص: 202


1- الثويّ: الضيف.
2- «تقوّض بيته» ليست في «الأصول الخطية»، و كذا قوله: «و إني إن نزلت بدار» من الشطر الأوّل في البيت الثالث. و هو تصويب حسن، نظن أن المصوّب رجع فيه إلى أصل صحيح. جلا عن بلده: خرج.
3- في «الأصول»: «عن أبي جعفر».
4- ولى مكة لمحمد بن عبد اللّه بن حسن و غلب عليها عامل أبي جعفر المنصور. (راجع «الطبري» في حوادث سنة 145).
5- التكملة عن «أ، م».
6- كذا في «الأصول». و لم نجد «عرابا» في المظان. و إنما الموجود «غراب» (بضم أوله) و هو جبل بناحية المدينة على طريق الشام، و موضع بالشام، و واد باليمامة، و جبل من جبال تهامة.
7- في «أ، م»: «بلوى السرى».
8- حوضي و حقل قباب: موضعان.
9- الأبارق: جمع أبرق، و هو غلظ فيه حجارة و طين و رمل مختلطة.
10- شطت: بعدت. و النوى هنا: الوجه الذي تقصده أو القصد لبلد غير البلد الذي أنت فيه مقيم. و حمام كتاب: قدره و قضاؤه.
11- ظاهر أنه يريد قبيلة.

/

و الحرب تعرك غالبا بجرانها(1)*** و تعضّ و هي حديدة الأنياب

أم كيف نفسك تستلذّ معيشة *** أو تنقعين لها ألذّ شراب

أنشد عبد اللّه بن حسن من شعره فبكى:

و ذكر العبّاس بن عيس العقيليّ عن هارون بن موسى الفرويّ عن سعيد بن عقبة الجهنيّ قال: حضرت عبد اللّه بن عمر المكنّى أبا عديّ الأمويّ ينشد عبد اللّه بن حسن قوله:

أفاض المدامع قتلى كدى *** و قتلى بكثوة(2) لم ترمس

قال: فرأيت عبد اللّه بن حسن و إنّ دموعه لتجري على خدّه.

قيل إن القصيدة السينية اشترك فيها آخران معه حين أتاهم قتل بني أمية:

و قد أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن أبي سعيد مولى فائد قال:

لمّا أتانا قتل عبد اللّه بن عليّ من قتل من بني أميّة كنت أنا و فتى من ولد عثمان و أبو عديّ العبليّ متوارين في موضع واحد، فلحقني من الجزع ما يلحق الرجل على عشيرته، و لحق صاحبيّ كما لحقني، فبكينا طويلا، ثم تناولنا هذه القصيدة بيننا، فقال كلّ واحد منّا بعضها غير محصّل [ما(3)] لكلّ واحد منّا فيها، قال: ثم أنشدنيها، فأخذتها من فيه:

تقول أمامة لمّا رأت *** نشوزي عن المضجع الأنفس

كان يكره ما يجري عليه بنو أمية من سب عليّ و شعره في ذلك:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا محمد بن زكريّا الغلابيّ عن ابن عائشة قال:

/كان أبو عديّ الأمويّ الشاعر يكره ما يجري عليه بنو أميّة من ذكر عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه و سبّه على المنابر، و يظهر الإنكار لذلك، فشهد عليه قوم من بني/أميّة بمكة بذلك و نهوه عنه، فانتقل إلى المدينة و قال في ذلك:

شرّدوا بي عند امتداحي عليّا *** و رأوا ذاك فيّ داء دويّا

فو ربّي لا أبرح الدّهر حتى *** تختلى(4) مهجتي بحبّي عليّا

و بنيه لحبّ أحمد إنّي *** كنت أحببتهم بحبّي النبيّا

حبّ دين لا حبّ دنيا و شرّ ال *** حبّ حبّ يكون دنياويّا

صاغني اللّه في الذّؤابة منهم *** لا زنيما(5) و لا سنيدا دعيّا

ص: 203


1- عركتهم الحرب: دارت عليهم. و الجران من البعير: مقدّم عنقه من مذبحه إلى منحره، و قد استعاره الشاعر هنا للحرب.
2- في «الأصول» هنا: «بمكة». (راجع الحاشية رقم 6 من صفحة 299).
3- تكملة يقتضيها سياق الكلام.
4- تختلى: تقطع. و أصل الاختلاء قطع الخلى و هو الرطب من الحشيش؛ يقال: خلى الخلي و اختلاه إذا قطعه. يريد الشاعر أنه يموت و هو على حبهم.
5- الزنيم: الدعيّ الملصق بالقوم و ليس منهم. و كذلك السنيد.

عدويّا خالي صريحا و جدّي *** عبد شمس و هاشم أبويّا

فسواء عليّ لست أبالي *** عبشميّا دعيت أم هاشميّا

دخل مع وفود قريش على هشام بن عبد الملك و مدحه ففضل هشام بني مخزوم فقال هو شعرا:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ عن أبيه قال:

وفد أبو عديّ الأمويّ إلى هشام بن عبد الملك و قد امتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

عبد شمس أبوك و هو أبونا *** لا نناديك من مكان بعيد

و القرابات بيننا واشجات *** محكمات القوى بحبل شديد

فأنشده إيّاها، و أقام ببابه مدّة حتى حضر بابه وفود قريش فدخل فيهم، و أمر لهم بمال فضّل فيه بني مخزوم أخواله، و أعطى أبا عديّ عطيّة لم يرضها، فانصرف و قال:

خسّ حظّي أن كنت من عبد شمس *** ليتني كنت من بني مخزوم

فأفوز الغداة فيهم بسهم *** و أبيع الأب الكريم بلوم

/غنّى في البيتين المذكورين في هذا الخبر اللّذين أولهما:

عبد شمس أبوك و هو أبونا

ابن جامع، و لحنه ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق. و أوّل هذه القصيدة التي قالها في هشام:

ليلتي من كنود بالغور عودي *** بصفاء الهوى من أمّ أسيد

ما سمعنا(1) ذاك الهوى و نسينا *** عهده فارجعي به ثم زيدي

قد تولّى عصر الشباب فقيدا *** ربّ جار يبين غير فقيد

خلق الثّوب من شباب و لبس(2) *** و جديد الشّباب غير جديد

فاسر عنك الهموم حين تداعت(3) *** بعلاة مثل الفنيق(4) و خود

عنتريس(5) توفي الزّمام بفعم(6) *** مثل جذع الأشاءة المجرود

و ارم جوز(7) الفلا بها ثم سمها *** عجر فيّ النّجاء بالتوخيد

ص: 204


1- كذا في «الأصول». و لعله: «ما سئمنا» أو ما في معناه.
2- اللبس (بالكسر): ما يلبس.
3- أسر عنك الهموم: ألقها عنك. يقال سروت الثوب و غيره عيني سروا، و سريته تسرية إذا ألقيته عنك و نضوته. و تداعت هنا: تجمعت و أقبلت.
4- كذا في «ح». و في «بعض الأصول»: «العقيق» و في بعضها: «العتيق». و هما تحريف. و الفنيق: لفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله و لا يركب. شبه ناقته بالفحل في الضخامة و القوة. و العلاة هنا: الناقة المشرفة الصلبة. و الوخود: كثيرة الوخد و هو السرعة في السير، و أن يرمي البعير بقوائمه كمشي النعام.
5- العنتريس من النوق: الصلبة الوثيقة الشديدة الكثيرة اللحم الجواد الجريئة.
6- في «الأصول»: «بنعم». و يريد بالفعم هنا العنق. و الأشاءة: النخلة الصغيرة. و المجرود: المقشور.
7- جوز كل شيء: وسطه. و الفلا: واحدته فلاة، و هي القفر أو المفازة لا ماء فيها أو الصحراء الواسعة. و سامه الشيء كلفه إياه. و النجاء: السرعة. و العجرفة و العجرفية في السير: السرعة. يريد: كلفها سيرا سريعا لا تقصد فيه لنشاطها. و في «الأصول»: «عجر في النجاد. و هو تحريف. و التوخيد: حمل الدابة على الوخد و هو ضرب من السير سريع.

/

و هشاما خليفة اللّه فاعمد *** و اصرمن مرّة(1) القويّ الجليد

تلقه محكم القوى أريحيّا(2)*** ذا قرّى عاجل و سيب عتيد

ملكا يشمل الرعيّة منه *** بأياد ليست بذات خمود

أخضر الرّبع و الجناب خصيب *** أفيح(3) المستراد للمستريد

ذكرت ناقتي البطاح فحنّت *** حين أن ورّكت(4) قبور ثمود

/قلت بعض الحنين يا ناق سيري *** نحو برق دعا لغيث عميد

فأغذّت في السّير(5) حتى أتتكم *** و هي قوداء في سواهم قود

قد براها السّرى إليك و سيري *** تحت حرّ الظّهيرة الصّيخود(6)

و طوى طائد العرائك(7) منها *** غول بيد تجتابها بعد بيد

و أتتكم حدب الظّهور و كانت *** مسنمات ممرّها بالكديد(8)

/و اطمأنّت(9) أرض الرّصافة بالخص *** ب و لم تلق رحلها بالصّعيد

نزلت بامرئ يرى الحمد غنما *** باذل متلف مفيد معيد

بذل العدل في القصاص فأضحى *** لا يخاف الضعيف ظلم الشديد

من بنى النّضر من ذرا منبت النّض *** ر بأورى زند و أكرم عود

فهو كالقلب في الجوانح منها *** واسط سرّ جذمها(10) و العديد

ص: 205


1- كذا في «الأصول». و المرة: قوة الخلق و شدّته.
2- الأريحيّ: الواسع الخلق المنبسط إلى المعروف. و السيب: العطاء. و العتيد: الحاضر المهيأ.
3- أفيح المستراد للمستريد: واسع المطلب للطالب. و اخضرار الربع و خصب الجناب و فيح المستراد يراد به الكرم و اتساع الجود.
4- كذا في «ج». يقال: ورّك الجبل (بتشديد الراء) إذا جاوزه مثل واركه. و في «سائر الأصول»: «وردت». و قبور ثمود: حيث كانت ديارهم بوادي القرى بين المدينة و الشام، و قريتهم كانت تسمى الحجر. و ديار ثمود تقع في طريق الشاعر في رحيله من الحجاز إلى الشام.
5- أغذت في السير: أسرعت. و القوداء من الإبل: الطويلة العنق و الظهر. و الساهمة: الضامرة المتغيرة من السير.
6- الظهيرة الصيخود: الهاجرة الشديدة الحر.
7- كذا في «ب، س». و في «الأصول الخطية»: «صائد العرائك». و الطائد: الثابت. و هو غير واضح، و كذلك صائد العرائك. و العرائك: جمع عريكة و هي السنام أو بقيته. و غول البيد (بفتح الغين): بعدها. و البيد: جمع بيداء و هي الفلاة. و تجتابها: تقطعها.
8- الحدب: جمع حدباء و هي من الدواب: التي بدت حراقفها من الهزال. و الحرقفة: عظم الحجبة أي رأس الورك. و المسنمات: التي أعظم الكلأ أسنمتها. يقال: سنم البعير يسنم سنما (وزان فرح) فهو سنم، و سنمة الكلأ (بتشديد النون) و أسنمه. و ممرها هنا: ظرف. يريد أن الإبل وصلت إلى القوم مهزولة و قد كانت سمينة حين مرت بالكديد. و الكديد: موضع بالحجاز بين عسفان و أمج.
9- يريد: نزلت أرض الرصافة مطمئنة بالخصب. فضمن «اطمأن» معنى «نزل» فعداه إلى المفعول.
10- يقال: وسط فلان قومه و حسبه، و وسط في قومه و حسبه، إذا حل في المكان الأكرم منهم. و الجذم (بالكسر و يفتح): الأصل. و سر الجذم: صريحه و خالصه.

بين مروان و الوليد فبخ بخ *** للكريم المجيد غير الزّهيد

لو جرى الناس نحو غاية مجد *** لرهان في المحفل المشهود

لعلاهم بسابغين(1) من المج *** د على الناس طارف و تليد

إنّكم معشر أبي اللّه إلاّ *** أن تفوزوا بدرّها(2) المحشود

لم ير اللّه معشرا من بني(3) مر *** و إن أولى بالملك و التسويد

قادة سادة ملوك بحار *** و بها ليل للقروم الصّيد(4)

أريحيون(5) ماجدون خضمّو *** ن حماة عند اربداد الجلود

يقطعون النهار بالرأي و الحز *** م و يحيون ليلهم بالسّجود

/أهل رفد و سؤدد و حياء *** و وفاء بالوعد و الموعود

و يرون الجوار من حرم الل *** ه فما الجار فيهم بوحيد

لو بمجد نال الخلود قبيل *** آل مروان فزتم بالخلود

يا ابن خير الأخيار من عبد شمس *** يا إمام الورى و ربّ الجنود

عبد شمس أبوك و هو أبونا *** لا نناديك من مكان بعيد

ثم جدّي الأدنى و عمّك شيخي *** و أبو شيخك الكريم الجدود

فالقرابات بيننا واشجات *** محكمات القوى بحبل شديد

فأثبني ثواب مثلك مثلي *** تلقني للثّواب غير جحود

إنّ ذا الجدّ من حبوت بودّ *** ليس من لا تودّ بالمجدود

و بحسب امرئ من الخير يرجى *** كونه عند ظلّك الممدود

قصيدة له يندب فيها فرقة بني أمية:
اشارة

و أمّا قصيدته التي أوّلها:

ما بال عينك جائلا أقذاؤها

و هي التي فيها الغناء المذكور، فإنه قالها في دولة بني أميّة عند اختلاف كلمتهم و وقوع الفتنة بينهم، يندب

ص: 206


1- في «ج»: «بسامعين». و أحسب أن صوابه «بسامقين». و السامق: العالي الطويل.
2- في «الأصول»: «بدارها» و هو تحريف.
3- أي لم ير اللّه معشرا أولى من بني مروان بالملك و التسويد.
4- البهاليل: جمع بهلول، و هو هنا: السيد الجامع لكل خير. و القروم: جمع قرم (بالفتح) و هو هنا السيد العظيم. و الصيد: جمع أصيد، و هو الذي لا يلتفت من زهوه يمينا و لا شمالا. يصفهم بأنهم سادة منسوبون لسادة عظام.
5- الأريحي: الواسع الخلق المنبسط إلى المعروف. و الخضم: السيد الحمول المعطاء، و هذا الوصف خاص بالرجال (عن «القاموس»). و اربداد الجلود: تغير لونها من الغضب و الشدّة. و الربدة: لون إلى الغبرة.

بينهم(1)، و فيها يقول:

/

و اعتادها ذكر العشيرة بالأسى *** فصباحها ناب بها و مساؤها

شركوا(2) العدا في أمرهم فتفاقمت(3)*** منها الفتون(4) و فرّقت أهواؤها

ظلّت هناك و ما يعاتب بعضها *** بعضا فينفع ذا الرّجاء رجاؤها

إلاّ بمرهفة الظّبات(5) كأنّها *** شهب تقلّ - إذا هوت - أخطاؤها

/و بعسّل(6) زرق يكون خضابها *** علق النّحور إذا تفيض دماؤها

فبذاكم أمست تعاتب(7) بينها *** فلقد خشيت بأن يحمّ فناؤها

ما ذا أؤمّل إن أميّة ودّعت *** و بقاء سكّان البلاد بقاؤها

أهل الرّئاسة و السّياسة و النّدى *** و أسود حرب لا يخيم لقاؤها(8)

غيث البلاد هم و هم أمراؤها *** سرج يضيء دجى الظّلام ضياؤها

فلئن أميّة ودّعت و تتايعت(9)*** لغواية حميت لها خلفاؤها

ليودّعنّ من البريّة غزّها *** و من البلاد جمالها و رجاؤها

و من البليّة أن بقيت خلافهم *** فردا تهيجك دورهم و خلاؤها

لهفي على حرب العشيرة بينها *** هلاّ نهى جهّالها حلماؤها

هلاّ نهى تنهى الغويّ عن التي(10)*** يخشى على سلطانها غوغاؤها

و تقى و أحلام لها مضريّة *** فيها إذا تدمى الكلوم دواؤها(11)

لمّا رأيت الحرب توقد بينها *** و يشبّ نار وقودها إذكاؤها(12)

نوّهت بالملك المهيمن دعوة *** و رواح(13) نفسي في البلاء دعاؤها

ص: 207


1- أي يندب فرقتهم.
2- كذا في «أ، م» أي أشركوا العدا في أمرهم. و في «سائر النسخ»: «شرك».
3- تفاقمت: عظمت و اشتدّت.
4- كذا في «الأصول». و نحسب أن صوابها «الفتوق»؛ فإن الفتنة، و هي ما يقع بين الناس من الخلاف و القتال، لا تجمع على «فتون».
5- مرهفة الظبات السيوف.
6- العسل: الرماح، و غسلان الرمح: شدّة اهتزازه. و الزرقة في النصال: شدّة صفائها. وصف الشاعر الرماح بالزرقة و هي وصف نصالها.
7- في «الأصول»: «تعاقب» و هو تحريف. و يحم: يقضي.
8- خام: نكص و جبن و ضعف. يريد أنهم أسود حرب لا تجبن عند اللقاء.
9- في «الأصول»: «تتابعت» بالباء الموحدة. و التتابع: التهافت و الإسراع إلى الشيء. و لا يكون التتابع إلا في الشر.
10- كذا ورد في هذا الشطر في «ب، س». و ورد في «الأصول الخطية» ناقصا هكذا: «ها الغوي عن التي». و كلمة «ها» ليس في «ج».
11- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «دماؤها» و هو تحريف.
12- كذا في «الأصول الخطية». و إذكاء النار و تذكيتها: إيقادها. و في «ب، س»: «و تشب نار وقودها و ذكاؤها».
13- الرواح هنا - و مثله الراحة و الراح -: الارتياح و الاستراحة، و هو وجدانك روحا و خفة بعد مشقة.

/

ليردّ ألفتها و يجمع أمرها *** بخيارها فخيارها رحماؤها

فأجاب ربّي في أميّة دعوتي *** و حمى أميّة أن يهدّ بناؤها

و حبا(1) أميّة بالخلافة إنّهم *** نور البلاد و زينها و بهاؤها

فبنو أميّة خير من وطئ الثّرى *** شرفا و أفضل ساسة أمراؤها

و هي قصيدة طويلة اقتصرت منها على ما ذكرته.

*

صوت

مهلا ذريني فإنّي غالني خلقي *** و قد أرى في بلاد اللّه متّسعا

ما عضّني الدّهر إلاّ زادني كرما *** و لا استكنت له إن خان أو خدعا

الشعر لأبي جلدة(2) اليشكريّ من قصيدة يمدح بها مسمع بن مالك بن مسمع، و الغناء لعلّويه رمل بالوسطى عن عمرو.

ص: 208


1- لم يرد هذا البيت إلا في «أ، م».
2- في «الأصول»: «لأبي كلدة». و راجع الحاشية الأولى من الصفحة التالية.

18 - أخبار أبي جلدة و نسبه

اشارة

18 - أخبار أبي جلدة(1) و نسبه

نسب أبي جلدة:

أبو جلدة بن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبيد اللّه بن مسلمة بن حبيّب بن عديّ بن جشم بن غنم بن حبيّب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، شاعر إسلاميّ، من شعراء الدّولة الأمويّة، و من ساكني الكوفة. و كان ممن خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجّاج.

كان من أخص الناس بالحجاج ثم صار من أشدّهم تحريضا عليه حين خرج مع ابن الأشعث و قتل:

أخبرني بخبره في جملة ديوان شعره محمد بن العبّاس اليزيديّ و قرأته عليه قال حدّثني عمّي عبد اللّه قال حدّثني/محمد بن حبيب، و أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش أيضا عن الحسن بن الحسن اليشكريّ عن ابن الأعرابيّ قال:

كان أبو جلدة اليشكريّ من أخصّ النّاس بالحجّاج، حتى إنه بعثه و بعث معه عبد اللّه بن شدّاد بن الهادي الليثيّ إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فخطب الحجّاج منه ابنته أمّ كلثوم. ثم خرج بعد ذلك مع ابن الأشعث، و كان من أشدّ الناس تحريضا على الحجّاج. فلمّا أتى الحجّاج برأسه و وضع بين يديه مكث ينظر إليه طويلا ثم قال: كم من سرّ أودعته(2) في هذا الرأس فلم يخرج حتى أتيت به/مقطوعا. فلمّا كان يوم الزّاوية(3) خرج أبو جلدة بين الصّفّين، ثم أقبل على أهل الكوفة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:

فقل للحواريّات(4) يبكين غيرنا *** و لا تبكنا إلاّ الكلاب النوابح

بكين إلينا خشية أن تبيحها *** رماح النّصارى(5) و السيوف الجوارح

بكين لكيما يمنعوهنّ منهم *** و تأبى قلوب أضمرتها الجوانح

ص: 209


1- في «الأصول»: «أبي كلدة» و كذلك ورد في كل المواضع من هذه الترجمة. و التصويب من كتاب «المؤتلف و المختلف» لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمديّ (صفحة 78 طبعة مكتبة القدسي بالقاهرة) و شرح «القاموس» (مادة جلد) و «تاريخ الطبري» (القسم الثاني صفحة 1102) و «لسان العرب» (في مادة حور) و كتاب «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة. على أنه يحتمل أن تكون في هذا الاسم لهجة أخرى تجعل الحرف الأوّل منه مثل الجيم القاهرية و القاف لدى أهل صعيد مصر، فكان رسمها بالكاف في «الأصول» إشارة إلى هذه اللهجة.
2- كذا في «الأصول». و المعروف أنه يقال: أودعت كذا كذا. فلعل حرف الجر من زيادات النساخ.
3- في «الأصول»: «الراوية» بالراء المهملة و هو تصحيف. و الزاوية: موضع قرب البصرة كانت به الوقعة المشهورة بين الحجاج و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قتل فيها خلق كثير من الفريقين و ذلك في سنة ثلاث و ثمانين للهجرة.
4- في «الأصول»: «للجويريات». و التصويب من كتاب «المؤتلف و المختلف». و «لسان العرب» (في مادة حور). و الحواريات نساء الأمصار، سمين بذلك لبياضهن و تباعدهن عن قشف الأعراب بنظافتهن. الواحدة حوارية. و يروى: «فقل لنساء المصر» كما في كتاب «المؤتلف و المختلف».
5- في «اللسان»: «جعل أهل الشام نصارى لأنها تلي الروم و هي بلادها».

و ناديننا: أين الفرار و كنتم *** تغارون أن تبدو البرى(1) و الوشائح

أ أسلمتمونا للعدوّ على القنا *** إذا انتزعت منها القرون النواطح

فما غار منكم غائر لحليلة *** و لا عزب عزّت عليه المناكح

قال: فلمّا أنشدهم هذه الأبيات أنفوا و ثاروا فشدّوا شدّة تضعضع لهم عسكر الحجّاج، و ثبت لهم الحجّاج و صاح بأهل الشام فتراجعوا و ثبتوا، فكانت الدائرة له، فجعل يقتّل الناس بقيّة يومه، حتى صاح به رجل: و اللّه يا حجّاج لئن كنّا قد أسأنا في الذنب لما أحسنت في العفو، و لقد خالفت اللّه فينا و ما أطعته. فقال له: و كيف ويلك؟ قال:

لأنّ اللّه تعالى يقول فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ/حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ(2) فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا و قد قتلت فأثخنت حتى تجاوزت الحدّ، فأسر و لا تقتل، ثم قال: أو امنن. فقال أولى لك(3)! أ لا كان هذا الكلام منك قبل هذا الوقت! ثم نادى برفع السيف و أمّن الناس جميعا، قال ابن حبيب قال ابن الأعرابيّ: فبلغني أنّ الحجّاج قال يوما لجلسائه ما حرّض على أحد كما حرّض أبو جلدة؛ فإنه نزل على سرحة(4) في وسط عسكر لابن الأشعث ثم نزع سراويله فوضعه و سلح فوقه و الناس ينظرون إليه. فقالوا له: ما لك ويلك أ جننت! ما هذا الفعل! قال: كلّكم قد فعلتم مثل هذا إلاّ أنكم سترتموه و أظهرته. فشتموه و حملوا عليّ، فما أنساهم و هو يقدمهم و يرتجز:

نحن جلبنا الخيل من زرنجا(5) *** ما لك يا حجّاج منّا منجى

لتبعجنّ(6) بالسيوف بعجا *** أو لتفرّنّ فذاك أحجى(7)

فو اللّه لقد كاد أهل الشام يومئذ يتضعضعون لو لا أنّ اللّه تعالى أيّد بنصره.

قال و قال أبو جلدة يومئذ:

أيا لهفي و يا حزني جميعا *** و يا غمّ(8) الفؤاد لما لقينا

تركنا الدّين و الدّنيا جميعا *** و خلّينا(9) الحلائل و البنينا

فما كنّا أناسا أهل دين *** فنصبر للبلاء إذا بلينا(10)

ص: 210


1- البري هنا: الخلاخيل، واحدها برة. و الوشائح: جمع لوشاح (بضم أوله و كسره). و هو أديم عريض يرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها و كشحيها. و يجمع الوشاح أيضا على وشح (بضمتين) و أوشحة.
2- أثخنتموهم: غلبتموهم و كثرت فيهم الجراح.
3- أولى لك: دعاء عليه بمعنى ويل لك.
4- السرحة: الشجرة العظيمة.
5- زرنج: قصبة سجستان.
6- في «الأصول»: «لنبعجن» بالنون. و قد أثبتناه كما ترى ليكون خطابا للحجاج. و البعج: الشق.
7- في «ب، س»: «أو لنفرقن بذاك». و في «ج»: أو لتفرن بذاك» و يقرأ «أو لنقرن بذاك» بالنون و القاف. و في «أ، م»: «أو لنغرن بذاك» بالنون و الغين. و قد أثبتناه كما ترى لأن له معنى يلائم السياق. و أحجى: أجدر و أخلق.
8- في «الطبري»: «و يا حرّ الفؤاد».
9- في «الطبري»: «و أسلمنا».
10- في «الطبري»: «في البلاء إذا ابتلينا».

و لا كنّا أناسا أهل دنيا *** فنمنعها و إن لم نرج دينا

تركنا دورنا لطغام عكّ(1) *** و أنباط(2) القرى و الأشعرينا(3)

ذم من القعقاع بن سويد بعض ما عامله به فقال فيه شعرا:

قال ابن حبيب: و كان أبو جلدة مع القعقاع بن سويد المنقريّ بسجستان، فذمّ منه بعض ما عامله به، فقال فيه:

ستعلم أنّ رأيك رأي سوء *** إذا ظلّ الإمارة عنك زالا

و راح بنو أبيك و لست فيهم *** بذي ذكر(4) يزيدهم جمالا

هناك تذكّر الأسلاف منهم(5) *** إذا اللّيل القصير عليك طالا

فقال له القعقاع: و متى يطول عليّ الليل القصير؟ قال: إذا نظرت إلى السماء مربّعة. فلمّا عزل و حبس أخرج رأسه ليلة فنظر(6)، فإذا هو لا يرى السماء إلا بقدر تربيع السّجن، فقال: هذا و اللّه الذي حذّرنيه أبو جلدة.

مدح مسمع بن مالك حين ولي سجستان و رثاه حين توفي:

قال: و ولي مسمع بن مالك سجستان، و كان مكث أبي جلدة بها، فخرج إليه فتلقّاه و مدحه بقصيدته التي أوّلها:

بانت سعاد و أمسى حبلها انقطعا *** و ليت وصلا لها من حبلها رجعا

شطّت بها غربة زوراء(7) نازحة *** فطارت النّفس من وجد بها قطعا

/ما قرّت العين إذ زالت(8) فينفعها *** طعم الرّقاد إذا ما هاجع هجعا

منعت نفسي من روح تعيش به *** و قد أكون صحيح الصّدر فانصدعا

غدت تلوم على ما فات عاذلتي *** و قبل لومك ما أغنيت من منعا

مهلا ذريني فإنّي غالني(9) خلقي *** و قد أرى في بلاد اللّه متّسعا

فخري(10) تليد و ما أنفقت أخلفه *** سيب الإله و خير المال ما نفعا

ص: 211


1- عك: قبيلة. و طغامها: أوغادها.
2- في «الأصول»: «و أنماط القرى». و التصويب من «الطبري». و الأنباط - و مثله النبط و النبيط -: جيل من الناس كانوا بالبطائح بين العراقين.
3- الأشعرون: جمع أشعري (نسبة إلى الأشعر و هو أبو قبيلة باليمن). و حذفت ياء النسب في الجمع تخفيفا.
4- في «ح»: «بذي ذخر».
5- كذا في «أ، م». و في «سائر الأصول»: «فيهم».
6- في «أ، م»: «ينظر».
7- شطت: بعدت. و غربة زوراء: بعيدة. و نازحة: بعيدة.
8- في «الأصول»: «إذ زلت». و زالت: فارقت.
9- غالني هنا: حبسني؛ يقال: ما غالك عنا؟ أي ما حبسك عنا.
10- يحتمل أن يكون «مجدي».

ما عضّني الدهر إلاّ زادني كرما *** و لا استكنت له إن خان أو خدعا

و لا تلين على العلاّت(1) معجمتي(2) *** في النائبات إذا ما مسّني(3) طبعا

و لا تليّن من عودي غمائزه(4) *** إذا المغمّز منها لان أو خضعا

و لا أخاتل ربّ البيت غفلته *** و لا أقول لشيء فات ما صنعا

إنّي لأمدح أقواما ذوي حسب *** لم يجعل اللّه في أقوالهم قذعا(5)

الطيّبين على العلاّت معجمة *** لو يعصر المسك من أطرافهم نبعا

بني شهاب بها أعني و إنّهم *** لأكرم النّاس أخلاقا و مصطنعا

/قال: فوصله مسمع بن مالك و حمله و كساه و ولاّه ناشيتكين(6) و كان مكتبه(7). قال: ثم توفّي مسمع بن مالك سجستان، فقال أبو جلدة يرثيه:

أقول للنّفس تأساء و تعزية *** قد كان من مسمع في(8) مالك خلف

يا مسمع الخير من ندعو إذا نزلت *** إحدى النّوائب بالأقوام و اختلفوا

/يا مسمعا لعراق لا زعيم لها *** بمن ترى يؤمن المستشرف النّطف(9)

تلك العيون بحيث المصر(10) سادمة *** تبكيك إذا غالك الأكفان و الجرف

قد وسّدوك يمينا غير موسدة *** و بذل جود لما أودي بك التلف

كنت الشّهاب الذي يرمى العدوّ به *** و البحر منه سجال الجود تغترف

ص: 212


1- على العلاّت أي على أي حال من يسر أو عسر، و شدّة أو رخاء.
2- المعجمة: القوة و الصلابة؛ يقال: فلان صلب المعجم و المعجمة إذا كان عزيز النفس إذا جرسته وجدته عزيزا صلبا.
3- يريد: «إذا ما مستني»، و مرجع الضمير النائبات، فاضطر، أو إذا ما مسني شيء منها. و الطبع: هنا الضعف و الخور. و أصله الوسخ و الدنس يغشيان السيف، ثم استعير فيما يشبه ذلك من الأوزار و الآثام و غيرهما من المقابح.
4- ظاهر أن الغمائز هنا جمع غميزة اسم من الغمز بمعنى العصر و التليين. و لم نجد الغمائز بهذا المعنى فيما بين أيدينا من المظان، و إنما الغميزة العيب؛ يقال: ليس في فلان غميزة و لا غميز و لا مغمز، أي ليس فيه ما يغمز فيعاب به. و يحتمل أن يكون صوابه «مغامزة» جمع «مغمز» بمعنى العصر باليد و التليين.
5- القذع (بالتحريك): الفحش من الكلام الذي يقبح ذكره.
6- كذا في «أ، م». و في «ب، س»: «ناشتكين» بدون ياء. و في «ح»: «ناشئة كنن» و لم نهتد إلى وجه الصواب فيه.
7- كذا في «الأصول». و لعل صوابه: «و كان بها مكثه» كما تقدّم نظيره في أول هذه الخبر.
8- أحسب أن صوابه: قد كان في مسمع من مالك خلف
9- المستشرف: الظالم. يقال: استشرفه حقه إذا ظلمه. و النطف: المريب. و في «الأصول»: «يأمن» ببناء الفعل للفاعل، و هو لا يستقيم به الكلام.
10- في هذا البيت و الذي بعده كلمات غير واضحة، و أحسب أن فيهما تحريفا، بل كلمات البيت الثاني غير ملتئمة مما يدل على أن في الشعر نقصا.
كان ينادم شقيق بن سليط و استثقل أخاه ثعلبة فهجاه:

قال ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

كان أبو جلدة ينادم شقيق بن سليط بن بديل السّدوسيّ أخا بسطام بن سليط، و كان لهما أخ يقال له ثعلبة بن سليط، و كان ثقيلا بخيلا مبغّضا، و كان يطفّل عليهم و يؤذيهم. فقال فيه أبو جلدة:

أحبّ على لذاذتنا شقيقا *** و أبغض مثل ثعلبة الثّقيل(1)

له غمّ على الجلساء مؤذ *** نوافله إذا شربوا قليل

أعطى مسمع مالا لعشيرته و جفا بكر فقال هو شعرا فأكرمه و أرضاه:

قال ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ:

و فرّق مسمع بن مالك في عشيرته بني قيس بن ثعلبة عطايا كثيرة و قرّبهم و جفا سائر بطون بكر بن وائل. فقال أبو جلدة:

إذا نلت مالا قلت قيس عشيرتي *** تجور علينا عامدا في قضائكا

و إن كانت الأخرى فبكر بن وائل *** بزعمك يخشى(2) داؤها بدوائكا

هنالك لا نمشي الضّراء(3) إليكم *** بني مسمع إنّا هناك أولئكا

عسى دولة(4) الذّهلين يوما و يشكر *** تكرّ علينا سبغة(5) من عطائكا

قال: فبعث إليه مسمع فترضّاه و وصله و فرّق في سائر بطون بكر بن وائل على جذمين، جذم يقال له الذّهلان، و جذم يقال له اللّهازم. فالذّهلان: بنو شيبان بن ثعلبة بن يشكر بن وائل، و بنو ضبيعة بن ربيعة(6). و اللّهازم:

قيس بن ثعلبة، و تيم اللاّت بن ثعلبة، و عجل(7) بن لجيم، و عنزة(8) بن أسد بن ربيعة. قال الفرزدق:

و أرضى بحكم الحيّ بكر بن وائل *** إذا كان في الذّهلين أو في اللّهازم

/قال: و قد دخل بنو قيس بن عكابة مع إخوتهم بني قيس بن ثعلبة بن عكابة. و أمّا حنيفة فلم تدخل في شيء من

ص: 213


1- في هذا الشعر إقواء.
2- كذا في «الأصول».
3- الضراء: الشجر الملتف، و يراد به أيضا الاستخفاء و المكر و الخديعة؛ يقال: فلان يمشي الضراء إذا مشى فيما يواريه عمن يكيده و يختله، و يقال منه استضربت للصيد إذا قتلته من حيث لا يعلم. يقول الشاعر: هنالك نجاهركم و لا نخاتلكم يا بني مسمع، و سنكون هناك ظاهرين يشار إلينا.
4- الدولة (بالفتح) العقبة في الحرب؛ يقال: كانت لنا عليهم الدولة، و الدولة (بالضم) في المال؛ يقال: صار الفيء دولة بينهم يتداولونه: مرة لهذا و مرة لهذا، و قيل: هي في الحرب و في المال بالفتح و بالضم.
5- في «أكثر الأصول»: «صبغة». و في «ح»: «سعة» بغير إعجام. و السبغة في العيش: السعة فيه.
6- في «النقائض» (صفحة 764): «قال الذهلان شيبان بن ثعلبة و ذهل بن ثعلبة. قال و إليهم تحلفت الذهلان. قال و بهم سموا، و هم شيبان و ذهل و يشكر وضيعة بن ربيعة هذه الأربع القبائل الذهلان». و في «اللسان» مادة ذهل: «و ذهل هي من بكر و هما ذهلان كلاهما من ربيعة أحدهما ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة و الآخر ذهل بن ثعلبة بن عكابة».
7- في «الأصول»: و تيم اللات بن ثعلبة بن عجل بن لجيم» و التصويب من «النقائض».
8- في «بعض الأصول»: «عنترة» و هو تحريف.

هذا لانقطاعهم عن قومهم باليمامة في وسط دار مضر، و كانوا لا ينصرون بكرا و لا يستنصرونهم. فلمّا جاء الإسلام و نزل(1) الناس مع بني حنيفة و مع بني عجل بن لجيم فتلهزموا(1) و دخل معهم حلفاؤهم بنو مازن بن جديّ بن مالك بن صعب(2) بن عليّ، فصاروا جميعا في اللهازم. و قال موسى بن جابر الحنفيّ السّحيميّ بعد ذلك في الإسلام:

وجدنا أبانا كان حلّ ببلدة *** سوى(3) بين قيس قيس عيلان و الفزر

فلمّا نأت عنّا العشيرة كلّها *** أقمنا و حالفنا السيوف على الدهر

فما أسلمتنا بعد في يوم وقعة *** و لا نحن أغمدنا السيوف على وتر

كان جاره سيف يشرب و يعربد عليه فهجاه:

و قال ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

كان لأبي جلدة بسجستان جار يقال له سيف من بني سعد، و كان يشرب الخمر و يعربد على أبي جلدة، فقال يهجوه:

قل لذوي سيف و سيف أ لستم *** أقلّ بني سعد حصادا و مزرعا

كأنّكم جعلان دار(4) مقامة *** على عذرات(5) الحيّ أصبحن وقّعا

لقد نال سيف في سجستان نهزة *** تطاول منها فوق ما كان إصبعا

أصاب الزّنا و الخمر حتّى لقد نمت *** له سرّة تسقى الشّراب المشعشعا(6)

/فلو لا هوان الخمر ما ذقت طعمها *** و لا سقت إبريقا بكفّك مترعا(7)

كما لم يذقها أن تكون عزيزة *** أبوك و لم يعرض عليها فيطمعا

و كان مكان الكلب أو من ورائه *** إذا ما المغنّي للّذاذة أسمعا

خبره مع القعقاع حين أرجف به فتهدّده بالعزل:

قال ابن حبيب: و كان أبو جلدة قد استعمله القعقاع بن سويد حين تولّى سجستان على بست(8) و الرّخّج، فأرجف الناس بالقعقاع و أرجف به أبو جلدة معهم، و كتب القعقاع إليه يتهدّده؛ فكتب إليه أبو جلدة:

ص: 214


1- يحتمل أن يكون جواب «لما» «و نزل الناس» أو «و دخل بعضهم» بزيادة الواو. و الواو قد تزاد في جواب «لما».
2- في «الأصول»: «مصعب». و التصويب من «كتب الأنساب».
3- يقال: مكان سوى (بضم السين و كسرها) و سواء (بالفتح و المد) إذا كان وسطا فيما بين الفريقين.
4- كذا في «ح». و في «سائر الأصول»: «دار مضامة» و هو تحريف.
5- العذرة (بفتح فكسر): الغائط.
6- الشراب المشعشع: الممزوج بالماء.
7- ورد هذا البيت و الذي بعده في «تكملة شعر الأخطل» للأب أنطوان صالحاني اليسوعي، و فيه: و لا سفت إبريقا بأنفك مترعا و السوف: الشم.
8- بست (بالضم): مدينة بين سجستان و غزنين و هراة من نواحي كابل.

يهدّدني القعقاع في غير كنهه *** فقلت له بكر إذا رمتني ترسي

كأنّا و إيّاكم إذا الحرب بيننا *** أسود عليها الزّعفران مع الورس(1)

ترى كمصابيح الدّياجي وجوهنا *** إذا ما لقينا و الهرقليّة(2) الملس

هناك السّعود السانحات جرت لنا *** و تجري لكم طير البوارح بالنّحس

و ما أنت يا قعقاع إلاّ كمن مضى *** كأنك يوما قد نقلت إلى الرّمس

أظنّ بغال البرد تسري إليكم *** به غطفانيّا و إلاّ فمن عبس

و إلاّ فبالبسّال(3) يا لك إن سرت *** به غير مغموز القناة و لا نكس(4)

فعمّالنا أوفى و خير بقيّة *** و عمّالكم أهل الخيانة و اللّبس

و ما لبني عمرو عليّ هوادة *** و لا للرّباب غير تعس من التّعس

/قال: فلمّا انتهت هذه القصيدة إلى القعقاع وجّه برسول إلى أبي جلدة، و قال: انظر، فإن كان كتب هذا الكتاب بالغداة فاعزله، و إن كان كتبه باللّيل فأقرره على عمله و لا تعزله و لا تضربه. و كان أبو جلدة صاحب شراب، فقال للرسول: و اللّه ما كتبته إلاّ بالعشيّ. فسأله البيّنة على ذلك فأتاه بأقوام شهدوا له بما قال، فأقرّه على عمله و انصرف عنه.

شبب ببنت دهقان فأهدى له ليترك ذكرها:

قال ابن حبيب: و مرّ أبو جلدة بقصر من قصور بست ينزله رجل من الدّهاقين، فرأى ابنته تشرف من أعلى القصر، فأنشأ يقول:

إنّ في القصر ذي الخبا بدر تمّ *** حسن الدّلّ للفؤاد مصيبا

ولعا بالخلوق(5) يأرج منه *** ريح رند إذا استقلّ منيبا(6)

يلبس الخزّ و المطارف و الق *** زّ و عصبا من اليماني قشيبا

و رأيت الحبيب يبرز كفّا *** ما رآه(7) المحبّ إلاّ خضيبا

فبلغ ذلك من قوله الدّهقان، فأهدى له و برّه و سأله ألاّ يذكر ابنته في شعر بعد ذلك.

لحقه ضيم فلم يمنعه قومه فهتف بمسمع بن مالك و آخرين فسعى له قومه:

ص: 215


1- الزعفران: صبغ أصفر. و الورس: نبت أصفر يكون باليمن تصبغ به الثياب.
2- دياجي الليل: حنادسه (ظلماته) كأنه جمع ديجاة. و الهرقلية: الدنانير، نسبة إلى هرقل ملك الروم.
3- كذا في «ب، س». و في «أ، م»: «و إلا فيا لستال». و في «ح»: هكذا: «و إلا بنا لتسال». و لم نهتد إلى وجه الصواب فيه.
4- غمز القناة: عصرها و تليينها. و إباء القناة أن تلين للغامز يراد به القوة و عدم الانقياد. و النكس: الضعيف.
5- الخلوق: ضرب من الطيب مائع فيه صفرة لأن أعظم أجزائه من الزعفران. يأرج: يفيح و ينتشر. و الرند: شجر طيب الرائحة، و قيل هو العود أو الآس.
6- استقل هنا: نهض. و منيبا: راجعا.
7- كذا في «الأصول». و تذكير «الكف» غلط أو لغة قليلة.

قال ابن حبيب: و لحق أبا جلدة ضيم من بعض الولاة، فهتف بقومه فلم يقدروا على منعه منه و لا معونته رهبة للسّلطان، فهتف بأعلى صوته: يا مسمع بن مالك، يا أمير بن أحمر، ثم أنشأ يقول:

و لمّا أن رأيت سراة قومي *** سكوتا لا يثوب لهم زعيم

هتفت بمسمع و صدى(1) أمير *** و قبر معمّر تلك القروم

/قال: فأبكى جميع من حضر، و قاموا جميعا إلى الوالي فسألوه في أمره حتى كفّ عنه. قال: و أمير بن أحمر رجل من بني يشكر، و كان سيّدا جوادا، و فيه يقول زياد الأعجم:

لو لا أمير هلكت يشكر *** و يشكر هلكى على كلّ حال

قال ابن الأعرابيّ: كان أمير بن أحمر واليا على خراسان في أيّام معاوية.

و معمّر الذي عناه أبو جلدة معمّر بن شمير(2) بن عامر بن جبلة بن ناعب بن صريم، و كان أمير سجستان، و كان سيّدا شريفا.

خطب خليعة بنت صعب فأبت و تزوّجت غيره فقال شعرا:
اشارة

و قال: خطب أبو جلدة امرأة من بني عجل يقال لها خليعة(3) بنت صعب، فأبت أن تتزوّجه و قالت: أنت صعلوك فقير لا تحفظ مالك و لا تلفي شيئا إلاّ أنفقته في الخمر، و تزوّجت غيره. فقال أبو جلدة في ذلك:

صوت

لمّا خطبت إلى خليعة(2) نفسها *** قالت خليعة ما أرى لك مالا

أودى بمالي يا خليع تكرّمي *** و تخرّقي و تحمّلي الأثقالا

إنّي و جدّك لو شهدت مواقفي(4) *** بالسّفح(5) يوم أجلّل الأبطالا

سيفي، لسرّك أن تكوني خادما *** عندي إذا كره الكماة نزالا

الغناء لإبراهيم الموصليّ ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ من كتاب عليّ بن يحيى.

ضرط بين قوم فضحكوا فأكرههم على أن يضرطوا:

قال أبو سعيد السّكّريّ و عمر بن سعيد(6) صاحب الواقديّ:

إنّ أبا جلدة كان في قرية من قرى بست يقال لها الخيزران و معهم عمرو بن صوحان أخو صعصعة في جماعة يتحدّثون و يشربون، إذ قام أبو جلدة ليبول فضرط، و كان عظيم البطن، فتضاحك القوم منه، فسلّ سيفه و قال:

ص: 216


1- الصدى هنا: جسد الإنسان بعد موته.
2- في «الأصول»: «سمير» بالسين المهملة. و التصويب من كتاب «الاشتقاق».
3- في «ج»: «خلية». و كذا في الشعر الآتي: «أودى بمالي يا خلي تكرمي».
4- كذا في «أ، م». و في «سائر الأصول»: «مواقعي».
5- في «ج»: «بالسنح». و السنح (بالضم): اسم لعدّة مواضع. و سفح الجبل: أسفله حيث يسفح فيه الماء. و لعل السفح هنا موضع بعينه.
6- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «عمرو بن سعد» و لم نهتد إلى الصواب فيه.

لأضربنّ من لا يضرط في مجلسه هذا ضربة بسيفي، أ منّي تضحكون لا أمّ لكم! فما زال حتّى ضرطوا جميعا غير عمرو بن صوحان. فقال له: قد علمت أنّ عبد القيس لا تضرط و لك بدلها عشر فسوات. قال: لا و اللّه أو تفصح بها! فجعل عمرو يجثي(1) و ينحني فلا يقدر عليها، فتركه. و قال أبو جلدة في ذلك:

أ من ضرطة بالخيزران ضرطتها *** تشدّد منّي دارة(2) و تلين

فما هو إلاّ السيف أو ضرطة لها *** يثور دخان ساطع و طنين

قال: و لعمرو بن صوحان يقول أبو جلدة اليشكريّ و طالت صحبته إياه فلم يظفر منه بشيء:

صاحبت عمرا زمانا ثم قلت له *** الحق بقومك يا عمرو بن صوحانا

فإن صبرت فإنّ الصبر مكرمة *** و إن جزعت فقد كان الّذي كانا

هجا زيادا الأعجم لهجوه بني يشكر:

قال ابن سعيد(3) و حدّثني أبو صالح قال:

بلغ أبا جلدة أنّ زيادا الأعجم هجا بني يشكر، فقال فيه:

/

لا تهج يشكر يا زياد و لا تكن *** غرضا و أنت عن الأذى في معزل

و اعلم بأنّهم إذا ما حصّلوا *** خير و أكرم من أبيك الأعزل

/لو لا زعيم بني المعلّى لم نبت(4)*** حتّى نصبّحكم بجيش جحفل

تمشي الضّراء(5) رجالهم و كأنّهم *** أسد العرين بكلّ عضب منصل(6)

فاحذر زياد و لا تكن تدرأ(7)*** عند الرّجال و نهزة(8) للختّل

مدح سليمان بن عمرو بن مرثد كان صديقا له:

و قال ابن حبيب: كان سليمان بن عمرو بن مرثد البكريّ صديقا لأبي جلدة، و كان فارسا شجاعا، و قتله ابن خازم(9) لشيء بلغه فأنكره؛ و فيه يقول أبو جلدة:

إذا كنت مرتادا نديما مكرّرا *** نماه سراة من سراة بني بكر

ص: 217


1- جثا: جلس على ركبتيه، و هو كدعا و رمى.
2- كذا في «الأصول». و لعلها «تارة» أي بتشدّد تارة و تلين أخرى.
3- كذا في «ح، ب، س». و هو عمر بن سعيد، كما ورد في «ح» في الخبر السابق. و في «أ، م»: «قال ابن سعد». (تراجع الهامشة الأولى من هذه الصفحة).
4- في «ج»: «لم تبت» بالتاء. و في «سائر الأصول»: «لم تثب».
5- راجع الحاشية رقم 2 صفحة 316.
6- العضب: السيف القاطع. و المنصل (بضم الميم و الصاد و بفتح الصاد أيضا): اسم للسيف.
7- ذو تدرأ: ذو حفاظ و مدافعة و منعة.
8- النهزة الفرصة. و الختل: جمع خاتل. و الختل: المخادعة في غفلة. و في «الأصول»: «للمختل» و ظاهر أنه تحريف.
9- في «الأصول»: «ابن حازم» بالحاء المهملة. و التصويب بقلم المرحوم محمد محمود بن التلاميذ في نسخته. و نحسب أنه عبد اللّه بن خازم الذي كان واليا لخراسان.

فلا تعد ذا العليا سليمان عامدا(1) *** تجد ماجدا بالجود منشرح الصدر

كريما على علاّته(2) يبذل النّدى *** و يشربها صهباء طيّبة النّشر(3)

معتّقة كالمسك يذهب ريحها ال *** زّكام و تدعو المرء للجود بالوفر

و تترك حاسي الكأس منها مرنّحا *** يميد كما ماد الأثيم(4) من السكر

تلوح كعين الدّيك ينزو حبابها *** إذا مزجت بالماء مثل لظى الجمر

فتلك إذا نادمت من آل مرثد *** عليها نديما ظلّ يهرف(5) بالشّعر

/يغنّيك تارات و طورا يكرّها *** عليك بحيّاك الإله و لا يدري

تعوّد ألاّ يجهل الدّهر عندها *** و أن يبذل المعروف في العسر و اليسر

و إنّ سليمان بن عمرو بن مرثد *** تألّى(6) يمينا أن يريش(7) و لا يبري

فهمّته بذل النّدى و ابتنا العلا *** و ضرب طلى(8) الأبطال في الحرب بالبتر

و في الأمن لا ينفكّ يحسو(9) مدامة *** إذا ما دجا ليل إلى وضح الفجر

قال: فلمّا بلغت سليمان هذه الأبيات قال: هجاني أخي و ما تعمّد، لكنه يرى أنّ الناس جميعا يؤثرون الصّهباء كما يؤثرها هو، و يشربونها كما يشربها. و بلغ قوله أبا جلدة فأتاه فاعتذر إليه، و حلف أنّه لم يتعمّد بذلك ما يكرهه و ينكره. قال: قد علمت بذلك و شهدت لك به قبل أن تعتذر، و قبل عذره.

سأل الحضين بن المنذر شيئا فلم يعطه إياه فهجاه:

و قال ابن حبيب: سأل أبو جلدة الحضين بن المنذر الرّقاشيّ شيئا فلم يعطه إيّاه، و قال: لا أعطيه ما يشرب به الخمر. فقال أبو جلدة يهجوه:

يا يوم بؤس طلعت شمسه *** بالنّحس لا فارقت رأس الحضين

إنّ حضينا لم يزل باخلا *** مذ كان بالمعروف كزّ(10) اليدين

ص: 218


1- كذا في «أ». و في «سائر الأصول»: «عامرا» و هو تحريف.
2- على علاته أي على حالاته المختلفة من عسر و يسر.
3- النشر هنا: الرائحة.
4- كذا في «الأصول». و لعله: «كما ماد الأميم». و الأميم و المأموم: الذي أصابت الشجة أم رأسه و هي الدماغ حتى لا يبقى بينها و بين الدماغ إلا جلد رقيق.
5- الهرف (بالفتح) هنا: الهذيان، و الهرف أيضا: مجاوزة القدر في الثناء و المدح. و في «بعض الأصول»: «يهرق» و هو تصحيف.
6- تألّى: حلف.
7- يقال: رشت فلانا، إذا قويت جناحه بالإحسان إليه، فارتاش و تريش. و براه: هزله و أضعفه. و مثله قول الشاعر: فرشني بخير طالما قد بريتني فخير الموالي من يريش و لا يبرى
8- الطلي (بالضم): الأعناق. و البتر: جمع بتور، و هو السيف القاطع.
9- كذا في «أ، م». و في «سائر الأصول»: «نحو مدامة» و هو تحريف.
10- رجل كز اليدين: بخيل.

فبلغ الحضين قول أبي جلدة، فقال يجيبه:

عضّ أبو جلدة من أمّه *** معترضا ما جاوز الأسكتين(1)

بظرا(2) طويلا غاشيا(3) رأسه *** أعقف كالمنجل ذا شعبتين

/و قال أبو جلدة في حصين أيضا:

لعمرك إنّي يوم أسند حاجتي *** إليك أبا ساسان(4) غير مسدّد

/فلا عالم بالغيب من أين ضرّه *** و لا خائف بثّ الأحاديث في غد

فليت المنايا حلّقت بي صروفها *** فلم أطلب المعروف عند المصرّد(5)

فلو كنت حرّا يا حضين بن منذر *** لقمت بحاجاتي و لم تتبلّد

تجهّمتني خوف القرى و اطّرحتني *** و كنت قصير الباع غير المقلّد(6)

و لم تعد ما قد كنت أهلا لمثله *** من اللّؤم يا ابن المستذلّ المعبّد

تهدده بنو رقاش لهجائه الحضين فقال شعرا:

قال: فبلغ أبا جلدة أنّ بني رقاش(7) تهدّدوه بالقتل لهجائه الحضين بن منذر، فقال:

تهدّدني جهلا رقاش و ليتني *** و كلّ رقاشيّ على الأرض في الحبل

فباست حضين و است أمّ رمت به *** فبئس محلّ الضّيف في الزّمن المحل

و إن أنا لم أترك رقاش و جمعهم *** أذلّ على وطء الهوان من النّعل

فشلّت يداي و اتبعت سوى الهدى *** سبيلا وقّفت للخير و الفضل

عظام الخصى ثطّ(8) اللّحى معدن الخنا *** مباخيل بالأزواد في الخصب و الأزل(9)

إذا أمنوا ضرّاء دهر تعاظلوا(10) *** عظال الكلاب في الدّجنّة و الوبل

/و إن عضّهم دهر بنكبة حادث *** فأخور عيدانا من المرخ و الأثل(11)

ص: 219


1- الأسكتان (بفتح الهمزة و كسرها): جانبا الفرج و هما قذتاه.
2- البظر: هنة بين أسكتي المرأة.
3- كذا في «الأصول». و أحسب أن صوابه «عاسيا» أي شديدا صلبا.
4- أبو ساسان: كنية الحضين بن المنذر.
5- التصريد: قلة العطاء.
6- كذا في «الأصول»!.
7- رقاش: مبنية على الكسر مثل حذام و قطام، و بعضهم يجريها مجرى ما لا ينصرف.
8- ثط: جمع أثط و ثط (بالفتح) و هو القليل شعر اللحية. و المعدن اسم مكان من عدن بالبلد يعدن (من بابي ضرب و نصر) عدنا و عدونا أي أقام.
9- الأزل: الضيق و الشدة.
10- التعاظل - و مثله العظال و الاعتظال و المعاظلة -: الملازمة في السفاد. و يقال: عظلت الكلاب (من بابي نصر و سمع) إذا ركب بعضها بعضا. و الدجنة: الظلمة، و الغيم المطبق الريان المظلم. و الوبل: المطر الضخم القطر، مثل الوابل.
11- المرخ و الأثل: ضربان من الشجر.

أسود شرّى وسط النّديّ ثعالب(1) *** إذا خطرت(2) حرب مراجلها تغلي

شعره في دهقانة كان يختلف إليها:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الأصبهانيّ المعروف بالحزنبل عن عمرو(3) بن أبي عمرو الشيبانيّ عن أبيه قال:

عشق أبو جلدة اليشكريّ دهقانة ببست و كان يختلف إليها و يكون عندها دائما، و قال فيها:

و كأس كأنّ المسك فيها حسوتها *** و نازعنيها صاحب لي ملوّم(4)

أغرّ كأنّ البدر سنّة(5) وجهه *** له كفل واف و فرع و مبسم(6)

يضيء دجى الظّلماء رونق خدّه *** و ينجاب عنه الليل و الليل مظلم

و ثديان كالحقّين و المتن مدمج *** و جيد عليه نسق درّ منظّم

و بطن طواه اللّه طيّا و منطق *** رخيم و ردف نيط بالحقو مفأم(7)

به تبلتني و استبتني و غادرت *** لظى في فؤادي نارها تتضرّم

أبيت بها أهذي إذا الليل جنّني *** و أصبح مبهوتا فما أتكلّم

فمن مبلغ قومي الدّنا(8) أنّ مهجتي *** تبين، لئن بانت ألا تتلوّم(9)

و عهدي بها - و اللّه يصلح بالها - *** تجود على من يشتهيها و تنعم

فما بالها ضنّت عليّ بودّها *** و قلبي لها يا قوم عان متيّم

/قال: فلمّا بلغها الشعر سألت عن تفسيره ففسّر لها. فلما انتهى المفسّر إلى هذين البيتين الأخيرين غضبت فقالت:

أنا زانية كما زعم! إن كلمته كلمة أبدا. أو كلّما اشتهاني إنسان بذلت له نفسي و أنعمت من روحي(10) إذا! أي أنا إذا زانية. فصرمته، فلم يقدر عليها و عذّب بها زمانا، ثم قال فيها لمّا يئس منها:

/

صحا قلبي و أقصر بعد غيّ *** طويل كان فيه من الغواني

بأن قصد السبيل فباع جهلا *** برشد و ارتجى عقبى الزّمان

ص: 220


1- في «الأصول»: «وسط الندى و ثعالب» بزيادة الواو.
2- في «أ، م»: «حضرت».
3- في «الأصول»: «عن أبي عمرو» و هو تحريف.
4- ملوّم: يلومه الناس كثيرا.
5- سنة الوجه: دائرته أو صورته أو الجبهة و الجبينان.
6- المبسم (بكسر السين): الثغر.
7- نيط بالحقو: علق به. و الحقو (بالفتح و يكسر): الكشح. و ردف مفأم: سمين.
8- القوم الدنا: الأقربون.
9- التلوم: التلبث و الانتظار.
10- كذا في «م». و في «سائر الأصول» هكذا: «من رومي» بالميم و هو تحريف.

و خاف الموت و اعتصم ابن حجر(1) *** من الحبّ المبرّح(2) بالجنان

و قدما كان معترما(3) جموحا *** إلى لذّاته سلس العنان

و أقلع بعد صبوته و أضحى *** طويل(4) اللّيل يهرف بالقرآن

و يدعو اللّه مجتهدا لكيما *** ينال الفوز من غرف الجنان

قال شعرا في يزيد بن المهلب ثم تنصل منه:

قال ابن حبيب قال أبو عبيدة:

كان يزيد بن المهلّب يتّهم بالنّساء. فقال فيه أبو جلدة:

إذا اعتكرت(5) ظلماء ليل و نوّمت *** عيون رجال و استلذّوا المضاجعا

سما نحو جار البيت يستام عرسه(6) *** يزيد دبيبا للمعاناة(7) قابعا(8)

و إن أمكنته جارة البيت أو رنت *** إليه أتاها بعد ذلك طائعا

/فشاعت الأبيات و رواها الناس لقتادة بن معرب(9). فقال أبو جلدة:

أبا خالد ركني و من أنا عبده *** لقد غالني الأعداء عمدا لتغضبا

فإن كنت قلت اللّذ أتاك به العدا *** فشلّت يدي اليمنى و أصبحت أعضبا(10)

و لا زلت محمولا عليّ بليّة *** و أمسيت شلوا للسّباع مترّبا(11)

فلا تسمعن قول العدا و تبيّنن *** أبا خالد عذرا و إن كنت مغضبا

سئل عنه البعيث فذكر شعرا لقتادة بن معرب يهجوه به:

و قال ابن حبيب: قال رجل للبعيث: أيّ رجل(12) هو أبو جلدة؟ فقال: قتادة بن معرب أعرف به حيث يقول:

ص: 221


1- حجر: من آباء الشاعر.
2- هذا الشطر مكانه بياض في «الأصول الخطية». و هو مثبت هكذا في الأصلين المطبوعين.
3- الاعترام هنا: الشراسة و البطر مثل العرام و العرامة. و في «بعض الأصول»: «معتزما» بالزاي المعجمة.
4- كذا في «الأصول». و لعله «طوال الليل».
5- في «الأصول»: «اعتركت» و هو تحريف. و اعتكار الظلام: اشتداده و اختلاطه.
6- يستام عرسه: يطلب زوجته.
7- كذا!.
8- في «الأصول»: «قانعا» بالنون و هو تصحيف. و القبع تغطية الرأس بالليل لريبة؛ قال الشاعر: و لا أطرق الجارات بالليل قابعا قبوع القرنبي أخطأته مجاحره أي يدخل رأسه في ثوبه كما يدخل القرنبي رأسه في جسمه. و القرنبي: دويبة شبه الخنفساء أو أعظم منها شيئا طويلة الرجل.
9- كذا في «الأصول» و كتاب «الاشتقاق». و ورد في كتاب «الشعر و الشعراء» «مغرب» بالغين المعجمة مضبوطا بضم أوّله و فتح ثانيه و تشديد الراء مكسورة، و فيه «و يقال مغرب» و ضبط بضم فسكون فكسر و في «ب، س» في «أخبار زياد الأعجم» (ج 14 ص 104 طبعة بلاق): «مقرب» بالقاف. و لم نهتد لوجه الصواب فيه. و قتادة بن معرب من بني يشكر.
10- الأعضب هنا: القصير اليد، و الأعضب: من لا ناصر له، و من الغنم: المكسور القرن.
11- المترب: الملطخ بالتراب.
12- في «الأصول»: أتى رجل» و هو تحريف.

إنّ أبا جلدة من سكره *** لا يعرف الحقّ من الباطل

يزداد غيّا و انهماكا و لا *** يسمع قول الناصح العاذل

أعيا أبوه و بنو عمّه *** و كان في الذّروة من وائل

فليته لم يك من يشكر *** فبئس خدن الرجل العاقل

أعمى عن الحقّ بصير بما *** يعرفه كلّ فتى جاهل

يصبح سكران و يمسي كما *** أصبح، لا أسقي من الوابل

شدّ ركاب الغيّ ثم اغتدى *** إلى التي تجلب من بابل

فالسّجن إن عاش له منزل *** و السّجن دار العاجز الخامل

شعر له يناقض به قتادة بن معرب:

و قال أبو جلدة يجيبه:

قبحت لو كنت امرأ صالحا *** تعرف ما الحقّ من الباطل

كففت عن شتمي بلا إحنة *** و لم تورّط كفّة(1) الحابل

لكن أبت نفسك فعل النّهى *** و الحزم و النّجدة و النائل

فتحت لي بالشّتم حتى بدا *** مكنون غشّ في الحشا داخل

فاجهد و قل لا تترك جاهدا *** شتم امرئ ذي نجدة عاقل

/تعذلني في قهوة مزّة *** درياقة تجلب من بابل

و لو رآها خرّ من حبّها *** يسجد للشيطان بالباطل

يا شرّ بكر كلّها محتدا *** و نهزة المختلس الآكل

عرضك وفّره و دعني و ما *** أهواه يا أحمق من باقل(2)

عربد عليه ابن عم له فاحتمله و قال شعرا:

قال ابن حبيب: كان أبو جلدة يشرب مع ابن عمّ له من بكر بن وائل، فسكر نديمه فعربد عليه و شتمه، فاحتمله أبو جلدة و سقاه حتّى نام، و قال في ذلك:

أبى لي أن ألحى نديمي إذا انتشى *** و قال كلاما سيّئا لي على السّكر

و قاري و علمي بالشّراب و أهله *** و ما نادم القوم الكرام كذي الحجر(3)

ص: 222


1- كفة الحابل: حبالته التي يصيد بها. و هي منصوبة على نزع الخافض، أو على تضمين تورط معنى فعل متعد.
2- المعروف في المثل أنه يقال «أعيا من باقل». و هو رجل من إياد، و قيل من ربيعة، بلغ من عيه أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي؟ فمد يديه و دلع لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي و كان تحت إبطه، فضرب بعيه المثل.
3- ذو الحجر: ذو العقل.

فلست بلاح لي نديما بزلّة *** و لا هفوة كانت و نحن على الخمر

عركت بجنبي قول خدني و صاحبي *** و نحن على صهباء طيّبة النّشر(1)

/فلمّا تمادى قلت خذها عريقة *** فإنّك من قوم جحاجحة زهر

فما زلت أسقيه و أشرب مثل ما *** سقيت أخي حتّى بدا وضح(2) الفجر

و أيقنت أنّ السّكر طار بلبّه *** فأغرق في شتمي و قال و ما يدري

و لاك لسانا كان إذ كان صاحيا *** يقلّبه في كلّ فنّ من الشّعر

شعر له و قد دعا رجلا من قومه للشراب فأبى:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال:

كان أبو جلدة اليشكريّ قد خرج إلى تستر(3) في بعث، فشرب بها في حانة مع رجل من قومه كان ساكنا بها.

ثم خرج عنها بعد ذلك و عاد إلى بست و الرّخج و كان مكتبه(4) هناك، فأقام بها مدّة، ثمّ لقي بها ذلك الرجل الذي نادمه بتستر ذات يوم، فسلّم عليه و دعاه إلى منزله، فأكلا، ثم دعا بالشّراب ليشربا، فامتنع الرجل و قال: إنّي قد تركتها للّه. فقال أبو جلدة و هو يشرب:

ألا ربّ يوم لي ببست و ليلة *** و لا مثل أيّامي المواضي بتستر

غنيت بها أسقي سلاف مدامة *** كريم المحيّا من عرانين يشكر

نبادر شرب الراح حتّى نهرّها(5) *** و تتركنا مثل الصّريع المعفّر

فذلك دهر قد تولّى نعيمه *** فأصبحت قد بدّلت طول التّوقّر

فراجعني حلمي و أصبحت(6) منهج ال *** شّراب و قد ما كنت كالمتحيّر

و كل أوان(7) الحق أبصرت قصده *** فلست و إن نبّهت عنه بمقصر

/سأركض في التّقوى و في العلم بعد ما *** ركضت إلى أمر الغويّ المشهّر

و باللّه حولي و احتيالي و قوّتي *** و من عنده عرفي الكثير و منكري

مر به مسمع بن مالك فوثب إليه و قال فيه شعرا:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن الحارث المدائنيّ قال: مرّ مسمع بن مالك بأبي جلدة،

ص: 223


1- يقال: عركت ذنبه بجنبي إذا احتملته. و الخدن: الصديق. و النشر: الرئحة.
2- كذا في كتاب «الشعر و الشعراء». و وضح الفجر: بياض الصبح. و في «الأصول»: «واضح الفجر».
3- تستر: مدينة بخوزستان.
4- لعله: «و كان مكثه هناك» كما تقدّم نظيره في صفحة 313 سطر 12.
5- هرّه: كرهه.
6- كذا!. و لعله صوابه «منهج السبيل» أي أصبحت واضحا طريقي الذي أسلكه و قد كنت قديما كالمتحير؛ يقال نهج الطريق و أنهج إذا وضح و بان.
7- في «الأصول الخطية»: «و قل أوان الحق». و لم نوفق للصواب فيه.

فوثب إليه و أنشأ يقول:

يا مسمع بن مالك يا مسمع *** أنت الجواد و الخطيب المصقع

فاصنع كما كان أبوك يصنع

/فقال له رجل كان جالسا هناك: إن قبل منك و اللّه يا أبا جلدة ناك أمّه. فقال له: و كيف ذلك ويحك؟ قال: لأنك أمرته أن يصنع كما كان أبوه يصنع!.

مدح مقاتل بن مسمع طمعا في مثل ما كان مسمع يعطيه فلما ردّه هجاه:

و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: كان مسمع بن مالك يعطي [أبا جلدة، فقال فيه(1)]:

يسعى أناس لكيما يدركوك و لو *** خاضوا بحارك أو ضحضاحها(2) غرقوا

و أنت في الحرب لا رثّ القوى برم *** عند اللّقاء و لا رعديدة فرق(3)

كلّ الحلال الّتي يسعى الكرام لها *** إن(4) يمدحوك بها يوما فقد صدقوا

ساد العراق فحال الناس صالحة(5) *** و سادهم و زمان الناس منخرق

لا خارجيّ و لا مستحدث شرفا *** بل مجد آل شهاب كان مذ خلقوا

/قال: ثم مدح مقاتل بن مسمع طمعا في مثل ما كان مسمع يعطيه، فلم يلتفت إليه و أمر أن يحجب عنه. فقيل له:

تعرّضت للسان أبي جلدة و خبثه. فقال: و من هو الكلب! و ما عسى أن يقول قبحه اللّه و قبح من كان منه! فليجهد جهده. فبلغ ذلك من قوله أبا جلدة فقال يهجوه:

قرى ضيفه الماء القراح ابن مسمع *** و كان لئيما جاره يتذلّل

فلمّا رأى الضيف القرى غير راهن(6) *** لديه تولّى هاربا يتعلّل

ينادي بأعلى الصوت بكر بن وائل *** ألا كلّ من يرجو قراكم مضلّل

عميدكم هرّ الضيوف فما لكم *** ربيعة(7) أمسى ضيفكم يتحوّل

و خفتم بأن تقروا الضيوف و كنتم *** زمانا بكم يحيا الضّريك المعيّل(8)

فما بالكم باللّه أنتم بخلتم *** و قصّرتم و الضيف يقرى و ينزل

ص: 224


1- هذه الزيادة ليست في «الأصول الخطية».
2- الضحضاح: الماء القليل القعر.
3- رث القوى: ضعيفها. و البرم هنا: الضجر الملول. و الرعديدة: الجبان يرعد عند القتال جبنا. و الفرق: الفزع الشديد الخوف.
4- في «الأصول»: «ليمدحوك» و لا يستقيم بها الكلام.
5- كذا في «ج». و هو يريد أن الممدوح ساد العراق فصلحت حال الناس بسيادته و كان حالهم حين ساده في اضطراب و فوضى. و في «سائر الأصول»: «و حال الناس» بالواو.
6- غير راهن: غير حاضر.
7- ربيعة: من بطون بكر بن وائل.
8- في «ج»: «المفيل» بالفاء. و في «سائر الأصول»: «المقيل» بالقاف. و المعيل: ذو العيال. و الضريك: الفقير السيئ الحال.

و يكرم حتّى يقترى(1) حين يقترى *** يقول إذا ولّى جميلا فيجمل

فمهلا بني بكر دعوا آل مسمع *** و رأيهم لا يسبق الخيل محثل(2)

و دونكم أضيافكم فتحدّبوا *** عليهم و واسوهم فذلك أجمل

/و لا تصبحوا أحدوثة مثل قائل(3) *** به يضرب الأمثال من يتمثّل

إذا ما التقى الرّكبان يوما تذاكروا *** بني مسمع حتّى يحمّوا(4) و يثقلوا

فلا تقربوا أبياتهم إنّ جارهم *** و ضيفهم سيّان أتى توسّلوا

هم القوم غرّ الضيف منهم رواؤهم *** و ما فيهم إلاّ لئيم مبخّل

فلو ببني شيبان حلّت ركائبي *** لكان قراهم راهنا(5) حين أنزل

أولئك أولى بالمكارم كلّها *** و أجدر يوما أن يواسوا و يفضلوا

بني مسمع لا قرّب اللّه داركم *** و لا زال واديكم من الماء يمحل

فلم تردعوا الأبطال بالبيض و القنا *** إذا جعلت نار الحروب تأكّل

ص: 225


1- اقترى الأولى: تتبع، و اقترى الأخرى: أضاف؛ يقال: افترى فلان الضيف، مثل قراه. يقول: إن من حق الضيف أن يكرم ما دام ثاويا، فإذا رحل وجب أن تتبعه الكرامة حيث حيل؛ كما قال الآخر: و نكرم جارنا ما دام فينا و نتبعه الكرامة حيث سارا و هذا البيت ليس في «ج».
2- في «الأصول»: «محتل» بالمثناة، و لم نجد لها معنى. و المحثل (بالمثلثة): الضاوي الدقيق السيئ الغذاء؛ يقال أحثلت الصبي إذا أسأت غذاءه، و أحثله الدهر: أساء حانه.
3- كذا!.
4- حم فلان: أصابته الحمى.
5- في بعض «الأصول»: «واهنا» بالواو، و هو تحريف. و الراهن: الحاضر.

19 - أخبار علّويه و نسبه

نسب علويه و أصله:

هو عليّ بن عبد اللّه بن سيف(1). و كان جدّه من السّغد(2) الذين سباهم الوليد بن(3)/عثمان بن عفّان و استرقّ منهم جماعة اختصّهم بخدمته، و أعتق بعضهم، و لم يعتق الباقين فقتلوه. و ذكر ابن خرداذبه، و هو ممن لا يحصّل قوله و لا يعتمد عليه، أنّه من أهل يثرب مولى بني أميّة، و القول الأوّل أصحّ.

مهارته في الغناء و الضرب و بعض أخلاقه و نشأته و سبب وفاته:

و يكنى علّويه أبا الحسن. و كان مغنّيا حاذقا، و مؤدّبا محسنا، و صانعا متفنّنا، و ضاربا متقدّما، مع خفّة روح، و طيب مجالسة، و ملاحة نوادر. و كان إبراهيم الموصليّ علّمه و خرّجه و عني به جدّا، فبرع و غنّى لمحمد الأمين، و عاش إلى أيّام المتوكّل، و مات بعد إسحاق الموصليّ بمديدة يسيرة. و كان سبب وفاته أنّه خرج به جرب، فشكاه إلى يحيى ابن ماسويه، فبعث إليه بدواء مستهل و طلاء، فشرب الطّلاء، و اطّلى بالدواء المسهل، فقتله ذلك. و كان إسحاق يتعصب له في أكثر أوقاته على مخارق. فأمّا التقديم و الوصف فلم يكن إسحاق يرى أحدا من جماعته لهما(4) أهلا، فكانوا يتعصّبون عليه لإبراهيم بن المهديّ، فلا يضرّه ذلك مع تقدّمه و فضله.

رأي إسحاق الموصلي فيه و في مخارق:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال: قلت لأبي: أيّما أفضل عندك مخارق أو علّويه؟ فقال: يا بنيّ علّويه أعرفهما فهما بما يخرج من رأسه و أعلمهما بما يغنّيه و يؤدّيه، و لو خيّرت بينهما من يطارح جواريّ أو شاورني من يستنصحني لما أشرت إلاّ بعلّوية؛ لأنه كان يؤدّي الغناء، و صنع صنعة محكمة. و مخارق بتمكّنه من حلقه و كثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه؛ لأنه لا يؤدّي صوتا واحدا كما أخذه و لا يغنّيه مرّتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه. و لكنّهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس و الجائزة لطيب صوته و كثرة نغمه.

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه بن حمدون قال حدّثني أبي قال:

اجتمعت مع إسحاق يوما في بعض دور بني هاشم، و حضر علّويه فغنّى أصواتا ثم غنّى من صنعته:

ص: 226


1- كذا في كل «الأصول» و «مختصر الأغاني» لابن منظور. و كتب المرحوم الأستاذ الشنقيطي بهامش نسخته «يوسف» بدل «سيف».
2- السغد: ناحية كثيرة المياه. و البساتين و الأشجار بها قرى كثيرة بين بخارى و سمرقند، و ربما قيل فيها «الصغد» بالصاد. و يقال لسكان تلك الناحية سغد.
3- كذا في «ح» و «مختار الأغاني» و «نهاية الأرب». و في سائر الأصول: «سباهم عثمان بن الوليد زمن عثمان بن عفان» و هو تحريف. و المعروف في كتب «التاريخ» أن الذي فتح تلك النواحي سنة 56 ه هو سعيد بن عثمان بن عفان.
4- في الأصول الخطية: «لها».
صوت

و نبّئت ليلى أرسلت بشفاعة *** إليّ فهلاّ نفس(1) ليلى شفيعها

- و لحنه ثاني ثقيل - فقال له إسحاق: أحسنت و اللّه يا أبا الحسن! أحسنت ما شئت!. فقام علّويه من مجلسه فقبّل رأس إسحاق و عينيه و جلس بين يديه و سرّ بقوله سرورا شديدا، ثم قال: أنت سيدي و ابن سيّدي، و أستاذي و ابن أستاذي، و لي إليك حاجة. قال: قل، فو اللّه إني أبلغ فيها ما تحبّ. قال: أيّما أفضل عندك/أنا أو مخارق؟ فإني أحبّ أن أسمع منك في هذا المعنى قولا يؤثر و يحكيه عنك من حضر، فتشرّفني(2) به. فقال إسحاق: ما منكم إلاّ محسن مجمل، فلا ترد أن ترى في هذا شيئا. قال: سألتك بحقّي عليك و بتربية أبيك و بكلّ حقّ تعظّمه إلاّ حكمت. فقال: ويحك! و اللّه لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحبّ، فأمّا إذا أبيت إلاّ ما ذكرت فهاك ما عندي: فلو خيّرت أنا من يطارح جواريّ أو يغنّيني لما اخترت غيرك، و لكنّما إذا غنّيتما بين يدي خليفة أو أمير غلبك على إطرابه و استبدّ عليك بجائزته. فغضب علّويه و قام و قال: أفّ من رضاك و من غضبك!.

شاع له صوت كان الناس يظنونه لإسحاق:
اشارة

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال:

قدمت من سرّ من رأى قدمة إلى بغداد، /فلقيت أبا محمد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، فجعل يسألني عن أخبار الخليفة و أخبار الناس حتّى انتهى إلى ذكر الغناء، فقال: أيّ شيء رأيت الناس يستحسونه في هذه الأيّام من الأغاني، فإنّ الناس ربما لهجوا بالصوت بعد الصوت؟ فقلت: صوتا من صنعتك. فقال: أيّ شيء هو؟ فقلت:

صوت

ألا يا حمامي قصر دوران(3) هجتما *** بقلبي الهوى لمّا تغنّيتما ليا

و أبكيتماني وسط صحبي و لم أكن *** أبالي دموع العين لو كنت خاليا

فضحك و قال: ليس هذا لي، هذا لعلويه، و لقد لعمري أحسن فيه و جوّد ما شاء.

لحن علّويه في هذين البيتين ثاني ثقيل بالوسطى.

أتاه بعض أصحابه فأطعمهم و غناهم ألحانا له:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو قال حدّثني أحمد بن محمد بن عبد اللّه الأبزاريّ قال:

أتيت علّويه يوما بالعشيّ، فوجدت عنده خاقان بن حامد و عبد اللّه بن صالح صاحب المصلّى، و كنت حملت

ص: 227


1- هلا التي للتحضيض يليها الفعل؛ و لذلك تأوّل النحويون هذا البيت، فقيل هو على تقدير «كان» التي اسمها ضمير الشأن، و جملة «نفس ليلى شفيعها» خبرها. و قيل: «نفس ليلى» فاعل لفعل محذوف، و التقدير فهلا شفعت نفس ليلى، و يكون شفيعها خبرا لمحذوف، و التقدير: هي شفيعها أي نفسها شفيعها. على أن بعض النحويين يجيز مجيء الجمل الاسمية بعد أدوات التحضيض مستدلا بهذا البيت.
2- في «ب، س»: «فشرفني به».
3- دوران: موضع خلف جسر الكوفة كان به قصر لإسماعيل القسري أخي خالد بن عبد اللّه القسري أمير الكوفة. (عن «معجم البلدان» لياقوت).

معي قفص فراريج كسكريّة(1) مسمّنة و جرابي دقيق سميذ(2)، فسلّمته إلى غلامه، و بعث(3) إلى بشر بن حارثة:

أطعمنا ما عندك، فلم يزل يطعمنا فضلات حتى أدرك طعامه، ثم بعث إلى عبد الوهّاب بن الخصيب بن عمرو فحضر، و قدّم الطعام فأكل و أكلنا أكل معذّرين(4)، ثم قال: إنّي صنعت البارحة لحنا أعجبني، فاسمعوه و قولوا فيه ما عندكم، و غنّانا فقال:

صوت

هزئت عميرة أن رأت ظهري انحنى *** و ذؤابتي(5) علّت بماء خضاب

لا تهزئي منّي عمير فإنّني *** محض كريم شيبتي و شبابي

- لحن علّويه في هذين البيتين من الثقيل الثاني بالوسطي - فقلنا له: حسن و اللّه جميل يا أبا الحسن، و شربنا عليه(6) أقداحا. ثم استؤذن لعثعث غلام أحمد بن يحيى ابن معاذ، فأذن له، و مع عثعث كتاب من مولاه أحمد بن يحيى: سمعت يا سيّدي منك صوتا عند أمير المؤمنين (يعني المعتصم)، فأحبّ أن تتفضّل و تطرحه على عبدك عثعث. و هو:

صوت

فوا حسرتا لم أقض منك لبانة *** و لم أتمتّع بالجوار و بالقرب

يقولون هذا آخر العهد منهم *** فقلت و هذا آخر العهد من قلبي

لحن علّويه في هذا الشعر ثقيل أوّل، و هو من مقدّم أغانيه و صدورها. و أوّل هذا الصوت:

ألا يا حمام الشّعب شعب مورّق(7) *** سقتك الغوادي من حمام و من شعب

قال: و إذا مع حسين(8) رقعة من مولاه: سمعتك يا سيّدي تغنّي عند الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن المهديّ:

ألا يا حمامي قصر دوران هجتما *** بقلبي الهوى لمّا تغنّيتما ليا

أحبّ أن تطرحه على عبدك حسين. قال: فدعا بغلام له يسمّى عبد آل فطرحه عليهما حتى/أحكماه ثم عرضاه عليه حتّى صحّ لهما. فما أعلم أنّه مرّ لنا يوم يقارب طيب ذلك اليوم و حسنه.

وصف الواثق له:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:

ص: 228


1- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «دسكرية» و هو تحريف. و الفراريج الكسكرية: منسوبة إلى كسكر، و هي كورة كانت بين البصرة و الكوفة، و كانت قصبتها «واسط».
2- السميذ (بالدال و بالذال، و بالمعجمة أفصح): الحوّاري، و هو خالص الدقيق بعد استخراج ما فيه من نخالة.
3- كذا في «ج» و في «سائر الأصول»: «و بعثت».
4- المعذرون هنا: المقصرون الذين لم يبالغوا في الأكل.
5- في «ج»: «و ذوائبي».
6- زاد في «ج» هنا: «يومنا».
7- الرواية فيما تقدم (ج 6 ص 295 من طبعة دار الكتب): «شعب مراهق».
8- لم يتقدّم لحسين هذا ذكر في القصة.

سمعت أبي يقول سمعت الواثق يقول: علّويه أصحّ الناس صنعة بعد إسحاق، و أطيب الناس صوتا بعد مخارق، و أضرب الناس بعد ربرب و ملاحظ، فهو مصلّي كلّ سابق قادر، و ثاني كلّ أوّل و اصل متقدّم. قال: و كان الواثق يقول: غناء علّويه مثل نقر الطّست يبقى ساعة في السمع بعد سكوته.

خطأ إسحاق لحنا غناه عند المعتصم فردّ هو عليه:

نسخت من كتاب أبي العبّاس بن ثوابة بخطّة: حدّثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ قال:

/اجتمعت يوما بين يدي المعتصم و حضر إسحاق الموصليّ؛ فغنّى علّويه:

لعبدة دار ما تكلّمنا الدار *** تلوح مغانيها كما لاح أسطار(1)

فقال إسحاق: أخطأت فيه، ليس هو هكذا. فغضب علّويه و قال: أمّ من أخذنا عنه هكذا(2) زانية. فقال إسحاق:

و شتمنا قبحه اللّه، و سكت و بان ذلك فيه. قال: و كان علّويه أخذه من أبيه(3).

كان أعسر و عوده مقلوب الأوتار:

حدّثني عمّي قال حدّثنا هارون بن مخارق قال:

كان علّويه أعسر و كان عوده مقلوب الأوتار: البمّ أسفل الأوتار كلّها، ثم المثلث فوقه، ثم المثنى، ثم الزّبر، و كان عوده إذا كان في يد غيره مقلوبا على هذه الصفة، و إذا كان معه أخذه باليمنى و ضرب باليسرى، فيكون مستويا في يده و مقلوبا في يد غيره.

كان بينه و بين ابن أخته الخلنجي القاضي منازعة فغنى بشعره للمأمون فعزله عن القضاء:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال كان الخلنجيّ(4) القاضي، و اسمه عبد اللّه [بن محمد(5)]، ابن أخت علّويه المغنّي، و كان تيّاها صلفا، فتقلّد في خلافة الأمين قضاء الشّرقيّة(6)، فكان يجلس إلى أسطوانة من أساطين المسجد فيستند إليها بجميع جسده و لا يتحرّك، فإذا تقدّم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده و ترك الاستناد حتّى يفصل بينهما ثم يعود لحاله. فعمد بعض المجّان إلى رقعة من الرّقاع التي يكتب فيها الدّعاوى فألصقها/في موضع ذنبته(7) بالدّبق(8) و مكّن(9) منها الدّبق. فلمّا تقدّم إليه الخصوم و أقبل عليهم بجميع جسده كما كان يفعل انكشف رأسه و بقيت الذنبة موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخلنجيّ مغضبا و علم أنّها حيلة وقعت عليه، فغطّى

ص: 229


1- الأسطار: جمع سطر و هو الخط من الكتابة. و تشبيه آثار الديار بخطوط الكتاب مستفيض في الشعر العربي.
2- في «الأصول» هنا: «... هكذا في روايته». و التصويب مما تقدّم في «الأغاني» ج 5 ص 351 من طبعة دار الكتب.
3- زاد في «ج» هنا: «يعني من أبي إسحاق و هو إبراهيم الموصلي» بالمداد الأحمر، مما يدل على أنه من وضع قارئ للنسخة، فأثبتت هذه الزيادة في «ب، س».
4- في «الأصول»: ما عدا «ج»: «الخليجي» و هو تصحيف.
5- زيادة من «مختصر الأغاني».
6- الشرقية هنا: محلة بالجانب الغربي من بغداد.
7- كذا في «مختصر الأغاني». و في «الأصول»: «دنيته» و كذلك في الموضع الآتي. و ظاهر أنها كانت من غطاء الرأس.
8- الدبق: الغراء.
9- كذا في «مختصر الأغاني». و في «الأصول»: «بالدبق و تمكن منها. فلما تقدّم إلخ».

رأسه بطيلسانه و قام فانصرف و تركها مكانها، حتى جاء بعض أعوانه فأخذها. و قال بعض شعراء ذلك العصر فيه هذه الأبيات:

إنّ الخلنجيّ من تتايهه *** أثقل باد لنا بطلعته

ما إن لذي نخوة مناسبة(1) *** بين أخاوينه و قصعته

يصالح الخصم من يخاصمه *** خوفا من الجور في قضيّته

لو لم تدبّقه كفّ قانصه(2) *** لطارتيها(3) على رعيّته

قال: و شهرت الأبيات و القصّة ببغداد، و عمل له علّويه حكاية أعطاها للزفانين(4) و المخنّثين فأحرجوه فيها، و كان علّويه يعاديه لمنازعة كانت بينهما ففضحه، و استعفى الخلنجيّ من القضاء ببغداد و سأل أن يولّى بعض الكور البعيدة، فولّي جند دمشق أو حمص. فلمّا ولي/المأمون الخلافة غنّاه علّويه بشعر الخلنجيّ فقال:

برئت من الإسلام إن كان ذا الّذي *** أتاك به الواشون عنّي كما قالوا

/و لكنّهم لمّا رأوك غريّة(5) *** بهجري تواصوا بالنميمة و احتالوا

فقد صرت أذنا للوشاة سميعة *** ينالون من عرضي و إن شئت ما نالوا

فقال له المأمون: من يقول هذا الشعر؟ فقال: قاضي دمشق. فأمر المأمون بإحضاره، فكتب إلى صاحب دمشق بإشخاصه فأشخص، و جلس المأمون للشّرب و أحضر علّويه، و دعا بالقاضي فقال له: أنشدني قولك:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي *** أتاك به الواشون عني كما قالوا

فقال له: يا أمير المؤمنين هذه أبيات قلتها منذ أربعين سنة و أنا صبيّ، و الذي أكرمك بالخلافة و ورّثك ميراث النبوّة ما قلت شعرا منذ أكثر من عشرين سنة إلاّ في زهد أو عتاب صديق. فقال له: اجلس فجلس، فناوله قدح نبيذ التمر أو الزّبيب. فقال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين ما أعرف شيئا منها. فأخذ القدح من يده و قال: أما و اللّه لو شربت شيئا من هذا لضربت عنقك، و قد ظننت أنّك صادق في قولك كلّه، و لكن لا يتولّى لي القضاء رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام، انصرف إلى منزلك. و أمر علّويه فغيّر الكلمة و جعل مكانها «حرمت مناي منك».

ضربه الأمين بوشاية ابن الربيع ثم تقرّب بذلك إلى المأمون فلم ير منه ما يحب:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:

كان علّويه يغنّي بين يدي الأمين، فغنّى في بعض غنائه:

ليت هندا أنجزتنا ما تعد *** و شفت أنفسنا مما تجد

ص: 230


1- كذا في «الأصول الخطية». و في «ب، س»: «مناشبة» بالشين المعجمة. و الأخاوين: جمع خوان (بضم أوله و كسره) و هو ما يؤكل عليه الطعام.
2- في «ب، س»: «قابضه» و هو تصحيف. و التدبيق: صيد الطائر بالدبق و هو الغراء يلزق بجناح الطائر فيصاد به. يقال: دبقه (من باب ضرب) و دبقه (بالتضعيف).
3- في «الأصول»: «منها». و التصويب من «مختصر الأغاني».
4- الزفانون: الرقاصون.
5- غرية: مولعة. و في «الطبري» (القسم الثالث صفحة 1150): «سريعة. إليّ».

و كان الفضل بن الربيع يطعن عليه، فقال للأمين: إنّما يعرّض بك و يستبطئ المأمون في محاربته؛ فأمر به فضرب خمسين سوطا و جرّ برجله، و جفاه مدّة، /حتى ألقى نفسه على كوثر فترضّاه له و ردّ إلى خدمته، و أمر له بخمسة آلاف دينار. فلمّا قدم المأمون تقرّب إليه بذلك، فلم(1) يقع له بحيث يحبّ، و قال له: إنّ الملك بمنزلة الأسد أو النار، فلا تتعرّض لما يغضبه، فإنه ربّما جرى منه ما يتلفك ثم لا تقدر بعد ذلك على تلافي ما فرط منه(2)، و لم يعطه شيئا.

غضب الأمين على إبراهيم الموصلي بعد موته لتقديم اسم المأمون عليه في شعره و ترضاه ابنه إسحاق:

و مثل هذا من فعل الأمين، ما حدّثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال:

دخلت على الأمين فرأيته مغضبا كالحا، فقلت له: ما لأمير المؤمنين - تمّم اللّه سروره و لا نغّصه(3) - أراه كالحائر؟ قال: غاظني أبوك الساعة لا رحمه اللّه! و اللّه لو كان حيا لضربته خمسمائة سوط، و لولاك لنبشت الساعة قبره و أحرقت عظامه. فقمت على رجلي و قلت: أعوذ باللّه من سخطك يا أمير المؤمنين! و من أبي و ما مقداره حتّى تغتاظ منه! و ما الذي غاظك فلعلّ له فيه عذرا؟ فقال: شدّة محبّته للمأمون و تقديمه إيّاه حتّى قال في الرشيد شعرا يقدّمه فيه عليّ و غنّاه فيه، و غنّيته الساعة فأورثني هذا الغيظ. فقلت: و اللّه ما سمعت بهذا قطّ و لا لأبي غناء إلاّ و أنا أرويه، ما هو؟ فقال: قوله:

/

أبو المأمون فينا و الأمين *** له كفنان من كرم و لين

فقلت له: يا أمير المؤمنين لم يقدّم المأمون في الشعر لتقديمه إياه في الموالاة، و لكنّ الشعر لم يصحّ وزنه إلاّ هكذا. فقال: كان ينبغي له إذ لم يصحّ الشعر إلاّ هكذا أن يدعه إلى لعنة اللّه. فلم أزل أداريه و أرفق به حتى سكن.

فلمّا قدم المأمون سألني عن هذا الحديث فحدّثته به، فجعل يضحك و يعجب منه.

مدحه عبد اللّه بن طاهر:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:

سمعت أبي يقول: لو خيّرت لونا من الطّعام لا أزيد عليه غيره لاخترت الدّرّاجة(4)؛ لأني إن زدت في خلّها صارت سكباجة(5)، و إن زدت في مائها صارت إسفيدباجة باجة(6)، و إن زدت في تصبيرها بل في تشييطها صارت

ص: 231


1- في «الأصول»: «و لم» بالواو.
2- في ب، س: «منك» و هو تحريف.
3- في «ج، ب، من»: «و لا نقصه» بالقاف.
4- الدراج (بالضم): ضرب من طير العراق أسود باطن الجناحين و ظاهرهما أغبر، على خلقة القطا إلا أنه ألطف. و جعله الجاحظ من أقسام الحمام لأنه يجمع فراخه تحت جناحيه كما يجمع الحمام.
5- السكباج: مرق يعمل من اللحم و الخل، معرب «سكبا» مركب من «سك» أي خل، و من «با» أي طعام. (عن كتاب الألفاظ الفارسية المعربة»).
6- الاسفيدباجة: لون من الطعام يتكوّن من البصل و الزبدة و من أشياء أخرى. (عن «القاموس الفارسي الإنكليزي» لاستنجاس). و يبدو أن هذا التعريف لا يتفق مع ما يدل عليه سياق العبارة هنا، فإنه يدل على أنها تصير ضربا من الحساء.

مطجّنة(1). و لو اقتصرت على رجل واحد لما اخترت سوى علّويه؛ لأنه إن حدّثني ألهاني، و إن غنّاني أشجاني، و إن رجعت إلى رأيه كفاني.

حضر عند سعيد بن عجيف فأكرمه ثم طلبه عجيف:
اشارة

حدّثني عمي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد الأبزاريّ قال:

كنت عند سعيد بن عجيف أنا و عبد الوهّاب بن الخصيب و عبد اللّه بن صالح صاحب المصلّى، إذ دخل عليه حاجبه فقال له: علّويه بالباب، فأذن له فدخل. فقال له: لا تحمدني فإنّي لم يجئني رسول رجل اليوم، فعرضت إخواني جميعا على قلبي فلم يقع عليه غيرك. فدعا له ببرذون ادهم بسرجه و لجامه فأهداه إليه، و جلسنا نشرب و علّويه يغنّي. فلمّا توسّطنا أمرنا جاء رسول عجيف(2) يطلبه في منزله، فقالوا له: هو عند ابنه سعيد. فأتاه الرسول فقال له: أجب الأمير. فقلنا: هذا شيء ليس فيه حيلة. و قد جاء الرسول و هو يغنّي:

صوت

أ لم تر أنّي يوم جوّ سويقة(3) *** بكيت فنادتني هنيدة ماليا

فقلت لها إنّ البكاء لراحة *** به يشتفي من ظنّ أن لا تلاقيا

- لحن علّويه في هذا رمل. و الشعر للفرزدق - قال: فقام علّويه ثم قال: هو ذا، أمضى إلى الأمير فأحدّثه بحديثنا و أستأذنه في الانصراف بوقت يكون فيه فضل لكم. فانصرف بعد المغرب و معه جام، فيه مسك و عشرة آلاف درهم و منيان(4) فيهما رماطون(5)، فقال: جئت أشرب عندكم، و آخذه(6) و أنصرف إلى إنسان له عندي أياد (يعني عليّ بن معاذ أخا يحيى بن معاذ) فلم يزل عندنا حتّى همّ بالانصراف. فلمّا رأيت ذلك فيه قمت قبله فأتيت منزل عليّ بن معاذ، فقيل له: ابن الأبزاريّ بالباب. فبعث إليّ: إن أردت مضاء فخذه (يعني غلاما كان يغنّي)، فقلت له:

لست أريده، إنّما أريدك أنت، فأذن لي فدخلت. فقال: أ لك حاجة في هذا الوقت؟ فقلت: الساعة يجيئك علّويه.

فقال: و ما يدريك؟ فحدّثته بالحديث. و دخل علّويه، فقال لي: ما جاء بك إلى هاهنا فقلت(7): ما كنت لأدع بقيّة ليلتي هذه تضيع، فما زال يغنّينا و نشرب حتى نام الناس ثم انصرفنا.

فضله عمرو بن بانة على نفسه:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثنا هارون بن مخارق قال حدّثني أبي قال:

ص: 232


1- مطجنة: مقلوة بالطاجن.
2- هو عجيف بن عنبسة أحد رجالات دولة بني العباس و من قوّاد المعتصم. (راجع «الطبري أوربا القسم الثالث صفحة 1166-168 و 1256-1258 و 1364-1266).
3- جوّ سويقة: من جواء الصمان. (عن «معجم البلدان» لياقوت).
4- المنى: مكيال يكيلون به السمن و غيره. و تثنيته منون و منيان، و الأوّل أعلى، و جمعه أمناء. و بنو تميم يقولون منّ (بتشديد النون) و منان و أمنان.
5- كذا في «ج». و أحسب أن الصواب: «فيهما رساطون». و الرساطون: ضرب من الشراب يتخذ من الخمر و العسل، رومي معرب. و في «سائر الأصول»: «فيهما رمان». و ظاهر أنه تحريف.
6- مرجع الضمير ما كان معه من الجام و ما نسق عليه.
7- في «الأصول»: «فقال» و سياق الكلام يأباه.

/قلت لعمرو بن بانة: أيّما أجود صنعتك أم صنعة علّويه؟ فقال: صنعة علّويه، لأنه ضارب و أنا مرتجل. ثم أطرق ساعة و قال: لا أكذبك يا أبا المهنّأ و اللّه ما أحسن/أن أصنع مثل صنعة علّويه.

فوا حسرتا لم أقض منك لبانة *** و لم أتمتّع بالجوار و بالقرب

و لا مثل صنعته:

هزئت أميمة أن رأت ظهري انحنى *** و ذؤابتي علّت بماء خضاب

و لا مثل صنعته:

ألا يا حمامي قصر دوران هجتما *** لقلبي الهوى لمّا تغنّيتما ليا

و قد مضت نسبة هذه الأصوات.

غنى في شعر هجى به عليّ بن الهيثم فأغرى الفضل بن الربيع بن الأمين حتى ضربه ثم رضي عنه:

حدّثني جحظة قال حدّثني أحمد بن الحسين بن هشام أبو عبد اللّه قال حدّثني أحمد بن الخليل بن هشام قال:

كان بين علّويه و بين عليّ بن الهيثم جونقا شرّ في عربدة وقعت بينهما بحضرة الفضل بن الربيع و تمادى الشرّ بينهما، فغنّى علّويه في شعر هجاه به أبو يعقوب(1) في حاجة، فهجاه و ذكر أنه دعيّ. و كان جونقا يدّعي أنّه من بني تغلب، فقال فيه أبو يعقوب:

يا عليّ بن هيثم يا جونقا *** أنت عندي من الأراقم(2) حقّا

عربيّ و جدّه نبطيّ! *** فدبنقا لذا الحديث دبنقا(3)

/قد أصابتك في التقرّب عين *** فاستنارت لشهبها الفلك برقا(4)

و إذا قال إنني عربيّ *** فانتهزه و قل له أنت شفقا

- و للخريميّ فيه أهاج كثيرة نبطيّة - فغنّى علّويه لحنا صنعه في هذه الأبيات بحضرة الأمين، و كان الفضل بن الربيع حاضرا فقال: يا أمير المؤمنين عليّ بن الهيثم كابني، و إذا استخفّ به فإنّما استخفّ بي. فقال الأمين:

خذوه، فأخذوه و ضرب ثلاثين درّة، و أمر بإخراجه. فطرح علّويه نفسه على كوثر فاستصلح له الفضل بن الربيع، و ترضّى له الأمين حتى رضي عنه و وهب له خمسة آلاف دينار.

ص: 233


1- هو أبو يعقوب إسحاق بن حسان بن قوهى الشاعر المعروف بالخريمي. نزل بغداد و أصله من خراسان من أبناء السفد، و كان متصلا بخريم بن عامر المري و آله فنسب إليه. و قيل: كان اتصاله بعثمان بن خريم. و كان عثمان هذا قائدا جليلا و سيدا شريفا. و من شعر الخريمي: رسا بالصغد أصل بني أبينا و أفرعنا بمرو الشاهجان و كم بالصغد لي من عم صدق و خال ماجة بالجوزجان و كان شاعرا مجيدا من شعراء الدولة العباسية، توفي سنة 200 ه.
2- الأراقم هنا: حيّ من تغلب.
3- تظهر أن هذه الكلمة نبطية، و كذلك كلمة «شفقا» الآتية.
4- كذا ورد هذا الشطر في «ب، س» و في «ج»: «فشاب لها العلك برقا». و في «أ، م»: «فسارب العلك برقا». و كل ذلك غير واضح و لا مستقيم.
ادعى أنه لو شاء جعل الغناء كالجوز فرد عليه إسحاق بما أخجله:
اشارة

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني مخارق قال:

غنّى علّويه يوما بحضرة الواثق هذا الصوت:

صوت

من صاحب الدّهر لم يحمد تصرّفه *** عنا(1) و للدّهر إحلاء و إمرار

- و لحنه ثقيل أوّل - فاستحسنه الواثق و طرب عليه. فقال علّويه: و اللّه لو شئت لجعلت الغناء في أيدي الناس أكثر من الجوز، و إسحاق حاضر بين يدي الواثق، فتضاحك ثم قال: يا أبا الحسن، إذا تكون قيمته مثل قيمة الجوز، ليتك إذ قلّلته(2) صنعت شيئا، فكيف إذا كثّرته!. فخجل علّويه حتى كأنّما ألقمه إسحاق حجرا، و ما انتفع بنفسه يومئذ.

ترك موعد المأمون ليذهب إلى عريب ثم غناه بما صنعاه فاستظرفه:
اشارة

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال حدّثني عبد اللّه الهشاميّ قال:

/قال لي علّويه: أمرنا المأمون أنّ نباكره لنصطبح، فلقيني عبد اللّه بن إسماعيل المراكبيّ مولى عريب، فقال:

أيها الظالم المعتدي أ ما ترحم و لا ترقّ، عريب هائمة من الشّوق إليك تدعو اللّه و تستحكمه عليك و تحلم بك في نومها في كلّ ليلة ثلاث مرّات. قال علّويه: فقلت/أمّ الخلافة زانية، و مضيت معه. فحين دخلت قلت: استوثق من الباب، فأنا أعرف الناس بفضول الحجّاب، فإذا عريب جالسة على كرسيّ تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلمّا رأتني قامت فعانقتني و قبّلتني و قالت: أيّ شيء تشتهي؟ فقلت: قدرا من هذه القدور، فأفرغت قدرا بيني و بينها فأكلنا، و دعت بالنّبيذ فصبّت رطلا فشربت نصفه و سقتني نصفه، فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر. ثم قالت: يا أبا الحسن، غنّيت البارحة في شعر لأبي العتاهية أعجبني، أ فتسمعه منّي و تصلحه؟ فغنّت:

صوت

عذيري من الإنسان لا إن جفوته *** صفا لي و لا إن صرت طوع يديه

و إنّي لمشتاق إلى ظلّ صاحب *** يروق و يصفو إن كدرت عليه

فصيّرناه مجلسا. و قالت: قد بقي فيه شيء، فلم(3) أزل أنا و هي حتى أصلحناه. ثم قالت: و أحبّ أن تغنّي أنت فيه أيضا لحنا، ففعلت. و جعلنا نشرب على اللّحنين مليّا. ثم جاء الحجّاب فكسروا الباب و استخرجوني، فدخلت إلى المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان و أصفّق و أغنّي بالصوت، فسمع المأمون و المغنّون ما لم يعرفوه فاستظرفوه، و قال المأمون: ادن يا علّويه و ردّه(4)، فرددته عليه سبع مرّات. فقال لي في آخرها عند قولي:

يروق و يصفو إن كدرت عليه

ص: 234


1- في «ج، ب، س»: «عني». و في «أ»، م»: «عينا». و الظاهر أنه العناء (بالمد) و هو النصب و المشقة، فقصره الشاعر.
2- في «الأصول»: «ليتك إذا قلته... فكيف إذا كسرته» و هو تحريف.
3- في «الأصول»: «لم أزل» بدون الفاء.
4- يقال: ردّ القول تردادا إذا كرره، مثل ردّده.

/يا علّويه خذ الخلافة و أعطني هذا الصاحب.

لحن عريب في هذا الشعر رمل. و فيه لعلّويه لحنان: ثاني ثقيل، و ماخوريّ.

سمع منه إبراهيم بن المهدي صوتين فحسده:
اشارة

و قال العتّابيّ حدّثني أحمد بن حمدون قال:

غاب عنّا علّويه مدّة ثم صار إلينا. فقال له إبراهيم بن المهديّ: ما الذي أحدثت بعدي من الصّنعة يا أبا الحسن؟ قال: صنعت صوتين. قال: فهاتهما إذا؛ فغنّاه:

صوت

ألا إنّ لي نفسين نفسا تقول لي *** تمتّع بليلى ما بدا لك لينها

و نفسا تقول استبقى ودّك و اتّئد *** و نفسك لا تطرح على من يهينها

- لحن علّويه في هذين البيتين خفيف ثقيل - قال: فرأيت إبراهيم بن المهديّ قد كاد يموت من حسده و تغيّر لونه، و لم يدر ما يقول له؛ لأنه لم يجد في الصوت مطعنا، فعدل عن الكلام في هذا المعنى و قال: هذا يدلّ على أن ليلى هذه كانت من لينها مثل الموم(1) بالبنفسج، فسكت علّويه. ثم سأله عن الصوت الآخر، فغنّاه.

صوت

إذا كان لي شيئان يا أمّ مالك *** فإنّ لجاري منهما ما تخيّرا

و في واحد إن لم يكن غير واحد *** أراه له أهلا إذا كان مقترا

- و الشعر لحاتم الطائيّ. لحن علّويه في هذين البيتين أيضا خفيف ثقيل. و قد روي أنّ إبراهيم الموصليّ صنعه و نحله إيّاه، و أنا أذكر خبره بعقب هذا الخبر - قال أحمد(2) بن حمدون: فأتى و اللّه بما برّز على الأوّل و أوفى عليه، و كاد إبراهيم يموت غيظا/و حسدا لمنافسته/في الصّنعة و عجزه عنها. فقال له: و إن كانت لك امرأتان يا أبا الحسن حبوت جارك منهما واحدة؟ فخجل علّويه و ما نطق بصوت بقية يومه.

نحله إبراهيم الموصلي صوتا فلم يظهره إلا أمام المأمون:

و حدّثني عمّي عن عليّ بن محمد بن جدّه حمدون هذا الخبر، و لفظه أقلّ من هذا.

فأمّا الخبر الذي ذكرته عن علّويه أنّ إبراهيم الموصليّ نحله هذا الصوت. فحدّثني جحظة قال حدّثني ابن المكيّ المرتجل و هو محمد بن أحمد بن يحيى قال حدّثني علّويه قال:

قال إبراهيم الموصليّ يوما: إنّي قد صنعت صوتا و ما سمعه منّى أحد بعد، و قد أحببت أن أنفعك و أرفع منك بأن ألقيه عليك و أهبه لك، و و اللّه ما فعلت هذا بإسحاق قطّ و قد خصصتك به، فانتحله و ادّعه، فلست أنسبه إلى نفسي و ستكسب به مالا. فألقى عليّ قوله:

ص: 235


1- الموم هنا: الشمع.
2- في «الأصول هنا»: «إبراهيم بن حمدون» و هو تحريف.

إذا كان لي شيئان يا أمّ مالك *** فإنّ لجاري منهما ما تخيّرا

فأخذته و ادّعيته و سترته طول أيّام الرشيد خوفا من أن أتّهم فيه و طول أيّام الأمين حتى حدث عليه ما حدث. و قدم المأمون من خراسان و كان يخرج إلى الشمّاسيّة(1) دائما يتنزّه، فركبت في زلاّل(2) و جئت أتبعه، فرأيت حرّاقة عليّ بن هشام، فقلت للملاّح: اطرح زلالي على الحرّاقة ففعل، و استؤذن لي فدخلت و هو يشرب مع الجواري - و ما كانوا يحجبون جواريهم في ذلك الوقت ما لم يلدن - فإذا بين يديه متيّم و بذل [من] جواريه، فغنّيته الصوت فاستحسنه جدّا و طرب عليه و قال: لمن هذا؟ فقلت: هذا صوت صنعته و أهديته لك، و لم يسمعه أحد قبلك، فازداد به/عجبا و طربا و قال لها: خذيه(3) عنه، فألقيته عليها حتى أخذته، فسرّ بذلك و طرب، و قال لي(4): ما أجد لك مكافأة على هذه الهديّة إلاّ أن أتحوّل عن هذه الحرّاقة بما فيها و أسلّمه إليك أجمع. فتحوّل إلى أخرى، و سلّمت الحرّاقة بخزانتها و جميع آلاتها إليّ و كلّ شيء فيها، فبعت ذلك بمائة و خمسين ألف درهم و اشتريت بها ضيعتي الصالحيّة.

غنى المأمون لحنا في بيت لم يعرفه أحد ثم عرف بعد:

حدّثني جحظة قال حدّثني ابن المكيّ المرتجل عن أبيه قال قال(5) إسحاق بن حميد كاتب أبي الرازيّ، و حدّثني به عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني حسّان بن محمد الحارثيّ عن إسحاق بن حميد كاتب أبي الرازيّ قال:

غنّى علّويه الأعسر يوما بين يدي المأمون(6)

تخيّرت من نعمان عود أراكة *** لهند فمن هذا يبلّغه هندا

فقال المأمون: اطلبوا لهذا البيت ثانيا فلم يعرف، و سأل كلّ من بحضرته من أهل الأدب و الرّواة و الجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد. فقال إسحاق بن حميد: لمّا رأيت ذلك عنيت بهذا الشعر و جهدت في المسألة و طلبته ببغداد عند كلّ متأدّب و ذي معرفة فلم يعرفه. و قلّد المأمون أبا الرازيّ كور دجلة و أنا أكتب له، ثم نقله إلى اليمامة و البحرين. قال إسحاق بن حميد: فلمّا خرجنا ركبت مع أبي الرازيّ في بعض اللّيالي(7) على حمارة، فابتدأ الحادي يحدو بقصيدة طويلة، و إذا البيت الذي كنت أطلبه، فسألته عنها فذكر أنها للمرقّش الأكبر، فحفظت منها هذه الأبيات:

/

خليليّ عوجا بارك اللّه فيكما *** و إن لم تكن هند لأرضكما قصدا

/و قولا لها ليس الضّلال أجازنا *** و لكنّنا جزنا لنلقاكم عمدا

ص: 236


1- الشماسية هنا: من ضواحي بغداد.
2- الزلال: ضرب من الزوارق.
3- الخطاب لإحدى الجاريتين.
4- كذا في «نهاية الأرب». و في «الأصول»: «و قال ما لي ما أجد لك...».
5- في «الأصول»: «كان» و هو تحريف.
6- زيد في «ج» هنا: «قال» و في «سائر الأصول»: «فقال». و ظاهر أنه لا مقتضى لهذه الكلمة هنا.
7- في «ج»: «... في بعض الليالي قبة على حمارة».

تخيّرت من نعمان عود أراكة *** لهند فمن هذا يبلغه هندا

و أنطيته(1) سيفي لكيما أقيمه *** فلا أودا فيه استبنت و لا خضدا(2)

ستبلغ هندا إن سلمنا قلائص(3) *** مهاري يقطّعن الفلاة بنا وخدا

فلمّا أنحنا العيس(4) قد طار سيرها *** إليهم وجدناهم لنا بالقرى حشدا(5)

فناولتها المسواك و القلب خائف *** و قلت لها يا هند أهلكتنا وجدا

فمدّت يدا في حسن دلّ تناولا *** إليه و قالت ما أرى مثل ذا يهدى

و أقبلت كالمجتاز أدّى رسالة *** و قامت تجرّ الميسنانيّ(6) و البردا

تعرّض للحيّ الذين أريدهم(7) *** و ما التمست إلاّ لتقتلني عمدا

فما شبه هند غير أدماء(8) خاذل *** من الوحش مرتاع مراع طلا فردا

/قال: فكتب بها إلى المأمون فاستحسنت و رويت، و أمر علّويه فصنع في البيتين الأوّلين منها غناء يشبه(9).

أغاني علّويه في هذه الأبيات: اللحن(10) الأوّل في قوله:

تخيّرت من نعمان عود أراكة

غنّاه علّويه و ليس اللحن له، اللحن لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر. و لحنه الثاني الذي أمره أن يصنعه في:

خليليّ عوجا بارك اللّه فيكما

رمل.

دفع إلى المعتصم رقعة في أمر رزقه ثم غناه بشعر لابن هرمة:
اشارة

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:

ص: 237


1- أنطى: لغة في أعطي. يريد أنه عرض العود على السيف ليقيم به أوده، فلم يستبن فيه أودا و لا كسرا.
2- في الأصول: «و لا حصدا» بحاء و صاد مهملتين. و هو تصحيف. و الخضد: كسر العود من غير أن يبين.
3- قلائص: جمع قلوص. و القلوص من الإبل: الشابة. و المهاري (بفتح الراء و كسرها): جمع مهرية، نسبة إلى مهرة بن حيدان، حيّ من العرب.
4- العيس من الإبل: البيض يخالط بياضها شقرة، واحدها أعيس و عيساء.
5- الحشد (بالفتح، و مثله الحشد بالتحريك): الجماعة المحتشدون.
6- الميسناني: ضرب من الثياب منسوب إلى ميسان، و هي كورة من كور دجلة بسواد العراق بين البصرة و واسط، و النسبة إليها «ميساني» على القياس، و «ميسناني» بزيادة نون.
7- كذا في الأصول. و لعل صوابه: «أديرهم» أي أدوارهم و أحارفهم.
8- الأدمة في الظباء و النوق: لون مشرب بياضا. و الخاذل من الظباء: التي تتخلف عن صواحبها و تنفرد، أو أقامت على ولدها. و مراع: وصف من راعاه يراعيه إذا حفظه أو رعي معه. و الطلا هنا: ولد الظبية.
9- كذا في الأصول الخطية. و في الكلام حذف. و لعل تقديره: «يشبه اللحن الأوّل» و هو اللحن الذي في قوله: تخيرت من نعمان عود أراكة و في ب، س: «شبه أغاني علوية...». و ظاهر أن «أغاني علوية في هذه الأبيات» عنوان لما بعده.
10- في ب، س: «و اللحن الأول...» بزيادة الواو.

عرض علّويه على المعتصم رقعة في أمر رزقه و إقطاعه و هو يشرب دفعها إليه من يده، فلمّا أخذها اندفع علّويه يغنّي:

صوت

إنّي استحيتك أن أفوه بحاجتي *** فإذا قرأت صحيفتي فتفهّم

و عليك عهد اللّه إن خبّرته *** أحدا و لا أظهرته بتكلّم

فقرأ المعتصم الرّقعة و هو يضحك، ثم وقّع له فيها بما أراد.

الشعر لابن هرمة كتب به إلى بعض آل أبي طالب و هو إبراهيم بن الحسن يطلب منه نبيذا و قد خرج هو و أصحابه إلى السّيالة(1)، فكتب إليه البيت الأوّل على ما رويناه، و الثاني غيّره المغنّون، و هو:

/

و عليك عهد اللّه إن أعلمته *** أهل السّيالة إن فعلت و إن لم

فلمّا قرأت الرّقعة قال: عليّ عهد اللّه إن لم أعلم به عامل السّيالة. [و كتب إلى عامل السّيالة(2)]: إنّ ابن هرمة و أصحابا له سفهاء يشربون بالسّيالة، فاركب إليهم، حتّى تأخذهم، فركب إليهم و نذروا(3) به، فهرب، و قال يهجو إبراهيم:

كتبت إليك أستهدي نبيذا *** و أدلي بالمودّة و الحقوق(4)

فخبّرت الأمير بذاك جهلا(5) *** و كنت أخا مفاضحة و موق(6)

حدّثني بذلك الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير. و قد ذكرته في أخبار ابن هرمة(7). و الغناء لعبادل.

غنى هو و مخارق معترضين بفرس كميت للمعتصم فأعطاهما غيره:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني موسى بن هارون الهاشميّ قال/حدّثني أبي قال:

كنت واقفا بين يدي المعتصم و هو جالس على حير(8) الوحش و الخيل تعرض عليه و هو يشرب و بين يديه علّويه و مخارق يغنّيان، فعرض عليه فرس كميت أحمر ما رأيت مثله قطّ، فتغامز علّويه و مخارق، و غنّاه علّويه:

و إذا ما شربوها و انتشوا *** وهبوا كلّ جواد و طمرّ(9)

ص: 238


1- السيالة: أرض يطؤها طريق الحاج، قيل هي أوّل مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
2- التكملة من «الأغاني» فيما تقدّم (ج 6 ص 98 من طبعة دار الكتب). و قد وردت هذه القصة هناك منسوبة إلى «حسن بن حسن بن علي» و قد كتب هناك بأن هذه القصة لا يمكن أن تكون مع حسن بن حسن لتقدّم عصره على عصر ابن هرمة، بل الصحيح أنها كانت مع ابنه إبراهيم. (راجع الحاشية الثانية من تلك الصفحة).
3- نذر به: علم به.
4- الرواية فيما تقدّم: «بالجوار و بالحقوق».
5- الرواية فيما تقدّم: «غدرا».
6- الموق هنا: الحمق في غباوة.
7- لم يذكره في أخبار ابن هرمة، و إنما ذكره في أخبار «عبادل». ج 6 ص 98 و ما بعدها من طبعة دار الكتب.
8- لم أقف على هذا الموضع. و من معاني الحير في اللغة البستان.
9- الطمرّ من الخيل: الجواد.

/فتغافل عنه. و غنّاه مخارق:

يهب البيض كالظّباء و جردا(1) *** تحت أجلالها و عيس الرّكاب

فضحك ثم قال: اسكتا يا ابني الزّانيتين، فليس يملكه و اللّه واحد منكما. قال: ثم دار الدّور، فغنّى علّويه:

و إذا ما شربوها و انتشوا *** وهبوا كلّ بغال و حمر

فضحك و قال: أمّا هذا فنعم، و أمر لأحدهما ببغل و للآخر بحمار.

اجتمع مع أصحاب له عند زلبهزة و معهم هاشمي حصلوا منه بحيلة على مال:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد الأبزاريّ قال:

كنّا عند زلبهزة(2) النخّاس، و كانت عنده جارية يقال لها خشف ابتاعها من علّويه، و ذلك في شهر رمضان، و معنا رجل هاشميّ من ولد عبد الصّمد بن عليّ يقال له عبد الصمد، و إبراهيم بن عمرو بن نهبون و كان يحبّها، فأعطى بها زلبهزة أربعة آلاف دينار فلم يبعها منه، و بقيت معه حتى توفّيت، فغنّيتنا أصواتا كان فيها:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها *** إشارة محزون و لم تتكلّم

فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا *** و أهلا و سهلا بالحبيب المسلّم(3)

و أبرزت طرفي نحوها لأجيبها *** و قلت لها قول امرئ غير معجم(4)

هنيئا لكم قتلي وصفوا مودّتي *** و قد سيط(5) في لحمي هواك و في دمي

- الغناء لابن عائشة ثقيل أوّل عن الهشامي - قال: فلما وثبنا للانصراف قال لنا و قد اشتدّ الحرّ: أقيموا عندي.

فوجّهت غلاما معي و أعطيته دينارا و قلت له ابتع/فراريج بعشرة دراهم و ثلجا بخمسة دراهم و عجّل، فجاء بذلك فدفعه إلى زلبهزة و أمره بإصلاح الفراريج ألوانا، و كتبت إلى علّويه فعرّفته خبرنا، فجاءنا و أقام، و أمطرنا عند زلبهزة، و شرب منّا من كان يستجيز الشراب، و غنّى علّويه لحنا ذكر أنه لابن سريج ثقيل أوّل، فاستغربه(6)الجماعة، و هو:

صوت

يا هند إنّ الناس قد أفسدوا *** ودّك حتى عزّني المطلب

يا ليت من يسعى بنا كاذبا *** عاش مهانا في أذى يتعب

هبيه ذنبا كنت أذنبته *** قد يغفر اللّه لمن يذنب

و قد شجاني و جرت دمعتي *** أن أرسلت هند و هي تعتب

ص: 239


1- الجرد من الخيل: القصيرات الشعر، و هو مدح فيها، الواحد أجرد و جرداء. و عيس الركاب: النوق البيض.
2- كذا ورد هذا الاسم في الأصول. و ورد في «مختصر الأغاني» مرة «زليهدة»، و مرة «زلهدة». و لم نهتد لوجه الصواب فيه.
3- في هامش أ: «المتيم» رواية أخرى.
4- المعجم: الذي لا يفصح في كلامه. و في ج، ب، س: «غير مفحم» و المفحم هنا: العيي.
5- سيط: خلط و مزج، يقال: ساط الشيء يسوطه إذا ضربه فخلط بعضه ببعض.
6- في ب، س: «فاستعذبه».

ما هكذا عاهدتنا(1) في منى *** ما أنت إلاّ ساحر تخلب

حلفت لي باللّه لا تبتغي *** غيرك ما عشت و لا نطلب(2)

/قال: و قام عبد الصمد الهاشميّ ليبول. فقال علّويه: كلّ شيء قد عرفت معناه: أمّا أنت فصديق الجماعة، و هذا يتعشّق هذه، و هذا مولاها، و أنا ربّيتها و علّمتها، و هذا الهاشميّ أيش معناه!. فقلت لهم: دعوني أحكّه(3) و آخذ لزلبهزة منه شيئا. فقال: لا و اللّه ما أريد. فقلت له: أنت أحمق، أنا آخذ منه شيئا لا يستحي القاضي من أخذه.

فقال: إن كان هكذا فنعم. فقلت له إذا جاء عبد الصمد فقل لي: ما فعل الآجرّ الذي وعدتني به، فإنّ حائطي قد مال و أخاف أن يقع، و دعني و القصّة. /فلمّا جاء الهاشميّ قال لي زلبهزة ما أمرته به، فقلت: ليس عندي آجرّ، و لكن اصبر(4) حتّى أطلب لك من بعض أصدقائي، و جعلت انظر إلى الهاشميّ نظر متعرّض به. قال الهاشمي: يا غلام دواة و رقعة، فأحضر ذلك. فكتب له بعشرة آلاف آجرّة إلى عامل له، و شربنا حتّى السّحر و انصرفنا. فجئت برقعته إلى الآجري ثم قلت: بكم تبيعه الآجرّ؟ فقال: بسبعة و عشرين درهما الألف. قلت: فبكم تشتريه منّي؟ قال:

بنقصان ثلاثة دراهم في الألف. فقلت: فهات، فأخذت منه مائتين و أربعين درهما، و اشتريت منها نبيذا و فاكهة و ثلجا و دجاجا بأربعين درهما، و أعطيت زلبهزة مائتي درهم و عرّفته الخبر، و دعونا علّويه و الهاشمي و أقمنا عند زلبهزة ليلتنا الثانية. فقال علّوية: نعم! الآن صار للهاشميّ عندكم موضع و معنى.

هو مصلى كل سابق في الصنعة و الضرب و طيب الصوت:

أخبرني جحظة قال حدّثني أحمد بن حمدون قال حدّثني أبي قال:

قال لنا الواثق يوما: من أحذق الناس بالصّنعة؟ قلنا إسحاق. قال: ثم من؟ قلنا: علّويه. قال: فمن أضرب الناس؟ قلنا: ثقيف(5). قال: ثم من؟ قلنا: علّويه. قال: فمن أطيب الناس صوتا؟ قلنا: مخارق. قال ثم من؟ قلنا: علّويه. قال: اعترفتم له بأنه مصلّي كلّ سابق، و قد جمع الفضائل كلّها و هي متفرّقة فيهم، فما ثمّ ثان لهذا الثالث(6).

غنى المأمون في دمشق بما أسرّه فغضب عليه و شتمه:

و حدّثني جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد المكيّ المرتجل قال حدّثني أبي قال:

دخلت إلى علّويه أعوده من علّة اعتلّها ثم عوفي منها، فجرى حديث المأمون، فقال لي: كدت - علم اللّه - أذهب دفعة ذات يوم و أنا معه لو لا أنّ اللّه تعالى/سلمني و وهب لي حلمه. فقلت: كيف كان السبب في ذلك؟

ص: 240


1- في أ، م: «عاهدتني».
2- ورد هذا الشطر في ج محرّفا هكذا: غير ما عشت و لا تطلب و أحسب أنه محرّف عن رواية فيه تكون هكذا. ........ لا تبتغي غيري ما عشت و لا تطلب
3- أحكه، يريد: أحتك به و أتعرض له.
4- في الأصول: «اصبر لي» بزيادة «الي». و ليست في «مختصر الأغاني».
5- في الأصول هنا: «ثقف» و التصويب مما تقدّم في «الأغاني» ج 5 ص 352 من طبعة دار الكتب.
6- في الأصول الخطية: «فها ثم ثان لهذا الثالث...» و ظاهر أن في هذه العبارة تحريفا.

فقال: كنت معه لمّا خرج إلى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا بها، و جعل يطوف على قصور بني أميّة و يتبع(1)آثارهم، فدخل صحنا من صحونه، فإذا هو مفروش بالرّخام الأخضر كلّه و فيه بركة ماء يدخلها و يخرج منها من عين تصبّ إليها، و في البركة سمك، و بين يديها بستان على أربع(2) زواياه أربع سروات(3) كأنّها قصّت بمقراض من التفافها أحسن ما رأيت من السّرو(4) قطّ قدّا و قدرا. فاستحسن ذلك، و عزم على الصّبوح، و قال: هاتوا لي الساعة طعاما خفيفا، فأتي ببزماورد(5) فأكل، و دعا بشراب، و أقبل عليّ و قال: غنّي و نشّطني، فكأنّ اللّه عزّ و جلّ أنساني الغناء كلّه إلا هذا الصوت:

لو كان حولي بنو أميّة لم *** تنطق رجال أراهم نطقوا

فنظر إليّ مغضبا و قال: عليك و على بني أميّة لعنة اللّه! ويلك! أقلت لك سؤني أو سرّني! أ لم يكن لك وقت تذكر فيه بين أميّة إلاّ هذا الوقت تعرّض بي!. فتحيّلت عليه و علمت أني/قد أخطأت(6)، فقلت: أ تلومني على أن أذكر بني أميّة! هذا مولاكم زرياب(7) عندهم يركب في مائتي غلام مملوك له، و يملك ثلاثمائة ألف/دينار وهبوها له سوى الخيل و الضّياع و الرّقيق، و أنا عندكم أموت جوعا. فقال أ و لم يكن لك شيء تذكّرني به نفسك غير هذا! فقلت:

هكذا حضرني حين ذكرتهم فقال: اعدل عن هذا و تنبّه على إرادتي. فأنساني اللّه كلّ شيء أحسنه إلاّ هذا الصوت:

الحين ساق إلى دمشق و لم أكن *** أرضى دمشق لأهلنا بلدا

فرماني بالقدح فأخطأني فانكسر القدح، و قال: قم عنّي إلى لعنة اللّه و حرّ سقر، و قام فركب. فكانت و اللّه تلك الحال آخر عهدي به، حتى مرض و مات(8). قال: ثم قال لي: يا أبا جعفر كم تراني أحسن! أغنّي ثلاثة آلاف صوت، أربعة آلاف صوت، خمسة آلاف صوت، أنا و اللّه أغنّي أكثر من ذلك، ذهب علم اللّه كلّه حتى كأنّي لم أعرف غير ما غنّيت. و لقد ظننت أنه لو كانت لي ألف روح ما نجت منه واحدة منها، و لكنه كان رجلا حليما، و كان في العمر بقيّة.

نسبة هذين الصوتين المذكورين في الخبر
صوت

لو كان حولي بنو أميّة لم *** تنطق رجال أراهم نطقوا

ص: 241


1- أصله يتتبع (بتاءين)، فأدغمت التاء في التاء.
2- في «الأصول»: أربعة زواياه». و التصويب من «مختصر الأغاني».
3- السروة: واحدة السرو، و هو ضرب من الشجر حسن الهيئة قويم الساق.
4- في «ج، ب، س»: «من السروات».
5- في «أكثر الأصول»: «فأتى به بين ماء و ورد». و في «ج»: «فأتى بين ما ورد». و التصويب من «مختصر الأغاني» و «الأغاني» فيما تقدّم (جزء 4 صفحة 353 من هذه الطبعة). و البزماورد: طعام يتخذ من اللحم المقلي بالزبد و البيض. و في شفاء الغليل: «زماورد معرّب، و العامة تقول بزماورد، و ليس بغلط، لأنه [كلمة] فارسية، كما هو مسطور في لغاتهم، و هو الرقاق الملفوف باللحم...».
6- في «ب، س»: «غلطت».
7- يريد أن زريابا و هو علي بن نافع المغني مولى بني العباس ذهب إلى الأندلس فأكرمه الأمويون هناك. راجع الحاشية الأولى من صفحة 354 جزء 4 من طبعة دار الكتب.
8- الذي في الجزء الرابع أنه غضب عليه عشرين يوما، فكلمه فيه عباس أخو بحر، فرضي عنه و وصله بعشرين ألف درهم.

من كلّ قرم محض ضرائبه *** عن منكبيه القميص ينخرق(1)

الشعر لعبد اللّه بن قيس الرّقيّات. و الغناء لمعبد، ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و ذكر الهشاميّ أنه لابن سريج. و ذكر ابن خرداذبه أنّ فيه لدكين بن عبد اللّه بن عنبسة بن سعيد بن العاصي لحنا من الثقيل الأوّل، و أنّ دكينا مدنيّ كان منقطعا إلى جعفر بن سليمان.

صوت

الحين ساق إلى دمشق و ما *** كانت دمشق لأهلنا بلدا

قادتك نفسك فاستقدت لها(2) *** و أريت(3) أمر غواية رشدا

لعمر الواديّ في هذا الشعر ثقيل أوّل بالوسطى عن ابن المكيّ. قال: و فيه ليعقوب الواديّ رمل بالبنصر.

اعترض علي خضابه فأجاب:

حدّثني عمّي قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال سمعت الحسن بن وهب الكاتب يحدّث:

أنّ علّويه كان يصطبح في يوم خضابه مع جواريه و حرمه، و يقول: أجعل صبوحي في أحسن ما يكون عند جواريّ. فقيل له: إنّ ابن سيرين كان يقول: لا بأس بالخضاب ما لم تغرّر به امرأة مسلمة. فقال: إنّما كره لئلاّ يتصنّع به لمن لا يعرفه من الحرائر فيتزوّجها على أنه شابّ و هو شيخ، فأمّا الإماء فهنّ ملكي، و ما أريد أن أغرّهنّ.

قال الحسن: فتعالل علّويه على المعتصم ثلاثة أيّام متوالية و اصطبح فيها، فدعاني، و كان صوته على جواريه في شعر الأخطل:

/

كأنّ عطّارة(4) باتت تطيف به *** حتى تسربل مثل(5) الورس و انتعلا(6)

فقال لي: كيف رويته؟ فقلت له: قرأت شعر الأخطل(7) و كان أعلم النّاس به، كان يختار «تسرول» و يقول: إنما وصف ثورا دخل روضة فيها نوّار أصفر فأثّر/في قوائمه و بطنه فكان كالسّراويل، لا أنّه صار له سربل. و لو قال:

«تسربل» أيضا لم يكن فاسدا، و لكنّ الوجه «تسرول».

مدح إسحاق لحنا له:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال:

قدمت من سرّ من رأى قدمة بعد طول غيبة، فدخلت إلى إسحاق الموصليّ، فسلّم عليّ و سألني خبري و خبر

ص: 242


1- انخراق القميص عن الشخص فيه قولان: أحدهما أنه إشارة إلى جذب العفاة له. و الآخر أنه يؤثر بجيد ثيابه فيكسوها غيره و يكتفي هو بمعاوزها.
2- في «أكثر الأصول»: «فأمنت نفسك فاستعذت لها». و في «ج»: «نامتك نفسك فاستعذت لها». و التصويب من «مختصر الأغاني».
3- في «مختصر الأغاني»: «و رأيت».
4- في «الأصول»: «عنظارة» و التصويب من كتاب «منتهى الطلب من أشعار العرب».
5- كذا في «منتهى الطلب». و في «الأصول»: «ماء الورس».
6- في «الأصول» ما عدا «ج»: «و ابتلعا» و هو تحريف.
7- ظاهر أنه يريد: «قرأت شعر الأخطل على فلان و كان أعلم الناس به... إلخ» فسقط اسم من قرأ عليه من النساخ.

الناس حتّى انتهيا إلى ذكر الغناء، فسألني عمّا يتشاغل(1) الناس من الأصوات المستجادة(2). فقلت له: تركت الناس كلّهم مغرمين بصوت لك. قال: و ما هو؟ فقلت:

ألا يا حمامي قصر دوران هجتما

فقال: ليس ذلك لي، ذاك لعلّويه. و قد لعمري أحسن فيه و جوّد ما شاء.

قال المأمون أبياتا فغناه فيها فوصله:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال حدّثني علّويه قال:

خرج المأمون يوما و معه أبيات قد قالها و كتبها في رقعة بخطّه، و هي:

صوت

خرجنا إلى صيد الظّباء فصادني *** هناك غزال أدعج العين أخور

غزال كأنّ البدر حلّ جبينه *** و في خدّه الشّعرى المنيرة تزهر

فصاد فؤادي إذ رماني بسهمه *** و سهم غزال الإنس طرف و محجر

/فيا من رأى ظبيا يصيد و من رأى *** أخا قنص يصطاد قهرا و يقسر

قال: فغنّيته [فيها(3)]، فأمر لي بعشرة آلاف درهم.

قال أبو القاسم جعفر بن قدامة: لحن علّويه في هذا الشعر ثقيل أوّل ابتداؤه نشيد.

غنى في مجلس الرشيد بما أغضبه عليه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثني حمّاد عن أبيه قال: غنّيت الرشيد يوما:

هما فتاتان لمّا يعرفا خلقي *** و بالشّباب على شيبي يدلاّن

فطرب و أمر لي بألف دينار. فقال له ابن جامع - و كان أحسد الناس -: اسمع غناء العقلاء و دع غناء المجانين - و كنت أخذت هذا الصوت من مجنون بالمدينة كان يجيده - ثم غنّى قوله:

و لقد قالت لأتراب لها *** كلمها يلعبن في حجرتها

خذن عني الظّلّ لا يتبعني *** و غدت تسعى إلى قبّتها

فطرب و أمر له بألف و خمسمائة دينار. ثم تغنّى وجه القرعة:

يمشون فيها بكلّ سابغة *** أحكم فيها القتير و الحلق(4)

فاستحسنه و شرب عليه و أمر له بخمسمائة دينار. ثم تغنّى علّويه:

ص: 243


1- كذا في «ب، س». و «يتشاغل» فعل لازم فالكلام به غير مستقيم. و في «ج» هكذا: «يتشام» و في «أ، م» هكذا: «يشاءم». و قد تقدم هذا الخبر نفسه في صفحة 335، و فيه: «فقال أي شيء رأيت الناس يستحسنونه في هذه الأيام من الأغاني... إلخ».
2- في «ج»: «المستحدة».
3- زيادة يقتضيها السياق.
4- الدرع السابغة: التي تجر في الأرض أو على الكعبين لطولها و سعتها. و القتير: مسامير الدرع.

و أرى الغواني لا يواصلن امرأ *** فقد الشّباب و قد يصلن الأمردا

فدعاه الرشيد و قال له: يا عاضّ بظر أمّه! تغنّي في مدح المرد و ذمّ الشّيب و ستارتي منصوبة و قد شبت! كأنّك إنّما عرّضت بي! ثم دعا بمسرور فأمره أن يأخذ بيده فيخرجه فيضربه/ثلاثين درّة و لا يردّه إلى مجلسه، ففعل ذلك، و لم ينتفع الرشيد يومئذ بنفسه و لا انتفعنا به بقيّة يومنا، و جفا علّويه شهرا فلم يأذن له حتّى سالناه فأذن له.

نسبة هذه الأصوات التي تقدّمت
صوت

هما فتاتان لمّا يعرفا خلقي *** و بالشّباب على شيبي يدلاّن

كلّ الفعال الّذي يفعلنه حسن *** يضني فؤادي و يبدي سرّ أشجاني

بل احذرا صولة من صول شيخكما *** مهلا عن الشّيخ مهلا يا فتاتان

لم يقع إليّ شاعره. فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن سريج رمل بالبنصر عن عمرو. و فيه لسليمان المصاب رمل كان يغنّيه، فدسّ الرشيد إليه إسحاق حتّى أخذه منه، و قيل: بل دسّ عليه ابن جامع.

خبر أخذ إسحاق صوتا من سليمان المصاب:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

دعاني الرشيد لمّا حجّ، فقال: صر إلى موضع كذا و كذا من المدينة؛ فإنّ هناك غلاما مجنونا يغنّي صوتا حسنا، و هو:

هما فتاتان لمّا يعرفا خلقي *** و بالشباب علي شيبي يدلاّن

و له أمّ، فصر إليها و أقم عندها و احتل حتّى تأخذه. فجئت أستدلّ حتّى وقفت على بيتها، فخرجت إليّ فوهبت لها مائتي درهم، و قلت لها: أريد أن تحتالي على ابنك حتّى آخذ منه الصوت الفلانيّ. فقالت: نعم، و أدخلتني دارها، و أمرتني فصعدت إلى عليّة لها، فما لبثت أن جاء ابنها فدخل. فقالت له: يا سليمان فدتك نفسي! أمّك قد أصبحت اليوم خاثرة مغرمة(1)، فأحبّ أن تغنّي ذلك الصوت:

هما فتاتان لمّا يعرفا خلقي

فقال لها: و متى حدث لك هذا الطّرب؟ قالت: ما طربت و لكنّني أحببت أن أتفرّج من همّ قد لحقني. فاندفع فغنّاه، فما سمعت أحسن من غنائه. فقالت/له أمّه: أحسنت! فديتك! فقد و اللّه كشفت عنّي قطعة من همّي، فأسألك أن تعيده. قال: و اللّه ما لي نشاط، و لا أشتري غمّي بفرحك. فقالت: أعده مرّتين و لك درهم صحيح تشتري به ناطفا(2). قال: و من أين لك درهم؟ و متى حدث لك هذا السخاء؟ فقالت: هذا فضول لا تحتاج إليه و أخرجت إليه درهما فأعطته إيّاه، فأخذه و غنّاه مرّتين، فدار لي و كان يستوي. فأومأت إليها من فوق أن تستزيده. فقالت: يا بنيّ

ص: 244


1- خاثرة: ثقيلة النفس غير طيبة و لا نشيطة. و المغرمة هنا: المصابة بألم يلازمها و يلح عليها.
2- الناطف: ضرب من الحلوى يقال له القبيطي.

بحقّي عليك إلاّ أعدته. فقال: أظنّ أنك تريدين أن تأخذيه فتصيري مغنّية. فقالت: نعم! كذا هو. قال: لا! و حقّ القبر لا أعدته إلاّ بدرهم آخر. فأخرجت له درهما آخر، فأخذه و قال: أظنّك و اللّه قد تزندقت و عبدت الكبش فهو ينقد لك هذه الدراهم، أو قد وجدت كنزا. فغنّاه مرّتين، و أخذته و استوى لي. ثم قام فخرج يعدو على وجهه.

فجئت إلى الرشيد فغنّيته به و أخبرته بالقصّة، فطرب و ضحك و أمر لي بألف دينار، و قال لي: هذه بدل مائتي الدّرهم(1).

صوت

و لقد قالت لأتراب لها *** كالمها يلعبن في حجرتها

/خذن عنّي الظّلّ لا يتبعني *** و عدت سعيا إلى قبّتها

لم يصبها نكد فيما مضى *** ظبية تختال في مشيتها

في هذه الأبيات رمل بالبنصر ذكر الهشاميّ أنه لابن جامع المكيّ، و ذكر ابن المكيّ أنه لابن سريج. و هو في أخبار ابن سريج و أغانيه غير مجنّس.

صوت

يمشون فيها بكلّ سابغة *** أحكم فيها القتير و الحلق

تعرف إنصافهم إذا شهدوا *** و صبرهم حين تشخص الحدق(2)

الغناء لابن محرز، خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش.

صوت

يجحدنني ديني(3) النهار و أقتضي *** ديني إذا وقذ(4) النّعاس الرّقّدا

و أرى الغواني لا يواصلن امرأ *** فقد الشباب و قد يصلن الأمردا

الشعر للأعشى. و الغناء لمعبد، خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو.

صوت

أيّة حال يا ابن رامين *** حال المحبّين المساكين

ص: 245


1- في الأصول: «بدل المائتي درهم» بتعريف المضاف و تنكير المضاف إليه، و لم يقل به أحد من النحويين. و مذهب البصريين في مثل هذا إدخال الألف و اللام على الثاني، نحو: ثلاث الأثافي و الديار البلاقع و جوّز الكوفيون لتعريف الجزءين في العدد إذا كان مضافا نحو الخمسة الأثواب.
2- يقال: شخص بصر فلان إذا فتح عينيه و جعل لا يطرف. و شخوص الحدق هنا كناية عن الفزع و شدة الخوف في الحرب.
3- في شعر الأعشى: يلوينني ديني النهار و أجتزي وليّ الدين: مطله.
4- وقذ: صرع و غلب.

تركتهم موتى و ما موّتوا *** قد جرّعوا منك الأمرّين(1)

و سرت في ركب على طيّة(2) *** ركب تهام و يمانين

يا راعي الذّود لقد رعتهم *** ويلك من روع المحبّين

الشعر لإسماعيل بن عمّار الأسديّ. و الغناء لمحمد بن الأشعث بن فجوة الزّهريّ الكوفيّ، و لحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى، عن الهشاميّ و أحمد بن المكيّ.

ص: 246


1- يقال: لقي منه الأمرين (على صيغة الجمع) أي الدواهي، و يقال أيضا: لقيت منه الأمرين (على صيغة المثنى). و قد كسرت نون جمع المذكر السالم في هذه القصيدة و التي بعدها للشعر أو هي لغة.
2- الطية: النية أي الوجه و القصد الذي تنتويه و تريده.

20 - نسب إسماعيل بن عمار و أخباره

نسب إسماعيل بن عمار:

هو إسماعيل بن عمّار بن عيينة بن الطّفيل بن جذيمة بن عمرو بن خلف بن زبّان بن كعب بن مالك بن ثعلبة بن دوذان بن أسد بن خزيمة. أخبرني بذلك عليّ بن سليمان الأخفش عن السّكّريّ عن ابن حبيب.

من مخضرمي الدولتين و كان ينزل الكوفة:

و إسماعيل بن عمّار شاعر، مقلّ، مخضرم من شعراء الدولتين الأمويّة و الهاشميّة. و كان ينزل الكوفة.

كان ممن يختلف إلى ابن رامين و جواريه:

قال ابن حبيب: كان في الكوفة صاحب قيان يقال له ابن رامين، قدمها من الحجاز؛ فكان من يسمع الغناء و يشرب النبيذ يأتونه و يقيمون عنده: مثل يحيى بن زياد الحارثيّ، و شراعة بن الزّندبوذ، و مطيع بن إياس، و عبد اللّه ابن العبّاس المفتون، و عون العباديّ الحيريّ، و محمد بن الأشعث الزّهريّ المغنّي. و كان نازلا في بني أسد في جيران إسماعيل بن عمّار، فكان إسماعيل يغشاه و يشرب عنده. ثم انتقل من جواره إلى بني عائذ [اللّه(1)]، فكان إسماعيل يزوره هناك على مشقّة لبعد ما بينهما. و كان لابن رامين جوار يقال لهن سلاّمة الزرقاء، و سعدة، و ربيحة، و كنّ من أحسن الناس غناء، و اشترى بعد ذلك محمد بن سليمان سلاّمة الزرقاء التي يقول فيها محمد بن الأشعث:

/

أمسى لسلاّمة الزرقاء في كبدي *** صدع مقيم طوال الدّهر و الأبد

لا يستطيع صناع القوم يشعبه *** و كيف يشعب صدع الحبّ في كبد(2)

قصيدة له في جواري ابن رامين:

و في جواريه يقول إسماعيل بن عمّار:

هل من شفاء لقلب لجّ محزون *** صبا(3) و صبّ إلى رئم ابن رامين

إلى ربيحة إنّ اللّه فضّلها *** بحسنها و سماع(4) ذي أفانين

و هاج قلبي(5) منها مضحك حسن *** و لثغة بعد [في(6)] زاي و في سين

ص: 247


1- عائذ اللّه: حيّ من العرب.
2- في بعض الأصول: «في كبدي».
3- في أ، م: «صب يصيب». و في سائر الأصول: «صب يغيب». و قد أثبتناه كما ورد في الأصول في ذكر خبر سلامة الزرقاء و خبر محمد بن الأشعث (جزء 13 صفحة 129 طبعة بلاق). و صبا يصبو: مال إلى الجهل و الفتوّة. و الصبابة: الشوق، و قيل: رقته و حرارته؛ يقال: صب فلان يصب (وزان فرح) صبابة فهو صب إذا عشق.
4- السماع هنا: الغناء، و كل ما التذته الأذن من صوت حسن سماع.
5- في ج: «قلبك».
6- في الأصول: «بعد رائي»، و قد أثبتناه هكذا لاستقامة الوزن و المعنى به، و تكون لثغتها في أحرف الصفير، فتنطق بالزاي ذالا، و بالسين ثاء. و أحرف الصفير الزاي و السين و الصاد.

نفسي تأبّى لكم إلاّ طواعية *** و أنت تأبين(1) لؤما أن تطيعيني

و تلك قسمة(2) ضيزى قد سمعت بها *** و أنت تتلينها(3) ما ذاك في الدّين

إن تسعفيني بذاك الشيء أرض به *** و إن ضننت به عنّي فزنّيني(4)

أنت الطبيب لداء قد تلبّس بي *** من الجوى فانفثي في فيّ و ارقيني

نعم شفاؤك منها أن تقول لها *** أضنيتني يوم دير اللّج(5) فاشفيني

يا ربّ إنّ ابن رامين(6) له بقر *** عين و ليس لنا غير(7) البراذين

/لو شئت أعطيته مالا على قدر *** يرضى به منك غير(8) الرّبرب العين

لا أنس سعدة و الزّرقاء يوم هما *** باللّجّ شرقيّه فوق الدّكاكين(9)

يغنّيان ابن رامين على طرب *** بالمسجحيّ و تشبيب(10) المحبّين

أذاك أنعم أم يوم ظللت به *** فراشي الورد في بستان شورين(11)

يشوي لنا الشيخ شورين دواجنه *** بالجردناج(12) و سحّاج(13) الشقابين

ص: 248


1- الرواية فيما يأتي: «و أنت تحمين أنفا».
2- قسمة ضيزى: جائرة. و لم تنون «قسمة» هنا للشعر.
3- تتلينها: تتبعينها و تعملين بها.
4- في أكثر الأصول هنا: فعينيني». و في ج: «فيعنيني». و التصويب مما سيأتي في «الأغاني» (في ذكر خبر سلامة الزرقاء و خبر محمد بن الأشعث). و كان إسماعيل بن عمار كتب إلى سعدة بهذه الأبيات، فردّت عليه: «حاشاك من أن أزنيك، و لكني أسير إليك فأعنيك و ألهيك و أرضيك».
5- كذا في ج: و في سائر الأصول: «دير الملح» و هو تحريف. و دير اللج: بالحيرة، بناه أبو قابوس النعمان بن المنذر في أيام ملكه، و لم يكن في ديارات الحيرة أحسن منه بناء و لا أنزه موضعا.
6- الرواية فيما يأتي: «يا رب ما لابن رامين».
7- في الأصول هنا: «إلا البراذين». و التصويب مما سيأتي.
8- في ح، ب، س: «عين الربرب العين». و في أ، م: «إلا الربرب العين». و هما تحريف. و الرواية فيما يأتي: «غير الخرد العين». و الربرب: القطيع من بقر الوحش. و العين: الواسعة العيون، واحدتها عيناه. يريد جواريه اللاتي يشبهن بقر الوحش في سعة العيون.
9- الدكاكين: جمع دكان، و هو بناء يسطح أعلاه للجلوس عليه، و هو المصطبة.
10- في الأصول هنا: «للمسجحي بتشتيت المحبين». و التصويب مما سيأتي. و المسجحي: الغناء المنسوب لابن مسجح.
11- كذا ورد هذا الاسم في الأصول هنا. و ورد في خبر سلامة الزرقاء و محمد بن الأشعث فيما سيأتي: «سورين» بالسين المهملة.
12- الجردناج: الشواء المكبوب على الجمر أو الطابق بعد كبسه في مياه عطرة و أفاويه أو طبخه فيها نصف طبخة. و أصله فارسي.
13- كذا في ب، س في خبر سلامة الزرقاء فيما سيأتي من الأغاني. و في أكثر الأصول هنا «شجاج الشعانين» و في بعضها: «شجاج السقانين». و الشقابين: جمع شقبان (بالتحريك) و هو طير نبطي. أما «سحاج» فأحسب أن صوابها «سحاح» (بضم السين و تشديد الحاء) جمع ساح بمعنى سمين. و المذكور في كتب اللغة أن جمع «ساح» سحاح (بضم السين و كسرها، و بتخفيف الحاء).

نسقى طلاء(1) لعمران(2) يعتقّه *** يمشي الأصحّاء منه كالمجانين

يزلّ(3) أقدامنا من بعد صحّتها *** كأنّها ثقلا يقلعن من طين

نمشي و أرجلنا مطويّة شللا(4) *** مشي الإوزّ التي تأتي من الصين

أو مشي عميان دير(5) لا دليل لهم *** سوى العصيّ إلى يوم السّعانين

/في فتية من بني تيم لهوت بهم *** تيم بن مرّة لا تيم العديّين

خمر الوجوه كأنّا من تحشّمنا *** حسناء شمطاء وافت من فلسطين(6)

ما عائذ(7) اللّه لو لا أنت من شجني *** و لا(8) ابن رامين لو لا ما يمنّيني

في عائذ اللّه بيت ما مررت به *** إلاّ و جئت(9) على قلبي بسكين

يا سعدة القينة(10) الخضراء أنت لنا *** أنس لأنّك في دار ابن رامين

ما كنت أحسب أنّ الأسد(11) تؤنسني *** حتى رأيت إليك القلب يدعوني

لو لا ربيحة ما استأنست ما عمدت(12) *** نفسي إليك و لو مثّلت من طين(13)

باع ابن رامين سلامة في حجه فقال هو شعرا:

قال: و حجّ ابن رامين و حجّ بجواريه(14) معه، و كان محمد بن سليمان إذ ذاك على الحجاز، فاشترى منه

ص: 249


1- الرواية فيما سيأتي: «شرابا». و في «معجم ما استعجم» للبكري (في دير اللج): «يسقى شرابا كلون النار عتقه». و مرجع الضمير في «يسقي» ابن رامين في البيت قبله.
2- ذكر المؤلف فيما سيأتي أنه «يعني عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد اللّه».
3- في الأصول المخطوطة: «ينزل». و في ب، س: «تنزل». و مرجع الضمير في «يزل» الشراب في البيت قبله. و الرواية فيما سيأتي و «معجم ما استعجم»: نمشي إليها بطاء لا حراك بنا كأن أرجلنا يقلعن من طين
4- الرواية فيما يأتي: «عوج مطارحها» بدل: «مطوية شللا». و في «معجم ما استعجم»: «عوج مواقعها».
5- في الأصول هنا: «عميان عم». و التصويب مما سيأتي و «معجم ما استعجم».
6- هكذا ورد هذا الشطر الأخير في أكثر الأصول. و مكانه في ج. حينا... من فلسطين». و في ج: «تجمشنا» بالجيم بدل «تحشمنا» بالحاء.
7- في ج: «ما عابد اللّه». و في «سائر الأصول»: «يا عائذ اللّه». و عائذ اللّه: حيّ من العرب انتقل إلى جوارهم ابن رامين مع جواريه كما تقدّم. و رواية هذا البيت فيما سيأتي: ما عائذ اللّه لي إلف و لا وطن و لا ابن رامين لو لا ما يمنيني.
8- في «الأصول»: «لو لا ابن رامين».
9- و جئت: ضربت.
10- كذا في «ب، س» فيما سيأتي. و في «الأصول» هنا: «يا أسد القبة». و الخضراء: يريد السوداء، و كانت سعدة كذلك.
11- أحسب أن صوابه: «أن السود تؤنسني» فإن سعدة كانت سوداء.
12- كذا ورد هذا الشطر فيما سيأتي. و مكان هذا الشطر في أ، م هنا بياض. و في ح: «لو لا... نسبت ما بقيت». و في ب، س هنا: لولاك تؤنسني بالقرب ما بقيت و هي جميعا غير واضحة.
13- فيما سيأتي: «و قد مثلت في طين».
14- هكذا في الأصول!.

سلاّمة الزّرقاء بمائة ألف درهم. فقال إسماعيل بن عمّار:

أيّة حال يا ابن رامين *** حال المحبّين المساكين

/تركتهم موتى و ما موّتوا *** قد جرّعوا منك الأمرّين

/و سرت في ركب على طيّة *** ركب تهام و يمانين

حججت بيت اللّه تبغي به ال *** برّ و لم ترث لمحرون

يا راعي الذّود لقد زعتهم *** ويلك من روع المحبّين

فرّقت قوما لا يرى مثلهم *** ما بين كوفان(1) إلى الصّين

مات له ابن فرثاه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا السكّريّ عن محمد قال:

كان لإسماعيل بن عمّار ابن يقال له معن فمات، فقال يرثيه:

يا موت ما لك مولعا بضراري *** إنّي عليك و إن صبرت لزاري(2)

تعدو عليّ كأنّني لك واتر *** و أؤول منك كما يؤول فراري(3)

نفس البعيد إذا أردت قريبة *** ليست بناجية مع(4) الأقدار

و المرء سوف و إن تطاول عمره *** يوما يصير لحفرة الجفّار

لمّا غلا عظم(5) به فكأنّه *** من حسن بنيته قضيب نضار(6)

فجّعتني بأعزّ أهلي كلّهم *** تعدو عليه عدوة الجبّار

هلاّ بنفسي أو ببعض قرابتي *** أوقعت أو(7) ما كنت للمختار

و تركت ربتي(8) التي من أجلها *** عفت الجهاد و صرت في الأمصار

رفض أن يكون عاملا لما رأى العمال يعذبون و شعره في ذلك:

أخبرني عليّ بن سليمان قال حدّثني السكريّ عن محمد بن حبيب قال:

ص: 250


1- كوفان: الكوفة، و كوفان أيضا: قرية بهراة.
2- يقال: فلان زار على فلان إذا كان عاتبا ساخطا غير راض. و في «الأصول»: «إني إليك».
3- في «ح»: «قراري» بالقاف.
4- يحتمل أن يكون «من الأقدار».
5- في «الأصول»: «لما علا عظمي به» و هو تحريف. يقال غلا بالجارية و الغلام عظم، و ذلك في سرعة شبابهما و سبقهما لداتهما. و كل ما ارتفع فقد غلا و تغالى.
6- النضار هنا: الأثل الطويل المستقيم الغصون.
7- كذا في «الأصول»!.
8- كذا في «الأصول». و أحسب أن صوابه: «و تركت زينتي...» و الزينة ابنه. و هذا إشارة إلى قوله تعالى: اَلْمٰالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا.

قال رجل من بني أسد كان وجها(1)، لإسماعيل بن عمّار: هلمّ أركب معك إلى يوسف بن عمر، فإنه صديق، حتى أكلّمه فيك يستعملك على عمل تنتفع به. فقال له إسماعيل: دعني حتى يقول الحول. فنظر إسماعيل إلى عمّال يوسف يعذّبون، فقال في ذلك:

رأيت صبيحة النّيروز أمرا *** فظيعا عن إمارتهم نهاني

فررت من العمالة بعد يحيى *** و بعد النّهشليّ أبي أبان

و بعد الزور و ابن أبي كثير *** و فيقد أشجع و أبي بطان

فحاب بها أبا عثمان غيري *** فما شأن الإمارة لي بشان

أحاذر أن أقصّر في خراجي *** إلى النّيروز أو في المهرجان

أعجّل إن أتى أجلي بوقت *** و حسبي بالمجرّحة المتان(2)

فما عذري إذا عرّضت ظهري *** لألف من سياط الشّاهجان(3)

تعدّ ليوسف عدّا صحيحا *** و يحفظها عليه الجالدان

و أسحب في سراويلي بقيدي *** إلى حسّان معتقل اللّسان

فمنهم قائل بعدا و سحقا *** و منهم آخران يفدّيان(4)

كفاني من إمارتهم عطائي *** و ما أحذيت(5) من سبق الرّهان

/كفاني ذاك منهم ما بقينا(6) *** كما فيما مضى لي قد كفاني

شعره في بوبة وصيفة عبد الرحمن ابن عنبسة:

/و قال ابن حبيب في الإسناد الذي ذكرناه: إنه كانت لعبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي وصيفة مغنّية يؤدّبها و يصنعها(7) ليهديها إلى هشام بن عبد الملك يقال لها بوبة. فقال فيها إسماعيل بن عمّار:

بوب حيّيت عن جليسك بوبا *** مخطئا في تحيّتي أو(8) مصيبا

ما رأينا قتيل حيّ حبا القا *** تل بالوتر أن يكون حبيبا

ص: 251


1- الوجه من الناس: سيد القوم مثل الوجيه.
2- في «الأصول»: «بالمحرجة المثان». و يريد بالمجرّحة المتان السياط الشديدة التي تقطع جلد من يضرب بها. و الشاعر يريد بهذا الأخبار الإشفاق و الخوف.
3- الشاهجان: هي مرو الشاهجان، كانت قصبة خراسان و أشهر مدنها.
4- في «بعض الأصول» «يعذبان» و هو تصحيف.
5- أحذيت: أعطيت. و هذا البيت ساقط من «أ، م». و في «الأصول» التي ورد فيها: «و ما أحذمت» و في بعضها «و ما أخدمت». و قد أثبتناه بما يستقيم به المعنى و لا يبعد كثيرا عن رسم «الأصول». و السبق (بالتحريك): ما يجعل من المال رهنا على المسابقة بين الخيل و غيرها. و أحسب أنه يريد ما يعطاه جوائز على إجادته في شعره و سبقه الشعراء.
6- في «أ، م»: «ما تهيّا».
7- صنع الجارية: ربّاها و أحن تغذيتها.
8- في «الأصول» «أم».

غير ما قد رزقت يا بوب منّي *** فهنيئا و إن أتيت عجيبا

غير منّ به عليك و إن كن *** ت بقدر القيان طبّا طبيبا(1)

بنت عشر أديبة في قريش *** بخ فأكرم بهم أبا و نسيبا

أدّبت في بني أميّة حتّى *** كملت في حجورهم تأديبا

قال: ثم أهداها ابن عنبسة إلى هشام. فقال إسماعيل بن عمّار:

ألا حيّيت عنّا ث *** مّ سقيا لك يا بوبه

و أكرم بك مهداة *** و أحبب بك مطلوبه

و واها لك من بكر *** و واها لك مثقوبه

و واها لك ملقاة *** و واها لك مكبوبه

لقد عاين من يلقا *** ك من حسنك أعجوبة

و يا ويلي و يا عولي *** فنفسي الدّهر مكروبه

/على هيفاء(2) حوراء *** على جيداء رعبوبه

إذا ضاجعها المولى *** فقد أدرك محبوبه

هجاؤه لجارية له كان يبغضها:

قال ابن حبيب في هذه الرواية: كان لإسماعيل بن عمّار جارية قد ولدت منه، و كانت سيئة الخلق قبيحة المنظر، و كان يبغضها و تبغضه، فقال فيها:

بليت بزمّردة(3) كالعصا *** ألصّ و أخبث من كندش(4)

تحبّ النساء و تأبى الرجال *** و تمشي مع الأسفه الأطيش

لها وجه(5) قرد إذا ازّيّنت(6) *** و لون كبيض القطا الأبرش(7)

ص: 252


1- الطب: الخبير الحاذق بعمله، و مثله الطبيب.
2- هيفاء: دقيقة الخصر. و حوراء: شديدة بياض العين مع شدّة السواد و استدارة الحدقة. و جيداء: طويلة الجيد. و الرعبوبة - و مثلها الرعبوب -: الشطبة التارّة أو هي البيضاء الناعمة.
3- زمرّدة: لغة في «زنمردة» قلبت النون ميما و أدغمت في الميم. و تروى أيضا بفتح الزاي و كسر الميم، و بكسر الزاي و فتح الميم. و الزنمردة: المرأة التي تشبه الرجال خلقا و خلقا. و الكلمة فارسية معربة. و شبهها بالعصا لقلة لحمها و هزالها. و قد نسب أبو تمام هذه القصيدة في «ديوان الحماسة» للغطمش الحنفي.
4- كندش: لقب لص منكر كان معروفا عندهم، و قيل إنه العقعق، و ذكر بعضهم إنه الفأرة. (راجع شرح التبريزي على «الحماسة»). و العقعق: طائر على قدر الحمامة، على شكل الغراب و جناحاه أطول من جناحي الحمامة، و هو ذو لونين أبيض و أسود، طويل الذنب. و في طبعه الزنا و الخيانة، و يوصف بالسرقة و الخبث، و العرب تضرب به المثل في جميع ذلك. (عن حياة الحيوان للدميري في كلامه على العقعق).
5- و يروى: «لها شعر قرد».
6- أصله «تزينت» فقلبت التاء زايا و أدغمت في الزاي، فلما سكن الأوّل اجتلبت همزة الوصل.
7- البرش و البرشة: لون مختلف: نقطة حمراء و أخرى سوداء أو غبراء أو غير ذلك.

و من فوقه لمّة جثلة(1) *** كمثل الخوافي من المرعش

/و بطن خواصره كالوطا(2) *** ب زاد على كرش الأكرش

و إن نكهت(3) كدت من نتنها *** أخّر على جانب المفرش

و ثدي تدلّى على بطنها *** كقربة ذي الثّلّة المعطش(4)

و فخذان بينهما بسطة(5) *** إذا ما مشت مشية المنتشي(6)

و ساق يخلخلها خاتم *** كساق الدّجاجة أو أحمش(7)

و في كلّ ضرس لها أكلة(8) *** أصلّ(9) من القبر ذي المنبش

و لمّا رأيت خوا(10) أنفها *** و فيها و إصلال(11) ما تحتشي

/إلى ضامر(12) مثل ظلف الغزال *** أشدّ اصفرارا من المشمش

/فررت من البيت من أجلها *** فرار الهجين من الأعمش(13)

ص: 253


1- وردت هذه الكلمة في «الأصول» محرفة. و التصويب من «الحماسة»، و قد صححها كذلك المرحوم الشنقيطي في نسخته. و اللمة: الشعر المجاوز شحمة الأذن. و في «الحماسة»: لها جمة فوقها جثلة و الجمة من الشعر: دون اللمة في الطول. و الجثلة: الكثيرة الملتفة. و الخوافي من الريش: ما تخفى إذا ضم الطائر جناحيه. و المرعش (بفتح أوّله و ثالثه، و بعضهم يضم أوّله): جنس من الحمام أبيض يحلق في الهواء. و قال أبو العلاء: عني بالمرعش النسر الذي قد هرم. و قد اعتمدنا في شرح بعض هذا الشعر على شرح التبريزي ل «الحماسة».
2- الوطاب: جمع وطب (بالفتح)، و هو سقاء اللبن يتخذ من جلد الجذع فما فوقه. و الأكرش: عظيم البطن.
3- نكه (من بابي ضرب و منع): تنفس على أنف آخر.
4- الثلة (بالفتح): القطعة من الغنم. و المعطش: الذي عطشت غنمه. و رواية الشطر الأوّل في «الحماسة»: و ثدي يجول على نحرها يصفها بعظم الثدي. و يحتمل أن يريد أن ثديها طويل و إن كانت خالية، فقد وصفه بالطول و التشنج. (عن شرح «الحماسة»).
5- في «الأصول»: «بطشة» و التصويب بقلم المرحوم الشنقيطي. و في «الحماسة»: و فخذان بينهما نفنف و النفنف هنا: المهواة بين الشيئين.
6- المنتشي: السكران.
7- في هذا البيت إقواء؛ لأن المعنى على تقدير أو هي أحمش. و رواية البيت في «الحماسة»: و ساق مخلخلها حمشة كساق الجرادة أو أحمش و الحموشة: الدقة، يقال: ساق حمشة (بالفتح) و حميشة و حمشاء أي دقيقة. و المخلخل: موضع الخلخال من الساق. و أنث الخبر - على رواية «الحماسة» - لإضافة المخلخل إلى ضمير الساق، و الساق مؤنثة.
8- الأكلة (بفتح أوّله و كسر ثانيه، و سكن هاهنا للشعر): داء يقع في العضو فيأتكل منه.
9- أصلّ: أنتن. و في «الأصول»: «أضل» بالضاد المعجمة. و التصويب بقلم الأستاذ المرحوم الشنقيطي.
10- كذا في «ح». و الخواء (بالمد): الهواء بين الشيئين. و قصره الشاعر هنا للشعر. و وردت هذه الكلمة في «سائر الأصول» محرفة بين «خدا» و «حذا».
11- الإصلال: مصدر أصل اللحم إذا أنتن؛ يقال: صل اللحم و أصل، و ما تحتشيه هنا: ما تضعه من القطن و نحوه في فرجها لتحبس به دم الحيض.
12- يريد فرجها.
13- كذا في «الأصول»!.

و أبرد من ثلج ساتيدما(1) *** إذا راح كالعطب(2) المنفش(3)

و أرسح(4) من ضفدع عثّة(5) *** تنقّ على الشّطّ من مرعش(6)

و أوسع من باب جسر الأمير *** تمرّ المحامل لم تخدش

فهذي صفاتي فلا تأتها(7) *** فقد قلت طردا لها كشكشي(8)

هجا جارا له بنى مسجدا قرب داره:

و قال ابن حبيب: كان في جوار إسماعيل بن عمّار رجل من قومه ينهاه عن السّكر و هجاء الناس و يعذله، و كان إسماعيل له مغضبا. فبنى ذلك الرجل مسجدا يلاصق دار إسماعيل و حسّنه و شيّده، و كان يجلس فيه هو و قومه و ذوو التستّر و الصلاح منهم عامّة نهارهم، فلا يقدر إسماعيل أن يشرب في داره و لا يدخل إليه أحد ممن كان يألفه من مغنّ أو مغنّية أو غيرهما من أهل الرّيبة. فقال إسماعيل يهجوه - و كان الرجل يتولّى شيئا من الوقوف للقاضي بالكوفة -:

بنى مسجدا بنيانه من خيانة *** لعمري لقدما كنت غير موفّق

كصاحبة الرّمّان لمّا تصدّقت *** جرت مثلا للخائن المتصدّق

يقول لها أهل الصّلاح نصيحة *** لك الويل لا تزني و لا تتصدّقي

استعدى على غاضري كلف رهطه الطواف:

و قال ابن حبيب: ولّي العسس(9) رجل غاضريّ، فأخذ بني مالك و هم رهط إسماعيل ابن عمّار بأن كانوا معه، فطافوا إلى الغداة. فلمّا أصبح غدا على الوالي مستعديا على الغاضريّ. فقال له الوالي - و كان رجلا من همدان -: ما ذا صنع بك؟ فأنشأ يقول:

عسّ بنا ليلته كلّها *** ما نحن في دنيا و لا آخره

يأمر أشياخ بني مالك *** أن يحرسوا دون بني غاضرة

و اللّه لا يرضى بذا كائنا *** من حكم همدان إلى الساهره(10)

ص: 254


1- ساتيدما: جبل متصل من بحر الروم إلى بحر الهند.
2- العطب (بضمتين و يسكن ثانيه): القطن.
3- الذي في كتب اللغة أنه يقال: نفشت الصوف و القطن و نفشته (بتشديد الفاء) إذا ندفته.
4- في «الأصول»: «و أرشح» بالشين المعجمة. و التصويب بقلم المرحوم الشنقيطي. و الرسح: قلة لحم الفخذين و العجز.
5- كذا في «ح». و العثة (بالعين المهملة): المحقورة و الضئيلة الجسم. و في «سائر الأصول»: «غثة» بالغين المعجمة. و الغثة: الرديئة.
6- مرعش: مدينة بين الشام و بلاد الروم.
7- في «الأصول»: «فلا تأبها» بالباء الموحدة.
8- في «الأصول»: «كشكش» بدون الياء. و الكشكشة هنا: الهرب. يريد: فقلت لها اذهبي.
9- العسس: جمع أو اسم جمع لعاس، و هم طوّافو الليل لحراسة الناس و الكشف عن أهل الريبة.
10- كذا في «الأصول». و الساهرة في اللغة: الأرض أو وجهها، و قيل هي الفلاة، و قيل هي الأرض التي لم توطأ، و قيل هي أرض يجدّدها اللّه يوم القيامة، و بهذه الأقوال فسر قوله تعالى: فَإِذٰا هُمْ بِالسّٰاهِرَةِ.

قال فقال له الوالي: قد لعمري صدقت، و وظّف على سائر البطون أن يطوفوا مع صاحب العسس في عشائرهم و لا يتجاوزوا قبيلة إلى قبيلة، و يكون ذلك بنوائب(1) بينهم.

كان منقطعا إلى خالد بن خالد بن وليد فلما مات رثاه:

و قال ابن حبيب: كان إسماعيل بن عمّار منقطعا إلى خالد بن الوليد بن عقبة بن معيط، و كان إليه محسنا، و كان ينادمه. فولي خالد بن خالد عملا للوليد بن يزيد بن عبد الملك فخرج إليه، و كان إسماعيل عليلا فتأخّر عنه، ثم لم يلبث خالد أن مات في عمله، فورد نعيه الكوفة في يوم فطر. فقال إسماعيل بن عمّار يرثيه:

ما لعيني(2) تفيض غير جمود(3) *** ليس ترقا و لا لها من هجود

فإذا قرّت العيون استهلّت *** فإذا نمن أولعت بالسّهود

أ لنعي ابن خالد خالد الخي *** رات في يوم زينة مشهود

سنحت لي يوم الخميس غداة ال *** فطر طير بالنّحس لا بالسّعود

فتعيّفت(4) أنّهنّ لأمر *** مفظع ما جرين في يوم عيد

فنعت خالد بن أروى و جلّ ال *** خطب فقدان خالد بن الوليد

سعى به عثمان بن درباس فهجاه فاستعدى عليه السلطان فحبسه:

و قال ابن حبيب: كان لإسماعيل بن عمّار جار يقال له عثمان بن درباس، فكان يؤذيه و يسعى به إلى السلطان في كلّ حال، ثم سعى به أنّه يذهب مذهب الشّراة(5)، فأخذ و حبس. فقال يهجوه:

من كان يحسدني جاري و يغبطني *** من الأنام بعثمان بن درباس

فقرّب اللّه منه مثله أبدا *** جارا و أبعد منه صالح النّاس

جار له باب ساج(6) مغلق أبدا *** عليه من داخل حرّاس أحراس(7)

عبد و عبد و بنتاه و خادمه *** يدعون مثلهم ما ليس(8) من ناس

صفر الوجوه كأنّ السّلّ خامرهم *** و ما بهم غير جهد الجوع من باس

له بنون كأطباء(9) معلّقة *** في بطن خنزيرة في دار كنّاس

ص: 255


1- نوائب: جمع نيابة بمعنى نوبة؛ فإنه يقال جاءت نوبة فلان، و جاءت نيابة فلان.
2- في «الأصول»: «ما لعين» بدون ياء المتكلم.
3- عين جمود: لا تدمع. و رقوء الدمع: جفافه و انقطاعه. و الهجود: النوم.
4- عيافة الطير: زجرها، و هو أن تعتبر بأسمائها و مساقطها و ممرها و أصواتها فتتسعد أو تتشأم. و الذي في كتب اللغة التي بين أيدينا أنه يقال عاف الطير يعيفها عيافة. أما «تعيف» فلم نجدها إلا في هذا الشعر.
5- الشراة: الخوارج.
6- الساج هنا: ضرب من الشجر ينبت ببلاد الهند و يعظم جدا، و خشبه أسود رزين لا تكاد الأرض تبليه.
7- حراس و أحراس: كلاهما جمع لحارس.
8- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «من» بدل «ما». يريد أن الحراس يستعينون بمثلهم من الكلاب عددا.
9- الأطباء: حلمات الضرع لذي الخف و الظلف و الحافر و السبع، واحدها طبي (بالكسر و يضم).

إن يفتح الباب عنهم بعد عاشرة *** تظنّهم خرجوا من قعر أرماس(1)

فليت دار ابن درباس معلّقة *** بالنّجم بين سلاليم و أمراس(2)

فكان آخر عهدي منهم أبدا *** و ابتعت دارا بغلماني و أفراسي

/قال: و قال فيه أيضا:

ليت برذوني و بغلي *** و جوادي و حماري

كنّ في الناس و أبدل *** ت غدا جارا بجار

جار صدق بابن دربا *** س و إلاّ بعت داري

فتبدّلت به من *** يمن أو من نزار

بدلا يعرف ما الل *** ه و ما حقّ الجوار

لو تبدّلت سواه *** طاب ليلي و نهاري

و استرحنا من بلايا *** ه صغار أو كبار

لو جزيناه بها كنّ *** ا جميعا في فجار(3)

أو سكتنا كان ذلاّ *** داخلا تحت الشّعار(4)

كتب إلى ابن أخيه شعرا من الحبس فأجابه:

قال: فلمّا قال فيه الشعر استعدى عليه السّلطان، و ذكر أنّه من الشّراة، و أنّهم مجتمعون عنده، و أنّه من دعاة عبد اللّه(5) بن يحيى و أبي حمزة المختار. فكتب من السجن إلى ابن أخ له يقال له معان:

أبلغ معانا عنّي و أخوته *** قولا و ما عالم كمن جهلا

بأنّني و المصبّحات منّى *** يعدون طورا و تارة رملا

لخائف(6) أن يكون ودّكم *** إيّاي بعد الصفاء قد أ فلا

/أ إن عراني دهري بنائبة *** أصبح منها الفؤاد مشتعلا

/حاولتم الصّرم أو لعلّكم *** ظننتم ما أصابني جللا

ص: 256


1- الأرماس: القبور.
2- الأمراس: الحبال، واحدها مرس (بالتحريك).
3- فجار: اسم للفجور، و هو معرفة مبني على الكسر مثل حذام و قطام.
4- الشعار من الثياب: ما يلي البشرة. و دخول الذل تحت الشعار كناية عن الاتصاف به.
5- هو عبد اللّه بن يحيى الكندي أحد بني عمر بن معاوية من حضر موت، خرج في أيام مروان بن محمد هو و أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي ثم السلمي من أهل البصرة، و تبعهم جماعة، فغلبوا على اليمن و الحجاز، ثم قتلوا أخيرا. (راجع «الأغاني» جزء 20 صفحة 97 و ما بعدها من طبعة بلاق، ففيه تفصيل لخروجهم و مقتلهم).
6- وقعت اللام هنا في خبر «أن» المفتوحة الهمزة، و هو شاذ.

لا تغفلونا بني أخي فلقد *** أصبحت لا أبتغي بكم بدلا

تمسّكوا بالّذي امتسكت به *** فإنّ خير الإخوان من وصلا

قال: فكتب إليه ابن أخيه:

يا عمّ عوفيت من عذابهم النّ *** كر و فارقت سجنهم عجلا

كتبت تشكو بني أخيك و قد *** أرسل من كان قبلنا مثلا

«أبدأهم بالصّراخ ينهزموا(1)» *** فأنت يا عمّ تبتغي العللا

زعمت أنّا نرى بلاءك في *** دار بلاء مكبّلا جللا

يا عمّ بئس الفتيان نحن إذا *** أمّا و في رجلك الكبول فلا

عليّ إن كنت صادقا حجّ *** للبيت عامين حافيا رجلا

بعّد عنك الهموم فارج من ال *** لّه خلاصا و أحسن الأملا

أطلقه الحكم بن الصلت من السجن و شعره فيه حين عزل:

قال: ثمّ ولي الحكم بن الصّلت فأطلقه و أحسن إليه، فلم يزل يشكره و يمدحه. ثم عزل الحكم بعد ذلك، فقال إسماعيل فيه:

تبارك اللّه كيف أوحشت ال *** كوفة أن(2) لم يكن بها الحكم

الحكم العدل في رعيّته ال *** كامل فيه(3) العفاف و الفهم

/فأصبح القصر(4) و السّريران و ال *** منبر(5) كالكل(6) من أب يتم(7)

يذري عليه السرير عبرته *** و المبتر المشرفيّ يلتدم(8)

و الناس من حسن سيرة الحكم ب *** ن الصّلت يبكون كلّما ظلموا

مثل السّكارى في فرط وجدهم *** إلاّ عدوّا عليه يتّهم

يوم جرى طائر النّحوس لهم *** ينزع منه القرطاس و القلم

ص: 257


1- أصل هذا المثل: «ابدأهم بالصراخ يفروا». أصله أن يكون الرجل قد أساء إلى الرجل فيتخوف لائمة صاحبه فيبدؤه بالشكاية و التجني ليرضى عنه بالسكوت. يضرب للظالم يتظلم ليسكت عنه.
2- كذا في «ج». و في «سائر الأصول»: «إذ لم يكن».
3- في «ج»: «منه».
4- في «الأصول»: «القبر». و لعل ما أثبتناه أقرب كلمة يستقيم بها المعنى مع قربها في الرسم مما في «الأصول».
5- ما ورد في البيت الذي يليه يرجح أن يكون «المبتر» و هو السيف.
6- كذا في «الأصول». و لعله: «فالكل» على ما في هذا من ضعف.
7- اليتم (بالتحريك): لعله مصدر وصف به هنا.
8- المشرفيّ من السيوف: المنسوب إلى المشارف و هي قرى من أرض اليمن، و قيل: من أرض العرب تدنو من الريف. و اللدم و الالتدام: ضرب المرأة صدرها أو وجهها من الحزن.

فأرغم اللّه حاسديه كما *** أرغم هود(1) القرود إذ رغموا

في سبتهم يوم كاب خطبهم *** و اللّه ممّن عصاه ينتقم

إنا إلى اللّه راجعون أ ما *** للنّاس عهد يوفى و لا ذمم

حول علينا، و ليلتان لنا *** من لذّة العيش، بئسما حكموا

لا حكم إلاّ للّه يظهره *** يقضي لضيزائها(2) الّتي قسموا

ما ذا ترجّي من عيشها مضر *** إن كان من شأنها الّذي زعموا

ذم ولاية خالد القسريّ:

و قال ابن حبيب: سمع إسماعيل بن عمّار رجلا ينشد أبياتا للفرزدق يهجو بها عمر بن هبيرة الفزاريّ لمّا ولي العراق و يعجب من ولايته إيّاها، و كان خالد القسريّ قد ولي في تلك الأيّام العراق، فقال إسماعيل: أعجب و اللّه مما عجب منه الفرزدق من ولاية ابن هبيرة، [و هو(3)] ما لست أراه يعجب منه، ولاية خالد القسريّ و هو مخنّث دعيّ ابن دعيّ، ثم قال:

عجب الفرزدق من فزارة أن رأى *** عنها أميّة بالمشارق تنزع

/فلقد رأى عجبا و أحدث بعده *** أمر تطير له القلوب و تفزع

بكت المنابر من فزارة شجوها *** فالآن من قسر تضجّ و تجزع

فملوك خندف أضرعونا(4) للعدا *** للّه درّ ملوكنا ما تصنع

كانوا كقاذفة بينها ضلّة *** سفها و غيرهم تربّ و ترضع

شعر له في عينه و قلبه:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عبد اللّه بن سعيد بن أسيد العامريّ قال حدّثني محمد بن أنس الأسديّ قال:

شعر له في عينه و قلبه:

جلست إلى إسماعيل بن عمّار، و إذا هو يفتل أصابعه متأسّفا، فقلت: علام هذا التأسّف و التلهّف؟ فقال:

عيناي مشئومتان ويحهما *** و القلب حرّان مبتلى بهما

ص: 258


1- الهود: اليهود. و هو القرود: هم أهل القرية التي كانت حاضرة البحر، و كانت تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا و يوم لا يسبتون لا تأتيهم، و كان محرما عليهم الصيد أو العمل في يوم السبت. فلما أخذوا يعدون في السبت و عتوا عما نهوا عنه، قال لهم اللّه: كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ . و أرغم اللّه فلانا: أذله. و رغم فلان، أو رغم أنف فلان: ذل. و في «بعض الأصول»: «إذ زعموا».
2- الضيزي: القسمة الجائزة غير العدل. و هي مقصورة، و مدها هنا للضرورة.
3- زيادة يقتضيها سياق الكلام.
4- أضرعونا: أذلونا و أخضعونا.

عرّفتاه الهوى لظلمهما *** يا ليتني قبل ذا عدمتهما

هما إلى الحين دلّتا و هما *** ذلّ(1) على من أحبّ دمعهما

سأعذر القلب في هواه و ما *** سبّب كلّ البلاء غيرهما

شعر للأعشى و شرحه:
صوت

فكعبة نجران حتم علي *** ك حتّى تناخي بأبوابها

نزور يزيد و عبد المسيح *** و قيسا هم خير أربابها

و شاهدنا الجلّ(2) و الياسمي *** ن و المسمعات بقصّابها(3)

و بربطنا(4) دائم معمل *** فأيّ الثلاثة أزرى بها

إذا الحبرات(5) فلوت بهم *** و جرّوا أسافل هدّابها

فلمّا التقينا على آية(6) *** و مدّت إليّ بأسبابها

عروضه من المتقارب. الشعر للأعشى يمدح بني عبد المدان الحارثيّين من بني الحارث بن كعب. و الغناء لحنين، خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق. /و ذكر يونس أنّ فيه لحنا لمالك، و زعم عمرو بن بانة أنه خفيف ثقيل. و زعم أبو عبد اللّه الهشاميّ أنّ فيه لابن المكيّ خفيف رمل بالوسطى أوّله:

تنازعني إذ خلت بردها(7)

و معه باقي الأبيات مخلّطة مقدّمة و مؤخّرة. و الكعبة التي عناها الأعشى هاهنا يقال إنها بيعة بناها بنو عبد المدان

ص: 259


1- ذل الدمع: هان. و في «بعض الأصول»: «دلا» و هو تحريف.
2- و يروى: «و شاهدنا الورد» كما في شعر الأعشى. و الجل (بالضم و يفتح): الورد أبيضه و أحمره و أصفره، واحده جلة.
3- سيذكر المؤلف فيما بعد أن القصاب الأوتار. و قال أبو العباس ثعلب - في شرحه ل «ديوان الأعشى» صفحة 121 من طبعة مطبعة آدلف هلز هوسن سنة 1927 م - «قصاب جمع قاصب و هو الزامر. أبو عبيدة: قصابها أوتارها، و أصله من القصب، و يقال للمزامر قاصب، و ما زال يقصب...». و قد تقدّمت هذه الأبيات (جزء 9 ص 299 من طبعة دار الكتب). فراجع ما كتب على هذه الكلمة هناك.
4- البربط (وزان جعفر): العود. و الكلمة فارسية معرّبة. قيل: شبه بصدر البط. و «بر»: الصدر. و في شعر الأعشى «و مزهرنا». و المزهر: العود أيضا.
5- في «الأصول»: «إذا الخيرات فلوت بهم». و التصويب من شعر للأعشى و «مسالك الأبصار» (جزء أوّل صفحة 359 من طبعة دار الكتب المصرية). (و الحبرات بكسر الحاء و فتحها): ضرب من برود اليمن منمر.
6- في «الأصول»: «على آلة». و التصويب من شعر الأعشى. و الآية: العلامة، كما فسرها بذلك أبو العباس ثعلب. و جواب «لما» في البيت الذي بعده، و هو: بذلنا لها حكمها عندنا و حادت بحكمي لألهي بها
7- تمام البيت: مفضلة غير جلبابها و هو وارد في شعر الأعشى قبل قوله: «فلما التقينا...».

على بناء الكعبة، و عظّموها مضاهاة للكعبة، و سمّوها كعبة نجران، و كان فيها أساقفة يقيمون، و هم الذين جاءوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و دعاهم إلى المباهلة، و قيل: بل هي قبّة من أدم سمّوها الكعبة. و كان إذا نزل بها مستجير أجير، أو خائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أعطي ما يريده. و المسمعات: القيان. و القصّاب: أوتار العيدان.

و قال الأصمعيّ: قلت لبعض الأعراب: أنشدني شيئا من شعرك. قال: كنت أقول الشّعر و تركته. فقلت: و لم ذاك؟ قال: لأنّني قلت شعرا و غنّى فيه حكم الواديّ و سمعته فكاد يذهل عقلي، فآليت ألاّ أقول شعرا، و ما حرّك حكم قصّابه إلاّ توهّمت أنّ اللّه عزّ و جلّ مخلدي بها(1) في النّار.

* تم الجزء الحادي عشر، و يليه الجزء الثاني عشر و أوّله:

أخبار الأعشى و بني عبد المدان و أخباره مع غيرهم

ص: 260


1- لعل صوابه «به» أي الشعر الذي غنى فيه، أو أنث الضمير باعتبار أنه قصيدة.

فهرس موضوعات الجزء الحادي عشر

الموضوع الصفحة

أخبار النابغة و نسبه 5

أخبار الحارث بن حلزة و نسبه 29

نسب عمرو بن كلثوم و خبره 35

ذكر لخبر عن السبب في اتصال الهجاء بين جرير و الأخطل 41

ذكر أوس بن حجر و شيء من أخباره 47

خبر ورقاء بن زهير و نسبه 51

مقتل زهير بن جذيمة العبسي 56

ذكر مقتل خالد بن جعفر بن كلاب 64

خبر الحارث و عمرو بن الإطنابة 83

خبر رحرحان الثاني 87

يوم شعب جبله 89

مقتل عمليق و سببه 113

عمر بن أبي ربيعة و صاحبه العذري 115

أخبار عائشة بنت طلحة و نسبها 120

نسب عمرو بن شأس و أخباره 132

شعر ليلى و نسبها و خبر توبة بن الحمير معها 137

ذكر الأقيشر و أخباره 167

أخبار ابن الغريزة و نسبه 186

أخبار أعشى بني تغلب و نسبه 188

أخبار أبي النضير و نسبه 191

أخبار العبليّ و نسبه 197

أخبار أبي جلدة و نسبه 209

أخبار علوية و نسبه 226

نسب إسماعيل بن عمارة و أخباره 247

ص: 261

المجلد 12

هویة الکتاب

الأغاني

سایر نویسندگان

مصحح و مترجم:

مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی

المجلدات : 25ج

زبان: عربی

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374

تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری

ص: 262

اشارة

ص: 263

ص: 264

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *

1 - أخبار الأعشى و بني عبد المدان، و أخبارهم مع غيره

اشارة

1 - أخبار الأعشى و بني عبد المدان، و أخبارهم مع غيره(1)

كان الأعشى قدريّا و لبيد مجبرا

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية عن سماك بن حرب عن يونس بن متّى راوية الأعشى قال:

كان لبيد مجبّرا(2) حيث يقول:

من هداه سبل الخير اهتدى *** ناعم البال و من شاء أضلّ

و كان الأعشى قدريّا(3) حيث يقول:

/

استأثر اللّه بالوفاء(4) و بال *** عدل و ولّى الملامة الرّجلا

فقلت له: من أين [أخذ](5) هذا؟ فقال: أخذه من أساقفة نجران. و كان يعود في كلّ سنة إلى بني عبد المدان، فيمدحهم و يقيم عندهم يشرب الخمر معهم و ينادمهم، و يسمع من أساقفة نجران قولهم؛ فكلّ شيء في شعره من هذا فمنهم أخذه.

ص: 265


1- في ب، س: «و أخباره مع غيرهم». و لم يرد هاهنا من أخبار الأعشى مع غير بني عبد المدان شيء؛ و كل ما ورد من أخباره مع بني عبد المدان أنه كان يفد إليهم كل سنة فيمدحهم و يقيم عندهم يشرب الخمر. و في الأصول الخطية:» و أخباره مع غيره». و قد صححنا العنوان بما يلائم الوارد هنا.
2- المجبر: الذي يقول بالجبر، و هو عند أهل الكلام إسناد أفعال العبد إلى اللّه سبحانه إيجادا و تأثيرا. و يقول الجبرية: إنه لا قدرة للعبد أصلا لا مؤثرة و لا كاسبة، بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها.
3- في الأصول هنا: «مثبتا» و هو تحريف؛ فإن المثبت من يثبت القدر، و هو تحديد كل مخلوق بحده الذي يوجد عليه من حسن و قبح و نفع و ضرر، و ما يحويه من زمان و مكان، و ما يترتب عليه من ثواب و عقاب؛ و مآل ذلك الى الجبر؛ فالمثبت و المجبر سواء. و قد ورد في «ترجمة الأعشى» (ج 9 ص 113 من هذه الطبعة): «كان الأعشى قدريا و كان لبيد مثبتا». و القدري: من ينكر القدر أي ينكر أن يكون اللّه قد قدّر على عباده شيئا من خير أو شر، و إنما ذلك موكول إلى إرادتهم و قدرتهم؛ فمن عمل صالحا فلنفسه، و من أساء فعليها. و في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى نقلا عن شرح المواقف: «و القدر يطلق عند أهل الكلام على إسناد أفعال العباد إلى قدرتهم؛ و لذا يلقب المعتزلة بالقدرية».
4- كذا في «ديوان شعر الأعشى» و في «ترجمة الأعشى» فيما تقدّم (جزء 9). و في ج: «بالربا» و في الأصول هنا: «بالبقاء».
5- زيادة عن ترجمة الأعشى فيما مضى.
خبر أساقفة نجران مع النبيّ صلى اللّه عليه و سلم
اشارة

<خبر أساقفة نجران مع النبي> فأمّا(1) خبر مباهلتهم(2) النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، فأخبرني به عليّ بن العبّاس بن الوليد البجليّ المعروف بالمقانعيّ(3)الكوفيّ قال أنبأنا بكّار بن أحمد بن اليسع الهمداني قال حدّثنا عبد اللّه بن موسى عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب.

قال بكّار و حدّثنا إسماعيل بن أبان العامريّ عن عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن عليّ عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السلام، و حديثه أتم الأحاديث. و حدّثني [به](4) جماعة آخرون بأسانيد مختلفة و ألفاظ تزيد و تنقص:

فممن حدّثنى به(5) عليّ بن أحمد بن حامد التميميّ قال حدّثنا الحسن بن عبد الواحد قال حدّثنا حسن بن حسين عن حيّان بن علي [عن](4) الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس، و عن الحسن بن الحسين/عن محمد بن بكر عن محمد بن عبد اللّه بن عليّ بن أبي رافع عن أبيه عن جدّه عن أبي رافع. و أخبرني عليّ بن موسى الحميريّ في كتابه قال حدّثنا جندل بن والق(6) قال حدّثنا محمد بن عمر عن عبّاد الكليبيّ(7) عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن ابن عبّاس. و أخبرني أحمد بن الحسين بن سعد(8) بن عثمان إجازة قال حدّثنا أبي قال حدّثنا حصين بن مخارق عن عبد الصمد بن عليّ عن أبيه عن ابن عبّاس. قال الحصين و حدّثني أبو الجارود و أبو حمزة الثّماليّ عن أبي جعفر، قال: و حدّثني حمد(9) بن سالم و خليفة بن حسان عن زيد بن عليّ عليه السلام. قال حصين و حدّثني سعيد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس. و ممن حدّثني [أيضا](10) بهذا الحديث عليّ بن العباس عن بكّار عن إسماعيل بن أبان عن أبي أويس المدني(11) عن جعفر بن محمد و عبد اللّه و الحسن ابني الحسن. و ممن حدّثني به أيضا محمد بن الحسين الأشنانيّ قال حدّثنا إسماعيل بن إسحاق الراشديّ قال حدّثني يحيى بن سالم عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام(12). و ممن أخبرني به أيضا الحسين(13) بن حمدان بن أيوب الكوفيّ عن محمد بن عمرو الخشّاب عن حسين الأشقر عن شريك عن جابر عن أبي جعفر، و عن شريك عن المغيرة عن الشعبيّ، و اللفظ للحديث الأوّل. قالوا:

ص: 266


1- في ط، م: «و أما».
2- المباهلة: الملاعنة.
3- كذا في ط، ج. و في م: «المقايعي». و في سائر الأصول: «اليافعي» و كلاهما تحريف. و المقانعي: نسبة إلى المقانع جمع مقنعة و هي الخمار. و المشهور بها أبو الحسن علي بن العباس بن الوليد البجلي... و قد توفي بعد شوال سنة ست و ثلاثمائة. (عن كتاب «الأنساب» للسمعاني).
4- زيادة عن ط، م.
5- في الأصول: «بها».
6- كذا في ط، م. و في بعض الأصول: «و ألف» و في بعضها: «رائق» تحريف.
7- في بعض الأصول: «الكلبي»، و هو قول في نسبته.
8- في ط، م: «سعيد» و لم نهتد إليه.
9- كذا في ط، ج، م. و في سائر الأصول: «أحمد».
10- زيادة في ط، م.
11- في بعض الأصول: «الرقي» تحريف.
12- في ط، م: «رحمه اللّه».
13- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «الحسن» و لم نهتد إليه.

/قدم وفد نصارى(1) نجران و فيهم الأسقفّ، و العاقب و أبو حبش(2)، و السّيّد، و قيس، و عبد المسيح، و ابن عبد المسيح(3) الحارث و هو غلام - و قال شهر بن حوشب في حديثه: و هم أربعون حبرا(4) - حتى وقفوا على اليهود في بيت المدراس(5)، فصاحوا بهم: يا بن صوريّا يا كعب بن الأشرف، انزلوا يا إخوة القرود و الخنازير. فنزلوا إليهم؛ فقالوا لهم: هذا الرجل عندكم منذ كذا و كذا سنة [قد غلبكم!](6) أحضروا الممتحنة [لنمتحنه](6) غدّا. فلمّا صلّى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم الصبح، قاموا فبركوا/بين يديه، ثم تقدّمهم الأسقفّ فقال: يا أبا القاسم، موسى من أبوه؟ قال: عمران.

قال: فيوسف من أبوه؟ قال: يعقوب. قال: فأنت من أبوك؟ قال: أبي عبد اللّه بن عبد المطلّب. قال: فعيسى من أبوه؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و آله؛ فانقضّ عليه جبريل عليه السلام فقال(7): إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ فتلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم؛ فنزا(8) الأسقفّ ثم دير به مغشيّا عليه، ثم رفع رأسه إلى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم فقال [له](9):

أ تزعم أنّ اللّه جلّ و علا أوحي إليك أنّ عيسى خلق من تراب! ما نجد هذا فيما أوحي إليك، و لا نجده فيما أوحي إلينا؛ و لا تجد هؤلاء اليهود فيما أوحي إليهم. فأوحى اللّه تبارك و تعالى إليه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّٰهِ عَلَى الْكٰاذِبِينَ . فقال(10): أنصفتنا يا أبا القاسم، فمتى نباهلك؟ فقال: بالغداة إن شاء اللّه تعالى. و انصرف النصارى، و انصرفت اليهود و هي تقول: و اللّه ما نبالي أيّهما أهلك اللّه الحنفيّة أو النّصرانيّة. فلمّا صارت النصارى إلى بيوتها قالوا؛ و اللّه إنّكم لتعلمون أنّه نبيّ، و لئن باهلناه إنّا لنخشى أن نهلك، و لكن استقيلوه لعلّه يقيلنا. و غدا النبيّ صلى اللّه عليه و سلم من الصّبح و غدا معه بعليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم. فلمّا صلّى الصبح، انصرف فاستقبل الناس بوجهه، ثم برك باركا، و جاء بعليّ فأقامه بين يديه، و جاء بفاطمة فأقامها بين كتفيه، و جاء بحسن فأقامه عن يمينه،

ص: 267


1- في الأصول: «لمّا قدم صهيب من نجران... الخ» و ظاهر ما فيه من تحريف. على أن في بعض الأسماء التي وردت هنا اختلافا عما ورد في كتب السيرة و التاريخ. ففي كتاب «السيرة النبوية لابن هشام» (ص 401 طبعة أوربا): «قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وفد نصارى نجران ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم و ذو رأيهم و صاحب مشورتهم و الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، و اسمه عبد المسيح، و السيد ثمالهم و صاحب رحلهم و مجتمعهم، و اسمه الأيهم، و أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل... و أوس، و الحارث، و زيد، و قيس، و يزيد، و نبيه، و خويلد، و عمرو، و خالد، و عبد اللّه، و يحنس، في ستين راكبا... الخ». و في «الطبقات لابن سعد» (الجزء الأول، القسم الثاني ص 84 طبع ليدن): «و كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى أهل نجران، فخرج إليه وفدهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم نصارى، فيهم العاقب و هو عبد المسيح رجل من كندة، و أبو الحارث بن علقمة رجل من بني ربيعة، و أخوه كرز، و السيد و أوس ابنا الحارث، و زيد بن قيس، و شيبة - في السيرة (نبيه) كما تقدم - و خويلد، و خالد، و عمرو و عبيد اللّه. و فيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم: العاقب و هو أميرهم و صاحب مشورتهم و الذي يصدرون عن رأيه، و أبو الحارث أسقفهم و حبرهم و إمامهم و صاحب مدراسهم، و السيد و هو صاحب رحلتهم... إلخ».
2- في ط، م: «و العاقب أبو حبش».
3- في ط، م: «و عبد المسيح و ابن عبد المسيح و ابن عبد المسيح الحارث...».
4- في الأصول: «أحبارا» تحريف.
5- بيت المدراس هنا: البيت الذي يتدارس اليهود فيه كتابهم.
6- زيادة في ط، م.
7- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «و قال».
8- نزا: وثب.
9- زيادة عن ط، م.
10- كذا في ط، م. و مرجع الضمير و الأسقف. و في سائر الأصول: «فقالوا».

و جاء بحسين فأقامه عن يساره. فأقبلوا/يستترون بالخشب و المسجد فرقا أن يبدأهم بالمباهلة إذا رآهم، حتى بركوا بين يديه، ثم صاحوا: يا أبا القاسم، أقلنا أقالك اللّه عثرتك. فقال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم: نعم - قال: و لم يسأل النبيّ صلى اللّه عليه و سلم شيئا قطّ إلاّ أعطاه - فقال: قد أقلتكم [فولّوا](1). فلمّا ولّوا قال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم: «أما و الّذي بعثني بالحقّ لو باهلتهم ما بقي على وجه الأرض نصرانيّ و لا نصرانية إلاّ أهلكهم اللّه تعالى». و في حديث شهر بن حوشب أنّ العاقب وثب فقال: أذكّركم اللّه أن نلاعن هذا الرجل! فو اللّه لئن كان كاذبا ما لكم في ملاعنته خير، و لئن كان صادقا لا يحول الحول و منكم نافخ ضرمة(2) فصالحوه و رجعوا.

خبر قبة نجران

و أمّا خبر القبّة الأدم التي ذكرها الأعشى فأخبرني بخبرها عمّي و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عليّ بن عمرو الأنصاريّ عن هشام بن محمد عن أبيه قال:

كان عبد المسيح بن دارس بن عربيّ بن معيقر(3) من أهل نجران، و كانت له قبّة من ثلاثمائة جلد أديم، و كان على/نهر بنجران يقال النّحيردان(4). قال: و لم يأت القبّة خائف إلاّ أمن، و لا جائع إلا شبع؛ و كان يستغلّ من ذلك النهر عشرة آلاف دينار، / [و كانت القبّة تستغرق ذلك كله](5). و كان(6) أوّل من نزل نجران(7) من بني الحارث بن كعب يزيد بن عبد المدان [بن الدّيّان. و ذلك أنّ عبد المسيح بن دارس زوّج يزيد بن عبد المدان](5) ابنته رهيمة، فولدت له عبد اللّه بن يزيد، فهم بالكوفة. و مات عبد المسيح، فانتقل ماله الى يزيد؛ فكان أوّل حارثيّ حلّ في نجران. و في ذلك يقول أعشى قيس بن ثعلبة:

فكعبة نجران حتم علي *** ك حتّى تناحي بأبوابها

نزور يزيد و عبد المسيح *** و قيسا هم خير أربابها

خطب يزيد بن عبد المدان و عامر بن المصطلق بنت أمية بن الأسكر فزوّجها ليزيد:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن العباس بن هشام [عن أبيه قال حدّثني بعض بني الحارث بن كعب، [و] أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد](5) قال حدّثني عبد اللّه بن الصّبّاح عن ابن الكلبيّ عن أبيه قال:

اجتمع يزيد بن عبد المدان و عامر بن الطّفيل بموسم عكاظ، و قدم أمية بن الأسكر الكنانيّ و معه ابنة(8) له من

ص: 268


1- زيادة عن ط، م.
2- الضرمة: الجمرة؛ يقال ما في الدار نافخ ضرمة، أي ما فيها أحد.
3- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «معيفر» بالفاء. و في «معجم البلدان» (ج 4 ص 756): «عبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل».
4- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «البجيروان».
5- التكملة عن ط، ج، م.
6- في ط، م: «ثم كان».
7- في ط، م: «حل نجران».
8- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «و تبعته ابنة له».

أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد و عامر. فقالت أمّ كلاب امرأة أميّة بن الأسكر: من هذان الرجلان؟ فقال: هذا يزيد ابن عبد المدان بن الديّان، و هذا عامر بن الطّفيل. فقالت: أعرف بني الديّان و لا أعرف عامرا. فقال: هل سمعت بملاعب الأسنّة(1)؟ فقالت نعم. قال: فهذا ابن أخيه. و أقبل يزيد فقال: يا أمية، أنا ابن الديّان(2) صاحب الكثيب(3)، /و رئيس مذحج، و مكلّم العقاب، و من كان يصوّب أصابعه فتنظف(4) دما، و يدلك راحتيه فتخرجان ذهبا. فقال أميّة: بخ بخ. [فقال عامر: جدّي الأخرم، و عمّي ملاعب الأسنّة، و أبي فارس قرزل. فقال أمية: بخ بخ!](5) مرعى و لا كالسّعدان(6). فأرسلها مثلا. فقال يزيد: يا عامر. هل تعلم شاعرا من قومي رحل(7) بمدحة إلى رجل من قومك؟ قال: اللّهم لا. قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي؟ قال: اللّهم نعم. قال: فهل لكم نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان؟ قال لا. قال: فهل ملكناكم و لم تملكونا؟ قال نعم. فنهض يزيد و أنشأ يقول:

أميّ يا ابن الأسكر بن مدلج *** لا تجعلن هوازنا كمذحج

إنّك إن تلهج بأمر تلجج *** ما النبع في مغرسه كالعوسج(8)

و لا الصّريح(9) المحض كالممزّج

قال: فقال مرّة بن دودان النّفيليّ(10) و كان عدوّا لعامر:

يا ليت شعري عنك يا يزيد *** ما ذا الّذي من عامر تريد

/لكلّ قوم فخركم عتيد *** أ مطلقون(11) نحن أم عبيد

لا بل عبيد زادنا الهبيد(12)

قال: فزوّج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته. فقال يزيد في ذلك:

يا للرجال لطارق الأحزان *** و لعامر بن طفيل الوسنان

ص: 269


1- هو أبو البراء عامر بن مالك؛ سمي بملاعب الأسنة لقول أوس بن حجر فيه: فلاعب أطراف الأسنة عامر فراح له حظ الكتيبة أجمع
2- في بعض الأصول: «إن ابن الديان» تحريف.
3- كذا في ط، ج، م، و الكثيب هنا: موضع بساحل بحر اليمن. و في سائر الأصول: «صاحب الكتيبة» تحريف.
4- تنظف: تقطر.
5- التكملة عن ط، م. و قرزل: فرس لطفيل بن مالك أبي عامر بن الطفيل.
6- السعدان: نبت، و منابته السهول. و هو من أنجع المراعي في المال و لا تحسن على نبت حسنها عليه. و هو أخثر العشب لبنا. و إذا خثر لبن الراعية كان أفضل ما يكون و أطيب و أدسم. و هذا المثل يضرب للشيء يفضل على أقرانه و أشكاله. و قد ذكرته الخنساء بنت عمرو بن الشريد في بعض كلامها فقيل إنها أوّل من قاله، و قيل: هو لامرأة من طيء. (عن مجمع الأمثال بتصرف).
7- في ب، س: «سار».
8- النبع: ضرب من الشجر تتخذ منه القسى و من أغصانه السهام، ينبت في قلل الجبال. و العوسج: ضرب من الشوك.
9- الصريح: الخالص من كل شيء.
10- كذا في ط، م. و في ج، أ: «النقلي» و في ب، س: «السلمي» و لم نهتد إلى الصواب فيه.
11- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «أ مطمعون» و هو تحريف.
12- الهبيد: حب الحنظل.

كانت إتاوة قومه لمحرّق(1) *** زمنا و صارت بعد للنّعمان

عدّ الفوارس من هوازن كلّها *** فخرا عليّ و جئت بالديّان

فإذا لي الشّرف المبين(2) بوالد *** صخم الدّسيعة(3) زانني و نماني

/يا عام إنّك فارس ذو ميعة(4) *** غضّ الشّباب أخو ندى و قيان

و اعلم بأنك بابن فارس قرزل *** دون الذي تسعى له و تداني

ليست فوارس عامر بمقرّة *** لك بالفضيلة في بني عيلان(5)

فإذا لقيت بني الحماس و مالك *** و بني الضّباب و حيّ آل قنان(6)

فاسأل عن الرّجل المنوّه باسمه *** و الدافع الأعداء عن نجران

يعطى المقادة في فوارس قومه *** كرما لعمرك و الكريم يماني

فقال عامر بن الطّفيل:

عجبا لواصف طارق الأحزان *** و لما يجيء به بنو الدّيّان

/فخروا عليّ بحبوة(7) لمحرّق *** و إتاوة سيقت إلى النّعمان

ما أنت و ابن محرّق و قبيله *** و إتاوة اللّخميّ في عيلان(8)

فاقصد بفخرك قصد قومك قصرة(9) *** ودع القبائل من بني قحطان

إن كان سالفة الإتاوة فيكم *** أو لا ففخرك فخر كلّ يماني

و افخر برهط بني الحماس و مالك *** و بني الضّباب و زعبل(10) و قنان(11)

فأنا المعظّم و ابن فارس قرزل *** و أبو براء زانني و نماني

و أبو جزيء ذو الفعال و مالك *** منعا الذّمار صباح كلّ طعان

و إذا تعاظمت الأمور هوازن *** كنت المنوّه باسمه و الباني

ص: 270


1- محرق، لقب به من ملوك لخم بالحيرة امرؤ القيس بن عمرو بن عدي و يقال له المحرق الأكبر، و عمرو بن هند و يقال له المحرق الثاني. و لقب به أيضا الحارث بن عمرو من ملوك غسان بالشام.
2- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «المتين».
3- الدسيعة هنا: العطية.
4- كذا في ط، م، أ. و ميعة كل شيء: أوّله. و في سائر الأصول: «ذو منعة».
5- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «بني غيلان» بالغين المعجمة، تصحيف.
6- الحماس، و الضباب و قنان: قبائل من مذحج.
7- الحبوة (مثلثة الحاء): العطية.
8- راجع الحاشية الخامسة في الصفحة نفسها.
9- كذا في ط، م. يقال هو ابن عمي قصرة (بفتح القاف و ضمها) أي داني النسب. و في سائر الأصول: «نصرهم» و هو تحريف.
10- في بعض الأصول «و رعبل» بالراء المهملة. و لم نهتد إليه. و قد سموا زعبلا و رعبلا.
11- في بعض الأصول: «و قيان» تصحيف.
طلب بنو عامر إلى مرة بن دودان أن يهجو بني الديان فأبى

فلمّا رجع القوم إلى بني عامر، وثبوا على مرّة بن دودان و قالوا له: أنت من بني عامر، و أنت شاعر، و لم تهج بني الدّيّان! فقال مرّة:

تكلّفني هوازن فخر قوم *** يقولون: الأنام لنا عبيد

أبونا مذحج و بنو أبيه *** إذا ما عدّت الآباء هود(1)

و هل لي إن فخرت بغير حقّ *** مقال و الأنام لهم شهود

فأنّى تضرب الأعلام(2) صفحا *** عن العلياء أم من ذا يكيد(3)

فقولوا يا بني عيلان كنّا *** لهم قنّا(4)، فما عنها محيد

محاورة ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان و القيسيين

و قال ابن الكلبيّ في هذه الرواية: قدم يزيد بن عبد المدان و عمرو بن معد يكرب و مكشوح المراديّ على ابن جفنة زوّارا، و عنده(5) وجوه قيس: ملاعب الأسنّة عامر بن مالك، و يزيد بن عمرو بن الصّعق، و دريد بن الصّمّة.

فقال ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان: ما ذا كان يقول الدّيّان إذا أصبح فإنه كان ديّانا(6). فقال: كان يقول: آمنت بالذي رفع هذه (يعني السماء)، و وضع هذه (يعني الأرض)، و شقّ هذه (يعني أصابعه)، ثم يخرّ ساجدا و يقول:

سجد وجهي للّذي خلقه(7) و هو عاشم(8)، و ما جشّمني من شيء فإنّي جاشم. فإذا رفع رأسه قال:

إن تغفر اللّهم تغفر جمّا *** و أيّ عبد لك ما ألمّا(9)

فقال ابن جفنة: إنّ هذا لذو دين. ثم مال(10) على القيسيين و قال: أ لا تحدّثوني عن هذه الرياح/: الجنوب و الشّمال و الدّبور و الصّبا و النّكباء، لم سمّيت بهذه الأسماء؛ فإنه قد أعياني علمها؟ فقال القوم: هذه أسماء وجدنا العرب عليها لا نعلم غير هذا فيها. فضحك يزيد بن عبد المدان ثم قال: يا خير الفتيان، ما كنت أحسب أنّ هذا يسقط(11) علمه على هؤلاء و هم أهل الوبر. إنّ العرب تضرب أبياتها(12) في القبلة مطلع الشمس، لتدفئهم في الشّتاء

ص: 271


1- هود: جمع هائد، و هو الراجع إلى الحق.
2- في بعض الأصول: «الأعمال».
3- في أ، ب، س: «تكيد» و هو تصحيف. و المعنى: كيف يضرب الأعلام المشهورون صفحا عن العلياء و يعرضوا عن السعي إليها مع أن ذلك سجية فيهم! أم من ذا يكيد عدوّه إذا لم يكد هؤلاء الأعلام عدوّهم! يصفهم بأنهم ذوو مكارم و قوة، و يقول: قوم هذا شأنهم كيف السبيل إلى هجوهم و النيل منهم!
4- القن: العبد ملك هو و أبواه، يطلق على المفرد و الجمع، أو يجمع أفنانا و أقنة.
5- في ط، م. «فلقوا عنده».
6- المناسب من معاني الديان هنا: الحاكم و السائس و القاضي.
7- في ط، م، أ: «لمن خلقه».
8- العاشم: الطامع.
9- في ط، ج، م: «و كل عبد لك قد ألما». و ألم: باشر اللمم أي صغار الذنوب.
10- في ط، م: «ثم أقبل على...».
11- كذا في جميع الأصول الخطية، بتضمين «يسقط» معنى «يخفى». و في ب، س: «يسقط علمه عن».
12- في ط، ح، م: «أبنيتها».

و تزول عنهم في الصيف. فما هبّ من الرّياح عن يمين البيت فهي الجنوب، و ما هبّ عن شماله فهي الشّمال، و ما هبّ من أمامه فهي الصّبا، و ما هبّ من خلفه فهي الدّبور، و ما استدار من الرياح بين هذه الجهات فهي النّكباء.

فقال ابن جفنة: إنّ هذا للعلم يا ابن عبد المدان.

سأل ابن جفنة القيسيين عن النعمان بن المنذر فعابوه فردّ عليهم يزيد

و أقبل/على القيسيّين يسألهم عن النّعمان بن المنذر. فعابوه و صغّروه. فنظر ابن جفنة الى يزيد فقال له: ما تقول يا ابن عبد المدان؟ فقال يزيد(1): يا خير الفتيان. ليس صغيرا من منعك العراق، و شركك في الشام، و قيل له:

أبيت اللّعن. و قيل لك: يا خير الفتيان، و ألفى أباه ملكا كما ألفيت أباك ملكا؛ فلا يسرّك من يغرّك؛ فإن هؤلاء لو سألهم عنك النّعمان لقالوا فيك مثل ما قالوا فيه. و أيم اللّه ما فيهم رجل إلاّ و نعمة النّعمان عنده عظيمة! فغضب عامر بن مالك و قال له: يا ابن الديّان! أما و اللّه لتحتلبنّ(2) بها دما! فقال له: و لم؟ أزيد في هوازن(3) من لا أعرفه؟ فقال: لا! بل هم الذين تعرف. فضحك يزيد ثم قال: ما لهم جرأة(4) بني الحارث، و لا فتك مراد، و لا بأس زبيد، و لا كيد جعفيّ(5)، و لا مغار طيّ ء. و ما هم و نحن يا خير الفتيان بسواء، ما قتلنا أسيرا قطّ و لا اشتهينا(6) حرّة قط، و لا بكينا قتيلا [حتى](7) نبئ(8) به. و إن هؤلاء ليعجزون عن ثأرهم، حتى يقتل السّميّ بالسميّ. و الكنيّ بالكنيّ، و الجار بالجار. و قال يزيد بن عبد المدان فيما كان بينه و بين القيسيّين شعرا غدا به على ابن جفنة:

تمالا على النّعمان قوم إليهم *** موارده في ملكه و مصادره

على غير ذنب كان منه إليهم *** سوى أنّه جادت عليهم مواطره

فباعدهم من كلّ شرّ يخافه *** و قرّبهم من كلّ خير يبادره

فظنّوا - و أعراض الظنون(9) كثيرة - *** بأنّ الّذي قالوا من الأمر ضائره

فلم ينقصوه بالّذي قيل شعرة *** و لا فلّلت أنيابه و أظافره

/و للحارث الجفنيّ أعلم بالّذي *** ينوء(10) به النّعمان إن خفّ طائره

فيا حار كم فيهم لنعمان نعمة *** من الفضل و المنّ الذي أنا ذاكره

ذنوبا عفا عنها و مالا أفاده *** و عظما كسيرا قوّمته جوابره

ص: 272


1- في ط، م: «فقال له يزيد».
2- كذا في ط، ج، م. و في ب، س: «لنحتلبن». بالنون و الحاء. و في أ: «لنجتلبن» بالتاء و الجيم.
3- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «و لو أريد في هوازن» و هو تحريف.
4- في ط، ج، م: «جمرة». و الجمرة: الكثرة و العدد.
5- في بعض الأصول: «جعف»، و هو تحريف.
6- في ط، م: «و لا استهنا حرة». و لعلها: «امتهنا حرة».
7- التكملة من ط. م.
8- أباء القاتل بالقتيل: قتله به.
9- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: المنون» و هو تحريف.
10- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «يبوء به النعمان إن جف» تصحيف. يقال خف طائر فلان إذا استخف و استفز. و الوارد في كتب اللغة: طار طائر فلان. و يقال في ضد ذلك: وقع طائر فلان، و سكن طائره، و فلان ساكن الطير، إذا كان وقورا. و يقول إن الحارث الجفني أعلم الناس بما ينهض به النعمان و يقوم به من الأعمال إن استفزه مستفز و أغضبه.

و لو سأل عنك العائبين(1) ابن منذر *** لقالوا له القول الذي لا يحاوره(2)

قال: فلمّا سمع ابن جفنة هذا القول عظم يزيد في عينه، و أجلسه(3) معه على سريره، و سقاه بيده، و أعطاه عطيّة لم يعطها أحدا ممن وفد عليه قطّ.

استشفع جذامي إلى يزيد عند ابن جفنة فوهبه له

فلما قرّب يزيد ركائبه ليرتحل سمع صوتا إلى جانبه، و إذا هو رجل يقول:

أ ما من شفيع من الزائرين *** يحبّ الثّناء زنده ثاقب(4)

/يريد ابن جفنة إكرامه *** و قد يمسح الضّرّة الحالب

فينقذني من أظافيره *** و إلاّ فإنّي غدا ذاهب

فقد قلت يوما على كربة *** و في الشّرب(5) في يثرب غالب

ألا ليت غسّان في ملكها *** كلخم، و قد يخطئ الشارب

و ما في ابن جفنة من سبّة *** و قد خفّ حلمي بها العازب(6)

كأنّي غريب من الأبعدين *** و في الحلق منّي شجا ناشب

/فقال يزيد: عليّ بالرجل، فأتي به. فقال: ما خطبك؟ أنت تقول هذا الشعر؟ قال: لا! بل قاله رجل من جذام جفاه ابن جفنة، و كان له عند النّعمان منزلة، فشرب فقال(7) على شرابه شيئا أنكره عليه ابن جفنة فحبسه، و هو مخرجه غدا فقاتله. فقال [له](8) يزيد: أنا أغنيك(9). فقال له: و من أنت حتى أعرفك(10)؟ فقال: أنا يزيد بن عبد المدان. فقال: أنت لها و أبيك؟ قال: أجل! قد كفيتك أمر صاحبك(11)، فلا يسمعنّك أحد تنشد هذا الشعر.

و غدا يزيد على ابن جفنة ليودّعه؛ فقال له: حيّاك اللّه يا ابن الديّان! حاجتك. قال: تلحق قضاعة الشام [بغسّان](12)، و تؤثر من أتاك من وفود مذحج، و تهب لي الجذاميّ الذي لا شفيع له إلاّ كرمك. قال: قد فعلت. أما إنّي حبسته لأهبه لسيّد أهل ناحيتك، فكنت(13) ذلك السيّد، و وهبه له. فاحتمله يزيد معه، و لم يزل مجاورا له بنجران في بني

ص: 273


1- كذا في م، أ. و في سائر الأصول: «الغائبين» بالغين المعجمة، و هو تصحيف.
2- كذا في ج أي لا يراجعه. و في ط، م: «لا يجاوره» بالجيم. و في سائر الأصول: «لا يحاذره».
3- في ط: «فأجلسه».
4- ثقوب الزند و وريه: كناية عن الكرم و غيره من الخصال المحمودة.
5- الشرب (بالفتح): جماعة الشاربين.
6- كذا في ط، م. و في ب، س: «و قد خف حملا بها الغارب». و في سائر الأصول: «حلمي» مثل ط، م، غير أن في ج: «الغارب» و في أ: «القارب» تصحيف.
7- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «فقال له» بزيادة «له».
8- زيادة عن ط، م.
9- أغنيك أي أكفيك هذا الأمر الذي يشق عليك. و في أ: «أعينك».
10- في ط، ج، م: «و من أنت أعرفك».
11- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «أمره».
12- هذه الكلمة ساقطة في ب، س.
13- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «و كنت» بالواو.

الحارث بن كعب. و قال ابن جفنة لأصحابه: ما كانت يميني لتفي إلا بقتله أو هبته لرجل من بني الديّان؛ فإنّ يميني كانت على هذين الأمرين. فعظم بذلك يزيد في عين أهل الشام(1) و نبه ذكره و شرف.

استغاث هوازني يزيد في فلك أسر أخيه فأغاثه

و قال ابن الكلبيّ في هذه الرواية عن أبيه: جاور رجلان من هوازن، يقال لهما عمرو و عامر، في بني مرّة بن عوف بن ذبيان، و كانا قد أصابا دما في قومهما. ثم إنّ قيس بن عاصم المنقريّ أغار على بني مرّة بن عوف بن ذبيان، فأصاب عامرا أسيرا في عدّة أسارى كانوا عند بني مرّة، ففدى كلّ قوم أسيرهم من قيس بن/عاصم و تركوا الهوازنيّ، فاستغاث أخوه بوجوه بني مرّة: سنان بن أبي حارثة و الحارث بن عوف و الحارث بن ظالم و هاشم بن حرملة و الحصين بن الحمام فلم يغيثوه، فركب إلى موسم عكاظ، فأتى منازل مذحج ليلا فنادى:

دعوت سنانا و ابن عوف و حارثا *** و عاليت دعوى بالحصين و هاشم

أعيّرهم(2) في كلّ يوم و ليلة *** بترك أسير عند قيس بن عاصم

حليفهم الأدنى و جار بيوتهم *** و من كان عما سرّهم غير نائم

فصمّوا و أحداث الزمان كثيرة *** و كم في بني العلاّت(3) من متصامم

فيا ليت شعري من لإطلاق غلّه *** و من ذا الذي يحظى به في المواسم

قال: فسمع صوتا من الوادي ينادي بهذه الأبيات:

ألا أيّ هذا الّذي لم يجب *** عليك بحيّ يجلّي الكرب

عليك بذا الحيّ من مذحج *** فإنّهم للرّضا و الغضب

/فناد يزيد بن عبد المدان *** و قيسا و عمرو بن معديكرب

يفكّوا أخاك بأموالهم *** و أقلل بمثلهم في العرب

أولاك الرءوس فلا تعدهم *** و من يجعل الرأس مثل الذّنب!

قال: فاتبّع الصوت فلم ير أحدا، فغدا على المكشوح، و اسمه قيس بن عبد يغوث المراديّ، فقال له: إنّي و أخي رجلان من بني جشم بن معاوية أصبنا دما في قومنا، و إنّ قيس بن عاصم أغار على بني مرّة و أخي فيهم مجاور فأخذه أسيرا، فاستغثت بسنان بن أبي حارثة و الحارث بن عوف و الحارث بن ظالم و هاشم بن حرملة فلم يغيثوني. فأتيت الموسم لاصيب به من يفكّ أخي، فانتهيت إلى منازل مذحج، /فناديت بكذا و كذا، فسمعت من الوادي صوتا أجابني بكذا و كذا، و قد بدأت بك لتفكّ أخي. فقال له المكشوح: و اللّه إنّ قيس بن عاصم لرجل ما قارضته معروفا قطّ و لا هو لي بجار، و لكن اشتر أخاك منه و عليّ الثمن، و لا يمنعك غلاؤه(4). ثم أتى عمرو بن

ص: 274


1- في ط، ج، م: «فعظم بذلك يزيد في يمن الشام».
2- كذا في ط، ج، م. و في سائر الأصول: «أعيذهم» و هو تحريف.
3- بنو العلات: بنو أمهات شتى من أب واحد.
4- في ط، م: «و لا يمنعنك منه غلاء».

معديكرب فقال له مثل ذلك؛ فقال: هل بدأت بأحد قبلي؟ قال: نعم! بقيس المكشوح(1). قال: عليك بمن بدأت به. فتركه، و أتى يزيد بن عبد المدان فقال له: يا أبا النّضر، إنّ من قصّتي كذا و كذا. فقال له: مرحبا بك و أهلا، أبعث إلى قيس بن عاصم؛ فإن هو وهب لي أخاك شكرته، و إلا أغرت عليه حتى يتّقيني بأخيك؛ فإن نلتها و إلاّ دفعت إليك كلّ أسير من بني تميم بنجران فاشتريت بهم أخاك. قال: هذا الرضا. فأرسل يزيد إلى قيس بن عاصم بهذه الأبيات:

يا قيس أرسل أسيرا من بني جشم *** إنّي بكلّ الذي تأتي به جازي

لا تأمن الدّهر أن تشجى بغصّته *** فاختر لنفسك إحمادي و إعزازي

فافكك أخا منقر عنه و قل حسنا *** فيما سئلت و عقّبه بإنجاز

قال: و بعث بالأبيان رسولا إلى قيس بن عاصم؛ فأنشده إياها، ثم قال [له](2): يا أبا عليّ، إنّ يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام و يقول لك: إنّ المعروف قروض، و مع اليوم غد. فأطلق لي هذا الجشميّ؛ فإنّ أخاه قد استغاث بأشراف بني مرّة(3) و بعمرو بن معديكرب و بمكشوح مراد(4) فلم يصب عندهم حاجته فاستجار بي. و لو أرسلت إليّ في جميع أسارى مضر بنجران لقضيت حقّك. فقال/قيس بن عاصم لمن حضره من بني تميم: هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيّد مذحج و ابن سيّدها و من لا يزال له فيكم يد، و هذه فرصة لكم، فما ترون؟ قالوا:

نرى أن نغليه عليه و نحكم فيه شططا(5)؛ فإنه لن يخذله أبدا و لو أتى ثمنه على ماله. فقال قيس: بئس ما رأيتم! أ ما تخافون سجال الحروب و دول الأيّام و مجازاة القروض! فلمّا أبوا عليه قال: بيعونيه، فأغلوه عليه، فتركه في أيديهم، و كان أسيرا في يد رجل من بني سعد، و بعث إلى يزيد فأعلمه بما جرى، و أعلمه أنّ الأسير لو كان في يده أو في بني مقر(6) لأخذه و بعث به، و لكنه في يد رجل من بني سعد. فأرسل يزيد الى السعديّ أن سر(7) إليّ بأسيرك و لك فيه حكمك. فأتى به السعديّ يزيد بن عبد المدان؛ فقال له: احتكم. فقال: مائة ناقة و رعاؤها/. فقال له يزيد: إنّك لقصير الهمّة قريب الغنى جاهل بأخطار بني الحارث. أما و اللّه لقد غبنتك يا أخا بني سعد، و لقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جلّ أموالنا، و لكنكم يا بني تميم قوم قصار الهمم. و أعطاه ما احتكم. فجاوره الأسير و أخوه حتى ماتا عنده بنجران.

أغاز عبد المدان على هوازن في جماعة من بني الحارث فهزموا بني عامر

و قال ابن الكلبيّ: أغار عبد المدان على هوازن يوم السّلف(8) في جماعة من بني الحارث بن كعب، و كانت

ص: 275


1- في الأصول هنا بقيس بن المكشوح: «بزيادة ابن» تحريف.
2- زيادة في ط، م.
3- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «فقد استعان بأشراف بني جشم».
4- كذا في ط، ج. و مكشوح هنا مضاف إلى قبيلته مراد. و في سائر الأصول: «و بمكشوح بن مراد» تحريف.
5- الشطط: مجاوزة القدر في بيع أو طلب.
6- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «أو في يد منقر».
7- في ط، ح، م: «أن صر إليّ».
8- السلف: مخلاف باليمن.

حمته(1) على بني عامر خاصّة. فلمّا التقى القوم حمل على وبر(2) بن معاوية النّميريّ فصرعه، و ثنّى بطفيل بن مالك فأجرّه(3) الرمح، و طار به فرسه قرزل فنجا، و استحرّ القتل في بني عامر، و تبعت خيل بني الحارث من انهزم من /بني عامر، و في هذه الخيل عمير(4) و معقل و كانا من فرسان بني الحارث بن كعب، فلم يزالوا بقيّة يومهم لا يبقون على شيء أصابوه، فقال في ذلك عبد المدان:

عفا من سليمى بطن غول فيذبل(5) *** فغمرة فيف الرّيح فالمتنخّل(6)

ديار الّتي صاد الفؤاد دلالها *** و أغرت(7) بها يوم النّوى حين ترحل

فإن تك صدّت عن هواي و راعها(8) *** نوازل أحداث و شيب مجلّل

فيا ربّ خيل قد هديت بشطبة(9) *** يعارضها عبل الجزارة هيكل(10)

سبوح(11) إذا جال الحزام كأنّه *** إذا انجاب(12) عنه النّقع في الخيل أجدل

يواغل(13) جردا كالقنا حارثيّة *** عليها قنان و الحماس و زعبل(14)

معاقلهم في كلّ يوم كريهة *** صدور العوالي و الصّفيح المصقّل(15)

و زغف من الماذي بيض كأنّها *** نهاء مرتها بالعشيّات شمأل(16)

فما ذرّ قرن الشمس حتى تلاحقت *** فوارس يهديها عمير و معقل

فجالت على الحي الكلابيّ جولة *** فباكرهم ورد من الموت معجل

/فغادرن وبرا تحجل الطير حوله *** و نجّى طفيلا في العجاجة قرزل

ص: 276


1- كذا في ط، م. يريد: شدته. و في سائر الأصول: «حمية». و لعلها «و كانت حميته» أي حملته و شدته؛ يقال: مضى فلان في حميته أي حملته. (عن «لسان العرب» مادة حمى).
2- كذا في ط، م، و كذلك سيجيء في الشعر. و في سائر الأصول: «يزيد» و هو تحريف.
3- أجره الرمح: طعنه به و تركه فيه يجره.
4- في بعض الأصول: «عميرة».
5- غول: موضع، جبل أو واد أو ماء، فيه أقوال. و لعله اسم لعدّة مواضع. و يذبل: جبل بنجد.
6- غمرة، و فيف الريح، و المتنخل: مواضع.
7- في بعض الأصول: «و أعربنها» تحريف.
8- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «فراعها».
9- الشطبة (بالكسر و يفتح) من الخيل: الطويلة السبطة اللحم.
10- عبل الجزارة: ضخم الأطراف، و هي اليدان و الرأس و الرقبة. فإذا قيل فرس عبل الجزارة، فإنما يريدون اليدين و الرجلين و كثرة عصبهما؛ لأن عظم الرأس في الخيل هجنة. و الهيكل: المرتفع.
11- السبوح من الخيل: الذي يسبح بيديه أي يمدّهما في جريه.
12- كذا في ط، م، ج. و في سائر الأصول: «إذا انساب عند النقع». و الأجدل: الصقر.
13- يواغل جردا: يداخلها. و الجرد من الخيل: القصار الشعر، و هو في الخيل مدح.
14- الحماس، و قنان و زعبل: قبائل، و قد تقدمت في (ص 10).
15- معاقلهم: حصونهم. و العوالي: الرماح. و الصفيح المصقل: السيوف.
16- الزغف: الدروع اللينة الواسعة المحكمة أو الرقيقة حسنة السلاسل. يقال: درع زغف و زغفة، و دروع زغف. و الماذي هنا: السلاح من الحديد. و نهاه غدران، واحدها: نهى (بكسر أوله و فتحه). و مرتها، يريد مرت عليها فجعدت متونها و أصل المري مسح الحالب ضرع الحلوبة لتدر. و الشمأل: ريح الشمال.

فلم ينج إلاّ فارس من رجالهم *** يخفّف(1) ركضا خشية الموت أعزل

و ليزيد بن عبد المدان أخبار مع دريد بن الصّمّة قد ذكرت مع أخبار دريد في صنعة المعتضد مع أغاني الخلفاء، فاستغني عن إعادتها في هذا الموضع.

أنعم يزيد بن عبد المدان على ملاعب الأسنة و أخيه فلما مات رثته أختهما
اشارة

أخبرني عليّ بن سليمان قال أخبرني أبو سعيد السّكّري قال حدّثني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ و أبي عبيدة و ابن الكلبيّ، قالوا:

أغار يزيد بن عبد المدان و معه بنو الحارث بن كعب على بني عامر، فأسر عامر بن مالك ملاعب الأسنّة أبا براء و أخاه عبيدة بن مالك ثم أنعم عليهما. فلمّا مات يزيد بن عبد المدان - و اسم عبد المدان عمرو، و كنيته أبو يزيد، و هو ابن الديّان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو - قالت زينب بنت مالك بن جعفر بن كلاب أخت ملاعب الأسنّة ترثي يزيد بن عبد المدان:

بكيت يزيد بن عبد المدى *** ن حلّت به الأرض أثقالها

شريك الملوك و من فضله *** يفضل في المجد أفضالها

فككت أسارى بني جعفر *** و كندة إذ نلت أقوالها(2)

/و رهط المجالد قد جلّلت *** فواضل نعماك أجبالها

و قالت أيضا ترثيه:

سأبكي يزيد بن عبد المدان *** على أنّه الأحلم الأكرم

رماح من العزم مركوزة *** ملوك إذا برزت تحكم

/قال: فلامها قومها في ذلك و عيّروها بأن بكت يزيد؛ فقالت زينب:

ألا أيّها الزاري عليّ بأنّني *** نزاريّة أبكي كريما يمانيا

و ما لي لا أبكي يزيد و ردّني *** أجرّ جديدا مدرعي و ردائيا

صوت

أطل حمل(3) الشّناءة لي و بغضي *** و عش ما شئت فانظر من تضير

إذا أبصرتني أعرضت عنّي *** كأن الشمس من قبلي تدور

الشعر لعبد اللّه بن الحشرج الجعدي. و الغناء لابن سريح ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ.

ص: 277


1- في ب، س: «يخفق» بالقاف، تصحيف.
2- الأقوال: جمع قيل، و هو الملك عند أهل اليمن. أصله «قيول» وزان سيد، و يجمع أقوالا و أقيالا.
3- كذا في ط، ح، م. و في سائر الأصول: «حبل الشناءة».

2 - أخبار عبد الله بن الحشرج

نسب عبد اللّه بن الحشرج و أخلاقه

هو عبد اللّه بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن. و كان عبد اللّه بن الحشرج سيّدا من سادات قيس و أميرا من أمرائها، ولي أكثر أعمال خراسان، و من أعمال فارس، و كرمان. و كان جوادا ممدّحا. و فيه يقول زياد الأعجم(1):

[إنّ السماحة و الشّجاعة و النّدى *** في قبّة ضربت على ابن الحشرج

و له يقول أيضا(2):]

إذا كنت مرتاد السّماحة و النّدى *** فسائل تخبّر عن ديار الأشاهب

نسبه إلى الأشهب جدّه. و في بني الأشهب يقول نابغة بني جعدة:

أبعد فوارس يوم الشّري *** ف(3) آسى و بعد بني الأشهب

بعض أخبار أبيه و عمه زياد

و كان أبوه الحشرج بن الأشهب سيّدا شاعرا و أميرا كبيرا. و كان غلب على قهستان(4) في زمن عبد اللّه بن خازم، فبعث إليه عبد اللّه بن خازم المسيّب بن أوفى القشيريّ، فقتل الحشرج و أخذ قهستان. و كان عمّه زياد بن الأشهب أيضا شريفا سيّدا، و كان قد سار إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - عليه السلام - /يصلح بينه و بين معاوية على أن يولّيه الشام فلم يجبه. و في ذلك يقول نابغة بني جعدة يعتدّ على معاوية:

و قام زياد عند باب ابن هاشم *** يريد صلاحا بينكم و يقرّب

مدحه قدامة بن الأحرز فوصله و اعتذر

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدّثنا العمريّ عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال:

ص: 278


1- هو زياد بن سليمان مولى عبد القيس. كان ينزل إصطخر فغلبت العجمة على لسانه، فقيل له الأعجم. كان شاعرا جزل الشعر فصيح الألفاظ على لكنة لسانه. (انظر ترجمته. في ج 14 ص 102 من «الأغاني» طبع بولاق).
2- كذا في ط، م. و هذه الزيادة ساقطة من ب، س. و في سائر النسخ مضطربة.
3- الشريف: ماء لبني نمير. و يوم الشريف من أيامهم.
4- قهستان: (و أكثر ما تستعمل: قوهستان بالواو، و قد تخفف بحذفها): تطلق على عدّة مواضع ببلاد العجم، و المشهور بهذا الاسم ناحية بين هراة و نيسابور.

جاء الى عبد اللّه بن الحشرج و هو بقهستان رجل من قشير(1) يقال له قدامة بن الأحرز(2)، فدخل عليه و أنشأ يقول:

أخ و ابن عمّ جاءكم متحرّما(3) *** بكم فارأبوا(4) خلاّته يا ابن حشرج

فأنت ابن ورد سدت غير مدافع *** معدّا على رغم المنوط المعلهج(5)

/فبرّزت(6) عفوا إذا جريت ابن حشرج *** و جاء سكيتا كلّ أعقد أفحج(7)

سبقت ابن ورد كلّ حاف و ناعل *** بجدّ إذا حار(8) الأضاميم ممعج(9)

/بورد بن عمر فتّهم إنّ مثله *** قليل و من يشر المحامد يفلج(10)

هو الواهب الأموال و المشتري اللّها(11) *** و ضرّاب رأس المستميت المدجّج

قال: فأعطاه أربعة آلاف درهم، و قال: أعذرني يا ابن عمّي؛ فإنّي في حالة(12) اللّه بها عليم من كثرة الطّلاّب، و أنت أحقّ من عذرني. قال: و اللّه لو لم تعطني شيئا مع ما أعلمه من جميل رأيك في عشيرتك و من انقطع إليك لعذرتك، فكيف و قد أجزلت العطاء، و أرغمت الأعداء!

بلغه أن ابن عم له نال منه فقال فيه شعرا

و كان لابن الحشرج ابن عمّ يقول للقشيريّ: ويحك! ليس عنده خير، و هو يكذبك و يملذك(13). فبلغ ذلك عبد اللّه بن الحشرج فقال:

أطل حمل(14) الشّناءة لي و بغضي *** و عش ما شئت فانظر من تضير

ص: 279


1- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «قريش» و هو تحريف.
2- في ط، م: «بن الأخزر». و من أسمائهم «الأخزر» و «الأحرز».
3- كذا في ط، م. و في ب، س، أ: «متحرزا». و في ح: «متخربا».
4- في ب، س: «فعطفا على خلاته». و في سائر الأصول: «بكم فاربؤا خلاته». و الخلة (بالفتح): الحاجة و الفقر. و رأبها: إصلاحها و سدّها.
5- المنوط: الدعي الذي ينتمي إلى قوم ليس هو من أصلهم. و المعلهج: الأحمق الهذر اللئيم، و الدعي، و الهجين الذي ولد من جنسين مختلفين.
6- كذا في ط، م. و في سائر الأصول محرّفة بين «فمررت» و «فمردت».
7- السكيت (و تشدّد الكاف أيضا): آخر خيل الحلبة. و الأعقد: الملتوي الذنب. و الأفحج: ذو الفحج، و هو تداني صدور القدمين و تباعد العقبين. يريد كل ناقص غير تام الخلق.
8- كذا في ط، م. و في سائر الأصول محرفة بين: «جاء» و «جاز».
9- كذا في ط، م. و هذه الكلمة محرفة في سائر الأصول بين «ممنج» و «سمنج» «و سمحج». و الممعج: الكثير المعج، و هو السرعة في المر. و الأضاميم: الجماعات.
10- يفلج: يظفر.
11- اللها: جمع لهاة، و هي في الأصل اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. و الشاعر يكنى بها هنا عن الثناء و المديح.
12- في ب، س، أ: «على حالة».
13- في ب، س: «يلمزك» تحريف. و ملذة: أرضاه بكلام لطيف و أسمعه ما يسر من غير فعل.
14- في الأصول هنا ما عدا ط، ح، م: «عمل» تحريف. (انظر الحاشية الثالثة ص 277) من هذه الطبعة.

فما بيديك خير أرتجيه *** و غير صدودك الخطب(1) الكبير

إذا أبصرتني أعرضت عنّي *** كأنّ الشمس من قبلي تدور

و كيف تعيب من تمسي(2) فقيرا *** إليه حين تحزبك(3) الأمور

و من(4) إن بعت منزلة بأخرى *** حللت بأمره و به تسير

/أ تزعم أنّني ملذ كذوب *** و أنّ المكرمات لديّ بور(5)

و كيف أكون كذّابا ملوذا *** و عندي يطلب الفرج الضّرير

أواسي في النّوائب من أتاني *** و يجبر بي(6) أخو الضرّ الفقير

كان يعطي كثيرا فلامته زوجه و أيدها صديق له فقال شعرا

أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أحمد بن الهيثم عن العمريّ عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال:

أعطى عبد اللّه بن الحشرج بخراسان حتى أعطى منشفة [كانت](7) عليه و أعطى فراشة و لحافه. فقالت له امرأته: لشدّ ما تلاعب(8) بك الشيطان، و صرت من إخوانه مبذّرا؛ كما قال اللّه عزّ و جل: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ الشَّيٰاطِينِ . فقال عبد اللّه بن الحشرج لرفاعة بن زويّ(9) النّهدي و كان أخا له و صديقا: يا رفاعة، أ لا تسمع إلى ما قالت هذه الورهاء(10) و ما تتكلّم به؟! فقال: صدقت و اللّه و برّت! إنّك لمبذّر، و إنّ المبذّرين لإخوان الشياطين. فقال ابن الحشرج في ذلك:

متى يأتنا الغيث المغيث تجد(11) لنا *** مكارم ما تعيا بأموالنا التّلد(12)

/مكارم ما جدنا به إذ تمنّعت *** رجال و ضنّت في الرّخاء و في الجهد

أردنا بما جدنا به من تلادنا *** خلاف الّذي يأتي خيار بني نهد

ص: 280


1- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «الحرب» تحريف.
2- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «تمشي» بالشين.
3- كذا ط، ح، م. و في سائر الأصول: «تحزنك» بالنون، و هو تصحيف.
4- في الأصول ما عدا ط: «و ما إن» تحريف.
5- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «إلى بور».
6- كذا في ط، م، و تقرب منهما ح. و في سائر الأصول: «و يخبرني» تصحيف.
7- زيادة في ط، م.
8- في ب، س، أ: «ما يتلاعب».
9- في ط، م: «دويّ» بالدال المهملة و الواو. و في سائر الأصول: «روى» بالراء المهملة. و التصويب من كتاب «الاشتقاق» (ص 320).
10- الورهاء: الحمقاء. و في ط، م: «الزكا» محرفة عن «النوكاء» كما وردت في «معاهد التنصيص».
11- كذا في «معاهد التنصيص» (ص 261 طبعة بلاق سنة 1274 ه). و في سائر الأصول: «يجد».
12- التلد (بالفتح و بالضم و بالتحريك): المال القديم، كالتالد و التليد. و في الكلام قلب، أي تجد لنا مكارم ما تعيا بها أموالنا التلد.

تلوم على اتلافي المال طلّتي(1) *** و يسعدها نهد(2) بن زيد على الزّهد

أنهد بن زيد لست منكم فتشفقوا *** عليّ و لا منكم غواتي(3) و لا رشدي

- أراد «غوايتى» فحذف الياء ضرورة(4) -

أبيت(5) صغيرا ناشئا(6) ما أردتم *** و كهلا و حتّى تبصروني في اللّحد

/سأبذل مالي إنّ مالي ذخيرة *** لعقبي و ما أجني به ثمر الخلد

و لست بمبكاء على الزّاد باسل(7)*** يهرّ على الأزواد كالأسد الورد

و لكنّني سمح بما حزت باذل *** لما كلّفت كفّاي في الزّمن الجحد

بذلك أوصاني الرّقاد و قبله *** أبوه بأن أعطي و أوفي بالعهد

الرّقاد: ابن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب و هو من عمومته، و كان شجاعا سيّدا جوادا.

قال عطاء بن مصعب: و قال عبد اللّه بن الحشرج أيضا في [ذلك](8) هذه القصيدة - و قد ذكر ابن الكلبيّ و أبو اليقظان شيئا من هذه القصيد في كتابيهما المصنّفين و نسبا [ها](9) إليه -:

/

سأجعل مالي دون عرضي وقاية *** من الذّمّ؛ إن المال يفنى و ينفد

و يبقي لي الجود اصطناع عشيرتي *** و غيرهم و الجود عزّ مؤبّد

و متّخذ ذنبا(10) عليّ سماحتي *** بمالي، و نار البخل بالذّمّ توقد

يبيد الفتى و الحمد ليس ببائد *** و لكنّه للمرء فضل مؤكّد

و لا شيء يبقى للفتى غير جوده *** بما ملكت كفّاه و القوم شهّد

و لائمة في الجود نهنهت غربها(11)*** و قلت لها بني(12) المكارم أحمد

ص: 281


1- كذا في ط، ج، م. و طلة الرجل: زوجه. و في سائر الأصول: «خلتي» و الحلة (بالضم): الصديقة. و لعلها «حنتي» بالحاء المهملة المفتوحة و النون المشدّدة. و الحنة: الزوج أيضا.
2- نهد بن زيد: القبيلة التي منها رفاعة بن زوي النهدي الذي تقدّم.
3- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «غواي».
4- هذه الجملة ساقطة من م، و واردة في هامش ط، و في صلب سائر الأصول. و في الأصول ما عدا ط: «أراد غواي، فحذف التاء ضرورة».
5- كذا في ب، س. و في ط، م: «أردت» و في ح «و معاهد التنصيص»: «أتيت».
6- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: محرّفة بين «ناشدا» و «ناشزا» و «ناشرا».
7- باسل هنا: غاضب.
8- زيادة يقتضيها الكلام.
9- التكملة عن ط، م.
10- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «دينا» تصحيف.
11- نهنهت غربها: كفكفت حدّتها و زجرتها.
12- كذا في ط، ج، م، ف. و في سائر الأصول: «يبني» تحريف.

فلمّا ألحّت في الملامة و اعترت(1) *** بذلك غيظي و اعتراها التّبلّد

[عرضت عليها خصلتين سماحتي *** و تطليقها و الكفّ عنّي أرشد](2)

فلجّت و قالت أنت غاو مبذّر *** قرينك شيطان مريد(3) مفنّد

فقلت لها بيني فما فيك رغبة *** و لي عنك في النّسوان ظلّ و مقعد

و عيش أنيق و النّساء معادن *** فمنهنّ غلّ شرّها يتمرّد(4)

لها كلّ يوم فوق رأسي عارض *** من الشّرّ برّاق يد الدهر يرعد

و أخرى يلذّ العيش منها، ضجيعها *** كريم يغاديه من الطير أسعد

فيا رجلا حرّا خذ القصد و اترك ال *** بلايا فإنّ الموت للنّاس موعد

فعش ناعما و اترك مقالة عاذل *** يلومك في بذل النّدى و يفنّد

وجد باللّها(5) إنّ السماحة و النّدى *** هي الغاية القصوى و فيها التّمجّد

و حسب الفتى مجدا سماحة كفّه *** و ذو المجد محمود الفعال محسّد

طلق امرأته لعذله إياه فلامه حنظلة بن الأشهب فقال شعرا

قال فقالت له امرأته: و اللّه ما وفّقك اللّه لحظّك! أنهبت مالك و بذرته و أعطيته هيّان(6) بن بيّان و من لا تدري من أيّ(7) هافية هو! قال: فغضب فطلّقها، و كان لها محبّا و بها معجبا. فعنّفه فيها ابن عمّ لها يقال له حنظلة بن الأشهب بن رميلة(8)، و قال له: نصحتك فكافأتها بالطّلاق! فو اللّه ما وفّقت لرشدك، و لا نلت حظّك، و لقد خاب سعيك بعدها عند ذوي الألباب. فهلاّ مضيت لطيّتك(9)، و جريت على ميدانك، و لم تلتفت الى امرأة من أهل الجهالة و الطّيش لم تخلق للمشورة و لا مثل رأيها يقتدى به! فقال ابن الحشرج لحنظلة:

أ حنظل دع عنك الّذي نال ماله *** ليحمده الأقوام في كلّ محفل

فكم من فقير بائس قد جبرته *** و من عائل(10) أغنيت بعد التّعيّل

ص: 282


1- كذا في الأصول. و لعلها: «امترت» أي أثارت غيظي و استخرجته.
2- التكملة من ف.
3- المريد: الخبيث المتمرّد الشرير. و مفند: مضعف الرأي.
4- يتمرّد هنا: يتجاوز الحد.
5- اللها: العطايا، واحدتها لهوة (بالضم و الفتح).
6- هيان بن بيان: يقال لمن لا يعرف هو و لا يعرف أبوه.
7- كذا في ط، م. يقال هفت هافية من الناس أي طرأت. و في سائر الأصول: محرفة بين «و ما تدري أيها فئة» و «ما تدري أيتها فئة».
8- في ط، م: «ثرملة». و قد سموا «ثرملة». و لعل الأشهب بن رميلة أبا حنظلة هذا هو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة الشاعر الشجاع الذي وردت ترجمته في الجزء التاسع (ص 219 من هذه الطبعة) و رميلة أمه.
9- مضى لطيته أي لقصده و نيته التي انتواها.
10- العائل هنا: الفقير.

/

و من مترف عن منهج الحقّ جائر(1)*** علوت بعضب ذي غرارين مقصل(2)

و زار(3) عليّ الجود و الجود شيمتي *** فقلت له دعني و كن غير مفضل

فمثلك قد عاصيت دهرا و لم أكن *** لأسمع أقوال اللئيم المبخّل

أبى لي جدّي البخل مذ كنت(4) يافعا *** صغيرا و من يبخل يلم و يضلّل

و يستغن عنه الناس، فاركب محجّة ال *** كرام ودع ما أنت عنه بمعزل

/فإنّي(5) امرؤ لا أصحب الدهر باخلا *** لئيما و خير النّاس كلّ معذّل

و مستحمق غاو أتته نذيرتي(6)*** فلجّ و لم يعرف معرّة مقولي(7)

نفحت ببيت يملأ الفم شارد *** له حبر كأنّه حبر مغول(8)

فكفّ - و لو لم أرمه شاع قوله - *** و صار كدرياق الذّعاف المثمّل(9)

و ليل دجوجيّ سريت ظلامه *** بناجية كالبرج(10) و جناء عيهل(11)

إلى ملك من آل مروان ماجد *** كريم المحيّا سيّد متفضّل

يجود إذا ضنّت قريش برفدها *** و يسبقها في كلّ يوم تفضّل

أبوه أبو العاصي إذا الحرب(12) شمّرت *** مراها(13) بمسنون الغرارين منجل

وقور إذا هاجت به الحرب مرجم *** صبور عليها غير نكس مهلّل(14)

ص: 283


1- كذا في ط، م. و في ج: بدل «منهج الحق» «منهل الحق». و في سائر الأصول: «و من مرتق عن منهل الحق حائد». و المترف هنا: الجبار الذي أطغته النعمة.
2- كذا في ط، ج، م. و السيف المقصل: القطاع. و في سائر الأصول: «منصل» تحريف.
3- كذا في ط، م. و زار، أي عائب عليه و عاتب. و البيت ساقط من أ. و في سائر الأصول: «و زاد» تصحيف.
4- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «مذ كان».
5- ورد هذا البيت في أكثر الأصول بعد الذي يليه. و سياق الكلام يقتضي أن يكون موضعه هنا، كما هو في ط، م.
6- النذيرة: طليعة الجيش التي تنبئه بأمر العدوّ. و المراد هنا الإنذار و الكلام العنيف.
7- معرة مقولي: أذى لساني.
8- كذا في ط، م. و ورد بعد هذا البيت فيهما: «قال الحبر الأثر». و في سائر الأصول: «له خبر كأنه خبر مغول» تصحيف. و الحبر بالتحريك و بكسر فسكون): الأثر يبقى من الضربة في الجسم. و المغول: شبه سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه، أو هو سوط في جوفه سيف دقيق.
9- الدرياق (و يقال فيه الترياق): دواء تعالج به السموم. و الذعاف: السم القاتل لساعته. و المثمل: السم المنقع. و ظاهر أن الضمير في «صار» راجع إلى «بيت» في قوله «نفحت ببيت».
10- في ب، س: «كالبرق» و البرج: الحصن. يصفها بالضخامة.
11- ليل دجوجي: مظلم شديد السواد. و الناجية من النوق: السريعة. و الوجناء: الشديدة. و العيهل: السريعة.
12- كذا في ط، ج، م. و في سائر الأصول: «إذا الخيل».
13- كذا في ط، م. و في ج: «عراها». و في أكثر الأصول: «فراها» تحريف. و مرى الناقة. مسح ضرعها لتدر. و المرى هنا مجاز. و مسنون الغرارين: كناية عن الرمح. و المنجل: الواسع الجرح من الأسنة.
14- المرجم من الرجال: الشديد، كأنه يرجم به عدوّه. و النكس الضعيف الدنيء الذي لا خير فيه. و المهلل: الجبان؛ يقال: هلل الرجل، إذا فرّ و جبن.

أقام لأهل الأرض دين محمد *** و قد أدبروا و ارتاب كلّ مضلّل

/فما زال حتّى قوم الدّين سيفه *** و عزّ(1) بحزم كلّ قرم محجّل

و غادر أهل الشّك(2) شتّى، فمنهم(3) *** قتيل و ناج فوق أجرد هيكل

نجا من رماح القوم قدما(4) و قد بدا *** تباشيره في العارض المتهلّل

قال عاصم: يعني بهذا المدح محمد بن مروان لمّا قتل مصعب بن الزّبير بدير الجاثليق(5). و كان محمد بن مروان يقوم بأمره، و يولّيه الأعمال، و يشفع له إلى أخيه عبد الملك.

حواره مع ابن عم له لامه في تبذيره

أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أحمد بن الهيثم قال حدّثنا العمريّ عن عطاء بن(6) مصعب عن عاصم بن الحدثان قال:

قال عبد اللّه بن الحشرج لابن عمّ له لامه في إنهاب ماله و تبذيره إيّاه، و قال له فيما يقول: امرأتك كانت أعلم بك، نصحتك فكافأتها بالطلاق. فقال له: يا ابن عمّ، إنّ المرأة لم تخلق للمشورة، و إنما خلقت و ثارا للباءة(7).

و و اللّه إنّ الرّشد و اليمن لفي خلاف المرأة. يا ابن عمّ، إيّاك و استماع كلام النساء و الأخذ به؛ فإنك إن أخذت به ندمت. فقال له ابن عمّه: و اللّه ليوشكنّ أن تحتاج يوما إلى بعض ما أتلفت فلا تقدر عليه و لا يخلفه عليك هن و هن(8). فقال ابن الحشرج:

/

و عاذلة هبّت بليل تلومني *** و تعذلني فيما أفيد و أتلف

تلوّمتها(9) حتّى إذا هي أكثرت *** أتيت الذي كانت لديّ توكّف(10)

و قلت(11) عليك الفجّ(12) أكثرت في النّدى *** و مثلي تحاماه الألدّ المغطرف(13)

أبي لي ما قد سمتني غير واحد *** أب و جدود مجدها ليس يوصف

ص: 284


1- عز هنا: غلب. و القرم هنا: السيد من الرجال.
2- كذا في ط، ج، م. و في سائر الأصول: «أهل الشرك».
3- كذا في ط، م. و في أ: «شتى كأنهم». و في ج، ب، س: «حتى كأنهم» تحريف.
4- يقال: مضى فلان قدما (بضمتين، و قد يسكن كما هنا)، إذا مضى أمامه لم يعرج و لم يثنه شيء.
5- دير الجاثليق: كان قرب بغداد، غربي دجلة بين السواد و أرض تكريت.
6- في بعض الأصول: «عطاء عن مصعب» تحريف.
7- كذا في ط، م. و الوثار (بالفتح و بالكسر): الفراش الوطيء. و في سائر الأصول: «دثارا».
8- هن: كناية عن اسم الإنسان، أي لا يخلفه عليك فلان و فلان.
9- تلومتها: أمهلتها و انتظرت عليها.
10- توكف: توقع. و أصله «تتوكف».
11- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «و قالت» تحريف.
12- في ب، س: «الفخ» تصحيف. و الفج: الطريق الواسع البين. أي الزمي الطريق الواضح. يريد بذلك تسريحها و تطليقها. و قوله أكثرت في الندى أي أكثرت الكلام و اللوم فيه.
13- تحاماه: توقاه و اجتنبه و الألد من الرجال: الشديد الخصومة و الجدل. و المغطرف: المتكبر المختال.

/

كهول و شبّان مضوا لسبيلهم *** إذا ذكروا فالعين منّي تذرف

هم الغيث إن ضنّت سماء بقطرها *** و عندهم يرجو الحيا متلهّف

و حرب يخاف(1) النّاس شدّة عرّها(2)*** تظلّ(3) بأنواع المنيّة تصرف(4)

حموها و قاموا بالسّيوف لحميها(5)*** إذا فنيت أضحت لهم و هي تعصف

فلمّا أبت إلا طماحا تنمّروا *** بأسيافهم و القوم فيهم تعجرف(6)

فذلّت و أعطت بالقياد و أذعنت *** إذا ما اشتهى قومي و ذو الذّلّ ينصف

و كانت طموح الرّأس يصرف(7) نابها *** من الشّرّ تارات و طورا تقفقف(8)

[فلمّا امترينا بالسّيوف خلوفها *** تأبّت علينا و الأسنّة ترعف](9)

/فدرّت طباقا(10) و ارعوت بعد جهلها *** و كنّا رماما(11) للّذي يتصلّف

قال لابن زوي شعرا لأنه لامه في تبذيره

قال: و قال عبد اللّه بن الحشرج لرفاعة بن زويّ(12) النهديّ فيما كان يلومه فيه من التبذير و الجود:

ألام على جودي و ما خلت أنّني *** ببذلي و جودي جرت عن منهج(13) القصد

فيا لائمي في الجود أقصر فإنّني *** سأبذل مالي في الرّخاء و في الجهد

وجدت الفتى يفنى و تبقى فعاله(14) *** و لا شيء خير في الحديث من الحمد

و إنّي و بالله احتيالي و حرفتي(15) *** أصيّر جاري بين أحشاي(16) و الكبد

ص: 285


1- في ط، م: «يهاب».
2- في ب، س: «حرها» و العر: الشر و الأذى.
3- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «و ظل». تحريف.
4- تصرف: تصوّت؛ يقال: صرف الإنسان و البعير نابه و بنابه، إذا حرقه فسمعت له صوتا.
5- كذا في ط، ج، م. و في سائر الأصول: «لحيها» تحريف.
6- التعجرف، و مثله العجرفة و العجرفية: ركوبك الأمر لا تروّي فيه.
7- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «يصرف بابها» تصحيف.
8- قفقف و تقفقف: ارتعد.
9- زيادة في ط، م. و امترينا: حلبنا. و الخلوف: جمع خلف (بالكسر) و هو هنا حلمة الضرع.
10- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «فذرت» بالمعجمة، تصحيف. و طباقا: دفعات متوالية.
11- كذا في ط. و الرمام: جمع رمة (بالضم) و هي قطعة يشدّ بها الأسير و يقلد بها البعير. و في سائر الأصول: «زمانا» تحريف. و يتكبر: بتكبر.
12- ورد هذا الاسم محرّفا في الأصول هنا كما تقدّم في (ص 24).
13- كذا في ط، م. و في ج: «حزت عن منهل القصد». و في سائر الأصول: «حدت عن منهل القصد».
14- في ط، م: «و يبقى فعاله». و كلاهما مستقيم. و الفعال (بفتح الفاء): اسم للكرم و الفعل الحسن.
15- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «حرقتي» بالقاف، تصحيف.
16- في ط، م: «بين أحشاء» على حذف الياء.

أرى حقّه في الناس ما عشت(1) واجبا *** عليّ و آتي ما أتيت على عمد

و صاحب صدق كان لي ففقدته *** و صيّرني دهري إلى مائق(2) وغد

يلوم فعالي كلّ يوم و ليلة *** و يعدو على الجيران كالأسد الورد

يخالفني في كلّ حقّ و باطل *** و يأنف أن يمشي(3) على منهج الرّشد

فلمّا تمادى قلت غير مسامح *** له: النّهج فاركب يا عسيف(4) بني نهد

مدحه زياد الأعجم فوصله
اشارة

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل العتكيّ قال حدّثنا ابن عائشة قال:

/وفد زياد الأعجم على عبد اللّه بن الحشرج الجعديّ و هو بسابور(5) أمير عليها، فأمر بإنزاله و ألطفه و بعث إليه ما يحتاج إليه. ثم غدا عليه زياد فأنشده:

إنّ السّماحة و المروءة و النّدى *** في قبّة ضربت على ابن الحشرج

ملك أغرّ متوّج ذو نائل *** للمعتفين يمينه لم تشنج(6)

يا خير من صعد المنابر بالتّقى *** بعد النبيّ المصطفى المتحرّج(7)

لمّا أتيتك راجيا لنوالكم *** ألفيت باب نوالكم لم يرتج

قال: فأمر له بعشر آلاف درهم.

و قد قيل: إنّ الأبيات التي ذكرتها و فيها الغناء و نسبتها إلى عبد اللّه بن الحشرج لغيره. و القول الأصحّ هو الأوّل. أخبرني بذلك محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمري عن هشام بن الكلبيّ:

أنه سمع أبا باسل الطائيّ ينشد هذا الشعر، فقلت: لمن هو؟ فقال: لعمّي عنترة بن الأخرس(8). قال: و كان جدّي أخرس، فولد له سبعة أو ثمانية كلّهم شاعر أو خطيب(9). و لعلّ هذا من أكاذيب ابن/الكلبيّ، أو حكاه عن رجل ادّعى فيه ما لا يعلم.

ص: 286


1- في ط، م: «ما عشت في الناس».
2- كذا في ط، م. و المائق: الأحمق. و في سائر الأصول: محرّفة بين «سابق» و «سائق».
3- في ط، م: «يمسي» بالمهملة.
4- العسيف الأجير، و العبد المستهان به.
5- كذا في ط، م. و أخبار زياد الأعجم (جزء 14 صفحة 105 طبعة بلاق). و في سائر الأصول هنا: «بنيسابور». و سابور: كورة مشهورة بأرض فارس.
6- شنجت يده: تقبضت؛ و تقبض اليد كناية عن البخل، و بسطها كناية عن الكرم.
7- في بعض الأصول: «المستخرج» تحريف.
8- أورد أبو تمام في الحماسة (ص 108 طبعة أوربا) بعض أبيات منها منسوبة له.
9- في ط، م: «شاعر خطيب».
صوت

أ صاح ألا هل من سبيل إلى نجد *** و ريح الخزامى غضّة من ثرى جعد

و هل لليالينا بذي الرّمث(1) مرجع *** فنشفي جوى الأحزان من لاعج الوجد

عروضه من الطويل. الشعر للطّرمّاح بن حكيم. و الغناء ليحيى المكيّ، ثقيل أوّل بالبنصر من كتابه.

ص: 287


1- ذو الرمث: واد لبني أسد. (عن «معجم البلدان»).

3 - أخبار الطّرمّاح و نسبه

نسب الطرمّاح و بعض أخباره
اشارة

هو الطّرمّاح بن حكيم بن الحكم بن نفر بن قيس بن جحدر(1) بن ثعلبة بن عبد رضا بن مالك بن أمان(2) بن عمرو بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء. و يكنى أبا نفر، و أبا ضبينة(3). و الطّرمّاح: الطويل القامة. و قيل: إنّه [كان](4) يلقّب الطّرّاح. أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه قال:

كان الطّرمّاح بن حكيم يلقّب الطّرّاح(5) لقوله:

صوت

(4)

ألا أيّها اللّيل الطويل ألاّ ارتح *** بصبح(6) و ما الإصباح منك بأروح

بلى إنّ للعينين في الصّبح راحة *** بطرحهما طرفيهما كلّ مطرح

في هذين البيتين لأحمد بن المكيّ ثقيل أوّل بالوسطى من كتابه.

و الطّرمّاح من فحول الشعراء الإسلاميين و فصحائهم. و منشؤه بالشأم، و انتقل إلى الكوفة بعد ذلك مع من وردها من جيوش أهل الشام، و اعتقد مذهب الشّراة الأزارقة(7).

/أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن المدائني عن أبي بكر الهذليّ قال:

قدم الطّرمّاح بن حكيم الكوفة، فنزل في تيم اللاّت بن ثعلبة، و كان فيهم شيخ من الشّراة له سمت و هيئة،

ص: 288


1- في ج: «جحد» و في سائر الأصول: «حجر». و التصويب من ط، م، و «المعارف» و «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة.
2- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «أبان» تحريف.
3- في الأصول ما عدا ط، م: «أبا ضيبة» بالباء، تصحيف.
4- التكملة من ط، م.
5- في الأصول ما عدا ط، م: «الطرماح» تحريف.
6- في هامش ط: «و يروي ببم» مكان قوله: بصبح». و رواية البيت في «الديوان» و «اللسان» (بمم)، و «معجم البلدان» (بمّ): ألا أيها الليل الذي طال أصبحن ببمّ و ما الإصباح فيك بأروح و بمّ: مدينة بكرمان. في ط، م: «فيك» بدل «منك».
7- الشراة: الخوارج. و الأزارقة طائفة منهم، و هم أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق، خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز فغلبوا عليها و على كورها و ما وراءها من بلدان فارس و كرمان، أيام عبد اللّه بن الزبير، و قتلوا عماله في تلك النواحي. و لهم بدع، منها أنهم يكفرون أصحاب الكبائر، حتى لقد كفروا عليا و عثمان و طلحة و الزبير و عائشة و عبد اللّه بن عباس، رضي اللّه عنهم و سائر من معهم من المسلمين، و صوّبوا فعلة ابن ملجم في قتله عليا رضي اللّه عنه، و جوّزوا قتل المخالفين لهم و سبي نسائهم.

و كان الطّرمّاح يجالسه و يسمع منه، فرسخ كلامه في قلبه، و دعاه الشيخ إلى مذهبه، فقبله و اعتقده أشدّ اعتقاد و أصحّه، حتى مات عليه.

أخبرني ابن دريد قال حدّثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال قال رؤبة:

كان الطّرمّاح و الكميت يصيران إليّ فيسألاني عن الغريب فأخبرهما به، فأراه بعد في أشعارهما.

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال سمعت محمد بن حبيب يقول:

سألت ابن الأعرابيّ عن ثماني عشرة مسألة كلّها من غريب شعر الطّرماح، فلم يعرف منها واحدة، يقول في جميعها: لا أدري، لا أدري.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرنا إبراهيم بن أيّوب قال حدّثنا ابن قتيبة، قالا:

كان الكميت بن زيد صديقا للطّرمّاح، لا يكادان يفترقان في حال من أحوالهما. فقيل للكميت: لا شيء أعجب من صفاء ما بينك و بين الطّرمّاح على تباعد ما يجمعكما من النّسب و المذهب و البلد(1): هو شآمي قحطاني شاريّ، و أنت كوفيّ نزاريّ شيعيّ، فكيف اتّفقتما مع تباين المذهب و شدّة العصبيّة؟ فقال: اتّفقنا على بغض العامّة.

قال: و أنشد الكميت قول الطرمّاح:

/

إذا قبضت نفس الطّرمّاح أخلقت *** عرى المجد و استرخى عنان القصائد

فقال: إي و اللّه! و عنان الخطابة و الرواية و الفصاحة و الشجاعة. و قال عمر بن شبّة: «و السماحة» مكان «الشجاعة».

وفد على مخلد بن زياد و معه الكميت و قصتهما في ذلك

نسخت من كتاب جدّي لأمّي يحيى بن محمد بن ثوابة - رحمه اللّه تعالى - بخطه قال حدّثني الحسن(2) بن سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

وفد الطّرمّاح بن حكيم و الكميت بن زيد علي مخلد بن يزيد المهلّبيّ، فجلس لهما و دعاهما(3). فتقدّم الطّرمّاح لينشد؛ فقال(4) له: أنشدنا قائما. فقال: كلاّ و اللّه! ما قدر الشعر أن أقوم له فيحطّ مني بقيامي و أحطّ منه بضراعتي، و هو عمود الفخر و بيت الذّكر لمآثر العرب. قيل له: فتنحّ. و دعي بالكميت فأنشد قائما، فأمر له بخمسين ألف درهم. فلمّا خرج الكميت شاطرها الطّرمّاح، و قال له: أنت أبا ضبينة أبعد همّة و أنا ألطف حيلة.

و كان الطرماح يكنى أبا نفر و أبا ضبينة.

ص: 289


1- كذا في ط. و في سائر الأصول: «و البلاد».
2- كذا في ط. و في سائر الأصول هنا: «الحسين بن سعد» تحريف. (راجع السند الذي بعده، و الجزء التاسع صفحة 103 سطر 12).
3- في ط: «و دعا بهما».
4- في ط: «فتقدّم الطرماح لسنه، فقيل له أنشد قائما فقال: كلا...».
كان هو و الكميت في مسجد الكوفة فقصدهما ذو الرمة فاستنشدهما و أنشدهما

و نسخت من كتابه رضي اللّه عنه: أخبرني الحسن بن سعيد قال أخبرني ابن علاّق قال أخبرني شيخ لنا أنّ خالد بن كلثوم أخبره قال:

بينا أنا في مسجد الكوفة أريد الطّرمّاح و الكميت و هما جالسان بقرب باب(1) الفيل، إذ رأيت أعرابيا قد جاء يسحب أهداما(2) له، حتى إذا توسّط المسجد خرّ ساجدا، ثم رمى ببصره فرأى الكميت و الطّرمّاح فقصدهما.

فقلت: من هذا الحائن(3) الذي وقع بين هذين الأسدين! و عجبت من سجدته في غير موضع سجود و غير وقت صلاة. فقصدته، ثم سلّمت عليهم ثم جلست أمامهم. فالتفت إلي الكميت فقال: أسمعني شيئا يا أبا المستهلّ؛ فأنشده قوله:

أبت هذه النّفس إلاّ ادّكارا

/حتى أتى على آخرها. فقال له: أحسنت و اللّه يا أبا المستهلّ في ترقيص هذه القوافي و نظم عقدها(4)! ثم التفت إلى الطّرمّاح فقال: أسمعني شيئا يا أبا ضبينة؛ فأنشده كلمته التي يقول فيها:

أساءك تقويض(5) الخليط المباين *** نعم و النّوى قطّاعة للقرائن

فقال: للّه درّ هذا الكلام! ما أحسن إجابته لرويّتك! إن كدت(6) لأطيل لك حسدا. ثم قال الأعرابيّ: و اللّه لقد قلت بعدكما ثلاثة أشعار، أمّا أحدها فكدت أطير به في السماء فرحا. و أمّا الثاني فكدت أدّعي به الخلافة. و أمّا الثالث فرأيت(7) رقصانا استفزّني به الجذل حتّى أتيت عليه. قالوا: فهات؛ فأنشدهم [قوله](8):

أ أن توهّمت من خرقاء منزلة *** ماء الصّبابة من عينيك مسجوم(9)

حتّى إذا بلغ قوله:

تنجو إذ جعلت تدمى أخشّتها *** و ابتلّ بالزّبد الجعد الخراطيم(10)

ص: 290


1- باب الفيل: موضع بالكوفة. سمى بذلك لأن زياد بن أبيه لما تزوّج أم أيوب بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط و هي حدثة كان يأمر بفيل كان عنده فيوقف، فتنظر إليه أم أيوب. (الطبري ق 2 ص 27).
2- الأهدام: جمع هدم (بالكسر) و هو الثوب البالي المرقع.
3- الحائن: الهالك، و كل ما لم يوفق للرشاد فهو حائن.
4- كذا في ط. و في سائر الأصول: «و تعلم عقدها» تحريف.
5- التقويض هنا: نزع القوم أعواد خيامهم و أطنابها. و الخليط هنا: القوم الذين أمرهم واحد. و ذلك أن العرب كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع ألفة، فإذا قوضوا خيامهم و افترقوا و رجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك.
6- كذا في ط. و في سائر الأصول: «إن كنت» تحريف.
7- في ط: «فلقد رأيت».
8- زيادة في ط، م.
9- في «ديوان ذي الرمة»: «أعن ترسمت» بإبدال الهمزة عينا. و ترسمت الدار: نظرت رسومها. و الصبابة: رقة الشوق. و مسجوم: مصبوب.
10- تنجو: تسرع. و الأخشة: جمع خشاش و هو الحلقة التي توضع في أنف البعير ليجذب بها. و الجعد بها. و الجعد من الزبد: الثخين الغليظ، فإن كان رقيقا فهو هيّيان (بتشديد الياء مكسورة).

قال: أعلمتم أنّي في طلب هذا البيت منذ سنة، فما ظفرت به إلاّ آنفا، و أحسبكم قد رأيتم السجدة له. ثم أسمعهم قوله:

ما بال عينك منها الماء ينسكب

ثم أنشدهم كلمته الأخرى التي يقول فيها:

إذا اللّيل عن نشز تجلّى رمينه *** بأمثال أبصار النّساء الفوارك

/قال: فضرب الكميت بيده على صدر الطّرمّاح، ثم قال: هذه و اللّه الدّيباج لا نسجي و نسجك الكرابيس(1).

فقال الطرماح: لن أقول ذلك و إن أقررت بجودته. فقطّب(2) ذو الرّمّة و قال: يا طرمّاح! أ أنت تحسن أن نقول:

و كائن تخطّت ناقتي من مفازة *** إليك و من أحواض ماء مسدّم(3)

بأعقاره القردان هزلى كأنّها *** نوادر صيصاء الهبيد المحطّم(4)

فأصغى الطّرمّاح إلى الكميت و قال له: فانظر ما أخذ من ثواب هذا الشعر! - قال: و هذه قصيدة مدح بها ذو الرّمّة عبد الملك، فلم يمدحه فيها و لا ذكره إلاّ بهذين البيتين، و سائرها في ناقته. فلمّا قدم على عبد الملك بها أنشده إيّاها. فقال له: ما مدحت بهذه القصيدة إلا ناقتك، فخذ منها الثّواب. و كان ذو الرّمّة غير محظوظ من المديح - قال: فلم يفهم ذو الرمّة قول الطرماح للكميت. فقال له الكميت: إنه ذو الرمّة و له فضله، فأعتبه(5) فقال له الطرماح: معذرة إليك! إنّ عنان الشّعر لفي كفّك، فارجع معتبا، و أقول فيك كما قال أبو المستهلّ.

مر يخطر بمسجد البصرة فسأل عنه رجل فأنشد هو شعرا
اشارة

أخبرني الحسن بن علي و محمد بن يحيى الصّولي قالا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن إبراهيم بن عبّاد قال حدّثني أبو تمّام الطائيّ قال:

مرّ الطرماح بن حكيم في مسجد البصرة و هو يخطر في مشيته. فقال رجل: من هذا الخطّار؟ فسمعه فقال: أنا الذي أقول:

صوت

لقد زادني حبّا لنفس أنّني *** بغيض إلى كلّ امرئ غير طائل(6)

ص: 291


1- الكرابيس: جمع كرباس (بكسر الكاف) و هو ثوب غليظ من القطن.
2- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «فغضب».
3- الماء المسدم: المتغير لطول العهد.
4- في هذا البيت تحريف كثير في الأصول. و الصواب في ط و «الديوان». و الأعقار: جمع عقر. و عقر الحوض: مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردت. و في «الديوان»: «بأعطانه». و قد أشار شارح «الديوان» إلى روايتنا. و الأعطان: مبارك الإبل. و الهبيد: حب الحنظل. و الصيصاء: الضاوي الهزيل منه. يقول: القردان ليس لديها شيء تأكله فهي هزلى؛ فشبهها بما يشذ و يخرج من ضاوي حب الحنظل. (راجع شرح «الديوان»).
5- أعتبه: أرضاه و أزال عتبه.
6- رجل غير طائل أي دون خسيس.

و أنّي شقيّ باللّئام و لا ترى *** شقيّا بهم إلاّ كريم الشمائل

إذا ما رآني قطّع اللحظ(1) بينه *** و بيني فعل العارف المتجاهل

ملأت عليه الأرض حتى كأنّها *** من الضّيق في عينيه كفّة(2) حابل

في هذه الأبيات لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل أوّل بالبنصر.

قصته مع خالد القسرى حين وفد عليه بمدح

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرنا إسماعيل بن مجمّع قال حدّثنا هشام بن محمد قال أخبرنا ابن أبي العمرّطة الكنديّ قال:

مدح الطّرمّاح خالد بن عبد اللّه القسريّ، فأقبل على العريان(3) بن الهيثم فقال: إنّي قد مدحت الأمير فأحبّ أن تدخلني عليه. قال: فدخل إليه فقال له: إنّ الطّرمّاح قد مدحك و قال فيك قولا حسنا. فقال: ما لي في الشعر من حاجة. فقال العريان للطرمّاح: تراء له. فخرج معه(4)، فلمّا جاوز دار زياد و صعد المسنّاة(5) إذا شيء قد ارتفع له، فقال: يا عريان انظر، ما هذا؟ فنظر ثم رجع فقال: أصلح اللّه الأمير! هذا شيء بعث به إليك عبد اللّه بن أبي موسى من سجستان؛ فإذا حمر و بغال و رجال و صبيان و نساء. فقال: يا عريان، أين طرمّاحك هذا؟ قال: هاهنا. قال:

أعطه كلّ ما قدم به. فرجع إلى الكوفة بما شاء و لم ينشده. قال هشام: و الطّرمّاح: الطويل.

سمع بيتا لكثير في عبد الملك فقال لم يمدحه بل موّه

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم قال حدّثني الحجّاجيّ(6) قال:

بلغني أنّ الطّرمّاح جلس في حلقة فيها رجل من بني عبس، فأنشد العبسيّ قول كثيّر في عبد الملك:

فكنت المعلّى إذ أجيلت(7) قداحهم *** و جال المنيح وسطها يتقلقل

/فقال الطّرمّاح: أما إنه ما أراد به أعلامهم كعبا، و لكنه موّه عليه في الظاهر و عنى في الباطن أنه السابع من الخلفاء الذين كان كثيّر لا يقول بإمامتهم؛ لأنه أخرج عليّا عليه السلام منهم، فإذا أخرجه كان عبد الملك السابع، و كذلك المعلّى السابع من القداح؛ فلذلك قال ما قاله. و قد ذكر ذلك في موضع آخر فقال:

و كان الخلائف بعد الرّسو *** ل للّه كلّهم تابعا

شيدان من بعد صدّيقهم *** و كان ابن حرب(8) لهم رابعا

ص: 292


1- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «اللحن» تحريف. و في «الديوان»: «الطرف دونه و دوني فعل... الخ».
2- كفة الصائد: حبالته، أي مصيدته.
3- كان العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي أحد أشراف العراق المقدمين حين كان خالد القسري أميرا على العراق.
4- أي خرج العريان مع خالد.
5- المسناة: الأحباس تبنى في وجه السيل.
6- في ب، س، أ، ح: «المجاجي» تحريف.
7- في أ، ح، ب، س: «أجلت». و المعلى من القداح، له أكبر نصيب من أنصبة قداح الميسر، و هي عشرة. و المنيح: قدح منها لا نصيب له.
8- وردت هذه الكلمة في أكثر الأصول محرفة بين «خولى» و «حرلى» و «حولى» و الصواب؛ في ط، م. و ابن حرب هو معاوية بن أبي سفيان.

و كان ابنه بعده خامسا *** مطيعا لمن قبله سامعا

و مروان سادس من قد مضى *** و كان ابنه بعده سابعا

قال: فعجبنا من تنبّه الطرمّاح(1) لمعنى قول كثيّر، و قد ذهب على عبد الملك فظنّه مدحا.

فضله أبو عبيدة و الأصمعيّ ببيتين له

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ قال:

كان أبو عبيدة و الأصمعي يفضّلان الطّرمّاح في هذين البيتين، و يزعمان أنّه فيهما أشعر الخلق:

/

مجتاب حلّة برجد لسراته *** قددا و أخلف ما سواه البرجد(2)

يبدو و تضمره البلاد كأنّه *** سيف على شرف يسلّ و يغمد

اثني أبو نواس على بيت له

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا دماذ قال قال أبو نواس: أشعر بيت قيل بيت الطّرمّاح:

إذا قبضت نفس الطّرمّاح أخلقت *** عرى المجد و استرخى عنان القصائد

مناقضة بينه و بين حميد اليشكري

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبيدة قال: فضّل الطرمّاح بني شمخ(3) في شعره على بني يشكر؛ فقال حميد اليشكريّ:

أ تجعلنا إلى شمخ بن جرم(3) *** و نبهان فأفّ لذا زمانا(4)

و يوم الطّالقان حماك(5) قومي *** و لم تخضب بها طيّ سنانا

فقال الطرمّاح يجيبه:

لقد علم المعذّل يوم يدعو *** برمثة(6) يوم رمثة إذ دعانا

فوراس طيّئ منعوه لمّا *** بكى جزعا و لو لا هم لحانا(7)

فقال رجل من بني يشكر:

لأقضينّ قضاء غير ذي جنف *** بالحقّ بين حميد و الطّرمّاح

ص: 293


1- في ط، م: «من فطنة الطرماح».
2- مجتاب حلة: لابسها، من اجتاب الشيء: قطعه. و السراة: الظهر. و البرجد (بالضم): كساء من صوف أحمر. يريد أن يصف متن الثور الوحشي بالحمرة. و قيل: البرجد: كساء مخطط ضخم. و القدد: جمع قدة (بالكسر) و هي القطة من الشيء.
3- في أكثر الأصول و «ديوان الطرماح» (ص 181) «سمح بن حزم» و الصواب في ط، م. و شمخ ابن جرم و نبهان: بطنان من طيء.
4- في أكثر الأصول و «ديوان الطرماح»: «فان لنا زمانا» و الصواب في ط، م.
5- في أكثر الأصول: «حمال» باللام. و الصواب في ط، م. و الطالقان: سام بلدتين، إحداهما بخراسان بين مرو الروذ بلخ، بينها و بين مرو الروذ ثلاث مراحل. و الأخرى بلدة و كورة بين قزوين و أبهر.
6- رمثة: ماء و نخل لبني ربيعة باليمامة.
7- حان: هلك.

جرى الطّرمّاح حتى دقّ مسحله(1) *** و غودر العبد مقرونا بوضّاح

يعني رجلا من بني تميم كان يهاجي اليشكريّ.

شعر له في الشراة

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا الرّياشيّ قال قال الأصمعيّ قال خلف: كان الطّرمّاح يرى رأي الشّراة، ثم أنشد له:

للّه درّ الشّراة إنّهم *** إذا الكرى مال بالطّلى(2) أرقوا

/يرجعون الحنين آونة *** و إن علا ساعة بهم شهقوا

خوفا تبيت القلوب واجفة *** تكاد عنها الصدور تنفلق

كيف أرجّي الحياة بعدهم *** و قد مضى مؤنسي فانطلقوا

قوم شحاح على اعتقادهم *** بالفوز ممّا يخاف قد وثقوا

أنشد خالدا القسري شعرا في الشكوى فأجازه

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو عثمان عن التّوّزيّ عن أبي عبيدة عن يونس قال:

دخل الطّرمّاح على خالد بن عبد اللّه القسريّ فأنشده قوله:

و شيّبني ما لا أزال مناهضا *** بغير غنى أسمو به و أبوع(3)

و أنّ رجال المال أضحوا و مالهم *** لهم عند أبواب الملوك شفيع

أ مخترمي ريب المنون و لم أنل *** من المال ما أعصى به و أطيع

فأمر له بعشرين ألف درهم و قال: امض الآن فاعص بها و أطع.

قال المفضل: كأنه يوحي إليه، في الهجاء. ثم أنشد من هجائه

أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا حذيفة بن محمد الكوفيّ قال قال المفضّل:

إذا ركب الطرمّاح الهجاء فكأنّما(4) يوحى إليه، ثم أنشد له قوله:

لو حان ورد تميم ثم قيل(5) لها *** حوض الرّسول عليه الأزد لم ترد

/أو أنزل اللّه وحيا أن يعذّبها *** إن لم تعد لقتال الأزد لم تعد

لا عزّ نصر امرئ أضحى له فرس *** على تميم يريد النصر من أحد

ص: 294


1- المسحل هنا: اللجام، و قيل فأس اللجام.
2- الطلى: الأعناق، واحدها طلية.
3- يبوع: يمد باعه. يريد يبسط يده بالإنفاق و البذل.
4- في ط، م: «فكأنه».
5- في أكثر الأصول: «ثم قال لها». و الصواب في ط، م.

لو كان يخفى على الرحمن خافية *** من خلقه خفيت عنه بنو أسد(1)

افتقده بعض صحبه فلم يرعهم إلا نعشه
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس قال أخبرنا عمر بن شبّة قال حدّثني المدائنيّ قال حدّثني ابن دأب عن ابن شبرمة، و أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال أخبرني أبي قال حدّثني الحسن بن عبد الرحمن الرّبعيّ قال حدّثني محمد بن عمران قال حدّثني إبراهيم بن سوّار الضّبّيّ قال حدّثني محمد بن زياد القرشيّ عن ابن شبرمة قال:

كان الطّرمّاح لنا جليسا ففقدناه أيّاما كثيرة، فقمنا بأجمعنا لننظر ما فعل و ما دهاه. فلما كنّا قريبا من منزله إذا نحن بنعش عليه مطرف أخضر، فقلنا: لمن هذا النّعش؟ فقيل: هذا نعش الطّرمّاح. فقلنا: و اللّه ما استجاب اللّه له حيث يقول:

و إني لمقتاد جوادي و قاذف(2) *** به و بنفسي العام إحدى المقاذف

لأكسب مالا أو أؤول إلى غنى *** من اللّه يكفيني عدات(3) الخلائف

فيا ربّ إن حانت وفاتي فلا تكن(4) *** على شرجع يعلى بخضر(5) المطارف

و لكن قبري بطن نسر مقيله *** بجوّ السماء في نسور عواكف

/و أمسى شهيدا ثاويا في عصابة *** يصابون في فجّ من الأرض خائف

فوارس من شيبان ألّف بينهم *** تقى اللّه نزّالون عند التّزاحف

إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى *** و صاروا إلى ميعاد ما في المصاحف(6)

صوت

هل بالدّيار التي(7) بالقاع من أحد *** باق فيسمع صوت المدلج السّاري

تلك المنازل من صفراء ليس بها *** حيّ يجيب(8) و لا أصوات سمّار

الشعر لبيهس الجرميّ. و الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو و قال ذكر ذلك يحيى المكيّ، و أظنّه من المنحول. و فيه لطيّاب بن إبراهيم الموصليّ خفيف ثقيل، و هو مأخوذ من لحن ابن صاحب الوضوء:

ارفع ضعيفك لا يحربك ضعفه(9)

ص: 295


1- ورد هذا البيت في ط. قبل البيت الذي سبقه.
2- في «أساس البلاغة» (مادة قذف): «فقاذف».
3- العدات: جمع عدة، و هي ما يوعد به من صلة. و الخلائف: جمع خليفة.
4- في «الديوان»: «اذا العرش إن حانت... الخ». و في «عيون الأخبار» (ج 2 ص 207 طبع دار الكتب): «فيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت».
5- في «الشعر و الشعراء»، و «عيون الأخبار»: «يعلى بدكن». و الشرجع: النعش، و هو السرير يحمل عليه الميت.
6- في «الديوان»: «موعود ما في المصاحف».
7- كذا في ط، م. و في أكثر الأصول: «و هل» بدل «التي».
8- في ب، س: «نار تضيء» و كذلك وردت هذه الرواية فيهما في (ج 19 ص 107) و فيهما: «و يروي:..... ليس بها حي يجيب......».
9- تمامه يوما فتدركه العواقب قد نما راجع «الأغاني» (ج 3 ص 134 من هذه الطبعة).

4 - أخبار بيهس و نسبه

اشارة

4 - أخبار بيهس و نسبه(1)

نسبه

هو بيهس بن صهيب(2) بن عامر بن عبد اللّه بن ناتل(3) بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد بن كثير بن غالب ابن عديّ بن سميس(4) بن طرود بن قدامة بن جرم بن ربّان(5) بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، شاعر فارس من شعراء الدولة الأمويّة. و كان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم و كلب و عذرة، و يحضر إذا حضروا فيكون بأجناد الشام.

اتهم بقتل غلام من قيس فاستجار بمحمد بن مروان
اشارة

قال أبو عمرو الشيبانيّ: لمّا هدأت الفتنة بعد وقعة مرج [راهط](6) و سكن الناس، مرّ غلام من قيس بطوائف من جرم و عذرة و كلب، و كانوا متجاورين على ماء هناك لهم. فيقال: إنّ بعض أحداثهم نخس به ناقته فألقته، فاندقت عنقه فمات. و استعدى قومه عبد الملك بن مروان، فبعث إلى تلك البطون من جاءه بوجوههم و ذوي الأخطار منهم، فهرب بيهس بن صهيب(2) الجرميّ - و كان قد اتّهم بأنه هو الذي نخس به - فنزل بمحمد بن مروان و استجار به، فأجاره إلاّ من حدّ توجبه عليه شهادة، فرضي بذلك.

صوت

ألا يا حمامات اللّوى عدن عودة *** فإنّي إلى أصواتكنّ حرين

فعدن فلمّا عدن يمتنني *** و كدت بأسراري لهنّ أبين

ص: 296


1- هكذا ورد هنا نسب بيهس و خبر مبتور من أخباره. و لا ندري كيف وقع ذلك؛ إذ ترجمته الكاملة قد وردت في الجزء التاسع عشر صفحة 107 و ما بعدها من طبعة بلاق. و هذا الخبر الوارد هنا لم يرد هناك.
2- كذا في ط، م و مختار «الأغاني». لابن منصور و ب، س في الجزء التاسع عشر. و في سائر الأصول هنا: «نصيب».
3- كذا في ط و مختار «الأغاني». و في ح هنا و ب، س في الجزء التاسع عشر: «نائل». و في سائر الأصول: «ناثل» بالمثلثة.
4- كذا في ط، م. و في مختار «الأغاني»: «بيهس» بدل «سميس». و في ب، س في التاسع عشر: «شمس» بدل «سميس». و يطرد النسب فيهما هناك كما في ط، م في أحد الموضعين (إذا تكررت فيها هذه الترجمة) و «مختار الأغاني» هنا. و في ب، س، ح هنا: «غالب بن عديّ بن بيهس بن عدي - في ح: ابن علي - بن بيهس بن طرود». و في أ، م (في الموضع الآخر): «غالب بن عدي بن سمين بن علي بن بيهس بن طرود».
5- في الأصول: «زبان» بالزاي المعجمة. و في أحد موضعي م: «ريان» تصحيف. (راجع «تاج العروس» مادة «ربن»).
6- التكملة من ط، م. و مرج راهط، بنواحي دمشق، كانت به وقعة بين مروان بن الحكم و الضحاك بن قيس الفهري قتل بها الضحاك، و كان يدعو لعبد اللّه بن الزبير.

دعون بأصوات الهديل كأنّما *** شربن حميّا أو بهنّ جنون

فلم تر عيني مثلهنّ حمائما *** بكين و لم تدمع لهنّ عيون

الشعر لأعرابيّ، هكذا أنشدناه جعفر بن قدامة عن أحمد بن حمدون عن أحمد ابن إبراهيم بن إسماعيل.

و الغناء لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر(1) خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ. و قد قيل: إنّ الشعر لابن الدّمينة.

ص: 297


1- في أكثر الأصول: «بشخير» و الصواب في ط. و كذلك ورد هذا الاسم محرّفا في الأصول ما عدا ط، في كل المواضع، في الترجمة الآتية.

5 - أخبار محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر

نسبه و بعض أخباره

هو محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، و يكنى أبا جعفر. و هم، فيما يزعمون، موالي المنصور. و أحسبه ولاء خدمة و لا ولاء عتق. و أصلهم من الرّيّ. و كان محمد يزعم أنّه من ولد بهرام جوبين(1). و ولد محمد بالحيرة(2).

و كان يغنّي مرتجلا، إلا أنّ أصل ما غنّى عليه المعزفة، و كانت تحمل معه إلى دار الخليفة. فمرّ غلامه بها يوما، فقال قوم كانوا جلوسا على الطريق: مع هذا الغلام مصيدة الفأر، و قال بعضهم: لا، بل هي(3) معزفة محمد بن الحارث. فحلف يومئذ بالطّلاق و العتاق/ألاّ يغنّي بمعزفة أبدا أنفة من أن تشتبه(4) آلة يغنّي بها بمصيدة الفأر. و كان محمد أحسن خلق اللّه تعالى أداء و أسرعه أخذا للغناء، و كان لأبيه الحارث بن بُسخُنَّر جوار محسنات. و كان إسحاق يرضاهنّ و يأمرهنّ أن يطرحن على جواريه. و قال يوما للمأمون و قد غنّى مخارق بين يديه صوتا فآلتاث(5) غناؤه فيه و جاء به مضطربا، فقال إسحاق للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن مخارقا قد أعجبه صوته و ساء أداؤه في غنائه، فمره بملازمة جواري الحارث بن بُسخُنَّر حتى يعود إلى ما تريد.

هو أفضل من أخذ عن إسحاق أصواتا
اشارة

أخبرني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ(6) قال:

سمعت إسحاق(7) بن إبراهيم بن مصعب يقول للواثق: قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: ما قدر أحد قطّ أن يأخذ منّي صوتا مستويا إلاّ محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر؛ /فإنّه أخذ منّي عدّة أصوات كما أغنّيها. ثم لم نلبث أن دخل علينا محمد بن الحارث. فقال له الواثق: حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن إسحاق الموصليّ فيك بكذا و كذا.

فقال: قد قال إسحاق ذاك لي مرّات. فقال له الواثق: فأي شيء أخذت من صنعته أحسن عندك؟ فقال: هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قطّ هذا الصوت كما أخذته منه:

ص: 298


1- في أكثر الأصول: «إبراهيم جوهر» و الصواب في ط. و بهرام جوبين من ملوك الفرس، كان في أواخر القرن السادس الميلادي.
2- كذا في ط، ح. و في سائر الأصول: «بالكوفة بل بالحيرة».
3- عبارة ط، ح: «لا هذه معزّفة».
4- في ط: «تشبه». و في ب، س: «تشتبه بآلة» تحريف.
5- التاث هنا: اختلط.
6- في أكثر الأصول «الهاشمي» و الصواب من ط.
7- إسحاق بن إبراهيم المصبغي هذا كان حاكم بغداد في عهد المأمون و المعتصم و الواثق. (انظر كتاب «التاج للجاحظ» ص 31).
صوت

إذا المرء قاسى الدّهر و ابيضّ رأسه *** و ثلّم تثليم الإناء جوانبه

فليس له في العيش خير و إن بكى *** على العيش أو رجّى الذي هو كاذبه

- الشعر و الغناء لإسحاق، و لحنه فيه رمل بالوسطى - فأمره الواثق بأن يغنّيه، فغنّاه [إياه](1) و أحسن ما شاء و أجاد. و استحسنه الواثق و أمره بأن يردّده، فردّده مرارا كثيرة، حتى أخذه الواثق و أخذه جواريه و المغنّون. قال جحظة قال الهشاميّ فحدّثت بهذا الحديث عمرو بن بانة فقال: ما خلق اللّه تعالى أحدا يغنّي هذا الصوت كما يغنّيه هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ. فقلت له: قد سمعت ابن إبراهيم(2) يغنّيه، فاسمعه من محمد ثم احكم. فلقيني بعد ذلك فقال: الأمر كما قلت، قد سمعته من محمد فسمعت منه الإحسان كلّه.

ردّد صوتا آخر من جارية أخرى
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال:

كنت يوما في منزلي، فجاءني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر مسلّما و عائدا من علة كنت وجدتها؛ فسألته أن يقيم عندي ففعل، و دعوت بما حضر فأكلنا و شربنا، و غنّى(3) محمد بن الحارث هذا الصوت:

صوت

أ من ذكر خود عينك اليوم تدمع *** و قلبك مشغول بخودك مولع

و قائلة لي يوم ولّيت(4) معرصا *** أ هذا فراق الحبّ أم كيف تصنع

فقلت كذاك الدّهر يا خود فاعلمي *** يفرّق بين الناس طرّا و يجمع

- أصل هذا الصوت يمان هزج بالوسطى. قال الهشاميّ: و فيه لفليح ثاني ثقيل، و لإسحاق خفيف رمل - قال عليّ بن يحيى: فقلت له و قد ردّد هذا الصوت مرارا و غنّاه أشجى غناء: إنّ لك في هذا الصوت معنى، و قد كرّرته من غير أن يقترحه عليك أحد. فقال: نعم! هذا صوتي/على جارية من القيان كنت أحبّها و أخذته منها. فقلت له: فلم لا تواصلها؟ فقال:

لو لم أنكها دام لي حبّها *** لكنّني نكت فلا نكت(5)

فأجبته فقلت:

أكثرت من نيكها و النّيك مقطعة *** فارفق بنيكك إنّ الرّفق(6) محمود

ص: 299


1- زيادة عن ط، ف.
2- في أكثر الأصول: «قد سمعت أن إبراهيم...» و الصواب من ط.
3- في ط: «و غنانا».
4- في ط: «كيف و ليت».
5- كذا في ط، ح. ف. و في سائر الأصول: «... دام لها حبي... فلا نكتها».
6- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «إن النيك محمود».
أخذ جواري الواثق منه غناء أخذه من إسحاق
اشارة

و أخبرني جعفر بن قدامة عن عليّ بن يحيى أنّ إسحاق غنّى بحضرة الواثق لحنه(1):

ذكرتك إذ(2) مرّت بنا أمّ شادن *** أمام المطايا تشرئبّ و تسنح

من المؤلفات الرّمل أدماء(3) حرّة *** شعاع الضّحى في متنها يتوضّح

/ - و الشعر لذي الرّمّة. و لحن إسحاق فيه ثقيل أوّل - فأمره الواثق أن يعيده على الجواري، و أحلفه بحياته أن ينصح(4) فيه. فقال: لا يستطيع الجواري أن يأخذنه(5) مني، و لكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه منّي و تأخذه الجواري منه: [فأحضر و ألقاه عليه، و أخذه منه، و أخذته الجواري منه](6).

أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل المعروف بوسواسة الموصليّ(7) قال حدّثني حمّاد(8) بن إسحاق قال:

قال لي محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر: أخذت جارية للواثق منّى صوتا أخذته من أبيك، و هو(9):

صوت

صوت(10)

أصبح الشّيب في المفارق شاعا *** و اكتسى الرّأس من مشيب قناعا

و تولّى الشّباب إلاّ قليلا *** ثم يأبى القليل إلاّ وداعا

- الشعر و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل - قال: فسمعه الواثق منها، فاستحسنه و قال لعلّويه و مخارق: أ تعرفانه؟ فقال مخارق: أظنّه لمحمد بن الحارث. فقال علّويه: هيهات! ليس هذا مما يدخل في صنعة محمد، هو يشبه صنعة ذلك الشيطان إسحاق. فقال له الواثق: ما أبعدت. ثم بعث إليّ فأخبرني بالقصّة(11)؛ فقلت: صدق علّويه يا أمير المؤمنين، هذا لإسحاق و منه أخذته.

غنت جارية صوتا أخذته عنه فأكرمها
اشارة

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عبد اللّه بن المعتز قال قال لي أحمد بن الحسين بن هشام:

جاءني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر يوما فقال لي: قم حتّى أطفّل بك على صديق لي حرّ، و له جارية أحسن

ص: 300


1- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «لحنه فقال» بزيادة «فقال».
2- في ط، م، ف: «أن مرت». و أم شادن: ظبية. و تشرئب: ترفع رأسها لتنظر. و تسنح: تعرض لك أو تأتي عن شمالك.
3- الأدم من الظباء: البيض تعلوهن جدد فيها غبرة.
4- في أكثر الأصول: «أنه ينصح» و التصويب من ط، ف.
5- في ب، س: «فقال لا يستطعن أن يأخذن مني».
6- التكملة من ط، م، ف.
7- في ط، م، ف: «... بوسواسة بن الموصلي». و قد تقدّم هذا الاسم في الأجزاء الماضية كما ورد هنا، «أو أحمد بن اسماعيل بن إبراهيم» أو «محمد بن أحمد بن اسماعيل بن إبراهيم». و كذا ورد «المعروف بوسواسة الموصلي» أو «بوسواسة بن الموصلي». و الرواية في أكثر المواضع عن حماد. و لم نهتد إلى وجه الصواب فيه.
8- في أكثر الأصول: «محمد بن إسحاق» و التصويب من ف.
9- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «و هو هذا».
10- زيادة في ف.
11- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «فأخبرني القصة».

خلق اللّه تعالى وجها و غناء. فقلت له: أنت طفيليّ و تطفّل بي! هذه و اللّه أخسّ(1) حال. فقال لي: «دع المجون و قم بنا؛ فهو مكان لا يستحي حرّ أن يتطفل عليه. فقمت معه، فقصد بي دار رجل من فتيان أهل «سرّ من رأى» كان لي صديقا يكنى أبا صالح، و قد غيّرت كنيته على سبيل اللّقب(2) فكني أبا الصالحات، و كان ظريفا حسن المروءة، [يضرب بالعود على مذهب الفرس ضربا حسنا](3)، و له رزق سنيّ في الموالى، و كان من أولادهم، و لم يكن منزله يخلو من طعام كثير نظيف(4) لكثرة قصد إخوانه منزله. فلمّا طرق بابه قلت له: فرّجت عنّي، [هذا صديقي](5) و أنا طفيلي بنفسي لا أحتاج أن أكون في شفاعة طفيليّ. فدخلنا، و قدّم إلينا طعام عتيد طيّب نظيف فأكلنا، و أحضرنا النبيذ، و خرجت جاريته(6) إلينا من غير ستارة فغنّت غناء حسنا(7) شكلا ظريفا، ثم غنّت من صنعة محمد بن الحارث هذا الصوت و كانت قد أخذته عنه - و فيه أيضا لحن لإبراهيم، و الشعر لابن أبي عيينة -:

صوت

ضيّعت عهد فتى لعهدك حافظ *** في حفظه عجب و في تضييعك

إن تقتليه و تذهبي بفؤاده *** فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك

/فطرب محمد بن الحارث و نقّطها بدنانير مسيّفة(8) كانت معه في خريطته، و وجّه غلامه(9) فجاءه ببرنيّة غالية كبيرة(10) فغلّفها(11) منها و وهب لها الباقي. و كان لمحمد بن الحارث أخ طيّب ظريف يكنى أبا هارون فطرب و نعر و نخر، و قال لأخيه: أريد أن أقول لك شيئا في السّرّ. قال: قله علانية. قال: لا يصلح. قال: و اللّه ما بيني و بينك شيء أبالي أن تقوله جهرا، فقله. فقال: أشتهي علم اللّه أن تسأل أبا(12) الصّالحات أن ينيكني، فعسى صوتي أن ينفتح و يطيب غنائي. فضحك أبو الصالحات و خجلت الجارية و غطّت وجهها و قالت: سخنت عينك! فإنّ حديثك يشبه(13) وجهك.

ص: 301


1- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «أحسن حال».
2- في ب، س: «اللعب» تصحيف.
3- التكملة من ط، م، ف.
4- في ف: «طريف».
5- زيادة عن ف.
6- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «جارية».
7- هذه الكلمة ساقطة في ط، م، ف.
8- في أكثر الأصول: «مسننة» و التصويب من ط، م، ف. يقال دينار أو درهم مسيف، إذا كانت جوانبه نقية من النقش.
9- كذا في ف. و في ط، م: «و وجه بغلامه». و في ح: «و رجع بغلامه». و في ب، س: «و دعا بغلامه». و في أ: «و جاء بغلامه» تحريف.
10- في ف: «فجاء ببرنية كبيرة فيها غالية».
11- غلفها: ضمخها و طيبها.
12- في ف: «أن تقول لأبي الصالحات».
13- في ف: «إن حديثك هذا».
صوت

و أيّ أخ تبلو فتحمد أمره *** إذا لجّ خصم أو نبا بك منزل(1)

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته *** على طرف الهجران إن كان يعقل

ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني *** يمينك فانظر أيّ كيف تبدّل

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد *** إليه بوجه آخر الدّهر تقبل

الشعر لمعن بن أوس المزنيّ. و الغناء لعريب [خفيف](2) رمل بالوسطى.

ص: 302


1- في «ديوان الحماسة» لأبي تمام: و إني أخوك الدائم العهد لم أخن إنّ أبزاك خصم أو نبا بك منزل و يروى «لم أحل». و أبزى، يجوز أن يكون مثل بزاه يبزوه إذا قهره، و يجوز أن يكون على معنى: حملك على أن تصير أبزى. و البزي: خروج الصدر و دخول الظهر، أي حمّلك ما لا تطيق.
2- زيادة عن ط، م، ف.

6 - أخبار معن بن أوس و نسبه

نسبه، و هو شاعر فحل مخضرم

هو معن بن أوس(1) بن نصر بن زياد(2) بن أسحم(3) بن زياد(4) بن أسعد(5) بن أسحم بن ربيعة بن عديّ(6) بن ثعلبة بن ذؤيب(7) بن عدّاء بن عثمان بن مزينة بن أدّ بن طابخة ابن إلياس بن مضر بن نزار. و نسبوا إلى مزينة و هي امرأة: مزينة(8) بنت كلب بن وبرة، و أبوهم عمرو بن أدّ بن طابخة.

أخبرني عبيد اللّه بن محمد الرازيّ و هاشم بن محمد الخزاعيّ(9) و عمّي قالوا: حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:

مزينة بنت كلب بن وبرة، تزوّجها عمرو بن أدّ بن طابخة، فولدت له عثمان و أوسا، فغلبت أمّهما على نسبهما. فعلى هذا القول عدّاء هو ابن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة.

و معن شاعر مجيد فحل، من مخضرمي الجاهليّة و الإسلام و له مدائح في جماعة من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و رحمهم، منهم عبد اللّه بن جحش، و عمر(10) بن أبي سلمة المخزوميّ. و وفد إلى عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه مستعينا به على بعض أمره، و خاطبه بقصيدته التي أوّلها:

تأوّبه طيف بذات الجرائم(11) *** فنام رفيقاه و ليس بنائم

و عمّر بعد ذلك إلى أيّام الفتنة بين عبد اللّه بن الزّبير و مروان بن الحكم.

أشعر الإسلاميين من مزينة

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني إبراهيم بن المنذر الحزاميّ قال حدّثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن يحيى بن عبد اللّه بن ثوبان عن علقمة بن محجن/الخزاعيّ عن أبيه قال:

ص: 303


1- في «معجم الشعراء» للمرزباني (ص 399): «معن بن أبي أوس» و علق عليه: «كتب فوقه (صح) و المعروف معن بن أوس».
2- في ط، م: «زيادة». و في سائر الأصول و «معجم الشعراء» و «الخزانة»: «زياد».
3- في ف بعد هذا: «و قيل بن زيادة بن أسحم بن ربيعة.
4- في ط، م، أ: «زيادة».
5- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س، ح: «سعد».
6- في «خزانة الأدب»: «عداء».
7- في «معجم الشعراء» و «خزانة الأدب»: «ذؤيب سعد بن عداء».
8- قبل هذه الكلمة في ط بياض بمقدار كلمة. و لعل المحذوف: «و هي أمهم».
9- في ب، س: «الرازي» تحريف.
10- في الأصول ما عدا ط، م: «عمرو» تحريف.
11- ذات الجراثم: موضع.

كان معاوية يفضّل مزينة في الشّعر، و يقول: كان أشعر أهل الجاهليّة منهم و هو زهير، و كان أشعر أهل الإسلام منهم و هو ابنه كعب، و معن بن أوس.

كان مئناثا و قال شعرا في فضل البنات

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدّثني العتبيّ قال:

كان معن بن أوس مئناثا(1)، و كان يحسن صحبة بناته و تربيتهنّ؛ فولد لبعض عشيرته بنت فكرهها و أظهر جزعا من ذلك؛ فقال معن:

رأيت رجالا(2) يكرهون بناتهم *** و فيهنّ - لا تكذب - نساء صوالح

و فيهنّ - و الأيّام تعثر بالفتى - *** نوادب لا يمللنه و نوائح

مر به عبيد اللّه بن العباس، و قد كف بصره، فبعث إليه بهبة فمدحه

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ (يعني الحسن بن عليل)(3) قال حدّثني أحمد بن عبد اللّه بن عليّ بن سويد بن منجوف عن أبيه قال:

مرّ عبيد(4) اللّه بن العبّاس بن عبد المطّلب بمعن بن أوس المزنيّ و قد كفّ بصره فقال له: يا معن، كيف حالك؟ فقال له: ضعف بصري و كثر عيالي و غلبني الدّين. قال: و كم دينك؟ قال عشرة آلاف درهم. فبعث بها إليه. ثم مرّ به من الغد فقال له: كيف أصبحت يا معن؟ فقال:

/

أخذت بعين المال حتّى(5) نهكته *** و بالدّين حتّى ما أكاد أدان

و حتّى سألت القرض عند ذوي الغنى *** و ردّ فلان حاجتي و فلان

فقال له عبيد اللّه: اللّه المستعان، إنّا بعثنا إليك بالأمس لقمة فمالكتها حتى انتزعت من يدك، فأيّ شيء للأهل و القرابة و الجيران! و بعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى. فقال معن يمدحه:

إنك فرع من قريش و إنّما *** تمجّ النّدى منها البحور الفوارع

ثووا قادة للنّاس بطحاء مكّة *** لهم و سقايات الحجيج الدّوافع

فلمّا دعوا للموت لم تبك منهم *** على حادث الدّهر العيون الدّوامع

شيء من خلقه و رحلته الى الشام

أخبرني محمد بن عمران قال حدّثني العنزيّ قال حدّثني الفضل بن العبّاس القرشيّ عن سعيد(6) بن عمرو الزّبيريّ قال:

ص: 304


1- رجل مئناث، من عادته أن يلد الإناث. و كذلك امرأة مئناث.
2- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «أناسا».
3- زيادة في ب، س، م، أ: «العنزي».
4- في ب، س: «عبد اللّه» تحريف.
5- في ب، س: ح: «لما نهكنه» تحريف.
6- في ح، ب، س: «عن أبي سعيد».

كان لمعن بن أوس امرأة يقال لها ثور و كان لها محبّا، و كانت حضريّة نشأت بالشأم، و كانت في معن أعرابيّة و لوثة(1)، فكانت تضحك من عجرفيّته(2). فسافر إلى الشام في بعض أعوامه(3)، فضلّت الرّفقة عن الطّريق و عدلوا عن الماء، فطووا منزلهم و ساروا يومهم و ليلتهم، فسقط فرس معن في و جار ضبّ دخلت يده فيه، فلم يستطع الفرس أن يقوم من شدّة العطش حتى حمله أهل الرّفقة حملا فأنهضوه، و جعل معن يقوده و يقول:

/

لو شهدتني(4) و جوادي ثور *** و الرّأس فيه ميل و مور(5)

لضحكت حتّى يميل الكور(6)

قدم على ابن الزبير بمكة فلم يحسن ضيافته، و أكرمه ابن عباس و ابن جعفر فمدحهما و ذم ابن الزبير

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد الكراني قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال:

قدم معن بن أوس مكة على ابن الزّبير فأنزله دار الضّيفان، و كان ينزلها الغرباء و أبناء/السبيل و الضّيفان، فأقام يومه لم يطعم شيئا؛ حتّى إذا كان الليل جاءهم ابن الزّبير بتيس هرم هزيل فقال: كلوا من هذا، و هم نيّف و سبعون رجلا؛ فغضب معن و خرج من عنده، فأتى عبيد اللّه بن العبّاس، فقراه و حمله و كساه، ثم أتى عبد اللّه بن جعفر و حدّثه حديثه، فأعطاه حتى أرضاه، و أقام عنده ثلاثا ثم رحل(7). فقال يهجو ابن الزّبير و يمدح ابن جعفر و ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين(8):

ظللنا بمستنّ(9) الرّياح غديّة *** إلى أن تعالى اليوم في شرّ محضر

لدى ابن الزّبير حابسين(10) بمنزل *** من الخير و المعروف و الرّفد مقفر

رمانا أبو(11) بكر و قد طال يومنا *** بتيس من الشّاء الحجازيّ أعفر(12)

و قال اطعموا منه و نحن ثلاثة *** و سبعون إنسانا فيا لؤم مخبر

/فقلت(13) له لا تقرنا(14) فأمامنا *** جفان ابن عبّاس العلا و ابن جعفر

ص: 305


1- اللوثة (بالضم هنا: الحمق.
2- العجرفية و العجرفة هنا: الجفوة في الكلام و الخرق في العمل.
3- في ف: «في بعض أيامه».
4- في ف: «لو أبصرتني».
5- المور هنا: الاضطراب و التحرّك.
6- الكور هنا: الدور من العمامة يريد الدور مما تلف به رأسها.
7- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «حتى رحل».
8- هذه الجملة الدعائية ساقطة من أكثر الأصول الخطية.
9- مستن الرياح: مضطربها حيث تهب و تجري.
10- خابسين أي ذوي حبس؛ فالوصف على النسبة؛ و المراد أنهم محبوسون. و نحوه قول الحصين بن الحمام: مواليكم مولى الولادة منهم و مولى اليمين حابس قد تقسّما راجع «شرح الحماسة» للتبريزي (صفحة 187 طبعة أوربا).
11- أبو بكر: كنية عبد اللّه بن الزبير.
12- أعفر: أغبر، لونه لون العفر و هو التراب.
13- كذا في ط، م، ح، ف. و في سائر الأصول: «فقلنا».
14- كذا في ف. و في سائر الأصول: «لا تقربن» و هي مصحفة عن «لا تقرين».

و كن آمنا و انعق(1) بتيسك إنّه *** له أعنز ينزو عليها(2) و أبشر

أنشده الفرزدق بيتا في هجاء مزينة فرد عليه بهجاء تميم

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفي قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أبو عبد اللّه محمد بن معاوية الأسدي قال:

قدم معن بن أوس المزنيّ البصرة، فقعد ينشد في المربد، فوقف عليه الفرزدق فقال: يا معن من الّذي يقول:

لعمرك ما مزينة رهط معن *** بأخفاف(3) يطأن و لا سنام

فقال معن: أ تعرف يا فرزدق الذي يقول:

لعمرك ما تميم أهل فلج(4) *** بأرداف(5) الملوك و لا كرام

فقال الفرزدق: حسبك! إنّما جرّبتك(6). قال قد جرّبت و أنت أعلم. فانصرف و تركه.

تمثل أحد أبناء روح بشعر له و هو على فاحشة

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال:

/دخلت خضراء روح(7)، فإذا أنا برجل من ولده على فاحشة يوما(8)، فقلت: قبحك اللّه! هذا موضع كان أبوك يضرب فيه الأعناق و يعطي اللّهى و أنت تفعل [فيه](9) ما أرى! فالتفت إليّ من غير أن يزول عنها و قال.

ورثنا المجد عن آباء صدق *** أسأنا في ديارهم الصّنيعا

إذا الحسب الرّفيع تواكلته *** بناة السّوء(10) أوشك أن يضيعا

قال: و الشّعر لمعن بن أوس المزنيّ.

سافر إلى الشام و حلف ابنته في جوار ابن أبي سلمة و ابن عمر بن الخطاب و قال شعرا

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد قال حدّثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة عن الحرمازيّ قال:

سافر معن بن أوس إلى الشام و خلّف ابنته ليلى في جوار عمر(11) بن أبي سلمة - و أمّه أمّ سلمة أمّ المؤمنين رضي اللّه تعالى عنها - و في جوار عاصم بن عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه. فقال له بعض عشيرته: على من

ص: 306


1- كذا في ط، ح، ف، م (في أحد موضعيها). و النعق هنا: دعاء الراعي الشاء. و في سائر الأصول: «و ارفق».
2- في ط، م: «تنزو عليه».
3- في أكثر الأصول: «بأجفان تطاق» و الصواب من ط، م، ف.
4- فلج هنا: واد بين البصرة و حمى ضربة من منازل عدي بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم. (عن «معجم البلدان»).
5- الأرداف: جمع ردف (بالكسر) و هو هنا: جليس الملك عن يمينه يشرب بعده و يخلفه إذا غزا.
6- في ط، ف، م (في أحد الموضعين؛ إذ هذه الترجمة مما تكرر فيها): «فقال له الفرزدق حسبك فإنما...».
7- لعل خضراء روح: بستان كان لروح بن حاتم المهلبي أحد الفرسان و الأشراف في أيام المهدي.
8- في ط، ف: «... على فاحشة يؤتى».
9- زيادة عن ط، م، ف.
10- في أكثر الأصول: «بنات السوء» و الصواب من ط، م.
11- في ح، ب، س: «عمرو» تحريف.

خلّفت ابنتك ليلى بالحجاز و هي صبيّة ليس لها من يكفلها؟ فقال معن رحمه اللّه تعالى:

لعمرك مال ليلى بدار مضيعة *** و ما شيخها أن غاب عنها بخائف

و إنّ لها جارين لن يغدرا(1) بها *** ربيب النبيّ و ابن خير الخلائف

قال عبد الملك بن مروان عنه إنه أشعر الناس

/أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني مسعود بن بشر عن عبد الملك بن هشام قال:

/قال عبد الملك بن مروان يوما و عنده عدّة من أهل بيته و ولده. ليقل كلّ واحد منكم أحسن شعر سمع به؛ فذكروا لامرئ القيس و الأعشى و طرفة فأكثروا حتّى أتوا على محاسن ما قالوا فقال عبد الملك: أشعرهم و اللّه الذي يقول

و ذي رحم قلّمت أظفار ضغنه *** بحلمي عنه و هو ليس له حلم

إذا سمته وصل القرابة سامني *** قطيعتها، تلك السّفاهة و الظّلم

فأسعى لكي أبني و يهدم صالحي *** و ليس الذي يبني كمن شأنه الهدم

يحاول رغمي لا يحاول غيره(2)*** و كالموت عندي أن ينال له رغم(3)

فما زلت في لين له و تعطّف *** عليه كما تحنو على الولد الأمّ

لأستلّ منه الضّغن حتّى سللته *** و إن كان ذا ضغن يضيق به الحلم

قالوا: و من قائلها يا أمير المؤمنين؟ قال: معن بن أوس المزنيّ.

خروجه إلى البصرة و زواجه من ليلى و طلاقها و قصة ذلك
اشارة

أخبرني عيسى بن حسين الورّاق قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني سليمان بن عيّاش(4) السّعديّ عن أبيه قال:

خرج معن بن أوس المزنيّ إلى البصرة ليمتار منها و يبيع إبلا له؛ فلمّا قدمها نزل بقوم من عشيرته، فتولّت ضيافته امرأة منهم يقال لها ليلى، و كانت ذات جمال و يسار، فخطبها فأجابته فتزوجها، و أقام عندها حولا في أنعم عيش، فقال لها بعد حول: يا ابنة عمّ، إنّي قد تركت ضيعة لي ضائعة، فلو أذنت لي فاطّلعت(5) [طلع] /أهلي

ص: 307


1- كذا في ط، م، ف. و في أ، ح: «لن يغدرانها» بالنون؛ يقال: غدره و غدر به، كنصر و ضرب و سمع. و في ب، س: «لا يقدرانها» تحريف.
2- في أكثر الأصول: «لا يحاول رغمه». و الصواب في ط، م، ف.
3- و مثل هذه الرواية في «تاريخ ابن عساكر» (ح 43 ص 93 - نسخة خطية بمكتبة المرحوم أحمد تيمور باشا). و في مجموعة شعر معن المطبوعة في أوربا: «أن يعرّبه الرغم». و في كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي: (ح 2 ص 102): «أن يحل به الرغم». و في «خزانة الأدب» (ح 3 ص 259): «أن يحل به رغم).
4- في أكثر الأصول: «عباس». و التصويب من ط، م.
5- اطلع طلعه: عرف أمره. و في ف: «فاطلعت طلع مالي فقالت».

و رممت(1) من مالي! فقالت: كم تقيم؟ قال:(2) سنة، فأذنت له. فأتى أهله فأقام فيهم و أزمن عنها (أي طال مقامه). فلمّا أبطأ عليها رحلت إلى المدينة فسألت عنه، فقيل لها: إنّه بعمق (و هو ماء لمزينة). فخرجت، حتّى إذا كانت قريبة(3) من عمق نزلت منزلا كريما(4). و أقبل معن في طلب ذود له قد أضلّها و عليه مدرعة من صوف و بتّ من صوف أخضر - قال: و البتّ: الطّيلسان(5) - و عمامة غليظة. فلمّا رفع(6) له القوم مال إليهم ليستسقي، و مع ليلى ابن أخ لها و مولى من مواليها جالس أمام خباء له. فقال له معن: هل من ماء؟ قال: نعم، و إن شئت سويقا، و إن شئت لبنا؛ فأناخ. و صاح مولى ليلى: يا منهلة - و كانت منهلة الوصيفة التي تقوم على معن عندهم بالبصرة - فلمّا أتته بالقدح و عرفها و حسر عن وجهه ليشرب عرفته و أثبتته(7)، فتركت القدح في يده و أقبلت مسرعة إلى مولاتها فقالت: يا مولاتي، هذا و اللّه معن إلا أنّه في جبّة صوف و بتّ صوف. فقالت: هو و اللّه عيشهم، الحقي مولاي فقولي له: هذا معن، فاحبسه. فخرجت الوصيفة مسرعة فأخبرت. فوضع معن القدح و قال له: دعني حتّى ألقاها في غير هذا الزّيّ. فقال: لست بارحا حتّى تدخل عليها. فلما رأته قالت: أ هذا العيش الذي نزعت إليه يا معن؟! قال: إي و اللّه يا ابنة عمّ! أما إنّك لو أقمت إلى أيّام/الرّبيع حتّى ينبت البلد الخزامى و الرّخامى(8) و السّخبر و الكمأة، لأصبت عيشا طيّبا. فغسلت رأسه و جسده، و ألبسته ثيابا ليّنة، و طيبته، و أقام معها ليلته أجمع يهرجها(9)، ثم غدا متقدّما إلى عمق حتّى أعدّ لها طعاما/و نحر ناقة و غنما(10). و قدمت على الحيّ، فلم تبق [فيهم](11) امرأة إلا أتتها و سلّمت عليها، فلم تدع منهنّ امرأة حتّى وصلتها. و كانت لمعن امرأة بعمق يقال لها أم حقّه. فقالت لمعن:

هذه و اللّه خير لك منّي، فطلّقني، و كانت قد حملت فدخله(12) من ذلك و قام. ثم إنّ ليلى رحلت إلى مكة حاجّة

ص: 308


1- رممت من مالي: أصلحت.
2- في ح ب، س: «قلت» تحريف.
3- في ط، م، ف: «قريبا».
4- «كريما» ليست في ط، م، ف.
5- كذا في ط، م، ج. و هي جملة جيء بها لتفسير البيت. و في بعض النسخ: «و قد لبس الطيلسان». و في بعضها: «و قد لبث الطيلسان» تحريف.
6- رفع له الشيء (مبنيا للمجهول): أبصره عن بعد.
7- يقال: أثبت فلان فلانا، إذا عرفه حق المعرفة.
8- قال أبو حنيفة: الخزامى: عشبة طويلة العيدان صغيرة الورق حمراء الزهرة طيبة الريح، لها نور كنور البنفسج. قال: و لم نجد من الزهر زهرة أطيب من نفحة الخزامى، و هي خيريّ البر. و الخيري: المنثور (ضرب من الزهر) الأصفر. و الرخامى: نبتة. قال أبو حنيفة: هي غبراء الحضرة لها زهرة بيضاء نقية و لها عرق أبيض تحفره الحمر بحوافرها، و الوحش كله يأكل ذلك العرق لحلاوته و طيبه، و منابتها الرمل. و السخبر، قال أبو حنيفة: إنه يشبه الثّمام له جرثومة و عيدانه كالكراث في الكثرة، كأن ثمره مكاسح القصب أو أرق منها، و إذا طال تدلت رءوسه و انحنت. و الكمأة: نبات يقال له شحم الأرض، و العرب تسميه جدري الأرض. قيل هو أصل مستدير كالفلقاس لا ساق له و لا عرق، لونه إلى الغبرة، يوجد في الربيع تحت الأرض.
9- كذا في ط، م، ف. و يهرجها: يجامعها. و في سائر الأصول: «يحدّثها».
10- و غنما، ليست في ف.
11- زيادة عن ط، م، ف.
12- أي دخله شيء من ذلك.

و من معها. فلمّا فرغا من حجّهما انصرفا، فلمّا حاذيا منعرج الطريق إلى عمق قال معن: يا ليلى، كأن فؤادي(1)ينعرج إلى ما هاهنا. فلو أقمت سنتنا هذه حتّى نحجّ من قابل ثم نرحل إلى البصرة! فقالت: ما أنا ببارحة مكاني حتّى ترحل معي إلى البصرة أو تطلّقني. فقال: أمّا إذ ذكرت الطلاق فأنت طالق. فمضت إلى البصرة(2)، و مضى إلى عمق، فلمّا فارقته و تبعتها(3) نفسه؛ فقال في ذلك:

/

توهّمت ربعا بالمعبّر(4) واضحا *** أبت قرّتاه(5) اليوم إلاّ تراوحا

أربّت عليه(6) رادة حضر ميّة *** و مرتجز كأنّ فيه المصابحا

إذا هي حلّت كربلاء فلعلعا *** فجوز العذيب دونها(7) فالنّوابحا(8)

و بانت(9) نواها من نواك و طاوعت *** مع الشّانئين(10) الشامتات الكواشحا

فقولا لليلى هل تعوّض نادما *** له رجعة قال الطلاق ممازحا

فإن هي قالت لا فقولا لها بلى *** أ لا تتّقين الجاريات(11) الذّوابحا

/و هي قصيدة طويلة. فلمّا انصرف و ليست ليلى معه قالت له امرأته أمّ حقّة: ما فعلت ليلى؟ قال: طلّقتها.

قالت و اللّه لو كان فيك خير ما فعلت ذلك، فطلّقني أنا أيضا. فقال لها معن:

ص: 309


1- في أكثر الأصول: «كأن الغوادي ينعرجن إلى هاهنا». و التصويب من ط، م، ف.
2- هكذا في ط، م، ف. و مكانه في سائر الأصول: «فطلقها و مضى إلى عمق. فلما فارقته...».
3- ف ط، م، ف: «و تتبعتها».
4- في ف: «بالمغمس». و معبر، قال أبو عبيد البكري في معجمه: بواحدة مكسورة مشدّدة، موضع تلقاء الوتدات من البقيع؛ قال طفيل: أفدّيه بالأم الحصان و قد حبت من الوتدات لي حبال معبّر و الحبال: حبال الرمل. يقول: ارتفعت له و لاحت هذه الحبال و هو بالوتدات. و في «معجم البلدان» أنه جبل من جبال الدهناء، ثم ذكر أربعة أبيات من هذه القصيدة.
5- قرتاه: الغداة و العشي. و في صلب ف و هامش ط: «قرتاه: برداه، أوّله و آخره». و في ب، س: «قرناه اليوم أن لا» تحريف.
6- كذا في ط، م، ف و «معجم البلدان». و مرجع الضمير الربع. و في سائر الأصول: «عليها». و أربت: أقامت. و رادة هنا: سحابة طوافة ترود و تجول. و حضرمية: منسوبة إلى حضرموت، أي تقبل من الجنوب. و مرتجز: سحاب يتتابع صوت رعده. و كأن فيه المصابح، لما يبدو فيه من لمعان البرق. يدعو للربع بالسقيا. و يقال مصباح و مصابيح و مصابح، بحذف الياء، كما يقال مفتاح و مفاتيح و مفاتح و في ج، ب، س: «المصابحا» تصحيف.
7- كذا في ط، م، ج، ف و «معجم ما استعجم» للبكري و «معجم البلدان». و في سائر الأصول: «بعدها».
8- في ب، س: «فالنوائحا» بالهمزة، و كذلك ورد في «معجم البلدان». و لعله و هم من ياقوت أو تصحيف من الناسخ أو المطبعة؛ فإن أبا عبيد البكري قال بالعبارة في معجمه: «النوابح، بفتح أوّله و بالباء المعجمة بواحدة و الحاء المهملة على لفظ جمع نابحة». و كربلاء و لعلع و العذيب و النوابح، كلها مواضع متقاربة بظاهر الكوفة. و في «معجم البلدان» (في معبر - عليب) «فجوز العليب و العليب: موضع بين الكوفة و البصرة.
9- في ج، ب، س: «و باتت» بالتاء، تصحيف. و النوى هنا: الوجه الذي يذهب فيه.
10- كذا في ط، م، ف. و لعله على تقدير العطف أي و الشامتات الكواشحا. و في سائر الأصول: «مع الشاميين و الشامتين الكواشحا». فإن كانت الراوية «مع الشانئين الشامتين الكواشحا» كان فيه وصف «الشامتين» بالكواشح، و هو قليل.
11- في الأصول ما عدا ط، م: «أ لا تتبعين الحادثات» تحريف. و في ج: «الجاريات» مثل ط، م.

أ عاذل أقصري و دعي بياتي(1) *** فإنّك ذات لومات حمات(2)

فإنّ(3) الصّبح منتظر قريب *** و إنّك بالملامة لن تفاتي

نأت ليلى فليلى(4) لا تواتي *** و ضنّت بالمودّة و البتات(5)

و حلّت(6) دارها سفوان(7) بعدي *** فذا قار فمنخرق(8) الفرات

تراعى الرّيف دائبة(9) عليها *** ظلال ألّف مختلط النّبات

فدعها أو تناولها بعنس(10) *** من العيدي في قلص شخات(11)

/و هي قصيدة طويلة. قال: و قال لأم حقّة في مطالبتها(12) إيّاه بالطلاق:

كأن لم يكن يا أمّ حقّة قبل ذا *** بميطان(13) مصطاف لنا و مرابع

و إذ نحن في غصن(14) الشّباب و قد عسا(15) *** بنا الآن إلا أن يعوّض جازع(16)

فقد أنكرته أمّ حقة حادثا *** و أنكرها(17) ما شئت و الودّ خادع

و لو آذنتنا أمّ حقّة إذ بنا *** شباب و إذ لمّا ترعنا الرّوائع

ص: 310


1- يريد: دعي لومي في المبيت.
2- حمات: جمع حمة، و هي السم (عن صلب ف و هامش ط).
3- في ط، م: «و إن».
4- في الأصول ما عدا ط، م، ف: «و ليلى» بالواو.
5- هكذا في ط، م، ف. و البتات هنا: الزاد. و في سائر الأصول: «و الثبات».
6- في الأصول ما عدا ط، م، ف: «و خلت» بالخاء المعجمة.
7- سفوان (بالتحريك): ماء على أميال من البصرة بين ديار بني شيبان و ديار بني مازن. و ذوقار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها و بين واسط.
8- كذا في ط، ج، م، ف. و في سائر الأصول: «بمنخرق».
9- في الأصول ما عدا ط، م، ف: «... دانية عليها ظلال أنف». و الألف من الشجر: الذي كثر و تكاثف.
10- في ب، س، ج: «بعس من العودي». و في أ: «بعنش من العندي». و الصواب من ط، م. و العنس من النوق: القوية. و العيدي: نسبة إلى عيد: فحل معروف تنسب إليه النجائب العيدية، أو هو نسبة إلى رجل. و القلص: جمع قلوص (بالفتح) و هي الشابة من الإبل.
11- في بعض الأصول: «سحات» بالسين و الحاء المهملتين، و في بعضها: «سخات» بالمهملة و المعجمة. و التصويب من ط، م، س. و الشخات: جمع شختة و شخت، و هو الدقيق الضامر لا هزالا.
12- في ج، ب، س: «مطالبته إياه» تحريف.
13- ميطان، قال ياقوت في معجمه: «بفتح أوّله ثم السكون و طاء مهملة، و آخره نون، من جبال المدينة - إلى أن قال - و هو لمزينة و سليم. و قد روى أهل المغرب غير ذلك، و هو خطأ. له ذكر في «صحيح مسلم» ثم ذكر هذه الأبيات. و في «معجم ما استعجم» أنه بكسر أوّله و أنه موضع ببلاد مزينة من أرض الحجاز، ثم ذكر هذا البيت. و هذا ما نسبه ياقوت الى المغاربة من خطأ.
14- في ط «و معجم البلدان»: «في عصر الشباب» و في هامش ط إشارة إلى هذه الرواية.
15- عسا النبات: غلظ و يبس.
16- في الأصول ما عدا ط، م: «نعوض جارع» تصحيف.
17- في الأصول ما عدا ط، م: «و أنكر ما شئت» تحريف.

لقلنا لها بيني بليل حميدة *** كذاك بلا ذمّ تؤدّي الودائع(1)

صوت

أ عابد حيّيتم على النّأي عابدا *** سقاك الإله المنشآت الرّواعدا

أ عابد ما شمس النّهار إذا بدت *** بأحسن مما بين عينيك عابدا

/و يروى:

أ عابد ما شمس النهار بدت لنا

و يروى:

أ عابد ما الشّمس التي برزت لنا *** بأحسن مما بين ثوبيك عابدا

الشعر للحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العبّاس بن عبد المطّلب. و الغناء لعطرّد ثاني ثقيل بالبنصر. و فيه ليونس لحن من كتابه غير مجنّس.

ص: 311


1- كذا في ط، م، ف و معجم البلدان. و في سائر الأصول: «الصنائع».

7 - أخبار الحسين بن عبد الله

شعره في عابدة قبل زواجه بها
اشارة

قد تقدّم نسبه، و هو أشهر من أن يعاد. و يكنى أبا عبد اللّه. و كان من فتيان بني هاشم و ظرفائهم و شعرائهم.

و قد روى الحديث و حمل عنه، و له شعر صالح. و هذه الأبيات يقولها في زوجته عابدة بنت شعيب بن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و هي أخت عمرو بن شعيب لذى يروى عنه الحديث. و فيها يقول قبل أن يتزوّجها:

صوت

أعاذل(1) إنّ الحبّ لا شكّ قاتلي *** لئن لم تقارضني هوى النّفس عابده

أ عابد خافي اللّه في قتل مسلم *** وجودي عليه مرّة قطّ واحده

فإن لم تريدي في أجرا(2) و لا هوى *** لكم(3) غير قتلي يا عبيد فراشده

فكم ليلة قد بتّ أرعى نجومها *** و عبدة لا تدري بذلك راقده

الغناء لحكم الواديّ، رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق.

فممّا حمل عنه من الحديث ما حدّثني به أحمد بن سعيد قال حدّثني محمد بن عبيد اللّه [بن](4) المنادي(5) قال حدّثني يونس بن محمد قال حدّثنا أبو أويس عن حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عباس عن عكرمة عن ابن عبّاس قال:

/مرّ النبيّ صلى اللّه عليه و سلم على حسّان بن ثابت و هو في ظلّ فارع(6) و حوله أصحابه و جاريته سيرين تغنّيه بمزهرها:

هل عليّ ويحكما *** إن لهوت من حرج

فضحك النبيّ صلى اللّه عليه و سلم ثم قال: «لا حرج إن شاء اللّه».

و كانت أم عابدة هذه عمّة حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه، أمّها عمرة بنت عبيد اللّه بن العبّاس، تزوّجها شعيب فولدت له محمدا و شعيبا ابني شعيب و عابدة، و كان يقال لها عابدة الحسن، و عابدة الحسناء.

ص: 312


1- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «أ عابد».
2- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «هجرا» تحريف.
3- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «فكم» تحريف.
4- التكملة من ف.
5- في أكثر الأصول: «المنارى» بالراء، و التصويب من ط، م، ف. و هو محمد بن عبيد اللّه بن يزيد البغدادي أبو جعفر بن أبي داود بن المنادي. (راجع «تهذيب التهذيب» ج 9 ص 325).
6- فارع: حصن كان لحسان بن ثابت بالمدينة.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء و الطّوسيّ قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن يحيى قال:

خطب عابدة بنت شعيب بكّار بن عبد الملك و حسين بن عبد اللّه، فامتنعت على بكّار و تزوّجت الحسين. فقال له بكّار: كيف تزوجتك العابدة و اختارتك مع فقرك؟ فقال له الحسين: أ تعيّرنا بالفقر(1) و قد نحلنا اللّه تعالى(2)الكوثر!

تنكر ما بينه و بين عبد اللّه بن معاوية فتعاتبا بشعر

أخبرني الحرمي و الطّوسيّ قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار عن عمّه قال:

كان حسين بن عبد اللّه أمّه أمّ ولد، و كان يقول شيئا من الشّعر، و تزوّج عابدة بنت شعيب و ولدت منه، و بسببها ردّت على ولد عمرو بن العاص أموالهم في دولة بني العبّاس. و كان عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر صديقا له، ثم تنكّر ما بينهما؛ فقال فيه ابن معاوية:

/

إنّ ابن عمّك و ابن أمّ *** ك معلم شاكي السّلاح

يقص(3) العدوّ و ليس ير *** ضى حين يبطش بالجراح

لا تحسبنّ أدى ابن عمّ *** ك شرب ألبان اللّقاح

بل كالشّجاة ورا اللّها *** ة إذا تسوّغ بالقراح(4)

فاختر لنفسك من يجي *** بك تحت أطراف الرّماح

من لا يزال يسوؤه(5)*** بالغيب أن يلحاك لاح(6)

فقال حسين له:

أبرق لمن يخشى و أو *** عد(7) غير قومك بالسّلاح

لسنا نقرّ لقائل *** إلاّ المقرّط(8) بالصّلاح

قال: و لحسين يقول ابن معاوية:

ص: 313


1- الفصيح: عيّره كذا، لا بكذا.
2- في ط، م: «... اللّه جل و عز».
3- وقصه يقصه: كسره.
4- الشجا و الشجاة: ما يعترض في الحلق من عظم و نحوه. و اللهاة: اللحمة المشرفة على الحق. و القراح: الماء الخالص الذي لا يخالطه شيء.
5- كذا في ف. و في سائر الأصول: من لا تزال تسوءه بالتاء الفوقية، تصحيف.
6- في أكثر الأصول: «لن يلحاك». و التصويب من ج ف. و هذا البيت و جملة: «فقال حسين له» ساقط في ط، م؛ كأن البيتين الآتيين من هذه القصيدة. و يلحاه هنا: يشتمه. و الأكثر أن يقال لحاه يلحوه لحوا إذا شتمه. و حكى أبو عبيدة: لحيته ألحاه لحوا (وزان رضي يرضى) و هي نادرة. و هذا الشعر يؤيد ورودها. و أما لحاه يلحاه (وزان سعى يسعى) بمعنى لامه، فبالياء.
7- هكذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «و أرعد» بالراء.
8- المقرّط بالصلاح: الموسوم به.

قل لذي الودّ و الصّفاء حسين *** أقدر الودّ بيننا قدره

ليس للدّابغ المحلّم(1) بد *** من عتاب الأديم ذي البشرة

/لست إن راغ(2) ذو إخاء و ودّ *** عن طريق بتابع أثره

بل أقيم القناة و الودّ حتّى *** يتبع الحقّ بعد أو يذره

كان صديقا لابن أبي السمح و مدحه بشعر
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم قال:

كان مالك بن أبي السّمح الطائي المغنّي صديقا للحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العبّاس و نديما له، و كان يتغنّى في أشعاره. و له يقول الحسين رحمه اللّه تعالى:

لا عيش إلاّ بمالك بن أبي السّم *** ح فلا تلحني و لا تلم

أبيض كالسيف(3) أو كما يلمع ال *** بارق في حندس من الظّلم

يصيب من لذّة الكريم و لا *** يهتك حقّ الإسلام و الحرّم(4)

يا ربّ ليل لنا(5) كحاشية ال *** برد و يوم كذاك لم يدم

قد كنت فيه(6) و مالك بن أبي السم *** ح الكريم الأخلاق و الشّيم

من ليس يعصيك إن رشدت و لا *** يجهل آي(7) الترخيص في اللّمم

/قال: فقال له مالك: و لا إن غويت و اللّه بأبي [أنت](8) و أمي أعصيك(9). قال و غنّى مالك بهذه الأبيات بحضرة الوليد بن يزيد، فقال له: أخطأ حسين في صفتك، إنما كان ينبغي أن يقول:

أحول كالقرد(10) أو كما يخرج ال *** سّارق في حالك من الظّلم

ص: 314


1- المحلم: الذي ينزع الحلم عن الجلد. و الحلم (بالتحريك) دود يقع في الجلد فيفسده، واحدته حلمة؛ يقال: حلم الجلد يحلم حلما فهو حلم (وزان فرح يفرح فرحا فهو فرح) إذا وقع فيه الحلم فثقبه و أفسده. و المثل الذي يشير إليه الشاعر «إنما يعاتب الأديم ذو البشرة» أي إنما يعاود إلى الدباغ الأديم ذو البشرة، و هو الجلد الذي سلمت بشرته و هي ظاهره الذي ينبت عليه الشعر. بضرب لمن فيه مراجعة و مستعتب.
2- كذا في ط، م، ف. و راغ الرجل و الثعلب يروغ روغا و روغانا: مال و حاد عن الشيء. و في أكثر الأصول: «زاغ» بالزاي. و زاغ: مال.
3- الرواية فيما تقدّم من «الأغاني» «ج 5 ص 110 من هذه الطبعة»: «كالبدر» بدل «كالسيف» و «في حالك» بدل «في حندس».
4- ورد صدر هذا البيت فيما تقدّم صدرا للبيت الأخير هنا، و صدر البيت الأخير صدرا لهذا البيت. و البيتان متتاليان هناك.
5- في أكثر الأصول: «يا رب يوم». و التصويب من ط، م، ف و مما تقدّم.
6- في ف: «قد بت فيه» و في هامش ط: «و يروي: لهوت فيه». و الرواية فيما تقدّم: «نعمت فيه».
7- كذا في ف. و الجزء الخامس من هذه الطبعة. و في ط، م: «أتى الترخيص». و لعله تحريف عن «آي الترخيص». و في سائر الأصول هنا: «و لا يجهل منك الترخيص».
8- التكملة عن ط، م، ف.
9- كذا في ط، م، ف و الجزء الخامس. و في سائر الأصول: «لن أعصيك».
10- في أكثر الأصول: «أخوك» و التصويب من ط، م، ف.

[أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:] كان الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس إذا صلّى العصر دخل منزله و سمع الغناء عشيته. فأتاه قوم ذات عشية في حاجة لهم فقضاها، ثم جلسوا يحدّثونه. فلما أطالوا قال لهم: أ تأذنون؟ فقالوا نعم. فقام في أصحاب له و هو يقول:

قوموا بنا ندرك من العيش لدّة *** و لا إثم(1) فيها للتّقيّ و لا عارا(2)]

صوت

إنّ حربا و إنّ صخرا أبا سف *** يان حازا مجدا و عزّا تليدا

فهما وارثا العلا عن جدود *** ورثوها آباءهم و الجدودا

الشعر لفضالة بن شريك الأسديّ * من قصيدة يمدح بها يزيد بن معاوية. و بعد هذين البيتين يقول:

/

و حوى إرثها معاوية القر *** م(3) و أعطى صفو التّراث يزيدا

و الغناء لإبراهيم بن خالد المعيطي ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ. و اللّه أعلم(4).

ص: 315


1- جملة هذا الشطر صفة للذة. و قد دخلت الواو في الجملة الوصفية و هو قليل. و من ذلك قوله تعالى في سورة الحجر: وَ مٰا أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ وَ لَهٰا كِتٰابٌ مَعْلُومٌ.
2- زيادة من ف.
3- القرم: هنا السيد.
4- هذه الكلمة ليست موجودة في أكثر الأصول الخطية.

8 - أخبار فضالة بن شريك و نسبه

نسبه و شعر لابنه عبد اللّه في ذم ابن الزبير

هو فضالة بن شريك بن سلمان(1) بن خويلد بن سلمة بن عامر موقد النّار بن الحريش بن نمير بن والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان [بن أسد](2) بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. و كان شاعرا فاتكا صعلوكا مخضرما أدرك الجاهليّة و الإسلام. و كان له ابنان شاعران، أحدهما عبد اللّه بن فضالة الوافد على عبد اللّه ابن الزّبير و القائل له: إنّ ناقتي قد نقبت(3) و دبرت فقال له. ارقعها بجلد و اخصفها بهلب(4) و سربها البردين. فقال له: إنّي قد جئتك مستحملا لا مستشيرا(5)، فلعن اللّه(6) ناقة حملتني إليك. فقال له ابن الزّبير: إنّ(7) و راكبها.

فانصرف من عنده و هو يقول:

أقول لغلمتي شدّوا ركابي *** أجاوز بطن مكّة في سواد(8)

فما لي حين أقطع ذات عرق *** إلى ابن الكاهليّة من معاد(9)

/سيبعد بيننا نصّ المطايا *** و تعليق الأداوى و المزاد(10)

و كلّ معبّد قد أعلمته *** مناسمهنّ طلاّع النّجاد(11)

ص: 316


1- كذا في ط، م و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (ج 34 ص 541) و «معجم الشعراء» للمرزباني. و في سائر الأصول: «سليمان».
2- التكملة عن ف (انظر كتاب «المعارف» لابن قتيبة» ص 31 طبعة أوربا).
3- كذا في ط، م، ف و في «لسان العرب» (مادة أنن): «نقب خفها»: يقال: نقب البعير، إذا حفي و رقت أخفافه. و في سائر الأصول: «تعبت». و الدبر (بالتحريك): جرح يكون في ظهر الدابة.
4- الهلب. الشعر. و خصفه: وضعه و إطباقه على الأخفاف ليقيها. و البردان: الغداة و العشي مثل الأبردين.
5- زيد في «خزانة الأدب» و «تاريخ ابن عساكر» (ج 34 ص 543) بعد البردين: «تصح». و في «الخزانة»: «لا مستوصفا» بدل «لا مستشيرا». و في حاشية الأمير على معنى اللبيب: «ما أتيتك مستطبا و إنما أتيتك مستمنحا».
6- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «اللّه تعالى».
7- إن هنا بمعنى «نعم».
8- في «خزانة الأدب» (ج 2 ص 101): «بطن مر». و بطن مر: موضع بقرب مكة. و في سواد، أي في ظلام الليل.
9- ذات عرق: موضع و هو الحد بين نجد و تهامة و عنده يهل أهل العراق. و ابن الكاهلية، يريد ابن الزبير. و سيذكر المؤلف ذلك في آخر هذه الترجمة. و معاد: مصدر بمعنى العود.
10- نص المطايا: سيرها الشديد، على أن النص مضاف إلى فاعله، أو حثها و استخراج ما عندها من السير، على أن النص مضاف إلى مفعوله. و في «تاريخ ابن عساكر»: «و قول ابن فضالة في شعره هذا «نص المطايا» ضرب من السير فيه ظهور و ارتفاع. و من هذا اشتق اسم المنصة بمعنى الارتفاع و الظهور. و روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم، في قصة ذكرت، أنه كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. و منه نصصت الحديث إلى صاحبه أي رفعته إليه. و قال امرؤ القيس: و جيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته و لا بمعطل» و الأداوي: جمع إداوة (بكسر الهمزة)، و هي المطهرة. و المزاد: الأسقية، واحدها مزادة.
11- في بعض الأصول: «أعملته». و المعبد هنا: الطريق الواضح الذي عبّد و مهّد من كثرة السير فيه. و المناسم: أطراف أخفاف الإبل، واحدها منسم (بفتح الميم و كسر السين). و النجاد: جمع نجد و هو ما ارتفع من الأرض. و طلاع النجاد: السامي لمعالي الأمور. و وصف الطريق به هنا مجاز: إذ هو يريد: و كل طريق معبد لا يسلكه إلا السامون لمعالي الأمور الضابطون لأمورهم.

أرى الحاجات عند أبي خبيب *** نكدن و لا أميّة بالبلاد(1)

من الأعياص أو من آل حرب *** أغرّ كغرّة الفرس الجواد

ابنه فاتك و مدح الأقيشر له

حدّثنا بذلك محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ. فأمّا فاتك بن فضالة فكان سيّدا جوادا. و له يقول الأقيشر يمدحه:

وفد الوفود فكنت أفضل وافد(2) *** يا فاتك بن فضالة بن شريك

مرّ بعاصم بن عمر بن الخطاب فلم يقره فهجاه

أخبرني بما أذكر من أخباره هاهنا مجموعا عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أبو سعيد السّكريّ عن محمد بن حبيب، و ما ذكرته متفرّقا فأنا ذاكر إسناده(3) عمن أخذته. قال ابن حبيب:

مرّ فضالة بن شريك بعاصم بن عمر بن الخطّاب - رضي اللّه تعالى(4) عنهما - و هو متبدّ(5) بناحية المدينة، فنزل به فلم يقره شيئا و لم يبعث إليه و لا إلى أصحابه بشيء(6)، و قد عرّفوه مكانهم. فارتحلوا عنه. و التفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال له: قل له: أمّا و اللّه لأطوّقنّك طوقا لا يبلى. و قال يهجوه:

ألا أيها الباغي القرى لست واجدا *** قراك إذا ما بتّ في دار عاصم

إذا جئته تبغي القرى بات نائما *** بطينا و أمسى ضيفه غير(7) نائم

فدع عاصما أفّ لأفعال عاصم *** إذا حصّل(8) الأقوام أهل المكارم

فتى من قريش لا يجود بنائل(9) *** و يحسب أن البخل ضربة لازم

ص: 317


1- أبو خبيب: كنية لعبد اللّه بن الزبير، و يكنى أيضا أبا بكر و أبا عبد الرحمن. و نكدن: تعسرن. و استشهد النحويون بهذا البيت من باب «لا» النافية للجنس. و ذلك أن مدخول «لا» لا يكون إلا نكرة و هو هاهنا معرفة. و قد تؤوّل على تقدير «و لا أمثال أمية في البلاد»؛ أو على تقدير «و لا أجواد في البلاد». لأن بني أمية قد اشتهروا بالجود؛ فأوّل العلم باسم الجنس لشهرته بصفة الجود. و قد نسب بعضهم هذه الأبيات لعبد اللّه بن الزبير (بفتح الزاي) في عبد اللّه بن الزبير بن العوام و أنه هو الذي شكا إلى ابن الزبير لقب ناقته. و نسبه بعضهم لفضالة، و سيذكر المؤلف ذلك في ترجمته.
2- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «أوّل وافد».
3- في أكثر الأصول ما عدا ط: «فأنا ذاكر أيضا إسناده».
4- هذا الدعاء ليس في ط، م، ف.
5- كذا في ط، م. و متبدّ: مقيم بالبادية. و في سائر الأصول: «منتبذ».
6- هذه الكلمة ليست في ط، م.
7- في ط، م، ف. و «تاريخ دمشق لابن عساكر»: «غير طاعم».
8- في أكثر الأصول: «جهل» و التصويب من ط، ج، م.
9- النائل: العطاء.

و لو لا يد الفاروق قلّدت عاصما *** مطوّقة يحدّى(1) بها في المواسم

فليتك من جرم بن زبّان أو بني *** فقم أو النّوكى أبان بن دارم

/أناس إذا ما الضّيف حلّ بيوتهم *** غدا جائعا عيمان(2) ليس بغانم

[قال](3): فلمّا بلغت أبياته عاصما استعدى عليه عمرو بن سعيد بن العاص و هو يومئذ بالمدينة(4) أمير، فهرب فضالة بن شريك فلحق بالشأم، و عاذ بيزيد بن معاوية و عرّفه ذنبه و ما تخوّف من عاصم؛ فأعاذه، و كتب إلى عاصم يخبره أنّ فضالة أتاه مستجيرا به، و أنّه يحبّ أن يهبه له. و لا يذكر لمعاوية شيئا من أمره، و يضمن له ألاّ يعود لهجائه؛ فقبل ذلك عاصم و شفّع يزيد بن معاوية. فقال فضالة يمدح يزيد بن معاوية:

إذا ما قريش فاخرت بقديمها *** فخرت بمجد يا يزيد تليد

بمجد أمير المؤمنين و لم يزل *** أبوك أمين اللّه غير بليد

به عصم اللّه الأنام من الرّدى *** و أدرك تبلا من معاشر صيد(5)

و مجد أبي سفيان ذي الباع و النّدى *** و حرب و ما حرب العلا بزهيد

فمن ذا الذي إن عدّد الناس مجدهم *** يجيء بمجد مثل مجد يزيد

و قال فيه القصيدة المذكور فيها الغناء في هذه القصّة بعينها(6).

هجا ابن مطيع حين طرده المختار عن ولاية الكوفة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني السّكريّ عن ابن حبيب قال:

كان عبد اللّه بن الزّبير قد ولّى عبد اللّه بن مطيع بن الأسود بن نضلة(7) بن عبيد بن عويج بن عديّ بن كعب، الكوفة، فطرده عنها المختار بن أبي عبيد حين ظهر؛ فقال فضالة بن شريك يهجو ابن مطيع:

/

دعا ابن مطيع للبياع فجئته *** إلى بيعة قلبي بها(8) غير عارف

فقرّب لي خشناء لمّا لمستها *** بكفّي لم تشبه أكفّ الخلائف

معوّدة حمل الهراوي لقومها *** فرورا إذا ما كان يوم التّسايف(9)

ص: 318


1- كذا في ط، ج، م، ف و «تاريخ ابن عساكر». و في سائر الأصول: «يخزي» تحريف.
2- عيمان: عطشان.
3- زيادة عن ط، م، ف.
4- في ف: «على المدينة».
5- في بعض الأصول: «نبلا» بالنون، تصحيف. و التبل هنا: الثأر. و الصيد: جمع أصيد. يقال ملك أصيد، إذا كان لا يلتفت من زهوه يمينا و لا شمالا.
6- هذه عبارة ط، م، ف. و مثلها جلولا تحريف في الكلمات. و في سائر الأصول: «و قال فيه أيضا الأبيات المذكور فيها الغناء من هذه القصيدة بعينها».
7- كذا في ط، ج، م، ف. و في سائر الأصول: «فضالة» تحريف (راجع «أسد الغابة» ج 3 ص 262، «و الإصابة» ج 5 ص 65).
8- في ط، م، ف: «لها غير عارف».
9- التسايف: التضارب بالسيوف.

من الشّثنات(1) الكزم أنكرت لمسها(2) *** و ليست من البيض السّياط اللّطائف

و لم يسم إذ بايعته من خليفتي *** و لم يشترط إلا اشتراط المجازف

متى تلق أهل الشام في الخيل تلفني *** على مقرب(3) لا يزدهى بالمجاذف

ممرّ(4) كبنيان(5) العباديّ مخطف *** من الضّاريات بالدّماء الخواطف

هجا عامر بن مسعود لأنه تسوّل في جمع صداق زوجه

و قال ابن حبيب في هذا الإسناد: تزوّج عامر بن مسعود بن أميّة بن خلف الجمحيّ امرأة من بني نصر بن معاوية، و سأل في صداقها بالكوفة، فكان يأخذ من كلّ رجل سأله درهمين درهمين. فقال له فضالة بن شريك يهجوه بقوله:

أنكحتم يا بني نصر فتاتكم *** وجها يشين وجوه الرّبرب(6) العين

/أنكحتم(7) لا فتى دنيا يعاش به *** و لا شجاعا إذا انشقّت عصا الدّين

قد كنت أرجو أبا حفص و سنّته *** حتّى نكحت(8) بأرزاق المساكين

هجا رجلا من بني سليم خان الأمانة

و قال ابن حبيب في هذا الإسناد: أودع فضالة بن شريك رجلا من بني سليم يقال له قيس ناقة، فخرج في سفر، فلمّا عاد طلبها منه، فذكر أنّها سرقت. فقال [فيه](9):

/

و لو أنّني يوم بطن العقيق *** ذكرت و ذو اللّبّ ينسى كثيرا

مصاب سليم لقاح(10) النّ *** بيّ لم أودع الدّهر فيهم بعيرا

ص: 319


1- يقال ششن الرجل (كفرح و كرم) فهو شئن (بالسكون) إذا كان غليظ الكف خشنها. و لعله حرك العين هنا و هي الثاء للضرورة، لأن عين الوصف لا تحرك في جمع المؤنث، أو هي لغة كفرح و فرحة، لم ترد في المعجمات. و الكزم: جمع أكزم و كزماء، و الكزم (بالتحريك) هنا: قصر في الأصابع شديد.
2- في ف: «مسّها».
3- المقرب من الخيل: الذي يقرب مربطه و معلفه لكرامته. و لا يزدهى: لا يستخف و «المجاذف: ما يرمى به». و شرح الكلمة الأخير عن هامش ط.
4- ممر: موثق الخلق.
5- في ط، م: «كناز للعبادي». و لعل صوابه: «كزنار العبادي». و الزنار: ما يشدّه النصراني على وسطه. و العباديون: نصارى الحيرة، على أن يكون قد وصف الفرس بأنه موثق الخلق مفتول كالزنار. و المخطف: الضامر. و ضرى بالشيء: لهج به و أغرم.
6- الربرب: القطيع من بقر الوحش. و العين: الواسعة العيون، الواحد أعين و عيناه.
7- في أ، ب، س، م (في أحد موضعيها): «أنكتم».
8- في هذه الأصول أيضا: «أنيكت».
9- زيادة عن ف.
10- مصاب هنا: مصدر بمعنى إصابة. و مثله: أ ظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم و اللقاح: ذوات الألبان من النوق، واحدتها لقوح و لقحة.

و قد فات قيس بعيرانة(1) *** إذا الظّلّ كان مداه قصيرا

من اللاّعبات بفضل الزّمام *** إذا أقلق السّير فيه الضّفورا(2)

و من يبك منكم بني موقد *** و لم يرهم يبك شجوا كبيرا

هم العاسفون(3) صلاب القنا *** إذا الحيل كانت من الطّعن زورا(4)

/و أيسار لقمان(5) إذ أمحلوا *** و عزّ لمن جاءهم مستجيرا

فإن أنا لم يقض لي ألقهم(6) *** قرأت السّلام عليهم كثيرا

عود إلى شعر في ذم ابن الزبير قيل إنه لفضالة

و ذكر ابن حبيب في هذه الرواية أنّ القصيدة التي ذكرتها عن المدائنيّ في خبر عبد اللّه بن فضالة بن شريك مع ابن الزّبير كانت مع فضالة و ابن الزّبير لا مع ابنه، و ذكر الأبيات و زاد فيها:

شكوت إليه أن نقبت(7) قلوصي *** فردّ جواب مشدود الصّفاد(8)

يضنّ بناقة و يروم ملكا *** محال ذلكم(9) غير السّداد

/وليت إمارة فبخلت لما *** وليتهم بملك مستفاد

ص: 320


1- كذا في ط، ج، م، ف. و في سائر الأصول: «بعيرانة» تصحيف. و العيرانة من النوق: القوية التي تشبه العير، و هو الحمار الوحشي، في القوّة و النشاط.
2- في م، أ: «الصقورا» و في چ ب، س: «القصورا» و التصويب من ط. و الضفور: جمع ضفر (بالفتح) و هو ما يشدّ به البعير من الشعر المضفور.
3- في أكثر الأصول: «العاشقون» و التصويب من ط، م.
4- زور: مائلات، واحدها أزور و زوراء.
5- الأيسار: أصحاب القداح المجتمعون على الميسر، الواحد يسر (بالتحريك). و لقمان هو ابن عاد صاحب النسور السبعة التي آخرها لبد، و هو غير لقمان الحكيم. قال المفضل الضبي في أمثاله (ص 74 طبعة الجوائب سنة 1300 ه): «زعموا أن لقمان بن عاد جاور حيا من العمالقة و هم عرب، فملأ عسّا له لبنا، ثم قال لجارية له: انطلق بهذا العس إلى سيد هذا الحي فأعطيه إياه، و إياك أن تسألي عن اسمه و اسم أبيه. فانطلقت حتى أتتهم، فإذا هم بين لاعب و عامل في ضيعته و مقبل على أمره، حتى مرت بثمانية نفر منهم عليهم وقار و سكينة و لهم هيئة، فقامت تتفرّس فيهم أيهم تعطي العس. فمرت بها أمة، فقال لها جارية لقمان: إن مولاي أرسلني إلى سيد هذا الحي و نهاني أن أسأل عن اسمه و اسم أبيه. فقالت لها الأمة: إن وصفتهم لك فخذي أيهم شئت أو ذري، و فيهم سيد الحي. ثم أخذت الأمة تصفهم واحدا واحدا بصفات كلها تمت إلى الكرم و الشجاعة، و هي الخلال المحمودة في البادية، و هم بيض، و حممة، و طفيل، و ذفافة، و مالك، و تميل، و قرزعة، و عمار؛ فأعطت الجارية العس من رأته من الوصف سيدهم. و قد ذكرت العرب أيسار لقمان في شعرها في الفخر و المدح؛ فقال شاعرهم: «قومي أيسار لقمان» أو «و هم أيسار لقمان». قال طرفة: و هم إيسار لقمان إذا أغلت الشتوة أبداء الجزر و أبداء الجزور: أشرف أعضائها، واحدها بدء (بالفتح). و قال أوس بن حجر: و أيسار لقمان بن عاد سماحة وجودا إذا ما الشول أمست جرائرا
6- جزم الفعل على البدل.
7- كذا في ط، ج، م، ف. و في سائر الأصول: «تعبت».
8- الصفاد (بالكسر): ما يوثق به الأسير من قد أو قيد.
9- في ط، م، ف: «ذاكم».

فإن وليت أميّة أبدلوكم *** بكلّ سميدع(1) واري الزّناد

من الأعياص أو من آل حرب *** أغرّ كغرّة الفرس الجواد

إذا لم ألقهم بمنى فإنّي *** ببيت لا يهشّ له(2) فؤادي

سيدنيني لهم نصّ المطايا *** و تعليق الأداوي و المزاد

و ظهر معبّد قد أعملته *** مناسمهنّ طلاّع النّجاد(3)

و عين الحمض حمض خناصرات(4) *** و ما بالعرق من سبل الغوادي(5)

فهنّ خواضع الأبدان قود(6) *** كأنّ رءوسهنّ قبور عاد

كأن مواقع الغربان منها *** منارات بنين(7) على عماد

طلب عبد الملك فضاله فلما وجده قد مات أكرم أهله
اشارة

[قال](8) فلمّا ولي عبد الملك بعث إلى فضالة يطلبه، فوجده قد مات، فأمر لورثته بمائة ناقة تحمل وقرها برا و تمرا. [قال](8): و الكاهليّة التي ذكرها زهرة(9) بنت خنثر امرأة من بني كاهل بن أسد، و هي أمّ خويلد بن أسد بن عبد العزّى.

ص: 321


1- كذا في ط، م، ف. «سميدع» بالدال المهملة. و في سائر الأصول: «سميذع» بالذال المعجمة. و إهمال الدال هو ما يفهم من كلام اللغويين، بل صرح بعضهم بأن إعجامها خطأ (راجع «تاج العروس» مادة سميدع). و السميدع: السيد الكريم الشريف السخي الموطأ الأكتاف، و الشجاع، و الرجل الخفيف في حوائجه. و يقال: إنه لواري الزناد، و واري الرند، و وريّ الزند، إذا رام أمرا أنجح فيه و أدرك ما طلب.
2- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «لا يهش به».
3- تقدم شرح ما في هذا البيت و الذي قبله في ص 70.
4- في أكثر الأصول: «و عين» بالواو. و الصواب من ط، م، ف. و خناصرة بليدة من أعمال حلب تحاذي قنسرين نحو البادية، و هي قصبة كورة الأحص؛ قال عدي بن الرقاع: و إذا الربيع تتابعت أنواؤه فسقى خناصره الأحص و زادها و قد يجمع في الشعر كما هنا، كأن الشاعر يجعل كل موضع منها خناصرة. قال جران العود: نظرت و صحبتي بخناصرات ضحيا بعد ما متع النهار
5- في أكثر الأصول: و ما بالعرف من سبل الفؤاد صوابه من ط، م، ف. و سبل الغوادي: مطرها. يريد ما أنبته المطر من مرعى.
6- قود: جمع أقود و قوداء. و القود (بالتحريك): طول الظهر و العنق.
7- كذا في ط. و في أكثر الأصول: «تبين». و الغرابان من الفرس و البعير: حرفا الوركين الأيسر و الأيمن اللذان فوق الذنب حيث التقى رأسا الورك اليمنى و اليسرى، و الجمع غربان. و الغراب أيضا: قذال الرأس؛ يقال: شاب غرابه أي شعر قذاله. يريد أن يصف المطايا بالضخامة و الارتفاع، كما وصفها في البيت الذي قبله بالطول.
8- زيادة عن ف.
9- ورد هذان الاسمان محرفين في أكثر الأصول، ففيها جميعا: «زهراء» و في ب، س، ح: «خثراء». و في م، أ: «خشراء». و التصويب من ط.
صوت

لقد طال عهدي بالإمام محمد *** و ما كنت أخشى أن يطول به عهدي

فأصبحت ذا بعد و داري قريبة *** فوا عجبا من قرب داري و من بعدي

فيا ليت أنّ العيد لي عاد يومه *** فإنّي رأيت العيد وجهك لي يبدي

رأيتك في برد النبيّ محمد *** كبدر الدّجى بين العمامة(1) و البرد

الشعر لأبي السّمط مروان الأصفر بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة.

/و الغناء لبنان خفيف رمل مطلق ابتداؤه نشيد. و ذكر الصّوليّ أنّ هذا الشعر ليحيى بن مروان. و هذا غلط قبيح.

ص: 322


1- في أكثر الأصول: «الغمامة» بالغين المعجمة. و التصويب من ط، ف.

9 - أخبار مروان الأصغر

اشارة

9 - أخبار مروان الأصغر(1)

كان أهله شعراء و شعره دونهم

قد مرّ نسبه و نسب أبيه و أهله و أخبارهم متقدّما. و كان مروان هذا آخر من بقي منهم يعدّ في الشعراء، و بقي بعده منهم متوّج. و كان ساقطا بارد الشّعر. فذكر لي عن أبي هفّان أنه قال: شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحارّ.

ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته، ثم يفتر ثم يبرد، و كذا كانت أشعارهم، إلا أنّ ذلك الماء لمّا انتهى إلى متوّج جمد.

و هذا الشعر يقوله مروان في المنتصر، و كان قد أقصاه و جفاه، و أظهر خلافا لأبيه في سائر مذاهبه حتى في التشيّع، فطرد مروان لنصبه، و أخرجه عن جلسائه. فقال هذه الأبيات و سأل بنان بن عمرو فغنّى فيها المنتصر ليستعطفه. و خبره في ذلك يذكر في هذا الموضع من الكتاب.

مدح المتوكل و ولاة عهده فأكرمه و أقطعه ضيعة

أخبرني عمّي و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني حمّاد بن أحمد بن سليمان الكلبي قال حدّثني أبو السّمط مروان الأصغر قال:

لمّا دخلت إلى المتوكّل مدحته و مدحت ولاة العهود الثلاثة، و أنشدته(2):

سقى اللّه نجدا و السلام على نجد *** و يا حبّذا نجد على النّأي و البعد

نظرت إلى نجد و بغداد دونها *** لعلّي أرى نجدا و هيهات من نجد

و نجد بها قوم هواهم زيارتي *** و لا شيء أحلى من زيارتهم عندي

/قال: فلمّا فرغت منها أمر لي بمائة و عشرين ألف درهم و خمسين ثوبا و ثلاثة من الظّهر فرس و بغلة و حمار، و لم أبرح حتّى قلت قصيدتي التي أشكره فيها و أقول:

/

تخيّر ربّ النّاس للنّاس جعفرا *** و ملّكه أمر العباد تخيّرا

فلما صرت إلى هذا البيت:

فأمسك ندى كفّيك عنّي و لا تزد *** فقد كدت أن أطغى و أن أتجبّرا

قال لي لا و اللّه لا أمسك حتّى أغرّقك بجودي.

و حدّثني عمّي بهذا الخبر قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني حماد بن أحمد بن يحيى قال حدّثني

ص: 323


1- وردت في ط، م قبل ترجمة مروان هذا ترجمة يوسف بن الحجاج الصيقل. و هي واردة في ب جزء 20 ص 93 و ما بعدها.
2- كذا في ط، م، ف. و في سائر الأصول: «و أنشدته هذا».

مروان بن أبي الجنوب، فذكر مثل هذا الخبر سواء، و قال بعد قوله: «لا و اللّه لا أمسك حتّى أغرّقك»: سلني حاجتك. فقلت: يا أمير المؤمنين، الضّيعة التي أمرت أن أقطعها باليمامة - ذكر ابن المدبّر أنّها وقف المعتصم على ولده - فقال: قد قبّلتك(1) إيّاها مائة سنة بمائة درهم. فقلت: لا يحسن أن تضمن ضيعة بدرهم في السنة. فقال ابن المدبر: فبألف درهم في كلّ سنة. فقلت نعم. فأمر ابن المدبّر أن(2) ينفد ذلك لي، و قال: ليست هذه حاجة، هذه قبالة، فسلني حاجتك. فقلت: ضيعة يقال لها السّيوح(3) أمر الواثق بإقطاعي إيّاها، فمنعنيها ابن الزيّات؛ فأمر بامضاء الإقطاع لي.

كان علي بن الجهم يطعن عليه حسدا له على موضعه من المتوكل، فهجاه هو في حضرة المتوكل و غلبه

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني علي بن يحيى المنجّم قال:

كان عليّ بن الجهم يطعن على مروان بن أبي الجنوب و يثلبه حسدا له على موضعه من المتوكّل. فقال له المتوكّل [يوما](4): يا عليّ، أيّما أشعر أنت أو مروان؟ فقال: أنا يا أمير المؤمنين. فأقبل على مروان فقال له: قد سمعت، فما عندك؟ /قال: كلّ أحد أشعر منّي يا أمير المؤمنين، و ما أصف نفسي و لا أزكّيها. و إذا رضيني أمير المؤمنين فما أبالي من زيّفني. فقال له: قد صدّقتك، عليّ يزعم سرا و جهرا أنّه أشعر منك. فالتفت إليه مروان فقال له: يا عليّ! أ أنت أشعر منّي؟ فقال: أو تشكّ في ذاك؟ قال: نعم! أشكّ و أشكّ و هذا أمير المؤمنين بيننا. فقال له عليّ: إنّ أمير المؤمنين يحابيك. فقال المتوكل: هذا عيّ منك يا عليّ؛ ثم قال لابن حمدون: احكم بينهما. فقال:

طرحتني و اللّه يا أمير المؤمنين بين أنياب و مخالب أسدين. قال: و اللّه لتحكمنّ بينهما. فقال له: أمّا إذ(5) حلفت يا أمير المؤمنين فأشعرهما عندي أعرفهما في الشّعر. فقال له المتوكل: قد سمعت يا عليّ. قال: قد عرف ميلك إليه فمال معه. فقال: دعنا منك، هذا كلّه عيّ، فإن كنت صادقا فاهج مروان. قال: [قد](6) سكرت و لا فضل فيّ.

فقال المتوكل لمروان: اهجه أنت، و بحياتي لا تبق(7) غاية. فقال مروان(8):

إن ابن جهم في المغيب يعيبني *** و يقول لي حسنا إذا لاقاني

صغرت مهابته و عظّم بطنه *** فكأنّما في بطنه ولدان

ويح ابن جهم ليس يرحم أمّه *** لو كان يرحمها لما عاداني

فإذا التقينا ناك شعري شعره *** و نزا على شيطانه شيطاني

قال: فضحك المتوكل و الجلساء منه، و انخزل(9) ابن الجهم، فلم يكن عنده أكثر من أن قال: جمع حيلة

ص: 324


1- قبلتك إياها أي ضمنتها لك و التزمت بذلك. و الاسم القبالة (بالفتح).
2- في ف: «فأمر بأن ينفذ...».
3- في ف: «السيوخ».
4- زيادة من ف.
5- في بعض الأصول: «إذا» تحريف.
6- زيادة في ط، م.
7- كذا في ط، ح، م. و في سائر الأصول: «لا تبقي».
8- زيد في ب، س، ح هنا: «قوله».
9- كذا في ط، ح، م. و انخزل في كلامه: انقطع. و في سائر الأصول: «انخذل» بالذال، تحريف.

الرّجال و حيلة النساء. فقال له المتوكل: هذا أيضا من/عيك و بردك، إن كان عندك شيء فهاته؛ فلم يأت بشيء.

فقال لمروان: بحياتي إن حضرك شيء فهاته، و لا تقصّر في/شتمك. فقال مروان:

لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر *** و هذا عليّ بعده يدّعي الشّعراء

و لكن أبي قد كان جارا لأمّه *** فلمّ أدّعى الأشعار أوهمني أمرا

قال: فضحك [المتوكل] و قال: زده بحياتي. فقال فيه:

يا ابن بدر يا عليّه *** قلت إنّي قرشيّه

قلت ما ليس بحقّ *** فاسكتي يا نبطيّه

اسكتي يا بنت جهم *** اسكتي يا حلقيّة(1)

فأخذ عبّادة هذه الأبيات فغنّاها على الطّبل و جاوبه من كان يغنّي، و المتوكل يضحك و يضرب بيديه و رجليه، و عليّ مطرق كأنّه ميّت، ثم قال: عليّ بالدواة فأتي بها، فكتب:

بلاء ليس يشبهه بلاء *** عداوة غير ذي حسب و دين

يبيحك منه عرضا لم يصنه *** و يرتع منك في عرض مصون

قال علي بن الجهم شعرا في حبسه، فعارضه فلم يطلقوه

أخبرني عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة قال حدّثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدّثني محمد بن السّريّ قال:

لمّا مدح عليّ بن الجهم و هو محبوس المتوكل بقوله

توكّلنا على ربّ السماء *** و سلمنا لأسباب القضاء

/و ذكر فيها جميع النّدماء و سبعهم(2) و هجاهم، انتدب له مروان بن أبي الجنوب فعارضه فيها، و قد كان المتوكل رقّ له، فلما أنشده مروان هذه القصيدة اعتورته ألسنة الجلساء فثلبوه و اغتابوه و ضربوا عليه، فتركه في محبسه. و القصيدة(3):

أ لم تعلم بأنّك يا ابن جهم *** دعيّ في أناس أدعياء

أعبد اللّه تهجو و ابن عمر *** و بختيشوع أصحاب الوفاء

هجوت الأكرمين و أنت كلب *** حقيق بالشّتيمة و الهجاء

أ ترمي بالزّناء بني حلال *** و أنت زنيم(4) أولاد الزّناء

أسامة من جدودك يا بن جهم! *** كذبت و ما بذلك من خفاء

ص: 325


1- يقال أتان حلقية، إذا تداولها الحمر فأصابها داء في رحمها؛ و منه الحلاق (بالضم) في الأتان، و هو أ لا تشبع من السفاد.
2- سبعه: شتمه و وقع فيه.
3- في ح، ب، س: «و القصيدة قوله».
4- الزنيم: المستلحق في قوم ليس منهم، و الدعي، و اللئيم المعروف بلؤمه أو شره.
قال في المعتصم شعرا بعد ما كان من أمر العباس بن المأمون و عجيف

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا الحسين بن يحيى قال حدّثني إبراهيم بن الحسن قال:

لمّا كان من أمر العبّاس بن المأمون و عجيف ما كان، أنشد مروان بن أبي الجنوب المعتصم قصيدة أوّلها(1):

ألا يا دولة المعصوم دومي *** فإنّك قلت للدّنيا استقيمي

فلمّا بلغ إلى قوله:

هوى العبّاس حين أراد غدرا *** فوافى إذ هوى قعر الجحيم

كذاك هوى كمهواه عجيف *** فأصبح في سواء لظى الحميم

[قال المعتصم: أبعده اللّه!(2)]

مدح أشناس فطرب له و أجازه من غير أن يفهمه

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثنا أبو العيناء قال:

دخل مروان الأصغر بن أبي الجنوب على أشناس و قد مدحه بقصيدة فأنشده إيّاها، فجعل أشناس يحرّك رأسه/و يومئ بيديه و يظهر طربا و سرورا، و أمر له بصلة. فلمّا خرج قال له كاتبه: رأيت الأمير قد طرب و حرّك رأسه و يديه لما كان يسمعه، فقد فهمه(3)؟ قال نعم. قال: فأيّ شيء كان يقول؟ قال: ما زال يقول علي رقية الخبز حتّى حصّل ما أراد و انصرف.

هجا علي بن يحيى المنجم فردّ عليه

حدّثني جعفر بن قدامة(4) قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال: كان المتوكّل يعابثني(5) كثيرا، فقال في يوم من الأيّام لمروان بن أبي الجنوب: أهج عليّ بن يحيى؛ فقال مروان:

ألا إنّ يحيى لا يقاس إلى أبي *** و عرض ابن يحيى لا يقاس إلى عرضي

و هي أبيات تركت ذكرها صيانة لعليّ بن يحيى. قال: فأجبته عنها فقلت:

صدقت لعمري ما يقاس إلى أبي *** أبوك، و من قاس الشّواهق بالخفض

و هل لك عرض طاهر فتقيسه *** إذا قيست الأعراض يوما إلى عرضي

أ لستم موالي للّعين و رهطه *** أعادي بني العبّاس ذي الحسب المحض

توالون من عادى النبيّ و رهطه *** فترمون من والى أولي الفضل بالرّفض

و ليس عجيبا أن أرى لك مبغضا *** لأنّك أهل للعداوة و البغض

ص: 326


1- في ح، ب، س: «أوّلها قوله».
2- زيادة في ف.
3- في ط: «فقد فهم».
4- في ط، ب، س: «حدّثني جعفر بن قدامة لمروان قال حدّثني...».
5- كذا في م، أ. و في سائر الأصول: «يعاتبني» تصحيف.
نقد أبو العنبس الصيمري شعرا له فتهاجرا

حدّثني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال: أنشد مروان بن أبي الجنوب المتوكّل ذات يوم:

إنّي نزلت بساحة المتوكّل *** و نزلت في أقصى ديار الموصل

فقال له بعض من حضر: فكيف الاتّصال بين هؤلاء و المراسلة؟ فقال أبو العنبس الصّيمري: كان له حمام(1)هدىّ يبعث بها إليه من الموصل حتّى يكاتبه على أجنحتها. فضحك المتوكّل حتى استلقى، و خجل مروان و حلف بالطلاق لا يكلّم أبا العنبس أبدا، فماتا متهاجرين. كذا أكبر حفظي أنّ جحظة حدّثني به عن عليّ بن يحيى؛ فإنّي كتبته عن حفظي.

أنشد المتوكل في مرضه بالحمى قصيدة، فقال عليّ بن الجهم أن بعضها منتحل
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال قرأت في كتاب قديم:

قال عوف بن محلّم لعبد اللّه بن طاهر في علّة اعتلّها:

فإن تك حمى(2) الرّبع شفّك وردها *** فعقباك منها أن يطول لك العمر

وقيناك لو نعطى المنى فيك و الهوى *** لكان بنا الشّكوى و كان لك الأجر

قال: ثم حمّ المتوكّل حمى الرّبع، فدخل عليه مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة، فأنشده قصيدة له على هذا الرّويّ، و أدخل البيتين فيها، فسرّ بها(3)/المتوكل. فقال له عليّ بن الجهم: يا أمير المؤمنين، هذا شعر مقول، و التفت إليّ و قال: هذا(4) يعلم. فالتفت إليّ [المتوكّل] و قال(5): أتعرفه؟ فقلت: ما سمعته قبل اليوم. فشتم عليّ بن الجهم و قال له: هذا من حسدك و شرّك و كذبك. فلمّا خرجنا قال عليّ بن الجهم: ويحك! مالك قد جننت! أ ما تعرف هذا الشعر؟ قلت: بلى! و أنشدته إيّاه. فلمّا عدت إلى المتوكّل من غد قال له: يا أمير المؤمنين، قد اعترف لي بالشّعر و أنشدنيه،. فقال لي: أ كذاك هو؟ فقلت: كذب [يا أمير المؤمنين](6)! ما سمعت به قطّ فازداد عليه غيظا و له شتما. فلمّا خرجنا قال لي: ما في الأرض شرّ منك. فقلت له: أنت أحمق، تريد منّي أن أجيء إلى شعر قد قاله فيه شاعر يحبّه و يعجبه شعره فأقول له: إنّي أعرفه فأوقع نفسي و عرضي/في لسان الشاعر لترتفع أنت عنده، و يسقط ذاك و يبغضني(7) أنا!

ص: 327


1- الحمام الهدّاء: ضرب من الحمام يدرّب على السفر من مكان إلى مكان، فيرسل من أمكنة بعيدة فيذهب إلى حيث يراد منه أن يذهب، الواحد هاد، و الجمع هدّى (بالقصر) و هدّاء (بالمدّ)؛ كما يقال غاز و غزىّ و غزّاء. و ورود هذين الجمعين في الوصف المعتل اللام نادر.
2- حمى الربع: التي تنوب في اليوم ثم تدع المريض يومين ثم ترده في اليوم الرابع.
3- في ط، ف: «فأدخل البيتين فسر بهما...».
4- في ف: «قال: و هذا يعلم».
5- في ف: «فقال لي المتوكل: أتعرفه».
6- زيادة في ف.
7- كذا في ف. و في سائر الأصول: «و يبغضني أيضا».
صوت

ما لإبراهيم في العل *** م بهذا الشّأن ثان

إنّما عمر أبي إس *** حاق زين للزّمان

فإذا غنّى أبو إسحا *** ق أجابته المثاني

منه يجنى ثمر اللّه *** و و ريحان الجنان

جنّة الدّنيا أبو إس *** حاق في كلّ مكان

عروضه من الرّمل. الشّعر لابن سيابة. و الغناء لإبراهيم الموصليّ خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ابنه.

ص: 328

10 - أخبار ابراهيم بن سيابة و نسبه

جدّه حجام و هو ظريف و يرمي بالأبنة

إبراهيم بن سيابة مولى بني هاشم.، و كان يقال: إنّ جدّه حجّام أعتقه بعض الهاشميين. و هو من مقاربي شعراء وقته، ليست له نباهة و لا شعر شريف، و إنّما كان يميل بمودّته(1) و مدحه إلى ابراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق، فغنّيا في شعره و رفعا منه، و كانا يذكرانه للخلفاء و الوزراء و يذكّرانهم به إذا غنّيا في شعره، فينفعانه بذلك. و كان خليعا ماجنا، طيّب النادرة، و كان يرمى بالأبنة.

شعره في جارية سوداء لامه أهله في عشقه لها

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدّثني أبو زائدة عن جعفر بن زياد قال:

عشق ابن سيابة جارية سوداء، فلامه أهله على ذلك و عاتبوه؛ فقال:

يكون الخال في وجه قبيح *** فيكسوه الملاحة و الجمالا

فكيف يلام معشوق(2) على من *** يراها كلّها في العين خالا

قصته مع ابن سوّار القاضي و دايته رحاص

أخبرني محمد بن مزيد و عيسى بن الحسين و الحسين بن يحيى قالوا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

لقي(3) إبراهيم بن سيابة و هو سكران ابنا لسوّار بن عبد اللّه القاضي أمرد، فعانقه و قبّله، و كانت معه داية يقال لها رحاص، فقيل لها: إنّه لم يقبّله تقبيل السلام، إنّما قبّله قبلة شهوة(4) فلحقته الدّاية فشتمته و أسمعته كلّ ما يكره، و هجره الغلام بعد ذلك. فقال له:

قل للّذي ليس لي من *** يدي هواه خلاص

أ أن لثمتك سرا *** فأبصرتني رحاص

/و قال في ذاك قوم *** على انتقاصي حراص

هجرتني و أتتني شتيمة و انتقاص

فهاك فاقتصّ منّي *** إنّ الجروح قصاص

ص: 329


1- في ف: «و إنما كان منقطعا بمودّته...».
2- كذا في الأصول: و لعلها «مفتون».
3- كذا في ف. و في سائر الأصول: «أتى».
4- في ف: «تقبيل شهوة».

و يروى أنّ رحاص هذه مغنّية كان الغلام يحبّها، و أنه سكر و نام؛ فقبّله ابن سيابة. فلمّا انتبه قال للجارية:

ليت شعري ما كان خبرك مع ابن سيابة؟ فقالت له: سل عن خبرك أنت/معه، و حدّثته بالقصّة؛ فهجره الغلام؛ فقال هذا الشعر.

جوابه لمن عاتبه على مجونه، و لمن سأل عنه و هو سكران محمول في طبق

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا بن مهرويه قال حدّثنا علي بن الصّبّاح قال:

عاتبنا ابن سيابة على مجونه، فقال: ويلكم! لأن ألقى اللّه تبارك و تعالى بذلّ المعاصي فيرحمني، أحبّ إليّ من أن ألقاه أتبختر إدلالا بحسناتي فيمقتني.

قال: و رأيت ابن سيابة يوما و هو سكران و قد حمل في طبق يعبرون به على الجسر، فسألهم إنسان ما هذا؟ فرفع رأسه من الطبق و قال: هذا بقيّة ممّا ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة يا كشخان(1).

ولع به أبو الحارث جميز حتى أحجله فهجاه

أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو الشّبل البرجمي قال:

ولع [يوما](2) أبو الحارث جمّيز بابن سيابة حتى أخجله. فقال عند ذلك ابن سيابة يهجوه:

بنى أبو الحارث الجمّيز في وسط *** من ظهره و قريبا من ذراعين

ديرا لقسّ إذا ما جاء يدخله *** ألقى على باب دير القسّ خرجين

يعدو على بطنه شدّا على عجل *** لا ذو يدين و لا يمشي برجلين

جوابه لمن اقترض منه فاعتذر

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إبراهيم تينة قال:

كتب ابن سيابة إلى صديق له يقترض منه شيئا؛ فكتب إليه يعتذر له و يحلف أنّه ليس عنده ما سأله. فكتب إليه: «إن كنت كاذبا فجعلك اللّه صادقا. و إن كنت ملوما فجعلك اللّه معذورا».

ضرط في جماعة فكلم استه

أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كان ابن سيابة الشاعر عندنا يوما مع جماعة نتحدّث و نتناشد و هو ينشدنا شيئا من شعره، فتحرّك فضرط، فضرب بيده على استه غير مكترث، ثم قال: إمّا أن تسكتي حتّى أتكلّم، و إمّا أن تتكلّمي حتى أسكت.

غمز غلاما أمرد فأجابه

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباريّ الكاتب قال حدّثني أبو هفّان قال:

غمز ابن سيابة غلاما أمرد ذات يوم فأجابه، و مضى به إلى منزله، فأكلا و جلسا يشربان. فقال له الغلام: أنت

ص: 330


1- الكشخان: الديوث.
2- زيادة عن ف.

ابن سيابة الزّنديق؟ قال نعم. قال: أحبّ أن تعلّمني الزّندقة. قال: أفعل و كرامة. ثم بطحه على وجهه، فلمّا تمكّن منه أدخل عليه؛ فصاح الغلام أوّه! أيش هذا ويحك؟ قال سألتني أن أعلّمك الزندقة، و هذا أوّل باب من شرائعها.

يرى فقدان الدقيق أكبر مصيبة

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني محرز بن جعفر الكاتب قال:

قال لي إبراهيم بن سيابة الشاعر: إذا كانت في جيرانك جنازة و ليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة، فإنّ المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، و بيتك أولى بالمأتم من بيتهم.

سخط عليه الفضل ابن الربيع فاستعطفه بشعر فرضي عنه و وصله

أخبرني جعفر بن قدّامة و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

/سخط الفضل بن الرّبيع على ابن سيابة، فسألته أن يرضى عنه فامتنع. فكتب إليه ابن سيابة بهذه الأبيات و سألني إيصالها:

إن كان جرمي قد أحاط بحرمتي *** فأحط بجرمي عفوك المأمولا

فكم ارتجيتك في الّتي لا يرتجى *** في مثلها أحد فنلت السّولا(1)

و ضللت عنك فلم أجد لي مذهبا *** و وجدت حلمك لي عليك دليلا

/هبني أسأت و ما أسأت أقرّ كي *** يزداد عفوك بعد طولك طولا(2)

فالعفو أجمل و التّفضّل بامرئ *** لم يعدم الرّاجون منه جميلا

فلمّا قرأها الفضل دمعت عيناه و رضي عن ابن سيابة، و أوصله إليه و أمر له بعشرة آلاف درهم.

حواره المقدع مع بشار

أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا الحسن بن الفضل قال سمعت ابن عائشة يقول:

جاء إبراهيم بن سيابة إلى بشّار فقال له: ما رأيت أعمى قطّ إلاّ و قد عوّض من بصره إمّا الحفظ و الذّكاء و إمّا حسن الصوت، فأيّ شيء عوّضت [أنت](3)؟ قال: ألاّ أرى ثقيلا مثلك، ثم قال له: من أنت ويحك؟ قال: إبراهيم بن سبابة. فتضاحك ثم قال(4): لو نكح الأسد في استه لذلّ(5). و كان إبراهيم يرمى بذلك. ثم تمثّل بشّار:

لو نكح اللّيث في استه خضعا *** و مات جوعا و لم ينل شبعا

كذلك السيف عند هزّته *** لو بصق النّاس فيه ما قطعا

ص: 331


1- السؤل و السؤلة؛ و يترك همزهما: ما سألته.
2- الطول (بالفتح): الفضل.
3- زيادة في ف.
4- كذا في ف. و في سائر الأصول: «... بن سيابة. فقال».
5- في ف: «ما افترس و ذل».
نزل على سليمان بن يحيى بن معاذ بنيسابور

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عبد اللّه بن أبي نصر المروزي قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الطّلحي قال حدّثني سليمان بن يحيى بن معاذ قال:

قدم إبراهيم بن سيابة نيسابور فأنزلته عليّ؛ فجاءني ليلة من اللّيالي و هو مهرب(1)، فجعل يصيح بي. يا أبا أيّوب. فخشيت أن يكون قد غشيه شيء يؤذيه، فقلت: ما تشاء؟ فقال:

أعياني الشّادن الرّبيب

فقلت بما ذا؟ فقال:

أكتب أشكو لا يجيب

قال فقلت له: داره و داوه؛ فقال:

من أين أبغي شفاء ما بي *** و إنّما دائي الطّبيب

فقلت: لا دواء إذا إلاّ أن يفرّج اللّه تعالى. فقال:

يا ربّ فرّج إذا و عجّل *** فإنّك السّامع المجيب

ثم انصرف.

في هذا الشعر رمل طنبوريّ لجحظة.

من قصيدة أخت الوليد بن طريف في رثائه
صوت

أيا شجر الخابور مالك مورقا *** كأنّك لم تحزن على ابن طريف

فتى لا يحبّ الزّاد إلاّ من التّقى *** و لا المال إلاّ من قنّا و سيوف

/الشعر لأخت الوليد بن طريف الشاريّ. و الغناء لعبد اللّه بن طاهر ثقيل أوّل بالوسطى، من رواية ابنه عبيد اللّه عنه. و أوّل هذه الأبيات كما أنشدنا محمد بن العبّاس اليزيديّ عن أحمد بن يحيى ثعلب(2):

بتلّ بناثا(3) رسم قبر كأنّه *** على علم فوق الجبال منيف

تضمّن جودا حاتميّا و نائلا *** و سورة مقدام و قلب(4) حصيف

ص: 332


1- أهرب فهو مهرب: جدّ في السير مذعورا.
2- في بعض الأصول: «بن ثعلب» تحريف.
3- كذا في ط، ف. و في ب، س و «معاهد التنصيص» (ص 414): «نباتي». و في «حماسة البحتري»: «تباثا» مضبوطا بضم الأوّل، و مثله في «الكامل لابن الأثير». (ج 6 ص 98) و في سائر الأصول: «بناثا». و في «وفيات الأعيان»: «بتل نهاكي». و قال ابن خلكان: و تل نهاكي أظنه في بلد نصيبين، و هو موقع الواقعة المذكورة.
4- في وفيات الأعيان: «و رأى حصيف».

ألا قاتل اللّه الجثا حيث أضمرت *** فتى كان بالمعروف غير عفيف(1)

فإن يك أراده يزيد بن مزيد *** فيا ربّ خيل فضّها و صفوف(2)

ألا يا لقوم(3) للنّوائب و الرّدى *** و دهر ملحّ بالكرام عنيف

/و للبدر من بين الكواكب إذ هوى(4) *** و للشّمس همّت بعده بكسوف(5)

أيا شجر الخابور مالك مورقا *** كأنّك لم تحزن على ابن طريف(6)

/فتى لا يحبّ الزّاد إلاّ من التّقى *** و لا المال إلاّ من قنا و سيوف

و لا الخيل إلاّ كلّ جرداء شطبة *** و كلّ حصان باليدين غروف(7)

فلا تجزعا يا ابنى طريف فإنّني *** أرى الموت نزّالا(8) بكلّ شريف

فقدناك فقدان الرّبيع وليتنا *** فديناك من دهمائنا(9) بألوف

و هذه الأبيات تقولها أخت الوليد بن طريف ترثيه، و كان يزيد بن مزيد قتله.

ذكر الخبر في ذلك
مقتل الوليد بن طريف

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد عن عمّه عن جماعة من الرّواة قال:

ص: 333


1- في «حماسة البحتري» و «ابن الأثير»: «كيف أضمرت». و في «معاهد التنصيص» و «وفيات الأعيان» و «حماسة البحتري»: «غير عيوف». و الجثا: جمع جثوة «مثلثة الجيم» و هي ما يتجمع من حجارة أو تراب. و في حديث عامر: «رأيت قبور الشهداء جثا» يعني أتربة مجموعة.
2- في «الوفيات» و «معاهد التنصيص» و «حماسة ابن الشجري» و «حماسة البحتري»: فرب زحوف لفها بزحوف و في الأخير: «فضها».
3- في «معاهد التنصيص و الوفيات»: «ألا يا لقومي».
4- في ف: «قد هوى».
5- في «معاهد التنصيص» و «الوفيات»: «لما أزمعت» بدل «همت بعده».
6- في ف و «الوفيات» و «معاهد التنصيص» و ابن الأثير و «العقد الفريد»: «لم تجزع».
7- في «معاهد التنصيص» و الوفيات: و لا الدخر إلا كل جرداء صلدم معاودة للكر بين صفوف و في حماسة البحتري: و أجرد عالي المنسجين غروف و الجرداء من الخيل: القصيرة الشعر. و قصر الشعر مما تمدح به الخيل. و الشطبة (بالفتح و بكسر» من الخيل: السبطة اللحم، و قيل: هي الطويلة. و في بعض الأصول: «عروف» بالعين المهملة، تصحيف. و الغروف من الخيل: التي تغرف الجري غرفا فتنهب الأرض نهبا في سرعتها.
8- في معاهد التنصيص» و «الوفيات» و «حماسة البحتري» و «العقد الفريد»: «وقاعا».
9- في «الوفيات» و «معاهد التنصيص»: «من فتياننا». و في «العقد الفريد»: «من ساداتنا». و في «حماسة البحتري»: فقدناه فقدان الربيع فليتنا فديناه......... و فيها من هذه القصيدة أربعة و عشرون بيتا.

كان الوليد بن طريف الشّيبانيّ رأس الخوارج و أشدّهم بأسا و صولة و أشجعهم؛ فكان من بالشّمّاسيّة(1) لا يأمن طروقه [إياه](2)، و اشتدّت شوكته و طالت أيّامه. فوجّه إليه/الرشيد يزيد بن مزيد الشّيبانيّ، فجعل يخاتله و يماكره. و كانت البرامكة منحرفة عن يزيد بن مزيد، فأغروا به أمير المؤمنين، و قالوا: إنما يتجافى عنه للرّحم، و إلاّ فشوكة الوليد يسيرة، و هو يواعده و ينتظر ما يكون من أمره. فوجّه إليه الرشيد كتاب مغضب يقول فيه: «لو وجّهت بأحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به، و لكنّك مداهن متعصّب. و أمير المؤمنين يقسم باللّه لئن أخّرت مناجزة الوليد ليوجّهنّ إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين». فلقي الوليد عشيّة خميس في شهر رمضان. فيقال: إنّ يزيد جهد عطشا حتى رمى بخاتمه في فيه، فجعل يلوكه و يقول: اللّهمّ إنّها(3) شدّة شديدة فاسترها. و قال لأصحابه: فداكم أبي و أمّي، إنما هي الخوارج و لهم حملة، فاثبتوا لهم تحت التّراس(4)، فإذا انقضت حملتهم فاحملوا؛ فإنّهم إذا انهزموا لم يرجعوا. فكان كما قال، حملوا حملة و ثبت يزيد و من معه من عشيرته و أصحابه، ثم حمل عليهم فانكشفوا. و يقال: إنّ أسد بن يزيد كان شبيها بأبيه جدّا؛ و كان لا يفصل بينهما إلاّ المتأمّل، و كان أكثر ما يباعده منه ضربة في وجه يزيد تأخذ من قصاص شعره(5) و منحرفة على جبهته؛ فكان أسد يتمنّى مثلها. فهوت له ضربة فأخرج وجهه من التّرس فأصابته في ذلك الموضع. فيقال: إنّه لو خطّت على مثال ضربة أبيه ما عدا(6)، جاءت كأنّها هي. و اتبع يزيد الوليد بن طريف فلحقه بعد مسافة بعيدة فأخذ رأسه. و كان الوليد خرج إليهم حيث خرج و هو يقول:

أنا الوليد بن طريف الشّاري *** قسورة لا يصطلى بناري

جوركم أخرجني من داري

خرجت أخته لتثأر له فزجرها يزيد بن مزيد

فلمّا وقع فيهم السّيف و أخذ رأس الوليد، صبّحتهم(7) أخته ليلى بنت طريف مستعدّة عليها الدّرع و الجوشن، فجعلت تحمل على الناس فعرفت. فقال يزيد: دعوها، ثم خرج إليها فضرب بالرّمح قطاة(8) فرسها، ثم قال اغربي غرّب اللّه عليك(9)! فقد فضحت العشيرة؛ فاستحيت و انصرفت و هي تقول:

/

أيا شجر الخابور مالك مورقا *** كأنّك لم تحزن على ابن طريف

فتى لا يحبّ الزّاد إلاّ من التّقى *** و لا المال إلاّ من قنا و سيوف

ص: 334


1- الشماسية: محلّة كانت قريبة من بغداد.
2- زيادة في ف.
3- في ف: «ليلة شديدة».
4- التراس: جمع ترس (بالضم)، و هو صفحة من الفولاذ مستديرة تحمل للوقاية من السيف و نحوه.
5- في ط، ف: «شعره منحرفة» بدون الواو.
6- ما عدا، أي ما جاوز خط ضربته مثال ضربة أبيه. و قوله. «جاءت كأنها هي» بيان لقوله: «ما عدا».
7- في ح و «معاهد التنصيص»: «صحبتهم».
8- قطاة الفرس: عجزها أو مقعد الرديف منها.
9- كذا في ط و «معاهد التنصيص». و في ب، س: «غرب اللّه عينيك». و في «الكامل»: «اعزبي عزب اللّه عليك» بالزاي.

و لا الذّخر إلاّ كلّ جرداء صلدم *** و كلّ رقيق الشّفرتين خفيف(1)

فلمّا انصرف يزيد بالظّفر حجب برأي البرامكة، و أظهر الرشيد السخط عليه. فقال: و حقّ أمير المؤمنين لأصفّينّ و أشتونّ على فرسي أو أدخل. فارتفع الخبر بذلك فأذن له فدخل. فلمّا رآه أمير المؤمنين ضحك و سرّ و أقبل يصيح: مرحبا بالأعرابيّ! حتى دخل و أجلس و أكرم و عرف بلاؤه و نقاء صدره.

من قصيدة مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد

و مدحه الشعراء بذلك. فكان أحسنهم مدحا مسلم بن الوليد؛ فقال فيه قصيدته التي أولها:

أجررت حبل خليع في الصّبا غزل *** و شمّرت همم العذّال في عذلي(2)

/هاج البكاء على العين الطّموح هوى *** مفرّق بين توديع و محتمل(3)

كيف السّلوّ لقلب بات مختبلا *** يهذي بصاحب قلب غير مختبل(4)

و فيها يقول:

يفترّ عند افترار الحرب مبتسما *** إذا تغيّر وجه الفارس البطل(5)

موف على مهج في يوم ذي رهج(6) *** كأنّه أجل يسعى إلى أمل

ينال بالرّفق ما يعيا الرّجال به *** كالموت مستعجلا يأتي على مهل

لا يرحل النّاس إلاّ نحو حجرته(7) *** كالبيت يفضي إليه ملتقى السّبل

يقري المنيّة أرواح العداة كما *** يقري الضّيوف شحوم الكوم و البزل(8)

ص: 335


1- الصلدم من الخيل: الشديدة الحافر. و رقيق الشفرتين: السيف.
2- كذا في ف. و في «ديوان مسلم بن الوليد»: «في العذل». و في سائر الأصول: «عن عذلي» تحريف. تقول العرب: أجررت فلانا رسنه إذا مهلت له في إرادته. و أصله أن تمهل للدابة في الرعي جارة رسنها. فيقول: أجررت حبل خليع في الصبا، أي حبل من خلع عذاره في الصبا. و غزل: ذي غزل و مجانة. و قوله «و شمرت...» أي حين رأوني قد صبوت. و الخليع أيضا: من يخلعه قومه لشرّه. فإن ذهب أحد إلى هذا فمعناه رجل قد تبرأ منه قومه. (عن «شرح ديوان مسلم» ببعض تصرف).
3- في ف: «و مرتحل». و الطموح: المرتفعة في النظر إلى الأحبة و هم سائرون. فيقول: هاج البكاء على العين هوى مفرق بين توديع و محتمل، أي مقسم، بعضه في توديع الأحبة و بعضه في احتمالهم. (عن «شرح ديوان مسلم»).
4- في ف و «ديوان مسلم»: «راح مختبلا». و مختبل: مخبول العقل فاسده. و الهذيان: الكلام الذي يفضي بصاحبه إلى ما لا يفهم عنه. و إنما يكون ذلك عن علة تفضي بصاحبها إلى الهذيان فيتكلم بما يأتيه دون أن يعرف ما يقول.
5- افتر فلان ضاحكا: أبدى أسنانه عند الضحك. و افترار الحرب: تكشيرها عن أنيابها، و هذا كناية عن شدتها. يقول: يبتسم من قلة مبالاته بالحرب إذا تغير وجه الفارس البطل من هول الحرب و شدتها.
6- في «ديوان مسلم»: «و اليوم ذو رهج». و الرهج الغبار. يقول: يوفي على المهج بالقتل في يوم قد ثار نقعه من شدة القتال؛ فهو يعمل عمل الأجل في الأمل.
7- كذا في ف و الديوان. و في سائر الأصول: «... حول حجرته» يقول: لا يرحل الناس لطلب عطاء إلا نحو بيته، كالبيت (يعني بيت اللّه الحرام مكة) يفضي إليه ملتقى السبل، أي عنده ملتقى الطرق كلها.
8- ف: «الكماة» بدل «العداة». و الكوم من النوق: العظام الأسمنة، واحدتها كوماء. و البزل: جمع: بزول و هو ما بلغ من الإبل تسع سنين.

يكسو السّيوف رءوس الناكثين به *** و يجعل الهام تيجان القنا الذّبل(1)

/إذا انتضى سيفه كانت مسالكه *** مسالك الموت في الأبدان و القلل(2)

لا تكذبنّ فإنّ المجد(3) معدنه *** وراثة في بني شيبان لم تزل(4)

إذا الشّريكيّ لم يفخر على أحد *** تكلّم الفخر عنه غير منتحل(5)

الزّائديّون قوم في رماحهم *** خوف المخيف و أمن الخائف الوجل(6)

كبيرهم لا تقوم الرّاسيات له *** حلما و طفلهم في هدي مكتهل

اسلم يزيد فما في الملك من أود *** إذا سلمت و لا في الدّين من خلل(7)

لو لا دفاعك بأس الرّوم إذ مكرت *** عن بيضة الدّين لم تأمن من الثّكل(8)

و المارق ابن طريف قد دلفت له *** بعارض للمنايا مسبل هطل(9)

لو أنّ غير شريكيّ أطاف به *** فاز الوليد بقدح النّاضل الخصل(10)

ما كان جمعهم لمّا دلفت لهم *** إلاّ كمثل جراد ريع منجفل(11)

/كم آمن لك نائي الدّار ممتنع *** أخرجته من حصون الملك و الخول(12)

تراه في الأمن في درع مضاعفة *** لا يأمن الدّهر أن يدعى على عجل

لا يعبق(13) الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل

/يأبى لك الذّمّ في يوميك إن ذكرا *** عضب حسام و عرض غير مبتذل(14)

ص: 336


1- و يروي: «دماء الناكثين». و الناكثون: الناقضون للعهد. و الذابل من القنا و هي الرماح: الرقيق اللاصق الليط. و يجمع أيضا على ذبل (بضم الذال و تشديد الباء المفتوحة).
2- و يروي: «في الأجسام» و انتضى سيفه: سله من غمده. و القلل: جمع قلة، و هي أعلى الشيء، و هي هنا: أعالي الرءوس.
3- في «الديوان» «الحلم».
4- كذا في ف و الديوان. و في سائر الأصول: «لم يزل».
5- الشريكي: نسبة إلى «شريك» جدّ من أجداد يزيد بن مزيد الممدوح. يقول: إن أفعالهم بادية ظاهرة في الناس، فلا يحتاجون هم إلى النطق بها لإظهارها، فقد كفوا ذلك.
6- الزائديون: نسبة إلى «زائدة» جدّ أيضا. و قوله؛ «خوف المخيف» أي خوف من أخاف الناس، يعني الأشرار الذي يخيفون الرعية.
7- في «الديوان»: «فما في الدين... و ما في الملك» و يروي: فما في الدين من حرج» أي ضيق و الأود: العوج.
8- في «الديوان»: «إذ بكرت عن عترة الدين» أي عن جماعة الإسلام. و في ط، ج: «لم يأمن». و الثكل، بالتحريك، و يجوز أن يكون بضمتين، بتحريك الكاف الساكنة.
9- في «الديوان»: «بعسكر» بدل «بعارض». و أسبل السحاب: كثر مطره و اتسع.
10- الناضل: المصيب. و الخصل مثله.
11- في ف «و الديوان»: «لما لقيتهم». و في الديوان: «إلا كمثل نعام».
12- الخول: ما يعطاه المرء من النعم و العبيد و الإماء و غيرهم من الحاشية، يقال للواحد و الجمع و المذكر و المؤنث، و يقال للواحد خائل. و نائي الدار: بعيدها. يقول: كم من عدوّ قد أمنك لبعد داره عنك و امتناعه بحصونه، قد أخرجته من حصون ملكه و من بين خوله.
13- كذا في ط و «ديوان مسلم». و في سائر الأصول: «لم يعبق».
14- العضب هنا: السيف. و الحسام: القطاع. يقول: يأبى لك أن يذمك أحد سيف قطاع تقتل به الأعداء، و عرض غير مبتذل للذم؛ لأنك تصونه بالعطاء لكل من سألك، فلا تجعل لأحد سبيلا إلى عرضك.

فافخر فما لك في شيبان من مثل *** كذاك ما لبني شيبان من مثل

و قال محمد بن يزيد: يعني بقوله:

تراه في الأمن في درع مضاعفة

كان معن يقدمه على بنيه فعاتبته امرأته فأراها حالهم و حاله

خبر يزيد بن مزيد. و ذاك أنّ امرأة معن بن زائدة عاتبت معنا في يزيد و قالت: إنك لتقدّمه و تؤخّر بنيك، و تشيد بذكره و تحمل ذكرهم، و لو نبّهتهم لانتبهوا، و لو رفعتهم لارتفعوا. فقال معن: إن يزيد قريب لم(1) تبعد رحمه، و له عليّ حكم الولد إذ كنت عمّه. و بعد فإنّهم ألوط(2) بقلبي و أدنى من نفسي على ما توجبه واجبة الولادة للأبوّة من تقديمهم(3)، و لكنّي لا أجد عندهم ما أجده عنده. و لو كان ما يضطلع به يزيد في بعيد لصار قريبا، و في عدوّ لصار حبيبا. و سأريك في ليلتي هذه ما ينفسح به/اللّوم عني و يتبيّن به عذري. يا غلام اذهب فادع جسّاسا و زائدة و عبد اللّه و فلانا و فلانا، حتى أتى على أسماء ولده؛ فلم يلبث أن جاءوا في الغلائل المطيّبة و النّعال السّندية، و ذلك بعد هدأة من اللّيل، فسلّموا و جلسوا. ثم قال: يا غلام ادع لي يزيد و قد أسبل سترا بينه و بين المرأة، و إذا به قد دخل عجلا و عليه السّلاح كلّه، فوضع رمحه بباب المجلس ثم أتى يحضر(4). فلمّا رآه معن قال: ما هذه الهيئة أبا الزّبير؟ - و كان يزيد يكنى أبا الزّبير و أبا خالد - فقال: جاءني رسول الأمير فسبق إلى نفسي أنه يريدني لوجه، فقلت: إن كان مضيت و لم أعرّج، و إن يكن الأمر على خلاف ذلك فنزع هذه الآلة أيسر الخطب. فقال لهم:

انصرفوا في حفظ اللّه. فقالت المرأة: قد تبيّن عذرك. فأنشد معن متمثّلا:

نفس عصام سوّدت عصاما *** و عوّدته الكرّ و الإقداما

و صيّرته ملكا(5) هماما

من شعر أخته في رثائه

و أخبرني محمد بن الحسن الكندي قال حدثنا الرّياشيّ قال: أنشدني الأصمعي لأخت الوليد بن طريف ترثيه:

ذكرت الوليد و أيّامه *** إذ الأرض من شخصه بلقع

فأقبلت أطلبه في السّماء *** كما يبتغي أنفه الأجدع

أضاعك قومك فليطلبوا *** إفادة مثل الذي ضيّعوا

لو أنّ السّيوف التي حدّها *** يصيبك تعلم ما تصنع

نبت عنك أو جعلت هيبة *** و خوفا لصولك لا تقطع

ص: 337


1- في ط: «و لم تبعد».
2- ألوط بقلبي: ألصق به؛ يقال: لاط الشيء بقلبي يلوط و يليط لوطا و ليطا، إذا حبب إليه و لزق به؛ فهو ألوط به و أليط به.
3- في ف: «على قدر ما توجبه واجبة الأبوة».
4- يحضر: يعدو و يسرع.
5- في ف: «بطلا».
بعض أخلاق عبد اللّه بن طاهر

فأمّا خبر عبد اللّه بن طاهر في صنعته هذا الصوت، فإنّ عبد اللّه كان بمحلّ من علوّ المنزلة و عظم القدر و لطف مكان من الخلفاء، يستغني به عن التقريظ له و الدّلالة عليه. و أمره في ذلك مشهور عند الخاصّة و العامّة، و له في الأدب مع ذلك المحلّ الذي لا يدفع، و في السماحة و الشجاعة ما لا يقاربه فيه كبير أحد.

فرّق خراج مصر و قال أبياتا أرضى بها المأمون

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد المبرّد أنّ المأمون أعطى عبد اللّه بن طاهر مال مصر لسنة خراجها و ضياعها، فوهبه كلّه و فرّقه في الناس، و رجع صفرا من ذلك، فغاظ المأمون فعله. فدخل إليه يوم مقدمه فأنشده أبياتا قالها في هذا المعنى، و هي:

/

نفسي فداؤك و الأعناق خاضعة *** للنّائبات أبيّا غير مهتضم

إليك أقبلت من أرض أقمت بها *** حولين بعدك في شوق و في أ لم

أقفو مساعيك اللاّتي خصصت بها *** حذو الشّراك على مثل من الأدم

فكان فضلي فيها أنّني تبع *** لما سننت من الإنعام و النّعم

و لو وكلت إلى نفسي غنيت بها *** لكن بدأت فلم أعجز و لم ألم

فضحك المأمون و قال: و اللّه ما نفست عليك مكرمة نلتها و لا أحدوثة حسن عنك(1) ذكرها، و لكن هذا شيء إذا عوّدته نفسك افتقرت و لم تقدر على لم شعثك و إصلاح حالك. و زال ما كان في نفسه.

أتاه معلى الطائي و مدحه فأجازه

أخبرني وكيع قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عبد اللّه بن فرقد قال أخبرني محمد بن الفضل بن محمد بن منصور قال:

/لمّا افتتح عبد اللّه بن طاهر مصر و نحن معه، سوّغه المأمون خراجها. فصعد المنبر فلم يزل حتّى أجاز بها كلّها ثلاثة آلاف ألف دينار أو نحوها. فأتاه معلى الطائيّ و قد أعلموه ما قد صنع عبد اللّه بن طاهر بالنّاس في الجوائز، و كان عليه واحدا، فوقف بين يديه تحت المنبر فقال: أصلح اللّه الأمير! أنا معلّى الطائيّ، و قد بلغ منّي ما كان منك [إليّ](2) من جفاء و غلظ. فلا يغلظنّ عليّ قلبك، و لا يستخفّنّك الذي بلغك، أنا الذي أقول:

يا أعظم النّاس عفوا عند مقدرة *** و أظلم الناس عند الجود للمال

لو أصبح النّيل يجري ماؤه ذهبا *** لما أشرت إلى خزن بمثقال

تغلي(3) بما فيه رقّ الحمد تملكه *** و ليس شيء أعاض الحمد بالغالي

تفكّ باليسر كفّ العسر من زمن *** إذا استطال على قوم بإقلال

ص: 338


1- في بعض الأصول: «حسن عندك» تحريف.
2- زيادة في ف.
3- أغلى بالشيء و أغلاه مثل غالى بالشيء و غالاه: جعله غاليا.

لم تخل كفّك من جود لمختبط(1) *** [أ](2) و مرهف قاتل في رأس قتّال

و ما بثثت رعيل الخيل في بلد *** إلاّ عصفن بأرزاق و آجال

إن كنت منك على بال مننت به *** فإن شكرك من قلبي على بال

ما زلت منقضبا(3) لو لا مجاهرة *** من ألسن خضن في صدري بأقوال

قال فضحك عبد اللّه و سرّ بما كان منه، و قال: يا أبا السّمراء أقرضني عشرة آلاف دينار، فما أمسيت أملكها؛ فأقرضه فدفعها إليه.

أحسن إلى موسى بن خاقان ثم جفاه، فمدح موسى المأمون و عرض به
اشارة

أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال:

كان موسى بن خاقان مع عبد اللّه بن طاهر بمصر، و كان نديمه و جليسه، و كان له مؤثرا مقدّما؛ فأصاب منه معروفا كثيرا و أجازه بجوائز سنيّة هناك و قبل ذلك. ثم إنّه وجد عليه في بعض الأمر، فجفاه و ظهر له منه بعض ما لم يحبّه، فرجع حينئذ إلى بغداد و قال:

صوت

إن كان عبد اللّه خلاّنا *** لا مبدئا عرفا و إحسانا

فحسبنا اللّه رضينا به *** ثم بعبد اللّه مولانا

يعني بعبد اللّه الثاني المأمون، و غنّت فيه جاريته ضعف لحنا من الثقيل الأوّل، و سمعه/المأمون فاستحسنه و وصله و إيّاها. فبلغ ذلك عبد اللّه بن طاهر، فغاظه ذلك و قال: أجل! صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع.

و كانت ضعف إحدى المحسنات. و من أوائل صنعتها و صدور أغانيها و ما برّزت فيه و قدّمت فاختيرت، صنعتها في شعر جميل:

أمنك سرى يا بثن طيف تأوّبا *** هدوءا فهاج القلب شوقا و أنصبا

عجبت له أن زار في النوم مضجعي *** و لو زارني مستيقظا كان أعجبا

الشعر لجميل، و الغناء لضعف ثقيل أوّل بالبنصر.

قصته مع محمد بن يزيد الأموي

أخبرني عمّي قال حدّثني أبو جعفر بن الدّهقانة النديم قال حدّثني العباس بن الفضل الخراسانيّ، و كان من وجوه قوّاد طاهر و ابنه عبد اللّه، و كان أديبا عاقلا فاضلا، قال:

ص: 339


1- اختبطه و تخبطه: سأله المعروف بلا وسيلة من آصرة قربى أو مودة أو معرفة.
2- زيادة في ف.
3- في أكثر الأصول: «مقتضبا». و في ف: «منقبضا». و في أساس البلاغة: «و انقضب من أصحابه: انقطع». يقول: ما زلت منقطعا عنك أو عن الناس، و كنت أوثر أن التزم ذلك لو لا مجاهرة الألسنة و خوضها بالحديث فيما يكنه صدري من حب و ولاء أو عداوة و بغضاء؛ فذلك الذي ألجأني أن أخرج عما أخذت به نفسي، و حفزني إلى الإقبال عليك.

/لمّا قال عبد اللّه بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه و أهله و يفخر بقتلهم المخلوع، عارضه محمد بن يزيد الأموي الحصني، و كان رجلا من ولد مسلمة بن عبد الملك، فأفرط في السّبّ و تجاوز الحدّ في قبح الردّ، و توسّط بين القوم و بين بني هاشم فأربى في التوسّط و التعصّب. فكان مما(1) قال فيه:

يا ابن بيت النّار موقدها *** ما لحاذيه سراويل(2)

من حسين من أبوك و من *** مصعب! غالتكم غول

نسب في الفخر مؤتشب(3) *** و أبوّات أراذيل

قاتل المخلوع مقتول *** و دم المقتول مطلول

و هي قصيدة طويلة. فلمّا ولّي عبد اللّه مصر و ردّ إليه تدبير أمر الشام، علم الحصنيّ أنّه لا يفلت منه إن هرب، و لا ينجو من يده حيث حلّ؛ فثبت في موضعه، و أحرز حرمه، و ترك أمواله و دوابّه و كلّ ما كان يملكه في موضعه، و فتح باب حصنه و جلس عليه، و نحن نتوقّع من عبد اللّه بن طاهر أن يوقع به. فلما شارفنا بلده و كنّا على أنّ نصبّحه(4)، دعاني عبد اللّه في الليل فقال لي: بت عندي الليلة، و ليكن فرسك معدّا عندك لا يردّ، ففعلت. فلمّا كان في السّحر أمر غلمانه و أصحابه ألاّ يرحلوا حتى تطلع الشمس، و ركب في السّحر و أنا و خمسة من خواصّ غلمانه [معه](5)، فسار حتّى صبّح الحصنيّ، فرأى بابه مفتوحا و رآه جالسا مسترسلا، فقصده و سلّم عليه و نزل عنده و قال له: ما أجلسك هاهنا و حملك على أن فتحت بابك و لم تتحصّن من هذا الجيش المقبل و لم تتنحّ عن عبد اللّه بن طاهر مع ما في نفسه عليك و ما بلغه عنك؟ فقال: إنّ/ما قلت لم يذهب عليّ، و لكنّي تأمّلت أمري و علمت أنّي أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشّباب و غرّة الحداثة، و أنّي إن هربت منه لم أفته، فباعدت البنات و الحرم، و استسلمت بنفسي و كلّ ما أملك؛ فإنّا أهل بيت قد أسرع القتل فينا، و لي بمن مضى أسوة؛ فإنّي أثق بأنّ الرجل إذا قتلني و أخذ مالي شفى غيظه و لم يتجاوز ذلك إلى الحرم و لا له فيهنّ أرب، و لا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته.

قال: فو اللّه ما اتّقاه عبد اللّه إلاّ بدموعه تجري على لحيته. ثم قال له: أ تعرفني؟ قال: لا و اللّه! قال: أنا عبد اللّه بن طاهر، و قد أمّن اللّه تعالى روعتك، و حقن دمك، و صان حرمك، و حرس نعمتك، و عفا عن ذنبك. و ما تعجّلت إليك وحدي إلاّ/لتأمن من قبل هجوم الجيش، و لئلاّ يخالط عفوي عنك روعة تلحقك. فبكى الحصنيّ و قام فقبّل رأسه؛ و ضمّه [إليه](6) عبد اللّه و أدناه، ثم قال له: إمّا [لا](7) فلا بدّ من عتاب. يا أخي جعلني اللّه فداك! قلت شعرا

ص: 340


1- كذا في ف. و في سائر الأصول: «فيما قال فيه».
2- الحاذان من الدابة: ما وقع عليه الذنب من أدبار الفخذين. يريد هنا الفخذين.
3- نسب مؤتشب (بفتح الشين): غير صريح.
4- صبحه (بتشديد الباء): أتاه صباحا.
5- زيادة في ف.
6- زيادة عن ط، ف.
7- التكملة عن ط. يزيد: إن كنت لا أؤاخذك بما وقع منك، فلا بدّ من عتاب. فحذفت «كان» و اسمها و خبرها، و بقيت «لا» النافية، و عوض عن المحذوف «ما». و هذا أسلوب في العربية معروف. قال الشاعر: أمرعت الأرض لو أن مالا لو أن نوقا لك أو جمالا أو ثلة من غنم إمالا التقدير: إن كنت لا تجدين غيرها (يراجع شرح الأشموني و غيره من كتب النحو في باب كان و أخواتها).

في قومي أفخر بهم لم أطعن فيه على حسبك و لا ادّعيت فضلا عليك. و فخرت بقتل رجل هو و إن كان من قومك، فهم القوم الذين ثأرك عندهم؛ فكان يسعك السكوت، أو إن لم تسكت لا تغرق و لا تسرف. فقال: أيها الأمير، قد عفوت، فاجعله العفو الذي لا يخلطه تثريب، و لا يكدّر صفوه تأنيب. قال: قد فعلت، فقم بنا ندخل إلى منزلك حتّى نوجب عليك حقّا بالضّيافة. فقام مسرورا فأدخلنا، فأتى بطعام كان قد أعدّه، فأكلنا و جلسنا/نشرب في مستشرف له. و أقبل الجيش، فأمرني عبد اللّه أن أتلقّاهم فأرحّلهم، و لا ينزل أحد منهم إلاّ في المنزل، و هو على ثلاثة فراسخ؛ [فنزلت فرحلتهم. و أقام عنده إلى العصر](1). ثم دعا بدواة فكتب له بتسويغه خراجه ثلاث سنين، و قال له: إن نشطت لنا فالحق بنا، و إلاّ فأقم بمكانك. فقال: فأنا أتجهّز و ألحق بالأمير. ففعل فلحق بنا بمصر.

و لم يزل مع عبد اللّه لا يفارقه حتى رحل إلى العراق، فودّعه و أقام ببلده.

بعض الأشعار التي غنى فيها و ذكر بعض أخبار استدعاها بيانها
اشارة

فأمّا الأصوات التي غنّى فيها عبد اللّه بن طاهر فكثيرة(2). و كان عبيد اللّه بن عبد اللّه إذا ذكر شيئا منها قال:

الغناء للدّار الكبيرة، و إذا ذكر شيئا من صنعته قال: الغناء للدار الصغيرة فمنها و من مختارها و صدورها و مقدّمها لحنه في شعر أخت [عمرو بن](3) عاصية - و قيل: إنه لأخت مسعود بن شدّاد - فإنه صوت نادر جيّد. قال أبو العبيس بن حمدون و قد ذكره ففضّله: جاء(4) به عبد اللّه بن طاهر صحيح العمل مزدوج النّغم بين لين و شدّة على رسم الحذّاق من القدماء، و هو:

صوت

هلاّ سقيتم بني سهم أسيركم *** نفسي فداؤك من ذي غلّة صادى

الطاعن الطّعنة النّجلاء يتبعها *** مضرّج بعد ما جادت بإزباد

الشعر لأخت عمرو بن عاصية السّلميّ [ترثيه](1). و كان بنو سهم، و هم بطن من هذيل، أسروه في حرب كانت بينهم و لم يعرفوه، فلمّا عرفوه قتلوه. و كان قد عطش فاستسقاهم، فمنعوه و قتلوه على عطشه. و قيل: إنّ هذا الشعر للفارعة أخت مسعود بن شدّاد. و لحن عبد اللّه بن طاهر خفيف ثقيل أوّل بالوسطى ابتداؤه استهلال.

/أخبرني أحمد بن عبد العزيز(5) الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عمر بن شبة قال:

قتلت بنو سهم، و هم بطن من هذيل، عمرو بن عاصية السّلميّ، و كان رجلان منهم أخذاه أخذا، فاستسقاهما ماء فمنعاه ذلك، ثم قتلاه. فقالت أخته ترثيه، و تذكر ما صنعوا به:

ص: 341


1- التكملة عن ف.
2- في بعض الأصول: «فكبيرة» بالباء الموحدة، تصحيف.
3- التكملة من ف و مما سيأتي بعد أسطر.
4- كذا في ف. و في ط: «و قال جاء به». و في سائر الأصول: «قال ما جاء...».
5- في أكثر الأصول: «محمد بن عبد العزيز». و التصويب من ف.

شبّت هذيل(1) و بهز بينها إرة(2) *** فلا تبوخ و لا يرتدّ صاليها

[و يروى: «شبت هذيل و سهم»، و هو الصحيح، و لكن كذا قال(3) عمر بن شبّة].

إنّ ابن عاصية المقتول بينكما *** خلّى عليّ فجاجا كان يحميها

و قالت أيضا ترثيه:

/

يا لهف نفسي لهفا دائما أبدا(4)*** على ابن عاصية المقتول بالوادي

هلاّ سقيتم بني سهم أسيركم *** نفسي فداؤك من ذي غلّة صادي

قال: فغزا عرعرة بن عاصية هذيلا يطلبهم بدم أخيه، فقتل منهم نفرا و سبى امرأة فجرّدها، ثم ساقها معه عارية إلى بلاد بني سليم؛ فقالت عند ذلك(5):

/

ألامت(6) سليم في السّياق و أفحشت *** و أفرط في السّوق العنيف إسارها

لعلّ فتاة منهم أن يسوقها *** فوارس منا و هي باد شوارها(7)

فإن سبقت عليا سليم بذحلها *** هذيلا فقد باءت فكيف اعتذارها

ألا ليت شعري هل أرى الخيل شزّبا(8)*** تثير عجاجا مستطيرا غبارها

فترقأ(9) عيون بعد طول بكائها *** و يغسل ما قد كان بالأمس عارها

هذه رواية عمر بن شبّة. فأمّا أبو عبيدة فإنه خالفه في ذلك، و ذكر في مقتله، فيما أخبرني به محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال:

خرج عمرو بن عاصية السّلميّ ثم البهزيّ في جماعة من قومه، فأغاروا على هذيل بن مدركة، فصادفوا حيّا

ص: 342


1- كذا في ط و «شرح أشعار الهذليين» للسكري (ص 243 طبعة أوربا) و «ديوان الهذليين» (نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 6 أدب ش). و قد وضع هذا البيت فيهما في شعر جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه. قال السكري: «حدثنا الحلواني قال حدثنا أبو سعيد قال أبو عبد اللّه: ثم خرج عمرو ذو الكلب غازيا. فبينا هو في بعض غاراته نائم إذ وثب عليه نمران فأكلاه، فوجدت فهم سلاحه فادّعت قتله. فقالت أخته جنوب ترثيه». و أورد القصيدة البائية التي مطلعها: كل امرئ بطوال العيش مكذوب و كل من غالب الأيام مغلوب ثم الأبيات التي ورد فيها هذا البيت و الرواية هناك: «شبت هذيل و فهم».
2- كذا في ط و «شرح أشعار الهذليين». و أصل الإرة حفرة يوقد فيها. و المراد بها هنا الحرب. و في سائر الأصول: «ترة» بدل «إرة» و كتبت هذه الكلمة في ط بين السطور. و الترة: الثأر.
3- زيادة في ف.
4- في ف: «دائما جزعا».
5- في ف: «فقالت امرأة من هذيل».
6- ألامت: فعلت ما تستحق عليه اللوم. و أفحشت. أتت الفحشاء و هي الأمر القبيح. و السياق: مصدر ساقه يسوقه سوقا و سياقا. و الإسار: مصدر أسره يأسره أسرا و إسارا. و أصل الإسار: القيد، و يكون حبل الكتاف؛ و منه سمي الأسير إذ كانوا يشدونه بالقد، فسمي كل أخيذ أسيرا و إن لم يشد به.
7- الشوار: الحسن و الهيئة و الزينة و اللباس.
8- شرب: ضوامر، الواحد شازب.
9- ترقأ: تجف، سهلت همزته.

من هذيل يقال لهم بنو سهم بن معاوية. و كانت امرأة من هذيل تحت رجل من بني بهز، فقالت لابن لها معه(1): أي بني انطلق إلى أخوالك فأنذرهم بأنّ ابن عاصية السّلمي قد أمسى يريدهم، و ذلك حين عزم ابن عاصية على غزوهم و أراد المسير إليهم. فانطلق الغلام من تحت ليلته حتى أتى أخواله فأنذرهم، فقال: ابن عاصية السّلميّ يريدكم، فخذوا حذركم؛ فبدر القوم و استعدّوا. و أصبح عمرو بن عاصية قريبا من الحيّ، فنزل فربأ لأصحابه على جبل [مشرف على القوم](2)، فإذا هم حذرون. فقال لأصحابه: أرى القوم حذرين، إنّ لهم لشأنا، و لقد أنذروا علينا.

فكمن في الجبل يطلب غفلتهم، فأصابه و أصحابه عطش شديد، فقال/ابن عاصية لأصحابه: هل فيكم من يرتوي لأصحابه؟ فقال أصحابه: نخاف القوم، و أبى أحد منهم أن يجيبه إلى ذلك. قال: فخرج على فرس له و معه قربته.

و قد وضعت هذيل على الماء رجلا منهم رصدا، و علموا أنّهم لا بدّ لهم من أن يردوا الماء. فمرّ بهم عمرو بن عاصية و قد كمن له شيخ و فتيان من هذيل، فلما نظروا إليه همّ الفتيان أن يثاوراه(3). فقال الشيخ: مهلا! فإنه لم يركما، فكفّا. فانتهى ابن عاصية إلى البئر، فنظر يمينا و شمالا فلم ير أحدا و الآخرون يرمقونه من حيث لا يراهم.

فوثب نحو قربته فأخذها ثم دخل البئر فطفق يملأ القربة و يشرب. و أقبل الفتيان و الشيخ معهما حتى أشرفوا عليه و هو في البئر، [فرفع رأسه فأبصر القوم]؛ فقالوا: [قد](4) أخزاك اللّه يا ابن عاصية و أمكن منك! قال: و رمى(5)الشيخ بسهم فأصاب أخمصه فأنفذه فصرعه، و شغل الفتيان بنزع السهم من قدم الشيخ، و وثب ابن عاصية من البئر شدّا نحو أصحابه، و أدركه الفتيان قبل وصوله فأسراه. فقال لهما حين أخذاه: أروياني من الماء ثم اصنعا ما بدا لكما. فلم يسقياه و تعاوراه بأسيافهما حتى قتلاه. فقالت أخت عمرو بن عاصية ترثي أخاها:

يا لهف نفسي يوما ضلّة جزعا *** على ابن عاصية المقتول بالوادي

/إذ جاء ينفض عن أصحابه طفلا *** مشي السّبنتي أمام الأيكة العادي(6)

هلاّ سقيتم بني سهم أسيركم *** نفسي فداؤك من مستورد صادي(7)

/قال أبو عبيدة: و آب غزيّ(8) بني سليم بعد مقتل ابن عاصية. قال: فبلغ أخاه عرعرة بن عاصية قتل هذيل أخاه و كيف صنع به، فجمع لهم جمعا من قومه فيهم فوارس من بني سليم منهم عبيدة بن حكيم الشّريديّ و عمر بن الحارث الشّريديّ و أبو مالك البهزيّ و قيس بن عمرو أحد بني مطرود من بني سليم و فوارس من بني رعل. قال:

فسرى إليهم عرعرة، فالتقوا بموضع يقال له الجرف فاقتتلوا قتالا(9) شديدا، فظفرت بهم بنو سليم فأوجعوا فيهم

ص: 343


1- كذا في الأصول. و لعله «منه»، و هي ساقطة في ف.
2- زيادة عن ف.
3- ثاوره مثاورة و ثوارا: واثبه، مثل ساوره.
4- زيادة في ف.
5- في ط: «و يرمي الشيخ فيصيب اخمصه فأنفذه».
6- ينفض هنا: يكشف الطريق و يتجسس. و الاسم النفيضة مثل الطليعة. و قد ضمن «ينفض» معنى يذب الأذى و يدفعه، فعدّاه ب «عن». و الطفل طفلان، أحدهما طفل الغداة و هو من لدن ذرور الشمس إلى استكمال ضوئها في الأرض. و الأخر طفل العشي، و هو آخره عند غروب الشمس و اصفرارها. و السبنتي: النمر أو الأسد.
7- في ف: «من ذي غلة».
8- الغزي: اسم جمع لغاز.
9- كذا في ط، ف. و في سائر الأصول: «قتلا».

و قتلوا منهم قتلى عظيمة، و أسروا أسرى، و أصابوا امرأة من هذيل فعرّوها من ثيابها و استاقوها مجرّدة فأفحشوا في ذلك. و قال عرعرة بن عاصية في ذلك يذكر من قتل:

ألا أبلغ هذيلا حيث حلّت *** مغلغلة تخبّ مع الشّفيق

مقامكم غداة الجرف لمّا *** تواقفت الفوارس بالمضيق

غداة رأيتم فرسان بهز *** و رعل ألبدت(1) فوق الطريق

تراميتم قليلا ثم ولّت *** فوارسكم توقّل كلّ نيق(2)

بضرب تسقط الهامات منه *** و طعن مثل إشعال الحريق

و قال لي: إنّ هذا الشعر الذي فيه صنعة عبد اللّه بن طاهر لمسعود بن شدّاد يرثي أخاه، و زعم أنّ جرما كانت قتلته و هو عطشان، فقال:

يا عين جودي لمسعود بن شدّاد *** بكل ذي عبرات شجوه بادي

هلاّ سقيتم بنى جرم أسيركم *** نفسي فداؤك من ذي غلّة صادى

/فأنشدنيها بعض أصحابنا قال أنشدني أبو بكر محمد بن [الحسن بن](3) دريد قال أنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة لفارعة المرّية أخت مسعود بن شدّاد(4) ترثيه، فذكر من الأبيات البيت الأوّل، و بعده:

يا من رأى بارقا(5) قد بتّ أرمقه *** جودا على الحرّة السوداء بالوادي

أسقي به قبر من أعني و حبّ به *** قبرا إليّ و لو لم يفده فادي

شهّاد أندية رفّاع أبنية *** شدّاد ألوية(6) فتّاح أسداد

نحّار راغية(7) قتّال طاغية *** حلاّل رابية فكّاك أقياد

قوّال محكمة نقّاض مبرمة *** فرّاج مبهمة حبّاس أوراد(8)

حلاّل ممرعة حمّال مضلعة(9) *** قرّاع مفظعة طلاّع أنجاد

ص: 344


1- ألبد بالمكان: أقام به و لزمه.
2- توقل: تتصعد. و النيق: أعلى الجبل. يريد: تتصعد كل عال فرارا من القتال.
3- زيادة في ف.
4- في ف: «بن شدّاد بن الهاد».
5- أي سحابا ذا برق. وجودا: كثير المطر.
6- في ف: رفاع ألوية شدّاد أهوية
7- الراغية: الناقة.
8- أوراد: جمع ورد (بالكسر) و هو الجماعة الواردون للماء، و القطيع من الطير و الإبل، و الجيش. على التشبيه بقطيع الطير و الإبل؛ قال جرير: سأجمد يربوعا على أن وردها إذا ذيد لم يحبس و إن ذاد حكما أي هو حباس للجيوش، أو حباس للواردين حتى يستقي هو و دوابه. و هذا مما يدل على القوّة و السلطان.
9- في الأصول: «معضلة» و كتب في هامش ط: «مضلعة»، و على جانبيها: «صح». و المضلعة: المثقلة للأضلاع.

جمّاع كلّ خصال الخير قد علموا *** زين القرين و خطم(1) الظالم العادي

أبا زرارة لا تبعد فكلّ فتى *** يوما رهين صفيحات(2) و أعواد

و الغناء في هذا الشعر لعبد اللّه بن طاهر خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. قال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر: لمّا صنع أبي هذا الصوت لم يحبّ أن يشيع عنه شيء من هذا و لا ينسب إليه؛ لأنّه كان يترفّع عن الغناء، و ما جسّ بيده وترا قطّ و لا/تعاطاه، و لكنه كان يعلم من هذا/الشأن بطول الدّربة [و حسن الثقافة](3) ما لا يعرفه كبير أحد. و بلغ من علم ذلك إلى أن صنع أصواتا كثيرة، فألقاها على جواريه، فأخذتها عنه و غنّين بها، و سمعها النّاس منهنّ و ممن أخذ عنهنّ. فلما أن صنع هذا الصوت:

هلاّ سقيتم بني جرم أسيركم *** نفسي فداؤك من ذي غلّة صادى

نسبه إلى مالك بن أبي السّمح. و كان لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها داحة، فكانت ترغب إلى عبد اللّه بن طاهر لمّا ندبه المأمون إلى مصر [في أن يأخذها معه](3)، و كانت تغنيه، و أخذت هذا الصوت عن جواريه، و أخذه المغنّون عنها و رووه لمالك مدّة. ثم قدم عبد اللّه العراق فحضر مجلس المأمون، و غنّي الصوت بحضرته و نسب إلى مالك، فضحك عبد اللّه ضحكا كثيرا. فسئل عن القصّة فصدق فيها و اعترف بصنعة الصوت. فكشف المأمون عن ذلك. فلم يزل كلّ من سئل عنه يخبر عمن أخذه [عنه]، فتنتهي القصّة إلى داحة ثم تقف و لا تعدوها.

فأحضرت داحة و سئلت فأخبرت بقصته؛ فعلم أنّه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق و طبقته أنّه لمالك.

و يقال: إنّ إسحاق لم يعجب من شيء عجبه من عبد اللّه و حذقه بمذاهب الأوائل و حكاياتهم.

قال: و من غنائه أيضا:

صوت

راح صحبي و عاود القلب داء *** من حبيب طلابه لي عناء

حسن الرأي و المواعيد لا يل *** فى لشيء مما يقول وفاء

من تعزّى عمن يحبّ فإنّي *** ليس لي ما حييت عنه عزاء

الغناء لابن طنبورة خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و لحن عبد اللّه بن طاهر ثاني ثقيل بالبنصر.

/و منها:

فمن يفرح ببينهم *** فغيري إذ غدوا فرحا

شعر لعمر بن أبي ربيعة و سببه
صوت

يا خليليّ قد مللت ثوائي *** بالمصلّى و قد شنئت البقيعا

ص: 345


1- كذا في ح، و في ف: «و نكل الظالم». و في سائر الأصول: «و خطل الظالم». يقال: خطمه يخطمه خطما، إذا ضرب مخطمه (أنفه)، و هو وصف بالمصدر. تريد أنه يذل الظالم العادي و يكبحه عن طغيانه.
2- الصفيحة هنا: الحجر العريض.
3- زيادة عن ف.

بلّغني ديار هند و سلمى(1) *** و ارجعا بي فقد هويت الرجوعا

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء للغريض خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها [عن إسحاق](2)، و ذكر الهشاميّ أنّه لابن سريح. و ذكر حبش أنّ فيه رملا بالبنصر لإبراهيم. و فيه لحن لمعبد ذكره حمّاد بن إسحاق عن أبيه و لم يجنّسه.

أخبرني بخبر عمر بن أبي ربيعة في هذا الشعر و قوله إيّاه الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا سليمان بن عيّاش السّعديّ قال [أخبرني السائب بن ذكوان راوية كثيّر قال](2): قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن عثمان بن حفص قال: و أخبرني عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن عثمان بن حفص و الزّبيريّ و المسيّبيّ، و أخبرني به أحمد بن عبد العزيز [الجوهريّ](2) قال حدّثنا عمر بن شبّة موقوفا عليه. و جمعت رواياتهم، و أكثر اللّفظ للزّبير [بن بكّار](2) و خبره أتمّ:

أن عمر بن أبي/ربيعة قدم المدينة؛ فزعموا أنّه قدمها من أجل امرأة من أهلها، فأقام بها شهرا؛ فذلك قوله:

يا خليليّ قد مللت ثوائي *** بالمصلّى و قد شنئت البقيعا

خرج هو و الأحوص إلى مكة فمرّا بنصيب و كثير و تحاوروا

قال: ثمّ خرج إلى مكة، فخرج معه الأحوص و اعتمرا.

/قال الزّبير في خبره عن سائب راوية كثيّر إنّه قال: لمّا مرّا بالرّوحاء(3) استتلياني(4) فخرجت أتلوهما، حتى لحقتهما بالعرج(5) عند رواحهما. فخرجنا جميعا حتى وردنا ودّان(6)، فحبسهما النّصيب و ذبح لهما و أكرمهما، و خرجنا و خرج معنا النّصيب. فلمّا جئنا كليّة(7) عدلنا جميعا إلى منزل كثيّر، فقيل لنا: هبط قديدا(8)، فذكر لنا أنّه في خيمة من خيامها. فقال لي ابن أبي ربيعة: اذهب فادعه لي. فقال النّصيب: هو أحمق و أشدّ كبرا من أن يأتيك.

فقال لي عمر: اذهب كما أقول [لك](9) فادعه لي. فجئته، فهشّ لي و قال: «اذكر غائبا تره»، لقد جئت و أنا أذكرك. فأبلغته رسالة عمر؛ فحدّد إليّ نظرة و قال: أ ما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذه الرسالة! قلت: بلى و اللّه! و لكنّي سترت عليك فأبى اللّه إلاّ أن يهتك سترك. فقال لي: إنّك و اللّه يا ابن ذكوان ما أنت من شكليّ؛ فقل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشيّا فأنا قرشيّ. فقلت له: لا تترك هذا التّلصّق و أنت تقرف(10) عنهم

ص: 346


1- في ف: «و سعدى».
2- زيادة عن ف.
3- الروحاء: قرية كانت لمزينة بينها و بين المدينة واحد و أربعون ميلا. (عن «معجم ما استعجم»).
4- استتلاه: طلب إليه أن يتلوه.
5- العرج: قرية كانت جامعة في واد من نواحي الطائف، و إليها ينسب العرجي الشاعر.
6- ودان هنا: قرية جامعة من نواحي الفرع بين مكة و المدينة.
7- كلية: قرية بين مكة و المدينة.
8- قديد: موضع قرب مكة.
9- زيادة في ف.
10- كذا في ط، ف. و في سائر الأصول: «تفرق عنهم كما تفرق» تصحيف. يقول له: أنت لست بأصيل في قريش و لا بمتمكن فيهم كالصمغة من الشجرة؛ فإن الصمغة إذا قرفت و قلعت لم يبق لها أثر.

كما تقرف الصّمغة! فقال: و اللّه لأنا أثبت فيهم منك في سدوس. ثم قال: و قل له: إن كنت شاعرا فأنا أشعر منك.

فقلت له: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: و إلى من هو و من أولى بالحكم منّي! [و بعد هذا يا بن ذكوان فاحمد اللّه على لومك(1)؛ فقد منعك منّي](1) اليوم؟ فرجعت إلى عمر، فقال: ما وراءك؟ فقلت: ما قال لك نصيب. فقال:

و إن. فأخبرته فضحك و ضحك صاحباه ظهرا لبطن، ثم نهضوا معي إليه. /فدخلنا عليه في خيمة، فوجدناه جالسا على جلد كبش، فو اللّه ما أوسع للقرشيّ. فلمّا تحدثوا مليّا فأفاضوا في ذكر الشّعر(2)، أقبل على عمر فقال له: أنت تنعت المرأة فتنسب(3) بها ثم تدعها و تنسب بنفسك. أخبرني يا هذا عن قولك:

قالت تصدّى له ليعرفنا *** ثم اغمزيه يا أخت في خفر

قالت لها قد غمزته فأبى *** ثم اسبطرّت(4) تشتدّ في أثري

و قولها و الدّموع تسبقها *** لنفسدنّ الطّواف في عمر

أتراك لو وصفت بهذا هرّة أهلك أ لم تكن قد قبّحت و أسأت و قلت الهجر. إنما توصف الحرّة بالحياء و الإباء و الالتواء و البخل و الامتناع، كما قال هذا - و أشار إلى الأحوص -:

أدور و لو لا أن أرى أمّ جعفر *** بأبياتكم ما درت حيث أدور

و ما كنت زوّارا و لكنّ ذا الهوى *** إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور

لقد منعت معروفها أمّ جعفر *** و إنّي إلى معروفها لفقير

قال: فدخلت الأحوص أبّهة و عرفت الخيلاء فيه. فلما استبان كثيّر ذلك فيه قال: أبطل آخرك أوّلك. أخبرني عن قولك:

فإن تصلي أصلك و إن تبيني *** بصرمك بعد وصلك لا أبالي

و لا ألفى كمن إن سيم صرما *** تعرّض كي يردّ إلى الوصال

/أمّا و اللّه لو كنت فحلا لباليت(5) و لو كسرت أنفك. أ لا قلت كما قال هذا الأسود - و أشار إلى نصيب -:

/

بزينب ألمم قبل أن يرحل الرّكب *** و قل إن تملّينا فما ملّك القلب

قال: فانكسر الأحوص، و دخلت النّصيب أبهة. فلمّا نظر أنّ الكبرياء قد دخلته، قال له: يا ابن السّوداء، فأخبرني عن قولك:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت *** فوا كبدي من ذا يهيم بها بعدي

أهمّك من ينيكها بعدك! فقال نصيب: استوت القوق(6)، قال: و هي لعبة مثل المنقلة. و من هذا الموضع

ص: 347


1- أي فاحمد اللّه على لومي إياك؛ فقد حصنك اللوم من الضرب.
2- كذا في ط، ف. و في أكثر الأصول: «في ذكر الشعراء».
3- كذا في ط. و في سائر الأصول: «فتشبب بها».
4- كذا في ف و الجزء الأوّل من هذه الطبعة. و اسبطرّت: أسرعت. و في سائر الأصول هنا: «استطرت».
5- في ب، س: «لما باليت» تحريف.
6- في ف: «الفيق». و لم نهتد إلى وجه الصواب فيه.

ينفرد الزّبير بروايته دون الباقين. قال سائب: فلمّا أمسك كثيّر أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبوب(1) [إليّ](2)! أخبرني عن تخيّرك لنفسك لمن تحبّ حيث تقول:

ألا ليتنا يا عزّ كنّا لذي غنى *** بعيرين نرعى في الخلاء و نعزب

كلانا به عرّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي و أجرب

إذا ما وردنا منهلا صاح أهله *** علينا فما ننفكّ نرمى و نضرب

وددت و بيت اللّه أنّك بكرة *** هجان و أنّي مصعب(3) ثم نهرب

نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا *** فلا هو يرعانا و لا نحن نطلب

و قال: تمنّيت لها و لنفسك الرّقّ و الجرب و الرّمي و الطّرد و المسخ، فأيّ مكروه لم تمنّ لها و لنفسك! لقد أصابها منك قول القائل: «معاداة عاقل خير من مودّة أحمق». قال؛ فجعل يختلج(4) جسده كله. ثم أقبل عليه الأحوص فقال: إليّ يا ابن استها(5) أخبرك بخبرك و تعرّضك للشرّ و عجزك عنه و إهدافك(6) لمن رماك. أخبرني عن قولك:

/

و قلن - و قد يكذبن - فيك تعيّف *** و شؤم إذا ما لم تطع صاح ناعقه

و أعييتنا لا راضيا بكرامة *** و لا تاركا شكوى الذي أنت صادقه

فأدركت صفو الودّ منّا فلمتنا *** و ليس لنا ذنب فنحن مواذقه(7)

و ألفيتنا سلما فصدّعت بيننا(8)*** كما صدّعت بين الأديم خوالقه(9)

و اللّه لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على نفسك. قال: فخفق كما يخفق الطائر. ثم أقبل عليه النّصيب فقال: أقبل عليّ يا زبّ الذّباب! فقد تمنّيت معرفة غائب عندي علمه فيك حيث تقول:

وددت - و ما تغني الودادة - أنّني *** بما في ضمير(10) الحاجبيّة عالم

فإن كان خيرا سرّني و علمته *** و إن كان شرّا لم تلمني اللّوائم

انظر في مرآتك و اطّلع في جيبك و اعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها [لك](11). فاضطرب اضطراب العصفور، و قام القوم يضحكون. و جلست عنده؛ فلمّا هدأ شأوه(12) قال لي: أرضيتك فيهم؟ فقلت له: أمّا في

ص: 348


1- المذبوب: المجنون.
2- زيادة في ف.
3- بكرة هجان: بيضاء. و المصعب: الفحل.
4- يختلج: يضطرب.
5- يقال لابن الأمة عند تحقيره: «يا بن استها» يعنون أنها ولدته من استها.
6- أهدف لكذا: تعرض له.
7- مواذق: جمع ماذقة. يقال: مذق الود إذا لم يخلصه.
8- البين هنا: الوصل.
9- خوالق الأديم: اللائي يقدرنه قبل أن يقطعنه.
10- في ف: «فؤاد الحاجبية».
11- زيادة في ف.
12- كذا في الأصول. و الشأو: الشوط و الطلق. و لعله يريد ما عراه من الاضطراب في الشأو الذي جرى بينه و بينهم.

نفسك فنعم! فقد نحس يومك معهم، و قد بقيت أنا عليك. فما عذرك - و لا عذر لك - في قولك:

/

سقى دمنتين لم نجد لهما أهلا *** بحقل لكم يا عزّ قد رابنا حقلا

نجاء الثّريّا كلّ آخر ليلة *** يجودهما جودا و يتبعه وبلا

[ثم قلت(1) في آخرها]

و ما حسبت ضمريّة حدريّة *** سوى التّيس ذي القرنين أنّ لها بعلا

/أ هكذا يقول الناس ويحك! ثم تظنّ أنّ ذلك قد خفي و لم يعلم به أحد، فتسبّ الرجال و تعيبهم! فقال: و ما أنت و هذا؟ و ما علمك بمعنى ما أردت؟ فقلت:

هذا أعجب من ذاك. أتذكر امرأة تنسب بها في شعرك و تستغزر لها الغيث في أوّل شعرك، و تحمل عليها التّيس في آخره! قال: فأطرق و ذلّ و سكن. فعدت إلى أصحابي فأعلمتهم ما كان من خبره بعدهم. فقالوا: ما أنت بأهون حجارته التي رمي بها اليوم منّا. قال فقلت لهم: إنّه لم يترني فأطلبه بذحل، و لكنّي نصحته لئلاّ يخلّ هذا الإخلال الشديد، و يركب هذه(2) العروض التي ركب في الطّعن على الأحرار و العيب لهم.

شدد والي مكة في الغناء، فخرج فتية إلى وادي محسر و بعثوا لابن سريج فغناهم
اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و إسماعيل بن يونس قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال حدّثني ابن جامع عن السّعيديّ عن سهل بن بركة و كان يحمل عود ابن سريج قال:

كان على مكّة نافع بن علقمة الكنانيّ، فشدّد في الغناء و المغنّين و النبيذ، و نادى في المخنّثين. فخرج فتية من قريش إلى بطن(3) محسّر و بعثوا برسول لهم فأتاهم برواية من الشراب الطائفيّ. فلمّا شربوا و طربوا قالوا: لو كان معنا ابن سريج تمّ سرورنا. فقلت: هو عليّ لكم. فقال لي بعضهم: دونك تلك البغلة فاركبها و امض إليه. فأتيته فأخبرته بمكان القوم و طلبهم إيّاه. فقال لي: ويحك! و كيف لي بذاك مع شدّة السلطان في الغناء و ندائه فيه؟ فقلت له: أ فتردّهم؟ قال: لا و اللّه! فكيف لي بالعود؟ فقلت له: أنا أخبؤه لك فشأنك. فركب و سترت العود/و أردفني.

فلمّا كنّا ببعض الطريق إذا أنا بنافع بن علقمة قد أقبل، فقال لي: يا بن بركة هذا الأمير! فقلت: لا بأس عليك، أرسل عنان البغلة و امض و لا تخف، ففعل. فلمّا حاذيناه عرفني و لم يعرف ابن سريج، فقال لي بابن بركة: من هذا أمامك؟ فقلت: و من ينبغي أن يكون! هذا ابن سريج. فتبسّم [ابن] علقمة ثم تمثّل:

فإن تنج منها يا أبان مسلّما *** فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب

ثم مضى و مضينا. فلمّا كنّا قريبا من القوم نزلنا إلى شجرة نستريح، فقلت له: غنّ مرتجلا؛ فرفع صوته فخيّل إليّ أنّ الشجرة تنطق معه، فغنّى:

ص: 349


1- زيادة في ف.
2- كذا في ط. و في أكثر الأصول: «هذا العروض الذي ركب». و العروض (بالفتح): الطريق في عرض الجبل.
3- بطن محسر: وادي المزدلفة بالقرب من مكة.
صوت

كيف الثّواء ببطن مكّة بعد ما *** همّ(1) الذين تحبّ بالإنجاد

أمّ كيف قلبك إذ ثويت مخمّرا(2) *** سقما خلافهم و كربك بادي

هل أنت إن ظعن(3) الأحبّة غادي(4) *** أم قبل ذلك مدلج بسواد

- الشعر للعرّجيّ. و ذكر إسحاق في مجرّدة أنّ الغناء فيه لابن عائشة ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى.

و حكى حماد ابنه عنه أن اللحن لابن سريج - قال سهل: فقلت: أحسنت و الذي/فلق الحبّة و برأ النسمة، و لو أنّ كنانة كلّها سمعتك لاستحسنتك فكيف بنافع بن علقمة! المغرور من غرّه نافع. ثم قلت: زدني و إن كان/القوم متعلّقة قلوبهم بك. فغنّى و تناول عودا من الشجرة فأوقع(5) به على الشجرة؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون(6) الضّأن على العيدان إذا أخذتها قضبان الدّفلى. قال: و الصوت الذي غنّى:

صوت

لا تجمعي هجرا علي و غربة *** فالهجر في تلف الغريب سريع

من ذا - فديتك - يستطيع لحبّه *** دفعا إذا اشتملت عليه ضلوع

فقلت: بنفسي أنت و اللّه من لا يملّ و لا يكدّ، و اللّه ما جهل من فهمك! اركب - فدتك نفسي - بنا. فقال:

أمهلني كما أمهلتك اقض بعض شأني. فقلت: و هل عما تريد مدفع! فقام فصلّى ركعتين، ثم ضرب بيده على الشجرة و قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله، ثم قال: يا حبيبتي إذا شهدت بذاك الشيء فاشهدي بهذا. ثم مضينا و القوم متشوّقون. فلما دنونا أحسّت الدوابّ بالبغلة فصهلت، و شحجت البغلة، و إذا الغريض يغنّيهم لحنه:

من خيل حيّ ما تزال مغيرة *** سمعت على شرف صهيل حصان

فبكى ابن سريج حتى ظننت أنّ نفسه قد خرجت، فقلت: ما يبكيك يا أبا يحيى؟ [جعلت فداك]!](7) لا يسوؤك اللّه و لا يريك سوءا(8)! قال: أبكاني هذا المخنّث بحسن غنائه و شجا صوته؛ و اللّه ما ينبغي لأحد أن يغنّي و هذا الصبيّ حيّ(9). ثم نزل فاستراح و ركب. فلمّا سار هنيهة اندفع الغريض فغنّاهم لحنه:

يا خليليّ قد مللت ثوائي *** بالمصلّى و قد شنئت البقيعا

ص: 350


1- في ف: «لهج».
2- المخمر: أصله المصدع من الخمر.
3- كذا في ط، ف. و في أكثر الأصول: «إذ ظعن».
4- البيت مصرع. و في ب، س: «غاديا» تحريف.
5- في الأصول: «فوقع». و المعروف في الألحان «أوقع» لا «وقع».
6- يريد ببطون الضأن الأوتار التي تتخذ من المعى. و الدفلى: ضرب من النبت.
7- زيادة في ف.
8- في ف: «و لا يرينا سوءا فيك».
9- في ف: «و صاحب هذا الصوت حي».

/قال: و لصوته دويّ في تلك الجبال. فقال ابن سريج: ويلك يا بن بركة! أسمعت أحسن من هذا الغناء و الشعر قطّ؟ قال: و نظروا إلينا فأقبلوا نشاوى يسحبون أعطافهم، و جعلوا يقبّلون وجه ابن سريج. فنزل فأقام عندهم ثلاثا و الغريض لا ينطق بحرف [واحد](1)، و أخذوا في شرابهم و قالوا: يا حبيب النفس و شقيقها أعطها بعض مناها؛ فضرب بيده إلى جيبه فأخرج منه مضرابا، ثم أخذه بيده و وضع العود في حجره، فما رأيت يدا أحسن من يده، و لا خشبة تخيّلت إليّ أنّها جوهرة إلاّ هي، ثم ضرب فلقد سبّح القوم جميعا ثم غنّى فكلّ قال: لبّيك لبّيك! فكان مما غنّى فيه - و اللحن له هزج -:

صوت

لبّيك يا سيّدتي *** لبّيك ألفا عددا

لبّيك من ظالمة *** أحببتها مجتهدا

قوموا إلى ملعبنا *** نحك الجواري الخرّدا

وضع يد فوق يد *** ترفعها يدا يدا

فكلّ قال: نفعل ذاك. فلقد رأيتنا نستبق أينا تقع يده على يده. ثم غنّى:

صوت

ما هاج شوقك بالصّرائم *** ربع أحال(2) لأمّ عاصم

ربع تقادم عهده *** هاج المحبّ على التّقادم

فيه النّواعم و الشّبا *** ب الناعمون مع النّواعم

من كل واضحة الجبي *** ن عميمة(3) ريّا المعاصم

/ثم إنه غنّى:

صوت

شجانيّ(4) مغاني الحيّ و انشقّت العصا(5) *** و صاح غراب البين أنت مريض

ففاضت دموعي عند ذاك صبابة *** و فيهن خود كالمهاة غضيض(6)

و ولّيت محزون الفؤاد مروّعا *** كتيبا و دمعي في الرّداء يفيض

- الغناء لابن محرز خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر، و فيه خفيف ثقيل آخر لابن جندب - قال: فلقد

ص: 351


1- زيادة في ف.
2- أحال الشيء: مر عليه حول، مثل أحول الشيء.
3- امرأة عميمة: تامة القوام و الخلق طويلة.
4- في ف: «شجاك».
5- انشقاق العصا: كناية عن الفرقة.
6- الخود من النساء: الحسنة الخلق الشابة أو الناعمة. و الغضيض: الفاترة الطرف. يقال: امرأة غضيض، و طرف غضيض.

رأيت جماعة طير وقعن بقربنا و ما نحسّ قبل ذلك منها شيئا؛ فقالت الجماعة: يا تمام السّرور و كمال المجلس! لقد سعد من أخذ بحظّه منك، و خاب من حرمك، يا حياة القلوب و نسيم(1) النفوس جعلنا [اللّه](2) فداءك! غنّنا؛ فغنّى و اللحن له.

صوت

يا هند إنّك لو علم *** ت بعاذلين تتابعا

- و هذا الصوت يأتي خبره مفردا لأنّ فيه طولا - فبدرت من بينهم فقبّلت بين عينيه، فتهافت القوم عليه يقبّلونه؛ فلقد رأيتني و أنا أرفعهم عنه شفقة عليه.

ما في الأشعار التي تناشدها عمر و أصحابه من أغان
اشارة

و في هذه الأشعار التي تناشدها كثيّر و عمر و نصيب و الأحوص أغان.

منها:

صوت

أبصرتها ليلة و نسوتها *** يمشين بين المقام و الحجر

ما إن طمعنا بها و لا طمعت *** حتّى التقينا ليلا على قدر

/بيضا حسانا خرائدا قطفا(3) *** يمشين هونا كمشية البقر

الشعر لعمر. و الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش. و ذكر عمرو أنّ فيه لابن سريج خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و لأبي سعيد مولى فائد ثقيل أوّل، و قيل: إنه لسنان الكاتب. و من هذه القصيدة أيضا، و هذا أوّلها:

صوت

يا من لقلب متيّم كمد(4) *** يهذي بخود مريضة النّظر

تمشي رويدا(5) إذا مشت فضلا(6) *** و هي كمثل العسلوج البسر(7)

ص: 352


1- في ط: «قسيم النفوس».
2- زيادة في ف.
3- قطفا: بطيئات السير، الواحدة قطوف. و بين رواية ما ورد من هذه القصيدة هنا و بين ما في «الديوان» اختلاف كثير، سننبه إلى ما يحتاج إلى التنبيه إليه.
4- في «ديوان عمر بن أبي ربيعة» (طبعة لبسك) «كلف» بدل «كمد».
5- في ف: «الهويني».
6- كذا في «الديوان». و المرأة الفضل: التي تتفضل في ثوب، و كذلك يقال رجل فضل (بضم الفاء و الضاد). و الفضل من النساء أيضا: المختالة التي تفضل من ذيلها. («لسان العرب» مادة فضل). و في الأصول: «قطفا».
7- يريد «من البسر». و في «الديوان»: «في الشجر». و العسلوج: ما لان و اخضر من القضبان. و البسر: التمر قبل إرطابه.

ما زال طرفي يحار إذ برزت *** حتّى عرفت النّقصان في بصري

غنّاه ابن محرز، و لحنه من خفيف الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.

و منها:

صوت

/

قالت لترب لها تحدّثها *** لنفسدنّ الطّواف في عمر

قالت تصدّي له ليعرفنا *** ثمّ اغمزيه يا أخت في خفر

قالت لها قد غمزته فأبى *** ثم استطيرت(1) تشتدّ في أثري

/غناء يونس خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش. و قيل: إنّ فيه لعبد اللّه بن العبّاس لحنا جيّدا.

و منها ما لم يمض ذكره في الكتاب:

صوت

ألا ليتنا يا عزّ من غير بغضه *** بعيرين نرعى في الخلاء و نعزب

كلانا به عرّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي و أجرب

إذا ما وردنا منهلا صاح أهله *** علينا فما ننفكّ نرمى و نضرب

الغناء لإبراهيم، رمل بالوسطى عن حبش.

فضلت عزة الأحوص في الشعر على كثير، فأنشدها من شعره فنقدته

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة عن عوانة و عيسى بن يزيد:

أن كثيّرا دخل على عزّة ذات يوم، فقالت له: ما ينبغي لنا أن نأذن لك في الجلوس. قال: و لم؟ قالت: لأنّي رأيت الأحوص ألين جانبا [في شعره](2) منك في شعرك و أضرع(3) خدّا للنساء، و إنّه لأشعر منك حين يقول:

يا أيّها اللاّئمي فيها لأصرمها *** أكثرت لو كان يغني منك إكثار

ارجع فلست مطاعا إذ(4) و شيت بها *** لا القلب سال و لا في حبّها عار

و إنّي استرققت قوله:

و ما كنت زوّارا و لكن ذا الهوى *** إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور

/و أعجبني قوله:

ص: 353


1- استطيرت: ذعرت. و قد تقدّمت الرواية غير مرة: «اسبطرت».
2- زيادة عن ف.
3- في ب، س: «أصعر» تحريف.
4- في ف: «إن».

كم من دنيّ(1) لها قد صرت أتبعه *** و لو صحا(2) القلب عنها كان لي تبعا

و زادني كلفا بالحبّ أن منعت *** أحب شيء(3) إلى الإنسان ما منعا

و قوله أيضا:

و ما العيش إلاّ ما تلذّ و تشتهي *** و إن لام فيه ذو الشّنان(4) و فنّدا

فقال كثيّر: قد و اللّه أجاد! فما الذي استجفيت من قولي؟ قالت: أخزاك اللّه! أما استحييت حين تقول:

يحاذرن مني غيرة قد عرفنها *** لديّ فما يضحكن إلاّ تبسّما

فقال كثيّر:

وددت و بيت اللّه أنّك بكرة *** هجان و أنّي مصعب ثم نهرب

كلانا به عرّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي و أجرب

نكون لذي مال كثير مغفّل *** فلا هو يرعانا و لا نحن نطلب

فقالت لي: ويحك! لقد أردت بي الشقاء الطويل، و من المنى ما هو أعفى من هذا و أطيب.

أبيات من شعر أبي زبيد و بيان ألحانه
صوت

قد كنت في منظر و مستمع *** عن نصر بهراء غير ذي فرس(5)

لا ترة عندهم فتطلبها *** و لا هم نهزة لمختلس

/بكفّ حرّان ثائر بدم *** طلاّب وتر في الموت منغمس

إمّا تقارش بك الرّماح فلا *** أبكيك إلا للدّلو و المرس

تذبّ عنه كفّ بها رمق *** طيرا عكوفا كزوّر العرس

عما قليل يصبحن مهجته *** فهنّ من والغ و منتهس

الشعر لأبي زبيد الطائيّ. و الغناء لابن محرز في الأوّل و الثاني خفيف ثقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنّ في الأربعة الأوّل خفيفي ثقيل كلاهما بالبنصر لمعبد و ابن محرز، و وافقه الهشاميّ في لحن معبد في الأول و الثاني و ذكر أنّه بالوسطى. و في كتاب ابن مسجح عن حمّاد له؛ فيه لحن يقال إنّه

ص: 354


1- الدني: الخسيس. و أصله دنيء بالهمز. و قد تقلب الهمزة ياء و تدغم في الياء.
2- في ف: «و لو سلا القلب عنها صار...».
3- يرويه النحويون: «و حب شيء» على أن «حب» أفعل تفضيل حذفت همزته (راجع الحاشية الخامسة ص 299 في الجزء الرابع من هذه الطبعة).
4- الشنان: البغض مثل الشنآن.
5- سيرد هذا الشعر في أخبار أبي زبيد ضمن قصيدة طويلة، و سنشرح ما يحتاج إلى شرح هناك.

لابن محرز. و لابن سريج في الأوّل و الخامس و السادس و السابع رمل بالوسطى عن عمرو. و ذكر لنا حبش أنّ الرمل لمعبد، و ذكر إسحاق أنّه لابن سريج أيضا، و أوّله:

تذبّ عنه كفّ بها رمق

و فيه لمالك في السادس و السابع خفيف ثقيل آخر. و فيه لابن عائشة رمل. و فيه لحنين ثاني ثقيل. هذه الحكايات الثلاث عن يونس، و طرائقها عن الهشاميّ. و لمخارق في الرابع و الأوّل خفيف رمل. و لمتيّم في الأوّل و الثاني خفيف رمل آخر. و ذكر حبش أنّ لإبراهيم في الأوّل و الثاني ثاني ثقيل بالوسطى، و لابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى.

ص: 355

11 - أخبار أبي زبيد و نسبه

اسم أبي زبيد و نسبه

هو حرملة بن المنذر، و قيل المنذر بن حرملة. و الصحيح حرملة بن المنذر بن معد يكرب بن حنظلة بن النّعمان بن حيّة بن سعنة بن الحارث بن ربيعة بن مالك بن سكر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيّ ء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان.

كان نصرانيا و مخضرما

و كان أبو زبيد نصرانيا و على دينه مات. و هو ممن أدرك الجاهليّة و الإسلام فعدّ(1) في المخضرمين.

جعله ابن سلام في الطبقة الخامسة

و ألحقه ابن سلام بالطبقة الخامسة من الإسلاميّين، و هم العجير السّلوليّ و ذووه(2) و قد مضى أكثر أخباره مع أخبار الوليد بن عقبة بن أبي معيط(3).

كان من زوّار الملوك، و كان عثمان يقرّبه

أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحيّ إجازة قال: حدّثني محمد بن سلاّم الجمحيّ قال حدّثني أبو الغرّاف قال:

كان أبو زبيد الطائيّ من زوّار الملوك و خاصّة ملوك العجم، و كان عالما بسيرهم. و كان عثمان بن عفّان رضي اللّه تعالى عنه يقرّبه على ذلك و يدني مجلسه، و كان نصرانيّا. [فحضر ذات يوم عثمان و عنده المهاجرون و الأنصار](4)، فتذاكروا مآثر العرب و أشعارها.

استنشده عثمان فأنشده قصيدة فيها وصف الأسد

قال: فالتفت عثمان إلى أبي زبيد و قال: يا أخا تبّع المسيح أسمعنا بعض قولك؛ فقد أنبئت أنّك تجيد.

فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا *** أنّ الفؤاد إليهم شيّق ولع(5)

/و وصف [فيها](6) الأسد. فقال عثمان رضي اللّه تعالى عنه: تاللّه تفتأ تذكر الأسد ما حييت. و اللّه إنّي

ص: 356


1- كذا في ف. و في سائر الأصول: «فعده» تحريف.
2- هم العجير بن عبد اللّه السلولي، و عبد اللّه بن همام السلولي، و نافع بن لقيط الأسدي. (انظر «طبقات ابن سلام» ص 132).
3- أخبار الوليد في الجزء الخامس من هذه الطبعة (ص 122 و ما بعدها).
4- زيادة عن «طبقات ابن سلام» (ص 133).
5- شحطوا: بعدوا. و شيق: مشتاق.
6- زيادة عن «طبقات ابن سلام» (ص 133)،

لأحسبك جبانا هدانا(1). قال: كلا يا أمير المؤمنين، و لكنّي رأيت منه منظرا و شهدت منه مشهدا لا يبرح ذكره يتجدّد و يتردّد في قلبي، و معذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم. فقال له عثمان رضي اللّه عنه: و أنّى كان ذلك؟ قال:

خرجت في صيّابة(2) أشراف من أفناء(3)/قبائل العرب ذوي هيئة و شارة حسنة، ترتمي بنا المهارى(4) بأكسائها(5)، و نحن نريد الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ ملك الشام؛ فاخروّط(6) بنا السير في حمارّة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه(7)، و ذبلت الشّفاه، و شالت المياه(8)، و أذكت الجوزاء المعزاء(9)، و ذاب الصّيهد(10)، و صرّ الجندب(11)، و ضاف العصفور الضّبّ و جاوره في حجره(12)، قال قائل: أيّها الرّكب غوّروا(13) بنا في ضوج(14) هذا الوادي، /و إذا واد قد بدا لنا كثير الدّغل(15)، دائم الغلل(16)؛ شجراؤه مغنّة، و أطياره مرنّة(17). فحططنا رحالنا بأصول دوحات كتهبلات(18) فأصبنا من فضلات الزّاد و أتبعناها الماء البارد. فإنّا لنصف حرّ يومنا و مماطلته(19)، إذ صرّ أقصى الخيل أذنيه(20)، و فحص الأرض بيديه. فو اللّه ما لبث أن جال، ثم حمحم(21) فبال، ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحدا فواحدا، فتضعضعت الخيل، و تكعكعت(22) الإبل، و تقهقرت البغال، فمن نافر بشكاله(23)، و ناهض بعقاله؛ فعلمنا

ص: 357


1- كذا في ف، و هامش ط، «و طبقات ابن سلام». و في «لسان العرب»، و في «حديث عثمان»: «جبانا هدانا». و الهدان (بكسر الهاء): الأحمق الثقيل. و في سائر الأصول: «جبانا هرابا».
2- صباب القوم: خيارهم و سادتهم.
3- كذا في ف، ج، «و طبقات ابن سلام». و من أفناء قبائل العرب، أي لا يدري من أي القبائل هم، و في سائر الأصول: «أبناء».
4- المهاري: جمع مهرية، منسوبة إلى مهرة؛ حي من قضاعة من عرب اليمن، و قيل نسبة إلى البلد. و الإبل المهرية؛ نجائب تسبق الخيل.
5- أكساء: جمع كسي (بالضم) و هو مؤخر العجز. و في «الطبقات»: «أنسائها».
6- اخروّط: طال.
7- عصبت الأفواه: جفت.
8- شالت المياه: قلّت.
9- المعزاء: الأرض الصلبة كثيرة الحصى.
10- الصيهد: السراب الجاري و شدّة الحر.
11- صر: صوّت. و الجندب: الصغير من الجراد.
12- كذا في ح، ط، م. و في ف: «و ضاف العصفور الضب في حجره». و في ب، س: «و أضاف العصفور الضب في وكره و جاوره في حجره» تحريف. و قد جاء في «كتاب الحيوان» للجاحظ (ج 6 ص 38 طبعة التقدّم): «و ما أكثر ما يذكرون الضب إذا ذكروا الصيف مثل قول الشاعر: سار أبو مسلم عنها بصرمته و الضب في الحجر و العصفور مجتمع».
13- غوّر الرجل: أتى الغور، و هو ما انحدر من الأرض.
14- الضوج: منعطف الوادي.
15- الدغل: الشجر الكثير الملتف.
16- الغال: الماء الذي يجري بين الأشجار.
17- مرنة: مصونة، يريد مغردة.
18- الكنهبل (كسفرجل، و تضم باؤه): شجر عظام.
19- مماطلته: طوله و امتداده.
20- صر أذنيه: سوّاهما و نصبهما للاستماع.
21- الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل.
22- تكعكعت: تأخرت إلى وراء.
23- الشكال (بالكسر): الحبل الذي تشدّ به قوائم الدابة.

أن قد أتينا و أنّه السّبع؛ ففزع كلّ رجل(1) منّا إلى سيفه فاستلّه من جربّانه(2)، ثم وقفنا [له](3) رزدقا (أي صفّا)(4).

و أقبل أبو الحارث(5) من أجمته يتظالع في مشيته من نعته(6) كأنه مجنوب(7)، أو في هجار(8) [معصوب](3)؛ لصدره نحيط(9)، و لبلاعمه غطيط، و لطرفه وميض، و لأرساغه نقيض(10)؛ كأنما يخبط هشيما، أو يطأ صريما(11)، و إذا هامة كالمجنّ(12)، و خدّ كالمسنّ(13)، و عينان سجراوان(14) كأنّهما سراجان/يقدان(15) و قصره ربلة(16)، و لهزمة رهلة(17)و كتد مغبط(18)، و زور مفرط(19)؛ و ساعد مجدول، و عضد مفتول؛ و كفّ شثنة البراثن(20)، إلى مخالب كالمحاجن(21). فضرب بيده فأرهج(22)، و كشّر فأفرج، عن أنياب كالمعاول(23) مصقولة، غير مفلولة؛ و فم أشدق(24)كالغار الأخرق؛ ثم تمطّى فأسرع بيديه، و حفز(25) وركيه برجليه، حتى صار ظلّه(26) مثليه؛ ثم أقعى فاقشعرّ(27)، ثم

ص: 358


1- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «واحد». و في «طبقات ابن سلام»: «امرئ».
2- كذا في أكثر الأصول «و طبقات ابن سلام». و جربان السيف: غمده. و في ف، ب: «جرابه».
3- زيادة عن ف.
4- كذا في ف. و في أكثر الأصول: «أرسالا» بدل: «أي صفا». و الأرسال: جمع الرسل (محرّكة) أن الجماعة.
5- أبو الحارث: كنية الأسد.
6- كذا في أكثر الأصول. و في «طبقات ابن سلام»: «من بعيد».
7- المجنوب: المصاد بذات الجنب.
8- الهجار: حبل يشد في رسغ رجل البعير ثم يشد إلى حقوه.
9- نحيط: زفير.
10- نقيض الأرساغ: صوتها.
11- الصريم: الحب المقطوع من الزرع.
12- المجن: الترس، و هو صفحة من الحديد مستديرة تحمل للوقاية من السيف و نحوه.
13- المسن: الحجر الذي يسنّ به أو يسنّ عليه.
14- عين سجراء: بينة السجر، و هو أن يخالط بياضها حمرة.
15- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س «يتقدان».
16- القصرة: أصل العنق إذا غلظت. و الربلة: كل لحمة غليظة.
17- اللهزمة: عظم ناتئ، أو مضغة عليّة تحت الأذن. و رهلة: منتفخة.
18- الكتد: ما بين الكاهل إلى الظهر. و مغبط: مرتفع.
19- الزور: الصدر. و مفرط: جاوز قدره. يريد وصفه بضخامة الصدر.
20- كذا في أكثر الأصول. و شثن البراثن: خشنها. و البراثن: جمع البرثن، و هو من السباع و الطير بمنزلة الأصابع من الإنسان. و في ط: «شثن البراجم». و البراجم: رءوس السلاميات من ظهر الكف.
21- المحجن: العصا المنعطفة الرأس كالصولجان.
22- أرهج: أثار الغبار.
23- المعاول: جمع المعول، و هو الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر.
24- فم أشدق: واسع الشدقين.
25- حفز: دفع.
26- في ف: «طوله».
27- أقعى: جلس على استه. و اقشعر: تقلص جلده وقف شعره.

مثل فاكفهرّ(1)، ثم تجهّم فازبأرّ(2). فلا و ذو(3) بيته في السماء ما اتّقيناه إلا بأوّل أخ(4) لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة(5)، فوقصه(6) ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه(7)، فجعل يلغ في دمه. فذمرت أصحابي(8)، فبعد لأي ما استقدموا. فهجهجنا(9) به، فكرّ مقشعرّا بزبرته(10)، كأنّ به شيهما حوليّا(11)، فاختلج رجلا أعجر ذا حوايا(12)، فنفضه/نفضة تزايلت [منها](13) مفاصله، ثم نهم ففرفر(14)، ثم زفر فبربر(15)، ثم زأر فجرجر(16)، ثم لحظ(17)، فو اللّه لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله و يمينه. فأرعشت الأيدي، و اصطكّت الأرجل، و أطّت الأضلاع(18)، و ارتجّت الأسماع، و شخصت العيون، و تحقّقت الظّنون، و انخزلت المتون. فقال له عثمان: اسكت قطع اللّه لسانك! فقد أرعبت قلوب المسلمين.

خوفه من الأسد

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثني العمريّ قال حدّثني شعبة قال:

قلت للطّرمّاح بن حكيم: ما شأن أبي زبيد و شأن الأسد؟ فقال: إنّه لقيه بالنّجف(19)، فلمّا رآه(20) سلح من فرقه - و قال مرة أخرى: فسلّحه - فكان بعد ذلك يصفه كما رأيت.

شعره في ضربة المكاء

أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال حدّثني أبي عمن يثق به أنّ رجلا من طيّئ من بني حيّة نزل به رجل من بني الحارث بن ذهل بن شيبان يقال له المكّاء(21)؛ فذبح له شاة و سقاه الخمر، فلما سكر الطائيّ قال: هلمّ

ص: 359


1- مثل: قام منتصبا. و اكفهر: كشر.
2- تجهم: صار وجهه كريها. و ازبأر: تنفش حتى ظهرت أصول وبر شعره.
3- ذو: بمعنى الذي في لغة طيئ.
4- كذا في ف. و في «طبقات ابن سلام»: «إلا بأخ». و في ج، ط، م: «ما اتقيناه بأول أخ». و في ب، ص: «ما اتقيناه بأخ». تحريف.
5- ضخم الجزارة: كبير الرأس و اليدين و الرجلين. يريد أنه عظيم الجسم.
6- وقصه: دق عنقه.
7- قضقض متنيه: كسر متني الظهر، و هما مكتنفا الصلب عن يمين و شمال من عصب و لحم.
8- ذمر أصحابه: لامهم و حضهم و حثهم.
9- هجهجنا به: صحنا به و زجرناه ليكف.
10- كذا في ف. و الزبرة: الشعر المجتمع بين كتفي الأسد. و في سائر الأصول: «بزبره».
11- الشيهم: ما عظم شوكه من ذكور القنافذ. و الحولي: ما أتى عليه حول.
12- اختلج رجلا: انتزعه. و أعجز: ممتلئ جدا، أو عظيم البطن. و الحوايا: الأمعاء.
13- زيادة عن ف.
14- نهم: أخرج صوتا كالأنين. و فرفر: صاح.
15- زفر: أخرج صوتا بعد مدّه إياه. و بربر؛ صاح.
16- جرجر: ردّد صوته في حنجرته.
17- لحظ: نظر بمؤخر العين عن يمين و يسار غاضبا.
18- أطت الأضلاع: صوّتت.
19- النجف (بالتحريك): قال السهيلي: «بالفرع» عينان يقال لأحدهما الربض و للأخرى النجف تسقيان عشرين ألف نخلة، و هو بظهر الكوفة كالمسناة تمنع مسيل الماء أن يعلو الكوفة و مقابرها. «راجع معجم البلدان».
20- كذا في ف. و في سائر الأصول: «لقيه».
21- في ف هنا و فيما يأتي: «البكاء». تحريف «راجع خزانة الأدب» (ج 2 ص 153-154).

أفاخرك: أ بنو حيّة أكرم/أم بنو شيبان؟ فقال له الشيباني: حديث [حسن](1)، و منادمة كريمة أحبّ إلينا من المفاخرة. فقال/الطائي: و اللّه ما مدّ رجل قطّ يدا أطول من يدي. فقال الشيبانيّ: و اللّه لئن أعدتها لأخضبنّها من كوعها. فرفع الطائيّ يده، [فضربها الشيباني بسيفه فقطعها](2). فقال أبو زبيد في ذلك:

خبّرتنا الرّكبان(3) أن قد فخرتم *** و فرحتم بضربة المكّاء

و لعمري لعارها كان أدنى *** لكم من تقى و حقّ وفاء

ظلّ ضيفا أخوكم لأخينا *** في صبوح و نعمة و شواء(4)

ثم لما رآه رانت به الخم *** ر و أن لا يريبه باتّقاء(5)

لم يهب حرمة النّديم و حقّت *** يا لقوم للسّوءة السوءاء(6)

ما قاله في كلبه أكدر حين لقيه الأسد فقتله

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمي عبيد اللّه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

كان لأبي زبيد كلب يقال له أكدر، و كان له سلاح يلبسه إيّاه، فكان لا يقوم له الأسد، فخرج ليلة قبل أن يلبسه سلاحه، فلقيه الأسد فقتله، و يقال: أخذه فأفلت منه، فقال عند ذلك أبو زبيد:

/

أحال أكدر مختالا كعادته(7)*** حتى إذا كان بين البئر و العطن(8)

لاقى لدى ثلل الأطواء داهية *** أسرت و أكدر تحت الليل في قرن(9)

حطّت به شيمة ورهاء تطرده *** حتى تناهى إلى الحولات في السّنن(10)

إلى مقابل خطو السّاعدين له *** فوق السّراة كذفرى الفالج القمن(11)

رئبال غاب فلا قحم و لا ضرع *** كالبغل يحتطم العلجين(12) في شطن

ص: 360


1- زيادة عن ح، ف.
2- زيادة عن ف.
3- الركبان: جمع ركب. و الركب: أصحاب الإبل في السفر دون الدواب، و هم العشرة فما فوقها. و يجمع على أركب أيضا.
4- الصبوح: ما أصبح عند القوم من الشراب فشربوه. و النعمة (بالفتح): التنعم و التمتع.
5- أي و رأى أنه لا يريبه باتقاء.
6- السوءة: ما يقبح كشفه. و السوءة السوءاء (مثل الليلة الليلاء): الخصلة القبيحة. و يا لقوم: استغاثة من هذه الفضيحة؛ و هي هتك حرمة النديم. و رواية «الخزانة»: «يا لقومي».
7- أحال: أقبل. في الأصول: «مشيا لا لعادته». و انظر «الحيوان» (274:2) طبعة الحلبي.
8- العطن: مناخ الإبل حول الورد.
9- كذا في أكثر الأصول. و ثلة البئر: ما أخرج من ترابها، جمعه: ثلل. و الأطواء: واحده الطوي، البئر المطوية بالحجارة. و أسرت: سارت ليلا و القرن: الحبل يجمع به البعيران.
10- الشيمة: الطبيعة و الخلق و العادة. و ورهاء: حمقاء أو خرقاء. و الحولات: جمع حولة، بالضم، و هي الداهية.
11- الفالج: البعير ذو السنامين. و القمن: السريع.
12- في ف: «حطمه العلجان».
لامه قومه على كثرة وصفه الأسد مخافة أن تسبهم العرب فأجابهم

و هي قصيدة طويلة. فلامه قومه على كثرة وصفه للأسد، و قالوا له: قد خفنا أن تسبّنا العرب بوصفك له.

قال: لو رأيتم منه ما رأيت أو لقيكم ما لقي أكدر لما لمتموني. ثم أمسك عن وصفه فلم يصفه بعد ذلك في شعره حتى مات.

وصف النعمان بن المنذر و ذكر ما حدث في مجلس له

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني أبو سعيد السكّريّ قال حدّثني هارون بن مسلم بن سعدان أبو القاسم قال حدّثنا هشام ابن الكلبيّ قال: كان الأجلح الكنديّ يحدّث عن عمارة بن قابوس قال:

لقيت أبا زبيد الطائيّ فقلت له: يا أبا زبيد هل أتيت النّعمان بن المنذر؟ قال إي و اللّه لقد أتيته و جالسته. قال قلت: فصفه لي. فقال: كان أحمر أزرق أبرش قصيرا. فقلت له: باللّه أخبرني أ يسرّك أنه سمع مقالتك هذه و أنّ لك حمر النّعم؟ قال: لا و اللّه و لا سودها؛ فقد رأيت ملوك حمير في ملكها، و رأيت ملوك غسّان في ملكها، فما رأيت أحدا قطّ كان أشدّ عزّا منه. و كان ظهر الكوفة ينبت الشقائق، فحمى ذلك المكان، فنسب إليه فقيل «شقائق النّعمان».

/فجلس ذات يوم هناك و جلسنا بين يديه كأنّ على رءوسنا الطّير، و كأنه باز. فقام رجل من الناس فقال له:

أبيت اللعن! أعطني فإنّي محتاج. فتأمّله طويلا ثم أمر به فأدنى حتّى قعد بين يديه، ثم دعا بكنانة فاستخرج منها مشاقص(1) فجعل يجأ بها في وجهه(2) حتى سمعنا قرع العظام، و خضبت لحيته و صدره بالدم، ثم أمر به فنحّي.

و مكثنا مليّا.

ثم نهض آخر فقال له: أبيت اللّعن! أعطني. فتأمّله ساعة ثم قال: أعطوه ألف درهم، فأخذها و انطلق.

ثم التفت عن يمينه/و يساره و خلفه، فقال: ما قولكم في رجل أزرق أحمر يذبح على هذه الأكمة، أ ترون دمه سائلا حتى يجري في هذا الوادي؟ فقلنا له: أنت - أبيت اللعن - أعلى برأيك عينا. فدعا برجل على هذه الصّفة فأمر به فذبح.

ثم قال: أ لا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: و من يسألك - أبيت اللعن - عن أمرك و ما تصنع؟ فقال:

أما الأوّل فإني خرجت مع أبي نتصيّد، فمررت به و هو بفناء بابه و بين يديه عسّ من شراب أو لبن، فتناولته لأشرب منه، فثار إليّ فهراق الإناء فملا وجهي و صدري، فأعطيت اللّه عهدا لئن أمكنني منه لأخضبنّ لحيته و صدره من دم وجهه.

و أما الآخر فكانت له عندي يد كافأته بها، و لم أكن أثبته، فتأمّلته حتى عرفته(3).

و أما الذي ذبحته فإنّ عينا لي بالشام كتب إليّ: إنّ جبلة بن الأيهم قد بعث إليك برجل صفته كذا و كذا ليغتالك. فطلبته أياما فلم أقدر عليه، حتى كان اليوم.

ص: 361


1- المشقص، كمنبر: نصل عريض أو سهم فيه ذلك.
2- الوجء: الضرب.
3- أثبته: عرفه حق المعرفة. و الكلام من «و لم أكن» إلى هنا ساقط من ف.
مات نديم له في غيبته فرثاه و صب الخمر على قبره

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:

كان لأبي زبيد نديم يشرب معه بالكوفة، فغاب أبو زبيد غيبة، ثم رجع فأخبر بوفاته، فعدل إلى قبره قبل دخوله منزله، فوقف عليه ثم قال:

يا هاجري إذا جئت زائره *** ما كان من عاداتك الهجر

يا صاحب القبر السّلام على *** من حال دون لقائه القبر

ثم انصرف. و كان بعد ذلك يجيء إلى قبره فيشرب عنده و يصبّ الشراب على قبره.

و الأبيات التي فيها الغناء المذكور يقولها في غلام له قتلته تغلب، و كان مجاورا فيهم، فدلّ بهراء على عورتهم و قاتلهم معهم فقتل.

شعره في غلبة تغلب على بهراء و قتل غلامه

أخبرني بخبره أبو خليفة قال حدّثني محمد بن سلام. و أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ عن عمه عبيد اللّه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

كان أخوال أبي زبيد بني تغلب، و كان يقيم فيهم أكثر أيامه، و كان له غلام يرعى إبله، فغزت بهراء بني تغلب، فمرّوا بغلامه، فدفع إليهم إبل أبي زبيد و قال: انطلقوا أدلّكم على عورة القوم و أقاتل معكم. ففعلوا، و التقوا، فهزمت بهراء و قتل الغلام، فقال أبو زبيد هذه القصيدة و هي:

هل كنت في منظر و مستمع *** عن نصر بهراء غير ذي فرس

تسعى إلى فتية الأراقم و اس *** تعجلت قبل الجمان و القبس(1)

في عارض من جبال بهرائها ال *** أولى(2) مرين الحروب(3) عن درس(4)

/فبهرة من لقوا حسبتهم *** أحلى و أشهى من بارد الدّبس(5)

لا ترة عندهم فتطلبها *** و لا هم نهزة لمختلس

جود كرام إذا هم ندبوا *** غير لئام ضجر و لا كسس(6)

صمت عظام الحلوم إن قعدوا *** عن غير عيّ بهم و لا خرس

تقود أفراسهم نساؤهم *** يزجون أجمالهم مع الغلس

ص: 362


1- كذا في أكثر الأصول. و في ط: «الحمار و العبس». و في ف هنا و فيما سيأتي: «الحمار و العلس». و الجمان و القبس: ناقتان. (انظر ص 138 من هذا الجزء).
2- الأولى: الذين.
3- كذا في ف. و مرين الحروب: حلبنها، و المراد أنهم تمرسوا بالحرب. و في سائر الأصول: «مرين الحرور».
4- درس جمع درسة بالضم. كغرفة و غرف، و هي الرياضة.
5- بهرة، أراد بهراء. الدبس، بالكسر و بكسرتين: عسل التمر و عصارته.
6- كسس: جمع أكسس، أي ليس فيهم خروج الأسنان السفلى على الحنك الأسفل.

صادفت لمّا خرجت منطلقا *** جهم المحيّا كباسل شرس

تخال في كفّه مثقّفة *** تلمع فيها كشعلة القبس(1)

/بكفّ حرّان ثائر بدم *** طلاّب وتر في الموت منغمس

إمّا تقارن بك الرماح فلا *** أبكيك إلاّ للدّلو و المرس(2)

حمدت أمري و لمت أمرك إذ *** أمسك جلز السّنان بالنفس(3)

و قد تصلّيت حرّ نارهم *** كما تصلّى المقرور من قرس(4)

تذبّ عنه كفّ بها رمق *** طيرا عكوفا كزوّر العرس(5)

عما قليل علون جثّته *** فهنّ من والغ و منتهس(6)

أخذ دية غلامه ثمن إبله من تغلب و قال شعرا

فلما فرغ أبو زبيد من قصيدته بعثت إليه بنو تغلب بدية غلامه و ما ذهب من إبله، فقال في ذلك:

ألا أبلغ بني عمرو رسولا *** فإنّي في مودّتكم نفيس

/هكذا ذكر ابن سلاّم في خبره، و القصيدة لا تدلّ على أنها قيلت فيمن أحسن إليه و ودى غلامه و ردّ عليه ماله. و في رواية ابن حبيب:

ألا أبلغ بني نصر بن عمرو

و قوله أيضا فيها:

فما أنا بالضعيف فتظلموني *** و لا جافي اللقاء و لا خسيس(7)

أ في حقّ مواساتي أخاكم *** بمالي ثم يظلمني السريس

- السريس: الضعيف الذي لا ولد له - و هذا ليس من ذلك الجنس. و لعل ابن سلام و هم.

من المعمرين

و أبو زبيد أحد المعمّرين، ذكر ابن الكلبي أنه عمر مائة و خمسين سنة.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبيّ عن أبيه قال: كان طول أبي زبيد ثلاثة عشر شبرا.

ص: 363


1- مثقفة: ثقف الرمح أي قومه و سواه.
2- للدلو: أي لملئها. و المرس: جمع مرسة بالتحريك، و هو الحبل.
3- جلز السنان: الحلقة المستديرة في أسفله.
4- المقرور: الذي أصابه البرد. و القرس: البرد الشديد.
5- الزور: جمع الزائر. و العرس: طعام الوليمة.
6- الوالغ: الشارب بأطراف لسانه.
7- خسيس: بالرفع عطفا على المحل بجعل ما تميمية، و بالجر عطفا على اللفظ فيكون في البيت إقواه.
كان يدخل مكة متنكرا لجماله

أخبرني أحمد بن عبد العزيز و أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قالا حدثنا محمد بن عبد اللّه العبديّ أبو بكرة قال حدّثني أبو مسعر الجشميّ عن ابن الكلبيّ قال:

كان أبو زبيد الطائيّ ممّن إذا دخل مكّة دخلها متنكرا لجماله.

منادمته الوليد بن عقبة بعد اعتزال الوليد عليا و معاوية

و أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مسلم قال:

لما صار الوليد بن عقبة إلى الرّقّة و اعتزل عليّا عليه السلام و معاوية، صار أبو زبيد إليه، فكان ينادمه، و كان يحمل في كل أحد إلى البيعة مع النصارى. فبينا هو يوم أحد يشرب و النصارى حوله رفع بصره إلى السماء فنظر ثم رمى بالكأس من يده و قال:

إذا جعل المرء الذي كان حازما *** يحلّ به حلّ الحوار و يحمل(1)

/فليس له في العيش خير يريده *** و تكفينه ميتا أعفّ و أجمل

دفن مع الوليد بن عقبة بوصية منه

و مات فدفن هناك على البليخ(2). فلما حضرت الوليد بن عقبة الوفاة أوصى أن يدفن إلى جنب أبي زبيد. و قد قيل: إن أبا زبيد مات بعد الوليد؛ فأوصى أن يدفن إلى جنب الوليد.

[قال ابن الكلبيّ في خبره الذي ذكره إسحاق عنه:

هرب أبو زبيد من الإسلام فجاور بهراء فاستأجر منهم أجيرا لإبله فكان يقبّله(3) حلب الجمان و القيس(4)، و هما ناقتان كانتا له. فلما كان يوم حابس، و هو اليوم الذي التقت فيه بهراء و تغلب خرج أجير أبي زبيد مع بهراء، فقتل و انهزمت بهراء، فمرّ أبو زبيد به و هو يجود بنفسه، فقال فيه هذه القصيدة](5).

أخبرني محمد بن يحيى و يحيى بن علي الأبوابيّ المدائنيّ قالا حدّثنا عقبة المطرفيّ قال:

كنا في الحمام و معي ابن السّعديّ و أنا أقرأ القرآن، فدخل سعد الرّواسي(6) فغنى:

قد كنت في منظر و مستمع *** عن نصر بهراء غير ذي فرس

فقال ابن السعديّ: اسكت اسكت! فقد جاء حديث يأكل الأحاديث.

أوصى له الوليد بن عقبة حين احتضر بالخمر و لحوم الخنازير
اشارة

[أخبرني عمي و الحسن بن عليّ قالا حدّثني العمري قال حدّثني أحمد بن حاتم قال حدّثني محمد بن عمرو

ص: 364


1- الحوار بالضم و الكسر: ولد الناقة قبل أن يفصل عنها. و يقال حل به حلا: جعله يحل.
2- البليخ: نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون (انظر «معجم ياقوت»).
3- من قولهم قبلت العامل العمل، أي جعلته في كفالته.
4- في الأصول: «الحمار و العلس». و انظر ما سبق في صفحة 135.
5- التكملة من نسخة ف.
6- ما عدا ف: «الرواس».

الجمّاز قال حدّثني أبو عبيدة عن يونس و أبي الخطّاب النحوي: أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط أوصى لما احتضر لأبي زبيد بما يصلحه في فصحه(1) و أعياده، من الخمر و لحوم الخنازير و ما أشبه ذلك. فقال أهله و بنوه لأبي زبيد:

قد علمت أنّه لا يحلّ لنا هذا في ديننا، و إنما فعله إكراما/لك و تعظيما لحقّك، فقدّره لنفسك ما شئت أن تعيش، و قوّم ما أوصى به لك حتّى نعطيك قيمته و لا تفضحنا و تفضح آباءنا بهذا، و احفظه و احفظنا فيه، ففعل أبو زبيد ذلك، و قبله منهم](2).

صوت

/

هل تعرف الدار من عامين أو عام *** دار لهند بجزع الحرج فالدام(3)

تحنو لأطلائها عين ملمّعة *** سفع الخدود بعيدات من الرامي(4)

الحرج و الدام: موضعان، و يروي «مذ عامين». و هذا الأجود، و كلاهما رومي. و عين: بقر. و أطلاؤها:

أولادها، واحدها طلا. و يروى: «بعيدات من الذام» هو الذي يذم.

الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعريّ حين توليته العراق

الشعر للحطيئة يمدح به أبا موسى الأشعريّ لما ولاّه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه العراق(5). و الغناء لمالك، خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. و ذكر أنّ فيه لابن جامع أيضا صنعة.

قال محمد بن حبيب: أتى الحطيئة أبا موسى يسأله أن يكتبه معه، فأخبره أنّ العدّة قد تمت، فمدحه الحطيئة بهذه القصيدة التي ذكرتها، و أوّلها:

هل تعرف الدار من عامين أو عام *** دار لهند بجزع الحرج فالدام

و فيها يقول:

و جحفل كسواد الليل منتجع *** أرض العدوّ ببؤس بعد إنعام

جمعت من عامر فيه و من أسد *** و من تميم و من جاء و من حام

- حاء من مذحج، و حام من خثعم -

و ما رضيت لهم حتى رفدتهم *** من وائل رهط بسطام بأصرام(6)

/فيه الرماح و فيه كلّ سابغة *** جدلاء محكمة من نسج سلاّم

- يعني سليمان النبي -

ص: 365


1- أي في عيد الفصح، و هو عيد من أعياد النصارى. و انظر تحقيقه في «الحيوان» (534:4).
2- التكملة من ف.
3- ف: «دارا» بالنصب. و الحرج ضبطه ياقوت بالفتح، و البكري بالضم. على أن الذي يقرن بالدام هو الخرج بالخاء، كما عند البكري.
4- الملمعة: التي فيها بقع تخالف سائر لونها و قيل بقعة من السواد خاصة.
5- ف: «الكوفة».
6- أصرام: جماعات.

و كلّ أجرد كالسّرحان أضمره *** مسح الأكفّ و سقى بعد إطعام(1)

مستحقبات رواياها جحافلها *** يسمو بها أشعريّ طرفه سام(2)

- الروايا: الإبل التي تحمل أثقالهم و أزوادهم، و تجنب(3) الخيل إليها فتضع حجافلها(4) على أعجاز الإبل -

لا يزجر الطّير إن مرّت به سنحا *** و لا يفيض على قدح بأزلام(5)

و قال المدائني: لما مدح الحطيئة أبا موسى رضي اللّه عنه بهذه القصيدة وصله أبو موسى - و قد كان كتب من أراد و كملت العدّة - فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فكتب يلومه، فكتب إليه: إني اشتريت منه عرضي، فكتب إليه: أحسنت. قال: و زاد فيه حمّاد الراوية أنه - يعني نفسه - أنشدها بلال بن أبي بردة و لم يكن عرفها فوصله.

أخبرني القاضي أبو خليفة إجازة قال حدّثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال:

قدم حماد الراوية البصرة على بلال بن أبي بردة و هو عليها فقال له: ما أطرفتني شيئا يا حمّاد! فعاد إليه فأنشده قول الخطيئة في أبي موسى، فقال له: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى و أنا أروي شعره كله و لا أعلم بهذه؟ أدعها تذهب في الناس.

و كانت ولاية أبي موسى الكوفة بعد أن أخرج أهلها سعيد بن العاصي عنها، و تحالفوا ألا يولّوا عليها إلا من يريدون(6).

وجوه أهل الكوفة من القراء يختلفون إلى سعيد بن العاص و اختلافهم في تفضيل السهل على الجبل و ما ترتب على ذلك

أخبرني بالسبب في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق قال:

كان قوم من وجوه أهل الكوفة من القرّاء يختلفون إلى سعيد بن العاص و يسألونه، فتذاكروا يوما السهل و الجبل، فقال حسان بن محدوج: سهلنا خير من جبلنا: أكثر برّا و شعيرا، فيه أنهار مطّردة، و نخل باسقات، و قلّت فاكهة ينبتها الجبل إلا و السهل ينبت مثلها. فقال له/عبد الرحمن بن حبيش: صدقتم، وددت أنه للأمير و أنّ لكم أفضل منه. فقال الأشتر: تمنّ للأمير أفضل و لا تتقرّب إليه بأموالنا، فقال: ما ضرّك ذلك. و اللّه لو يشاء أن يكون له لكان. قال كذبت و اللّه لو أراد ذلك ما قدر عليه. فقال سعيد: و اللّه ما السواد إلا بستان لقريش، ما شئنا أخذنا منه،

ص: 366


1- السرحان: الذئب.
2- مستحقبات، من استحقب الشيء: شدّه في مؤخر الرحل و احتمله خلفه.
3- تجنب إليها: تقاد إلى جنبها.
4- جحافلها: شفاها.
5- الأزلام: جمع زلم، و هو القدح الذي كان يستسقم به.
6- في ف: «يختارون».

و ما شئنا تركنا. فقال له الأشتر: أنت تقول هذا أصلحك اللّه و هذا من مركز رماحنا و فيئنا! ثم ضربوا عبد الرحمن ابن حبيش حتى سقط.

قال المدائني فحدّثني عليّ بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن الشعبي [و مجالد بن حمزة بن بيض عن الشعبيّ](1) قال: بينا القرّاء عند سعيد بن العاص و هم يأكلون تمرا و زبدا إذ قال سعيد: السواد بستان قريش، فما شئنا أخذنا منه و ما شئنا تركنا. فقال له عبد الرحمن بن حبيش و كان على شرطة سعيد: صدق الأمير. فوثب عليه القرّاء فضربوه، و قالوا له: يا عدوّ اللّه، يقول الباطل و تصدقه! فقال سعيد: اخرجوا من داري. فخرجوا، فلما أصبحوا أتوا المسجد فداروا على الحلق فقالوا: إن أميركم زعم أنّ السواد بستان له و لقومه و هو فيئنا و مركز رماحنا، فو اللّه ما على هذا بايعنا و لا عليه أسلما. فكتب سعيد إلى عثمان رضي اللّه عنه: إنّ قبلي قوما يدعون القرّاء و هم السفهاء، وثبوا على صاحب/شرطتي فضربوه و استخفوا بي. و منهم عمرو بن زرارة، و كميل بن [زياد، و الأشتر و حرفوص بن هبيرة، و شريح بن أوفى، و يزيد بن](2) المكفّف، و زيد و صعصعة ابنا صوحان و جندب بن عبد اللّه.

فكتب إليهم عثمان رضي اللّه عنه يأمرهم أن يخرجوا إلى الشام و يغروا مغازيهم. و كتب إلى سعيد: قد كفيتك الذي أردت فأقرئهم كتابي فإني أراهم لا يخالفون إن شاء اللّه، و اتق اللّه جلّ و عز و أحسن السيرة. فأقرأهم الكتاب، فخرجوا إلى دمشق فأكرمهم معاوية و قال: إنكم قدمتم بلدا لا يعرف أهله إلا الطاعة فلا تجادلوهم فتدخلوا الشكّ قلوبهم. فقال له الأشتر: إنّ اللّه جل و عز قد أخذ على العلماء في علمهم ميثاقا أن يبيّنوه للناس و لا يكتموه. فإن سألنا سائل عن شيء نعلمه لم نكتمه. فقال: قد خفت أن تكونوا مرصدين للفتنة، فاتقوا اللّه وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ الْبَيِّنٰاتُ فقال عمرو بن زرارة: نحن الذين هدى اللّه. فأمر معاوية بحبسهم.

فقال له زيد بن صوحان: إن الذين أشخصونا إليك لم يعجزوا عن حبسنا لو أرادوا. فأحسنوا جوارنا، و إن كنا ظالمين فنستغفر اللّه، و إن كنا مظلومين فنسأل اللّه العافية. فقال له معاوية: إني لا أرى حبسك أمرا صالحا، فإن أحببت أن آذن لك فترجع إلى مصرك و أكتب إلى أمير المؤمنين بإذنك فعلت. قال حسبي أن تأذن لي و تكتب إلى سعيد. فكتب إليه، فأذن له، فلما أراد زيد الشخوص كلّمه في الأشتر و عمرو بن زرارة فأخرجهما. و أقام القوم بدمشق لا يرون أمرا يكرهونه؛ ثم أشخصهم معاوية إلى حمص، فكانوا بها، حتى أجمع أهل الكوفة على إخراج سعيد فكتبوا إليهم فقدموا.

قال أبو زيد قال المدائني حدّثني الوقاصي عن الزّهري:

أن أهل الكوفة لما قدموا على عثمان يشكون سعيدا قال لهم: أكتب إليه فأجمع بينكم و بينه. ففعل، فلم يحقّقوا عليه شيئا إلا قوله: «السواد بستان/قريش»، و أثنى الآخرون عليه. فقال عثمان: أرى أصحابكم/يسألون إقراره، و لم يثبتوا عليه إلا كلمة واحدة، لم ينتهك بها لأحد حرمة. و لا أرى عزله إلا أن تثبتوا عليه ما لا يحلّ لأحد تركه معه. فانصرفوا إلى مصركم. فرجع سعيد و الفريقان معه، و تقدّمهم عليّ بن الهيثم السدوسيّ حتى دخل رحبة المسجد فقال: يا أهل الكوفة إنا أتينا خليفتنا فشكونا إليه عاملنا، و نحن نرى أنه سيصرفه عنا، فردّه إلينا و هو يزعم أن السواد بستان له. و أنا امرؤ منكم أرضى إذا رضيتم. فقالوا لا نرضى.

ص: 367


1- التكملة من ف.
2- التكملة من ف.
الأشتر يخطب محرضا على عثمان

و جاء الأشتر فصعد المنبر فخطب خطبة ذكر فيها النبي صلى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر رضي اللّه عنهما، و ذكر عثمان رضي اللّه عنه فحرّض عليه ثم قال: من كان يرى أنّ للّه جل و عز حقا فليصبح بالجرعة، ثم قال لكميل بن زياد: انطلق فأخرج ثابت بن قيس بن الخطيم، فأخرجه. و استعمل أهل الكوفة. أبا موسى الأشعريّ.

عثمان يخضع لقوة الرأي فيعزل سعيدا و يولي أبا موسى

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا عفّان قال حدّثنا أبو محصن قال حدّثنا حصين بن عبد الرحمن قال حدّثني جهيم قال:

أنا شاهد للأمر، قالوا لعثمان: إنك استعملت أقاربك. قال: فليقم أهل كلّ مصر فليسلموا صاحبهم. فقام أهل الكوفة فقالوا: اعزل عنا سعيدا و استعمل علينا أبا موسى الأشعريّ. ففعل.

ثناء امرأة على سعد بن أبي وقاص

قال أبو زيد: و كان سعيد قد أبغضه أهل الكوفة لأمور: منها أن عطاء النساء بالكوفة كان مائتين مائتين فحطّه سعيد إلى مائة مائة. فقالت امرأة من أهل الكوفة تذمّ سعيدا و تثني على سعد بن أبي وقّاص:

فليت أبا إسحاق كان أميرنا *** و ليت سعيدا كان أول هالك(1)

يحطّط أشراف النساء و يتقي *** بأبنائهن مرهفات النّيازك(2)

هدية سعيد بن العاص إلى علي بن أبي طالب
اشارة

حدّثني العباس بن علي بن العباس و محمد بن جرير الطبري قالا حدّثنا يحيى بن معين قال حدّثنا أبو داود و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو داود قال حدّثنا شعبة بن عمرو بن مرّة قال سمعت أبا وائل يحدّث عن الحارث بن حبيش قال: بعثني سعيد بن العاص بهدايا إلى المدينة و بعثني إلى علي عليه السلام و كتب إليه: إني لم أبعث إلى أحد بأكثر مما بعثت به إليك إلا شيئا في خزائن أمير المؤمنين. قال: فأتيت عليّا فأخبرته، فقال: لشدّ ما تحظر بنو أمية تراث محمد صلى اللّه عليه و سلم. أما و اللّه لئن وليتها لأنفضنّها نفض القصّاب لتراب الوذمة.

قال أبو جعفر: هذا غلط إنما هو لوذام(3) التّربة.

قال أبو زيد و حدّثني عبد اللّه بن محمد بن حكيم الطائي عن السعدي عن أبيه قال: بعث سعيد بن العاص مع ابن أبي عائشة مولاه بصلة إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام: فقال: و اللّه لا يزال غلام من غلمان بني أميّة يبعث إلينا مما أفاء اللّه على رسوله بمثل قوت الأرملة، و اللّه لئن بقيت لأنفضنّها نفض القصّاب الوذام التربة. هكذا في هذه الرواية.

ص: 368


1- أبو إسحاق: كنية سعد بن أبي وقاص كما في «الإصابة» (ج 3 ص 83).
2- النيازك: جمع نيزك، و هو الرمح القصير.
3- الوذام: جمع وذمة: قطعة الكرش. و التربة: الكرش: «اللسان» (وذم).
صوت

ربّ وعد منك لا أنساه لي *** أوجب الشّكر و إن لم تفعلي

أقطع الدّهر بظنّ حسن *** و أجلّي غمرة ما تنجلي

/كلّما أمّلت يوما صالحا *** عرض المكروه لي في أملي

و أرى الأيّام لا تدني الّذي *** أرتجي منك و تدني أجلي

عروضه من الرمل؛ الشّعر لمحمد بن أميّة، و الغناء لأبي حشيشة، رمل طنبوريّ و فيه لحن لحسين بن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عن أبي عبد اللّه الهشاميّ.

ص: 369

12 - أخبار محمّد بن أميّة و أخبار أخيه عليّ بن أمية و ما يغنّى فيه من شعرهما

نسب محمد بن أمية

سألت أحمد بن جعفر جحظة عن نسبه قلت له: إنّ النّاس يقولون ابن أمية و ابن أبي أمية؛ فقال: هو محمد ابن أمية بن أبي أميّة.

منادمته إبراهيم بن المهدي

قال: و كان محمد كاتبا شاعرا ظريفا، و كان ينادم إبراهيم بن المهديّ، و ربما عاشر عليّ بن هشام، إلاّ أنّ انقطاعه كان إلى إبراهيم، و ربّما كتب بين يديه. و كان حسن الخطّ و البيان. و كان أميّة بن أبي أمية يكتب للمهديّ على بيت المال. و كان إليه ختم الكتب بحضرته، و كان يأنس به لأدبه و فضله، و مكانه من ولائه، فزامله أربع دفعات حجّها في ابتدائه و رجوعه.

قال جحظة: و حدّثني بذلك أبو حشيشة.

إعجاب أبي العتاهية به في حضرة إبراهيم بن المهدي

و حدّثني جحظة أيضا قال حدّثني أبو حشيشة عن محمد بن عليّ بن أمية قال حدّثني عمي محمد بن أمية قال:

كنت جالسا بين يدي إبراهيم بن المهديّ، فدخل إليه أبو العتاهية و قد تنسّك و لبس الصوف و ترك قول الشعر إلاّ في الزّهد، فرفعه إبراهيم و سرّ به، و أقبل عليه بوجهه و حديثه؛ فقال له أبو العتاهية: أيّها الأمير بلغني خبر فتى في ناحيتك و من مواليك يعرف بابن أمية يقول الشعر، و أنشدت له شعرا أعجبني، فما فعل؟ فضحك إبراهيم ثم قال: لعله أقرب الحاضرين مجلسا منك. فالتفت إلي فقال لي: أنت هو فديتك؟ فتشوّرت(1) و خجلت و قلت له:

أنا محمد بن أمية جعلت فداءك! و أمّا الشعر فإنما أنا شابّ أعبث بالبيت و البيتين و الثلاثة كما يعبث الشابّ؛ فقال لي: فديتك، ذلك/و اللّه زمان الشعر و إبّانه، و ما قيل فيه فهو غرره و عيونه، و ما قصر من الشعر و قيل في المعنى الذي تومئ إليه أبلغ و أملح. و ما زال ينشّطني و يؤنسني حتى رأى أني قد أنست به، ثم قال لإبراهيم بن المهديّ:

إن رأى الأمير - أكرمه اللّه - أن يأمره بإنشادي ما حضر من الشعر. فقال لي إبراهيم: بحياتي يا محمد أنشده.

فأنشدته:

ربّ وعد منك لا أنساه لي *** أوجب الشكر و إن لم تفعلي

و ذكر الأبيات الأربعة. قال: فبكى أبو العتاهية حتى جرت دموعه على لحيته و جعل يردّد البيت الأخير منها و ينتحب، و قام فخرج و هو يردّده و يبكي حتى خرج إلى الباب.

ص: 370


1- تشوّرت: استحييت.
هو و خداع جارية خال المعتصم و أشعاره فيها

أخبرني عمي قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال حدّثني محمد بن عليّ بن أمية قال:

كان عمي محمد بن أمية يهوى جارية مغنّية يقال لها خداع كانت لبعض جواري خال(1) المعتصم، فكان يدعوها، و يعاشره إخوانه إذا دعوه بها اتّباعا لمسرته. و أراد المعتصم الخروج و التأهّب للغزو، و أمر الناس جميعا بالخروج، و التأهب، فدعاه بعض إخوانه قبل خروجهم بيوم، فلما أضحى النّهار جاء من المطر أمر(2) عظيم لم يقدر معه [أحد](3) أن يطلع رأسه من داره، فكاد/محمد أن يموت غمّا، فكتب إلى صديقه الذي دعاه [و قد كان ركب إليه ثم رجع لشدة المطر](3)، و لم يقدر على لقائه:

تمادى القطر و انقطع السبيل *** من الإلفين إذا جرت السيول

على أني ركبت إليك شوقا *** و وجه الأرض أودية تجول

و كان الشوق يقدمني دليلا *** و للمشتاق معتزما دليل

/فلم أجد السبيل إلى حبيب *** أودّعه و قد أفد(4) الرحيل

و أرسلت الرسول فغاب عنّي *** فيا للّه ما فعل الرسول!

و قال في ذلك أيضا:

مجلس يشفى به الوطر *** عاق عنه الغيم و المطر

ربّ خذ لي منهما فهما *** رحمة عمّت و لي ضرر

ما على مولاي معتبة(5) *** عذره باد و مستتر

شغلت عيني بعبرتها *** و استمالت قلبي الفكر

قال: ثم بيعت خداع هذه فاشتراها بعض ولد المهديّ و كان ينزل شارع الميدان، فحجبت عنه و انقطع ما بينهما إلاّ مكاتبة و مراسلة.

قال محمد بن عليّ فأنشدني يوما عمّي محمد لنفسه فيها:

خطرات الهوى بذكر خداع *** هجن شوقي لا دارسات الطلول

حجبت أن ترى فلست أراها *** و أرى أهلها بكل سبيل

و إذا جاءها الرسول رآها *** ليت عيني مكان عين الرسول

قد أتاك الرسول ينعت ما بي *** فاسمعي منه ما يقول و قولي

ص: 371


1- كلمة «خال» ساقطة من ف.
2- كذا في ف. و في سائر النسخ: «فلما أصبحوا جاء المطر أمرا عظيما».
3- التكملة من ف.
4- أفد: دنا.
5- المعتبة: الموجدة و السخط.

و قال فيها أيضا:

بناحية الميدان درب لو انني *** أسمّيه لم أرشد و إن كان مفسدي

أخاف على سكّانه قول حاسد *** يشير إليهم بالجفون و باليد

/و صائف أبكار و عون(1) نواطق *** بألسنة تشفي جوى الهائم الصّدي

يقاربن أهل الودّ بالقول في الهوى *** و ما النجم من معروفهن بأبعد

يزدن أخا الدنيا مجونا و فتنة *** و يشغفن(2) قلب الناسك المتعبّد

و ليلة وافى النوم طيف سرى به *** إليّ الهوى منهن بعد تجرّد

فقاسمته الأشجان نصفين بيننا *** و أوردته من لوعة الحب موردي

و نلت الذي أمّلت بعد تمنّع *** و عاهدته عهد امرئ متوكّد(3)

فلما افترقنا خاس بالعهد(4) بيننا *** و أعرض إعراض العروس من الغد

فوا ندما ألا أكون ارتهنته *** لأخبره في حفظ عهد و موعد

إعجاب أبي العتاهية بشعره

أخبرني الحسن بن عليّ و عمي قالا حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني حذيفة بن محمد قال قال لي محمد بن أبي العتاهية:

سمع أبي يوما مخارقا يغنّي:

أحبّك حبّا لو يفضّ(5) يسيره *** على الخلق مات الخلق من شدّة الحبّ

/و أعلم أنّي بعد ذاك مقصّر *** لأنّك في أعلى المراتب من قلبي

فطرب ثم قال له: من يقول هذا يا أبا المهنأ؟ قال: فتى من الكتّاب يخدم الأمير إبراهيم بن المهديّ. فقال:

تعني محمد بن أميّة؟ قال: نعم. قال أحسن و اللّه، و ما يزال يأتي بالشّيء المليح يبدو له.

مزاحه مع مسلم بن الوليد

أخبرني عمي قال حدّثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني أحمد بن أمية بن أبي أمية قال:

/لقي أخي محمّد بن أميّة مسلم بن الوليد و هو يمشي و طويلته(6) مع بعض رواته، فسلم عليه ثم قال له: قد حضرني شيء؛ فقال: هاته؛ فقال: على أنّه مزاح لا يغضب منه؛ قال: هاته و لو أنه شتم. فقال:

ص: 372


1- الوصائف: جمع وصيفة و هي الجارية دون المراهقة. عون: جمع عوان و هي المرأة النصف.
2- في ط: «و يشعفن».
3- في س، ب. «متأكد».
4- خاس بالعهد: نقضه و خانه.
5- يفض: يفرق.
6- الطويلة: يراد بها قلنسوة طويلة.

من رأى فيما خلا رجلا *** تيهه يربي على جدته(1)

يتباهى راجلا و له *** شاكريّ في قلنسيته(2)

فسكت عنه مسلم و لم يجبه، و ضحك منه محمد و افترقا.

مداعبة مسلم له حين نفق برذونه

قال: و كان لمحمد بن أميّة برذون يركبه، فلقيه مسلم و هو راجل فقال: ما فعل برذونك؟ قال: نفق. قال:

الحمد للّه، فنجازيك إذا على ما كان منك إلينا. ثم قال مسلم:

قل لابن ميّ(3) لا تكن جازعا *** لن يرجع البرذون باللّيت(4)

طامن أحشاءك فقدانه(5) *** و كنت فيه عالي الصوت

و كنت لا تنزل عن ظهره *** و لو من الحشّ إلى البيت(6)

ما مات من حتف(7) و لكنّه *** مات من الشّوق إلى الموت

تعلقه بإحدى الجواري و ما كان بينهما

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال حدّثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدّثني محمد بن علي بن أمية قال حدّثني حسين بن الضحاك قال:

دخلت أنا و محمد بن أميّة منزل نخّاس بالرّقة أيام الرشيد و عنده جارية تغنّي فوقعت عينها على محمد، و وقعت عينه عليها، فقال لها: يا جارية، أ تغنّين هذا الصوت:

/

خبّريني من الرسول إليك *** و اجعليه من لا ينمّ عليك

و أشيري إليّ من هو باللح *** ظ ليخفى على الذين لديك

و أقلّي المزاح في المجلس اليو *** م فإن المزاح بين يديك

فقالت له: ما أعرفه، و أشارت إلى خادم كان على رأسها واقفا. فمكثا زمانا و الخادم(8) الرسول بينهما. قال:

تغنى بشعر له عمرو الغزال فتطير إبراهيم بن المهدي و علم من في المجلس بنكبة البرامكة

حدّثني جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني بعض من كان يختلط بالبرامكة قال:

ص: 373


1- في ف: «أربي على جدته» وجدته، أي مقدار ما هو عليه من الغنى.
2- الشاكري: الأجير و المستخدم. و القلنسية و القلنسوة: من لباس الرأس.
3- كذا في ف و «ديوان مسلم» (ص 215) طبع ليدن. و في سائر الأصول: «أمي» تحريف.
4- الليت: أراد به التمني. و رواية هذا الشطر في «الديوان»: «ليت على البرذون من فوت».
5- رواية «الديوان»: «طأطأ من تيهك فقدانه».
6- الحش (بتثليث الحاء): يكنى به عن بيت الخلاء.
7- في ف: «من سقم». و الحتف: الهلاك، تقول العرب: مات فلان حتف أنفه، أي بلا ضر و لا قتل
8- في ف: «و الخادم الأسود».

كنت عند إبراهيم بن المهديّ، و قد اصطبحنا(1) و عنده عمرو بن بانة، و عبيد اللّه بن أبي غسان، و محمد بن عمرو الرومي، و عمرو الغزّال، و نحن في أطيب ما كنا عليه إذ غنّى عمرو الغزّال، و كان إبراهيم بن المهدي يستثقله، إلا أنه كان يتخفّف بين يديه و يقصده، و يبلغه عنه تقديم له و عصبيّة، فكان يحتمل ذاك منه، فاندفع عمرو الغزال، فتغنّى في شعر محمد بن أمية:

ما تمّ لي يوم سرور بمن *** أهواه مذ كنت إلى اللّيل

/أغبط ما كنت بما نلته *** منه أتتني الرسل بالويل

لا و الّذي يعلم كلّ الذي *** أقول ذي العزّة و الطّول

ما رمت مذ كنت لكم سخطة *** بالغيب في فعل و لا قول

قال: فتطيّر إبراهيم، و وضع القدح من يده، و قال: أعوذ باللّه من شر ما قلت. فو اللّه ما سكت - و أخذنا نتلافى إبراهيم - إذ أتى حاجبه يعدو فقال: مالك(2)؟ فقال: خرج الساعة مسرور من دار أمير المؤمنين حتى دخل إلى جعفر بن يحيى، فلم يلبث أن خرج و رأسه بين يديه و قبض على أبيه و إخوته(3). فقال إبراهيم: إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ ارفع يا غلام ارفع. فرفع ما كان بين أيدينا، و تفرقنا فما رأيت عمرا بعدها في داره.

كان يستطيب الشراب عند هبوب الجنوب

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدّثني الحسين بن يحيى الكاتب قال حدّثني محمد بن يحيى بن بُسخُنَّر قال:

كنت عند إبراهيم بن المهدي بالرّقّة و قد عزمنا على الشراب و معنا محمد بن أميّة في يوم من حزيران، فلما هممنا بذلك هبّت الجنوب، و تلطّخت السماء بغيم، و تكدّر ذلك اليوم، فترك إبراهيم بن المهدي الشّرب و لحقه صداع، و كان يناله ذلك مع هبوب الجنوب، فافترقنا؛ فقال لي محمّد بن أمية: ما أحبّ إليّ ما كرهتموه من الجنوب! فإن أنشدتك بيتين مليحين في معناهما تساعدني على الشرب اليوم؟ قلت: نعم. فأنشدني:

إنّ الجنوب إذا هبّت وجدت لها *** طيبا يذكّرني الفردوس إن نفحا

لمّا أتت بنسيم منك أعرفه *** شوقا تنفّست و استقبلتها فرحا

فانصرفت معه إلى منزله، و غنّيت في هذين البيتين و شربنا عليهما بقية يومنا.

ما قاله في تفاحة أهدتها إليه خداع

وجدت في بعض الكتب بغير إسناد: أهدت جارية يقال لها خداع إلى محمد بن أميّة - و كان يهواها - تفاحة مفلّجة(4) منقوشة مطيّبة حسنة، فكتب إليها محمد:

خداع أهديت لنا خدعة *** تفّاحة طيّبة النّشر

ص: 374


1- اصطبحنا: شربنا الصبوح.
2- في ف: «ما الخبر».
3- في ف: «و إخوته و أهله».
4- مفلجة: مقسمة.

ما زلت أرجوك و أخشى الهوى *** معتصما باللّه و الصّبر

حتى أتتني منك في ساعة *** زحزحت الأحزان عن صدري

حشوتها مسكا و نقّشتها *** و نقش كفيك من النّحر

سقيا لها تفاحة أهديت *** لو لم تكن(1) من خدع الدّهر

التقى بجارية يهواها و شعره في ذلك

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن جعفر اليقطيني قال حدّثني أبي جعفر بن علي بن يقطين قال:

/كنت أسير أنا و محمد بن أمية في شارع الميدان، فاستقبلتنا جارية - كان محمّد يهواها ثم بيعت - و هي راكبة، فكلّمها، فأجابته بجواب أخفته فلم يفهمه، فأقبل عليّ و قد تغيّر لونه فقال:

يا جعفر بن علي و ابن يقطين *** أ ليس دون الذي لاقيت يكفيني

هذا الذي لم تزل نفسي تخوّفني *** منها فأين الذي كان تمنّيني

خاطرت إذ أقبلت نحوي و قلت لها *** تفديك نفسي فداء غير ممنون

/فخاطبتني بما اخفته فانصرفت(2) *** نفسي بظنّين مخشيّ و مأمون

تمثل المنتصر ببيت له

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلبيّ قال حدّثني أبي قال:

كنت بين يدي المنتصر جالسا فجاءته رقعة لا أعلم ممّن هي، فقرأها و تبسّم ثم إنه أقبل عليّ و أنشد:

لطافة كاتب و خشوع ضبّ *** و فطنة شاعر عند الجواب

ثم أقبل عليّ فقال: من يقول هذا يا يزيد؟ فقلت: محمد بن أميّة يا أمير المؤمنين. فضحك و قال: كأنه و اللّه يصف ما في هذه الرّقعة.

عاتبه أخوه و ابن قنبر لما لحقه من و له كالجنون لبيع جارية يحبها

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني حذيفة بن محمّد قال:

كنت أنا و ابن قنبر عند محمد بن أميّة بعقب بيع جارية كان يحبّها و قد لحقه عليها و له كالجنون، فجعل ابن قنبر و أخوه عليّ بن أمية يعاتبانه على ما يظهر منه، فأقبل بوجهه عليهما ثم قال:

/

لو كنت جرّبت الهوى يا ابن قنبر *** كوصفك إياه لألهاك عن عذلي

أنا و أخي الأدنى و أنت لها الفدا *** و إن لم تكونا في مودّتها مثلي

أ أن حجبت عني أجود لغيرها *** بودّي و هل يغرى المحبّ سوى البخل

ص: 375


1- في ف: «إن لم تكن».
2- في ف: «و انصرفت».

أسرّ بأن قالوا تضنّ بودّها *** عليك و من ذا سرّ بالبخل من قبل

قال: فضحك ابن قنبر، و قال: إذا كان الأمر هكذا فكن أنت الفداء لها، و إن ساعدك أخوك فاتّفقا على ذلك، و أما أنا فلست أنشط لأن أساعدك على هذا. و افترقنا.

قطع الصوم بينه و بين خداع فقال شعرا

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني محمد بن الحسن بن الحزوّر(1) لمحمد بن أمية في جارية كان يهواها و قطع الصوم بينهما، فقال يخاطب محمد بن عثمان بن خريم المرّيّ:

قفا فابكيا إن كنتما تجدان *** كوجدي و إن لم تبكيا فدعاني

ففي الدّمع مما تضمر النفس راحة *** إذا لم أطق إظهاره بلساني

أغصّ بأسراري إذا ما لقيتها *** فأبهت مشدوها أعضّ بناني

فيا ابن خريم يا أخي دون إخوتي *** و من هو لي مثلي بكل مكان

تأمّل أ حظّي من خداع و حبّها *** سوى خدع تذكي الهوى و أماني

و أصبح شهر الصوم قد خال بيننا *** فيا ليت شوّالا أتى بزمان

شعر له فيها استحسنه ابن المعتز
اشارة

أنشدني جعفر بن قدامة قال أنشدني عبد اللّه بن المعتزّ قال أنشدني أبو عبد اللّه الهشاميّ لمحمد بن أمية، و فيه غناء لمتيّم، قال و استحسنه عبد اللّه:

صوت

عجبا عجبت لمذنب متغضّب *** لو لا قبيح فعاله لم أعجب

أخداع، طال على الفراش تقلّبي *** و إليك طول تشوّفي و تطرّبي

لهفي عليك و ما يردّ تلهفي *** قصرت يداي و عزّ وجه المطلب(2)

الغناء لمتيّم، فيه لحنان: رمل عن ابن المعتز، و خفيف رمل عن الهشامي. و هذا من شعر محمد فيها بعد أن بيعت. قال: و غنتنا هزار هذا الصوت(3) يومئذ.

أشعاره فيها إذ فقدها و حين وجدها
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثنا أحمد بن محمد/الفيرزان(4) قال حدّثني شيبة بن هشام قال: دعانا محمد بن أميّة يوما و وجّه إلى جارية كان يحبها فدعاها، و بعث إلى مولاها يحدرها(5) مع رسوله، فأبطأ الرسول حتّى انتصف النهار ثم

ص: 376


1- في ف: «الحرون».
2- هذا البيت ساقط من ط.
3- كذا في ف. و في سائر الأصول: «هذا اللحن».
4- كذا في ط، ف. و في سائر الأصول: «أحمد بن المرزبان».
5- يحدرها: يريد يرسلها.

عاد و ليست معه و قال: أخذوا مني الدراهم ثم ردوها عليّ، و رأيتهم مختلطين، و لهم قصة لم يعرّفونيها، و قالوا:

ليست هاهنا فإن عادت بعثنا بها إليكم. فتنغّص عليه يومه و تغيّر وجهه و تجمّل لنا؛ ثم بكرنا من غد بأجمعنا إلى منزل مولاها فإذا هي قد بيعت، فوجم طويلا(1)، و سار حتى إذا خلا لنا الطريق اندفع باكيا. فما أنسى حرقة بكائه و هو ينشدني:

تخطّى إليّ الدهر من بين من أرى *** و سوء مقادير لهنّ شئون

فشتّت شملي دون كلّ أخي هوى *** و أقصدني(2) بل كلّهم سيبين

و مهما تكن من ضحكة بعد فقدها *** فإنّي و إن أظهرتها لحزين

سلام على أيّامنا قبل هذه *** إذ الدار دار و السرور فنون

/قال: و مضت على ذلك مدّة. ثم أخبرني أنه اجتاز بها، و هي تنظر من وراء شبّاك، فسلّم عليها فأومأت بالسلام إليه و دخلت، فقال:

تطالعني على وجل خداع *** من الشّبك التي عملت حديدا

مطالعتي، قفي باللّه حتّى *** أزوّد مقلتي نظرا جديدا

فقالت إن سها الواشون عنّا *** رجونا أن تعود و أن نعودا

و أنشدني أيضا في ذلك:

صوت

يا صاحب الشّبك الذي اس *** تخفى، مكانك غير خاف

أ فما رأيت تلدّدي *** بفناء قصرك و اختلافي(3)

أ و ما رحمت تخشّعي(4) *** و تلفّتي بعد انصرافي

صوت

إنّ(5) الرجال لهم إليك وسيلة *** إن يأخذوك تكحّلي و تخضّبي

و أنا امرؤ إن يأخذوني عنوة *** أقرن إلى سير الركاب و أجنب

و يكون مركبك القعود و حدجه(6) *** و ابن النّعامة يوم ذلك مركبي

ص: 377


1- في ف: «قليلا».
2- أقصدني: طعنني و لم يخطئني.
3- تلددي: مكثي و وقوفي. و اختلافي: ترددي.
4- تخشعي: تضرعي.
5- هذا الشعر و ما يليه حتى أوّل ترجمة المتوكل و أخباره ساقط من نسختي ط، م.
6- الحدج (بالكسر): مركب من مراكب النساء نحو الهودج.

عروضه من الكامل. قال ابن الأعرابيّ في تفسير قوله:

و ابن النعامة يوم ذلك مركبي

ابن النعامة: ظلّ الإنسان أو الفرس أو غيره. قال جرير:

إذ ظلّ يحسب كلّ شيء(1) فارسا *** و يرى نعامة ظلّه فيحول(2)

/يعني بنعامة ظلّه جسده. و قال أبو عمرو الشيبانيّ: النّعامة ما يلي الأصابع(3) في مقدّم الرّجل. يقول:

مركبي يومئذ رجلي. و قال الجاحظ: ذكر علماؤنا البصريون: أنّ النعامة اسم فرسه. يقول: إنّي أشدّ على ركابي السرج فإذا صار للفرس - و هو الذي يسمّى النعامة - ظلّ و أنا مقرون إليه صار ظله تحتي فكنت راكبا له. و جعل ظلها هاهنا ابنها.

الشعر للحارث بن(4) لوذان بن عوف بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. و قال/ابن سلام:

لخزز(5) لوذان. و من الناس من ينسب هذا الشعر إلى عنترة، و ذلك خطأ. و أحد من نسبه إليه إسحاق الموصليّ.

و الغناء لعزة الميلاء. و أوّل لحنها:

لمن الديار عرفتها بالشّربب(6) *** ذهب الذين بها و لمّا تذهب

و بعده «إن الرجال».

و طريقته من خفيف الثقيل الأوّل بالبنصر من روايتي حمّاد و ابن المكّيّ. و فيه للهذيل خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ. و فيه لعريب خفيف رمل. و فيه لعزة المرزوقيّة لحن. و قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات:

هذا اللحن لريق، سلخت لحن «و مخنث شهد الزفاف و قبله» فجعلته لهذا، و هو(7) لحن محرّك يشبه صنعة ابن سريج و صنعة حكم في محركاتهما، فمن هنا يغلط فيه و يظن أنه قديم الصنعة.

ابن أبي عتيق يعجب بغناء عزة الميلاء

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدّثت عن صالح بن حسان قال: كان ابن أبي عتيق معجبا بغناء عزة الميلاء كثير الزيارة لها، و كان يختار عليها قوله:

لمن الديار عرفتها بالشّربب

/فسألها يوما زيارته فأجابته إلى ذلك و مضت نحوه، فقال لها بعد أن استقرّ بها المجلس: يا عزة، أحبّ أن تغنيني صوتي الذي أنا له عاشق. فغنته هذا الصوت، فطرب كل الطرب و سر غاية السرور.

ص: 378


1- في «الديوان»: «كل شخص».
2- كذا في ف، و في سائر الأصول: «إن ضل...... و رأى......».
3- في ب، س: «عامل الأصابع».
4- في ف: «للحارث بن لوداد». و في سائر النسخ: «للحز بن لوذان». و الصواب ما أثبتنا من الجمع بينهما.
5- كذا في ف، و «الحيوان» للجاحظ (ج 4 ص 363 طبعة الحلبي). و في سائر الأصول: «الجرور بالراء».
6- الشربب: واد في ديار بني ربيعة، و في س، ب: «الشرنب» تحريف.
7- كذا في ف. و في سائر الأصول: «و له».
جارية ابن أبي عتيق و معابثة فتى لها
اشارة

و كانت له جارية، و كان فتى من أهل المدينة كثيرا ما يعبث بها؛ فأعلمت [ابن أبي عتيق بذلك؛ فقال لها:

قولي له: و أنا أحبّك؛ فإذا قال لك: و كيف لي بك؟ فقولي له: مولاي يخرج غدا إلى مال له، فإذا خرج أدخلتك المنزل. و جمع](1) ابن أبي عتيق ناسا من أصحابه فأجلسهم في بيته [و معهم عزة الميلاء](1)، و أدخلت الجارية [الرجل. و قال لعزة: غني فأعادت الصوت. و خرجت الجارية](1) فمكثت ساعة ثم دخلت البيت كأنها تطلب حاجة، فقال لها: تعالي. فقالت: الآن آتيك. ثم عادت فدعاها فاعتلّت(2)، فوثب فأخذها فضرب بها الحجلة(3)، فضحك ابن أبي عتيق عليه هو و أصحابه، فقال لهم و هو غير مكترث: يا فسّاق ما يجلسكم هاهنا مع هذه المغنية! فضحك ابن أبي عتيق من قوله و قال له: استر علينا ستر اللّه تعالى عليك. فقالت له عزّة: يا ابن الصّدّيق(4)، ما أظرف هذا لو لا فسقه! فاستحيا الرجل فخرج، و بلغه أن ابن أبي عتيق قد آلى إن هو وقع في يده أن يصير به إلى السلطان.

فأقبل يعبث بها كلما خرجت، فشكت ذلك إلى مولاها، فقال لها: أ و لم يرتدع من العبث بك! قالت: لا. قال:

فهيّئي الرحى و هيئي من الطعام طحين ليلة إلى الغداة. فقالت: أفعل يا مولاي. فهيّأت ذلك على ما أمرها به ثم قال لها: عديه الليلة فإذا جاء فقولي له: إن وظيفتي الليلة طحن هذا البر كلّه ثم اخرجي من البيت و اتركيه. ففعلت، فلما دخل طحنت الجارية قليلا، ثم قالت(5)/له: إن كفّت الرحى فإن مولاي جاء إليّ أو بعض من وكله بي، فاطحن حتى نأمن أن يجيئنا أحد، ثم أصير إلى قضاء حاجتك. ففعل الفتى و مضت الجارية إلى مولاها و تركته.

و قد أمر ابن أبي عتيق عدّة من مولياته أن يتراوحن(6) على سهر ليلتهن و يتفقّدن أمر الطحين و يحثثن الفتى عليه كلما أمسك؛ ففعلن، و جعلن ينادينه كلما كفّ: يا فلانة إنّ مولاك مستيقظ؛ و الساعة يعلم أنك كففت عن الطحن، فيقوم إليك بالعصا كعادته مع من كانت نوبتها قبلك إذا هي نامت و كفّت عن الطحن. فلم يزل الفتى كلّما سمع ذلك الكلام يجتهد في العمل و الجارية تتعهد و تقول: قد استيقظ مولاي. و الساعة ينام فأصير إلى ما تحب. فلم يزل الرجل يطحن حتى/أصبح و فرغ من جميع القمح. فلما فرغ و علمت الجارية أتته فقالت: قد أصبحت فانج بنفسك. فقال: أو قد فعلتها يا عدوّة اللّه! فخرج تعبا نصبا فأعقبه ذلك مرضا شديدا أشرف منه على الموت، و عاهد اللّه تعالى ألا يعود إلى كلامها، فلم تر منه بعد ذلك شيئا ينكر(7).

صوت

أجدّ اليوم جيرتك احتمالا *** و حثّ حداتهم بهم عجالا

ص: 379


1- الزيادة عن ف.
2- اعتلت: اعتذرت.
3- الحجلة بالتحريك: بيت كالقبة يستر بالثياب و يكون له أزرار كبار، و حجلة العروس: بيت يزين بالثياب و الأسرّة و الستور.
4- تريد ابن أبي عتيق و هو عبد اللّه بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر. «تهذيب التهذيب» (ج 6 ص 11).
5- في ب، س: «كفت».
6- يتراوحن: يتناوبن.
7- كذا في ف. و في سائر النسخ: «فلم ير بعد ذلك منه شيئا كثيرا».

و في الأظعان آنسة لعوب *** ترى قتلى بغير دم حلالا(1)

عروضه من الوافر. الشعر للمتوكل الليثيّ، و الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن مسجح ثاني ثقيل آخر بالخنصر في مجرى البنصر عنه. و ذكر حبش أن هذا اللحن لابن سريج، و فيه لإسحاق هزج.

ص: 380


1- الأظعان: جمع ظعينة و هي المرأة في الهودج، سميت به على حد تسمية الشيء باسم الشيء لقربه منه، لأن الظعينة: الهودج تكون فيه المرأة، و قيل: «أو لم تكن».

13 - نسب المتوكّل الليثي و أخباره

نسبه

هو المتوكل بن عبد اللّه بن نهشل بن مسافع بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر بن عوف(1) بن عامر بن ليث ابن بكر بن عبد مناة(2) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. من شعراء الإسلام، و هو من أهل الكوفة. كان في عصر معاوية و ابنه يزيد، و مدحهما. و يكنى أبا جهمة. و قد اجتمع مع الأخطل و ناشده عند قبيصة ابن والق، و يقال عند عكرمة بن ربعيّ الذي يقال له الفيّاض، فقدمه الأخطل.

و هذه القصيدة التي أوّلها الغناء قصيدة هجا بها عكرمة بن ربعيّ و خبره معه(3) يذكر بعد.

أخبرني بذلك الحسن بن عليّ عن أحمد بن سعيد الدمشقيّ عن الزبير بن بكّار عن عمه.

تناشد هو و الأخطل الشعر

و أخبرني الحسن(4) بن عليّ عن أحمد بن سعيد الدمشقيّ قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال أخبرني هارون بن مسلم قال حدّثني حفص بن عمر العمريّ عن لقيط بن بكير(5) المحاربيّ قال:

قدم الأخطل الكوفة فنزل على قبيصة بن والق، فقال المتوكّل بن عبد اللّه الليثيّ(6) لرجل من قومه: انطلق بنا إلى الأخطل نستنشده و نسمع من شعره. فأتياه فقالا: أنشدنا يا أبا مالك. فقال: إني لخاثر(7) يومي هذا. فقال له المتوكل: أنشدنا أيها الرجل، فو اللّه لا تنشدني قصيدة إلا أنشدتك مثلها أو أشعر منها من/شعري. قال: و من أنت؟ قال: أنا المتوكل(8). قال: أنشدني(9) ويحك من شعرك! فأنشده:

للغانيات بذي المجاز(10) رسوم *** فببطن مكة عهدهنّ قديم

فبمنحر البدن المقلّد من منى *** حلل تلوح كأنهنّ نجوم(11)

ص: 381


1- في «معجم الشعراء» للمرزباني: «عوف بن كعب بن عامر».
2- إلى هذه الكلمة ينتهي النسب في ف.
3- في ف: «و خبره يذكر بعد».
4- في ف: «و أخبرني الحسن قال». و في ح: «عن محمد بن سعيد».
5- في ج: «ابن بكر». و في ف: «ابن بكير قال».
6- كلمة «الليثي» ليست في ف.
7- يقال خثرت نفسه بالفتح: غثت و خبثت و ثقلت و اختلطت.
8- في ج: «قال: المتوكل».
9- في ف: «ويحك! أنشدني».
10- ذو المجاز: موضع سوق بعرفة، و ماء لهذيل بعرفة.
11- الحلل: جمع حلّة، و هي جماعة بيوت القوم. كأنهن نجوم، أي تبدو بدوا ضئيلا كما يبدو النجم، أو هي متفرقة تفرق النجم.

لا تنه عن خلق و تأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم(1)

و الهمّ إن لم تمضه لسبيله *** داء تضمّنه الضلوع مقيم(2)

غنّى في هذه الأبيات سائب خاثر من رواية حماد عن أبيه و لم يجنّسه.

قال و أنشده أيضا:

الشّعر لبّ المرء يعرضه *** و القول مثل مواقع النّبل

منها المقصّر عن رميّته *** و نوافذ يذهبن بالخصل(3)

قال و أنشده أيضا:

/

إنّنا معشر(4) خلقنا صدورا *** من يسوّي الصّدور بالأذناب

قال له الأخطل: ويحك يا متوكل(5)! لو نبحت الخمر في جوفك كنت أشعر الناس.

ما قاله في زوجه رهيمة حين طلبت الطلاق

قال الطوسيّ قال الأصمعيّ: كانت للمتوكل بن عبد اللّه الكنانيّ امرأة يقال لها رهيمة - و يقال أميمة - و تكنى أمّ بكر، فأقعدت، فسألته الطلاق، فقال: ليس هذا حين طلاق. فأبت عليه، فطلقها، ثم إنها برئت بعد الطلاق، فقال في ذلك:

/

طربت و شاقني يا أمّ بكر *** دعاء حمامة تدعو حماما

فبتّ و بات همّي لي نجيّا *** أعزّى عنك قلبا مستهاما

إذا ذكرت لقلبك أمّ بكر *** يبيت كأنما اغتبق المداما

خدلجّة ترفّ غروب فيها *** و تكسو المتن ذا خصل سخاما(6)

أبى قلبي فما يهوى سواها *** و إن كانت مودّتها غراما(7)

ينام الليل كلّ خليّ همّ *** [و تأبى العين منّي أن تناما

أراعي التّاليات من الثّريّا](8)*** و دمع العين منحدر سجاما(9)

ص: 382


1- هذا البيت يروى لأبي الأسود الدؤلي.
2- في ف: «قديم».
3- الخصل: الخطر، و هو السبق الذي يتراهن عليه.
4- في ج: «إنا معشر».
5- هذه العبارة، ساقطة من ف.
6- الخدلجة: الممتلئة الذراعين و الساقين. و ترف: تبرق. و غروب الفم: ماؤه. و الخصل: جمع خصلة، و هي اللفيفة من الشعر. و السّخام: اللين الحسن و الأسود.
7- الغرام: العذاب. و صدر البيت في ج: «أيا قلبي فما تهوى سواها».
8- زيادة عن ف.
9- ورد هذا الشطر في أكثر النسخ عجزا للبيت السابق و فيه تحريف. و التصويب عن نسخة ف.

على حين ارعويت و كان رأسي *** كأنّ على مفارقه ثغاما(1)

سعى الواشون حتى أزعجوها *** و رثّ الحبل فانجذم انجذاما

فلست بزائل ما دمت حيّا *** مسرّا من تذكّرها هياما

ترجّيها و قد شحطت نواها *** و منّتك المنى عاما فعاما

خدلجّة لها كفل وثير *** ينوء بها إذا قامت قياما

مخصّرة ترى في الكشح منها *** على تثقيل أسفلها انهضاما

إذا ابتسمت تلألأ ضوء برق *** تهلّل في الدّجنّة ثم داما

و إن قامت تأمّل رائياها *** غمامة صيّف و لجت غماما(2)

/إذا تمشي تقول دبيب أيم *** تعرّج ساعة ثم استقاما(3)

و إن جلست فدمية بيت عيد *** تصان و لا ترى إلا لماما

فلو أشكو الذي أكشو إليها *** إلى حجر لراجعني الكلاما

أحبّ دنوّها و تحبّ نأيي *** و تعتام التنائي(4) لي اعتياما

كأني من تذكّر أم بكر *** جريح أسنّة يشكو كلاما

تساقط أنفسا نفسي عليها *** إذا شحطت و تغتمّ اغتماما(5)

غشيت لها منازل مقفرات *** عفت إلا الأياصر و الثّماما(6)

و نؤيا قد تهدّم جانباه *** و مبناها بذي سلم خياما(7)

صليني و اعلمي أني كريم *** و أنّ حلاوتي خلطت عراما(8)

و أني ذو مجامحة صليب *** خلقت لمن يماكسني لجاما(9)

فلا و أبيك لا أنساك حتى *** تجاوب هامتي في القبر هاما(10)

ص: 383


1- الثغام كسحاب: نبت، و يقال أثغم الرأس إذا صار كالثغامة بياضا.
2- الصيف: المطر الذي يجيء صيفا.
3- كذا في ف. و في ط، ب، م: «دبيب سيل». و في سائر النسخ: «دبيب شول». و الأيم: الحية.
4- في ف: «و تعتام التباعد». و تعتام: تختار.
5- شحطت: بعدت.
6- الأياصر: جمع أيصر، و هو وتد الطنب، أو حبل صغير يشد به أسفل الخباء. و الثمام: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص، و ربما حشى وسد به خصاص البيوت.
7- النؤي: الحفير حول الخباء أو الخيمة يمنع السيل. في ف: «بذي السلم الخياما». و في ط، م: «تهدم جانباها».
8- عراما: شراسة و أذى. في س، ج؛ «عزاما».
9- يماكسني: يشاكسني. و في ف: «يشاكسني».
10- الهامة: الرأس. و الهام: جمع هامة، و هي طائر يزعمون أنه يخرج من رأس القتيل فيظل يصيح: اسقوني اسقوني، حتى يؤخذ بثأره.
شعر آخر له في امرأته يمدح فيه حوشبا الشيباني
اشارة

و القصيدة التي فيها الغناء المذكور في أوّل خبر المتوكل يقولها أيضا في امرأته هذه/و يمدح فيها حوشبا الشّيبانيّ، و يقول فيها:

إذا وعدتك معروفا لوته *** و عجّلت التّجرّم و المطالا(1)

لها بشر نقيّ اللون صاف *** و متن حطّ(2) فاعتدل اعتدالا

/إذا تمشى تأوّد جانباها *** و كاد الخصر ينخزل انخزالا(3)

تنوء بها روادفها إذا ما *** وشاحاها على المتنين جالا(4)

فإن تصبح أميمة قد تولّت *** و عاد الوصل صرما و اعتلالا

فقد تدنو النوى بعد اغتراب *** بها و تفرّق الحيّ الحلالا(5)

تعبّس لي أميمة بعد أنس *** فما أدري أ سخطا أم دلالا

أبيني لي فرب أخ مصاف *** رزئت و ما أحب به بدالا(6)

أصرم منك هذا أم دلال *** فقد عنى الدلال إذا و طالا(7)

أم استبدلت بي و مللت وصلي *** فبوحي لي به و دعي المحالا(8)

فلا و أبيك ما أهوى خليلا *** أقاتله على وصلي قتالا

و كم من كاشح يا أمّ بكر *** من البغضاء يأتكل ائتكالا

لبست على قناع من أذاه *** و لو لا اللّه كنت له نكالا(9)

و مما يغنى به من هذه القصيدة قوله:

صوت

أنا الصقر الذي حدّثت عنه *** عتاق الطير تندخل اندخالا(10)

رأيت الغانيات صدفن لما *** رأين الشيب قد شمل القذالا

ص: 384


1- تجرم عليه: ادعى عليه الجرم.
2- يقال: جارية محطوطة المتن؛ أي ممدودة.
3- تأود: انعطف. و ينخزل: ينقطع.
4- في ف: «روادفها تنوء بها إذا ما». و الوشاح ينسج من أديم عريضا و يرصع بالجواهر و تشدّه المرأة بين عاتقها و كشحيها.
5- النوى: البعد، و هي مؤنثة. الحلال: القوم الذي يحلون موضعا و فيهم كثرة.
6- المصافي: المخلص.
7- عنى، من العناء: و هو التعب و النصب.
8- المحال: الكيد و المكر.
9- لم يذكر هذا البيت في ح.
10- عتاق الطير: جوارحها.

فلم يلووا إذا رحلوا(1) و لكن *** تولّت عيرهم بهم عجالا

/غنّى فيه عمر الواديّ خفيف رمل عن الهشاميّ. و ذكر حبش أنّ فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى، و أحسبه مضافا إلى لحنه الذي في أوّل القصيدة.

هجاه معن بن حمل فترفع عنه ثم هجاه و اعتذر

و قال الطوسي قال أبو عمرو الشيباني:

هجا معن بن حمل بن جعونة(2) بن وهب، أحد بني لقيط بن يعمر المتوكل بن عبد اللّه الليثي؛ و بلغ ذلك المتوكل، فترفع عن أن يجيبه، و مكث معن سنين يهجوه و المتوكل معرض عنه. ثم هجاه بعد ذلك و هجا قومه من بني الديل هجاء قذعا استحيا منه و ندم، ثم قال المتوكل لقومه يعتذر و يمدح يزيد بن معاوية:

خليليّ عوجا اليوم و انتظراني *** فإن الهوى و الهمّ أمّ أبان

هي الشمس يدنو لي قريبا بعيدها *** أرى الشمس ما أسطيعها و تراني

نأت بعد قرب دارها و تبدّلت *** بنا بدلا و الدهر ذو حدثان

فهاج الهوى و الشوق لي ذكر حرّة *** من المرجحنّات الثقال حصان(3)

غنى في هذه الأبيات ابن محرز من كتاب يونس و لم يجنسه(4):

سيعلم قومي أنني كنت سورة *** من المجد إن داعي المنون دعاني

/ألا ربّ مسرور بموتي لو أتى(5) *** و آخر لو أنعى له لبكاني

خليليّ ما لام امرأ مثل نفسه *** إذا هي لامت فاربعا و دعاني(6)

ندمت على شتمي العشيرة بعد ما *** تغنّى بها غوري(7) و حنّ يماني

/قلبت لهم ظهر المجنّ و ليتني *** رجعت بفضل من يدي و لساني

على أنني لم أرم في الشعر مسلما *** و لم أهج من روى و هجاني(8)

هم بطروا الحلم الذي من سجيّتي *** فبدّلت قومي شدّة بليان(9)

ص: 385


1- في ف: «و قد رحلوا».
2- في ف: «معونة».
3- مرجحنات: جمع مرجحنة، و هي المرأة السمينة. حصان: عفيفة.
4- في ف: «و لم يجنسه يقول فيها».
5- في ف: «إذ أتى».
6- اربعا: توقفا و كفا و ارفقا.
7- كذا في ط، و فيه تخفيف المشدد ثم إسكانه. و في ب، س، ح: «عود»، و في ف: «....... بعد ما حدا بالقوافي مشئم و يماني»
8- في ح: «و لا أهج إلا من ذوي و هجاني».
9- بطروا: كرهوا.

و لو شئتم أولاد وهب نزعتم *** و نحن جميع شملنا أخوان

نهيتم أخاكم عن هجائي و قد مضى *** له بعد حول كامل سنتان

فلجّ و منّاه رجال رأيتهم *** إذا قارنوني(1) يكرهون قراني

و كنت امرأ يأبى لي الضّيم أنني *** صروم إذا الأمر المهمّ عناني(2)

وصول صروم لا أقول لمدبر *** هلمّ إذا ما اغتشّني و عصاني

خليليّ لو كنت امرأ بي سقطة *** تضعضعت أو زلّت بي القدمان

أعيش على بغي العداة و رغمهم *** و آتي الّذي أهوى على الشنآن

و لكنّني ثبت المريرة حازم *** إذا صاح طلاّبي ملأت عناني(3)

خليليّ كم من كاشح قد رميته *** بقافية مشهورة و رماني

فكان كذات الحيض لم تبق ماءها *** و لم تنق عنها غسلها لأوان(4)

ثم إنه يقول فيها ليزيد بن معاوية:

أبا خالد حنّت إليك مطيّتي *** على بعد منتاب و هول جنان

أبا خالد في الأرض نأي و مفسح *** لذي مرّة(5) يرمى به الرّجوان(6)

فكيف ينام الليل حرّ عطاؤه *** ثلاث لرأس الحول أو مائتان

/تناهت قلوصي بعد إسآدي السّرى *** إلى ملك جزل العطاء هجان(7)

ترى الناس أفواجا ينوبون بابه *** لبكر من الحاجات أو لعوان(8)

معن أجابه مفتخرا

فأجابه معن بن حمل فقال:

ندمت كذاك العبد يندم بعد ما *** غلبت و سار الشعر كلّ مكان

و لاقيت قرما في أرومة ماجد *** كريما عزيزا دائم الخطران(9)

ص: 386


1- كذا في ف. و في سائر النسخ: «صارموني».
2- في ح: «دعاني».
3- في ف: «جازم إذا ماج».
4- كذا في أكثر الأصول، و في ج : «لم يبق ماؤها و لم يبق عنها».
5- كذا في ح، و في سائر الأصول: «بذي مرة».
6- الرجا: ناحية كل شيء، و خص بعضهم به ناحية البئر من أعلاها إلى أسفلها، و يرمى به الرجوان؛ أي استهين به؛ فكأنه يرمي به هنالك و يطرح في المهالك. انظر «اللسان» (رجا).
7- الإساد: الإسراع في السير. و السرى: السير آخر الليل. و الهجان: الرجل الحسيب.
8- في ج: «غير عوان».
9- القرم من الرجال: السيد المعظم.

أنا الشاعر المعروف وجهي و نسبتي *** أعفّ و تحميني يدي و لساني

و أغلب من هاجيت عفوا و أنتمي *** إلى معشر بيض الوجوه حسان(1)

فهات إذا يا ابن الأتان كصاحب ال *** ملوك أبي، أسيّد كمهان!

فهات كزيد أو كسيحان لا تجد *** لهم كفوا أو يبعث الثقلان

هو و عكرمة بن ربعي

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا العتبيّ(2) عن العباس بن هشام عن أبيه عن عوانة قال:

أتى المتوكل الليثي عكرمة بن ربعيّ الذي يقال له الفياض، فامتدحه فحرمه، /فقيل له: جاءك شاعر العرب فحرمته! فقال: ما عرفته. فأرسل إليه بأربعة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها و قال: حرمني على رءوس الناس و يبعث إليّ سرا.

نسيبه بحسناء و هو يعاني الرمد و هجاؤه عكرمة
اشارة

فبينا المتوكل بالحيرة و قد رمد رمدا شديدا، فمرّ به قسّ منهم فقال: مالك؟ قال: رمدت. قال: أنا أعالجك.

قال: فافعل. فذرّه(3)، فبينا القس عنده و هو مذرور العين مستلق على ظهره، يفكر في هجاء عكرمة - و ذلك غير مطّرد له و لا القول في معناه - إذ أتاه غلام له فقال: بالباب امرأة تدعوك. فمسح عينيه و خرج إليها، فسفرت عن وجهها فإذا الشمس(4) طالعة/حسنا، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: أمية. قال: فممن أنت؟ فلم تخبره. قال: فما حاجتك؟ قالت: بلغني أنك شاعر فأحببت أن تنسب بي في شعرك. فقال: أسفري. ففعلت فكرّ(5) طرفه في وجهها مصعّدا و مصوّبا، ثم تلثّمت و ولّت عنه، فاطّرد له القول الذي كان استصعب عليه في هجاء عكرمة و افتتحه بالنسيب فقال:

أجدّ اليوم جيرتك احتمالا *** و حثّ حداتهم بهم الجمالا(6)

و في الأظعان آنسة لعوب *** ترى قتلي بغير دم حلالا(7)

أميّة يوم دير القسّ ضنّت *** علينا أن تنوّلنا نوالا

أبيني لي فربّ أخ مصاف *** رزئت و ما أحب به بدالا

و قال فيها يهجو عكرمة:

أقلني يا ابن ربعيّ ثنائي *** وهبها مدحة ذهبت ضلالا

ص: 387


1- في م، ط، ب، س: «و إنني».
2- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «العكلي».
3- الذر: طرح الذرور في العين، و هو الكحل و نحوه.
4- في ف: «فإذا الشمس حسنا».
5- كذا في ف، ط. و في سائر النسخ: «فكرر».
6- في ف: «عجالا».
7- في ف، ح: «كعوب».

وهبها مدحة لم تغن شيئا *** و قولا عاد أكثره وبالا

وجدنا العزّ من أولاد بكر *** إلى الذّهلين يرجع و الفعالا(1)

أ عكرم كنت كالمبتاع دارا(2) *** رأى بيع الندامة فاستقالا

بنو شيبان أكرم آل بكر *** و أمتنهم إذا عقدوا حبالا

رجال أعطيت أحلام عاد *** إذا نطقوا و أيديها الطوالا

و تيم اللّه حيّ حيّ صدق *** و لكنّ الرّحى تعلو الثّفالا(3)

صوت

سقى دمنتين لم نجد لهما أهلا *** بحقل لكم يا عزّ قد رابني حقلا(4)

فيا عزّ إن واش وشى بي عندكم *** فلا تكرميه أن تقولي له مهلا

كما نحن لو واش وشى بك عندنا *** لقلنا تزحزح لا قريبا و لا سهلا

أ لم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا *** و أن يحدث الشيب الملمّ لي العقلا

على حين صار الرأس منّي كأنما *** علت(5) فوقه ندّافة العطب الغزلا

عروضه من الطويل. الدّمن: آثار الديار، واحدتها دمنة. و الحقل: الأرض التي يزرع فيها. و العطب هو القطن.

الشعر لكثيّر كلّه إلا البيت الأوّل فإنه انتحله، و هو الأفوه الأوديّ. و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ في الثلاثة الأبيات الأوّل متوالية. و ذكر حبش أنه(6) لمعبد. و في الرابع و الخامس و الثاني و الثالث لحنين ثقيل/أوّل بالسّبابة في مجرى البنصر(7) عن اسحاق، و فيه ثقيل أوّل بالبنصر؛ ذكر ابن المكيّ أنه لمعبد، و ذكر الهشامي أنه من منحول(8) يحيى المكيّ.

ص: 388


1- كذا في ب، س، ح. و في ف، ط: «الغر».
2- كذا في ف، و هو الصواب. و في سائر النسخ: «داء».
3- الثفال: ما وقيت به الرحى من الأرض.
4- نسب ياقوت هذا البيت لكثير و قال: «حقل مكان دون أيلة بستة عشر ميلا كان لعزة صاحبة كثير فيه يستان»، و روايته: «قد زانتا».
5- كذا في الأصول. و البيت لم يرد في ف.
6- كذا في ف * و في سائر الأصول: «إنها».
7- في ف: «الوسطى».
8- في س، ط: «أنه منحول».

14 - نسب الأفوه الأوديّ و شيء من أخباره

نسبه

الأفوه لقب، و اسمه صلاءة(1) بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن منبّه بن أود بن الصعب(2)ابن سعيد العشيرة. و كان يقال لأبيه عمرو بن مالك فارس الشوهاء؛ و في ذلك يقول الأفوه:

أبي فارس الشوهاء(3) عمرو بن مالك *** غداة الوغى إذ مال بالجد عاثر

كان سيد قومه و قائدهم و شاعرهم

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا ابن أبي سعد عن عليّ بن الصّباح عن هشام(4) بن محمد الكلبيّ عن أبيه قال:

كان الأفوه من كبار الشعراء القدماء في الجاهلية، و كان سيد قومه و قائدهم في حروبهم، و كانوا يصدون عن رأيه. و العرب تعدّه من حكمائها. و تعدّ داليّته؛

معاشر ما بنوا مجدا لقومهم *** و إن بنى غيرهم ما أفسدوا عادوا(5)

أبياته التي أخذ منها كثير بيتا

من حكمة العرب و آدابها(6). فأمّا البيت الذي أخذه كثيّر من شعر الأفوه و أضافه إلى أبياته التي ذكرناها و فيها الغناء آنفا فإنّه من قصيدة يقول فيها:

نقاتل أقواما فنسبي نساءهم *** و لم ير ذو عزّ لنسوتنا حجلا(7)

نقود و نأبى أن نقاد و لا نرى *** لقوم علينا في مكارمة فضلا

و إنا بطاء المشي عند نسائنا *** كما قيّدت(8) بالصّيف نجديّة بزلا

ص: 389


1- في ف، ب، ح: «صلاة». و في س: «صلات».
2- في ف: «بن صعب».
3- الشوهاء: اسم فرس. و الشوهاء: من الخيل الطويلة الرائعة.
4- في ب، س، ح: «الهشامي».
5- في ح: «يا معاشر لم بينوا». و في ف: لنا معاشر لم يبنوا لقومهم و إن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
6- من أوّل نسب الأفوه حتى هذه الكلمة لم يرد في نسخة ط.
7- الحجل، بالكسر: الخلخال.
8- في ف: «كما قدت».

/

نظل غيارى عند كل ستيرة *** نقلّب جيدا واضحا و شوى عبلا(1)

و إنا لنعطي المال دون دمائنا *** و نأبى فما نستام دون دم عقلا(2)

سبب هذه الأبيات

قال أبو عمرو الشّيباني: قال الأفوه الأوديّ هذه الأبيات يفخر بها على قوم من بني عامر، كانت بينه و بينهم دماء، فأدرك بثأره و زاد، و أعطاهم ديات من قتل فضلا على قتلى قومه، فقبلوا و صالحوه.

بنو أود و بنو عامر
اشارة

و قال أبو عمرو(3): أغارت بنو أود - و قد جمعها الأفوه - على بني عامر، فمرض الأفوه مرضا شديدا، فخرج بدله زيد بن الحارث الأوديّ و أقام الأفوه حتى أفاق من وجعه، و مضى زيد بن الحارث حتى لقي بني عامر بتضارع(4)، و عليهم عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب. فلما التقوا عرف بعضهم بعضا، فقال لهم بنو عامر:

ساندونا فما أصبنا كان بيننا و بينكم. فقالت بنو أود - و قد أصابوا منهم رجلين -: لا و اللّه حتى نأخذ بطائلتنا(5). فقام أخو المقتول، و هو رجل من بني كعب بن أود فقال: يا بني أود، و اللّه لتأخذنّ بطائلتي أو لأنتحينّ على سيفي.

فاقتتلت أود و بنو عامر، فظفرت أود و أصابت مغنما كثيرا. فقال الأفوه في ذلك:

صوت

ألا يا لهف لو شهدت قناتي *** قبائل عامر يوم الصبيب

غداة تجمعت كعب إلينا *** حلائب بين أفناء الحروب(6)

فلمّا أن رأونا في وغاها *** كآساد الغريفة و الحجيب(7)

/تداعوا ثم مالوا عن ذراها *** كفعل الخامعات من الوجيب(8)

/و طاروا كالنّعام ببطن قوّ *** مواءلة على حذر الرقيب(9)

ص: 390


1- الستيرة: المرأة المستورة. الشوى: اليدان. العبل: الممتلئ التام الخلق.
2- العقل: الدية.
3- من هذه الكلمة حتى البيت الثاني من الصفحة التالية لم يرد في ط.
4- هذه الكلمة ساقطة من جميع الأصول عدا س، ب، و فيهما «يتصارعون» تحريف. و تضارع: موضع بالحجاز ذكره الأفوه في بيت من الأبيات المذكورة، قال: و جرد جمعها بيضا خفافا على جنبي تضارع فاللهيب و انظر «اللسان» (لهب) و ياقوت (اللهيب).
5- الطائلة: الثأر و الوتر.
6- كذا في ف، و في سائر النسخ: «بين أبناء الحريب». و الحلائب: الجماعات، و الأفناء: الأخلاط.
7- ورد هذا البيت في ف. و الغريفة: الأجمة. و الحجيب: موضع.
8- كذا في ف. و الخامعات: الضباع؛ سميت بذلك لأنها تجمع في مشيها، أي تعرج، و هي موصوفة بالحمق و الجبن. و الوجيب: الخوف. و في سائر الأصول: «كفعل معاتت أمن الرجيب».
9- كذا على الصواب في ف، و في سائر النسخ: «كالبغام». و بطن قوّ موضع المواءلة: طلب النجاة.
صوت

كأن لم تري قبلي أسيرا مكبّلا *** و لا رجلا يرمى به الرجوان(1)

كأني جواد ضمّه القيد بعد ما *** جرى سابقا في حلبة و رهان

الشعر لرجل من لصوص بني تميم يعرف بأبي النّشناش، و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر من روايتي عليّ ابن يحيى و الهشاميّ.

النشناش و اعتراضه القوافل و هربه بعد الظفر به، و ما كان بينه و بين اللهبي
اشارة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أبو سعيد السكريّ عن محمد بن حبيب قال:

كان أبو النّشناش من ملاصّ(2) بني تميم، و كان يعترض القوافل في شذّاذ من العرب بين طريق الحجاز و الشام فيجتاحها. فظفر به بعض عمال مروان فحبسه و قيده مدّة، ثم أمكنه الهرب في وقت غرّة فهرب، فمر بغراب على بانة ينتف ريشه و ينعب، فجزع من ذلك(3). ثم مر بحيّ من لهب فقال لهم: رجل كان في بلاء و شرّ و حبس و ضيق فنجا من ذلك، ثم نظر عن يمينه فلم ير شيئا، و نظر عن يساره فرأى غرابا على شجرة بان ينتف ريشه و ينعب. فقال له اللهبيّ: إن صدقت/الطير يعاد(4) إلى حبسه و قيده، و يطول ذلك به، و يقتل و يصلب. فقال له: بفيك الحجر(5).

قال: لا بل بفيك. و أنشأ يقول:

و سائلة أين ارتحالي(6) وسائل *** و من يسأل الصّعلوك أين مذاهبه!

مذاهبه أنّ الفجاج عريضة *** إذا ضنّ عنه بالنّوال أقاربه

إذا المرء لم يسرح سواما و لم يرح *** سواما و لم يبسط له الوجه صاحبه(7)

فللموت خير للفتى من قعوده *** عديما و من مولى تعاف مشاربه(8)

و دويّة قفر يحار بها القطا *** سرت بأبي النّشناش فيها ركائبه(9)

ليدرك ثأرا أو ليكسب مغنما *** ألا إنّ هذا الدهر تترى عجائبه

فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى *** و لا كسواد الليل أخفق طالبه

فعش معذرا أو مت كريما فإنني *** أرى الموت لا يبقى على من يطالبه(10)

ص: 391


1- انظر التعليق (رقم 8 ص 165) من هذا الجزء.
2- ملاص: جمع ملصة (بفتح الميم)، و هو اسم جمع للص.
3- في ج: «فجزع من ذلك ثم نظر عن يمينه».
4- في ف: «فقال له اللهبي: يؤخذ فيعاد».
5- في ف: «بفيك التراب».
6- في ح، ب: «ارتحال».
7- في ف: «و لم يرح إليه».
8- في ف . «من حياته فقيرا». و في ج: «تدب عقاربه».
9- الدوية: المفازة، و في ف: «و نائية الأرجاء طامسة الصوى».
10- المعذر: الذي له عذر. و في ح: «مقترا».
صوت

أ صادرة حجّاج كعب و مالك *** على كل فتلاء الذراعين محنق(1)

أقام قناة الودّ بيني و بينه *** و فارقني عن شيمة لم ترنّق(2)

عروضه من الطويل. الصادر: المنصرف، و هو ضدّ الوارد، و أصله من ورود الماء و الصّدر عنه، ثم يقال لكل مقبل إلى موضع و منصرف عنه. و كعب: من خزاعة. /و مالك: يعني مالك بن النضر بن كنانة: و كان كثير ينتمي(3) و ينمي خزاعة إليهم. و محنق: ضامرة. و الشيمة: الخلق و الطبيعة. و ترنّق: تكدر. و الرنق: الكدر.

الشعر لكثيّر عزّة يرثي خندقا الأسديّ، و الغناء للهذليّ ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر من رواية إسحاق. و في الثاني من البيتين ثم الأوّل لسياط رمل بالبنصر عنه و عن الهشاميّ و عمرو. و فيهما لمعبد لحن ذكره يونس و لم يجنسه. و في رواية حماد عن أبيه أنّ لحن الهذلي من الثقيل الأوّل، فإن كان ذلك/كذلك فالثقيل الثاني لمعبد. و ذكر أحمد بن عبيد أن الذي صح فيه ثقيل أوّل أو ثاني ثقيل.

ص: 392


1- في أكثر الأصول: «الذراع». و قد أثبتنا رواية ف، ح.
2- في ح: «إقليم قناة».
3- في ف: «كان كثير ينتمي إليهم».

15 - خبر كثيّر و خندق الأسديّ الذي من أجله قال هذا الشعر

كانا يقولان بالرجعة

حدّثني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني محمد بن حبيب. و أخبرني وكيع قال حدّثنا عليّ بن محمد النوفليّ عن أبيه. و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة عن ابن داحة، قالوا:

كان خندق بن مرة الأسديّ - هكذا قال النوفليّ. و غيره يقول: خندق بن بدر - صديقا لكثيّر، و كانا يقولان بالرجعة(1)، فاجتمعا بالموسم فتذاكر التشيع. فقال خندق: لو وجدت من يضمن لي عيالي بعدي لوقفت بالموسم فذكرت فضل آل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و ظلم الناس لهم و غصبهم إياهم على حقهم، و دعوت إليهم و تبرأت من أبي بكر و عمر. فضمن كثيّر عياله، فقام ففعل ذلك و سب أبا بكر و عمر رضوان اللّه عليهما و تبرأ منهما.

قال عمر بن شبة في خبره فقال: أيها الناس إنكم على غير حق، تركتم أهل بيت نبيكم، و الحقّ لهم و هم الأئمة - و لم يقل إنه سب أحدا - فوثب عليه الناس فضربوه و رموه حتى قتلوه. و دفن خندق بقنوني(2). فقال إذ ذاك كثيّر يرثيه:

أ صادرة حجّاج كعب و مالك *** على كل عجلى ضامر البطن محنق(3)

بمرثية فيها ثناء محبّر *** لأزهر من أولاد مرة معرق

كأنّ أخاه في النوائب ملجأ *** إلى علم من ركن قدس المنطّق(4)

ينال رجالا نفعه و هو منهم *** بعيد كعيّوق(5) الثريّا المعلّق(6)

/تقول ابنة الضّمري مالك شاحبا *** و لونك مصفرّ و إن لم تخلّق(7)

فقلت لها لا تعجبي، من يمت له *** أخ كأبي بدر و جدّك يشفق(8)

ص: 393


1- بعده في ف: «و كانا خشبيّين جميعا». و في ح: «و كانا حسنيين».
2- قنوني: واد من أودية السراة يصب إلى البحر في أوائل أرض اليمن من جهة مكة.
3- في ف: «على كل فتلاء الذراعين محنق». عجلى: مسرعة.
4- قدس: جبل عظيم بنجد. و المنطق: المرتفع.
5- العيوق: نجم أحمر مضىء في أطراف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها.
6- في ف: «المحلق».
7- في ج: «حاشبا». و تخلق: تطيب بالخلوق، و هو ضرب من الطيب مائع فيه صفرة لأن أكثر أجزائه من الزعفران.
8- يشفق: يجزع، و في ط: «يسبق». و في ف: «يشتق».

و أمر يهمّ الناس غبّ نتاجه *** كفيت و كرب بالدّواهي مطرّق(1)

كشفت أبا بدر إذا القوم أحجموا *** و عضت ملاقي أمرهم بالمخنّق(2)

و خصم أبا بدر ألدّ أبتّه *** على مثل طعم الحنظل المتفلق(3)

جزى اللّه خيرا خندقا من كافئ *** و صاحب صدق ذي حفاظ و مصدق

أقام قناة الودّ بيني و بينه *** و فارقني عن شيمة لم ترنّق

حلفت - على أن قد أجنّتك حفرة *** ببطن قنوني - لو نعيش فنلتقي(4)

لألفيتني بالودّ بعدك دائما *** على عهدنا إذ نحن لم نتفرّق

إذا ما غدا يهتز للمجد و النّدى *** أشمّ كغصن البانة المتورّق

و إني لجاز بالذي كان بيننا *** بني أسد رهط ابن مرة خندق

كثير و إنكار الطفيل انتسابه إلى كنانة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز(5) قال حدّثنا عمر بن شبّة:

إن كثيّرا لما انتمى إلى قريش و جرى بينه و بين الحزين الدّيليّ من المواثبة و الهجاء ما جرى بلغ ذلك الطّفيل ابن عامر بن واثلة و هو بالكوفة، فأنكر أمر كثيّر و انتسابه إلى كنانة و تصييره خزاعة منهم، و ما فعله الحزين. فحلف لئن رأى كثيّرا ليضربنه/بالسيف أو ليطعننه بالرمح، فكلمه فيه/خندق الأسديّ - و كان صديقا له و لكثير - فوهبه له، و اجتمعا بمكة فجلسا مع ابن الحنفية. فقال طفيل: لو لا خندق لوفيت لك بيميني. فقال يرثيه، و عنه كان أخذ مقالته:

و نال رجالا نفعه و هو منهم *** بعيد كعيّوق الثريا المعلق(6)

و ذكر باقي الأبيات.

نسيبه بعزة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني محمد بن إسماعيل(7) قال حدّثني حميد بن عبد الرحمن أحد بني عتوارة بن جديّ قال:

كان كثيّر قد سلّطه اللّه ينسب بعزّة بنت عبد اللّه، أحد بني حاجب بن(8) عبد اللّه بن غفار، قال: و كان نسوانهم

ص: 394


1- مطرق؛ من قولهم طرقت القطاة: حان خروج بيضها.
2- المخنق: موضع حبل الخنق من العنق.
3- أبته: الفعل أصله أبات ثم أسند إلى تاء المخاطب، يقال: أبات اللّه إباتة حسنة.
4- في ج: «عهدت».
5- في ف: «ابن عبد العزيز الجوهري».
6- في ح، ط، ف: «المحلق».
7- لم يذكر محمد بن إسماعيل في ح.
8- في ج: «أحد بني حاجب من بني غفار».

قد لقينها و هي سائرة في نسائهم في الجلاء(1)، في عام أصابت أهل تهامة فيه حطمة شديدة، و كانت عزّة من أجمل النساء و أدبهن و أعقلهن(2)، و لا و اللّه ما رأى لها وجها قطّ، إلا أنه استهيم بها قلبه لما ذكر له عنها. فلقيه رجال من الحي لما بلغهم ذلك عنه، فقالوا له: إنك قد شهرت نفسك(3) و شهرتنا و شهرت صاحبتنا فاكفف نفسك. قال: فإني لا أذكرها بما تكرهون. فخرجوا جالين إلى مصر في أعوام الجلاء. فتبعهم على راحلته فزجروه، فأبى إلا أن يلحقهم بنفسه، فجلس له فتية من جديّ، قال: و كان بنو ضمرة كلّهم يهون عليهم نسيبه لما يعرفون من براءتها، إلا ما كان من بني جديّ(4) فإنهم كانوا صمعا غيرا(5). فقعد له عون، أحد بني جديّ في تسعة نفر على محالج(6)، فلما جاز بهم تحت الليل أخذوه، ثم عدلوا به عن الطريق إلى جيفة حمار/كانوا يعرفونها من النهار، فأدخلوه فيها و ربطوا يديه و رجليه، ثم أوثقوا بطن الحمار، فجعل يضطرب فيه و يستغيث، و مضوا عنه، فاجتاز به خندق الأسديّ، فسمع استغاثته - و هو خندق بن بدر - فعدل إلى الصوت حين سمعه، فوجد في الجيفة إنسانا، فسأله من هو و ما خبره؟ فأخبره. فأطلقه و حمله و ألحقه ببلاده. فقال كثيّر في ذلك - قال الزّبير أنشدنيها عمر بن أبي بكر المؤمّليّ عن عبد اللّه بن أبي عبيدة معمر بن المثنّى -

أ صادرة حجّاج كعب و مالك *** على كلّ فتلاء الذراعين محنق

و ذكر القصيدة كلّها على ما مضت.

أخبرني الحرميّ(7) بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا عمر بن أبي بكر المؤمّلي عن أبي عبيدة قال:

خندق الأسديّ هو الذي أدخل كثيّرا في مذهب الخشبيّة(8).

كثير يرثي خندقا حين قتل بعرفة
اشارة

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن حبيب قال:

لما قتل خندق الأسديّ بعرفة رثاه كثيّر فقال:

شجا أظعان غاضرة الغوادي *** بغير مشورة عرضا فؤادي

أ غاضر لو شهدت غداة بنتم *** حنوّ العائدات على وسادي(9)

أويت لعاشق لم تشكميه *** نوافذه(10) تلذّع بالزّناد

ص: 395


1- في بعض الأصول: «الحلاس»، و صوابه في ف.
2- في ح، ط: «من أجمل نساء و آدبه و أعقله». و في ف: «من أجمل نساء الناس».
3- في ح: «شهرت نفسك فاكفف».
4- ما بعده إلى «عون» ساقط من ف.
5- صمع: ذوو حزم. غير: جمع غيور.
6- في ف: «مخالج» و في ط: «محالح». و المحالج: جمع محلج كمنبر، و هو الخفيف من الحمر.
7- في ط، ف: «الحرمي قال».
8- الخشبية: قوم من الجهمية يقولون إن اللّه تعالى لا يتكلم، و إن القرآن مخلوق. و قال ابن الأثير: هم أصحاب المختار بن أبي عبيد. و يقال: هم ضرب من الشيعة، سموا بذلك لأنهم حفظوا خشبة زيد بن علي حين صلب. انظر «شرح القاموس» (مادة خشب)».
9- في ح: «جنوء العائدات».
10- أويت: رثيت و أشفقت. لم تشكميه: لم تجازيه. النوافذ: الفم و ثقبا الأذنين و الأنف. و في «الديوان»: «جوانحه».

و يوم الخيل قد سفرت و كفّت *** رداء العصب عن رتل براد(1)

/ - الرتل: الثغر المستوي النبت(2) -

و عن نجلاء تدمع(3) في بياض *** إذا دمعت و تنظر في سواد

و عن متكاوس في العقص جثل *** أثيت النبت ذي عذر جعاد(4)

/و غاضرة الغداة و إن نأتنا *** و أصبح دونها قطر البلاد

أحبّ ظعينة و بنات نفسي *** إليها لو بللن بها صوادي(5)

و من دون الذي أمّلت ودّا(6)*** و لو طالبتها خرط القتاد

و قال الناصحون تحلّ منها *** ببذل قبل شيمتها الجماد

- تحلّ: أصب. يقال: ما حليت من فلان بشيء و لا تحلّيت منه بشيء، و منه حلوان الكاهن و الراقي و ما أشبه ذلك(7) -

فقد وعدتك لو أقبلت ودّا *** فلجّ بك التدلّل في تعاد(8)

فأسررت الندامة يوم نادى *** بردّ جمال غاضرة المنادى

تمادى البعد دونهم فأمست *** دموع العين لجّ بها التّمادي

لقد منع الرقاد فبتّ ليلي *** تجافيني الهموم عن الوساد

عداني أن أزورك غير بغض *** مقامك بين مصفحة شداد(9)

و إني قائل إن لم أزره *** سقت ديم السواري و الغوادي

محلّ أخي بني أسد قنونى *** فما والى إلى برك الغماد(10)

/مقيم بالمجازة(11) من قنونى *** و أهلك بالأجيفر و الثماد(12)

فلا تبعد فكل فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي

ص: 396


1- البراد: البارد. و في ف: «رداء العضب».
2- لم ترد هذه العبارة في ف.
3- في ف: «تلمع في بياض».
4- المتكاوس: المتراكب. و الجثل: الشعر الكثير. و الأثيث: الكثير العظيم. و العذرة: الناصية؛ و قيل: الخصلة من الشعر.
5- في ط: «لو تلين لها».
6- في ف: «أملت منها».
7- العبارة: «و ما أشبه ذلك» ساقطة من ح، ف.
8- في ف: «في بعاد». و التعادي: التباعد.
9- المصفحة: العريضة، و يريد حجارة القبر.
10- برك الغماد: موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر.
11- المجازة: منزل من منازل طريق البصرة.
12- الأجيفر: موضع في أسفل السبعان من بلاد قيس. و الثماد: موضع في ديار بني تميم.

و كلّ ذخيرة لا بدّ يوما *** و لو بقيت تصير إلى نفاد

يعزّ عليّ أن نغدو جميعا *** و تصبح ثاويا رهنا بواد

فلو فوديت من حدث المنايا *** وقيتك بالطّريف و بالتّلاد

في هذه القصيدة عدّة أصوات هذه نسبتها قد جمعت.

صوت

أ غاضر لو شهدت غداة بنتم *** حنوّ العائدات على وسادي

رثيت لعاشق لم تشكميه *** نوافذه تلذّع بالزناد

عداني أن أزورك غير بغض *** مقامك بين مصفحة شداد

فلا تبعد فكل فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي

لمعبد في البيتين الأوّلين لحن من خفيف الثقيل الأوّل بالوسطى عن عمرو و ابن المكيّ و الهشاميّ. و فيهما لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و أحمد بن عبيد. و فيهما للغريض ثاني ثقيل عن ابن المكيّ. و من الناس من ينسب لحن مالك إلى معبد أيضا. و في الثالث و الرابع لابن عائشة ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق و عمرو و غيرهما. و يقال: إن لابن سريج و ابن محرز و ابن جامع فيهما ألحانا.

غاضرة هذه التي ذكرها كثيّر مولاة لآل مروان بن الحكم، و قد روي في ذكره إياها غير خبر مختلف.

أم البنين و ما كان بينها و بين وضاح و كثير

فأخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي قال/حدّثني عبد اللّه بن أبي عبيدة قال:

حجّت أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت لكثيّر و وضّاح: انسبا بي. فأمّا وضّاح فنسب بها، و أما كثير فنسب بجاريتها غاضرة حيث يقول:

شجا أظعان غاضرة الغوادي *** بغير مشورة(1) عرضا فؤادي

قال: و كانت زوجة(2) الوليد بن عبد الملك، فقتل وضّاحا و لم يجد على كثيّر سبيلا(3).

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزّهريّ عن محرز بن جعفر عن أبيه عن بديح قال:

قدمت أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان - و هي عند الوليد بن عبد الملك - حاجّة، و الوليد إذ ذاك خليفة.

ص: 397


1- في ح، ط، م، ف: «مشية» مسهل مشيئة.
2- في ف: «و كانت أم البنين زوجة».
3- كذا في ح، ف. و في سائر النسخ: «و لم يجد لكثير سبيلا».

فأرسلت إلى كثيّر و وضّاح أن أنسبا بي(1)، فنسب وضّاح بها و نسب كثيّر بجاريتها غاضرة في شعره الذي يقول فيه:

شجا أظعان غاضرة الغوادي

قال: و كانت معها جوار قد فتن الناس بالوضاءة.

لابن قيس الرقيات في أم البنين
اشارة

قال بديح: فلقيت عبيد اللّه بن قيس الرقيّات فقلت له: بمن نسبت من هذا القطين(2)؟ فقال لي:

ما تصنع بالشرّ *** إذا لم تك مجنونا

إذا قاسيت ثقل الشرّ *** حسّاك الأمرّينا(3)

و قد هجت بما قد قل *** ت أمرا كان مدفونا

/قال بديح: ثم أخذ بيدي فخلا بي و قال لي: يا بديح، احفظ عني ما أقول لك فإنك موضع أمانة؛ و أنشدني:

أ صحوت عن أمّ البني *** ن و ذكرها و عنائها

و هجرتها هجر امرئ *** لم يقل حمل إخائها

من خيفة الأعداء أن *** يوهوا أديم صفائها

قرشيّة كالشّمس أش *** رق نورها ببهائها

زادت على البيض الحسا *** ن بحسنها و نقائها

لما اسبكرّت للشّبا *** ب و قنّعت بردائها(4)

لم تلتفت للداتها *** و مضت على غلوائها

غنّى ابن عائشة في الثلاثة الأبيات الأول لحنا من الثقيل الأول عن الهشاميّ عن يحيى المكيّ. و في الرابع و ما بعده لحنين لحنان: أحدهما ثاني ثقيل بالبنصر. و الآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن ابنه و غيره. و غنى إبراهيم الموصليّ في الأربعة الأول لحنا آخر من الثقيل الأول و هو اللحن الذي فيه استهلال. و ذكر الهشاميّ أن الثقيل الثاني لابن محرز.

قال: فقتل الوليد وضّاحا و لم يجد على كثير سبيلا. قال: و حجّت بعد ذلك و قد تقدّم الوليد إليها و إلى من معها في الحجاب؛ فلقيني ابن قيس حيث خرجت و لم تكلّم أحدا و لم يرها، فقال لي: يا بديح:

ص: 398


1- في ح، ط، م: «انسيابي».
2- القطين: الحشم و الإماء.
3- الأمرين؛ بكسر الراء مشدّدة: الشر و الأمر العظيم. حساه: سقاه إياه. و في ج: «حباك».
4- اسبكرت: استقامت و اعتدلت.
صوت

بان الخليط الذي به نثق *** و اشتد دون المليحة القلق(1)

/من دون صفراء في مفاصلها *** لين و في بعض بطشها خرق

إن ختمت جاز طين خاتمها *** كما تجوز العبديّة العتق(2)

/غنى في هذه الأبيات مالك بن أبي السّمح لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر، عن عمرو و يونس. و فيها لابن مسجح - و يقال لابن محرز، و هو مما يشبه غناءهما جميعا و ينسب إليهما - خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و الصحيح أنه لابن مسجح. و فيها ثاني ثقيل لابن محرز عن ابن المكّيّ. و ذكر حبش أن لسياط فيها لحنا ماخوريّا بالوسطى. و في هذه الأبيات زيادة يغنّى فيها و لم يذكرها الزبير في خبره، و هي:

إنّي لأخلي لها الفراش إذا *** قصّع(3) في حضن زوجه الحمق

عن غير بغض لها لديّ و ل *** كن تلك منّي سجيّة خلق

قال الزبير: أراد بقوله في هذه الأبيات:

إن ختمت جاز طين خاتمها

أنها كانت عند سلطان جائز الأمر. و العبدية هي الدنانير، نسبها إلى عبد الملك. ثم وصل ابن قيس الرقيات هذه الأبيات - يعني الهائية - بأبيات يمدح بها عبد الملك فقال:

صوت

اسمع أمير المؤمني *** ن لمدحتي و ثنائها(4)

أنت ابن عائشة التي *** فضلت أروم نسائها(5)

متعطّف الأعياص حو *** ل سريرها و فنائها(6)

ولدت أغرّ مباركا *** كالبدر وسط سمائها

غنّاه ابن عائشة من رواية يونس و لم يجنّسه. و هذا الشعر يقوله ابن قيس الرقيّات في عبد الملك لا الوليد.

إصرار ابن قيس الرقيات على كلمة في شعره و ما كان بينه و بين عبد الملك في ذلك

أخبرني الحسين و ابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه عن المدائنيّ: أن عبد الملك لما وهب لابن جعفر جرم عبيد اللّه بن قيس الرقيات و أمّنه، ثم تواثب أهل الشام ليقتلوه، قال: يا أمير المؤمنين، أ تفعل هذا بي و أنا الذي أقول:

ص: 399


1- كذا في ف، ط، و رواية «الديوان»: «العلق».
2- العتق: جمع عتيق، و هي كل نفيس قديم.
3- قصع: لزم البيت و لم يبرحه، و في الأصول: «قطع»، تحريف، صوابه عن «الديوان» 161، «و لسان العرب» (مادة قصع).
4- هذه الأبيات: ساقطة من ج.
5- الأروم: جمع أرومة، و هي الأصل.
6- الأعياص من قريش: أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، و هم العاص و أبو العاص و العيص و أبو العيص.

اسمع أمير المؤمني *** ن لمدحتي و ثنائها

أنت ابن معتلج البطا *** ح كديّها و كدائها(1)

و لبطن عائشة التي *** فضلت أروم نسائها

فلما أنشد هذا البيت قال له عبد الملك: قل «و لنسل عائشة». قال: لا بل «و لبطن عائشة». حتّى(2) ردّ ذلك عليه ثلاث مرات و هو يأبى إلاّ «و لبطن عائشة». فقال له عبد الملك: اسحنفر(3) الآن. قال: و عائشة أمّ عبد الملك بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. هذه رواية الزبير بن بكّار.

و قد حدّثنا به في خبر كثيّر مع غاضرة هذه بغير هذا محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا محمد بن حبيب عن هشام بن الكلبيّ.

محاورة السائب بن حكيم لغاضرة و لم يكن قد عرفها

و أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبيّ عن أبي عبد الرحمن الأنصاريّ عن السائب بن حكيم السّدوسي راوية كثيّر قال:

و اللّه إني لأسير يوما مع كثيّر، حتى إذا كنا ببطن/جدار (جبل من المدينة على أميال) إذ أنا بامرأة في رحالة(4) متنقبة، معها عبيد لها يسعون معها، فمرّت جنابي فسلّمت ثم قالت: ممن الرجل(5)؟ قلت: من أهل الحجاز. قالت: فهل تروي لكثير/شيئا؟ قلت: نعم. قالت: أما و اللّه ما كان بالمدينة من شيء هو أحب إليّ من أن أرى كثيّرا و أسمع شعره، فهل تروي قصيدته:

أهاجك برق آخر الليل واصب

قلت: نعم: فأنشدتها إياها إلى آخرها. قالت: فهل تروي قوله:

كأنك لم تسمع و لم تر قبلها *** تفرّق ألاّف لهنّ حنين

قلت: نعم و أنشدتها. قالت: فهل تروي قوله أيضا:

لعزة من أيام ذي الغصن شاقني

قلت: نعم و أنشدتها إلى آخرها. قالت: فهل تروي قوله أيضا:

أ أطلال سعدى باللوى تتعهّد

قلت: نعم و أنشدتها حتى أتيت على قوله:

فلم أر مثل العين ضنّت بمائها *** عليّ و لا مثلي على الدمع يحسد

قالت: قاتله اللّه! فهل قال مثل قول كثير أحد على الأرض. و اللّه لأن أكون رأيت كثيّرا، أو سمعت منه

ص: 400


1- كدى و كداء: موضعان بمكة. و قيل: جبلان. كذا ذكر في «اللسان» و استشهد بالبيت.
2- في ف، ج: «ردد».
3- اسحنفر الرجل في منطقة: مضى فيه و لم يتمكث.
4- الرحالة: مركب من جلود لا خشب فيه.
5- في ط، ف، ج: «من الرجل».

شعره(1) أحبّ إليّ من مائة ألف درهم. قال: فقلت: هو ذاك الراكب أمامك(2)، و أنا السائب راويته. قالت: حياك اللّه تعالى. ثم ركضت بغلتها حتى أدركته فقالت: أنت كثيّر؟ قال: مالك ويلك! فقالت: أنت الذي تقول:

إذا حسرت عنه العمامة راعها *** جميل المحيّا أغفلته الدواهن

و اللّه ما رأيت عربيا قطّ أقبح و لا أحقر و لا ألأم منك. قال: أنت و اللّه أقبح مني و ألأم. قالت له: أ و لست القائل:

/

تراهنّ إلا أن يؤدّين نظرة *** بمؤخر عين أو يقلبن معصما

كواظم ما ينطقن إلا محورة *** رجيعة قول بعد أن يتفهّما(3)

يحاذرن مني غيرة قد عرفنها *** قديما فما يضحكن إلا تبسّما

لعن اللّه من يفرق(4) منك. قال: بل لعنك اللّه. قالت: أ و لست الذي تقول:

إذا ضمريّة عطست فنكها *** فإن عطاسها طرف الوداق(5)

قال: من أنت؟ قالت: لا يضرّك أن لم تعرفني و لا من أنا. قال: و اللّه إني لأراك لئيمة الأصل و العشيرة.

قالت: حيّاك اللّه يا أبا صخر! ما كان بالمدينة رجل أحبّ إليّ وجها و لا لقاء منك. قال: لا حياك اللّه، و اللّه ما(6)كان على الأرض أحد أبغض إليّ وجها منك. قالت: أ تعرفني؟ قال: أعرف أنك لئيمة من اللئام. فتعرّفت إليه فإذا هي غاضرة أمّ ولد لبشر بن مروان. قال: و سايرها حتى سندنا(7) في الجبل من قبل زرود(8). فقالت له: يا أبا صخر، أضمن لك مائة ألف درهم عند بشر بن مروان إن قدمت عليه. قال: أ في سبّك إياي أو سبّي إياك تضمنين لي هذا؟ و اللّه لا أخرج إلى العراق على هذه الحال! فلما قامت تودّعه سفرت، فإذا هي أحسن من رأيت من أهل الدنيا وجها. فأمرت له بعشرة آلاف درهم، فبعد شدّ(9) ما قبلها و أمرت(10) لي بخمسة آلاف درهم. فلما ولّوا قال: يا سائب أين نعنّي أنفسنا إلى عكرمة، انطلق بنا نأكل/هذه حتى يأتينا الموت. قال: و ذلك قوله لما فارقتنا:

/

شجا أظعان غاضرة الغوادي *** بغير(11) مشيئة عرضا فؤادي

ص: 401


1- في ج: «شعرا».
2- في ف: «هو و اللّه ذلك الراكب أمامك».
3- المحورة: الجواب، يريد أنهن لا ينطقن إلا بعد أن يسألن.
4- يفرق: يخاف.
5- الوداق في كل ذات حافر: الغلمة.
6- كذا في ف و في سائر النسخ: «و لكن ما».
7- سندنا: علونا.
8- زرود: اسم جبل.
9- في ب، س، ج: «سير ما».
10- في ف: «له».
11- في ط: «بغير مشية» بالتسهيل. و في ف: حذف الشطر الثاني من البيت.

و قد روى الزبير أيضا في خبر هذه المرأة غير هذا، و خالف المعاني(1)

كثير و امرأة لقيها بقديد

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني سليمان بن عيّاش السعديّ قال:

كان كثيّر يلقى حاجّ المدينة من قريش بقديد(2) في كل سنة، فغفل عاما من الأعوام عن يومهم الذي نزلوا فيه قديدا(3) حتى ارتفع النهار، ثم ركب جملا ثقالا(4) و استقبل الشمس(5) في يوم صائف، فجاء قديدا و قد كلّ و تعب، فوجدهم قد راحوا. و تخلّف فتى من قريش معه راحلته حتى يبرد(6). قال الفتى القرشيّ: فجلس كثيّر إلى جنبي و لم يسلّم عليّ، فجاءت امرأة وسيمة جميلة، فجلست إلى خيمة من خيام قديد و استقبلت كثيّرا فقالت: أ أنت كثيّر؟ قال: نعم. قالت: ابن أبي جمعة؟ قال: نعم. قالت: الذي يقول:

لعزّة أطلال أبت أن تكلّما

قال: نعم. قالت: و أنت الذي تقول فيها:

و كنت إذا ما جئت أجللن مجلسي *** و أظهرن منّي هيبة لا تجهّما

فقال: نعم. قالت: أعلى هذا الوجه هيبة؟ إن كنت كاذبا فعليك لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين. فضجر و قال: من أنت؟ فلم تجبه بشيء، فسأل الموليات اللواتي/في الخباء بقديد عنها، فلم يخبرنه شيئا، فضجر و اختلط. فلما سكن من شأوه(7) قال: أ أنت الذي تقول:

متى تحسروا عنّي العمامة تبصروا *** جميل المحيّا أغفلته الدواهن

أ هذا الوجه جميل المحيّا؟ إن كنت كاذبا فعليك لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين. فاختلط و قال: و اللّه ما عرفتك، و لو عرفتك لفعلت و فعلت. فسكتت، فلما سكن من شأوه قالت: أ أنت الذي تقول:

يروق العيون الناظرات كأنه *** هرقليّ وزن أحمر التّبر راجح(8)

أ هذا الوجه يروق العيون الناظرات؟ إن كنت كاذبا فعليك لعنة اللّه و لعنة اللاعنين و الملائكة و الناس أجمعين.

فازداد ضجرا و غيظا و اختلاطا و قال لها: قد عرفتك و اللّه لأقطعنّك و قومك بالهجاء. ثم قال فالتفتّ في أثره، ثم رجعت طرفي نحو المرأة فإذا هي قد ذهبت، فقلت لمولاة من مولياتها بقديد: لك اللّه عليّ إن أخبرتني من هذه المرأة لأطوينّ لك ثوبيّ هذين إذا قضيت حجّي ثم أعطيكهما. فقالت: و اللّه لو أعطيتني زنتهما ذهبا ما أخبرتك من هي؛ هذا كثيّر و هو مولاي قد سألني عنها فلم أخبره. قال الفتى القرشيّ: فرحت و اللّه و بي أشدّ مما بكثيّر.

ص: 402


1- في ف: «في خبر هذه المرأة غير هذه الرواية، و خالف في معانيها».
2- قديد: اسم موضع قرب مكة.
3- الكلام بعده إلى «قديدا» التالية ساقط من ط.
4- ثقالا: بطيئا.
5- كلمة «الشمس»: ساقطة في جميع الأصول ما عدا ف.
6- أبرد: دخل في آخر النهار.
7- في ف: «سكن شأوه». و الشأو: الحزن؛ يقال: شآه؛ أي حزنه.
8- الهرقلي: الدينار؛ نسبة إلى هرقل ملك الروم، و هو أوّل من ضرب الدنانير و الراجح: الموزون.

قال سليمان: و كان كثيّر دميما قليلا(1) أحمر أقيشر(2) عظيم الهامة قبيحا.

نسبة ما في هذه الأخبار من الشعر الذي يغنى به
صوت

منها:

أشاقك برق آخر الليل واصب *** تضمّنه فرش الجبا فالمسارب(3)

كما أومضت بالعين ثم تبسّمت *** خريع(4) بدا منها جبين و حاجب

/وهبت لليلى ماءه و نباته *** كما كلّ ذي ودّ لمن ودّ واهب

عروضه من الطويل. الواصب: الدائم، يقال وصب يصب وصوبا أي دام. قال اللّه سبحانه: وَ لَهُ الدِّينُ وٰاصِباً أي دائما.

و منها:

صوت

لعزّة من أيّام ذي الغصن شاقني *** بضاحي قرار الرّوضتين رسوم(5)

هي الدار وحشا غير أن قد يحلّها *** و يغنى بها شخص عليّ كريم

فما برسوم الدّار لو كنت عالما *** و لا بالتّلاع المقويات أهيم

سألت حكيما أين شطّت بها النّوى *** فخبّرني ما لا أحبّ حكيم(6)

أجدّوا فأمّا آل عزّة غدوة *** فبانوا و أمّا واسط فمقيم(7)

لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى *** بغى سقما إني إذا لسقيم

/حكيم هذا(8) هو أبو السائب بن حكيم راوية كثير. ذكر ذلك لنا اليزيديّ عن ابن حبيب.

ص: 403


1- في ف: «عظيما». و القليل من الرجال: القصير الدقيق الجثة.
2- الأقيشر: مصغر الأقشر، و هو الشديد الحمرة.
3- فرش الجبا: موضع بالحجاز، ذكره ياقوت، و استشهد بالبيت. و في الأصول: «فرش الحيا». و في ف: «المشارب».
4- الخريع: المرأة الحسناء. و في ج: «حنين». و في ف: «جبين و صاحب».
5- جاء في «معجم البلدان» في «روضة الجام» بعد هذا البيت الآتي: فروضة آجام تهيج لي البكا و روضات شوطى عهدهن قديم
6- في ج، ف: «شطت بك».
7- واسط: موضع أسفل من جمرة العقبة.
8- كلمة «هذا»، ساقطة من ط.

في هذه الأبيات لمعبد لحنان، أحدهما في الثلاثة الأول خفيف ثقيل بالوسطى(1) عن الهشامي و ابن المكّيّ و حبش، و في الثلاثة الأخر التي أوّلها:

سألت حكيما أين شطّت بها النوى

له أيضا ثقيل أوّل بالبنصر عن يونس و حبش. و ذكر حبش خاصة أن فيها لكردم خفيف ثقيل آخر، و في الثالث و الثاني لابن جامع خفيف رمل عن الهشامي. و قال أحمد بن عبيد: فيه ثلاثة ألحان: ثقيل أوّل و خفيفه، و خفيف رمل.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكّار قال حدثني المؤمّليّ أن ابن أبي عبيدة كان إذا أنشد قصيدة كثيّر:

لعزّة من أيام ذي الغصن شاقني *** بضاحي قرار الروضتين رسوم

يتحازن حتى نقول: إنّه يبكي.

تمثل الحزين الكناني بشعر لكثير

أخبرني الحرميّ قال حدثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي عن الضّحّاك بن عثمان قال: قال عروة بن أذينة:

كان الحزين الكناني الشاعر صديقا لأبي، و كان عشيرا له على النبيذ(2)، فكان كثيرا ما يأتيه، و كانت بالمدينة قينة يهواها الحزين و يكثر غشيانها، فبيعت و أخرجت عن المدينة، فأتى الحزين أبي، و هو كئيب حزين كاسمه، فقال له أبي: يا أبا حكيم مالك؟ قال: أنا و اللّه يا أبا عامر كما قال كثيّر:

/

لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى *** بغى سقما إني إذا لسقيم

سألت حكيما أين شطّت بها النوى *** فخبّرني ما لا أحبّ حكيم

فقال له أبي: أنت مجنون إن أقمت على هذا.

قصيدة كثير في عزة لما أخرجت إلى مصر
اشارة

و هذه القصيدة يقولها كثيّر في عزة لما أخرجت إلى مصر، و ذلك قوله فيها:

و لست براء نحو مصر سحابة *** و إن بعدت إلاّ قعدت أشيم(3)

فقد يوجد النّكس الدنيّ عن الهوى *** عزوفا و يصبو المرء و هو كريم(4)

و قال خليلي ما لها إذ لقيتها *** غداة الشّبا(5) فيها عليك وجوم

/فقلت له إن المودّة بيننا *** على غير فحش و الصفاء قديم

ص: 404


1- في ط: «الأول بالوسطى».
2- كذا في ف، و في كل الأصول: «عشيرا على النسب».
3- أشيم: انظر إليها. في ط، ح: «تشيم».
4- ما عدا ط، ف: «فقد يقعد».
5- الشبا: واد بالأثيل من أعراض المدينة، و في الأصول: «السبا»، و صوابه عن «معجم البلدان».

و إني و ان أعرضت عنها تجلّدا *** على العهد فيما بيننا لمقيم

و إن زمانا فرّق الدهر بيننا *** و بينكم في صرفه لمشوم(1)

أ في الحق هذا أنّ قلبك سالم *** صحيح و قلبي في هواك سقيم(2)

و أن بجسمي منك داء مخامرا *** و جسمك موفور عليك سليم

لعمرك ما أنصفتني في مودّتي *** و لكنّني يا عزّ عنك حليم

فإمّا تريني اليوم أبدي جلادة *** فإني لعمري تحت ذاك كليم

و لست ابنة الضّمريّ منك بناقم *** ذنوب العدا إني إذا لظلوم

و إنّي لذو وجد إذا عاد وصلها *** و إنّي على ربي إذا الكريم(3)

/و منها:

صوت

لعزة أطلال أبت أن تكلّما *** تهيج مغانيها الفؤاد المتيّما

و كنت إذا ما جئت أجللن مجلسي *** و أظهرن منّي هيبة لا تجهّما

يحاذرن منّي غيرة قد عرفنها *** قديما فما يضحكن إلاّ تبسّما

عروضه من الطويل. غنّى فيه مالك بن أبي السّمح لحنين عن يونس. أحدهما ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، و غيره ينسبه إلى معبد. و الآخر ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش، و فيه لابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و الهشامي. و غيره يقول: إنه لحن مالك. و فيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن عمرو و الهشامي و علي بن يحيى.

الرشيد و مسرور الخادم و ما دار بينه و بين جعفر بن يحيى حين أمره بقتله
اشارة

و أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني من أثق به عن مسرور الخادم:

أن الرشيد(4) لما أراد قتل جعفر بن يحيى لم يطلع عليه أحدا بتّة(5). و دخل عليه جعفر في اليوم الذي قتله في ليلته فقال له: اذهب فتشاغل اليوم بمن تأنس به و اصطبح فإني مصطبح مع الحرم. فمضى جعفر، و فعل الرشيد ذلك. و لم يزل برّ الرشيد و ألطافه(6) و تحفه و تحياته تتابع إليه لئلا يستوحش. فلما كان في الليل دعاني فقال لي(7):

ص: 405


1- في ف: «فيه لجد مشوم».
2- في ف: «من هواك».
3- في ف، ط: «لئن عاد». و في ج: «فاني على ربي».
4- زائد في ج: «رحمه اللّه تعالى».
5- هذه الكلمة ساقطة في ف.
6- في ط، ف: «و لطفه» و اللطف، بالتحريك: واحد الألطاف، و هو الهدية.
7- هذه الكلمة ساقطة في ف، ج.

اذهب فجئني الساعة برأس جعفر بن يحيى، و ضمّ إليّ جماعة من الغلمان، فمضيت حتى هجمت عليه منزله. و إذا أبو زكّار الأعمى يغنّيه بقوله(1):

فلا تبعد فكل فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي

/فقلت له: في هذا المعنى و مثله و اللّه جئتك فأجب. فوثب و قال: ما الخبر يا أبا الهشام جعلني اللّه فداءك! قلت: قد أمرت بأخذ رأسك. فأكبّ على رجلي فقبّلها و قال: اللّه اللّه، راجع أمير المؤمنين فيّ. فقلت: ما لي إلى ذلك سبيل. قال: فأعهد؟ قلت: ذاك لك. فذهب يدخل إلى النساء فمنعته، و قلت: اعهد في موضعك. فدعا بدواة و كتب أحرفا على دهش ثم قال لي: يا أبا هشام بقيت واحدة. قلت: هاتها. قال: خذني معك إلى أمير المؤمنين حتى أخاطبه. قلت: ما لي إلى ذلك سبيل. قال: ويحك لا تقتلني بأمره على النبيذ. فقلت: هيهات ما شرب(2)اليوم شيئا. قال: /فخذني و احبسني عندك في الدار، و عاوده في أمري. قلت: أفعل. فأخذته، فقال لي أبو زكّار الأعمى: نشدتك اللّه إن قتلته إلاّ ألحقتني به. قلت له: يا هذا لقد اخترت غير مختار. قال: و كيف أعيش بعده و حياتي كانت معه و به، و أغناني عمّن سواه، فما أحب الحياة بعده، فمضيت بجعفر و جعلته في بيت و أقفلت عليه و وكّلت به، و دخلت إلى الرشيد، فلما رآني قال: أين رأسه ويلك؟ فأخبرته بالخبر. فقال يا ابن الفاعلة، و اللّه لئن لم يجئني برأسه الساعة لآخذنّ رأسك! فمضيت إليه، فأخذت رأسه و وضعته بين يديه. ثم أخبرته خبره، و ذكرت له خبر أبي زكّار الأعمى، فلما كان بعد مدة أمرني بإحضاره، فأحضرته، فوصله و برّه و أمر بالجراية عليه.

صوت

<شعر في خولة غنى فيه>

قفا في دار خولة فاسألاها *** تقادم عهدها و هجرتماها

بمحلال يفوح المسك منه *** إذا هبّت بأبطحه صباها(3)

/أ ترعى حيث شاءت من حمانا *** و تمنعنا فلا(4) نرعى حماها

عروضه من الوافر. الشعر لرجل من فزارة. و الغناء ذكر حماد عن أبيه أنه لمعبد، و ذكر عنه في موضع آخر أنه لابن مسجح. و طريقته من الثقيل الأوّل مطلق في مجرى الوسطي.

نسب منظور بن زبان

و هذا الشعر يقول الفزاري في خولة بنت منظور بن زبّان بن سيّار بن عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال بن سمي ابن مازن بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. و كان منظور بن زبّان سيد قومه غير مدافع، أمّه قهطم بنت

ص: 406


1- هذه الكلمة ساقطة في ط، ف.
2- في ط: «فقلت ما شرب».
3- المحلال: الأرض السهلة المخصبة. و الأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.
4- في ج: «إذا نرعى».

هاشم بن حرملة - و قد ولدت(1) أيضا زهير بن جذيمة - فكان آخذا بأطراف الشرف في قومه. و هو أحد من طال حمل أمّه به.

سبب تسميته منظورا و شعر أبيه في ذلك

قال الزبير بن بكّار فيما أجاز لنا الحرميّ بن أبي العلاء و الطّوسيّ روايته عنهما مما حدّثا به عنه حدّثتني مغيرة بنت أبي عديّ. قال الزبير و قد حدّثني هذا الحديث أيضا إبراهيم بن زياد عن محمد بن طلحة، و حدّثنيه أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة عن يحيى بن الحسن العلويّ عن الزبير قالا جميعا:

حملت قهطم بنت هاشم بمنظور بن زبّان أربع سنين، فولدته و قد جمع فاه فسماه أبوه منظورا لذلك - يعني لطول ما انتظره - و قال فيه على ما رواه محمد بن طلحة:

ما جئت حتى قيل ليس بوارد *** فسميت منظورا و جئت على قدر

و إنّي لأرجو أن تكون كهاشم *** و إني لأرجو أن تسود بني بدر

تزوّج مليكة زوج أبيه ففرّق عمر بينهما فتبعتها نفسه و قال شعرا

ذكر الهيثم بن عديّ عن ابن الكلبي و ابن عيّاش، و ذكر بعضه الزبير بن بكّار عن عمّه عن مجالد:

أنّ منظور بن زبّان تزوّج امرأة أبيه - و هي مليكة بنت(2) سنان بن أبي حارثة المرّيّ - فولدت له هاشما و عبد الجبّار و خولة، و لم تزل معه إلى خلافة عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه. و كان يشرب الخمر أيضا، فرفع أمره إلى عمر، فأحضره و سأله عما قيل، فاعترف به و قال: ما علمت أنها حرام(3). فحبسه إلى وقت صلاة العصر، ثم أحلفه أنّه لم يعلم أن اللّه جلّ و عزّ حرّم ما فعله. فحلف - فيما ذكر - أربعين يمينا. فخلّى سبيله، و فرّق بينه و بين امرأة أبيه و قال: لو لا أنك/حلفت لضربت عنقك.

قال ابن الكلبي في خبره: إنّ عمر قال له: أ تنكح امرأة أبيك و هي أمك؟ أ و ما علمت أن هذا نكاح المقت(4)!. و فرّق بينهما. فتزوّجها محمد بن طلحة.

قال ابن الكلبي في خبره:

فلما طلّقها أسف عليها و قال فيها:

ألا لا أبالي اليوم ما صنع الدهر *** إذا منعت منّي مليكة و الخمر

فإن تك قد أمست بعيدا مزارها *** فحيّ ابنة المرّيّ ما طلع الفجر

لعمريّ ما كانت مليكة سوأة *** و لا ضمّ في بيت على مثلها ستر

و قال أيضا:

ص: 407


1- كذا في أخبار منظور التي طبعها ردلف برونو في الجزء الحادي و العشرين. و في الأصول: «ولده» تحريف.
2- في ف: «مليكة بنت خارجة بن سنان».
3- في ف: «ما علمت أن هذا حرام».
4- نكاح المقت: هو أن يتزوّج الرجل امرأة أبيه بعده.

لعمر أبي، دين يفرّق بيننا *** و بينك قسرا إنّه لعظيم

و قال حجر بن معاوية بن عيينة بن حصن بن حذيفة لمنظور:

/

لبئس ما خلف الآباء بعدهم *** في الأمّهات عجان(1) الكلب منظور

قد كنت تغمزها و الشيخ حاضرها *** فالآن أنت بطول الغمز معذور

تزوّجت ابنته خولة الحسن بن علي بعد موت زوجها

قال أبو الفرج الأصبهاني(2): أخطأ ابن الكلبي في هذا. و إنما طلحة بن عبيد اللّه الذي تزوّجها؛ فأما محمد فإنه تزوّج خولة بنت منظور فولدت له إبراهيم بن محمد و كان أعرج، ثم قتل عنها يوم الجمل، فتزوّجها الحسن بن عليّ عليهما السلام، فولدت له الحسن بن الحسن عليهما السلام. و كان إبراهيم بن محمد بن طلحة نازع بعض ولد الحسين بن علي بعض ما كان بينهم و بين بني الحسن من مال عليّ عليه السلام، فقال الحسينيّ لأمير المدينة: هذا الظالم الضالع الظالع(3) - يعني إبراهيم - فقال له إبراهيم: و اللّه(4) إني لأبغضك. فقال له الحسيني: صادق، و اللّه يحب الصادقين، و ما يمنعك من ذلك و قد قتل أبي أباك و جدّك، و ناك عمي أمّك؟ - لا يكني - فأمر بهما فأقيما من بين يدي الأمير.

لقي مليكة بعد فراقها فتعرض لها و لزوجها

رجع الخبر إلى رواية ابن الكلبي قال: فلما فرّق عمر رضي اللّه عنه بينهما و تزوّجت رآها منظور يوما و هي تمشي في الطريق - و كانت جميلة رائعة الحسن - فقال: يا مليكة، لعن اللّه دينا فرّق بيني و بينك! فلم تكلمه و جازت، و جاز بعدها زوجها؛ فقال له منظور: كيف رأيت أثر أيري في حر مليكة؟ قال: كما رأيت أثر أير أبيك فيه، فأفحمه. و بلغ عمر رضي اللّه عنه الخبر فطلبه ليعاقبه، فهرب منه.

رجع إلى زواج ابنته خولة بالحسن

و قال الزبير في حديثه: فتزوّج محمد بن طلحة بن عبيد اللّه خولة بنت منظور فولدت له إبراهيم و داود و أمّ القاسم بني محمد بن طلحة، ثم قتل عنها يوم الجمل، فخلف عليها الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، فولدت له الحسن بن الحسن رضي اللّه عنهما.

/قال الزبير: و قال محمد بن الضحاك الحزاميّ عن أبيه:

تزوّج الحسن عليه السلام خولة بنت منظور، زوّجه إياها عبد اللّه بن الزبير و كانت أختها تحته.

و أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدّثني يحيى بن الحسن قال حدّثني موسى بن عبيد اللّه(5) بن الحسن قال:

ص: 408


1- العجان: الاست.
2- في ف: «قال مؤلف هذا الكتاب».
3- الضالع: الجائر، و الظالع: المتهم.
4- في ف: «اللّه يعلم أني أبغضك».
5- في ط، ف: «عبد اللّه».

جعلت خولة أمرها إلى الحسن عليه السلام فتزوّجها، فبلغ ذلك منظور بن زبّان فقال: أمثلي يفتات عليه في ابنته! فقدم المدينة، فركز راية سوداء في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فلم يبق قيسيّ بالمدينة إلا دخل تحتها، فقيل لمنظور بن زبان: أين يذهب بك! تزوّجها الحسن بن عليّ عليه السلام و ليس مثله أحد. فلم يقبل. و بلغ الحسن /عليه السلام ما فعل، فقال له: ها، شأنك(1) بها، فأخذها و خرج بها. فلما كان بقباء جعلت خولة تندّمه و تقول:

الحسن بن عليّ سيد شباب أهل الجنة. فقال: تلبّثي هاهنا، فإن كانت للرجل فيك حاجة فسيلحقنا هاهنا. قال:

فلحقه الحسن و الحسين عليهما السلام و ابن جعفر و ابن عباس، فتزوّجها الحسن، و رجع بها. قال الزبير: ففي ذلك يقول جفير(2) العبسيّ:

إن النّدى من بني ذبيان قد علموا *** و الجود في آل منظور بن سيّار

الماطرين بأيديهم نديّ ديما *** و كلّ غيث من الوسميّ(3) مدرار

تزور جاراتهم وهنا(4) فواضلهم *** و ما فتاهم لها سرّا بزوّار

ترضى قريش بهم صهرا لأنفسهم *** و هم رضا لبني أخت و أصهار

لما أسنت خولة بنته برزت للرجال و غناها معبد بشعر قيل فيها فطربت
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني ابن أبي أيّوب عن ابن عائشة المغنّي عن معبد:

أن خولة بنت منظور كانت عند الحسن بن عليّ عليهما السلام، فلما أسنّت مات عنها أو طلّقها، فكشفت قناعها و برزت للرجال. قال معبد: فأتيتها ذات يوم أطالبها بحاجة، فغنّيتها لحني في شعر قاله فيها بعض بني فزارة، و كان خطبها فلم ينكحها أبوها:

قفا في دار خولة فاسألاها *** تقادم عهدها و هجرتماها

بمحلال كأن المسك فيه *** إذا فاحت(5) بأبطحه صباها

كأنّك مزنة برقت بليل *** لحرّان يضيء له سناها

فلم تمطر عليه و جاوزته *** و قد أشفى عليها أو رجاها

و ما يملا فؤادي فاعلميه *** سلوّ النفس عنك و لا غناها

و ترعى حيث شاءت من حمانا *** و تمنعنا فلا نرعى حماها

ص: 409


1- في ف: «فقال له شأنك بها».
2- كذا في جميع الأصول، و الذي يعرف من أسمائهم جيفر.
3- الوسمي: مطر الربيع الأوّل.
4- الوهن: نحو من نصف الليل أو بعد ساعة منه، و الفواضل: الأيدي الجسيمة.
5- كذا في ف، و في سائر الأصول: «باحت».

قال(1): فطربت العجوز لذلك، و قالت: يا عبد ابن قطن، أنا و اللّه يومئذ أحسن من النار الموقدة في اللّيلة القرّة(2).

صوت

للّه در عصابة صاحبتهم *** يوم الرّصافة مثلهم لم يوجد

متقلّدين صفائحا هنديّة *** يتركن من ضربوا كأن لم يولد

و غدا الرجال الثائرون كأنّما *** أبصارهم قطع الحديد الموقد

عروضه من الكامل. الشعر للجحّاف السّلمي الموقع ببني تغلب في يوم البشر. و الغناء للأبجر ثقيل أوّل بالبنصر في مجراها عن إسحاق.

ص: 410


1- زاد في ف: «عروضه من الوافر».
2- القرة: الباردة.

16 - خبر الجحّاف و نسبه و قصّته يوم البشر

نسبه

هو الجحّاف بن حكيم بن عاصم بن قيس بن سباع بن خزاعيّ بن محاربيّ(1) بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور.

قصته يوم البشر و سبب ذلك

و كان السبب في ذلك فيما أخبرنا به محمد بن/العباس اليزيدي و عليّ بن سليمان الأخفش قالا حدّثنا أبو سعيد السكريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي، و أخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عمر بن شبّة، و قد جمعت روايتهم. و أكثر اللفظ في الخبر لابن حبيب:

أن عمير بن الحباب لما قتلته بنو تغلب بالحشّاك - و هو إلى جانب الثّرثار، و هو قريب من تكريت - أتى تميم ابن الحباب أخوه زفر بن الحارث فأخبره بمقتل عمير، و سأله الطلب له بثأره، فكره ذلك زفر، فسار تميم بن الحباب بمن تبعه(2) من قيس، و تابعه على ذلك مسلم بن أبي ربيعة العقيلي. فلما توجهوا نحو بني تغلب لقيهم الهذيل في زراعة لهم؛ فقال: أين تريدون؟ فأخبروه بما كان من زفر، فقال: أمهلوني ألق الشّيخ. فأقاموا و مضى الهزيل فأتى زفر؛ فقال: ما صنعت! و اللّه لئن ظفر بهذه العصابة إنه لعار عليك، و لئن ظفروا إنه لأشدّ؛ قال زفر:

فأحبس عليّ القوم؛ و قام زفر في أصحابه، فحرّضهم، ثم شخص و استخلف عليهم أخاه أوسا، و سار حتى انتهى إلى الثّرثار فدفنوا أصحابهم، ثم وجّه زفر بن الحرث يزيد بن حمران في خيل، فأساء إلى بني فدوكس من تغلب، فقتل رجالهم و استباح أموالهم، فلم يبق في ذلك الجوّ غير امرأة واحدة يقال لها حميدة بنت امرئ القيس عاذت بابن حمران فأعاذها. و بعث الهذيل إلى بني كعب بن زهير فقتل فيهم قتلا/ذريعا. و بعث مسلم بن ربيعة إلى ناحية أخرى فأسرع في القتل. و بلغ ذلك بني تغلب و اليمن، فارتحلوا يريدون عبور دجلة، فلحقهم زفر بالكحيل - و هو نهر أسفل الموصل مع المغرب - فاقتتلوا قتالا شديدا، و ترجّل أصحاب زفر أجمعون، و بقي زفر على بغل له، فقتلوهم من ليلتهم، و بقروا ما وجدوا من النساء. و ذكر أن من غرق في دجلة أكثر ممّن قتل بالسيف، و أنّ الدّم كان في دجلة قريبا من رمية سهم. فلم يزالوا يقتلون من وجدوا حتى أصبحوا؛ فذكر أن زفر دخل معهم دجلة و كانت فيه بحّة، فجعل ينادي و لا يسمعه أصحابه، ففقدوا(3) صوته و حسبوا أن يكون قتل، فتذامروا(4) و قالوا: لئن قتل شيخنا

ص: 411


1- في ب، س: «مخازي» و في ط: «محاري»، تحريف، و التصحيح من «المقتضب من جمهرة النسب» (الورقة 45).
2- في ف: «بمن معه».
3- كذا في معظم الأصول، و في ف: «فلا يسمع صوته ففقده أصحابه».
4- تذامروا: حض بعضهم بعضا على القتال.

لما صنعنا شيئا، فاتبعوه فإذا هو في دجلة يصيح بالناس - و تغلب قد رمت بأنفسها تعبر في الماء - فخرج من الماء و أقام في موضعه. فهذه الوقعة الحرجيّة لأنهم أحرجوا فألقوا أنفسهم في الماء. ثم وجّه يزيد بن حمران و تميم بن الحباب و مسلم بن ربيعة و الهذيل بن زفر في أصحابه، و أمرهم ألاّ يلقوا أحدا إلا قتلوه، فانصرفوا من ليلتهم، و كلّ قد أصاب حاجته من القتل و المال، ثم مضى يستقبل الشّمال في جماعة من أصحابه، حتّى أتى رأس الأثيل، و لم يخلّ(1) بالكحيل أحدا - و الكحيل على عشرة فراسخ من الموصل فيما بينها و بين الجنوب - فصعد قبل رأس الأثيل، فوجد به عسكرا من اليمن و تغلب، فقاتلهم بقية ليلتهم، فهربت تغلب و صبرت اليمن. و هذه الليلة تسميها تغلب ليلة الهرير. ففي ذلك يقول زفر بن الحارث، و قد ذكر أنها لغيره:

و لمّا أن نعى النّاعي عميرا *** حسبت سماءهم دهيت بليل

دهيت بليل، أي أظلمت نهارا كأن ليلا دهاها.

/

و كان النجم يطلع في قتام(2)*** و خاف الذّلّ من يمن سهيل

/و كنت قبيلها يا أمّ عمرو *** أرجّل لمّتي(3) و أجرّ ذيلي

فلو نبش المقابر عن عمير *** فيخبر من بلاء أبي الهذيل

غداة يقارع الأبطال حتى *** جرى منهم دما مرج(4) الكحيل

قبيل ينهدون(5) إلى قبيل *** تساقى الموت كيلا بعد كيل

و في ذلك يقول جرير يعيّر الأخطل:

أنسيت يومك بالجزيرة بعد ما *** كانت عواقبه عليك وبالا!

حملت عليك حماة قيس خيلها *** شعثا عوابس تحمل الأبطالا

ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم *** خيلا تكرّ عليكم و رجالا

زفر الرئيس أبو الهذيل أبادكم *** فسبى النساء و أحرز الأموالا

أغراه الأخطل بشعره بأخذ الثار من تغلب ففعل و فر إلى الروم

فلما أن كانت سنة ثلاث و سبعين، و قتل عبد اللّه بن الزبير هدأت الفتنة و اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، و تكافّت قيس و تغلب عن المغازي بالشام و الجزيرة، و ظنّ كلّ واحد من الفريقين أنّ عنده فضلا لصاحبه، و تكلم عبد الملك في ذلك و لم يحكم الصلح فيه، فبيناهم على تلك الحال إذ أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان و عنده وجوه قيس قوله:

ألا سائل الجحاف هل هو ثائر *** بقتلى أصيبت من سليم و عامر!

ص: 412


1- كذا في معظم الأصول، و في ف: «لم يخلف أحدا»، و في ج: «لم يتخلف أحد».
2- القتام: الغبار. و في البيت إقواه.
3- اللمة: الشعر المجاوز شحمة الأذن.
4- المرج: الفضاء أو أرض ذات كلأ ترعى فيها الدواب.
5- ينهدون: ينهضون.

أ جحاف إن نهبط عليك فتلتقي *** عليك بحور طاميات الزواخر

تكن مثل أبداء(1) الحباب الذي جرى *** به البحر تزهاه(2) رياح الصراصر

/فوثب الجحاف يجرّ مطرفه و ما يعلم من الغضب، فقال عبد الملك الأخطل: ما أحسبك إلا و قد كسبت قومك شرا. فافتعل الحجاف عهدا من عبد الملك على صدقات بكر و تغلب، و صحبه من قومه نحو من ألف فارس، فثار بهم حتى بلغ الرّصافة - قال: و بينها و بين شط الفرات ليلة، و هي في قبلة الفرات - ثم كشف لهم أمره، و أنشدهم شعر الأخطل، و قال لهم: إنما هي النار أو العار، فمن صبر فليقدم و من كره فليرجع، قالوا: ما بأنفسنا عن نفسك رغبة، فأخبرهم بما يريد، فقالوا: نحن معك فيما كنت فيه من خير و شرّ، فارتحلوا فطرقوا صهين(3) بعد رؤبة(4) من الليل - و هي في قبلة الرصافة و بينهما ميل - ثم صبّحوا عاجنة الرّحوب في قبلة صهين و البشر - و هو واد لبني تغلب - فأغاروا على بني تغلب ليلا فقتلوهم، و بقروا من النساء من كانت حاملا، و من كانت غير حامل قتلوها. فقال عمر بن شبّة في خبره: سمعت أبي يقول: صعد الجحاف الجبل - فهو يوم البشر، و يقال له أيضا يوم عاجنة الرّحوب، يوم مخاشن، و هو جبل إلى جنب البشر، و هو مرج السّلوطح لأنه بالرحوب - و قتل في تلك الليلة ابنا للأخطل يقال له أبو غياث، ففي ذلك يقول جرير له:

شربت الخمر بعد ابي غياث *** فلا نعمت لك السّوءات(5) بالا

قال عمر بن شبّة في خبره خاصّة:

و وقع الأخطل في أيديهم، و عليه عباءة دنسة، فسألوه/فذكر أنّه عبد من عبيدهم، فأطلقوه، فقال ابن صفّار في ذلك:

لم تنج إلا بالتعبّد نفسه *** لمّا تيقن أنهم قوم عدا

و تشابهت برق(6) العباء عليهم *** فنجا و لو عرفوا عباءته هوى

/و جعل ينادي: من كانت حاملا فإليّ، فصعدن إليه، فجعل يبقر بطونهنّ. ثم إن الجحاف هرب بعد فعله، و فرّق عنه أصحابه و لحق بالروم، فلحق الجحاف عبيدة بن همام التغلبيّ دون الدّرب، فكرّ عليه الجحاف فهزمه، و هزم أصحابه و قتلهم، و مكث زمنا في الروم، و قال في ذلك:

فإن تطردوني تطردوني و قد مضى *** من الورد يوم في دماء الأراقم(7)

ص: 413


1- كذا في الأصول، و في «الديوان»: «أقذاء الحباب».
2- زهت الريح الشجر تزهاه: هزته و حركته. و في ف: «ترفيه».
3- هكذا ضبط في ط.
4- رؤبة: قطعة، و أصلها القطعة تسد بها ثلمة الإناء.
5- كذا في ط؛ و في ج؛ ب، س: «النشوات».
6- الأبرق: كل شيء اجتمع فيه سواد و بياض، و هي برقاء و الجمع برق.
7- الأراقم: حيّ من تغلب و هم جشم، أو هم بنو بكر و جشم و مالك و الحارث و معاوية، سموا كذلك تشبيها لعيونهم بعيون الأراقم من الحيات.

لدن ذرّ قرن الشمس حتى تلبّست *** ظلاما بركض المقربات الصلادم(1)

رجع بعد عفو عبد الملك عنه و تمثل بشعر الأخطل

حتّى سكن غضب عبد الملك، و كلّمته القيسية في أن يؤمنه، فلان و تلكأ، فقيل له: إنا و اللّه لا نأمنه على المسلمين إن طال مقامه بالروم؛ فأمّنه، فأقبل فلما قدم على عبد الملك لقيه الأخطل فقال له الجحاف:

أبا مالك هل لمتني إذ حضضتني *** على القتل(2) أم هل لامني لك لائمي

أبا مالك إني أطعتك في الّتي *** حضضت عليها فعل حرّان حازم

فإن تدعني أخرى أجبك بمثلها *** و إني لطبّ(3) بالوغى جدّ عالم

قال ابن حبيب:

فزعموا أن الأخطل قال له: أراك و اللّه شيخ سوء. و قال فيه جرير:

فإنّك و الجحاف يوم تحضّه *** أردت بذاك المكث و الورد أعجل

بكى دوبل لا يرقئ اللّه دمعة *** ألا إنما يبكي من الذّلّ دوبل(4)

و ما زالت القتلى تمور دماؤهم *** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل(5)

/فقال الأخطل: ما لجرير لعنه اللّه! و اللّه ما سمّتني أمي دوبلا إلاّ و أنا صبيّ صغير ثم ذهب ذلك عني لما كبرت. و قال الأخطل:

لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة *** إلى اللّه منها المشتكى و المعوّل

فسائل بني مروان ما بال ذمّة *** و حبل ضعيف لا يزال يوصّل

فإلاّ تغيّرها قريش بملكها *** يكن عن قريش مستراد و مزحل(6)

حمله الوليد دية قتلى البشر فاستطاع أن يأخذها من الحجاج

فقال عبد الملك حين أنشده هذا: فإلى أين يا ابن النّصرانية؟ قال: إلى النار قال: أولى لك لو قلت غيرها! قال: و رأى عبد الملك أنه إن تركهم على حالهم لم يحكم الأمر، فأمر الوليد بن عبد الملك، فحمل الدماء التي كانت قبل ذلك بين قيس و تغلب، و ضمّن الجحّاف قتلى البشر، و ألزمه إياها عقوبة له، فأدّى الوليد الحمالات، و لم يكن عند الجحاف ما حمّل، فلحق بالحجّاج بالعراق يسأله ما حمّل لأنه من هوازن، فسأل الإذن على الحجاج، فمنعه. فلقي أسماء بن خارجة؛ فعصب حاجته به فقال: إني لا أقدر لك على منفعة، قد علم الأمير بمكانك و أبى

ص: 414


1- المقربات من الخيل: التي ضمرت للركوب فهي قريبة معدّة. و الصلادم: جمع صلدم، كزبرج و هو الفرس الصلب الشديد.
2- في «معجم البلدان» «على الثأر».
3- الطب: الخبير الحاذق.
4- الدوبل: الخنزير أو ولده، و رقأ الدمع: جف و سكن.
5- مار الدم: جرى، و الأشكل: ما فيه بياض يضرب إلى الحمرة و الكدرة.
6- في «معجم البلدان»: «... بعدلها يكن عن قريش مستماز و مزحل». بملكها، أي بقدرتها، و المستراد في الأصل: المرعى، من استرادت الدابة: رعت، و مزحل: مبعد، من زحل عن مكانه زال و تنحى.

أن يأذن لك؛ فقال: لا و اللّه لا ألزمها غيرك أنجحت أو أكدت(1)، فلما بلغ ذلك الحجاج قال: ما له عندي شيء، فأبلغه ذلك؛ قال: و ما عليك أن تكون أنت الذي تؤيسه فإنه قد أبى، فأذن/له فلمّا رآه قال: أ عهدتني خائنا لا أبا لك! قال: أنت سيد هوازن، و قد بدأنا بك، و أنت أمير العراقين(2)، و ابن عظيم القريتين(3)، و عمالتك في كل سنة خمسمائة ألف درهم، و ما بك بعدها حاجة إلى خيانة(4)؛ فقال: أشهد أن اللّه تعالى وفّقك، و أنّك نظرت بنور اللّه، فإذا صدقت فلك نصفها العام، فأعطاه و ادّوا البقية.

تنسك و خرج إلى الحج في زي عجيب

قال: ثم تأله(5) الجحاف/بعد ذلك، و استأذن في الحج، فأذن له، فخرج في المشيخة الذين شهدوا معه، قد لبسوا الصوف و أحرموا، و أبروا أنوفهم أي خزموها و جعلوا فيها البرى(6)، و مشوا إلى مكة فلما قدموا المدينة و مكة جعل الناس يخرجون فينظرون إليهم، و يعجبون منهم. قال: و سمع ابن عمر الجحاف و قد تعلق بأستار الكعبة و هو يقول: اللّهم اغفر لي و ما أراك تفعل! فقال له ابن عمر: يا هذا، لو كنت الجحاف ما زدت على هذا القول؛ قال:

فأنا الجحاف، فسكت. و سمعه محمد بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و هو يقول ذلك؛ فقال: يا عبد اللّه، قنوطك من عفو اللّه أعظم من ذنبك! قال عمر بن شبّة في خبره: كان مولد الجحّاف بالبصرة.

دخل على عبد الملك بعد أن أمنه فأنشده شعرا

قال عبد اللّه بن إسحاق النحويّ: كان الجحاف معي في الكتّاب، قال أبو زيد في خبره أيضا: و لما أمّنه عبد الملك دخل عليه في جبّة صوف، فلبث قائما، فقال له عبد الملك: أنشدني بعض ما قلت في غزوتك هذه و فجرتك، فأنشده قوله:

صبرت سليم للطعان و عامر *** و إذا جزعنا لم نجد من يصبر

فقال له عبد الملك بن مروان: كذبت، ما أكثر من يصبر! ثم أنشده:

نحن الذين إذا علوا لم يفخروا *** يوم اللقا و إذا علوا لم يضجروا

فقال عبد الملك: صدقت، حدّثني أبي عن أبي سفيان بن حرب أنكم كنتم كما وصفت يوم فتح مكة.

عود إلى قصة يوم البشر
اشارة

حدّثت عن الدمشقيّ عن الزبير بن بكار، و أخبرني، وكيع عن عبد اللّه بن شبيب عن الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز بن مروان:

ص: 415


1- أكدى: أصله من أكدى الحافر: إذا حفر فبلغ الكدية و هي الصخرة فانقطع عن الحفر.
2- العرافان: الكوفة و البصرة.
3- القريتان: مكة و الطائف.
4- كذا في ف، و في معظم الأصول «و ما بك بعدها إلى خيانة فقر».
5- تأله: تعبد و تنسك.
6- البرى: جمع بردّ، و هي الحلقة في أنف البعير.

أنه حضر الجحاف عند عبد الملك بن مروان يوما و الأخطل حاضر في مجلسه ينشد:

ألا سائل الجحّاف هل هو ثائر *** بقتلى أصيب من سليم و عامر

/قال: فتقبّض وجهه في وجه الأخطل. ثم إن الأخطل لمّا قال له ذلك قال له:

نعم سوف نبكيهم بكل مهنّد *** و نبكي عميرا بالرماح الخواطر(1)

ثم قال: ظننت أنك يا ابن النصرانية لم تكن تجترئ عليّ و لو رأيتني لك مأسورا. و أوعده، فما برح الأخطل حتى حمّ، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه؛ قال: هذا أجرتني منه يقظان، فمن يجيرني منه نائما؟ قال: فجعل عبد الملك يضحك. قال: فأمّا قول الأخطل:

ألا سائل الجحّاف هل هو ثائر *** بقتلى أصيبت من سليم و عامر

فإنه يعني اليوم الذي قتلت فيه بنو تغلب عمير بن الحباب السّلميّ.

و كان السبب في ذلك فيما أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني أبو سعيد السكريّ عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن ابن الأعرابيّ عن المفضل:

أن قيسا و تغلب تحاشدوا لما كان بينهم من الوقائع منذ ابتداء الحرب بمرج راهط، فكانوا يتغاورون(2).

و كانت بنو مالك بن بكر جامعة/بالتوباذ و ما حوله، و جلبت إليها طوائف تغلب و جميع بطونها، إلا أن بكر بن جشم لم تجتمع أحلافهم من النّمر بن قاسط. و حشدت بكر فلم يأت الجمع منهم على قدر عددهم. و كانت تغلب بدوا بالجزيرة لا حاضرة لها إلا قليل بالكوفة، و كانت حاضرة الجزيرة لقيس و قضاعة و أخلاط مضر، ففارقتهم قضاعة قبل حرب تغلب، و أرسلت تغلب إلى مهاجريها و هم بأذربيجان، فأتاهم شعيب بن مليل في ألفي فارس.

و استنصر عمير تميما و أسدا فلم يأته منهم أحد؛ فقال:

أيا أخوينا من تميم هديتما *** و من أسد هل تسمعان المناديا

أ لم تعلما مذ جاء بكر بن وائل *** و تغلب ألفافا تهزّ العواليا

/إلى قومكم قد تعلمون مكانهم *** و هم قرب أدنى حاضرين و باديا

و كان من حضر ذلك من وجوه بكر بن وائل المجشّر بن الحارث بن عامر بن مرّة بن عبد اللّه بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، و كان من سادات شيبان بالجزيرة فأتاهم في جمع كثير من بني أبي ربيعة. و في ذلك يقول تميم بن الحباب بعد يوم الحشّاك.

فإن تحتجز بالماء بكر بن وائل *** بني عمّنا فالدهر ذو متغيّر

فسوف نخيض(3) الماء أو سوف نلتقي *** فنقتصّ من أبناء عم المجشّر

و أتاهم زمام بن مالك بن الحصين من بني عمرو بن هاشم(4) بن مرّة في جمع كبير فشهدوا يوم الثرثار، فقتل.

ص: 416


1- خطر الرمح: اهتز فهو خاطر و الجمع خواطر.
2- يتغاورون: يغير بعضهم على بعض.
3- أخاضه في الماء: جعله يخوضه.
4- في ف: «عمرو بن همام».

و كان فيمن أتاهم من العراق من بكر بن وائل عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان، و رهصة بن النعمان بن سويد بن خالد من بني أسعد(1) بن همّام، فلذلك تحامل المصعب بن الزبير على أبان بن زياد أخي عبيد اللّه بن زياد فقتله. و في هذا السبب كانت فرقة عبيد اللّه لمصعب، و جمعت تغلب فأكثرت فلما أتى عميرا كثرة من أتى من بني تغلب و أبطأ عنه أصحابه قال يستبطئهم:

أناديهم و قد خذلت كلاب *** و حولي من ربيعة كالجبال

أقاتلهم بحيّ بني سليم *** و يعصر كالمصاعيب النّهال(2)

فدى لفوارس الثرثار قومي *** و ما جمّعت من أهلي و مالي

فإمّا أمس قد حانت وفاتي *** فقد فارقت أعصر غير قال

/أبعد فوارس الثرثار أرجو *** ثراء المال أو عدد الرجال!

ثم زحف العسكران، فأتت قيس و تغلب الثرثار، بين رأس الأثيل و الكحيل، فشاهدوا القتال يوم الخميس.

و كان شعيب بن مليل و ثعلبة بن نياط التغلبيان قدما في ألفي فارس في الحديد، فعبروا على قرية يقال لها لبّى(3)على شاطئ دجلة بين تكريت و بين الموصل، ثم توجهوا إلى الثرثار، فنظر شعيب إلى دواخن(4) قيس، فقال لثعلبة بن نياط: سر بنا إليهم، فقال له: الرأي أن نسير إلى جماعة قومنا فيكون مقاتلنا واحدا، فقال شعيب: و اللّه لا تحدّث تغلب أني نظرت إلى دواخنهم ثم انصرفت عنهم، فأرسل ناسا من أصحابه قدّامه و عمير يقاتل/بني تغلب. و ذلك يوم الخميس، و على تغلب حنظلة بن هوبر، أحد بني كنانة بن تميم، فجاء رجل من أصحاب عمير إليه فأخبره أن طلائع شعيب قد أتته، و أنه قد عدل إليه، فقال عمير لأصحابه: اكفوني قتال ابن هوبر، و مضى هو في جماعة من أصحابه، فأخذ الذين قدمهم شعيب، فقتلهم كلّهم غير رجل من بني كعب بن زهير يقال له: قتب بن عبيد، فقال عمير: يا قتب، أخبرني ما وراءك؟ قال؛ قد أتاك شعيب بن مليل في أصحابه. و فارق ثعلبة بن نياط شعيبا، فمضى إلى حنظلة بن هوبر، فقاتل معه القيسيّة، فقتل، فالتقى عمير و شعيب فاقتتلوا قتالا شديدا، فما صلّيت العصر حتى قتل شعيب و أصحابه أجمعون، و قطعت رجل شعيب يومئذ، فجعل يقاتل القوم و هو يقول:

قد علمت قيس و نحن نعلم *** أن الفتى يفتك و هو أجذم(5)

فلما قتل شعيب نزل أصحابه، فعقروا دوابّهم، ثم قاتلوا حتى قتلوا، فلما رآه عمير قتيلا قال: من سرّه أن ينظر إلى الأسد عقيرا فها هو ذا. و جعلت تغلب يومئذ ترتجز و تقاتل و هي تقول:

ص: 417


1- في ب، س «أسد»، و ما أثبتناه عن باقي الأصول.
2- يعصر أو أعصر: قبيلة من قيس عيلان. و جمال مصاعب و مصاعيب: جمع مصعب (كمكرم): و هو الفحل الذي يترك من الركوب و العمل للفحلة، و نهل البعير كفرح: شرب حتى روي، و عطش: ضدّ، فهو ناهل و جمعه نهال، كنائم و نيام، و نهلان جمع نهال أيضا كعطشان و عطاش.
3- كذا في ف؛ و هو الصحيح، و في سائر النسخ: «أبا» تحريف.
4- الدواخن: جمع داخنة، و هي المدخنة.
5- أجذم: أقطع.

/

انعوا إياسا و اندبوا مجاشعا *** كلاهما كان كريما فاجعا

ويه(1) بني تغلب ضربا ناقعا(1)

و انصرف عمير إلى عسكره، و أبلغ بني تغلب مقتل شعيب، فحميت على القتال و تذامرت على الصبر، فقال محصن بن حصين بن جنجور أحد الأبناء: مضيت أنا و من أفلت من أصحاب شعيب بعد العصر، فأتينا راهبا في صومعته، فسألنا عن حالنا، فأخبرناه، فأمر تلميذا له، فجاء بخرق فداوي جراحنا، و ذلك غداة يوم الجمعة. فلما كان آخر ذلك اليوم أتانا خبر مقتل عمير و أصحابه، و هرب من أفلت منهم.

صوت

إنّ جنبي على الفراش لناب *** كتجافي الأسرّ فوق الظّراب

من حديث نمى إليّ فما أط *** عم غمضا و لا أسيغ شرابي

لشرحبيل إذ تعاوره الأر *** ماح في حال شدّة و شباب

فارس يطعن الكماة جريء *** تحته قارح(2) كلون الغراب

عروضه من الخفيف. الأسرّ: البعير الذي يكون به السّرور، و هي قرحة تخرج في كركرته، لا يقدر أن يبرك إلا على موضع مستو من الأرض، و الظراب: النشوز و الجبال الصغار، واحدها ظرب. و الشعر لغلفاء، و هو معد يكرب ابن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكنديّ يرثي أخاه شرحبيل قتيل يوم الكلاب الأول، و الغناء للغريض ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق و يونس و عمرو.

/و كان السبب في مقتله و قصّة يوم الكلاب فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي و عليّ بن سليمان الأخفش قالا حدّثنا أبو سعيد السكريّ قال أخبرنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال أخبرني إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قال أخبرني دماذ عن أبي عبيدة قال:

كان من الحديث/الكلاب الأوّل أن قباذ ملك فارس لمّا ملك كان ضعيف الملك، فوثبت ربيعة على المنذر الأكبر بن ماء السماء - و هو ذو القرنين بن النعمان بن الشّقيقة - فأخرجوه؛ و إنما سمّي ذا القرنين لأنه كانت له ذؤابتان، فخرج هاربا منهم حتى مات في إياد، و ترك ابنه المنذر الأصغر فيهم - و كان أذكى ولده - فانطلقت ربيعة إلى كندة، فجاءوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، فملّكوه على بكر بن وائل، و حشدوا له، فقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، و أبي قباذ أن يمدّ المنذر بجيش، فلما رأى ذلك المنذر كتب إلى الحارث بن عمرو: إني في غير قومي، و أنت أحقّ من ضمّني، و أنا متحوّل إليك؛ فحوله إليه و زوّجه ابنته هندا. ففرّق الحارث بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بني بكر بن وائل و حنظلة بن مالك و بني أسيّد(3)، و طوائف من بني عمرو بن تميم و الرّباب، و صار معد يكرب بن الحارث - و هو غلفاء - في قيس، و صار

ص: 418


1- كلمة ويه: إغراء و تحريض كما يقال: دونك يا فلان. ضربا ناقعا: بالغا قاتلا.
2- القارح: الفرس إذا استتم السنة الخامسة و دخل في السادسة.
3- كذا في ف، و في سائر الأصول؛ و حنظلة بن الحارث في بني أسد.

سلمة بن الحارث في بني تغلب و النّمر بن قاسط و سعد بن زيد مناة. فلما هلك الحارث تشتّت أمر بنيه، و تفرقت كلمتهم، و مشت الرجال بينهم، و كانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، و تفاقم الأمر حتى جمع كلّ واحد منهم لصاحبه الجموع؛ فسار شرحبيل و من معه من بني تميم و القبائل، فنزلوا الكلاب - و هو فيما بين/الكوفة و البصرة على سبع ليال من اليمامة - و أقبل سلمة بن الحارث في تغلب و النّمر و من معه، و في الصنائع - و هم الذين يقال لهم بنو رقيّة، و هي أمّ لهم ينتسبون إليها. و كانوا يكونون مع الملوك - يريدون الكلاب. و كان نصحاء شرحبيل و سلمة قد نهوهما عن الحرب و الفساد و التحاسد، و حذّروهما عثرات الحرب و سوء مغبّتها، فلم يقبلا و لم يبرحا، و أبيا إلاّ التتابع و اللجاجة في أمرهم، فقال امرؤ القيس(1) بن حجر في ذلك:

أنّى عليّ استتبّ لومكما *** و لم تلوما عمرا(2) و لا عصما

كلاّ يمين الإله يجمعنا *** شيء و أخوالنا بني جشما

حتى تزور السباع ملحمة *** كأنها من ثمود أو إرما

و كان أوّل من ورد الكلاب من جمع سلمة سفيان بن مجاشع بن دارم، و كان نازلا في بني تغلب مع إخوته لأمّه، فقتلت بكر بن وائل بنين له، فيهم مرّة بن سيفان، قتله سالم بن كعب بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان؛ فقال سفيان و هو يرتجز:

الشيخ شيخ ثكلان *** و الجوف جوف حرّان

و الورد ورد عجلان *** أنعى مرّة بن سفيان(3)

و في ذلك يقول الفرزدق:

شيوخ منهم عدس بن زيد *** و سفيان الذي ورد الكلابا

و أوّل من ورد الماء من بني تغلب رجل من بني عبد بن جشم يقال له النعمان بن قريع بن حارثة بن معاوية بن عبد بن جشم، و عبد يغوث بن دوس، و هو عم الأخطل - دوس و الفدوكس أخوان - على فرس له يقال له الحرون، و به كان يعرف/ثم ورد سلمة، بيني تغلب و سعد و جماعة الناس، و على بني تغلب يومئذ السفاح - و اسمه سملة بن خالد بن كعب بن زهير بن تميم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب - /و هو يقول:

إنّ الكلاب ماؤنا فخلّوه *** و ساجرا(4) و اللّه لن تحلّوه

فاقتتل القوم قتالا شديدا، و ثبت بعضهم لبعض؛ حتى إذا كان في آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة و عمرو بن تميم و الرّباب بكر بن وائل، و انصرفت بنو سعد و ألفافها عن بني تغلب، و صبر ابنا وائل: بكر و تغلب ليس معهم غيرهم، حتى إذا غشيهم الليل نادى منادى سلمة: من أتى برأس شرحبيل فله مائة من الإبل، و كان شرحبيل نازلا في بني حنظلة و عمرو بن تميم، ففرّوا عنه، و عرف مكانه أبو حنش - و هو عصم بن النعمان بن مالك

ص: 419


1- كذا في جميع الأصول، و الذي في «شرح النقائض» ص 452، و «شرح المفضليات» ص 428: «فقال سلمة».
2- كذا في ف، و في سائر الأصول: «حجرا».
3- هذا الشطر قد دخله الخزم بزيادة حرفين في أوله.
4- ساجر: موضع بين ديار غطفان و ديار بني تميم.

ابن غياث بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب - فصمد نحوه، فلما انتهى إليه رآه جالسا و طوائف الناس يقاتلون حوله، فطعنه بالرمح، ثم نزل إليه فاحتزّ رأسه و ألقاه إليه. و يقال إنّ بني حنظلة و بني عمرو بن تميم و الرّباب لمّا انهزموا خرج معهم شرحبيل، فلحقه ذو السّنينة - و اسمه حبيب بن عتيبة بن حبيب بن بعج بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر و كانت له سنّ زائدة - فالتفت شرحبيل فضرب ذا السنينة على ركبته، فأطنّ(1) رجله، و كان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه، أمّهما سلمى بنت عديّ بن ربيعة بنت أخي كليب و مهلهل، فقال ذو السنينة:

قتلني أبو الرجل! فقال أبو حنش: قتلني اللّه إن لم أقتله، فحمل عليه، فلما غشيه قال: يا أبا حنش، أ ملكا بسوقه؟ قال: إنه كان ملكي، فطعنه أبو حنش، فأصاب رادفة(2)/السّرج، فورّعت(3) عنه، ثم تناوله فألقاه عن فرسه، و نزل إليه فاحتزّ رأسه، فبعث به إلى سلمة مع ابن عم له يقال له أبو أجأ بن كعب بن مالك بن غياث، فألقاه بين يديه؛ فقال له سلمة: لو كنت ألقيته إلقاء رفيقا! فقال: ما صنع بي و هو حيّ أشدّ من هذا، و عرف أبو أجأ الندامة في وجهه و الجزع على أخيه، فهرب و هرب أبو حنش فتنحى عنه، فقال سعد يكرب أخو شرحبيل، و كان صاحب سلامة معتزلا عن جميع هذه الحروب:

ألا أبلغ أبا حنش رسولا *** فمالك لا تجيء إلى الثواب!

تعلّم أن خير الناس طرّا *** قتيل بين أحجار الكلاب

تداعت حوله جشم بن بكر *** و أسلمه جعاسيس(4) الرّباب

قتيل ما قتيلك يا ابن سلمى *** تضرّ به صديقك أو تحابي

فقال أبو حنش مجيبا له:

أحاذر أن أجيئكم فتحبو *** حباء أبيك يوم صنيبعات(5)

فكانت غدرة شنعاء تهفو *** تقلّدها أبوك إلى الممات

و يقال: إنّ الشعر الأوّل لسلمة بن الحارث.

و قال معد يكرب المعروف بغلفاء يرثي أخاه شرحبيل بن الحارث:

إنّ جنبي عن الفراش لنابي *** كتجافي الأسرّ فوق الظّراب

من حديث نمى إليّ فلا تر *** قأ عيني و لا أسيغ شرابي

/مرّة كالذّعاف أكتمها النا *** س على حر ملّة كالشّهاب(6)

/من شرحبيل إذ تعاوره الأر *** ماح في حال لذّة و شباب

ص: 420


1- أطنّ رجله: قطعها.
2- رادفة السرج: مؤخرته.
3- ورّعت عنه: منعت.
4- جعاسيس: جمع جعسوس و هو القصير الدميم.
5- صنيبعات: موضع أو ماء نهشت عنده حية ابنا صغيرا للحارث بن عمرو، و كان مسترضعا في بني تميم؛ و بنو تميم و بكر في مكان واحد يومئذ على صنيبعات، فأتاه منهما قوم يعتذرون إليه، فقتلهم جميعا.
6- الملة: الرماد الحار.

يا بن أمي و لو شهدتك إذ تد *** عو تميما، و أنت غير مجاب

لتركت الحسام تجري ظباه(1) *** من دماء الأعداء يوم الكلاب

ثم طاعنت من ورائك حتى *** تبلغ الرّحب أو تبزّ(2) ثيابي

يوم ثارت بنو تميم و ولّت *** خيلهم يتّقين بالأذناب

ويحكم يا بني أسيّد إنّي *** ويحكم ربّكم و ربّ الرّباب

أين معطيكم الجزيل و حابي *** كم على الفقر بالمئين الكباب(3)

فارس يضرب الكتيبة بالسي *** ف على نحره كنضح الملاب(4)

فارس يطعن الكماة جريء *** تحته قارح كلون الغراب

قال: و لما قتل شرحبيل قامت بنو سعد بن زيد مناة بن تميم دون عياله، فمنعوهم و حالوا بين الناس و بينهم، و دفعوا عنهم حتى ألحقوهم بقومهم و مأمنهم. ولى ذلك منهم عوف بن شجنة بن الحارث بن عطارد بن عوف بن سعد بن كعب، و حشد له فيه رهطه و نهضوا معه، فأثنى عليهم في ذلك امرؤ القيس بن حجر، و مدحهم به في شعره فقال:

ألا إنّ قوما كنتم أمس دونهم *** عن استنقذوا جاراتكم آل غدران

/عوير و من مثل العوير و رهطه *** و أسعد في يوم الهزاهز صفوان(5)

و هي قصيدة معروفة طويلة:

صوت

و عين الرّضا عن كلّ عيب كليلة *** و لكنّ عين السخط تبدي المساويا

و أنت أخي ما لم تكن لي حاجة *** فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا

الشعر لعبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه الجعفريّ، يقوله للحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس؛ هكذا ذكر مصعب الزبيريّ. و ذكر مؤرّج فيما أخبرنا به اليزيديّ عن عمه أبي جعفر عن مؤرّج - و هو الصحيح - أنّ عبد اللّه بن معاوية قال هذا الشعر في صديق له يقال له قصيّ بن ذكوان، و كان قد عتب عليه. و أوّل الشعر:

رأيت قصيا كان شيئا ملفّفا *** فكشّفه التمحيص حتّى بدا ليا

فلا زاد ما بيني و بينك بعد ما *** بلوتك في الحاجات إلاّ تنائيا

و الغناء لبنان بن عمرون رمل بالوسطى. و فيه الثقيل الأوّل لعريب من رواية أبي العنبس و غيره.

ص: 421


1- الظبا: جمع ظبة، حدّ السيف.
2- أي تنزع عني بموتي.
3- كذا في ف؛ و الكباب: الكثير من الإبل، و في سائر الأصول: «اللباب»، و لباب الإبل: خيارها.
4- الملاب: ضرب من الطيب؛ أو الزعفران.
5- أسعد: أعان. الهزاهز: الفتن يهتز فيها الناس. عوير و صفوان: رجلان من القوم الذين ذكر أنهم منعوه و تحرّم بهم. و في البيت إقواء.

17 - خبر عبد اللّه بن معاوية و نسبه

نسبه

هو عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. و أمّ عبد اللّه بن جعفر و سائر بني جعفر أسماء بنت عميس بن معد(1) بن تميم بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن بشر بن وهب اللّه بن/شهران بن عفرس بن أفتل، و هو خماعة بن خثعم بن أنمار.

و أمّها هند بنت عوف، امرأة من جرش. هذه الجرشيّة أكرم الناس أحماء، أحماؤها: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عليّ و جعفر و حمزة و العباس و أبو بكر رضى اللّه تعالى عنهم، و إنما صار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من أحمائها أنه كان لها أربع بنات: ميمونة زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و أمّ الفضل زوجة العباس و أم بنته، و سلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب، بنات الحارث، و أسماء بنت عميس أختهنّ لأمّهنّ، كانت عند جعفر بن أبي طالب، ثم خلف عليها أبو بكر رضى اللّه تعالى عنه ثم خلف عليها عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و ولدت من جميعهم. و هنّ اللواتي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لهنّ: «إنهنّ مؤمنات».

حدّثني بذلك أحمد بن محمد بن سعيد قال حدّثني يحيى بن الحسن العلويّ قال حدّثنا هارون بن محمد بن موسى الفرويّ قال: حدّثنا داود بن عبد اللّه قال: حدّثني عبد العزيز الدّراورديّ عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الأخوات المؤمنات: ميمونة، و أمّ الفضل، و سلمى، و أسماء بنت عميس أختهنّ لأمّهن».

/حدّثني أحمد قال حدّثني يحيى قال حدّثنا الحسن بن علي قال حدّثني عبد الرزاق قال أخبرني يحيى بن العلاء البجليّ عن عمه شعيب بن خالد عن حنظلة بن سمرة بن المسيّب عن أبيه عن جدّه عن ابن عباس قال:

دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على فاطمة و عليّ، عليهما السلام - ليلة بنى بها - فأبصر خيالا من وراء السّتر؛ فقال: «من هذا؟» فقالت: أسماء؛ قال: «بنت عميس»؟ قالت: نعم، أنا التي أحرس بنتك يا رسول اللّه؛ فإنّ الفتاة(2) ليلة بنائها لا بدّ لها من امرأة تكون قريبا منها، إن عرضت لها حاجة أفضت بذلك إليها؛ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك و من خلفك و عن يمينك و عن شمالك من الشيطان».

طائفة من أخبار عبد اللّه بن جعفر أدرك رسول اللّه و روى عنه

و قد أدرك عبد اللّه بن جعفر رحمه اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و روى عنه.

ص: 422


1- في الأصول: «معقل»، و هو تحريف.
2- كذا في ف، و في سائر الأصول: «المرأة».

فممّا روى عنه ما حدّثنيه حامد بن محمد بن شعيب البلخيّ و أحمد بن محمد بن الجعد قالا حدّثنا محمد بن بكّار قال حدّثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عبد اللّه بن جعفر قال: رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يأكل البطّيخ بالرّطب.

رآه النبيّ يلعب فداعبه

حدّثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدّثنا يحيى بن الحسن قال حدّثنا سلمة بن شبيب قال حدّثنا عبد الرزاق قال أخبرني ابن يحيى و عثمان بن أبي سليمان قالا:

مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بعبد اللّه بن جعفر و هو يصنع شيئا من طين من لعب الصبيان فقال: «ما تصنع بهذا»؟ قال:

أبيعه، قال: «ما تصنع بثمنه»؟ قال: أشتري به رطبا فآكله؛ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «اللهم بارك له في صفقة يمينه». فكان يقال: ما اشترى شيئا إلا ربح فيه.

تعرّض له الحزين بالعقيق و طلب منه ثيابا

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و الطّوسيّ قالا حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمي مصعب عن جدّي عبد اللّه بن مصعب:

أنّ الحزين قمر(1) في العقيق في غداة باردة ثيابه، فمرّ به عبد اللّه بن جعفر و عليه مقطّعات خزّ؛ فاستعار الحزين من رجل ثوبا، ثم قال إليه فقال:

/

أقول له حين واجهته *** عليك السلام أبا جعفر

فقال: و عليك السلام؛ فقال:

فأنت المهذّب من غالب *** و في البيت منها الذي تذكر

فقال: كذبت يا عدوّ اللّه؛ ذاك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال:

فهذي ثيابي قد أخلقت *** و قد عضّني زمن منكر

قال: هاك ثيابي، فأعطاه ثيابه.

قال الزبير قال عمّي: أما البيت الثاني فحدثنيه عمّي عن الفضل بن الربيع عن أبي، و ما بقي فأنا سمعته من أبي.

تعرّض له أعرابي هو على سفر عطاه راحلة بما عليها

حدّثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال أخبرنا يحيى بن الحسن قال:

بلغني أن أعرابيا وقف على مروان بن عبد الحكم أيام الموسم بالمدينة فسأله، فقال: يا أعرابيّ، ما عندنا ما نصلك؛ و لكن عليك بابن جعفر. فأتى الأعرابيّ باب عبد اللّه بن جعفر فإذا ثقله(2) قد سار نحو مكة، و راحلته بالباب عليها متاعها و سيف معلّق، فخرج عبد اللّه من داره و أنشأ الأعرابي يقول:

ص: 423


1- قمر: غلب في القمار.
2- الثقل: المتاع و الحشم.

أبو جعفر من أهل بيت نبوّة *** صلاتهم للمسلمين طهور

أبا جعفر إن الحجيج ترحّلوا *** و ليس لرحلي فاعلمنّ بعير

/أبا جعفر ضنّ الأمير بماله *** و أنت على ما في يديك أمير

و أنت امرؤ من هاشم في صميمها *** إليك يصير المجد حيث تصير

فقال: يا أعرابي، سار الثّقل فدونك الراحلة بما عليها، و إياك أن تخدع عن السّيف فإني أخذته بألف دينار.

فأنشأ الأعرابيّ يقول:

حباني عبد اللّه، نفسى فداؤه *** بأعيس موّار سباط مشافره(1)

و أبيض من ماء الحديد كأنه *** شهاب بدا و الليل داج عساكره(2)

و كل امرئ يرجو نوال ابن جعفر *** سيجري له باليمن و البشر طائره

فيا خير خلق اللّه نفسا و والدا *** و أكرمه للجار حين يجاوره

سأثني بما أوليتني يا بن جعفر *** و ما شاكر عرفا كمن هو كافره

ذكر له شاعر أنه كساه في المنام، فكساه جبة وشى

و حدّثني أحمد بن يحيى عن رجل قال حدّثني شيخ من بني تميم بخراسان قال: جاء شاعر إلى عبد اللّه بن جعفر فأنشده:

رأيت أبا جعفر في المنام *** كساني من الخزّ درّاعة(3)

شكوت إلى صاحبي أمرها *** فقال ستؤتى بها الساعة

سيكسوكها الماجد الجعفريّ *** و من كفّه الدهر نفّاعه

و من قال للجود لا تعدني *** فقال لك السمع و الطاعة

/فقال عبد اللّه لغلامه: ادفع إليه درّاعتي الخزّ ثم قال له: كيف لو ترى جبتي المنسوجة بالذهب التي اشتريتها بثلاثمائة دينار! فقال له الشاعر: بأبي دعني اغفى إغفاءة أخرى فلعلي أرى هذه الجبة في المنام، فضحك منه و قال:

يا غلام ادفع إليه جبّتي الوشى.

اعترض ابن داب على شعر الشماخ في مدحه بأنه دون شعره في عرابة

حدّثنا أحمد قال/قال يحيى قال ابن دأب: و سمع قول الشمّاخ بن ضرار الثعلبيّ في عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رحمه اللّه:

إنك يا بن جعفر نعم الفتى *** و نعم مأوى طارق إذا أتى

ص: 424


1- أعيس: واحد العيس و هي الإبل البيض يخالط بياضها شقرة. الموار: النشيط في سيره المفتول العضل يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبيه. المشافر، جمع مشفر كمنبر: ما يقابل الشفة في الإنسان. و سياط، يريد أنها لبنة.
2- عسكر الليل: ظلمته.
3- الدرّاعة: جبة مشقوقة المقدم.

و جار ضيف طرق الحيّ سرى *** صادف زادا و حديثا يشتهى

إن الحديث طرف من القرى

فقال ابن دأب: العجب للشمّاخ يقول مثل هذا القول لابن جعفر و يقول لعرابة الأوسي:

إذا ما رأية رفعت لمجد *** تلقّاها عرابة باليمين

عبد اللّه بن جعفر كان أحقّ بهذا من عرابة.

جوده على أهل المدينة

قال يحيى بن الحسن و كان عبد اللّه بن الحسن يقول كان أهل المدينة يدانون بعضهم من بعض إلى أن يأتي عطاء عبد اللّه بن جعفر.

جوده على رجل جلب إلى المدينة سكرا كسد عليه.

أخبرني أحمد قال حدّثني يحيى قال: حدّثني أبو عبيد قال حدّثني يزيد بن هارون عن هشام عن ابن سيرين قال:

جلب رجل إلى المدينة سكّرا فكسد عليه فقيل له: لو أتيت ابن جعفر قبله منك و أعطاك الثّمن، فأتى ابن جعفر فأخبره، فأمره بإحضاره و بسط له، ثم أمر به/فنثر، فقال: للناس انتبهوا، فلما رأى الناس ينتبهون قال:

جعلت فداءك! آخذ معهم؟ قال: نعم، فجعل الرجل يهيل في غرائره، ثم قال لعبد اللّه: أعطني الثمن فقال: و كم ثمن سكّرك؟ قال: أربعة آلاف درهم، فأمر له بها.

أخبرنا أحمد قال حدّثني يحيى بن علي، و حدّثني ابن عبد العزيز قال حدّثنا أبو محمد الباهليّ حسن بن سعيد عن الأصمعيّ نحوه و زاد فيه، قال:

فقال الرجل: ما يدري هذا و ما يعقل أخذ أم أعطى! لأطلبنّه بالثمن ثانية، فغدا عليه فقال: ثمن سكّري، فأطرق عبد اللّه مليّا ثم قال: يا غلام، أعطه أربعة آلاف درهم؛ فأعطاه إياها، فقال الرجل: قد قلت لكم: إن هذا الرجل لا يعقل: أخذ أم أعطى! لأطلبنّه بالثمن. فغدا عليه فقال: أصلحك اللّه! ثمن سكّري، فأطرق عبد اللّه مليا، ثم رفع رأسه إلى رجل، قال: ادفع إليه أربعة آلاف درهم فلما ولّى ليقبضها قال له ابن جعفر: يا أعرابي، هذه تمام اثنى عشر ألف درهم، فانصرف الرجل و هو يعجب من فعله.

باعه رجل جملا و أخذ ثمنه مرارا فمدحه

و أخبرني أبو الحسن الأسديّ عن دماذ عن أبي عبيدة:

أن أعرابيّا باع راحلة من عبد اللّه بن جعفر، ثم غدا عليه فاقتضى ثمنها فأمر له به، ثم عاوده ثلاثا، و ذكر في الخبر مثل الذي قبله و زاد فيه: فقال فيه:

لا خير في المجتدى(1) في الحين تسأله *** فاستمطروا من قريش خير مختدع

ص: 425


1- المجتدى: الذي تطلب جدواه أي عطيته.

تخال فيه إذا حاورته(1) بلها *** من جوده و هو وافي العقل و الورع

و هذا الشعر يروي لابن قيس الرّقيّات.

وفائه عام الجحاف

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و الطوسيّ قالا حدّثنا الزبير قال حدّثني مصعب بن عثمان قال:

لما ولي عبد الملك الخلافة جفا عبد اللّه بن جعفر، فراح يوما إلى الجمعة و هو يقول: اللهمّ إنك عوّدتني عادة جريت عليها، فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك، فتوفّي في الجمعة الأخرى. قال يحيى: توفّي عبد اللّه و هو ابن سبعين سنة في سنة ثمانين و هو عام الجحاف لسيل كان بمكّة جحف الحاجّ فذهب بالإبل عليها الحمولة، و كان الوالي على المدينة يومئذ أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك بن مروان، /و هو الذي صلّى عليه.

وقف عمرو بن عثمان على قبره و رثاه

حدّثني أحمد بن محمد قال أخبرنا يحيى قال حدّثنا الحسين بن محمد قال أخبرني محمد بن مكرم قال أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال أخبرني الأصمعي عن الجعفريّ قال:

لمّا مات عبد اللّه بن جعفر شهده أهل المدينة كلّهم، و إنما كان عبد اللّه بن جعفر مأوى المساكين و ملجأ الضعفاء، فما تنظر إلى ذي حجّا إلاّ رأيته مستعبرا قد أظهر الهلع و الجزع، فلما فرغوا من دفنه قام عمرو بن عثمان فوقف على شفير القبر فقال: رحمك اللّه يا ابن جعفر! إن كنت لرحمك لواصلا، و لأهل الشر لمبغضا، و لأهل الرّيبة لقاليا، و لقد كنت فيما بيني و بينك كما قال الأعشى:

رعيت الذي كان بيني و بينكم *** من الودّ حتى غيّبتك المقابر

فرحمك اللّه! يوم ولدت و يوم كنت رجلا و يوم متّ و يوم تبعث حيّا؛ و اللّه لئن كانت هاشم أصيبت بك لقد عمّ قريشا كلّها هلكك، فما أظنّ أن يرى بعدك مثلك.

و وقف عمرو بن سعيد على قبره و رثاه

فقام عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق فقال: لا إله إلا اللّه الذي يرث الأرض و من عليها و إليه ترجعون، ما كان أحلى العيش بك يا ابن جعفر! و ما أسمج ما أصبح بعدك! و اللّه لو كانت عيني دامعة على أحد لدمعت عليك، كان و اللّه حديثك غير مشوب بكذب، و ودّك غير ممزوج بكدر.

نازع أحد ولد المغيرة عمرو بن سعيد على مدحه له فذمه و أسكته

فوثب ابن للمغيرة بن نوفل - و لم يثبت الأصمعيّ اسمه - فقال: يا عمرو، بمن تعرّض بمزج الودّ و شوب الحديث؟ أ فبابني فاطمة؟ فهما و اللّه خير منك و منه، فقال: على رسلك يا لكع(2)! أردت أن أدخلك معهم؟ هيهات لست هناك، و اللّه لو متّ أنت و مات أبوك ما مدحت و لا ذممت، فتكلم بما شئت فلن تجد لك مجيبا؛

ص: 426


1- في ف: «حاولته».
2- اللكع: اللئيم و الأحمق.

فما هو إلا أن سمعهما الناس يتكلمان حتى حجزوا بينهما و انصرفوا.

شعر ابن قيس الرقيات في علته التي مات فيها
اشارة

قال يحيى و قال عبد اللّه بن قيس الرّقيّات في علة عبد اللّه بن جعفر التي مات فيها:

بات قلبي تشفّه(1) الأوجاع *** من هموم تجنّها(2) الأضلاع

من حديث سمعته منع النو *** م فقلبي مما سمعت يراع

إذ أتانا بما كرهنا أبو اللّس *** لاس، كانت بنفسه الأوجاع

قال ما قال ثم راح سريعا *** أدركت نفسه المنايا السّراع

قال يشكو الصّداع و هو ثقيل *** بك لا بالذي عنيت الصّداع

ابن أسماء لا أبا لك تنعى *** أنه غير هالك نفّاع

هاشميّا بكفّه من سجال ال *** مجد سجل يهون فيه القباع(3)

/نشر الناس كلّ ذلك منه *** شيمة المجد ليس فيه خداع

لم أجد بعدك الأخلاّء إلاّ *** كثماد به قذى أو نقاع(4)

بيته من بيوت عبد مناف *** مدّ أطنابه المكان اليفاع(5)

منتهى الحمد و النبوة و المج *** د إذا قصّر اللئام الوضاع(6)

فستأتيك مدحة من كريم *** ناله من ندى سجالك باع

/من هذا الشعر الذي قاله ابن قيس في عبد اللّه بن جعفر بيتان يغنّى فيهما، و هما:

صوت

قد أتانا بما كرهنا أبو اللّس *** لاس كانت بنفسه الأوجاع

قال يشكو الصداع و هو ثقيل *** بك لا بالّذي ذكرت الصّداع

غنّاه عمرو بن بانه خفيف ثقيل، الأوّل بالوسطى على مذهب إسحاق. و يقال إن عمرو بن بانة صاغ هذا اللحن في هذا الشعر و غنّى به الواثق بعقب علّة نالته و صداع تشكّاه؛ قال: فاستحسنه و أمر له بعشرة آلاف درهم. و أمّ معاوية ابن عبد اللّه بن جعفر أمّ ولد. و كان من رجالات قريش، و لم يكن في ولد عبد اللّه مثله.

ص: 427


1- شفه الحزن: لذعه و أحرقه.
2- أجنه: ستره.
3- السجل: الدلو العظيمة مملوءة. و القباع: مكيال ضخم واسع.
4- الثماد: الماء القليل لا مادّ له. النقاع جمع نقع: و هو الغبار.
5- اليفاع: ما ارتفع من الأرض.
6- الوضاع: جمع وضيع.
بشروه و هو عند معاوية بولد فسماه باسمه

حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ عن أبي عبد الرحمن القرشيّ:

أنّ معاوية بن عبد اللّه بن جعفر ولد و أبوه عبد اللّه عند معاوية، فأتاه البشير بذلك و عرف معاوية الخبر فقال:

سمّه معاوية و لك مائة ألف درهم، ففعل، فأعطاه المال، و أعطاه عبد اللّه للّذي بشّره به. قال المدائنيّ: و كان عبد اللّه بن جعفر/لا يؤدّب ولده، و يقول: إن يرد اللّه جلّ و عزّ بهم يتأدّبوا، فلم ينجب فيهم غير معاوية.

خبر ابن هرمة مع معاوية بن عبد اللّه بن جعفر

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا هارون بن محمّد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال هارون و حدّثني محمد بن عبد اللّه بن موسى بن خالد بن الزبير بن العوّام قال حدّثني عمرو بن الحكم السّعيديّ و إبراهيم بن محمد و محمد بن معن بن عنبسة قالوا:

كان معاوية بن عبد اللّه بن جعفر قد عوّد ابن هرمة البرّ، فجاءه يوما و قد ضاقت يده و أخذ خمسين دينارا بدين، فرفع إليه مع جاريته رقعة فيها مديح له يسأله فيه أيضا برّا، فقال للجارية: قولي له: أيدينا ضيّقة، و ما عندنا شيء إلاّ شيء أخذناه بكلفة، فرجعت جاريته بذلك، فأخذ الرقعة فكتب فيها:

فإني و مدحك غير المصي *** ب كالكلب ينبح ضوء القمر

مدحتك أرجو لديك الثواب *** فكنت كعاصر جنب الحجر

و بعث بالرّقعة مع الجارية، فدفعتها إلى معاوية، فقال لها: ويحك قد علم بها أحد! قالت: لا و اللّه إنما دفعها من يده إلى يدي؛ قال: فخذي هذه الدنانير فادفعيها إليه، فخرجت بها إليه، فقال: كلاّ، أ ليس زعم أنه لا يدفع إليّ شيئا؟

كان ابنه معاوية صديقا ليزيد بن معاوية فسمى ابنه باسمه

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و الطوسيّ قالا حدّثنا الزبير قال حدّثني عمّي مصعب قال:

سمّي عبد اللّه بن جعفر ابنه معاويّة بمعاوية بن أبي سفيان. قال: و كان معاوية بن عبد اللّه بن جعفر صديقا ليزيد بن معاوية خاصة، فسمى ابنه بيزيد ابن معاوية.

وصيته لابنه معاوية عند وفاته

قال الزبير: و حدّثني محمد بن إسحاق بن جعفر عن عمه محمد:

أن عبد اللّه بن جعفر لما حضرته الوفاة دعا ابنه معاوية فنزع شنفا(1) كان في أذنه و أوصى إليه - و في ولده من هو أسنّ منه - و قال له: إني لم أزل أؤمّلك لها فلما توفى احتال بدين أبيه و خرج فطلب فيه حتى قضاه، و قسم أموال أبيه بين ولده، و لم يستأثر عليهم بدينار و لا درهم و لا غيرهما.

ص: 428


1- الشنف: الذي يلبس في أعلى الأذن.

و أمّ عبد اللّه بن معاوية أمّ/عون بنت عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب. و يقال: بنت عياش بن ربيعة. و قد روى عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و كان معه يوم حنين، و هو أحد من ثبت معه يومئذ.

بعض صفات عبد اللّه بن معاوية

و كان عبد اللّه من فتيان بني هاشم و جودائهم و شعرائهم، و لم يكن محمود المذهب في دينه، و كان يرمى بالزندقة و يستولي عليه من يعرف و يشهر أمره فيها، و كان قد خرج بالكوفة في آخر أيام مروان بن محمد، ثم انتقل عنها إلى نواحي الجبل ثم إلى خراسان، فأخذه أبو مسلم فقتله هناك.

مدح ابن هرمة لعبد اللّه بن جعفر
اشارة

و يكنى عبد اللّه بن جعفر أبا معاوية، و له يقول ابن هرمة:

أحب مدحا أبا معاوية الما *** جد لا تلقه حصورا(1) عييّا

بل كريما يرتاح للمجد بسّا *** ما إذا هزّه السّؤال حييا

إنّ لي عنده و إن رغم الأع *** داء حظّا من نفسه و قفيا

قفيا: أثره، يقول: إن لي عنده لأثرة على غيري، و قال قوم آخرون: القفيّ: الكرامة(2) -

إن أمت تبق مدحتي و إخائي *** و ثنائي من الحياة مليّا

يأخذ السبق بالتقدّم في الجر *** ي إذا ما النّدى انتحاه عليا

ذو وفاء عند العدات و أوصا *** ه أبوه ألاّ يزال وفيّا

/فرعى عقدة الوصاة فأكرم *** بهما موصيا و هذا وصيّا

يا ابن أسماء فاسق دلوى فقد أو *** ردتها منهلا يثجّ رويّا

يعني أمه أسماء، و هي أمّ عون بنت العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. و أوّل هذه القصيدة:

عاتب النفس و الفؤاد الغويّا *** في طلاب الصّبا فلست صبيّا

قال يحيى بن عليّ فيما أجازه لنا:

أخبرني أبو أيوب المدينيّ و أخبرناه وكيع عن هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد بن إسحاق عن أبيه قالا: مدح ابن هرمة عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب فأتاه، فوجد الناس بعضهم على بعض على بابه. قال ابن هرمة: و رآني بعض خدمه فعرفني، فسألته عن الذين رأيتهم ببابه فقال: عامّتهم غرماء له، فقلت: ذاك شرّ.

و استؤذن لي عليه فقلت: لم أعلم و اللّه بهؤلاء الغرماء ببابك، قال: لا عليك أنشدني. قلت: أعيذك باللّه.

و استحييت أن أنشد، فأبى إلا أن أنشده قصيدتي التي أقول فيها:

حللت محلّ القلب من آل هاشم *** فعشّك مأوى بيضها المتفلّق

ص: 429


1- الحصور: الممسك البخيل الضيق، و الضيق الصدر.
2- هذا التفسير لم يرد إلا في ف و ط.

و لم تك بالمعزى إليها نصابه(1) *** لصاقا و لا ذا المركب المتعلّق

فمن مثل عبد اللّه أو مثل جعفر *** و مثل أبيك الأريحيّ المرهّق(2)

فقال: من هاهنا من الغرماء؟ فقيل: فلان و فلان، فدعا باثنين منهم فسارّهما و خرجا، و قال لي(3): اتبعهما.

قال: فأعطياني مالا كثيرا. قال يحيى: و من مختار مدحه فيه منها قوله:

/

فإلاّ توات اليوم سلمى فربما *** شربنا بحوض اللهو غير المرنّق

فدعها فقد أعذرت في ذكر وصلها *** و أجريت فيها شأو غرب و مشرق(4)

/و لكن لعبد اللّه فأنطق بمدحه *** تجيرك من عسر الزمان المطبّق(5)

أخ قلت للأدنين لمّا مدحته(6)*** هلمّوا و ساري الليل م الآن فاطرق(7)

شديد التأنّي في الأمور مجرّب *** متى يعر أمر القوم يفر و يخلق(8)

ترى الخير يجري في أسرّة وجهه *** كما لألأت في السيف جرية رونق(9)

كريم إذا ما شاء عدّ له أبا *** له نسب فوق السّماك المحلّق

و أمّا لها فضل على كلّ حرّة *** متى ما تسابق بابنها القوم تسبق

و مما يغنى فيه من قصيدة ابن هرمة اليائية التي مدح بها ابن معاوية قوله:

صوت

عجبت جارتي لشيب علاني *** عمرك اللّه هل رأيت بديّا(10)

إنما يعذر الوليد و لا يع *** ذر من عاش في الزمان عتيّا(11)

غنىّ فيهما فليح رملا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة و من رواية حبش فيهما لابن محرز خفيف ثقيل بالبنصر.

خروج عبد اللّه بن معاوية على بني أمية

حدّثنا بالسبب في خروجه أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال حدّثنا عليّ بن محمد النوفليّ عن أبيه و عمه عيسى،

ص: 430


1- كذا في ف، و في سائر الأصول: «و لم تك فيها بالمعرى نصابه».
2- المرهق: الكريم الجواد الذي يغشاه الناس.
3- كذا في ف. و في سائر الأصول: «و قال لابن هرمة».
4- أعذر: بلغ أقصى الغاية في العذر، و الشأو: الغاية.
5- طبق الشيء: عمّ.
6- في ف: «لما صحبته».
7- ورد في هامش ط أمام هذا البيت: «كأنه قال: قلت لأصحابي: هلموا من الآن و لساري الليل أطرق».
8- في ف: «متى يعم». و يفري: يشق و يقطع. و يخلق: يقدّر، من خلق الأديم. قدّره لما يريد قبل القطع.
9- أسرة الوجه: خطوطه، جمع سرار كسنان. لألأ البرق و النجم: أضاء و لمع، أو اضطرب بريقه، و الرونق؛ ماء السيف و صفاؤه و حسنه.
10- بدي مسهل بديء، و البديء: العجيب.
11- عتا الشيخ عتيا: أسن و كبر.

قال ابن عمار و أخبرنا أيضا ببعض خبره أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب الزبيريّ، قال ابن عمار و أخبرني أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ عن أبي اليقظان و شهاب بن عبد اللّه و غيرهما، قال ابن عمار و حدّثني به سليمان بن أبي شيخ عمن ذكره. قال أبو الفرج الأصبهاني: و نسخت أنا أيضا بعض خبره من كتاب محمد بن علي بن حمزة عن المدائنيّ و غيره فجمعت معاني ما ذكروه في ذلك كراهة الإطالة:

أنّ عبد اللّه بن معاوية قدم الكوفة زائرا لعبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز و مستميحا(1) له، فتزوج بالكوفة بنت الشرقيّ بن عبد المؤمن بن شبث بن ربعيّ الرياحيّ، فلما وقعت العصبية أخرجه أهل الكوفة على بني أمية، و قالوا له: أخرج فأنت أحقّ بهذا الأمر من غيرك، و اجتمعت له جماعة، فلم يشعر به عبد اللّه بن عمر إلا و قد خرج عليه.

قال ابن عمار في خبره: إنه إنما خرج في أيام يزيد بن الوليد، ظهر بالكوفة و دعا إلى الرضا من آل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و لبس الصوف و أظهر سيمى الخير، فاجتمع إليه و بايعه بعض أهل الكوفة، و لم يبايعه كلّهم و قالوا: ما فينا بقيّة قد قتل جمهورنا مع أهل هذا البيت، و أشاروا عليه بقصد فارس و بلاد المشرق فقبل ذلك، و جمع جموعا من النواحي، و خرج معه عبد اللّه بن العباس التميميّ. قال محمد بن عليّ بن حمزة عن سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة: إن ابن معاوية قبل قصده المشرق ظهر بالكوفة و دعا إلى نفسه، و على الكوفة يومئذ عامل ليزيد الناقص يقال له عبد اللّه بن عمر، فخرج إلى ظهر الكوفة مما يلي الحرّة، فقاتل ابن معاوية قتالا شديدا. قال محمد بن عليّ ابن حمزة عن المدائنيّ عن عامر بن حفص، و أخبرني به ابن عمار/عن أحمد بن الحارث عن المدائنيّ: أن ابن عمر هذا دسّ إلى رجل من أصحاب ابن معاوية من وعده عنه مواعيد على أن ينهزم عنه/و ينهزم الناس بهزيمته، فبلغ ذلك ابن معاوية، فذكره لأصحابه و قال: إذا انهزم ابن حمزة فلا يهولنكم، فلما التقوا انهزم ابن حمزة و انهزم الناس معه فلم يبق غير ابن معاوية، فجعل يقاتل وحده و يقول:

تفرّقت الظباء على خداش *** فما يدري خداش ما يصيد

ثم ولى وجهه منهزما فنجا، و جعل يجمع من الأطراف و النواحي من أجابه، حتى صار في عدّة، فغلب على ماه الكوفة(2) و ماه البصرة و همذان و قمّ و الرّيّ و قومس و أصبهان و فارس، و أقام هو بأصبهان. قال: و كان الذي أخذ له البيعة بفارس محارب بن موسى مولى بني يشكر، فدخل دار الإمارة بنعل و رداء و اجتمع الناس إليه، فأخذهم بالبيعة؛ فقالوا: علام نبايع؟ فقال: على ما أحببتم و كرهتم، فبايعوا على ذلك.

و كتب عبد اللّه بن معاوية فيما ذكر محمد بن عليّ بن حمزة عن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل الجعفريّ عن أبيه عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن جعفر بن الوليد مولى أبي هريرة و محرز بن جعفر: أن عبد اللّه بن معاوية كتب إلى الأمصار يدعو إلى نفسه لا إلى الرضا من آل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، قال: و استعمل أخاه الحسن على إصطخر، و أخاه يزيد على شيراز، و أخاه عليا على كرمان، و أخاه صالحا على قم و نواحيها، و قصدته بنو هاشم جميعا منهم السّفاح و المنصور و عيسى بن عليّ. و قال ابن أبي خيثمة عن مصعب: و قصده وجوه قريش من بني أمية و غيرهم، فممّن قصده من بني أمية سليمان بن هشام بن عبد الملك و عمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان، فمن أراد منهم عملا قلّده، و من أراد منهم صلة وصله.

ص: 431


1- استماحه: سأله العطاء.
2- يراد بماه البقرة، نهاوند و بماه الكوفة الدينور «معجم البلدان» (نهاوند).
وجه إليه مروان بن محمد جيشا لمحاربته بقيادة ابن ضبارة

فلم يزل مقيما في هذه النواحي التي غلب عليها حتى ولى مروان بن محمد الذي يقال له مروان الحمار، فوجّه إليه عامر بن ضبارة في عسكر كثيف، فسار إليه حتى إذا قرب من أصبهان ندب له ابن معاوية أصحابه و حضهم على الخروج إليه، فلم يفعلوا و لا أجابوه، فخرج على دهش هو و إخوته قاصدين لخراسان - و قد ظهر أبو مسلم بها و نفى عنها نصر ابن سيار - فلما صار في بعض الطريق نزل على رجل من التّنّاء(1) ذي مروءة و نعمة و جاه(2)، فسأله معونته، فقال له: من أنت من ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ أ أنت إبراهيم الإمام الذي يدعى له بخرسان؟ قال: لا، قال فلا حاجة لي في نصرتك.

التجأ إلى أبي مسلم فحبسه

فخرج إلى أبي مسلم و طمع في نصرته، فأخذه أبو مسلم و حبسه عنده، و جعل عليه عينا يرفع إليه أخباره، فرفع إليه أنه يقول: ليس في الأرض أحمق منكم يأهل خراسان في طاعتكم هذا الرجل و تسليمكم إليه مقاليد أموركم من غير أن تراجعوه في شيء أو تسألوه عنه، و اللّه ما رضيت الملائكة الكرام من اللّه تعالى بهذا حتى راجعته في أمر آدم عليه السلام، فقالت: أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ الدِّمٰاءَ . حتى قال لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ .

كتابه إلى أبي مسلم و هو في حبسه

ثم كتب إليه عبد اللّه بن معاوية رسالته المشهورة التي يقول فيها: «إلى أبي مسلم، من الأسير في يديه، بلا ذنب إليه(3) و لا خلاف عليه. أما بعد، فإنك مستودع ودائع، و مولى صنائع؛ و إنّ الودائع مرعيّة، و إن الصنائع/ عاريّة؛ فاذكر القصاص، و اطلب الخلاص؛ و نبّه للفكر قلبك، و اتق اللّه ربّك؛ و آثر ما يلقاك غدا على ما لا يلقاك أبدا؛ فإنك لاق ما سلفت، و غير لاق ما خلّفت؛ وفقك اللّه لما ينجيك، و آتاك شكر ما يبليك(4)».

قتله أبو مسلم و وجه برأسه إلى ابن ضبارة

قال: فلما قرأ كتابه رمى به. ثم قال: قد أفسد علينا أصحابنا و أهل طاعتنا و هو محبوس في أيدينا، فلو خرج و ملك أمرنا لأهلكنا، ثم أمضى تدبيره في قتله. و قال آخرون: بل دسّ إليه سمّا فمات منه، و وجّه برأسه إلى ابن ضبارة فحمله إلى مروان، فأخبرني عمر بن عبد اللّه العتكيّ قال: حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا محمد بن يحيى أنّ عبد العزيز بن عمران حدّثه عن عبد اللّه بن الربيع عن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة أنه حضر مروان يوم الزاب و هو يقاتل عبد اللّه بن عليّ، فسأل عنه فقيل له: هو الشابّ المصفرّ الذي كان يسبّ عبد اللّه بن معاوية يوم جيء برأسه إليك فقال: و اللّه لقد هممت بقتله مرارا، كلّ ذلك يحال بيني و بينه، وَ كٰانَ أَمْرُ اللّٰهِ قَدَراً مَقْدُوراً .

ص: 432


1- التناء جمع تانئ: و هو الدهقان؛ زعيم فلاحي العجم، أو رئيس الإقليم.
2- كذا في ف، و في سائر الأصول: «و جاءه».
3- كذا في ف، و في سائر الأصول: «بلا ذنب و لا خلاف عليه».
4- الإبلاء هنا: الإنعام و الإحسان.
كانت الزنادقة من خاصته

حدثني أحمد بن عبد اللّه بن عمار قال حدّثني النوفليّ عن أبيه عن عمه قال كان عمارة بن حمزة يرمى بالزندقة، فاستكتبه ابن معاوية، و كان له نديم يعرف بمطيع بن إياس، و كان زنديقا مأبونا، و كان له نديم آخر يعرف بالبقليّ و إنما سمي بذلك لأنه كان يقول: الإنسان كالبقلة فإذا مات لم يرجع، فقتله المنصور لما أفضت الخلافة إليه. فكان هؤلاء الثلاثة خاصّته، و كان له صاحب شرطة يقال له قيس، و كان دهريا(1)لا يؤمن باللّه معروفا بذلك، فكان يعسّ باللّيل فلا يلقاه أحد إلا قتله، فدخل يوما على ابن معاوية فلما رآه قال:

إن قيسا و إن تقنّع شيبا *** لخبيث الهوى على شمطة(2)

ابن تسعين منظرا و مشيبا *** و ابن عشر يعدّ في سقطه

و أقبل على مطيع فقال: أجز أنت، فقال:

و له شرطة إذا جنّه اللي *** ل فعوذوا باللّه من شرطه

قسوته

قال ابن عمّار: أخبرني أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ عن أبي اليقظان و شباب(3) بن عبد اللّه و غيرهما، قال ابن عمار و حدّثني به سليمان بن أبي شيخ عمن ذكره:

أن ابن معاوية كان يغضب على الرجل فيأمر بضربه بالسياط و هو يتحدّث و يتغافل عنه حتى يموت تحت السياط، و أنه فعل ذلك برجل، فجعل يستغيث فلا يلتفت إليه، فناداه: يا زنديق، أنت الذي تزعم أنّه يوحى إليك! فلم يلتفت إليه و ضربه حتى مات.

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال حدّثني النوفليّ عن أبيه عن عمه عيسى قال:

كان ابن معاوية أقسى خلق اللّه قلبا، فغضب على غلام له و أنا جالس عنده في غرفة بأصبهان، فأمر بأن يرمى به منها إلى أسفل، ففعل ذلك به فتعلّق بدرابزين كان على الغرفة، فأمر بقطع يده التي أمسكه بها، فقطعت و مر الغلام يهوي حتى بلغ إلى الأرض فمات.

بعض شعره

و كان مع هذه الأحوال من ظرفاء بني هاشم و شعرائهم، و هو الذي يقول:

أ لا تزع(4) القلب عن جهله *** و عما تؤنّب من أجله!

/فأبدل بعد الصبا حلمه *** و أقصر ذو العذل عن عذله

فلا تركبنّ الصنيع الذي *** تلوم أخاك على مثله

ص: 433


1- رجل دهري: ملحد لا يؤمن بالآخرة، و يقول ببقاء الدهر.
2- الشمط: بياض الرأس يخالط سواده.
3- في ف: «شبيب».
4- وزعه: كفه.

و لا يعجبنّك قول امرئ *** يخالف ما قال في فعله

و لا تتبع الطّرف ما لا تنال *** و لكن سل اللّه من فضله

فكم من مقلّ ينال الغنى *** و يحمد في رزقه كلّه

/أنشدنا هذا الشعر له ابن عمار عن أحمد بن خيثمة عن يحيى بن معين. و ذكر محمد بن عليّ(1) العلويّ عن أحمد بن أبي خيثمة أن يحيى بن معين أنشده أيضا لعبد اللّه بن معاوية:

إذا افتقرت نفسي قصرت افتقارها *** عليها فلم يظهر لها أبدا فقري

و إن تلقني في الدهر(2) مندوحة الغنى *** يكن لأخلاّئي التوسّع في اليسر

فلا العسر يزري بي إذا هو نالني *** و لا اليسر يوما إن ظفرت به فخري

و هذا الشعر الذي غنى به - أعني قوله:

و عين الرضا عن كل عيب كليلة

يقوله ابن معاوية للحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، و كان الحسين أيضا سيّئ المذهب مطعونا في دينه.

شعره في الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عليّ بن محمد بن سليمان النوفليّ قال حدّثني إبراهيم بن يزيد الخشاب قال:

كان ابن معاوية صديقا للحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، و كان حسين هذا و عبد اللّه ابن معاوية يرميان بالزندقة. فقال الناس: إنما تصافيا على ذلك، ثم دخل بينهما شيء من الأشياء فتهاجرا من أجله، فقال عبد اللّه بن معاوية:

و إنّ حسينا كان شيئا ملفّقا *** فمحّصه التكشيف حتى بدا ليا

و عين الرضا عن كلّ عيب كليلة *** و لكن عين السخط تبدي المساويا

و أنت أخي ما لم تكن لي حاجة *** فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا

/و له في الحسين أشعار كلّها معاتبات، فمنها ما أخبرني به أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة. قال:

أنشدني يحيى بن الحسن لعبد اللّه بن معاوية؛ يقوله في الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب:

قل لذي الودّ و الصفاء حسين *** أقدر الودّ بيننا قدره

ليس للدابغ المقرّظ بدّ *** من عتاب الأديم ذي البشرة(3)

ص: 434


1- في ف: «محمد بن يحيى».
2- المندوحة: السعة.
3- قرظ الأديم: دبغة بالقرظ. و ضمن البيت المثل: «إنما يعاتب الأديم ذو البشرة» و المعاتبة هنا: المعاودة، و بشرة الأديم: ظاهره الذي عليه الشعر، و أصله أن الجلد إذا لم تصلحه الدبغة الأولى أعيد إلى الدباغ إذا سلمت بشرته إذ يكون فيه محتمل و قوّة، أما إذا نغلت بشرته فإنه يصير ضعيفا و يترك لئلا يزيد ضعفا، و معناه: إنما يراجع من تصلح مراجعته و يعاتب من الإخوان من لا يحمله العتاب على اللجاج.

قال و قال له أيضا:

إنّ ابن عمك و ابن أم *** ك معلم شاكي السلاح(1)

يقص العدوّ و ليس ير *** ضى حين يبطش بالجناح(2)

لا تحسبن أذى ابن عمّ *** ك شرب ألبان اللّقاح(3)

بل كالشجا تحت اللّها *** ة إذا يسوّغ بالقراح(4)

[فانظر لنفسك من يجي *** بك تحت أطراف الرماح](5)

من لا يزال يسوؤه *** بالغيب أن يلحاك لاحى(6)

خبره مع جده عبد الحميد بن عبيد اللّه

/أخبرني الحرميّ و الطوسيّ قالا حدّثنا الزبير و حدّثني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدّثنا يحيى بن الحسن قال حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن يحيى:

/أن عبد اللّه بن معاوية مرّ بجدّه عبد الحميد في مزرعته بصرام(7) و قد عطش فاستسقاه، فخاض(8) له سويق لوز فسقاه إياه، فقال عبد اللّه بن معاوية:

شربت طبرزذا(9) بغريض مزن *** كذوب الثلج خالطه الرّضاب

قال يحيى قال الزبير: الرضاب ماء المسك، و رضاب كل شيء: ماؤه. فقال عبد الحميد بن عبيد اللّه يجيب عبد اللّه بن معاوية على قوله:

ما إن ماؤنا بغريض مزن *** و لكنّ الملاح بكم عذاب

و ما إن بالطبرزذ طاب لكن *** بمسّك لا به طاب الشراب

و أنت إذا وطئت تراب أرض *** يطيب إذا مشيت بها التراب

ص: 435


1- أعلم الفارس: جعل لنفسه علامة الشجعان. و الشاكي: ذو الشوكة.
2- وقصه: كسره و دقه.
3- اللقاح: جمع لقحة، و هي الناقة الحلوب.
4- الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه، و اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق، و القراح: الماء الخالص، و يقال: أساغ الغصة بالماء.
5- هذا البيت لم يذكر إلا في ف.
6- لحاه: لامه.
7- صرام، قال في «معجم البلدان»: «هو رستاق بفارس و أصله چرام فعربوه هكذا».
8- خاض: خلط، و السويق: ما يعمل من الحنطة و الشعير.
9- الطبرزذ: السكر، و الغريض: ماء المطر.

لأن نداك يطفى المحل(1) عنها *** و تحييها أياديك الرّطاب

تغنى إبراهيم الموصلي في شعره
اشارة

قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن جدّه إبراهيم الموصلي قال:

بينا نحن عند الرشيد أنا و ابن جامع و عمرو و الغزال إذ قال صاحب السّتارة لابن جامع: تغنّ في شعر عبد اللّه ابن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر، قال: و لم يكن ابن جامع يغني في شيء منه، و فطنت لما أراد من شعره، و كنت قد تقدّمت فيه، فأرتج على ابن جامع، فلما رأيت ما حلّ به اندفعت فغنّيت:

صوت

يهيم بجمل و ما إن يرى *** له من سبيل إلى جمله

كأن لم يكن عاشق قبله *** و قد عشق الناس من قبله

فمنهم من الحب أودى به *** و منهم من اشفى(2) على قتله

/فإذا يد قد رفعت الستارة، فنظر إليّ و قال: أحسنت و اللّه! أعد، فأعدته فقال: أحسنت! حتى فعل ذلك ثلاث مرّات، ثم قال لصاحب الستارة كلاما لم أفهمه، فدعا صاحب الستارة غلاما فكلمه، فمرّ الغلام يسعى فإذا بدرة دنانير قد جاءت يحملها فرّاش، فوضعت تحت فخذي اليسرى و قيل لي: اجعلها تكأتك(3)، قال: فلما انصرفنا قال لي ابن جامع: هل كنت وضعت لهذا الشعر غناء قبل هذا الوقت؟ فقلت: ما شعر قيل في الجاهلية و لا الإسلام يدخل فيه الغناء إلا و قد وضعت له لحنا خوفا من أن ينزل بي ما نزل بك. فلما كان المجلس الثاني و حضرنا قال صاحب الستارة: يا بن جامع، تغنّ في شعر عبد اللّه بن معاوية، فوقع في مثل الذي وقع فيه بالأمس، قال إبراهيم:

فلما رأيت ما حلّ به اندفعت فغنيت:

صوت

يا قوم كيف سواغ عي *** ش ليس تؤمن فاجعاته

ليست تزال مطلّة *** تغدو عليك منغّصاته

/الموت هول داخل *** يوما على كره أناته

لا بدّ للحذر النّفو *** ر من أن تقنّصه رماته

قد أمنح الود الخلي *** ل بغير ما شيء رزاته(4)

و له أقيم قناة ودّ *** ي ما استقامت لي قناته

ص: 436


1- المحل: القحط و الجدب.
2- أشفى: أشرف.
3- كذا في م: و في سائر الأصول «تكأك».
4- أصله رزأته فسهل، و رزأه ماله: أصاب منه شيئا.

قال: فأومأ إلى صاحب الستارة أن أمسك، و وضع يده على عينه كأنه يومئ إليّ أنه يبكي، قال: فأمسكت ثم انصرفنا(1)، فقال لي ابن جامع: ما صبّ أمير المؤمنين/على ابن جعفر؟ قلت: صبه اللّه عليه لبدرة الدنانير التي أخذتها. قال ثم حضر بعد ذلك، فلما اطمأنّ بنا مجلسنا قال ابن جامع بكلام خفيّ: اللهم أنسه ذكر ابن جعفر، قال فقلت: اللهم لا تستجب، فقال صاحب الستارة: يا بن جامع تغنّ في شعر عبد اللّه بن معاوية، قال: فقال ابن جامع: لو كان عندهم في عبد اللّه بن معاوية خير لطار مع أبيه(2) و لم يقبل على الشعر، قال إبراهيم: فسمعنا ضحكة من وراء الستارة. قال إبراهيم فاندفعت أغني في شعره:

صوت

سلا ربّة الخدر ما شأنها *** و من أيّما شأننا تعجب؟

فلست بأوّل من فاته *** على إربه(3) بعض ما يطلب

و كائن تعرّض من خاطب *** فزوّج غير التي يخطب

و أنكحها(4) بعده غيره *** و كانت له قبلة تحجب

و كنا حديثا صفيّين لا *** نخاف الوشاة و ما سبّبوا

فإن شطّت الدار عنّا بها *** فبانت و في الناس مستعتب(5)

و أصبح صدع الذي بيننا *** كصدع الزجاجة ما يشعب(6)

و كالدّرّ(7) ليست له رجعة *** إلى الضّرع من بعد ما يحلب

غنى في البيتين الأوّلين إبراهيم الموصليّ خفيف ثقيل الأوّل بالوسطى من رواية أحمد بن يحيى المكّيّ و وجدتهما في بعض الكتب خفيف رمل غير منسوب. قال: فقال/لي صاحب الستارة: أعد فأعدته، فأحسب أمير المؤمنين نظر إلى ابن جامع كاسف البال، فأمر له بمثل الذي أمر لي بالأمس، و جاءوني ببدرة دنانير فوضعت تحت فخذي اليسرى أيضا، و كان ابن جامع فيه حسد ما يستتر منه، فلما انصرفنا قال: اللهم أرحنا من ابن جعفر هذا، فما أشدّ بغضي له، لقد بغّض إليّ جدّه، فقلت: ويحك! تدري ما تقول! قال: فمن يدري ما يقول؟ إذا لوددت أني لم أر إقباله عليك و على غنائك في شعر هذا البغيض ابن البغيضة، و أني تصدّقت بها - يعني البدرة.

و هذا الصوت الأخير يقول شعره عبد اللّه بن معاوية في زوجته أم زيد بنت زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام.

ص: 437


1- كذا في ف، و في سائر الأصول: «ثم انصرفت».
2- يريد جدّه جعفر بن أبي طالب و كان يلقب بالطيار و بذي الجناحين لأنه قاتل يوم موته حتى قطعت يداه فقتل. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: إن اللّه قد أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.
3- الإرب: العقل و الدهاء.
4- أنكحها: زوّجها.
5- شطت: بعدت. مستعتب. استرضاء.
6- يشعب: يصلح.
7- الدر هنا: اللبن.
شمتت به امرأته حين خطب امرأة و تزوّجها غيره فقال في ذلك شعرا
اشارة

أخبرني الطوسي و الحرميّ قالا حدّثنا الزبير بن بكار عن عمه قال:

خطب عبد اللّه بن معاوية ربيحة بنت محمد بن عبد اللّه بن عليّ بن عبد اللّه بن جعفر، و خطبها بكّار بن عبد الملك بن مروان، فتزوجت/بكارا، فشمتت بعبد اللّه امرأته أمّ زيد بنت زيد(1) بن علي بن الحسين، فقال في ذلك:

سلا ربّة الخدر ما شأنها *** و من أيّما شأننا تعجب

فقال ابن أبي خيثمة في خبره عن مصعب قالت له: و اللّه ما شمتّ و لكني نفست(2) عليك، فقال لها: لا جرم! و اللّه لا سؤتك أبدا ما حييت:

صوت

طاف الخيال من أمّ شيبة فاعترى *** و القوم من سنة نشاوى(3) بالكرى

طافت بخوص(4) كالقسيّ و فتية *** هجعوا قليلا بعد ما ملّوا السّرى

الشعر لأبي و جزة السعديّ، و الغناء لإسحاق، ثقيل أوّل بالبنصر.

ص: 438


1- كذا في ب، ش، ج، و في باقي الأصول: «أم زيد بنت علي».
2- نفس عليه بخير: حسد.
3- نشاو، جمع نشوان، و هو السكران.
4- الخوص: جمع أخوص و هو الغائر العينين.

18 - أخبار أبي وجزة و نسبه

نسبه

اسمه يزيد بن عبيد فيما ذكره أصحاب الحديث. و ذكر بعض النسابين أنّ اسمه يزيد بن أبي عبيد، و أنه كان له أخ يقال له عبيد، و انتسب إلى بني سعد بن بكر بن هوزان لولائه فيهم.

دخل مع أبيه في بني سعد

و أصله من سليم من بني ضبيس بن هلال بن قدم بن ظفر بن الحارث بن بهثة بن سليم؛ و لكنه لحق أباه و هو صبي سباء في الجاهلية، فبيع بسوق ذى المجاز، فابتاعه رجل من بني سعد، و استعبده، فلما كبر استعدى عمر رضى اللّه عنه و أعلمه قصته، فقال له: إنه لا سباء على عربيّ، و هذا الرجل قد امتنّ عليك فإن شئت فأقم عنده، و إن شئت فالحق بقومك، فأقام في بني سعد و انتسب إليهم هو و ولده(1).

كان بنو سعد أظآر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم

و بنو سعد أظآر(2) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كان مسترضعا فيهم عند امرأة يقال لها حليمة، فلم يزل فيهم عليه السلام حتى يفع، ثمّ أخذه جدّه عبد المطلب منهم فردّه إلى مكة، و جاءته حليمة بعد الهجرة، فأكرمها و برّها و بسط لها رداءه فجلست عليه. و بنو سعد تفتخر بذلك على سائر هوزان، و حقيق بكل مكرمة و فخر من اتصل منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأدنى سبب أو وسيلة.

آثر أبوه الانتساب إلى بني سعد دون قومه بنى سليم

أخبرني بخبره الذي حكيت جملا منه في نسبه و ولائه أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل العتكيّ قال حدّثنا محمد بن سلام الجمحيّ عن يونس. و أخبرني أبو خليفة فيما كتب به إليّ عن محمد بن سلاّم عن يونس و أخبرني به عمي عن الكرّاني عن الرّياشيّ عن محمد بن سلام عن يونس و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكّريّ عن يعقوب بن السّكّيت قالوا جميعا سوى يعقوب.

/كان عبيد أبو أبي و جزة السعديّ عبدا بيع بسوق ذي المجاز في الجاهلية فابتاعه وهيب بن خالد بن عامر بن عمير بن ملاّن بن ناصرة بن فصيّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن، فأقام عنده زمانا يرعى إبله، ثم إن عبيدا ضرب ضرع ناقة لمولاه فأدماه، فلطم وجهه، فخرج عبيد إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه مستعديا فلما قدم عليه قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل من بني سليم، ثم من بني ظفر أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها

ص: 439


1- كذا في ف، و في سائر الأصول: «والده».
2- أظآر: جمع ظئر و هي العاطفة على ولد غيرها المرضعة له.

من بعض، و أنا معروف النسب، و قد كان رجل من بني سعد ابتاعني، فأساء إليّ و ضرب وجهي، و قد بلغني أنه لا سباء في الإسلام، /و لا رقّ على عربيّ في الإسلام. فما فرغ من كلامه حتّى أتى مولاه عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه على أثره، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا غلام ابتعته بذي المجاز، و قد كان يقوم في مالي، فأساء فضربته ضربة و اللّه ما أعلمني ضربته غيرها قطّ، و إن الرجل ليضرب ابنه أشدّ منها فكيف بعبده، و أنا أشهدك أنه حرّ لوجه اللّه تعالى، فقال عمر لعبيد: قد امتن عليك هذا الرجل، و قطع عنك مؤنه البيّنة، فإن أحببت فأقم معه، فله عليك منّة، و إن أحببت فالحق بقومك، فأقام مع السعديّ و انتسب إلى بني سعد بن بكر بن هوازن، و تزوّج زينب بنت عرفطة المزنيّة، فولدت له أبا وجزة و أخاه، و قال يعقوب: «و أخاه عبيدا» و ذكر أن أباهما كان يقال له أو عبيد، و وافق من ذكرت روايته في سائر الخبر، فلما بلغ ابناه طالباه بأن يلحق بأصله و ينتمي إلى قومه من بني سليم، فقال: لا أفعل و لا ألحق بهم فيعيّروني كلّ يوم و يدفعوني، و أترك قوما يكرموني و يشرّفوني، فو اللّه لئن ذهبت إلى بني ظفر لا أرعى طمّة(1)، و لا أرد جمّة، إلا قالوا لي: يا عبد بني سعد قال: و طمّة: جبل لهم. فقال أبو وجزة في ذلك:

/

أنمى فأعقل في ضبيس معقلا *** ضخما مناكبه تميم الهادي(2)

و العقد في ملاّن غير مزلّج(3)*** بقوى متينات الحبال شداد

كان من التابعين و روى عن جماعة من أصحاب رسول اللّه

و كان أبو وجزة من التابعين، و قد روى عن جماعة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و رأى عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه، و لم يسند إليه حديثا، و لكنه حدّث عن أبيه عنه بحديث الاستسقاء، و نقل عنه جماعة من الرواة.

أخبرني محمد بن خلف وكيع و عمي قالا حدّثنا عبد اللّه بن شبيب قال حدّثني إبراهيم بن حمزة قال حدّثني موسى بن شيبة قال:

سمعت أبا وجزة السعديّ يقول قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ليس شعر حسان بن ثابت و لا كعب بن مالك و لا عبد اللّه ابن رواحة شعرا، و لكنه حكمة».

فأما خبر الاستسقاء الذي رواه عن أبيه عن عمر فإن الحسن بن عليّ أخبرنا به قال حدّثنا محمد بن القاسم قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو عن علي بن الصبّاح عن هشام بن محمد عن أبيه عن أبي وجزة السعديّ عن أبيه قال:

شهدت عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه و قد خرج بالناس ليستسقي عام الرّمادة؛ فقام و قام الناس خلفه، فجعل يستغفر اللّه رافعا صوته لا يزيد على ذلك؛ فقلت في نفسي: ما له لا يأخذ فيما جاء له؛ و لم أعلم أنّ الاستغفار هو الاستسقاء فما برحنا حتى نشأت(4) سحابة و أظلّتنا، فسقي الناس، و قلدتنا(5) السماء قلدا، كل خمس

ص: 440


1- كذا ضبط في ط، و في: «معجم ما استعجم»: «طمية»، بضم الطاء و فتح الميم.
2- نماه ينميه: نسبه، و عقل: لجأ إلى معقل، و الهادي: العنق، و التميم: التام و الشديد.
3- المزلج: كل ما لم تبالغ فيه و لم تحكمه.
4- نشأ السحاب: ارتفع و بدا، و ذلك في أول ما يبدأ.
5- قلدتنا: مطرتنا، و القلد (بالكسر): الحظ من الماء، و (بالفتح) المصدر.

عشرة ليلة، حتى رايت الأرينة(1) تأكلها صغار الإبل من وراء حقاق العرفط(2).

مات سنة ثلاثين و مائة

و أخبرني أبو الحسن الأسديّ و هاشم بن محمد الخزاعيّ جميعا عن الرياشيّ عن الأصمعيّ عن عبد اللّه بن عمر العمريّ عن أبي وجزة السعديّ عن أبيه، و ذكر الحديث مثله. و أخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة، و اللفظ متقارب و زاد الرّياشيّ في خبره: فقلت لأبي وجزة: ما حقاق العرفط؟ قال: نبات سنتين و ثلاث.

و زاد ابن قتيبة في خبره عليهم/قال: و مات أبو وجزة سنة ثلاثين و مائة.

هو أحد من شبب بعجوز

و هو أحد من شبّب بعجوز حيث يقول:

يا أيّها الرجل الموكّل بالصبا *** فيم ابن سبعين المعمّر من دد؟(3)

حتّام أنت موكّل بقديمة *** أمست تجدّد كاليماني الجيّد

زان الجلال كمالها و رسا بها *** عقل و فاضلة و شيمة سيّد

ضنّت بنائلها عليك و أنتما *** غرّان في طلب الشباب الأغيد

فالآن ترجو أن تثيبك نائلا *** هيهات! نائلها مكان الفرقد

روى صورة استسقاء عمر عن أبيه

و أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء و الطوسيّ جميعا قالا حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني محمد بن الحسن المخزوميّ عن عبد الرحمن بن عبد اللّه عن أبيه عن أبي وجزة السعديّ عن أبيه قال:

استسقى عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه، فلما وقف على المنبر أخذ في الاستغفار، فقلت: ما أراه يعمل في حاجته! ثم قال في آخر كلامه: اللهم إني قد عجزت و ما عندك أوسع لهم. ثم أخذ بيد العباس رضي اللّه تعالى عنه، ثم قال: و هذا عم نبيّك، و نحن نتوسل إليك به. فلما أراد عمر رضى اللّه تعالى عنه أن ينزل قلب رداءه، ثم نزل فتراءى الناس طرّة(4) في مغرب الشمس، فقالوا: ما هذا! /و ما رأينا قبل قزعة(5) سحاب أربع سنين؟ قال:

ثم سمعنا الرعد، ثم انتشر، ثم اضطرب، فكان المطر يقلدنا قلدا في كل خمس عشرة ليلة، حتى رأيت الأرينة خارجة من حقاق العرفط تأكلها صغار الإبل.

مدح بني الزبير و أكرموه

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني عمي عن جدّي قال:

ص: 441


1- الأرينة: نبت عريض الورق.
2- العرفط: شجر العضاه، و حقاق العرفط: صغارها و شوابها؛ تشبيها بحقاق الإبل، و الحق (بالكسر): البعير إذا استكمل السنة الثالثة و دخل في الرابعة، و الأنثى حقة.
3- الدد: اللهو و اللعب.
4- الطرة: الطريقة من السحاب.
5- القزعة: القطعة من السحاب.

خرج أبو وجزة السعديّ و أبو زيد الأسلميّ يريدان المدينة، و قد امتدح أبو وجزة آل الزبير، و امتدح أبو زيد إبراهيم بن هشام المخزوميّ، فقال له أبو وجزة: هل لك في أن أشاركك فيما أصيب من آل الزبير، و تشاركني فيما تصيب من إبراهيم؟ فقال: كلا و اللّه، لرجائي في الأمير أعظم من رجائك في آل زبير. فقدما المدينة، فأتى أبو زيد دار إبراهيم، فدخلها و أنشد الشعر و صاح و جلب، فقال إبراهيم لبعض أصحابه: أخرج إلى هذا الأعرابي الجلف فاضربه و أخرجه، فأخرج و ضرب. و أتى أبو وجزة أصحابه فمدحهم و أنشدهم، فكتبوا له إلى مال لهم بالفرع(1) أن يعطي منه ستين وسقا(2) من التمر، فقال أبو وجزة يمدحهم:

راحت قلوصي رواحا و هي حامدة *** آل الزبير و لم تعدل بهم أحدا

راحت بستّين وسقا في حقيبتها *** ما حمّلت حملها الأدنى و لا السّددا(3)

ذاك القرى لا كأقوام عهدتهم *** يقرون ضيفهم الملويّة الجددا

يعني السياط.

/قال أبو الفرج الأصفهاني: قول أبي وجزة:

راحت بستّين وسقا في حقيبتها

أنها حملت ستّين وسقا و لا تحمل ناقة ذلك و لا تطيقه و لا نصفه، و إنما عنى أنه انصرف عنهم و قد كتبوا له بستين وسقا فركب ناقته و الكتاب معه بذلك قد حملته في حقيبتها، فكأنّها(4) حاملة بالكتاب ستّين وسقا، لا أنها أطاقت حمل ذلك. و هذا البيت معنى يسأل عنه.

و قال يعقوب بن السكيت فيما حكيناه من روايته التي ذكرها الأخفش لنا عن السكري في شعر أبي وجزة و أخباره:

أحسن عمرو بن زيادة جواره فمدحه

كان أبو وجزة/قد جاور مزينة، و انتجع بلادهم لصهره فيهم، فنزل على عمرو بن زياد بن سهيل بن مكدّم بن عقيل بن وهب بن عمرو بن مرّة بن مازن بن عوف بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان، فأحسن عمرو جواره و أكرم مثواه، فقال أبو وجزة يمدحه:

لمن دمنة بالنّعف عاف صعيدها *** تغيّر باقيها و محّ جديدها(5)

لسعدة من عام الهزيمة إذ بنا *** تصاف و إذ لمّا يرعنا صدودها

و إذ هي أمّا نفسها فأربيه(6) *** للهو، و أما عن صبا فتذودها

ص: 442


1- الفرع: قرية من نواحي الربذة بينها و بين المدينة أربع ليال على طريق مكة. و في ف: «العرج»، و هي قرية من عمل الفرع.
2- الوسق: حمل بعير.
3- السدد: الوفق.
4- كذا في ف، و في سائر الأصول: «فكانت».
5- النعف: موضع، و أصله: ما انحدر من حزونة الجبل و ارتفع عن منحدر الوادي. عاف: دارس ممحو. محّ: بلى.
6- كذا في جميع الأصول ما عدا ج ففيها «فأبية».

تصيّد ألباب الرجال بدلّها *** و شيمتها وحشية لا نصيدها

كباسقة الوسميّ ساعة أسبلت *** تلألأ فيها البرق و البيض جيدها(1)

- الباسقة: التي فضلت غيرها من الغمام و طالت عليه، قال اللّه تبارك و تعالى: «و النّخل باسقات(2)» -.

/

كبكر تراني فرقدين بقفرة *** من الرمل أو فيحان لم يعس عودها(3)

لعمرو الندى عمر بن آل مكدّم *** [كثير عليّات الأمور جليدها](4)

[فتى بين مسروج و آل مكدّم](4)*** و عمرو فتى عثمان طرّا و سيدها(5)

حليم إذا ما الجهل أفرط ذا النهي *** على أمره، حامي الحصاة شديدها(6)

و ما زال ينحو فعل من كان قبله *** من آبائه يجني العلا و يفيدها

فكم من خليل قد وصلت و طارق *** و قرّبت من أدماء وار قصيدها(7)

و ذي كربة فرّجت كربة همّه *** و قد ظل مستدّا عليه و صيدها(8)

تزوج زينب بنت عرفطة و قال فيها رجزا فأجابته برجز مثله

أخبرني عمي قال حدّثني العنزيّ قال حدّثنا محمد بن معاوية عن يعقوب بن سلام بن عبد اللّه بن أبي مسروج قال:

تزوّج أبو وجزة السعديّ زينب بنت عرفطة بن سهل بن مكدّم المزنيّة فولدت له عبيدا و كانت قد عنّست(9)، و كان أبو وجزة يبغضها، و إنما أقام عليها لشرفها، فقال لها ذات يوم:

أعطى عبيدا و عبيد مقنع *** من عرمس محزمها جلنفع(10)

/ذات عساس ما تكاد تشبع *** تجتلد الصحن و ما إن تبضع(11)

ص: 443


1- الوسمي: مطر الربيع الأوّل. أسلبت: أمطرت.
2- هذا التفسير لم يرد إلا في «ف».
3- بقرة بكر: فتية. تراني: من الرنو، و هو إدامة النظر مع سكون الطرف. الفرقد: ولد البقرة. فيحان: اسم أرض. عسا: يبس و صلب.
4- ما بين المربعين تكملة من ف.
5- السيد: الأسد.
6- أفرطه: أعجله، و الحصاة: العقل.
7- ناقة أدماء: بيضاء سوداء المقلتين. وار: سمين. القصيد: سنام البعير إذا سمن. و في ف: «قريت قرى».
8- الوصيد: فناء الدار.
9- عنست: طال مكثها في منزل أهلها بعد إدراكها.
10- العرمس: الناقة الصلبة الشديدة. المحزم: ما وضع عليه الحزام، يعني البطن. جلنفع: واسعة البطن.
11- عساس: جمع عس (بالضم)، و هو القدح الضخم. اجتلد الإناء: شرب كل ما فيه. و الصحن: العس العظيم، و في جميع الأصول عداف: «الصخر» تصحيف. بضع من الماء و به: روى و امتلأ.

تمرّ في الدار و لا تورّع *** كأنها فيهم شجاع أقرع(1)

فقالت زينب أمّ وجزة تجيبه:

أعطى عبيدا من شييخ ذي عجر *** لا حسن الوجه و لا سمح يسر(2)

يشرب عسّ المذق في اليوم الخصر *** كأنما يقذف في ذات السّعر(3)

تقاذف السيل من الشّعب المضرّ(4)

قال في ابنه عبيد رجزا فأجابه برجز أيضا

قال: و قال أبو وجزة لابنه عبيد:

يا راكب العنس كمرداة العلم *** أصلحك اللّه و أدنى و رحم(5)

إن أنت أبلغت و أدّيت الكلم *** عنى عبيد بن يزيد لو علم

قد علم الأقوام أن سينتقم *** منك و من أمّ تلقّتك و عم

ربّ يجازي السيئات من ظلم *** أنذرتك الشّدّة من ليث أضم(6)

عاد أبي شبلين فرفار لحم *** فارجع إلى أمّك تفرشك و نم(7)

/إلى عجوز رأسها مثل الإرم *** و اطعم فإنّ اللّه رزّاق الطّعم(8)

/فقال عبيد لأبيه:

دعها أبا وجزة و اقعد في الغنم *** فسوف يكفيك غلام كالزّلم(9)

مشمّر يرقل في نعل خذم(10) *** و في قفاه لقمة من اللقم(11)

قد ولّهت ألاّفها غير لمم *** حتى تناهت في قفا جعد أحم(12)

هجاه أبو المزاحم و عيره بنسبه فردّ عليه

قال يعقوب: و قال أبو المزاحم يهجو أبا وجزة و يعيّره بنسبه:

ص: 444


1- تتورّع: تتحرّج. الشجاع: ضرب من الحيات دقيق، و شجاع أقرع: قد تمعط جلد رأسه لكثرة سمه و طول عمره.
2- العجر (بالتحريك): عظم البطن.
3- المذق: اللبن المخلوط، الخصر: البارد. السعر: حرّ النار.
4- الشعب: مسيل الماء في بطن الأرض. المضرّ: الداني القريب يقال: سحاب مضر: مسف، و أضر السيل من الحائط: دنا منه.
5- العنس: الناقة الصلبة. المرداة: الحجر الثقيل. العلم: الجبل.
6- الشدّة: الحملة. أضم: غضوب.
7- فرفار: يفرفر كل شيء، أي يكسره. لحم: كثير لحم الجسد. و أفرشه: فرش له.
8- الإرم: الحجارة.
9- الزلم: القدح (بالكسر) الذي لا ريش عليه.
10- أرقل: أسرع في سيره، خذم: مقطع.
11- كذا في معظم الأصول. و في ف: «لهمة من اللهم»، و هو غير واضح.
12- ولهت: أحزنت و حيرت. و اللم: الجنون. الجعد: البخيل اللئيم. الأحم: الأسود.

[دعتك سليم عبدها فأجبتها *** و سعد، و ما ندري لأيهما العبد؟

فأجابه أبو وجزة فقال(1)]:

أ عيّرتموني أن دعتني أخاهم *** سليم و أعطتني بأيمانها سعد

فكنت وسيطا في سليم معاقدا *** لسعد، و سعد ما يحلّ لها عقد(2)

مدح عبد اللّه بن الحسن و إخوته فأكرموه

أخبرني أبو جعفر أحمد بن محمد بن نصر الضّبعيّ إجازة قال حدثنا محمد بن مسعود الزّرقيّ عن مسعود بن المفضّل مولى آل حسن بن حسن قال:

قدم أبو وجزة السعدي على عبد اللّه بن الحسن و إخوته سويقة(3)، و قد أصابت قومه سنة مجدبة، فأنشده قوله يمدحه:

/

أثني على ابني رسول اللّه أفضل ما *** أثنى به أحد يوما على أحد

السيدين الكريمي كلّ منصرف *** من والدين و من صهر و من ولد

ذرّية بعضها من بعضها عمرت *** في أصل مجد رفيع السّمك و العمد

ما ذا بنى لهم من صالح حسن *** و حسن و عليّ و ابتنوا لغد(4)

فكرّم اللّه ذاك البيت تكرمة *** تبقى و تخلد فيه آخر الأبد

هم(5) السّدى و النّدى، ما في قناتهم *** إذا تعوّجت العيدان من أود

مهذّبون هجان أمّهاتهم *** إذا نسبن زلال البارق البرد(6)

بين الفواطم ما ذا ثمّ من كرم *** إلى العواتك مجد غير منتقد(7)

ما ينتهي المجد إلا في بني حسن *** و ما لهم دونه من دار ملتحد(8)

ص: 445


1- ما بين القوسين ساقط من جميع الأصول ما عدا ف.
2- الوسيط: الحسيب في قومه.
3- سويقة: موضع قرب المدينة كان يسكنه آل علي بن أبي طالب رضى اللّه عنه.
4- هذا البيت دخله الخيل في أوّل الشطر الثاني، و هو حذف الثاني و الرابع من مستفعلن.
5- في جميع الأصول «ثمّ» و هو تحريف. و السدى: و المعروف، يقال: أسدى إليه سدى. و الأود: الاعوجاج.
6- هجان: كرام. البارق: السحاب ذو البرق. البرد: ذو البرد.
7- يقال للحسن و الحسين رضي اللّه عنهما ابنا الفواطم: أمهما فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و جدّتهما فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ أبيهما علي بن أبي طالب و كانت أسلمت، و من الفواطم: فاطمة بنت عبد اللّه بن عمرو بن عمران بن مخزوم جدّته صلّى اللّه عليه و سلّم لأبيه. و العواتك: جدّات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك من سليم» و العواتك من سليم ثلاث و هنّ: عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان أمّ عبد مناف بن قصي جدّ هاشم، و عاتكة بنت مرّة ابن هلال بن فالج بن ذكوان أمّ هاشم بن عبد مناف، و عاتكة بنت الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالج بن ذكوان أمّ وهب بن عبد مناف بن زهرة جدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
8- الملتحد: الملجأ.

/قال: فأمر له عبد اللّه بن الحسن و حسن و إبراهيم بمائة و خمسين دينارا و أوقروا(1) له رواحله برّا و تمرا، و كسوه ثوبين ثوبين.

فرض له عبد الملك بن يزيد السعدي عطاء في الجند و ندبه لحرب أبي حمزة فقال في ذلك رجزا.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ قال حدّثنا عمر بن شنّة قال حدّثني أبو غسان و المدائنيّ جميعا:

أن عبد الملك بن يزيد بن محمد بن عطية السعديّ كان قد ندب لقتال أبي حمزة الأزدي الشاري لما جاء إلى المدينة فغلب عليها، قال: و بعث إليه مروان بن محمد بمال، ففرّقه فيمن خف معه من قومه، فكان فيمن فرض(2)[له] منهم أبو وجزة و ابناه، فخرج معترضا للعسكر على فرس، و هو يرتجز و يقول:

قل لأبي حمزة هيد هيد *** جئناك بالعادية الصّنديد(3)

بالبطل القرم أبي الوليد *** فارس قيس نجدها المعدود(4)

في خيل قيس و الكماة الصّيد(5) *** كالسيف قد سلّ من الغمود

محض هجان ماجد الجدود *** في الفرع من قيس و في العمود(6)

فدى لعبد الملك الحميد *** ما لي من الطارف و التليد

/يوم تنادى الخيل بالصعيد *** كأنه في جنن(7) الحديد

سيد مدلّ عزّ كلّ سيد(8)

/قال: و سار ابن عطية في قومه، و لحقت به جيوش أهل الشام، فلقي أبا حمزة في اثنى عشر ألفا، فقاتله يوما إلى الليل حتى أصاب صناديد عسكره، فنادوه. يا بن عطية، إن اللّه جل و عز قد جعل الليل سكنا، فاسكنوا حتى نسكن، فأبى و قاتلهم حتى قتلهم جميعا.

كان منقطعا لابن عطية مداحا له

قال: و كان أبو وجزة منقطعا إلى ابن عطية، يقوم بقوت عياله و كسوته و يعطيه و يفضل عليه، و كان أبو وجزة مداحا له، و فيه يقول:

حنّ الفؤاد إلى سعدى و لم تثب *** فيم الكثير من التّحنان و الطرب

ص: 446


1- أوقر الدابة: حملها وقرا (بالكسر)؛ و هو الحمل الثقيل.
2- فرض له في العطاء: جعل له فريضة و نصيبا.
3- هيد هيد؛ كتب فوق هاتين الكلمتين في ط: «النجا، النجا»، و هو تفسير لهما، و أصله في زجر الإبل. و «جئناك» في ج، و هامش ط، و في سائر الأصول: «أتاك» و التاء في «العادية» للمبالغة.
4- القرم: السيد المعظم. النجد: الشجاع الشديد البأس الماضي فيما يعجز عنه غيره.
5- الصيد: جمع أصيد و هو الذي يرفع رأسه كبرا.
6- محض: خالص. رجل هجان: كريم الحسب نقيه. فرع كل شيء: أعلاه.
7- جنن جمع جنة، و هي كل ما وقى.
8- السيد: الأسد. عز: فاق و غلب.

قالت سعاد أرى من شيبه عجبا *** مهلا سعاد فما في الشيب من عجب

غنّى في هذين البيتين إسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها من كتابه:

إمّا تريني كساني الدهر شيبته *** فإن ما مرّ منه عنك لم يغب

سقيا لسعدى على شيب ألمّ بنا *** و قبل ذلك حين الرأس لم يشب

كأنّ ريقتها بعد الكرى اغتبقت *** صوب الثريا بماء الكرم من حلب(1)

و هي قصيدة طويلة يقول فيها:

أهدى قلاصا عناجيجا أضرّ بها *** نصّ الوجيف و تقحيم من العقب(2)

يقصدن سيّد قيس و ابن سيدها *** و الفارس العدّ منها غير ذي الكذب(3)

/محمد و أبوه و ابنه صنعوا *** له صنائع من مجد و من حسب

إني مدحتهم لمّا رأيت لهم *** فضلا على غيرهم من سائر العرب

إلاّ تثبني به لا يجزني أحد *** و من يثيب إذا ما أنت لم تثب

و الأبيات التي ذكرت فيها الغناء المذكور معه أمر أبي وجزة من قصيدة له مدح بها أيضا عبد الملك بن عطية هذا. و مما يختار منها قوله:

حتى إذا هجدوا ألمّ خيالها *** سرّا، ألا بلمامه كان المنى

طرقت بريّا روضة من عالج *** و سميّة عذبت و بيتها النّدى(4)

يا أمّ شيبة أيّ ساعة مطرق *** نبّهتنا، أين المدينة من بدا(5)؟

إني متى أقض اللّبانة أجتهد *** عنق العتاق الناجيات على الوجى(6)

حتى أزورك إن تيسّر طائري *** و سلمت من ريب الحوادث و الردى

و فيها يقول:

فلأمدحنّ بني عطية كلّهم *** مدحا يوافي في المواسم و القرى

الأكرمين أوائلا و أواخرا *** و الأحلمين إذا تخولجت الحبا(7)

ص: 447


1- اغتبق: شرب الغبوق و هو ما يشرب بالعشي. و الصوب: المطر.
2- العناجيج هنا: الإبل، واحده عنجوج كعصفور. نص ناقته: استخرج أقصى ما عندها من السير. و الوجيف: ضرب من سير الخيل و الإبل. و التقحيم: أن تقتحم الإبل المراحل واحدة بعد الأخرى تطويها فلا تنزل فيها. و العقب: جمع عقبة و هي قدر فرسخين، أو قدر ما تسيره.
3- العدّ هنا: الذي لا تنفد شجاعته، من قولهم ما عدّ، أي دائم لا تنفد مادّته.
4- الريا: الرائحة الطيبة. عالج: رملة بالبادية. و سمية: مطرت الوسمي و هو مطر الربيع الأوّل.
5- بدا: موضع بالشام قرب وادي القرى.
6- العنق: ضرب من سير الإبل. الناجيات: المسرعات. الوجا: شدّة الحفا.
7- تخولجت: تنوزعت. الحبا: جمع حبوة، من احتبى: جمع بين ظهره و ساقيه بعمامة و نحوها، و تنازع الحبا يكون عند الخصومة؛ يريد أنهم يحلمون حين يجهل غيرهم.

و المانعين من الهضمية جارهم *** و الجامعين الراقعين لما و هى(1)

و العاطفين على الضّريك بفضلهم *** و السابقين إلى المكارم من سعى(2)

/و هي قصيدة طويلة يمدح فيها بني عطية جميعا و يذكر وقعتهم بأبي حمزة الخارجي، و لا/معنى للإطالة بذكرها.

مدح عبد اللّه بن الحسن فغضب ابن الزبير فصالحة بشعر مدحه فيه

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال.

كان أبو وجزة السعديّ منقطعا إلى آل الزبير، و كان عبد اللّه بن عروة بن الزبير خاصّة يفضل عليه و يقوم بأمره، فبلغه أن أبا وجزة أتى عبد اللّه بن الحسن بن علىّ بن أبي طالب عليه السلام، فمدحه فوصله، فاطرحه ابن عروة، و أمسك يده عنه، فسأل عن سبب غضبه فأخبره به الأصمّ بن أرطأة، فلم يزل أبو وجزة يمدح آل الزبير، و لا يرجع له عبد اللّه بن عروة إلى ما كان عليه و لا يرضى عنه حتى قال فيه:

آل الزبير بنو حرّة *** مروا بالسيوف صدورا خنافا(3)

سل الجرد عنهم و أيّامها *** إذا امتعطوا المرهفات الخفافا

- امتعطوا: سلّوا، و منه ذئب أمعط، منسلّ من شعره -:

يموتون و القتل داء لهم *** و يصلون يوم السّياف السيّافا(4)

إذا فرج القتل عن عيصهم *** أبى ذلك العيص إلاّ التفافا(5)

مطاعيم تحمد أبياتهم *** إذا قنّع الشاهقات الطّخافا(6)

و أجبن من صافر كلبهم *** إذا قرعته حصاة أضافا(7)

فلما أنشد ابن عروة هذه الأبيات رضى عنه و عادله إلى ما كان عليه.

ص: 448


1- الهضيمة: الظلم و الغصب. و هي: تخرّق و تشقق.
2- الضريك: الزمن و الضرير و الفقير السيئ الحال.
3- هذا البيت دخله الخرم. مرى الدم: استخرجه و أساله و منه قوله: مروا بالسيوف المرهفات دماءهم خنافا: جمع خانف، خنف بأنفه: شمخ بأنفه من الكبر.
4- سايفه: جالده بالسيف و ضاربه.
5- العيص: الشجر الكثير الملتف.
6- قنعت: غطى رأسها. و الطخاف: السحاب المرتفع.
7- الصافر: طائر يتعلق من الشجر برجليه و ينكس رأسه خوفا من أن ينام فيؤخذ، فيصفر منكوسا طول ليلته. و أضاف: خاف و أشفق و حذر، و في الأصول: «أصاف» تصحيف.
صوت من المائة المختارة

ألا هل أسير المالكيّة مطلق *** فقد كاد لو لم يعفه اللّه يغلق(1)

فلا هو مقتول، ففي القتل راحة *** و لا منعم يوما عليه فمعتق

الشعر لعقيل بن علّفة البيت الأوّل منه، و الثاني لشبيب بن البرصاء، و الغناء لأحمد بن المكّيّ، خفيف ثقيل بالوسطى من كتابه، و فيه لدقاق رمل بالوسطى من كتاب عمرو بن بانة، و أوّله:

سلا أمّ عمرو فيم أضحى أسيرها *** يفادى الأسارى حوله و هو موثق

و بعده البيت الثاني و هو:

فلا هو مقتول ففي القتل راحة *** و لا منعم يوما عليه فمعتق

و البيتان على هذه الرواية لشبيب بن البرصاء

ص: 449


1- يغلق، من غلق الرهن: إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه.

19 - أخبار عقيل بن علّفة

نسبه

عقيل بن علّفة بن الحارث بن معاوية بن ضباب بن جابر يربوع بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الرّيث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر، و يكنى أبا العملّس(1) و أبا الجرباء.

و أمّ عقيل بن علّفة العوراء، و هي عمرة بنت الحارث بن عوف بن أبي حارثة بن مرّة بن نشبة بن غيظ بن مرّة.

و أمها زينب بنت حصن بن حذيفة. هذا قول خالد بن كلثوم و المدائنيّ. و قال ابن الأعرابي: كانت عمرة العوراء أمّ عقيل بن علّفة و البرصاء أمّ شبيب بن البرصاء أختين، و هما ابنتا الحارث بن عوف. و اسم البرصاء قرصافة، أمها بنت نجبة/بن ربيعة بن رياح بن مالك بن شمخ.

كان يعتد بنسبه و كانت قريش ترغب في مصاهرته

و عقيل شاعر مجيد مقل، من شعراء الدولة الأموية. و كان أعرج جافيا شديد الهوج و العجرفية و البذخ(2) بنسبه في بني مرّة، لا يرى أنّ له كفؤا. و هو في بيت شرف في قومه من كلا طرفيه. و كانت قريش ترغب في مصاهرته.

تزوج إليه خلفاؤها و أشرافها، منهم يزيد بن عبد الملك، تزوج ابنته الجرباء، و كانت قبله عند ابن عم لعقيل يقال له مطيع بن قطعة بن الحارث بن معاوية. و ولدت ليزيد بنيّا درج(3). و تزوّج بنته عمرة سلمة بن عبد اللّه بن المغيرة، فولدت له يعقوب بن سلمة، و كان من أشراف قريش و جودائها. و تزوّج أمّ عمرو بنته ثلاثة نفر من بني الحكم بن أبي العاص: يحيى و الحارث و خالد.

خطب إليه و الي المدينة إحدى بناته فأنكر عليه فضربه فقال شعرا

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل قال:

دخل عقيل بن علّفة على عثمان بن حيّان و هو يومئذ على المدينة، فقال له عثمان: زوّجني ابنتك، فقال:

أ بكرة من إبلي تعني؟ فقال له عثمان: ويلك! أ مجنون أنت! قال: أيّ شيء قلت لي؟ قال: قلت لك: زوّجني ابنتك، فقال: أفعل إن كنت عينت بكرة من إبلي. فأمر به فوجئت(4) عنقه. فخرج و هو يقول:

كنا بني غيظ الرجال فأصبحت *** ببنو مالك غيظا و صرنا كمالك

ص: 450


1- في ب، س: «أبا العميس»، تحريف.
2- البذخ: الكبر و تطاول الرجل بكلامه و افتخاره.
3- درج: مات.
4- وجأه باليد و بالسكين: ضربه. و العنق يذكر و يؤنث.

لحى اللّه دهرا ذعذع المال كلّه *** و سوّد أشباه(1) الإماء العوارك(2)

خطب إليه رجل من بني سلامان فكتفه و ألقاه في قرية النمل

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدّثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: كان لعقيل بن علّفة جار من بني سلمان بن سعد، فخطب إليه ابنته، فغضب عقيل، و أخذ السّلامانيّ فكتفته(3)، و دهن استه بشحم، و ألقاه في قرية(4) النمل، فأكلن خصييه حتى ورم جسده، ثم حلّه و قال: يخطب إليّ عبد الملك فأردّه، و تجترئ أنت عليّ! قال: ثم أجدبت مراعي بني مرّة، فانتجع عقيل أرض جذام و قربهم عذرة. قال عقيل: فجاءني هنيّ مثل البعرة، فخطب إليّ ابنتي أمّ جعفر. فخرجت إلى أكمة قريبة من الحيّ، فجعلت أنبح كما ينبح الكلب، ثم تحملت و خرجت، فاتّبعني جمع من حنّ (بطن من عذرة) فقالوا: اختر، إن شئت/حبسناك، و إن شئت حدرناك(5) و بعيرة من رأس الجبل، فإن سبقتها خلّينا عنك. فأرسلوا بعيرة فسبقتها، فخلّوا سبيلي، فقلت لهم: ما طمعتم بهذا من أحد! قالوا: أردنا أن نضع منك حيث رغبت عنّا. فقلت فيهم:

لقد هزئت حنّ بنا و تلاعبت *** و ما لعبت حنّ بذي حسب قبلي

رويدا بني حنّ تسيحوا و تأمنوا *** و تنتشر الأنعام في بلد سهل

و اللّه لأموتنّ قبل أن أضع كرائمي إلاّ في الأكفاء.

خرج إلى الشام مع أولاده ثم عادوا منها فقال شعرا أجازه ابنه و ابنته فرمى ابنه بسهم فعقره

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن الضحّاك عن أبيه قال:

وجدت في كتاب بخطّ الضحّاك قال: خرج عقيل بن علّفة و ابناه: علّفة و جثّامة، و ابنته الجرباء حتى أتوا بنتا له ناكحا(6) في بني مروان بالشام فآمت(7). ثم إنهم قفلوا بها حتّى كانوا ببعض الطريق، فقال عقيل بن علّفة:

/

قضت وطرا من دير سعد(8) و طالما *** على عرض ناطحنه بالجماجم

إذا هبطت أرضا يموت غرابها *** بها عطشا أعطينهم بالخزائم(9)

ص: 451


1- في الأصول: «أستاه»، و هو تحريف.
2- ذعذع المال: فرّقه و بدّده. و سوّده: جعله سيدا. و العوارك: الحيّض، و منه قول بعضهم: أ في السلم أعيارا جفاء و غلظة و في الحرب أمثال النساء العوارك و البيت في «اللسان» (ذعع) ينسبه إلى علقمة بن عبدة.
3- كتف الرجل يكتفه (بالكسر)، و كتفه (بالتشديد): شدّ يديه من خلفه بالكتان و هو ما شدّ به.
4- قرية النمل: مجتمع ترابها.
5- حدرناك، من الحدر: و هو الحط من علو إلى سفل.
6- ناكح و ناكحة: ذات زوج.
7- آمت المرأة: فقدت زوجها.
8- دير سعد: بين بلاد غطفان و الشام.
9- الخزائم: جمع خزامة، و هي حلقة من شعر تجعل في أحد جانبي منخري البعير لينقاد بها. يريد أن الإبل منقادة. و منه الحديث: «و مرهم أن يعطوا القرآن بخزائمهم». قال ابن الأثير: يريد الانقياد لحكم القرآن.

ثم قال: أنفذ يا علّفة، فقال علّفة:

فأصبحن بالموماة يحملن فتية *** نشاوى عن الإدلاج ميل العمائم(1)

إذا علم غادرنه بتنوفة *** تذارعن بالأيدي لآخر طاسم(2)

/ثم قال: أنفذي يا جرباء، فقالت: و أنا آمنة؟ قال نعم. فقالت:

كأنّ الكرى سقّاهم ضرخديّة *** عقارا تمشّى في المطا و القوائم(3)

فقال عقيل: شربتها و ربّ الكعبة! لو لا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك، أ ما وجدت من الكلام غير هذا! فقال جثّامة: و هل أساءت! إنما أجازت. و ليس غيري و غيرك. فرماه عقيل بسهم فأصاب ساقه و أنفذ السهم ساقه و الرّحل، ثم شدّ على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها على ناقة جثّامة و تركه عقيرا مع ناقة الجرباء. ثم قال: لو لا أن تسبّني بنو مرّة ما ذقت الحياة. ثم خرج متوجّها إلى أهله و قال: لئن أخبرت أهلك بشأن جثّامة، أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك. فلما قدموا على أهل أبير (و هم بنو القين) ندم عقيل على فعله بجثّامة، فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت؟ قالوا: نعم. قال: فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور، فخرج القوم حتّى انتهوا إلى جثّامة فوجدوه قد أنزفه الدم، فاحتملوه و تقسّموا الجزور، و أنزلوه عليهم، و عالجوه حتى برأ، و ألحقوه بقومه.

و نسخت هذا الخبر من كتاب أبي عبد اللّه اليزيديّ بخطه و لم أجده ذكر سماعه إياه من أحد قال:

قرئ على عليّ بن محمد المدائني عن الطّرمّاح بن خليل بن أبرد، فذكر مثل ما ذكره الزبير منه و زاد فيه: أن القوم احتملوا جثّامة ليلحقوه بقومه؛ حتى إذا كانوا قريبا منهم تغنى جثّامة:

أ يعذر لاهينا(4) و يلحين في الصّبا *** و ما هنّ و الفتيان إلا شقائق

/فقال له القوم: إنما أفلتّ من الجراحة التي جرحك أبوك آنفا، و قد عاودت ما يكرهه، فأمسك عن هذا و نحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شرّ و عرّ(5). فقال: إنّما هي خطرة خطرت، و الراكب إذا سار تغنّى.

أصابه القولنج في المدينة فنعتت له الحقنة فأبى فقال ابنه شعرا في ذلك

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ قال:

ص: 452


1- الموماة: المفازة الواسعة. نشاوى: سكارى. الإدلاج: السير من أوّل الليل.
2- العلم: شيء ينصب في الفلوات تهتدي به الضالة. التنوفة: المفازة. تذارعن: سرن، و أصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا؛ إذا سار على قدر سعة خطوه. رسم طاسم: دارس.
3- الصرخدية: نسبة إلى صرخد: بلد ملاصق لبلاد حوران من أعمال دمشق. العقار: الخمر المطا: الظهر.
4- في الأصول: «لاحينا» و هو تحريف، صوابه من «الأمالي» لأبي علي القالي في حديث رجل كان قد عضل بناته (2، 105)، و روايته فيه: أ يزجر لاهينا و نلحي على الصبا و ما نحن و الفتيان إلا شقائق
5- عرّة بمكروه: أصابه به و ساءه.

قدم عقيل بن علّفة المدينة فنزل على ابن بنته يعقوب بن سلمة المخزوميّ، فمرض و أصابه القولنج(1)، فنعتت له الحقنة، فأبى. و قدم ابنه عليه فبلغه ذلك، فقال:

لقد سرني و اللّه وقّاك شرّها *** نجاؤك منها حين جاء يقودها

كفى خزية ألاّ تزال مجبّيا(2) *** على شكوة(3) توكى و في استك عودها

شد على ابنه علفة بالسيف فحاد عنه و قال في ذلك شعرا

أخبرني عبيد اللّه بن محمد الرازيّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدّثنا عليّ بن محمد عن زيد بن عياش التغلبي و الربيع بن ثميل قالا:

غدا عقيل بن علّفة على أفراس له عند بيوته فأطلقها ثم رجع، فإذا بنوه مع بناته و أمّهم مجتمعون، فشدّ على عملّس فحاد عنه، /و تغنى علّفة فقال:

قفي يا ابنة المرّيّ أسألك ما الذي *** تريدين فيما كنت منيتنا قبل

نخبّرك إن لم تنجزي الوعد أننا *** ذوا خلة لم يبق بينهما وصل

فإن شئت كان الصّرم ما هبّت الصبا *** و إن شئت لا يفنى التكارم و البذل

/فقال عقيل: يا بن اللّخناء(4)، متى منّتك نفسك هذا! و شدّ عليه بالسيف - و كان عملّس أخاه لأمه - فحال بينه و بينه، فشدّ على عملّس بالسيف و ترك علّفة لا يلتفت إليه(5)، فرماه بسهم، فأصاب ركبته؛ فسقط عقيل و جعل يتمعّك(6) في دمه و يقول:

إنّ بنىّ سربلوني(7) بالدّم *** من يلق أبطال(8) الرجال يكلم

و من يكن ذا أود يقوّم *** شنشنة(9) أعرفها من أخزم

قال المدائني: «شنشنة أعرفها من أخزم» مثل ضربه. و أخزم: فحل كان لرجل من العرب، و كان منجبا، فضرب في إبل رجل آخر - و لم يعلم صاحبه - فرأى بعد ذلك من نسله جملا فقال: شنشنة أعرفها من أخزم(10).

ص: 453


1- القولنج: مرض معويّ.
2- كذا في ب، س، ط، م. و في ج «مجنبا»، و في ف «محببا»، تصحيف، يقال: جبى فلان؛ إذا أكب على وجهه باركا.
3- الشكوة: القربة الصغيرة. و توكى: تربط.
4- اللخناء؛ من اللخن، (بالتحريك)، و هو النتن.
5- كذا في ف، و في سائر الأصول: «عليه».
6- يتمعك في دمه: يتمرغ.
7- رواية «اللسان» مادة شنن: «زملوني».
8- رواية «اللسان»: «آساد».
9- الشنشنة: الخليقة.
10- المثل في «اللسان» منسوب إلى أبي أخزم الطائيّ، قال: «قال ابن بري: كان أخزم عاقا لأبيه فمات و ترك ابنين عقوا جدهم و ضربوه و أدموه، فقال ذلك».
عاتبه عمر بن عبد العزيز في شأن بناته فأجابه

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني سليمان المدائنيّ قال حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال:

قال عمر بن عبد العزيز لعقيل بن علّفة: إنك تخرج إلى أقاصي البلاد و تدع بناتك في الصحراء لا كالئ لهنّ، و الناس ينسبونك إلى الغيرة، و تأبى أن تزوّجهنّ إلا الأكفاء. قال: إني أستعين عليهنّ بخلّتين تكلآنهنّ، و أستغني عن سواهما. قال: و ما هما؟ قال: العري و الجوع.

رماه ابنه عملس فأصاب ركبته، فغضب و خرج إلى الشام، و قال في ذلك شعرا

نسخت من كتاب محمد بن العباس اليزيديّ:

/قال خالد بن كلثوم: لما رمى عملّس بن عقيل أباه فأصاب ركبته غضب و أقسم ألاّ يساكن بنيه، فاحتمل و خرج إلى الشّام، فلما استوى على ناقته المسماة بأطلال بكت ابنته جرباء و حنّت ناقته، فقال:

أ لم تريا أطلال حنّت و شاقها *** تفرّقنا يوم الحبيب على ظهر(1)

و أسبل من جرباء دمع كأنّه *** جمان أضاع السلك أجرته في سطر(2)

لعمرك إني يوم أغذو عملّسا *** لكالمتربّي حتفه و هو لا يدري(3)

و إني لأسقيه غبوقي و إنني *** لغرثان منهوك الذّراعين و النحر(4)

خرج ابنه علفة إلى الشام أيضا و كتب إلى أبيه شعرا

قال: و مضى علّفة أيضا، فافترض(5) بالشام و كتب إلى أبيه:

ألا أبلغا عنّي عقيلا رسالة *** فإنك من حرب عليّ كريم

أ ما تذكر الأيام إذ أنت واحد *** و إذ كلّ ذي قربى إليك ذميم

و إذ لا يقيك الناس شيئا تخافه *** بأنفسهم إلا الذين تضيم

تناول شأو الأبعدين و لم يقم *** لشأوك بين الأقربين أديم

فأمّا إذا عضّت بك الحرب عضّة *** فإنك معطوف عليك رحيم

و أمّا إذا آنست أمنا و رخوة *** فإنك للقربى ألدّ ظلوم(6)

فلما سمع عقيل هذه الأبيات رضى عنه، و بعث إليه فقدم عليه.

ص: 454


1- حبيب: بلد من أعمال حلب بالشام.
2- الجمان: اللؤلؤ الصغار أو حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ.
3- ترببه و ترباه: أحسن القيام عليه و وليه.
4- غرثان: جائع. النحر: الصدر.
5- افترض الجند: أخذوا عطاياهم.
6- الألد: الخصم الجدل الذي لا يرجع إلى الحق.
سب عمر بن عبد العزيز ابن أخته فعاتبه في ذلك

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرياشيّ عن محمد بن سلاّم قال حدّثني ابن جعدبة قال:

/عاتب عمر بن/عبد العزيز رجلا من قريش، أمّه أخت عقيل بن علّفة فقال له: قبحك اللّه! أشبهت خالك في الجفاء. فبلغت عقيلا فجاء حتى دخل على عمر فقال له: ما وجدت لابن عمّك شيئا تعيّره به إلا خئولتي! فقبح اللّه شرّكما خالا. فقال له صخير بن أبي الجهم العدويّ (و أمّه قرشية): آمين يا أمير المؤمنين. فقبح اللّه شرّكما خالا، و أنا معكما أيضا.

قرأ شيئا من القرآن فأخطأ فاعترض عليه عمر فأجابه

فقال له عمر: إنك لأعرابيّ جلف جاف، أما لو كنت تقدّمت إليك لأدّبتك. و اللّه لا أراك تقرأ من كتاب اللّه شيئا، قال:

بلى، إني لأقرأ، قال: فاقرأ. فقرأ: إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا حتى بلغ إلى آخرها فقرأ: «فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره و من يعمل مثقال ذرة خيرا يره»، فقال له عمر: أ لم أقل لك إنك لا تحسن أن تقرأ؟ قال: أ و لم أقرأ؟ قال: لا، لأن اللّه جلّ و عزّ قدّم الخير و أنك قدّمت الشر. فقال عقيل:

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه *** كلا جانبي هرشى لهنّ طريق(1)

فجعل القوم يضحكون من عجرفيّته.

و روى هذا الخبر عليّ بن محمد المدائنيّ، فذكر أنه كان بين عمر بن عبد العزيز و بين يعقوب بن سلمة و أخيه عبد اللّه كلام، فأغلظ يعقوب لعمر في الكلام فقال له عمر: اسكت فإنك ابن أعرابيّة جافية. فقال عقيل لعمر: لعن اللّه شرّ الثلاثة، مني و منك و منه! فغضب عمر، فقال له صخير بن أبي الجهم: آمين. فهو و اللّه أيها الأمير شرّ الثلاثة. فقال عمر: و اللّه إني لأراك لو سألته عن آية من كتاب اللّه ما قرأها. فقال: بلى و اللّه إني لقارئ لآية و آيات فقال: فاقرأ، فقرأ: إنّا بعثنا نوحا إلى قومه، فقال له عمر: قد أعلمتك/أنك لا تحسن. ليس هكذا قال اللّه، قال:

فكيف قال؟ قال: إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً فقال: و ما الفرق بين أرسلنا و بعثنا!

خذا أنف هرشى أو قفاها فإنه *** كلا جانبي هرشى لهنّ طريق

دخل المسجد بخفين غليظين و جعل يضرب بهما فضحك الناس منه

أخبرني عبيد اللّه بن أحمد الرازيّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدّثني علي بن محمد المدائنيّ عن عبد اللّه بن أسلم القرشيّ قال:

قدم عقيل بن علّفة المدينة، فدخل المسجد و عليه خفّان غليظان، فجعل يضرب برجليه، فضحكوا منه فقال:

ما يضحككم؟ فقال له يحيى بن الحكم - و كانت ابنة عقيل تحته -: يضحكون من خفيّك و ضربك برجليك و شدّة جفائك. قال: لا، و لكن يضحكون من إمارتك؛ فإنّها أعجب من خفّي. فجعل يحيى يضحك.

ص: 455


1- هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة.
خبره مع يحيى بن الحكم أمير المدينة و زواج ابنته

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ قال حدّثني عمي عن عبد اللّه بن مصعب قاضي المدينة قال:

دخل عقيل بن علّفة على يحيى بن الحكم، و هو يومئذ أمير المدينة. فقال له يحيى: أنكح ابن خالي - يعني ابن أوفى - فلانة ابنتك؟ فقال: إن ابن خالك ليرضى مني بدون ذلك، قال: و ما هو؟ قال: أن أكفّ عنه سنن(1)الخيل إذا غشيت سوامه(2). فقال يحيى لحرسيّين بين يديه: أخرجاه. فأخرجاه، فلما ولّى قال: أعيداه إليّ، فأعاداه، فقال عقيل له: مالك تكرّني إكرار الناضح(3)؟ قال: أما و اللّه إني لأكرك أعرج جافيا. فقال عقيل: كذلك قلت:

/

تعجّبت إذ رأت رأسي تجلّله *** من الروائع شيب ليس من كبر

/و من أديم تولّى بعد جدّته *** و الجفن يخلق فيه الصّارم الذكر(4)

فقال له يحيى، أنشدني قصيدتك، هذه كلها. قال: ما انتهيت إلاّ إلى ما سمعت. فقال: أما و اللّه إنك لتقول فتقصّر، فقال: إنّما يكفي من القلادة ما أحاط بالرقبة. قال: فأنكحني أنا إحدى بناتك. قال: أمّا أنت فنعم. قال:

أما و اللّه لأملأنّك مالا و شرفا. قال: أما الشّرف فقد حمّلت ركائبي منه ما أطاقت، و كلفتها تجشّم ما لم تطق، و لكن عليك بهذا المال فإن فيه صلاح الأيّم و رضا الأبيّ. فزوّجه ثم خرج فهداها إليه، فلما قدمت عليه بعث إليها يحيى مولاة له انتظر إليها، فجاءتها فجعلت تغمز عضدها. فرفعت يدها، فدقّت أنفها. فرجعت إلى يحيى و قالت: بعثتني إلى أعرابية مجنونة صنعت بي ما ترى! فنهض إليها يحيى، فقال لها: مالك؟ قالت: ما أردت أن بعثت إليّ أمة تنظر إليّ! ما أردت بما فعلت إلا أن يكون نظرك إلي قبل كلّ ناظر، فإن رأيت حسنا كنت قد سبقت إلى بهجته، و إن رأيت قبيحا كنت أحق من ستره. فسرّ بقولها و حظيت عنده.

و ذكر المدائني هذا الخبر مثله، إلا أنه قال فيه: فإن كان ما تراه حسنا كنت أول من رآه، و إن كان قبيحا كنت أوّل من واراه.

زواج يزيد بن عبد الملك ابنته الجرباء

أخبرني ابن دريد قال حدّثنا عبد الرحمن عن عمه قال:

خطب يزيد بن عبد الملك إلى عقيل بن علّفة ابنته الجرباء، فقال له عقيل: قد زوّجتكها، على أن لا يزفّها إليك أعلاجك(5)؛ أكون أنا الذي أجيء بها إليك.

/قال: ذلك لك. فتزوّجها، و مكثوا ما شاء اللّه. ثم دخل الحاجب على يزيد فقال له: بالباب أعرابيّ على بعير، معه امرأة في هودج قال: أراه و اللّه عقيلا. قال: فجاء بها حتى أناخ بعيرها على بابه، ثم أخذ بيدها فأذعنت،

ص: 456


1- السنن: استنان الخيل، و هو عدوها لمرحها و نشاطها.
2- السوام: كل ما رعى من المال في الفلوات إذا خليّ يرعى حيث شاء.
3- الناضح: الدابة يستقى عليها الماء.
4- الذكر و الذكير من الحديد: أيبسه و أشده و أجوده، و في البيت إفواء.
5- أعلاج. جمع علج (بكسر فسكون): الرجل الشديد الغليظ.

فدخل بها على الخليفة فقال له: إن أنتما ودن(1) بينكما، فبارك اللّه لكما، و إن كرهت شيئا فضع يدها في يدي كما وضعت يدها في يدك ثم برئت ذمتك. فحملت الجرباء بغلام ففرح به يزيد و نحله(2) و أعطاه.

موت ابنته و امتناعه عن أخذ ميراثها

ثم مات الصبيّ، فورثت أمّه منه الثّلث، ثم ماتت فورثها زوجها و أبوها فكتب إليه: إن ابنك و ابنتك هلكا، و قد حسبت ميراثك منهما فوجدته عشرة آلاف دينار، فهلمّ فاقبضه. فقال: إن مصيبتي بابني و ابنتي تشغلني عن المال و طلبه، فلا حاجة لي في ميراثهما، و قد رأيت عندك فرسا سبقت عليه الناس، فأعطنيه أجعله فحلا لخيلي.

و أبى أن يأخذا المال، فبعث إليه يزيد بالفرس.

قال لرجل من قريش بالرفاء و البنين فأنكر عليه ذلك

أخبرنا عبيد اللّه بن محمد قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ عن إسحاق بن يحيى قال:

رأيت رجلا من قريش يقول له عقيل بن علّفة: بالرّفاء و البنين و الطائر المحمود. فقلت له: يا بن علّفة؛ إنه يكره أن يقال هذا. فقال: يا ابن أخي، ما تريد إلى ما أحدث! إنّ هذا قول أخوالك في الجاهلية إلى اليوم لا يعرفون غيره.

قال: فحدّثت به الزّهري فقال: إن عقيلا كان من أجهل الناس. قال: و إنما قال لإسحاق بن يحيى بن طلحة: «هذا قول أخوالك»، لأن أم يحيى بن طلحة مرّيّة.

خطب إليه رجل كثير المال مغموز في نسبه فقال فيه شعرا

قال المدائني و حدّثني عليّ بن بشر الجشميّ قال قال الرّميح:

خطب إلى عقيل رجل من بني مرّة كثير المال، يغمز في نسبه، فقال:

لعمري لئن زوّجت من أجل ماله *** هجينا(3) لقد حبّت إليّ الدراهم

/أ أنكح عبدا بعد يحيى و خالد *** أولئك أكفائي الرجال الأكارم

أبى لي أن أرضى الدنيّة أنني *** أمدّ عنانا لم تخنه الشكائم(4)

خطب إليه رجل من بني مرة فطعن ناقته بالرمح فصرعته

نسخت من كتاب محمد بن العباس اليزيديّ بخطّه يأثره(5) عن خالد بن كلثوم بغير إسناد متصل بينهما:

أن رجلا من بني مرّة يقال له داود أقبل على ناقة له، فخطب إلى عقيل بن علّفة بعض بناته، فنظر إليه عقيل - و إنّ السيف لا يناله - فطعن ناقته بالرمح فسقطت و صرعته، و شدّ عليه عقيل فهرب، و ثار عقيل إلى ناقته فنحرها، و أطعمها قومه و قال:

ص: 457


1- الودن و الودان: حسن القيام على العروس؛ و يقال: ودن العروس: أحسن القيام عليها.
2- نحله، من النحل (بالضم)، و هو العطية و الهبة.
3- الهجين: العربيّ ابن الأمة.
4- الشكيمة في اللجام، الحديدة المعترضة في فم الفرس.
5- يأثره: ينقله و يرويه.

أ لم تقل يا صاحب القلوص *** داود ذا الساج و ذا القميص(1)

كانت عليه الأرض حيص بيص(2) *** حتى يلفّ عيصه بعيصي(3)

و كنت بالشبان ذا تقميص

فقال داود فيه من أبيات:

أراه فتى جعل الحلال ببيته *** حراما و يقرى الضيف عضبا مهندا

فرت منه زوجته الأنمارية فردّها إلى عامل فدك

و قال المدائني حدّثني جوشن بن يزيد قال:

لما تزوّج عقيل بن علّفة زوجته الأنمارية - و قد كبر - فرّت منه، فلقيها جحّاف. أحد بنى قتال بن يربوع، فحملها إلى عامل فدك، و أصبح عقيل معها، فقال الأمير لعقيل: ما لهذه تستعدي عليك يا أبا الجرباء؟ فقال عقيل: كلّ ذكرى، و ذهب ذفرى(4)، و تغايب نفري، فقال: خذ بيدها، فأخذها و انصرف، فولدت له بعد ذلك علّفة الأصغر.

شعره يحرض بني سهم على بني جوشن

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:

لما نشبت الحرب بين بني جوشن و بين بني سهم بن مرة رهط عقيل بن علّفة المريّ - و هو من بني غيظ بن مرة بن سهم بن مرّة إخوتهم - فاقتتلوا في أمر يهوديّ خمّار كان جارا لهم، فقتلته بنو جوشن من غطفان، و كانوا متقاربي المنازل و كان عقيل بن علّفة بالشأم غائبا عنهم، فكتب إلى بني سهم يحرّضهم(5).

فإمّا هلكت و لم آتكم *** فأبلغ أماثل سهم رسولا

بان التي سامكم قومكم *** لقد جعلوها عليكم عدولا

هوان الحياة و ضيم الممات *** و كلاّ أراه طعاما وبيلا

فإن لم يكن غير إحداهما *** فسيروا إلى الموت سيرا جميلا

و لا تقعدوا و بكم منّة *** كفى بالحوادث للمرء غولا(6)

قال: فلما وردت الأبيات عليهم تكفّل بالحرب الحصين بن الحمام المرّيّ أحد بني سهم، و قال: إليّ كتب

ص: 458


1- الساج: الطيلسان الضخم الغليظ.
2- حيص بيص في الأصل: جحر الفأر و يقال: إنك لتحسب عليّ الأرض حيصا بيصا، بفتح الحاء و الباء، و حيص بيص بكسرهما: أي ضيقة، و في اللفظتين لغات عدّة لا تنفرد إحداهما عن الأخرى.
3- عيص المرء: أصله.
4- الذفر: شدة ذكاء الريح.
5- وردت بعض هذه الابيات في «المفضليات» (طبع أوربا ص 88) منسوبة إلى بشامة بن عمرو، مع اختلاف في بعض ألفاظها.
6- الغول: كل ما أهلك الإنسان.

و بي نوّه، خاطب أماثل سهم و أنا من أماثلهم. فأبلى في تلك الحروب بلاء شديدا. و قال الحصين بن الحمام في ذلك من قصيدة طويلة له:

/

يطأن من القتلى و من قصد القنا *** خبارا فما ينهضن إلا تقحّما(1)

عليهنّ فتيان كساهم محرّق *** و كان إذا يكسو أجاد و أكرما(2)

صفائح بصرى أخلصتها قيونها *** و مطّردا من نسج داود محكما(3)

/تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما

نهب بنو جعفر إبلا لجاره فردها إليه و قال شعرا في ذلك

و قال المدائني قال جرّاح بن عصام بن بجير:

عدت بنو جعفر بن كلاب على جار لعقيل فأطردت إبله و ضربوه، فغدا عقيل على جار لهم فضربه، و أخذ إبله فأطردها، فلم يردّها حتى ردّوا إبل جاره و قال في ذلك:

إن يشرق الكلبيّ فيكم بريقه *** بني جعفر يعجل لجاركم القتل

فلا تحسبوا الإسلام غيّر بعدكم *** رماح مواليكم فذاك بكم جهل

بني جعفر إن ترجعوا الحرب بيننا *** ندنكم كما كنا ندينكم قبل

بدأتم بجاري فانثنيت بجاركم *** و ما منهما إلا له عندنا حبل

أسره بنو سلامان و أطلقه بنو القين

و ذكر المدائني أيضا:

أن عقيلا كان وحده في إبله، فمر به ناس من بني سلامان فأسروه، و مروا به في طريقه على ناس من بني القين، فانتزعوه منهم، و خلّوا سبيله. فقال عقيل في ذلك:

أسعد هذيم إنّ سعدا أباكم *** أبى لا يوافي غاية القين من كلب

/و جاء هذيم و الركاب مناخة *** فقيل تأخّر يا هذيم على العجب(4)

فقال هذيم إن في العجب مركبي *** و مركب آبائي و في عجبها حسبي

قال: و سعد هذيم هم عذرة و سلامان و الحارث و ضبّة.

ص: 459


1- القصد: جمع قصدة، و هي القطعة من القناة المتكسرة. الخبار من الأرض: ما لان و استرخى.
2- محرق: لقب عمرو بن هند و إنما سمي بذلك لأنه حرق مائة من بني تميم.
3- قيون: جمع قين: و هو الحداد، و مطردا: أي درعا مطردا (و الدرع قد تذكر). اطرد الشيء: تبع بعضه بعضا، و المعنى تتابعت حلقاتها و اتصلت.
4- العجب: أصل الذنب و هو العصعص.
مات ابنه علفة بالشام فرثاه

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن المدائني عن عبد الحميد بن أيوب بن محمد بن عميلة قال:

مات علّفة بن عقيل الأكبر بالشام، فنعاه مضرّس بن سوادة لعقيل بأرض الجناب، فلم يصدّقه و قال:

قبح الإله - و لا أقبّح غيره - *** ثفر(1) الحمار مضرّس بن سواد

تنعى امرؤ لم يعل أمّك مثله *** كالسّيف بين خضارم(2) أنجاد

ثم تحقق الخبر بعد ذلك، فقال يرثيه:

لعمري لقد جاءت قوافل خبّرت *** بأمر من الدنيا عليّ ثقيل

و قالوا أ لا تبكي لمصرع فارس *** نعته جنود الشام غير ضئيل

فأقسمت لا أبكي على هلك هالك *** أصاب سبيل اللّه خير سبيل

[كأن المنايا تبتغي في خيارنا *** لها نسبا أو تهتدي بدليل(3)]

تحلّ المنايا حيث شاءت فإنها *** محلّلة بعد الفتى ابن عقيل

فتى كان مولاه يحلّ بربوة *** محلّ الموالي بعده بمسيل

حطم رجل من بني صرمة بيوته فأقبل ابنه عملس من الشام فانتقم له

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة: قال: كان عقيل بن علّفة قد أطرد بنية، فتفرقوا في البلاد، و بقي وحده. ثم إن رجلا من بني صرمة، يقال له بجيل - و كان كثير المال و الماشية - حطم بيوت عقيل بماشيته، و لم يكن قبل ذلك أحد يقرب من بيوت عقيل إلا لقي شرا. فطردت صافنة (أمة له) الماشية، فضربها بجيل بعصا كانت معه فشجّها. فخرج إليه عقيل وحده - و قد هرم يومئذ و كبرت سنّه - فزجره فضربه/بجيل بعصاه، و احتقره، فجعل عقيل يصيح: يا علّفة، يا عملّس، يا فلان، يا فلان، بأسماء أولاده مستغيثا بهم، و هو يحسبهم لهرمه أنهم معه. فقال له أرطأة بن سهيّة:

أكلت بنيك أكل الضبّ حتى *** وجدت مرارة الكلأ الوبيل

و لو كان الألى غابوا شهودا *** منعت فناء بيتك من بجيل

و بلغ خبر عقيل ابنه العملّس و هو بالشام، فأقبل إلى أبيه حتى نزل إليه، ثم عمد إلى بجيل فضربه ضربا مبرّحا، و عقر عدّة من إبله و أوثقه بحبل، و جاء به يقوده حتى ألقاه بين يدي أبيه، ثم ركب راحلته، و عاد من وقته إلى الشام، لم يطعم لأبيه طعاما، و لم يشرب شرابا.

ص: 460


1- الثفر: السير الذي في مؤخر السرج تحت ذنب الدابة.
2- خضارم، جمع خضرم: الجواد الكثير العطية.
3- هذا البيت لم يرد في ط و ج.
خبر ابنه المقشعر مع أعرابي نزل

أخبرني عمي قال حدّثنا الكراني قال حدّثنا ابن عائشة قال:

نزل أعرابي على المقشعرّ بن عقيل بن علّفة المرّي فشربا حتى سكرا و ناما، فانتبه الأعرابيّ مروّعا في الليل و هو يهذي، فقال له المقشعرّ: مالك؟ قال: هذا ملك الموت يقبض روحي. فوثب ابن عقيل فقال: لا و اللّه و لا كرامة و لا نعمة(1)/عين له! أ يقبض روحك و أنت ضيفي و جاري! فقال بأبي أنتم و أمي! طال و اللّه ما منعتم الضّيم.

و تلفّف و نام.

تمت أخبار عقيل و للّه الحمد و المنة.

قد مضت أخبار عقيل فيما تقدّم من الكتاب، و نذكرها هنا أخبار شبيب بن البرصاء و نسبه، لأن المغنين خلطوا بعض شعره ببعض شعر عقيل في الغناء الماضي ذكره، و نعيد هاهنا من الغناء ما شعره لشبيب خاصة و هو:

صوت من المائة المختارة

سلام أمّ عمرو فيم أضحى أسيرها *** تفادى الأسارى حوله و هو موثق

فلا هو مقتول ففي القتل راحة *** و لا منعم يوما عليه فمطلق(2)

و يروي:

و لا هو ممنون عليه فمطلق

الشعر لشبيب بن البرصاء، و الغناء لدقاق جارية يحيى بن الرّبيع. رمل بالوسطى عن عمرو. و ذكر حبش أن فيه رملا آخر لطويس.

ص: 461


1- نعمة عين: قرتها.
2- في ج «فمعتق».

20 - أخبار شبيب بن البرصاء و نسبه

نسبه

هو شبيب بن يزيد بن جمرة، و قيل جبرة بن عوف بن أبي حارثة بن مرّة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان. و البرصاء أمه، و اسمها قرصافة(1) بنت الحارث بن عوف بن أبي حارثة، و هو ابن خالة عقيل بن علّفة، و أم عقيل عمرة بنت الحارث بن عوف، و لقّبت قرصافة البرصاء لبياضها، لا لأنها كان بها برص.

هاجي عقيل بن علفة

و شبيب شاعر فصيح إسلاميّ من شعراء الدولة الأموية، بدويّ لم يحضر إلا وافدا أو منتجعا. و كان يهاجي عقيل بن علّفة و يعاديه لشراسة كانت في عقيل و شر عظيم. و كلاهما كان شريفا سيّدا في قومه، في بيت شرفهم و سؤددهم. و كان شبيب أعور، أصاب عينه رجل من طيء في حرب كانت بينهم.

هاجي أرطأة بن سهية

أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم السّجستانيّ عن أبي عبيدة قال:

دخل(2) أرطأة بن سهيّة على عبد الملك بن مروان - و كان قد هاج شبيب بن البرصاء - فأنشده قوله فيه:

/

أبى كان خيرا من أبيك و لم يزل *** جنيبا(3) لآبائى و أنت جنيب

فقال له عبد الملك: كذبت! ثم أنشده البيت الآخر فقال:

و ما زلت خيرا منك مذ عضّ كارها *** برأسك عاديّ النّجاد(4) ركوب(5)

/فقال له عبد الملك: صدقت. و كان أرطاة أفضل من شبيب نفسا، و كان شبيب أفضل من أرطأة بيتا.

فأخره عقيل بن علفة فقال شعرا يهجوه

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ قال حدّثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال:

ص: 462


1- و قيل: إن اسمها أمامة و هو قول ابن الكلبي و قيل إنها لقبت البرصاء لأن أباها الحرث بن عوف جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فخطب إليه صلّى اللّه عليه و سلّم ابنته فقال: إن بها وضحا فرجع و قد أصابها و لم يكن بها وضح («تاج العروس» و «شرح الأمالي» و «شرح الحماسة» للتبريزي.
2- الخبر في «الأمالي» لأبي علي القالي ج 2 ص 3، 4 طبعة دار الكتب المصرية.
3- الجنيب: المنقاد التابع.
4- كذا في ج، و في سائر النسخ «البجاد» بالباء. تصحيف.
5- قال أبو علي القالي في شرح البيت: «ما زلت خيرا منك مذ عض برأسك فعل أمك (و الفعل بالفتح: فرج كل أنثى)، أي مذ ولدت. و العاديّ: القديم، و النجاد: جمع نجد: و هو الطريق المرتفع. و الركوب: المركوب الموطوء، و هو فعول في معنى مفعول. و إنما هذا تشبيه، جعل ما عض برأسه في فرجها مثل الطريق القديمة المركوبة في كثرة من يسلكها، يريد أنه قد ذلل حتى صار كتلك».

فاخر عقيل بن علّفة شبيب بن البرصاء فقال شبيب يهجوه، و يعيّر برجل من طيء كان يأتي أمه عمرة بنت الحارث يقال له حيّان، و يهجو غيظ بن مرّة:

ألسنا بفرع قد علمتم دعامة *** و رابية تنشقّ عنها سيولها(1)

و قد علمت سعد بن ذبيان أننا *** رحاها(2) الذي تأوى إليها و جولها(3)

إذا لم نسسكم في الأمور و لم نكن *** لحرب عوان لاقح من يئولها(4)

فلستم بأهدى في البلاد من التي *** تردّد حيرى حين غاب دليلها

دعت جلّ يربوع عقيلا لحادث *** من الأمر فاستخفى و أعيا عقيلها

فقلت له: هلاّ أجبت عشيرة *** لطارق ليل حين جاء رسولها!

و كائن لنا من ربوة لا تنالها *** مراقيك أو جرثومة لا تطولها

فخرت بأيام لغيرك فخرها *** و غرّتها معروفة و حجولها

إذا الناس هابوا سوأة عمدت لها *** بنو جابر شبّانها و كهولها

/فهلاّ بني سعد صبحت بغارة *** مسوّمة قد طار عنها نسيلها(5)!

فتدرك وترا عند الأم(6) واتر *** و تدرك قتلى لم تتمّم عقولها(7)

افتخر عليه عقيل بمصاهرته للملوك فهجاه

و قال أبو عمرو: اجتمع عقيل بن علّفة و شبيب بن البرصاء عند يحيى بن الحكم فتكلّما في بعض الأمر، فاستطال عقيل على شبيب بالصّهر الذي بينه و بين بني مروان و كان زوّج ثلاثا من بناته فيهم، فقال شبيب يهجوه:

ألا أبلغ أبا الجرباء عنّي *** بآيات التباغض و التقالي

فلا تذكر أباك العبد و افخر *** بأمّ لست مكرمها و خال

و هبها مهرة لقحت ببغل *** فكان جنينها شرّ البغال

ص: 463


1- الفرع (بضم الفاء و سكون الراء المهملة ثم عين مهملة): عدة قرى آهلة على أربعة أيام من المدينة.
2- رحى القوم: سيدهم الذي يصدرون عن رأيه و ينتهون إلى أمره.
3- الجول: الصخرة التي في الماء يكون عليها الطيّ فإن زالت تلك الصخرة تهوّر البئر.
4- حرب عوان: قوتل فيها مرة كأنهم جعلوا الأولى بكرا، و حرب لاقح: من لقحت الناقة إذا حملت فهي لاقح، على التشبيه بالأنثى الحامل التي لا يدرى ما تلد، قال الحرث بن عباد: لقحت حرب وائل عن حيال و قال الأعشى: إذا شمرت بالناس شهباء لاقح عوان شديد همزها و أظلت يئولها: يسومها، و «من» خبر «نكن»؛ أي سائسين لها.
5- الغارة: الخيل المغيرة. مسوّمة: مرسلة و عليها ركبانها، أو معلمة. النسيل: ما سقط من شعر و صوف.
6- كذا في ط، ف، م، و في س، ب «الم».
7- العقول: جمع عقل، و هو الدية.

إذا طارت نفوسهم شعاعا *** حمين المحصنات لدى الحجال(1)

بطعن تعثر الأبطال منه *** و صرب حيث تقتنص العوالي(2)

أبى لي أنّ آبائي كرام *** بنوا لي فوق أشراف طوال(3)

بيوت المجد ثم نموت(4) منها *** إلى علياء مشرفة القذال

تزلّ حجارة الرامين عنها *** و تقصر دونها نبل النّضال

أبا الحفّاث(5) شرّ الناس حيّا *** و أعناق الأيور بني قتال

رفعت مساميا لتنال مجدا *** فقد أصبحت منهم في سفال

/قال أبو عمرو: بنو قتال إخوة بني يربوع رهط عقيل بن علّفة و هم قوم فيهم جفاء، قال أبو عمرو: مات رجل منهم فلفّه أخوه في عباءة له، و قال أحدهما للآخر: كيف تحمله؟ قال: كما تحمل القربة. فعمد إلى حبل فشدّ طرفه في عنقه و طرفه في ركبتيه و حمله على ظهره كما تحمل القربة، فلما صار به إلى الموضع الذي يريد دفنه فيه حفر له حفيرة، و ألقاه فيها، و هال عليه التراب حتى واراه. فلما انصرفا قال له: يا هناه(6)، أنسيت الحبل في عنق أخي و رجليه، و سيبقى مكتوفا إلى يوم القيامة. قال: دعه يا هناه، فإن يرد اللّه به خيرا يحلله.

خطب بنت يزيد بن هاشم فردّه ثم قبله فأبى

و قال أبو عمرو: خطب شبيب بن البرصاء إلى يزيد بن هاشم بن حرملة المريّ ثم الصّرميّ ابنته، فقال: هي صغيرة، فقال شبيب: لا؛ و لكنك تبغي أن تردّني، فقال له يزيد: ما أردت ذاك، و لكن أنظرني هذا العام، فإذا انصرم فعليّ أن أزوّجك. فرحل شبيب من عنده مغضبا، فلما مضى قال ليزيد بعض أهله: و اللّه ما أفلحت! خطب إليك شبيب سيّد قومك فرددته! قال: هي صغيرة، قال: إن كانت صغيرة فستكبر عنده. فبعث إليه يزيد: ارجع فقد زوّجتك، فإني أكره أن ترجع إلى أهلك و قد رددتك، فأبى شبيب أن يرجع و قال:

لعمري لقد أشرفت يوم عنيزة *** على رغبة لو شدّ نفسي مريرها(7)

و لكنّ ضعف الأمر ألا تمرّه *** و لا خير في ذي مرّة لا يغيرها(8)

تبيّن أدبار(9) الأمور إذا مضت *** و تقبل أشباها عليك صدورها

ص: 464


1- شعاعا: متفرقة. و الحجال جمع حجلة كرقبة: و هي الكلة تهيأ للعروس.
2- العوالي: جمع عالية و هي أعلى الرمح.
3- أشراف: جمع شرف، و هو المكان العالي.
4- كذا في ج، و في ط، م «بنيت» و في ب، س «نبوت» تصحيف.
5- الحفاث: حيّة، على تشبيه قوم عقيل بها.
6- هن: كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان، فإذا ناديت مذكرا بغير التصريح باسمه قلت: يا هن أقبل، و قد تزاد الألف و الهاء في آخره في النداء. خاصة فيقال: يا هناه أقبل، أي يا فلان، و تضم الهاء على تقدير أنها آخر الاسم، و تكسر لاجتماع الساكنين.
7- المرير و المريرة: العزيمة. و عنيزة: موضع، و هي هضبة سوداء ببطن فلج بين البصرة و حمى ضرية.
8- أمر الحبل: أحكم فتله. و المرة: القوة من قوى الحبل. و أغار الحبل: أحكم فتله.
9- رواية الحماسة: «أعقاب».

/

لم ترجّي النفوس الشيء لا تستطيعه *** و تخشى من الأشياء ما لا يضيرها

ألا إنما يكفى النفوس إذا اتّقت *** تقى اللّه مما حاذرت فيجيرها

و لا خير في العيدان إلا صلابها *** و لا ناهضات الطير إلا صقورها

و مستنبح يدعو و قد حال دونه *** من الليل سجفا ظلمة و ستورها(1)

رفعت له ناري فلما اهتدى لها *** زجرت كلابي أن يهرّ عقورها(2)

فبات و قد أسرى من الليل عقبة *** بليلة صدق غاب عنها شرورها(3)

و قد علم الأضياف أنّ قراهم *** شواء المتالي عندنا و قديرها(4)

إذا افتخرت سعد بن ذبيان لم يجد *** سوى ما بنينا ما يعدّ فخورها

و إني لتراك الضغينة قد بدا *** ثراها من المولى فلا استثيرها(5)

مخافة أن تجنى عليّ و إنما *** يهيج كبيرات الأمور صغيرها

إذا قيلت العوراء ولّيت سمعها *** سواي و لم أسمع بها ما دبيرها(6)

و حاجة نفس قد بلغت و حاجة *** تركت إذا ما النفس شحّ ضميرها

حياء و صبرا في المواطن إنني *** حيّ لدى أمثال تلك ستيرها(7)

و أحبس في الحق الكريمة إنما *** يقوم بحق النائبات صبورها(8)

أحابي بها الحيّ الذي لا تهمّه *** و أحساب أموات تعدّ قبورها(9)

أ لم تر أنّا نور قوم و إنما *** يبيّن في الظلماء للناس نورها

تمثل محمد بن مروان بشعره

/أخبرني محمد بن عمران الصّيرفي قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم بن جشم العبديّ قال:

كانت بين بني كلب و قوم من قيس ديات، فمشى القوم إلى أبناء أخواتهم من بني أمية يستعينون بهم في

ص: 465


1- السجف: الستر.
2- هرير الكلب: صوته و هو دون النباح.
3- العقبة: قدر فرسخين، أو قدر ما تسيره.
4- ناقة متلية و متل: يتلوها ولدها أي يتبعها، أو هي التي تنتج في آخر النتاج. و القدير: اللحم المطبوخ في القدر.
5- ثراها: أثرها، يقال: إني لأرى ثرى الغضب في وجه فلان: أي أثره، و المولى: الصاحب و ابن العم.
6- العوراء: الكلمة القبيحة. و يريد بدبيرها ما وراءها، و أصل الدبير في القتل ضد القبيل، فالقبيل: ما أقبل به القاتل على صدره و الدبير ما أدبر به عن صدره.
7- الستير: العفيف.
8- يريد الناقة الكريمة.
9- حاباه: نصره.

الحمالة(1)، فحملها محمد بن مروان كلّها عن الفريقين، ثم تمثل بقول شبيب بن البرصاء:

و لقد وقفت النفس عن حاجاتها *** و النّفس حاضرة الشّعاع تطلّع(2)

و غرمت في الحسب الرفيع غرامة *** يعيا بها الحصر الشّحيح و يظلع(3)

إني فتى حرّ لقدري عارف *** أعطي به و عليه ممّا أمنع

نزل هو و أرطاة بن زفر و عويف القوافي على رجل من أشجع فلم يكرم ضيافتهم فهجوه

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا إسحاق بن محمد النّخعي قال. حدّثني الحرمازيّ قال:

نزل شبيب بن البرصاء و أرطاة بن زفر و عويف القوافي برجل من أشجع كثير المال يسمّى علقمة، فأتاهم بشربة لبن ممذوقة(4) و لم يذبح لهم، فلما رأوا ذلك منه قاموا إلى رواحلهم فركبوها ثم قالوا: تعالوا حتى نهجو هذا الكلب. فقال شبيب:

أ فى حدثان الدهر أم في قديمه *** تعلّمت ألاّ تقري الضيف علقما؟(5)

/و قال أرطاة:

لبثنا طويلا ثم جاء بمذقة *** كماء السّلا في جانب القعب أثلما(6)

و قال عويف:

فلما رأينا أنه شرّ منزل *** رمينا بهنّ الليل حتى تخرّما(7)

عاد من سفر فعلم بموت جماعة من بني عمه فرثاهم

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذميّ قال:

غاب شبيب بن البرصاء عن أهله غيبة، ثم عاد بعد مدّة، و قد مات جماعة من بني عمّه، فقال شبيب يرثيهم:

تخرّم الدهر إخواني و غادرني *** كما يغادر ثور الطارد الفئد(8)

إني لباق قليلا ثم تابعهم *** و وارد منهل القوم الذي وردوا

ص: 466


1- الحمالة: الدية يحملها قوم عن قوم.
2- نفس شعاع: متفرقة قد تفرقت هممها، قال قيس بن ذريح: فلم ألفظك من شبع و لكن أقضي حاجة النفس الشعاع
3- الحصر: البخيل، و ظلع كمنع: غمز في مشيه، و هو شبيه بالعرج.
4- ممذوقة: مخلوطة بالماء.
5- حدثان: مصدر حدث، و هو هنا بمعنى حديث، و في المعجمات: «و أما حدثان الأمر (أي أوّله و ابتداؤه) فبكسر الحاء و سكون الدال» و هنا موضعه، لكن يمنع منه وزن البيت.
6- السلا: الجلدة الرقيقة فيها الولد من الناس و المواشي، إن تنزع عن وجه الولد قتلته. و القعب: القدح يروي الرجل، و ثلم الإناء كفرح: صارت فيه ثلمة فهو أثلم.
7- تخرم: استؤصل و انقضى.
8- الفئد: الذي يشكو فؤاده.
هاجى رجلا من غنى فأعانه أرطاة بن سهية عليه

قال أبو عمر: هاجى شبيب بن البرصاء رجلا من غنيّ، أو قال من باهلة، فأعانه أرطأة بن سهيّة على شبيب، فقال شبيب:

لعمري لئن كانت سهيّة أوضعت *** بأرطاة في ركب الخيانة و الغدر(1)

فما كان بالطّرف العتيق فيشترى *** لفحلته، و لا الجواد إذا يجري(2)

أ تنصر منى مشعرا لست منهم *** و غيرك أولى بالحياطة و النصر!

و يروي: «و قد كنت أولى بالحياطة» و هو أجود.

استعدى عليه رهط أرطاة عثمان بن حيان لهجائه إياهم فهدّده ابن حيان بقطع لسانه

و قال أبو عمرو: استعدى رهط أرطاة بن سهيّة على شبيب بن البرصاء إلى عثمان بن حيّان المرّي و قالوا له:

يعمّنا بالهجاء و يشتم أعراضنا، فأمر بإشخاصة إليه/فأشخص، و دخل إلى عثمان و قد أتى بثلاثة نفر لصوص قد أفسدوا في الأرض يقال لهم بهدل و مثغور و هيصم، فقتل بهدلا و صلبه، و قطع مثغورا و الهيصم، ثم أقبل على شبيب فقال: كم تسبّ أعراض قومك و تستطيل عليهم! أقسم قسما حقا لئن عاودت هجاءهم لأقطعنّ لسانك، فقال شبيب:

سجنت لساني يا ابن حيّان بعد ما *** تولّى شبابي، إنّ عقدك محكم

وعيدك أبقى من لساني قذاذة(3) *** هيوبا، و صمتا بعد لا يتكلم.

/رأيتك تحلو لي إذا شئت لامرئ *** و مرّا مرارا فيه صاب و علقم(4)

و كلّ طريد هالك متحيّر *** كما هلك الحيران و الليل مظلم

أصبت رجالا بالذنوب فأصبحوا *** كما كان مثغور عليك و هيصم

خطاطيفك اللاتي تخطّفن بهدلا *** فأوفى به الأشراف جذع مقوّم(5)

يداك يدا خير و شرّ فمنهما *** تضرّ و للأخرى نوال و أنعم

ذهب دعيج بن سيف بابله فخرج في طلبها فرماه دعج فأصاب عينه

و قال أبو عمرو: استاق دعيج بن سيف(6) بن جذيمة بن وهب الطائيّ ثم الجرميّ إبل شبيب بن البرصاء فذهب بها، و خرج بنو البرصاء في الطلب، فلما واجهوا بني جرم قال شبيب: اغتنموا بنى جرم، فقال أصحابه: لسنا

ص: 467


1- أوضعت: أسرعت.
2- الطرف: الفرس الكريم الأطراف، أي الآباء و الأمهات.
3- القذاذة من كل شيء: ما قطع منه.
4- احلولى: حلا. المرار: شجر مرّ.
5- أشراف الإنسان: أعلاه.
6- في الأصول: «شبيب» تحريف.

طالبين إلا أهل القرحة(1)، فمضوا حتى أتوا دعيجا و هو برأس الجبل، فناداه شبيب: يا دعيج، إن كانت الطّراف حيّة فلك سائر الإبل، فقال: يا شبيب، تبصّر رأسها من بين الإبل، فنظر/فأبصرها، فقال شبيب: شدّوا عليه و اصعدوا وراءه، فأبوا عليه، فحمل شبيب عليه وحده، و رماه دعيج فأصاب عينه، فذهب بها - و كان شبيب أعور ثم عمي بعد ما أسنّ - فانصرف و انصرف معه بنو عمه، و فاز دعيج بالإبل، فقال شبيب:

أمرت بني البرصاء يوم حزابة *** بأمر جميع لم تشتّت مصادره

بشول ابن معروف و حسّان بعد ما *** جرى لي يمن قد بدا لي طائره(2)

أ يرجع حرّ دون جرم و لم يكن *** طعان و لا ضرب يذعذع عاسره؟(3)

فأذهب عيني يوم سفح سفيرة *** دعيج بن سيف، أعوزته معاذره(4)

و لمّا رأيت الشّوال قد حال دونها *** من الهضب مغبرّ عنيف عمائره(5)

و أعرض ركن من سفيرة يتّقى *** بشمّ الذّرا لا يعبد اللّه عامره(6)

أخذت بني سيف و مالك موقع *** بما جرّ مولاهم و جرّت جرائره(7)

و لو أنّ رجلي يوم فرّ ابن جوشن *** علقن ابن ظبي أعوزته مغاورة(8)

هجاه أرطأة بن سهية و نفاه عن بني عوف

أخبرني عمي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن عاصم بن الحدثان قال:

هجا أرطأة بن سهية شبيب بن البرصاء و نفاه عن بني عوف فقال:

فلو كنت عوفيا عميت و أسهلت *** كداك و لكنّ المريب مريب(9)

/قال: فعمي شبيب بن البرصاء بعد موت أرطاة بن سهيّة، فكان يقول: ليت ابن سهيّة حيّا حتى يعلم أني عوفيّ، قال: و العمى شائع في بني عوف، إذا أسنّ الرجل منهم عمى، و قلّ من يفلت من ذلك منهم.

امتدح شعره عبد الملك بن مروان و فضله على الأخطل

و حدّثني عمي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عليّ بن الصباح عن ابن الكلبيّ قال:

أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قوله:

ص: 468


1- القرحة في الأصل: الجراحة و المراد هنا الذين استاقوا إبلهم و آذوهم.
2- الشول: النوق أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فشال لبنها أي ارتفع.
3- يذعذع: يبدّد و يفرّق. العاسر: الناقة ترفع ذنبها في عدوها، و الضمير فيه يعود على «حر».
4- سفيرة: ناحية من بلاد طيء و قيل: صهوة لبني جذيمة في طيء يحيط بها الجبل، كذا في ج، و في سائر الأصول «شفيرة» تصحيف.
5- الهضب: جبل ينبسط على الأرض. عمائر جمع عمارة (بالفتح و الكسر) و هي أصغر من القبيلة.
6- الذرا الشمّ: العالية الرءوس. عامرة: يعني به دعيجا.
7- موقع: اسم موضع. جر جريرة: اقترف ذنبا.
8- الرجل: جماعة الرجالة. «كشاك»، و في ف «لذاك» و هو تحريف، و التصويب عن «الأمالي» ج 2 ص 3، و «التنبيه» ص 88.
9- في الأصول: ما عداف: طبع الدار. و الكديّ: جمع كدية و هي الأرض الصلبة.

بكر العواذل يبتدرن ملامتي *** و العاذلون فكلّهم يلحاني(1)

في أن سبقت بشربة مقديّة *** صرف مشعشعة بماء شنان(2)

فقال له عبد الملك: شبيب بن البرصاء أكرم منك وصفا لنفسه حيث يقول:

و إني لسهل الوجه يعرف مجلسي *** إذا أحزن القاذورة المتعبّس(3)

/يضيء سنا جودي لمن يبتغي القرى *** و ليل بخيل القوم ظلماء حندس

ألين لذي القربى مرارا و تلتوي *** بأعناق أعدائي حبال تمرّس(4)

كان عبد الملك يتمثل بشعره في بذل النفس عند اللقاء و يعجب به.

قال: و كان عبد الملك يتمثّل بقول شبيب في بذل النفس عند اللقاء و يعجب به:

دعاني حصن للفرار فساءني *** مواطن أن يثنى عليّ فأشتما

فقلت لحصن نحّ نفسك إنما *** يذود الفتى عن حوضه أن يهدّما

/تأخّرت أستبقى الحياة فلم اجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدّما

سيكفيك أطراف الأسنّة فارس *** إذا ريع نادى بالجواد و بالحمى

إذا المرء لم يغش المكاره أوشكت *** حبال الهوينى بالفتى أن تجذّما(5)

سبب مهاجاته عقيل بن علفة

نسخت من كتاب أبي عبد اللّه اليزيديّ و لم أقرأه عليه، قال خالد بن كلثوم:

كان الذي هاج الهجاء بين شبيب بن البرصاء و عقيل بن علّفة أنه كان لبني نشبة جار من بني سلامان بن سعد، فبلغ عقيلا عنه أنه يطوف في بني مرّة يتحدّث إلى النساء فامتلأ عليه غيظا، فبينا هو يوما جالس و عنده غلمان له و هو يجزّ إبلا له على الماء و يسمها إذ طلع عليه السّلاماني على راحلته، فوثب عليه و هو و غلمانه فضربوه ضربا مبرّحا، و عقر راحلته، و انصرف من عنده بشرّ، فلم يعد إلى ذلك الموضع، و لجّ الهجاء بينهما. و كان عقيل شرسا سيّئ الخلق غيورا.

ص: 469


1- يلحاني: يلومني.
2- مقدية: في الأصول «مقذية» و هو تصحيف، و خمر مقدية: نسبه إلى مقد و هي قرية بالأردن. صرف؛ خالصة. مشعشعة: ممزوجة. الشنان: الماء البارد.
3- أحزن: صار في الخزن (بالفتح)، و هو ضد السهل، و المراد هنا تشدّد، و القاذورة: السيئ الخلق.
4- تتمرّس: يشتدّ التواؤها.
5- تجذم: تقطع.

21 - أخبار دقاق

اشارة

21 - أخبار دقاق(1)

تزوّجت يحيى بن الربيع ثم بعدّة من القوّاد و الكتاب فماتوا و ورثتهم

كانت دقاق مغنّية محسنة جميلة الوجه قد أخذت عن أكابر مغنّي الدولة العباسية، و كانت ليحيى بن الربيع، فولدت له أحمد ابنه، و عمّر عمرا طويلا و حدّثنا عنه جحظة و نظراؤه من أصحابنا، و كان عالما بأمر الغناء و المغنين، و كان غنّي غناء ليس بمستطاب و لكنه صحيح. و مات يحيى بن الربيع فتزوّجت بعده من القوّاد و الكتّاب بعدّة، فماتوا و ورثتهم.

هجاها عيسى بن زينب

فحدّثني عمي قال حدّثني أحمد بن الطيب السّرخسيّ قال:

كانت دقاق - أمّ ولد يحيى ابن الربيع أحمد المعروف بابن دقاق - مغنية محسنة متقنة الأداء و الصّنعة، و كانت قد انقطعت إلى حمدونة بنت الرشيد ثم إلى غضيض، و كانت مشهورة بالظّرف و المجون و الفتوة. قال أحمد بن الطيب: و عتقت دقاق فتزوّجها بعد مولاها ثلاثة من القوّاد(2) من وجوههم، فماتوا جميعا، فقال عيسى بن زينب يهجوها:

قلت لمّا رأيت دار دقاق *** حسنها قد أضرّ بالعشاق

حذّروا الرابع الشّقيّ دقاقا *** لا يكوننّ نجمه في محاق(3)

اله عن بضعها فإن دقاقا *** شؤم حرها قد سار في الآفاق(4)

لم تضاجع بعلا فهبّ سليما *** بل جريحا و جرحه غير راقى(5)

كتبت إلى حمدون تصف هنها فردّ عليها

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني الهداديّ الشاعر قال حدّثني أبو عبد اللّه بن حمدون و أخبرني جحظة عن ابن حمدون - و رواية الكوكبي أتمّ - قال:

كتبت دقاق/إلى أبي تصف هنها(6) صفة أعجزه الجواب عنها، فقال له صديق له: ابعث إلى بعض المخنّثين.

ص: 470


1- كذا في ف، و هو يوافق ما في «تاج العروس» و في سائر الأصول: «دفاق» تصحيف.
2- عتق العبد كضرب: خرج عن العتق.
3- المحاق: آخر الشهر؛ إذا امحق الهلال فلم ير.
4- البضع (بالفتح): التزوج، و البضع (بالضم) النكاح.
5- راقي مسهل راقي، من رقأ الدم أو الدمع: جف.
6- هن المرأة: فرجها.

حتى يصف متاعك، فيكون جوابها، فأحضر بعضهم و أخبره الخبر، فقال: اكتب اليها: عندي القوق البوق(1)، الأصلع المزبوق(2)، و الأقرع المفروق، المنتفخ العروق، يسدّ البثوق(3)، و يفتق الفتوق، و يرمّ(4) الخروق، و يقضي الحقوق، أسد بين جملين، بغل بين حملين، منارة بين صخرتين، رأسه رأس كلب، و أصله مترس(5)درب، إذا دخل حفر، و إذا خرج قشر، لو نطح الفيل كوّره، و لو دخل البحر كدّره، إذا رقّ الكلام، و تقاربت الأجسام، و التفت الساق، بالساق و لطخ باطنها(6) بالبصاق، و قرع البيض بالذكور(7)، و جعلت الرماح تمور، بطعن الفقاح(8)، و شقّ الأحراح(9)، صبرنا فلم نجزع، و سلّمنا طائعين فلم نخدع. قال: فقطعها.

مجلس بين ابنها و بين أبي الجاموس اليعقوبيّ

.

حدّثني عمي قال حدّثني أحمد بن الطيب قال حدّثني أحمد بن عليّ بن جعفر قال:

حضرت مرّة مجلسا و فيه ابن دقاق و فيه النصراني المعروف بأبي الجاموس اليعقوبيّ البزّاز قرابة بلال قال:

فعبث ابن دقاق بأبي الجاموس، فلما أكثر عليه/قال: اسمعوا مني. ثم حلف بالحنيفية أنه لا يكذب، و حدثنا قال: مضيت و أنا غلام مع أستاذي إلى باب حمدونة بنت الرشيد، و معنا بزّ نعرضه للبيع، فخرجت إلينا دقاق أمّ هذا تقاولنا(10) في ثمن المتاع، و في يدها مروحة على أحد وجهيها منقوش: الحر إلى أيرين أحوج من الأير إلى حرين، و على الوجه الآخر: كما أن الرّحا إلى بغلين أحوج من البغل إلى رحوين، قال: فأسكته و اللّه سكوتا علمنا معه أنه لو خرس لكان الخرس أصون لعرضه مما جرى.

كان لها غلامان خلاسيان فرماها الناس بهما

قال أحمد: و في دقاق يقول عيسى بن زينب و كان لها غلامان خلاسيان(11) يروّحانها في الخيش، فتحدّث الناس أنها قالت لواحد منهما أن ينيكهما، فعجز فقالت له: نكني و انت حرّ، فقال لها نيكيني أنت و بيعيني في الأعراب، فقال فيها عيسى بن زينب:

أحسن من غنّى لنا أو شدا *** دقاق في خفض من العيش

لها غلامان ينيكانها *** بعلّة الترويح في الخيش

ص: 471


1- القوق: الفاحش الطول. و البوق: الذي ينفخ فيه و يزمر.
2- المزبوق: المنتوف، و في ف «المربوق» و في سائر الأصول «المزنوق» تصحيف.
3- البثوق: الشقوق.
4- يرم: يصلح.
5- المترس: خشبة توضع خلف الباب.
6- في ب، ج، س: «رأسه».
7- أخذه من قول مهلهل يرثى أخاه كليبا: فلولا الريح أسمع أهل حجر صليل البيض تقرع بالذكور و البيض في البيت: بيض الحديد الذي يلبس على الرأس. و الذكور: السيوف من حديد غير أنيث.
8- الفقاح: جمع فقحة (بالفتح)، و هي حلقة الدبر.
9- الأحراح: جمع حرح (بكسر فسكون) و هو الفرج.
10- تقاولنا: تفاوضنا.
11- الخلاسيّ: الولد بين أبوين أبيض و أسود.
قال فيها إبراهيم بن المهدي شعرا
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهدي قال:

كانت دقاق جارية يحيى بن الربيع تواصل جماعة كانوا يميلون إليها و ترى كلّ واحد منهم أنها تهواه، و كانت أحسن أهل عصرها وجها، و أشأمهم على من رابطها(1) و تزوّجها، فقال فيها أبو إسحاق - يعني أباه:

صوت

عدمتك يا صديقة كلّ خلّق *** أ كلّ الناس ويحك تعشقينا؟

فكيف إذا خلطت الغثّ منهم *** بلحم سمينهم لا تبشمينا(2)

/فيه خفيف مل ينسب إلى إبراهيم بن المهدي و إلى ريّق و إلى شارية.

قال فيها أبو موسى الأعمى شعرا

أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثنا أبو هفّان قال:

خرج يحيى بن الربيع مولى دقاق - و كانت قد ولدت منه ابنه أحمد بن يحيى - إلى بعض النواحي، و ترك جاريته دقاق في داره فعملت بعده الأوابد(3)، و كانت من أحسن الناس وجها و غناء، و أشأمه على/أزواجها و مواليها و ربطائها، فقال أبو موسى الأعمى فيه:

قل ليحيى نعم صبرت على المو *** ت و لم تخش سهم ريب المنون

كيف قل لي أطلقت ويحك يا يح *** يى على الضّعف منك حمل القرون!

ويح يحيى ما مرّ باست دقاق *** بعد ما غاب من سياط البطون

صوت من المائة المختارة

تكاشرني كرها كأنك ناصح *** و عينك تبدي أنّ صدرك لي دوي(4)

لسانك لي حلو و عينك علقم *** و شرّك مبسوط و خيرك ملتوي(5)

الشعر ليزيد بن الحكم الثقفيّ و الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و فيه لجهم العطار خفيف ثقيل عن الهاشميّ:

ص: 472


1- رابطها: لازمها.
2- بشم، كفرح: اتخم و في ط، ب: «تسميننا».
3- الأوابد: جمع آبدة، و هي الداهية يبقى ذكرها على الأبد.
4- كاشره: ضحك في وجهه و باسطه. دوى كفرح: مرض، يقال إنه لدوى الصدر.
5- كذا في أكثر الأصول، و في ف: «منطوي».

22 - نسب يزيد بن الحكم و أخباره

نسبه و بعض أخبار آبائه

هو يزيد بن الحكم بن عثمان بن أبي العاص صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كذلك وجدت نسبه في نسخة ابن الأعرابيّ.

و ذكر غيره أنه يزيد بن الحكم بن أبي العاص، و أن عثمان عمّه، و هذا هو القول الصحيح. و أبو العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد اللّه بن همّام بن أبان بن يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسيّ و هو ثقيف.

روى جدّه عثمان الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم

و عثمان جدّه أو عمّ أبيه أحد من أسلم من ثقيف يوم فتح الطائف هو و أبو بكرة، و شطّ عثمان بالبصرة منسوب إليه؛ كانت له هناك أرض أقطعها و ابتاعها و قد روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الحديث، و روى عنه الحسن بن أبي الحسن و مطرّف بن عبد اللّه بن الشّخّير و غيرهما من التابعين.

أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا بشر بن موسى قال حدّثنا الحميديّ قال حدّثنا سفيان، سمعه من محمد بن إسحاق، و سمعه محمد بن سعيد بن أبي هند، و سمعه سعيد بن أبي هند من مطرّف بن عبد اللّه بن الشّخّير قال:

سمعت عثمان بن أبي العاص الثقفيّ يقول: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أمّ قومك و اقدرهم بأضعفهم فإن منهم الضعيف و الكبير و ذا الحاجة». قال الحميديّ و حدّثنا الفضيل بن عياض عن أشعب عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اتخذوا مؤذّنا و لا يأخذ على أذانه أجرا».

مرّ به الفرزدق و هو ينشد شعرا فامتدحه

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا العلاء بن الفضل قال حدّثني أبي قال:

/مرّ الفرزدق بيزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفيّ و هو ينشد في المجلس(1) شعرا فقال: من هذا الذي ينشد شعرا كأنه من أشعارنا؟ فقالوا: يزيد بن الحكم، فقال: نعم؛ أشهد باللّه أن عمّتي ولدته. و أم يزيد بكرة بنت الزّبرقان بن بدر، و أمها هنيدة بنت صعصعة بن ناجية. و كانت بكرة أوّل عربيّة ركبت البحر فأخرج بها إلى الحكم و هو يتوّج(2)، و كان الزبرقان يكنى أبا العباس، و كان له بنون منهم العباس و عيّاش.

ص: 473


1- في ف: «في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم».
2- توّج: بلد بفارس.
خبره مع الحجاج و قد ولاه كورة فارس

أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ قال حدّثنا/عبد اللّه بن شبيب قال حدّثنا الحزامي قال:

دعا الحجاج بن يوسف بيزيد بن الحكم الثقفيّ، فولاّه كورة فارس، و دفع إليه عهده بها، فلما دخل عليه ليودّعه قال له الحجّاج: أنشدني بعض شعرك، و إنّما أراد أن ينشده مديحا له، فأنشده قصيدة يفخر فيها و يقول:

و أبي الذي سلب ابن كسرى راية *** بيضاء تخفق كالعقاب الطائر

فلما سمع الحجّاج فخره نهض مغضبا، فخرج يزيد من غير أن يودّعه، فقال الحجّاج لحاجبه: ارتجع منه العهد، فإذا ردّه فقل له: أيهما خير لك: ما ورّثك أبوك أم هذا؟ فردّ على الحاجب العهد و قال: قل له:

ورثت جدّي مجده و فعاله *** و ورثت جدّك أعنزا بالطائف

خرج عن الحجاج مغضبا و لحق بسليمان بن عبد الملك و مدحه
اشارة

و خرج عنه مغضبا، فلحق بسليمان بن عبد الملك و مدحه بقصيدته التي أوّلها:

/

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا *** إذا أقول صحا يعتاده عيدا(1)

يقول فيها:

سمّيت باسم امرئ أشبهت شيمته *** عدلا و فضلا سليمان بن داودا(2)

أحمد به في الورى الماضين من ملك *** و أنت أصبحت في الباقين محمودا

لا يبرأ الناس من أن يحمدوا ملكا *** أولاهم في الأمور الحلم و الجودا(3)

فقال له سليمان: و كم كان أجرى لك لعمالة فارس؟ قال عشرين ألفا. قال: فهي لك عليّ ما دمت حيا. و في أوّل هذه القصيدة غناء نسبته:

صوت

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا *** إذا أقول صحا يعتاده عيدا

كأنّ أحور من غزلان ذي بقر *** أهدى لها شبه العينين و الجيدا(4)

أجري على موعد منها فتخلفني *** فلا أملّ و لا نومني المواعيدا

كأنني يوم أمسي لا تكلّمني *** ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا

ص: 474


1- معمود: هذه العشق.
2- رواية: «لسان العرب» «عود»: سميت باسم نبي أنت تشبهه حلما و علما سليمان بن داودا
3- رواية «اللسان»: «لا يعذل الناس في أن يشكروا ملكا».
4- ذو بقر: موضع، و الحور: شدّة سواد المقلة في شدّة بياضها، و في «اللسان»: «سنة العينين و الجيدا» - و السنة: الصورة - و قد عقب على البيت فقال: «و كان أبو علي يرويه: «شبه العينين و الجيدا» - كما في رواية «الأغاني» - أراد و شبه الجيد فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه. و قد قيل: إن أبا عليّ صحفه».

و من الناس من ينسب هذه الأبيات إلى عمر بن أبي ربيعة و ذلك خطأ.

/عروضه من البسيط، و الغناء للغريض، ثقيل أوّل بالبنصر في مجراها عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى.

حديثه مع الحجاج و قد سمع شعره في رثاء ابنه عنبس

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عدي قال أخبرنا ابن عياش عن أبيه قال:

سمعت الحجّاج - و استوى جالسا - ثم قال: صدق و اللّه زهير بن أبي سلمى حيث يقول:

و ما العفو إلاّ لامرئ ذي حفيظة *** متى يعف عن ذنب امرئ السّوء يلجج

فقال له يزيد بن الحكم: أصلح اللّه الأمير، إني قد رثيت ابني عنبسا ببيت، إنه لشبيه بهذا. قال: و ما هو؟ قال قلت:

و يأمن ذو حلم العشيرة جهله *** عليه، و يخشى جهله جهلاؤها

قال: فما منعك أن تقول مثل هذا لمحمد ابني ترثيه به؟ فقال: إن ابني و اللّه كان أحبّ إليّ من ابنك.

و هذه الأبيات من قصيدة أخبرني بها عمّي عن الكرانيّ عن الهيثم بن عديّ. قال: /كان ليزيد بن الحكم ابن يقال له عنبس، فمات فجزع عليه جزعا شديدا و قال يرثيه:

جزى اللّه عني عنبسا كلّ صالح *** إذا كانت الأولاد سيئا(1) جزاؤها

هو ابني و أمسى أجره لي و عزّني *** على نفسه ربّ إليه ولاؤها

جهول إذا جهل العشيرة يبتغى *** حليم و يرضى حلمه حلماؤها

/و بعد هذا البيت المذكور في الخبر الأول.

فضله عبد الملك بن مروان على شاعر ثقيف في الجاهلية

أخبرني عمي قال حدّثنا الكراني قال حدّثنا العمريّ عن لقيط قال قال عبد الملك بن مروان:

كان شاعر ثقيف في الجاهليّة خيرا من شاعرهم في الإسلام فقيل له: من يعني أمير المؤمنين؟ فقال لهم: أمّا شاعرهم في الإسلام فيزيد بن الحكم حيث يقول:

فما منك الشباب و لست منه *** إذا سألتك لحيتك الخضابا

عقائل من عقائل أهل نجد *** و مكّة لم يعقّلن الرّكابا

و لم يطردن أبقع يوم ظعن(2) *** و لا كلبا طردن و لا غرابا

ص: 475


1- كذا في ف، ج، و في باقي الأصول: «شيئا» تحريف.
2- كذا في ف، و في م، ط: «كلب»، و في ب. ج،: «نجد». و الغراب الأبقع: ما كان فيه سواد و بياض.

و قال شاعرهم في الجاهليّة:

و الشيب إن يظهر فإنّ وراءه *** عمرا يكون خلاله متنفّس

لم ينتقص منيّ المشيب قلامة *** و لما بقي منّي ألبّ و أكيس(1)

شعره ليزيد بن المهلب حين خلع يزيد بن عبد الملك

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن لقيط قال قال يزيد بن الحكم الثقفي ليزيد بن المهلب حين خلع يزيد بن عبد الملك:

أبا خالد قد هجت حربا مريرة *** و قد شمرت حرب عوان فشمّر

فقال يزيد بن المهلب: باللّه أستعين، ثم أنشده، فلمّا بلغ قوله:

فإنّ بني مروان قد زال ملكهم *** فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر

فقال يزيد بن المهلب: ما شعرت بذلك، ثم أنشده فلما بلغ قوله:

فمت ما جدا أو عش كريما فإن تمت *** و سيفك مشهور بكفك تعذر

فقال: هذا ما لا بدّ منه.

/قال العمري: و حدّثني الهيثم بن عدي عن ابن عيّاش أن يزيد بن المهلّب إنما كتب إليه يزيد بن الحكم بهذه الأبيات، فوقّع إليه تحت البيت الأوّل: أستعين باللّه. و تحت البيت الثاني: ما شعرت. و تحت البيت الثالث: أمّا هذه فنعم.

مدح يزيد بن المهلب و هو في سجن الحجاج فأعطاه نجما حل عليه

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني الغلاّبي قال حدّثني ابن عائشة قال: دخل يزيد بن الحكم على يزيد ابن المهلّب في سجن الحجّاج و هو يعذّب، و قد حلّ عليه نجم كان قد نجّم(2) عليه، و كانت نجومه في كلّ أسبوع ستّة عشر ألف درهم فقال له:

أصبح في قيدك السماحة و الجو *** د و فضل الصّلاح و الحسب

لا بطر إن تتابعت نعم *** و صابر في البلاء محتسب

بززت سبق الجياد في مهل *** و قصّرت دون سعيك العرب

قال: فالتفت يزيد بن المهلب إلى مولى له، و قال: أعطه نجم هذا الأسبوع، و نصبر على/العذاب إلى السبت الآخر.

و قد رويت هذه الأبيات و القصّة لحمزة بن بيض مع يزيد.

ص: 476


1- ألب و أكيس: أكثر عقلا و حزما.
2- تنجيم الدين: أن يقدر دفعه في أوقات معلومة متتابعة مشاهرة أو مسناة، و أصله أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر مواقيت حلول دينها.
روى ابنه العباس بعض شعره لجرير فأكرمه

أخبرني عمي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني هارون بن مسلم قال حدّثني عثمان بن حفص قال حدّثني عبد الواحد عريف ثقيف بالبصرة:

أن العباس بن يزيد بن الحكم الثقفيّ هرب من يوسف بن عمر إلى اليمامة، قال: فجلست في مسجدها و غشيني قوم من أهلها، قال: فو اللّه إني لكذلك إذا إنا بشيخ قد دخل يترجّح في مشيته، فلما رآني أقبل إليّ، فقال القوم: هذا جرير، /فأتاني حتى جلس إلى جنبي، ثم قال لي: السّلام عليك، ممّن أنت؟ قلت: [رجل من ثقيف.

قال: أعرضت الأديم، ثمّ ممن؟ قلت(1):] رجل من بني مالك، فقال: لا إله إلا اللّه! أمثلك يعرف بأهل بيته! فقلت: أنا رجل من ولد أبي العاصي، قال: ابن بشر؟ قلت: نعم. قال: أيّهم أبوك؟ قلت: يزيد بن الحكم. قال:

فمن الذي يقول:

فني الشّباب و كلّ شيء فان *** و علا لداتي شيبهم و علاني

قلت: أبي، قال: فمن الذي يقول:

ألا لا مرحبا بفراق ليلى *** و لا بالشيب إذ طرد(2) الشبابا

شباب بان محمودا و شيب *** ذميم لم نجد لهما اصطحابا

فما منك الشباب و لست منه *** إذا سألتك لحيتك الخضابا

قلت: أبي، قال: فمن الذي يقول:

تعالوا فعدّوا يعلم الناس أيّنا *** لصاحبه في أوّل الدهر تابع

تزيّد يربوع بكم في عدادها *** كما زيد في عرض الأديم الأكارع(3)

قال: قلت: غفر اللّه لك، كان أبي أصون لنفسه و عرضه من أن يدخل بينك و بين ابن عمك، فقال: رحم اللّه أباك، فقد مضى لسبيله، ثم انصرف، فنزّلني بكبشين، فقال لي أهل اليمامة، ما نزّل أحدا قبلك قط.

شعره في جارية مغنية كان يهواها و قد ارتحلت عنه

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن إبراهيم الموصلي عن يزيد حوراء المغنّي قال:

/كان يزيد بن الحكم الثقفي يهوى جارية مغنّية، و كانت غير مطاوعة له، فكان يهيم بها، ثم قدم رجل من أهل الكوفة فاشتراها، فمرّت بيزيد بن الحكم مع غلمة لمولاها و هي راحلة، فلما علم بذلك رفع صوته فقال:

يا أيها النازح الشّسوع *** ودائع القلب لا تضيع(4)

ص: 477


1- أعرض الشيء و عرّضه: جعله عريضا أي وسعه. و ما بين القوسين وارد في ف. ساقط في غيرها.
2- كذا في ف، و ج. و في باقي الأصول: «طرق».
3- الأكارع: جمع كراع، و هو من البقر و الغنم بمنزلة الوظيف من الفرس و هو مستدق الساق.
4- الشسوع: الشاسع البعيد.

أستودع اللّه من إليه *** قلبي على نأيه نزوع(1)

إذا تذكرته استهلت *** شوقا إلى وجهه الدموع

كتاب الجارية إليه

و مضت الجارية و غاب عنه خبرها مدّة، فبينا هو جالس ذات يوم إذ وقف عليه كهل فقال له: أ أنت يزيد بن الحكم؟ قال: نعم، فدفع إليه كتابا مختوما، ففضّه فإذا كتابها إليه و فيه:

لئن كوى قلبك الشّسوع *** فالقلب منّي به صدوع

و بي و ربّ السماء فاعلم *** إليك يا سيدي نزوع

/أعزز علينا بما تلاقي *** فينا و إن شفّنا الولوع

فالنفس حرّى عليك و لهى *** و العين عبرى لها دموع

فموتنا في يد التنائي *** و عيشنا القرب و الرجوع

و حيثما كنت يا منايا *** فالقلب منّي به خشوع

ثم عليك السلام منّي *** ما كان من شمسها طلوع

قال: فبكى و اللّه حتى رحمه من حضر، و قال لنا الكهل: ما قصته؟ فأخبرناه بما بينهما، فجعل يستغفر اللّه من حمله الكتاب إليه، و أحسب أن هذا الخبر مصنوع؛ و لكن هكذا أخبرنا به ابن أبي الأزهر.

شعر نسب إليه و إلى طرفة بن العبد

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال أنشدني أبو الزعراء - رجل من بني قيس بن ثعلبة - لطرفة بن العبد:

تكاشرني كرها كأنك ناصح *** و عينك تبدي أن صدرك لي جوي

قال: فعجبت من ذلك و أنشدته أبا عمرو بن العلاء و قلت له: أني كنت أرويه ليزيد بن الحكم الثقفيّ فأنشدنيه أبو الزعراء لطرفة بن العبد، فقال لي أبو عمرو: إنّ أبا الزعراء في سنّ يزيد بن الحكم، و يزيد مولّد يجيد الشعر، و قد يجوز أن يكون أبو الزعراء صادقا.

قال مؤلف هذا الكتاب: ما أظن أبا الزعراء صدق فيما حكاه، لأنّ العلماء من رواة الشعر رووها ليزيد بن الحكم، و هذا أعرابي لا يحصل ما يقوله، و لو كان هذا الشعر مشكوكا فيه أنه ليزيد بن الحكم - و ليس كذلك - لكان معلوما أنه ليس لطرفة، و لا موجودا في شعره على سائر الروايات، و لا هو أيضا مشبها لمذهب طرفة و نمطه، و هو بيزيد أشبه، و له في معناه عدّة قصائد يعاتب فيها أخاه عبد ربّه بن الحكم و ابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص. و من قال إنه ليزيد بن الحكم بن عثمان قال إنّ عمه عبد الرحمن هو الذي عاتبه، و فيه يقول:

و مولى كذئب السّوء لو يستطيعني *** أصاب دمي يوما بغير قتيل

ص: 478


1- النزوع: المشتاق.

و أعرض عما ساءه و كأنما *** يقاد إلى ما ساءني بدليل

مجاملة منّي و إكرام غيره *** بلا حسن منه و لا بجميل

و لو شئت لو لا الحلم جدّعت أنفه *** بإيعاب جدع بادئ و عليل(1)

حفاظا على أحلام قوم رزئتهم *** رزان يزينون الندىّ كهول

/و قال في أخيه عبد ربّه:

أخي يسرّ الشّحناء يضمرها *** حتى ورى جوفه من غمره الداء(2)

حرّان ذو غصّة جرّعت غصّته *** و قد تعرّض دون الغصة الماء

حتى إذا ما أساغ الريق أنزلني *** منه كما ينزل الأعداء أعداء

أسعى فيكفر سعي ما سعيت له *** إني كذاك من الإخوان لقّاء

و كم يد و يد لي عنده و يد *** يعدّهن تراب و هي آلاء

فأمّا تمام القصيدة التي نسبت إلى طرفة فأنا أذكر منها مختارها ليعلم أنّ مرذول/كلام طرفة فوقه:

تصافح من لاقيت لي ذا عداوة *** صفاحا و عنّي بين عينيك منزوي(3)

أراك إذا لم أهو أمرا هويته *** و لست لما أهوى من الأمر بالهوي

أراك اجتويت الخير مني و أجتوي *** أذاك، فكلّ يجتوي قرب مجتوي(4)

فليت كفافا كان خيرك كلّه *** و شرّك عني ما ارتوى الماء مرتوي(5)

عدوّك يخشى صولتي إن لقيته *** و أنت عدوّي، ليس ذاك بمستوي

و كم موطن لولاي صحت كما هوى *** بأجرامه من قلّة النّيق منهوي(6)

/إذا ما ابتنى المجد ابن عمك لم تعن *** و قلت ألا يا ليت بنيانه خوي(7)

كأنك إن نال ابن عمّك مغنما *** شج أو عميد أو أخو غلّة لوي(8)

و ما برحت نفس حسود حشيتها *** تذيبك حتى قيل هل أنت مكتوي(9)

ص: 479


1- جدعت: قطعت. و أوعبه إيعابا: استوعبه.
2- يقال: ورى القيح جوفه: أفسده. الغمر: الحقد و الغل.
3- بين، مرفوع بالابتداء، و منزوي خبره (و انظر «الخزانة» 497:1).
4- اجتواه: كرهه.
5- الكفاف: الذي لا يفضل عن الشيء و يكون بقدر الحاجة إليه، و هو خبر مقدّم لكان و اسم ليت محذوف أو ضمير الشأن.
6- طاح يطيح و يطوح: هلك. هوى و انهوى: سقط. أجرام: جمع جرم و هو الجسم. القلة: أعلى الجبل. النيق: أرفع موضع في الجبل.
7- خوى المنزل: خلا من أهله.
8- شج: حزين. العميد: المريض لا يستطيع الجلوس من مرضه حتى يعمد من جوانبه بالوسائد (أي يقام). لوى: أصابه اللوي؛ و هو وجع في الجوف، و الغلة: حرارة الجوف.
9- يقال حشي الرجل بنفسه و حشيها، (بالبناء للمجهول) من حشا الوسادة إذا ملأها.

جمعت و فحشا غيبة و نميمة *** ثلاث خصال لست عنهن نرعوي

و يدحو بك الداحي إلى كلّ سوأة *** فيا شرّ من يدحو إلى شر مدحوي(1)

بدا منك غشّ طالما قد كتمته *** كما كتمت داء ابنها أمّ مدّوي(2)

و هذا شعر إذا تأمّله من له في العلم أدنى سهم عرف أنّه لا يدخل في مذهب طرفة و لا يقاربه.

صوت من المائة المختارة

أبى القلب إلا أمّ عوف و حبّها *** عجوزا، و من يعشق عجوزا يفنّد

كثوب يمان قد تقادم عهده *** و رقعته ما شئت في العين و اليد

الشعر لأبي الأسود الدّئلى و الغناء لعلّويه، ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن بانة.

ص: 480


1- في جميع الأصول: و يدعو بك الداعي إلى كل سوأة فيا شر من يدعو إلى شر من دعى و التصويب عن «الخزانة» (ج 1 ص 499).
2- أدوى: أكل الدواية (بالضم و بالكسر)، و هي جليدة رقيقة تعلو اللبن و المرق، و ذلك أن خاطبة من الأعراب خطبت على ابنها جارية فجاءت أمها إلى أم الغلام لتنظر إليه، فدخل الغلام فقال: أ أدوي يا أمي؟ فقالت: اللجام معلق بعمود البيت، أرادت بذلك كتمان زلة الابن و سوء عادته.

23 - أخبار أبي الأسود الدؤلي و نسبه

نسبه

اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بم حلس بن نفاثة بن عديّ بن الدّئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، و هم إخوة قريش، لأن قريشا مختلف في الموضع الذي افترقت [فيه(1)] مع أبيها، فخصّت بهذا الاسم دونهم، و أبعد من قال في ذلك مدّى من زعم أن النضر بن كنانة منتهى نسب قريش، فأمّا النسّابون منهم فيقولون إن من لم يلده فهر بن مالك بن النضر فليس قرشيّا.

كان من وجوه التابعين و فقهائهم و محدّثيهم

و كان أبو الأسود الدؤلي من وجوه التابعين و فقهائهم، و محدّثيهم. و قد روى عن عمر بن الخطاب و عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنهما(2)، فأكثر و روى عن ابن عباس و غيره، و استعمله عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنهم، و كان من وجوه شيعة عليّ. و ذكر أبو عبيدة أنه أدرك أول الإسلام و شهد بدرا مع المسلمين(3). و ما سمعت بذلك عن غيره.

و أخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد السّلميّ عن أبي عبيدة مثله.

ولاه عليّ البصرة

و استعمله عليّ رضى اللّه عنه على البصرة بعد ابن عباس، و هو كان الأصل في/بناء النحو و عقد أصوله.

كان أول من وضع النحو و رسم أصوله

أخبرنا أبو جعفر بن رستم الطّبري النحويّ بذلك عن أبي عثمان المازنيّ عن أبي عمر الجرميّ عن أبي الحسن الأخفش عن سيبويه عن الخليل بن أحمد/عن عيسى بن عمر عن عبد اللّه بن أبي إسحاق الحضرميّ عن عنبسة الفيل و ميمون الأقرن عن يحيى بن يعمر الليثي.

أنّ أبا الأسود الدؤلي دخل إلى ابنته بالبصرة فقالت له يا أبت ما أشدّ الحرّ! (رفعت أشدّ) فظنّها تسأله و تستفهم منه: أيّ زمان الحرّ أشدّ؟ فقال لها: شهر ناجر، [يريد شهر صفر. الجاهلية كانت تسمى شهور السنة بهذه الأسماء(4)]. فقالت: يا أبت إنما أخبرتك و لم أسألك. فأتى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا

ص: 481


1- زيادة من ف.
2- الدعاء في ف: «صلوات اللّه عليه و آله».
3- في ف: «مع المشركين».
4- هذه الزيادة عن ف.

أمير المؤمنين، ذهبت لغة العرب لمّا خالطت العجم، و أوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحلّ، فقال له: و ما ذلك؟ فأخبره خبر ابنته، فأمره فاشترى صحفا بدرهم، و أملّ عليه: الكلام كله لا يخرج عن اسم و فعل و حرف جاء لمعنى. (و هذا القول أول كتاب سيبويه)، ثم رسم أصول النحو كلّها، فنقلها النحويّون و فرّعوها. قال أبو الفرج الأصبهانيّ: هذا حفظته عن أبي جعفر و أنا حديث السنّ، فكتبته من حفظي، و اللفظ يزيد و ينقص و هذا معناه.

أمره زياد أن ينقط المصاحف فنقطها

أخبرني عيسى بن الحسين قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني قال:

أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف، فنقطها و رسم من النحو رسوما، ثم جاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية، ثم زاد فيها بعده عنبسة بن معدان المهريّ، ثم جاء عبد اللّه بن أبي إسحاق الحضرميّ و أبو عمرو بن العلاء فزادا فيه، ثم جاء الخليل بن أحمد الأزديّ و كان صليبة فلحب الطريق(1). و نجم علي بن حمزة الكسائي مولى بني كاهل من أسد فرسم للكوفيّين رسوما هم الآن يعلمون عليها.

أخذ النحو عن عليّ بن أبي طالب

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد النحويّ قال حدّثنا التّوّزيّ و المهريّ قالا حدّثنا كيسان بن المعرّف الهجيميّ أبو سليمان عن أبي سفيان بن العلاء عن جعفر بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤليّ عن أبيه قال:

قيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم؟ - يعنون به النحو - فقال: أخذت حدوده عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

خبره مع زياد في سبب وضع النحو

أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثني عبيد اللّه بن محمد عن عبد اللّه بن شاكر العنبريّ عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عيّاش عن عاصم بن أبي النجود قال:

أوّل من وضع العربيّة أبو الأسود الدؤليّ، جاء إلى زياد بالبصرة فقال له: أصلح اللّه الأمير، إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، و تغيّرت ألسنتهم، أ فتأذن لي أن أضع لهم علما يقيمون به كلامهم؟ قال: لا. قال: ثم جاء زيادا رجل فقال: مات أبانا و خلّف بنون، فقال زياد: مات أبانا و خلّف بنون! ردّوا إليّ أبا الأسود الدؤليّ، فردّ إليه، فقال: ضع للناس ما نهيتك عنه. فوضع لهم النحو. و قد روى هذا الحديث عن أبي بكر بن عياش يزيد بن مهران، فذكر أنّ هذه القصّة كانت بين أبي الأسود و بين عبيد اللّه بن زياد.

أول باب وضعه في النحو باب التعجب

أخبرني أحمد بن العبّاس قال حدّثنا العنزيّ عن أبي عثمان المازنيّ عن الأخفش عن الخيل بن أحمد عن عيسى ابن عمر عن عبد اللّه بن أبي إسحاق عن أبي حرب بن أبي الأسود قال:

ص: 482


1- صليبة: في «أساس البلاغة» «عربي صليب: خالص النسب. و امرأة صليبة: كريمة النسب عريقة» و المعنى: و كان ذا نسبة صليبة. لحب الطريق: بينه.

أوّل باب وضعه أبي من النحو باب التعجب.

كان معدودا في طبقات من الناس و هو في كلها مقدم

و قال/الجاحظ: أبو الأسود الدؤليّ معدود في طبقات من الناس، و هو في كلّها مقدّم، مأثور عنه الفضل في جميعها؛ كان معدودا في التابعين و الفقهاء/و الشعراء و المحدّثين و الأشراف و الفرسان و الأمراء و الدّهاة و النحويّين و الحاضري الجواب و الشيعة و البخلاء و الصّلع الأشراف و البخر الأشراف.

حديثه عن عمر بن الخطاب

فما رواه من الحديث عن عمر مسندا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، حدّثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخيّ قال حدّثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال حدّثنا يونس بن محمد قال حدّثنا داود بن أبي الفرات عن عبد اللّه بن أبي بريدة عن أبي الأسود الدؤلي قال:

أتيت المدينة فوافقتها و قد وقع فيها مرض فهم يموتون موتا ذريعا، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه، فمرّت به جنازة فأثني على صاحبها خير، فقال عمر رضي اللّه عنه: وجبت، ثم مرّ بأخرى فأثني على صاحبها بشرّ، فقال عمر: وجبت، فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ فقال: قلت كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أيّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله اللّه الجنة» فقلنا: و ثلاثة؟ قال: «و ثلاثة»، فقلنا: و اثنان؟ قال:

«و اثنان»، ثم لم نسأله عن الواحد.

حدّثني حمّاد بن سعيد قال حدّثنا أبو خيثمة قال حدّثنا معاذ بن هشام قال حدّثني أبي عن قتادة عن أبي الأسود الدؤليّ قال:

خطب عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه الناس يوم الجمعة فقال: إنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ منصورة حتى يأتي أمر اللّه جلّ و عزّ».

حديثه عن علي بن أبي طالب

و مما رواه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن سليمان الحضرميّ قال حدّثنا هنّاد ابن السّريّ قال حدّثنا عبده بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤليّ عن ابيه أبي الأسود الدؤليّ عن عليّ كرم اللّه وجهه أنه قال في بول الجارية: يغسل، و في بول الغلام: ينضح ما لم يأكلا الطعام.

تبع ابن عباس حين خرج من البصرة إلى المدينة ليردّه فأبى

أخبرني محمّد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا البغويّ قال حدّثنا عليّ بن الجعد قال حدّثنا معلّى بن هلال عن الشّعبيّ و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا المدائنيّ جميعا قالوا:

لما خرج ابن عباس رضي اللّه عنهما إلى المدينة من البصرة تبعه أبو الأسود في قومه ليردّه، فاعتصم عبد اللّه بأخواله من بني هلال فمنعوه، و كادت تكون بينهم حرب، فقال لهم بنو هلال: ننشدكم اللّه ألاّ تسفكوا بيننا دماء تبقى معها العداوة إلى آخر الأبد، و أمير المؤمنين أولى بابن عمه، فلا تدخلوا أنفسكم بينهما، فرجعت كنانة عنه، و كتب أبو الأسود إلى عليّ عليه السلام فأخبره بما جرى، فولاّه البصرة.

ص: 483

كان كاتبا لابن عباس على البصرة

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي و وكيع و عمي قالوا جميعا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عمران الضّبّيّ قال حدّثني خالد بن عبد اللّه قال حدّثني أبو عبيدة معمر بن المثنّى قال:

كان أبو الأسود الدؤلي كاتبا لابن عباس على البصرة، و هو الذي يقول:

و إذا طلبت من الحوائج حاجة *** فادع الإله و أحسن الأعمالا

فليعطينّك ما أراد بقدرة *** فهو اللطيف لما أراد فعالا

/إن العباد و شأنهم و أمورهم *** بيد الإله يقلّب الأحوالا

فدع العباد و لا تكن بطلابهم *** لهجا تضعضع(1) للعباد سؤالا

كان يكثر الخروج و الركوب في كبره و تعليله ذلك

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ عن محمد بن سلام قال:

كان أبو الأسود الدؤلي قد أسنّ و كبر، و كان مع ذلك يركب إلى المسجد و السّوق و يزور أصدقاءه، فقال له رجل: يا أبا الأسود، أراك تكثر الركوب و قد ضعفت عن الحركة و كبرت، و لو لزمت منزلك كان أودع لك. فقال له أبو الأسود: صدقت/و لكنّ الركوب يشدّ أعضائي، و أسمع من أخبار الناس ما لا أسمعه في بيتي، و أستنشى الريح، و ألقى إخواني، و لو جلست في بيتي لاغتمّ بي أهلي، و أنس بي الصبيّ، و اجترأ عليّ الخادم، و كلّمني من أهلي من يهاب كلامي، لإلفهم إيّاي، و جلوسهم عندي؛ حتى لعلّ العنز و أن تبول عليّ فلا يقول لها أحد: هس(2).

سأله بنو الديل المعاونة في دية رجل فأبى و علل امتناعه

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثني أبي قال حدّثنا أبو عكرمة قال:

كان بين بني الدليل و بين بني ليث منازعة، فقتلت بنو الديل منهم رجلا، ثم اصطلحوا بعد ذلك على أن يؤدّوا ديته، فاجتمعوا إلى أبي الأسود يسألونه المعاونة على أدائها، و ألحّ عليه غلام منهم ذو بيان و عارضة، فقال له: يا أبا الأسود، أنت شيخ العشيرة و سيّدهم، و ما يمنعك من معاونتهم قلة ذات يد و لا سؤدد و لا جود، فلما أكثر أقبل عليه أبو الأسود، ثم قال له: قد أكثرت يا ابن أخي فاسمع مني: إن الرجل و اللّه ما يعطي ماله إلا لإحدى خلال: إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأة ممن يعطيه، أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله، أو رجل أراد وجه اللّه و ما عنده في الدار الآخرة، أو رجل أحمق خدع عن ماله، و و اللّه ما أنتم إحدى هذه الطبقات. و لا جئتم في شيء من هذا، و لا عمّك الرجل العاجز فينخدع لهؤلاء، و لما أفدتك إياه في عقلك خير لك من مال أبي الأسود لو وصل إلى بني الديل، قوموا إذا شئتم. فقاموا يبادرون الباب.

ص: 484


1- تتضعضع: تخضع و تذل، و حذفت التاء الأولى.
2- هس: زجر للغنم.
استهزأ به رجل فردّ عليه فأفحمه و قال في ذلك شعرا

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:

كان طريق أبي الأسود الدؤليّ إلى المسجد و السوق في بني تيم اللّه بن ثعلبة و كان فيهم رجل متفحش يكثر الاستهزاء بمن يمرّ به، فمرّ به أبو الأسود الدؤليّ يوما/فقال لقومه: كأنّ وجه أبي الأسود وجه عجوز راحت إلى أهلها بطلاق، فضحك القوم، و أعرض عنهم أبو الأسود. ثم مرّ به مرّة أخرى، فقال لهم: كأنّ غضون قفا أبي الأسود غضون الفقاح(1). فأقبل عليه أبو الأسود فقال له: هل تعرف فقحة أمّك فيهنّ؟ فأفحمه، و ضحك القوم منه، و قاموا إلى أبي الأسود، فاعتذروا إليه مما كان، و لم يعاوده الرجل بعد ذلك، و قال فيه أبو الأسود بعد ذلك حين رجع إلى أهله:

و أهوج ملجاج تصاممت قبله *** أن اسمعه و ما بسمعي من باس

و لو شئت قد أعرضت حتى أصيبه *** على أنفه حدباء تعضل بالاسي(2)

فإن لساني ليس أهون وقعة *** و أصغر آثارا من النحت بالفاس

و ذي إحنة لم يبدها غير أنه *** كذي الخبل تأبى نفسه غير وسواس(3)

صفحت له صفحا جميلا كصفحه *** و عيني - و ما يدري - عليه و أحراسي(4)

/و عندي له إن فار فوّار صدره *** فما جبليّ لا يعاوده الحاسي

و خبّ لحوم الناس أكثر زاده *** كثير الخنا صعب المحالة همّاس(5)

تركت له لحمي و أبقيت لحمه *** لمن نابه من حاضر الجنّ و الناس

فكّر قليلا ثم صدّ كأنما *** يعضّ بصمّ من صفا جبل راسي(6)

خبره مع أعرابي جاء يسأله

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدّثنا المدائنيّ قال:

خرج أبو الأسود الدؤلي و معه جماعة أصحاب له إلى الصيد، فجاءه أعرابيّ فقال له: السلام عليك. فقال له أبو الأسود: كلمة مقولة. قال: أدخل؟ قال: وراؤك أوسع لك. قال: إن الرّمضاء قد أحرقت رجلي، قال: بل عليها أو ائت الجبل يفىء عليك. قال: هل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نأكل و نطعم العيال، فإن فضل شيء فأنت

ص: 485


1- الفقاح: جمع فقحة و هي حلقة الدبر.
2- حدباء: صعبة شديدة، الآسي: المداوي. أعضل به الأمر: ضاقت عليه الحيل فيه.
3- الإحنة: الضغينة و العداوة.
4- الفحا: تواب القدور كالفلفل و الكمون و نحوهما.
5- الخب: الخدّاع.
6- صم: جمع أصم و هو الحجر الصلب المصمت. و في الأصول «من صدى» و هو تحريف.

أحقّ به من الكلب، فقال الأعرابي: ما رأيت قطّ ألأم منك. قال أبو الأسود: بلى قد رأيت؛ و لكنك قد أنسيت.

خبره مع ابن أبي الحمامة

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن المدائنيّ بهذا الخبر فقال فيه:

كان أبو الأسود جالسا في دهليزه و بين يديه رطب، فجاز به رجل من الأعراب يقال له ابن أبي الحمامة، فسلّم ثم ذكر باقي الخبر، مثل الذي تقدّمه، و زاد عليه فقال: أنا ابن أبي الحمامة. قال: كن ابن أبي طاوسة(1)، و انصرف. قال: أسألك باللّه إلا أطعمتني مما تأكل، قال: فألقى إليه أبو الأسود ثلاث رطبات، فوقعت إحداهنّ في التراب، فأخذها يمسحها بثوبه، فقال له أبو الأسود: دعها فإن الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به، فقال: إنما كرهت أن أدعها للشيطان، فقال له: لا و اللّه و لجبريل و ميكائيل تدعها.

خطب امرأة من عبد القيس فمنعها أهلها و زوجوها ابن عمها فقال أبو الأسود شعرا في ذلك

أخبرني محمد بن عمران الضبيّ الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثنا محمد بن معاوية الأسديّ قال ذكر الهيثم بن عديّ عن ابن عياش قال:

/خطب أبو الأسود الدؤلي امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد بن غنيم، فأسرّ أمرها إلى صديق له من الأزد يقال له الهيثم بن زياد، فحدّث به ابن عم لها كان يخطبها - و كان لها مال عند أهلها - فمشى ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها عندهم، فأخبرهم خبر أبي الأسود، و سألهم أن يمنعوها من نكاحه، و من مالها الذي في أيديهم، ففعلوا ذلك، و ضارّوها حتى تزوّجت بابن عمها، فقال أبو الأسود الدؤلي في ذلك:

لعمري لقد أفشيت يوما فخانني *** إلى بعض من لم أخش سرّا ممنّعا

فمزّقه مزق العمى و هو غافل *** و نادى بما أخفيت منه فأسمعا

فقلت و لم أفحش لعّا لك عاثرا *** و قد يعثر الساعي إذا كان مسرعا(2)

و لست بجازيك الملامة إنني *** أرى العفو أدنى للرشاد و أوسعا

و لكن تعلّم أنه عهد بيننا *** فبن غير مذموم و لكن مودّعا(3)

حديثا أضعناه كلانا فلا أرى *** و أنت نجيّا آخر الدهر أجمعا(4)

و كنت إذا ضيعت سرك لم تجد *** سواك له إلا أشتّ و أضيعا

قال: و قال فيه:

ص: 486


1- كذا في أكثر الأصول، و في ف: «كن ابن أي طائر شئت».
2- لعا لك: كلمة يدعى بها للعاثر أن ينتعش.
3- البين: الفراق.
4- النجيّ: المسار.

/

أمنت امرأ في السرّ لم يك حازما *** و لكنه في النصح غير مريب

أذاع به في الناس حتى كأنه *** بعلياء نار أوقدت بثقوب(1)

و كنت متى لم ترع سرّك تلتبس *** قوارعه من مخطئ و مصيب(2)

فما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه *** و ما كل مؤت نصحه بلبيب

و لكن إذا ما استجمعا عند واحد *** فحقّ له من طاعة بنصيب

اشترى جارية حولاء فعابها أهله فمدحها في شعره

أخبرني عمي قال حدّثني الكراني قال حدّثنا العمري عن الهيثم بن عديّ عن ابن عياش قال:

اشترى أبو الأسود جارية، فأعجبته - و كانت حولاء - فعابها أهله عنده بالحول، فقال في ذلك:

يعيبونها عندي و لا عيب عندها *** سوى أن في العينين بعض التأخّر

فإن يك في العينين سوء فإنها *** مهفهفة الأعلى رداح المؤخّر(3)

تحاكم إليه ابنا عم و أحدهما صديق له فحكم على صديقه فقال في ذلك شعرا

أخبرني محمد بن الحسن بن يزيد دريد الأزدي قال حدّثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال:

كان لأبي الأسود الدؤليّ صديق من بني تميم ثم من بني سعد يقال له مالك بن أصرم، و كانت بينه و بين ابن عمّ له خصومة في دار له، و أنهما اجتمعا عند أبي الأسود فحكّماه بينهما، فقال له خصم صديقه: إني بالذي بينك و بينه عارف، فلا يحملنك ها ذاك على أن تحيف عليّ في الحكم - و كان صديق أبي الأسود ظالما - فقضى أبو الأسود على صديقه لخصمه بالحقّ، فقال له صديقه: و اللّه ما بارك اللّه لي في صداقتك، و لا نفعني بعلمك و فقهك، و لقد قضيت عليّ بغير الحقّ، فقال أبو الأسود:

إذ كنت مظلوما فلا تلف راضيا *** عن القوم حتى تأخذ النّصف و اغضب(4)

و إن كنت أنت الظالم القوم فاطّرح *** مقالتهم و اشغب بهم كلّ مشغب

و قارب بذي جهل و باعد بعالم *** جلوب عليك الحقّ من كل مجلب

فإن حدبوا فاقعس و إن هم تقاعسوا(5) *** ليستمكنوا مما وراءك فاحدب

/و لا تدعني للجور و اصبر على التي *** بها كنت أقضي للبعيد على أبي

فإني امرؤ أخشى إلهي و اتّقي *** معادي و قد جرّبت ما لم تجرّب

ص: 487


1- الثقوب: ما أثقبت به النار أي أوقدتها به.
2- القارعة: النازلة الشديدة.
3- مهفهفة: ضامرة البطن: رداح: ضخمة العجيزة ثقيلة الأوراك.
4- النصف: الانتصاف.
5- حدب: خرج ظهره و دخل بطنه. و قعس: نقيضه.
كتب مستجديا إلى نعيم بن مسعود فأجابه، و إلى الحصين بن أبي الحرّ فرمى كتابه فقال في ذلك شعرا

كتب إليّ أبو خليفة يذكر أن محمد بن سلام حدّثه، و أخبرني محمد بن يحيى الصولي عن أبي ذكوان عن محمد بن سلام قال:

وجه أبو الأسود الدؤليّ إلى الحصين بن أبي الحرّ العنبريّ جد عبيد اللّه بن الحسن القاضي، و هو يلي بعض أعمال الخراج لزياد، و إلى نعيم بن مسعود النّهشليّ و كان يلي مثل ذلك برسول، و كتب معه إليهما و أراد أن يبرّاه، ففعل ذلك نعيم بن مسعود، و رمى الحصين بن أبي الحرّ بكتاب أبي الأسود وراء ظهره، فعاد الرجل فأخبره، فقال أبو الأسود للحصين:

حسبت كتابي إذ أتاك تعرّضا *** لسيبك، لم يذهب رجائي هنالكا(1)

و خبّرني من كنت أرسلت أنما *** أخذت كتابي معرضا بشمالكا

/نظرت إلى عنوانه فنبذته *** كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا

نعيم بن مسعود أحقّ بما أتى *** و أنت بما تأتي حقيق بذلكا

يصيب و ما يدري و يخطي و ما درى *** و كيف يكون النّوك إلا بذلكا(2)؟

قال محمد بن سلام: فتقدّم رجل إلى عبيد اللّه بن الحسن بن الحصين بن أبي الحرّ - و هو قاضي البصرة - مع خصم له فخلط في قوله، فتمثل عبيد اللّه بقول أبي الأسود:

يصيب و ما يدري و يخطي و ما درى *** و كيف يكون النّوك إلا كذلكا

فقال الرجل: إن رأى القاضي أن يدنيني منه لأقول شيئا فعل. فقال له: ادن، فقال له: إن أحق الناس بستر هذا الشعر أنت، و قد علمت فيمن قيل، فتبسم/عبيد اللّه و قال له: إني أرى فيك مصطنعا(3) فقم إلى منزلك، و قال لخصمه: رح إليّ، فغرم له ما كان يطالب به.

أراد السفر إلى فارس في الشتاء فأبت عليه ابنته فقال في ذلك شعرا

أخبرني عمي قال حدّثنا الكراني عن ابن عائشة قال:

أراد أبو الأسود الدؤلي الخروج إلى فارس، فقالت له ابنته: يا أبت إنك قد كبرت، و هذا صميم الشتاء، فانتظر حتى ينصرم و تسلك الطريق آمنا، فإني أخشى عليك، فقال أبو الأسود:

إذا كنت معنيا بأمر تريده *** فما للمضاء و التوكل من مثل

توكل و حمل أمرك اللّه إن ما *** تراد به آتيك فاقنع بذي الفضل

و لا تحسبنّ السير أقرب للردى *** من الخفض في دار المقامة و الثّمل(4)

ص: 488


1- السيب: العطاء.
2- النوك: الحمق.
3- أي محلا للصنيعة و الجميل.
4- الثمل: الإقامة و المكث.

و لا تحسبيني يا بنتي عزّ مذهبي *** بظنك، إن الظن يكذب ذا العقل

و إني ملاق ما قضى اللّه فاصبري *** و لا تجعلي العلم المحقّق كالجهل

و إنك لا تدرين: هل ما أخافه *** أبعدي يأتي في رحيلي أو قبلي؟

و كم قد رأيت حاذرا متحفّظا *** أصيب و ألفته المنية في الأهل

خبره مع صديقه نسيب بن حميد و شعره في ذلك

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عيسى بن إبراهيم(1) العتكي قال حدّثنا ابن عائشة عن أبيه قال:

كان لأبي الأسود صديق من بني سليم يقال له نسيب بن حميد، و كان ينشئه في منزله، و يتحدث إليه في المسجد، و كان كثيرا ما يحلف له أنه ليس بالبصرة أحد من قومه و لا من غيرهم آثر عنده منه، فرأى أبو الأسود يوما معه مستقة(2) مخملة أصبهانية/من صوف، فقال له أبو الأسود: ما تصنع بهذه المستقة؟ فقال: أريد بيعها، فقال له أبو الأسود: انظر ما تبلغ فعرّفنيه حتى أبعث به إليك، فإنها من حاجتي، قال: لا بل أكسوكها، فأبى أبو الأسود أن يقبلها إلا بثمنها، فبعث بها إلى السوق فقومت بمائتي درهم، فبعث إليه أبو الأسود بالدراهم، فردّها و قال:

لست أبيعها إلا بمائتين و خمسين درهما، فقال أبو الأسود:

بعني نسيب و لا تثبني إنني *** لا أستثيب و لا أثيب الواهبا

إن العطية خير ما وجّهتها *** و حسبتها حمدا و أجرا واجبا

و من العطية ما يعود غرامة *** و ملامة تبقى و منّا كاذبا

و بلوت أخبار الرجال و فعلهم *** فملئت علما منهم و تجاربا

/فأخذت منهم ما رضيت بأخذه *** و تركت عمدا ما هنالك جانبا

فإذا وعدت الوعد كنت كغارم *** دينا أقرّ به و أحضر كاتبا

حتى أنفّذه على ما قلته *** و كفى عليّ به لنفسي طالبا

و إذا فعلت فعلت غير محاسب *** و كفى بربك جازيا و محاسبا

و إذا منعت منعت منعا بيّنا *** و أرحت من طول العناء الراغبا

لا أشتري الحمد القليل بقاؤه *** يوما بذم الدهر أجمع واصبا(3)

ضرط في مجلس معاوية فطلب منه أن يسترها عليه، فوعده، و لكنه لم يفعل

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن محمد الرازي و محمد بن العباس اليزيدي و عمي قالوا حدّثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال:

زعم أبو بكر الهذلي أن أبا الأسود الدؤلي كان يحدّث معاوية يوما فتحرك فضرط، فقال لمعاوية: استرها

ص: 489


1- في ف «اسماعيل».
2- المستقة: فروة طويلة الكم، معربة و أصلها بالفارسية مشته. و ثوب محمل: له خمل (كشمس)، أي هدب كهدب القطيفة.
3- واصبا: دائما.

عليّ، فقال: نعم، فلما خرج حدّث بها معاوية/عمرو بن العاص و مروان بن الحكم، فلما غدا عليه أبو الأسود قال عمرو: ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود بالأمس؟ قال: ذهبت كما تذهب الريح مقبلة و مدبرة، من شيخ ألان الدهر أعصابه و لحمه عن إمساكها، و كل أجوف ضروط، ثم أقبل على معاوية فقال: إن امرأ ضعفت أمانته و مروءته عن كتمان ضرطة لحقيق بألا يؤمن على أمور المسلمين.

تزوج امرأة برزة فخانته و أفشت سره، فطلقها و قال في ذلك شعرا

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا محمد بن الحكم عن عوانة قال:

كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة فيتحدّث إليها، و كانت برزة(1) جميلة، فقالت له: يا أبا الأسود، هل لك في أن أتزوّجك؟ فإني صناع(2) الكفّ، حسنة التدبير، قانعة بالميسور، قال: نعم، فجمعت أهلها فتزوّجته؛ فوجد عندها خلاف ما قدّره، و أسرعت في ماله، و مدّت يدها إلى خيانته، و أفشت سرّه، فغدا على من كان حضر تزويجه إياها، فسألهم أن يجتمعوا عنده ففعلوا، فقال لهم:

أريت امرا كنت لم أبله *** أتاني فقال اتّخذني خليلا(3)

فخاللته ثم أكرمته *** فلم أستفد من له فتيلا

و ألفيته حين جرّبته *** كذوب الحديث سروقا بخيلا

فذكّرته ثم عاتبته *** عتابا رفيقا و قولا جميلا

فألفيته غير مستعتب *** و لا ذاكر اللّه إلا قليلا(4)

أ لست حقيقا بتوديعه *** و إتباع ذلك صرما طويلا؟

/فقالوا: بلى و اللّه يا أبا الأسود! قال: تلك صاحبتكم، و قد طلقتها لكم، و أنا أحبّ أن أستر ما أنكرته من أمرها، فانصرفت معهم.

أنكر عليه معاوية بخره فرد عليه

حدّثنا اليزيدي قال حدّثنا البغويّ قال حدّثنا العمري قال:

كان أبو الأسود أبخر، فسارّ معاوية يوما بشيء فأصغى إليه ممسكا بكمّه على أنفه، فنحّى أبو الأسود يده عن أنفه، و قال: لا و اللّه لا تسود حتى تصبر على سرار المشايخ البخر.

عابه زياد عند عليّ فقال في ذلك شعرا

أخبرني عبد اللّه بن محمد الرازيّ قال: حدّثنا محمد بن الحارث الخراز قال حدّثنا المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ قال:

ص: 490


1- امرأة برزة: كهلة جليلة تبرز للقوم فيجلسون إليها و يتحدثون.
2- امرأة صناع اليدين: حاذقة ماهرة بعمل اليدين.
3- أريت: أصله أ رأيت، يقولون: أ رأيتك (و التاء مفتوحة) بمعنى أخبرني. بلاه يبلوه: اختبره و امتحنه.
4- استعتبه: استرضاه.

كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام استعمل أبا/الأسود على البصرة، و استكتب زياد بن أبيه على الديوان و الخراج، فجعل زياد يسبع(1) أبا الأسود عند عليّ و يقع فيه و يبغي عليه، فلما بلغ ذلك أبا الأسود عنه قال فيه:

رأيت زيادا ينتحيني بشّره *** و أعرض عنه و هو باد مقاتله

و كل امرئ، و اللّه بالناس عالم *** له عادة قامت عليها شمائله

تعوّدها فيما مضى من شبابه *** كذلك يدعو كلّ أمر أوائله

و يعجبه صفحي له و تجمّلي *** و ذو الجهل يحذو(2) الجهل من لا يعاجله

فقلت له دعني و شأني إننا *** كلانا عليه معمل(3) هو عامله

فلولا الذي قد يرتجى من رجائه *** لجرّبت مني بعض ما أنت جاهله

لجرّبت أنّي أمنح الغنيّ من غوى *** عليّ و أجزي ما جزى و أطاوله

/و قال لزياد أيضا في ذلك:

نبّئت أن زيادا ظلّ يشتمني *** و القول يكتب عند اللّه و العمل

و قد لقيت زيادا ثم قلت له *** و قبل ذلك ما خبّت به الرسل(4)

حتّام تسرقني في كل مجمعة *** عرضي، و أنت إذا ما شئت منتفل

كل امرئ صائر يوما لشيمته *** في كل منزلة يبلى بها الرجل

قال: فلما ادّعى معاوية زيادا و ولاّه العراق كان أبو الأسود يأتيه فيسأله حوائجه، فربما قضاها و ربما منعها لما يعلمه من رأيه و هواه في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و ما كان بينهما في تلك الأيام و هما عاملان، فكان أبو الأسود يترضّاه و يداريه ما استطاع و يقول في ذلك:

رايت زيادا صدّ عنّي وجهه *** و لم يك مردودا عن الخير سائله

ينفّذ حاجات الرجال، و حاجتي *** كداء الجوى في جوفه لا يزايله

فلا أناس ناس ما نسيت فآيس *** و لا أنا راء ما رأيت ففاعله

و في اليأس حزم للّبيب و راحة *** من الأمر لا ينسى و لا المرء نائله

أكرمه عبد الرحمن بن أبي بكرة و أفضل عليه فقال يمدحه

و قال المدائنيّ: نظر عبد الرحمن بن أبي بكرة(5) إلى أبي الأسود في حال رثّة فبعث إليه بدنانير و ثياب، و سأله

ص: 491


1- سبعه: شتمه و وقع فيه.
2- حذاه: أعطاه.
3- معمل: عمل.
4- خبت: سارت.
5- أبو بكرة: هو أخو زياد لأمّه.

أن ينبسط إليه في حوائجه و يستمنحه إذا أضاق(1)، فقال أبو الأسود يمدحه:

أبو بحر أمنّ الناس طرا *** علينا بعد حيّ أبي المغيرة(2)

لقد أبقى لنا الحدثان منه *** أخا ثقة منافعه كثيرة

/قريب الخير سهلا غير وعر *** و بعض الخير تمنعه الوعوره

بصرت بأنّنا أصحاب حقّ *** ندلّ به و إخوان وجيره

و أهل مضيعة فوجدت خيرا *** من الخلاّن فينا و العشيره(3)

و إنك قد علمت و كلّ نفس *** ترى صفحاتها و لها سريره

لذو قلب بذي القربى رحيم *** و ذو عين بما بلغت بصيره

لعمرك ما حباك اللّه نفسا *** بها جشع و لا نفسا شريره(4)

/و لكن أنت لا شرس غليظ *** و لا هشم تنازعه خئورة(5)

كأنا إذا أتيناه نزلنا *** بجانب روضة ريّا مطيره

كان عبيد اللّه بن زياد يماطله في قضاء حاجاته فعاتبه في ذلك

قال المدائنيّ: و كان أبو الأسود يدخل على عبيد اللّه بن زياد، فيشكو إليه أنّ عليه دينا لا يجد إلى قضائه سبيلا، فيقول له: إذا كان غد فارفع إليّ حاجتك فإني أحب قضاءها، فيدخل إليه من غد، فيذكر له أمره و وعده فيتغافل عنه، ثم يعاوده فلا يصنع في أمره شيئا، فقال فيه أبو الأسود:

دعاني أميري كي أفوه بحاجتي *** فقلت فما ردّ الجواب و لا استمع

فقمت و لم أحسس بشيء و لم أصن *** كلامي و خير القول ما صين أو نفع

و أجمعت يأسا لا لبانة بعده *** و لليأس أدنى للعفاف من الطمع

سأله رجل فمنعه فأنكر عليه فاحتج ببيت لحاتم

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدّثني ابن عائشة قال:

/سأل رجل أبا الأسود شيئا فمنعه، فقال له: يا أبا الأسود ما أصبحت حاتميا؟ قال: بلى قد أصبحت حاتميا من حيث لا تدري، أ ليس حاتم الذي يقول:

أ ماويّ إمّا مانع فمبيّن *** و إمّا عطاء لا ينهنهه الزجر(6)

ص: 492


1- أضاق: ذهب ماله.
2- ورد هذا البيت في «اللسان» مادة «حيى»، و أبو المغيرة كنية زياد (انظر «الطبري» 131:6).
3- مضيعة: ضياع و اطراح و هوان.
4- شريرة: ذات شرّ.
5- هشم: هشيم رخو. خئورة: ضعف و فتور.
6- نهنهه: كفه.
شعره في جار له كان يحسده و يذمه

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا ابن عائشة قال:

كان لأبي الأسود جار يحسده و تبلغه عنه قوارص، فلما باع أبو الأسود داره في بني الديل، و انتقل إلى هذيل، قال جار أبي الأسود لبعض جيرانه من هذيل: هل يسقيكم أبو الأسود من ألبان لقاحه؟ و كانت لا تزال عنده لقحه(1)أو لقحتان، و كان جاره هذا يصيب من الشراب، فبلغ أبا الأسود قوله، فقال فيه:

إن امرأ نبّئته من صديقنا *** يسائل هل أسقي من اللبن الجارا؟

و إني لأسقي الجار في قعر بيته *** و أشرب ما لا إثم فيه و لا عارا

شرابا حلالا يترك المرء صاحيا *** و لا يتولّى يقلس الإثم و العارا(2)

قصد صديقه حوثرة بن سليم فأعرض عنه فهجاه

أخبرني عبيد اللّه بن محمد الرازيّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز قال حدّثنا المدائنيّ قال:

كان لأبي الأسود صديق من بني قيس بن ثعلبة يقال له حوثرة بن سليم، فاستعمله عبيد اللّه بن زياد على جيّ(3) و أصبهان، و كان أبو الأسود بفارس، فلما بلغه خبره أتاه فلم يجد عنده ما يقدّره، و جفاه حوثرة؛ فقال فيه أبو الأسود و فارقه:

/

تروّحت من رستاق جيّ عشية *** و خلّفت في رستاق جيّ أخا لكا

أخا لك إن طال التنائي وجدته *** نسيّا و إن طال التعاشر ملّكا

و لو كنت سيفا يعجب الناس حدّه *** و كنت له يوما من الدهر فلّكا(4)

و لو كنت أهدى الناس ثم صحبته *** و طاوعته ضلّ الهوى و أضلّكا

إذا جئته تبغي الهدى خالف الهدى *** و إن جرت عن باب الغواية دلّكا

ساومه جار له في شراء لقحة و عابها فأبى عليه و قال في ذلك شعرا

قال المدائني: و كان لأبي الأسود جار، يقال له وثاق من خزاعة، و كان يحبّ اتّخاذ اللقاح/و يغالي بها و يصفها، فأتى أبا الأسود و عنده لقحة غزيرة يقال لها: الصّفوف(5) فقال له: يا أبا الأسود ما بلقحتك بأس لو لا عيب كذا و كذا، فهل لك في بيعها؟ فقال أبو الأسود: على ما تذكر فيها من العيب؟ فقال: إني أغتفر ذلك لها لما أرجوه من غزارتها، فقال له أبو الأسود: بئست الخلّتان فيك، الحرص، و الخداع، أنا لعيب مالي أشدّ اغتفارا؛ و قال أبو الأسود فيه:

ص: 493


1- اللقحة: الناقة الحلوب الغزيرة اللبن.
2- أصله من قلست الكأس: قذفت بالشراب لشدّة الامتلاء، و قلست النحل العسل: و مجته، و المعنى هنا: يعقب الإثم.
3- جيّ: مدينة ناحية أصبهان.
4- قل السيف: ثلمه.
5- كذا في ج، و في باقي الأصول: «الصعوف»، تصحيف.

يريد وثاق ناقتي و يعيبها *** يخادعني عنها وثاق بن جابر

فقلت تعلّم يا وثاق بأنها *** عليك حمى أخرى الليالي الغوابر

بصرت بها كوماء حوساء جلدة *** من الموليات الهام حدّ الظواهر(1)

فحاولت خدعي و الظنون كواذب *** و كم طامع في خدعتي غير ظافر

ساومه رجل من سدوس في لقحة له و عابها فأبى عليه بيعها و قال في ذلك شعرا

قال: و كانت له لقحة أخرى يقال لها الطّيفاء، و كان يقول: ما ملكت مالا قط أحبّ إليّ منها، فأتاه فيها رجل من بني سدوس يقال له أوس بن عامر، فجعل/يماكر أبا الأسود و يعيبها، فألفاه بها بصيرا و فيها منافسا، فبذل له فيها ثمنا وافيا، فأبى أن يبيعه و قال فيه:

أتاني في الطيفاء أوس بن عامر *** ليخدعني عنها بجنّ ضراسها(2)

فسام قليلا ناسئا غير ناجز *** و أحصر نفسا و انتهى بمكاسها(3)

فأقسم لو أعطيت ما سمت مثله *** و ضعفا له لما غدوت براسها

أغرّك منها أن نحرت حوارها *** لجيران أمّ السّكن يوم نفاسها(4)

فولّى و لم يطمع و في النفس حاجة *** يردّدها مردودة بإياسها

جوابه لسائل ملحف

أخبرنا اليزيديّ قال حدّثنا عيسى عن ابن عائشة و الأصمعيّ:

أنّ رجلا سأل أبا الأسود الدؤليّ فردّه فألحّ عليه، فقال له أبي الأسود: ليس للسائل الملحف مثل الردّ الجامس. قال: يعني بالجامس الجامد.

خطب امرأة من بني حنيفة فعارضه ابن عم لها فقال في ذلك شعرا

و قال المدائني: خطب أبو الأسود امرأة من بني حنيفة - و كان قد رآها فأعجبته - فأجابته إلى ذلك و أذنت له في الدخول إليها، فدخل دارها فخاطبها بما أراد، فلما خرج لقيه ابن عمّ لها قد كان خطبها على أخيه، فقال له: ما تصنع هاهنا؟ فأخبره بخطبته المرأة، فنهاه عن التعرّض لها، و وضع عليها أرصادا، فكان أبو الأسود ربّما مرّ بهم و اجتاز بقبيلتهم، فدسّوا إليه رجلا يوبّخه في كل محفل يراه فيه، ففعل، و أتاه و هو في نادي قومه فقال له: يا أبا الأسود، أنت رجل شريف، و لك سنّ و خطر و عرض، و ما أرضى لك أن تلمّ بفلانة، و ليست لك بزوجة/و لا

ص: 494


1- الكوماء: الناقة العظيمة السنام، الحوساء: الشديدة النفس، و الجلدة: القوية.
2- يقولون في الناقة: «هي بجنّ ضراسها»، أي بحدثان نتاجها، و إذا كانت كذلك حامت عن ولدها، و عضت حالبها. و في «اللسان» (ضرس) «الضبعاء»، و أورد البيت.
3- فى الأصول : «بائسا غير ناجز و أحضر» و هو تصحيف، و نجز الحاجة: قضاها، و أحصره العدوّ: ضيق عليه. و المماكسة و المكاس في البيع: انتقاص الثمن و استحطاطه.
4- الحوار: ولد الناقة إلى أن يفطم. و في ف بعد هذا البيت: «و أم السكن امرأته».

قرابة، فإنّ أهلها قد أنكروا ذلك و تشكّوه، فإمّا أن تتزوّجها أو تضرب عنها، فقال له أبو الأسود:

لقد جدّ في سلمى الشكاة و للّذي *** يقولون - لو يبدو لك الرشد - أرشد

يقولون لا تمذُل بعرضك و اصطنع *** معادك إنّ اليوم يتبعه غد(1)

و إياك و القوم الغضاب فإنهم *** بكل طريق حولهم تترصّد

تلام و تلحى كل يوم و لا ترى *** على اللوم إلا حولها تتردّد!

/أفادتكها العين الصموح و قد ترى *** لك العين ما لا تستطيع لك اليد

و قال أبو الأسود:

دعوا آل سلمى ظنّتي و تعنّتي *** و ما زلّ مني، إنّ ما فات فائت(2)

و لا تهلكوني بالملامة إنما *** نطقت قليلا ثم إني لساكت

سأسكت حتى تحسبوني أنني *** من الجهد في مرضاتكم متماوت

أ لم يكفكم أن قد منعتم بيوتكم *** كما منع الغيل الأسود النواهت(3)

تصيبون عرضي كل يوم كما علا *** نشيط بفأس معدن البرم ناحت(4)

جفاه ابن عامر لهواه في علي بن أبي طالب فقال في ذلك شعرا

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدّثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عديّ عن مجالد بن سعيد عن عبد الملك بن عمير قال:

كان ابن عباس يكرم أبا الأسود الدؤلي لما كان عاملا لعليّ بن أبي طالب عليه السلام على البصرة و يقضي حوائجه، فلما ولي ابن عامر جفاه و أبعده و منعه حوائجه لما كان يعلمه من هواه في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال فيه أبو الأسود:

/

ذكر ابن عباس بباب ابن عامر *** و ما مرّ من عيشي ذكرت و ما فضل

أميرين كان صاحبيّ كلاهما *** فكلّ جزاه اللّه عني بما فعل

فإن كان شرا كان شرا جزاؤه *** و إن كان خيرا كان خيرا إذا عدل

كان لابنه صديق من باهله فكره صداقته له

.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا عبد اللّه بن شبيب قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الخزاميّ قال حدّثنا محمد بن فليح بن سليمان عن موسى بن عقبة قال قال أبو الأسود الدؤلي لابنه أبي حرب - و ما كان له صديق من باهله يكثر زيارته - فكان أبو الأسود يكرهه و يستريب منه:

ص: 495


1- مذلت نفسه بالشيء: سمحت.
2- الظنة: التهمة.
3- النواهت: جمع ناهت؛ يقال: نهت الأسد نهيتا، و هو صوت الأسد دون الزئير. الغيل: الأجمة و موضع الأسد.
4- البرم: جمع برمة، و هي قدر من حجارة.

أحبب إذا أحببت حبا مقاربا *** فإنك لا تدري متى أنت نازع

و أبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا *** فإنك لا تدري متى أنت راجع

و كن معدنا للحلم و اصفح عن الخنا *** فإنك راء ما عملت و سامع

آذاه جار له فباع داره و اشترى دارا في هذيل و قال في ذلك شعرا

و قال المدائني حدّثني أبو بكر الهذليّ قال:

كان لأبي الأسود جار من بني حليس بن يعمر بن نفاثة بن عديّ بن الديل، من رهطه دنية - و منزل أبي الأسود يومئذ في بني الديل - فأولع جاره برميه بالحجارة كلما أمسى، فيؤذيه. فشكا أبو الأسود ذلك إلى قومه و غيرهم، فكلموه و لاموه، فكان ما اعتذر به إليهم أن قال: لست أرميه، و إنما يرميه اللّه لقطعه للرحم و سرعته إلى الظلم في بخله بماله، فقال أبو الأسود: و اللّه ما أجاور رجلا يقطع رحمي و يكذب على ربي. فباع داره و اشترى دارا في هذيل، فقيل له: يا أبا الأسود، أبعت دارك! قال: لم أبع داري، و لكن بعت جاري، فأرسلها مثلا و قال في ذلك:

رماني جاري ظالما برميّة *** فقلت له مهلا فأنكر ما أتى

/و قال الذي يرميك ربّك جازيا *** بذنبك، و الحوبات تعقب ما ترى(1)

/فقلت له لو أن ربي برمية *** رماني لما أخطأ إلهي ما رمى

جزى اللّه شرّا كلّ من نال سوأة *** و ينحل فيها ربّه الشرّ و الأذى(2)

و قال فيه أيضا:

لحى اللّه مولى السّوء لا أنت راغب *** إليه و لا رام به من تحاربه

و ما قرب مولى السوء إلا كبعده *** بل البعد خير من عدوّ تصاقبه(3)

و قال فيه أيضا:

و إني لتثنيني عن الشتم و الخنا *** و عن سبّ ذي القربى خلائق أربع

حياء و إسلام و لطف و أنني *** كريم، و مثلي قد يضرّ و ينفع

فإن أعف يوما عن ذنوب أتيتها *** فإن العصا كانت لمثلي تقرع(4)

و شتان ما بيني و بينك إنني *** على كل حال أستقيم و تظلع(5)

ص: 496


1- الحوبة: الإثم.
2- نحله: نسبه إليه.
3- صاقبه: قاربه.
4- يشير إلى المثل: «إن العصا قرعت لذي الحلم»، و معناه أن الحكيم إذا نبه انتبه، و أوّل من قرعت له العصا عامر بن الظرب لما طعن في السن أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه: إذا رأيتموني خرجت من كلامي و أخذت في غيره فاقرعوا إلى المجن بالعصا.
5- ظلّع: غمز في مشيه.
قصته مع جار له آذاه، و شعره في ذلك
اشارة

أخبرني عمي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا الرياشيّ عن العتبي قال: كان لأبي الأسود جار في ظهر داره له باب إلى قبيلة أخرى، و كان بين دار أبي الأسود و بين داره باب مفتوح يخرج منه كل واحد منهما إلى قبيلة صاحبه إذا أرادها، و كان الرجل ابن عمّ أبي الأسود دنية، و كان شرسا سيّئ الخلق، فأراد سدّ ذلك الباب، فقال له قومه: لا تفعل فتضرّ بأبي الأسود و هو شيخ، و ليس عليك في هذا الباب ضرر و لا مئونة، فأبى إلا سدّه، ثم ندم على ذلك لأنه أضرّ به، فكان إذا أراد سلوك الطريق التي كان يسلكها منه بعد عليه، فعزم على فتحه، و بلغ ذلك أبا الأسود فمنعه منه و قال فيه:

صوت

بليت بصاحب إن أدن شبرا *** يزدني في مباعده ذراعا

و إن أمدد له في الوصل ذرعي *** يزدني فوق قيس الذرع باعا(1)

أبت نفسي له إلا اتّباعا *** و تأبى نفسه إلا امتناعا

كلانا جاهد أدنو و ينأى *** فذلك ما استطعت و ما استطاعا

الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم ثقيل أوّل بالبنصر، و فيه لعريب خفيف رمل. و لعلويه لحن غير منسوب. قال و قال أبو الأسود أيضا في ذلك:

لنا جيرة سدّوا المجازة بيننا *** فإن أذكروك السدّ فالسدّ أكيس

و من خير ما ألصقت بالجار حائط *** تزلّ به سفع الخطاطيف أملس(2)

و قال أيضا في ذلك:

أخطأت حين صرمتني *** و المرء يعجز لا محاله(3)

و العبد يقرع بالعصا *** و الحر تكفيه المقالة

نزل في بني قشير فآذوه فقال فيهم شعرا

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة عن أبيه و أخبرني به محمد بن جعفر النحويّ قال حدّثنا/أحمد بن القاسم البزّي قال حدّثني إسحاق بن محمد النخعيّ عن ابن عائشة و لم يقل عن أبيه له قال:

/كان أبو الأسود الدؤلي نازلا في بني قشير، و كانت بنو قشير عثمانية، و كانت امرأته أمّ عوف منهم، فكانوا

ص: 497


1- قيس: قدر.
2- سفع: سود تضرب إلى الحمرة.
3- لا محالة: لا بدّ، و في «اللسان العرب» مادة (حول): و أنشد ابن بري لأبي دواد يعاتب امرأته في سماحته بماله: حاولت حين صرمتني و المرء يعجز لا المحالة و المحالة: «الحيلة».

يؤذونه و يسبّونه و ينالون من عليّ عليه السلام بحضرته ليغيظوه به، و يرمونه بالليل، فإذا أصبح قال لهم: يا بني قشير، أيّ جوار هذا! فيقولون له: لم نرمك، إنما رماك اللّه لسوء مذهبك و قبح دينك، فقال في ذلك:

يقول الأرذلون بنو قشير *** طوال الدهر لا تنسى عليا!

فقلت لهم: و كيف يكون تركي *** من الأعمال مفروضا عليّا؟

أحب محمدا حبا شديدا *** و عباسا و حمزة و الوصيّا(1)

بني عمّ النبي و أقربيه *** أحبّ الناس كلّهم إليّا

فإن يك حبّهم رشدا أصبه *** و لست بمخطئ إن كان غيّا

هم أهل النصيحة غير شكّ *** و أهل مودّتي ما دمت حيا

هوى أعطيته لما استدارت *** رحى الإسلام لم يعدل سويّا(2)

أحبهم لحبّ اللّه حتّى *** أجيء إذا بعثت على هويّا(3)

رأيت اللّه خالق كلّ شيء *** هداهم و اجتبى منهم نبيّا

و لم يخصص بها أحدا سواهم *** هنيئا ما اصطفاه لهم مريا

قال: فقالت له بنو قشير: شككت يا أبا الأسود في صاحبك حيث تقول:

فإن يك حبهم رشدا أصبه

/فقال: أ ما سمعتم قول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنّٰا أَوْ إِيّٰاكُمْ لَعَلىٰ هُدىً أَوْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ . أ فترى اللّه جلّ و عزّ شكّ في نبيه! و قد روي أنّ معاوية قال هذه المقالة، فأجابه بهذا الجواب.

تهكّم معاوية به فأجابه بشعره

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو عثمان الأشناندانيّ عن الأخفش عن أبي عمر الجرمي قال:

دخل أبو الأسود الدؤليّ على معاوية، فقال له: لقد أصبحت جميلا يا أبا الأسود، فلو علّقت تميمة تنفى عنك العين! فقال أبو الأسود:

أفنى الشباب الذي فارقت جدّته *** كرّ الجديدين من آت و منطلق

لم يتركا لي في طول اختلافهما *** شيئا تخاف عليه لذعة الحدق

خبره مع فتى دعاه أن يأكل معه فأتى على طعامه

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني الحارث بن محمد قال قال حدّثنا المدائنيّ عن عليّ بن سليمان قال:

ص: 498


1- الوصي: علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
2- الطريق السويّ: المستقيم.
3- على هويا: على هواي، جرى فيه على لغة هذيل؛ يقلبون الف المقصورة ياء و يدغمونها في ياء المتكلم، قال: أبو ذؤيب الهذلي يرثي أولاده: سبقوا هوىّ و أعنقوا لهواهم فتخرّموا و لكل جنب مصرع

كان أبو الأسود له على باب داره دكّان يجلس عليه، مرتفع عن الأرض إلى قدر صدر الرجل، فكان يوضع بين يديه خوان على قدر الدكان، فإذا مرّ به مارّ فدعاه إلى الأكل لم يجد موضعا يجلس فيه، فمرّ به ذات يوم فتى فدعاه إلى الغداء، فأقبل فتناول الخوان فوضعه أسفل، ثم قال له: يا أبا الأسود، إن عزمت على الغداء فانزل، و جعل يأكل و أبو الأسود ينظر إليه مغتاظا حتى أتى على الطعام، فقال له أبو الأسود: ما اسمك يا فتى؟ قال: لقمان الحكيم، قال: لقد أصاب أهلك حقيقة اسمك.

قال المدائني: و بلغني أنّ رجلا دعاه أبو الأسود إلى طعامه و هو على هذا الدكان، فمدّ يده ليأكل، فشب به فرسه فسقط عنه/فوقص(1).

كان أبو الجارود صديقا له فلما ولى ولاية جفاه فقال فيه شعرا

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:

كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذليّ صديقا لأبي الأسود، يهاديه الشعر، و يجيب كل واحد منهما صاحبه، و يتعاشران و يتزاوران، فولى أبو الجارود ولاية، فجفا أبا الأسود و قطعه، و لم يبدأه بالمكاتبة و لا أجابه عنها، فقال فيه أبو الأسود:

أبلغ أبا الجارود عني رسالة *** يروح بها الغادي لربعك أو يغدو

فيخبرنا ما بال صرمك بعد ما *** رضيت و ما غيّرت من خلق بعد

أ أن نلت خيرا سرّني أن تناله *** تنكّرت حتى قلت ذو لبدة ورد(2)؟

فعيناك عيناه و صوتك صوته *** تمثّله لي غير أنك لا تعدو

لئن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا *** لقد جعلت أشراط أوّله تبدو(3)

فإني إذا ما صاحب رثّ وصله *** و أعرض عني قلّ مني له الوجد

خبره مع الحارث بن خليد و شعره فيه

قال المدائنيّ: كان لأبي الأسود صديق يقال له الحارث بن خليد، و كان في شرف من العطاء، فقال لأبي الأسود: ما يمنعك من طلب الديوان؟ فإنّ فيه غنى و خيرا، فقال له أبو الأسود: قد أغناني اللّه عنه بالقناعة و التجمل، فقال: كلا، و لكنك تتركه إقامة على محبة ابن أبي طالب و بغض هؤلاء القوم. و زاد الكلام بينهما، حتى أغلظ له الحارث بن خليد، فهجره أبو الأسود، و ندم الحارث على ما فرط منه، فسأل عشيرته أن تصلح بينهما، فأتوا أبا الأسود في ذلك و قالوا له: قد اعتذر إليك الحارث مما فرط منه و هو رجل حديد(4)، فقال أبو الأسود في ذلك:

ص: 499


1- وقص: دقت عنقه و كسرت.
2- اللبدة: الشعر المتراكب بين كتفي الأسد. و الورد: الأسد.
3- أشراط: جمع شرط، كسبب؛ و هو العلامة.
4- حديد: حادّ اللسان.

/

لنا صاحب لا كليل اللسان *** فيصمت عنا و لا صارم

و شرّ الرجال على أهله *** و أصحابه الحمق العارم

و قال فيه:

إذا كان شيء بيننا قيل إنه *** حديد فخالف جهله و ترفّق

شنئت من الأصحاب من لست بارحا *** أدامله دمل السقاء المخرّق(1)

كتب إلى الحصين كتابا فتهاون به فقال فيه شعر

و قال المدائنيّ:

ولّى عبيد اللّه بن زياد الحصين بن أبي الحرّ العنبريّ ميسان، فدامت ولايته إياها خمس سنين، فكتب إليه أبو الأسود كتابا يتصدّى فيه لرفده، فتهاون به و لم ينظر فيه، فرجع إليه رسوله فأخبره بفعله، فقال فيه:

ألا أبلغا عنّي حصينا رسالة *** فإنك قد قطّعت أخرى خلالكا

فلو كنت إذ أصبحت للخرج عاملا *** بميسان تعطي الناس من غير مالكا(2)

سألتك أو عرّضت بالود بيننا *** لقد كان حقّا واجبا بعض ذلكا

و خبّرني من كنت أرسلت أنما *** أخذت كتابي معرضا بشمالكا

نظرت إلى عنوانه و نبذته *** كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا

حسبت كتابي إذ أتاك تعرّضا *** لسيبك، لم يذهب رجائي هنالكا

يصيب و ما يدري و يخطي و ما درى *** و كيف يكون النّوك إلا كذلكا

فبلغت أبيات أبي الأسود حصينا، فغضب و قال: ما ظننت منزلة أبي الأسود بلغت ما يتعاطاه من/مساءتنا و توعّدنا و توبيخنا، فبلغ ذلك أبا الأسود فقال فيه:

/

أبلغ حصينا إذا جئته *** نصيحة ذي الرأي للمجتنيها

فلا تك مثل التي استخرجت *** بأظلافها مدية أو بفيها(3)

فقام إليها بها ذابح *** و من تدع يوما شعوب يجيها(4)

فظلت بأوصالها قدرها *** تحشّ الوليدة أو تشتويها(5)

و إن تأب نصحي و لا تنتهي *** و لم تر قولي بنصح شبيها

ص: 500


1- دامله: داراه ليصلح ما بينه و بينه.
2- الخرج: الخراج.
3- يشير إلى المثل: «كباحثة عن حتفها بظلفها»، و أصله أن رجلا كان جائعا بالفلاة القفر، فوجد شاة و لم يكن معه ما يذبحها به، فبحثت الشاة الأرض بأظلافها فسقطت على شفرة فذبحها بها.
4- شعوب: المنية.
5- حش النار: أوقدها.

أجرّعك صابا و كان المرا *** ر و الصاب قدما شرابا كريها

خبره مع معاوية بن صعصعة و شعره في ذلك

و قال خالد بن كلثوم:

كان معاوية بن صعصعة يلقى أبا الأسود كثيرا فيحادثه و يظهر له المودّة، و كانت تبلغه عنه قوارص فيذكرها له فيجحدها أو يحلف أنه لم يفعل، ثم يعاود ذلك، فقال فيه أبو الأسود:

و لي صاحب قد رابني أو ظلمته *** كذلك ما الخصمان برّ و فاجر

و إني امرؤ عندي و عمدا أقوله *** لآتي ما يأتي امرؤ و هو خابر

لسانان معسول عليه حلاوة *** و آخر مسموم عليه الشّراشر(1)

فقلت و لم أبخل عليه نصيحتي *** و للمرء ناه لا يلام و زاجر

إذا أنت حاولت البراءة فاجتنب *** عواقب قول تعتريه المعاذر

فكم شاعر أرداه أن قال قائل *** له في اعتراض القول إنك شاعر

عطفت عليه عطفة فتركته *** لما كان يرضى قبلها و هو حاقر

/بقافية حذّاء سهل رويّها *** و للقول أبواب ترى و محاضر(2)

تعزّى بها من نومه و هو ناعس *** - إذ انتصف الليل - المكلّ المسافر(3)

إذا ما قضاها عاد فيها كأنه *** للذته سكران أو متساكر

شعره في عبد اللّه بن عامر و كان مكرما له ثم جفاه لتشيعه

أخبرني عمي قال حدّثنا الكراني قال حدّثني العمريّ عن العتبيّ قال:

كان عبد اللّه بن عامر مكرما لأبي الأسود ثم جفاه لما كان عليه من التشيع فقال فيه أبو الأسود:

أ لم تر ما بيني و بين ابن عامر *** من الودّ قد بالت عليه الثعالب

و أصبح باقي الودّ بيني و بينه *** كأن لم يكن، و الدهر فيه عجائب

إذا المرء لم يحببك إلا تكرّها *** بدا لك من أخلاقه ما يغالب

فللنأي خير من مقام على أذى *** و لا خير فيما يستقل المعاتب

قصته مع زوجتيه القشيرية و القيسية و شعره في ذلك

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا عبيد اللّه بن محمد قال حدّثنا ابن النطاح قال ذكر الحرمازيّ عن رجل من بني الديل قال:

ص: 501


1- يريد أنه حاد، و في «اللسان»: شرشر السكين أحدها.
2- حذاء: سيارة أو منقحة لا يتعلق بها عيب.
3- أكله: أتعبه.

كانت لأبي الأسود الدؤلي امرأة من بني قشير و امرأة من عبد القيس، فأسنّ و ضعف عما يطيقه الشباب من أمر النساء، فأما القشيرية فكانت أقدامهما عنده و أسنهما، فكانت موافقة له صابرة عليه، و هي أم عوف القشيرية التي يقول فيها:

/

أبى القلب إلا أم عوف و حبها *** عجوزا و من يحبب عجوزا يفنّد

كسحق يمان قد تقادم عهده *** و رقعته ما شئت في العين و اليد(1)

/و أما الأخرى التي من عبد القيس فهي فاطمة بنت دعميّ - و كانت أشبّهما و أجملهما - فالتوت عليه لما أسنّ، و تنكرت له و ساءت عشرتها، فقال فيها أبو الأسود:

تعاتبني عرسي على أن أطيعها *** قد كذبتها نفسها ما تمنّت

و ظنت بأني كلّ ما رضيت به *** رضيت به، يا جهلها كيف ظنت!

و صاحبتها ما لو صحبت بمثله *** على ذعرها أروية لاطمأنت(2)

و قد غرّها مني على الشيب و البلى *** جنوني بها، جنّت حيالي و حنّت

- يقال: جنّ و حنّ، و هو من الأتباع كما يقال: حسن بسن -

و لا ذنب لي قد قلت في بدء أمرنا *** و لو علمت ما علّمت ما تعنّت(3)

تشكّى إلى جاراتها و بناتها *** إذا لم تجد ذنبا علينا تجنّت

أ لم تعلمي أني إذا خفت جفوة *** بمنزلة أبعدت منها مطيتي

و أني إذا شقّت عليّ حليلتي *** ذهلت و لم أحنن إذا هي حنّت(4)

و فيها يقول:

أ فاطم مهلا بعض هذا التعبس *** و إن كان منك الجدّ فالصّرم مؤنسي

تشتّم لي لما رأتني أحبها *** كذى نعمة لم يبدها غير أبؤس

فإن تنقضي العهد الذي كان بيننا *** و تلوى به في ودّك المتحلّس(5)

فإني - فلا يغررك مني تجملي - *** لأسلى البعاد بالبعاد المكنّس(6)

و أعلم أن الأرض فيها منادح *** لمن كان لم تسدد عليه بمحبس(7)

ص: 502


1- السحق: الثوب البالي.
2- الأروية: الأنثى من الوعول.
3- تعناه: عناه و أوقعه في العناء.
4- شق عليه: أوقعه في المشقة. ذهله و عنه: سلاه و طابت نفسه عن إلفه.
5- تحلس بالمكان: أقام به.
6- يقال: سلاه و سلا عنه، وسيله و سلى عنه.
7- منادح: جمع مندوحة: و هي السعة.

و كنت امرأ لا صحبة السوء أرتجي *** و لا أنا نوّام بغير معرّس(1)

أرسل غلامه يشتري له جارية فأخذها لنفسه فقال شعرا في ذلك

و قال المدائني:

كان لأبي الأسود الدؤلي مولى يقال له نافع و يكنى أبا الصبّاح، فذكرت لأبي الأسود جارية تباع، فركب فنظر إليها فأعجبته، فأرسل نافعا يشتريها له فاشتراها لنفسه و غدر بأبي الأسود، فقال في ذلك:

إذا كنت تبغي للأمانة حاملا *** فدع نافعا و انظر لها من يطيقها

فإن الفتى خبّ كذوب و إنه *** له نفس سوء يحتويها صديقها

متى يخل يوما وحده بأمانة *** تغل جميعا أو يغل فريقها

على أنه أبقى الرجال سمانة *** كما كلّ مسمان الكلاب سروقها

خطبته في موت عليّ بن أبي طالب

أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا علي بن محمد المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ قال:

أتى أبا الأسود الدؤلي نعي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و بيعة الحسن عليه السلام، فقام على المنبر فخطب الناس و نعى لهم عليا عليه السلام فقال في خطبته:

«و إن رجلا من أعداء اللّه المارقة عن دينه، اغتال أمير المؤمنين/عليا كرم اللّه وجهه و مثواه في مسجد و هو خارج لتهجده في ليلة يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله، فيا للّه هو من قتيل! و أكرم به و بمقتله و روحه من روح عرجت إلى اللّه تعالى بالبر و التقى و الإيمان و الإحسان! لقد أطفأ منه نور اللّه في أرضه لا يبين بعده أبدا، و هدم ركنا من أركان اللّه تعالى لا يشاد مثله؛ فإنّا للّه و إنا إليه راجعون، و عند اللّه نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين، و عليه السلام و رحمة اللّه يوم ولد و يوم قتل و يوم يبعث حيا».

/ثم بكى حتى اختلفت أضلاعه، ثم قال:

«و قد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ابنه و سليله و شبيهه في خلقه و هديه، و إني لأرجو أن يجبر اللّه عز و جل به ما و هى، و يسدّ به ما انثلم، و يجمع به الشمل، و يطفئ به نيران الفتنة، فبايعوه ترشدوا».

كتب إليه معاوية يدعوه إلى أخذ البيعة له بالبصرة فقال شعرا يرثي فيه علي بن أبي طالب

فبايعت الشيعة كلها، و توقف ناس ممن كان يرى رأي العثمانية و لم يظهروا أنفسهم بذلك، و هربوا إلى معاوية، فكتب إليه معاوية و دس إليه رسولا يعلمه أن الحسن عليه السلام قد راسله في الصلح، و يدعوه إلى أخذ البيعة له بالبصرة، و يعده و يمنّيه؛ فقال أبو الأسود:

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** فلا قرّت عيون الشامتينا

ص: 503


1- المعرس: موضع التعريس؛ و هو نزول القوم في السفر آخر الليل للاستراحة.

أ في شهر الصيام فجعتمونا *** بخير الناس طرّا أجمعينا

قتلتم خير من ركب المطايا *** و خيّسها و من ركب السفينا(1)

و من لبس النعال و من حذاها *** و من قرأ المثاني و المئينا(2)

إذا استقبلت وجه أبى حسين *** رأيت الدر راق الناظرينا

لقد علمت قريش حيث حلت *** بأنك خيرها حسبا و دينا

لزم ابنه المنزل فحثه على العمل و السعي في طلب الرزق

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدّثنا الرياشيّ عن الهيثم بن عديّ عن أبي عبيدة قال:

كان أبو حرب بن أبي الأسود قد لزم منزل أبيه بالبصرة لا ينتجع أرضا، و لا يطلب الرزق في تجارة و لا غيرها، فعاتبه أبوه على ذلك، فقال أبو حرب: إن كان لي رزق فسيأتيني، فقال له:

/

و ما طلب المعيشة بالتمنيّ *** و لكن ألق دلوك في الدّلاء

تجئك بملئها يوما و يوما *** تجئك بحمأة و قليل ماء(3)

شعره في ابن مولاته لطيفة

قال المدائني:

كانت لأبي الأسود مولاة يقال لها لطيفة، و كان لها عبد تاجر يقال له ملمّ فابتاعت له أمة و أنكحته إياها، فجاءت بغلام فسمته زيدا، فكانت تؤثره على كل أحد، و تجد به وجد الأم بولدها، و جعلته على ضيعتها، فقال فيه أبو الأسود، و قد مرضت لطيفة:

و زيد هالك هلك الحبارى *** إذا هلكت لطيفة أو ملم(4)

تبنته فقال و أنت أمي *** فأنى بعدها لك زيد أمّ!

ترمّ متاعه و تزيد فيه *** و صاحبها لما يحوي مضمّ(5)

ستلقى بعدها شرا و ضرا *** و تقصى إن قربت فلا تضمّ

و تلقاك الملامة كلّ وجه *** سلكت و ينتحي حاليك ذم

/قال فماتت لطيفة من علتها تلك، و ورثها أبو الأسود، فطرد زيدا عما كان يتولاه من ضيعتها، و طالبه بما خانه من مالها فارتجعه، فكان بعد ذلك ضائعا مهانا بالبصرة كما قال فيه و توعده.

ص: 504


1- خيسها: ذللها.
2- حذاه نعلا: أعطاه إياها.
3- الحمأة: الطين الأسود المنتّن.
4- جاء في «لسان العرب»: «الحبارى: طائر، و من أمثالهم فيه: «فلان ميت كمد الحبارى»، و ذلك أنها تحسر مع الطير أيام التحسير فتلقي الريش، ثم يبطئ نبات ريشها، فإذا طار سائر الطير عجزت عن الطيران فتموت كمدا». و في «حياة الحيوان الكبرى» للدميري: «و هي من أكثر الطير حيلة في تحصيل الرزق، و مع ذلك تموت جوعا لهذا السبب».
5- مضم: شديد الضم.
اشترى جارية للخدمة فتعرّضت له فقال في ذلك شعرا

قال المدائني أيضا:

اشترى أبو الأسود أمة للخدمة، فجعلت تتعرض منه للنكاح و تتطيب و تشتمل بثوبها، فدعاها أبو الأسود فقال لها: اشتريتك للعمل و الخدمة، و لم أشترك للنكاح، فأقبلي على خدمتك، و قال فيها:

أ صلاح إني لا أريدك للصّبا *** فدعي التشمل حولنا و تبذّلي(1)

إني أريدك للعجين و للرّحا *** و لحمل قربتنا و غلي المرجل

و إذا تروّح ضيف أهلك أو غدا *** فخذي لآخر أهبة المستقبل

أهدى إليه المنذر بن الجارود ثيابا فقال شعرا يمدحه فيه

أخبرنا الحسن بن الطيب الشجاعي قال حدّثنا أبو عشانة عن ابن عباس قال: كان المنذر بن الجارود العبدي صديقا لأبي الأسود الدؤلي تعجبه مجالسته و حديثه، و كان كل واحد منهما يغشي صاحبه؛ و كانت لأبي الأسود مقطّعة(2) من برود يكثر لبسها، فقال له المنذر: لقد أدمنت لبس هذه المقطعة، فقال له أبو الأسود: رب مملول لا يستطاع فراقه؛ فعلم المنذر أنه قد احتاج إلى كسوة فأهدى له ثيابا، فقال أبو الأسود يمدحه:

كساك و لم تستكسه فحمدته *** أخ لك يعطيك الجزيل و ناصر

و إن أحق الناس إن كنت حامدا *** بحمدك من أعطاك و العرض وافر

أبيات أوصى فيها ابنه
اشارة

أنشدني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد اللّه عن ابن حبيب لأبي الأسود يوصي ابنه، و في هذه الأبيات غناء:

صوت

لا ترسلن رسالة مشهورة *** لا تستطيع - إذا مضت - إدراكها

أكرم صديق أبيك حيث لقيته *** و احب الكرامة من بدا فحباكها

لا تبدينّ نميمة حدّثتها *** و تحفّظنّ من الذي انباكها

اعتذر لزياد في شيء جرى بينهما فلم يقبل عذره فقال في ذلك شعرا

أخبرني محمد بن خلف بن مرزبان قال حدّثنا أبو محمد المروزي عن القحذمي عن بعض الرواة أن أبا الأسود الدؤلي اعتذر إلى زياد في شيء جرى بينهما، فكأنه لم يقبل عذره فأنشأ يقول:

إنني مجرم و أنت أحق الن *** اس أن تقبل الغداة اعتذاري

فاعف عني فقد سفهت و أنت ال *** مرء تعفو عن الهنات الكبار

ص: 505


1- تبذل: لبس البذلة؛ و هي ثوب الخدمة و الأعمال. تشمل بالشملة (بالفتح): تغطي بها، و هي كساء دون القطيفة يلتحف به.
2- المقطعات من الثياب: شبه الجباب من الخز و غيره.

فتبسم زياد و قال: أما إذا كان هذا قولك فقد قبلت عذرك و عفوت عن ذنبك.

استشير في رجل أن يولى ولاية فقال شعرا

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه عن عيسى بن عمر قال:

سئل أبو الأسود عن رجل، و استشير في أن يولّى ولاية، فقال أبو الأسود: هو ما علمته: أهيس أ ليس، ألدّ ملحس(1)، أن أعطى انتهر(2)، و إن سئل أزر(3). قال الأصمعي: الأهيس: الحاد، و يقال في المثل:

إحدى لياليك فهيسي هيسي

/قال: و يقال ناقة ليساء: إذا كانت لا تبرح من المبرك. قال: و هو مما يوصف به الشجاع(4)، و أنشد في صفة ثور.

/أ ليس عن حوبائه(5) سخيّ

ضمن له كاتب بن عامر أن يقضي حاجة ثم نكث فقال شعرا في ذلك

أخبرني أحمد بن محمد بن عمران الصيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني أحمد بن الأسود بن الهيثم الحنفي قال حدّثنا أبو محلّم عن مؤرّج السدوسيّ عن عبد الحميد بن عبد اللّه بن مسلم بن يسار قال - و كان من أفصح أهل زمانه - قال: أوصى أبو الأسود الدؤلي كاتبا لعبد اللّه بن عامر بحاجة له فضمن قضاءها ثم لم يصنع فيها شيئا، فقال أبو الأسود:

لعمري لقد أوصيت أمس بحاجتي *** فتى غير ذي قصد عليّ و لا رؤف(6)

و لا عارف ما كان بيني و بينه *** و من خير ما أدلى به المرء ما عرف

و ما كان ما أمّلت منه ففاتني *** بأول خير من أخي ثقة صرف

جفاه أبو الجارود فقال فيه شعرا

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدّثني محمد بن القاسم مولى بني هاشم قال حدّثني أبو زيد الأنصاري سعيد بن أوس قال حدّثني بكر بن حبيب السهمي عن أبيه، و كان من جلساء أبى الأسود الدؤلي قال:

كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي شاعرا، و كان صديقا لأبي الأسود الدؤلي، فكان يهاديه الشعر، ثم تغير ما بينهما، فقال فيه أبو الأسود:

ص: 506


1- ألدّ: جدل شديد الخصومة. و الملحس: الحريص، و الذي يأخذ كل شيء يقدر عليه، و الشجاع كأنه يأكل كل شيء يرتفع له.
2- انتهره: زجره.
3- أزر، كضرب: تضام و تقبض من بخله.
4- الأليس: الشجاع الذي لا يبالي الحرب.
5- الحوباء: النفس.
6- رؤف: رءوف.

/

أبلغ أبا الجارود عني رسالة *** يروح بها الماشي ليلقاك أو يغدو

فيخبرنا ما بال صرمك بعد ما *** رضيت و ما غيّرت من خلق بعد

أ أن نلت خيرا سرني حين نلته *** تنكرت حتى قلت ذو لبدة ورد؟

فعيناك عيناه و صوتك صوته *** تمثله لي غير أنك لا تعدو

فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا *** و قد جعلت أسباب أوّله تبدو

فإني إذا ما صاحب رثّ وصله *** و أعرض عني قلت بالأبعد الفقد

وفاته
اشارة

و كانت وفاة أبي الأسود فيما ذكره المدائني في «الطاعون الجارف» سنة تسع و ستين و له خمس و ثمانون سنة.

قال المدائنيّ: و قد قيل إنه مات قبل ذلك؛ و هو أشبه القولين بالصواب، لأنا لم نسمع له في فتنة مسعود و أمر المختار(1) بذكر، و ذكر مثل هذا القول بعينه. و الشك فيه هل أدرك «الطاعون الجارف» أولا، عن يحيى بن معين.

أخبرني به الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير عن المدائني و يحيى بن معين:

صوت

لعمرك أيها الرجل *** لأي الشكل تنتقل

أ تهجر آل زينب أم *** تزورهم فتعتدل؟

هم ركب لقوا ركبا *** كما قد تجمع السّبل

فذلك دأبنا و بذا *** ك تجري بيننا الرسل

الشعر لأبي نفيس بن يعلى بن منية، و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى، و فيه لابن سريج رمل بالوسطى، و لجميلة خفيف رمل بالبنصر.

ص: 507


1- هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، كان قد خرج يطلب بدم الحسين رضي اللّه عنه و نشبت بينه و بين مصعب بن الزبير وقائع انتهب بقتله سنة 67.

24 - أخبار أبي نفيس و نسبه

نسبه

/اسمه حييّ بن يحيى بن يعلى بن منية، و قيل بل اسم أبي نفيس يحيى بن ثعلبة بن منية، و منية أمّه، ذكر ذلك الزبير بن بكّار عن عمرو بن يحيى بن عبد الحميد. قال الزبير: و كان عمي يقول: اسمه ميمون بن يعلى؛ و أمّه منية بنت غزوان أخت عتبة بن غزوان، و أبوه أميّة بن عبدة بن همام بن جشم بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وجدت ذلك بخطّ أبي محلّم النسابة. قال: و يقال لبني زيد بن مالك بنو العدويّة؛ و هي فكيهة بنت تميم بن الدئل بن حسل بن عديّ بن عبد مناة بن تميم، ولدت لمالك بن حنظلة زيدا و صديّا و يربوعا، فهل يدعون بني العدوية.

بعض أخبار جدّه يعلى بن منية

و كان يعلى بن منية حليفا لبني أميّة و عديدا(1) لهم، و بينه و بينهم صهر و مناسبة، و قد أدرك النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم و سمع منه حديثا كثيرا و روى عنه حديثا كثير، و عمّر بعده؛ و كان مع عائشة يوم الجمل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

أخبرني عمّي قال حدّثنا أحمد بن الحارث قال حدّثنا المدائنيّ عن أبي مخنف عن عبد الرحمن بن عبيد عن أبي الكنود قال: قال عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: منيت - أو بليت - بأطوع الناس في الناس عائشة، و بأدهى الناس طلحة، و بأشجع الناس الزبير، و بأكثر الناس ما لا يعلى بن منية، و بأجود قريش عبد اللّه بن عامر؛ فقام إليه رجل من الأنصار فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين لأنت أشجع من الزبير، و أدهى من طلحة، و أطوع فينا من عائشة، و أجود من ابن عامر، و لمال اللّه أكثر من مال يعلى بن منية، و ليكونن كما قال اللّه عز و جل: فَسَيُنْفِقُونَهٰا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ . فسر عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه بقوله: ثم قام إليه رجل آخر منهم فقال:

أما الزّبير فأكفيكه *** و طلحة يكفيكه وحوحه

و يعلى بن منية عند القتال *** شديد التثاؤب و النحنحة

و عايش يكفيكها واعظ *** و عائش في الناس مستنصحه

فلا تجزعنّ فإن الأمور *** إذا ما أتيناك مستنجحة

و ما يصلح الأمر إلا بنا *** كما يصلح الجبن بالإنفحه(2)

ص: 508


1- العديد: الذي يعد من أهلك و ليس منهم.
2- الإنفحة: شيء يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر فيعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن.

قال: فسرّ علي عليه السلام بقوله، و دعا له و قال: بارك اللّه فيك. قال: فأما الزبير فناشده عليّ عليه السلام فرجع فقتله بنو تميم، و أما طلحة فناشده وحوحة، و كان صديقه و كان من القرّاء، فذهب لينصرف، فرماه رجل من عسكرهم فقتله.

فأما ما رواه عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم فكثير، و لكني أذكر منه طرفا كما ذكرت لغيره.

روى يعلى الحديث عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم

أخبرني أحمد بن الجعد قال حدّثني محمد بن عباد المكيّ قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه أنه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ على المنبر: وَ نٰادَوْا يٰا مٰالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنٰا رَبُّكَ . و قد روى يعلى عنه صلّى اللّه عليه و سلّم حديثا كثيرا اقتصرت منه على هذا لتعرف روايته عنه.

أقرض يعلى الزبير بن العوام يوم الجمل مالا، فقضاه عنه ابنه عبد اللّه بعد مقتله

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا محمد بن الحكم عن أبي مخنف قال/: أقرض يعلى بن منية الزبير بن العوّام حين خرج/إلى البصرة في وقعة الجمل أربعين ألف دينار، فقضاها ابن الزبير بعد ذلك لأن أباه قتل يومئذ و لم يقضه إياها.

قال: و لما صاروا إلى البصرة تنازع طلحة و الزبير في الصلاة، فاتفقا على أن يصلي ابن هذا يوما و ابن هذا يوما، و قال شاعرهم في ذلك:

تبارى الغلامان إذ صلّيا *** و شحّ على الملك شيخاهما

و ما لي و طلحة و ابن الزبير *** و هذا بذي الجزع مولاهما(1)

فأمّهما اليوم غرّتهما *** و يعلى بن منية دلاّهما(2)

رثى يعلى زوجه حين توفيت بتهامة
اشارة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني محمد بن يحيى عن جدّه عبد الحميد قال:

كان يعلى بن منية - و يكنى أبا نفيس، و سمعت غير جدّي يقول اسمه يحيى و هو من بني العدوية من بني تميم من بني حنظلة - تزوج امرأة من بني مالك بن كنانة يقال لها زينب، و لهم حلف في بني غفار، و هي من بنات طارق اللاتي يقلن:

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق(3)

فتوفيت بتهامة فقال يرثيها:

يا ربّ ربّ الناس لما نحّبوا *** و حين أفضوا من منى و حصبوا(4)

ص: 509


1- جزع الوادي: منعطفه.
2- أمهما: يعني عائشة أم المؤمنين.
3- النمارق: جمع نمرقة و هي البساط.
4- نحبوا: ساروا سيرا سريعا دائبا (يعني الحجيج). حصبوا: رموا بالحصباء؛ و هي الجمار.

لا يسقينّ ملح و عليب *** و المستراد لا سقاة الكوكب(1)

من أجل حمّاهن ماتت زينب

/قال الزبير: و أنشدنيها عمي مصعب لأبي نفيس بن يعلى بن منية، قال: و اسمه ميمون، و كان عمي يقول:

اسم أبي نفيس ميمون بن يعلى، و قال في الأبيات:

لا يسقين عنبب و عليب(2)

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن يحيى عن جدّه غسّان بن عبد الحميد قال:

رأت عائشة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بنات طارق اللواتي يقلن:

نحن بنات طارق *** نمشي على النّمارق

فقالت: أخطأ من يقول: الخيل أحسن من النساء.

قال: و قالت هند بنت عتبة لمشركي قريش يوم أحد:

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

الدّرّ في المخانق(3) *** و المسك في المفارق

إن تقبلوا نعانق *** أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

أخبرني الحرميّ قال: حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن يحيى بن عبد الملك الهديريّ قال:

جلست ليلة وراء الضحّاك بن عثمان الحزاميّ في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا متقنع، فذكر الضحّاك و أصحابه قول هند يوم أحد:

نحن بنات طارق

/فقال: و ما طارق؟ فقلت: النجم، فالتفت الضحاك فقال: أبا زكريا، و كيف بذاك؟ فقلت: قال اللّه عز و جل: وَ السَّمٰاءِ وَ الطّٰارِقِ وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا الطّٰارِقُ اَلنَّجْمُ الثّٰاقِبُ . فقالت: إنما نحن بنات النجم، فقال: أحسنت.

صوت

/

خليليّ قوما في عطالة فانظرا *** أنارا أرى من نحو يبرين أم برقا(4)

فإن يك برقا فهو في مشمخرّة *** تغادر ماء لا قليلا و لا طرقا(5)

ص: 510


1- ملح: موضع من ديار بني جعدة باليمامة. و عليب: موضع بين الكوفة و البصرة. و المستراد: موضع في سواد العراق من منازل إياد. و الكوكب: الماء.
2- عنبب: اسم موضع.
3- المخنقة موضع: القلادة.
4- عطالة: جبل منيف بديار بني سعد.
5- المشمخر: الجبل العالي. الطرق: الماء المجتمع الذي خيض فيه فكدر فهو مطروق و طرق.

و إن تك نارا فهي نار بملتقى *** من الريح تسفيها و تصفقها صفقا(1)

- و يروى: «تزهاها و تعفقها(2) عفقا» -

لأمّ عليّ أوقدتها طماعة *** لأوبة سفر أن تكون لهم وفقا

العشر لسويد بن كراع، و الغناء لابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن يحيى المكي، و ذكر غيره أنه لابن مسحج.

ص: 511


1- صفقته الريح: ضربته و حركته.
2- زهت الريح النبات: هزته غب الندى. و عفقها: جمعها و ضمها.

25 - أخبار سويد بن كراع و نسبه

اشارة

سويد بن كراع(1) العكليّ، أحد بني الحارث بن عوف بن وائل بن قيس بن عكل. شاعر فارس مقدم من شعراء الدولة الأموية. و كان في آخر أيام جرير و الفرزدق.

كان شاعرا محكما، و كان رجل بني عكل و ذا الرأي و التقدّم فيهم

و ذكر محمد بن سلام في كتاب الطبقات فيما أخبرنا عنه أبو خليفة قال:

كان سويد بن كراع شاعرا محكما، و كان رجل بني عكل و ذا الرأي و التقدّم فيهم، و عكل و ضبّة و عديّ و تيم هم الرّباب.

قال: و كان بعض بني عديّ ضرب رجلا من بني ضبّة، ثم من بني السيّد، و هم قوم نكد شرس(2)، و هم أخوال الفرزدق، فاجتمعوا حتى ألّم أن يكون بينهم شرّ، فجاء رجل من بني عديّ فأعطى يده رهينة(3) لينظروا ما يصنع المضروب، فقال خالد بن علقمة (ابن الطّيفان)(4) حليف بني عبد اللّه بن دارم:

أ سالم إني لا إخالك سالما *** أتيت بني السيّد الغواة الأشائما

أ سالم إن أفلتّ من شرّ هذه *** فوائل فرارا إنما كنت حالما(5)

أ سالم ما أعطى ابن مامة مثلها *** و لا حاتم فيما بلا الناس حاتما

قال شعرا يردّ به على خالد بن علقمة

فقال سويد بن كراع يجيبه عن ذلك:

أ شاعر عبد اللّه إن كنت لائما *** فإني لما تأتي من الأمر لائم

تحضّض أفناء الرباب سفاهة *** و عرضك موفور و ليلك نائم(6)

/و هل عجب أن تدرك السّيد وترها *** و تصبر للحق السّراة الأكارم(7)

ص: 512


1- كراع: اسم أمه لا ينصرف، و اسم أبيه عمرو، و قيل: سلمة العكلي (تاج العروس).
2- نكد: جمع أنكد، و هو الرجل العسر الشديد الشرّ.
3- أعطى يده رهينة: أسلم نفسه للاسر.
4- الطيفان: أم خالد بن علقمة.
5- واءل: طلب النجاة.
6- أفناء: أخلاط.
7- يريد بالحق هنا القصاص.

رأيتك لم تمنع طهيّة حكمها *** و أعطيت يربوعا و أنفك راغم(1)

و أنت امرؤ لا تقبل النصح طائعا *** و لكن متى تقهر فإنك رائم(2)

و وجدت هذا الخبر في رواية أبي عمرو الشيباني أتمّ منه هاهنا و اوضح فذكرته؛ قال:

كان بين بني السيّد بن مالك، من ضبة، و بين بني عديّ بن عبد مناة ترام على خبراء بالصّمّان(3) يقال لها ذات الزّجاج، فرمي عمرو بن حشفة أخو بني شييم فمات، و رمت بنو السّيد رجلا منهم يقال له مدلج بن صخر العدويّ فمكث أياما لم يمت، فمرّ رجل من بني عديّ يقال له معلّل على بني السيد و هو لا يعلم الخبر، فأخذوه فشدّوه وثاقا فأفلت منهم، و مشى بينهم عصمة بن أبير(4) التيميّ سفيرا، فقال لسالم بن فلان العدويّ: لو رهنتهم نسفك فإن مات مدلج كان رجل برجل، و إن لم يمت حملت دية صاحبهم، ففعل ذلك سالم على أن يكون عند أخثم بن حميريّ أخي بني/شييم من بني السيد، فكان عنده. ثم إن بني السيد لما أبطأ عليهم موت مدلج أتوا أخثم لينتزعوا منه سالما و يقتلوه، فقوّض عليه أخثم بيته ثم قال: يا آل أميّ - و كانت أمّه من بني عبد مناة بن بكر - فمنعه عبد مناة. ثم إن بني السيد قالوا لأخثم: إلى كم تمنع هذا الرجل؛ أما الدية فو اللّه لا نقبلها أبدا. فجعل لهم أجلا إن لم يمت مدلج فيه دفع إليهم سالما فقتلوه به. فلما كان قبل ذلك الأجل بيوم مات مدلج، فقتلوا(5) سالما، فقال في ذلك خالد بن علقمة أخو بني عبد اللّه بن دارم، و هو ابن الطّيفان:

أ سالم ما منّتك نفسك بعد ما *** أتيت بني السّيد الغواة الأشائما؟

/أ سالم قد منتك نفسك أنما *** تكون ديات ثم ترجع سالما

كذبت و لكن ثائر متبسّل *** يلقّيك مصقول الحديدة صارما(6)

أ سالم ما أعطى ابن مامة مثلها *** و لا حاتم فيما بلا الناس حاتما

أسالم إن أفلت من شرّ هذه *** فوائل فرارا إنما كنت حالما

و قد أسلمت تيم عديّا فأربعت *** و دلّت لأسباب المنيّة سالما(7)

فأجابه سويد بن كراع بالأبيات التي ذكرها ابن سلام، و زاد فيها أبو عمرو:

دعوتم إلى أمر النّواكة دار ما *** فقد تركتكم و النواكة دارم

ص: 513


1- طهية، من بني حنظلة، و بنو يربوع بن حنظلة أبناء عمومتهم.
2- رائم: محب ألف.
3- الخبراء: منبت الخبر، و هو شجر السدر، و الصمان: جبل في أرض تميم.
4- كذا في ج، و في باقي الأصول: «وثير»، تصحيف.
5- في الأصول: «فقتلوا به».
6- تبسل: عبس غضبا أو شجاعة.
7- أسلمت: خذلت. أربعت: اطمأنت، من قولهم: أربع القوم إذا أقاموا في المربع. دلت من التدلية، يقال: دلاه في حفرة القبر أي أرسله فيه، و الأسباب: الحبال.

و كنت كذات البوّ شرّمت استها *** فطابقت لما خرّمتك الغمائم(1)

فلو كنت مولى مسلت ما تجللت *** به ضبع في ملتقى القوم واحم(2)

و لم يدرك المقتول إلا مجرّه *** و ما أسأرت منه النسور القشاعم(3)

عليك ابن عوف لا تدعه فإنما *** كفاك موالينا الذي جرّ سالم

أتذكر أقواما كفوك شئونهم *** و شأنك إلا تركه متفاقم

/قال: و قال سويد بن كراع في ذلك:

أرى آل يربوع و أفناء مالك *** أعضّوك في الحرب الحديد المنقّبا(4)

هم رفعوا فأس اللجام فأدركت *** لهاتك حتى لم تدع لك مشربا(5)

فإن عدت عادوا بالتي ليس فوقها *** من الشرّ إلا أن تبيت محجّبا

و تصبح تدرى الكعكبيّة قاعدا *** و ينتف من ليتيك ما كان أزغبا(6)

- تدرى: تمشط بالمدرى(7) كما يفعل بالنساء و الكعكبية: مشطة معروفة -

فهل سألوا فينا سواء الذي لهم *** و هل نحن أعطينا سواه فتعجبا(8)

و يروى:

فهل سألونا خصلة غير حقهم

و هو أجود.

استعدت بنو عبد اللّه سعيد بن عثمان عليه:

قال: فاستعدت بنو عبد اللّه سعيد بن عثمان بن عفّان على سويد بن كراع في هجائه إياهم، فطلبه ليضربه و يحسبه، فهرب منه، و لم يزل متواريا حتى كلّم فيه، فأمّنه على ألاّ يعاود، فقال سويد بن كراع:

تقول ابنة العوفيّ ليلى أ لا ترى *** إلى ابن كراع لا يزال مفزّعا

ص: 514


1- البوّ: جلد الحوار يحشى تبنا فيقرب من الناقة فتعطف عليه فتدر. و شرمت استها: شققت. و انظر (اللسان) (شرم) و في الأصول «سرمت». و طابقت: أذعنت و بخعت. الغمامة: خرقة كالكرة تدخل في أنف الناقة لئلا تشمّ.
2- زعموا أن الرجل إذا ضربت عنقه سقط على وجهه فإذا انتفخ انتفخ غرموله و عظم، فقلبه عند ذلك على القفا، فإذا جاءت الضبع لتأكله، فرأته على تلك الحال استدخلت غرموله و قضت و طرها منه ثم أكلته. (الحيوان) 117:5 (طبعة الحلبي) و تجلل الفحل الناقة: علاها، و في الأصول: «تحللت» تصحيف، و الواحم: المشتهية للضراب.
3- أسأرت: أبقت. نسر قشعم: مسنّ.
4- المنقب: المثقب. أعضوك الحديد: جعلوك تعضه.
5- اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق. فأس اللجام: الحديدة القائمة في الحنك.
6- الليت: صفحة العنق. الزغب: صغار الشعر.
7- المدري: المشط.
8- سواه و سوى واحد.

مخافة هذين الأميرين سهّدت *** رقادي و غشّتني بياضا تفرّعا(1)

/على غير جرم غير أن جار ظالم *** عليّ فجهزت القصيد المفرّعا

/وقدها بني الأقوام لمّا رميتهم *** بفاقرة إن همّ أن يتشجعا(2)

أبيت بأبواب القوافي كأنما *** أصادي بها سربا من الوحش نزّعا(3)

أكالئها حتى أعرّس بعد ما *** يكون سحير أو بعيد فأهجعا(4)

فجشّمني خوف ابن عثمان ردّها *** و رعيتها صيفا جديدا و مربعا

نهاني ابن عثمان الإمام و قد مضت *** نوافذ لو تردي الصفا لتصدعا(5)

عوارق ما يتركن لحما بعظمه *** و لا عظم لحم دون أن يتمزّعا(6)

أ حقّا هداك اللّه أن جار ظالم *** فأنكر مظلوم بأن يؤخذا معا

و أنت ابن حكّام أقاموا و قوّموا *** قرونا و أعطوا نائلا غير أقطعا(7)

انتجع بقومه أرض بني تميم:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية قال:

انتجع سويد بن كراع بقومه أرض بني تميم، فجاور بني قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فأنزله بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن أنف الناقة بن قريع و أرعاه، و وصله و كساه. فلم يزل مقيما فيهم حتى أحيا(8)، ثم ودّعهم و أتى بغيضا و هو في نادي قومه و قد مدحه فأنشده قوله.

قال حماد: و من لا يعلم يروي هذه القصيدة للحطيئة لكثرة مدحه بغيضا، و هي لسويد بن كراع:

/

ارتعت للزّور إذ حيّا و أرّقني *** و لم يكن دانيا منّا و لا صددا(9)

و دونه سبسب تنضى المطيّ به *** حتى ترى العنس تلقي رحلها الأجدا(10)

ص: 515


1- يريد سعيد بن عثمان و من ينوب عنه أو يحضر معه، كما جاء في (لسان العرب) (جزز). و فيه أن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين. و روايته: «بياضا مقزعا» و رجل مقزع: دقيق شعر الرأس متفرقه لا يرى على رأسه إلا شعرات متفرقة تتطاير مع الريح.
2- فاقرة: داهية تكسر الفقار.
3- صاداه: داراه و ساتره.
4- أكالئها: أراقبها و أراعيها.
5- رداه: رماه. الصفا: الحجارة الصلدة الضخمة واحدتها صفاة.
6- عوارق: جمع عارقة، من عرق العظم: أكل ما عليه من اللحم. و في ط: «يتجزعا».
7- الأقطع في الأصل: المقطوع اليد.
8- أحيا: حسنت حال مواشيه.
9- الزور: الطيف. الصدد: القصد و القرب.
10- سبسب: مفازة. أنضاه السفر: أهزله. العنس: الناقة الصلبة. ناقة أجد: قوية موثقة الخلق متصلة فقار الظهر.

إذا ذكرتك فاضت عبرتي دررا *** و كاد مكتوم قلبي يصدع الكبدا

و ذاك منّي هوى قد كان أضمره *** قلبي فما ازداد من نقص و لا نفدا

و قد أرانا و حال الناس صالحة *** نحتلّ مربوعة أدمان أبو بردى(1)

ليت الشباب و ذاك العصر راجعنا *** فلم نزل كالذي كنا به أبدا

أيام أعلم كم أعملت نحوكم *** من عرمس عاقد لم ترأم الولدا(2)

تصيخ عند السّرى في البيد سامية *** سطعاء تنهض في ميتائها صعدا(3)

كأن رحلي على حمش قوائمه *** برمل عرنان أمسى طاويا وحدا(4)

هاجت عليه من الجوزاء سارية *** و طفاء تحمل جونا مردفا نضدا(5)

/فألجأته إلى أرطاة عانكة *** فيحاء ينهال منها ترب ما التبدا(6)

تخال عطفيه من جول الرّذاذ به *** منظّما بيدي داريّة فردا(7)

حتى إذا ما انجلت عنه دجنّته *** و كشّف الصبح عنه الليل فاطّردا(8)

غدا كذي التاج حلّته أساورة *** كأنما اجتاب في حرّ الضحى سندا(9)

و هي طويلة اختصرتها، يقول فيها:

لا يبعد اللّه إذ ودّعت أرضهم *** أخي بغيضا و لكن غيره بعدا(10)

/لا يبعد اللّه من يعطي الجزيل و من *** يحبو الخليل و ما أكدى و ما صلدا(11)

ص: 516


1- أدمان: شعبة بينها و بين بدر ثلاثة أيام. بردى: جبل بالحجاز. ربعت الأرض فهي مربوعة: أصابها مطر الربيع.
2- العرمس: الناقة الصلبة. ناقة عاقد: تعقد بذنبها عند اللقاح. رئمت الناقة ولدها: عطفت عليه و لزمته.
3- أصاخ له: استمع. سطعاء: طويلة العنق. الميتاء: الطريق المسلوك.
4- على حمش قوائمه، أي على ثور وحشي قوائمه حمش أي دقاق، و هو في ذلك يتأثر قول النابغة الذبياني: كأن رحلي و قد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش و جرة موشيّ أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد سرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليها جامد البرد. و عرنان: اسم واد دون وادي القرى إلى فيد، كثير الوحش، و في الأصول: «يزيل غرثان» تصحيف. طاويا: ضامرا. وحدا: وحيدا منفردا.
5- الجوزاء: من بروج السماء السارية: السحابة تسري ليلا. سحابة و طفاء: مسترخية لكثرة مائها، أو هي الدائمة السح الحثيثة. و الجون يطلق على الأسود و الأبيض. مردفا: متتابعا متواليا. النضد: السحاب المتراكم.
6- الأرطاة: واحدة الأرطي و هو شجر ينبت بالرمل، و عنك الرمل: تعقد و ارتفع فلم يكن فيه طريق، و رملة عانك: فيها تعقد لا يقدر البعير على المشي فيها إلا أن يحبو، و في الأصول «عاتكة» تصحيف. فيحاء: واسعة. التبد: تلبد بعضه على بعض.
7- العطف: الجانب. جول: جولان. الداريّة: المنسوبة إلى دارين. فرد: (كسبب و عنق): منقطع القرين لا مثل له في جودته.
8- الدجنة: الظلمة.
9- اجتاب القميص: لبسه. السند: ضرب من البرود.
10- بعد: هلك.
11- أكدى: بخل و قل خيره. صلد: بخل.

و من تلاقيه بالمعروف معترفا *** إذا اجرهدّ صفا المذموم أو صلدا(1)

لاقيته مفضلا تندى أنامله *** إن يعطك اليوم لا يمنعك ذاك غدا

تجيء عفوا إذا جاءت عطيّته *** و لا تخالط ترنيقا و لا زهدا(2)

أولاه بالمفخر الأعلى و أعظمه *** خلقا و أوسعه خيرا و منتفدا(3)

إذا تكلّف أقوام صنائعه *** لاقوا - و لم يظلموا - من دونها صعدا(4)

/بحر إذا نكس الأقوام أو ضجروا *** لاقيت خير يديه دائما رغدا(5)

لا يحسب المدح خدعا حين تمدحه *** و لا يرى البخل منهاة له أبدا

إنّي لرافده ودّي و منصرتي *** و حافظ غيبه إن غاب أو شهدا

صوت

حنتني حانيات الدهر حتّى *** كأنّي خاتل يدنو لصيد

قريب الخطو يحسب من رآني *** - و لست مقيّدا - أنّي بقيد

عروضه من الوافر. الخاتل: الذي يتقتّر(6) للصيد و ينحني حتى لا يرى. و يقال لكل من أراد خداع صيد أو إنسان: خلته، ورّى أمره فلم يظهره. و من رواه: «كأني حابل» فإنه يعني الذي ينصب حبالة للصيد. الشعر لأبي الطّمحان القيني. و الغناء لإبراهيم ما خوريّ و هو خفيف الثقيل الثاني بالوسطى. و ذكر ابن حبيب أن هذا الشعر للمسجاح بن سباع الضبيّ، فإن كان ذلك على ما قال فلأبي الطمحان ممّا يغنّي فيه من شعره و لا يشكّ فيه أنّه له قوله:

صوت

أضاءت لهم أحسابهم و وجوههم *** دجى اللّيل حتى نظّم الجزع ثاقبه

الغناء لعريب ثاني ثقيل و خفيف رمل، و ذكر ابن المعتزّ أن خفيف الرمل لها، و أن الثقيل الثاني لغيرها.

* تم الجزء الثاني عشر و يليه الجزء الثالث عشر و أوّله أخبار أبي الطمحان القينيّ

ص: 517


1- اجرهدت الأرض: لم يوجد فيها نبت و لا مرعى. صلد الزند: صوّت و لم يور، و يقال للبخيل: صلدت زناده.
2- الترنيق: التكدير، و الزهد: القلة.
3- يقال في ماله منتقد، أي سعة.
4- الصعد: المشقة.
5- نكس رأسه: طأطأه.
6- يتقتر: يتهيأ.

بيان

روجع هذا الجزء على النّسخ الّتي رمز إليها في الأجزاء السابقة بالحروف: أ، ج، م، ب، س، ط؛ و قد وصفت جميع هذه النسخ في مقدّمة الجزءين: الأول و الثاني من هذه الطبعة. و روجع أيضا على نسخة مصوّرة بدار الكتب المصرية برقم 19018 ز، مأخوذة من معهد إحياء المخطوطات بجامعة الدول العربية عن النسخة الخطّيّة المحفوظة بمكتبة «فيض اللّه» بالآستانة تحت الأرقام: 1561، 1562، 1563، 1564. و قد رمز إليها بالحرف «ف».

و أصل هذه النّسخة نسخة تقع في أربعة و عشرين مجلدا، كتبت سنة 526، و جاء في آخرها ما نصه: «كتب هذا الجزء و الأجزاء التي قبله، التي تشتمل على جملة الكتاب، و هي أربعة و عشرون جزءا هبة اللّه بن علي بن مسعود بن إبراهيم بن عبد الحميد الطبيب، حامدا اللّه تعالى، مصلّيا على نبيّه محمد المصطفى، و على آله الأخيار، و سلّم تسليما. و فرغ منها في جمادى الأولى من سنة ست و عشرين و خمسمائة، و حسبنا اللّه و نعم الوكيل. ربّ أنعمت فزد. و اختم بخير في طاعتك».

و الموجود من أجزائها: الثامن، و التاسع، و الثاني عشر، و الخامس عشر، السادس عشر، و التاسع عشر، و الحادي و العشرون، و الثالث و العشرون، و الرابع و العشرون.

و في أوّل كل جزء نصّ وقفيّة للكتاب كلّه، وقفها عبد الباسط بن خليل الشافعيّ على خزانته بالخانقاه الّتي أنشأها، بخطّ الكافوري، مؤرّخة في 14 شعبان سنة 826، /و بالصفحة الأولى من كلّ جزء حلية منقوشة بنقوش عربية، بداخلها بيان الجزء و اسم مؤلّف الكتاب، و بكلّ جزء فهرس بمحتوياته.

و هذه النسخة مكتوبة بالخطّ النّسخ، و مسطرتها 15 سطرا.

و ورد في آخر الجزء الثاني عشر هذه العبارة: «طالع الفقير في هذا المجلّد. و انتقى منه ما احتاجه لشرح شواهد مغنى اللبيب، و شرح شواهد الرضيّ على الكافية الحاجبيّة، كتبه عبد القادر البغدادي سنة 1073».

و في آخر الجزء السادس عشر، و الثالث و العشرين أيضا ما يثبت مطالعة عبد القادر البغدادي لهما.

و يبدأ الجزء الثامن ببقية أخبار «جميل»، و ينتهي بآخر أخبار «سلاّمة القسّ» و قد ذكرت في هذا الجزء أخبار حارثة بن بدر، و هي مما لم تذكر في طبعة بولاق، و قد أورد «برونو» هذه الأخبار فيما أسماه الجزء الحادي و العشرين. و في هذا الجزء سقط يقع بعد النصف الأوّل من لوحة 88، يحتوي على آخر أخبار حارثة بن بدر و أخبار أبي دلف.

و الجزء التاسع يبدأ بأخبار العباس بن الأحنف، و ينتهي بأخبار الأشهب؛ و في أخبار الأشهب سقط يقع بعد نهاية لوحة 165، و هو يوافق ص 168 سطر 17 إلى ص 169 سطر 16 من الجزء الثامن من طبعة بولاق.

و الجزء الثاني عشر يبدأ بأخبار «علوية» و ينتهي بأخبار «أبي الأسود الدؤلي». و في أخبار «أبي وجزة» بعد نهاية.

ص: 518

لوحة 151 سقط يوافق ص 85 س 7 إلى ص 86 س 5 من الجزء الحادي عشر من بولاق، و يوجد بعد نهاية لوحة 156 أيضا سقط يوافق في بولاق ص 90 س 20 إلى 97 س 21 من الجزء الحادي عشر.

/و الجزء الخامس عشر يبدأ بذكر «حبابة» و ينتهي بأخبار «يوم الكديد و قتل ربيعة بن مكدم» و في ترجمة «عمر ابن معد يكرب» سقط يقع في النصف الأوّل من لوحة 50 إلى آخر ترجمته، و هي في بولاق من ص 32 س 17 إلى ص 31 س 20 من الجزء الرابع عشر. و يلاحظ أن السقط الموجود في بولاق ص 129 موجود في آخر هذا الجزء و أوّل الجزء السادس عشر.

و الجزء السادس عشر يبدأ بأخبار «عنترة»، و ينتهي بأخبار «ذات الخال». و يلاحظ أن أخبار عنترة الموجودة في هذا الجزء تقع في الجزء السابع ص 148-153 من بولاق. و في ترجمة «أحمد بن يحيى المكي» بعد نهاية لوحة 121 سقط يوافق في بولاق ص 66 س 4 و ينتهي في ص 67 س 3 من الجزء الخامس عشر. و في أخبار «ذات الخال» بعد نهاية اللوحة 138 سقط يوافق في بولاق من ص 82 س 27 إلى ص 83 س 26 من الجزء الخامس عشر.

و الجزء الثامن عشر يبدأ بأخبار «أبي عطاء السندي» و ينتهي بأخبار «أشجع السلمي»، و في آخر أخبار أبي عطاء سقط يتناول آخر أخباره و أوّل أخبار «خالد بن يزيد و رملة» و يوافق في بولاق ص 83 س 2 إلى آخر ص 89 من الجزء الخامس عشر. و في أخبار «ذي الرّمة» بعد نهاية لوحة 44 سقط يقع في بولاق ص 125 س 4 إلى ص 126 س 1 من الجزء الخامس عشر.

و الجزء التاسع عشر يبدأ بأخبار «يزيد بن مفرّغ» و ينتهي بأخبار «عويف القوافي»، و فيه ترجمة كاملة «لمسلم ابن الوليد» و هي غير موجودة في بولاق. و توافق ما نقله المستشرق «دي غوية» في آخر ديوان مسلم بن الوليد المطبوع في ليدن سنة 1875 نقلا عن نسخ ميونخ؛ و في هذا الجزء أيضا أخبار عروة/بن أذينة، و مخارق، و أبي محجن، و زهير بن جناب، مما لم يذكر في بولاق، و هو مما نشره «برونو» في الجزء الذي أسماه الحادي و العشرين.

و الجزء الحادي و العشرون يبدأ بأخبار «خالد بن زيد الكتاب» و ينتهي بأخبار «هدبة بن خشرم». و فيه أخبار تأبط شرا. و فيه من أخبار خالد بن زيد الكاتب، و المسدود، و سلمة بن عيّاش و أم جعفر، و أيمن بن خريم، و حجيّة ابن المضرّب، و أبي الهندي، و سعيد بن وهب، و رؤبة بن العجاج، و عمرو بن براق، و الشنفري، و الخليل بن عمرو، و علقمة بن عبدة، و أبي خراش الهذلي، و ابن دارة، و مسعود بن خرشة، و بحر بن العلاء، و هدبة بن خشرم؛ و مما لم يذكر في طبعة بولاق، و هي مما أورده «برونو» أيضا في الجزء الحادي و العشرين.

و الجزء الثالث و العشرون يبدأ بأخبار «مرّة بن محكان»، و ينتهي بأخبار «محمد بن الحارث» و فيه زيادة عن طبعة بولاق أخبار أبي حشيشة، و عنان، و الحسن بن وهب، و فيه أخبار محمد بن عبد الملك الزيات تزيد عما في بولاق بمقدار 8 صفحات.

و الجزء الرابع و العشرون يبدأ بأخبار «ماني الموسوس»، و ينتهي بأخبار «عمارة»، و فيه زيادة عن بولاق أخبار «أبي صخر الهذليّ» - مما هو موجود في الجزء الحادي و العشرين - و أخبار «يحيى بن أبي طالب» و هي غير موجودة في بولاق. و هذا الجزء هو آخر الكتاب في هذه النسخة.

ص: 519

ص: 520

فهرس موضوعات الجزء الثاني عشر

الموضوع الصفحة

أخبار الأعشى و بني عبد المدان و أخبارهم مع غيره 265

أخبار مع عبد اللّه بن الحشرج 278

أخبار الطّرمّاح و نسبه 288

أخبار بيهس و نسبه 296

أخبار محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر 298

أخبار معن بن أوس و نسبه 303

أخبار الحسين بن عبد اللّه 312

أخبار فضالة بن شريك و نسبه 316

أخبار مروان الأصغر 323

أخبار إبراهيم بن سيابة و نسبه 329

خبر مقتل الوليد بن طريف 333

بعض أخبار عبد اللّه بن طاهر 339

أخبار متفرقة 347

أخبار أبي زبيد و نسبه 356

أخبار متفرقة 367

أخبار محمد بن أمية و أخيه علي 370

بعض أخبار لابن أبي عتيق 379

نسب المتوكل الليثي و أخباره 381

نسب الأفوه الأودي و شيء من أخباره 389

خبر كثير و خندق الأسدي 393

أخبار منظور بن زبان 407

خبر الجحاف و نسبه و قصته يوم البشر 411

يوم الكلاب الأول و قتل شرحبيل 419

ص: 521

الموضوع الصفحة

خبر عبد اللّه بن معاوية و نسبه 422

أخبار أبي وجزة و نسبه 439

أخبار عقيل بن علفة 450

أخبار شبيب بن البرصاء و نسبه 462

أخبار دقاق 470

نسب يزيد بن الحكم و أخباره 473

أخبار أبي الأسود الدؤلي و نسبه 481

أخبار أبي نفيس و نسبه 508

أخبار سويد بن كراع و نسبه 512

بيان 518

ص: 522

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.