الأغاني المجلد 9-10

هویة الکتاب

الأغاني

المؤلفين الآخرين

مدقق لغوي ومترجم:

مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي

المجلدات : 25ج

لسان: العربية

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374

إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري

ص: 1

المجلد 9

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *

1 - ذكر أخبار كثير و نسبه

نسبه:
اشارة

هو، فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيديّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ، أبو صخر كثيّر بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد(1) بن سعيد بن سبيع(2) بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو و هو(3) خزاعة بن ربيعة و هو يحيى بن حارثة بن عمرو و هو مزيقيا بن عامر و هو ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول [بن مازن(4)] بن الأزد و هو درء(5) - و قيل دراء ممدودا - بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

و أخبرنا أبو عبد الرحمن أحمد بن محمد بن إسحاق الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أبو صخر بن أبي الزّعراء الخزاعيّ عن أمّه ليلى بنت كثيّر قالت: /هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن مخلد بن سبيع بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر. و أمه جمعة بنت الأشيم بن خالد بن عبيد بن مبشّر بن رياح بن سيالة بن عامر بن جعثمة بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر. و كانت كنية الأشيم جدّه أبي أمّه أبا جمعة، و لذلك قيل له ابن أبي جمعة.

و كان له ابن يقال له ثواب من أشعر أهل زمانه، مات سنة إحدى و أربعين و مائة و لا ولد له.

و مات كثيّر سنة خمس و مائة في ولاية يزيد بن عبد الملك. و ليس له اليوم ولد إلاّ من بنته ليلى. و لليلى بنته ابن يكنى أبا سلمة شاعر، و هو الذي يقول:

صوت

و كان عزيزا أن تبيتي و بيننا *** حجاب فقد أمسيت منّي على شهر

ففي القرب تعذيب و في النأي حسرة *** فيا ويح نفسي كيف أصنع بالدهر

ص: 5


1- كذا في «وفيات الأعيان» لابن خلكان و «تجريد الأغاني»، و سيأتي في النسب الذي يذكره عن ليلى بنت كثير: «... بن عامر بن مخلد بن سبيع...». و في الأصول هنا: «عويمر بن مخارق بن سعيد...».
2- كذا ورد هذا الاسم في الأصول و في «وفيات الأعيان» و «تجريد الأغاني» و «السيرة» لابن هشام في نسب أميّة بنت خلف. و قال أبو ذر بن مسعود الخشني في كتابه على السيرة (ج 1 ص 80 طبع مطبعة هدية) صوابه: «يثيع» بالياء المثناة و الثاء المثلثة.
3- في الأصول: «مليح بن عمرو بن خزاعة...» و هو تحريف. (راجع في «القاموس» و «شرحه» مادة ملح و النسب الآتي الذي روي عن ليلى ابنته).
4- زيادة من «وفيات الأعيان و تجريد الأغاني».
5- في الأصول: «درى». و التصويب عن «القاموس».

في هذين البيتين غناء لمقاسة. و لحنه من الثقيل الأول بالخنصر عن حبس.

كنيته و طبقته في الشعراء و نحلته:

و يكنى كثيّر أبا صخر. و هو من فحول شعراء الإسلام، و جعله ابن سلاّم في الطبقة الأولى منهم و قرن به جريرا و الفرزدق و الأخطل و الرّاعي. و كان غاليا في التشيّع يذهب مذهب الكيسانيّة(1)، و يقول بالرّجعة و التّناسخ، و كان محمّقا مشهورا بذلك. و كان آل مروان يعلمون بمذهبه فلا يغيّرهم ذلك لجلالته في أعينهم و لطف محلّه في أنفسهم و عندهم. و كان من أتيه الناس و أذهبهم بنفسه على كل أحد.

الحديث عنه و على شعره:

أخبرني به(2) أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني هارون بن عبد اللّه الزّهريّ قال حدّثني سليمان بن فليح قال: سمعت محمد بن عبد العزيز (يعني ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف) يقول ما قصّد القصيد و لا نعت الملوك مثل كثيّر.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال كتب إليّ إسحاق بن إبراهيم الموصليّ حدّثني إبراهيم بن سعد قال: إني لأروي لكثيّر ثلاثين قصيدة لو رقي بها/مجنون لأفاق.

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزبير قال حدّثني بعض أصحاب الحديث قال:

كنّا نأتي إبراهيم بن سعد و هو خبيث(3) النفس، فنسأله عن شعر كثيّر فتطيب نفسه و يحدّثنا.

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا عمر بن أبي بكر المؤمّليّ(4) عن عبد اللّه بن أبي عبيدة قال:

من لم يجمع من شعر كثيّر ثلاثين لاميّة فلم يجمع شعره. قال الزبير قال المؤمّليّ: و كان ابن أبي عبيدة يملي شعر كثيّر بثلاثين دينارا. قال و سئل عمّي مصعب: من أشعر الناس؟ فقال: كثيّر بن أبي جمعة، و قال: هو أشعر من جرير و الفرزدق و الراعي و عامّتهم (يعني الشعراء)، و لم يدرك أحد في مديح الملوك ما أدرك كثيّر.

أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة قال حدّثنا محمد بن سلاّم الجمحيّ قال:

/كان كثيّر شاعر أهل الحجاز، و هو شاعر فحل، و لكنه منقوص حظّه بالعراق.

أخبرني أبو خليفة قال أخبرنا ابن سلاّم قال سمعت يونس النحويّ يقول:

كثيّر أشعر أهل الإسلام. قال ابن سلاّم: و سمعت ابن أبي حفصة يعجبه مذهبه في المديح جدّا، و يقول: كان يستقصي المديح، و كان فيه مع جودة شعره خطل و عجب.

ص: 6


1- الكيسانية: فرقة من الشيعة الإمامية، و هم أصحاب كيسان مولى علي بن أبي طالب. (انظر الحاشية رقم 3 في ج 7 ص 231 من هذه الطبعة).
2- وردت هذه الكلمة «به» في جميع الأصول.
3- المراد بخبث النفس: غثيانها.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «الموصلي». (انظر الحاشية رقم 1 ص 123 من الجزء الرابع من هذه الطبعة، و «المشتبه» ص 300 طبع أوربا).

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن إسماعيل الجعفريّ قال أخبرني إبراهيم بن إبراهيم بن حسين بن زيد قال:

سمعت المسور بن عبد الملك يقول: ما ضرّ من يروي شعر كثيّر و جميل ألاّ تكون عنده مغنّيتان مطربتان.

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائنيّ عن الوقّاصيّ قال:

رأيت كثيّرا يطوف بالبيت، فمن حدّثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذّبه؛ و كان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول: طأطئ رأسك لا يصبه السقف.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائنيّ، و عن ابن حبيب عن أبيه عن جدّه عن جدّ أبيه عبد العزيز و أمّه جمعة بنت كثيّر قال:

قال [جرير(1)] لكثيّر: أيّ رجل أنت لو لا دمامتك! فقال كثيّر:

إن أك قصدا(2) في الرجال فإنّني *** إذا حلّ أمر ساحتي لطويل

ما كان بينه و بين الحزين الديلي:

أخبرني حبيب بن نصر و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن المدائنيّ عن الوقّاصيّ قال، و أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن يحيى عن بعض أصحابهم الدّيليّين قال:

التقى كثيّر و الحزين(3) الدّيليّ بالمدينة في دار ابن أزهر في سوق الغنم، فضمّهما المجلس. فقال كثيّر للحزين: ما أنت شاعر يا حزين، إنما توصل الشيء إلى الشيء. فقال له الحزين: أ تأذن لي أن أهجوك؟ قال نعم.

و كان كثيّر قال قبل ذلك و هو ينتسب إلى بني الصّلت(4) بن النّضر بن كنانة:

أ ليس أبي بالنّضر أ و ليس إخوتي *** بكلّ هجان من بني الصّلت أزهرا

فإن لم تكونوا من بني الصّلت فاتركوا *** أراكا بأذيال الخمائل(5) أخضرا

قال: فلما أذن كثيّر للحزين أن يهجوه قال الحزين:

/

لقد علقت زبّ الذّباب كثيّرا *** أساود(6) لا يطنينه و أراقم

ص: 7


1- التكملة من «تجريد الأغاني»:
2- في الأصول: «قصيرا» و التصويب عن «تجريد الأغاني». و القصد: الربعة من الرجال.
3- اسمه عمرو بن عبيد بن وهيب بن مالك، و الحزين لقبه، من شعراء الدولة الأموية، حجازي مطبوع ليس من فحول طبقته. و كان هجاء خبيث اللسان ساقطا يرضيه اليسير و يتكسب بالشعر و هجاء الناس. (انظر ترجمته في ج 14 ص 76 من «الأغاني» طبع بولاق).
4- الصلت بن النضر: أبو خزاعة.
5- كذا في نسخة الأستاذ الشنقيطي مصححة بقلمه. و الخميلة: المنهبط الغامض من الرمل، و هي مكرمة للنبات. و في الأصول: «الحمائل» بالحاء المهملة.
6- الأساود: الحيات. و لا يطنينه: لا يبقين عليه؛ يقال: رماه اللّه بأفعى لا تطنى أي لا يفلت لديغها. و الأرقم: أخبث الحيات و أطلبها للناس.

قصير القميص فاحش عند بيته *** يعضّ القراد باسته و هو قائم

و ما أنتم منّا و لكنكم لنا *** عبيد العصا ما ابتلّ في البحر عائم

و قد علم الأقوام أن بني استها *** خزاعة أذناب و أنّا القوادم

/و و اللّه لو لا اللّه ثم ضرابنا *** بأسيافنا دارت عليها المقاسم

و لو لا بنو بكر لذلّت و أهلكت *** بطعن و أفنتها السيوف الصوارم

تهدده أبو الطفيل و استوهبه خندف الأسديّ:

قال: فقام كثيّر فحمل عليه فلكزه. و كان الحزين طويلا أيّدا. فقال له الحزين. أنت عن هذا أعجز، و احتمله فكان في يده مثل الكرة، فضرب به الأرض، فخلّصه منه الأزهريّون. فبلغ ذلك [أبا(1)] الطّفيل عامر بن واثلة و هو بالكوفة، فأقسم لئن ملأ عينيه من كثيّر ليضربنّه بالسيف أو ليطعننّه بالرمح. و كان خندف الأسديّ صديقا لأبي الطّفيل، فطلب إلى أبي الطفيل في كثيّر و استوهبه إيّاه فوهبه له. و التقيا بمكة و جلسا جميعا مع عمر بن عليّ بن أبي طالب، فقال: أمّا و اللّه لو لا ما أعطيت خندفا من العهد لوفيت لك. فذلك قول كثيّر في قصيدته التي يرثي فيها خندفا:

ينال رجالا نفعه و هو منهم *** بعيد كعيّوق(2) الثّريّا المحلّق

أنكر على الأحوص ضراعته في الاستجداء:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:

قال كثيّر: في أيّ شعر أعطى هؤلاء الأحوص عشرة آلاف دينار؟ قالوا: في قوله فيهم:

و ما كان مالي طارفا من تجارة *** و ما كان ميراثا من المال متلدا

و لكن عطايا من إمام مبارك *** ملا الأرض معروفا وجودا و سوددا

فقال كثيّر: إنه لضرع قبحه اللّه! أ لا قال كما قلت:

صوت

دع عنك سلمى إذ فات مطلبها *** و اذكر خليليك(3) من بني الحكم

ما أعطياني و لا سألتهما *** إلاّ و إنّي لحاجزي كرمي

إنّي متى لا يكن نوالهما *** عندي مما قد فعلت أحتشم

مبدي الرّضا عنهما و منصرف *** عن بعض ما لو فعلت لم ألم

ص: 8


1- التكملة عن ترجمته في «الأغاني» (ج 13 ص 166 طبع بولاق) و «شرح القاموس» (مادة طفل)». و هو عامر بن واثلة بن عبد اللّه بن عمرو بن جابر بن خميس، له صحبة برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و عمر بعده طويلا، كان مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام و روي عنه و كان من وجوه شيعته.
2- العيوق: كوكب أحمر مضيء بحيال الثريا في ناحية الشمال، و يطلع قبل الجوزاء.
3- في الأصول: «خليلك» و يعني بهما عبد الملك و عبد العزيز ابني مروان بن الحكم.

لا أنزر النائل الخليل إذا *** ما اعتلّ نزر الظّئور لم ترم(1)

عروضه من المنسرح. غنّى في هذا الشعر يونس ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و غنّى فيه الغريض ثاني ثقيل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة. و فيه لحن من الثقيل الأوّل ينسب إلى معبد، و ليس بصحيح له. قال الزّبير بن بكّار في تفسير قوله: «لا أنزر النائل الخليل» يقول: لا ألحّ عليه بالمسألة، يقال: نزرته أنزره إذا ألححت عليه. و الظّئور: المتعطّفة على [غير(2)] أولادها.

حديثه مع عبد الملك في استقطاعه أرضا له:

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثنا المؤمّليّ عن أبي عبيدة، و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر قالا حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال:

/دخل كثيّر على عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ أرضا لك يقال لها غرّب(3) ربما أتيتها و خرجت إليها بولدي و عيالي فأصبنا من رطبها و تمرها بشراء/مرّة و طعمة مرّة. فإن رأى أمير المؤمنين أن يعمّرنيها(4) فعل. فقال له عبد الملك: ذلك لك. فندّمه الناس و قالوا له: أنت شاعر الخليفة و لك عنده منزلة، فهلاّ سألت الأرض قطيعة!. فأتى الوليد فقال: إنّ لي إلى أمير المؤمنين حاجة فأجلسني قريبا من البرذون. فلما استوى عليه عبد الملك قال له: إيه! و علم أنّ له إليه حاجة. فقال كثيّر:

جزتك الجوازي عن صديقك نضرة *** و أدناك ربّي في الرّفيق المقرّب

فإنّك لا يعطى عليك ظلامة *** عدوّ و لا تنأى عن المتقرّب

و إنّك ما تمنع فإنك مانع *** بحقّ، و ما أعطيت لم تتعقّب

فقال له: أ ترغب غرّبا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اكتبوها له، ففعلوا.

هجاء الحزين له في مجلس ابن أبي عتيق:

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثنا عمر بن أبي بكر المؤمّلي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي عبيدة قال:

كان الحزين الكنانيّ قد ضرب على كل رجل من قريش درهمين في كل شهر، منهم ابن أبي عتيق. فجاءه لأخذ درهميه على حمار له أعجف - قال: و كثيّر مع ابن أبي عتيق - فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين. فقال الحزين لابن أبي عتيق: من هذا معك؟ قال: هذا أبو صخر كثيّر بن أبي جمعة - قال: و كان قصيرا دميما - فقال له الحزين: أ تأذن لي أن أهجوه ببيت من شعر؟ قال: لا! لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي، و لكني أشتري عرضه منك بدرهمين آخرين و دعا له بهما. فأخذهما ثم قال: لا بدّ من هجائه ببيت. قال: أو أشتري/ذلك منك بدرهمين آخرين، و دعا له بهما. فأخذهما ثم قال: ما أنا بتاركه حتى أهجوه. قال: أو أشتري/ذلك منك بدرهمين. فقال له

ص: 9


1- ترم: تحن و تعطف. و أصله «ترأم» سهلت الهمزة ثم حذفت لالتقاء الساكنين؛ فإن آخر الفعل ساكن بالجازم و حرك بالكسر للقافية.
2- التكملة عن «معاجم اللغة».
3- غرب: ماء بنجد ثم بالشريف من مياه بني نمير. و غرب أيضا: جبل دون الشام في ديار بني كلب و عنده عين ماء تسمى غربة. هذا ما ورد في «معجم البلدان» لياقوت. لعله يعني هنا موضعا آخر.
4- يقال: عمر فلان فلانا كذا إذا جعله له طول عمره.

كثيّر: ائذن له، ما عسى أن يقول في بيت! فأذن له ابن أبي عتيق. فقال:

قصير القميص فاحش عند بيته *** يعضّ القراد باسته و هو قائم

قال: فوثب كثيّر إليه فلكزه، فسقط هو و الحمار، و خلّص ابن أبي عتيق بينهما، و قال لكثيّر قبحك اللّه! أ تأذن له و تسفه عليه! فقال كثيّر: أو أنا ظننته أن يبلغ بي هذا كلّه في بيت واحد!.

ادّعى أنه قرشي فرده الشعراء و سبه الكوفيون:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة و لم يتجاوزه، و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد الرحمن بن الخضر الخزاعيّ عن ولد جمعة بنت كثيّر أنه وجد في كتب أبيه التي فيها شعر كثيّر: أنّ عبد الملك بن مروان قال له: ويحك! الحق بقومك من خزاعة، فأخبر أنه من كنانة قريش، و أنشد كثيّر قوله:

أ ليس أبي بالصّلت أم ليس إخوتي *** بكل هجان من بني النّضر أزهرا

فإن لم تكونوا من بني النّضر فاتركوا *** أراكا بأذناب القوابل(1) أخضرا

أبيت التي قد سمتني و نكرتها *** و لو سمتها قبلي قبيصة(2) أنكرا

لبسنا ثياب العصب(3) فاختلط السّدى *** بنا و بهم و الحضرميّ المخصّرا

/فقال له عبد الملك: لا بدّ أن تنشد هذا الشعر على منبري الكوفة و البصرة، و حمله و كتب/به إلى(4) العراق في أمره. قال عمر بن شبّة في خبره خاصّة: فأجابته خزاعة الحجاز إلى ذلك. و قال فيه الأحوص - و يقال: بل قاله سراقة البارقيّ -:

لعمري لقد جاء العراق كثيّر *** بأحدوثة من وحيه المتكذّب

أ يزعم أنّي من كنانة أولى *** و ما لي من أمّ هناك و لا أب

فإن كنت حرّا أو تخاف معرّة *** فخذ ما أخذت من أميرك و اذهب

فقال كثيّر يجيبه - و في خبر الزّبير: قال هذا لأبي علقمة الخزاعي -:

أيا خبث أكرم كنانة إنّهم *** مواليك إن أمر سما بك معلق

- و في رواية الزّبير: «أبا علقم».

ص: 10


1- تقدمت فيه راوية أخرى: «بأذيال الخمائل». (راجع الحاشية رقم 3 ص 7 من هذه الترجمة).
2- هو قبيصة بن ذؤيب الخزاعي الكعبي أبو سعيد و أبو إسحاق، ولد في حياة النبي صلى اللّه عليه و سلم. و توفي سنة 86 (عن «شرح القاموس» مادة قبص).
3- كذا في كتاب «السيرة» لابن هشام (ج 1 ص 61 طبع أوربا) و «الروض الأنف» للسهيلي. و العصب: برود يمنية يعصب غزلها (أي يجمع و يشد) ثم يصبغ و ينسج فيأتي موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. قال السهيلي في كتابه «الروض الأنف» في معنى هذا البيت: «يريد أن قدودنا من قدودهم، فسدي أثوابنا مختلط بسدي أثوابهم. و الحضرمي: النعال المخصرة التي تضيق من جانبيها كأنها ناقصة الخصرين».
4- وردت هذه العبارة في ج: «و كتب في أمره». و في سائر الأصول: «و كتب به إلى العراق في أمره».

بنو النّضر ترمي من ورائك بالحصى *** أولو حسب فيهم وفاء و مصدق

يفيدونك المال الكثير و لم تجد *** لملكهم شبها لو انّك تصدق

إذا ركبوا ثارت عليك عجاجة *** و في الأرض من وقع الأسنّة أولق(1)

فأجابه الأحوص بقوله:

دع القوم ما حلّوا ببطن قراضم(2) *** و حيث تفشّى(3) بيضه المتفلّق

فإنّك لو قاربت أو قلت شبهة *** لذي الحقّ فيها و المخاصم معلق

عذرناك أو قلنا صدقت و إنما *** يصدّق بالأقوال من كان يصدق

ستأبى بنو عمرو عليك و ينتمي *** لهم حسب في جذم(4) غسّان معرق

فإنّك لا عمرا أباك حفظته *** و لا النّضر إن ضيّعت شيخك تلحق

/و لم تدرك القوم الذين طلبتهم *** فكنت كما كان السّقاء المعلّق

بجذمة(5) ساق ليس منه لحاؤها(6) *** و لم يك عنها قلبه يتعلّق

فأصبحت كالمهريق فضلة مائه *** لبادي سراب بالملا(7) يترقرق

قال: فخرج كثيّر فأتى الكوفة، فرمي به إلى مسجد بارق. فقالوا له: أنت من أهل الحجاز؟ قال نعم. قالوا: فأخبرنا عن رجل شاعر ولد زنا يدعى كثيّرا. قال سبحان اللّه! أمّا تسمعون أيها المشايخ ما يقول الفتيان! قالوا: هو ما قاله لنفسه. فانسلّ منهم و جاء إلى والي الكوفة حسّان بن كيسان، فطيّره على البريد. و قال عمر بن شبّة في خبره: إنّ سراقة البارقيّ هو المخاطب له بهذه الشتيمة و إنه عرفه و قال له: إن قلت هذا على المنبر قتلتك قحطان و أنا أوّلهم، فانصرف إلى منزله و لم يعد إلى عبد الملك.

نبذة عن سراقة البارقي و قصته مع المختار حين أسر:

و كان سراقة هذا شاعرا ظريفا. فأخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن النّضر بن عمر(8) عن الهيثم بن عديّ عن الأعمش عن إبراهيم قال:

كان سراقة البارقيّ من ظرفاء أهل العراق، فأسره المختار يوم جبّانة(9) السّبيع، و كانت للمختار فيها وقعة

ص: 11


1- الأولق: الجنون.
2- قراضم: موضع بالمدينة.
3- كذا في «معجم ياقوت» في الكلام على قراضم. و في الأصول: «تغشى» بالغين المعجمة.
4- الجذم: الأصل.
5- كذا في ج: و الجذمة: القطعة. و في سائر الأصول: «بخدمة ساق». و يتعلق: لعل صوابه «يتفلق». أي و لم يكن قلبه منشقا عنها.
6- اللحاء: قشر الشجرة.
7- الملا: الصحراء.
8- في ح هنا: «عمرو».
9- جبانة السبيع: محلة بالكوفة مضافة إلى السبيع و هي قبيلة؛ و كانت وقعة المختار بن أبي عبيد الثقفي بها حين خرج للثأر من قتلة الحسن بن علي بن أبي طالب. الطبري (ق 2 ج 2).

منكرة، فجاء به الذي أسره إلى المختار فقال له: إنّي أسرت هذا. فقال له سراقة: كذب! ما هو الذي أسرني، إنما أسرني غلام أسود على برذون أبلق عليه ثياب خضر، ما أراه في عسكرك الآن، و سلّمني إليه. فقال المختار: أمّا إنّ الرجل قد عاين/الملائكة! خلّوا سبيله فخلّوه، فهرب فأنشأ يقول:

/

ألا أبلغ أبا إسحاق أنّي *** رأيت البلق دهما مصمتات(1)

أرى عينيّ ما لم تبصراه *** كلانا عالم بالتّرّهات

كفرت بدينكم و جعلت نذرا *** عليّ قتالكم حتى الممات

كان يرى أن ابن الحنفية لم يمت و كان ذلك رأي السيد:

أخبرنا الحرميّ قال أخبرنا الزبير قال أخبرنا عمرو(2) و محمد بن الضّحاك قالا: كان كثيّر يتشيّع تشيّعا قبيحا، يزعم أنّ محمد بن الحنفيّة لم يمت. قال: و كان ذلك رأي السيّد، و قد قال فيه (يعني السيّد) شعرا كثيرا، منه:

ألا قل للوصيّ فدتك نفسي *** أطلت بذلك الجبل المقاما

أضرّ بمعشر والوك منّا *** و سمّوك الخليفة و الإماما

و عادوا فيك أهل الأرض طرّا *** مقامك عنهم ستّين عاما

و ما ذاق ابن خولة(3) طعم موت *** و لا وارت له أرض عظاما

لقد أوفى بمورق شعب رضوى *** تراجعه الملائكة الكلاما

و إنّ له به لمقيل صدق *** و أندية تحدّثه كراما

هدانا اللّه إذ جرتم لأمر *** به ولديه نلتمس التّماما

تمام مودّة المهديّ حتّى *** تروا راياتنا تترى نظاما

و قال كثيّر في ذلك:

ألا إنّ الأئمّة من قريش *** ولاة الحقّ أربعة سواء

عليّ و الثلاثة من بنيه *** هم الأسباط ليس بهم خفاء

فسبط سبط إيمان و برّ *** و سبط غيّبته كربلاء

/و سبط لا تراه العين حتّى *** يقود الخيل يقدمها(4) اللّواء

تغيّب لا يرى عنهم زمانا *** برضوى عنده عسل و ماء

ص: 12


1- كذا في الطبري (ق 2 ص 665) و به يستقيم الرويّ. و في الأصول «... عني أن البلق دهم مصمتات». و مصمت: لا يخالط لونه لون آخر. أي أن دهمتها خالصة لا يشوبها لون آخر.
2- في ح: «عمر».
3- خولة: اسم أم محمد بن الحنفية.
4- كذا فيما تقدم (ج 7 ص 276 من هذه الطبعة). و في الأصول هنا: «يتبعها».
شعره في ابن الحنفية حين سجنه ابن الزبير في سجن عارم:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الحارث بن محمد عن المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ قال:

كان عبد اللّه بن الزّبير قد أغري ببني هاشم يتبعهم بكل مكروه و يغري بهم و يخطب بهم على المنابر و يصرّح و يعرّض بذكرهم. فربما عارضه ابن عبّاس و غيره منهم. ثم بدا له فيهم فحبس ابن الحنفيّة في سجن عارم(1)، ثم جمعه و سائر من كان بحضرته من بني هاشم، فجعلهم في محبس و ملأه حطبا و أضرم فيه النار. و قد كان بلغه أنّ أبا(2) عبد اللّه الجدليّ و سائر شيعة ابن الحنفيّة قد وافوا لنصرته و محاربة ابن الزبير، فكان ذلك سبب إيقاعه به. و بلغ أبا عبد اللّه الخبر فوافى ساعة أضرمت النار عليهم فأطفأها و استنقذهم، و أخرج ابن الحنفيّة عن جوار ابن الزّبير منذ يومئذ. فأنشدنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال أنشدنا محمد بن حبيب لكثيّر يذكر ابن الحنفيّة و قد حبسه(3) ابن الزّبير في سجن يقال له سجن عارم:

من ير هذا الشيخ بالخيف من منّى *** من الناس يعلم أنّه غير ظالم

/سمي النبيّ المصطفى و ابن عمّه *** و فكّاك أغلال و نفّاع غارم

أبي فهو لا يشري هدى بضلالة *** و لا يتّقي في اللّه لومة لائم

و نحن بحمد اللّه نتلو كتابه *** حلولا بهذا الخيف خيف المحارم

بحيث الحمام آمن الرّوع ساكن *** و حيث العدوّ كالصديق المسالم

/فما فرح الدّنيا بباق لأهله *** و لا شدّة البلوى بضربة لازم

تخبّر(4) من لاقيت أنك عائذ *** بل العائذ المظلوم في سجن عارم

أنشد عليّ بن عبد اللّه شعرا له في ابن الحنفية و حديثه معه:

حدّثني أحمد بن محمد بن سعيد الهمدانيّ قال حدّثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدّثنا الزّبير بن بكّار، و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن إسماعيل الجعفريّ عن سعيد عن عقبة الجهنيّ عن أبيه قال:

سمعت كثيّرا ينشد عليّ بن عبد اللّه بن جعفر قوله في محمد بن الحنفيّة:

أقرّ اللّه عيني إذ دعاني *** أمين اللّه يلطف في السؤال

و أثنى في هواى عليّ خيرا *** و ساءل عن بنيّ و كيف حالي

و كيف ذكرت حال أبي خبيب *** و زلّة فعله عند السّؤال

هو المهديّ خبّرناه كعب(5) *** أخو الأحبار في الحقب الخوالي

ص: 13


1- سجن بمكة.
2- هو أبو عبد اللّه الجدلي عبدة بن عبد، أرسله المختار بن أبي عبيد نجدة لبني هاشم لما حبسهم ابن الزبير، كما هو ظاهر في القعمة. (انظر الطبري ق 2 ص 693-695).
3- في الأصول: «و قد حبسهم».
4- يريد عبد اللّه بن الزبير، و كان يدّعي أنه عائذ بالبيت فلا يحل قتاله.
5- هو كعب الأحبار بن ماتع و يكنى أبا إسحاق، و هو من حمير من آل ذي رعين، و كان على دين يهود فأسلم و قدم المدينة ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى توفي بها سنة اثنتين و ثلاثين في خلافة عثمان بن عفان. (انظر «طبقات ابن سعد» ج 7 ق 2 ص 156 طبع أوروبا).

فقال له عليّ بن عبد اللّه: يا أبا صخر، ما يثني عليك في هواك خيرا إلاّ من كان على مثل مذهبك. قال: أجل بأبي أنت و أمي!. قال: و كان كثيّر كيسانيا(1) يرى الرّجعة. قال الزّبير: أبو خبيب عبد اللّه بن الزّبير، كناه بابنه خبيب و هو أكبر ولده، و كان كثيّر سيّئ الرأي فيه. قال الزّبير: فأخبرني عمّي قال: لمّا قال كثيّر:

هو المهديّ خبّرناه كعب *** أخو الأحبار في الحقب الخوالي

/فقيل له: ألقيت كعبا؟ قال: لا. قيل: فلم قلت «خبّرناه كعب»؟ قال: بالتوهّم.

غلوه في التشيع و القول بالرجعة و أخبار له في ذلك:

قال: و كان كثيّر شيعيا غاليا يزعم أن الأرواح تتناسخ، و يحتجّ بقول اللّه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مٰا شٰاءَ رَكَّبَكَ و يقول: أ لا ترى أنه حوّله من صورة(2) في صورة!.

قال: فحدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّليّ عن عبد اللّه بن أبي عبيدة قال: خندف الأسديّ الذي أدخل كثيّرا في الخشبيّة.

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني إبراهيم بن المنذر الحزاميّ عن محمد ابن معن الغفاريّ قال:

كنّا بالسّيالة(3) في مشيخة نتحدّث، إذا بكثيّر قد طلع علينا متّكئا على عصا.

فقال: كنّا ببيداء(4) بأشراف السّيالة و بهذه الناحية، فما بقي موضع(5) ببيداء إلاّ و قد جئته، فإذا هو على حاله ما تغيّر و ما تغيّرت الجبال و لا الموضع الذي كنا نطوف فيه، و هذا يكون حتى نرجع إليه. و كان يؤمن بالرّجعة.

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني يحيى بن محمد قال:

دخل عبد اللّه بن حسن على كثيّر يعوده في مرضه الذي مات فيه. فقال له كثيّر: أبشر! فكأنّك بي بعد أربعين ليلة قد طلعت عليك على فرس عتيق. فقال له عبد اللّه بن حسن: مالك عليك لعنة اللّه! فو اللّه لئن متّ لا أشهدك و لا أعودك و لا أكلّمك أبدا.

كان أبو هاشم يتجسس أخباره:

/أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني يحيى بن محمد بن عبد الملك بن عبد العزيز أحسبه عن ابن الماجشون قال:

/و كان أبو هاشم عبد اللّه بن محمد بن عليّ قد وضع الأرصاد على كثيّر فلا يزال يؤتّى بالخبر من حبره، فيقول له إذا لقيه: كنت في كذا و كنت في كذا، إلى أن جرى بين كثيّر و بين رجل كلام فأتي به أبو هاشم. فأقبل به على

ص: 14


1- في ج: «خشبيا». و الخشبية: قوم من الجهمية يقولون إن اللّه تعالى لا يتكلم و إن القرآن مخلوق. و قال ابن الأثير: هم أصحاب المختار بن أبي عبيد، و يقال: هم ضرب من الشيعة. و في سبب تسميتهم بالخشبية خلاف ذكره شارح «القاموس» في مادة خشب.
2- لعله: «إلى صورة».
3- السيالة: بجوار المدينة، قيل: هي أوّل مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
4- بيداء: يريد بها موضعا بعينه.
5- في الأصول: «فما بقي موضع ببيداء فيه إلاّ و قد جئته... إلخ». و ظاهر أن كلمة «فيه» مقحمة من الناسخ.

أدراجه(1)، فقال له أبو هاشم: كنت الساعة مع فلان فقلت له كذا و كذا و قال لك كذا و كذا. فقال له كثيّر: أشهد أنّك رسول اللّه.

كان يقول عن الأطفال من آل البيت إنهم الأنبياء الصغار:

أخبرنا محمد بن جعفر النحويّ قال حدّثنا محمد، و أخبرنا! الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا محمد بن إسماعيل عن موسى بن عبد اللّه فيما أحسب قال:

نظر كثيّر إلى بني حسن بن حسن و هم صغار فقال: بأبي أنتم! هؤلاء الأنبياء الصغار. و كان يرى الرّجعة.

و روى عليّ(2) بن بشر بن سعيد الرازيّ عن محمد بن حميد عن أبي زهير عبد الرحمن بن مغراء الدّوسيّ عن محمد بن عمارة قال:

مرّ كثيّر بمعاوية بن عبد اللّه بن جعفر و هو في المكتب، فأكبّ عليه يقبّله و قال: أنت من الأنبياء الصغار و ربّ الكعبة!.

أخبرنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا محمد بن إسماعيل قال حدّثنا قعنب بن المحرز قال حدّثني إبراهيم بن داجة قال:

كان كثيّر شيعيا، و كان يأتي ولد حسن بن حسن إذا أخذ عطاءه، فيهب لهم الدراهم و يقول: وا بأبي الأنبياء الصغار!. و كان يؤمن بالرّجعة. فيقول له محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، و هو أخوهم لأمّهم،: يا عمّ هب لي، فيقول: لا! لست من الشجرة.

كان عمرو بن عبد العزيز يعرف بحبه صلاح بني هاشم و فسادهم:

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني عثمان بن عبد الرحمن عن إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبيد اللّه قال:

قال عمر بن عبد العزيز: إني لأعرف صلاح بني هاشم من فسّادهم بحبّ كثيّر: من أحبّه منهم فهو فاسد، و من أبغضه فهو صالح، لأنه كان خشبيا يقول بالرجعة.

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد العزيز بن محمد الدّراورديّ(3) عن أبي لهيعة عن رجاء بن حيوة قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: إن مما أعتبر به صلاح بني هاشم و فسّادهم حبّ كثيّر، ثم ذكر مثله.

قال لعمته إنه يونس بن متى:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عليّ بن صالح عن ابن دأب قال:

كان كثيّر يدخل على عمّه له برزة(4) فتكرمه و تطرح له وسادة يجلس عليها. فقال لها يوما: لا و اللّه ما تعرفينني

ص: 15


1- لعله «فأقبل على أدراجه» يريد أنه حضر لوقته لم يلو على شيء؛ فتكون كلمة «به» من زيادة النساخ.
2- في ج: «علي بن سعيد بن بشر الرازي».
3- الدراوردي: نسبة شاذة إلى دارابجرد (يقال: درابجرد): بلد بفارس و محلّة بنيسابور أيضا. (راجع «لب اللباب في تحرير الأنساب» للسيوطي).
4- البرزة: المرأة الكهلة التي لا تحتجب احتجاب الثواب و هي مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس إلى الناس و تحدثهم.

و لا تكرمينني حقّ كرامتي! قالت: بلى و اللّه إني لأعرفك. قال: فمن أنا؟ قالت: ابن فلان و ابن فلانة، و جعلت تمدح أباه و أمّه. فقال: قد عرفت أنك لا تعرفينني. قالت: فمن أنت؟ قال: أنا يونس بن متّى.

كان عاقا لأبيه:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني أبي قال:

كان كثيّر عاقا لأبيه(1)، و كان أبوه قد أصابته قرحة في إصبع من أصابع يده. فقال له كثيّر: أ تدري لم أصابتك هذه القرحة في إصبعك؟ قال: لا أدري قال: مما ترفعها إلى اللّه في يمين كاذبة.

ضافه مزني و ذمه بأنه لم يقم لصلاة الصبح:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن محمد بن معن الغفاريّ عن أبيه و غيره قال حدّثني رجل من مزينة قال:

ضفت كثيّرا ليلة و بتّ عنده ثم تحدّثنا و نمنا. فلما طلع الفجر تضوّر(2)، ثم قمت/فتوضّأت و صلّيت و كثيّر راقد في لحافه. فلما طلع قرن الشمس تضوّر ثم قال: يا جارية اسجري لي ماء. قال قلت: تبّا لك سائر اليوم! أ و هذه الساعة هذا! و ركبت راحلتي و تركته. قال الزبير: أسخني لي ماء.

كان يهزأ به و يصدق ما يسمع عن نفسه:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن ابن شهاب عن طلحة بن عبيد اللّه قال:

ما رأيت قطّ أحمق من كثيّر. دخلت عليه يوما في نفر من قريش و كنّا كثيرا ما نتهزّأ به، و كان يتشيّع تشيّعا قبيحا. فقلت له: كيف تجدك يا أبا صخر؟ و هو مريض، فقال: أجدني ذاهبا. فقلت: كلاّ! فقال: هل سمعتم الناس يقولون شيئا؟ فقلت: نعم! يتحدّثون أنك الدجّال. قال: أما لئن قلت ذاك إنّي لأجد في عيني ضعفا منذ أيّام.

كان تياها و يستحمقه فتيان المدينة لذلك:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران:

أن ناسا من أهل المدينة كانوا يلعبون بكثيّر فيقولون و هو يسمع: إن كثيّرا لا يلتفت من تيهه. فكان الرجل يأتيه من ورائه فيأخذ رداءه فلا يلتفت من الكبر و يمضي في قميص.

سأله عبد الملك عن شيء و حلفه بأبي تراب:

أخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيّوب قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة قال:

بلغني أن كثيّرا دخل على عبد الملك بن مروان، فسأله عن شيء فأخبره به. فقال و حقّ عليّ بن أبي طالب إنه

ص: 16


1- في الأصول: «بأبيه».
2- التضوّر: التلوّي.

كما ذكرت؟ قال كثيّر: يا أمير المؤمنين، لو سألتني بحقّك لصدقتك. قال: لا أسألك إلاّ بحقّ أبي تراب(1). فحلف له به فرضي.

تمثل عبد الملك بشعر له حين منعته عاتكة من الخروج لحرب مصعب و حديثه معه عن هذه الحرب:
اشارة

أخبرنا الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال أخبرني عثمان بن عبد الرحمن، و أخبرنا محمد بن جعفر النحويّ قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال، و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبة، و أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا المؤمّلي عن ابن أبي عبيدة، قالوا جميعا.

لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب لاذت به عاتكة بنت يزيد بن معاوية و هي أمّ ابنه يزيد، و قالت: يا أمير المؤمنين، لا تخرج السنة لحرب مصعب، فإنّ آل الزّبير ذكروا خروجك، و ابعث إليه الجيوش، و بكت و بكى جواريها معها. و جلس و قال: قاتل اللّه ابن أبي جمعة! فأين قوله:

صوت

إذا ما أراد الغزو لم تثن همّه *** حصان عليها عقد درّ يزينها

نهته فلما لم تر النّهي عاقه *** بكت فبكى مما شجاها قطينها(2)

- غنّاه ابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق - و اللّه لكأنه/يراني و يراك يا عاتكة، ثم خرج.

قال محمد بن جعفر النحويّ في خبره - و وافقه عليه عمر بن شبّة -: فلما خرج عبد الملك نظر إلى كثيّر في ناحية عسكره يسير مطرقا، فدعا به و قال: لأعلم ما أسكتك و ألقى عليك بثّك، فإن أخبرتك عنه أ تصدقني؟ قال نعم! قال:

قل و حقّ أبي تراب لتصدقنّي، قال: و اللّه لأصدقنّك. قال: لا أو تحلف به، فحلف به. فقال تقول: رجلان من قريش يلقي أحدهما صاحبه فيحاربه، القاتل و المقتول في النار، فما معنى سيرى مع أحدهما إلى الآخر و لا آمن سهما عائرا لعلّه أن يصيبني فيقتلني فأكون معهما! قال: و اللّه يا أمير المؤمنين/ما أخطأت. قال: فارجع من قريب، و أمر له بجائزة.

بكى لقتل آل المهلب فزجره يزيد و ضحك منه:

أخبرنا وكيع قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثنا أبو تمّام الطائيّ حبيب بن أوس قال حدّثني العطّاف بن هارون عن يحيى بن حمزة قاضي دمشق قال حدّثني حفص الأمويّ قال:

كنت أختلف إلى كثيّر أتروّى شعره. قال: فو اللّه إني لعنده يوما إذ وقف عليه واقف فقال: قتل آل المهلّب

ص: 17


1- أبو تراب: لقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، لقبه بذلك النبي صلى اللّه عليه و سلم، و ذلك أن عليا دخل على فاطمة رضي اللّه عنهما ثم خرج فاضطجع في المسجد. فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد. فخرج إليه صلى اللّه عليه و سلم فوجد رداءه قد سقط عن ظهره و خلص التراب إلى ظهره؛ فجعل عليه الصلاة و السلام يمسح التراب عن ظهره و يقول له: أجلس يا أبا تراب (مرتين). (عن «شرح القسطلاني على صحيح البخاري» ج 6 ص 138).
2- القطين: الخدم و الأتباع و الحشم.

بالعقر(1). فقال: ما أجلّ الخطب! ضحّى آل أبي سفيان بالدّين(2) يوم الطّفّ، و ضحّى بنو مروان بالكرم يوم العقر! ثم انتضحت عيناه باكيا. فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فدعا به. فلما دخل عليه قال: عليك لعنة اللّه! أ ترابيّة(3)و عصبيّة! و جعل يضحك منه.

سأله عبد الملك عن أشعر الناس فأجابه:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد عن أبيه قال:

قال عبد الملك بن مروان لكثيّر: من أشعر الناس اليوم يا أبا صخر؟ قال: من يروي أمير المؤمنين شعره.

فقال عبد الملك: أما إنّك لمنهم.

جواب عبد الملك له و قد سأله عن شعره:

أخبرنا وكيع قال حدّثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن ابن أبي(4) عوف عن عوانة قال:

قال كثيّر لعبد الملك: كيف ترى شعري يا أمير المؤمنين؟ قال أراه يسبق السحر، و يغلب الشعر.

كان عبد الملك يروي أولاده شعره:

أخبرنا عمّي عن الكرانيّ عن النّضر بن عمر قال:

كان عبد الملك بن مروان يخرج شعر كثيّر إلى مؤدّب ولده مختوما يروّيهم إياه و يرده.

نزل مرعي لإبله فضيق عليه أهله فذم جوارهم:

أخبرنا الحرميّ قال أخبرنا الزّبير قال حدّثنا عبد اللّه بن خالد الجهنيّ:

أن كثيّرا شبّ في حجر عمّ له صالح، فلما بلغ الحلم أشفق عليه أن يسفه، و كان غير جيّد الرأي و لا حسن النظر في عواقب الأمور. فاشترى له عمّه قطيعا من الإبل و أنزله فرش(5) ملل فكان به، ثم ارتفع فنزل فرع المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من جبل جهينة الأصغر، و كان قبل المسور لبني مالك بن أفصى، فضيّقوا على كثيّر و أساءوا جواره، فانتقل عنهم و قال:

ص: 18


1- هو عقر بابل قرب كربلاء من الكوفة قتل عنده يزيد بن المهلب بن أبي صفرة سنة 102، و كان خلع طاعة بني مروان و دعا إلى نفسه و أطاعه أهل البصرة و الأهواز و واسط و خرج في مائة و عشرين ألفا. فندب له يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة فوافقه بالعقر من أرض بابل فأجلت الحرب عن قتله. (عن «معجم البلدان» لياقوت).
2- كذا في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (ج 1 ص 618). و في الأصول: «بالدمن» و هو تحريف. و الطف: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، فيها كان مقتل الحسين بن علي رضي اللّه عنه.
3- يعني أنه من شيعة أبي تراب، و هو لقب علي بن أبي طالب كما أسلفنا.
4- في ج: «عن أبي عوف عن عوانة».
5- في الأصول: «فرش مالك». و التصويب عن «القاموس» و «شرحه». و فرش ملل: واد بين عميس الحمائم و صخيرات الثمامة بالقرب من ملل قرب المدينة، يقال له الفرش و فرش ملل، أضيف إلى ملل لقربه منه. و هذه كلها مواضع نزلها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين مسيره إلى بدر. راجع «القاموس و شرحه» مادة فرش و «معجم البلدان» لياقوت في الكلام عن فرش).

/

أبت إبلي ماء الرّداة(1) و شفّها *** بنو العمّ يحمون النّضيح(2) المبرّدا

و ما يمنعون الماء إلاّ ضنانة *** بأصلاب عسرى(3) شوكها قد تخدّدا

فعادت فلم تجهد على فضل مائه *** رياحا و لا سقيا ابن طلق بن أسعدا

قال: و يروى أنّه أوّل شعر قاله.

روايته عن بدء قوله الشعر:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي قال:

قال كثيّر: ما قلت الشعر حتى قوّلته. قيل له: و كيف ذاك؟ قال: بينا أنا يوما نصف النهار أسير على بعير لي بالغميم(4) أو بقاع حمدان(5)، إذا راكب قد دنا منّي حتى صار إلى جنبي، فتأمّلته فإذا هو من صفر(6) و هو يجرّ نفسه في الأرض جرا. فقال لي: قل الشعر و ألقاه عليّ. قلت: من أنت؟ قال: أنا قرينك من الجنّ. فقلت الشعر.

عزة عشيقته و أول عشقه لها:

و نسب كثيّر لكثرة تشبيبه بعزّة الضّمريّة إليها، و عرف بها فقيل(7) كثيّر عزّة. و هي عزّة بنت حميل(8) بن وقّاص. أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن الحسن قال:

أبو بصرة(8) الغفاريّ المحدّث و اسمه حميل بن وقّاص هو أبو عزّة التي كان ينسب بها كثيّر. و كان ابتداء عشقه إيّاها - على أنه قد قيل: إنه كان في ذلك/كاذبا و لم يكن بعاشق، و ذلك يذكر بعد خبره معها - فيما أخبرني به الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم/السعديّ قال حدّثني إبراهيم بن يعقوب بن جميع الخزاعيّ:

أنه كان أوّل عشق كثيّر عزّة أن كثيّرا مرّ بنسوة من بني ضمرة و معه جلب غنم، فأرسلن إليه عزّة و هي صغيرة، فقالت: يقلن(9) لك النسوة: بعنا كبشا من هذه الغنم و أنسئنا بثمنه إلى أن ترجع، فأعطاها كبشا و أعجبته. فلما رجع جاءته امرأة منهنّ بدراهمه، فقال: و أين الصبيّة التي أخذت منّي الكبش؟ قالت: و ما تصنع بها! هذه دراهمك. قال:

لا آخذ دراهمي إلاّ ممن دفعت الكبش إليها. و خرج و هو يقول:

قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه *** و عزّة ممطول معنى غريمها

قال: فكان أوّل لقائه إياها.

ص: 19


1- الرداة: الصخرة.
2- النضيح: الحوض. و في الأصول: «النصيح» بالصاد المهملة و هو تصحيف.
3- العسرى (بفتح العين و ضمها): البقلة إذا يبست. و رواية «لسان العرب» (مادة عسر): «بأطراف عسرى».
4- الغميم: موضع قرب المدينة بين رابغ و الجحفة.
5- ظاهر أنه موضع بعينه.
6- الصفر: النحاس.
7- عبارة أ، م: «و نسب كثير إلى عزة لكثرة تشبيبه بعزة الضمرية و غزله فيها فقيل... إلخ».
8- اختلف في اسم أبي بصرة هذا فقيل: هو حميل (بالحاء المهملة مصغرا) و قيل جميل (بالجيم) و كل ذلك مضبوط محفوظ. و هو أبو بصرة حميل (أو جميل) بن بصرة بن وقاص بن حبيب بن غفار؛ له صحبة برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و روي عنه أبو هريرة. في الأصول: «حميد بن وقاص» و هو تحريف. (راجع «الاستيعاب في معرفة الأنساب»).
9- إثبات نون النسوة هنا لغة ضعيفة.

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني عبد الرحمن بن الخضر(1) بن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن أبي جندل(2) عن أبيه عبد العزيز الخزاعيّ - و أمّه جمعة بنت كثيّر - عن أمه جمعة عن أبيها كثيّر:

أنّ أوّل علاقته بعزّة أنه خرج من منزله يسوق خلف(3) غنم إلى الجار(4)، فلما كان بالخبت وقف على نسوة من بني ضمرة فسألهنّ عن الماء، فقلن لعزّة و هي جارية/حين كعب ثدياها: أرشديه إلى الماء، فأرشدته و أعجبته.

فبينا هو يسقى غنمه إذ جاءته عزّة بدراهم، فقالت: يقلن لك النسوة: بعنا بهذه الدراهم كبشا من ضأنك: فأمر الغلام فدفع إليها كبشا، و قال: ردّي الدراهم و قولي لهنّ: إذا رحت بكنّ اقتضيت حقي. فلما راح مرّ بهنّ، فقلن له: هذا حقّك فخذه. فقال: عزّة غريمي(5)، و لست أقتضي حقّي إلاّ منها. فمزحن معه و قلن: ويحك! عزّة جارية صغيرة و ليس فيها وفاء لحقّك فأحله على إحدانا فإنها أملأ به منها و أسرع له أداء. فقال: ما أنا بمحيل حقّي عنها.

و مضى لوجهه، ثم رجع إليهنّ حين فرغ من بيع جلبه فأنشدهنّ فيها:

نظرت إليها نظرة و هي عاتق *** على حين أن شبّت و بان نهودها

و قد درّعوها و هي ذات مؤصّد *** مجوب و لمّا يلبس الدّرع ريدها(6)

من الخفرات البيض ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

في هذا البيت و أبيات أخر معه غناء يذكر بعد تمام هذا الخبر و ما يضاف إليه من جنسه. و أنشدهنّ أيضا:

قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه *** و عزّة ممطول معنى غريمها

فقلن له: أبيت إلاّ عزّة! و أبرزنها إليه و هي كارهة. ثم أحبّته عزّة بعد ذلك أشدّ من حبّه إيّاها. قال الزّبير: فسألت محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الخزاعيّ المعروف بأبي جندل عن هذا الحديث، فعرفه و حدّثنيه عن أبيه عن جدّه عبد العزيز بن أبي جندل عن أمه جمعة بنت كثيّر عن أبيها.

سؤال عبد الملك لعزة عن كثير و سبب إعجابه بها:

و أخبرني عمي الحسن بن محمد الأصفهاني رحمه اللّه قال حدّثني محمد بن سعد الكرانيّ قال حدّثنا النّضر بن عمرو قال حدّثني عمر بن عبد اللّه بن خالد المعيطيّ، و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثني إبراهيم بن إسحاق الطّلحيّ، و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا/الزّبير قال حدّثني يعقوب بن عبد اللّه الأسديّ و غيره، قال الزبير و حدّثني محمد بن صالح الأسلميّ قال:

ص: 20


1- لعله: «عن أبي بكر بن عبد العزيز» إلخ.
2- في الأصول: «عبد الرحمن بن جندل». و قد أصلحناه مما يأتي في الصفحة التالية.
3- يحتمل أن يكون: «يسوق جلب غنم».
4- الجار: موضع على ثلاث مراحل من المدينة بساحل البحر. و الخبث في الأصل: المطمئن من الأرض فيه رمل، أو هو الوادي العميق الوطيء ينبت ضروب العضاء، و اسم لعدة مواضع.
5- في الأصول: «غريمتي». و فعيل بمعنى مفعول إذا ذكر موصوفه يستوي فيه المذكر و المؤنث.
6- المؤصد: صدار تلبسه الجارية (الفتاة الصغيرة) فإذا أدركت درّعت. و المجوب: الذي جعل له جيب. وريدها: تربها و ندها. و الأصل في «الرئد» بالهمز.

دخلت عزّة على عبد الملك بن مروان و قد عجزت، فقال لها أنت عزّة كثير! فقالت: أبا عزّة بنت حميل.

قال: أنت التي يقول لك كثيّر:

لعزّة نار ما تبوخ(1) كأنها *** إذا ما رمقناها من البعد كوكب

فما الذي أعجبه منك؟ قالت: كلاّ يا أمير المؤمنين! فو اللّه لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرّة. و في حديث محمد بن صالح الأسلميّ: فقالت له: أعجبه منّي ما أعجب المسلمين منك حين صيّروك خليفة. قال:

و كانت له سنّ سوداء يخفيها، فضحك حتى بدت. فقالت له: هذا الذي أردت أن أبديه. فقال لها: هل تروين قول كثيّر فيك:

و قد زعمت أنّي تغيّرت بعدها *** و من ذا الّذي يا عزّ لا يتغيّر

تغيّر جسمي و الخليفة كالّتي *** عهدت و لم يخبر بسرّك مخبر

قالت [لا(2)!] و لكني أروي قوله:

كأنّي أنادي صخرة حين أعرضت *** من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت

صفوحا(3) فما تلقاك إلاّ بخيلة *** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت

فأمر بها فأدخلت على عاتكة بنت يزيد - و في غير هذه الرواية: أنها أدخلت على أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان - فقالت لها: أ رأيت قول كثيّر:

/

قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه *** و عزّة ممطول معنى غريمها

ما هذا الذي ذكره؟ قالت: قبلة وعدته إياها. قالت: أنجزيها و عليّ إثمها.

قصة غلام له مع عزة و إعتاقه بسبب ذلك:

أخبرنا الحسن بن الطيّب البجليّ الشّجاعيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال روى ابن جعدبة عن أشياخه، و أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أبو بكر بن يزيد بن عياض بن جعدبة عن أبيه.

أنّ كثيّرا كان له غلام تاجر، فباع من عزّة بعض سلعه و مطلته مدّة و هو لا يعرفها. فقال لها يوما: أنت و اللّه كما قال مولاي:

قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه *** و عزّة ممطول معنى غريمها

فانصرف عنه خجلة. فقالت له امرأة: أ تعرف عزّة؟ قال: لا و اللّه!. قالت: فهذه و اللّه عزّة. فقال: لا جرم و اللّه لا آخذ منها شيئا أبدا و لا أقتضيها. و رجع إلى كثيّر فأخبره بذلك، فأعتقه و وهب له المال الذي كان في يده.

ص: 21


1- تبوخ: تسكن.
2- هذه الكلمة ساقطة من ب، س.
3- صفوحا: معرضة صادّة.
لقيت قسيمة بنت عياض عزة و وصفتها:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني يعقوب بن حكيم السّلميّ عن قسيمة بنت عياض بن سعيد الأسلميّة، و كنيتها أمّ البنين، قالت:

سارت علينا عزّة في جماعة من قومها بين يدي يربوع و جهينة، فسمعنا بها، فاجتمعت جماعة من نساء الحاضر أنا فيهن، فجئناها فرأينا امرأة حلوة حميراء(1) نظيفة، فتضاءلنا لها، و معها نسوة كلهن لها عليهن فضل من الجمال و الخلق، إلى أن تحدّثت ساعة فإذا هي أبرع الناس و أحلاهم حديثا، فما فارقناها إلاّ و لها علينا الفضل/في أعيننا، و ما نرى في الدّنيا امرأة تروقها(2) جمالا و حسنا و حلاوة.

سأل عبد الملك كثيّرا عن أعجب خبر له مع عزة فذكر له ملاقاتها له مع زوجها إذ أمرها بشتمه:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق الموصليّ عن أبي نصر (شيخ له) عن الهيثم بن عدي:

أنّ عبد الملك سأل كثيّرا عن أعجب خبر له مع عزّة، فقال:

حججت سنة من السنين و حج زوج عزة بها، و لم يعلم أحد منّا بصاحبه. فلمّا كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن تصلح به طعاما لأهل رفقته، فجعلت تدور الخيام(3) خيمة خيمة حتى دخلت إليّ و هي لا تعلم أنها خيمتي، و كنت أبري أسهما لي. فلما رأيتها جعلت أبري و أنا انظر إليها و لا أعلم حتى بريت عظامي مرّات و لا أشعر به و الدم يجري. فلما تبيّنت ذلك دخلت إليّ فأمسكت يدي و جعلت تمسح الدم عنها بثوبها، و كان عندي نحي(4)من سمن، فحلفت لتأخذنّه، فأخذته و جاءت إلى زوجها بالسمن. فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته، حتى حلف لتصدقنّه فصدقته، فضربها و حلف لتشتمنّي في وجهي. فوقفت عليّ و هو معها فقالت لي: يا ابن الزانية و هي تبكي، ثم انصرفا. فذلك حين أقول:

يكلّفها الخنزير شتمي و ما بها *** هواني و لكن للمليك استذلّت

نسبة ما في هذه القصيدة من الغناء:

صوت

خليليّ هذا رسم(5) عزّة فاعقلا *** قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلّت

و ما كنت أدري قبل عزّة ما البكا *** و لا موجعات القلب(6) حتّى تولّت

/فليت قلوصي عند عزّة قيّدت *** بحبل ضعيف بان منها فضلّت

و أصبح في القوم المقيمين رحلها *** و كان لها باغ سواي فبلّت(7)

ص: 22


1- أي بيضاء. و العرب يقولون الأحمر و الحمراء في نعت الآدميين و يريدون الأبيض و البيضاء.
2- لعله: «تفوقها».
3- نصب «الخيام» إما على حذف حرف الجر، و إما على تضمين «تدور» معنى تجوز المتعدّي.
4- النحى: زق للسمن.
5- في «كتاب الشعر و الشعراء»: «ربع عزة».
6- في ج و «كتاب الشعر و الشعراء»: «موجعات الحزن».
7- يقال: بلت مطيته على وجهها إذا ذهبت في الأرض ضالة.

فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة *** إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت

أسيئي بنا أو أحسني، لا ملومة *** لدينا و لا مقليّة إن تقلّت(1)

هنيئا مريئا غير داء مخامر *** لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

تمنّيتها حتّى إذا ما رأيتها *** رأيت المنايا شرّعا قد أظلّت

كأنّي أنادي صخرة حين أعرضت *** من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت

صفوحا فما تلقاك إلاّ بخيلة *** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت

أصاب الرّدى أن كان يهوى لك الرّدى *** و جنّ اللواتي قلن عزّة جنّت

عروضه من الطويل. غنّى معبد في الخمسة الأول ثقيلا أوّل بالوسطى. و غنى إبراهيم في الثالث و الرابع ثقيلا أوّل بالبنصر عن عمرو، و غنّى في «هنيئا مريئا» و الذي بعده خفيف رمل بالوسطى. و غنّى إبراهيم في الخامس و ما بعده ثاني ثقيل. و ذكر الهشاميّ أنّ لابن سريج في «هنيئا مريئا» و ما بعده ثاني ثقيل بالبنصر. و ذكر أحمد بن المكيّ أن لإبراهيم في «كأني أنادي» و الذي بعده و في «أسيئي بنا أو أحسني» هزجا بالسبّابة في مجرى البنصر، و لإسحاق فيه هزج آخر به(2). و لعريب في «كأني أنادي» أيضا رمل. و لإسحاق في «و ما كنت/أدري» ثقيل أوّل. و له في «أصاب الردى» ثقيل أوّل آخر، و قيل: إن لإبراهيم في «فقلت لها يا عزّ» خفيف ثقيل ينسب إلى دحمان و إلى سياط.

اجتمعا ذات ليلة و وصف ذلك صديق له:

أخبرني الحرميّ و حبيب بن نصر قالا حدّثنا الزّبير قال حدّثنا يعقوب بن حكيم عن إبراهيم بن أبي عمرو الجهنيّ عن أبيه قال:

سارت علينا عزّة في جماعة من قومها، فنزلت حيالنا. فجاءني كثيّر ذات يوم فقال لي: أريد أن أكون عندك اليوم فأذهب إلى عزّة، فصرت به إلى منزلي. فأقام عندي حتى كان العشاء، ثم أرسلني إليها و أعطاني خاتمه و قال:

إذا سلّمت فستخرج إليك جارية، فادفع إليها خاتمي و أعلمها مكاني. فجئت بيتها فسلّمت فخرجت إليّ الجارية فأعطيتها الخاتم. فقالت: أين الموعد؟ قلت: صخرات أبي عبيد الليلة، فواعدتها هناك، فرجعت إليه فأعلمته.

فلما أمسى قال لي: انهض بنا، فنهضنا(3) فجلسنا هناك نتحدّث حتى جاءت من الليل فجلست فتحدّثا فأطالا، فذهبت لأقوم. فقال لي: إلى أين تذهب؟ فقلت: أخلّيكما ساعة لعلكما تتحدّثان ببعض ما تكتمان. قال لي:

اجلس! فو اللّه ما كان بيننا شيء قطّ. فجلست و هما يتحدّثان و إنّ بينهما لثمامة(4) عظيمة هي من ورائها جالسة حتى أسحرنا، ثم قامت فانصرفت، و قمت أنا و هو، فظلّ عندي حتى أمسى ثم انطلق.

سامته سكينة بجمله فلما رأى عزة معها تركه لهم:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد اللّه بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي قال:

ص: 23


1- تقلى: تبغض. أي لا هي ملومة لدينا و لا مقلية إن تقلت أي تبغضت. خاطبها أوّلا ثم غائب أي ذكرها بضمير الغيبة.
2- لعله: «بها» أي بالسبابة في مجرى البنصر.
3- في ج: «فمضينا».
4- كذا في «تجريد الأغاني» و الثمام: نبت ضعيف شبيه بالخوص. و في الأصول: «لهامة» و هو تحريف.

خرج كثيّر في الحاجّ بجمل له يبيعه، فمرّ بسكينة بنت الحسين و معها عزّة و هو لا يعرفها. فقالت سكينة: هذا كثيّر فسوموه بالجمل، فساموه فاستام مائتي درهم فقالت: ضع عنّا فأبى. فدعت له بتمر و زبد فأكل، ثم قالت له:

ضع عنا كذا و كذا (لشيء يسير) فأبى. فقالوا: قد أكلت يا كثيّر بأكثر مما نسألك! فقال:

/ما أنا بواضع شيئا. فقالت سكينة: اكشفوا، فكشفوا عنها و عن عزّة. فلما رآهما استحيا و انصرف و هو يقول: هو لكم هو لكم!.

قال بعض الرواة إنه لم يكن صادقا في عشقه:

من ذكر أن كثيّرا كان يكذب في عشقه:

أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا ابن سلاّم قال:

كان كثيّر مدّعيا و لم يكن عاشقا، و كان جميل صادق الصّبابة و العشق.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال(1) زعم إسحاق بن إبراهيم أنه سمع أبا عبيدة يقول: كان جميل يصدق في حبه، و كان كثيّر يكذب.

و مما وجدناه في أخباره و لم نسمعه من أحد أنه نظر إلى عزّة ذات يوم و هي منتقبة تميس في مشيتها، فلم يعرفها كثيّر، فاتّبعها و قال: يا سيّدتي! قفي حتّى أكلّمك فإني لم أر مثلك قطّ، فمن أنت ويحك؟ قالت: ويحك! و هل تركت عزّة فيك بقيّة لأحد؟ قال: بأبي أنت! و اللّه لو أنّ عزّة أمة لي لوهبتها لك.

قالت: فهل لك في المخاللة؟ قال: و كيف لي بذلك؟ قالت: أنّي و كيف بما قلت في عزّة؟! قال: أقلبه فأحوّله إليك. فسفرت عن وجهها ثم قالت: أ غدرا يا فاسق و إنك لهكذا! فأبلس(2) و لم ينطق و بهت. فلما مضت أنشأ يقول:

ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي *** من السمّ جدحات(3) بماء الذّرارح

فمتّ و لم تعلم عليّ خيانة *** و كم طالب للريح ليس برابح

/أبوء بذنبي إنني قد ظلمتها *** و إني بباقي سرّها غير بائح

لقي عزة في طريقه إلى مصر و تعاتبا:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عمر بن شبّة قال زعم ابن الكلبيّ عن أبي المقوّم قال أخبرني سائب راوية كثيّر قال:

خرجت معه نريد مصر، فمررنا بالماء الذي فيه عزّة فإذا هي في خباء، فسلّمنا جميعا، فقالت عزة: و عليك السلام يا سائب. ثم أقبلت على كثيّر فقالت: ويحك! أ لا تتّقي اللّه! أ رأيت قولك:

بآية ما أتيتك أمّ عمرو *** فقمت لحاجتي و البيت خالي

ص: 24


1- في ج: «زعم لي إسحاق بن إبراهيم... إلخ».
2- أبلس: سكت و تحير.
3- في ب، س: «بخضخاض». و في سائر الأصول: «بخدخاد». و التصويب عن «تجريد الأغاني». و الجدحة اللتة؛ يقال: جدح السويق: إذالته. و الذرارح: دويبات أعظم من الذباب شيئا مجزعة مبرقشة بحمرة و سواد و صفرة لها أجنحة تطير بها و هي سم قاتل.

أ خلوت معك في بيت أو غير بيت قطّ؟! قال. لم أقله، و لكنني قلت:

فأقسم لو أتيت البحر يوما *** لأشرب ما سقتني من بلال

و أقسم إنّ حبّك أمّ عمرو *** لداء عند(1) منقطع السّعال

قالت: أمّا هذا فنعم. فأتينا عبد العزيز(2) ثم عدنا، فقال كثيّر: عليك السلام يا عزّة قالت: عليك السلام يا جمل.

فقال كثيّر.

صوت

حيتك عزّة بعد الهجر فانصرفت *** فحيّ وحيك من حيّاك يا جمل

لو كنت حيّيتها ما زلت ذا مقة(3) *** عندي و ما مسّك الإدلاج و العمل

ليت التحيّة كانت لي فأشكرها *** مكان يا جمل حيّيت يا رجل

ذكر يونس أنّ في هذه الأبيات غناء لمعبد. و ذكر الهشاميّ أن فيها لبثينة خفيف رمل بالبنصر. و ذكر حبش أنّ فيها للغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى.

قصته مع أم الحويرث الخزاعية و حديث عشقه لها:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني عليّ بن محمد البرمكيّ قال حدّثني إبراهيم بن المهديّ قال:

قدم عليّ هشام بن محمد الكلبيّ فسألته عن العشّاق يوما فحدّثني قال: تعشّق كثيّر امرأة من خزاعة يقال لها أمّ الحويرث فنسب بها، و كرهت أن يسمّع بها و يفضحها كما سمّع بعزّة، فقالت له: إنك رجل فقير لا مال لك، فابتغ ما لا يعفّى(4) عليك ثم تعال فاخطبني كما يخطب الكرام. قال: فاحلفي لي و وثّقي أنّك لا تتزوّجين حتى أقدم عليك، فحلفت و وثّقت له. فمدح عبد الرحمن بن إبريق(5) الأزديّ، فخرج إليه، فلقيته ظباء سوانح و لقي غرابا يفحص التراب بوجهه، فتطيّر من ذلك حتى قدم على حيّ من لهب(6) فقال: أيّكم يزجر؟ فقالوا: كلّنا، فمن تريد؟ قال: أعلمكم بذاك. قالوا: ذاك الشيخ المنحني الصّلب. فأتاه فقصّ عليه القصة، فكره ذلك له و قال له: قد توفّيت أو تزوجت رجلا من بني عمّها. فأنشأ يقول:

صوت

تيمّمت لهبا أبتغى العلم عندهم *** و قد ردّ علم العائفين إلى لهب

ص: 25


1- كذا في «تجريد الأغاني». و يعني بمنقطع السعال: الصدر. و قد ورد هذا الشعر في كتاب «الشعر و الشعراء» هكذا: «لدى جنبي و منقطع السعال». و في الأصول: «لداء عند منقطع السؤال» و هو تحريف.
2- يريد عبد العزيز بن مروان والي مصر من قبل أخيه عبد الملك بن مروان.
3- المقة: المحبة.
4- أي يصلحك و يحل الغنى منك محل الفقر.
5- في «تجريد الأغاني»: «عبد الرحمن بن الأبرش الأزدي».
6- لهب: قبيلة من اليمن معروفة بالعيافة و زجر الطير.

تيمّمت شيخا منهم ذا بجالة(1) *** بصيرا بزجر الطير منحنى الصّلب

فقلت له ما ذا ترى في سوانح *** و صوت غراب يفحص الوجه بالتّرب

/فقال جرى الطير السّنيح ببينها *** و قال غراب جدّ منهمر السّكب

فإلاّ تكن ماتت فقد حال دونها *** سواك خليل باطن من بني كعب

- غنّاه مالك من رواية يونس و لم يجنّسه - قال: فمدح الرجل الأزديّ ثم أتاه فأصاب منه خيرا كثيرا، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوجت رجلا من بني كعب، /فأخذه الهلاس(2)، فكشح(3) جنباه بالنار. فلما اندمل(4) من علّته وضع يده على ظهره فإذا هو برقمتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: إنه أخذك الهلاس و زعم الأطبّاء أنه لا علاج لك إلاّ الكشح بالنار فكشحت بالنار. فأنشأ يقول:

صوت

عفا اللّه عن أمّ الحويرث ذنبها *** علام تعنّيني و تكمي(5) دوائيا

فلو آذنوني(6) قبل أن يرقموا بها *** لقلت لهم أمّ الحويرث دائيا

- في هذين البيتين لمالك ثقيل أوّل بالوسطى. و لابن سريج رمل بالبنصر كلاهما عن عمرو و الهشاميّ. و قيل:

إن فيهما لمعبد لحنا - و قد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة و لم يتجاوزاه بالرواية فذكر نحو هذا و قال فيه: إنه قصد ابن الأزرق بن حفص بن المغيرة المخزوميّ الذي كان باليمن، و إنه فعل ذلك بعد موت عزّة. و سائر الخبر متقارب.

سأله ابن جعفر عن سبب هزاله فأجابه:

و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن إسماعيل الجعفريّ عن محمد بن سليمان بن فليح أو فليح بن سليمان - أنا شككت - عن أبيه عن جدّه قال:

جاء كثيّر إلى عبد اللّه بن جعفر و قد نحل و تغيّر. فقال له عبد اللّه: ما لي أراك متغيرا يا أبا صخر؟ قال: هذا ما عملت بي أمّ الحويرث، ثم ألقى قميصه فإذا به قد صار مثل القشّ و إذا به آثار من كيّ، ثم أنشده:

عفا اللّه عن أمّ الحويرث ذنبها

الأبيات.

ص: 26


1- ذا بجالة: يبجله الناس و يعظمونه.
2- الهلاس: داء يهزل الجسم أو هو السل.
3- الكشح: الكيّ بالنار.
4- أي تماثل و تراجع للبرء.
5- تكمي: تستر.
6- كذا في «تجريد الأغاني»: و في الأصول: «و لو لا ذنوبي» و هو تحريف.
أغرت عزة به بثينة لتتبين حاله:

أخبرني عمّي قال حدّثني ابن أبيّ قال حدّثني الحزاميّ عمن حدّثه من أهل قديد(1):

أنّ عزّة قالت لبثينة: تصدّي لكثيّر و أطمعيه في نفسك حتى أسمع ما يجيبك به. فأقبلت إليه و عزّة تمشي وراءها مختفية، فعرضت عليه الوصل، فقاربها ثم قال:

رمتني على عمد بثينة بعد ما *** تولّى شبابي و ارججنّ(2) شبابها

و ذكر أبياتا(3) أخر سقط من الكتّاب ذكرها. فكشفت عزّة عن وجهها، فبادرها الكلام ثم قال:

و لكنّما ترمين نفسا مريضة *** لعزّة منها صفوها و لبابها

فضحكت ثم قالت: أولى لك بها قد نجوت، و انصرفتا تتضاحكان.

قال لأهله إذ بكوا في مرضه سأرجع بعد أيام:

أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهري قال:

بكى بعض أهل كثيّر عليه حين نزل به الموت. فقال له كثيّر: لا بتك، فكأنّك بي بعد أربعين ليلة تسمع خشفة(4) نعلى من تلك الشّعبة راجعا إليكم.

مات هو و عكرمة في يوم واحد سنة 105:

أخبرني الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثني ابن جعدبة و أبو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال:

مات كثيّر و عكرمة مولى ابن عبّاس في يوم واحد، فاجتمعت قريش في جنازة كثيّر، و لم يوجد لعكرمة من يحمله.

/أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمر بن مصعب قال/حدّثني الواقديّ قال حدّثني خالد بن القاسم البياضيّ قال:

مات عكرمة مولى ابن عبّاس و كثيّر بن عبد الرحمن الخزاعيّ صاحب عزّة في يوم واحد في سنة خمس و مائة، فرأيتهما جميعا صلّى عليهما في يوم واحد بعد الظهر في موضع الجنائز، فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس و أشعر الناس.

ما جرى في جنازته بين أبي جعفر الباقر و زينب بنت معيقب:

و قال ابن أبي سعد الورّاق حدّثني رجاء بن سهل أبو نصر الصاغانيّ قال حدّثنا يحيى بن غيلان قال حدّثني المفضّل بن فضالة عن يزيد بن عروة قال:

ص: 27


1- قديد: اسم موضع قرب مكة.
2- أرججن شبابها: يريد اهتز نضارة و حسنا.
3- في ج: «و ذكر بيتا آخر سقط من الكتاب».
4- خشفة النعل: صوتها.

مات عكرمة و كثيّر عزّة في يوم واحد، فأخرجت جنازتاهما، فما علمت تخلّفت امرأة بالمدينة و لا رجل عن جنازتيهما. قال: و قيل مات اليوم أشعر الناس و أعلم الناس. قال: و غلب النساء على جنازة كثيّر يبكينه و يذكرن عزّة في ندبتهنّ له. قال: فقال أبو جعفر محمد(1) بن عليّ: افرجوا لى عن جنازة كثيّر لأرفعها. قال: فجعلنا ندفع عنها النساء و جعل يضربهنّ محمد بن عليّ بكمّه و يقول: تنحّين يا صواحبات يوسف. فانتدبت له امرأة منهنّ فقالت:

يا ابن رسول اللّه لقد صدقت، إنّا لصواحبات يوسف و قد كنّا له خيرا منكم له. قال: فقال أبو جعفر لبعض مواليه:

احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا. قال: فلما انصرف أتى بتلك المرأة كأنها شرارة النار. فقال لها محمد بن عليّ: أنت القائلة إنّكن ليوسف خير منّا؟ قال: نعم! تؤمنني غضبك يا ابن رسول اللّه؟ قال: أنت آمنة من غضبي فأبيني. قالت: نحن يا ابن رسول اللّه دعوناه إلى اللذّات من المطعم/و المشرب و التمتّع و التنعّم، و أنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجبّ و بعتموه بأبخس الأثمان و حبستموه في السّجن. فأيّنا كان عليه أحنى و به(2) أرأف؟! فقال محمد: للّه درّك! و لن تغالب امرأة إلاّ غلبت. ثم قال لها: أ لك بعل؟ قالت: لي من الرجال من أنا بعله. قال: فقال أبو جعفر: صدقت، مثلك من تملك بعلها و لا يملكها. قال: فلما انصرفت قال رجل من القوم: هذه زينب بنت معيقب(3).

نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء:
صوت

نظرت إليها نظرة و هي عاتق *** على حين أن شبّت و بان نهودها

نظرت إليها نظرة ما يسّرني *** بها حمر أنعام البلاد و سودها

و كنت إذا ما جئت سعدى بأرضها *** أرى الأرض تطوى لي و يدنو بعيدها

من الخفرات البيض ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

عروضه من الطويل. البيت الأول لكثيّر، و الثاني و الثالث لنصيب من قصيدته التي أوّلها:

لقد هجرت سعدى و طال صدودها غنّى في البيت الثاني و الثالث جحدر الراعي خفيف رمل بالبنصر. و غنّى فيهما الهذليّ رملا بالوسطى. و غنّى في الثالث و الرابع دعامة ثقيلا أوّل بالبنصر.

عمر الوادي يأخذ صوتا عن راعي غنم في شعر له:

أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: قال عمر الواديّ، و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني مكين العذريّ قال:

/سمعت عمر الواديّ يقول: بينا أنا أسير بين الرّوحاء و العرج إذ سمعت إنسانا يغنّي غناء لم أسمع/قطّ مثله في بيتي كثيّر:

ص: 28


1- هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو جعفر المدني المعروف بالباقر توفي سنة 114 ه.
2- في الأصول: «فأينا كان به أحنى و عليه أرأف». و التصويب عن «تجريد الأغاني».
3- في ج: «معيقيب».

و كنت إذا ما جئت سعدى بأرضها *** أرى الأرض تطوى لي و يدنو بعيدها

من الخفرات البيض ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

قال: فكدت أسقط عن راحلتي طربا، و قلت: و اللّه لألتمسنّ الوصول إلى هذا الصوت و لو بذهاب عضو من أعضائي، فتيمّمت سمته(1) فإذا راع في غنم، فسألته إعادته عليّ. قال: نعم! و لو حضرني قرى أقريكه ما أعدته، و لكنّي أجعله قراك، فربما ترنّمت به و أنا غرثان فأشبع، و عطشان فأروى، و مستوحش فآنس، و كسلان فأنشط.

قال: فأعادهما عليّ حتى أخذتهما، فما كان زادي حتى و لجت المدينة غيرهما.

ص: 29


1- سمته: ناحيته و جهته.

2 - أخبار عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر

كان عالما و مغنيا و نسب غناءه لجاريته شاجي ترفعا:

هو عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين، و يكنى أبا أحمد. و له محلّ من الأدب و التصرّف في فنونه و رواية الشعر و قوله و العلم باللغة و أيّام الناس و علوم الأوائل من الفلاسفة في الموسيقى و الهندسة و غير ذلك مما يجلّ عن الوصف و يكثر ذكره. و له صنعة في الغناء حسنة متقنة عجيبة تدلّ على ما ذكرناه هاهنا من توصّله إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النّغم كلّها في صوت واحد تتبّعه هو و أتى به على فضله فيها و طلبه لها. و كان المعتضد باللّه، رحمة اللّه عليه، ربما كان أراد أن يصنع في بعض الأشعار غناء و بحضرته أكابر المغنّين مثل القاسم بن زرزور و أحمد بن المكيّ و من دونهما مثل أحمد بن أبي العلاء و طبقتهم، فيعدل عنهم إليه فيصنع فيها أحسن صنعة، و يترفّع عن إظهار نفسه بذلك، و يومئ إلى أنه من صنعة جاريته شاجي(1)، و كانت إحدى المحسنات المبرّزات المقدّمات؛ و ذلك بتخريجه و تأديبه، و كان بها معجبا و لها مقدّما.

كان المعتضد يتفقده لما رقت حاله و طلب منه جاريته ليسمع غناءها فأرسلها له:

فأخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال: لمّا اختلت حال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر كان المعتضد يتفقّده بالصّلات الفينة بعد الفينة. و اتّفق يوما كان فيه مصطبحا أن غنّي بصوت الصنعة فيه لشاجي جارية عبيد اللّه؛ فكتب إليه كتابا يقسم أن يأمرها بزيارته ففعل. قال: فحدّثني من حضر من المغنّيات ذلك المجلس بعد موت المعتضد قالت: دخلت إلينا و ما منّا إلاّ من يرفل في الحليّ و الحلل و هي في أثواب ليست كثيابنا، فاحتقرناها؛ فلمّا غنّت احتقرنا أنفسنا. و لم تزل تلك حالنا حتى صارت في أعيننا كالجبل و صرنا كلا شيء. قال: و لمّا انصرفت أمر لها /المعتضد بمال و كسوة. و دخلت إلى مولاها فجعل يسألها عن أمرها و ما رأت مما استظرفت و سمعت مما استغربت. فقالت: ما استحسنت هناك شيئا و لا استغربته من غناء و لا غيره إلا عودا من عود محفور(2) فإنّي استظرفته. قال جحظة: فما قولك فيمن يدخل دار الخلافة فلا يمدّ عينه لشيء يستحسنه فيها إلا عودا!.

كانت شاجي جاريته تلحن للمعتضد بعض الشعر:

قال محمد بن الحسن الكاتب و حدّثني النّوشجانيّ قال:

كان المعتضد إذا استحسن شعرا بعث به إلى شاجي جارية عبيد اللّه بن طاهر فتغنّى فيه. قال: و كانت صنعتها تسمّى في عصره غناء الدار.

ص: 30


1- في «نهاية الأرب» (ج 5 ص 66): «ساجي» بالسين المهملة.
2- كذا في أ، م و «نهاية الأرب». و في سائر الأصول: «مفحور» و هو تحريف.
ماتت شاجي فرثاها:

قال محمد بن الحسن: و ماتت شاجي في حياة/عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر و كان عليلا، فقال يرثيها - و له فيه صنعة من خفيف الثّقيل الأوّل بالوسطى -:

يمينا يقينا لو بليت بفقدها *** و بي نبض عرق للحياة أو النّكس

لأوشكت قتل النفس قبل فراقها *** و لكنها ماتت و قد ذهبت نفسي

له كتاب الآداب الرفيعة في الغناء:

و من نادر صنعة عبيد اللّه و جيّد شعره قوله - و له فيه لحنان ثقيل أوّل و هزج، و الثقيل الأوّل أجودهما -:

أنفق إذا أيسرت غير مقتّر *** و أنفق على ما خيلت حين تعسر

غير الجود يفنى المال و المال مقبل(1) *** و لا البخل يبقي المال و الجدّ مدبر

و أشعاره كثيرة جيّدة كثيرة النادر و المختار. و كتابه في النّغم و علل الأغاني المسمّى «كتاب الآداب الرفيعة» كتاب مشهور جليل الفائدة دالّ على فضل مؤلّفه.

قص عليه الزبير بن بكار قصة فاستحسنها و أمر له بمال:

أخبرني جحظة قال حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني موسى بن هارون، فيما أرى، قال:

/كنت عند عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر و قد جاءه الزّبير بن بكّار فأعلمه أن المتوكّل أو المعتزّ - و أراه المعتزّ - بعث إلى أخيه محمد بن عبد اللّه بن طاهر يأمر بإحضاره و تقليده القضاء. فقال له الزّبير بن بكّار: قد بلغت هذه السّنّ و أتولى القضاء! أ و بعد ما رويت أنّ من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكّين! فقال له: فتلحق بأمير المؤمنين بسرّمن رأى ، فقال له: أفعل. فأمر له بمال ينفقه، و بظهر يحمله و يحمل ثقله. ثم قال له: إن رأيت يا أبا عبد اللّه أن تفيدنا شيئا قبل أن نفترق! قال: نعم! انصرفت من عمرة المحرّم؛ فبينا أنا بأثاية(2) العرج، إذا أنا بجماعة مجتمعة، فأقبلت إليهم و إذا رجل كان يقنص الظباء و قد وقع ظبي في حبالته فذبحه، فانتفض في يده فضرب بقرنه صدره فنشب القرن فيه فمات. و أقبلت فتاة كأنها المهاة، فلما رأت زوجها ميّتا شهقت ثم قالت:

يا حسن لو بطل لكنّه أجل *** على الأثاية ما أودى به البطل

يا حسن جمّع أحشائي و أقلقها *** و ذاك يا حسن لو لا غيره جلل

أضحت فتاة نهد علانية *** و بعلها بين أيدي القوم محتمل

قال: ثم شهقت فماتت. فما رأيت أعجب من الثلاثة: الظبي مذبوح، و الرجل جريح ميت، و الفتاة ميتة [حرّى(3)].

ص: 31


1- الرواية المشهورة: «و الجد مقبل».
2- الأثاية: موضع في طريق الجحفة بينه و بين المدينة خمسة و عشرون فرسخا و هو بين الرويثة و العرج، مر به النبي صلى اللّه عليه و سلم في خرجة له إلى مكة و هو محرم. و رواه بعضهم «أثاثة» بثاء مثلثة أخرى كما ورد في الأصول، و رواه آخرون «أثانة» بالنون. و كلاهما خطأ. راجع «معجم البلدان» لياقوت و «معجم ما استعجم» للبكري.
3- زيادة عن ج.

فأمر له عبيد اللّه بمال آخر. ثم أقبل إلى أخيه محمد بن عبد اللّه بعد خروج الزبير فقال: أما إنّ الذي أخذناه من الفائدة في خبر حسن و في قولها(1):

أضحت فتاة بني نهد علانية

/ - تريد ظاهرة - أكثر عندي مما أعطيناه من الحباء و الصّلة. و قد أخبرني الحسين بن عليّ عن الدمشقيّ عن الزبير بخبر حسن فقط، و لم يذكر فيه من خبر عبيد اللّه شيئا.

و من الأصوات التي تجمع النّغم العشر:
صوت
لحنه في شعر ابن هرمة يجمع النغم العشر:

/و هو يجمع النّغم العشر كلّها على غير توال:

و إنّك إذا أطمعتني منك بالرّضا *** و أيأستني من بعد ذلك بالغضب

كممكنة من ضرعها كفّ حالب *** و دافقة من بعد ذلك ما حلب

عروضه من الطويل. الشعر لإبراهيم بن عليّ بن هرمة. و الغناء في هذا اللحن الجامع للنّغم لعبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها و عليها ابتدأ الصوت.

أثبت في كتابه نقد أبي نواس لشعر لابن هرمة و شعر لجرير:

و قال عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات حدّثني بعض أصحابنا عن أبي نواس أنه قال: شاعران قالا بيتين وضعا التشبيه فيهما في غير موضعه. فلو أخذ البيت الثاني من شعر أحدهما فجعل مع بيت الآخر، و أخذ بيت ذاك فجعل مع هذا لصار متّفقا معنى و تشبيها. فقلت له: أنّى ذلك؟ فقال: قول جرير للفرزدق:

فإنك إذ تهجو تميما و ترتشى *** تبابين(2) قيس أو سحوق العمائم

كمهريق ماء بالفلاة و غرّه *** سراب أذاعته رياح السّمائم

و قول ابن هرمة:

و إنّي و تركي ندى الأكرمين *** و قدحي بكفّيّ زندا(3) شحاحا

/كتاركة بيضها بالعراء *** و ملبسة بيض أخرى جناحا

فلو قال جرير:

فإنك إذ تهجو تميما و ترتشي *** تبابين قيس أو سحوق العمائم

ص: 32


1- في الأصول: «و في قوله». و التصويب عن «تجريد الأغاني».
2- التبابين: جمع تبان و هو سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط يكون للملاحين. و السحوق: جمع سحق، و هو الثوب الخلق البالي.
3- كذا في «أكثر الأصول و اللسان» مادة شح. و زند شحاح: لا يورى. و في ب، س، هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول: «زنادا شحاحا».

كتاركة بيضها بالعراء *** و ملبسة بيض أخرى جناحا

لكان أشبه منه ببيته. و لو قال ابن هرمة مع بيته:

و إني و تركي ندى الأكرمين *** و قدحي بكفّيّ زندا شحاحا

كمهريق ماء بالفلاة و غرّه *** سراب أذاعته رياح السمائم

كان أشبه به. ثم قال: و لكن ابن هرمة قد تلافى ذلك بعد فقال:

و إنك إذ أطمعتني منك بالرضا *** و أيأستني من بعد ذلك بالغضب

كممكنة من ضرعها كفّ حالب *** و دافقة من بعد ذلك ما حلب

و قد أتى عبيد اللّه بن عبد اللّه بهذا الكلام بعينه في «الآداب الرفيعة»(1). و إنما أخذه من أبي نواس على ما روي عنه.

و مما يجمع النغم العشر صوت ابن أبي مطر في شعر نصيب:
اشارة

و وجدت في كتاب مؤلّف في النّغم غير مسمّى الصانع: أنّ من الأصوات التي تجمع النّغم العشر صوت ابن أبي مطر المكيّ في شعر نصيب و هو:

صوت

ألا أيّها الرّبع المقيم بعنبب(2) *** سقتك السّوافي من مراح و معزب

بذي هيدب أمّا الرّبى تحت ودقه *** فتروى و أمّا كلّ واد فيزعب(3)

/عروضه من الطويل. و يروى «الربع الخلاء بعنبب» أي الخالي. و عنبب: موضع، و يروى «سقتك الغوادي من مراد». و المراد. الموضع الذي يرتاد فيرعى فيه الكلأ. و المراح: الموضع/الذي تروح إليه المواشي و تبيت فيه(4).

و في الحديث أنه رخّص في الصلاة في مراح الغنم و نهى عنها في أعطان الإبل. و المعزب: الموضع الذي يعزب فيه الرجل عن البيوت و المنازل. و أصل العزوب: البعد يقال عزب عنه رأيه و حلمه أي بعد، و العزب مأخوذ من ذلك.

و هيدب السماء أطراف(5) تراه في أذنابه كأنه معلّق به. قال أوس(6) بن حجر:

دان مسفّ فويق الأرض هيدبه *** يكاد يدفعه من قام بالراح

و يزعب: يطفح، يقال: زعبه السيل إذا ملأه(7). الشعر لنصيب يقوله في عبد العزيز بن مروان.

ص: 33


1- في الأصول هنا: «الآداب التسعة» و هو تحريف، و قد تقدّم اسم هذا الكتاب.
2- عنبب (بضم العين و سكون النون و ضم الباء الأولى كما رواه السكري، و في أمثلة سيبويه أنه بفتح الباء): موضع.
3- أورد صاحب «اللسان» هذا البيت في مادة «رعب» بالراء المهملة. و رعب و زعب بمعنى، يستعملان لازمين فيقال رعب الوادي أو زعب إذا تملأ، و متعديين فيقال رعب السيل الوادي أو زعبه إذا ملأه. و روي في البيت أيضا «فيروي» بضم الياء و كسر الواو، و بنصب «كل» على أن تكون «الربى» «و كل واد» مفعولين مقدمين. (راجع «اللسان» في مادة رعب).
4- هذا المعنى للمراح بضم الميم. و أما بفتحها فهو الموضع الذي يروح إليه القوم أو يروحون منه كالمغدي للموضع الذي يغدي منه أو إليه.
5- كذا في الأصول. و لعل صوابه: «أطراف تراها في أذنابه كأنها معلقة به». و المراد بالسماء السحاب.
6- لقد ورد في «اللسان» في مادتي «هدب و سف» أن هذا البيت يروى أيضا لعبيد بن الأبرص.
7- في الأصول: «إذا علاه» و التصويب عن «معاجم اللغة». و قول المؤلف «يطفح» تفسير لمعنى الفعل لازما. و قوله بعد ذلك: «يقال زعبه السيل إذا ملأه» تفسير لمعناه متعديا. فكان ينبغي أن يكون «و يقال... إلخ» بالواو للدلالة على أنه لازم و متعد.
وفد نصيب على عبد العزيز بن مروان و مدحه فأجازه:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني جميع بن عليّ النّميريّ عن عبد اللّه بن عبد العزيز بن محجن بن النّصيب، قال الزبير و كتب إليّ بذلك عبد اللّه بن عبد العزيز يذكره عن عوضة بنت النّصيب قالت:

وفد أبي على عبد العزيز بن مروان بمصر، فوقف على الباب فاستأذن فلم يؤذن له. فأرسل إليه حاجبه فقال:

استنشده، فإن كان شعره رديئا فاردده، و إن كان جيّدا/فأدخله. فقال نصيب: قد جلبنا شيئا للأمير، فإن قبله نشرناه عليه و إلاّ طويناه و رجعنا به. فقال عبد العزيز: إنّ هذا لكلام رجل ذهن، فأدخله. فلمّا واجهه أنشده قصيدته التي يقول فيها:

ألا هل أتى الصقر بن مروان أنّني *** أردّ لدي الأبواب عنه و أحجب

و أنّي ثويت اليوم و الأمس قبله *** على الباب حتى كادت الشمس تغرب

و أنّي إذا رمت الدخول تردّني *** مهابة قيس و الرّتاج المضبّب(1)

قال: و كان حاجب عبد العزيز يسمى قيسا. قال: و تشبيب هذه القصيدة:

ألا أيها الرّبع المقيم بعنبب *** سقتك السّواقي من مراح و معزب

قال: فلمّا دخل على عبد العزيز أعجب بشعره و أوجهه(2)، و قال للفرزدق: كيف تسمع هذا الشعر؟ قال: حسن إلاّ من لغته. قال: هذا و اللّه أشعر منك!. قال: و قال نصيب فيها أيضا:

و أهلي بأرض نازحون و ما لهم *** كاسب غيري و لا متقلّب

فهل تلحقنّيهم بعبل(3) مواشك *** على الأين من نجب ابن مروان أصهب

أبو بكرات إن أردت افتحاله *** و ذو ثبتات بالرّديفين متعب

فقال له عبد العزيز: أدخل على المهاري(4) فخذ منها ما شئت، فلو كنت سألت غيره لأعطيته. فدخل فردّه الجمّال.

فقال عبد العزيز: دعه فإنما يأخذ الذي نعت، فأخذه.

/قال الزّبير و حدّثني بعض أصحابنا عن محمد بن عبد العزيز قال:

نزل عبد العزيز بن عبد الوهّاب على المهدي بعنبب من وادي السّراة الذي عنى نصيب بقوله:

ألا أيها الرّبع الخلاء بعنبب

و المهدي(5) هو الذي يقول فيه الشاعر:

اسلمي يا دار من هند *** بالسّويقات إلى المهدي

ص: 34


1- رتاج مضبب: مجعولة له ضبة.
2- أوجهه: جعله وجيها و شرفه.
3- العبل: الضخم. و المواشك: السريع. و الأين: الإعياء و التعب. و في هذا البيت إقواء.
4- المهرية: إبل منسوبة إلى مهرة بن حيدان و هو أبو قبيلة.
5- الظاهر أنه اسم موضع و لم نقف عليه. (و سويقة): اسم لمواضع كثيرة. و لعل «السويقات» موضع بعينه.
صوت له يجمع ثماني نغم و قد مدحه إسحاق
صوت

و هو يجمع من النّغم ثمانيا:

يا من لقلب مقصر *** ترك المنى لفواتها

/و تظلّف النفس التي *** قد كان من حاجاتها

و طلابك الحاجات من *** سلمى و من جاراتها

كتطرّد العنس الذّمو *** ل(1) الفضل من مثناتها

قوله: «يا من لقلب مقصر» تأسّف على شبابه، و يدلّ على ذلك قوله:

و تظلّف النفس التي *** قد كان من حاجاتها

يقال: اظلف نفسك عن كذا أي أمنعها منه لئلا بكون لها أثر فيه. و هو مأخوذ من ظلف الأرض و هو المكان(2) الذي لا أثر فيه. قال عوف بن الأحوص:

أ لم أظلف(3) عن الشعراء عرضي *** كما ظلف الوسيقة بالكراع

/الوسيقة: الجماعة من الإبل. يعني أنها تساق فلا يوجد لها أثر في الكراع، و هو منقطع الجبل. قال الشاعر:

أمست كراع الغميم(4) موحشة *** بعد الذي قد خلا، من العجب

و قوله:

كتطرّد العنس الذّمو *** ل الفضل من مثناتها

يقول: طلابك هذه الحاجات ضلال و تتابع كتطرّد العنس (و هي الناقة المذكّرة الخلق) الفضل من مثناتها. و التطرّد:

التتبّع، و مثله قول الشاعر:

خبطت الصّبا خبط البعير خطامه *** فلم أنتبه للشّيب حتى علانيا

الشعر لمسافر بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس. و الغناء لابن محرز ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و هذا الصوت يجمع من النّغم ثمانيا، و كذلك ذكر إسحاق و وصف أنه لم يجمع شيء من الغناء قديمه و حديثه إلى عصره من النغم ما جمعه هذا الصوت، و وصف أنه لو تلطّف متلطّف لأن يجمع النّغم العشر في صوت واحد لأمكنه ذلك، بعد أن يكون فهما بالصناعة طويل المعاناة لها و بعد أن يتعب نفسه في ذلك حتى يصحّ له. فلم يقدر على ذلك سوى عبيد اللّه بن عبد اللّه إلى وقتنا هذا.

ص: 35


1- ناقة ذمول: تسير سيرا سريعا لينا. و المثناة الحبل.
2- أي المكان الصلب الذي لا يبقى فيه أثر للمشي.
3- أي عميت عليهم أثري. و قوله: «كما ظلف الوسيقة بالكراع» قال ابن الأعرابي: هذا رجل سل إبلا فأخذ في كراع من الأرض لئلا تستبين آثارها فتتبع. (عن «لسان العرب» مادة ظلف).
4- كراع الغميم: موضع بين مكة و المدينة.

3 - ذكر مسافر و نسبه

اشارة

نسبه و هو أحد السادات المعروفين بأزواد الركب:

مسافر بن أبي عمرو بن أميّة، و يكنى أبا أميّة. و قد تقدّم نسبه و أنساب أهله. و أمّه آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، و هي أمّ أبي معيط أبان بن عمرو بن أميّة. و أبو معيط و مسافر أخوان لأب و أمّ، و هما أخوا عمومتهما أبي العاصي و أخويه من بني أميّة الذين أمّهم آمنة، لأنّ أبا عمرو تزوجها بعد أبيه. و كان سيّدا جوادا، و هو أحد أزواد(1) الركب، و إنما سمّوا بذلك لأنهم كانوا لا يدعون غريبا و لا مارّ طريق و لا محتاجا يجتاز بهم إلاّ أنزلوه و تكفّلوا به حتى يظعن.

مناقضاته عمارة بن الوليد:

و هو أحد شعراء قريش، و كان يناقض عمارة(2) بن الوليد الذي أمر النّجاشيّ السواحر فسحرته. فمن ذلك قول عمارة:

خلق البيض الحسان لنا *** و جياد الرّيط و الأزر

كابرا كنّا أحقّ به *** حين صيغ الشمس و القمر

/و قال مسافر يردّ عليه:

أعمار بن الوليد و قد *** يذكر الشّاعر من ذكره

هل أخو كأس محقّقها *** و موقّ صحبه سكره

و محيّيهم إذا شربوا *** و مقلّ فيهم هذره

/خلق البيض الحسان لنا *** و جياد الرّيط و الحبره

كابرا كنّا أحقّ به *** كلّ حيّ تابع أثره

خطب هندا بنت عتبة و لما تزوجت أبا سفيان مرض و اعتل حتى مات:

و له شعر ليس بالكثير. و الأبيات التي فيها الغناء يقولها في هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، و كان يهواها. فخطبها إلى أبيها بعد فراقها الفاكه بن المغيرة، فلم ترض ثروته و ماله. فوفد على النّعمان يستعينه على أمره

ص: 36


1- أزواد الركب: ثلاثة نفر من قريش: مسافر بن أبي عمرو بن أمية، و زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ، و أبو أمية بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم. سموا بذلك لأنه لم يكن يتزوّد معهم أحد في سفره و كانوا يطعمون كل من يصحبهم و يكفونه الزاد. و كان ذلك خلقا من أخلاق قريش؛ و لكن لم يسم بهذا الاسم إلاّ هؤلاء الثلاثة. (راجع «ما يعول عليه في المضاف و المضاف إليه»).
2- سيأتي الكلام عنه في هذه الترجمة.

ثم عاد، فكان أوّل من لقيه أبو سفيان، فأعلمه بتزويجه من هند. فأخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني ابن أبي سلمة عن هشام، قال ابن عمّار و قد حدّثناه ابن أبي سعد عن عليّ بن الصبّاح عن هشام، قال ابن عمّار و حدّثنيه عليّ بن محمد بن سليمان النّوفليّ عن أبيه - دخل حديث بعضهم في بعض -:

أنّ مسافر بن أبي عمرو بن أميّة كان من فتيان قريش جمالا و شعرا و سخاء. قالوا: فعشق هندا بنت عتبة بن ربيعة و عشقته، فاتّهم بها و حملت منه. قال بعض الرواة: فقال معروف بن خرّبوذ: فلما بان حملها أو كاد قالت له:

اخرج، فخرج حتى أتى الحيرة، فأتى عمرو بن هند فكان ينادمه. و أقبل أبو سفيان بن حرب إلى الحيرة في بعض ما كان يأتيها، فلقي مسافرا، فسأله عن حال قريش و الناس، فأخبره و قال له فيما يقول: و تزوّجت هندا بنت عتبة.

فدخله من ذلك ما اعتلّ معه حتى استسقى(1) بطنه. قال ابن خرّبوذ: قال مسافر في ذلك:

ألاّ إنّ هندا أصبحت منك محرما *** و أصبحت من أدنى حموّتها حما

و أصبحت كالمقمور جفن سلاحه *** يقلّب بالكفّين قوسا و أسهما

فدعا له عمرو بن هند الأطبّاء، فقالوا: لا دواء له إلاّ الكيّ. فقال له: ما ترى؟ قال: افعل. فدعا له الذي يعالجه فأحمى مكاويه، فلما صارت كالنار قال: ادع/أقواما يمسكونه. فقال لهم مسافر: لست أحتاج إلى ذلك. فجعل يضع المكاوي عليه. فلما رأى صبره ضرط الطبيب، فقال مسافر:

قد يضرط العير و المكواة في النار

لما مات رثاه أبو طالب:
اشارة

- فجرت مثلا - فلم يزده إلاّ ثقلا. فخرج يريد مكة. فلما انتهى إلى موضع يقال له هبالة(2) مات فدفن بها، و نعي إلى قريش. فقال أبو طالب بن عبد المطّلب يرثيه:

ليت شعري مسافر بن أبي عم *** رو و ليت يقولها المحزون

رجع الركب سالمين جميعا *** و خليلي في مرمس(3) مدفون

بورك الميّت الغريب كما بو *** رك نضر(4) الرّيحان و الزيتون

بيت صدق على هبالة قدحا *** لت فياف من دونه و حزون

/مدره يدفع الخصوم بأيد *** و بوجه يزينه العرنين

ص: 37


1- استسقى بطنه: اجتمع فيه ماء أسفر. و هو المعروف بمرض الاستسقاء.
2- قال البكري في «معجم ما استعجم»: إن هبالة: موضع لبني عقيل. و قال ياقوت في كتابه «معجم البلدان» بعد كلام: و قال أبو زياد: هبالة و هيبل من مياه بني نمير. ثم ذكر موت مسافر بن أبي عمرو بها و رثاه أبي طالب بن عبد المطلب له.
3- المرمس: القبر.
4- كذا في «معجم ياقوت»: و في الأصول: «نضح الرمان». و النضح: «البلل. و لعله يعني به العصير.
صوت

كم خليل رزئته و ابن عمّ *** و حميم قضت عليه المنون

فتعزّيت بالتّأسّي و بالصب *** ر و إنّي بصاحبي لضنين

غنّى في هذين البيتين يحيى المكّيّ ثاني ثقيل بالوسطى من رواية ابنه و الهشاميّ.

و أنشدنا الحرميّ قال أنشدنا الزبير لأبي طالب بن عبد المطلّب في مسافر بن أبي عمرو:

ألا إنّ خير الناس غير مدافع *** بسرو سحيم(1) غيّبته المقابر

/تبكّي أباها أمّ وهب و قد نأى *** و ريسان(2) أمسى دونه و يحابر

على خير حاف من معدّ و ناعل *** إذا الخير يرجى أو إذا الشرّ حاضر

تنادوا و لا أبو أميّة فيهم *** لقد بلغت كظّ النفوس الحناجر(3)

قال و قال النّوفليّ: إنّ البيتين:

ألا إنّ هندا أصبحت منك محرما

و الذي بعده لهشام بن المغيرة، و كانت عنده أسماء بنت مخرمة النّهشليّة، فولدت له أبا جهل و أخاه الحارث، ثم غضب عليها فجعلها مثل ظهر أمّه - و كان أوّل ظهار كان - فجعلته قريش طلاقا. فأرادت أسماء الانصراف إلى أهلها، فقال لها هشام: و أين الموعد؟ قالت: الموسم. فقال لها ابناها: أقيمي معنا فأقامت معهما. فقال المغيرة بن عبد اللّه و هو أبو زوجها: أما و اللّه لأزوجنّك غلاما ليس بدون هشام، فزوّجها أبا ربيعة ولده الآخر، فولدت له عيّاشا و عبد اللّه. فذلك قول هشام:

تحدّثنا أسماء أن سوف نلتقي *** أحاديث طسم(4)، إنما أنت حالم

و قوله:

ألا أصبحت أسماء حجرا محرّما *** و أصبحت من أدنى حموّتها حما

قال النّوفليّ في خبره و حدّثني أبي: أنه إنما كان مسافر خرج إلى النّعمان بن المنذر يتعرّض لإصابة مال ينكح به هندا، فأكرمه النعمان و استظرفه و نادمه و ضرب عليه قبّة من أدم حمراء. و كان الملك إذا فعل ذلك برجل عرف قدره منه و مكانه عنده. و قدم أبو سفيان بن حرب في بعض تجاراته، فسأله مسافر عن حال الناس بمكة، /فذكر له أنه تزوّج هندا؛ فاضطرب مسافر حتى مات. و قال بعض الناس: إنه استسقى بطنه فكوي فمات بهذا السبب. قال النّوفليّ: فهو أحد من قتله العشق.

ص: 38


1- كذا في ج: و نسخه الشنقيطي مصححة بقلمه. و سرو سحيم: موضع. و في سائر الأصول: «بسرولنجم» و هو تحريف.
2- في م: «ديسان». و يحابر: اسم قبيلة.
3- يريد لقد بلغت القلوب الحناجر لكظ النفوس أي لكربها و امتلائها بالهم و الحزن.
4- طسم: إحدى القبائل العربية القديمة البائدة.
خبر طلاق هند بنت عتبة من الفاكه بن المغيرة:
اشارة

فأمّا خبر هند و طلاق الفاكه بن المغيرة إيّاها، فأخبرني به أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني ابن أبي سعد قال حدّثني أبو السّكين زكريّا بن يحيى بن عمرو بن حصن بن حميد بن حارثة الطائيّ قال حدّثني عمّي زحر(1) بن حصن عن جدّه حميد بن حارثة قال:

كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة، و كان الفاكه من فتيان قريش، و كان له بيت للضيافة بارز من البيوت يغشاه الناس من غير إذن. فخلا البيت ذات يوم، فاضطجع هو و هند فيه ثم نهض لبعض حاجته. و أقبل رجل ممّن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها رجع هاربا، و أبصره الفاكه فأقبل إليها فضربها برجله/و قال: من هذا الذي خرج من عندك!؟ قالت: ما رأيت أحدا و لا انتبهت حتى أنبهتني. فقال لها: ارجعي إلى أمّك. و تكلّم الناس فيها، و قال لها أبوها: يا بنيّة! إنّ الناس قد أكثروا فيك، فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست عليه من يقتله فتنقطع عنك المقالة، و إن يك كذبا حاكمته إلى بعض كهّان اليمن. فقالت: لا و اللّه ما هو عليّ بصادق. فقال له: يا فاكه، إنك قد رميت بنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهّان اليمن. فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم و خرج عتبة في جماعة من عبد مناف و معهم هند و نسوة. فلمّا شارفوا البلاد و قالوا غدا نرد على الرجل تنكّرت حال هند. فقال لها عتبة: إنّي أرى ما حلّ بك من تنكّر الحال، و ما ذاك إلاّ لمكروه عندك.

قالت: لا و اللّه يا أبتاه ما ذاك لمكروه، و لكنّي أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ و يصيب، و لا آمنه أن يسمني ميسما يكون عليّ سبّة. فقال/لها: إني سوف أختبره لك، فصفر بفرسه حتى أدلى(2)، ثم أدخل في إحليله حبّة برّ و أوكأ عليها بسير. فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم و نحر لهم. فلما قعدوا قال له عتبة: جئناك في أمر و قد خبأت لك خبئا أختبرك به فانظر ما هو؟ قال: ثمرة في كمرة(3). قال: إني أريد أبين من هذا. قال: حبّة برّ في إحليل مهر. قال: صدقت، انظر في أمر هؤلاء النسوة. فجعل يدنو من إحداهن فيضرب بيده على كتفها و يقول: انهضي، حتى دنا من هند فقال لها: انهضي غير رسحاء(4) و لا زانية، و لتلدنّ ملكا يقال له معاوية. فنهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنثرت يدها من يده و قالت: إليك عنّي! فو اللّه لأحرص أن يكون ذلك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان.

و قد قيل: إنّ بيتي مسافر بن أبي عمرو أعني:

ألا إنّ هندا أصبحت منك محرما

لابن عجلان(5).

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني عبد اللّه بن عليّ بن الحسن عن أبي نصر عن الأصمعيّ عن عبد اللّه بن أبي سلمة عن أيّوب عن ابن سيرين قال:

ص: 39


1- في الأصول: «أبو زحر» و هو خطأ. (راجع شرح «القاموس» مادة زحر).
2- أدلى الفرس و غيره: أخرج جرذانه ليبول أو يضرب.
3- الكمرة: رأس الذكر.
4- الرسح: خفة العجيزة و لصوقها.
5- هو عبد اللّه بن العجلان بن عبد الأحب بن عامر بن كعب، شاعر جاهلي و هو أحد المتيمين من الشعراء و من قتله الحب منهم. و كان له زوجة يقال لها هند فطلقها ثم ندم على ذلك، فتزوجت زوجا غيره فمات أسفا عليها. (انظر ترجمته في «الأغاني» ج 19 ص 102 طبعة بولاق).

خرج عبد اللّه بن العجلان في الجاهليّة فقال:

ألا إنّ هندا أصبحت منك محرما *** و أصبحت من أدنى حموّتها حما

فأصبحت كالمقمور جفن سلاحه *** يقلّب بالكفّين قوسا و أسهما

/شعر لمسافر في الفخر:

ثم مدّ بهما صوته فمات. قال ابن سيرين: فما سمعت أن أحدا مات عشقا غير هذا. و مما يغنّي فيه من شعر مسافر بن أبي عمرو و هو من جيّد شعره قوله يفتخر:

صوت

أ لم نسق الحجيج و نن *** حر المذلاقة(1) الرّفدا

و زمزم من أرومتنا *** و نفقأ عين من حسدا

و إنّ مناقب الخيرا *** ت لم نسبق بها عددا

فإن نهلك فلم نملك *** و هل من خالد خلدا

غنّاه ابن سريج رملا بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لسائب خائر لحن من خفيف الثقيل الأوّل بالوسطى من رواية حمّاد. و فيه للزّفّ ثقيل بالوسطى.

فأما خبر عمارة بن الوليد و السبب الذي من أجله أمر النّجاشيّ السواحر فسحرته
ما كان بين عمرو و عمارة لدى النجاشي:

فإن الواقديّ ذكره عن عبد اللّه بن جعفر بن أبي عون قال:

كان عمارة بن الوليد المخزوميّ بعد ما مشت(2) قريش بعمارة إلى أبي طالب خرج هو و عمرو بن العاص بن وائل السّهميّ، و كانا كلاهما تاجرين، إلى النجاشيّ، و كانت/أرض الحبشة لقريش متجرا و وجها، و كلاهما مشرك شاعر فاتك و هما في جاهليّتهما، و كان عمارة معجبا بالنساء صاحب محادثة(3)؛ فركبا في السفينة ليالي فأصابا من خمر معهما. فلما انتشى عمّارة قال لامرأة عمرو بن العاص: قبّليني. فقال لها عمرو: قبّلي ابن عمّك فقبّلته. و حذر عمرو على زوجته فرصدها و رصدته، فجعل إذا شرب معه أقلّ عمرو من الشراب و أرقّ لنفسه بالماء مخافة أن يسكر فيغلبه عمارة على أهله. و جعل عمارة يراودها على نفسها فامتنعت منه. ثم إنّ عمرا جلس إلى ناحية السفينة يبول،

ص: 40


1- كذا في «اللسان» (مادتي ذلق و رفد). و المذلاقة: يريد بها النوق السريعة السير و في الأصول: «الدلافة» و هو تحريف. و الرفد: جمع رفود و هي التي تملأ الرفد (و هو بالفتح و الكسر القدح الضخم) من النوق في حلبة واحدة.
2- قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و إسلامه و إجماعه لفراقهم في ذلك و عداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغني: «يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش و أجمله. فخذه فلك عقله و نصره و اتخذه ولدا فهو لك و أسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك و دين آبائك و فرق جماعة قومك و سفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل. فقال: و اللّه لبئس ما تسومونني! أ تعطونني ابنكم أغذوه لكم و أعطيكم ابني تقتلونه! هذا و اللّه ما لا يكون أبدا». («سيرة ابن هشام» ج 1 ص 169).
3- يحتمل أن تكون: «صاحب مخادنة». و الرجل يوصف بأنه حدث نساء كما يوصف بأنه خدنهن.

فدفعه عمارة في البحر. فلمّا وقع فيه سبح حتى أخذ بالقلس(1) فارتفع فظهر على السفينة. فقال له عمارة: أما و اللّه لو علمت يا عمرو أنك تحسن السّباحة ما فعلت. فاضطغنها عمرو و علم أنه أراد قتله. فمضينا على وجههما ذلك حتى قدما أرض الحبشة و نزلاها. و كتب عمرو بن العاص إلى أبيه العاص أن اخلعني و تبرّأ من جريرتي إلى بني المغيرة و جميع بني مخزوم. و ذلك أنه خشي على أبيه أن يتبع بجريرته و هو يرصد لعمارة ما يرصد. فلما ورد الكتاب على العاص بن وائل مشى في رجال من قومه منهم نبيه و منبّه ابنا الحجّاج(2) إلى بني المغيرة و غيرهم من بني مخزوم فقال: إنّ هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم، و كلاهما فاتك صاحب شرّ، و هما غير مأمونين على أنفسهما و لا ندري ما يكون. و إنّي أبرأ إليكما من عمرو و من جريرته و قد خلعته. فقالت بنو المغيرة و بنو مخزوم:

أنت تخاف عمرا على عمارة! و قد خلعنا نحن عمارة و تبرّأنا إليك من جريرته، فخلّ بين الرجلين. فقال السّهميّون(3): قد قبلنا، /فابعثوا مناديا بمكة أنّا قد خلعناهما. و تبرّأ كلّ قوم من صاحبهم و مما جرّ عليهم، فبعثوا مناديا ينادي بمكة بذلك. فقال الأسود بن المطّلب: بطل و اللّه دم عمارة بن الوليد آخر الدهر!. فلما اطمأنّا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة أن دبّ لامرأة النجاشيّ فأدخلته فاختلف إليها. فجعل إذا رجع من مدخله يخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره. فجعل عمرو يقول: ما أصدّقك أنك قدرت على هذا الشأن، إنّ المرأة أرفع من ذلك.

فلما أكثر على عمرو مما كان يخبره، و قد كان صدّقه و لكن أحبّ التثبّت، و كان عمارة يغيب عنه حتى يأتيه في السّحر، و كان في منزل واحد معه، و جعل عمارة يدعوه إلى أن يشرب معه فيأبى عمرو و يقول: إنّ هذا يشغلك عن مدخلك، و كان عمرو يريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفعه إلى النجاشيّ. فقال له في بعض ما يذكر له من أمرها: إن كنت صادقا فقل لها تدهنك من دهن النجاشيّ الذي لا يدّهن به غيره فإنّي أعرفه، لو أتيتني به لصدّقتك. ففعل عمارة [فجاء(4)] بقارورة من دهنه، فلمّا شمّه عرفه. فقال له عمرو عند ذلك: أنت صادق! لقد أصبت شيئا ما أصاب/أحد مثله قطّ من العرب و نلت من امرأة الملك شيئا ما سمعنا بمثل هذا - و كانوا أهل جاهليّة - ثم سكت عنه، حتى إذا اطمأنّ دخل على النجاشيّ فقال: أيها الملك! إنّ ابن عمّي سفيه، و قد خشيت أن يعرّني(5) عندك أمره، و قد أردت أن أعلمك شأنه. [و لم أفعل(6)] حتى استثبتّ أنّه(7) قد دخل على بعض نسائك فأكثر. و هذا من دهنك قد أعطيه و دهنني منه. فلما شمّ النجاشيّ الدّهن قال: صدقت، هذا دهني الذي لا يكون إلاّ عند نسائي. ثم دعا بعمارة/و دعا بالسواحر، فجرّدوه من ثيابه فنفخن في إحليله، ثم خلى سبيله فخرج هاربا(8).

فلم يزل بأرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطّاب. فخرج إليه عبد اللّه بن أبي ربيعة - و كان اسمه قبل أن

ص: 41


1- القلس: حبل غليظ من حبال السفن.
2- هما نبيه و منبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، كانا من أشراف قريش، ماتا على الشرك في غزوة بدر؛ قتل الأوّل حمزة بن المطلب، و الثاني أبو اليسر أخو بني سلمة. («السيرة» ج 1 ص 324، 436، 475، 510).
3- السهميون: قوم عمرو بن العاص، و بنو سهم من هصيص بن كعب بن لؤي.
4- زيادة عن «تجريد الأغاني».
5- عره: لطخه بعيب.
6- التكملة عن «تجريد الأغاني».
7- في الأصول: «حتى استثبت و أنه...» بزيادة الواو.
8- في «تجريد الأغاني» «فخرج هاربا هائما على وجهه مع الوحش. و متى رأى الإنس هرب منهم و طلع له شعر غطى جميع بدنه. و لم يزل كذلك مدّة أيام النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و أيام أبي بكر رضي اللّه عنه و صدرا من خلافة عمر رضي اللّه عنه، فخرج إليه... إلخ».

يسلم بحيرا فسمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عبد اللّه - فرصده على ماء بأرض الحبشة، و كان يرده مع الوحش، فورد، فلما وجد ريح الإنس هرب، حتّى إذا أجهده العطش ورد فشرب حتى تملأ(1)، و خرجوا في طلبه. فقال عبد اللّه بن أبي ربيعة:

فسعيت إليه فالتزمته، فجعل يقول لي: يا بحير أرسلني! يا بحير أرسلني! إني أموت إن أمسكتموني. قال عبد اللّه:

و ضغطته(2) فمات في يدي مكانه. فواراه ثم انصرف. و كان شعره قد غطّى على كل شيء منه.

قال الواقديّ عن ابن أبي الزّناد: و قال عمرو لعمارة: يا فائد، إن كنت تحبّ أن أصدّقك بهذا أو أقبله منك فأتني بثوبين أصفرين. فلمّا رأى النجاشيّ الثوبين قال له عمرو: أ تعرف الثوبين؟ قال نعم.

و قال الواقديّ عن ابن أبي الزّناد عن أبيه، قال النجاشيّ لعمارة: إنّي أكره أن أقتل قرشيّا، و لو قتلت قرشيّا لقتلتك، فدعا بالسواحر.

شعر عمرو بن العاص في عمارة:

فقال عمرو بن العاص يذكر عمارة و ما صنع به - قال الواقديّ أخبرني ابن أبي الزّناد أنه سمع ذلك من ابن ابنه عمرو بن شعيب بن عبد اللّه بن عمرو يذكره لحدّه -:

/

تعلّم عمار أنّ من شرّ شيمة *** لمثلك أن يدعى ابن عمّ له ابنما

و إن كنت ذا بردين أحوى مرجّلا *** فلست براع(3) لابن عمّك محرما

إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه *** و لم ينه قلبا غاويا حيث يمّما

قضى وطرا منه يسيرا و أصبحت *** إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

فليس الفتى و لو أتمّت(4) عروقه *** بذي كرم إلاّ بأن يتكرّما

صحبت من الأمر الرفيق طريقه *** و ولّيت غيّ الأمر من قد تلوّما

من الآن فانزع عن مطاعم جمّة *** و عالج أمور المجد لا تتندّما

شعر خولة بنت ثابت في عمارة:

قال إسحاق و حدّثني الأصمعيّ: أنّ خولة بنت ثابت أخت حسّان قالت في عمارة لمّا سحر:

يا ليلتي(5) لم أنم و لم أكد *** أقطعها بالبكاء و السّهد

أبكي على فتية رزئتهم *** كانوا جبالي فأوهنوا عضدي

كانوا جمالي و نصرتي و بهم *** أمنع ضيمي و كلّ مضطهد

فبعدهم أرقب النجوم و أذ *** ري الدمع و الحزن و ألج كبدي

ص: 42


1- كذا في «تجريد الأغاني». و تملأ الرجل من الطعام و الشراب: امتلأ. و في الأصول: «ملأ».
2- كذا في أ، م و في سائر الأصول: «و ضبطته».
3- كذا في «تجريد الأغاني». و في الأصول: «براء».
4- أتمت عروقه: بلغت تمامها في الكرم.
5- في الأصول: «يا ليتني» و هو تحريف.

قال الأصمعيّ و اجتاز ابن سريج بطويس و معه فتية من قريش و هو يغنّيهم في هذا/الصوت، فوقف حتى سمعه، ثم أقبل عليهم فقال: هذا و اللّه سيّد من غنّاه.

هذه الأصوات التي ذكرتها الجامعة للنّغم العشر و الثماني النّغم(1) منها هي المشهورة المعروفة عند الرّواة و في روايات الرّواة و عند المغنّين.

كان عبيد اللّه يراسل المعتضد على لسان جواريه:

و كان عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر يراسل المعتضد باللّه إذا استزار جواريه على ألسنتهم و مع ذوي الأنس عنده من رسله: مع أحمد بن الطّيّب و ثابت بن قرّة/الطائي، يذكر النّغم و تفصيل مجاريها و معانيها حتى فهم ذلك.

فصنع لحنا فجمع النّغم العشر في قول دريد بن الصّمّة:

يا ليتني فيها جذع *** أخبّ فيها و أضع

كان المكتفي يراسله في الغناء:

و صنع صنعة متقنة جيّدة، منها ما سمعناه من المحسنين و المحسنات و منها ما لم نسمعه، يكون مبلغها نحو خمسين صوتا. و قد ذكرت من ذلك ما صلح في أغاني الخلفاء. ثم صنع مثل ذلك للمكتفي(2) باللّه لرغبته في هذه الصناعة.

فوجدت رقعة بخطه كتب بها إلى المكتفي نسختها: «قال إسحاق بن إبراهيم حين صاغ عند أبي العبّاس عبد اللّه بن طاهر بأمره لحنه في:

يوم تبدي لنا قتيلة عن جي *** د تليع(3) تزينه الأطواق

و شتيت كالأقحوان جلاه الطّل فيه عذوبة و اتّساق إني نظرت مع إبراهيم و تصفّحت غناء العرب كلّه، فلم نجد في جميع غناء العرب صوتا أطول إيقاعا من:

عادك الهمّ ليلة الإيجاف(4) *** من غزال مخضّب الأطراف

و لحنه خفيف ثقيل لابن محرز؛ فإن إيقاعه ستة و خمسون دورا. ثم لحن معبد:

هريرة ودّعها و إن لام لائم *** غداة غد أم أنت للبين واجم

و هو أحد سبعته(5). و لحنه خفيف ثقيل، و دور إيقاعه ستّة و خمسون دورا، إلا أن صوت ابن محرز سداسيّ في العروض من الخفيف، و صوت معبد ثماني من الطويل؛ فصوت ابن محرز أعجب لأنه أقصر. و ما زلنا حتى تهيّأ لنا شعر رباعيّ في سيّدنا أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه، دور إيقاعه ستّة و خمسون دورا، و هو يجمع من النّغم/العشر ثمانيا؛ و هذا ظريف جدّا بديع لم يكن مثله. و أمّا الصوت الذي في تهنئة النّوروز فلأنفسنا عملناه؛ إذ لم يكن لنا من

ص: 43


1- في الأصول: «الثماني نغم» بدون أداة التعريف في المضاف إليه.
2- في الأصول: «بالمكتفي» و هو تحريف.
3- تليع: طويل.
4- الإيجاف: سرعة السير.
5- أي أحد أصواته السبعة و هي مدنه المعروفة. و في الأصول: «أحد سبعاته».

يدبّر مثل هذا معه غيره. و قد كتبنا شعره و شعر الآخر، و إيقاع كلّ واحد منهما خفيف ثقيل، و الصنعة فيهما تستظرف:

جمع الخلائف(1) كلّهم لجميع(2) ما *** بلغوا و أعطوا في الإمام المكتفي

و له الهدايا ألف نوروز و ه *** ذا الشعر منها لحنه لم يعرف

و الآخر:

دولة المكتفي الخلي *** فة تفنى مدى الدّول

يوم عيد و يوم عر *** س فما بعدها أمل

الصنعة في البيت الأوّل خاصّة تدور على ستة و خمسين إيقاعا».

هكذا وجدت في الرقعة بخط عبيد اللّه. و ما سمعت أحدا يغنّي هذين الصوتين. و قد عرضتهما على غير واحد من المتقدّمين/و من مغنّيات القصور فما عرفهما أحد منهن. و ذكرتهما في الكتاب لأنّ شريطته توجب ذكرهما.

الأرمال الثلاثة المختارة
الأرمال المختارة و الكلام عنها:

أخبرني يحيى بن عليّ و محمد بن خلف وكيع و الحسين بن يحيى قالوا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي، قال أبو أحمد رحمه اللّه و أخبرني أبي أيضا عن إسحاق، و أخبرنا عليّ بن عبد العزيز قال حدّثنا عبيد اللّه بن خرداذبه قال قال إسحاق: أجمع العلماء بالغناء أن أحسن رمل غنّي رمل:

فلم أر كالتّجمير منظر ناظر

ثم رمل:

أ فاطم مهلا بعض هذا التدلّل

و لو عاش ابن سريج حتى يسمع لحني الرمل:

لعلّك إن طالت حياتك أن ترى

لاستحيا أن يصنع بعده شيئا. و في روايتي وكيع و عليّ بن يحيى «و لعلم(3) أني نعم الشاهد له».

ص: 44


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «الخلائق» بالقاف.
2- كذا في الأصول: و لعله: «بجميع».
3- لعل الواو من زيادات النساخ.
نسبة الأصوات و أخبارها:
صوت
الصوت الأوّل من هذه الأرمال في شعر ابن أبي ربيعة:

فلم أر كالتّجمير منظر ناظر *** و لا كليالي الحجّ أفلتن ذا هوى

فكم من قتيل ما يباء(1) به دم *** و من غلق رهنا إذا لفّه منى

و من مالئ عينيه من شيء غيره *** إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى

يسحّبن أذيال المروط بأسوق(2) *** خدال و أعجاز مآكمها(3) روا

عروضه من الطويل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج رمل بالبنصر. و قد كان علّويه فيما بلغنا صنع فيه رملا، و في «أ فاطم مهلا» خفيف رمل، و في «لعلّك إن طالت حياتك» رملا آخر، و لم يصنع شيئا و سقطت ألحانه فيها فما تكاد تعرف. و هذه الأبيات يقولها عمر بن أبي ربيعة في بنت مروان بن الحكم.

ابن أبي ربيعة و أم عمرو بنت مروان:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا ابن كناسة عن أبي بكر بن عيّاش قال:

حجّت أمّ عمرو بنت مروان، فلما قضت نسكها أتت عمر بن أبي ربيعة و قد أخفت نفسها في نساء معها، فحادثته ثم انصرفت، و عادت إليه منصرفها من عرفات و قد أثبتها. فقالت له: لا تذكرني في شعرك، و بعثت إليه بألف دينار. فقبلها و اشترى بها ثيابا من ثياب اليمن و طيبا فأهداه إليها فردّته. فقال: إذا و اللّه أنهبه الناس فيكون مشهورا؛ فقبلته. و قال فيها:

أيّها الرائح المجدّ ابتكارا *** قد قضى من تهامة الأوطارا

من يكن قلبه الغداة خليّا *** ففؤادي بالخيف أمسى مطارا

ليت ذا الدهر كان حتما علينا *** كلّ يومين حجّة و اعتمارا

قال ابن كناسة قال ابن عيّاش: فلما وجّهت منصرفة قال فيها:

فكم من قتيل ما يباء به دم *** و من غلق رهنا إذا لفّه منى

/قال: و يروى «و من غلق رهن» كأنه قال و من رهن غلق؛ لا يجعل من نعت الرهن. كأنه جعل الإنسان غلقا و جعله رهنا؛ كما يقال: كم من عاشق مدنف، و من كلف صبّ.

قال الزّبير و حدّثني مسلم بن عبد اللّه بن مسلم بن جندب عن أبيه قال: أنشده ابن أبي عتيق فقال: إن في نفس الجمل ما ليس في نفس الجمّال.

ص: 45


1- أباء فلان القتيل بالقاتل: قتله به. يريد: كم من قتيل يطل دمه و لا يؤخذ له بثأر. و غلق الرهن في يد المرتهن يغلق غلقا. لم يقدر الراهن على افتكاكه في الوقت المشروط. يريد: كم من قلوب أسيرة لا يقدر أصحابها على افتكاكها.
2- الأسؤق: جمع ساق. و الخدال: الممتلئة.
3- المأكمة: العجيزة.

قال: و قال عبد اللّه بن عمر، و قد أنشده عمر بن أبي ربيعة شعره هذا: يا ابن أخي! أ ما اتّقيت اللّه حيث تقول:

ليت ذا الدهر كان حتما علينا *** كلّ يومين حجّة و اعتمارا

فقال له عمر بن أبي ربيعة: بأبي أنت و أمي! إني وضعت ليتا حيث لا تغنى.

أمر عمر بن عبد العزيز بنفيه ثم خلاه لما تاب:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، و أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن إسحاق، و أخبرني ببعض هذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكار قال حدّثنا مصعب بن عثمان:

أنّ عمر بن عبد العزيز لمّا ولي الخلافة لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة و الأحوص. فكتب إلى عامله على المدينة: «قد عرفت عمر و الأحوص بالخبث و الشرّ. فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما و احملهما إليّ». فلما أتاه الكتاب حملهما إليه. فأقبل على عمر فقال له هيه!

فلم أر كالتّجمير منظر ناظر *** و لا كليالي الحجّ أفلتن ذا هوى

و كم مالئ عينيه من شيء غيره *** إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى

فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون! أما و اللّه لو اهتممت بأمر حجّك لم تنظر إلى شيء غيرك! ثم أمر بنفيه. فقال: يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك؟ قال: و ما هو؟ قال: أعاهد اللّه ألاّ أعود إلى مثل هذا الشعر و لا أذكر النساء في شعر أبدا و أجدّد توبة على يديك. قال: أو تفعل؟ قال نعم. فعاهد اللّه على توبة و خلاّه. ثم دعا بالأحوص فقال هيه!

نفى الأحوص و لم يطلقه إلا يزيد بن عبد الملك:

اللّه بيني و بين قيّمها *** يهرب منّي بها و أتّبع

با اللّه بين قيّمها و بينك! ثم أمر بنفيه إلى بيش(1)، و قيل إلى دهلك و هو الصحيح، فنفي إليها، فلم يزل بها. فرحل إلى عمر عدّة من الأنصار فكلّموه في أمره و سألوه أن يقدمه و قالوا له: قد عرفت نسبه و قدمه و موضعه و قد أخرج إلى بلاد/الشرك، فنطلب إليك أن تردّه إلى حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و دار قومه. فقال لهم عمر: من الذي يقول:

فما هو إلاّ أن أراها فجاءة *** فأبهت حتى ما أكاد أحير

- و في رواية الزبير «أجيب» مكان «أخير» - قالوا: الأحوص(2). قال: فمن الذي يقول:

أدور و لو لا أن أرى أمّ جعفر *** بأبياتكم ما درت حيث أدور

و ما كنت زوّارا و لكنّ ذا الهوى *** إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور

قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول:

ص: 46


1- بيش: من بلاد اليمن قرب دهلك. و دهلك جزيرة في بحر اليمن، مرسى بين بلاد اليمن و الحبشة، بلدة ضيقة حرجة حارة و هي تجاه مصوع. و كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها. (عن «معجم البلدان» لياقوت).
2- نسب هذا البيت لعروة بن حزام. (انظره في ترجمته ج 20 ص 156 من «الأغاني» طبع بلاق).

كأنّ لبنى صبير(1) غادية *** أو دمية زيّنت بها البيع

اللّه بيني و بين قيّمها *** يهرب منّي بها و أتّبع

/قالوا: الأحوص. قال: إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول، و اللّه لا أردّه ما كان لي سلطان. فمكث هناك بعد ولاية عمر صادرا من ولاية يزيد بن عبد الملك ثم خلاّه.

قال: و كتب إلى عمر بن عبد العزيز من موضعه - قال الزّبير: أنشدنيها عبد الملك بن عبد العزيز ابن بنت الماجشون قال أنشدنيها يوسف بن الماجشون يعني هذه الأبيات -:

أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن *** هديت أمير المؤمنين رسائلي

و قل لأبي حفص إذا ما لقيته *** لقد كنت نفّاعا قليل الغوائل

أ في اللّه أن تدنوا ابن حزم(2) و تقطعوا *** قوى حرمات بيننا و وصائل(3)

/فكيف ترى للعيش طيبا و لذّة *** و خالك أمسى موثقا في الحبائل

و ما طمع الحزميّ في الجاه قبلها *** إلى أحد من آل مروان عادل

وشى و أطاعوه بنا و أعانه *** على أمرنا من ليس عنّا بغافل

و كنت أرى أنّ القرابة لم تدع *** و لا الحرمات في العصور الأوائل

إلى أحد من آل مروان ذي حجّى(4) *** بأمر كرهناه مقالا لقائل

يسرّ بما أنهى العدوّ و إنه *** كنافلة لي من خيار النوافل

فهل ينقصنّي القوم أن كنت مسلما *** بريئا بلائي في ليال قلائل

ألا ربّ مسرور بنا سيغيظه *** لدي غبّ أمر عضّه بالأنامل

رجا الصّلح منّي آل حزم بن فرتنى *** على دينهم جهلا و لست بفاعل

ألا قد يرجّون الهوان فإنهم *** بنو حبق(5) ناء عن الخير فائل

على حين حلّ القول بي و تنظّرت *** عقوبتهم منّي رءوس القبائل

فمن يك أمسى سائلا بشماتة *** بما حلّ بي أو شامتا غير سائل

فقد عجمت منّي العواجم ما جدا *** صبورا على عضّات تلك التلاتل(6)

إذا نال لم يفرح و ليس لنكبة *** إذا حدثت بالخاضع المتضائل

قال الزبير: و قال الأحوص أيضا:

ص: 47


1- الصبير: السحابة البيضاء.
2- يريد به أبا بكر بن محمد عمرو بن حزم والي المدينة لعمر بن عبد العزيز.
3- في ح: «و وسائلي» و الوصائل: جمع وصيلة، و هي ما يوصل به الشيء.
4- كذا في ح: و في سائر الأصول: «ذي حمى».
5- الحبق، الضراط.
6- التلاتل: الشدائد.

هل أنت أمير المؤمنين فإنّني *** بودّك من ودّ العباد لقانع

متمّم أجر قد مضى و صنيعة *** لكم عندنا أو ما تعدّ الصنائع

فكم من عدوّ سائل ذي كشاحة *** و منتظر بالغيب ما أنت صانع

فلم يغن عنه ذلك و لم يخل سبيل عمر، حتى ولي يزيد بن عبد الملك فأقدمه و قد غنّته حبابة بصوت في شعره.

/أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال هشام بن حسّان:

كان السبب في ردّ يزيد بن عبد الملك الأحوص أن جميلة غنّته يوما:

كريم قريش حين ينسب و الّذي *** أقرّت له بالملك كهلا و أمردا

فطرب يزيد و قال: ويحك! من كريم قريش هذا؟ قالت: أنت يا أمير المؤمنين، و من عسى أن يكون ذلك غيرك! قال: و من قائل هذا الشعر فيّ؟ قالت: الأحوص و هو منفيّ. فكتب بردّه/و حمله إليه و أنفذ إليه صلات سنيّة. فلمّا قدم إليه أدناه و قرّبه و أكرمه. و قال له يوما في مجلس حافل: و اللّه لو لم تمت إلينا بحقّ و لا صهر و لا رحم إلاّ بقولك:

و إني لأستحييكم أن يقودني *** إلى غيركم من سائر الناس مطمع

لكفاك ذلك عندنا. قال: و لم يزل ينادمه و ينافس به حتى مات. و أخبار الأحوص في هذا السبب و غيره قد مضت مشروحة في أوّل ما مضى من ذكره و أخباره؛ لأن الغرض هاهنا ذكر بقية خبره مع عمر بن أبي ربيعة في الشعرين اللّذين أنكرهما عليهما عمر بن عبد العزيز و أشخصا من أجلهما.

سليمان بن عبد الملك و نفيه ابن أبي ربيعة إلى الطائف:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أحمد بن زهير قال: مصعب بن عبد اللّه قال:

حجّ سليمان بن عبد الملك و هو خليفة، فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: أ لست القائل:

فكم من قتيل ما يباء به دم *** و من غلق رهنا إذا لفّه منى

و من مالئ عينيه من شيء غيره *** إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى

يسحّبن أذيال المروط بأسؤق *** خدال و أعجاز مآكمها روا

/أوانس يسلبن الحليم فؤاده *** فيا طول ما شوق و يا طول مجتلى(1)

قال نعم. قال لا جرم و اللّه لا تحضر الحجّ العام مع الناس! فأخرجه إلى الطائف.

ابن أبي عتيق و غناء ابن سريج:

أخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حمّاد قرأت على أبي حدّثني ابن الكلبيّ عن أبي مسكين و عن صالح بن حسّان قال:

قدم ابن أبي عتيق إلى مكة فسمع غناء ابن سريج:

ص: 48


1- كذا في أو «ديوانه» طبع مطبعة السعادة ص 16. و في سائر الأصول: «و يا طول ما اجتلى».

فلم أر كالتجمير منظر ناظر *** و لا كليالي الحجّ أفلتن ذا هوى

فقال: ما سمعت كاليوم قطّ، و ما كنت أحسب أن مثل هذا بمكة، و أمر له بمال و حدره معه إلى المدينة، و قال:

لأصغّرنّ(1) إلى معبد نفسه و لأهدينّ إلى المدينة شيئا لم ير أهلها مثله حسنا و ظرفا و طيب مجلس و دماثة خلق و رقّة منظر و مقة(2) عند كل أحد. فقدم به المدينة و جمع بينه و بين معبد. فقال لابن سريج: ما تقول فيه؟ قال: إن عاش كان مغنّي بلاده.

أبو السائب و ابن سريج:

و قال إسحاق و حدّثني المدائني عن جرير قال: قال لي أبو السائب يوما: ما معك من مرقصات ابن سريج؟ فغنّيته:

فلم أر كالتجمير منظر ناظر

فقال: كما أنت حتى أتحرم لهذا بركعتين.

الوليد بن عبد الملك يأمر والي المدينة أن يشخص إليه ابن سريج:

حدّثني الحسين قال قال حمّاد قرأت على أبي و حدّثني أبو عبد اللّه الزبيري قال:

كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إليّ ابن سريج. فورد الرسول إلى الوالي، فمرّ في بعض طريقه على ابن سريج و هو جالس بين قرني بئر و هو يغنّي:

فلم أر كالتجمير منظر ناظر

/فقال له الرسول: تاللّه ما رأيت كاليوم قطّ و لا رأيت أحمق ممّن يتركك و يبعث إلى غيرك. فقال له ابن سريج: أمّا و اللّه ما هو بقدم و لا ساق، و لكنه بقسم و أرزاق. ثم مضى الرسول فأوصل الكتاب، و بعث الولي إلى ابن سريج فأحضره. فلما رآه الرسول قال: قد عجبت أن يكون المطلوب غيرك.

عبد اللّه بن الزّبير يعجب لسماع غناء ابن سريج:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال رقي عبد اللّه بن الزّبير أبا قبيس(3)ليلا، فسمع/غناء فنزل هو و أصحابه يتعجّبون و قال: لقد سمعت صوتا إن كان من الإنس إنه لعجب، و إن كان من الجن لقد أعطوا شيئا كثيرا. فاتّبعوا الصوت فإذا ابن سريج يتغنّى في شعر عمر:

فلم أر كالتجمير منظر ناظر

و من هذه الأرمال الثلاثة:

ص: 49


1- في جميع الأصول: «لأقصدن» و قد صححها الأستاذ الشنقيطي في نسخته كما صححناها.
2- المقة: المحبة.
3- أبو قبيس: جبل بمكة.
ثاني الأرمال الثلاثة في شعر امرئ القيس:
صوت

أ فاطم مهلا بعض هذا التدلّل *** و إن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي *** و أنّك مهما تأمري القلب يفعل

الشعر لامرئ القيس. و الغناء في هذين البيتين من الرمل المختار لإسحاق بالبنصر. و في هذين البيتين مع أبيات أخر من هذه القصيدة ألحان شتّى لجماعة نذكرها هاهنا و من غنّى فيها، ثم نتبع ما يحتاج إلى ذكره منها، و قد يجمع سائر ما يغنّى فيه من القصيدة معه:

شيء من معلقته و شرحه:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل *** بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

فتوضخ فالمقراة لمن يعف رسمها *** لما نسجتها من جنوب و شمال

أ فاطم مهلا بعض هذا التّدلّل *** و إن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

/و إن كنت قد ساءتك منّي خليفة *** فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي *** و أنّك مهما تأمري القلب يفعل

و ما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتّل

تسلّت عمايات الرجال عن الصّبا *** و ليس فؤادي عن هواك بمنسلي

ألا أيّها اللّيل الطويل ألا انجل *** بصبح و ما الإصباح فيك بأمثل

و بيضة خدر لا يرام خباؤها *** تمتّعت من لهو بها غير معجل

تجاوزت أحراسا إليها و معشرا *** عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي

ألا ربّ يوم صالح لك منهما(1) *** و لا سيما يوم بدارة جلجل

و يوم عقرت للعذارى مطيّتي *** فوا عجبي من رحلها المتحمّل(2)

و قد أغتدي و الطير في وكناتها *** بمنجرد قيد الأوابد هيكل

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا *** كجملود صخر حطّه السيل من عل

فقلت لها سيري و أرخى زمامه *** و لا تبعدينا من جناك المعلّل

عروضه من الطويل. و سقط اللوى منقطعه. و اللّوى: المستدقّ من الرمل حيث يستدق فيخرج منه إلى اللّوى.

ص: 50


1- الضمير في «منهما» مرجعه في قوله: كدأبك من أم الحويرث قبلها و جارتها أم الرباب بمأسل و يروى: «صالح لك منهم» يعني النساء و أهلهن. قال التبريزي: و أجود الروايات: «ألا رب يوم لك منهن صالح» على ما فيه من الكف، و هو حذف النون من مفاعيلن. (راجع «شرح التبريزي للمعلقات» طبع أوروبا).
2- لما نحر ناقته للعذارى اقتسمن متاع راحلته: تحمل هذه حشيته و تلك طنفسته فكان ذلك مثار عجبه.

و الدّخول و حومل و توضح و المقراة: مواضع ما بين إمّرة إلى أسود(1) العين. و قال أبو عبيدة في سقط اللوى و سقط الولد و سقط النار/سقط و سقط و سقط ثلاث لغات. و قال أبو زيد: اللوى: أرض تكون بين الحزن و الرمل فصلا بينهما. و قال الأصمعيّ: قوله «بين الدّخول فحومل» خطأ و لا يجوز إلا بواو «و حومل»؛ لأنه لا يجوز أن يقال:

رأيت فلانا بين زيد فعمرو، إنما يقال و عمرو؛ و يقال: رأيت زيدا فعمرا إذا رأى كلّ/واحد منهما بعد صاحبه.

و قال غيره: يجوز «فحومل» كما يقال: مطرنا بين الكوفة فالبصرة، كأنه قال: من الكوفة إلى البصرة، يريد أن المطر لم يتجاوز ما بين هاتين الناحيتين؛ و ليس هذا مثل بين زيد فعمرو. و يعف رسمها: يدرس. و نسجتها: ضربتها مقبلة و مدبرة فعفتها. يعني أن الجنوب تعفي هذا الرسم إذا هبّت و تجيء الشمأل فتكشفه. و قال غير أبي عبيدة: المقراة ليس اسم موضع إنما هو الحوض الذي يجمع فيه الماء. و الرسم: الأثر الذي لا شخص له. و يروي «لما نسجته» يعني الرسم. و يقال عفا يعفو عفوّا و عفاء؛ قال الشاعر:

على آثار من ذهب العفاء

يعني محو الأثر. و فاطمة التي خاطبها فقال «أ فاطم مهلا» بنت العبيد بن ثعلبة بن عامر بن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة، و هي التي يقول فيها:

لا و أبيك ابنة العامريّ(2)

«و أزمعت صرمي»، يقال أزمعت و أجمعت و عزمت و كله سواء. يقول: إن كنت عزمت على الهجر فأجملي. و يقول الأسير: أجملوا في قتلي، قتلة أحسن من هذه، أي على رفق و جميل. و الصّرم: القطيعة، و الصّرم المصدر؛ يقال:

/صرمته أصرمه صرما مفتوح إذا قطعته، و منه سيف صارم أي قاطع، و منه الصّرام(3)، و منه الصرائم و هي القطع من الرمل تنقطع من معظمه. قوله: «سلّي ثيابي من ثيابك» كناية، أي اقطعي أمري من أمرك. و قوله تنسل: تبن عنها. و يقال للسنّ إذا بانت فسقطت و النّصل إذا سقط: نسل ينسل، و هو النسيل و النّسال.

و قال قوم: الثياب: القلب. و قوله: «و ما ذرفت عيناك» أي ما بكيت إلاّ لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتّل. قال الأصمعيّ: يعني أنك ما بكيت إلاّ لتخرقي قلبا معشّرا، أي مكسّرا، شبهه بالبرمة إذا كانت قطعا، و يقال: برمة أعشار. قال: و لم أسمع للأعشار واحدا. يقول: لتضربي بسهميك أي بعينيك فتجعلي قلبي مخرّقا فاسدا كما يخرّق الجابر أعشار البرمة؛ فالبرمة تنجبر إذا أخرقت و أصلحت، و القلب لا ينجبر. قال: و مثله قوله:

رمتك ابنة البكريّ عن فرع ضالة

أي نظرت إليك فأفرحت قلبك. و قال غير الأصمعيّ و هو قول الكوفيين: إنما هذا مثل أعشار الجزور، و هي تنقسم

ص: 51


1- إمرة: منزل في طريق من البصرة بعد القريتين إلى جهة مكة، و بعد رامة و هي منهل. و أسود العين: جبل بنجد يشرف على طريق البصرة إلى مكة.
2- يريد قوله: فلا و أبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفرّ في قصيدته التي مطلعها: أ حار بن عمرو كأني خمر و يعدو على المرء ما يأتمر
3- الصرام (بفتح الصاد و كسرها): جذاذ النخل أي أوان إدراكه.

على عشرة أنصباء، فضربت فيها بسهميك المعلى(1) و له سبعة أنصباء و الرقيب و له ثلاثة أنصباء، فأراد أنها ذهبت بقلبه كلّه. مقتّل أي مذلّل، يقال بعير مقتّل أي مذلّل. تسلّت: ذهبت. يقال: سلوت عنه و سليت إذا طابت نفسك بتركه. قال رؤية:

لو أشرب السّلوان ما سليت

/و العمايات: الجهالات. عدّ الجهل عمي. و الصّبا: اللعب. قال ابن السّكّيت: صبا يصبو صبوا و صبوا(2) و صباء و صبا. انجل: انكشف. و الأمر الجليّ: المنكشف. و قوله: أنا ابن جلا أي أنا ابن المكشوف الأمر المشهور غير المستور، و منه جلاء العروس و جلاء السيف. و قوله «فيك بأمثل» يقول: إذا جاءني الصباح و أنا فيك فليس ذلك بأمثل، لأن الصبح قد يجيء و الليل مظلم بعد. يقول: ليس الصبح بأمثل و هو فيك، أي يريد أن يجيء منكشفا منجليا لا سواد فيه. و لو أراد أن الصباح فيك أمثل من الليل لقال: منك بأمثل و مثله قول حميد بن ثور في ذكر مجيء/الصبح و الليل باق:

فلما تجلّى الصبح عنها و أبصرت *** و في غبش الليل الشخوص الأباعد

غبش الليل: بقيّته. هذا قول يعقوب بن السّكّيت. «و بيضة خدر» شبّه المرأة بالبيضة لصفائها و رقّتها. «غير معجل» أي لم يعجلني أحد عما أريده منها. و الخباء: ما كان على عمودين أو ثلاثة. و البيت: ما كان على ستة أعمدة إلى تسعة. و الخيمة: من الشّعر. و قوله: «يسرّون مقتلي»، قال الأصمعيّ: يسرّونه، و روى غيره: يشرّون بالشين المعجمة أي يظهرونه. و قال الشاعر:

فما برحوا حتى أتى اللّه نصره *** و حتى أشرّت بالأكفّ الأصابع(3)

أي أظهرت. و قال غيرهما: لو يسرّونه: من الإسرار أي لو يستطيعون قتلي لأسرّوه من الناس و قتلوني. قال أبو عبيدة: «دارة جلجل» في الحمى، و قال ابن الكلبيّ:

/هي عند عين كندة. و يروى سيما مخفّفة و سيّما مشدّدة. و يقال: ربّ رجل و ربّ رجل و ربّت(4) رجل. و من القرّاء من يقرأ رُبَمٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مخفّفة. و قرأ عليه رجل «ربّما» فقال له: أظنّك يعجبك الرّبّ(5).

و يروى:

فيا عجبا من رحلها المتحمّل

ص: 52


1- سهام الميسر عشرة و هي: الفذ و التوأم و الضريب و يقال له الرقيب و الحلس (بالكسر) و النافس و المسبل (بضم الميم و كسر الباء) و المعلى، و ثلاثة ليس لها شيء و هي الوغد و السفيح و المنيح. قال ابن الأنباري: فأما الفذ فله سهم واحد إن فاز و على صاحبه غرم سهم أن خاب. و التوأم له سهمان أن فاز و عليه سهمان إن خاب... و هكذا على الترتيب.
2- في الأصول: «صبيا»، و التصويب عن كتب اللغة.
3- ورد هذا البيت في «اللسان» (مادة شرر) هكذا: فما برحوا حتى رأى اللّه صبرهم و حتى أشرت بالأكف المصاحف و ذكر أنه لكعب بن جعيل أو للحصين بن الحمام المري يذكره يوم صفين. يريد: و حتى نشرت المصاحف و رفعها أصحاب معاوية بالأكف على أطراف الرماح.
4- و فيها لغات أخرى غير ذلك.
5- الرب: ما يطبخ من الثمر.

أي يا عجبا لسفهي و سبابي يومئذ. و يروي:

و قد أغتدي و الطير في وكراتها

بالراء. قال أبو عبيدة: و الأكنات في الجبال كالتّماريد(1) في السهل، و الواحدة أكنة و هي الوقنات، و الواحدة أقنة، و قد وقن يقن. و قال الأصمعيّ: إذا أوى الطير إلى وكره قيل وكر يكر و وكن يكن، و يقال: إنه جاءنا و الطير وكّن ما خرجن. و المنجرد: القصير الشّعرة، و ذلك من العتق. و الأوابد: الوحش، و تأبّدت: توحّشت، و تأبّد الموضع إذا توحّش و قيد الأوابد: يعني الفرس. يقول: هو قيد لها لأنها لا تفوته كأنها مقيّدة. و الهيكل: العظيم من الخيل و من الشجر؛ و منه سمّي بيت النصارى الهيكل. و قال أبو عبيدة: يقال: قيد الأوابد و قيد الرّهان، و هو الذي كأن طريدته في قيد له إذا طلبها، و كأن مسابقه في الرّهان مقيّد. قال أبو عبيدة: و أوّل من قيّدها امرؤ القيس. و المنجرد: القصير الشّعرة الصافي الأديم. و الهيكل الذكر، و الأنثى هيكلة، و الجمع هياكل، و هو العظيم العبل الكثيف الليّن. و قوله «مكرّ مفرّ» يقول: إذا شئت أن أكرّ عليه وجدته، و كذلك إذا أردت أن أفرّ عليه أو أقبل أو أدبر. و الجلمود:

الصخرة. و وصفها بأن السيل/حطّها من عل لأنها إذا كانت في أعلى الجبل كان أصلب لها. «من عل»: من فوق.

و يقال من عل عل و من علا و من علو و من عال و من علو و من معال. و قوله «سيري و أرخى زمامه» أي هوّني عليك الأمر و لا تبالي أعقر أم سلم. «و جناك» كلّ شيء اجتنيته من قبلة و ما أشبه: ذلك هو الجنى، و هو من الإنسان مثل الجنى من الشجر أي ما اجتنى من ثمره. و المعلّل: الملهّي.

غنّى في «قفا نبك»، و «أ فاطم مهلا»، و «أغرّك» و «و ما ذرفت عيناك» معبد لحنا من الثقيل الأوّل بالسّبّابة في مجرى الوسطى. و غنّى معبد أيضا في الأوّل و الرابع من هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى. و غنّى سعيد بن جابر في الأربعة الأبيات رملا. و غنّت عريب في:

أغرّك مني أن حبّك قاتلي

و بعده شعر ليس منه و هو:

/

فلا تحرجي من سفك مهجة عاشق *** بلى فاقتلي ثم اقتلي ثم فاقتلي(2)

فلا تدعي أن تفعلي ما أردته *** بنا، ما أراك اللّه من ذاك فافعلي

و لحنها فيها خفيف رمل. و غنّى ابن محرز في «تسلّت عمايات الرجال» و بعده «ألا أيها الليل الطويل» ثاني ثقيل بالوسطى. و غنّى فيهما عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ ثاني ثقيل آخر بالسبّابة في مجرى البنصر. و غنّت جميلة في «تسلت عمايات الرجال» و بعده «ألا رب يوم لك» لحنا من الثقيل الأوّل عن الهشامي. و غنّت عزّة الميلاء في «تسلّت عمايات الرجال» و بعده «و يوم عقرت للعذارى مطيتي» ثقيلا أوّل آخر عن الهشاميّ. و غنّت حميدة جارية ابن تفّاحة في «و بيضة خدر» و «تجاوزت أحراسا» لحنا من الثقيل الأوّل بالوسطى. و لطويس في «قفا نبك» /و بعده «فتوضح فالمقراة» ثقيل أوّل آخر. و في «أ فاطم مهلا» و «أغرّك مني أن حبّك قاتلي» ليزيد بن الرّحال هزج. و لأبي عيسى بن الرشيد في «وفد أغتدي» و «مكرّ مفرّ» ثقيل أوّل. و لفليح في «قفا نبك» و بعده «أغرّك منّي» رمل.

ص: 53


1- التماريد: جمع تمراد (بالكسر) و هو برج صغير للحمام.
2- لعل صوابه: «ثمت اقتلي» لقبح اجتماع حرفي عطف متواليين.

و قيل: إن لمعبد في «و بيضة خدر» لحنا من الثقيل الأوّل، و قيل: هو لحن حميدة. و لعريب في هذين البيتين خفيف ثقيل من رواية أبي العبيس. و غنّى سلام بن الغسّال - و قيل بل عبيدة أخوه - في «و إن كنت قد ساءتك مني» و «أغرّك مني» رملا بالوسطى. و غنّى في «فقلت لها سيرى و أرخى زمامه» سعدويه بن نصر ثاني ثقيل. و غنّى في «قفا نبك» و بعده «فتوضح فالمقراة» إبراهيم الموصليّ ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن ابن المكّيّ. و زعم حبش أن لإسحاق فيهما ثقيلا. و غنّى في «أغرّك مني» و «و ما ذرفت» ابن سريج خفيف رمل بالوسطى من رواية ابن المكّيّ، و قيل: بل هو من منحوله. و غنّى بديح مولى ابن جعفر في «و ما ذرفت عيناك» بيتا واحدا ثقيلا أوّل مطلقا في مجرى الوسطى عن ابن المكّيّ. فجميع ما جمع في هذه المواضع مما وجد في شعر «قفا نبك» من الأغاني صحيحها و المشكوك فيه منها اثنان و عشرون لحنا: منها في الثقيل الأوّل تسعة أصوات، و في الثقيل الثاني ثلاثة أصوات، و في الرمل أربعة أصوات، و في خفيف الرمل صوتان، و في الهزج صوت، و في خفيف الثقيل ثلاثة أصوات.

ص: 54

4 - ذكر امرئ القيس و نسبه و أخباره

نسبه من قبل أبويه:

قال الأصمعيّ: هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور و هو كندة. و قال ابن الأعرابيّ: هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ثور و هو كندة. و قال محمد بن حبيب: هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الملك ابن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع(1) بن معاوية بن كندة. و قال بعض الرّواة: هو امرؤ القيس بن السّمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور و هو كندة. و قالوا جميعا: كندة هو كندة بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. و قال/ابن الأعرابيّ: ثور هو كندة بن مرتع بن عفير بن الحارث بن مرّة بن عديّ بن أدد ابن زيد بن عمرو بن مسمع بن عريب بن عمرو بن زيد بن كهلال.

و أمّ امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير أخت كليب و مهلهل ابني ربيعة التغلبيّين. و قال من زعم أنه امرؤ القيس بن السّمط: أمّه تملك بنت عمرو بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب. قال من ذكر هذا و أنّ أمّه تملك: قد ذكر ذلك امرؤ القيس في شعره فقال:

ألا هل أتاها و الحوادث جمّة *** بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا

بيقر أي جاء العراق و الحضر. و يقال: بيقر الرجل إذا هاجر. و قال يعقوب بن السّكّيت: أمّ حجر أبي امرئ القيس أمّ قطام بنت سلمة امرأة من عنزة(2).

كنيته و لقبه:

و يكنى امرؤ القيس، على ما ذكره أبو عبيدة، أبا الحارث. و قال غيره: يكنى أبا وهب. و كان يقال له الملك الضّلّيل، و قيل له أيضا ذو القروح و إياه عنى الفرزدق بقوله:

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا *** و أبو زيد و ذو القروح و جرول

يعني بأبي يزيد المخبّل السّعديّ، و جرول الحطيئة.

ص: 55


1- ضبطه الحافظ في «التبصير» كمحسن و ضبطه الصاغاني في «العباب» كمحدّث.
2- صححها الشنقيطي في نسخته: «من كندة».
مولده و منزله:

قال: و ولد ببلاد بني أسد. و قال ابن حبيب: كان ينزل المشقّر من اليمامة. و يقال: بل كان ينزل في حصن بالبحرين.

سبب تسمية آبائه بأسمائهم:

و قال جميع من ذكرنا من الرّواة: إنما سمّي كندة لأنه كند أباه أي عقّه. و سمّي مرتع بذلك لأنه كان يجعل لمن أتاه من قومه مرتعا له و لماشيته. و سمّي حجر آكل المرار بذلك لأنه لما أتاه الخبر بأن الحارث بن جبلة كان نائما في حجر امرأته هند و هي تفليه جعل يأكل المرار (و هو نبت شديد المرارة) من الغيظ و هو لا يدري. و يقال: بل قالت هند للحارث و قد سألها: ما ترين حجرا فاعلا؟ قالت: كأنّك به قد أدركك في الخيل و هو كأنه بعير قد أكل المرار.

قال: و سمّي عمرو المقصور لأنه قد قصر(1) على ملك أبيه أي أقعد فيه كرها.

قصة جده الحارث بن عمرو مع قباذ و ابنه أنوشروان:

أخبرني بخبره، على ما قد سقته و نظمته، أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة و لم يتجاوزه، و روى بعضه عن عليّ بن الصّبّاح عن هشام بن الكلبيّ، و أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن عليّ بن الصّبّاح عن هشام بن الكلبيّ، قال ابن أبي سعد و أخبرني دارم بن عقال بن حبيب الغسّانيّ أحد ولد السّموءل بن عادياء عن أشياخه، و أخبرنا إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة، و أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ/قال حدّثني عمّي يوسف عن عمه إسماعيل، و أضفت إلى ذلك رواية ابن الكلبيّ مما لم أسمعه من أحد و رواية الهيثم بن عديّ و يعقوب بن السّكّيت و الأثرم و غيرهم، لما في ذلك من الاختلاف، و نسبت رواية كلّ راو إذا خالف رواية غيره إليه، قالوا:

كان عمرو بن حجر و هو المقصور ملكا بعد أبيه، و كان أخوه معاوية و هو الجون(2) على اليمامة، و أمّهما شعبة بنت أبي معاهر بن حسان بن عمرو بن تبّع. و لما مات ملك بعده ابنه الحارث، و كان شديد الملك بعيد الصّيت. و لما ملك قباذ بن فيروز خرج في أيام ملكه رجل يقال له مزدك فدعا الناس إلى الزندقة و إباحة الحرم و ألاّ يمنع أحد منهم أخاه/ما يريده من ذلك. و كان المنذر بن ماء السماء يومئذ عاملا على الحيرة و نواحيها. فدعاه قباذ إلى الدخول معه في ذلك فأبى. فدعا الحارث بن عمرو فأجابه؛ فشدّد له ملكه و أطرد(3) المنذر عن مملكته و غلب على ملكه. و كانت أمّ أنوشروان بين يدي قباذ يوما، فدخل عليه مزدك. فلما رأى أمّ أنوشروان قال القباذ: ادفعها لي لأقضي حاجتي منها؛ فقال: دونكها. فوثب إليه أنوشروان فلم يزل يسأله و يضرع إليه أن يهب له أمّه حتى قبّل رجله فتركها له؛ فكانت تلك في نفسه. فهلك قباذ على تلك الحال، و ملك أنوشروان فجلس في مجلس الملك.

و بلغ المنذر هلاك قباذ فأقبل إلى أنوشروان و قد علم خلافه على أبيه فيما كانوا دخلوا فيه. فأذن أنوشروان للناس، فدخل عليه مزدك ثم دخل عليه المنذر. فقال أنوشروان: إني كنت تمنّيت أمنيّتين أرجو أن يكون اللّه قد جمعهما

ص: 56


1- في الأصول: «اقتصر».
2- كذا في «شرح القاموس» و نسخة الأستاذ الشنقيطي مصححة بقلمه. و في الأصول: «الجوف» بالفاء و هو تحريف.
3- أي أمر بطرده.

لي. فقال مزدك: و ما هما أيها الملك؟ قال: تمنّيت أن أملك فاستعمل هذا الرجل الشريف (يعني المنذر) و أن أقتل هؤلاء الزنادقة. فقال له مزدك: أو تستطيع أن تقتل/الناس كلّهم؟! قال: إنك لها هنا يا ابن الزانية! و اللّه ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبّلت رجلك إلى يومي هذا! و أمر به فقتل و صلب، و أمر بقتل الزنادقة فقتل منهم ما بين جازر(1) إلى النّهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق و صلبهم؛ و سمّي يومئذ أنوشروان. و طلب أنوشروان الحارث بن عمرو؛ فبلغه ذلك و هو بالأنبار، و كان بها منزله - و إنما سمّيت الأنبار لأنه كان يكون بها أهراء(2) الطعام و هي الأنابير - فخرج هاربا في هجائنه و ماله و ولده فمرّ بالثّويّة(3)؛ و تبعه المنذر بالخيل من تغلب و بهراء(4) و إياد، فلحق بأرض كلب(5) فنجا، و انتهبوا ماله و هجائنه. و أخذت بنو تغلب ثمانية و أربعين نفسا من بني آكل المرار؛ فقدم بهم على المنذر فضرب رقابهم بحفر الأملاك في ديار بني مرينا(6) العباديّين بين دير هند و الكوفة.

فذلك قول عمرو بن كلثوم:

فآبوا بالنّهاب و السّبايا *** و أبنا بالملوك مصفّدينا

و فيهم يقول امرؤ القيس:

ملوك من بني حجر بن عمرو *** يساقون العشيّة يقتلونا

فلو في يوم معركة أصيبوا *** و لكن في ديار بني مرينا

و لم تغسل جماجمهم بغسل(7) *** و لكن في الدماء مرمّلينا(8)

تظلّ الطير عاكفة عليهم *** و تنتزع الحواجب و العيونا

/قالوا: و مضى الحارث فأقام بأرض كلب. فكلب يزعمون أنهم قتلوه. و علماء كندة تزعم أنه خرج إلى الصيد فألظّ(9) بتيس من الظّباء فأعجزه، فآلى أليّة ألاّ يأكل أوّلا إلا من كبده. فطلبته الخيل ثلاثا فأتي بعد ثالثة و قد هلك جوعا، فشوي له بطنه، فتناول فلذة من كبده فأكلها حارّة فمات. و في ذلك يقول الوليد بن عديّ الكنديّ في أحد بني بجيلة:

فشووا فكان شواؤهم خبطا له *** إن المنيّة لا تجلّ جليلا

/و زعم ابن قتيبة أن أهل اليمن يزعمون أن قباذ بن فيروز لم يملّك الحارث بن عمرو و أن تبّعا الأخير هو الذي

ص: 57


1- كذا في «معجم البلدان» لياقوت. و جازر: قرية من نواحي النهروان. و في أ، م: «جاذر» بالذال المعجمة. و في سائر الأصول: «حاذر» بالحاء المهملة و هو تحريف. و النهروان: ثلاث، أعلى و أوسط و أسفل، و هي كورة واسعة بين واسط و بغداد من الجانب الشرقي.
2- كذا في «نسخة الأستاذ الشنقيطي مصححة بقلمه. و الأهراء: الأكوام. و في الأصول: «إهداء الطعام» بالدال و هو تحريف.
3- الثوية: موضع قريب من الكوفة، و قيل بالكوفة.
4- بهراء: قبيلة باليمن.
5- كذا في أ، م، و هو موضع بين قومس و الري. و في سائر الأصول: «أرض كليب» و هو تحريف.
6- بنو مرينا: قوم من أهل الحيرة.
7- الغسل: ما يغسل به الرأس من خطمي و طين و أشنان و نحوه.
8- مرملين: ملطخين.
9- ألظ به: لزمه و ألح عليه ليصطاده.

ملّكه. قال: و لما أقبل المنذر(1) إلى الحيرة هرب الحارث و تبعته خيل فقتلت ابنه عمرا و قتلوا ابنه مالكا بهيت(2).

و صار الحارث إلى مسحلان(3) فقتلته كلب. و زعم غير ابن قتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه.

الحارث بن عمرو و تمليكه أولاده على قبائل العرب:

و قال الهيثم بن عديّ حدّثني حمّاد الراوية عن سعيد بن عمرو بن سعيد عن سعية(4) بن عريض من يهود تيماء قال: لمّا قتل الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ عمرو بن حجر ملّك بعده ابنه الحارث بن عمرو، و أمّه بنت عوف بن محلّم بن ذهل بن شيبان و نزل الحيرة. فلما تفاسدت القبائل من نزار أتاه أشرافهم فقالوا: إنّا في دينك و نحن نخاف أن نتفانى فيما يحدث بيننا، فوجّه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفّون بعضنا عن بعض. ففرّق ولده في قبائل العرب، فملّك ابنه حجرا على بني أسد و غطفان/و ملّك ابنه شرحبيل قتيل يوم الكلاب(5) على بكر بن وائل بأسرها و بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم(6) و الرّباب. و ملّك ابنه معد يكرب و هو غلفاء(7) (سمّي بذلك لأنه كان يغلّف رأسه) على بني تغلب و النّمر بن قاسط و سعد بن زيد مناة و طوائف من بني دارم [بن مالك] بن حنظلة و الصنائع و هم بنو رقيّة قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذّاذ العرب. و ملّك ابنه عبد اللّه على عبد القيس، و ملّك ابنه سلمة على قيس.

مقتل حجر أبي امرئ القيس:

و قال ابن الكلبيّ حدّثني أبي: أنّ حجرا كان في بني أسد، و كانت له عليهم إتاوة في كل سنة مؤقّتة؛ فغبر(8)

ص: 58


1- كذا في ج و هو المناسب لما سبق في هذه القصة. و في سائر الأصول: «من الحيرة» و هو تحريف.
2- هيت: بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار.
3- مسحلان: موضع.
4- هو أخو السموأل.
5- الكلاب (بضم أوله): اسم ماء بين الكوفة و البصرة، و قيل ماء بين جبلة و شمام. و كان للعرب يومان مشهوران بيوم الكلاب. فأمّا الأول فإن الحارث بن عمرو فرق أولاده على القبائل ملوكا كما ذكر المؤلف؛ فلما مات تداعت القبائل و تحزبت فوقعت حرب بين ولديه شرحبيل و أصحابه، و سلمة و أصحابه، فقتل شرحبيل يومئذ. و قد أشار إليه امرؤ القيس في قصيدته التي مطلعها: أرانا موضعين لحتم غيب و نسحر بالطعام و بالشراب فقال: و أعلم أنني عما قليل سأنشب في شبا ظفر و ناب كما لاقى أبي حجر و جدّي و لا أنسى قتيلا في الكلاب و أما الكلاب الثاني فكان بين بني سعد و الرباب، و بين بني الحارث بن كعب و قبائل اليمن، قتل فيه عبد يغوث بن صلاة الحارثي بعد أن أسر، و قال و هو مأسور قصيدته المشهورة التي مطلعها: أيا راكبا إما عرضت فبلغن نداماي من نجران أن لا تلاقيا (راجع «معجم البلدان» لياقوت).
6- في ب، س، ح: «... و بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة و طوائف من بني دارم بن تميم» بزيادة «و طوائف من بني دارم» و اعلم عليها في ح بالمداد الأحمر كأنه ترميج لها.
7- كذا في نسخة الأستاذ الشنقيطي مصححة بقلمه و «اللسان» (مادة غلف) و «معجم البلدان» (في الكلام على الكلاب). و في الأصول: «غلفى». و غلف رأسه: لطخه بالمسك.
8- غبر: لبث و بقي و في الأصول: «فعمر».

ذلك دهرا. ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم، فمنعوه ذلك - و حجر يومئذ بتهامة - و ضربوا رسله و ضرجوهم(1) ضرجا شديدا قبيحا. فبلغ ذلك حجرا؛ فسار إليهم بجند من ربيعة و جند من جند أخيه من قيس و كنانة، فأتاهم/و أخذ سراتهم، فجعل يقتّلهم بالعصا - فسمّوا عبيد العصا - و أباح الأموال، و صيّرهم إلى تهامة، و إلى باللّه ألاّ يساكنوهم في بلد أبدا، و حبس منهم عمرو بن مسعود بن كندة(2) بن فزارة الأسديّ و كان سيّدا، و عبيد بن الأبرص الشاعر. فسارت بنو أسد ثلاثا. ثم إنّ عبيد بن الأبرص قام فقال: أيّها الملك اسمع مقالتي:

يا عين(3) فابكي ما بني *** أسد فهم أهل النّدامه

أهل القباب الحمر و النّ *** عم المؤبّل(4) و المدامة

و ذوي الجياد الجرد و الأسل المثقّفة المقامة حلاّ(5) أبيت اللّعن حلاّ إنّ فيما قلت آمه

في كلّ واد بين يث *** رب فالقصور إلى اليمامه

تطريب عان أو صيا *** ح محرّق أو صوت هامه

و منعتهم نجدا فقد *** حلّوا على وجل تهامه

برمت بنو أسد كما *** برمت ببيضتها الحمامه

جعلت لها عودين من *** نشيم(6) و آخر من ثمامه

إمّا تركت تركت عف *** وا أو قتلت فلا ملامه

/أنت المليك عليهم *** و هم العبيد إلى القيامه

ذلّوا لسوطك مثل ما *** ذلّ الأشيقر(7) ذو الخزامة

/قال: فرقّ لهم حجر حين سمع قوله، فبعث في أثرهم فأقبلوا. حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم، و هو عوف بن ربيعة بن سوادة(8) بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، فقال لبني أسد:

يا عبادي! قالوا: لبّيك ربّنا. قال: من الملك الأصهب، الغلاّب غير المغلّب، في الإبل كأنها الرّبرب، لا يعلق رأسه الصّخب، هذا دمه ينثعب(9)، و هذا غدا أوّل من يسلب. قالوا: من هو يا ربّنا؟ قال: لو لا أن تجيش نفس جاشية،

ص: 59


1- ضرجه: أدماه أي جعل دمه يسيل من الضرب.
2- في ح و «تجريد الأغاني»: «ابن كلدة».
3- في «كتاب الشعر و الشعراء»: «يا عين ما خابكي بني... إلخ».
4- المؤبل: المقتنى.
5- حلا أي تحلل من يمينك. و الآمة: العيب.
6- النشم: شجر جبلي تتخذ منه القسيّ. و الثمامة: نبت بالبادية.
7- الأشيقر: تصغير الأشقر و هو الأحمر من الدواب. و الخزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير يشد بها الزمام فإن كانت من صفر فهي برة. و في الأصول: «الحزامة» بالحاء المهملة و هو تصحيف.
8- في ج: سواءة».
9- كذا في «تجريد الأغاني» و انثعب الدم: جرى. و في ب، س: «يتشعب». و في سائر الأصول: «ينشعب» و هما تحريف.

لأخبرتكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كلّ صعب و ذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبّته. و كان حجّابه من بني الحارث بن سعد يقال لهم بنو خدّان بن خنثر منهم معاوية بن الحارث و شبيب و رقيّة و مالك و حبيب، و كان حجر قد أعتق أباهم من القتل. فلمّا نظروا إلى القوم يريدون قتله خيّموا عليه ليمنعوه و يجيروه. فأقبل عليهم علباء بن الحارث الكاهليّ، و كان حجر قد قتل أباه، فطعنه من خللهم فأصاب نساه فقتله.

فلما قتلوه قالت بنو أسد: يا معشر كنانة و قيس، أنتم إخواننا و بنو عمّنا، و الرجل بعيد النسب منّا و منكم، و قد رأيتم ما كان يصنع بكم هو و قومه. فانتهبوهم فشدّوا على هجائنه فمزّقوها و لفّوه في ريطة بيضاء و طرحوه على ظهر الطريق. فلمّا رأته قيس و كنانة انتهبوا أسلابه. و وثب عمرو بن مسعود فضمّ عياله و قال: أنا لهم جار قال ابن الكلبيّ: و عدّة قبائل من بني أسد يدّعون قتل حجر و يقولون: إنّ علباء كان الساعي في قتله و صاحب المشورة و لم يقتله هو.

قال ابن حبيب: خدّان في بني أسد و خدّان في بني تميم و في بني جديلة بالخاء مفتوحة، و خدّان مضمومة في الأزد، و ليس في العرب غير هؤلاء.

/قال أبو عمرو الشّيبانيّ: بل كان حجر لمّا خاف من بني أسد استجار عوير بن شجنة أحد بني عطارد بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم لبنته هند بنت حجر و عياله. و قال لبني أسد لمّا كثروه: أمّا إذا كان هذا شأنكم فإني مرتحل عنكم و مخلّيكم و شأنكم؛ فواعدوه على ذلك. و مال على خالد بن خدّان أحد بني سعد بن ثعلبة.

فأدركه علباء بن الحارث أحد بني كاهل فقال: يا خالد اقتل صاحبك لا يفلت فيعرّك(1) و إيّانا بشرّ، فامتنع خالد.

و مرّ علباء بقصدة(2) رمح مكسورة فيها سنانها، فطعن بها في خاصرة حجر و هو غافل فقتله. ففي ذلك يقول الأسديّ:

و قصدة علباء بن قيس بن كاهل *** منيّة حجر في جوار ابن خدّان

و ذكر الهيثم بن عديّ أنّ حجرا لمّا استجار عوير بن شجنة لبنيه و قطينه(3) تحوّل عنهم فأقام في قومه مدّة، و جمع لبني أسد جمعا عظيما من قومه و أقبل مدلاّ بمن معه من الجنود. فتآمرت بنو أسد بينها و قالوا: و اللّه لئن قهركم هذا ليحكمنّ عليكم حكم الصبيّ! فما خير عيش يكون بعد قهر و أنتم بحمد اللّه أشدّ العرب! فموتوا كراما.

فساروا إلى حجر و قد/ارتحل نحوهم فلقوه فاقتتلوا قتالا شديدا. و كان صاحب أمرهم علباء بن الحارث، فحمل على حجر فطعنه فقتله، و انهزمت كندة و فيهم يومئذ امرؤ القيس فهرب على فرس له شقراء و أعجزهم، و أسروا من أهل بيته رجالا و قتلوا و ملئوا أيديهم من الغنائم، و أخذوا جواري حجر و نساءه و ما كان معه من شيء فاقتسموه بينهم.

و قال يعقوب بن السّكّيت حدّثني خالد الكربيّ قال: كان سبب قتل حجر أنه كان وفد إلى أبيه الحارث بن عمرو في مرضه الذي مات فيه و أقام عنده حتى هلك، ثم أقبل راجعا إلى بني أسد و قد كان أغار عليهم في النّساء و أساء ولايتهم، و كان يقدّم/بعض ثقله أمامه و يهيّأ نزله ثم يجيء و قد هيّئ له من ذلك ما يعجبه فينزل، و يقدّم مثل ذلك إلى ما بين يديه من المنازل فيضرب له في المنزلة الأخرى. فلما دنا من بلاد بني أسد و قد بلغهم موت أبيه

ص: 60


1- عرّ فلان فلانا بشر: أصابه به.
2- القصدة: القطعة.
3- القطين هنا: الخدم و الحاشية.

طمعوا فيه. فلما أظلّهم و ضربت قبابه اجتمعت بنو أسد إلى نوفل بن ربيعة بن خدّان، فقال: يا بني أسد! من يتلقّى هذا الرجل منكم فيقتطعه؟ فإني قد أجمعت على الفتك به. فقال له القوم: ما لذلك أحد غيرك. فخرج نوفل في خيله حتى أغار على الثّقل فقتل من وجد فيه، و ساق الثّقل و أصاب جاريتين قينتين لحجر، ثم أقبل حتى أتى قومه. فلما رأوا ما قد حدث و أتاهم به عرفوا أن حجرا يقاتلهم و أنه لا بدّ من القتال، فحشد الناس لذلك، و بلغ حجرا أمرهم، فأقبل نحوهم. فلما غشيهم ناهضوه القتال و هم بين أبرقين من الرمل في بلادهم يدعيان اليوم أبرقي حجر، فلم يلبثوا حجرا أن هزموا أصحابه و أسروه فحبسوه. و تشاور(1) القوم في قتله، فقال لهم كاهن من كهنتهم بعد أن حبسوه ليروا فيه رأيهم: أيّ قوم! لا تعجلوا بقتل الرجل حتّى أزجر لكم. فانصرف عن القوم لينظر لهم في قتله.

فلمّا رأى ذلك علباء خشي أن يتواكلوا في قتله؛ فدعا غلاما من بني كاهل، و كان ابن أخته و كان حجر قتل أباه زوج أخت علباء، فقال: يا بنيّ، أ عندك خير فتثأر بأبيك و تنال شرف الدهر و إنّ قومك لن يقتلوك؟!. فلم يزل بالغلام حتى حرّبه(2)، و دفع إليه حديدة و قد شحذها و قال: أدخل عليه مع قومك ثم اطعنه في مقتله: فعمد الغلام إلى الحديدة فخبأها ثم دخل على حجر في قبّته التي حبس فيها. فلمّا رأى الغلام غفلة وثب عليه فقتله، فوثب القوم على الغلام. فقالت بنو كاهل: ثأرنا و في أيدينا. فقال الغلام: إنما ثأرت بأبي، فخلّوا عنه. و أقبل كاهنهم المزدجر فقال: أي قوم! قتلتموه! ملك شهر، و ذلّ دهر. أما و اللّه لا تحظون عند الملوك بعده أبدا.

وصيته لبنيه عند موته:

قال ابن السّكّيت: و لما طعن الأسديّ حجرا و لم يجهز عليه، أوصى و دفع كتابه إلى رجل و قال له: انطلق إلى ابني نافع - و كان أكبر ولده - فإن بكى و جزع فاله عنه، و استقرهم واحدا واحدا حتى تأتي امرأ القيس - و كان أصغرهم - فأيّهم لم يجزع فادفع إليه سلاحي و خيلي و قدوري و وصيّتي. و قد كان بيّن في وصيّته من قتله و كيف كان خبره. فانطلق الرجل بوصيّته إلى نافع ابنه: فأخذ التراب فوضعه على رأسه. ثم استقراهم واحدا واحدا فكلّهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر و يلاعبه بالنّرد؛ فقال له: قتل حجر. فلم يلتفت إلى قوله، و أمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس: /اضرب فضرب. حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كلّه فأخبره. فقال: الخمر عليّ و النساء حرام حتى أقتل من بني أسد مائة و أجزّ نواصي(3)مائة. و في ذلك يقول:

أرقت و لم يأرق لما بي نافع *** و هاج لي الشوق الهموم الروادع

و قال ابن الكلبيّ: حدّثني أبي عن ابن الكاهن الأسديّ: أنّ حجرا كان طرد امرأ القيس و آلى ألاّ يقيم معه أنفة من قوله الشعر، و كانت الملوك تأنف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب و معه أخلاط من شذّاذ العرب من طيّئ و كلب و بكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم، و خرج إلى الصيد فتصيّد ثم عاد فأكل و أكلوا معه و شرب الخمر و سقاهم و غنّته قيانه. و لا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير ثم

ص: 61


1- في الأصول: «و شاور القوم».
2- حربه: حرشه.
3- يريد: حتى أقتل منهم مائة و آسر مائة. و كان من عادات العرب أنه إذا أسر الرجل منهم آخر و أراد أن يمن عليه جز ناصيته (و هي الشعر في مقدّم الرأس) و أطلقه، فتكون الناصية عنده فخرا.

ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه و مقتله و هو بدمّون من أرض اليمن، أتاه به رجل من بني عجل يقال له عامر الأعور أخو الوصّاف. فلما أتاه بذلك قال:

/

تطاول الليل على دمّون *** دمّون إنّا معشر يمانون

و إنّنا(1) لأهلها محبّون

ثم قال: ضيّعني صغيرا و حمّلني دمه كبيرا. لا صحو اليوم و لا سكر غدا. «اليوم خمر، و غدا أمر» فذهبت مثلا. ثم قال:

خليليّ لا في اليوم مصحى لشارب *** و لا في غد إذ ذاك ما كان يشرب

ثم شرب سبعا. فلمّا صحا آلى ألا يأكل لحما، و لا يشرب خمرا، و لا يدّهن بدهن، و لا يصيب امرأة، و لا يغسل رأسه من جنابة، حتى يدرك بثاره. فلما جنّة الليل رأى برقا فقال:

أرقت لبرق بليل أهلّ *** يضيء سناه بأعلى الجبل

أتاني حديث فكذّبته *** بأمر تزعزع منه القلل

بقتل بني أسد ربّهم *** ألا كلّ شيء سواه جلل(2)

فأين ربيعة عن ربّها *** و أين تميم و أين الخول

أ لا يحضرون لدي بابه *** كما يحضرون إذا ما أكل

و روى الهيثم عن أصحابه أنّ امرأ القيس لمّا قتل أبوه كان غلاما قد ترعرع، و كان في بني حنظلة مقيما لأنّ ظئرة كانت امرأة منهم. فلما بلغه ذلك قال:

يا لهف هند إذ خطئن(3) كاهلا *** القاتلين الملك الحلاحلا(4)

/تاللّه لا يذهب شيخي باطلا *** يا خير شيخ حسبا و نائلا

و خيرهم - قد علموا - فواضلا(5) *** يحملننا و الأسل النّواهلا

و حيّ صعب و الوشيج الذّابلا *** مستثفرات بالحصى جوافلا(6)

ص: 62


1- كذا في شرح «القاموس» (مادة دمن) و «معجم البلدان» لياقوت: و في الأصول: «و إنما لأهلها محبون».
2- جلل: هاهنا بمعنى هين.
3- كذا في «ديوانه» و نسخة الأستاذ الشنقيطي مصححة بقلمه. و خطئ هاهنا بمعنى أخطأ. و كاهل أبو فخذ من بني أسد، و هو كاهل بن دودان بن أسد بن خزيمة. (راجع «ديوان امرئ القيس» ص 78 نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 15 أدب ش. و في الأصول: «حظين» بالحاء المهملة و الظاء المعجمة.
4- الحلاحل: السيد الكريم. و قد ورد هذا الرجز في نسخ «ديوانه» مختلفا في ترتيب شطراته. و يريد بالضمير في خطئن الخيل و بالقاتلين بني أسد.
5- ورد بدل هذا الشطر في إحدى نسخ «الديوان» قوله: نحن جلبنا القرح القوافلا و القرح: (بضم القاف و تشديد الراء مفتوحة) جمع قارح، و هو من الخيل ما كان في الخامسة من سنه. و القوافل: الضوامر.
6- جوافل: مسرعات، يقال: جفل و أجفل إذا أسرع.

يعني صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. معنى قوله «مستثفرات بالحصى»: يريد أنها أثارت الحصى بحوافرها لشدّة جريها حتى ارتفع إلى أثفارها(1) فكأنها استثفرت به.

هند بنت حجر يجيرها عوير بن شجنة:

و قال/الهيثم بن عديّ: لمّا قتل حجر انحازت بنته و قطينه إلى عوير بن شجنة. فقال له قومه: كل أموالهم فإنهم مأكولون، فأبى. فلما كان الليل حمل هندا و قطينها و أخذ بخطام جملها و أشأم بهم في ليلة طخياء مدلهمّة.

فلما أضاء البرق أبدى عن ساقيه و كانت حمشتين(2). فقالت هند: ما رأيت كالليلة ساقي واف. فسمعها فقال يا هند: هما ساقا غدر شرّ. فرمى بها النّجاد حتى أطلعها نجران، و قال لها: إني لست أغني عنك شيئا وراء هذا الموضع، و هؤلاء قومك، و قد برئت خفارتي. فمدحه امرؤ القيس بعدّة قصائد، منها قوله في قصيدة له:

ألا إنّ قوما كنتم أمس دونهم *** هم منعوا جاراتكم آل غدران(3)

عوير و من مثل العوير و رهطه *** أبرّ بميثاق و أوفى بجيران

هم أبلغوا الحيّ المضيّع أهله *** و ساروا بهم بين الفرات و نجران

/و قوله:

ألا قبح اللّه البراجم كلّها *** و جدّع يربوعا و عفّر دارما

فما فعلوا فعل العوير و رهطه *** لدى باب حجر إذ تجرّد قائما

و قال ابن قتيبة في خبره: إنّ القصة المذكورة عن عوير كانت مع أبي حنبل و جارية ابن مرّ. قال و يقال: بل كانت مع عامر بن جوين الطائيّ و إن ابنته أشارت عليه بأخذ مال حجر و عياله، فقام و دخل الوادي ثم صاح: ألا إنّ عامر بن جوين وفى، فأجابه الصّدى بمثل قوله، فقال: ما «أحسن هذا! ثم دعا ابنته بجذعة(4) من غنم فاحتلبها و شرب و استلقى على قفاه و قال:

و اللّه لا أغدر ما أجزأتني جذعة. ثم نهض و كانت ساقاه حمشتين، فقالت ابنته: و اللّه ما رأيت كاليوم ساقي واف.

فقال: و كيف بهما إذا كانتا ساقي غادر! هما و اللّه حينئذ أقبح.

امرؤ القيس يستعدي بكرا و تغلب على بني أسد:

و قال ابن الكلبيّ عن أبيه و يعقوب بن السّكّيت عن خالد الكلابيّ:

إن امرأ القيس ارتحل حتى نزل بكرا و تغلب، فسألهم النصر على بني أسد. فبعث العيون على بني أسد فنذروا(5) بالعيون و لجئوا إلى بني كنانة. و كان الذي أنذرهم بهم علباء بن الحارث. فلما كان الليل قال لهم علباء:

ص: 63


1- الأثفار: جمع ثفر (بالتحريك) و هو السير الذي في مؤخرة السرج تحت ذنب الدابة. و أما الثفر (بفتح فسكون و بضم فسكون) فهو لجميع ضروب السباع و لكل ذات مخلب كالحياء للناقة.
2- حمشتين: دقيقتين.
3- آل غدران (بالضم): بطن من العرب.
4- الجذعة: الفتية.
5- نذروا: علموا فحذروا.

يا معشر بني أسد تعلمون! و اللّه إنّ عيون امرئ القيس قد أتتكم و رجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل و لا تعلموا بني كنانة، ففعلوا. و أقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر و تغلب حتى انتهى إلى بني كنانة و هو يحسبهم بني أسد فوضع السّلاح فيهم و قال: يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام! فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: أبيت اللّعن! لسنا لك بثأر، /نحن من كنانة، فدونك ثأرك فاطلبهم فإن القوم قد شاروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم تلك - فقال في ذلك:

أ لا يا لهف هند إثر قوم *** هم كانوا الشفاء فلم يصابوا

وقاهم جدّهم(1) ببني أبيهم *** و بالأشقين ما كان العقاب

و أفلتهنّ علباء جريضا(2) *** و لو أدركنه صفر الوطاب

يعني ببني أبيهم(3) بني كنانة، لأن أسدا و كنانة ابني خزيمة أخوان.

أخبرني أبو خليفة عن محمد/بن سلاّم قال:

سمعت رجلا سأل يونس عن قوله «صفر الوطاب»، فقال: سألنا رؤبة عنه فقال: لو أدركوه قتلوه و ساقوا إبله فصفرت و طابه من اللّبن. و قال غيره: صفر الوطاب أي إنه كان يقتل فيكون جسمه صفرا من دمه كما يكون الوطاب صفرا من اللّبن.

[و أدركهم(4)] ظهرا و قد تقطّعت خيله و قطع أعناقهم العطش، و بنو أسد جامّون(5) على الماء، فنهد إليهم فقاتلهم حتى كثرت الجرحى و القتلى فيهم، و حجز اللّيل بينهم، و هربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر و تغلب أبوا أن يتّبعوهم و قالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: و اللّه ما فعلت و لا أصبت من بني كاهل و لا من غيرهم/من بني أسد أحدا. قالوا: بلى، و لكنك رجل مشئوم. و كرهوا قتالهم بني كنانة(6) و انصرفوا عنه. و مضى هاربا لوجهه حتى لحق بحمير.

يلجأ إلى عمرو بن المنذر:

و قال ابن السّكّيت حدّثني خالد الكلابيّ: أن امرأ القيس لمّا أقبل من الحرب على فرسه الشّقراء لجأ إلى ابن عمّته عمرو بن المنذر - و أمّه هند بنت عمرو بن حجر بن آكل المرار، و ذلك بعد قتل أبيه و أعمامه و تفرّق ملك أهل بيته، و كان عمرو يومئذ خليفة لأبيه المنذر ببقّة و هي بين الأنبار و هيت - فمدحه و ذكر صهره و رحمه و أنه قد تعلّق بحباله و لجأ إليه. فأجاره، و مكث عنده زمانا. ثم بلغ المنذر مكانه عنده فطلبه، و أنذره عمرو فهرب حتى أتى حمير.

ص: 64


1- الجد: الحظ. و الأشقين: جمع أشقى، أي وقى بني أسد حظهم إذ وقع العقاب بالأشقين بني أبيهم و هم كنانة.
2- أفلتهنّ جريضا أي أفلتهنّ بعد جهد و مشقة. و الأصل في الجرض: الغصص بالريق. و ظاهر أن مرجع الضمير في «أفلتهن» و «أدركنه» الخيل التي كروا بها عليهم.
3- في الأصول: يعني بأبيهم بني كنانة» و هو غير مستقيم.
4- التكملة عن «تجريد الأغاني».
5- كذا في أ، م: و جامون: مجتمعون مستريحون. و في «تجريد الأغاني»: «جاثمون». و في سائر الأصول: «حامون» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
6- أظن أن صوابه: «بني أسد».
يستنصر أزدشنوءة:

و قال ابن الكلبيّ و الهيثم بن عديّ و عمر بن شبّة و ابن قتيبة:

فلمّا امتنعت بكر بن وائل و تغلب من اتّباع بني أسد خرج من فوره ذلك إلى اليمن فاستنصر أزدشنوءة، فأبوا أن ينصروه و قالوا: إخواننا و جيراننا.

و مرثد الخير الحميري:

فنزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميريّ، و كانت بينهما قرابة، فاستنصره و استمدّه على بني أسد، فأمدّه بخمسمائة رجل من حمير؛ و مات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم.

و قرمل بن الحميم:

و قام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له قرمل بن الحميم و كانت أمّه سوداء، فردّد امرأ القيس و طوّل عليه حتى همّ بالانصراف و قال:

و إذ نحن ندعو مرثد الخير ربّنا *** و إذ نحن لا ندعى عبيدا لقرمل

فأنفذ له ذلك الجيش؛ و تبعه شذّاذ من العرب، و استأجر من قبائل العرب رجالا، فسار بهم إلى بني أسد.

و مرّ بتبالة(1) و بها صنم للعرب تعظّمه يقال له/ذو الخلصة(2)؛ فاستقسم(3) عنده بقداحة و هي ثلاثة الآمر و الناهي و المتربّص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها و كسرها و ضرب بها وجه الصنم و قال: مصصت بظر أمّك! لو أبوك قتل ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد. و يقال: إنه ما استقسم عند ذي الخلصة بعد ذلك بقدح حتى جاء أمر اللّه بالإسلام و هدمه جرير بن عبد اللّه البجليّ.

طلبه المنذر فهرب و نزل بالحارث بن شهاب:

قالوا: و ألحّ المنذر في طلب امرئ القيس و وجّه الجيوش في طلبه من إياد و بهراء و تنوخ و لم تكن لهم طاقة، و أمدّه أنوشروان بجيش من الأساورة فسرّحهم في طلبه. و تفرّقت حمير و من كان معه عنه. فنجا في عصبة من بني آكل المرار حتى نزل بالحارث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة، و مع امرئ القيس أدراع خمسة: الفضفاضة و الضيافة و المحصّنة و الخربق(4) و أمّ الذيول كنّ لبني آكل المرار يتوارثونها ملكا عن/ملك. فقلّما لبثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب إن لم يسلم إليه بني آكل المرار فأسلمهم؛ و نجا امرؤ القيس و معه يزيد بن معاوية بن الحارث و بنته هند (بنت امرئ القيس) و الأدرع و السلاح و مال كان بقي معه، فخرج على وجهه حتى وقع في أرض طيّئ.

ثم نزل على سعد بن الضباب الإيادي:

و قيل: بل نزل قبلهم(5) على سعد بن الضّباب الإياديّ سيّد قومه فأجاره.

ص: 65


1- تبالة: موضع بين مكة و اليمن على مسيرة سبع ليال من مكة.
2- ذو الخلصة: مروة بيضاء منقوش عليها كهيئة التاج، و كان سدنتها بني أمامة من باهلة بن أعصر و كانت تعظمها و تهدي لها خثعم و بجيلة و أزد السراة و من قاربهم من بطون العرب من هوازن. («الأصنام» لابن الكلبي ص 43).
3- الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما فقسم للمرء مما لم يقسم.
4- في أ، م: «الخريق». و في «تجريد الأغاني»: «الحريق».
5- كذا في «تجريد الأغاني»: و في الأصول: «قبله».

/قال ابن الكلبيّ: و كانت أمّ سعد بن الضّباب تحت حجر أبي امرئ القيس فطلّقها و كانت حاملا و هو لا يعرف، فتزوجها الضّباب فولدت سعدا على فراشه، فلحق نسبه به. فقال امرؤ القيس يذكر ذلك:

يفاكهنا سعد و ينعم بالنا *** و يغدو(1) علينا بالجفان و بالجزر

و نعرف فيه من أبيه شمائلا *** و من خاله و من يزيد و من حجر

سماحة ذا و برّ ذا و وفاء ذا *** و نائل ذا إذا صحا و إذا سكر

و المعلّى بن تيم:

ثم تحوّل عنه فوقع في أرض طيّئ(2) فنزل برجل من بني جديلة يقال له المعلّى بن تيم. ففي ذلك يقول:

كأنّي إذ نزلت على المعلّى *** نزلت على البواذخ من شمام(3)

فما ملك العراق على المعلّى *** بمقتدر و لا ملك الشام

أقرّ حشى امرئ القيس بن حجر *** بنو تيم مصابيح الظلام

ثم ببني نبهان:

قالوا: فلبث عنده و اتّخذ إبلاّ هناك. فغدا قوم من بني جديلة يقال لهم بنو زيد فطردوا الإبل. و كانت لامرئ القيس رواحل مقيّدة عند البيوت خوفا من أن يدهمه أمر ليسبق عليهن. فخرج حينئذ فنزل ببني نبهان من طيّئ، فخرج نفر منهم فركبوا الرواحل ليطلبوا له الإبل فأخذتهن جديلة، فرجعوا إليه بلا شيء. فقال في ذلك:

و أعجبني مشي الحزقّة خالد *** كمشي أتان حلّئت بالمناهل(4)

/فدع عنك نهبا صيح في حجراته(5) *** و لكن حديثا ما حديث الرّواحل

ففرّقت عليه بنو نبهان فرقا(6) من معزى يحلبها. فأنشأ يقول:

إذا ما لم تجد إبلا فمعزى *** كأن قرون جلّتها(7) العصى

ص: 66


1- ورد هذا الشطر في «ديوانه» هكذا: بمثنى الرقاق المترعات و بالجزر
2- في الأصول: «من أرض طيّئ» و هو تحريف. و عبارة «تجريد الأغاني»: «ثم تحول عنه فنزل بأرض طي عند رجل...».
3- شمام: اسم جبل لباهلة.
4- هذه رواية «الديوان». و الحزقة: القصير الذي يقارب الخطو. و حلئت: منعت عن الماء و طردت مرة بعد مرة. و في الأصول: عجبت له مشى الحزقة خالد
5- الحجرات: النواحي. يقول: دع النهب الذي صاح المنتهب في نواحيه و أخذه، و حدّثني حديث الرواحل و هي الإبل التي ذهبت بها ما فعلت. (راجع «اللسان» في مادة حجر و «شرح ديوانه»).
6- الفرق: القطيع من الغنم و البقر و الظباء، و قيل: هو ما دون المائة من الغنم. و من جعل الألف في «معزى» للتأنيث منه من الصرف، و من جعلها للإلحاق صرف، و هو الأرجح.
7- الجلة: المسان (بفتح الميم و تشديد النون كبيرات السن). و يروى هذا الشطر في «ديوانه»: ألا إلا تكن إبل فمعزى

إذا ما قام حالبها أرنّت(1) *** كأن القوم صبّحهم نعيّ

فتملأ بيتنا أقطا(2) و سمنا *** و حسبك من غنّى شبع و ريّ

ثم نزل بعامر بن جوين:

فكان عندهم ما شاء اللّه. ثم خرج فنزل بعامر بن جوين و اتخذ عنده إبلا، و عامر يومئذ أحد الخلعاء الفتّاك قد تبرّأ قومه من جرائره، فكان عنده ما شاء اللّه، ثم همّ أن يغلبه على أهله و ماله، ففطن امرؤ القيس بشعر كان عامر ينطق به و هو قوله:

فكم بالصعيد(3) من هجان مؤبّلة *** تسير صحاحا ذات قيد و مرسله

أردت بها فتكا فلم أرتمض(4) له *** و نهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله(5)

/و كان عامر أيضا يقول يعرّض بهند بنت امرئ القيس:

/

ألا حيّ هندا و أطلالها *** و تظعان هند و تحلا لها

هممت بنفسي كلّ الهموم *** فأولى لنفسي أولى لها(6)

سأحمل نفسي على آلة(7)*** فإمّا عليها و إمّا لها

هكذا روى ابن أبي سعد عن دارم بن عقال. و من الناس من يروي هذه الأبيات للخنساء في قصيدتها:

ألا ما لعيني ألا ما لها *** لقد أخضل الدمع سربالها

ثم بحارثة بن مر:

قالوا: فلما عرف امرؤ القيس ذلك منه و خافه على أهله و ماله، تغفّله و انتقل إلى رجل من بني ثعل يقال له حارثة بن مرّ فاستجار به. فوقعت الحرب بين عامر و بين الثّعليّ، فكانت في ذلك أمور كثيرة. قال دارم بن عقال في خبره:

فلمّا وقعت الحرب بين طيّئ من أجله، خرج من عندهم فنزل برجل من بني فزارة يقال له عمرو بن جابر بن مازن، فطلب منه الجوار حتى يرى ذات عيبه(8). فقال له الفزاريّ: يا ابن حجر، إني أراك في خلل من قومك و أنا أنفس(9)

ص: 67


1- رواية «الديوان» في هذا البيت: إذا مشت حوالبها أرنت كأن الحي صبحهم نعى ببناء الفعل (مشت) للمجهول. و مشت حوالبها: مسحت بالكف ليدر اللبن. و الحوالب: العروق التي تدر اللبن في الضرع واحدها حالب. و أرنت: صوتت. و يحتمل أن تكون المعزى هى المرنة، و أن يكون الإرنان صوت الشخب الذي يقع في الإناء من كثرة اللبن.
2- الأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض مثل الجبن.
3- كذا في «تجريد الأغاني»: و في ج: «فكم من سعيد». و في سائر النسخ: «فكم بالصحيح» و هما تحريف.
4- ارتمض: حزن، أي فلم أحزن و لم آسف له. و نهته: كف.
5- نصب الفعل على تقدير «أن» أي بعد ما كدت أن أفعله، و هو شاذ.
6- أولى لك: كلمة توعد و تهديد، و قد تكون كلمة تلهف، يقولها الرجل إذا حاول شيئا فأفلته من بعد ما كاد يصيبه.
7- الآلة هنا: الحالة.
8- يريد: ينظر في أمره و يصلح من شأنه.
9- أنفس به: أضنّ به.

بمثلك من أهل الشرف، و قد كدت بالأمس تؤكل في دار طيّئ، و أهل البادية أهل برّ لا أهل حصون تمنعهم، و بينك و بين أهل اليمن ذؤبان من قيس، أ فلا أدلّك على بلد! فقد جئت قيصر و جئت النّعمان فلم أر لضيف نازل و لا لمجتد مثله و لا مثل صاحبه. قال: من هو و أين منزله؟ قال: السّموءل بتيماء، و سوف أضرب لك مثله، هو يمنع ضعفك حتى ترى ذات عيبك، و هو في حصن حصين و حسب كبير. فقال له امرؤ القيس/و كيف لي به؟ قال: أوصلك إلى من يوصلك إليه؛ فصحبه إلى رجل من بني فزارة يقال له الرّبيع(1) بن ضبع الفزاري ممن يأتي السموأل فيحمله و يعطيه. فلمّا صار إليه قال له الفزاريّ: إنّ السموأل يعجبه الشعر. فتعال نتناشد له أشعارا. فقال امرؤ القيس: قل حتى أقول. فقال الربيع:

قل للمنيّة أيّ حين نلتقي *** بفناء بيتك في الحضيض المزلق

و هي طويلة يقول فيها:

و لقد أتيت بني المصاص مفاخرا *** و إلى السموأل زرته بالأبلق

فأتيت أفضل من تحمّل حاجة *** إن جئته في غارم أو مرهق

عرفت له الأقوام كلّ فضيلة *** و حوى المكارم سابقا لم يسبق

قال: فقال امرؤ القيس:

طرقتك هند بعد طول تجنّب *** و هنا و لم تك قبل ذلك تطرق

و هي قصيدة طويلة، و أظنّها منحولة لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، و التوليد فيها بيّن، و ما دوّنها في «ديوانه» احد من الثّقات؛ و أحسبها مما صنعه دارم لأنه من ولد السموأل و مما صنعه من روى عنه من ذلك فلم تكتب هنا(2).

قال فوفد الفزاريّ بامرئ القيس إليه. فلما كانوا ببعض الطريق إذا هم ببقرة وحشية مرميّة. فلما نظر إليها أصحابه قاموا فذكّوها. فبينما هم كذلك إذا هم بقوم قنّاصين من بني ثعل(3). فقالوا لهم: من أنتم؟ /فانتسبوا لهم، و إذا هم من جيران السموأل فانصرفوا جميعا. و قال امرؤ القيس:

/

ربّ رام من بني ثعل *** مخرج كفّيه من قتره(4)

عارض زوراء من نشم *** مع باناة على وتره(5)

- هكذا في رواية ابن دارم. و يروى «غير باناة» و «تحت باناة» -

ص: 68


1- في «المشتبه» أنه اختلف فيه هل هو بفتح الراء أو ضمها.
2- وردت هذه الجملة هكذا في الأصول. و لعل صوابها «أو مما صنعه من روى عنه فلم تكتب هنا».
3- ثعل: قبيلة من طيّئ.
4- القتر: جمع قترة و هي بيت الصائد الذي يكمن فيه للوحش لئلا تراه فتنفر منه.
5- يقال: عرض الرامي القوس عرضا إذا أضجعها ثم رمى عنها. و زوراء: معوجة. و النشم: شجر تتخذ منه القسي. و الرواية التي كتب عنها الشراح هي رواية «غير باناة» و الباناة لغة طيّئ في البانية كما يقولون في ناصية ناصاة و في قارية قاراة. و البانية من القسي: التي لصق و ترها بكبدها حتى كاد ينقطع و ترها في بطنها من لصوقه بها، و هو عيب. و «على» بمعنى «عن» أي غير بانية عن الوتر. و على هذا الوجه يكون «غير» بنصب الراء صفة لزوراء. و يجوز أن يكون بكسر الراء على أنه من صفة الرامي، يقال رجل باناة و هو الذي ينحني صلبه إذا رمى فيذهب سهمه على وجه الأرض، و على هذا تكون «على» هنا في موضعها.

إذ أتته الوحش واردة *** فتثنّى النزع في يسره(1)

فرماها في فرائصها *** بإزاء الحوض أو عقره(2)

برهيش(3) من كنانته *** كتلظّي الجمر في شرره

/راشه من ريش ناهضة *** ثم أمهاه على حجره(4)

فهو لا تنمي رميّته(5) *** ما له لا عدّ من نفره

طلب إلى السموأل أن يكتب له إلى الحارث ليوصله إلى قيصر:

قال: ثم مضى القوم حتى قدموا على السّموءل، فأنشده الشعر، و عرف لهم حقّهم، فأنزل المرأة في قبّة أدم و أنزل القوم في مجلس له براح؛ فكان عنده ما شاء اللّه. ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ بالشأم ليوصله إلى قيصر؛ فاستنجد له رجلا، و استودع(6) عنده المرأة و الأدراع و المال، و أقام معها يزيد بن معاوية بن الحارث ابن عمّه. فمضى حتى انتهى إلى قيصر؛ فقبله و أكرمه و كانت له عنده منزلة.

لما وصل إلى قيصر دس له عنده الطماح حتى سمه بحلة خلعها عليه:

فاندسّ رجل من بني أسد يقال له الطمّاح، و كان امرؤ القيس قد قتل أخا له من بني أسد، حتى أتى إلى بلاد الروم فأقام مستخفيا. ثم إن قيصر ضمّ إليه جيشا كثيفا و فيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما فصل قال لقيصر قوم من أصحابه: إن العرب قوم غدر و لا تأمن أن يظفر بما يريد ثم يغزوك بمن بعثت معه. و قال ابن الكلبيّ: بل قال له الطمّاح: إنّ امرأ القيس غويّ عاهر و إنه لمّا انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك و يواصلها، و هو قائل

ص: 69


1- واردة: عطاشا. و تثنى: انعطف. و يروى: «فتنحى» و «فتمتى» أي تمطى و معناه: مدّ و نزع. و النزع الرمي عن القوس. و في يسره - كما في «شرح ديوانه»، رواية أبي سهل (نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 13 أدب ش) - أي في يسر السهم للرمي. قال أبو سهل: يقول القوس في يساره فإذا اشتدّ يساره تابع مدّه فنفذ السهم أجود و إلا لم ينفذ جيدا. و في «اللسان» (مادة يسر) عن الجوهري أن اليسرة بالتحريك أسرار الكف (خطوطها) إذا كانت غير ملتزقة و هي تستحب. قال شمر: و يقال في فلان يسر؛ و أنشد: فتمتى النزع في يسره قال: هكذا روى عن الأصمعي و فسره حيال وجهه. و يروى: «في يسره» بضم الياء و فتح السين جمعا ليسرى، و يروى «في يسره» بضمتين جمعا ليسار.
2- الفرائص: جمع فريصة و هي التي ترعد من الدابة عند مرجع الكتف تتصل بالفؤاد. و إزاء الحوض: مصب الماء فيه. و عقره: موضع الشاربة، يريد أن هذا الرامي حاذق خبير بالرمي لا يرميها إلا في مقتل. و خص إزاء الحوض أو عقره لأنه مكان تأمن فيه و تطمئن إليه، فهو أمكن له فيما يريد منها.
3- الرهيش: السهم الضامر الخفيف.
4- الناهض الذي وفر جناحه و نهض للطيران. و أدخل الهاء في ناهضة للمبالغة أو لأنه أراد الأنثى، كما يقال صقر و صقرة. قال أبو بكر: و خص ريش النواهض لأن ريشها ألين و أطول و ريش المسان لا خير فيه. أمهاه: أرقه. و قال أبو عبيدة: أمهاه: سقاه الماء.
5- أي لا ترتفع من مكانها الذي أصابها فيه السهم لحذق الرامي؛ يقال: أنميت الصيد فنمى ينمي و ذلك أن ترميه فتصيبه و يذهب عنك فيموت بعد ما يغيب. و معنى لا عد من نفره: أماته اللّه فلا يعد من قومه، و المراد التعجب منه، كما يقال: قاتله اللّه في موضع المدح و التعجب.
6- في ج: «و استودعه».

في ذلك أشعارا يشهّرها بها في العرب فيفضحها و يفضحك. فبعث إليه حينئذ بحلّة وشي مسمومة منسوجة بالذهب و قال له: إني أرسلت إليك بحلّتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن و البركة، و اكتب إليّ بخبرك من منزل منزل. فلما/وصلت إليه لبسها و اشتدّ سروره بها؛ فأسرع فيه السمّ و سقط جلده؛ فلذلك سمّي ذا القروح، و قال في ذلك:

لقد طمح الطمّاح من بعد أرضه *** ليلبسني ممّا يلبّس أبؤسا(1)

فلو أنها نفس بموت سويّة *** و لكنّها نفس تساقط أنفسا

قال: فلما صار إلى بلدة من بلاد الروم تدعى أنقرة احتضر بها؛ فقال:

رب خطبة مسحنفره *** و طعنة مثعنجره(2)

و جفنة متحيّره *** حلّت بأرض أنقره

و رأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك فدفنت في سفح جبل يقال له عسيب؛ فسأل عنها فأخبر بقصتها، فقال:

/

أجارتنا إنّ المزار قريب *** و إنّي مقيم ما أقام عسيب

/أجارتنا إنّا غريبان هاهنا *** و كلّ غريب للغريب نسيب

ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك.

عبد الملك بن عمير يحدث عمر بن هبيرة بحديث عنه فيسرّ به و يجيزه:

أخبرني محمد بن القاسم عن مجالد بن سعيد عن عبد الملك بن عمير قال:

قدم علينا عمر بن هبيرة الكوفة، فأرسل إلى عشرة أنا أحدهم من وجوه الكوفة فسمروا عنده، ثم قال:

ليحدّثني كلّ رجل منكم أحدوثة و ابدأ أنت يا أبا عمر(3). فقلت أصلح اللّه الأمير! أ حديث الحقّ أم حديث الباطل؟ قال: بل حديث الحق. قلت: إنّ امرأ القيس آلى بأليّة ألاّ يتزوّج امرأة حتى يسألها عن ثمانية و أربعة و ثنتين؛ فجعل

ص: 70


1- في «ديوانه»: و بدلت قرحا داميا بعد صحة لعل منايانا تحولن أبؤسا لقد طمح الطماح من بعد أرضه ليلبسني من دائه ما تلبسا
2- يقال: اسحنفر في خطبته إذا مضى و اتسع في كلامه. و المثعنجرة: السائلة، يقال: ثعجر الدم فاثعنجر إذا صبه فاتصب. و الجفنة المتحيرة: الممتلئة طعاما و دسما. و هذه الشطرة الثالثة غير متزنة. و قد ورد هذا الشعر في مقدمة «ديوانه» المخطوط المحفوظ بدار الكتب المصرية برقم 13 أدب ش: و طعنة مثعنجره و خطبة مسحنفره و جفنة مدعثره تبقى غدا بأنقره و الجفنة المدعثرة: و ورد في «اللسان» (مادة ثعجر) و كتاب «الشعر و الشعراء» و ليس فيهما هذا الشطر؛ ففي «اللسان»: رب جفنة مثعنجره و طعنة مسحنفره تبقى غدا بأنقره و في «الشعر و الشعراء»: و طعنة مسحنفره و جفنة مثعنجره تبقى غدا بأنقره
3- يكنى عبد الملك بن عمير أبا عمر و أبا عمرو.

يخطب النساء، فإذا سألهنّ عن هذا قلن أربعة عشر. فبينما هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كأنها البدر ليلة تمامه، فأعجبته، فقال لها: يا جارية! ما ثمانية و أربعة و اثنتان؟. فقالت: أمّا ثمانية فأطباء الكلبة. و أمّا أربعة فأخلاف الناقة. و أمّا اثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوّجه إيّاها. و شرطت هي عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، و أن يسوق إليها مائة من الإبل و عشرة أعبد و عشر و صائف و ثلاثة أفراس ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبدا له إلى المرأة و أهدى إليها نحيا(1) من سمن و نحيا من عسل و حلّة من عصب. فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلّة و لبسها فتعلّقت بعشرة فانشقّت، و فتح النّحيين فطعم أهل الماء منهما فنقصا. ثم قدم على حيّ المرأة و هم خلوف(2). فسألها عن أبيها و أمّها و أخيها و دفع إليها هديّتها. فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرّب بعيدا و يبعّد قريبا، و أن أمّي ذهبت تشقّ النّفس/نفسين، و أنّ أخي يراعي الشمس، و أن سماءكم انشقّت، و أنّ وعاءيكم نضبا. فقدم الغلام على مولاه فأخبره. فقال: أمّا قولها إنّ أبي ذهب يقرّب بعيدا و يبعّد قريبا، فإنّ أباها ذهب يحالف قوما على قومه. و أمّا قولها ذهبت أمّي تشقّ النفس نفسين، فإنّ أمّها ذهبت تقبل(3) امرأة نفساء. و أمّا قولها: إنّ أخي يراعي الشمس، فإنّ أخاها في سرح له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به. و أمّا قولها: إن سماءكم انشقّت، فإن البرد الذي بعثت به انشقّ. و أمّا قولها إن وعاءيكم نضبا، فإنّ النّحيين اللّذين بعثت بهما نقصا، فاصدقني. فقال: يا مولاي، إني نزلت بماء من مياه العرب، فسألوني عن نسبي فأخبرتهم أنّي ابن عمّك، و نشرت الحلّة فانشقّت، و فتحت النّحيين فأطعمت منهما أهل الماء. فقال: أولى لك!.

ثم ساق مائة من الإبل و خرج نحوها و معه الغلام، فنزلا منزلا. فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز؛ فأعانه امرؤ القيس؛ فرمى به الغلام في البئر، و خرج حتى أتى المرأة بالإبل، و أخبرهم أنه زوجها. فقيل لها: قد جاء زوجك.

فقالت: و اللّه ما أدري أ زوجي هو أم لا! و لكن انحروا له جزورا و أطعموه من كرشها و ذنبها ففعلوا. فقالت: اسقوه لبنا حازرا (و هو الحامض) فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عن، الفرث(4) و الدم، ففرشوا له فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك. فقال: سلي عمّا شئت. فقالت: ممّ تختلج شفتاك؟ قال: لتقبيلي إيّاك. قالت:

فممّ يختلج كشحاك؟ قال: لالتزامي إيّاك. قالت: فممّ يختلج فخذاك؟ قال: لتورّكي إيّاك. قالت: عليكم العبد فشدّوا أيديكم/به، ففعلوا. قال: و مرّ قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيّه، فاستاق مائة من الإبل و أقبل إلى امرأته. فقيل لها: قد جاء/زوجك. فقالت: و اللّه ما أدري أ هو زوجي أم لا، و لكن انحروا له جزورا فأطعموه من كرشها و ذنبها ففعلوا. فلما أتوه بذلك قال: و أين الكبد و السّنام و الملحاء(5)! فأبى أن يأكل.

فقالت: اسقوه لبنا حازرا. فأبى أن يشربه و قال: فأين الصّريف(6) و الرّثيئة!. فقالت: افرشوا له عند الفرث و الدم.

فأبى أن ينام و قال: افرشوا لي فوق التّلعة الحمراء، و اضربوا عليها خباء. ثم أرسلت إليه: هلمّ شريطتي عليك في المسائل الثلاث. فأرسل إليها أن سلي عمّا شئت. فقالت: ممّ تختلج شفتاك قال: لشربي المشعشعات. قالت: فممّ

ص: 71


1- النحي: الزق.
2- خلوف: غيب.
3- يقال: قبلت القابلة المرأة إذا تلقت ولدها عند ولادته.
4- الفرث: السرجين ما دام في الكرش.
5- الملحاء: لحم في الصلب من الكاهل إلى العجز من البعير.
6- الصريف: الحليب الحار ساعة يصرف عن الضرع. و الرئينة: اللبن الحليب يصب عليه اللبن الحامض فيروب من ساعته.

يختلج كشحاك، قال: للبسي الحبرات. قالت: فممّ تختلج فخذاك؟ قال: لركضي المطهّمات. فقالت: هذا زوجي لعمري! فعليكم به، و اقتلوا العبد، فقتلوه. و دخل امرؤ القيس بالجارية. فقال ابن هبيرة: حسبكم! فلا خير في الحديث في سائر الليلة بعد حديثك يا أبا عمرو؛ و لن تأتينا بأعجب منه فقمنا و انصرفنا. و أمر لي بجائزة.

مفاوضات امرئ القيس و قبائل أسد بعد موت حجر:

نسخت من كتاب جدّي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطّه رحمه اللّه حدّثني الحسن بن سعيد عن أبي عبيدة قال أخبرني سيبويه النحويّ أنّ الخليل بن أحمد أخبره قال:

قدم على امرئ القيس بن حجر بعد مقتل أبيه رجال من قبائل بني أسد كهول و شبّان، فيهم المهاجرين خداش ابن عمّ عبيد بن الأبرص، و قبيصة بن نعيم، و كان في بني أسد مقيما و كان ذا بصيرة بمواقع الأمور وردا و إصدارا(1) يعرف ذلك له من كان محيطا بأكناف بلده من العرب. فلما علم بمكانهم أمر بإنزالهم و تقدّم بإكرامهم و الإفضال عليهم، و احتجب عنهم ثلاثا. فسألوا من حضرهم من رجال كندة، /فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن حجر من السّلاح و العدّة. فقالوا: اللّهم غفرا، إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف و نستدرك به ما فرط، فليبلّغ ذلك عنّا. فخرج عليهم في قباء و خفّ و عمامة سوداء؛ و كانت العرب لا تعتمّ بالسّواد إلاّ في التّرات.

فلمّا نظروا إليه قاموا له، و بدر إليه قبيصة: إنك في المحلّ و القدر و المعرفة بتصرّف الدهر و ما تحدثه أيّامه و تتنقّل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ و لا تذكرة مجرّب. و لك من سؤدد منصبك و شرف أعراقك و كرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، و رجوع عن هفوة. و لا تتجاوز الهمم إلى غاية إلاّ رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي و بصيرة الفهم و كرم الصفح في الذي كان من الخطب الجليل الذي عمّت رزيته نزارا و اليمن، و لم تخصص كندة بذلك دوننا للشّرف البارع. كان لحجر التاج و العمّة فوق الجبين الكريم و إخاء الحمد و طيب الشّيم. و لو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك و لفديناه منه، و لكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه و لا يلحق أقصاه أدناه. فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال: إمّا أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا، و أعلاها في بناء المكرمات صوتا، فقدناه إليك بنسعه(2)تذهب مع شفرات حسامك/قصدته(3) فيقول رجل: امتحن بهلك عزيز فلم تستلّ سخيمته إلاّ بتمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح من بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يردده تسليط الإحن على البرآء؛ و إما أن/توادعنا حتى تضع الحوامل فنسدل الأزر و نعقد الخمر فوق الرايات.

قال: فبكى ساعة ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم، و إني لن أعتاض به جملا أو ناقة فأكتسب بذلك سبّة الأبد و فتّ العضد. و أمّا النّظرة(4) فقد أوجبتها الأجنّة في بطون أمّهاتها، و لن أكون لعطبها سببا، و ستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك، تحمل القلوب حنقا و فوق الأسنّة علقا(5)

ص: 72


1- كان ينبغي أن يكون «... بمواقع الأمور إيرادا و إصدارا» أو «... وردا و صدرا».
2- النسع: سير مضفور يجعل زماما للبعير و غيره. و في الحديث: «يجر نسعة في عنقه».
3- كذا في ج: و القصدة: العنق. و في سائر الأصول: «قصيدته» و هو تصغير «قصدة» و قد ورد في الأصول: هكذا: «تذهب مع شفرات حسامك ثنائي قصيدته». و لم نفهم لكلمة «ثنائي» هاهنا معنى.
4- النظرة: الإمهال.
5- العلق: الدم.

إذا جالت الخيل في مأزق *** تصافح(1) فيه المنايا النفوسا

أ تقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوإ الاختيار، و أبلى الاجترار لمكروه و أذيّة، و حرب و بليّة. ثم نهضوا عنه، و قبيصة يقول متمثّلا:

لعلك أن تستوخم(2) الموت إن غدت *** كتائبنا في مأزق الموت تمطر(3)

فقال امرؤ القيس: لا و اللّه لا أستوخمه، فرويدا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة و كتائب حمير. و لقد كان ذكر غير هذا أولى بي إذ كنت نازلا بربعي؛ و لكنك قلت فأجبت. فقال قبيصة: ما نتوقّع فوق قدر المعاتبة و الإعتاب. قال امرؤ القيس: فهو ذاك.

أصوات معبد المعروفة بالقابها و هي خمسة
أصوات معبد الخمسة و ألقابها:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه عن إسحاق:

/أن معبدا كان يسمّي صوته:

هريرة ودّعها و إن لام لائم

الدّوّامة لكثرة ما فيه من الترجيع. و يسمّي صوته:

عاود القلب من تذكّر جمل

المنمنم. و يسمّي صوته:

أ من آل ليلى بالملا متربّع

معقّصات القرون أي يحرك خصل الشعر. و يسمّي صوته:

[جعل(4) اللّه جعفرا لك بعلا

المتبختر. و يسمي صوته]:

ضوء برق بدا لعينيك أم شبّت *** بذي الأثل من سلامة(4) نار

[مقطّع الأثفار(4)].

ص: 73


1- كذا في ج: و في سائر الأصول: «تدافع».
2- استوخم الشيء: لم يستمرئه.
3- لعلها «تخطر».
4- التكملة أثبتناها من بيان نسبة الأصوات فيما يأتي ص 132.
نسبة هذه الأصوات و أخبارها

هريرة ودّعها و إن لام لائم *** غداة غد أم أنت للبين واجم

لقد كان في حول ثواء ثويته *** تقضّى لبانات و يسأم سائم

مبتّلة هيفاء رود شبابها *** لها مقلتا ريم و أسود فاحم

و وجه نقيّ اللّون صاف يزينه *** مع الحلي لبّات لها و معاصم

الواجم: الساكت المطرق من الحزن، يقال: وجم يجم وجوما. و قوله: «لقد كان في حول ثواء ثويته»: قال الكوفيون: أراد لقد كان في ثواء حول ثويته، فجعل ثواء بدلا من حول. و أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم عن يونس قال: كان أبو عمرو بن العلاء يعيب/قول الأعشى:

لقد كان في حول ثواء ثويته

/جدّا و يقول: ما أعرف له معنى و لا وجها يصحّ. قال أبو خليفة: و أمّا أبو عبيدة فإنه قال: معناه لقد كان في ثواء حول ثويته. و اللّبانات و المآرب و الحوائج و الأوطار واحد. و المبتلّة: الحسنة الخلق. و الهيفاء: اللطيفة الخصر. و الرّئم: الظبي. و الفاحم: الشديد السواد. و قال: لبّات لها و إنما لها لبّة واحدة و لكنّ العرب تقول ذلك كثيرا؛ يقال: لها لبّات حسان، يراد اللّبّة و ما حولها. و المعاصم: موضع الأسورة، و واحدها معصم.

الشعر للأعشى. و الغناء لمعبد، و له فيه لحنان، أحدهما و هو الملقّب بالدوّامة خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و الآخر ثقيل عن الهشاميّ و ابن خرداذبه.

ص: 74

5 - أخبار الأعشى و نسبه

نسبه و كنيته:

الأعشى هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. و يكنى أبا بصير.

لقب أبيه قتيل الجوع:

و كان يقال لأبيه قيس بن جندل قتيل الجوع، سمي بذلك لأنه دخل غارا يستظل فيه من الحرّ، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل فسدّت فم الغار فمات فيه جوعا. فقال فيه جهنّام و اسمه عمرو و هو من قومه من بني قيس بن ثعلبة يهجوه و كانا يتهاجيان:

أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل *** و خالك عبد من خماعة(1) راضع

شاعر جاهلي:

و هو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية و فحولهم و تقدّم على سائرهم، و ليس ذلك بمجمع عليه لا فيه و لا في غيره.

أشعر الناس إذا طرب:

أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال سألت يونس النحوي: من أشعر الناس؟ قال: لا أومئ إلى رجل بعينه و لكني أقول: امرؤ القيس إذا غضب، و النابغة إذا رهب، و زهير إذا رغب، و الأعشى إذا طرب.

قبيلته أشعر القبائل عند حسان:

أخبرني ابن عمّار عن ابن مهرويه عن حذيفة بن محمد عن ابن سلاّم بمثله.

أخبرني عمّي قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصبّاح عن ابن الكلبيّ عن أبيه و أبي مسكين.

/أن حسانا سئل: من أشعر الناس؟ فقال: أ شاعر بعينه أم قبيلة؟ قالوا: بل قبيلة. قال: الزّرق من بني قيس بن ثعلبة، و هذا حديث يروى أيضا عن غير حسان.

فاخر ابن شفيع بقبيلته بني ثعلبة عبد العزيز بن زرارة:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار عن ابن مهرويه قال حدّثنا عبدة بن عصمة عن فراس بن خندف عن عليّ بن شفيع قال:

ص: 75


1- خماعة: بطن من العرب سموا باسم خماعة بنت جشم بن ربيعة بن زيد مناة. و الراضع: اللئيم.

إني لواقف بسوق حجر(1) إذ أنا برجل من هيئته و حاله عليه مقطّعات خزّ و هو على نجيب مهريّ عليه رحل لم أر قطّ أحسن منه و هو يقول: من يفاخرني من ينافرني ببني عامر بن صعصعة فرسانا و شعراء و عددا و فعالا؟! قلت:

أنا. قال: بمن؟ قلت: ببني ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. فقال: أ ما بلغك أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نهى عن المنافرة؟ ثم ولّى هاربا. قلت: من هذا؟ قيل: عبد العزيز بن زرارة بن جزء بن سفيان الكلابيّ.

هو صناجة العرب:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا/عمر بن شبّة قال:

قال أبو عبيدة: من قدّم الأعشى يحتجّ بكثرة طواله الجياد و تصرفه في المديح و الهجاء و سائر فنون الشعر، و ليس ذلك لغيره. و يقال: هو أوّل من سأل بشعره، و انتجع به أقاصي البلاد. و كان يغنّى في شعره، فكانت العرب تسمّيه صنّاجة العرب.

أخبرني المهلّبيّ و الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال: سمعت خلاّدا الأرقط يقول سمعت خلفا الأحمر يقول:

لا يعرف من أشعر الناس كما لا يعرف من أشجع الناس و لا من كذا و لا من كذا، لأشياء ذكرها خلف و نسيتها أنا. أبو زيد عمر بن شبّة يقول هذا.

كان أبو عمرو بن العلاء يقدمه:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي يوسف قال حدّثني عمّي إسماعيل بن أبي محمد قال أخبرني أبي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقدّم الأعشى.

سئل مروان بن أبي حفصة عن أشعر الناس فقدمه بشعره:

و قال هشام بن الكلبيّ أخبرني أبو قبيصة المجاشعيّ أن مروان بن أبي حفصة سئل: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:

كلا أبويكم كان فرع دعامة *** و لكنّهم زادوا و أصبحت ناقصا

يعني الأعشى.

قدمه حماد على جميع الشعراء حين سأله المنصور عن ذلك:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي قال قال سلمة بن نجاح أخبرني يحيى بن سليم الكاتب قال:

بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين بالكوفة(2) إلى حمّاد الراوية أسأله عن أشعر الشعراء. قال: فأتيت باب حمّاد فاستأذنت و قلت: يا غلام! فأجابني إنسان من أقصى بيت في الدار فقال: من أنت؟ فقلت: يحيى بن سليم رسول

ص: 76


1- حجر: مدينة باليمامة.
2- لعل الأصل: «بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين إلى حماد الراوية بالكوفة... إلخ».

أمير المؤمنين. قال: ادخل رحمك اللّه! فدخلت أتسمّت(1) الصوت حتى وقفت على باب البيت، فإذا حمّاد عريان على فرجه دستجة(2) شاهسفرم. فقلت: إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس. فقال: نعم! ذلك الأعشى صنّاجها.

أوصى أبو عمرو بن العلاء الناس بشعره:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال سمعت أبا عبيدة يقول سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: عليكم بشعر الأعشى، فإني شبّهته بالبازي يصيد ما بين العندليب إلى الكركيّ.

وضعه جني في المرتبة الثالثة بعد امرئ القيس و طرفة:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال سمعت أبا عبيدة يقول:

بلغني أن رجلا من أهل البصرة حجّ - و روى هذا الحديث ابن الكلبيّ عن شعيب بن عبد الرحمن أبي معاوية النحويّ عن رجل من أهل البصرة أنه حجّ - قال فإني لأسير في ليلة إضحيانة(3) إذ نظرت إلى رجل شابّ راكب على ظليم قد زمّه بخطامه و هو يذهب عليه و يجيء، و هو يرتجز و يقول:

هل يبلغنيهم إلى الصّباح *** هقل(4) كأن رأسه جماح

الجمّاح: أطراف النبت الذي يسمى الحليّ و هو سنبله، إلاّ أنه ليس بخشن(5) يشبه أذناب الثعالب(6). قال:

و الجمّاح أيضا سهيم يلعب به الصّبيان يجعلون مكان زجّه طينا - قال: فعلمت أنه ليس بإنسيّ، فاستوحشت منه.

فتردّد عليّ ذاهبا و راجعا حتى أنست به؛ فقلت: من أشعر الناس يا هذا؟ قال: الذي يقول:

و ما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتّل

قلت: و من هو؟ قال: امرؤ القيس. قلت: فمن الثاني؟ قال: الذي يقول:

تطرد القرّ بحرّ ساخن *** و عكيك(7) القيظ إن جاء بقرّ

/قلت: و من يقوله؟ قال: طرفة. قلت: و من الثالث؟ قال: الذي يقول:

و تبرد برد رداء العرو *** س بالصّيف رقرقت(8) فيه العبيرا

قلت: و من يقوله؟ قال: الأعشى، ثم ذهب به.

ص: 77


1- تسمت الشيء: قصد نحوه.
2- كذا في أو «شفاء الغليل». و الدستجة: الحزمة و الشاهسفرم: نوع من الريحان يقال له الريحان السلطاني.، فارسي معرب. و في سائر الأصول: «دستجة شاهسفره» و هو تحريف.
3- ليلة إضحيانة: مضيئة.
4- الهقل: الفتى من النعام.
5- في الأصول: «بحسن» و هو تصحيف.
6- ذنب الثعلب: نبات على هيئة أذناب الثعالب.
7- العكيك: صفة من العك أو العكك و هو شدة الحر في سكون الريح. و ورد البيت في «اللسان» و فيه لفظة «صادق» بدل «ساخن». يصف جارية بأنها تطرد عن ملتزمها شدة برد الشتاء بحرارتها، و تطرد عنه شدة قيظ الصيف بطراوتها.
8- رقرق الطيب في الثوب: أجراه فيه.
هو أستاذ الشعراء في الجاهلية و جرير أستاذهم في الإسلام:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني أبو عدنان قال و قال لي يحيى بن الجون العبديّ راوية بشّار:

نحن حاكة الشّعر في الجاهليّة و الإسلام و نحن أعلم الناس به، أعشى بني قيس بن ثعلبة أستاذ الشعراء في الجاهليّة.

و جرير بن الخطفى أستاذهم في الإسلام.

حديث الشعبي عنه:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال:

قال الشّعبيّ: الأعشى أغزل الناس في بيت، و أخنث الناس في بيت، و أشجع الناس في بيت. فأمّا أغزل بيت فقوله:

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها *** تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل(1)

و أمّا أخنث بيت فقوله:

قالت هريرة لمّا جئت زائرها *** ويلي عليك و ويلي منك يا رجل

و أمّا أشجع بيت فقوله:

قالوا الطّراد فقلنا تلك عادتنا *** أو تنزلون فإنا معشر نزل

حماد الراوية يسأل عن أشعر العرب فيجيب من شعره:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد قال ذكر الهيثم بن عديّ أن حمّادا الراوية سئل عن أشعر العرب، قال الذي يقول:

نازعتهم قضب الرّيحان متّكئا *** و قهوة مزّة(2) راووقها خضل

كان قدريا و كان لبيد مثبتا:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا أبو عليّ العنزيّ قال حدّثني محمد بن معاوية الأسديّ قال حدّثني رجل عن أبان بن تغلب عن سماك بن حرب قال قال لي يحيى بن متّى راوية الأعشى و كان نصرانيّا عباديّا و كان معمّرا قال:

/كان الأعشى قدريّا(3) و كان لبيد مثبتا. قال لبيد:

من هداه سبل الخير اهتدى *** ناعم البال و من شاء أضلّ

و قال الأعشى.

استأثر اللّه بالوفاء و بال *** عدل و ولّى الملامة الرّجلا

ص: 78


1- الوجي: وصف من الوجي، و هو أن يجد ألما في رجليه عند المشي. و الوحل: الماشي في الوحل.
2- المزة و المزاء: التي فيها مزازة. و الراووق: الباطية، أي إناء الخمر. و استعمال الراووق في الباطية قليل، و المعروف أن الراووق المصفاة التي تروّق و تصفى فيها الخمر. و الخضل: الدائم الندى.
3- القدرية: جاحد و القدر أي ينكرون أن اللّه قدّر على عباده الشر، و هو ما ذهبت إليه فرقة من المسلمين يقال لهم المعتزلة.

قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديّين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقّنوه ذلك.

هريرة عشيقته:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أبو شراعة في مجلس الرّياشيّ قال حدّثنا مشايخ بني قيس بن ثعلبة قالوا:

كانت هريرة التي يشبّب بها الأعشى أمة سوداء لحسّان بن عمرو بن مرثد.

و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن فراس بن الخندف قال:

كانت هريرة و خليدة أختين قينتين كانتا لبشر بن عمرو بن مرثد، و كانتا تغنّيانه النّصب(1)، و قدم بهما اليمامة لمّا هرب من النّعمان. قال ابن دريد فأخبرني عمّي عن ابن الكلبيّ بمثل ذلك.

مدح المحلق الكلابي و ذكر بناته فتزوّجن:
اشارة

و أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ عن الرّياشيّ مما أجازه له عن العتبيّ عن رجل من قيس عيلان قال:

كان/الأعشى يوافي سوق عكاظ في كلّ سنة، و كان المحلّق الكلابيّ مئناثا(2) مملقا. فقالت له امرأته: يا أبا كلاب، ما يمنعك من التعرّض لهذا الشاعر! /فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا و أكسبه خيرا. قال: ويحك! ما عندي إلا ناقتي و عليها الحمل!. قالت: اللّه يخلفها عليك. قال: فهل له بدّ من الشّراب و المسوح(3)؟ قالت: إنّ عندي ذخيرة لي و لعلّي أن أجمعها. قال: فتلقّاه قبل أن يسبق إليه أحد و ابنه يقوده فأخذ الخطام؛ فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ قال: المحلّق. قال: شريف كريم، ثم سلّمه إليه فأناخه؛ فنحر له ناقته و كشط له عن سنامها و كبدها، ثم سقاه، و أحاطت بناته به يغمزنه و يمسحنه. فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك و هنّ ثمان شريدتهن قليلة. قال: و خرج من عنده و لم يقل فيه شيئا. فلما وافى سوق عكاظ إذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها و إذا الأعشى ينشدهم.

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة *** إلى ضوء نار باليفاع تحرّق

تشبّ لمقرورين يصطليانها *** و بات على النار النّدى و المحلّق

رضيعي لبان ثدي أمّ تحالفا *** بأسحم(4) داج عوض لا نتفرّق

فسلّم عليه المحلّق؛ فقال له: مرحبا يا سيّدي بسيّد قومه. و نادى: يا معاشر العرب، هل فيكم مذكار(5) يزوّج ابنه إلى الشريف الكريم!. قال: فما قام من مقعده و فيهنّ مخطوبة إلا و قد زوّجها. و في أول القصيدة عناء و هو:

ص: 79


1- النصب: ضرب من أغاني العرب شبيه بالحداء.
2- المثناث: الذي اعتاد أن يلد الإناث.
3- المسوح: جمع مسح و هو كساء من شعر كثوب الرهبان.
4- بأسحم داج: قيل المراد به الليل، و قيل سواد حلمة الثدي، و قيل الرحم. و عوض: أبدا. يقول: هو و الندى رضعا من ثدي واحد و تحالفا ألا يتفرّقا أبدا. (راجع «لسان العرب» مادة عوض).
5- المذكار: الذي اعتاد أن يلد الذكور.
صوت

أرقت و ما هذا السّهاد المؤرّق *** و ما بي من سقم و ما بي معشق

و لكن أراني لا أزال بحادث *** أغادى بما لم يمس عندي و أطرق

/غنّاه ابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لحن ليونس من كتابه غير مجنّس.

و فيه لابن سريج ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق و عمرو.

اسم المحلق الكلابي و سبب كنيته و سبب اتصاله بالأعشى:

أخبرني أبو العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل قال:

اسم المحلّق عبد العزّى(1) بن حنتم بن شدّاد بن ربيعة بن عبد اللّه بن عبيد و هو أبو بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. و إنما سمّي محلّقا لأن حصانا له عضّه في وجنته فحلّق فيه حلقة.

قال: و أنشد الأعشى قصيدته هذه [كسرى(2)] ففسّرت له؛ فلما سمعها قال: إن كان هذا سهر لغير سقم و لا عشق فما هو إلا لصّ.

و ذكر عليّ بن محمد النّوفليّ في خبر المحلّق مع الأعشى غير هذه الحكايات، و زعم أن أباه حدّثه عن بعض الكلابيّين من أهل البادية قال:

كان لأبي المحلّق شرف فمات و قد أتلف ماله، و بقي المحلّق و ثلاث أخوات له و لم يترك لهم إلا ناقة واحدة و حلّتي برود حبرة كان يشهد فيهما الحقوق(3). فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلّق، فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه. فأقبلت عمّة المحلّق فقالت: يا ابن أخي! هذا الأعشى قد/نزل بمائنا و قد قراه أهل الماء، و العرب تزعم أنه لم يمدح قوما إلاّ رفعهم، /و لم يهج قوما إلا وضعهم؛ فانظر ما أقول لك و احتل في زقّ من خمر من عند بعض التّجّار فأرسل إليه بهذه الناقة و الزّقّ و بردي أبيك؛ فو اللّه لئن اعتلج الكبد و السّنام و الخمر في جوفه و نظر إلى عطفيه في البردين، ليقولنّ فيك شعرا يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة، و أنا أتوقّع رسلها(4). فأقبل يدخل و يخرج و يهمّ و لا يفعل؛ فكلّما دخل على عمّته حضّته؛ حتى دخل عليها فقال:

قد ارتحل الرجل و مضى. قالت: الآن و اللّه أحسن ما كان القرى! تتبعه ذلك مع غلام أبيك - مولى له أسود شيخ - فحيثما لحقه أخبره عنك أنك كنت غائبا عن الماء عند نزوله إيّاه، و أنّك لمّا وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه؛ فإنّ هذا أحسن لموقعه عنده. فلم تزل تحضّه حتى أتى بعض التّجار فكلّمه أن يقرضه ثمن زقّ خمر و أتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه؛ فوجّه بالناقة و الخمر و البردين مع مولى أبيه فخرج يتبعه؛ فكلما مرّ بماء قيل:

ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمنفوحة اليمامة فوجد عنده عدّة من الفتيان قد غدّاهم بغير لحم

ص: 80


1- في الأصول: «عبد العزيز بن خيثم». و التصويب عن شرح «القاموس» (مادة حلق و حنتم).
2- تكملة عن «كتاب الشعر و الشعراء».
3- كذا في «تجريد الأغاني». و في الأصول: «إلا ناقة واحدة و حلتي برود جيدة كان يسدّ بها الحقوق» و هو تحريف.
4- الرسل: اللبن.

و صبّ لهم فضيخا(1) فهم يشربون منه، إذ قرع الباب فقال: انظروا من هذا؟ فخرجوا فإذا رسول المحلّق يقول كذا و كذا. فدخلوا عليه و قالوا: هذا رسول المحلّق الكلابيّ أتاك بكيت و كيت. فقال: ويحكم! أعرابيّ و الذي أرسل إليّ لا قدر له! و اللّه لئن اعتلج الكبد و السّنام و الخمر في جوفي لأقولنّ فيه شعرا لم أقل قطّ مثله. فواثبه الفتيان و قالوا: غبت عنّا فأطلت الغيبة ثم أتيناك فلم تطعمنا لحما و سقيتنا الفضيخ و اللّحم و الخمر ببابك، لا نرضى بدا منك. فقال:

ائذنوا له؛ فدخل فأدّى الرسالة و قد أناخ الجزور بالباب و وضع الزّقّ و البردين بين يديه. قال: أقره السلام و قل له:

وصلتك رحم، سيأتيك ثناؤنا. /و قام الفتيان إلى الجزور فنحروها و شقّوا خاصرتها عن كبدها و جلدها عن سنامها ثم جاءوا بهما، فأقبلوا يشوون، و صبّوا الخمر فشربوا، و أكل معهم و شرب و لبس البردين و نظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول:

أرقت و ما هذا السهاد المؤرّق

حتى انتهى إلى قوله:

أيا مسمع سار الذي قد فعلتم *** فأنجد أقوام به ثم أعرقوا(2)

هب تعقد الأحمال في كلّ منزل *** و تعقد أطراف الحبال و تطلق(3)

قال: فسار الشّعر و شاع في العرب. فما أتت على المحلّق سنة حتى زوّج أخواته الثلاث كلّ واحدة على مائة ناقة، فأيسر و شرف.

و ذكر الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية عن معقل عن أبي بكر الهلاليّ قال:

خرج الأعشى إلى اليمن يريد قيس بن معد يكرب، فمرّ ببني كلاب، فأصابه مطر في ليلة ظلماء، فأوى إلى فتى من بني بكر بن كلاب، فبصر به المحلّق و هو [عبد العزّى بن] حنتم بن شدّاد بن ربيعة بن عبد اللّه بن عبيد بن كلاب و هو يومئذ غلام له ذؤابة، فأتى أمّه فقال: يا أمّه! رأيت رجلا أخلق به أن يكسبنا مجدا. قالت: و ما تريد يا بنيّ؟ قال: نضيفه اللّيلة. فأعطته جلبابها فاشترى به عشيرا(4) من جزور و خمرا؛ فأتى الأعشى، فأخذه/إليه، فطعم و شرب و اصطلى، ثم اصطبح فقال فيه:

/

أرقت و ما هذا السّهاد المؤرّق

و الرواية الأولى أصحّ.

سألته امرأة أن يشيب ببناتها فشبب بهنّ فزوّجهنّ:

أخبرني أحمد بن عمّار قال حدّثنا يعقوب بن نعيم قال حدّثنا قعنب بن المحرز عن الأصمعيّ قال حدّثني رجل قال:

ص: 81


1- الفضيخ: شراب يتخذ من بسر مفضوخ و هو أن يجعل التمر في إناء ثم يصب الماء الحار عليه حتى تستخرج حلاوته.
2- أعرقوا: أتوا العراق.
3- الرواية في «تجريد الأغاني»: به توضع الأحلاس في كل منزل و تعقد أطراف النسوع و تطلق و الأحلاس: جمع حلس و هو كل شيء ولي ظهر الدابة و البعير تحت الرحل و السرج و القتب.
4- العشير: جزء من عشرة أجزاء كالعشر.

جاءت امرأة إلى الأعشى فقالت: إنّ لي بنات قد كسدن عليّ، فشبّب بواحدة منهنّ لعلها أن تنفق. فشبّب بواحدة منهنّ، فما شعر الأعشى إلا بجزور(1) قد بعث به إليه. فقال: ما هذا؟ فقالوا: زوّجت فلانة. فشبّب بالأخرى فأتاه مثل ذلك، فسأل عنها فقيل: زوّجت. فما زال يشبّب بواحدة فواحدة منهنّ حتى زوّجن جميعا.

أسره رجل من كلب كان قد هجاه فاستوهبه منه شريح بن السموأل:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا يحيى بن أبي سعيد الأمويّ عن محمد بن السائب الكلبيّ قال:

هجا الأعشى رجلا من كلب فقال:

بنو الشهر الحرام فلست منهم *** و لست من الكرام بني عبيد

و لا من رهط جبّار بن قرط *** و لا من رهط حارثة بن زيد

- قال: و هؤلاء كلّهم من كلب - فقال الكلبيّ: لا أبا لك! أنا أشرف من هؤلاء. قال: فسبّه الناس بعد بهجاء الأعشى إيّاه، و كان متغيّظا عليه. فأغار على قوم قد بات فيهم الأعشى فأسر منهم نفرا و أسر الأعشى و هو لا يعرفه، ثم جاء حتى نزل بشريح بن السموأل بن عادياء الغسّانيّ صاحب تيماء بحصنه الذي يقال له الأبلق. فمرّ شريح بالأعشى؛ فناداه الأعشى:

/

شريح لا تتركنّي بعد ما علقت *** حبالك اليوم بعد القدّ أظفاري

قد جلت ما بين بانقيا(2) إلى عدن *** و طال في العجم تردادي و تسياري

فكان أكرمهم عهدا و أوثقهم *** مجدا أبوك بعرف غير إنكار

كالغيث ما استمطروه جاد وابله *** و في الشدائد كالمستأسد الضاري

كن كالسموأل إذ طاف الهمام به *** في جحفل كهزيع اللّيل جرّار

إذ سامه خطّتي خسف فقال له *** قل ما تشاء فإني سامع حار(3)

فقال غدر و ثكل أنت بينهما *** فاختر و ما فيهما حظّ لمختار

فشكّ غير طويل ثم قال له *** اقتل أسيرك إنّي مانع جاري

و سوف يعقبنيه إن ظفرت به *** ربّ كريم و بيض ذات أطهار

لا سرّهنّ لدينا ذاهب هدرا *** و حافظات إذا استودعن أسراري

فاختار أدراعه كي لا يسبّ بها *** و لم يكن وعده فيها بختّار

- قال: و كان امرؤ القيس بن حجر أودع السموأل بن عادياء أدراعا مائة، فأتاه الحارث بن ظالم - و يقال الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ - ليأخذها منه، فتحصّن منه السموأل؛ فأخذ الحارث ابنا له غلاما و كان في الصيد، فقال: إمّا أنّ

ص: 82


1- الجزور يقع على الذكر و الأنثى.
2- بانقيا: ناحية من نواحي الكوفة.
3- حار أي يا حارث.

سلّمت الأدراع إليّ و إمّا أن قتلت ابنك. فأبى السموأل أن يسلم إليه الأدراع؛ فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه قطعتين، فيقال: إن جريرا حين قال للفرزدق:

بسيف أبي رغوان(1) سيف مجاشع *** ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم

/إنما عني هذه الضربة. فقال السموأل في ذلك:

وفيت بذمّة الكنديّ إنّي *** إذا ما ذمّ أقوام وفيت

/و أوصى عاديا يوما بأن لا *** تهدّم يا سموأل ما بنيت

بنى لي عاديا حصنا حصينا *** و ماء كلّما شئت استقيت

قال: فجاء شريح إلى الكلبيّ فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور. فقال: هو لك، فأطلقه. و قال: أقم عندي حتى أكرمك و أحبوك. فقال له الأعشى: إنّ من تمام صنيعتك أن تعطيني ناقة نجيبة و تخلّيني الساعة. قال:

فأعطاه ناقة فركبها و مضى من ساعته. و بلغ الكلبيّ أنّ الذي وهب لشريح هو الأعشى. فأرسل إلى شريح: ابعث إلى الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه و أعطيه. فقال: قد مضى. فأرسل الكلبيّ في أثره فلم يلحقه.

مدح عامر بن الطفيل و هجا علقمة بن علاثة:

حدّثنا ابن علاثة عن محمد العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا يحيى بن سعيد بن يحيى الأمويّ عن محمد بن السائب قال:

أتى الأعشى الأسود العنسيّ(2) و قد امتدحه فاستبطأ جائزته. فقال الأسود: ليس عندنا عين و لكن نعطيك عرضا، فأعطاه خمسمائة مثقال دهنا و بخمسمائة حللا و عنبرا. فلمّا مرّ ببلاد بني عامر خافهم على ما معه، فأتى علقمة(3) بن علاثة فقال له: أجرني، فقال: قد أجرتك. قال: من الجنّ و الإنس؟ قال نعم. قال: و من الموت؟ قال لا. فأتى عامر بن الطّفيل فقال: أجرني، قد أجرتك. قال: من الجنّ/و الإنس؟ قال نعم. قال: و من الموت؟ قال نعم. قال: و كيف تجيرني من الموت؟ قال: إن متّ و أنت في جواري بعثت إلى أهلك الدّية. فقال: الآن علمت أنك قد أجرتني من الموت. فمدح عامرا و هجا علقمة. فقال علقمة: لو علمت الذي أراد كنت أعطيته إيّاه.

قال الكلبيّ: و لم يهج علقمة بشيء أشدّ عليه من قوله:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا

فرفع علقمة يديه و قال: لعنه اللّه! إن كان كاذبا! أ نحن نفعل هذا بجاراتنا!. و أخبار الأعشى و علقمة و عامر تأتي مشروحة في خبر منافرتهما إن شاء اللّه تعالى.

ص: 83


1- أبو رغوان: لقب مجاشع، و هو مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة.
2- هو عبهلة بن كعب بن غوث يلقب ذا الخمار، خرج بعد حجة الوداع في عامّة مذ حج و ادّعى النبوّة و كان كاهنا شعباذا (مشعوذا) و كان يريهم الأعاجيب و يسبي قلوب من سمع منطقه، قتله فيروز و داذويه و قيس غيلة. (انظر «تاريخ الطبري» ق 1 ص 1795 - 1798، 1853-1870).
3- هو علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، أسلم في عهد النبي صلى اللّه عليه و سلم ثم ارتد بعد فتح الطائف و خرج حتى لحق بالشام ثم أسلم أيام أبي بكر رضي اللّه عنه. (الطبري ق 1 ص 1899-1900).
تزوّج امرأة من عنزة ثم طلقها و قال فيها شعرا:
اشارة

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه قال حدّثني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل و غيره من أصحابه:

أنّ الأعشى تزوّج امرأة من عنزة ثم من هزّان - قال: و عنزة هو ابن أسد بن ربيعة بن نزار - فلم يرضها و لم يستحسن خلقها، فطلّقها و قال فيها:

بيني حصان الفرج غير ذميمة *** و موموقة فينا كذاك و وامقه

و ذوقي فتى قوم فإنّي ذائق *** فتاة أناس مثل ما أنت ذائقه

لقد كان في فتيان قومك منكح *** و شبّان هزّان الطّوال الغرانقه

فبيني فإنّ البين خير من العصا *** و إلاّ تري لي فوق رأسك بارقه

و ما ذاك عندي أن تكوني دنيئة *** و لا أن تكوني جئت عندي ببائقه

و يا جارتا بيني فإنّك طالقه *** كذاك أمور الناس غاد و طارقه

/أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الحسين بن إبراهيم بن الحرّ قال حدثنا المبارك بن سعيد عن سفيان الثّوريّ قال:

/طلاق الجاهلية طلاق. كانت عند الأعشى امرأة فأتاها قومها فضربوه و قالوا: طلّقها فقال:

أيا جارتا بيني فإنّك طالقه *** كذاك أمور الناس غاد و طارقه

و ذكر باقي الأبيات مثل ما تقدّم.

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدّثنا عثمان البرقيّ في إسناد له قال:

أخذ قوم الأعشى فقالوا له: طلّق امرأتك؛ فقال:

أيا جارتا بيني فإنّك طالقه *** كذاك أمور الناس غاد و طارقه

ثم ذكر نحو الخبر الذي قبله على ما قدّمناه.

في هذه الأبيات غناء نسبته:

صوت

فبيني فإنّ البين خير من العصا *** و إلاّ تري لي فوق رأسك بارقه

و ما ذاك عندي أن تكوني دنيئة *** و لا أن تكوني جئت عندي ببائقه

و يا جارتا بيني فإنّك طالقه *** كذاك أمور الناس غاد و طارقه

الشعر للأعشى. و الغناء للهذليّ خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.

و فيه لابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ. قال الهشاميّ: و فيه لفليح خفيف ثقيل بالوسطى لا يشكّ فيه من غنائه. و ذكر حبش أن الثقيل الثاني لابن سريج و ذكر عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر أنّ الخفيف الثاني المنسوب إلى

ص: 84

فليح لأبيه عبد اللّه بن طاهر. و هذا الصوت يغنّى في هذا الزمان على ما سمعناه:

أيا جارتا دومي فإنك صادقه *** و موموقة فينا كذاك و وامقه

/و لم نفترق أن كنت فينا دنيئة *** و لا أن تكوني جئت عندي ببائقه

و أحسبه غيّر في دور الطاهريّة على هذا.

فخر الأخطل بشعر له في الخمر فرد عليه الشعبي بشعره:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني سوّار بن أبي شراعة قال حدّثني أبي عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال:

دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان و قد شرب خمرا و تضمّخ بلخالخ(1) و خلوق و عنده الشّعبيّ. فلما رآه قال: يا شعبيّ، ناك الأخطل أمّهات الشعراء جميعا. فقال له الشعبيّ: بأيّ شيء؟ قال حين يقول:

و تظلّ تنصفنا(2) بها قرويّة *** إبريقها برقاعه(3) ملثوم

فإذا تعاورت الأكفّ زجاجها *** نفحت فشمّ رياحها المزكوم

فقال الأخطل(4) سمعت بمثل هذا يا شعبيّ؟! قال: إن أمنتك قلت لك. قال: أنت آمن. فقلت له: أشعر و اللّه منك الذي يقول:

و أدكن(5) عاتق حجل ربحل *** صبحت براحه شربا كراما

من اللائي حملن على المطايا *** كريح المسك تستلّ الزّكاما

/فقال الأخطل: ويحك! و من يقول هذا؟ قلت: الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة. فقال: قدّوس قدّوس! ناك الأعشى أمهات الشعراء جميعا و حقّ الصليب!.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة و الهيثم بن عديّ، و حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الغلابيّ عن العتبيّ عن أبيه، و ذكر/هارون بن الزيّات عن حمّاد عن أبيه عن عبد اللّه بن الوليد عن جعفر بن سعيد الضّبّيّ، قالوا جميعا:

قدم الأخطل الكوفة، فأتاه الشعبيّ يسمع من شعره. قال: فوجدته يتغدّى، فدعاني أتغدّى فأتيته، فوضع الشراب فدعاني إليه فأتيته. فقال ما حاجتك؟ قلت: أحبّ أن أسمع من شعرك، فأنشدني قوله:

صرمت أمامة حبلنا و رعوم

حتى انتهى إلى قوله:

ص: 85


1- لخالخ: جمع لخلخة و هي ضرب من الطيب.
2- تنصفنا: تخدمنا.
3- في «ديوان الأخطل»: «برقاعها».
4- السياق مستغن عنها.
5- الأدكن: الضارب إلى السواد. و العاتق: القديم. و الجحل (بالفتح و تقديم الجيم على الحاء): السقاء الواسع و قد وردت هذه الكلمة في الأصول بتقديم الحاء على الجيم و هو تصحيف. و الربحل: الضخم.

فإذا تعاورت الأكفّ ختامها *** نفحت فشمّ رياحها المزكوم

فقال: يا شعبيّ، ناك الأخطل أمّهات الشعراء بهذا البيت. قلت: الأعشى أشعر منك يا أبا مالك. قال:

و كيف؟ قلت: لأنه قال:

من خمر عانة قد أتى لختامها *** حول تسلّ غمامة(1) المزكوم

فضرب بالكأس الأرض و قال: هو و المسيح أشعر منّي! ناك و اللّه الأعشى أمهات الشعراء إلاّ أنا.

مدح سلامة ذا فائش فأجازه:

حدّثني وكيع قال حدّثني محمد بن إسحاق المعوليّ عن إسحاق الموصليّ عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الرواية عن سماك بن حرب قال:

قال الأعشى:

أتيت سلامة(2) ذا فائش فأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه، فأنشدته:

/

إنّ محلاّ و إن مرتحلا *** و إنّ في السّفر من مضى مهلا(3)

استأثر اللّه بالوفاء و بال *** عدل و ولّى الملامة الرجلا

الشعر قلّدته سلامة ذا *** فائش و الشيء حيث ما جعلا

فقال: صدقت، الشيء حيث ما جعل، و أمر لي بمائة من الإبل و كساني حللا و أعطاني كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا و قال: إياك أن تخدع عما فيها. فأتيت الحيرة فبعتها بثلاثمائة ناقة حمراء.

أراد أن يفد على النبي ليسلم فردته قريش بجائزة فعثر به بعيره فمات:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال قال هشام بن القاسم الغنويّ و كان علاّمة بأمر الأعشى:

إنه وفد إلى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و قد مدحه بقصيدته التي أولها:

أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا *** و عادك ما عاد السّليم المسهّدا(4)

و ما ذاك من عشق النساء و إنما *** تناسيت قبل اليوم خلّة مهددا(5)

و فيها يقول لناقته:

ص: 86


1- الغمام: كزكام وزنا و معنى.
2- هو سلامة بن يزيد بن مرة اليحصبي أحد ملوك اليمن، و قد مدحه الأعشى. و قال هشام بن محمد الكلبيّ: الأعشى مدح سلامة الأصغر و هو سلامة بن يزيد بن سلامة ذي فائش. (راجع «القاموس» و «شرحه» مادة فيش).
3- رواية تلخيص المفتاح التي كتب عليها شارحوه: «و إن في السفر اذ مضوا مهلا». و المحل و المرتحل مصدران ميميان، و الخبر محذوف. أي إن لنا في الدنيا حلولا و إن لنا عنها ارتحالا. و السفر: اسم جمع بمعنى مسافر. و المهل (بفتح الميم و الهاء): مصدر بمعنى الإمهال و طول الغيبة.
4- في «السيرة لابن هشام»: (ج 1 ص 55 طبع أوربا) «و بت كما بات السليم مسهدا».
5- مهدد: معشوقة الأعشى.

فآليت لا أرثي لها من كلالة *** و لا من حفا حتى تزور محمدا

نبيّ يرى ما لا ترون و ذكره *** أغار لعمري في البلاد و أنجدا

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم *** تراحي و تلقي من فواضله يدا

فبلغ خبره قريشا فرصدوه على طريقه و قالوا: هذا صنّاجة العرب، ما مدح أحدا قطّ/إلاّ رفع في قدره: فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: /أردت صاحبكم هذا لأسلم، قالوا: إنه ينهاك عن خلال و يحرّمها عليك، و كلّها بك رافق و لك موافق. قال: و ما هنّ؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزّنا: قال: لقد تركني الزّنا و مما تركته؛ ثم ما ذا؟ قال: القمار. قال: لعلّي إن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار؛ ثم ما ذا؟ قالوا: الرّبا.

قال: ما دنت و لا ادّنت؛ ثم ما ذا؟ قالوا: الخمر. قال: أوّه! أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس(1) فأشربها.

فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: و ما هو؟ قال: نحن و هو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل و ترجع إلى بلدك سنتك هذه و تنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، و إن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى! و اللّه لئن أتى محمدا و اتّبعه ليضر منّ عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مائة من الإبل، ففعلوا؛ فأخذها و انطلق إلى بلده. فلما كان بقاع منفوحة(2)رمى به بعيره فقتله.

قبره بمنفوحة يتنادم عليه الفتيان:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا محمد بن إدريس بن سليمان بن أبي حفصة قال. قبر الأعشى بمنفوحة و أنا رأيته؛ فإذا أراد الفتيان أن يشربوا خرجوا إلى قبره فشربوا عنده و صبّوا عنده فضلات الأقداح.

أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا عليّ بن سليمان النّوفلي قال حدّثنا أبي قال: أتيت اليمامة واليا عليها، فمررت بمنفوحة و هي منزل الأعشى التي يقول فيها:

بشطّ منفوحة فالحاجر

فقلت: أ هذه قرية الأعشى؟ قالوا نعم. فقلت: أين منزله؟ قالوا: ذاك و أشاروا إليه. قلت: فأين قبره؟ قالوا:

بفناء بيته. فعدلت إليه بالجيش/فانتهيت إلى قبره فإذا هو رطب. فقلت: ما لي أراه رطبا؟ فقالوا: إن الفتيان ينادمونه فيجعلون قبره مجلس رجل منهم، فإذا صار إليه القدح صبّوه عليه لقوله: «أرجع إلى اليمامة فأشبع من الأطيبين الزنا و الخمر».

صوت معبد المسمى بالدوامة في شعره:

و أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثنا الأطروش بن إسحاق بن إبراهيم عن أبيه:

أنّ ابن عائشة غنّى يوما:

هريرة ودّعها و إن لام لائم

ص: 87


1- المهراس: حجر منقور يسع كثيرا من الماء.
2- منفوحة: قرية مشهورة من نواحي اليمامة.

فأعجبته نفسه و رآه ينظر في أعطافه. فقيل له: لقد أصبحت اليوم تائها! فقال: و ما يمنعني من ذلك و قد أخذت عن أبي عبّاد معبد أحد عشر صوتا منها:

هريرة ودّعها و إن لام لائم

و أبو عبّاد مغنّي أهل المدينة و إمامهم!.

قال: و كان معبد يقول و اللّه لقد صنعت صوتا لا يقدر أن يغنّيه شبعان ممتلئ، و لا يقدر متكئ على أن يغنّيه حتى يجثو، و لا قائم حتى يقعد. قيل: و ما هو يا أبا عبّاد؟ قال إسحاق فأخبرني بذاك محمد بن سلاّم الجمحيّ أنه بلغه أن معبدا قاله. و أخبرني بهذا الخبر إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى قال: قال معبد: و اللّه لأغنّين صوتا لا يغنّيه مهموم و لا شبعان و لا حامل حمل، ثم غنّى:

و لقد قلت و الضم *** ير كثير البلابل

ليت شعري تمنّيا *** و المنى غير طائل

هل رسول مبلّغ *** فيؤدّي رسائلي

لحن معبد هذا خفيف ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق و يونس. و فيه ثقيل أوّل ينسب إليه أيضا، و يقال: إنه لأهل مكة.

صوت معبد المسمى بالمنمنم:
اشارة

و منها الصوت المسمّى بالمنمنم.

صوت

هاج ذا القلب من تذكّر جمل *** ما يهيج(1) المتيّم المحزونا

إذا تراءت على البلاط فلمّا *** واجهتنا كالشمس تعشي العيونا

ليلة السبت إذ نظرت إليها *** نظرة زادت الفؤاد جنونا

الشعر لإسماعيل بن يسار. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى. و فيه لدحمان ثاني ثقيل بالبنصر، ذكر الهشاميّ أنّه لا يشكّ فيه من غنائه. و قد مضت أخبار إسماعيل بن يسار في المائة المختارة فاستغني عن إعادتها هاهنا.

صوت
صوت معبد المسمى بمعقصات القرون:

آمن آل ليلى بالملا متربّع *** كما لاح وشم في الذراع مرجّع

سأتبع ليلى حيث سارت و خيّمت *** و ما الناس إلاّ ألف و مودّع

الشعر لعمرو بن سعيد بن زيد، و قيل: إنه للمجنون و إنّ مع هذين البيتين أخر و هي:

ص: 88


1- في الأصول: «ما يهيم المتيم المحزونا». و هو لا يستقيم لغة. و ورد في صدر البيت مما يرجح ما أثبتناه.

وقفت لليلى بعد عشرين حجّة *** بمنزلة فانهلّت العين تدمع

فأمرض قلبي حبّها و طلابها *** فيا آل ليلى دعوة كيف أصنع

سأتبع ليلى حيث حلّت و خيّمت *** و ما الناس إلاّ آلف و مودّع

كأنّ زماما في الفؤاد معلّقا *** تقود به حيث استمرّت و أتبع

/و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و قد ذكر حمّاد بن إسحاق عن أبيه أن هذا الصوت منحول إلى معبد و أنه مما يشبه غناءه. و ذكر ابن الكلبيّ عن محمد بن يزيد أن معبدا أخذ لحن سائب خاثر في:

أ فاطم مهلا بعض هذا التدلّل

فغنّى فيه:

أ من آل ليلى بالملا متربّع

ص: 89

6 - نسب عمرو بن سعيد بن زيد و أخباره

اشارة

6 - نسب عمرو بن(1) سعيد بن زيد و أخباره

نسبه، و شيء عن أبيه سعيد بن زيد:

هو عمرو بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح(2) بن عبد اللّه بن قرط(3) بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و سعيد بن زيد يكنى أبا الأعور، و هو أحد العشرة الذين كانوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على حراء فرجف بهم، فقال: «اثبت حراء(4) فليس عليك إلاّ نبيّ أو صدّيق أو شهيد».

معبد و ابن عائشة في حضرة الوليد بن يزيد:
اشارة

أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال حدّثني الهيثم بن سفيان عن أبي مسكين قال:

جلس الوليد بن يزيد يوما للمغنّين و كانوا متوافرين عنده و فيهم معبد و ابن عائشة؛ فقال لابن عائشة: يا محمد. قال: لبّيك يا أمير المؤمنين. قال: إنّي قد قلت شعرا فغنّ فيه. قال و ما هو؟ فأنشده إيّاه، و ترنّم به محمد ثم غنّاه فأحسن، و هو:

صوت

علّلاني و اسقياني *** من شراب أصبهاني

من شراب الشيخ كسرى *** أو شراب القيروان

إنّ في الكأس لمسكا *** أو بكفّي من سقاني

أو لقد غودر فيها *** حين صبّت في الدّنان

كلّلاني توّجاني *** و بشعري غنّياني

ص: 90


1- لم يورد المؤلف شيئا من أخبار عمرو بن سعيد غير هذه الأسطر و كل ما يأتي بعد ليس مرتبطا به فلعل هاهنا خرما.
2- كذا في «طبقات ابن سعد»: (ج 3 ص 190) و «كتاب المعارف»: لابن قتيبة. و في الأصول: «رباح» بالباء الموحدة. و قد ورد هذا النسب في «المعارف» لابن قتيبة هكذا «عبد العزى بن قرط بن رياح بن عبد اللّه بن رزاح... إلخ».
3- كذا في أ: و «طبقات ابن سعد» و «المعارف» لابن قتيبة: و في الأصول: «قرظ» بالظاء المعجمة و هو تصحيف.
4- في «شرح القسطلاني على صحيح البخاري»: (ج 6 ص 114-115) «أن أنس بن مالك رضي اللّه عنه حدثهم أن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم صعد أحدا و أبو بكر و عمرو و عثمان فرجف بهم فقال: أثبت أحد فإنما عليك نبي و صديق و شهيدان». و قد جاء في «سنن الترمذي» و «سنن أبي داود» كما جاء في الأصل.

أطلقاني بوثاقي *** و اشدداني بعناني

إنّما الكأس ربيع *** يتعاطى بالبنان

و حميّا الكأس دبّت *** بين رجلي و لساني

- الغناء لابن عائشة هزج بالبنصر من رواية حبش - قال: فأجاد ابن عائشة و استحسن غناءه من حضر؛ فالتفت إلى معبد فقال: كيف ترى يا أبا عبّاد؟ فقال له معبد: شنت غناءك بصلفك. قال ابن عائشة: يا أحول! و اللّه لو لا أنّك شيخنا و أنّك في مجلس أمير المؤمنين لأعلمتك من الشائن لغنائه أنا بصلفى أم أنت بقبح وجهك. و فطن الوليد بحركتهما فقال: ما هذا؟ فقال: خير يا أمير المؤمنين، لحن كان معبد طارحنيه فأنسيته فسألته عنه لأغنّي فيه أمير المؤمنين. فقال و ما هو؟ قال:

أ من آل ليلى بالملا متربّع *** كما لاح وشم في الذّراع مرجّع

فقال: هات يا معبد، فغنّاه إيّاه؛ فاستحسنه الوليد و قال: أنت و اللّه سيّد من غنّى. و هذا الخبر أيضا مما يدلّ على أن ما ذكره حمّاد من أنّ هذا الصوت منحول لمعبد لا حقيقة له.

أحمد بن أبي العلاء يغني المعتضد بشعر الوليد فيجيزه:

أخبرني محمد بن إبراهيم قريض قال حدّثني أحمد بن أبي العلاء المغنّي قال: غنّيت المعتضد صوتا في شعر له ثم أتبعته بشعر الوليد بن يزيد:

كلّلاني توّجاني *** و بشعري غنّياني

فقال: أحسن و اللّه! هكذا تقول الملوك المترفون، و هكذا يطربون، و بمثل هذا يشيرون، و إليه يرتاحون! أحسنت يا أحمد الاختيار لما شاكل الحال، و أحسنت الغناء، أعد؛ فأعدته، فأمر لي بعشرة آلاف درهم و شرب رطلا ثم استعاده فأعدته، و فعل مثل ذلك حتى استعاده ستّ مرّات و شرب ستّة أرطال و أمر لي بعشرة آلاف درهم - و قال مرة أخرى بستمائة دينار - ثم سكر. و ما رثي قبل ذلك و لا بعده أعطي مغنّيا هذه العطيّة. و في الخبر زيادة و قد ذكرته في موضعت آخر يصلح له.

و قد ذكر محمد بن الحسن الكاتب عن أحمد بن سهل النّوشجاني أنه حضر أحمد بن أبي العلاء و قد غنّى المعتضد هذا الصوت في هذا المجلس و أمر له بهذا المال بعينه و لم يشرح القصّة كما شرحها أحمد.

و منها صوت و هو المتبختر
صوت معبد المسمى بالمتبختر:

جعل اللّه جعفرا لك بعلا *** و شفاء من حادث الأوصاب

/إذ تقولين للوليدة قومي *** فانظري من ترين بالأبواب

الشعر للأحوص. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و ذكر حمّاد عن أبيه في كتاب معبد أنه منحول إلى معبد و أنه لكردم.

ص: 91

صوت و هو المسمى مقطّع الأثفار

ضوء نار بدا لعينك أم شبّ *** ت بذي الأثل من سلامة نار

تلك بين الرّياض و الأثل و البا *** نات منّا و من سلامة دار

/و كذاك الزمان يذهب بالنا *** س و تبقى الرّسوم و الآثار

الشعر للأحوص. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق. و ذكر يونس أن فيه صوتين لمعبد و عمر الواديّ رمل عن الهشاميّ. و فيه لعبد اللّه بن العبّاس خفيف رمل بالوسطى.

الأحوص و موسى شهوات:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عمّي قال:

مدح موسى شهوات أبا بكر بن عبد العزيز بن مروان بقصيدة أحسن فيها و أجاد و قال فيها:

و كذاك الزمان يذهب بالنا *** س و تبقى الديار و الآثار

فقام الأحوص و دخل منزله و قال قصيدة مدح فيها أبا بكر بن عبد العزيز أيضا و أتى فيها بهذا البيت بعينه و خرج فأنشدها. فقال له موسى شهوات: ما رأيت يا أحوص مثلك! قلت قصيدة مدحت فيها الأمير فسرقت أجود بيت فيها و جعلته في قصيدتك. فقال له الأحوص: ليس الأمر كما ذكرت، و لا البيت لي و لا لك، هو للبيد سرقناه جميعا منه، إنما ذكر لبيد قومه فقال:

فعفا آخر الزمان عليهم *** فعلى آخر الزمان الدّبار(1)

و كذاك الزمان يذهب بالنا *** س و تبقى الرّسوم و الآثار

قال: فسكت موسى شهوات فلم يحر جوابا كأنما ألقمه حجرا.

حديث سلامة مع الأحوص و عبد الرحمن بن حسان و هو كما يرى أبو الفرج موضوع:

و نسخت من كتاب أحمد بن سعيد الدّمشقي خبر الأحوص مع سلاّمة التي ذكرها في هذا الشعر و هو موضوع لا أشكّ فيه لأن شعره المنسوب إلى الأحوص شعر ساقط سخيف لا يشبه نمط الأحوص، و التوليد بيّن فيه يشهد على أنه محدث. /و القصّة أيضا باطلة لا أصل لها؛ و لكنّي ذكرته في موضعه على ما فيه من سوء العهدة. قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني أبو محمد الجزريّ قال:

كانت بالمدينة سلامة من أحسن الناس وجها و أتمّهن عقلا و أحسنهن حديثا قد قرأت القرآن و روت الأشعار و قالت الشعر، و كان عبد الرحمن بن حسّان و الأحوص بن محمد يختلفان إليها فيروّيانها الشعر و يناشدانها إيّاه.

فعلقت الأحوص و صدّت عن عبد الرحمن. فقال لها عبد الرحمن يعرّض لها بما ظنّه من ذلك:

أرى الإقبال منك على خليلي *** و ما لي في حديثكم نصيب

فأجابته:

ص: 92


1- الدبار: الهلاك.

لأن اللّه علّقه فؤادي *** فحاز الحبّ دونكم الحبيب

/فقال الأحوص:

خليلي لا تلمها في هواها *** ألذّ العيش ما تهوى القلوب

قال: فأضرب عنها ابن حسّان و خرج ممتدحا ليزيد بن معاوية فأكرمه و أعطاه. فلما أراد الانصراف قال له: يا أمير المؤمنين، عندي نصيحة. قال: و ما هي؟ جارية خلّفتها بالمدينة لامرأة من قريش من أجمل الناس و أكملهم و أعقلهم و لا تصلح أن تكون إلاّ لأمير المؤمنين و في سمّاره: فأرسل إليها يزيد فاشتريت له و حملت إليه؛ فوقعت منه موقعا عظيما و فضّلها على جميع من عنده. و قدم عبد الرحمن المدينة فمرّ بالأحوص و هو قاعد على باب داره و هو مهموم، فأراد أن يزيده إلى ما به فقال:

يا مبتلى بالحب مفدوحا *** لاقى من الحبّ تباريحا

ألجمه الحبّ فما ينثني *** إلاّ بكأس الشوق مصبوحا

و صار ما يعجبه مغلقا *** عنه و ما يكره مفتوحا

/قد حازها من أصبحت عنده *** ينال منها الشّمّ و الرّيحا

خليفة اللّه فسلّ الهوى *** و عزّ قلبا منك مجروحا

فأمسك الأحوص عن جوابه. ثم إن شابّين من بني أميّة أرادا الوفادة إلى يزيد، فأتاهما الأحوص فسألهما أن يحملا له كتابا ففعلا. فكتب إليها معهما:

سلام ذكرك ملصق بلساني *** و على هواك تعودني أحزاني

ما لي رأيتك في المنام مطيعة *** و إذا انتبهت لججت في العصيان

أبدا محبّك ممسك بفؤاده *** يخشى اللّجاجة منك في الهجران

إن كنت عاتبة فإنّي معتب *** بعد الإساءة فاقبلي إحساني

لا تقتلي رجلا يراك لما به *** مثل الشراب لغلّة الظمآن

و لقد أقول لقاطنين من اهلنا *** كانا على خلقي من الإخوان

يا صاحبيّ على فؤادي جمرة *** و برى الهوى جسمي كما تريان

أمرقّيان(1) إلى سلامة أنتما *** ما قد لقيت بها و تحتسبان

لا أستطيع الصبر عنها إنها *** من مهجتي نزلت بكلّ مكان

قال: ثم غلبه جزعه فخرج إلى يزيد ممتدحا له. فلما قدم عليه قرّبه و أكرمه و بلغ لديه كلّ مبلغ. فدسّت إليه سلامة خادما و أعطته مالا على أن يدخله إليها. فأخبر الخادم يزيد بذلك؛ فقال: امض برسالتها. ففعل ما أمره به و أدخل الأحوص، و جلس يزيد بحيث يراهما. فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه و بكى إليها، و أمرت فألقي له

ص: 93


1- أمرقيان إلى سلامة أي أرافعان إليها.

كرسيّ فقعد عليه، و جعل كلّ واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدّة الشوق. فلم يزالا/يتحدّثان إلى السّحر و يزيد يسمع كلامهما من غير أن تكون بينهما ريبة. حتى إذا همّ بالخروج قال:

أمسى فؤادي في همّ و بلبال *** من حبّ من لم أزل منه على بال

/فقالت:

صحا المحبّون بعد النأي إذ يئسوا *** و قد يئست و ما أصحو على حال

فقال:

من كان يسلو بيأس عن أخي ثقة *** فعن سلامة ما أمسيت بالسّالي

فقالت:

و اللّه و اللّه لا أنساك يا سكني *** حتى يفارق منّي الرّوح أوصالي

فقال:

و اللّه ما خاب من أمسى و أنت له *** يا قرّة العين في أهل و في مال

ثم ودّعها و خرج. فأخذه يزيد و دعا بها فقال: أخبراني عمّا كان جرى بينكما في ليلتكما و اصدقاني. فأخبراه و أنشداه ما قالاه، فلم يخرما حرفا و لا غيّرا شيئا مما سمعه. فقال له يزيد: أ تحبّها يا أحوص؟ قال: إي و اللّه يا أمير المؤمنين.

حبا شديدا تليدا غير مطرف *** بين الجوانح مثل النار يضطرم

فقال لها: أ تحبّينه؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين.

حبا شديدا جرى كالرّوح في جسدي *** فهل يفرّق بين الرّوح و الجسد

فقال يزيد: إنكما لتصفان حبا شديدا، خذها يا أحوص فهي لك، و وصله بصلة سنيّة، و انصرف بها و بالجارية إلى الحجاز و هو من أقرّ الناس عينا. مضى الحديث.

أصوات معبد المسمّاة مدن معبد و تسمّى أيضا حصون معبد
مدن معبد أو حصونه:

أخبرني ابن أبي الأزهر و الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، قال حسين في خبره و اللفظ له عن إسماعيل بن جامع عن يونس الكاتب قال:

قال معبد و قد سمع رجلا يقول: إن قتيبة بن مسلم فتح سبعة حصون أو سبع مدن بخراسان فيها سبعة حصون صعبة المرتقى و المسالك لم يوصل إليها قطّ. فقال: و اللّه لقد صنعت سبعة ألحان كلّ لحن منها أشدّ من فتح تلك الحصون. فسئل عنها فقال:

لعمري لئن شطّت بعثمة دارها

و:

هريرة ودّعها و إن لام لائم

ص: 94

و:

رأيت عرابة الأوسيّ يسمو

و:

كم بذاك الحجون من حيّ صدق

و:

لو تعلمين الغيب أيقنت أنني

و:

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي

و:

ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل

و من الناس من يروي مدن معبد:

تقطّع من ظلاّمة الوصل أجمع

و:

خمصانة قلق موشّحها

و:

يوم تبدي لنا قتيلة

/مكان:

كم بذاك الحجون من حي صدق

و:

لو تعلمين الغيب أيقنت أنني

و:

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي

نسبة هذه الأصوات و أخبارها
صوت

لعمري لئن شطّت بعثمة دارها *** لقد كدت من وشك الفراق أليح

أروح بهمّ ثم أغدو بمثله *** و يحسب أنّي في الثياب صحيح

/عروضه من الطويل. شطّت: بعدت. و وشك الفراق: دنوّه و سرعته. و أليح: أشفق و أجزع. الشعر لعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة الفقيه. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر من رواية يونس و إسحاق و عمرو و غيرهم. و فيه رمل يقال: إنه لابن سريج.

ص: 95

7 - ذكر عبيد اللّه بن عبد اللّه و نسبه

نسبه، و عداده في بني زهرة:

هو عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود بن غافل(1) بن حبيب بن شمخ(2) بن فأر(3) بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. و هو في حلفاء بني زهرة من قريش و عداده فيهم.

كان لجده صحبة و ليس بدريا:

و عتبة بن مسعود و عبد اللّه بن مسعود البدريّ صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخوان، و لعتبة صحبة بالنبيّ صلى اللّه عليه و سلم و ليس من البدريّين.

استعمل أباه عمر بن الخطاب:

و كان ابنه عبد اللّه أبو عبيد اللّه بن عبد اللّه رجلا صالحا، و استعمله عمر بن الخطّاب فأحمده.

أخواه عون و عبد الرحمن و شيء عنهما:

و لعبيد اللّه بن عبد اللّه أخوان عون و عبد الرحمن.

و كان عون من أهل الفقه و الأدب، و كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه. و قال - و كان شاعرا -:

فأوّل ما أفارق غير شكّ *** أفارق ما يقول المرجئونا

و قالوا مؤمن من آل جور *** و ليس المؤمنون بجائرينا

و قالوا مؤمن دمه حلال *** و قد حرمت دماء المؤمنينا

و خرج مع ابن الأشعث، فلمّا هزم هرب، و طلبه الحجّاج؛ فأتى محمد بن مروان بن الحكم بنصيبين فأمّنه و ألزمه ابنيه مروان بن محمد و عبد الرحمن بن محمد. فقال له: كيف رأيت ابني أخيك؟ قال: أمّا عبد الرحمن فطفل، و أمّا مروان فإني/إن أتيته حجب، و إن قعدت عنه عتب، و إن عاتبته صخب، و إن صاحبته غضب. ثم تركه و لزم عمر بن عبد العزيز فلم يزل معه. ذكر ذلك كلّه و معانيه الأصمعيّ عن أبي نوفل الهذليّ عن أبيه: و لعون يقول جرير:

يا أيّها القارئ المرخي عمامته *** هذا زمانك إنّي قد مضى زمني

أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه *** أنّي لدى الباب كالمصفود في قرن

ص: 96


1- كذا في «طبقات ابن سعد»: (ج 2 ص 106) و «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» (ج 1 ص 370) و في الأصول: «وائل».
2- كذا في «طبقات ابن سعد و الاستيعاب»: و في الأصول: «شيخ».
3- كذا في «الطبقات و الاستيعاب»: و في الأصول: «قار» بالقاف.

و خبره يأتي في أخبار جرير(1).

كان فقيها، و هو أحد السبعة بالمدينة:

و أمّا عبد الرحمن فلم تكن له نباهة أخويه و فضلهما فسقط ذكره.

و أمّا عبيد اللّه فإنه أحد وجوه الفقهاء الذين روي عنهم الفقه و الحديث. و هو أحد السبعة من أهل المدينة، و هم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، و عروة بن الزّبير، و أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، و سعيد بن المسيّب، و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، و خارجة بن زيد بن ثابت، و سليمان بن يسار. و كان عبيد اللّه ضريرا. و قد روى عن جماعة من وجوه الصحابة مثل ابن عبّاس و عبد اللّه بن مسعود عمّه و أبي هريرة. و روى عنه الزّهريّ و ابن أبي الزناد و غيرهما من نظرائهما.

كان يؤثره ابن عباس:

و كان عبد اللّه بن عباس يقدّمه و يؤثره.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال حدّثنا أبي قال حدّثنا يونس بن محمد قال حدّثنا حمّاد بن زيد عن معمر عن الزّهريّ قال:

كان/عبيد اللّه بن عبد اللّه يلطف لابن عبّاس فكان يعزّه عزّا.

حديث الزهري عنه و كان كثير الاتصال به:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن محمد بن الحسن عن مالك بن أنس عن ابن شهاب الزّهريّ قال:

/كنت أخدم عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة حتى إن كنت لأستقي الماء الملح و إن كان ليسأل جاريته فتقول:

غلامك الأعمش.

أخبرني وكيع قال حدّثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه قال حدّثنا عبد الرزّاق عن معمر عن الزّهريّ قال:

أدركت أربعة بحور، عبيد اللّه بن عبد اللّه أحدهم.

أخبرني وكيع قال حدّثنا محمد قال حدّثنا حامد بن يحيى عن ابن عيينة عن الزّهريّ قال:

سمعت من العلم شيئا كثيرا، فلما لقيت عبيد اللّه بن عبد اللّه كأني كنت(2) في شعب من الشّعاب فوقعت في الوادي؛ و قال مرّة: صرت كأنّي لم أسمع من العلم شيئا.

أثنى عليه عمر بن عبد العزيز:

أخبرني وكيع قال حدّثني بشر بن موسى قال حدّثنا الحميديّ عن ابن عيينة عن عليّ بن زيد بن جدعان قال:

كان عمر بن عبد العزيز يقول: ليت لي مجلسا من عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بدية.

ص: 97


1- مضى هذا الخبر في «ترجمة جرير»: في ج 8 ص 47 من هذه الطبعة.
2- لعل صوابه: «صرت كأني كنت... إلخ».

أخبرني وكيع قال حدّثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال حدّثني عمّي عن يعقوب بن عبد الرحمن الزّهريّ عن حمزة بن عبد اللّه قال:

قال عمر بن عبد العزيز: لو كان عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة حيّا ما صدرت إلاّ عن رأيه، و لوددت أنّ لي بيوم من عبيد اللّه غرما. قال ذلك في خلافته.

ما جرى بين عمر بن عبد العزيز و عروة في شأن عائشة و ابن الزبير أمامه، ثم شعره لعمر حين أرسل إليه:

أخبرنا محمد بن جرير الطّبريّ و عمّ أبي عبد العزيز بن أحمد و محمد بن العباس اليزيديّ و الطّوسيّ و وكيع و الحرميّ بن أبي العلاء و طاهر بن عبد اللّه الهاشميّ، قالوا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا إبراهيم بن طلحة بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصّدّيق و ابن أخيه يحيى بن محمد بن طلحة جميعا عن عثمان بن عمر بن موسى عن الزّهريّ قال:

دخل عروة بن الزبير و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة على عمر بن عبد العزيز و هو أمير المدينة. فقال عروة لشيء حدّث به من ذكر عائشة و عبد اللّه بن الزبير: سمعت عائشة تقول: ما أحببت أحدا حبّي عبد اللّه بن الزّبير لا أعني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لا أبويّ. فقال عمر: إنكم لتنتحلون عائشة لابن الزّبير انتحال من لا يرى لكل مسلم معه فيها نصيبا.

فقال عروة: بركة عائشة كانت أوسع من ألاّ يرى لكل مسلم فيها حقّ، و لقد كان عبد اللّه منها بحيث وضعته الرّحم و المودّة التي لا يشرك كلّ واحد منهما فيه عند صاحبه أحد. فقال عمر: كذبت. فقال عروة: هذا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود يعلم أنّي غير كاذب، و إنّ من أكذب الكاذبين من كذّب الصادقين. فسكت عبيد اللّه و لم يدخل بينهما في شيء. فأفّف بهما عمر و قال: اخرجا عنّي. ثم لم يلبث أن بعث إلى عبيد اللّه بن عبد اللّه رسولا يدعوه لبعض ما كان يدعوه إليه. فكتب إليه عبيد اللّه:

لعمر ابن ليلى(1) و ابن عائشة التي *** لمروان أدّته، أب غير زمّل(2)

لو انهم عمّا و جدّا و والدا *** تأسّوا فسنّوا سنّة المتعطّل

/عذرت أبا حفص و إن كان واحدا *** من القوم يهدي هديهم ليس يأتلي

/و لكنهم فاتوا و جئت مصلّيا *** تقرّب(3) إثر السابق المتمهل

و عمت(4) فإن تسبق فضنء مبرّز *** جواد و إن تسبق فنفسك فاعذل

فمالك بالسلطان أن تحمل القذى *** جفون عيون بالقذى لم تكحّل

و ما الحقّ أن تهوى فتسعف بالذي *** هويت إذا ما كان ليس بأعدل

أبى اللّه و الأحساب أن ترأم(5) الخنى *** نفوس كرام بالخنا لم توكّل

ص: 98


1- ابن ليلى به يعني به عبد العزيز بن مروان و هي ليلى بنت زبان بن الأصبغ بن عمرو. و ابن عائشة يريد به عبد الملك بن مروان و هي عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.
2- الزمل: الضعيف الساقط.
3- التقريب: عدو دون الإسراع.
4- عمت: سرت.
5- ترأم الخنى: ترضاه و تستسغيه.

قال الزبير في خبره وحده: الضّنء و الضّنء: الولد. قال: و أنشد الخليل بن أسد قال أنشدني دهثم:

ابن عجوز ضنؤها غير أمر(1) *** لو نحرت في بيتها عشر جزر

لأصبحت من لحمهنّ تعتذر *** تغدو على الحيّ بعود من سمر

حتى يفرّ أهلها كلّ مفرّ

حجبه عمر بن عبد العزيز فقال فيه شعرا ثم اعتذر فعذره:

أخبرني الحسن بن عليّ و وكيع قالا حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير، و أخبرناه الحرميّ بن أبي العلاء إجازة قال حدّثنا الزّبير عن ابن أبي أويس عن بكّار بن حارثة عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن هشام بن عروة:

أن عبيد اللّه بن عبد اللّه جاء إلى عمر بن عبد العزيز فاستأذن عليه، فردّه الحاجب و قال له: عنده عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان و هو مختل به، فانصرف غضبان. و كان في صلاحه ربما صنع الأبيات، فقال لعمر:

ابن لي فكن مثلي أو ابتغ صاحبا *** كمثلك إنّي تابع صاحبا مثلي

/عزيز إخائي لا ينال مودّتي *** من الناس إلاّ مسلم كامل العقل

و ما يلبث الفتيان أن يتفرّقوا *** إذا لم يؤلّف روح شكل إلى شكل

قال: فأخبر عمر بأبياته؛ فبعث إليه أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة و عراك بن مالك يعذرانه عنده و يقولان: إن عمر يقسم باللّه ما علم بأبياتك و لا بردّ الحاجب إياك، فعذره. قال الزّبير و قد أنشدني محمد بن الحسن قال أنشدني محزر بن جعفر لعبيد اللّه بن عبد اللّه هذه الأبيات و زاد فيها و هو أوّلها:

و إنّي امرؤ من يصفني الودّ يلفني *** و إن نزحت دار به دائم الوصل

عزيز إخائي لا ينال مودّتي *** من الناس إلاّ مسلم كامل العقل

و لو لا اتّقائي اللّه قلت قصيدة *** تسير بها الرّكبان أبردها يغلي

بها تنقض الأحلاس(2) في كلّ منزل *** ، و ينفي الكرى عنه بها صاحب الرّحل

كفاني يسير إذ أراك بحاجتي *** كليل اللسان ما تمرّ و ما تحلي(3)

تلاوذ(4) بالأبواب منّي مخافة ال *** ملامة و الإخلاف شرّ من البخل

و ذكر الأبيات الأول بعد هذه.

شعره في عراك و ابن حزم حين علم أنهما مرّا عليه و لم يسلما:
اشارة

أخبرني وكيع قال حدّثني عليّ بن حرب الموصليّ قال حدّثنا إسماعيل بن ريّان الطائي قال سمعت ابن إدريس يقول:

ص: 99


1- الأمر: الكثير.
2- الأحلاس: جمع حلس و هو كل ما ولي ظهر البعير و الدابة تحت الرحل و القتب و السرج.
3- ما تمر و ما تحلى: ما تضر و ما تنفع.
4- تلاوذ: تراوغ.

كان عراك بن مالك و أبو بكر بن حزم و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة يتجالسون بالمدينة زمانا. ثم أن ابن حزم ولي إمرتها و ولي عراك القضاء، و كانا يمرّان بعبيد اللّه فلا يسلّمان عليه و لا يقفان، و كان/ضريرا فأخبر بذلك، فأنشأ يقول:

/

ألا أبلغا عنّي عراك بن مالك *** و لا تدعا أن تثنيا بأبي بكر

فقد جعلت تبدو شواكل منكما *** كأنّكما بي موقران من الصّخر

و طاوعتما بي داعكا(1) ذا معاكة *** لعمري لقد أزرى و ما مثله يزري

و لو لا اتّقائي ثم بقياي فيكما *** للمتكما لوما أحرّ من الجمر

صوت

فمسّا تراب الأرض منها خلقتما *** و منها المعاد و المصير إلى الحشر

و لا تأنفا أن تسألا و تسلّما *** فما خشي الإنسان شرّا من الكبر

فلو شئت أن ألفي عدوّا و طاعنا *** لألفيته أو قال عندي في السرّ

فإن أنا لم آمر و لم أنه عنكما *** ضحكت له حتى يلجّ و يستشري

عروضه من الطويل. غنّي في:

فمسّا تراب الأرض منها خلقتما

و الذي بعده لحن من الثقيل الأوّل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة و ابن المكّيّ و يونس و غيرهم. و زعم ابن شهاب الزّهريّ أن عبيد اللّه قال هذه الأبيات في عمر بن عبد العزيز و عمرو بن عثمان، يعني [أن] الأبيات الأول ليست منها في شيء، و إنما أدخلت فيها لاتّفاق الرّويّ و القافية.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ قال حدّثنا إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن ابن شهاب قال:

/جئت عبيد اللّه بن عبد اللّه يوما في منزله فوجدته ينفخ و هو مغتاظ؛ فقلت له: مالك؟ قال: جئت أميركم آنفا - يعني عمر بن عبد العزيز - فسلّمت عليه و على عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، فلم يردّا عليّ، فقلت:

فمسّا تراب الأرض منها خلقتما

و ذكر الأبيات الأربعة. قال فقلت له: رحمك اللّه! أ تقول الشعر في فضلك و نسكك! قال: إنّ المصدور إذا نفث برأ.

قال أبو زيد حدّثنا إبراهيم بن المنذر، و أنشدني هذه الأبيات عبد العزيز بن أبي ثابت عن ابن أبي الزّناد له و ذكر مثل ذلك و أنها في عمر بن عبد العزيز و عبد اللّه بن عمرو، و زاد فيها:

و كيف يريدان ابن تسعين حجّة *** على ما أتى و هو ابن عشرين أو عشر

ص: 100


1- الداعك: الأحمق. و المعاكة: الحمق.
شيء من شعره:

و لعبيد اللّه بن عبد اللّه شعر فحل جيّد ليس بالكثير. منه قوله:

إذا كان لي سرّ فحدّثته العدا *** و ضاق به صدري فللنّاس أعذر

و سرّك ما استودعته و كتمته *** و ليس بسرّ حين يفشو و يظهر

و قوله لابن شهاب الزّهريّ:

إذا قلت أمّا بعد لم يثن منطقي *** فحاذر إذا ما قلت كيف أقول

إذا شئت أن تلقى خليلا مصافيا *** لقيت و إخوان الثّقات قليل

استحسن جامع بن مرخية شعره فأجازه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الجبار بن سعيد المساحقيّ عن ابن أبي الزّناد عن أبيه قال:

أنشد عبيد اللّه بن عبد اللّه جامع بن مرخية/الكلابيّ لنفسه:

لعمر أبي المحصين أيام نلتقي *** لما لا نلاقيها من الدهر أكثر

/يعدّون يوما واحدا إن أتيتها *** و ينسون ما كانت على الدهر تهجر

و إن أولع الواشون عمدا بوصلنا *** فنحن بتجديد المودة أبصر

قال: فأعجبت أبياته هذه جامعا، فسرّ ذلك عبيد اللّه فكساه و حمله.

جامع بن مرخية هذا من شعراء الحجاز، و هو الذي يقول:

سألت سعيد بن المسيّب مفتى ال *** مدينة هل في حبّ ظمياء من وزر

فقال سعيد بن المسيّب إنما *** تلام على ما تستطيع من الأمر

فبلغ قوله سعيدا، فقال: كذب و اللّه! ما سألني و لا أفتيته بما قال. أخبرني بذلك الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير.

مختارات من شعره:
اشارة

و من جيّد شعر عبيد اللّه و سهله:

أعاذل عاجل ما أشتهي *** أحبّ من الآجل الرائث(1)

سأنفق مالي على لذّتي *** و أوثر نفسي على الوارث

أبادر إهلاك مستهلك *** لمالي أو عبث العابث

و قوله يفتخر في أبيات:

إذا هي حلّت وسط عوذ(2) ابن غالب *** فذلك ودّ نازح لا أطالعه

ص: 101


1- الرائث: البطيء.
2- عوذ: جمع عائذ و هي الحديثة النتاج من الإبل و غيرها.

شددت حيازيمي(1) على قلب حازم *** كتوم لما ضمّت عليه أضالعه

أداجي رجالا لست مطلع بعضهم *** على سرّ بعض إنّ صدري واسعه

بنى لي عبد اللّه في ذروة العلا *** و عتبة مجدا لا تنال مصانعه

و قوله و فيه غناء:

صوت

إن يك ذا الدهر قد أضرّ بنا *** من غير ذحل(2) فربّما نفعا

أبكي على ذلك الزمان و لا *** أحسب شيئا قد فات مرتجعا

إذ نحن في ظلّ نعمة سلفت *** كانت لها كلّ نعمة تبعا

عروضه من المنسرح. غنّت فيها عريب خفيف رمل عن الهشاميّ.

قدمت المدينة مكية فتنت الناس فشبب بها:

حدّثنا محمد بن جرير الطبريّ و الحرميّ بن أبي العلاء و وكيع قالوا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني إسماعيل بن يعقوب عن ابن أبي الزّناد عن أبيه قال:

قدمت المدينة امرأة من ناحية مكة من هذيل، و كانت جميلة فخطبها الناس، و كادت تذهب بعقول أكثرهم.

فقال فيها عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة:

أحبّك حبّا لو علمت ببعضه *** لجدت و لم يصعب عليك شديد

و حبّك يا أمّ الصبيّ مدلّهي *** شهيدي أبو بكر و أيّ شهيد(3)

و يعلم وجدي القاسم بن محمد *** و عروة ما ألقى بكم و سعيد

و يعلم ما أخفي سليمان علمه *** و خارجة يبدي لنا و يعيد

/متى تسألي عمّا أقول فتخبري *** فللحبّ عندي طارف و تليد

فبلغت أبياته سعيد بن المسيّب، فقال: و اللّه لقد أمن أن تسألنا و علم أنها لو استشهدت بنا لم نشهد له بالباطل عندها.

و قال الزّبير: أبو بكر الذي ذكر و النّفر المسمّون معه: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، و القاسم بن محمد بن أبي بكر، و عروة بن الزّبير، و سعيد بن/المسيّب، و سليمان بن يسار، و خارجة بن زيد بن ثابت، و هم الفقهاء الذين أخذ عنهم أهل المدينة.

ص: 102


1- الحيزوم: وسط الصدر.
2- الذحل: الثأر.
3- في هذا البيت إقواء.
عتب على زوجة عثمة في بعض الأمر فطلقها و شعره فيها:
اشارة

أخبرني وكيع قال حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات عن أحمد بن سعيد الفهريّ عن إبراهيم بن المنذر بن عبد الملك بن الماجشون:

أن أبيات عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة التي أوّلها:

لعمري لئن شطّت بعثمة دارها *** لقد كدت من وشك الفراق أليح

قالها في زوجة له كانت تسمّى عثمة، فعتب عليها في بعض الأمر فطلّقها. و له فيها أشعار كثيرة، منها هذه الأبيات، و منها قوله يذكر ندمه على طلاقها:

كتمت الهوى حتى أضرّ بك الكتم *** و لامك أقوام و لومهم ظلم

و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال قال لي عمّي:

لقيني عليّ بن صالح فأنشدني بيتا و سألني من قائله؟ و هل فيه زيادة؟ فقلت: لا أدري، و قد قدم ابن أخي - أعنيك - و قلّما فاتني شيء إلاّ وجدته عنده. قال الزبير: فأنشدني عمّي البيت و هو:

غراب و ظبي أعضب(1) القرن ناديا *** بصرم و صردان(2) العشيّ تصيح

فقلت له: قائله عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، و تمامها:

لعمري لئن شطّت بعثمة دارها *** لقد كدت من وشك الفراق أليح

أروح بهمّ ثم أغدو بمثله *** و يحسب أنّي في الثياب صحيح

فكتبهما عمّي عنّي و انصرف بهما إليه.

صوت

ألا من لنفس لا تموت فينقضي *** عناها و لا تحيا حياة لها طعم

أ أترك إتيان الحبيب تأثّما *** ألا إنّ هجران الحبيب هو الإثم

فذق هجرها قد كنت تزعم أنه *** رشاد ألا يا ربّما كذب الزّعم

عروضه من الطويل. غنّى يونس في هذه الأبيات الثلاثة لحنا ماخوريّا و هو خفيف الثقيل الثاني من رواية إسحاق و يونس(3) و ابن المكّيّ و غيرهم. و غنّت عريب في:

أ أترك إتيان الحبيب تأثّما

لحنا من الثقيل الأوّل، و أضافت إليه بعده على الولاء بيتين ليسا من هذا الشعر و هما:

و أقبل أقوال الوشاة تجرّما *** ألا إن أقوال الوشاة هي الجرم

و أشتاق لي إلفا على قرب داره *** لأنّ ملاقاة الحبيب هي الغنم

ص: 103


1- الأعضب القرن: المكسور القرن.
2- الصردان: جمع صرد و هو طائر أبقع أبيض البطن يتشاءم به.
3- يلاحظ أن صاحب هذا الغناء هو يونس؛ و يبعد أن يكون من رواته.

و مما قاله عبيد اللّه أيضا في زوجته هذه و غنّي فيه:

صوت

عفت أطلال عثمة بالغميم *** فأضحت و هي موحشة الرّسوم

و قد كنّا نحلّ بها و فيها *** هضيم الكشح جائلة البريم

عروضه من الوافر. عفت. درست. و الأطلال: ما شخص من آثار الديار. و الرّسوم: ما لم يكن له شخص منها و لا ارتفاع و إنما هو أثر. و الهضيم الكشح الخميص الحشى و البطن. و البريم: الخلخال، و قيل: بل هو اسم لكل ما يلبس من الحليّ في اليدين و الرجلين. و الجائل: ما يجول في موضعه لا يستقرّ. غنّى في هذين البيتين قفا النجّار.

و لحنه من القدر الأوسط من الثّقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر.

/و مما قاله في زوجته عثمة و فيها غناء:

صوت

تغلغل حبّ عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب *** و لا حزن و لم يبلغ سرور

صدعت القلب ثم ذررت فيه *** هواك فليم و التأم الفطور(1)

أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لو انّ إنسانا يطير

غنيّ النفس أن أزداد حبّا *** و لكنّي إلى صلة فقير

و أنفذ جارحاك سواد قلبي *** فأنت عليّ ما عشنا أمير

لمعبد في الأوّل و الثاني من الأبيات هزج بالبنصر عن حبش، و ذكر أحمد بن عبيد اللّه أنه منحول من المكّيّ. و في الثالث ثم الثاني لأبي عيسى بن الرّشيد رمل.

قال ابن أبي الزّناد في الخبر الذي تقدّم ذكره عن عبيد اللّه و ما قاله من الشعر في عثمة و غيرها: فقيل له: أ تقول في مثل هذا؟! قال: في اللّدود راحة المفئود(2).

بلغه أن رجلا يقع ببعض الصحابة فجفاه:

أخبرني وكيع قال حدّثنا أحمد بن عبد الرحمن قال حدّثنا ابن وهب عن يعقوب يعني ابن عبد الرحمن عن أبيه قال:

كان رجل يأتي عبيد اللّه بن عبد اللّه و يجلس إليه. فبلغ عبيد اللّه أنه يقع ببعض أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. فجاءه الرجل فلم يلتفت إليه عبيد اللّه. و كان الرجل شديد العقل، فقال له: يا أبا محمد، إن لك لشأنا، فإن رأيت لي عذرا فاقبل عذري. فقال له: أ تتّهم اللّه في علمه؟ قال: أعوذ باللّه. قال: أ تتّهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم/في حديثه؟ قال: أعوذ

ص: 104


1- الفطور: الشقوق.
2- اللدود: ما يصب بالمسعط من الدواء في أحد شقي الفم. و المفئود: الذي يشتكي فؤاده.

باللّه. قال: يقول اللّه عزّ و جل: لَقَدْ رَضِيَ اللّٰهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ و أنت تقع في فلان و هو ممن بايع، فهل بلغك أن اللّه سخط عليه بعد أن رضي عنه؟! قال: و اللّه لا أعود أبدا. قال: و الرجل عمر بن عبد العزيز(1).

صوته:

أخبرني وكيع عن أحمد بن زهير عن يحيى بن معين قال:

مات عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة سنة اثنتين و مائة، و يقال سنة تسع و تسعين أخبرني محمد بن جرير الطبريّ و الحسن بن عليّ عن الحارث(2) عن ابن سعد عن معن(3) عن محمد بن هلال: أن عبيد اللّه توفّي بالمدينة سنة ثمان و تسعين.

صوت من أصوات معبد المعروفة بالمدن:
اشارة

و منها(4):

صوت

/

ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل *** و هل تطبق وداعا أيّها الرجل

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها *** تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل(2)

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت *** كما استعان بريح عشرق زجل

علّقتها عرضا و علّقت رجلا *** غيري و علّق أخرى غيرها الرّجل

قالت هريرة لمّا جئت زائرها *** ويلي عليك و ويلي منك يا رجل

لم تمش ميلا و لم تركب على جمل *** و لم تر الشمس إلاّ دونها الكلل

/أقول للركب في درنى(5) و قد ثملوا *** شيموا و كيف يشيم الشارب الثّمل

كناطح صخرة يوما ليفلقها *** فلم يضرها و أوهى قرنه الوعل

أبلغ يزيد بني شيبان مألكة *** أبا ثبيت أ ما تنفكّ تأتكل

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا *** أو تنزلون فإنّا معشر نزل

و قد غدوت إلى الحانوت يتبعني *** شاو نشول مشلّ شلشل شول

في فتية كسيوف الهند قد علموا *** أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل

نازعتهم قضب الرّيحان متّكئا *** و قهوة مزّة راووقها خضل

ص: 105


1- يبعد تصديق مثل ذلك عن عمر بن عبد العزيز و هو من هو صلاحا و تقوى.
2- هو الحارث بن أبي أسامة. و ابن سعد هو سليمان بن سعد. (راجع ج 6 ص 359 من هذه الطبعة).
3- هو معن بن عيسى القزاز: (راجع «تهذيب التهذيب» ج 9 ص 498).
4- يريد أصوات. معبد التي تسمى مدن معبد، و قد مرت في صفحة 137.
5- درني: موضع بنواحي اليمامة، و قيل: بنواحي العراق.

غنّى معبد في الأوّل و الثاني في لحنه المذكور في مدن معبد لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكرت دنانير أن فيهما لابن سريج أيضا صنعة. و لمعبد أيضا في الرابع و الخامس و الثالث ثقيل أوّل، ذكره حبش، و قيل: بل هو لحن ابن سريج، و ذلك الصحيح. و لابن محرز في الثقيل في «إن تركبوا» و في «كناطح صخرة» ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. و لحنين الحيريّ في «أبلغ يزيد بني شيبان» و «إن تركبوا» ثاني ثقيل آخر. و ذكر أحمد بن المكّيّ أن لابن محرز في «ودّع هريرة» و «تسمع للحلي» ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر. و في «و قد غدوت» و ما بعده رمل لابن سريج و مخارق عن الهشامي. و لابن سريج في «تسمع للحلى» و قبله «ودّع هريرة» رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و للغريض في «قالت هريرة» و «علّقتها عرضا» رمل. و في هذه الأبيات بعينها هزج ينسب إليه أيضا و إلى غيره. و في «تسمع للحلى» و «قالت هريرة» هزج لمحمد بن حسن بن مصعب. و في «لم تمش ميلا» و «أقول للركب» لابن سريج خفيف الثقيل الأوّل بالبنصر عن حبش. و في «قالت/هريرة» و «تسمع للحلى» لحن لابن سريج. و إن لحنين في البيتين الآخرين لحنا آخر. و قد مضت أخبار هريرة مع الأعشى في:

هريرة ودّعها و إن لام لائم

و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الأصمعيّ قال قلت لأعرابيّة: ما الغرّاء؟ قالت: التي بين حاجبيها بلج و في جبهتها اتساع تتباعد قصّتها معه عن حاجبيها فيكون بينهما نفنف(1). و قال أبو عبيدة: الفرعاء:

الكثيرة الشعر. و العوارض: الأسنان. و الهوينى تصغير الهونى، و الهونى: مؤنث الأهون. و الوجي: الظالع و هو الذي قد حفي فليس يكاد يستقلّ على رجله. و الوحل: الذي قد وقع في الوحل. /و العشرق: نبت يبس فتحرّكه الريح؛ شبّه صوت حليها بصوته. الزّجل: المصوّت من العشرق. و علّقتها: أحببتها. و عرضا: على غير موعد.

و الوعل: التّيس الجبليّ، و الجمع أوعال. مألكة: رسالة، و الجمع مآلك. ما تنفكّ: ما تزال. و تأتكل: تتحرّق.

و قال أبو عبيدة: الشاوي: الذي يشوي اللحم: و النّشول: الذي ينشل اللحم من القدر. و مشلّ: سوّاق سريع يسوق به. و شلشل: خفيف. و شول: طيّب الرّيح.

ما وقع بين بني كعب و بني همام، و قصيدة الأعشى في ذلك:

الشعر للأعشى و قد تقدّم نسبه و أخباره. يقول هذه القصيدة ليزيد بن مسهر أبي ثابت الشّيباني. قال أبو عبيدة:

و كان من حديث هذه القصيدة أن رجلا من بني كعب بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، يقال له ضبيع، قتل رجلا من بني همّام يقال له زاهر بن سيّار بن أسعد بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، و كان ضبيع مطروقا(2)ضعيف العقل. فنهاهم يزيد بن مسهر أن يقتلوا ضبيعا بزاهر و قال: /اقتلوا به سيّدا من بني سعد بن مالك بن ضبيعة، فحضّ بني سيّار بن أسعد على ذلك و أمرهم به. و بلغ بني قيس مما قاله، فقال الأعشى هذه الكلمة يأمره أن يدع بني سيّار و بني كعب و لا يعين بني سيّار؛ فإنه إن أعانهم أعانت قبائل بني قيس بني كعب، و حذّرهم أن تلقى شيبان منهم مثل ما لقوا يوم العين عين محلّم(3) بهجر.

ص: 106


1- النفنف: المهوى بين الشيئين.
2- المطروق: الذي به هوج و جنون.
3- عين محلم (بتشديد اللام و كسرها): قال أبو منصور: هي عين فوّارة بالبحرين، و ما رأيت عينا أكثر ماء منها، و ماؤها جار في منبعها، فإذا برد فهو ماء عذب. و لهذه العين إذا جرت في نهرها خلج كثيرة تتخلج منها تسقي قرى كثيرة و مزارع و نخلا
يوم عين محلم:

قال أبو عبيدة: و كان من حديث ذلك اليوم، كما زعم عمر بن هلال أحد بني سعد بن قيس بن ثعلبة، أن يزيد بن مسهر كان خالع أصرم بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن قيس بن ثعلبة، و كان عوف أبو بني الأصرم يقال له الأعجف و الضّيعة له و هي قرية باليمامة. فلما خلع يزيد أصرم من ماله خالعه على أن يرهنه ابنيه أفلت و شهابا ابني أصرم، و أمّهما فطيمة بنت شرحبيل بن عوسجة بن ثعلبة بن سعد بن قيس، و أن يزيد قمر أصرم فطلب أن يدفع إليه ابنيه رهينة، فأبت أمّهما و أبى يزيد إلاّ أخذهما. فنادت قومها، فحضر الناس للحرب، فاشتملت فطيمة على ابنيها بثوبها، و فكّ قومها عنها و عنهما. فذلك قول الأعشى:

نحن الفوارس يوم العين ضاحية *** جنبي فطيمة لا ميل و لا عزل(1)

قال: فانهزمت بنو شيبان، فحذر الأعشى أن يلقى مسهر مثل تلك الحال.

قال أبو عبيدة: و ذكر عامر و مسمع عن قتادة الفقيه أن رجلين من بني مروان تنازعا في هذا الحديث، فجرّدا رسولا في ذلك إلى العراق حتى قدم إلى الكوفة فسأل فأخبر أنّ فطيمة من بني سعد بن قيس كانت عند رجل من بني شيبان، و كانت له/زوجة أخرى من بني شيبان، فتعايرتا فعمدت الشّيبانيّة فحلّت ذوائب فطيمة، فاهتاج الحيّان فاقتتلوا، فهزمت بنو شيبان يومئذ.

مسحل رئي الأعشى:
اشارة

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أحمد بن محمد القصير قال حدّثنا محمد بن صالح قال حدّثني أبو اليقظان قال حدّثني جويرية عن يشكر بن وائل اليشكريّ، و كان من علماء بكر بن وائل و ولد أيام مسيلمة فجيء به إليه فمسح على رأسه فعمي، قال جويرية فحدّثني يشكر هذا قال حدّثني جرير بن عبد اللّه البجليّ قال:

سافرت في الجاهليّة فأقبلت على بعيري ليلة أريد أن أسقيه، فجعلت أريده على أن يتقدّم فو اللّه ما يتقدّم، فتقدّمت/فدنوت من الماء و عقلته، ثم أتيت الماء فإذا قوم مشوّهون عند الماء فقعدت. فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشدّ تشويها منهم فقالوا: هذا شاعرهم. فقالوا له: يا فلان أنشد هذا فإنه ضيف؛ فأنشد:

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

فلا و اللّه ما خرم منها بيتا واحدا حتى انتهى إلى هذا البيت.

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت *** كما استعان بريح عشرق زجل

فأعجب به. فقلت: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا. قلت: لو لا ما تقول لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها عام أوّل بنجران. قال: فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه و أنا مسحل صاحبه، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس:

ص: 107


1- ضاحية: علانية. و الميل: جمع أميل و هو الذي لا يثبت في الحرب مثل أبيض و بيض. و العزل: جمع أعزل، و حركت زاؤه للشعر.
صوت

رأيت عرابة الأوسيّ يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقّاها عرابة باليمين

/عروضه من الوافر. الشعر للشّماخ. و الغناء لمعبد خفيف الثقيل الأوّل بالوسطى. و ذكر إسحاق أنه من الأصوات القليلة الأشباه. و ذكر ابن المكّيّ أن له فيه لحنا آخر من خفيف الثقيل. و قد أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة عن محمد بن يحيى أبي غسّان قال غنّى أبو نؤي:

رأيت عرابة الأوسي يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين

فنسبه الناس إلى معبد. و لعلّه يعني اللحن الآخر الذي ذكره ابن المكيّ. و قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات أخبرني حمّاد عن ابن أبي جناح قال: الناس ينسبون هذا الصوت إلى معبد.

ص: 108

8 - ذكر الشّمّاخ و نسبه و خبره

نسبه من قبل أبويه:

هو، فيما ذكر لنا أبو خليفة بن محمد بن سلاّم، الشّمّاخ بن ضرار بن سنان بن أميّة(1) بن عمرو بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان. و ذكر الكوفيّون أنه الشماخ بن ضرار بن حرملة بن صيفيّ بن إياس بن عبد بن عثمان بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. و أمّ الشّماخ أنماريّة من بنات الخرشب و يقال: إنهنّ أنجب نساء العرب، و اسمها معاذة بنت بجير بن خالد بن إياس.

مخضرم، و هو أحد من هجا عشيرته:

و الشّماخ مخضرم ممّن أدرك الجاهليّة و الإسلام، و قد قال للنبيّ صلى اللّه عليه و سلم.

تعلّم رسول اللّه أنا كأننا *** أفأنا بأنمار ثعالب ذي غسل(2)

يعني أنمار بن بغيض و هم قومه. و هو أحد من هجا عشيرته و هجا أضيافه و منّ عليهم بالقرى. و الشّماخ: لقب و اسمه معقل، و قيل الهيثم، و الصحيح معقل. قال جبل بن جوّال له في قصة كانت بينهما:

لعمري لعل الخير لو تعلمانه *** يمنّ علينا معقل و يزيد

/منيحة(3) عنز أو عطاء فطيمة *** ألا أنّ نيل الثّعلبيّ زهيد

له أخوان جزء و مزرّد:

و للشمّاخ أخوان من أمّه و أبيه شاعران، أحدهما مزرّد و هو مشهور، و اسمه يزيد و إنما سمي مزرّدا لقوله:

/

فقلت تزرّدها عبيد فإنني *** لدرد(4) الشيوخ في السنين مزرّد

و الآخر جزء بن ضرار، و هو الذي يقول يرثي عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه:

عليك سلام من أمير و باركت *** يد اللّه في ذاك الأديم الممزّق

فمن يسع أو يركب جناحي نعامة *** ليدرك ما حاولت بالأمس يسبق

ص: 109


1- في «تجريد الأغاني»: «أمامة».
2- ذو غسل: موضع. و قد ورد هذا البيت في «كتاب الشعر و الشعراء» مع بيت آخر منسوبين إلى مزرّد أخي الشماخ.
3- المنيحة: الناقة أو الشاة تعطيها غيرك ليحتلبها ثم يردّها عليك.
4- كذا في «كتاب الشعر و الشعراء» و في ح: «بدرد الموالي» و في سائر الأصول: «بزرد الموالي» و هو تحريف. و الدرد: جمع أدرد و هو من لا أسنان له.
ناحت الجن على عمر بشعر فنحل لجزء أخيه:

و قد أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا شهاب بن عبّاد قال حدّثنا محمد بن بشر قال حدّثنا مسعر عن عبد الملك بن عمير عن الصّقر بن عبد اللّه عن عروة عن عائشة قالت:

ناحت الجنّ على عمر قبل أن يقتل بثلاث فقالت:

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت *** له الأرض تهتزّ العضاه(1) بأسؤق

جزى اللّه خيرا من إمام و باركت *** يد اللّه في ذاك الأديم الممزّق

فمن يسع أو يركب جناحي نعامة *** ليدرك ما حاولت بالأمس يسبق

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها *** بوائق(2) في أكمامها لم تفتّق

و ما كنت أخشى أن تكون وفاته *** بكفّي سبنتى(3) أزرق العين مطرق

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا سليمان بن داود الهاشميّ قال أخبرنا إبراهيم بن سعد الزّهريّ عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي ربيعة عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصدّيق:

/أن عائشة حدّثتها أن عمر أذن لأزواج النبي صلى اللّه عليه و سلم أن يحججن في آخر حجّة حجّها عمر. قال: فلما ارتحل عمر من المحصّب(4) أقبل رجل متلثّم فقال و أنا أسمع: هذا كان منزله، فأناخ في منزل(5) عمر ثم رفع عقيرته يتغنّى:

عليك سلام من أمير و باركت *** يد اللّه في ذاك الأديم الممزّق

فمن يجر أو يركب جناحي نعامة *** ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها *** بوائق في أكمامها لم تفتّق

قالت عائشة: فقلت لبعض أهلي: اعلموا لي علم هذا الرجل، فذهبوا فلم يجدوا في مناخه أحدا. قالت عائشة:

فو اللّه إني لأحسبه من الجنّ. فلما قتل عمر نحل الناس هذه الأبيات للشّمّاخ بن ضرار أو جمّاع بن ضرار. هكذا في الخبر، و هو جزء بن ضرار.

وضعه ابن سلام في الطبقة الثالثة:

و جعل محمد بن سلاّم في الطبقة الثالثة الشمّاخ و قرنه بالنابغة و لبيد و أبي ذؤيب الهذليّ، و وصفه فقال: كان

ص: 110


1- العضاه: كل شجر يعظم و له شوك. و الأسؤق: جمع ساق.
2- البوائق: الشرور.
3- السبنتى هنا: الجريء: و أزرق العين: يريد به الأعجمي. و المطرق: المسترخي العين.
4- في الأصول «من الحصبة» و التصحيح عن ابن سعد في العبارة الآتية.
5- كذا في أ، م. و في سائر الأصول: «في منزله عمر» و هو تحريف. و قد وردت هذه القصة في «كتاب الطبقات الكبير لابن سعد» (ج 3 ص 241) هكذا: «قال ابن شهاب فأخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أن أمه أم كلثوم بنت أبي بكر حدثته عن عائشة قالت: لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين قالت: إذ صدرنا هي عرفة مررت بالمحصب سمعت رجلا على راحلته يقول: أين كان عمر أمير المؤمنين فسمعت رجلا آخر يقول: هاهنا كان أمير المؤمنين. قال: فأناخ راحلته ثم رفع عقيرته... إلخ».

شديد متون الشعر أشدّ كلاما(1) من لبيد، و فيه كزازة(2)، و لبيد أسهل منه منطقا. أخبرنا بذلك أبو خليفة عنه.

قال الحطيئة إنه أشعر غطفان:

و قد قال الحطيئة في وصيّته: أبلغوا الشمّاخ أنه أشعر غطفان، قد كتب ذلك في شعر الحطيئة(3).

هو أوصف الناس للحمير:

و هو أوصف الناس للحمير. أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن ابن الكلبيّ قال: أنشد الوليد بن عبد الملك شيئا من شعر الشمّاخ/في صفة الحمير فقال: ما أوصفه لها! إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمّارا.

أخبرني إبراهيم بن عبد اللّه قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم قال:

كان الشمّاخ يهجو قومه و يهجو ضيفه و يمنّ عليه بقراه. و هو أوصف الناس للقوس و الحمار و أرجز الناس على البديهة.

حديث الشماخ و مزرّد مع أمهما:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال:

قال مزرّد لأمّه: كان كعب بن زهير لا يهابني و هو اليوم يهابني. فقالت: يا بنيّ نعم! إنه يرى جرو الهراش موثقا ببابك. تعني أخاه الشمّاخ. و قد ذكر محمد بن الحسن الأحول هذا الخبر عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل قال:

قالت معاذة بنت بجير بن خلف للشّماخ و مزرّد: عرّضتماني لشعراء العرب الحطيئة و كعب بن زهير. فقال: كلاّ! لا تخافي. قالت: فما يؤمّنني؟ قالا: إنك ربطت بباب بيتك جروي هراش لا يجترئ أحد عليهما. يعينان أنفسهما.

منازعته قوم امرأته إلى كثير بن الصلت:

أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال أخبرني شعيب بن صخر قال:

كانت عند الشمّاخ امرأة من بني سليم أحد بني حرام بن سماك، فنازعته و ادّعته طلاقا و حضر معها قومها فاختصموا إلى كثير بن الصّلت - و كان عثمان بن عفّان أقعده للنظر بين الناس، و هو رجل من كندة و عداده في بني جمح [و قد ولدتهم بنو جمح(4)] ثم تحوّلوا إلى بني العبّاس فهم فيهم اليوم - فرأى كثير عليهم يمينا، فالتوى الشمّاخ باليمين يحرّضهم عليها، ثم حلف و قال:

/

أتتني سليم قضّها و قضيضها *** تمسّح حولي بالبقيع سبالها

يقولون لي يا احلف(5) و لست بحالف *** أخاتلهم عنها لكيما أنالها

ص: 111


1- عبارة ابن سلام «أشدّ أسر الكلام من لبيد».
2- الكزازة: اليبس و التقبض.
3- راجع الجزء الثاني ص 196 من هذه الطبعة.
4- هذه الجملة في الأصول و لم ترد في «طبقات لابن سلام».
5- في الأصول: «فاحلف» و التصويب عن «دي؟؟؟».

ففرّجت همّ النفس عنّي بحلفة *** كما شقّت الشّقراء عنها جلالها

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:

قدم ناس من بهز المدينة يستعدون على الشّماخ و زعموا أنه هجاهم و نفاهم، فجحد ذلك الشماخ. فأمر عثمان كثير بن الصّلت أن يستحلفه على منبر النبيّ صلى اللّه عليه و سلم: ما هجاهم. فانطلق به كثير إلى المسجد ثم انتحاه دون بني بهز - و بهز: اسمه تيم بن سليم بن منصور - فقال له: ويلك يا شمّاخ! إنك لتحلف على منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و من حلف به آثما يتبوّأ مقعده من النار! قال: فكيف أفعل فداؤك أبي و أمّي؟! قال: إني سوف أحلّفك ما هجوتهم، فاقلب الكلام عليّ و على ناحيتي فقل: و اللّه ما هجوتكم، فأردني و ناحيتي بذلك، و إني سأدفع عنك. فلمّا وقف حلف كما قال له و أقبل كثير فقال: ما هجوتكم. فقالت بهز: ما عنى غيركم، فأعد اليمين عليه. فقال: ما لي أتأوّله! هل استحلفته إلاّ لكم! و ما اليمين إلاّ مرّة واحدة! انصرف يا شمّاخ. فانصرف و هو يقول:

أتتني سليم قضّها و قضيضها *** تمسّح حولي بالبقيع سبالها

يقولون لي يا احلف و لست بحالف *** أخادعهم عنها لكيما أنالها

فلو لا كثير نعّم اللّه باله *** أزلّت(1) بأعلى حجّتيك نعالها

/ففرّجت همّ الموت عنّي بحلفة *** كما شقّت الشّقراء عنها جلالها

سألته امرأة لا تعرفه عن قصته مع زوجه، و شعره في ذلك:

و نسخت هذا الخبر على التمام من كتاب يحيى بن حازم قال حدّثني عليّ بن صالح صاحب المصلّى قال قال القاسم بن معن:

كان الشماخ تزوّج امرأة من بني سليم فأساء إليها و ضربها و كسر يدها. فعرضت امرأة من قومها، يقال لها أسماء ذات يوم للطريق تسأل عن صاحبتها. فاجتاز الشمّاخ و هي لا تعرفه: فقالت له: ما فعل الخبيث شمّاخ؟ فقال لها: و ما تريدين منه؟ قالت: إنه فعل بصاحبة لنا كيت و كيت. فتجاهل عليها و قال: لا أعلم له خبرا، و مضى و تركها و هو يقول:

تعارض أسماء الرّفاق عشيّة *** تسائل عن ضغن النساء النّواكح

و ما ذا عليها إن قلوص تمرّغت *** بعدلين أو ألقتهما بالصّحاصح(2)

فإنك(3) لو أنكحت دارت بك الرّحا *** و ألقيت رحلي سمحة غير طامح

أ أسماء إنّي قد أتاني مخبّر *** بفيقة(4) ينبي منطقا غير صالح

ص: 112


1- أزلت: أزلقت. و مرجع الضمير فيه سليم خصومه.
2- كذا في ج: و الصحاصح: جمع صحصح و هو الأرض الجرداء المستوية. يريد: ما ذا يهمها من امرأة أساءت عشرة زوجها فأدبها. و في سائر الأصول: «الصحائح» و هو تحريف.
3- كذا في «ديوانه»: يريد: لو تزوجتك دارت بك الرحى أي انقلب أمرك و تغير. و ألقيت رحلي أي أنزلتني عندك و أكرمت مثواي. و سمحة: منقادة. و غير طامح: غير ملتفتة إلى الرجال. و في الأصول: «فإياك إن أنكحت».
4- فيقة الضحى: أولها و ارتفاعها.

بعجت إليه البطن ثم انتصحته *** و ما كلّ من يفشى إليه بناصح

و إنّي من قوم على أن ذممتهم(1) *** إذا أولموا لم يولموا بالأنافح(2)

و إنك من قوم تحنّ نساؤهم *** إلى الجانب الأقصى حنين المنائح(3)

/ثم دخل المدينة في بعض حوائجه، فتعلّقت به بنو سليم يطلبونه بظلامة صاحبتهم، فأنكر. فقالوا: احلف، فجعل يطلب إليهم و يغلّظ عليهم أمر اليمين و شدّتها عليه ليرضوا بها منه حتى رضوا، فحلف لهم و قال:

ألا أصبحت عرسي من البيت جامحا *** بغير(4) بلاء أيّ أمر بدا لها

على خيرة(5) كانت أم العرس جامح *** فكيف و قد سقنا إلى الحيّ ما لها

سترجع غضبى رثّة الحال عندنا *** كما قطعت منّا بليل وصالها

فذكر بعد هذه الأبيات قوله:

أتتني سليم قضّها و قضيضها

إلى آخر الأبيات.

خطب امرأة فتزوّجها أخوه جزء فماتا متهاجرين:

و قال ابن الكلبيّ:

كان الشّماخ يهوى امرأة من قومه يقال لها كلبة بنت جوّال أخت جبل بن جوّال الشاعر ابن صفوان بن بلال بن أصرم بن إياس بن عبد تميم بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة، و كان يتحدّث إليها و يقول فيها الشعر؛ فخطبها فأجابته و همّت أن تتزوّجه. ثم خرج إلى سفر له فتزوّجها أخوه جزء بن ضرار، فآلى الشمّاخ ألاّ يكلّمه أبدا، و هجاه بقصيدته التي يقول فيها:

لنا صاحب قد خان من أجل نظرة *** سقيم الفؤاد حبّ كلبة شاغله

فماتا متهاجرين.

استنشد المهدي بن دأب من أشعر ما قالت العرب فأنشده من شعره:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد الورّاق قال حدّثني أحمد بن محمد بن بكر الزّبيريّ قال حدّثنا الحسن بن موسى بن رباح مولى الأنصار عن أبي غزيّة الأنصاريّ قال:

كنت على باب المهديّ يوما، فخرج حاجبه فقال: أين ابن دأب؟ فقال: ها أنا ذا. فقال: ادخل؛ فدخل ثم خرج فجلس. فقلت: يا ابن دأب، /ما جرى بينك و بين أمير المؤمنين؟ قال قال لي: أنشدني أبياتا من أشعر ما

ص: 113


1- كذا في «ديوانه» و في الأصول: «قضيتهم».
2- الأنافح: جمع إنفحة (بكسر الهمزة و فتح الفاء) و هي كرش الحمل و الجدي ما لم يأكلا، فإذا أكلا فهي كرش.
3- المنائح: جمع منيحة و هي المعارة للبن فهي تحنّ لوطنها.
4- كذا في «تجريد الأغاني». و في «ديوانه»: «على غير شيء». و في الأصول: «بخير بلاء» و هو تحريف.
5- أي على حالة خيرة. و أم للإضراب بمعنى بل.

قالت العرب؛ فأردت أن أنشده قول صاحبك أبي صرمة الأنصاريّ التي يقول فيها:

لنا صور يؤول الحقّ فيها *** و أخلاق يسود بها الفقير

و نصح للعشيرة حيث كانت *** إذا ملئت من الغشّ الصدور

و حلم لا يصوب الجهل فيه *** و إطعام إذا قحط الصّبير(1)

بذات يد على ما كان فيها *** نجود(2) به قليل أو كثير

فتركتها و قلت: إن من أشعر ما قالت العرب قول الشّمّاخ:

و أشعث قد قد السّفار(3) قميصه *** يجرّ شواء(4) بالعصا غير منضج

دعوت إلى ما نابني فأجابني *** كريم من الفتيان غير مزلّج(5)

فتى يملأ الشّيزى(6) و يروي سنانه *** و يضرب في رأس الكميّ المدجّج

فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة *** و لا في بيوت الحيّ بالمتولّج

/فقال: أحسنت! ثم رفع رأسه إلى عبد اللّه بن مالك فقال: هذه صفتك يا أبا العباس. فأكبّ عليه عبد اللّه فقبّل رأسه و قال: ذكرك اللّه بخير الذّكر يا أمير المؤمنين. قال أبو غزيّة فقلت له: الأبيات التي تركت و اللّه أشعر من التي ذكرت.

عرابة الذي مدحه و نسبه:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

عرابة الذي عناه الشمّاخ بمدحه هو أحد أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و هو عرابة بن أوس بن قيظيّ بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج. و إنما قال له الشماخ: عرابة الأوسيّ، و هو من الخزرج، نسبة إلى أبيه أوس بن قيظيّ. و لم يصنع إسحاق في هذا القول شيئا. عرابة من الأوس لا من الخزرج؛ و في الأوس رجل يقال له الخزرج ليس هذا هو الجدّ الذي ينتهي إليه الخزرجيّون الذي هو أخو الأوس، هذا الخزرج بن النّبيت بن مالك بن الأوس، و هكذا نسبه النسّابون.

أتى عرابة النبي في غزاة أحد مع غلمة فردّهم:

و أخبرني به الحرميّ بن أبي العلاء عن عبد اللّه بن جعفر بن مصعب عن جدّه مصعب الزّبيريّ عن ابن القدّاح:

و أتى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم في غزاة أحد ليغزو معه؛ فردّه في غلمة استصغرهم: منهم عبد اللّه بن عمر بن الخطاب و زيد بن ثابت و أسيد بن حضير و البراء بن عازب و عرابة بن أوس و أبو سعيد الخدريّ.

ص: 114


1- الصبير: السحاب الأبيض لا يكاد يمطر.
2- في الأصول: «يجود». و السياق يقتضي ما أثبتناه.
3- السفار: السفر، أي رب أشعث شقت كثرة السفر و كثرة العمل لرفقائه ثوبه.
4- في «ديوانه»: «و جر الشواء بالعصا غير منضج».
5- المزلج: الملصق بالقوم و ليس منهم، و الرجل الناقص المروءة.
6- الشيزي: خشب تتخذ منه القصاع.

أخبرني بذلك محمد بن جرير الطبريّ عن الحارث بن سعد عن الواقديّ عن محمد بن حميد بن سلمة عن ابن إسحاق.

قصة أبي عرابة و عمه مع النبي:

و أوس بن قيظيّ أبو عرابة من المنافقين الذين شهدوا أحدا مع النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و هو الذي قال له: إنّ بيوتنا عورة.

و أخوه مربع(1) بن قيظيّ الأعمى/الذي حثا في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم التراب لمّا خرج إلى أحد و قد مرّ في حائطه(2)و قال له: إن كنت نبيّا فما أحلّ لك أن تدخل في حائطي. فضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوسه فشجّه و قال: دعني يا رسول اللّه أقتله فإنه منافق. فقال صلى اللّه عليه و سلم: «دعوه فإنه أعمى القلب أعمى البصر». فقال أخوه أوس بن قيظي أبو عرابة:

لا و اللّه/و لكنها عداوتكم يا بني عبد الأشهل. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لا و اللّه و لكنه نفاقكم يا بني قيظيّ».

كان عرابة سيدا في قومه و أبوه من وجوه المنافقين:

أخبرنا بذلك الحرميّ عن عبد اللّه بن جعفر الزّبيريّ عن جدّه مصعب عن ابن القدّاح:

أن عرابة كان سيّدا من سادات قومه و جوادا من أجوادهم، و كان أبوه أوس بن قيظيّ من وجوه المنافقين.

لقي الشماخ بالمدينة فأكرمه فمدحه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن جعدبة، و أخبرني عليّ بن سليمان عن محمد بن يزيد، و أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد اللّه بن مسلم:

أنّ الشمّاخ خرج يريد المدينة، فلقيه عرابة بن أوس فسأله عما أقدمه المدينة، فقال: أردت أن أمتار لأهلي.

و كان معه بعيران فأوقرهما له برّا و تمرا و كاسه و برّه و أكرمه. فخرج عن المدينة و امتدحه بهذه القصيدة التي يقول فيها:

رأيت عرابة الأوسيّ يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين

سأله معاوية بأي شيء سدت فأجابه:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشي قال حدّثنا الأصمعيّ قال:

/قال معاوية لعرابة بن أوس: بأي شيء سدت قومك؟ فقال: أعفو عن جاهلهم، و أعطي سائلهم، و أسعى في حاجاتهم، فمن فعل كما أفعل فهو مثلي، و من قصّر عنه فأنا خير منه، و من زاد فهو خير منّي. قال الأصمعيّ:

و قد انقرض عقب عرابة فلم يبق منهم أحد.

اعترض عليه ابن دأب في شعره لابن جعفر:

أخبرني أحمد بن يحيى بن محمد بن سعيد الهمداني قال قال يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد اللّه بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه:

قال ابن دأب و سمع قول الشمّاخ بن ضرار في عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه:

ص: 115


1- كذا في «سيرة ابن هشام» ص 559. و في الأصول: «مرفع» بالفاء.
2- الحائط: البستان.

إنك يا ابن جعفر نعم الفتى *** و نعم مأوى طارق إذا أتى

و جار ضيف طرق الحيّ سرى *** صادف زادا و حديثا ما اشتهى

إن الحديث طرف من القرى

فقال ابن دأب: العجب للشمّاخ! يقول مثل هذا لابن جعفر و يقول لعرابة:

إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقّاها عرابة باليمين

ابن جعفر كان أحقّ بهذا من عرابة!.

نقد أبو نواس بيتا له و وازنه بعشر الفرزدق:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني الكرانيّ محمد بن سعد قال حدّثني طائع قال أخبرني أبو عمرو الكيّس قال قال لي أبو نواس: ما أحسن الشّماخ في قوله:

إذا بلغتني و حملت رحلي *** عرابة فاشرقي بدم الوتين(1)

/لا كما قال الفرزدق:

علام تلفّتين و أنت تحتي *** و خير النّاس كلّهم أمامي

متى تردي الرّصافة تستريحي *** من التّهجير(2) و الدّبر الدّوامي

قلت أنا: و قد أخذ معنى قول الفرزدق هذا داود بن سلم في مدحه قثم بن العباس فأحسن فقال:

نجوت من حلّي و من رحلتي *** يا ناق إن أدنيتني من قثم

إنك إن أذنيت منه غدا *** حالفنا اليسر و مات العدم

/في كفّه بحر و في وجهه *** بدر و في العرنين منه شمم

أصمّ عن قيل الخنا سمعه *** و ما عن الخير به من صمم

لم يدر ما «لا» و «بلى» قد درى *** فعافها و اعتاض منها «نعم»

نقد عبد الملك بن مروان شعره:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ قال:

أنشد عبد الملك قول الشمّاخ في عرابة بن أوس:

إذا بلّغتني و حملت رحلي *** عرابة فاشرقي بدم الوتين

فقال: بئست المكافأة كافأها! حملت رحله و بلّغته بغيته فجعل مكافأتها نحرها!.

ص: 116


1- الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
2- التهجير: المشي في الهاجرة. و الدبر (بفتحتين) جمع دبرة (بفتحتين) و هي قرحة الدابة.
المهلب و الشعراء:

قال الخرّاز: و مثل هذا ما حدّثناه المدائنيّ عن ابن دأب أن رجلا لقي المهلّب فنحر ناقته في وجهه؛ فتطيّر من ذلك و قال له: ما قصّتك؟ فقال:

إني نذرت لئن لقيتك سالما *** أن تستمرّ بها شفار الجازر

فقال المهلّب: فأطعمونا من كبد هذه المظلومة، و وصله.

قال المدائنيّ: و لقيته امرأة من الأزد و قد قدم من حرب كان نهض إليها، فقالت: أيها الأمير، إني نذرت إن وافيتك سالما أن أقبّل يدك و أصوم يوما/و تهب لي جارية صغديّة(1) و ثلاثمائة درهم. فضحك المهلّب و قال: قد و فينا لك بنذرك فلا تعاودي مثله، فليس كل أحد يفي لك به.

المهدي و أبو دلامة:

و أخبرني الحسن قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني بعض أصحابنا عن القحذميّ: أن أبا دلامة لقي المهديّ لمّا قدم بغداد، فقال له:

إني نذرت لئن رأيتك واردا *** أرض العراق و أنت ذو وفر

لتصلّينّ على النبيّ محمد *** و لتملأنّ دراهما حجري

فقال له: أمّا النبيّ فصلّى اللّه على النّبيّ محمد و آله و سلّم، و أمّا الدراهم فلا سبيل إليها. فقال له: أنت أكرم من أن تعطيني أسهلهما عليك و تمنعني الأخرى. فضحك و أمر له بما سأل. و هذا مما ليس يجري في هذا الباب و لكن يذكر الشيء بمثله.

لطيفة الأعرابي على مائدة عبد الملك بن مروان بسبب بيت له:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا مسعود بن عيسى العبديّ قال حدّثني أحمد بن طالب الكناني (كنانة تغلب)، و أخبرني به محمد بن أحمد بن الطّلاّس عن الخرّاز عن المدائنيّ لم يتجاوزه به قال:

نصب عبد الملك بن مروان الموائد يطعم الناس؛ فجلس رجل من أهل العراق على بعض تلك الموائد. فنظر إليه خادم لعبد الملك فأنكره، فقال له: أ عراقيّ أنت؟ قال: نعم. قال: أنت جاسوس؟ قال: لا. قال: بلى. قال:

ويحك! دعني أتهنّأ بزاد أمير المؤمنين و لا تنغّصني به. ثم إن عبد الملك وقف على تلك المائدة فقال من القائل:

/

إذا الأرطى(2) توسّد أبرديه *** خدود جوازئ بالرّمل عين

ص: 117


1- صغدية: نسبة إلى الصغد و هي كورة قصبتها سمرقند.
2- قال البغدادي نقلا عن ابن قتيبة: الأرطى: شجر من أشجار البادية تدبغ به الجلود. و هو مفعول لفعل محذوف أي إذا توسد الأرطى. و أبرديه بدل اشتمال من الأرطى. و معنى توسد أبرديه: اتخذهما كالوسادة. و الأبردان: الظل و الفيء، سميا بذلك لبردهما، و أبردان أيضا: الغداة و العشي. و خدود فاعل توسد. و الجوازئ: الظباء و بقر الوحش، سميت جوازئ لأنها اجتزأت بأكل النبت الأخضر عن الماء. قال في «اللسان» في مادة جزأ: الظباء لا تعني في هذا البيت كما ذهب إليه ابن قتيبة؛ لأن الظباء لا تجزأ بالكلإ عن الماء، و إنما عني البقر. و يقوي ذلك أنه قال عين، و العين من صفات البقر لا من صفات الظباء. و العين. الواسعات العيون، جمع عيناء. و المعنى: أن الوحوش تتخذ كناسين عن جانبي الشجر تستتر فيهما من حر الشمس فترقد قبل زوال الشمس في الكناس الغربي، فإذا زالت الشمس إلى ناحية المغرب و تحول الظل فصار فيئا زالت عن الكناس الغربي و رقدت في الكناس الشرقي. (راجع «ديوانه» ص 94).

و ما معناه؟ و من أجاب فيه أجزناه، و الخادم يسمع. فقال العراقيّ للخادم: أ تحبّ أن أشرح لك قائله و فيم قاله؟ قال: نعم. قال: يقوله عديّ بن زيد في صفة البطّيخ الرّمسيّ. فقال ذلك الخادم. فضحك عبد الملك حتى سقط.

فقال له الخادم: أخطأت أم أصبت؟ فقال: بل/أخطأت. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا العراقيّ فعل اللّه به و فعل لقّننيه. فقال: أيّ الرجال هو؟ فأراه إياه. فعاد إليه عبد الملك و قال: أنت لقّنته هذا؟ قال: نعم. قال: أ فخطأ لقّنته أم صوابا؟ قال: بل خطأ. قال: و لم؟ قال: لأني كنت متحرّما بمائدتك فقال لي كيت و كيت، فأردت أن أكفّه عنّي و أضحكك. قال: فكيف الصواب؟ قال: يقوله الشمّاخ بن ضرار الغطفانيّ في صفة البقر الوحشيّة قد جزأت بالرّطب عن الماء. قال: صدقت و أجازه، ثم قال له: حاجتك؟ قال: تنحّي هذا عن بابك فإنه يشينه.

سأل كثير يزيد بن عبد الملك عن معنى بيت له فسبه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال كتب إليّ إسحاق بن إبراهيم الموصليّ أن أبا عبيدة حدّثه عن غير واحد من أهل المدينة:

/أن يزيد بن عبد الملك لمّا قدم عليه الأحوص وصله بمائة ألف درهم. فأقبل إليه كثيّر يرجو أكثر من ذلك، و كان قد عوّده من كان قبل يزيد من الخلفاء أن يلقى عليهم بيوت الشعر و يسألهم عن المعاني. فألقى على يزيد بيتا و قال: يا أمير المؤمنين، ما يعني الشمّاخ بقوله:

فما أروى و إن كرمت علينا *** بأدنى من موقّفة حرون(1)

تطيف على الرّماة فتتّقيهم *** بأوعال معطّفة القرون(2)

فقال يزيد: و ما يضرّ يا ماصّ بظر أمّه ألاّ يعلم أمير المؤمنين هذا! و إن احتاج إلى علمه سأل عبدا مثلك عنه!. فندم كثيّر و سكّته من حضر من أهل بيته، و قالوا له: إنه قد عوّده من كان قبلك من الخلفاء أن يلقى عليه أشباه هذا، و كانوا يشتهونه منه و يسألونه إياه؛ فطفئ عنه غضبه. و كانت جائزته ثلاثين ألفا، و كان يطمع في أكثر من جائزة الأحوص.

و أخبرنا أبو خليفة بهذا الخبر عن محمد بن سلاّم فذكر أنه سأل يزيد عن قول الشمّاخ:

و قد عرقت مغابنها و جادت *** بدرّتها قرى حجن قتين(3)

ص: 118


1- كذا في ج و «ديوانه». و قد جاء فيه شرح هذا البيت هكذا: الموقفة: الأروية (أنثى الوعول) التي في قوائمها خطوط كأنها الخلاخيل. و الوقف: الخلخال. و التوقيف: البياض مع السواد. فأراد أن في قوائمها خطوطا تخالف لونها. و الحرون: التي تحرن في أعلى الجبل فلا تبرح. و أروى: اسم محبوبته. يريد أن محبوبته ليست بأقرب من هذه الأروية التي لا تنال. و في سائر الأصول: «مفوقة» و هو تحريف.
2- أي تطيف بهذه الأروية الرماة فلا تبرح لأنها في أعلى الجبل و دونها أو عال فلا يصل إليها نبل الرماة، لأنهم يرمون الأوعال لأنها أقرب إليهم فكأنها تقي نفسها بها. و إنما يؤكد بهذا بعدها و أنها لا يقدر عليها.
3- كذا في «ديوانه» و «اللسان» مادة «حجن و جحن» و المغابن: الآباط، و قيل: الأرفاغ. و القتين: مثل الحجن، أراد به قرادا سيئ الغذاء، و جعل عرق هذه الناقة قوتا له. و في الأصول: «بدرتها بها حجن قتين».

/فسكت عنه يزيد، فقال يزيد: و ما على أمير المؤمنين لا أمّ لك ألاّ يعرف هذا! هو القراد أشبه الدوابّ بك!.

تمثل ابن الزبير ببيت له في حواره لمعاوية:

نسخت من كتاب يحيى بن حازم حدّثنا عليّ بن صالح صاحب المصلّى قال حدّثنا ابن دأب قال:

قال معاوية لعبد اللّه بن الزّبير و هو عنده بالمدينة في أناس: يا ابن الزّبير، أ لا تعذرني في حسن بن عليّ! ما رأيته مذ قدمت المدينة إلاّ مرّة. قال: دع عنك حسنا، فأنت و اللّه و هو كما قال الشمّاخ:

أجامل أقواما حياء و قد أرى *** صدورهم تغلي عليّ مراضها

و اللّه لو يشاء حسن أن يضربك بمائة ألف سيف ضربك! و اللّه لأهل العراق أرأم له من أمّ الحوار لحوارها. فقال معاوية رحمه اللّه: أردت أن تغريني به! و اللّه لأصلنّ رحمه و لأقبلنّ عليه، و قال:

ألا أيّها المرء المحرّش بيننا *** ألا اقتل أخاك لست قاتل أربد

أبى قربه منّي و حسن بلائه *** و علمي بما يأتي به الدهر في غد

- و الشعر لعروة بن قيس - فقال ابن الزّبير: أما و اللّه إنّي و إيّاه ليد عليك بحلف(1)/الفضول. فقال معاوية: من أنت! لا أعرض لك و حلف الفضول! و اللّه ما كنت فيها إلا كالرّهينة/تثخن معنا و تردى هزيلا، كما قال أخو همدان:

إذا ما بعير قام علّق رحله *** و إن هو أبقى بالحياة مقطّعا(2)

صوت من مدن معبد
صوت معبد في شعر كثير بن كثير بن المطلب:

و هو الذي أوّله:

كم بذاك الحجون من حيّ صدق

أسعداني بعبرة أسراب

من شئون كثيرة التّسكاب

إن أهل الحصاب قد تركوني

موزعا مولعا بأهل الحصاب

كم بذاك الحجون من حيّ صدق

و كهول أعفّة و شباب

سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو

سى إلى النخل من صفيّ السّباب

ص: 119


1- حلف الفضول: حلف تداعت له قريش و اجتمعوا من أجله في دار عبد اللّه بن جدعان تعاهدوا فيه على ألاّ يجدوا بمكة مظلوما إلا ردوا عليه مظلمته، كان قبل البعث بعشرين سنة. و أوّل من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب. و سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة بتجارة له، فاشتراها منه العاص بن وائل و حبس عنه ثمنا. فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف من قريش فأبوا أن يعينوه على العاص لمكانته فيهم. فأرقى على أبي قبيس عند طلوع الشمس و قريش في أنديتهم حول الكعبة فصاح بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار و النفر فقام الزبير بن عبد المطلب و اجتمعت هاشم و زهرة و تيم في دار ابن جدعان و تعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي عليه حقه. فسمي ذلك الحلف حلف الفضول و قالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي و ردّوها إليه.
2- كذا ورد هذا البيت في الأصول.

فارقوني و قد علمت يقينا *** ما لمن ذاق ميتة من إياب

فلي الويل بعدهم و عليهم *** صرت فردا و ملّني أصحابي

عروضه من الخفيف. الشئون: الشّعب التي يتداخل بعضها في بعض من عظام الرأس، واحدها شأن مهموزا.

و الجزع: منعطف الوادي. و صفيّ(1) السّباب: جمع صفاة و هي الحجارة. و لقّبت صفيّ السّباب لأن قوما من قريش و مواليهم كانوا يخرجون إليها بالعشيّات يتشاتمون و يذكرون المعايب و المثالب التي يرمون بها؛ فسمّيت تلك الحجارة صفيّ السّباب.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ عن عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه قال يقال: صفا السّباب و صفيّ السّباب بفتح الفاء و كسرها جميعا، و هو شعب من/شعاب مكة فيها صفّا أي صخر مطروح. و كانت قريش تخرج فتقف على ذلك الموضع فيفتخرون ثم يتشاتمون و ذلك في الجاهلية فلا يفترقون إلا عن قتال؛ ثم صار ذلك في صدر من الإسلام أيضا حتى نشأ سديف مولى عتبة(2) بن أبي سديف و شبيب مولى بني أميّة، فكان هذا يخرج في موالي بني هاشم و هذا في موالي بني أميّة، فيفتخرون ثم يتشاتمون ثم يتجالدون بالسيوف. و كان يقال لهم السّديفيّة و الشّبيبيّة. و كان أهل مكّة مقتسمين بينهما في العصبيّة؛ ثم درس ذلك فصارت العصبيّة بمكة بين الجزّارين و الحنّاطين، فهي بينهم إلى اليوم، و كذلك بالمدينة في القمار و غيره.

الشعر لكثير بن كثير بن المطّلب بن أبي وداعة السّهميّ، و قيل: بل هو لكثيّر عزّة. و قد روي في ذلك خبر نذكره. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه ثقيلا أوّل بالخنصر للغريض و لحنا آخر لابن عبّاد و لم يجنّسه. و لابن جامع في الخامس و السادس رمل بالوسطى. و لابن سريج في الأربعة الأول ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و لابن أبي دباكل الخزاعيّ فيها ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و أبي أيّوب المدنيّ و حبش. فمن روى هذا الشعر لكثيّر عزّة يرويه:

إنّ أهل الخضاب قد تركوني

و يزعم أن كثيّرا قاله في خضاب/خضبته عزّة به.

ابن عائشة يذكر بحادثة لكثير و عزة فيغني بشعر:

أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة و لم يتجاوزه، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني الزّبيريّ/قال حدّثني بهذا الخبر أيضا و فيه زيادة و خبره أحسن و أكثر تلخيصا و أدخل في معنى الكتاب، قال الزّبيريّ حدّثني أبي قال:

خرجت إلى ناحية فيد(3) متنزّها، فرأيت ابن عائشة يمشي بين رجلين من آل الزّبير و إحدى يديه على يد هذا و الأخرى على يد هذا، و هو يمشي بينهما كأنه امرأة تجلى على زوجها. فلمّا رأيتهم دنوت فسلّمت و كنت أحدث القوم سنا، فاشتهيت غناء ابن عائشة فلم أدر كيف أصنع. و كان ابن عائشة إذا هيّجته تحرّك. فقلت: رحم اللّه كثيّرا

ص: 120


1- صفيّ: جمع صفا، و صفا جمع صفاة. فصفّى جمع الجمع لصفاة.
2- في ج: «مولى بني عتبة بن سديف».
3- فيد: منزل بطريق مكة.

و عزّة! ما كان أوفاهما و أكرمهما و أصونهما لأنفسهما! لقد ذكرت بهذه الأودية التي نحن فيها خبر عزّة حين خضبت كثيّرا. فقال ابن عائشة: و كيف كان حديث ذلك؟ قلت: حدّثني من حضره بذلك - و من هاهنا تتفق رواية عمر بن شبّة و الزّبيريّ - قال: خرج كثيّر يريد عزّة و هي منتجعة بالصّواري و هي الأودية بناحية فدك، فلما كان منها قريبا و علم أن القوم جلسوا عند أنديتهم للحديث بعث أعرابيا فقال له: اذهب إلى ذلك الماء فإنك ترى امرأة جسيمة لحيمة تبالط الرجال الشعر - قال إسحاق: المبالطة: أن تنشد أوّل الشعر و آخره - فإذا رأيتها فناد: من رأى الجمل الأحمر؟ مرارا. ففعل. فقالت له: ويحك قد أسمعت فانصرف إليه فأخبره. فلم يلبث أن أقبلت جارية معها طست و تور(1) و قربة ماء حتى انتهت إليه، ثم جاءت بعد ذلك عزّة فرأته جالسا محتبيا قريبا من ذراع راحلته. فقالت له: ما على هذا فارقتك!. فركب راحلته و هي باركة و قامت إلى لحيته فأخذت التّور فخضبته و هو على ظهر جمله حتى فرغت من خضابه، ثم نزل فجعلا يتحدّثان حتى علق الخضاب، ثم قامت إليه فغسلت لحيته و دهنته، ثم قام فركب و قال:

/

إنّ أهل الخضاب قد تركوني *** موزعا مولعا بأهل الخضاب

و ذكر باقي الأبيات كلّها. و إلى هاهنا رواية عمر بن شبّة. فقال ابن عائشة: فأنا و اللّه أغنيه و أجيده، فهل لكم في ذلك؟ فقلنا: و هل لنا عنه مدفع! فاندفع يغنّي بالأبيات، فخيّل إليّ أن الأودية تنطق معه حسنا. فلمّا رجعنا إلى المدينة قصصت القصّة، فقيل لي: إن ذلك أحسن صوت يغنّيه ابن عائشة؟ فقلت: لا أدري إلاّ أني سمعت شيئا وافق محبّتي.

معبد و ابن سريج يبكيان أهل مكة بغنائهما:
اشارة

و قال عبد اللّه بن أبي سعد حدّثني عبد اللّه بن الصّبّاح عن هشام بن محمد عن أبيه قال:

زار معبد ابن سريج و الغريض بمكة؛ فخرجا به إلى التّنعيم(2) ثم صاروا إلى الثّنيّة العليا ثم قالوا: تعالوا حتى نبكي أهل مكة؛ فاندفع ابن سريج فغنّى صوته في شعر كثير بن كثير السّهميّ:

أسعديني بعبرة أسراب *** من دموع كثيرة التّسكاب

فأخذ أهل مكة في البكاء و أنّوا حتى سمع أنينهم. ثم غنّى معبد:

صوت

يا راكبا نحو المدينة جسرة *** أجدا(3) تلاعب حلقة و زماما

/اقرأ على أهل البقيع من امرئ *** كمد على أهل البقيع سلاما

كم غيّبوا فيه كريما ما جدا *** شهما و مقتبل الشباب غلاما

و نفيسة في أهلها مرجوّة *** جمعت صباحة صورة و تماما

ص: 121


1- تور: إناء صغير.
2- التنعيم: موضع بمكة على بعد فرسخين منها. و منه يحرم المكيون بالعمرة.
3- ناقة جسرة: ضخمة. و أجد: قوية موثقة الخلق.

فنادوا من الدروب بالويل و الحرب و السّلب، و بقي الغريض لا يقدر من البكاء و الصّراخ أن يغنّي.

/الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى، و ذكر عمرو بن بانة أنه ليحيى المكي، و قد غلط. و ذكر حبش أن لعلّويه فيه ثقيلا أوّل آخر.

صوت من مدن معبد في شعر قيس بن ذريح: و من مدن معبد.
صوت

و قد أضيف إليه غيره من القصيدة:

سلي(1) هل قلاني من عشير صحبته *** و هل ذمّ رحلي في الرّفاق رفيق

و هل يجتوي القوم الكرام صحابتي *** إذا اغبرّ مخشيّ الفجاج عميق

و لو تعلمين الغيب أيقنت أنّني *** لكم و الهدايا المشعرات صديق

تكاد بلاد اللّه يا أمّ معمر *** بما رحبت يوما عليّ تضيق

أذود سوام الطّرف عنك و هل لها *** إلى أحد إلاّ إليك طريق

و حدّثتني يا قلب أنك صابر *** على البين من لبنى فسوف تذوق

مت كمدا أو عش سقيما فإنما *** تكلّفني ما لا أراك تطيق

بلبنى أنادى عند أوّل غشية *** و لو كنت بين العائدات أفيق

إذا ذكرت لبني تجلّتك زفرة *** و يثني لك الدّاعي بها فتفيق

عروضه من الطويل. الشعر لقيس بن ذريح. و الغناء لمعبد في اللحن المذكور ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق في الأول و الثاني و الثالث. و ذكر في موضع. آخر وافقته(2) دنانير أن لمعبد ثقيلا أوّل بالبنصر في مجرى الوسطى أوّله:

صوت

أ تجمع قلبا بالعراق فريقه *** و منه بأطلال الأراك فريق

فكيف بها لا الدار جامعة النّوى *** و لا أنت يوما عن هواك تفيق

و لو تعلمين الغيب أيقنت أنّني *** لكم و الهدايا المشعرات صديق

البيتان الأوّلان يرويان لجرير و غيره، و الثالث لقيس بن ذريح أضافه إليهما معبد. و ذكر عمرو و يونس أن لحن معبد

ص: 122


1- في الأصول: «سلا» و الخطاب لأنثى. و قبل البيت: و إن كنت لما تخبريني فسائلي فبعض الرجال للرجال رموق (راجع هذه القصيدة بتمامها في «الأمالي» ج 2 ص 257) و القصيدة فيه منسوبة لمضرس بن قرط بن الحارث المزني.
2- كذا بالأصول: و لعله: و مرافقته دنانير. أو: وافقته فيه دنانير.

الأوّل في خمسة أبيات أولى من الشعر. و ذكر عمرو بن بانة أنّ لبذل الكبيرة خفيف رمل بالوسطى في الرابع من الأبيات و بعده:

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** بأعين أعداء و هنّ صديق

و بعده الخامس من الأبيات و هو «أذود سوامّ الطّرف». و زعم حبش أن في لحن معبد الثاني الذي أوّله: «أ تجمع قلبا» لابن سريج خفيف رمل بالبنصر، و ذكر أيضا أن للغريض/في الأوّل و الثاني و السابع ثاني ثقيل بالبنصر، و لابن مسجح خفيف رمل بالبنصر. و في السادس و ما بعده لحكم الوادي ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.

و ذكر حبش أن للغريض فيها ثقيلا أوّل بالوسطى.

ص: 123

9 - ذكر قيس بن ذريح و نسبه و أخباره

نسبه:

هو، فيما ذكر الكلبيّ و القحذميّ و غيرهما، قيس بن ذريح بن سنّة بن حذافة بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة و هو عليّ بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. و ذكر أبو شراعة القيسيّ(1) أنه قيس بن ذريح بن الحباب بن سنّة؛ و سائر النسب متّفق. و احتجّ بقول قيس:

فإن يك تهيامي بلبنى غواية *** فقد يا ذريح بن الحباب غويت

و ذكر القحذميّ أن أمّه بنت سنّة بن الذاهل(2) بن عامر الخزاعيّ، و هذا هو الصحيح؛ و أنه كان له خال يقال له عمرو بن سنّة شاعر، و هو الذي يقول:

ضربوا الفيل بالمغمّس(3) حتى *** ظلّ يحبو كأنه محموم

و فيه يقول قيس:

أنبئت أنّ لخالي هجمة(4) حبسا *** كأنّهن بجنب المشعر النّصل(5)

قد كنت فيما مضى قدما تجاورنا *** لا ناقة لك ترعاها و لا جمل

ما ضرّ خالي عمرا لو تقسّمها *** بعض الحياض و جمّ البئر محتفل(6)

هو رضيع الحسين بن علي:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد قال حدّثني أحمد بن القاسم بن يوسف قال حدّثني جزء بن قطن قال حدّثنا جسّاس بن محمد بن عمرو/أحد بني الحارث بن كعب عن محمد بن أبي السّري عن هشام بن الكلبيّ قال حدّثني عدد من الكنانيّين:

أن قيس بن ذريح كان رضيع الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنهما، أرضعته أمّ قيس.

ص: 124


1- كذا في ج و «الأغاني»: (ج 7 ص 232 من هذه الطبعة). و في سائر الأصول: «أبو شراعة الضبي». و هو تحريف.
2- في «تجريد الأغاني»: «الكاهل».
3- المغمس: موضع قرب مكة في طريق الطائف.
4- الهجمة من الإبل: أولها أربعون إلى ما زادت، أو ما بين السبعين إلى المائة.
5- النصل: جمع نصيل، و هو حجر طويل رقيق كهيئة الصفيحة المحددة، يشبه به رأس البعير و خرطومه إذا رجف في سيره.
6- جم الماء: معظمه. و محتفل: ملآن. يريد: ما على خالي أن نصيب من ماله و هو غني مكثر.
أول عشيقه لبني ثم زواجه بها:

أخبرنا بخبر قيس و لبنى امرأته جماعة من مشايخنا في قصص متّصلة و منقطة و أخبار منثورة و منظومة، فألّفت ذلك أجمع ليتّسق حديثه إلاّ ما جاء مفردا و عسر إخراجه عن جملة النظم فذكرته على حدة. فممّن أخبرنا بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة و لم يتجاوزه إلى غيره، و إبراهيم بن محمد بن أيّوب عن ابن قتيبة، و الحسن بن عليّ عن محمد بن موسى بن حمّاد البربريّ عن أحمد بن القاسم بن يوسف عن جزء بن قطن عن جسّاس بن محمد عن محمد بن أبي السّريّ عن هشام بن الكلبيّ و على روايته أكثر المعوّل. و نسخت أيضا من أخباره المنظومة أشياء ذكرها القحذميّ عن رجاله، و خالد بن كلثوم عن نفسه و من روى عنه، و خالد بن جمل و نتفا حكاها اليوسفيّ صاحب الرسائل عن أبيه عن أحمد بن حمّاد عن جميل عن ابن أبي جناح الكعبيّ. و حكيت كلّ متّفق فيه متصلا، و كل مختلف في معانيه منسوبا إلى راويه. قالوا جميعا:

كان منزل/قومه في ظاهر المدينة، و كان هو و أبوه من حاضرة المدينة. و ذكر خالد بن كلثوم أن منزله كان يسرف(1)، و احتجّ بقوله:

الحمد للّه قد أمست مجاورة *** أهل العقيق و أمسينا على سرف

قالوا: فمرّ قيس لبعض حاجته بخيام بني كعب بن خزاعة، فوقف على خيمة منها و الحيّ خلوف(2) و الخيمة خيمة لبنى بنت الحباب الكعبيّة، فاستسقى ماء، فسقته و خرجت/إليه به، و كانت امرأة مديدة القامة شهلاء(3)حلوة المنظر و الكلام. فلما رآها وقعت في نفسه، و شرب الماء. فقالت له: أتنزل فتتبرّد عندنا؟ قال: نعم. فنزل بهم. و جاء أبوها فنحر له و أكرمه. فانصرف قيس و في قلبه من لبنى حرّ لا يطفأ، فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع و روي. ثم أتاها يوما آخر و قد اشتدّ وجده بها، فسلّم فظهرت له و ردّت سلامه و تحفّت به؛ فشكا إليها ما يجد بها و ما يلقى من حبّها، و شكت إليه مثل ذلك فأطالت؛ و عرف كلّ واحد منهما ما له عند صاحبه. فانصرف إلى أبيه و أعلمه حاله و سأله أن يزوّجه إياها. فأبى عليه و قال: يا بنيّ، عليك بإحدى بنات عمّك فهنّ أحقّ بك. و كان ذريح كثير المال موسرا، فأحبّ ألاّ يخرج ابنه إلى غريبة. فانصرف قيس و قد ساءه ما خاطبه أبوه به. فأتى أمّه فشكا ذلك إليها و استعان بها على أبيه، فلم يجد عندها ما يحبّ. فأتى الحسين بن عليّ بن أبي طالب و ابن أبي عتيق فشكا إليهما ما به و ما ردّ عليه أبوه. فقال له الحسين: أنا أكفيك. فمشى معه إلى أبي لبنى. فلما بصر به أعظمه و وثب إليه، و قال له: يا ابن رسول اللّه، ما جاء بك؟ أ لا بعثت إليّ فأتيتك! قال: إن الذي جئت فيه يوجب قصدك و قد جئتك خاطبا ابنتك لبنى لقيس بن ذريح. فقال: يا ابن رسول اللّه، ما كنّا لنعصي لك أمرا و ما بنا عن الفتى رغبة، و لكن أحبّ الأمر إلينا أن يخطبها ذريح أبوه علينا و أن يكون ذلك عن أمره، فإنّا نخاف إن لم يسع أبوه في هذا أن يكون عارا و سبّة علينا. فأتى الحسين رضي اللّه عنه ذريحا و قومه و هم مجتمعون، فقاموا إليه إعظاما له و قالوا له مثل قول الخزّاعيّين. فقال لذريح: أقسمت عليك إلاّ خطبت لبنى لابنك قيس. قال: السمع و الطاعة لأمرك. فخرج معه في وجوه من قومه حتى أتوا لبنى فخطبها/ذريح على ابنه إلى أبيها فزوّجه إيّاها، و زفّت إليه بعد ذلك.

ص: 125


1- سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
2- خلوف: غيب.
3- الشهلاء: التي يخالط سواد عينيها زرقة.
أبواه يغريانه بطلاقها و يأبى هو:

فأقامت معه مدّة لا ينكر أحد من صاحبه شيئا. و كان أبرّ الناس بأمّه، فألهته لبنى و عكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمّه في نفسها و قالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن برّي؛ و لم تر للكلام في ذلك موضعا حتى مرض مرضا شديدا. فلما برأ من علّته قالت أمّه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس و ما يترك خلفا و قد حرم الولد من هذه المرأة، و أنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة(1)، فزوّجه بغيرها لعل اللّه أن يرزقه ولدا، و ألحّت عليه في ذلك. فأمهل قيسا حتى إذا اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس، إنك اعتللت هذه العلّة فخفت عليك و لا ولد لك و لا لي سواك. و هذه المرأة ليست بولود؛ فتزوّج إحدى بنات عمّك لعلّ اللّه أن يهب لك ولدا تقرّ به عينك و أعيننا. فقال قيس: /لست متزوّجا غيرها أبدا. فقال له أبوه: فإن في مالي سعة فتسرّ بالإماء. قال: و لا أسوؤها بشيء أبدا و اللّه. قال أبوه: فإني أقسم عليك إلاّ طلّقتها. فأبى و قال: الموت و اللّه عليّ أسهل من ذلك، و لكني أخيّرك خصلة من ثلاث خصال. قال: و ما هي؟ قال: تتزوّج أنت فلعلّ اللّه أن يرزقك ولدا غيري. قال: فما فيّ فضلة لذلك.

قال: فدعني أرتحل عنك بأهلي و اصنع ما كنت صانعا لو متّ في علّتي هذه. قال: و لا هذه. قال: فأدع لبنى عندك و أرتحل عنك فلعليّ أسلوها فإني ما أحبّ بعد أن تكون نفسي طيّبة أنها في خيالي. قال: لا أرضى أو تطلّقها، و حلف لا يكنّه سقف بيت أبدا حتى يطلّق لبنى، فكان يخرج فيقف في حرّ الشمس، و يجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظله بردائه و يصلى هو بحرّ الشمس/حتى يفيء الفيء فينصرف عنه، و يدخل إلى لبنى فيعانقها و تعانقه و يبكي و تبكي معه و تقول له: يا قيس، لا تطع أباك فتهلك و تهلكني. فيقول: ما كنت لأطيع أحدا فيك أبدا. فيقال: إنه مكث كذلك سنة. و قال خالد بن كلثوم: ذكر ابن عائشة أنه أقام على ذلك أربعين يوما ثم طلّقها. و هذا ليس بصحيح.

طلاقه لبنى ثم ندمه على فراقها، و شعره في ذلك:
اشارة

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني أحمد بن زهير قال حدّثني يحيى بن معين قال حدّثنا عبد الرزّاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عمر بن أبي سفيان عن ليث بن عمرو:

أنه سمع قيس بن ذريح يقول لزيد بن سليمان: هجرني أبواي في لبنى عشر سنين أستأذن عليهما فيردّاني حتى طلّقتها. قال ابن جريح: و أخبرت أن عبد اللّه بن صفوان الطويل لقي ذريحا أبا قيس فقال له: ما حملك على أن فرّقت بينهما؟ أمّا علمت أن عمر بن الخطاب قال: ما أبالي أ فرقت بينهما أو مشيت إليهما بالسيف. و روى هذا الحديث إبراهيم بن يسار الزّماديّ عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قال الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما لذريح بن سنّة أبي قيس: أحلّ لك أن فرّقت بين قيس و لبنى؟! أما إني سمعت عمر بن الخطاب يقول: ما أبالي أ فرّقت بين الرجل و امرأته أو مشيت إليهما بالسيف. قالوا: فلما بانت لبنى بطلاقه إيّاها و فرغ من الكلام، لم يلبث حتى استطير عقله و ذهب به و حلقه مثل الجنون. و تذكّر لبنى و حالها معه فأسف و جعل يبكي و ينشج أحرّ نشيج.

و بلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها، و قيل: بل أقامت حتى انقضت عدّتها و قيس يدخل عليها. فأقبل أبوها بهودج على ناقة و بإبل تحمل أثاثها. فلما رأى ذلك قيس أقبل على جاريتها فقال: ويحك! ما دهاني فيكم؟ فقالت:

ص: 126


1- اختلف في معنى الكلالة فقيل: إن الكلالة الرجل الذي لا ولد له و لا والد؛ أو من عدا الأب و الابن من الورثة؛ و قيل من عدا الأب و الابن و الأخ؛ و قيل ما لم يكن من النسب لحا، أي لاصقا؛ و قيل الإخوة لأم.

لا تسألني و سل لبنى. فذهب ليلمّ بخبائها/فيسألها، فمنعه قومها. فأقبلت عليه امرأة من قومه فقالت له: ما لك ويحك تسأل كأنك جاهل أو تتجاهل! هذه لبنى ترتحل الليلة أو غدا. فسقط مغشيا عليه لا يعقل ثم أفاق و هو يقول:

و إنّي لمفن دمع عيني بالبكا *** حذار الذي قد كان أو هو كائن

و قالوا غدا أو بعد ذاك بليلة *** فراق حبيب لم يبن و هو بائن

و ما كنت أخشى أن تكون منيّتي *** بكفّيك إلاّ أنّ ما حان حائن

/في هذه الأبيات غناء و لها أخبار قد ذكرت في أخبار المجنون. قال و قال قيس:

يقولون لبنى فتنة كنت قبلها *** بخير فلا تندم عليها و طلّق

فطاوعت أعدائي و عاصيت ناصحي *** و أقررت عين الشامت المتخلّق(1)

وددت و بيت اللّه أنّي عصيتهم *** و حمّلت في رضوانها كلّ موبق(2)

و كلّفت خوض البحر و البحر زاخر *** أبيت على أثباج موج مغرّق

كأنّي أرى الناس المحبّين بعدها *** عصارة ماء الحنظل المتفلّق

فتنكر عيني بعدها كلّ منظر *** و يكره سمعي بعدها كلّ منطق

قال: و سقط غراب قريبا منه فجعل ينعق مرارا، فتطيّر منه و قال:

لقد نادى الغراب ببين لبنى *** فطار القلب من حذر الغراب

و قال غدا تباعد دار لبنى *** و تنأى بعد ودّ و اقتراب

فقلت تعست ويحك من غراب *** و كان الدهر سعيك في تباب

/و قال أيضا و قد منعه قومه من الإلمام بها:

صوت

ألا يا غراب البين ويحك نبّني *** بعلمك في لبنى و أنت خبير

فإن أنت لم تخبر بما قد علمته *** فلا طرت إلاّ و الجناح كسير

و درت بأعداء حبيبك فيهم *** كما قد تراني بالحبيب أدور

غنّى سليمان أخو حجبة رملا بالوسطى.

قالوا: و قال أيضا و قد أدخلت هودجها و رحلت و هي تبكي و يتبعها:

ص: 127


1- المتخلق: الذي يتكلف ما ليس في خلقه.
2- الموبق: المهلك.
صوت

ألا يا غراب البين هل أنت مخبري *** بخير كما خبّرت بالنأي و الشرّ

و قلت كذاك الدهر ما زال فاجعا *** صدقت و هل شيء بباق على الدهر

غنّى فيهما ابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ. و ذكر حبش أنّ لقفا النجّار فيهما ثقيلا أوّل بالوسطى. قالوا:

فلما ارتحل قومها اتّبعها مليا، ثم علم أن أباها سيمنعه من المسير معها، فوقف ينظر إليهم و يبكي حتى غابوا عن عينه فكرّ راجعا. و نظر إلى أثر خفّ بعيرها فأكبّ عليه يقبّله و رجع يقبّل موضع مجلسها و أثر قدمها. فليم على ذلك و عنّفه قومه على تقبيل التراب؛ فقال:

و ما أحببت أرضكم و لكن *** أقبّل إثر من وطئ التّرابا

لقد لاقيت من كلفي بلبنى *** بلاء ما أسيغ به الشّرابا

إذا نادى المنادي باسم لبنى *** عييت فما أطيق له جوابا

/و قال و قد نظر إلى آثارها:

صوت

/

ألا يا ربع لبنى ما تقول *** ابن لي اليوم ما فعل الحلول

فلو أن الديار تجيب صبّا *** لردّ جوابي الرّبع المحيل

و لو أنّي قدرت غداة قالت *** غدرت(1) و ماء مقلتها يسيل

نحرت النفس حين سمعت منها *** مقالتها و ذاك لها قليل

شفيت غليل نفسي من فعالي *** و لم أغبر بلا عقل أجول

غنّى فيه حسين بن محرز خفيف ثقيل من روايتي بذل و قريض. و تمام هذه الأبيات:

كأنّي واله بفراق لبنى *** تهيم بفقد واحدها ثكول

ألا يا قلب ويحك كن جليدا *** فقد رحلت و فات بها الذّميل(2)

فإنك لا تطيق رجوع لبنى *** إذا رحلت و إن كثر العويل

و كم قد عشت كم بالقرب منها *** و لكنّ الفراق هو السبيل

فصبرا كلّ مؤتلفين يوما *** من الأيام عيشهما يزول

قال: فلما جنّ عليه الليل و انفرد و أوى إلى مضجعه لم يأخذه القرار و جعل يتململ فيه تململ السليم، ثم وثب حتى أتى موضع خبائها، فجعل يتمرّغ فيه و يبكي و يقول:

ص: 128


1- كذا في «تجريد الأغاني»: و في ب، س: «و درت» و هو تحريف. و قد سقط هذا البيت من سائر الأصول.
2- الذميل: السير اللين.
صوت

بتّ و الهمّ يا لبينى ضجيعي *** و جرت مذ نأيت عنّي دموعي

و تنفّست إذ ذكرتك حتى *** زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي

/أتناساك كي يريغ(1) فؤادي *** ثم يشتدّ عند ذاك و لوعي

يا لبينى فدتك نفسي و أهلي *** هل لدهر مضى لنا من رجوع

غنّت في البيتين الأوّلين شارية خفيف رمل بالوسطى. و غنّى فيهما حسين بن محرز ثاني ثقيل، هكذا ذكر الهشاميّ؛ و قد قيل إنه لهاشم بن سليمان.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزّبير بن بكّار حدّثني عبد الجبّار بن سعيد المساحقيّ عن محمد بن معن الغفاريّ عن أبيه عن عجوز لهم يقال حمّادة بنت أبي مسافر قالت:

جاورت آل ذريح بقطيع لي فيه الرّائمة(2) و ذات البوّ و الحائل و المتبع. قالت: فكان قيس بن ذريح إلى شرف(3) في ذلك القطيع ينظر إلى ما يلقين فيتعجّب. فقلّما لبث حتى عزم عليه أبوه بطلاق لبنى فكاد يموت، ثم آلى أبوه لئن أقامت لا يساكن قيسا. فظعنت فقال:

أيا كبدا طارت صدوعا نوافذا *** و يا حسرتا ما ذا تغلغل في القلب

فأقسم ما عمش العيون شوارف(4) *** روائم بوّ حائمات على سقب(5)

تشمّمنه لو يستطعن ارتشفنه *** إذا سفنه يزددن نكبا على نكب(6)

رئمن فما تنحاش منهنّ شارف *** و حالفن(7) حبسا في المحول و في الجدب

/بأوجد منّي يوم ولّت حمولها *** و قد طلعت أولى الرّكاب من النّقب

و كلّ ملمّات الزمان وجدتها *** سوى فرقة الأحباب هيّنة الخطب

/أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال سمعت ابن عائشة يقول: قال إسحاق بن الفضل الهاشميّ: لم يقل الناس في هذا المعنى مثل قول قيس بن ذريح:

و كلّ مصيبات الزمان وجدتها *** سوى فرقة الأحباب هيّنة الخطب

قال و قال ابن النطّاح قال أبو دعامة:

ص: 129


1- كذا في «تجريد الأغاني»: و يريغ: يحيد. و في الأصول: «يريع» بالعين المهملة و هو تصحيف.
2- الرائمة: العاطفة على غير ولدها. و البوّ: جلد الحوار يحشى تماما أو تبنا أو غيرهما فيقرب من أم الفصيل فتعطف عليه فتدرّ. و الحائل: الناقة التي لا تحمل. و المتبع: التي يتبعها ولدها.
3- الشرف: المكان العالي.
4- الشوارف: جمع شارفة و هي الناقة المسنّة.
5- السقب: ولد الناقة.
6- ساف الشيء: شمه. و النكب (محركة و قد سكنت لضرورة الشعر): ظلع البعير، و قيل: داء يأخذ الإبل في مناكبها تظلع منه و تمشي منحرفة.
7- كذا في «تجريد الأغاني»: و في الأصول: «و حاولن» و هو تحريف.
خرج في فتية إلى بلادها حتى رآها، و شعره في ذلك:

خرج قيس في فتية من قومه و اعتلّ على أبيه بالصيد، فأتى بلاد لبنى، فجعل يتوقّع أن يراها أو يرى من يرسل إليها. فاشتغل الفتيان بالصيد؛ فلما قضوا و طرهم منه رجعوا إليه و هو واقف، فقالوا له: قد عرفنا ما أردت بإخراجنا معك و أنك لم ترد الصيد و أنما أردت لقاء لبنى، و قد تعذّر عليك فانصرف الآن. فقال:

و ما حائمات حمن يوما و ليلة *** على الماء يغشين العصيّ حوان

عوافي(1) لا يصدرن عنه لوجهة *** و لا هنّ من برد الحياض دوان

يرين حباب الماء و الموت دونه *** فهنّ لأصوات السّقاة روان

بأجهد منّي حرّ شوق و لوعة *** عليك و لكنّ العدوّ عداني

خليليّ إني ميّت أو مكلّم *** لبينى بسرّي فامضيا و ذراني

أنل حاجتي وحدي و يا ربّ حاجة *** قضيت على هول و خوف جنان

فإنّ أحقّ الناس ألا تجاوزا(2) *** و تطّرحا من لو يشاء شفاني

و من قادني للموت حتى إذا صفت *** مشاربه السمّ الذّعاف سقاني

/قال: فأقاموا معه حتى لقيها، فقالت له: يا هذا، إنك متعرّض لنفسك و فاضحي. فقال لها:

صدعت القلب ثم ذررت فيه *** هواك فليم فالتأم الفطور(3)

تغلغل حيث لم يبلغ شراب *** و لا حزن و لم يبلغ سرور

أبو السائب المخزومي و شعر قيس:

و قال القحذميّ حدّثني أبو الوردان قال حدّثني أبي قال: أنشدت أبا السّائب المخزوميّ قول قيس:

صدعت القلب ثم ذررت فيه *** هواك فليم فالتأم الفطور

فصاح بجارية له سنديّة تسمّى زبدة، فقال: أي زبدة عجّلي. فقالت: أنا أعجن. فقال: ويحك! تعالي و دعي العجين. فجاءت فقال لي: أنشد بيتي قيس فأعدتهما. فقال لها: يا زبدة، أحسن قيس و إلاّ فأنت حرّة! ارجعي الآن إلى عجينك أدركيه لا يبرد.

حسرته على فراقها و تأنيبه نفسه:
اشارة

قالوا: و جعل قيس يعاتب نفسه في طاعته أباه في طلاقه لبنى و يقول: فألاّ رحلت بها عن بلده فلم أر ما يفعل و لم يرني! فكان إذا فقدني أقلع عمّا يفعله و إذا فقدته لم أتحرّج من فعله! و ما كان عليّ لو اعتزلته و أقمت في حيّها أو في بعض بوادي العرب، أو عصيته فلم أطعه! هذه جنايتي على نفسي فلا لوم على أحد! و ها أنا ذا ميّت مما فعلته،

ص: 130


1- العوافي: جمع عافية و هي التي ترد الماء.
2- كذا في ج: و في سائر الأصول: «فإني أحق الناس ألا تحاورا».
3- الفطور: الشقوق.

فمن يردّ روحي إليّ! و هل لي سبيل إلى لبنى بعد الطلاق؟! و كلّما قرع نفسه و أنّبها بلون من التقريع و التأنيب بكى أحرّ بكاء و ألصق خدّه بالأرض و وضعه على آثارها ثم قال:

صوت

/

ويلي و عولي و مالي حين تفلتني *** من بعد ما أحرزت كفّي بها الظّفرا

قد قال قلبي لطرفي و هو يعذله *** هذا جزاؤك منّي فاكدم الحجرا

قد كنت أنهاك عنها لو تطاوعني *** فاصبر فما لك فيها أجر من صبرا

غنّاه الغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيه لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش. و في الثالث و الأوّل خفيف رمل يقال إنه لابن الهربذ.

قالوا و قال أيضا:

بانت لبينى فأنت اليوم متبول *** و الرأي عندك بعد الحزم مخبول

أستودع اللّه لبنى إذ تفارقني *** بالرغم منّي و قول الشيخ مفعول

و قد أراني بلبنى حقّ مقتنع *** و الشمل مجتمع و الحبل موصول

قال خالد بن كلثوم و قال:

ألا ليت لبنى في خلاء تزورني *** فأشكو إليها لوعتي ثم ترجع

صحا كلّ ذي لبّ و كلّ متيّم *** و قلبي بلبنى ما حييت مروّع

فيا من لقلب ما يفيق من الهوى *** و يا من لعين بالصّبابة تدمع

قالوا و قال في ليلته تلك:

قد قلت للقلب لا لبناك فاعترف *** و اقض اللّبانة ما قضّيت و انصرف

قد كنت أحلف جهدا لا أفارقها *** أفّ لكثرة ذاك القيل و الحلف

حتى تكنّفني الواشون فافتلتت(1) *** لا تأمنن أبدا من غشّ مكتنف

هيهات هيهات قد أمست مجاورة *** أهل العقيق و أمسينا على سرف

/ - قال: و سرف على ستة أميال(2) من مكة. و العقيق: واد باليمامة -

حيّ يمانون و البطحاء منزلنا *** هذا لعمرك شمل غير مؤتلف

من شعره في لبنى و قد سنحت له ظبية:

قالوا: فلمّا أصبح خرج متوجّها نحو الطريق الذي سلكته يتنسّم روائحها، فسنحت له ظبية فقصدها فهربت منه فقال:

ص: 131


1- افتلتت: أخذت بغتة.
2- كذا في «معجم ما استعجم» للبكري: و في الأصول: «أيام» و هو تحريف من النساخ.

ألا يا شبه لبنى لا تراعي *** و لا تتيمّمي قلل القلاع

و هي قصيدة طويلة يقول فيها:

فوا كبدي و عاودني رداعي(1) *** و كان فراق لبنى كالخداع

تكنّفني الوشاة فأزعجوني *** فيا للّه للواشي المطاع

فأصبحت الغداة ألوم نفسي *** على شيء و ليس بمستطاع

كمغبون يعضّ على يديه *** تبيّن غبنه بعد البياع

بدار مضيعة تركتك لبنى *** كذاك الحين يهدى للمضاع

و قد عشنا نلذّ العيش حينا *** لو ان الدهر للإنسان داع

و لكنّ الجميع إلى افتراق *** و أسباب الحتوف لها دواع

غنّاه الغريض من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن/إسحاق. و فيه لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ. و لشارية في البيتين الأوّلين ثقيل أوّل آخر بالوسطى. و لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشاميّ في:

بدار مضيعة تركتك لبنى

و قبله:

فوا كبدي و عاودني رداعي

و لسياط في البيتين الأوّلين خفيف رمل بالبنصر عن حبش.

أغرت أمه فتيات الحي بأن يعبن عنده لبنى ليسلوها فلم يسل، و شعره في ذلك:
اشارة

حدّثني عمّي عن الكرانيّ عن العتبيّ عن أبيه قال:

بعثت أمّ قيس بن ذريح بفتيات من قومه إليه يعبن إليه لبنى و يعبنه بجزعه و بكائه و يتعرّضن لوصاله، فأتينه فاجتمعن حواليه و جعلن يمازحنه و يعبن لبنى عنده و يعيّرنه ما يفعله. فلما أطلن أقبل عليهنّ و قال:

صوت

يقرّ بعيني قربها و يزيدني *** بها كلفا من كان عندي يعيبها

و كم قائل قد قال تب فعصيته *** و تلك لعمري توبة لا أتوبها

فيا نفس صبرا لست و اللّه فاعلمي *** بأوّل نفس غاب عنها حبيبها

- غنّاه دحمان ثقيلا أوّل بالوسطى. و فيه هزج بالبنصر لسليم، و ذكر حبش أنه لإسحاق - قال: فانصرفن عنه إلى أمّه فأيأسنها من سلوته. و قال سائر الرّواة الذين ذكرتهم: اجتمع إليه النّسوة فأطلن الجلوس عنده و محادثته و هو ساه

ص: 132


1- الرداع: النكس، و قيل: وجع الجسد كله.

عنهنّ، ثم نادى: يا لبنى! فقلن له: مالك ويحك! فقال: خدرت رجلي، و يقال: إن دعاء الإنسان باسم أحبّ الناس إليه يذهب عنه خدر الرّجل فناديتها لذلك. فقمن عنه، و قال:

إذا خدرت رجلي تذكرت من لها *** فناديت لبنى باسمها و دعوت

دعوت التي لو أنّ نفسي تطيعني *** لفارقتها من حبّها و قضيت

برت نبلها للصيد لبنى و ريّشت *** و ريّشت أخرى مثلها و بريت

فلمّا رمتني أقصدتني بسهمها *** و أخطأتها بالسّهم حين رميت

/و فارقت لبنى ضلّة فكأنني *** قرنت إلى العيوق ثم هويت

فيا ليت أنّي متّ قبل فراقها *** و هل ترجعن فوت القضيّة ليت

فصرت و شيخي كالذي عثرت به *** غداة الوغى بين العداة كميت

فقامت و لم تضرر هناك سويّة *** و فارسها تحت السّنابك ميت

فإن يك تهيامي بلبنى غواية *** فقد يا ذريح بن الحباب غويت

فلا أنت ما أمّلت فيّ رأيته *** و لا أنا لبنى و الحياة حويت

فوطّن لهلكي منك نفسا فإنّني *** كأنك بي قد يا ذريح قضيت

حديثه في مرضه مع عوّاده و مع طبيبه عن لبنى، و شعره في ذلك:
اشارة

و قال خالد بن كلثوم: مرض قيس، فسأل أبوه فتيات الحي أن يعدنه و يحدّثنه لعلّه أن يتسلّى أو يعلق بعضهن، ففعلن ذلك. و دخل إليه طبيب ليداويه و الفتيات معه، فلما اجتمعن عنده جعلن يحادثنه و أطلن السؤال عن سبب علّته، فقال:

صوت

/

عيد قيس من حبّ لبنى و لبنى *** داء قيس و الحبّ داء شديد

و إذا عادني العوائد يوما *** قالت العين لا أرى من أريد

ليت لبنى تعودني ثم أقضي *** إنها لا تعود فيمن يعود

ويح قيس لقد تضمّن منها *** داء خبل فالقلب منه عميد

- غنّاه ابن سريج خفيف رمل عن الهشاميّ. و فيه للحجبيّ ثقيل أوّل بالوسطى. و فيه ليحيى المكي رمل - قالوا:

فقال له الطبيب: منذ كم هذه العلّة؟ و منذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فقال:

صوت

تعلّق روحي روحها قبل خلقنا *** و من بعد ما كنّا نطافا و في المهد

فزاد كما زدنا فأصبح ناميا *** و ليس إذا متنا بمنصرم العهد

/و لكنّه باق على كلّ حادث *** و زائرنا في ظلمة القبر و اللّحد

ص: 133

- غنّاه الغريض ثقيلا أوّل بالوسطى من رواية حبش - قالوا: فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تتذكر ما فيها من المساوئ و المعايب و ما تعافه النفس من أقذار بني آدم؛ فإن النفس تنبو حينئذ و تسلو و يخفّ ما بها. فقال:

إذا عبتها شبّهتها البدر طالعا *** و حسبك من عيب لها شبه البدر

لقد فضّلت لبنى على الناس مثل ما *** على ألف شهر فضّلت ليلة القدر

صوت

إذا ما مشت شبرا من الأرض أرجفت *** من البهر حتى ما تزيد على شبر

لها كفل يرتجّ منها إذا مشت *** و متن كغصن البان مضطمر الخصر

- غنّى في هذين البيتين ابن المكّيّ خفيف رمل بالوسطى. و فيهما رمل ينسب إلى ابن سريج و إلى ابن طنبورة عن الهشاميّ - قالوا: و دخل أبوه و هو يخاطب الطبيب بهذه المخاطبة، فأنّبه و لامه و قال له: يا بنيّ! اللّه اللّه في نفسك! فإنك ميّت إن دمت على هذا! فقال:

و في عروة(1) العذريّ إن متّ أسوة *** و عمرو(2) بن عجلان الذي قتلت هند

و بي مثل ما ماتا به غير أنني *** إلى أجل لم يأتني وقته بعد

صوت

هل الحبّ إلاّ عبرة بعد زفرة *** و حرّ على الأحشاء ليس له برد

و فيض دموع تستهلّ إذا بدا *** لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو

غنّى في هذين البيتين زيد بن الخطّاب مولى سليمان بن أبي جعفر، و قيل: إنه مولى سليمان بن عليّ، ثقيلا أوّل بالوسطى عن الهشامي.

إعجاب أبي السائب المخزومي بشعر له:

و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير، و أخبرنا اليزيديّ عن ثعلب عن الزّبير قال حدّثني إسماعيل بن أبي أويس قال:

جلست أنا و أبو السائب في النبّالين، فأنشدني قول قيس بن ذريح:

/

عيد قيس من حبّ لبنى و لبنى *** داء قيس و الحبّ داء شديد

ليت لبنى تعودني ثم أقضي *** إنها لا تعود فيمن يعود

ص: 134


1- هو عروة بن حزام بن مهاصر أحد بني حزام بن ضبة بن عبد بن كبير بن عذرة، شاعر إسلامي، أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى، لا يعرف له شعر إلاّ في عفراء بنت عمه. (انظر ترجمته في ج 20 ص 152 من «الأغاني» طبع بولاق).
2- ورد هذا الاسم في تزيين الأسواق كما جاء في الأصول. و ذكره البحتري أيضا فقال: هوى لا جميل في بثينة ناله بمثل و لا عمرو بن عجلان في هند و ذكر أبو الفرج ترجمته (في ج 19 ص 102 من «الأغاني» طبع بولاق) فقال: هو عبد اللّه بن العجلان بن عبد الأحب، شاعر جاهلي أحد المتيمين من الشعراء و من قتله الحب منهم. و كان له زوجة يقال لها هند فطلقها ثم ندم عليها. و لما زوجت زوجا غيره مات أسفا.

قال: فأنشدته أنا لقيس:

تعلّق روحي روحها قبل خلقنا *** و من بعد ما كنّا نطافا و في المهد

فزاد كما زدنا و أصبح ناميا *** و ليس إذا متنا بمنتقض العهد

و لكنّه باق على كل حادث *** و زائرنا في ظلمة القبر و اللّحد

فحلف لا يزال يقوم و يقعد حتى يرويها. فدخل زقاق النّبالين و جعلت أردّدها عليه و يقوم و يقعد حتى رواها.

رجع الخبر إلى سياقته.

زوجه أبوه غيرها ليسلوها فتزوّجت لبنى، و ما قال في ذلك من الشعر:
اشارة

و قال خالد بن جمل: فلمّا طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه بأن يزوّجه امرأة جميلة فلعلّه أن يسلو بها عن لبنى. فدعاه إلى ذلك فأباه و قال:

لقد خفت ألاّ تقنع النفس بعدها *** بشيء من الدنيا و إن كان مقنعا

و أزجر عنها النفس إذ حيل دونها *** و تأبى إليها النفس إلاّ تطلّعا

/فأعلمهم أبوه بما ردّ عليه. قالوا: فمره بالمسير في أحياء العرب و النزول عليهم فلعلّ عينه أن تقع على امرأة تعجبه. فأقسم عليه أبوه أن يفعل. فسار حتى نزل بحيّ من فزارة، فرأى جارية حسناء قد حسرت برقع خزّ عن وجهها و هي كالبدر ليلة تمّه، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: لبنى. فسقط على وجهه مغشيّا عليه، فنضحت على وجهه ماء و ارتاعت لما عراه، ثم قالت: إن لم يكن هذا قيس بن ذريح إنه لمجنون! فأفاق فنسبته فانتسب.

فقالت: قد علمت أنك قيس، و لكن نشدتك باللّه و بحقّ لبنى إلاّ أصبت من طعامنا. و قدّمت إليه طعاما، فأصاب منه بإصبعه. و ركب فأتى على أثره أخ لها كان غائبا، فرأى مناخ ناقته، فسألهم عنه فأخبروه، فركب حتى ردّه إلى منزله، و حلف عليه ليقيمنّ عنده شهرا. فقال له: لقد شققت عليّ، و لكنّي سأتبع هواك، و الفزاريّ يزداد إعجابا بحديثه و عقله و روايته، فعرض عليه الصّهر. فقال له: يا هذا إن فيك لرغبة، و لكنّي في شغل لا ينتفع بي معه.

فلم يزل يعاوده و الحيّ يلومونه و يقولون له: قد خشينا أن يصير علينا فعلك سبّة. فقال: دعوني، ففي مثل هذا الفتى يرغب الكرام. فلم يزل به حتى أجابه و عقد الصّهر بينه و بينه على أخته المسماة لبنى، و قال له: أنا أسوق عنك صداقها. فقال: أنا و اللّه يا أخي أكثر قومي مالا، فما حاجتك إلى تكلّف هذا؟ أنا سائر إلى قومي و سائق إليها المهر. ففعل و أعلم أباه الذي كان منه، فسرّه و ساق المهر عنه. و رجع إلى الفزاريّين حتى أدخلت عليه زوجته، فلم يروه هشّ إليها و لا دنا منها و لا خاطبها بحرف و لا نظر إليها. و أقام على ذلك أياما كثيرة. ثم أعلمهم أنه يريد الخروج إلى قومه أياما فأذنوا له في ذلك، فمضى لوجهه إلى المدينة. و كان له صديق من الأنصار بها؛ فأتاه فأعلمه الأنصاريّ أن خبر تزويجه بلغ لبنى فغمّها و قالت: إنه لغدّار! و لقد كنت أمتنع من إجابة قومي إلى التزويج فأنا الآن أجيبهم، و قد كان/أبوها شكا قيسا إلى معاوية/و أعلمه تعرّضه لها بعد الطلاق. فكتب إلى مروان بن الحكم يهدر دمه إن تعرّض لها، و أمر أباها أن يزوّجها رجلا يعرف بخالد بن حلّزة من بني عبد اللّه بن غطفان - و يقال: بل أمره بتزويجها رجلا من آل كثير بن الصّلت الكنديّ حليف قريش - فزوّجها أبوها منه. قال: فجعل نساء الحيّ يقلن ليلة زفافها:

ص: 135

لبينى زوجها أصب *** ح لا حرّ بواديه(1)

له فضل على الناس *** بما باتت تناجيه

و قيس ميّت حيّ *** صريع في بواكيه

فلا يبعده اللّه *** و بعدا لنواعيه

قال: فجزع قيس جزعا شديدا و جعل ينشج أحرّ نشيج و يبكي أحرّ بكاء. ثم ركب من فوره حتى أتى محلّة قومها، فناداه النساء: ما تصنع الآن هاهنا! قد نقلت لبنى إلى زوجها!. و جعل الفتيان يعارضونه بهذه المقالة و ما أشبهها و هو لا يجيبهم حتى أتى موضع خبائها فنزل عن راحلته و جعل يتمعّك(2) في موضعها و يمرّغ خدّه على ترابها و يبكي أحرّ بكاء. ثم قال:

صوت

إلى اللّه أشكو فقد لبنى كما شكا *** إلى اللّه فقد الوالدين يتيم

يتيم جفاه الأقربون فجسمه *** نحيل و عهد الوالدين قديم

بكت دارهم من نأيهم فتهلّلت *** دموعي فأيّ الجازعين ألوم

أ مستعبرا يبكي من الشوق و الهوى *** أمّ آخر يبكي شجوه و يهيم

/لابن جامع في البيتين الأولين ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. و لعريب فيهما ثاني ثقيل. و في الثالث و الرابع لميّاسة خفيف رمل بالبنصر عن عمرو و حبش و الهشاميّ و تمام هذه الأبيات، و ليست فيها صنعة، قوله:

تهيّضني من حبّ لبنى علائق *** و أصناف حبّ هولهن عظيم

و من يتعلّق حبّ لبنى فؤاده *** يمت أو يعش ما عاش و هو كليم

فإنّي و إن أجمعت عنك تجلّدا *** على العهد فيما بيننا لمقيم

و إنّ زمانا شتّت الشمل بيننا *** و بينكم فيه العدا لمشوم

أ في الحقّ هذا أنّ قلبك فارغ *** صحيح و قلبي في هواك سقيم

و قد قيل: إن هذه الأبيات ليست لقيس و إنما خلطت بشعره، و لكنّها في هذه الرواية منسوبة إليه.

قال: و قال أيضا في رحيل لبنى عن وطنها و انتقالها إلى زوجها بالمدينة و هو مقيم في حيّها:

صوت

بانت لبينى فهاج القلب من بانا(3) *** و كان ما وعدت مطلا(4) و ليّانا

ص: 136


1- في تزيين الأسواق (ج 1 ص 56 طبع بلاق): «يوازيه».
2- يمتعك: يتمرّغ.
3- في ج: «بانت لبينى فقلبي اليوم من بانا».
4- ليان و مثله ليّ (بفتح اللام فيهما و كسرها): مصدر لوى بمعنى مطل. تقول لواه دينه و بدينه. و قال أبو الهيثم: لم يجيء من المصادر على فعلان إلاّ ليان. و عن ابن زيد أن كسر اللام في هذا المصدر لغية.

و أخلفتك منى قد كنت تأملها *** فأصبح القلب بعد البين حيرانا

اللّه يدري و ما يدري به أحد *** ما ذا أجمجم من ذكراك أحيانا

/يا أكمل الناس من قرن إلى قدم *** و أحسن الناس ذا ثوب و عريانا

نعم الضّجيع بعيد النوم تجلبه *** إليك ممتلئا نوما و يقظانا

/للغريض في هذه الأبيات ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق و عمرو. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه لابن محرز ثاني ثقيل آخر. و قال أحمد بن عبيد: فيه لحنان ليحيى المكّيّ و علّويه. و تمام هذه القصيدة:

لا بارك اللّه فيمن كان يحسبكم *** إلاّ على العهد حتى كان ما كانا

حتى استفقت أخيرا بعد ما نكحت *** كأنما كان ذاك القلب حيرانا

قد زرأني طيفكم ليلا فأرّقني *** فبتّ للشوق أذري الدمع تهتانا

إن تصرمي الحبل أو تمسي مفارقة *** فالدهر يحدث للإنسان ألوانا

و ما أرى مثلكم في الناس من بشر *** فقد رأيت به حيّا و نسوانا

شكاه أبوها إلى معاوية فأهدر دمه، و شعره في ذلك:
اشارة

و قال ابن قتيبة في خبره عن الهيثم بن عديّ، و رواه عمر بن شبّة أيضا: أن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكا إليه قيسا و تعرّضه لابنته بعد طلاقه إيّاها. فكتب معاوية إلى مروان أو سعيد بن العاص يهدر دمه إن ألمّ بها و أن يشتدّ في ذلك. فكتب مروان أو سعيد في ذلك إلى صاحب الماء الذي ينزله أبو لبنى كتابا و كيدا، و وجّهت لبنى رسولا قاصدا إلى قيس تعلمه ما جرى و تحذّره. و بلغ أباه الخبر فعاتبه و تجهّمه و قال له: انتهى بك الأمر إلى أن يهدر السلطان دمك! فقال:

صوت

فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها *** مقالة واش أو وعيد أمير

فلن يمنعوا عينيّ من دائم البكا *** و لن يذهبوا ما قد أجنّ ضميري

إلى اللّه أشكو ما ألاقي من الهوى *** و من حرق تعتادني و زفير

و من حرق(1) للحبّ في باطن الحشى *** و ليل طويل الحزن غير قصير

/سأبكي على نفسي بعين غزيرة *** بكاء حزين في الوثاق أسير

و كنّا جميعا قبل أن يظهر الهوى *** بأنعم حالي غبطة و سرور

فما برح الواشون حتى بدت لهم *** بطون الهوى مقلوبة لظهور

لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا *** و لكنّما الدنيا متاع غرور

- هكذا في هذا الخبر أن الشعر لقيس بن ذريح. و ذكر الزّبير بن بكّار أنه لجدّه عبد اللّه بن مصعب - غنّى يزيد حوراء

ص: 137


1- الحرق بالتحريك: النار، و يحتمل أن تكون حرق بضم أوله جمع حرقة.

في الأوّل و الثاني و السادس و الثالث من هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى. و غنّى إبراهيم في الأوّل و الثاني لحنا من كتابه غير مجنّس. و ذكر حبش أنّ فيهما لإسحاق خفيف ثقيل بالوسطى. و في الخامس و ما بعده لعريب ثقيل أوّل ابتداؤه نشيد. و قال ابن الكلبيّ في خبره: قال قيس في إهدار معاوية دمه إن زارها:

إن تك لبنى قد أتى دون قربها *** حجاب منيع ما إليه سبيل

فإنّ نسيم الجوّ يجمع بيننا *** و نبصر قرن الشمس حين تزول

/و أرواحنا باللّيل في الحيّ تلتقي *** و نعلم أنّا بالنهار نقيل

و تجمعنا الأرض القرار و فوقنا *** سماء نرى فيها النجوم تجول

إلى أن يعود الدهر سلما و تنقضي *** تراث بغاها عندنا و ذحول

شعره فيما حين صادفها في موسم الحج:

و مما وجد في كتاب لابن النطّاح قال العتبيّ حدّثني أبي قال: حجّ قيس بن ذريح، و اتّفق أن حجّت لبنى في تلك السنة، فرآها و معها امرأة من قومها، فدهش و بقي واقفا مكانه و مضت لسبيلها. ثم أرسلت إليه بالمرأة تبلغه السلام و تسأله عن خبره؛ فألفته جالسا وحده ينشد و يبكي:

و يوم منّى أعرضت عنّي فلم أقل *** بحاجة(1) نفس عند لبنى مقالها

/و في اليأس للنفس المريضة راحة *** إذا النفس رامت خطّة لا تنالها

فدخلت خباءه و جعلت تحدّثه عن لبنى و يحدّثها عن نفسه مليّا، و لم تعلمه أنّ لبنى أرسلتها إليه. فسألها أن تبلغها عنه السلام، فامتنعت عليه؛ فأنشأ يقول:

إذا طلعت شمس النهار فسلّمي *** فآية تسليمي عليك طلوعها

بعشر تحيّات إذا الشمس أشرقت *** و عشر إذا اصفرّت و حان رجوعها

و لو أبلغتها جارة قولي أسلمي *** بكت جزعا و ارفضّ منها دموعها

و بان الذي تخفي من الوجد في الحشى *** إذا جاءها عنّي حديث يروعها

- غنّى في البيتين الأوّلين علّويه خفيف رمل بالوسطى - قال: و قضى الناس حجّهم و انصرفوا. فمرض قيس في طريقه مرضا شديدا أشفى منه على الموت، فلم يأته رسولها عائدا لأن قومها رأوه و علموا به؛ فقال:

أ لبنى لقد جلّت عليك مصيبتي *** غداة غد إذ حلّ ما أتوقّع

تمنّينني نيلا و تلوينني به(2) *** فنفسي شوقا كلّ يوم تقطّع

و قلبك قطّ ما يلين لما يرى *** فوا كبدي قد طال هذا التضرّع

ألومك في شأني و أنت مليمة *** لعمري و أجفى للمحبّ و أقطع

ص: 138


1- كذا في «تجريد الأغاني». و في الأصول: «لحاجة نفس» باللام.
2- كذا في ج و «تجريد الأغاني» و «تزيين الأسواق». و في سائر الأصول «و تلوينني قلى».

أ خبّرت أنّي فيك ميّت حسرتي *** فما فاض من عينيك للوجد مدمع

و لكن لعمري قد بكيتك جاهدا *** و إن كان دائي كلّه منك أجمع

صبيحة جاء العائدات يعدنني *** فظلّت عليّ العائدات تفجّع

فقائلة جئنا إليه و قد قضى *** و قائلة لا، بل تركناه ينزع

و روى القحذميّ هاهنا:

فما غشيت عينيك من ذاك عبرة *** و عيني على ما بي بذكراك تدمع

/إذا أنت لم تبكي عليّ جنازة(1) *** لديك فلا تبكي غدا حين أرفع

قال: فبلغتها الأبيات، فجزعت جزعا شديدا و بكت بكاء كثيرا. ثم خرجت إليه ليلا على موعد فاعتذرت و قالت:

إنما أبقي عليك و أخشى أن تقتل، فأنا أتحاماك لذلك، و لو لا هذا لما/افترقنا. و ودّعته و انصرفت.

شعره فيها و قد بلغه أنها كذبت مرضه:

و قال خالد بن كلثوم: فبلغه أنّ أهلها قالوا لها: إنه عليل لما به و إنه سيموت في سفره هذا. فقالت لهم لتدفعهم عن نفسها: ما أراه إلا كاذبا فيما يدّعي و متعلّلا لا عليلا. فبلغه ذلك فقال:

تكاد بلاد اللّه يا أمّ معمر *** بما رحبت يوما عليّ تضيق

تكذّبني بالودّ لبنى وليتها *** تكلّف منّي مثله فتذوق

و لو تعلمين الغيب أيقنت أنني *** لكم و الهدايا المشعرات صديق

تتوق إليك النفس ثم أردّها *** حياء و مثلي بالحياء حقيق

أذود سوام النفس عنك و ما له *** على أحد إلا عليك طريق

فإنّي و إن حاولت صرمي و هجرتي *** عليك من احداث الرّدى لشفيق

و لم أر أيّاما كأيّامنا التي *** مررن علينا و الزمان أنيق

و وعدك إيّانا، و لو قلت عاجل، *** بعيد كما قد تعلمين سحيق

و حدّثتني يا قلب أنك صابر *** على البين من لبنى فسوف تذوق

فمت كمدا أو عش سقيما فإنّما *** تكلّفني مالا أراك تطيق

أطعت وشاة لم يكن لك فيهم *** خليل و لا جار عليك شفيق

فإن تك لمّا تسل عنها فإنّني *** بها مغرم صبّ الفؤاد مشوق

/بلبنى أنادى عند أوّل غشية *** و يثني بها الدّاعي لها فأفيق

ص: 139


1- الجنازة (بالكسر و يفتح): الميت. و قيل: الجنازة بالكسر الميت و بالفتح السرير، و قيل عكس ذلك. و المراد هنا المريض المشرف على الموت.

شهدت على نفسي بأنك غادة *** رداح و أنّ الوجه منك عتيق(1)

و أنك لا تجزينني بصحابة *** و لا أنا للهجران منك مطيق

و أنك قسّمت الفؤاد فنصفه *** رهين و نصف في الحبال وثيق

صبوحي إذا ما ذرّت الشمس ذكركم *** و لي ذكركم عند المساء غبوق

إذا أنا عزّيت الهوى أو تركته *** أتت عبرات بالدموع تسوق

كأنّ الهوى بين الحيازيم و الحشى *** و بين التّراقي و اللّهاة(2) حريق

فإن كنت لمّا تعلمي العلم فاسألي *** فبعض لبعض في الفعال فئوق

سلي هل قلاني من عشير صحبته *** و هل ملّ رحلي في الرّفاق رفيق

و هل يجتوي القوم الكرام صحابتي *** إذا اغبرّ مخشيّ الفجاج عميق

و أكتم أسرار الهوى فأميتها *** إذا باح مزّاح بهنّ بروق(3)

سعى الدهر و الواشون بيني و بينها *** فقطّع حبل الوصل و هو وثيق

هل الصبر إلا أن أصدّ فلا أرى *** بأرضك إلاّ أن يكون طريق

قصته مع لبنى و زوجها و قد باعه ناقة و هو لا يعرفه:
اشارة

قال: ثم أتى قومه فاقتطع قطعة من إبله و أعلم أباه أنه يريد المدينة ليبيعها و يمتار لأهله بثمنها. فعرف أبوه أنه إنما يريد لبنى، فعاتبه و زجره عن ذلك؛ فلم يقبل منه، و أخذ إبله و قدم بها المدينة. فبينا هو يعرضها إذ ساومه زوج لبنى بناقة منها و هما لا يتعارفان، فباعه إيّاها. /فقال له: إذا كان غد فأتني في دار كثير بن الصّلت فاقبض الثمن؛ قال:

نعم. و مضى زوج لبنى إليها فقال لها: إني ابتعت ناقة من/رجل من أهل البادية و هو يأتينا غدا ليقبض ثمنها، فأعدّي له طعاما، ففعلت. فلما كان من الغد جاء قيس فصوّت بالخادم: قولي لسيّدك: صاحب الناقة بالباب.

فعرفت لبنى نغمته فلم تقل شيئا. فقال زوجها للخادم: قولي له: ادخل، فدخل فجلس. فقالت لبنى للخادم: قولي له: يا فتى، ما لي أراك أشعث أغبر؟ فقالت له ذلك. فتنفّس ثم قال لها: هكذا تكون حال من فارق الأحبّة و اختار الموت على الحياة، و بكى. فقالت لها لبنى: قولي له: حدّثنا حديثك. فلما ابتدأ يحدّث به كشفت الحجاب و قالت: حسبك! قد عرفنا حديثك! و أسبلت الحجاب. فبهت ساعة لا يتكلّم ثم انفجر باكيا و نهض فخرج. فناداه زوجها: ويحك! ما قصّتك؟ ارجع اقبض ثمن ناقتك، و إن شئت زدناك. فلم يكلّمه و خرج فاغترز(4) في رحله و مضى. و قالت لبنى لزوجها: ويحك! هذا قيس بن دريح. فما حملك على ما فعلت به؟ قال: ما عرفته. و جعل قيس يبكي في طريقه و يندب نفسه و يوبّخها على فعله ثم قال:

ص: 140


1- الرداح: الثقيلة الأوراك. و العتيق: الجميل الكريم.
2- الحيازيم: جمع حيزوم و هو وسط الصدر. و التراقي: جمع ترقوة و هي العظم الذي بين ثغرة النحر و العاتق. و اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
3- في «الأمالي»: «نزوق».
4- أي ركب، و الغرز للجمل مثل الركاب للبغل.
صوت

أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** و أنت عليها بالملا أنت أقدر

فإن تكن الدنيا بلبنى تقلّبت *** عليّ فللدنيا بطون و أظهر

لقد كان فيها للأمانة موضع *** و للكفّ مرتاد و للعين منظر

و للحائم العطشان ريّ بريقها *** و للمرح المختال خمر و مسكر

كأنّي لها أرجوحة بين أحبل *** إذا ذكرة منها على القلب تخطر

للغريض في البيتين الأوّلين ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو و الهشامي و فيهما لعريب رمل. و لشارية خفيف رمل من رواية أبي العبيس.

/أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال:

تزوّج رجل من أهل المدينة يقال له أبو درّة امرأة كانت قبله عند رجل آخر من أهل المدينة يقال له أبو بطينة؛ فلقيه زوجها الأوّل فضربه ضربة شلّت يده منها. فلقيه أبو السائب المخزومي فقال له: يا أبا درّة! أضربك أبو بطينة في زوجته؟ قال: نعم. قال: أما إني أشهد أنها ليست كما قال قيس بن ذريح في زوجته لبنى:

لقد كان فيها للأمانة موضع *** و للكفّ مرتاد و للعين منظر

و للحائم العطشان ريّ بريقها *** و للمرح المختال خمر و مسكر

قال: و كانت زوجة أبي درّة هذه سوداء كأنها خنفساء.

مرضه بعد هذه الحادثة:

قال: و عاد إلى قومه بعد رؤيته إيّاها و قد أنكر نفسه و أسف و لحقه أمر عظيم؛ فأنكروه و سألوه عن حاله فلم يخبرهم، و مرض مرضا شديدا أشرف منه على الموت. فدخل إليه أبوه و رجال قومه فكلّموه و عاتبوه و ناشدوه اللّه.

فقال: ويحكم! أ تروني أمرضت نفسي أو وجدت لها سلوة بعد اليأس فاخترت الهمّ و البلاء، أو لي في ذلك صنع! هذا ما اختاره لي أبواي و قتلاني به. /فجعل أبوه يبكي و يدعو به بالفرج و السّلوة. فقال قيس:

لقد عذّبتني يا حبّ لبنى *** فقع إمّا بموت أو حياة

فإنّ الموت أروح من حياة *** تدوم على التباعد و الشّتات

و قال الأقربون تعزّ عنها *** فقلت لهم إذا حانت وفاتي

دست إليه رسولا يسأله لم تزوّج حتى تزوّجت هي:

قال: و دسّت إليه لبنى بعد خروجه رسولا و قالت له: استنشده، فإن سألك عن سبتك فانتسب له خزاعيّا؛ فإذا أنشدك فقل له: لم تزوّجت بعدها حتى أجابت/إلى أن تتزوّج بعدك؟ و احفظ ما يقول لك حتى تردّه عليّ. فأتاه الرسول فسلّم و انتسب خزاعيا، و ذكر أنه من أهل الشام و استنشده؛ فأنشده قوله:

فأقسم ما عمش العيون شوارف *** روائم بوّ حانيات على سقب

ص: 141

- و قد مضت هذه الأبيات - فقال له الرجل: فلم تزوّجت بعدها؟ فأخبره الخبر، و حلف له أنّ عينه ما اكتحلت بالمرأة التي تزوّجها، و أنه لو رآها في نسوة ما عرفها، و أنه ما مدّ يده إليها و لا كلّمها و لا كشف لها عن ثوب. فقال له الرجل: فإني جار لها و إنها من الوجد بك على حال قد تمنّى زوجها معها أن تكون بقربها لتصلح حالها بك؛ فحمّلني إليها ما شئت أؤدّه إليها. قال: تعود إليّ إذا أردت الرحيل، فعاد إليه لمّا أراد الرحيل. فقال تقول لها:

ألا حيّ لبنى اليوم إن كنت غاديا *** و ألمم بها من قبل أن لا تلاقيا

و أهد لها منك النصيحة إنها *** قليل و لا تخش الوشاة الأدانيا

و قل إنّني و الراقصات إلى منّى *** بأجبل جمع(1) ينتظرن المناديا

أصونك عن بعض الأمور مضنّة *** و أخشى عليك الكاشحين الأعاديا

تساقط نفسي حين ألقاك أنفسا *** يردن فما يصدرن إلاّ صواديا

فإن أحي أو أهلك فلست بزائل *** لكم حافظا ما بلّ ريق لسانيا

أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت *** بها زفرة تعتادني هي ما هيا

و بين الحشى و النحر منّي حرارة *** و لوعة وجد تترك القلب ساهيا

ألا ليت لبنى لم تكن لي خلّة(2) *** و لم ترني لبنى و لم أدر ماهيا

سلي الناس هل خبّرت سرّك منهم *** أخا ثقة أو ظاهر الغشّ باديا

يقول لي الواشون لمّا تظاهروا *** عليك و أضحى الحبل للبين واهيا

/لعمري لقبل اليوم حمّلت ما ترى *** و أنذرت من لبنى الذي كنت لاقيا

خليليّ ما لي قد بليت و لا أرى *** لبينى على الهجران إلاّ كما هيا

ألا يا غراب البين مالك كلّما *** ذكرت لبينى طرت لي عن شماليا

أ عندك علم الغيب أم لست(3) مخبري *** عن الحيّ إلاّ بالذي قد بدا ليا

جزعت عليها لو أرى لي مجزعا *** و أفنيت دمع العين لو كان فانيا

/حياتك لا تغلب عليها فإنه *** كفى بالذي تلقى لنفسك ناهيا

تمرّ الليالي و الشهور و لا أرى *** و لوعي بها يزداد إلاّ تماديا

فما عن نوال من لبينى زيارتي *** و لا قلّة الإلمام أن كنت قاليا

و لكنّها صدّت و حمّلت من هوى *** لها ما يئود الشامخات الرواسيا

و هذه القصيدة تخلط بقصيدة المجنون التي في وزنها و على قافيتها لتشابههما، فقلّما يتميّزان.

ص: 142


1- جمع: المزدلفة.
2- خلة: صديقة.
3- كذا في س: و في جميع الأصول: «أم أنت».

غنّى الحسين بن محرز في البيت الأوّل و البيت الخامس من هذه القصيدة ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى من روايتي بذل و الهشاميّ.

أنب لبنى زوجها لافتضاح أمره بشعر قيس فغضبت:

حدّثني المدائني عن عوانة عن يحيى بن عليّ الكنانيّ قال:

شهر أمر قيس بالمدينة و غنّى في شعره الغريض و معبد و مالك و ذووهم، فلم يبق شريف و لا وضيع إلاّ سمع بذلك فأطربه و حزن لقيس ممّا به. و جاءها زوجها فأنّبها على ذلك و عاتبها و قال: قد فضحتني بذكرك. فغضبت و قالت: يا هذا، إني و اللّه ما تزوّجتك رغبة فيك و لا فيما عندك و لا دلّس أمري عليك، و لقد علمت أني كنت زوجته قبلك و أنه أكره على طلاقي. و و اللّه ما قبلت التزويج حتى أهدر/دمه إن ألمّ بحيّنا، فخشيت أن يحمله ما يجد على المخاطرة فيقتل، فتزوّجتك. و أمرك الآن إليك، ففارقني فلا حاجة بي إليك. فأمسك عن جوابها و جعل يأتيها بجواري المدينة يغنّينها بشعر قيس كيما يستصلحها بذلك؛ فلا تزداد إلاّ تماديا و بعدا، و لا تزال تبكي كلّما سمعت شيئا من ذلك أحرّ بكاء و أشجاه.

وسط بريكة في لقائها، و شعره في ذلك:
اشارة

رجع الحديث إلى سياقته.

و قال الحرمازيّ و خالد بن جمل: كانت امرأة من موالي بني زهرة يقال لها بريكة من أظرف النساء و أكرمهنّ، و كان لها زوج من قريش له دار ضيافة. فلما طالت علّة قيس قال له أبوه: إني لأعلم أن شفاءك في القرب من لبنى فارحل إلى المدينة. فرحل إليها حتى أتى دار الضيافة التي لزوج بريكة. فوثب غلمانه إلى رحل قيس ليحطّوه.

فقال: لا تفعلوا فلست نازلا أو ألقى بريكة فإنّي قصدتها في حاجة؛ فإن وجدت لها عندها موضعا نزلت بكم و إلاّ رحلت. فأتوها فأخبروها. فخرجت إليه فسلّمت عليه و رحّبت به و قالت: حاجتك مقضية كائنة ما كانت، فانزل.

فنزل و دنا منها فقال: أذكر حاجتي؟ قالت: إن شئت. قال: أنا قيس بن ذريح. قالت: حيّاك اللّه و قرّبك! إنّ ذكرك لجديد عندنا في كل وقت. قال: و حاجتي أن أرى لبنى نظرة واحدة كيف شئت. قالت: ذلك لك عليّ. فنزل بهم و أقام عندها و أخفت أمره، ثم أهدى لها هدايا كثيرة و قال: لاطفيها و زوجها بهذا حتى يأنس بك. ففعلت وزارتها مرارا، ثم قالت لزوجها: أخبرني عنك: أنت خير من زوجي؟ قال: لا. قالت: فلبنى خير منّي؟ قال: لا. قالت:

فما بالي أزورها و لا تزورني؟ قال: ذلك إليها. فأتتها و سألتها الزيارة و أعلمتها أن قيسا عندها. فتسارعت إلى ذلك و أتتها. فلمّا رآها/و رأته بكيا حتى كادا يتلفان. ثم جعلت تسأله عن خبره و علّته فيخبرها، و يسألها فتخبره. ثم قالت: أنشدني ما قلت في علّتك؛ فأنشدها قوله:

أعالج من نفسي بقايا حشاشة(1) *** على رمق و العائدات تعود

/فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها *** كما هشّ للثدي الدّرور وليد

أجيب بلبنى من دعاني تجلّدا *** و بي زفرات تتجلى و تعود

ص: 143


1- الحشاشة: بقية الروح في المريض و الجريح.

تعيد إلى روحي الحياة و إنني *** بنفسي لو عاينتني لأجود

قال: و في هذه القصيدة يقول:

صوت

ألا ليت أيّاما مضين تعود *** فإن عدن يوما إنني لسعيد

سقى دار لبنى حيث خلّت و خيّمت *** من الأرض منهلّ الغمام رعود

في هذين البيتين لعريب خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى، و قيل: إنه لغيرها. و تمام هذه القصيدة:

على كلّ حال إن دنت أو تباعدت *** فإن تدن منّا فالدنوّ مزيد

فلا اليأس يسليني و لا القرب نافعي *** و لبنى منوع ما تكاد تجود

كأنّي من لبنى سليم مسهّد *** يظلّ على أيدي الرجال يميد

رمتني لبينى في الفؤاد بسهمها *** و سهم لبينى للفؤاد صيود

سلا كلّ ذي شجو علمت مكانه *** و قلبي للبنى ما حييت ودود

و قائلة قد مات أو هو ميّت *** و للنفس منّي أن تفيض رصيد

أعالج من نفسي بقايا حشاشة *** على رمق و العائدات تعود

/و قال الحرمازيّ في خبره خاصّة: و عاتبته على تزوّجه؛ فحلف أنه لم ينظر إليها ملء عينيه و لا دنا منها، فصدّقته.

و قال:

صوت

و لقد أردت الصبر عنك فعاقني *** علق بقلبي من هواك قديم

يبقى على حدث الزمان و ريبه *** و على جفائك، إنه لكريم

فصرمته و صححت و هو بدائه *** شتّان بين مصحّح و سقيم

و اربته(1) زمنا فعاد بحمله *** إنّ المحبّ عن الحبيب حليم

- لعريب في هذه الأبيات خفيف ثقيل، و للدّارميّ خفيف رمل من رواية الهشاميّ. و من الناس من ينسب خفيف الثّقيل إليه و خفيف الرمل إليها - قالوا: فلم يزل يومه معها يحدّثها و يشكو إليها أعفّ شكوى و أكرم حديث حتى أمسى؛ فانصرفت و وعدته الرجوع إليه من غد فلم ترجع. و شاع خبره فلم ترسل إليه رسولا. فكتب هذه الأبيات في رقعة و دفعها إلى بريكة و سألها أن توصلها إليها، و رحل متوجّها إلى معاوية. و الأبيات:

صوت

بنفسي من قلبي له الدّهر ذاكر *** و من هو عنّي معرض القلب صابر

و من حبّه يزداد عندي جدّة *** و حبّي لديه مخلق العهد دائر

ص: 144


1- المواربة: المخاتلة و المخادعة.
شكا إلى يزيد ما به و امتدحه فحقن دمه:

/ - غنّت في هذين البيتين ضنين جارية خاقان بن حامد خفيف رمل قالوا: ثم ارتحل إلى معاوية، فدخل إلى يزيد فشكا ما به إليه و امتدحه؛ فرقّ له و قال: سل ما شئت، إن شئت أن أكتب إلى زوجها فأحتّم عليه أن يطلّقها فعلت. /قال: لا أريد ذلك، و لكن أحبّ أن أقيم بحيث تقيم من البلاد، أتعرّف أخبارها و أقنع بذلك من غير أن يهدر دمي. قال: لو سألت هذا من غير أن ترحل إلينا فيه لما وجب أن تمنعه، فأقم حيث شئت؛ و أخذ كتاب أبيه له بأن يقيم حيث شاء و أحبّ و لا يعترض عليه أحد، و أزال ما كان كتب له في إهدار دمه؛ فقدم إلى بلده. و بلغ الفزاريّين خبره و إلمامه بلبنى، فكاتبوه في ذلك و عاتبوه. فقال للرسول: قل للفتى (يعني أخا الجارية التي تزوّجها): يا أخي ما غررتك من نفسي، و لقد أعلمتك أني مشغول عن كل أحد، و قد جعلت أمر أختك إليك فأمض فيه من حكمك ما رأيت. فتكرّم الفتى عن أن يفرّق بينهما، فمكثت في حباله(1) مدّة ثم ماتت.

لقبه عياش السعدي ذاهلا شارد اللب و أنشده من شعره فيها:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني سليمان بن عيّاش السّعديّ عن أبيه قال:

أقبلت ذات يوم من الغابة(2)؛ فلما كنت بالمذاد(3)، إذا ربع حديث العهد بالساكن، و إذا رجل مجتمع في جانب ذلك الربع يبكي و يحدّث نفسه. فسلّمت فلم يردّ عليّ سلاما. فقلت في نفسي: رجل ملتبس(4) به فولّيت عنه. فصاح بي بعد ساعة: و عليك السلام، هلمّ هلم إليّ يا صاحب السلام! فأتيته فقال: أما و اللّه لقد فهمت سلامك و لكنّي رجل مشترك اللّبّ يضلّ عنّي أحيانا ثم يعود إليّ. فقلت: و من/أنت؟ قال: قيس بن ذريح اللّيثيّ.

قلت: صاحب لبنى؟ قال: صاحب لبنى لعمري و قتيلها!. ثم أرسل عينيه كأنهما مزادتان؛ فما أنسى حسن قوله:

أبائنة لبنى و لم تقطع المدى *** بوصل و لا صرم فييأس طامع

نهاري نهار الوالهين صبابة *** و ليلي تنبو فيه عنّي المضاجع

و قد كنت قبل اليوم خلوا و إنّما *** تقسّم بين الهالكين المصارع

فلو لا رجاء القلب أن تسعف(5) النّوى *** لما حبسته بينهنّ الأضالع

له وجبات إثر لبنى كأنها *** شقائق برق في السماء لوامع

أبى اللّه أن يلقى الرشاد متيّم *** ألا كلّ أمر حمّ لا بدّ واقع

هما برّحا بي معولين كلاهما *** فؤاد و عين جفنها الدّهر دامع

ص: 145


1- كذا في ج و «تجريد الأغاني». و في سائر الأصول: «في خباء له» و هو تحريف.
2- الغابة: بريد من المدينة على طريق الشام.
3- المذاد: موضع بالمدينة حيث حفر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الخندق. و قيل: هو واد بين سلع و خندق المدينة. (راجع «معجم ما استعجم» للبكري و «معجم البلدان» لياقوت و «لسان العرب» مادة مذد).
4- في «تجريد الأغاني»: «ملتبس» بدون كلمة «به». و في الأصول: «مكتنس عنه». و قد اعتمدنا في إصلاحه على ما ورد في حديث المبعث: «فجاء الملك فشق عن قلبه قال فخفت أن يكون قد التبس بي» أي خولطت في عقلي.
5- كذا في «تجريد الأغاني». و في الأصول: «تسعر» و لعلها محرفة عن «تسعد».
عبد اللّه بن مسلم بن جندب ينشد من شعره:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد قال حدّثنا الزّبير قال، و أخبرنا به وكيع عن أبي أيّوب المدينيّ، قال الزّبير قال حدّثتني ظبية قالت:

سمعت عبد اللّه بن مسلم بن جندب ينشد زوجي قول قيس بن ذريح:

إذا ذكرت لبنى تأوّه و اشتكى *** تأوّه محموم عليه البلابل

يبيت و يضحي تحت ظلّ منيّة *** به رمق تبكي عليه القبائل

قتيل للبنى صدّع الحبّ قلبه *** و في الحب شغل للمحبّين شاغل

فصاح زوجي: أوّه! وا حرباه وا سلباه!. ثم أقبل على ابن جندب فقال: ويلك! أ تنشد هذا كذا! /قال: فكيف أنشده؟ قال: لم لا تتأوّه كما يتأوّه و تشتكي كما يشتكي!.

استنشده ابن أبي عتيق أحرّ ما قال في لبنى:

و قال القحذميّ: قال ابن أبي عتيق لقيس يوما: أنشدني أحرّ ما قلت في لبنى. فأنشده قوله:

/

و إني لأهوى النّوم في غير حينه *** لعلّ لقاء في المنام يكون

تحدّثني الأحلام أنّي أراكم *** فيا ليت أحلام المنام يقين

شهدت بأني لم أحل عن مودّة *** و أنّي بكم لو تعلمين ضنين

و أن فؤادي لا يلين إلى هوى *** سواك و إن قالوا بلى سيلين

فقال له ابن أبي عتيق: لقلّ ما رضيت به منها يا قيس. قال: ذلك جهد المقلّ.

غنّى في البيتين الأوّلين قفا النجّار ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.

أنشد ثعلب من شعره و كان يستحسنه:
اشارة

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب لقيس بن ذريح و كان يستحسن هذه الأبيات من شعره:

سقى طلل الدّار التي أنتم بها *** حيا ثم وبل صيّف(1) و ربيع

مضى زمن و الناس يستشفعون بي *** فهل لي إلى لبنى الغداة شفيع

سأصرم لبنى حبلك اليوم مجملا *** و إن كان صرم الحبل منك يروع

و سوف أسلّي النفس عنك كما سلا *** عن البلد النائي البعيد نزيع(2)

و إن مسّني للضّرّ منك كآبة *** و إن نال جسمي للفراق خشوع

يقولون صب بالنساء موكّل *** و ما ذاك من فعل الرجال بديع

ص: 146


1- في ب، س: «صيب» بالباء الموحدة.
2- نزيع: غريب.

ندمت على ما كان منّي ندامة *** كما ندم المغبون حين يبيع

فقدتك من نفس شعاع أ لم أكن *** نهيتك عن هذا و أنت جميع

فقرّبت لي غير القريب و أشرفت *** هناك ثنايا ما لهنّ طلوع

إلى اللّه أشكو نيّة شقّت العصا *** هي اليوم شتّى و هي أمس جميع

فيا حجرات الدار حيث(1) تحمّلوا *** بذي سلم لا جادكنّ ربيع

صوت

فلو لم يهجني الظاعنون لها جني *** حمائم ورق في الدّيار وقوع(2)

تداعين فاستبكين من كان ذا هوّى *** نوائح لم تقطر لهنّ دموع

- غنّى في هذين البيتين ابن سريج خفيف ثقيل أوّل عن الهشاميّ -

صوت

إذا أمرتني العاذلات بهجرها *** أبت كبد عمّا يقلن صديع

و كيف أطيع العاذلات و ذكرها *** يؤرّقني و العاذلات هجوع

غنّى في هذين البيتين إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.

فكاهات لأبي السائب المخزومي في شعره و في سيرته:
اشارة

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال:

أنشدت أبا السائب المخزوميّ قول قيس بن ذريح:

صوت

أحبّك أصنافا من الحبّ لم أجد *** لها مثلا في سائر الناس يوصف

/فمنهنّ حبّ للحبيب و رحمة *** بمعرفتي منه بما يتكلّف

و منهن ألاّ يعرض الدّهر ذكرها *** على القلب إلاّ كادت النفس تتلف

و حبّ بدا بالجسم و اللون ظاهر *** و حبّ لدى نفسي من الرّوح ألطف

قال أبو السائب: لا جرم و اللّه لأخلصنّ له الصّفاء و لأغضبنّ لغضبه و لأرضينّ لرضاه. غنّى في البيتين الأوّلين الحسين بن محرز خفيف ثقيل عن الهشامي و بذل.

/أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن أبي السائب المخزوميّ أنه أخبره أنه كان مع عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كثير في سقيفة دار كثير، إذ مرّ بجنازة؛ فقال لي: يا أبا السائب، جارك ابن

ص: 147


1- كذا في ج: و في سائر الأصول: «كيف».
2- يقال: وقع الطير على شجر أو أرض، إذا نزلت، فهن وقوع و وقع.

كلدة، أ لا تقوم بنا فنصلّي عليه! قال: قلت: بلى و اللّه فديتك!. فقمنا حتى إذا كنّا عند دار أويس إذ ذكرت أن جدّه كان تزوّج لبنى و نزل بها المدينة، فرجعت فطرحت نفسي في السّقيفة و قلت: لا يراني اللّه أصلّي عليه. فرجع الكثيريّ فقال: أ كنت جنبا؟ قلت: لا و اللّه. قال: فعلى غير وضوء؟ قلت: لا و اللّه. قال: فما لك؟ قلت: ذكرت أن جدّه كان تزوّج لبنى و فرّق بينها و بين قيس بن ذريح لمّا ظعن بها من بلادها، فما كنت لأصلّي عليه.

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن يحيى قال حدّثنا عبد اللّه بن شبيب قال حدّثني هارون بن موسى الفرويّ قال أخبرنا الخليل بن سعيد قال:

مررت بسوق الطّير، فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضا، فاطّلعت فإذا أبو السائب المخزوميّ قائم على غراب يباع و قد أخذ بطرف ردائه و هو يقول للغراب: يقول لك قيس بن ذريح:

ألا يا غراب البين قد طرت بالذي *** أحاذر من لبنى فهل أنت واقع

لم لا تقع! و يضربه بردائه و الغراب يصيح. قال: فقال قائل له: أصلحك اللّه يا أبا السائب! ليس هذا ذاك الغراب.

فقال: قد علمت، و لكن آخذ البريء حتى يقع الجريء(1).

آلت لبنى أ لا ترى غرابا إلاّ قتلته لبيت قاله من قصيدة، و ذكر المختار منها:
اشارة

و قال الحرمازيّ في خبره: لمّا بلغ لبنى قول قيس:

ألا يا غراب البين قد طرت بالذي *** أحاذر من لبنى فهل أنت واقع

/آلت ألاّ ترى غرابا إلاّ قتلته؛ فكانت كلّما رأته أو رأته خادم لها أو جارة ابتيع ممن هو معه و ذبحته.

و هذه القصيدة العينيّة أيضا من جيّد شعر قيس. و المختر منها قوله:

أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** و كنت كآت حتفه و هو طائع

فيا قلب صبرا و اعترافا لما ترى(2) *** و يا حبّها قع بالذي أنت واقع

و يا قلب خبّرني إذا شطّت النّوى *** بلبنى و بانت عنك ما أنت صانع

أتصبر للبين المشتّ مع الجوى *** أم أنت امرؤ ناسي الحياء(3) فجازع

كأنّك بدع(4) لم تر الناس قبلها *** و لم يطّلعك الدهر فيمن(5) يطالع

ألا يا غراب البين قد طرت بالذي *** أحاذر من لبنى فهل أنت واقع

فليس محبّ دائما لحبيبه *** و لا ثقة إلاّ له الدهر فاجع

/كأنّ بلاد اللّه ما لم تكن بها *** و إن كان فيها الناس قفر(6) بلاقع

ص: 148


1- في ج: «النطف». و النطف: المريب.
2- كذا في «الأمالي» (ج 2 ص 315 و «لسان العرب» مادة عرف). و اعترف للأمر: صبر. و في الأصول: «و اعترافا بحبها».
3- كذا في «تجريد الأغاني» و «الأمالي». و في الأصول: «الحياة» و هو تحريف.
4- البدع: الغمر من الرجال، و هو الذي لم يجرب الأمور.
5- كذا في «الأمالي». و في الأصول: «فيما».
6- كذا في «الأمالي»: و في الأصول: «وحش بلاقع».

فما أنت إذ بانت لبينى بهاجع *** إذا ما اطمأنّت بالنّيام المضاجع

صوت

أقضّي نهاري بالحديث و بالمنى *** و يجمعني و الهمّ بالليل جامع

نهاري نهار الناس حتى إذا دجا(1) *** لي الليل هزّتني إليك المضاجع

لقد رسخت في القلب منك مودّة *** كما رسخت في الراحتين الأصابع

/أحال عليّ الهمّ من كلّ جانب *** و دامت فلم تبرح عليّ الفواجع

ألا إنّما أبكي لما هو واقع *** فهل جزعي من وشك ذلك نافع

و قد كنت أبكي و النّوى مطمئنّة *** بنا و بكم من علم ما البين صانع

و أهجركم هجر البغيض و حبّكم *** على كبدي منه كلوم(2) صوادع

و أعمد للأرض التي لا أريدها *** لترجعني يوما إليك الرواجع

و أشفق من هجرانكم و تروعني *** مخافة وشك البين و الشّمل جامع

فما كلّ ما منّتك نفسك خاليا *** تلاقي و لا كلّ الهوى أنت تابع

لعمري لمن أمسى و لبنى ضجيعه *** من الناس ما اختيرت عليه المضاجع

فتلك لبينى قد تراخى مزارها *** و تلك نواها غربة ما تطاوع(3)

و ليس لأمر حاول اللّه جمعه *** مشتّ و لا ما فرّق اللّه جامع

فلا تبكين في إثر لبنى ندامة *** و قد نزعتها من يديك النوازع

غنّى الغريض في الثالث و الرابع و الأوّل و العشرين و هو «لعمري لمن أمسى و لبنى ضجيعه» ثقيلا أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و غنّى إبراهيم الموصليّ في العاشر و هو: «أقضّي نهاري بالحديث و بالمنى» و الحادي عشر و الثاني عشر رملا بالوسطى عن عمرو. و قد قيل: إن ثلاثة أبيات من هذه و هي: «أقضّي نهاري بالحديث و بالمنى» [و البيتان اللذان بعده(4)] لابن الدّمينة الخثعميّ؛ و هو الصحيح؛ و إنما أدخلها الناس من هذه الأبيات لتشابهها.

مصير قيس و لبنى و هل ماتا زوجين أو مفترقين:

و قد اختلف في آخر أمر قيس و لبنى؛ فذكر أكثر الرّواة أنهما ماتا على افتراقهما، فمنهم من قال: إنه مات قبلها و بلغها ذلك فماتت أسفا عليه. و منهم من قال: بل ماتت قبله و مات بعدها أسفا عليها، و ممن ذكر ذلك

ص: 149


1- في الأصول: «بدا».
2- كذا في «الأمالي» و في الأصول: «شئون».
3- رواية «الأمالى»: ألا تلك لبنى قد تراخى مزارها و للبين غم ما يزال ينازع
4- زيادة يقتضيها السياق. (راجع «الأغاني» ج 15 ص 154 طبع بولاق).

اليوسفيّ عن عليّ بن صالح المصلّى؛ قال قال لي أبو عمرو المدنيّ:

ماتت لبنى، فخرج قيس و معه جماعة من أهله فوقف على قبرها فقال:

ماتت لبينى فموتها موتي *** هل تنفعن حسرتي على الفوت

و سوف أبكي بكاء مكتئب *** قضى حياة وجدا على ميت

ثم أكبّ على القبر يبكي حتى أغمي عليه؛ فرفعه أهله إلى منزله و هو لا يعقل، فلم يزل عليلا لا يفيق و لا يجيب مكلّما ثلاثا حتى مات فدفن إلى جنبها.

و ذكر القحذميّ و ابن عائشة/و خالد بن جمل أن ابن أبي عتيق صار إلى الحسن و الحسين ابني عليّ بن أبي طالب و عبد اللّه بن جعفر رضي اللّه عنهم و جماعة من قريش، فقال لهم: إن لي حاجة إلى رجل أخشى أن يردّني فيها، و إني أستعين بجاهكم و أموالكم فيها عليه. قالوا: ذلك لك مبتذل منّا. فاجتمعوا ليوم وعدهم فيه، فمضى بهم إلى زوج لبنى. فلمّا رآهم أعظم مصيرهم إليه و أكبره. فقالوا: لقد جئناك بأجمعنا في حاجة لابن أبي عتيق. قال:

هي مقضيّة كائنة ما كانت. قال ابن أبي عتيق: قد قضيتها كائنة ما كانت من ملك أو مال أو أهل؟ قال نعم. قال:

تهب لهم و لي لبنى زوجتك و تطلّقها. قال: فإني أشهدكم أنها طالق ثلاثا. فاستحيا القوم و اعتذروا و قالوا: و اللّه ما عرفنا حاجته، و لو علمنا أنها هذه ما سألناك إيّاها. و قال ابن عائشة: فعوّضه الحسن من ذلك مائة ألف درهم و حملها ابن أبي عتيق إليه. فلم تزل عنده حتى انقضت عدّتها. /فسأل القوم أباها فزوّجها قيسا، فلم تزل معه حتى ماتا. قالوا: فقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:

جزى الرحمن أفضل ما يجازي *** على الإحسان خيرا من صديق

فقد جرّبت إخواني جميعا *** فما ألفيت كابن أبي عتيق

سعى في جمع شملي بعد صدع *** و رأي حدت فيه عن الطريق

و أطفأ لوعة كانت بقلبي *** أغصّتني حرارتها بريقي

قال: فقال له ابن أبي عتيق: يا حبيبي أمسك عن هذا المديح؛ فما يسمعه أحد إلاّ ظنّني قوّادا. مضى الحديث.

صوت من مدن معبد في شعر عنترة:
اشارة

و من مدن معبد و هو الذي أوّله:

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي

و قد جمع معه سائر ما يغنّى فيه من القصيدة.

منها:

صوت

هل غادر الشعراء من متردّم *** أم هل عرفت الدار(1) بعد توهم

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي *** و عمي صباحا دار عبلة و اسلمي

ص: 150


1- و يروي: «أم هل عرفت الربع» و هي الرواية التي كتب عليها المؤلف.

و تحلّ عبلة بالجواء و أهلنا *** بالحزن فالصّمّان فالمتثلّم(1)

كيف القرار(2) و قد تربّع أهلها *** بعنيزتين و أهلنا بالغيلم

حيّيت من طلل تقادم عهده *** أقوى و أقفر بعد أمّ الهيثم

/و لقد نزلت فلا تظنّي غيره *** منّي بمنزلة المحبّ المكرم

و لقد خشيت بأن أموت و لم تدر *** للحرب دائرة على ابني ضمضم

الشّاتمي عرضي و لم أشتمهما *** و النّاذرين إذا لم القهما دمي

و لقد شفى نفسي و أبرأ سقمها *** قيل الفوارس ويك عنتر فاقدم

/ما زلت أرميهم بثغرة نحره *** و لبانه حتى تسربل بالدّم

هلاّ سألت الخيل يا ابنة مالك *** إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

يخبرك من شهد الوقيعة أنّني *** أغشى الوغى و أعفّ عند المغنم

يدعون عنتر و الرّماح كأنّها *** أشطان بئر في لبان الأدهم

فشككت بالرّمح الطويل ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرّم

فإذا شربت فإنني مستهلك *** مالي، و عرضي وافر لم يكلم

و إذا صحوت فما أقصّر عن ندى *** و كما علمت شمائلي و تكرمي

الشعر لعنترة بن شدّاد العبسيّ، و قد تقدّمت أخباره و نسبه. و غنّى في البيت الأوّل، على ما ذكره ابن المكّيّ، إسحاق خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و ما وجدت هذا في رواية غيره. و غنّى معبد في البيت الثاني و الثالث خفيف ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و هو الصوت المعدود في مدن معبد. و غنّى سلاّم الغسّال في السابع و الثامن و الثالث و العاشر رملا بالسبّابة في مجرى البنصر، و وجدت في بعض الكتب أن له أيضا في السابع وجده ثاني ثقيل أيضا، و ذكر عمرو بن بانة أن هذا الثقيل الثاني بالوسطى لمعبد و وافقه يونس، و ذكر ابن المكيّ أن هذا الثقيل الثاني للهذليّ، و ذكر غيره أنه لابن محرز. و ذكر أحمد بن عبيد أنّ في السابع ثقيلا أوّل للهذليّ، و وافقه حبش. و ذكر حبش أن في الثاني لمعبد ثقيلا أوّل، و أن لابن سريج فيه رملا آخر غير رمل ابن الغسّال، و أن لابن مسجح/أيضا فيه خفيف ثقيل بالوسطى. و في كتاب أبي العبيس: له في الثالث لحن. و في كتاب أبي أيّوب المدينيّ: لابن جامع في هذه الأبيات لحن. و لمعبد في الحادي عشر و الثاني عشر و الخامس عشر و السادس عشر خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق أيضا. و لعلّويه في السادس و الرابع ثاني ثقيل، و له أيضا في الرابع عشر و الثالث عشر رمل. و في كتاب هارون بن الزّيّات لعبد آل في الخامس ثقيل أوّل؛ و قد نسب الثقيل الثاني المختلف فيه لابن محرز. و في كتاب هارون: لأحمد النّصبيّ في الرابع و الخامس لحن.

«هل غادر الشعراء» البيت، يدفع أكثر الرواة أن يكون لعنترة؛ و ممن يدفعه الأصمعيّ و ابن الأعرابيّ. و أوّل

ص: 151


1- الصمان: موضع، و يقال: هو جبل. و قال أبو جعفر: الجواء بنجد، و الحزن لبني يربوع، و الصمان لبني تميم. و المتثلم: مكان. (انظر «شرح القصائد العشر» للتبريزي).
2- في «المعلقات»: «كيف المزار».

القصيدة عندهما «يا دار عبلة». فذكر أبو عمرو الشّيبانيّ أنه لم يكن يرويه حتى سمع أبا حزام العكليّ يرويه له.

قوله: «هل غادر الشعراء من متردّم» يقول: هل تركوا شيئا ينظر فيه لم ينظروا فيه؟. و المتردّم: المتعطّف، و هو مصدر. يقول: هل تركوا شيئا يتردّم عليه أي يتعطّف؛ و يقال: تردّمت الناقة على ولدها إذا تعطّفت عليه، و ثوب مردّم و ملدّم إذا سدّت خروقه بالرّقاع. و الرّبع: المنزل، سمّي ربعا لارتباعهم فيه؛ و الرّبيعة: الصخرة. حكى أبو نصر أنه يقول: هل ترك الشعراء من خرق لم يرقعوه و فتق لم يرتقوه! و هو أشبه بقوله من متردّم. و قال غيره:

يعني بقوله من متردّم البناء و هو الرّدم، أي لم يتركوا بناء إلاّ بنوه؛ قال اللّه عز و جل: أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً يعني بناء؛ و ردم فلان حائطه أي بناه. /و الجواء: بلد بعينه؛ و الجواء أيضا: جمع جوّ و هو البطن الواسع من الأرض. عمي صباحا، و انعمي صباحا: تحيّة. تربّع أهلها: نزلوا في الرّبيع. و عنيزتين: أكمة سوداء بين البصرة و مكة. و الغيلم: موضع. و الطّلل: ما كان/له شخص من الدار مثل أثفيّة(1) أو وتد أو نؤي، و تقول العرب: حيّا اللّه طللك، أي شخصك. و ابنا ضمضم: حصين و هرم المرّيّان. و ثغرة نحره: موضع لبّته. و اللّبان: مجرى لببه من صدره و هو الصدر نفسه. و يروى «بغرّة وجهه». و تسربل، أي صار له سربال من الدم. و قوله: «هلاّ سألت الخيل» يريد فرسان الخيل؛ كما قال اللّه تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ . و الوقيعة: الوقعة. و الوغى و الوحى: أصوات الناس و جلبتهم في الحرب؛ و قال الشاعر:

و ليل كساج(2) الحميريّ ادّرعته *** كأنّ وغى حافاته لغط العجم

و الأشطان: الحبال، واحدها شطن. شبّه اختلاف الرّماح في صدر فرسه بالأشطان. و شككت بالرمح: نظمت.

و قال أبو عمرو: يعني بثيابه قلبه. و العرض: موضع المدح و الذّمّ من الرجل؛ يقال: طيّب العرض أي طيّب ريح الجسم. و الكلوم: الجراح. و الوافر: التامّ. و شمائلي: أخلاقي، واحدها شمال. يقال: فلان حلو الشّمائل و النّحائت و الضّرائب و الغرائز.

عنترة يقول معلقته لأن رجلا سبه و عيره سواده:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ قال قال أبو عمرو الشّيبانيّ:

قال عنترة هذه القصيدة لأن رجلا من بني عبس سابّه فذكر سواده و سواد أمّه و إخوته و عيّره ذلك. فقال عنترة:

و اللّه إن الناس ليترافدون(3) بالطّعمة، فو اللّه ما حضرت مرفد الناس أنت و لا أبوك و لا جدّك قطّ. و إنّ الناس ليدعون في الفزع فما رأيتك في خيل قطّ، و لا كنت في أوّل النساء. و إن اللّبس (يعني الاختلاط) ليكون بيننا فما حضرت أنت و لا أحد من أهل بيتك لخطّة فيصل قطّ، /و كنت فقعا بقرقرة(4). و لو كنت في مرتبتك و مغرسك الذي أنت فيه ثم ما جدتك لمجدتك، أو طاولتك لطلتك. و لو سألت أمّك و أباك عن هذا لأخبراك بصحته. و إنّي لأحتضر الوغى،

ص: 152


1- الأثفية: الحجر توضع عليه القدر.
2- الساج: الطيلسان الأسود.
3- يترافدون: يتعاونون.
4- و يقال أيضا فقع قرقرة. و هو مثل يضرب للضعيف الذليل الذي لا يمتنع على من يضيمه. و الفقع: هجين الكمأة، و هو أبيض ضخم سريع الفساد قليل الصبر عن الحيا لا يمتنع على من اجتناه، و قيل: لأنه يداس دائما بالأرجل، و قيل: لأنه لا أصل له و لا أغصان. و القرقرة و القرقر: الأرض المستوية السهلة. (انظر ما يعول عليه في المضاف و المضاف إليه).

و أوفّى المغنم، و أعفّ عن المسألة، و أجود بما ملكت، و أفصل الخطّة الصّمعاء(1). فقال له الآخر: أنا أشعر منك.

فقال: ستعلم!. و كان عنترة لا يقول من الشّعر إلاّ البيت أو البيتين في الحرب فقال هذه القصيدة. و يزعمون أنها أوّل قصيدة قالها. و كانت العرب تسمّيها المذهّبة.

بقية مدن معبد:
نسبة الأصوات التي جعلت مكان بعض هذه الأصوات في مدن معبد، و هنّ:
اشارة

<صوت من مدنه في شعر كثير عزة:>

صوت

تقطّع من ظلاّمة الوصل أجمع *** أخيرا على أن لم يكن يتقطّع

و أصبحت قد ودّعت ظلاّمة التي *** تضرّ و ما كانت مع الضّرّ تنفع

الشعر لكثيّر. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و يونس.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني سليمان بن عيّاش السّعديّ قال قال السائب راوية كثيّر، و أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال زعم/ابن الكلبيّ عن أبي المقوّم قال حدّثني سائب راوية كثيّر قال:

كنت مع كثيّر عند ظلاّمة فأقمنا أيّاما. فلما أردنا الانصراف عقدت له في علاقة سوطه عقدا و قالت: احفظها.

ثم انصرفنا فمررنا على ماء لبنى ضمرة، /فقال: إن في هذه الأخبية جارية ظريفة ذات جمال، فهل لك أن تستبرزها؟ فقلت: ذاك إليك. قال: فملنا إليهم فخرجت إلينا جاريتها فأخرجتها إلينا، فإذا هي عزّة، فجلس معها يحادثها، و طرح سوطه بينه و بينها إلى أن غلبته عيناه. و أقبلت عزّة على تلك العقد تحلّها واحدة واحدة. فلما استيقظ انصرفنا. فنظر إلى علاقة سوطه فقال: أحلّتها؟ قلت: نعم! فلا وصلها اللّه! و اللّه إنك لمجنون. قال:

فسكت عنّي طويلا ثم رفع السّوط فضرب به واسطة رحله و أنشأ يقول:

تقطّع من ظلاّمة الوصل أجمع *** أخيرا على أن لم يكن يتقطّع

و أصبحت قد ودّعت ظلاّمة التي *** تضرّ و ما كانت مع الضّرّ تنفع

و قد سدّ من أبواب ظلاّمة التي *** لنا خلف للنّفس منها و مقنع

ثم وصل عزّة بعد ذلك و قطع ظلاّمة.

و منها:

و هو الذي أوّله:

«خمصانة قلق موشّحها»

.

ص: 153


1- الصمعاء: الحازمة.
صوت من مدنه في شعر الحارث بن خالد:
صوت

أقوى من آل ظليمة الحزم *** فالغمرتان فأوحش الخطم(1)

فجنوب أثبرة فملحدها *** فالسّدرتان فما حوى دسم(2)

و بما أرى شخصا به حسنا *** في القوم إذ حيّتكم نعم

إذ ودّها صاف و رؤيتها *** أمنيّة و كلامها غنم

/لفّاء(3) مملوء مخلخلها *** عجزاء ليس لعظمها حجم

خمصانة قلق موشّحها *** رؤد الشباب علا بها عظم

و كأنّ غالية(4) تباشرها *** تحت الثياب إذا صغا(5) النّجم

أ ظليم إنّ مصابكم رجلا *** أهدى السلام تحية ظلم

أقصيته و أراد سلمكم *** فليهنه إذ جاءك السّلم

عروضه من الكامل. الشعر للحارث بن خالد المخزوميّ. و الغناء لمعبد، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر. قال: و لحن معبد(6):

خمصانة قلق موشّحها

و أوّل لحن(7) مالك:

أقوى من آل ظليمة الحزم

ص: 154


1- أقوى: خلا. و الحزم: موضع أمام خطم الحجول. و الغمرة: منهل من مناهل طريق مكة و منزل من منازلها.
2- » أثبرة: عدة جبال بمكة، واحدها ثبير. و السدرتان: موضع. و دسم: موضع قرب مكة فيه قبر ابن سريج المغني.
3- كذا في ج. و في سائر الأصول: «هيفا». و لفاء: ضخمة الفخذين مكتنزة.
4- الغالية: ضرب من الطيب.
5- صغا النجم: مال للغروب.
6- لعله: «و أوّل لحن معبد».
7- يلاحظ أنه لم يتقدم لمالك لحن في هذا الشعر.

10 - ذكر الحارث بن خالد و نسبه و خبره في هذا الشعر

اشارة

الحارث بن خالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم؛ و قد تقدّم ذكره و أخباره في كتاب المائة المختارة في بعض الأغاني المختارة التي شعرها له و هو:

إنّ امرأ تعتاده ذكر

تزوّج حميدة بنت النعمان بن بشير ثم طلقها:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

بلغني/أن الحارث بن خالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة - و يقال: بل خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة - كان تزوّج حميدة بنت النّعمان بن بشير بدمشق لمّا قدم على عبد الملك بن مروان. فقالت فيه:

نكحت المدينيّ إذ جاءني *** فيا لك من نكحة غاويه

كهول دمشق و شبّانها *** أحبّ إلينا من الجالية

صنان لهم كصنان التّيو *** س أعيا على المسك و الغاليه

فقال الحارث يجيبها:

صوت

أسنا ضوء نار ضمرة بالقف *** رة أبصرت أم سنا ضوء برق

قاطنات الحجون أشهى إلى قل *** بي من ساكنات دور دمشق

يتضوّعن لو تضمّخن بالمس *** ك صنانا كأنّه ريح مرق(1)

غنّاه مالك بن أبي السّمح خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر من رواية إسحاق. و فيه لابن محرز(2) لحن من رواية عمرو بن بانة ثقيل أوّل بالوسطى.

ص: 155


1- المرق (بالفتح): صوف العجاف و المرضى و هو منتن، أو هو الجلد المنتن.
2- في ج: لابن مسجع».
رجعت الرواية إلى خبر الحارث

قال: و طلّقها الحارث؛ فخلف عليها روح بن زنباع. قال: و كان الحارث خطب أمة لمالك بن عبد اللّه بن خالد، بن أسيد، و خطبها عبد اللّه بن مطيع. فتزوّجها عبد اللّه ثم طلّقها أو مات عنها، فتزوّجها الحارث بن خالد بعد ذلك و قال فيها قبل أن يتزوّج:

أقوى من آل ظليمة الحزم *** فالغمرتان فأوحش الخطم

الأبيات التي فيها الغناء.

قال و أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا محمد بن الحكم عن عوانة بهذا الخبر فذكر مثله، و لم يذكر أنّ الحارث هو المتزوّجها، و فسّر قولها:

أحبّ إلينا من الجالية

و قال: الجالية أهل الحجاز، كان أهل الشام يسمّونهم بذلك لأنهم كانوا يجلون عن بلادهم إلى الشام. و قال في الحديث: فبلغ عبد الملك قولها فقال: لو لا أنها قدّمت الكهول على الشبّان لعاقبتها.

قتل مصعب أختها عمرة بعد قتل زوجها المختار:

قال عوانة: و كانت لحميدة أخت يقال لها عمرة، و كانت تحت المختار بن أبي عبيد الثّقفيّ، فأخذها مصعب بعد قتله المختار و أخذ امرأته الأخرى و هي بنت سمرة بن جندب، فأمرهما بالبراءة من المختار. أمّا بنت سمرة فبرئت منه، و أبت ذلك عمرة. فكتب به مصعب إلى أخيه عبد اللّه. فكتب إليه: إن أبت أن تبرأ منه فاقتلها.

فأبت فحفر لها حفيرة و أقيمت فيها فقتلت. فقال عمر بن أبي ربيعة في ذلك:

/

إنّ من أعجب العجائب عندي *** قتل بيضاء حرّة عطبول(1)

قتلت حرّة على غير جرم *** إنّ للّه درّها من قتيل

كتب القتل و القتال علينا *** و على الغانيات جرّ الذيول

رجع الحديث إلى رواية عمر بن شبّه

/قال أبو زيد و حدّثني ابن عائشة عن أبيه بهذا الخبر و نحوه، و زاد فيه أن الحارث لمّا تزوّجها قالت فيه:

نكحت المدينيّ إذ جاءني *** فيا لك من نكحة غاويه

تهاجي حميدة مع زوجها روح بن زنباع:

و ذكر الأبيات المتقدّمة. و قال عمر بن شبّة فيه: و تزوّجها روح بن زنباع؛ فنظر إليها يوما تنظر إلى قومه جذام، و قد اجتمعوا عنده فلامها. فقالت: و هل أرى إلاّ جذام! فو اللّه ما أحبّ الحلال منهم فكيف بالحرام!.

و قالت تهجوه:

ص: 156


1- العطبول: المرأة الفتية الجميلة الممتلئة الطويلة العنق.

بكى الخزّ من روح و أنكر جلده *** و عجّت عجيجا من جذام المطارف

و قال العبا قد كنت حينا لباسكم *** و أكسية كرديّة و قطائف

فقال روح:

إن تبك منّا تبك ممن يهينها *** و إن تهوكم تهو اللّئام المقارفا(1)

و قال روح:

أثني(2) عليّ بما علمت فإنّني *** مثن عليك لبئس حشو المنطق(3)

فقالت:

أثني عليك بأنّ باعك ضيّق *** و بأن أصلك في جذام ملصق

/فقال روح:

أثني عليّ بما علمت فإنّني *** مثن عليك بمثل ريح الجورب

فقالت:

فثناؤنا شرّ الثّناء عليكم *** أسوا و أنتن من سلاح الثّعلب

و قالت:

و هل أنا إلاّ مهرة عربيّة *** سليلة أفراس تجلّلها بغل

فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى *** و إن يك إقراف(4) فما أنجب الفحل

فقال روح:

فما بال مهر رائع عرضت له *** أتان فبالت عند جحفلة(5) البغل

إذا هو ولّى جانبا ربخت(6) له *** كما ربخت قمراء(7) في دمس سهل

و قالت عمرة لأخيها أبان بن النّعمان:

أطال(8) اللّه شأوك من غلام *** متى كانت مناكحنا جذام

أ ترضى بالأكارع(9) و الذّنابى *** و قد كنّا يقرّ بنا السّنام

ص: 157


1- المقارف: الأنذال. و يروى: «و ما صانها إلاّ اللئام المقارف».
2- الثناء: ما تصف به الإنسان من مدح أو ذم، و خص بعضهم به المدح.
3- المنطق و النطاق (وزان منبر و كتاب): شبه إزار فيه تكة كانت المرأة تنتطق به. و في حديث أم إسماعيل: أوّل ما اتخذ النساء المنطق.
4- المقرف: الذي أمه عربية و أبوه ليس كذلك، ضد الهجين و المقرف أيضا: النذل. و عليه وجه هذا البيت.
5- الجحفلة: لذي الحافر كالشفة للإنسان.
6- ربخت: استرخت.
7- القمراء: البيضاء.
8- ستأتي فيه رواية أخرى (ج 14 ص 129 طبع بولاق): «أضل اللّه حلمك من غلام».
9- في الأصول هنا: «بالفواسق و الذنابي». و التصويب عن الموضع المذكور.

و قال ابن عمّ لروح:

رضي الأشياخ بالفطيون(1) فحلا *** و ترغب للحماقة عن جذام

/يهوديّ له بضع العذارى *** فقبحا للكهول و للغلام

تزفّ إليه قبل الزوج خود *** كأن شمسا تدلّت من غمام

فأبقى ذلكم عارا و خزيا *** بقاء الوحي(2) في صمّ السّلام

يهود جمّعوا من كلّ أوب *** و ليسوا بالغطاريف الكرام

و قالت:

سمّيت روحا و أنت الغمّ قد علموا *** لا روّح اللّه عن روح بن زنباع

فقال روح:

لا روّح اللّه عمّن ليس يمنعنا *** مال رغيب و بعل غير ممناع

كشافع(3) جونة ثجل مخاصرها *** دبّابة شثنة الكفّين جبّاع

قال: و الجبّاع: القصيرة. و الجبّاع من السهام: الذي لا نصل له. و الجبّاع: الرّصف(4). و قالت:

/

تكحّل عينيك برد العشيّ *** كأنّك مومسة زانيه

و آية ذلك بعد الخفوق *** تغلّف رأسك بالغاليه

و أنّ بنيك لريب الزما *** ن أمست رقابهم حاليه

فلو كان أوس لهم حاضرا *** لقال لهم إنّ ذا ماليه

و أوس رجل من جذام يقال: إنه استودع روحا مالا فلم يردّه عليه. فقال لها روح:

إن يكن الخلع من بالكم *** فليس الخلاعة من باليه

/و إن كان من قد مضى مثلكم *** فأفّ و تفّ على الماضية

و ما إن برا اللّه فاستيقني *** ه من ذات بعل و من جاريه

شبيها بك اليوم فيمن بقي *** و لا كان في الأعصر الخاليه

ص: 158


1- كذا في «نسخة الشنقيطي» مصححة بقلمه. و الفطيون (بكسر الفاء و سكون الطاء): رجل من اليهود سيئ فاجر كانت اليهود تدين له إلى أن كانت لا تتزوّج امرأة منهم حتى تدخل عليه قبل دخولها على زوجها، و يقال إنه كان يفعل ذلك بنساء الأوس و الخزرج. حتى كان زفاف أخت لمالك بن العجلان فأثارت في أخيها عوامل الحمية و الغيرة فقتله. (راجع الجزء الثالث من هذه الطبعة ص 40 الحاشية رقم 3). و في «الأصل» هنا: «القيطون» و هو تحريف.
2- الوحي: الكتابة. و السلام: الحجارة.
3- الشافع من النوق و الشاء: التي في بطنها ولد و يتبعها آخر. و جونة: سوداء. و ثجل: جمع أثجل أو ثجلاء. و الثجل: عظم البطن وسعته. و شثنة الكفين: غليظتهما.
4- الرصف: جمع رصفة و هي العقبة (و العقب: العصب الذي تعمل منه الأوتار) تلوي فوق الرعظ (و رعظ السهم: مدخل سنخ السهم في النصل).

فبعدا لمحياك إذ ما حييت *** و بعدا لأعظمك البالية

تزوّجها بعده الفيض بن محمد بن الحكم:

و قال روح في بعض ما يتنازعان فيه: اللّهمّ إن بقيت بعدي فابتلها ببعل يلطم وجهها و يملأ حجرها قيئا:

فتزوّجها بعده الفيض بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل و كان شابا جميلا يصيب من الشّراب فأحبّته. فكان ربّما أصاب من الشّراب مسكرا فيلطم وجهها و يقيء في حجرها؛ فتقول: يرحم اللّه أبا زرعة! قد أجيبت دعوته فيّ.

و قالت لفيض:

سمّيت فيضا و ما شيء تفيض به *** إلاّ سلاحك بين الباب و الدار

فتلك دعوة روح الخير أعرفها *** سقى الإله صداه الأوطف(1) السّاري

و قالت لفيض أيضا:

ألا يا فيض كنت أراك فيضا *** فلا فيضا أصبت و لا فراتا

و قالت:

و ليس فيض بفيّاض العطاء لنا *** لكنّ فيضا لنا بالقيء فيّاض

ليث اللّيوث علينا باسل شرس *** و في الحروب هيوب الصدر جيّاض(2)

تزوّج ابنتها من الفيض الحجاج بن يوسف:

فولدت من الفيض ابنة فتزوّجها الحجّاج بن يوسف؛ و قد كانت قبلها عند الحجّاج أمّ أبان بنت النّعمان بن بشير. فقالت حميدة للحجّاج:

إذا تذكّرت نكاح الحجّاج *** من النّهار أو من اللّيل الداج

فاضت له العين بدمع ثجّاج *** و أشعل القلب بوجد وهّاج

/لو كان نعمان قتيل الأعلاج(3) *** مستوي الشّخص صحيح الأوداج

لكنت منها بمكان النّسّاج *** قد كنت أرجو بعض ما يرجو الرّاج

أن تنكحيه ملكا أو ذا تاج

فقدمت حميدة على ابنتها زائرة. فقال لها الحجّاج: يا حميدة، إنّي كنت أحتمل مزاحك مرّة(4)، و أمّا اليوم فإني بالعراق و هم قوم سوء فإيّاك!. فقالت: سأكفّ حتى أرحل.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا سليمان بن أيوب قال حدّثنا المدائنيّ عن مسلمة بن محارب قال:

قالت حميدة بنت النّعمان لزوجها روح بن زنباع، و كان أسود ضخما: /كيف تسود و فيك ثلاث خصال:

ص: 159


1- الأوطف من السحاب: الداني من الأرض.
2- الجياض: الروّاغ.
3- في ج: «قتيل الإدلاج».
4- لعله: «مدة».

أنت من جذام، و أنت جبان، و أنت غيور. فقال: أمّا جذام فأنا في أرومتها(1)، و بحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه. و أما الجبن فإنما لي نفس واحدة، و لو كان لي نفسان لجدت بإحداهما. و أمّا الغيرة فهو أمر لا أحبّ أن أشارك فيه، و إن المرء لحقيق بالغيرة على المرأة مثلك الحمقاء الورهاء لا يأمن أن تأتي بولد من غيره فتقذفه في حجره. ثم ذكر باقي خبرها مثل ما تقدّم، و قال فيه: فخلف بعده عليها الفيض بن محمد عمّ يوسف بن عمر، فكان يشرب و يلطمها و يقيء في حجرها، فقالت:

سمّيت فيضا و ما شيء تفيض به *** إلاّ سلاحك بين الباب و الدار

قال المدائنيّ: و تمثّل فيض يوما بهذا البيت:

إن كنت ساقية يوما على كرم *** صفو المدامة فاسقيها بني قطن

ثم تحرّك فضرط. فقالت: واسق هذه أيضا بني قطن!.

أبو عثمان المازني و الواثق:

و هذا الصوت أعني:

أقوى من آل ظليمة الحزم

هو الصوت الذي أشخص الواثق له أبا عثمان المازنيّ بسبب بيت منه اختلف في إعرابه بحضرته، و هو قوله:

أ ظليم إنّ مصابكم رجلا *** أهدى السّلام تحيّة ظلم

و قال آخرون: «رجل». حدّثني بذلك عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي العباس محمد بن يزيد عن أبي عثمان، و أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا القاسم بن إسماعيل و عون بن محمد و عبد الواحد بن العبّاس بن عبد الواحد و الطيّب بن محمد الباهليّ، يزيد بعضهم على بعض، قالوا حدّثنا أبو عثمان المازنيّ قال:

كان سبب طلب الواثق لي أنّ مخارقا غنّى في مجلسه:

أ ظليم إنّ مصابكم رجلا *** أهدى السّلام تحيّة ظلم

فغنّاه مخارق «رجل» فتابعه بعض القوم و خالفه آخرون. فسأل الواثق عمّن بقي من رؤساء النحويين فذكرت له، فأمر بحملي. فلما وصلت إليه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن. قال: أ من مازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة أم مازن اليمن؟ قلت: من مازن ربيعة. فقال لي با اسمك؟ (يريد ما اسمك و هي لغة كثيرة في قومنا) فقلت على القياس: مكر (أي بكر). فضحك فقال(2): اجلس و اطبئنّ (يريد: و اطمئنّ) فجلست. فسألني عن البيت.

فقلت: «إن مصابكم رجلا» فقال: أين خبر «إن»؟ قلت: «ظلم» و هو الحرف الذي في آخر البيت. و قال الأخفش في خبره: و قلت له: إن معنى «مصابكم» إصابتكم، مثل ما تقول: /إنّ قتلكم رجلا حيّاكم ظلم. ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إن البيت كله معلّق لا معنى له حتى يتمّ بقوله «ظلم». ألاّ ترى أنه لو قال: أ ظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية، لما احتيج إلى «ظلم» و لا كان له معنى، إلاّ أن يجعل التحية بالسلام ظلما، و ذلك محال، و يجب حينئذ أن يقول:

ص: 160


1- الأرومة (بالفتح و تضم): الأصل.
2- لعله: «و قال».

أ ظليم إن مصابكم رجل *** أهدى السّلام تحيّة ظلما

و لا معنى لذلك، و لا هو، لم كان له وجه، معنى قول الشاعر في شعره. فقال: صدقت، أ لك ولد؟ قلت: بنيّة لا غير. قال: فما قالت حين ودّعتها؟ قال قلت: أنشدت شعر الأعشى:

تقول ابنتي حين جدّ الرّحيل *** أرانا سواء و من قد يتم

/أبانا فلا رمت من عندنا *** فإنّا بخير إذا لم ترم

أرانا إذا أضمرتك البلا *** د نجفى و تقطع منّا الرّحم

قال: فما قلت لها؟ قال: قلت لها قول جرير:

ثقي باللّه ليس له شريك *** و من عند الخليفة بالنّجاح

فقال: ثق بالنجاح إن شاء اللّه تعالى. إنّ هاهنا قوما يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان منهم عالما ينتفع به ألزمناهم إيّاه، و من كان بغير هذه الصورة قطعناه عنهم. فأمر فجمعوا إليّ فامتحنتهم فما وجدت فيهم طائلا؛ و حذروا ناحيتي، فقلت: لا بأس على أحد. فلمّا رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ قلت: يفضل بعضهم بعضا في علوم، و يفضل الباقون في غيرها، و كلّ يحتاج إليه. فقال لي الواثق: إنى خاطبت منهم واحدا فكان في نهاية من الجهل في خطابه و نظره. فقلت: يا أمير المؤمنين، أكثر من تقدّم منهم بهذه الصفة؛ و لقد أنشدت فيهم:

/

إنّ المعلّم لا يزال مضعّفا *** و لو ابتنى فوق السماء بناء

من علّم الصبيان أضنوا عقله *** مما يرقي غدوة و مساء

مضى الحديث:

صوت من مدن معبد في شعر الأعشى:
اشارة

و منها:

صوت

يوم تبدي لنا قتيلة عن جي *** د أسيل تزينه الأطواق

و شتيت كالأقحوان جلاه الطّلّ فيه عذوبة و اتّساق الشعر للأعشى. و الغناء لمعبد. و ذكر إسحاق أن لحنه خفيف ثقيل من أصوات قليلات الأشباه، و ذكر عمرو بن بانة أنّ لحنه من الثقيل الأوّل بالبنصر. و لإسحاق لحن من الثقيل أيضا و هو مما عارض فيه معبدا فانتصف منه، و من أوائل أغانيه و صدورها.

أخبرنا إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق قال ذكر الحسن بن عتبة اللّهبيّ المعروف بفورك قال:

قتيلات معبد:

قال لي الوليد بن يزيد: أريد الحجّ، فما يمنعني منه إلاّ أن يلقاني أهل المدينة بقتيلات معبد و بقصره و نخله

ص: 161

فأفتضح به طربا. يعني ثلاثة أصوات لمعبد من شعر الأعشى في قتيلة هذه، و نسبتها تأتي بعد. و يعني بقصره و نخله لحنه:

القصر فالنخل فالجمّاء بينهما

قال أبو زيد قال إسحاق و حدّثني عبد الملك بن هلال: و بلغني أن فتنة من قريش دخلوا إلى قينة و معهم روح بن حاتم المهلّبيّ، فتماروا فيما يختارونه من الغناء. فقالت لهم: أغنّي لكم صوتا يزيل الاختلاف و يوقع بينكم الاجتماع، فرضوا بها. فغنّت:

/

يوم تبدي لنا قتيلة عن جي *** د أسيل تزينه الأطواق

فرضوا به و اتّفقوا على أنه أحسن صوت يعرفونه، و أقاموا عندها أسبوعا لا يسمعونه غيره.

نسبة أصوات معبد في قتيلة
الصوتان الباقيان من قتيلات معبد في شعر الأعشى:
اشارة

منها:

أثوى و قصّر ليلة ليزوّدا *** فمضى و أخلف من قتيلة موعدا

يجحدن ديني بالنّهار و أقتضي *** ديني إذا وقذ(1) النّعاس الرّقّدا

/و أرى الغواني لا يواصلن امرأ *** فقد الشّباب و قد يصلن الأمردا

الشعر للأعشى. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالوسطى.

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أبو شراعة في مجلس الرّياشيّ قال:

حدّثت أنّ رجلا نظر إلى الأعشى يدور بين البيوت ليلا؛ فقال له: يا أبا بصير، إلى أين في هذا الوقت؟ فقال:

يجحدن ديني بالنّهار و أقتضي *** ديني إذا وقذ النّعاس الرّقّدا

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدّثنا أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال حدّثني أبي قال:

غنّيت بين يدي الرشيد و ستارته منصوبة:

و أرى الغواني لا يواصلن امرأ *** فقد الشباب و قد يصلن الأمردا

/فطرب و استعاده و أمر لي بمال. فلما أردت أن أنصرف قال لي: يا عاضّ كذا و كذا! أ تغنّي بهذا الصوت و جواريّ من وراء ستارة يسمعنه! لو لا حرمتك لضربت عنقك!. فتركته و اللّه حتى أنسيته.

و منها:

صوت

ألمّ خيال من قتيلة بعد ما *** و هى حبلها من حبلنا فتصرّما

ص: 162


1- وقذه النعاس: غلبه.

فبتّ كأنّي شارب بعد هجعة *** سخاميّة(1) حمراء تحسب عند ما

الشعر للأعشى. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو. و فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عنه و عن ابن المكيّ.

سبعة ابن سريج:

فأمّا السبعة التي جعلت لابن سريج بإزار سبعة معبد فإني قرأت خبرها في كتاب محمد بن الحسن، قال حدّثني الحسين بن أحمد الأكثميّ عن أبيه قال:

ذكرنا عند إسحاق يوما أصوات معبد السبعة فقال: و اللّه ما سبعة ابن سريج بدونهنّ. فقلنا له: و أيّ سبعة؟ فقال: إن مغنّي المكّيين لمّا سمعوا بسبعة معبد و شهرتها لحقتهم لذلك غيرة، فاجتمعوا فاختاروا من غناء ابن سريج سبعة فجعلوها بإزاء سبعة معبد، ثم خايروا(2) أهل المدينة فانتصفوا منهم. فسألوا إسحاق عن السبعة السّريجيّة؛ فقال: منها.

تشكّى الكميت الجري لما جهدته

و قد مضت نسبته في الثلاثة الأصوات المختارة.

و

لقد حبّبت نعم إلينا بوجهها

قرّب جيراننا جمالهم

و

أرقت و ما هذا السّهاد المؤرّق

و قد مضى في أخبار الأعشى المذكورة في مدن معبد - و

بينا كذاك إذا عجاجة موكب

و

فلم أر كالتّجمير منظر ناظر

- و قد مضى في الأرمال المختارة - و

تضوّع مسكا بطن نعمان إن مشت

- و قد ذكر في المائة مع غيره في شعر النّميريّ - و

إن جاء فليأت على بغلة

ص: 163


1- خمر سخام و سخامية: لينة سلسة.
2- أي غالبوهم، يقال: خايره في العلم و خيره مخايرة فخاره، أي غالبه فغلبه و كان خيرا منه.
نسبة ما لم تمض نسبته من هذه الأصوات إذ كان بعضها قد مضى متقدّما
الكلام على ما لم يمض الكلام عليه من هذه السبقة:
اشارة

فمنها:

صوت

/

لقد حبّبت نعم إلينا بوجهها *** مساكن ما بين الوتائر(1) فالنّقع

و من أجل ذات الخال أعملت ناقتي *** أكلّفها سير الكلال مع الظّلع

عروضه من الطويل. و الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر. و ذات الخال التي عناها هاهنا عمر امرأة من ولد أبي سفيان بن حرب، كان عمر يكني عنها بذلك.

عمر بن أبي ربيعة و ذات الخال:
اشارة

حدّثني عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عن الزّبيريّ و المسيّبيّ و محمد بن سلاّم و المدائنيّ، و أخبرنا به الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي و لم يتجاوزه:

/أن عمر بن أبي ربيعة و ابن أبي عتيق كانا جالسين بفناء الكعبة، إذ مرّت بهما امرأة من آل أبي سفيان، فدعا عمر بكتف(2) فكتب إليها و كنى عن اسمها:

صوت

ألمّا بذات الخال فاستطلعا لنا *** على العهد باق ودّها أم تصرّما

و قولا لها إنّ النّوى أجنبيّة *** بنا و بكم قد خفت أن تتيمّما

- غنّاه ابن سريج خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق - قال فقال له ابن أبي عتيق: سبحان اللّه! ما تريد إلى امرأة مسلمة محرمة أن تكتب إليها مثل هذا! قال: فكيف بما قد سيّرته في الناس من قولي:

لقد حبّبت نعم إلينا بوجهها *** مساكن ما بين الوتائر و النّقع

و من أجل ذات الخال أعملت ناقتي *** أكلّفها سير الكلال مع الظّلع

و من أجل ذات الخال يوم لقيتها *** بمندفع الأخباب(3) أخضلني دمعي

و من أجل ذات الخال آلف منزلا *** أحلّ به لا ذا صديق و لا زرع

و من أجل ذات الخال عدت كأنني *** مخامر سقم داخل أو أخو ربع(4)

ص: 164


1- الوتيرة: ماء بأسفل مكة لخزاعة. و النقع: موضع قرب مكة في جنبات الطائف.
2- في ب، س: «بكاتب» و هو تحريف.
3- موضع قرب مكة. و في الأصول: «الأجناب» بالجيم و النون و هو تصحيف.
4- الربع: النعش، و يكنى به عن الموت.

ألمّا بذات الخال إن مقامها *** لدى الباب زاد القلب صدعا على صدع

و أخرى لدى البيت العتيق نظرتها *** إليها تمشّت في عظامي و في سمعي

و قال الحرميّ في خبره: أما ترى ما سار لي من الشعر! ما علم اللّه أنّي اطّلعت حراما قطّ! ثم انصرفنا. فلما كان من الغد التقينا. فقال عمر: أشعرت أنّ ذلك الإنسان قد ردّ الجواب؟ قال: و ما كان من ردّه؟ قال: كتب.

صوت

أمسى قريضك بالهوى نمّاما *** فاربع هديت و كن له كتّاما

و اعلم بأن الخال حين وصفته *** قعد العدوّ به عليك و قاما

لا تحسبنّ الكاشحين عدمتهم *** عما يسوؤك غافلين نياما

لا تمكننّ من الدّفينة كاشحا *** يتلو بها حفظا عليك إماما

غنّى فيه سليم خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. قال: و فيه لفريدة و إبراهيم لحنان.

و في بعض النسخ: لإسحاق فيه ثقيل أوّل غير منسوب. و ذكر حبش أن خفيف الرّمل لفريدة.

/أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرنا أبو أيّوب المدينيّ عن محمد بن سلاّم، قال و أخبرني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم قال:

سألت عمر بن خليفة العبديّ - و كان عابدا و كان يعجبه الغناء - أيّ القوم كان أحسن غناء؟ قال: ابن سريج إذا تمعبد - يريد: إذا غنّى في مذهب معبد من الثقيل - قلت: مثل ما ذا؟ قال: مثل صوته(1)

صوت

لقد حبّبت نعم إلينا بوجهها *** مساكن ما بين الوتائر فالنّقع

و قال حمّاد بن إسحاق حدّثني أبي قال حدّثني أبو محمد العامريّ قال:

جلس معبد و الأبجر و جماعة من المغنّين فتذاكروا ابن سريج و ما اشتهاه الناس من غنائه، فقالوا: ما هو إلاّ من غناء الزّفّاف و المخنّثين. فنمي الحديث إلى ابن سريج فغنّى:

لقد حبّبت نعم إلينا بوجهها

/فلمّا جاء معبد و أصحابه و اجتمعوا غنّاهم إيّاه. فلمّا سمعوه قاموا هاربين، و جعل ابن سريج يصفّق خلفهم و يقول: إلى أين؟! إنما هو ابن ليلته فكيف لو اختمر!. قال فقال معبد: دعوه مع طرائقه الأول و لا تهيجوه على طرائقكم، و إلاّ لم يدع لكم و اللّه خبزا تأكلونه.

قال الزّبير في خبره عن عمّه: و علق نعما هذه فقال فيها شعرا كثيرا. و نحن نذكرها هاهنا ما فيه غناء من ذلك.

فمنه قوله:

ص: 165


1- كذا في أ، م و في سائر الأصول: «قوله».
صوت

خطرت لذات الخال ذكرى بعد ما *** سلك المطيّ بنا على الأنصاب(1)

أنصاب عمرة و المطيّ كأنّها *** قطع القطا صدرت عن الأحباب(2)

فانهلّ دمعي في الرّداء صبابة *** فسترته بالبرد عن أصحابي

فرأى سوابق دمعة مسكوبة *** بكر فقال بكى أبو الخطّاب

عروضه من الكامل. «بكر» الذي ذكره هاهنا عمر هو ابن أبي عتيق و هو يسمّيه في شعره ببكر و بعتيق، و إياه يعني بقوله:

لا تلمني عتيق حسبي الذي بي *** إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني

الغناء في «خطرت لذات الخال» للغريض، و لحنه ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه ثقيلا أوّل بالبنصر لأبي سعيد مولى فائد.

و أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثني عمّي:

أنّ عمر بن أبي ربيعة وافقها و هي تستلم الركن، فقرب منها. فلما رأته تأخّرت و بعثت إليه جاريتها. فقالت له:

تقول لك ابنة عمّك: إنّ هذا مقام/لا بدّ منه كما ترى، و أنا أعلم أنك ستقول في موقفنا هذا فلا تقولنّ هجرا.

فأرسل إليها: لست أقول إلاّ خيرا. ثم تعرّض لها و هي ترمي الجمار، فأعرضت عنه و استترت؛ فقال:

صوت

دين هذا القلب من نعم *** بسقام ليس كالسّقم

إن نعما أقصدت رجلا *** آمنا بالخيف إذ ترمي

/اسمعي منّا تحاورنا *** و احكمي رضّيت بالحكم

بشتيت(3) نبته رتل *** طيّب الأنياب و الطّعم(4)

يأتكم(5) منه بحجّته *** فله العتبى و لا أحمي(6)

عروضه من المديد. الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيها لمالك ثقيل أوّل من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق. و فيه لابن سريج رمل بالبنصر عن حبش. و فيه لابن مسجح ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش أيضا. و ذكر الهشاميّ أنّ الصوت مما يشكّ فيه أنه لمعبد أو غيره.

ص: 166


1- الأنصاب: موضع.
2- الأجباب: جمع جب و هو البئر التي لم تطو أي لم تبن.
3- الشتيت: المتفرق. و الرتل: بياض الأسنان و حسن تناسقها.
4- كذا في «ديوانه». و في الأصول: «و اللغم».
5- كذا في «ديوانه». و قد ورد فيه قبل هذا البيت بيت يرجح رواية «الديوان» و هو: و انشديه هل أتيت له سخطا مني على علم و في الأصول: «و ليأتكم».
6- كذا في «الديوان». و في الأصول: «و لم أحم».

قال: و قال فيها أيضا:

صوت

أبيني اليوم أي نعم *** أوصل منك أم صرم

فإن يك صرم عاتبة(1) *** فقد نغنى و هو سلم

/تلومك في الهوى نعم *** و ليس لها به علم

صحيح لو رأى نعما *** لخالط جسمه سقم

عروضه من الهزج. غنّاه مالك و لحنه ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لمتيّم خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق(2)، و ذكر أنّ فيه أيضا صنعة لابن سريج.

و مما يغنّى فيه مما قاله فيها - و هو من قصيدة طويلة -:

صوت

فقلت لجنّاد خذ السّيف و اشتمل *** عليه بحزم و انظر الشمس تغرب

و أسرج لنا الدّهماء و اعجل بممطري(3) *** و لا تعلمن خلقا من الناس مذهبي

عروضه من الطويل. غنّاه زرزور غلام المارقيّ خفيف ثقيل بالبنصر.

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عمّي قال:

قيل لعمر بن أبي ربيعة: ما أحبّ شيء أصبته إليك؟ قال: بينا أنا في منزلي ذات ليلة إذ طرقني رسول مصعب بن الزّبير بكتابه يقول: إنه قد وقعت عندنا أثواب مما يشبهك، و قد بعثت بها إليك و بدنانير و مسك و طيب و بغلة. قال: فإذا بثياب من وشي و خزّ العراق لم أر مثلها قطّ و أربعمائة دينار و مسك و طيب كثير و بغلة. فلمّا أصبحت لبست بعض تلك الثياب و تطيّبت و أحرزت الدنانير و ركبت البغلة و أنا نشيط لا همّ لي قد أحرزت نفقة سنتي؛ فما أفدت فائدة كانت أحبّ إليّ منها. و قلت في ذلك:

/

أ لا أرسلت نعم إلينا أن ائتنا *** فأحبب بها من مرسل متغضّب

فأرسلت أن لا أستطيع فأرسلت *** تؤكّد أيمان الحبيب المؤنّب

فقلت لجنّاد خذ السيف و اشتمل *** عليه بحزم و انظر الشمس تغرب

و أسرج لي الدّهماء و اعجل بممطري *** و لا تعلمن خلقا من الناس مذهبي

و موعدك البطحاء أو بطن يأجج(4)*** أو الشّعب بالممروخ(5) من بطن مغرب

ص: 167


1- كذا في «ديوانه». و في الأصول: «غانية» و هو تصحيف.
2- في ج: «عن حبش».
3- الممطر: ما يلبس للوقاية من المطر.
4- يأجج: مكان من مكة على ثمانية أميال.
5- كذا في «الديوان». و في الأصول: «أو الشعب ذي المسروح».

/

فلما التقينا سلّمت و تبسّمت *** و قالت مقال المعرض المتجنّب

أ من أجل واش كاشح بنميمة *** مشى بيننا صدّقته لم تكذّب

قطعت وصال الحبل منّا و من يطع *** بذي(1) ودّه قول المحرّش يعتب

فبات وسادي ثني كفّ مخضّب *** معاود عذب لم يكدّر بمشرب

إذا ملت مالت كالكثيب رخيمة *** منعّمة حسّانة المتجلبب

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي قال:

بلغ عمر بن أبي ربيعة أنّ نعما اغتسلت في غدير؛ فنزل عليه و لم يزل يشرب منه حتى نضب.

قال الزّبير قال عمّي: «و قال فيها أيضا:

صوت

طال ليلي و عادني اليوم سقم *** و أصابت مقاتل القلب نعم

و أصابت مقاتلي بسهام *** نافذات و ما تبيّن كلم

حرّة الوجه و الشمائل و الجو *** هر تكليمها لمن نال غنم

/هكذا وصف ما بدا لي منها *** ليس لي بالذي تغيّب علم

غير أني أرى الثياب ملاء *** في يفاع يزين ذلك جسم

و حديث بمثله تنزل العص *** م رخيم يشوب ذلك حلم

عروضه من الخفيف. غنّى ابن سريج في الأربعة الأبيات لحنا ذكره إسحاق و أبو أيّوب المديني في جامع غنائه و لم يجنّسه، و ذكر حبش أنه خفيف رمل بالبنصر.

مناقشة بين إسحاق و إبراهيم بن المهدي في معبد و ابن سريج:

أخبرني عمي قال حدّثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال حدّثني عمرو بن بانة قال:

كنت حاضرا مع إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عند إبراهيم بن المهديّ. فتفاوضنا حديث المغنّين، حتى انتهوا إلى أن حكى إسحاق قول عمر بن أبي خليفة: «إذا تمعبد ابن سريج كان أحسن الناس غناء». فقال إبراهيم لإسحاق: حاشاك يا أبا محمد أم تقول هذا! فقد رفع اللّه علمك و قدر ابن سريج عن مثل هذا القول، و أغنى ابن سريج بنفسه عن أن يقال له تمعبد؛ و ما كان معبد يضع نفسه هذا الموضع؛ و كيف ذلك و هو إذا أحسن يقول:

أصبحت اليوم سريجيّا. و ما قد أنصف أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي معبدا في هذا القول؛ لأن معبدا و إن كان يعظّم ابن سريج و يوفّيه حقّه فليس بدونه و لا هو بمرذول عنده. و قد مضى في صدر الكتاب خبر ابن سريج لمّا قدم المدينة مع الغريض ليستمنحا أهلها، فسمعاه و هو يصيد الطير يغنّي لحنه:

القصر فالنخل فالجمّاء بينهما

ص: 168


1- كذا في ج و «ديوانه». و في الأصول: «لدى وده».

فرجع ابن سريج و ردّ الغريض و قال: لا خير لنا عند قوم هذا غناء غلام فيهم يصيد الطير، فكيف بمن داخل الجونة!.

تعظيم ابن سريج لمعبد و أخذه عنه:
اشارة

و أظرف من ذلك من أخباره و أدلّ على تعظيم ابن سريج معبدا ما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عليّ بن سليمان النّوفليّ، قال حدّثني أبي قال:

التقى ابن سريج و معبد ليلة بعد افتراق طويل و بعد عهد؛ فتساءلا عما صنعا من الأغاني بعد افتراقهما؛ فتغنّى هذا و تغنّى هذا؛ ثم تغنّى ابن سريج لحنه في:

/

أنا الهالك المسلوب مهجة نفسه *** إذا جاوزت مرّا(1) و عسفان عيرها

فغنّاه مرسلا لا صيحة فيه. فقال له معبد: أ فلا حسّنته بصيحة! قال: فأين أضعها؟ قال: في:

غدت سافرا و الشمس قد ذرّ قرنها

قال: فصح أنت فيه حتى أسمع منك. قال: فصاح فيه معبد الصّيحة التي يغنّى بها فيه اليوم. فاستعاده ابن سريج حتى أخذه فغنّى صوته كما رسمه معبد فحسن به جدّا. و في هذا دليل يبين فيه التحامل على معبد في الحكاية.

صوت

غدت سافرا و الشمس قد ذرّ قرنها *** فأغشى شعاع الشمس منها سفورها

و قد علمت شمس النهار بأنّها *** إذا ما بدت يوما سيذهب نورها

أنا الهالك المسلوب مهجة نفسه *** إذا جاوزت مرّا و عسفان عيرها

أهاجتك سلمى إذ أجدّ بكورها *** و هجّر يوما للرّواح بعيرها

الشعر يقال: إنه لطريف العنبريّ. و الغناء لابن سريج خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن ابن المكّيّ، و ذكر عمرو أنه لسياط. و لإبراهيم في الثالث و الأوّل و الرابع خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق و عمرو.

و فيه لبسباسة ثقيل/أوّل بالبنصر عن حبش. و فيه لابن جامع لحن عن حبش من رواية أبي أيّوب المدينيّ.

و من سبعة ابن سريج:
صوت

<أصوات من سبعة ابن سريج في شعر ابن أبي ربيعة:>

قرّب جيراننا جمالهم *** ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا

ما كنت أدري بوشك بينهم *** حتى رأيت الحداة(2) قد طلعوا

ص: 169


1- يريد مر الظهران و هو موضع على مرحلة من مكة. و عسفان على مرحلتين منها.
2- كذا أ، م. و في سائر الأصول: «الغداة» و هو تحريف.

على مصكّين من جمالهم *** و عنتريسين فيهما شجع(1)

يا نفس صبرا فإنّه سفه *** بالحرّ أن يستفزّه الجزع

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و ذكر حبش أن فيه للغريض ثقيلا أوّل بالبنصر. و ذكر ابن أبي حسّان أن هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ حدّثه عن أبيه عن ابن جامع قال: عيب على ابن سريج خفّة غنائه، فأخذ أبيات عمر بن أبي ربيعة:

قرّب جيراننا جمالهم

فغنّى فيها في كل إيقاع لحنا. فجميع ما فيها من الألحان له.

و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني منصور بن أبي مزاحم قال حدّثني رزام أبو قيس مولى خالد بن عبد اللّه قال:

قال لي إسماعيل بن عبد اللّه: يا أبا قيس، أيّ رجل أنت لو لا أنك تحب السّماع!. قلت: أصلحك اللّه! أما و اللّه لو سمعت فلانة تغنّيك:

قرّب جيراننا جمالهم *** ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا

لعذرتني. فقال: يا أبا قيس، لا عاتبتك بعد هذا أبدا.

/و منها:

صوت

بينا كذلك إذ عجاجة موكب *** رفعوا ذميل العيس في الصحراء

قالت أبو الخطّاب أعرف زيّه(2) *** و لباسه لا شكّ غير خفاء

الشعر لابن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالبنصر، و ذكر الهشاميّ و أبو العبيس أنه لمعبد؛ و ليس الأمر كما ذكرا.

و منها:

صوت

و هو الذي أوّله:

إن جاء فليأت على بغلة

ص: 170


1- المصك: القوي. و العنتريس: الناقة الغليظة الوثيقة. و الشجع في الإبل: سرعة نقل القوادم.
2- كذا في «ديوانه». و قبل البيت: قالت لجارتها انظري ها من أولى و تأملي من راكب الأدماء و في الأصول: «تعرف».

سلمى عديه سرحتي مالك *** أو الرّبا دونهما منزلا

إن جاء فليأت على بغلة *** إني أخاف المهر أن يصهلا

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج من رواية يحيى بن المكّيّ و الهشاميّ ثقيل أوّل بالبنصر، و ذكر يونس أنه للغريض، و ذكره إسحاق في أغاني الغريض و لم يجنّسه.

ص: 171

11 - أغاني الخلفاء و أولادهم و أولاد أولادهم

من ثبت عنه من الخلفاء أنه غنى و من لم يثبت عنه ذلك:

قال مؤلف هذا الكتاب: المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني و الملصق بهم منها لا أصل لجلّه و لا حقيقة لأكثره، لا سيّما ما حكه ابن خرداذبه فإنه بدأ بعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فذكر أنه تغنّى في هذا البيت:

كأنّ راكبها غصن بمروحة

ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحدا بعد واحد، حتى كأن ذلك عنده ميراث من مواريث الخلافة أو ركن من أركان الإمامة لا بدّ منه و لا معدل عنه، يخبط خبط العشواء و يجمع جمع حاطب الليل. فأمّا عمر بن الخطاب فلو جاز هذا أن يروى عن كل أحد لبعد عنه؛ و إنما روي أنه تمثّل بهذا البيت و قد ركب ناقة فاستوطأها، لا أنه غنّى به، و لا كان الغناء العربيّ أيضا عرف في زمانه إلا ما كانت العرب تستعمله من النّصب(1) و الحداء، و ذلك جار مجرى الإنشاد إلا أنه يقع بتطريب و ترجيع يسير و رفع للصوت. و الذي صحّ من ذلك عن رواة هذا الشأن فأنا ذاكر منه ما كان متقن الصّنعة لا حقا بجيّد الغناء قريبا من صنعة الأوائل و سالكا مذاهبهم لا ما كان ضعيفا سخيفا، و جامع منه ما اتصل به خبر له يستحسن و يجري مجرى هذا الكتاب و ما تضمّنه.

فأوّل من دوّنت له صنعة منهم عمر بن عبد العزيز؛ فإنه ذكر عنه أنه صنع في أيّام إمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها كلّها؛ فبعضها عرفت الشاعر القائل له فذكرت خبره، و بعضها لم أعرف قائله فأتيت به كما وقع إليّ. فإن مرّ/بي بعد وقتي هذا أثبتّه في موضعه و شرحت من أخباره ما اتصل بي، و إن لم يقع لي و وقع إلى بعض من كتب هذا الكتاب فمن أقلّ الحقوق عليه أن يتكلّف إثباته و لا يستثقل تجشّم هذا القليل فقد وصل إلى فوائد جمّة تجشّمناها له و لنظرائه في هذا الكتاب، فحظي بها من غير نصب و لا كدح؛ فإن جمال ذلك موفّر عليه إذا نسب إليه، و عيبه عنّا ساقط مع/اعتذارنا عنه إن شاء اللّه.

و من الناس من ينكر أن تكون لعمر بن عبد العزيز هذه الصّنعة و يقول: إنها أصوات محكمة العمل لا يقدر على مثلها إلاّ من طالت دربته بالصّنعة و حذق الغناء و مهر فيه و تمكّن منه. و لم يوجد عمر بن عبد العزيز في وقت من الأوقات و لا حال من الحالات اشتهر بالغناء و لا عرف به و لا بمعاشرة أهله، و لا جالس من ينقل ذلك عنه و يؤدّيه؛ و إنما هو شيء يحسّن المغنّون نسبته إليه. و روي من غير وجه خلاف لذلك و إثبات لصنعته إيّاها، و هو أصح القولين؛ لأن الذين أنكروا ذلك لم يأتوا على إنكارهم بحجّة أكثر من هذا الظن و الدعوى، و مخالفوهم قد أيّدتهم أخبار رويت.

ص: 172


1- النصب: غناء للعرب يشبه الحداء إلا أنه أرق.
عمر بن عبد العزيز و الغناء:

أخبرني محمد بن خلف وكيع و الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي عن أبيه و عن إسماعيل ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب عن شهدة أمّ عاتكة بنت شهدة عن كردم بن معبد عن أبيه:

أنّ عمر بن عبد العزيز طارحه لحنه في:

أ لمّا صاحبيّ نزر سعادا

و نسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن الحسين الكاتب قال حدّثني أبو يعلى زرقان غلام أبي الهذيل و صاحب أحمد بن أبي داود قال حدّثني محمد بن يونس قال/حدّثني هاتف أراه قال أمّ ولد المعتصم قالت حدّثتني عليّة بنت المهديّ قالت حدّثتني عاتكة بنت شهدة عن أمّها شهدة عن كردم قال:

طرح عليّ عمر بن عبد العزيز لحنه:

علق القلب سعادا *** عادت القلب فعادا

كلّما عوتب فيها *** أو نهي عنها تمادى

و هو مشغوف بسعدى *** قد عصى فيها و زادا

قال كردم: و كان عمر أحسن خلق اللّه صوتا، و كان حسن القراءة للقرآن.

و نسخت من كتاب ابن الكرنبيّ بخطّة حدّثني أحمد بن الفتح الحجّاجيّ في مجلس حمّاد بن إسحاق قال أخبرني أحمد بن الحسين قال:

رأيت عمر بن عبد العزيز في النوم و عليه عمامة و رأيت الشّجّة في وجهه تدلّ على أنها ضربة حافر، فسمعته يقول: قال عمر بن الخطّاب: لا تعلّموا نساءكم الخلع(1). قال حدّثني محمد(2) بن الحسين: فأقبلت عليه في نومي فقلت له: يا أمير المؤمنين، صوت يزعم الناس أنك صنعته في شعر جرير:

أ لمّا صاحبيّ نزر سعادا *** لوشك فراقها و ذرا البعادا

لعمرك إنّ نفع سعاد عنّي *** لمصروف و نفعي عن سعادا

إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى *** و مروان الذي رفع العمادا

فتبسّم عمر و لم يردّ عليّ شيئا.

نسبة هذين الصوتين
صوت

أ لمّا صاحبيّ نزر سعادا *** لوشك فراقها و ذرا البعادا

/لعمرك إنّ نفع سعاد عنّي *** لمصروف و نفعي عن سعادا

ص: 173


1- الخلع: تطليق المرأة ببذل منها للزوج.
2- كذا في الأصول. و لعل صوابه «أحمد بن الحسين».

إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى *** و مروان الذي رفع العمادا

الشعر لجرير يمدح عمر بن عبد العزيز بن مروان. و الغناء لعمر بن عبد العزيز ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد.

صوت

علق القلب سعادا *** عادت القلب فعادا

كلّما عوتب فيها *** أو نهي عنا تمادى

و هو مشغوف بسعدى *** قد عصى فيها و زادا

الغناء لعمر بن عبد العزيز خفيف ثقيل. و فيه ثاني ثقيل ينسب إلى الهذليّ.

ص: 174

12 - ذكر عمر بن عبد العزيز و شيء من أخباره

هو أشج بني مروان:

عمر بن عبد العزيز مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. و يكنى أبا حفص.

و أمّه أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. و كان يقال له أشجّ قريش؛ لأنه كان في جبهته أثر يقال إنه ضربة حافر. فذكر يحيى بن سعيد الأمويّ عن أبيه أن عبد الملك بن مروان كان يؤثر عمر بن عبد العزيز و يرقّ عليه و يدنيه، و إذا دخل عليه رفعه فوق ولده جميعا إلاّ الوليد. فعاتبه بعض بنيه على ذلك، فقال له: أ و ما تعلم لم فعلت ذلك؟ قال لا. قال: إن هذا سيلي الخلافة يوما و هو أشجّ بني مروان الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن تملأ جورا، فما لي لا أحبّه و أدنيه!.

أخبرني محمد بن يزيد قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا سالم بن عجلان قال:

خرج عمر بن عبد العزيز يلعب فرمحته بغلة على جبينه. فبلغ الخبر أمّه أمّ عاصم، فخرجت في خدمها، و أقبل عبد العزيز بن مروان إليها فقالت: أمّا الكبير فيخدم، و أمّا الصغير فيكرم، و أما الوسط فيضيع! لم لا تتخذ لا بني حاضنا حتى أصابه ما ترى! فجعل عبد العزيز يمسح الدّم عن وجهه، ثم نظر إليها و قال لها: ويحك! إن كان أشجّ بني مروان، أو أشجّ بني أميّة، إنه لسعيد!.

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن أحمد المقدّميّ قال حدّثنا عبيد اللّه بن سعد الزّهريّ قال حدّثنا هارون بن معروف قال حدّثنا ضمرة قال سمعت ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال:

/دخل عمر بن عبد العزيز و هو غلام إصطبل أبيه، فضربه فرس على وجهه، فأتي به أبوه يحمل. فجعل أبوه يمسح الدم عن وجهه و يقول: لئن كنت أشجّ بني أمية إنك لسعيد.

أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب:

حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا مصعب الزّبيريّ قال:

كانت بنت لعبيد اللّه بن عمر بن الخطّاب تحت إبراهيم بن نعيم النّحّام فماتت، فأخذ عاصم بن عمر بيده فأدخله منزله، و أخرج إليه ابنتيه حفصة و أمّ عاصم، فقال له: اختر فاختار حفصة فزوّجها إيّاه. فقيل له: تركت أمّ عاصم و هي أجملهما! فقال: رأيت جارية رائعة، و بلغني أن آل مروان ذكروها فقلت: علّهم أن يصيبوا من/دنياهم.

فتزوّجها عبد العزيز بن مروان، فولدت له أبا بكر و عمر و كانت عنده. و قتل إبراهيم بن نعيم يوم الحرّة. و ماتت أمّ عاصم عند عبد العزيز بن مروان؛ فتزوّج أختها حفصة بعدها، فحملت إليه بمصر؛ فمرّت بأيلة(1) و بها مخنّث أو

ص: 175


1- أيلة: هي المعروفة الآن باسم «العقبة» و هي التي تقع على نهاية الساحل الشرقي لخليج العقبة. و كانت قديما تابعة لمصر، و هي الآن من بلاد إمارة شرق الأردن.

معتوه و قد كان أهدى لأمّ عاصم حين مرّت به فأثابته. فلمّا مرت به حفصة أهدى لها فلم تثبه. فقال: «ليست حفصة من رجال أمّ عاصم» فذهبت مثلا.

لما ولي بدأ بأهل بيته و أخذ ما كان في أيديهم و سمى أعمالهم المظالم:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا أبو بكر الرّماديّ و سليمان بن أبي شيخ قالا حدّثنا أبو صالح كاتب اللّيث قال حدّثني الليث قال:

لمّا ولي عمر بن عبد العزيز، بدأ بلحمته(1) و أهل بيته، فأخذ ما كان في أيديهم و سمّى أعمالهم المظالم.

ففزعت بنو أميّة إلى فاطمة بنت مروان عمّته. فأرسلت/إليه: إنه قد عناني أمر لا بدّ من لقائك فيه. فأتته ليلا فأنزلها عن دابّتها. فلمّا أخذت مجلسها قال: يا عمّة، أنت أولى بالكلام لأنّ الحاجة لك فتكلّمي. قالت: تكلّم يا أمير المؤمنين. فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى بعث محمدا صلى اللّه عليه و سلم رحمة، لم يبعثه عذابا، إلى الناس كافّة، ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه، و ترك لهم نهرا شربهم فيه سواء. ثم قام أبو بكر فترك النّهر على حاله. ثم ولي عمر فعمل على عمل صاحبه، فلما ولي عثمان اشتقّ من ذلك النهر نهرا. ثم ولي معاوية فشقّ منه الأنهار. ثم لم يزل ذلك النهر يشقّ منه يزيد و مروان و عبد الملك و الوليد و سليمان حتى أفضى الأمر إليّ، و قد يبس النهر الأعظم و لن يروى أصحاب النهر حتى يعود إليهم النهر الأعظم إلى ما كان عليه. فقالت له: قد أردت كلامك و مذاكرتك. فأمّا إذ كانت هذه مقالتك فلست بذاكرة لك شيئا أبدا. و رجعت إليهم فأبلغتهم كلامه.

و قال سليمان بن أبي شيخ في خبره: فلمّا رجعت إلى بني أميّة قالت لهم: ذوقوا مغبّة أمركم في تزويجكم آل عمر بن الخطاب.

كثير و الأحوص و نصيب عند عمر بن عبد العزيز:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرني عبد اللّه بن دينار مولى بني نصر بن معاوية قال حدّثنا محمد بن عبد الرحمن التّيميّ قال حدّثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهيل عن حمّاد الراوية، و أخبرني محمد بن حسين الكندي خطيب القادسيّة قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا شيبان بن مالك قال حدّثنا عبد اللّه بن إسماعيل الجحدريّ عن حمّاد الراوية، و الروايتان متقاربتان و أكثر اللفظ للرّياشي، قال:

دخلت المدينة ألتمس العلم، فكان أوّل من لقيت كثيّر عزّة. فقلت: يا أبا صخر، ما عندك من بضاعتي؟ قال: عندي ما عند الأحوص و نصيب. قلت: و ما هو؟ /قال: هما أحقّ بإخبارك. فقلت له: إنّا لم نحثّ المطيّ نحوكم شهرا نطلب ما عندكم إلاّ ليبقى لكم ذكر، و قلّ من يفعل ذلك، فأخبرني عما سألتك ليكون ما تخبرني به حديثا آخذه عنك. فقال: إنه لمّا كان من أمر عمر بن عبد العزيز ما كان، قدمت أنا و نصيب و الأحوص و كلّ واحد منا يدلّ بسابقته عند عبد العزيز و إخائه لعمر. فكان أوّل من لقينا مسلمة بن عبد الملك و هو يومئذ فتى العرب، و كلّ واحد منّا ينظر في عطفيه لا يشكّ أنه شريك الخليفة في الخلافة، فأحسن ضيافتنا و أكرم مثوانا، ثم قال: أ ما علمتم أن إمامكم لا يعطي الشعراء شيئا؟ قلنا: قد جئنا الآن، فوجّه لنا في هذا الأمر/وجها. فقال: إن كان ذو دين من آل مروان قد ولي الخلافة فقد بقي ذوي دنياهم من يقضي حوائجكم و يفعل بكم ما أنتم له أهل. فأقمنا على بابه

ص: 176


1- لحمته: قرابته.

أربعة أشهر لا نصل إليه، و جعل مسلمة يستأذن لنا فلا يؤذن. فقلت: لو أتيت المسجد يوم الجمعة فتحفّظت من كلام عمر شيئا!. فأتيت المسجد فأنّا أوّل من حفظ كلامه، سمعته يقول في خطبة له: لكل سفر زاد لا محالة، فتزوّدوا من الدنيا إلى الآخرة التّقوى، و كونوا كمن عاين ما أعدّ اللّه له من ثوابه و عقابه، فعمل طلبا لهذا و خوفا من هذا. و لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، و تنقادوا لعدوّكم. و اعلموا أنه إنما يطمئنّ بالدنيا من وثق بالنّجاة من عذاب اللّه في الآخرة. فأما من لا يداوي جرحا إلاّ أصابه جرح من ناحية أخرى، فكيف يطمئنّ بالدنيا! أعوذ باللّه أن آمركم بما أنهى نفسي عنه فتخسر صفقتي، و تبدو عيلتي، و تظهر مسكنتي يوم لا ينفع فيه إلاّ الحقّ و الصدق. فارتجّ المسجد بالبكاء، و بكى عمر حتى بلّ ثوبه، حتى ظننّا أنه قاض نحبه. فبلغت إلى صاحبيّ فقلت: جدّدا لعمر من الشّعر غير ما أعددناه، فليس الرجل بدنيويّ. ثم إن مسلمة استأذن لنا يوم جمعة بعد ما أذن للعامّة. فدخلنا فسلّمنا عليه بالخلافة فردّ علينا. فقلت له: /يا أمير المؤمنين، طال الثّواء و قلّت الفائدة و تحدّثت بجفائك إيانّا وفود العرب. فقال: يا كثيّر، أ ما سمعت إلى قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ الْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أ فمن هؤلاء أنت؟ فقلت له و أنا ضاحك: أنا ابن سبيل و منقطع به. قال: أ و لست ضيف أبي سعيد؟ قلت بلى. قال: ما أحسب من كان ضيف أبي سعيد ابن سبيل و لا منقطعا به. ثم استأذنته في الإنشاد، فقال: قل و لا تقل إلاّ حقا؛ فإنّ اللّه سائلك. فقلت:

وليت فلم تشتم عليّا و لم تخف *** بريّا و لم تتبع مقالة مجرم

و قلت فصدّقت الذي قلت بالذي *** فعلت، فأضحى راضيا كلّ مسلم

ألا إنّما يكفي الفتى بعد زيغه *** من الأود الباقي ثقاف المقوّم

لقد لبست لبس الهلوك ثيابها(1) *** و أبدت لك الدنيا بكفّ و معصم

و تومض أحيانا بعين مريضة *** و تبسم عن مثل الجمان المنظّم

فأعرضت عنها مشمئزا كأنما *** سقتك مدوفا(2) من سمام و علقم

و قد كنت من أجبالها في ممنّع *** و من بحرها في مزبد الموج مفعم

و ما زلت سبّاقا إلى كلّ غاية *** صعدت بها أعلى البناء المقدّم

فلما أتاك الملك عفوا و لم يكن *** لطالب دنيا بعده من تكلّم

تركت الذي يفنى و إن كان مونقا *** و آثرت ما يبقى برأي مصمّم

فأضررت بالفاني و شمّرت للذي *** أمامك في يوم من الهول مظلم

و مالك أن كنت الخليفة مانع *** سوى اللّه من مال رغيب و لا دم

/سما لك همّ في الفؤاد مؤرّق *** صعدت به أعلى المعالي بسلّم

ص: 177


1- الهلوك من النساء: الفاجرة المتساقطة على الرجال. و في الأصول: «لبس الملوك ببابها». و ظاهر «أنه تحريف».
2- مدوفا: مخلوطا. و أكثر ما يستعمل هذا اللفظ في الدواء و الطيب. و السمام: السم.

/

فما بين شرق الأرض و الغرب كلّها *** مناد ينادي من فصيح و أعجم

يقول: أمير المؤمنين ظلمتني *** بأخذ لدينار و لا أخذ درهم

و لا بسط كفّ لامرئ ظالم له *** و لا السفك منه ظالما ملء محجم

فلو يستطيع المسلمون تقسّموا *** لك الشّطر من أعمارهم غير ندّم

فعشت به ما حجّ للّه راكب *** مغذّ مطيف بالمقام و زمزم

فأربح بها من صفقة لمبايع *** و أعظم بها أعظم بها ثم أعظم

فقال لي: يا كثيّر، إن اللّه سائلك عن كل ما قلت. ثم تقدّم إليه الأحوص فاستأذنه فقال: قل و لا تقل إلاّ حقّا؛ فإن اللّه سائلك. فأنشده:

و ما الشعر إلاّ خطبة من مؤلّف *** بمنطق حقّ أو بمنطق باطل

فلا تقبلن إلاّ الذي وافق الرّضا *** و لا ترجعنّا كالنساء الأرامل

رأيناك لم تعدل عن الحقّ يمنة *** و لا يسرة فعل الظّلوم المجادل

و لكن أخذت القصد جهدك كلّه *** و تقفو مثال الصالحين الأوائل

فقلنا و لم نكذب بما قد بدا لنا *** و من ذا يردّ الحقّ من قول عاذل

و من ذا يردّ السّهم بعد مروقه(1) *** على فوقه إن عار(2) من نزع نابل

و لو لا الذي قد عوّدتنا خلائف *** غطاريف كانت كالليوث البواسل

لما وخدت شهرا برحلي جسرة *** تفلّ متون البيد بين الرّواحل

و لكن رجونا منك مثل الذي به *** صرفنا قديما من ذويك الأفاضل

/فإن لم يكن للشعر عندك موضع *** و إن كان مثل الدّرّ من قول قائل

و كان مصيبا صادقا لا يعيبه *** سوى أنه يبنى بناء المنازل

فإنّ لنا قربى و محض مودّة *** و ميراث آباء مشوا بالمناصل

فذادوا عدوّ السّلم عن عقر دراهم *** و أرسوا عمود الدّين بعد تمايل

فقبلك ما أعطى الهنيدة(3) جلّة *** على الشعر كعبا من سديس و بازل

رسول الإله المصطفى بنبوّة *** عليه سلام بالضّحى و الأصائل(4)

ص: 178


1- كذا في أ. و في سائر الأصول: «صدوفه» و هو تحريف.
2- السهم العائر: «الذي لا يدري من أين أتى. و أنشد أبو عبيده: أخشى على وجهك يا أمير عوئرا من جندل تعير و في الأصول: «عاد» بالدال و هو تحريف.
3- هنيدة: اسم للمائة من الإبل خاصة، و قيل اسم للمائة من الإبل و غيرها. و يريد بكعب كعب بن زهير. و السديس من الإبل ما دخل في السنة الثامنة. و البازل الذي فطر نابه أي انشق، و ذلك في السنة التاسعة.
4- المعروف المحفوظ في كتب السير أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما أنشده كعب بن زهير قصيدته اللامية «بانت سعاد» و وصل فيها إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف اللّه مسلول ألقى عليه بردة كانت عليه، بذل له فيها معاوية عشرة آلاف درهم، فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحدا. فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم.

فكلّ الذي عدّدت يكفيك بعضه *** و نيلك خير من بحور السوائل

فقال له عمر: يا أحوص، إنّ اللّه سائلك عن كلّ ما قلت. ثم تقدّم إليه نصيب فاستأذن في الإنشاد، فأبى أن يأذن له و غضب عضبا شديدا، و أمره باللّحاق بدابق(1). و أمر لي و للأحوص لكلّ واحد بمائة و خمسين درهما.

و قال الرّياشيّ في خبره: فقال لنا: ما عندي ما أعطيكم، فانتظروا حتى يخرج عطائي فأواسيكم منه. فانتظرنا حتى خرج، فأمر لي و للأحوص بثلاثمائة درهم، و أمر لنصيب بمائة و خمسين درهما. فما رأيت أعظم بركة من الثلاث المائة التي أعطاني، ابتعت بها وصيفة فعلّمتها الغناء فبعتها بألف دينار.

خبر دكين الراجز معه:

أخبرني عمّي عبد العزيز بن أحمد قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:

/قال دكين/الراجز: امتدحت عمر بن عبد العزيز و هو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم، فكرهت أن أرمي بهنّ الفجاج، و لم تطب نفسي ببيعهنّ. فقدمت علينا رفقة من مصر، فسألتهم الصّحبة، فقالوا:

ذاك إليك، و نحن نخرج الليلة، فأتيته فودّعته و عنده شيخان لا أعرفهما. فقال لي: يا دكين، إن لي نفسا توّاقة، فإن صرت إلى أكثر مما أنا فيه فأتني و لك الإحسان. قلت: أشهد لي بذلك. قال: أشهد اللّه به. قلت: و من خلقه؟ قال: هذين الشيخين. فأقبلت على أحدهما فقلت: من أنت أعرفك؟ قال: سالم بن عبد اللّه بن عمر. فقلت له: لقد استسمنت الشاهد. و قلت للآخر: من أنت؟ قال: أبو يحيى مولى الأمير. فخرجت إلى بلدي بهنّ، فرمى اللّه في أذنابهنّ بالبركة حتى اعتقدت(2) منهن الإبل و العبيد. فإنّي لبصحراء فلج(3) إذا ناع ينعى سليمان. قلت: فمن القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز. فتوجّهت نحوه، فلقيني جرير متصرفا من عنده. فقلت: يا أبا حزرة، من أين؟ فقال: من عند من يعطي الفقراء، و يمنع الشعراء. فانطلقت فإذا هو في عرصة دار و قد أحاط الناس به، فلم أخلص إليه فناديت:

يا عمر الخيرات و المكارم *** و عمر الدّسائع(4) العظائم

إني امرؤ من قطن بن دارم *** طلبت ديني من أخي مكارم

إذ تنتحي و الليل غير نائم(5) *** عند أبي يحيى و عند سالم

فقام أبو يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، لهذا البدوي عندي شهادة عليك، فقال: أعرفها؛ أدن يا دكين، أنا كما ذكرت لك، إن نفسي لم تنل شيئا قطّ إلاّ تاقت/لما هو فوقه، و قد نلت غاية الدنيا فنفسي تتوق إلى الآخرة، و اللّه

ص: 179


1- دابق: قرية قرب حلب بينها و بين حلب أربعة فراسخ.
2- اعتقد الشيء: اشتراه أو اقتناه.
3- فلج: واد بين البصرة و حمى ضرية.
4- الدسائع: الشمائل أو العطايا.
5- كذا في «العقد الفريد»: و في الأصول: إذا تنتحي و اللّه غير نائم.

ما رزأت من أموال الناس شيئا، و لا عندي إلا ألف درهم، فخذ نصفها. قال: فو اللّه ما رأيت ألفا كان أعظم بركة منه. قال: و دكين الذي يقول:

إذا المرء يدنس من اللّؤم عرضه *** فكلّ رداء يرتديه جميل

و إن هو لم يرفع عن اللؤم نفسه *** فليس إلى حسن الثّناء سبيل(1)

زهده بعد أن ولي الخلافة:

أخبرني الحرميّ عن الزّبير عن هارون بن صالح عن أبيه قال:

كنّا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في أثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطّيب فيها يعني المسك. قال: ثم رأيت ثيابه بعد ذلك و قد ولي الخلافة فرأيت غير ما كنت أعرف.

حبه آل البيت:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ عن نافع بن أبي نعيم قال:

قدم عبد اللّه بن الحسن بن الحسن على عمر بن عبد العزيز فقال: إنك لا تغنم أهلك شيئا خيرا من نفسك فارجع، و أتبعه حوائجه.

قال الرّياشيّ و حدّثنا نصر بن عليّ قال حدّثنا أبو أحمد محمد بن الزّبير الأسديّ عن سعيد بن أبان قال:

رأيت عمر بن عبد العزيز آخذا بسرّة عبد اللّه بن حسن و قال: اذكرها عندك تشفع لي يوم القيامة.

/حدّثني أبو عبيد الصّيرفيّ قال حدّثنا الفضل بن الحسن المصريّ قال حدّثنا عبد اللّه بن عمر القواريريّ قال حدّثنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبان القرشيّ قال:

دخل عبد اللّه بن حسن على عمر بن عبد العزيز و هو حديث السّنّ و له وفرة(2)، فرفع مجلسه و أقبل عليه/و قضى حوائجه، ثم أخذ عكنة من عكنه فغمزها حتى أوجعه و قال له: أذكرها عندك للشّفاعة. فلمّا خرج لامه أهله و قالوا:

فعلت هذا بغلام حديث السنّ! فقال: إن الثّقة حدّثني حتى كأنّي أسمعه من في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إنما فاطمة بضعة منّي يسرّني ما يسرّها» و أنا أعلم أن فاطمة لو كانت حيّة لسرّها ما فعلت بابنها. قالوا: فما معنى غمزك بطنه و قولك ما قلت؟ قال: إنه ليس أحد من بني هاشم إلاّ و له شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا.

أكرم يزيد بن عيسى لأنه مولى عليّ:

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن عليّ قال أخبرني يزيد بن عيسى بن مورق قال:

كنت بالشام زمن ولي عمر بن عبد العزيز، و كان بخناصرة(3)، و كان يعطي الغرباء مائتي درهم. قال: فجئته

ص: 180


1- المعروف أن هذين البيتين للسموأل بن عادياء اليهودي. و يروى، كما في «الحماسة و الأمالي» لأبي علي القالي، صدر البيت الثاني: و إن هو لم يحمل عن النفس ضيمها
2- الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس.
3- خناصرة: بلبدة من أعمال حلب.

فأجده متكئا على إزار و كساء من صوف. فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل الحجاز. قال: من أيّهم؟ قلت: من أهل المدينة. قال: من أيّهم؟ قلت: من قريش. قال: من أيّ قريش؟ قلت: من بني هاشم. قال: من أيّ بني هاشم؟ قلت: مولى عليّ. قال: من عليّ؟ فسكتّ. قال: من؟! فقلت: ابن أبي طالب. فجلس و طرح الكساء ثم وضع يده على صدره و قال: و أنا و اللّه مولى عليّ، ثم قال: أشهد على عدد ممّن أدرك النبيّ صلى اللّه عليه و سلم/يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه». أين مزاحم(1)؟ كم تعطي مثله؟ قال: مائتي درهم. قال: أعطه خمسين دينارا لولائه من عليّ. ثم قال: أ في فرض أنت؟ قلت لا. قال: و افرض له، ثم قال: الحق بلادك فإنه سيأتيك إن شاء اللّه ما يأتي غيرك.

سمى عمر بن علي نحله غلامه مورقا:

قال أبو زيد فحدّثني عيسى بن عبد اللّه قال حدّثني أبي عن أبيه قال قال أبي:

ولد لي غلام يوم قام عمر بن عبد العزيز، فغدوت عليه فقلت له: ولد لي في هذه الليلة غلام. فقال لي:

ممّن؟ قلت: من التّغلبيّة. قال: فهب لي اسمه. قلت نعم. قال: قد سمّيته اسمي و نحلته غلامي مورقا، و كان نوبيّا فأعتقه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك؛ فولده اليوم موالينا.

كان يكرم عبد اللّه بن الحسن:

أخبرني محمد بن العبّاس قال حدّثنا عمر قال حدّثنا عيسى بن عبد اللّه قال أخبرني موسى بن عبد اللّه بن حسن عن أبيه قال:

كان عمر بن عبد العزيز يراني إذا كانت لي حاجة أتردّد إلى بابه. فقال لي: أ لم أقل لك: إذا كانت لك حاجة فارفع بها إليّ! فو اللّه إني لأستحي من اللّه أن يراك على بابي.

لم يفد من ولايته شيئا و خلف ولده فقراء:

أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن العتبيّ عن أبيه قال:

لمّا حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة جمع ولده حوله، فلما رآهم استغبر ثم قال: بأبي و أمّي من خلّفتهم بعدي فقراء!. فقال له مسلمة بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين، فتعقّب فعلك و أغنهم، فما يمنعك أحد في حياتك و لا يرتجعه الوالي بعدك. فنظر إليه نظر مغضب متعجّب فقال: يا مسلمة، منعتهم إيّاه في حياتي و أشقى به/بعد وفاتي! إن ولدي بين رجلين: إمّا مطيع للّه فاللّه مصلح له شأنه و رازقه ما يكفيه، أو عاص له فما كنت لأعينه على معصيته. يا مسلمة، إني حضرت أباك لمّا دفن فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر اللّه راعني و هالني، فعاهدت اللّه ألاّ أعمل بمثل عمله إن وليت؛ و قد اجتهدت في ذلك طول حياتي، و أرجو أن أفضي إلى عفو من اللّه/و غفران. قال مسلمة: فلمّا دفن حضرت دفنه، فما فرغ من شأنه حتى حملتني عيني، فرأيته فيما يرى النائم و هو في روضة خضراء نضرة فيحاء و أنهار مطّردة و عليه ثياب بيض؛ فأقبل عليّ فقال: يا مسلمة، لمثل هذا فليعمل العاملون. هذا أو نحوه، فإن الحكاية تزيد أو تنقص.

ص: 181


1- هو مزاحم بن أبي مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز.
رثاه مسلمة بن عبد الملك:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ عن يحيى بن سعيد الأمويّ قال:

لمّا مات عمر بن عبد العزيز وقف مسلمة عليه بعد أن أدرج في كفنه فقال: رحمك اللّه يا أمير المؤمنين! فقد أورثت صالحينا بك اقتداء و هدى، و ملأت قلوبنا بمواعظك و ذكرك خشية و تقى، و أثّلت لنا بفضلك شرفا و فخرا، و أبقيت لنا في الصالحين بعدك ذكرا.

كتابه إلى أسارى قسطنطينية:

أخبرني الحسن قال أخبرنا الغلابيّ عن ابن عائشة عن أبيه:

أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأسارى بقسطنطينيّة: أمّا بعد، فإنكم تعدّون أنفسكم أسارى و لستم أسارى.

معاذ اللّه! أنتم الحبساء في سبيل اللّه. و اعلموا أنّي لست أقسم شيئا بين رعيّتي إلاّ خصصت أهلكم بأوفر ذلك و أطيبه. و قد بعثت إليكم خمسة دنانير، خمسة دنانير. و لو لا أنّي خشيت إن زدتكم أن يحبسه عنكم/طاغية الرّوم لزدتكم. و قد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم و كبيركم، ذكركم و أنثاكم، حرّكم و مملوككم بما يسأل، فأبشروا ثم أبشروا.

كتاب الحسن البصري له و ردّه عليه:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم قال زعم لنا سليمان بن أرقم قال:

كتب الحسن البصريّ إلى عمر بن عبد العزيز، و كان يكاتبه، فلما استخلف كتب إليه: «من الحسن البصريّ إلى عمر بن عبد العزيز». فقيل له: إن الرجل قد ولي و تغيّر. فقال: لو علمت أنّ غير ذلك أحبّ إليه لاتّبعت محبّته.

ثم كتب: «من الحسن بن أبي الحسن إلى عمر بن عبد العزيز. أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن، و كأنك بالآخرة لم تزل». قال: فمضيت إليه بالكتاب فقدمت عليه به. فإني عنده أتوقّع الجواب إذ خرج يوما غير يوم جمعة حتى صعد المنبر و اجتمع الناس. فلما كثروا قام فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أيها النّاس، إنكم في أسلاب الماضين، و سيرثكم الباقون حتى تصيروا إلى خير الوارثين. كلّ يوم تجهّزون غاديا إلى اللّه و رائحا، قد حضر أجله، و طوي عمله، و عاين الحساب، و خلع الأسلاب، و سكن التراب، ثم تدعونه غير موسّد و لا ممهّد. ثم وضع يديه على وجهه فبكى مليّا ثم رفعهما فقال: يا أيّها الناس، من وصل إلينا منكم بحاجته لم نأله خيرا، و من عجز فو اللّه لوددت أنه و آل عمر في العجز سواء. قال: ثم نزل. فأرسل إليّ فدخلت إليه؛ فكتب: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنك لست بأوّل من كتب عليه الموت، و قد مات. و السلام».

آخر خطبة له:

أخبرني ابن عمّار قال حدّثني سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا أبو مطرّف المغيرة بن مطرّف عن شعيب بن صفوان عن أبيه:

/أنّ عمر بن عبد العزيز خطب بخناصرة خطبة لم يخطب بعدها، حمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس،

ص: 182

إنكم لم تخلقوا عبثا و لم تتركوا سدى؛ و إن لكم معادا يتولّى اللّه فيه الحكم فيكم و الفصل بينكم، /فخاب و خسر من خرج من رحمة اللّه التي وسعت كلّ شيء، و حرم الجنّة التي عرضها السماوات و الأرض. و اعلموا أنّ الأمان غدا لمن حذر اللّه و خافه، و باع قليلا بكثير، و نافدا بباق، و خوفا بأمان. أ لا ترون أنكم في أسلاب الهالكين و سيخلفها من بعدكم الباقون، و كذلك حتى تردّوا إلى خير الوارثين. ثم إنكم في كلّ يوم و ليلة تشيّعون غاديا إلى اللّه و رائحا، قد قضى نحبه، و انقضى أجله، ثم تضعونه في صدع من الأرض في بطن لحد، ثم تدعونه غير موسّد و لا ممهّد، قد خلع الأسلاب، و فارق الأحباب، و وجّه للحساب، غنيّا عمّا ترك، فقيرا إلى ما قدّم. و ايم اللّه إني لأقول لكم هذه المقالة و لا أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي، و أستغفر اللّه لي و لكم. و ما يبلغنا أحد منكم حاجته يسعها ما عندنا إلا سددنا من حاجته ما قدرنا عليه، و لا أحد يتّسع له ما عندنا إلا وددت أنه بدئ بي و بلحمتي الذين يلونني حتى يستوي عيشنا و عيشكم. و ايم اللّه لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به منّي ناطقا ذلولا عالما بأسبابه، و لكنه من اللّه عزّ و جلّ كتاب ناطق، و سنّة عادلة، دلّ فيهما على طاعته و نهى فيهما عن معصيته. ثم بكى فتلقّى دموعه بطرف ردائه؛ ثم نزل فلم ير على تلك الأعواد بعد حتى قبضه اللّه إليه. رحمه اللّه عليه.

اشترى موضع قبره بعشرة دنانير:

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو سلمة المدينيّ. عن إبراهيم بن ميسرة: أن عمر بن عبد العزيز اشترى موضع قبره بعشرة دنانير.

وفاته:

أخبرني اليزيديّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو سلمة المدينيّ قال أخبرني ابن مسلمة بن عبد الملك قال حدّثني أبى مسلمة قال:

كنّا عند عمر في اليوم الذي توفّي فيه أنا و فاطمة بنت عبد الملك؛ فقلنا له: يا أمير المؤمنين، إنّا نرى أنّا قد منعناك النّوم، فلو تأخّرنا عنك شيئا عسى أن تنام! قال: ما أبالي لو فعلتما. قال: فتنحّيت أنا و هي و بيننا و بينه ستر.

قال: فما نشبنا أن سمعناه يقول: حيّ الوجوه حيّ الوجوه. فابتدرناه أنا و هي فجئناه و قد أغمض ميّتا، فإذا هاتف يهتف في البيت لا نراه: تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

من أصواته في سعاد:
اشارة

<و من أصوات عمر في سعاد>

صوت

ألا يا دين قلبك من سليمى *** كما قد دين قلبك من سعادا

هما سبتا الفؤاد و أصبتاه *** و لم يدرك بذلك ما أرادا

قفا نعرف منازل من سليمى *** دوارس بين حومل أو عرادا(1)

ص: 183


1- عراد: جبل.

ذكرت بها الشّباب و آل ليلى *** فلم يرد الشباب بها مرادا

فإن تشب الذّؤابة أمّ زيد *** فقد لاقيت أيّاما شدادا

عروضه من الوافر. الشعر لأشهب بن رميلة فيما ذكر ابن الأعرابيّ و أبو عمرو الشّيباني. و حكى ابن الأعرابيّ أنه سمع بعض بني ضبّة يذكر أنها لابن أبي رميلة الضّبّيّ. و الغناء لعمر/بن عبد العزيز رمل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش و غيرهما. و في نسخة عمرو بن بانة الثانية: لخزرج رمل بالبنصر.

ص: 184

13 - نسب الأشهب بن رميلة و أخباره

نسبه:

رميلة أمّه، و هي أمة لخالد بن مالك بن ربعيّ بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم بن عمرو بن تميم. و هو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة بن عبد الدار بن جندل بن نهشل بن دارم في النّسب. قال أبو عمرو: و ولدها يزعمون أنها كانت سبيّة من سبايا العرب، فولدت لثور بن أبي حارثة أربعة نفر، و هم رباب، و حجناء، و الأشهب، و سويد.

إخوته و عزّهم في الجاهلية و الإسلام:

فكانوا من أشدّ إخوة في العرب لسانا و يدا، و أمنعهم جانبا. و كثرت أموالهم في الإسلام. و كان أبوهم ثور ابتاع رميلة في الجاهليّة، و ولدتهم في الجاهليّة، فعزّوا عزّا عظيما، حتى كانوا إذا وردوا ماء من مياه الصّمّان(1)حظروا على الناس ما يريدون منه. و كانت لرميلة قطيفة حمراء، فكانوا يأخذون الهدب من تلك القطيفة فيلقونه على الماء، أي قد سبقنا إلى هذا، فلا يرده أحد لعزّهم، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه و يدعون ما يستغنون عنه.

يوم الصمان بينهم و بين أبناء عمومتهم:

فوردوا في بعض السنين ماء من مياه الصّمّان و ورد معهم ناس من بني قطن بن نهشل. و كانت بنو قطن بن نهشل و بنو زيد بن نهشل و بنو مناف بن درام حلفاء. و كانت الأعجاز حلفاء عليهم، و هم جندل و جرول و صخر بنو نهشل. فأورد بعضهم بعيره فأشرعه حوضا قد حظروا عليه. و بلغهم ذلك فغضبوا منه و اجتمعوا و أحلافهم، و اجتمعت الأحلاف عليهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فضرب رباب بن رميلة رأس نسير بن صبيح المعروف بأبي بدّال، و أمّه بنت أبي الحمام بن قراد بن مخزوم. و قال رباب في ذلك:

/

ضربته عشيّة الهلال *** أوّل يوم عدّ من شوّال

ضربا على رأس أبي بدّال *** ثمّت ما أبت و لا أبالي

ألاّ يئوب آخر اللّيالي

فجمع كلّ واحد منهما لصاحبه. فقالت بنو قطن: يا بني جرول و يا بني صخر و يا بني مناف(2)، ضرب صاحبكم صاحبنا ضربة لا ندري أ يموت منها أم يعيش، فأنصفونا؛ فأبى القوم أن يفعلوا؛ فاقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل.

و كان أبيّ بن أشيم أخو بني جرول و هو سيّدهم خرج في حاجة له، فلقيه بعض بني قطن فأسره و أتى به أصحابه.

فقال نهشل(3) بن حرّيّ: يا بني قطن، أطيعوني اليوم و اعصوني أبدا. قالوا: نعم، فقل. فقال: إن هذا لم يشهد

ص: 185


1- الصمان: جبل في أرض تميم.
2- يلاحظ أن بني مناف ليسوا حلفاء لبني جرول و بني صخر، و إنما هم حلفاء بني قطن بن نهشل و بني زيد بن نهشل.
3- هو نهشل بن حريّ بن ضمرة، كان شاعرا و هو القائل: إنا بني نهشل لا ندّعي لأب عنه و لا هو بالأبناء يشرينا إن تبتدر غاية يوما لمكرمة تلق السوابق منا و المصلينا (انظر ترجمته في «الشعر و الشعراء» ص 404-405).

شرّكم و لا حربكم، و لا يحلّ لكم دمه، و إنّ قومه أحرّ من يقاتلكم و شوكتهم؛ فخذوا عليه العهد أن يصرفهم عنكم و خلّوا سبيله. قالوا: افعل ما رأيت. فأتاه نهشل بن حرّيّ فقال له: يا أبا أسماء، إنّ قومك قد حالوا بيننا و بين حقّنا و قاتلوا دونه، و قد أمكننا اللّه منك، و أنت و اللّه أوفى دما عندنا من بني رميلة، فو اللّه لأقتلنّك أو تعطيني ما أسألك.

قال: سل. قال: تجعل أن تصرف بني جرول جميعا، فإن لم يطيعوك انصرفت ببني أشيم، فإن لم يطيعوك أتيتنا.

قال نعم. فخلّي سبيله/تحت الليل. فأتاهم و هم بحيث يرى بعضهم بعضا فقال: يا بني جرول انصرفوا؛ أ تعترضون على قوم يريدون حقّهم! أ لا تتّقون اللّه! و اللّه لقد أسرني القوم و لو أرادوا قتلي لكان/فيه وفاء بحقّهم، و لكنّهم يكرهون حربكم فلا تبغوا عليهم. فانصرف منهم أكثر من سبعين رجلا. فلما رأى ذلك بنو صخر و بنو جرول قالوا: و اللّه إنا لنظلم(1) قومنا إن قاتلناهم؛ و انصرفوا، و تخاذل القوم. فلما رأى ذلك الأشهب بن رميلة قال:

ويلكم! أ في ضربة من عصا لم تصنع شيئا تسفكون دماءكم! و اللّه ما به من بأس، فأعطوا قومكم حقّهم. فقال حجناء و رباب: و اللّه لننصرفنّ فلنلحقنّ بغيركم و لا نعطي ما بأيدينا. فجعل الأشهب بن رميلة يقول: ويلكم! أ تخرّبون دار قومكم في ضربة عصا لم تبلغ شيئا!. فلم يزل بهم حتى جاءوا برباب فدفعوه إلى بني قطن، و أخذوا منهم أبا بدّال و هو المضروب فمات في تلك الليلة في أيديهم؛ فكتموه، و أرسلوا إلى عبّاد بن مسعود، و مالك بن ربعيّ، و مالك بن عوف، و القعقاع بن معبد، فعرضوا عليهم الدّية. فقالوا: و ما الدّية و صاحبنا حيّ! قالوا: فإن صاحبكم ليس بحيّ. فأمسكوا و قالوا: ننظر. ثم جاءوا إلى رباب فقالوا: أوصنا بما بدا لك. قال: دعوني أصلّي. قالوا:

صلّ. فصلّى ركعتين ثم قال: أما و اللّه إنّي إلى ربّي لذو حاجة، و ما منعني أن أزيد في صلاتي إلا أن تروا أن ذلك فرق من الموت، فليضربني منكم رجل شديد السّاعد حديد السيف. فدفعوه إلى أبي خزيمة بن نسير المكنيّ بأبي بدّال فضرب عنقه، فدفنوه؛ و ذلك في الفتنة بعد مقتل عثمان بن عفّان. فقال الأشهب يرثي أخاه و يلوم نفسه في دفعه إليهم لتسكن الحرب:

أ عينيّ قلّت عبرة من أخيكما *** بأن تسهرا ليل التّمام و تجزعا

و باكية تبكي الرّباب و قائل *** جزى اللّه خيرا ما أعفّ و أمنعا

و أضرب في الهيجا إذا حمس الوغى *** و أطعم إذ أمسى المراضيع جوّعا

/إذا ما اعترضنا من أخينا أخاهم *** روينا و لم نشف الغليل فينقعا

قرونا دما و الضّيف منتظر القرى *** و دعوة داع قد دعانا فأسمعا

مردنا(2) و كانت هفوة من حلومنا *** بثدي إلى أولاد ضمرة أقطعا

و قد لامني قومي و نفسي تلومني *** بما فال رأيي في رباب و ضيّعا

ص: 186


1- في أ، م: «لنضيع».
2- مرد الصبي ثدي أمه: مرسه.

فلو كان قلبي من حديد أذابه *** و لو كان من صمّ الصّفا لتصدّعا

مضى الحديث.

أصوات عمر في سعاد:

و نسخت من كتاب محمد بن الحسن الكاتب حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكّي عن أبيه قال:

لعمر بن عبد العزيز في سعاد سبعة ألحان.

منها:

يا سعاد التي سبتني فؤادي *** و رقادي هبي لعيني رقادي

و لحنه رمل مطلق.

و منها:

حظّ عيني من سعاد *** أبدا طول السّهاد

و لحنه رمل بالسبّابة في مجرى البنصر.

و منها:

سبحان ربّي برا سعادا *** لا تعرف الوصل و الوداد

/و لحنه خفيف(1) رمل.

/و منها:

لعمري لئن كانت سعاد هي المنى *** و جنّة خلد لا يملّ خلودها

و لحنه ثقيل أوّل.

و منها:

أسعاد جودي لا شقيت سعادا *** و اجزي محبّك رأفة و ودادا

و لحنه خفيف رمل.

و منها:

أ لمّا صاحبيّ نزر سعادا

و منها:

ألا يا دين قلبك من سليمى

و قد ذكرت طريقتهما.

ص: 187


1- في ج: «خفيف ثقيل».
كان محدثا و فقيها و راويا:

و قد روي عن عمر بن عبد العزيز حديث كثير و فقه، و حمل عنه أهل العلم.

أخبرنا محمد بن جرير الطّبريّ قال حدّثنا عمران بن بكّار الكلاعيّ قال حدّثنا خالد بن عليّ قال حدّثنا بقيّة بن الوليد عن مبشّر بن إسماعيل عن بشر بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عمر عن جدّه عبد العزيز عن معاوية بن أبي سفيان قال:

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «من أحبّ أن تمثل له الرجال قياما فليتبوّأ مقعده من النار».

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ و عمّي قالا حدّثنا العنزيّ قال حدّثني وزير بن محمد أبو هاشم الغسّانيّ قال حدّثني محمد بن أيّوب بن سعيد السّكّريّ عن عمر بن عبد العزيز عن أمّه عن أبيها عاصم بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال:

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «نعم الإدام الخلّ».

غناء يزيد بن عبد الملك:
اشارة

و ممن حكي عنه أنه صنع في شعره غناء يزيد بن عبد الملك، و لم يأت ذلك برواية عمّن يحصّل قوله كما حكي عن عمر بن عبد العزيز، و إنما وجد في الكتب أنه صنع لحنا في شعره، و ذكره من لا يوثق به، و لم نروه عن أحد فلم نأت بأخباره هاهنا مشروحة، و أتيت بها في أخباره مع حبابة بحيث يصلح. و أما اللحن الذي ذكر أنه صنعه فهو:

صوت

أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر *** ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر

إن سار صحبي لم أملل بذكركم *** أو عرّسوا فهموم النفس و الفكر

في هذين البيتين ثقيل أوّل يقال إنه ليزيد بن عبد الملك. و ذكر ابن المكّيّ أنه لحبابة.

و حكي عن الهيثم بن عديّ أن يزيد بن عبد الملك لمّا رأى حبابة تعلّقها و لم يقدر على ابتياعها خوفا من أخيه سليمان أو من عمر بن عبد العزيز، و قال فيها هذين البيتين و هو راحل عن الحجاز، و غنّاه فيهما معبد، فوصله بعد ذلك بما كان يغنيه، و أخذته حبابة و غيرها عنه. و ذكر الهشاميّ أنه مما لا يشكّ فيه من غناء معبد. و قد مضت أخبار يزيد بن عبد الملك و حبابة في صدر هذا الكتاب فاستغني عن إعادتها هنا.

غناء الوليد بن يزيد:

و ممن غنّى منهم الوليد بن يزيد:

و له أصوات صنعها مشهورة، و قد كان يضرب بالعود و يوقع بالطبل و يمشي بالدّفّ على مذهب أهل الحجاز.

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد عن الفطرانيّ عن محمد بن جبر قال حدّثني من سمع خالد/صامة يقول:

/كنت يوما عند الوليد بن يزيد و أنا أغنّيه:

أراني اللّه يا سلمى حياتي

ص: 188

و هو يشرب حتى سكر. ثم قال لي: هات العود، فدفعته إليه، فغنّاه أحسن غناء؛ فنفست عليه إحسانه، و دعوت بطبل فجعلت أوقع عليه و هو يضرب حتى دفع العود و أخذ الطّبل فجعل يوقع به أحسن إيقاع، ثم دعا بدفّ فأخذه و مشى به و جعل يغنّي أهزاج طويس حتى قلت قد عاش، ثم جلس و قد انبهر. فقلت: يا سيّدي، كنت أرى أنك تأخذ عنّا و نحن الآن نحتاج إلى الأخذ عنك! فقال: أسكت ويلك! فو اللّه أن سمع هذا منك أحد ما دمت حيّا لأقتلنّك. فو اللّه ما حكيته عنه حتى قتل.

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال أخبرنا أبو أيّوب المديني قال ذكر أبو الحسن المدائني أن يحيى مولى العبلات المعروف بفيل و هو الذي غنّى:

أزرى بنا أننا شالت نعامتنا

كان مقيما بمكة. فلمّا قدمها الوليد بن يزيد سأل عن أحسن الناس غناء و حكاية لابن سريج؛ فقيل له: فيل.

فدعاه و قال له: امش لي بالدّفّ، ففعل. ثم قال له الوليد: هاته حتى أمشي به، فإن أخطأت فقوّمني. فمشى به أحسن من مشية فيل. فقال له يحيى: جعلت فداءك! ائذن لي حتى أختلف إليك لأتعلّم منك.

فمن مشهور صنعته في شعره:

و صفراء في الكأس كالزعفران *** سباها التّجيبيّ من عسقلان

تريك القذاة و عرض الإناء *** ستر لها دون لمس البنان

لحنه فيه خفيف رمل. و فيه لأبي كامل ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق و يونس. و لعمر الواديّ فيه ثقيل أوّل بالوسطى عن يونس و الهشاميّ. و قد مضت أخباره مشروحة في المائة الصوت المختارة.

غناء الواثق:

و من دوّنت صنعته من خلفاء بني العبّاس الواثق باللّه.

و لم نعلمه حكي ذلك عن أحد منهم قبله إلاّ ما قدّمنا سوء العهدة فيه عن ابن خرداذبه؛ فإنه حكى أن للسّفّاح و المنصور و سائرهم غناء و أتى فيها بأشياء غثّة لا يحسن لمحصّل ذكرها.

غنى الواثق في شعر لأبي العتاهية بحضرة إسحاق و وصله:

و أخبرني يحيى بن محمد الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

دخلت يوما دار الواثق بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا. فسمعت صوت عود من بيت و ترنّما لم أسمع أحسن منه قطّ، فأطلع خادم رأسه ثم ردّه و صاح بي فدخلت فإذا الواثق. فقال: أيّ شيء سمعت؟ فقلت:

الطّلاق لازم لي و كلّ مملوك لي حرّ لقد سمعت ما لم أسمع مثله قطّ حسنا! فضحك فقال: و ما هو! إنما هذه فضلة أدب و علم مدحه الأوائل و اشتهاه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و سلم و رحمهم و التابعون بعدهم و كثر في حرم اللّه و مهاجر رسول اللّه. أ تحبّ أن تسمعه منّي؟ قلت: إي و الذي شرّفني بخطابك و جميل رأيك. فقال: يا غلام، هات العود و أعط إسحاق رطلا. فدفع الرّطل إليّ و ضرب و غنّى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه:

أضحت قبورهم من بعد عزّهم *** تسفي عليها الصّبا و الحرجف الشّمل

ص: 189

/

لا يدفعون هواما عن وجوههم *** كأنهم خشب بالقاع منجدل

فشربت الرّطل ثم قمت فدعوت له؛ فأجلسني و قال: أ تشتهي أن تسمعه ثانية؟ فقلت: إي و اللّه، فغنّانيه و دعا لي برطل، ففعلت كما فعلت ثانية ثم ثالثة. و صاح ببعض خدمه و قال له: احمل إلى إسحاق ثلاثمائة ألف درهم. ثم قال: يا إسحاق، /قد سمعت ثلاثة أصوات و شربت ثلاثة أرطال و أخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك ليسرّوا بسرورك؛ فانصرفت بالدراهم.

صنع مائة صوت ليس فيها صوت ساقط:

أخبرني محمد قال سمعت أحمد بن محمد بن الفرات يقول سمعت عريب تقول: صنع الواثق مائة صوت ما فيها صوت ساقط. و لقد صنع في هذا الشعر:

هل تعلمين وراء الحبّ منزلة *** تدني إليك فإنّ الحبّ أقصاني

هذا كتاب فتى طالت بليّته *** يقول يا مشتكى بثّى و أحزاني

لحنا من الرّمل تشبّه فيه بصنعة الأوائل.

نسبة هذا الصوت

الشعر ليعقوب بن إسحاق الرّبعيّ المخزوميّ. و الغناء للواثق رمل بالوسطى من رواية الهشاميّ.

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ و الحرميّ بن أبي العلاء و عليّ بن سليمان الأخفش قالوا حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال قال الزّبير بن بكّار:

كتب ابن أبي مسرّة المكّيّ إلى أهل المدينة بيتين و هما:

هذا كتاب فتى طالت بليّته *** يقول يا مشتكى بثّي و أحزاني

هل تعلمين وراء الحبّ منزلة *** تدني إليك فإنّ الحبّ أقصاني

قال الزّبير: و كنت غائبا، فلما قدمت قال لي أهل المدينة ذلك. فقلت لهم: أ يكتب إليكم صاحبكم يعاتبكم فلا تجيبونه!.

شعر يعقوب بن إسحاق الربعي:

أنشدني يعقوب بن إسحاق الرّبعيّ المخزوميّ لنفسه:

قال الوشاة لهند عن تصارمنا *** و لست أنسى هوى هند و تنساني

يعقوب ليس بمتبول و لا كلف *** ويح الوشاة فإنّ الداء أضناني

/ما بي سوى الحبّ من هند و إن بخلت *** حبّي لهند برى جسمي و أبلاني

قد قلت حين بدا لي بخل سيّدتي *** و قد تتابع بي بثّي و أحزاني

هل تعلمين وراء الحبّ منزلة *** تدني إليك فإنّ الحبّ أقصاني

قالت نعم قلت ما ذاكم أ سيّدتي *** و طاعة الحبّ تنفي كلّ عصيان

ص: 190

قالت فدعنا بلا صرم و لا صلة *** و لا صدود و لا في حال هجران

حتى يشكّ وشاة قد رموك بنا *** و أعلنوا بك فينا أيّ إعلان

و من غناء الواثق باللّه:
صوت

<غناؤه في شعر لذي الرمة:>

خليليّ عوجا من صدور الرّواحل *** بجرعاء حزوى و ابكيا في المنازل

/لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل

الشعر لذي الرّمة. و الغناء للواثق باللّه رمل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشاميّ. و لإسحاق فيهما رمل بالسبّابة في مجرى البنصر. و لحن الواثق منهما الذي أوّله البيت الثاني و هو اللحن المحثوث المسجح و له ردّة في «لعل». و لحن إسحاق أوّله البيت الأوّل ثم الثاني و هو أشدّهما إمساكا و فيه صياح.

غنى إسحاق الموصلي بحضرته صوتا أخذته عنه شاجى فأجازه:

أخبرنا أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ:

أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ و قد كان تكلّم له في حاجة فقضيت. فقال له: أعطاك اللّه أيها الأمير ما لم تحط به أمنيّة و لم تبلغه رغبة. قال: فاشتهي هذا الكلام فاستعاده فأعدته. قال: ثم مكثنا ما شاء اللّه؛ و أرسل الواثق إلى محمد بن إبراهيم يأمره بإشخاصي إليه في الصوت الذي أمرني أن أتغنّى فيه و هو:

لقد بخلت حتى لو انّي سألتها

/فأمر لي بمائة ألف درهم. فأقمت ما شاء اللّه ليس أحد من مغنّيهم يقدر على أن يأخذ هذا الصوت منّي. فلما طال مقامي قلت: يا أمير المؤمنين، ليس أحد من هؤلاء المغنّين يقدر على أن يأخذ هذا الغناء منّي. فقال لي: و لم ويحك؟ قلت: لأني لا أصحّحه و لا تسخو نفسي لهم به. فلما فعلت يا أمير المؤمنين في الجارية التي أخذتها منّي؟ (يعني شجا، و هي التي كان أهداها إلى الواثق و عمل لها المصنّف الذي في أيدي الناس لإسحاق). قال: و كيف؟ فقلت: لأنها تأخذه منّي و أطيب به لها نفسا، و هم يأخذونه منها. قال: فأمر بها فأخرجت و أخذته على المكان.

فأمر لي بمائة ألف درهم أخرى، و أذن لي في الانصراف. و كان إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ حاضرا عنده، فقلت له عند وداعي إيّاه: أعطاك اللّه يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنيّة و لم تبلغه رغبة. فالتفت إليّ إسحاق بن إبراهيم فقال لي: ويحك يا إسحاق! تعيد الدعاء! فقلت: إي و اللّه أعيده قاصّ أنا أو مغنّ. فانصرفت إلى بغداد و أقمت، حتى قدم إسحاق فجئته مسلّما. فقال: ويلك يا إسحاق! أ تدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده؟ قلت:

لا، أيها الأمير. قال: قال لي: ويحك! كنّا أغنى الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا فيفسده علينا. هذه رواية أبي أيّوب.

ص: 191

تقدير إسحاق لغناء الواثق:
اشارة

قال أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى و أخبرني أبي رحمه اللّه عن إسحاق أنه قال: لمّا صنعت لحني في:

خليليّ عوجا من صدور الرواحل

غنّيته الواثق فاستحسنه و عجب من صحّة قسمته، و مكث صوته أيّاما ثم قال لي: يا إسحاق، قد صنعت لحنا في صوتك و في إيقاعه، و أمر فغنّيت به؛ فقلت: /يا أمير المؤمنين، بغّضت إليّ لحني و سمّجته عندي. و قد كنت استأذنته مرّات في الانحدار إلى بغداد بعد أن ألقيت اللحن الذي كان أمرني بصنعه في:

لقد بخلت حتى لو اني سألتها فمنعني و دافعني بذلك. فلما صنع لحنه الرّمل في:

خليليّ عوجا من صدور الرّواحل

قلت له: يا أمير المؤمنين، قد و اللّه اقتصصت و زدت؛ فأذن لي بعد ذلك. قال أبو الحسن عليّ بن يحيى قلت لإسحاق: فأيّهما أجود الآن لحنك/فيه أو لحنه؟ فقال: لحني أجود قسمة و أكثر عملا، و لحنه أظرف، لأنه جعل ردّته من نفس قسمته، فليس يقدر على أدائه إلا متمكّن من نفسه. قال أبو الحسن: فتأمّلت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق. قال و قال لي إسحاق: ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بالغناء.

فأمّا نسبة هذين الصوتين، فإن أحدهما قد مضى و مضت نسبته. و الآخر:

صوت

أيا منشر الموتى أقدني من التي *** بها نهلت نفسي سقاما و علّت

لقد بخلت حتى لو انّي سألتها *** قذى العين من ضاحي التّراب لضنّت

الشعر لأعرابيّ رواه إسحاق عنه و لم يذكر اسمه، و الناس يغلطون فينسبونه إلى كثيّر و يظنّونه من قصيدته التي أوّلها:

خليليّ هذا رسم عزّة فاعقلا *** قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلّت

و هذا خطأ ممن قال ذلك. و الغناء للواثق ثاني ثقيل بالوسطى. و لإسحاق في البيت الثاني و بعده بيت ألحقه به ليس من الشعر ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و البيت الذي ألحقه إسحاق به من شعره:

/

فإن بخلت فالبخل منها سجية *** و إن بذلت أعطت قليلا و أكدت

كان يعرض غناءه على إسحاق فيدلي فيه برأيه:

أخبرني عمّي رحمه اللّه قال حدّثني أبو جعفر بن الدّهقانة النّديم قال:

كان الواثق إذا أراد أن يعرض صنعته على إسحاق نسبها إلى غيره و قال: وقع إلينا صوت قديم من بعض العجائز ما سمعه أحد، و يأمر من يغنّيه إيّاه. و كان إسحاق يأخذ نفسه في ذلك بقول الحق أشدّ أخذ، فإن كان جيّدا من صناعته قرّظه و وصفه و استحسنه، و إن كان مطّرحا أو فاسدا أو متوسّطا ذكر ما فيه. فربّما كان للواثق فيه هوّى فيسأله عن تقويمه و إصلاح فساده، و ربما اطّرحه بقول إسحاق فيه؛ إلى أن صنع لحنا في قول الشاعر:

ص: 192

لقد بخلت حتى لو انّي سألتها *** قذى العين من ضاحي التراب لضنّت

كان عنده مخارق لإسحاق فجفاه و أصلحت بينهما فريدة:

فأعجب به و استحسنه، و أمر المغنّين فغنّوا فيه، و أمر بإشخاص إسحاق إليه من بغداد ليسمعه.

فكاده مخارق عنده و قال: يا أمير المؤمنين، إن إسحاق شيطان خبيث داهية، و إن قولك له فيما تصنعه: هذا صوت وقع إلينا، لا يخفى عليه به أنّ الصوت لك و من صنعتك و لا يوقع في فهمه أنه قديم، فيقول لك و بحضرتك ما يقارب هواك، فإذا خرج عن حضرتك قال لنا ضدّ ذلك. فأحفظ الواثق قوله و غاظه، و قال له: أريد على هذا القول منك دليلا. قال: أنا أقيم عليه الدليل إذا حضر. فلما قدم به و جلس في أوّل مجلس اندفع مخارق يغنّي لحن الواثق:

لقد بخلت حتّى لو انّي سألتها

فزاد فيه زوائد أفسدت قسمته فسادا شديدا و خفيت على الواثق لكثرة زوائد مخارق في غنائه. فسأله الواثق عنه؛ فقال: هذا غناء/فاسد غير مرضيّ عندي. فغضب الواثق و أمر بإسحاق فسحب حتى أخرج من المجلس. فلما كان من الغد/قالت فريدة للواثق: يا أمير المؤمنين، إن إسحاق رجل يأخذ نفسه بقول الحق في صناعته على كل حال ساءته أو سرّته، لا يخاف في ذلك ضررا و لا يرجو نفعا؛ و ما لك منه عوض. و قد كاده مخارق عندك فزاد في صدر الصوت من زوائده التي تعرف، و تركه في المصراع الثاني على حاله، و نقص من البيت الثاني، و قد تبيّنت ذلك.

و أنا أعرضه على إسحاق و أغنيه إيّاه على صحّته، و اسمع ما يقول. و ما زالت تلطف للواثق حتى رضي عنه و أمر بإحضاره. فغنّته إيّاه فريدة كما صنعه الواثق. فلمّا سمعه قال: هذا صوت صحيح الصّنعة و القسمة و التجزئة، و ما هكذا سمعته في المرة الأولى. ثم أخبر الواثق عن مواضع فساده حينئذ، و أبان ذلك له بما فهمه. و غنّته فريدة عدّة أصوات من القديم و الحديث كلّها يقول فيها بما عنده من مدح لبعضها و طعن على بعض. فاستحسن الواثق ذلك و أجازه يومئذ و حباه، و جفا مخارقا مدّة لما فعله به.

أخبرني جحظة قال حدّثني ابن المكّيّ عن أبيه قال:

كان الواثق إذا صنع شيئا من الغناء أخبر إسحاق به و عرضه عليه حتى يصلح ما فيه ثم يظهره.

و قد أخبرني الحسن بن عليّ عن يزيد بن محمد المهلّبيّ بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكرته هاهنا و في ألفاظه اختلاف. و قد تقدّم ذكره(1) و ابتدأناه في أخبار إسحاق. و الأبيات الثانية التي غنّى فيها الواثق و إسحاق أنشدنيها عليّ بن سليمان الأخفش و عليّ بن هارون بن عليّ بن يحيى جميعا عن هارون بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن إسحاق لأعرابيّ، و أنشدناها محمد بن العبّاس اليزيديّ قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب لبعض الأعراب:

/

ألا قاتل اللّه الحمامة غدوة *** على الغصن ما ذا هيّجت حين غنّت

فغنّت بصوت أعجميّ فهيّجت *** هواي الذي كانت ضلوعي أكنّت

فلو قطرت عين امرئ من صبابة *** دما قطرت عيني دما و ألمّت

فما سكتت حتى أويت لصوتها *** و قلت أرى هذي الحمامة جنّت

ص: 193


1- راجع ج 5 ص 360-361 من هذه الطبعة.

و لي زفرات لو يدمن قتلنني *** بشوق إلى نادي التي قد تولّت

إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضت *** فمن لي بأخرى في غد قد أظلّت

أيا منشر الموتى أعنّي على التي *** بها نهلت نفسي سقاما و علّت

لقد بخلت حتى لو انّي سألتها *** قذى العين من سافي(1) التراب لضنّت

فقلت ارحلا يا صاحبيّ فليتني *** أرى كلّ نفس أعطيت ما تمنّت

حلفت لها باللّه ما أمّ واحد *** إذا ذكرته آخر الليل أنّت

و ما وجد أعرابيّة قذفت بها *** صروف النّوى من حيث لم تك ظنّت

إذا ذكرت ماء العضاه و طيبه *** و بطن الحصى من بطن خبت أرنّت

بأعظم من وجدي بها غير أنني *** أجمجم أحشائي على ما أجنّت

غناه إسحاق فوصله و شعره فيه:

أخبرني جحظة و ابن أبي الأزهر و يحيى بن عليّ و الحسين بن يحيى قالوا جميعا أخبرنا/حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و قد جمعت روايتهم في هذا الخبر و زدت فيه ما نقصه كل واحد منهم حتى كملت ألفاظه، قال:

ما وصلني أحد من الخلفاء بمثل ما وصلني به الواثق؛ و ما كان أحد منهم يكرمني إكرامه. و لقد غنّيته لحني:

لعلّك إن طالت حياتك أن ترى *** بلادا بها مبدى لليلى و محضر

فاستعاده منّي ليلة(2) لا يشرب على غيره، ثم وصلني بثلاثمائة ألف درهم. و لقد قدمت عليه في بعض قدماتي، فقال لي: ويحك يا إسحاق! أ ما اشتقت إليّ! فقلت: بلى و اللّه يا سيّدي! و قلت في ذلك أبياتا إن أمرتني أنشدتها.

قال: هات؛ فأنشدته:

أشكو إلى اللّه بعدي عن خليفته *** و ما أقاسيه من همّ و من كبر

لا أستطيع رحيلا إن هممت به *** يوما إليه و لا أقوى على السفر

أنوي الرحيل إليه ثم يمنعني *** ما أحدث الدهر و الأيّام في بصري

ثم استأذنته في إنشاد قصيدة مدحته بها فأذن لي؛ فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

لمّا أمرت بإشخاصي إليك هوى *** قلبي حنينا إلى أهلي و أولادي

ثم اعتزمت فلم أحفل ببينهم *** و طابت النفس عن فضل و حمّاد

كم نعمة لأبيك الخير أفردني *** بها و خصّ بأخرى بعد إفرادي

فلو شكرت أياديكم و أنعمكم *** لما أحاط بها وصفي و تعدادي

لأشكرنّك ما غار النجوم و ما *** حدا على الصّبح في إثر الدّجى حاد

ص: 194


1- و يروى: «ضاحي التراب» (راجع ص 280 ص 15).
2- في ح: «جمعة».

قال عليّ بن يحيى خاصّة في خبره: فقال لي أحمد بن إبراهيم: يا أبا الحسن، أخبرني لو قال الخليفة لإسحاق:

أحضر لي فضلا و حمّادا أ ليس كان يفتضح إسحاق! (يعني من دمامة خلقتهما و تخلّف شاهدهما).

خرج معه إسحاق إلى النجف، و شعره فيها و في حنينه إلى ولده:

قال إسحاق: ثم انحدرت مع الواثق إلى النّجف، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد قلت في النّجف قصيدة.

فقال: هاتها؛ فأنشدته قولي:

يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف *** نحيّ دارا لسعدى ثم ننصرف

/لم ينزل الناس في سهل و لا جبل *** أصفى هواء و لا أغذى من النّجف

حفّت ببرّ و بحر في جوانبها *** فالبرّ في طرف و البحر في طرف

ما إن يزال نسيم من يمانية *** يأتيك منها بريّا روضة أنف

حتى انتهيت إلى مديحه فقلت و قد انتهيت إلى قولي فيه:

لا يحسب الجود يفني ماله أبدا *** و لا يرى بذل ما يحوي من السّرف

فقال لي: أحسنت يا أبا محمد! فكنّاني، و أمر لي بألف درهم. و انحدرنا إلى الصالحيّة التي يقول فيها أبو نواس:

فالصالحيّة من أكناف كلواذا(1)

و ذكرت الصبيان و بغداد فقلت:

أ تبكي على بغداد و هي قريبة *** فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعدا

لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى *** لو انّا وجدنا من فراق لها بدّا

/إذا ذكرت بغداد نفسي تقطّعت *** من الشوق أو كادت تموت بها وجدا

كفى حزنا أن رحت لم تستطع لها *** وداعا و لم تحدث لساكنها عهدا

فقال لي: يا موصليّ، لقد اشتقت إلى بغداد! فقلت: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، و لكني اشتقت إلى الصبيان، و قد حضرني بيتان. فقال هاتهما. فقلت:

حننت إلى الأصيبية الصّغار *** و شاقك منهم قرب المزار

و كلّ مفارق يزداد شوقا *** إذا دنت الدّيار من الديار

فقال لي: يا إسحاق، سر إلى بغداد فأقم شهرا مع صبيانك ثم عد إلينا، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم.

امتياز إسحاق على المغنين في مجلسه:

أخبرني جحظة عن ابن حمدون: أن إسحاق كان يحضر مجالس الخلفاء إذا جلسوا للشّرب في جملة المغنّين و عوده معه إلى أيام الواثق، فإنه كان إذا قدم عليه يحضر مع الجلساء بغير عود، و يدنيه الواثق و لا يغنّي حتى يقول له: غنّ، فإذا قال له غنّ جاءوه بعود فغنّى به، و إذا فرغ رفع العود من بين يديه إكراما من الواثق له.

ص: 195


1- راجع الحاشية رقم 1 ص 357 ج 5 من هذه الطبعة.
برّز إسحاق عليه في لحن اشتركا فيه:

أخبرني الحسين بن يحيى عن وسواسة بن الموصليّ عن حمّاد بن إسحاق قال:

كتب حمدون بن إسماعيل إلى أبي: إن أمير المؤمنين الواثق يأمرك أن تصنع لحنا في هذا الشعر:

لقد بخلت حتى لو انّي سألتها

و قد كان الواثق غنّى فيه غناء أعجبه؛ فغنّى فيه أبي. فلما سمعه الواثق قال: أفسد علينا إسحاق ما كنّا أعجبنا به من غنائنا. قال حمّاد: ثم لم أعلم أن أبي صنع بعده غناء حتى مات.

و من مشهور أغاني الواثق:
صوت

سقى العلم الفرد الذي في ظلاله *** غزالان مكحولان مؤتلفان

أرغتهما ختلا فلم أستطعهما *** و رميا ففاتاني و قد رمياني(1)

و لحنه فيه من الثقيل الأوّل. و لإسحاق فيه رمل.

قصة لأعرابي عاشق مع إسحاق بن سليمان بن علي:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال أخبرني محمد بن منصور بن عليّة القرشيّ قال أخبرني جعفر بن عبيد اللّه بن جعفر الهاشميّ عن إسحاق بن سليمان بن عليّ قال:

/لقيت أعرابيّا بالسّميّة(2) فصيحا، فاستخففته و تأمّلته فإذا هو مصفرّ شاحب ناحل الجسم، فاستنشدته فأنشدني الشيء بعد الشيء على استكراه منّي له. فقلت له: ما بالك؟ فو اللّه إنك لفصيح! فقال: أما ترى الجبلين؟ قلت بلى. قال: في ظلالهما و اللّه يمنعني من إنشادك و يشغلني و يذهلني عن الناس. قلت: و ما ذاك؟ قال: بنت عمّ لي قد تيّمتني و ذهبت بعقلي، و اللّه إنه لتأتي عليّ ساعات ما أدري أ في السماء أنا أم في الأرض، و لا أزال ثابت العقل ما لم يخامر ذكرها قلبي، فإذا خامره بطلت حواسّي و عزب عنّي لبّي. قلت: فما يمنعك منها؟ أ قلّة ما في يدك؟ قال: و اللّه ما يمنعني منها غير ذلك. قلت: و كم مهرها؟ قال: مائة ناقة. قلت: فأنا أدفعها إليك إذا لتدفعها إليهم. قال: و اللّه لئن فعلت ذلك إنك لأعظم الناس عليّ منّة. فوعدته بذلك و استنشدته ما قال فيها، فأنشدني أشياء كثيرة منها قوله:

/

سقى العلم الفرد الذي في ظلاله *** غزالان مكحولان مؤتلفان

البيتان. فقلت له: يا أعرابيّ، و اللّه لقد قتلتني بقولك «ففاتاني و قد قتلاني» و أنا بريء من العبّاس أن لم أقم بأمرك.

ثم دعوت بمركوب فركبته و حملت معي الأعرابيّ، فصرنا إلى أبي الجارية في جماعة من أهلي و مواليّ حتى زوّجته إيّاها و ضمنت عنه الصّداق و اشتريت له مائة ناقة فسقتها عنه؛ و أقمت عندهم ثلاثا و نحرت لهم ثلاثين جزورا، و وهبت للأعرابيّ عشرة آلاف درهم و للجارية مثلها، و قلت: استعينا بهذا على اتّصالكما و انصرفت. فكان الأعرابيّ يطرقنا في كلّ سنة و امرأته معه فأهب له و أصله و ينصرف.

ص: 196


1- و يروى: «و قد قتلاني» (انظر الصفحة الآتية).
2- السمية: جبل، كما في «معجم البلدان» لياقوت.
غناؤه في شعر حسان:
اشارة

و من أغانيه - أخبرني به ذكاء وجه الرّزّة عن أحمد بن العلاء عن مخارق و أنه أخذه عنه -:

صوت

إنّ التي عاطيتها فرددتها *** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

كلتاهما حلب العصير فعاطني *** بزجاجة أرخاهما للمفصل

يروي: «كلتاهما جلب العصير» و «حلب العصير». و يروي: «للمفصل» و «للمفصل». و المفصل: الواحد من المفاصل، و المفصل هو اللسان. ذكر ذلك عليّ بن سليمان الأخفش عن محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابيّ.

الشعر لحسّان بن ثابت. و الغناء للواثق خفيف رمل بالبنصر. و فيه لإبراهيم الموصليّ رمل مطلق في مجرى الوسطى. و هذه الأبيات من قصيدة حسّان المشهورة التي يمدح بها بني جفنة، و أوّلها:

أ سألت رسم الدار أم لم تسأل

و هي من فاخر المديح، منها قوله:

أولاد جفنة عند قبر أبيهم *** قبر ابن مارية الكريم المفضل

يسقون من ورد البريص(1) عليهم *** بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

بيض الوجوه كريمة أنسابهم *** شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل

يغشون حتى ما تهرّ كلابهم *** لا يسألون عن السّواد المقبل

تفسير القاضي عبيد اللّه بن الحسن لهذا الشعر:

نسخت من كتاب الشّاهينيّ: حدّثني ابن عليل العنزيّ قال حدّثني أحمد بن عبد الملك بن أبي السّمّال السّعديّ قال حدّثني أبو ظبيان الحمّانيّ قال:

/اجتمعت جماعة من الحيّ على شراب لهم، فتغنّى رجل منهم بشعر حسّان:

إنّ التي عاطيتني فرددتها *** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

كلتاهما حلب العصير فعاطني *** بزجاجة أرخاهما للمفصل

فقال رجل من القوم: ما معنى قوله «إن التي عاطيتني» فجعلها واحدة، ثم قال: «كلتاهما حلب العصير» فجعلهما ثنتين؟ فلم يعلم أحد منّا الجواب. فقال رجل من القوم: امرأته طالق ثلاثا إن بات أو يسأل القاضي عبيد اللّه بن الحسن عن تفسير هذا الشعر. قال أبو ظبيان: فحدّثني بعض أصحابنا السعديّين قال: فأتيناه نتخطّى إليه الأحياء حتى أتيناه و هو في/مسجده يصلّي بين العشاءين. فلما سمع حسّنا أوجز في صلاته، ثم أقبل علينا و قال: ما حاجتكم؟ فبدأ رجل منّا كان أحسننا بقيّة(2) فقال: نحن، أعزّ اللّه القاضي، قوم نزعنا إليك من طرف البصرة في

ص: 197


1- البريص: اسم غوطة دمشق. و بردى: نهر دمشق.
2- أي أحسننا رأيا و فضلا. و إنما سمي ذلك بقية، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده و أفضله.

حاجة مهمّة فيها بعض الشيء. فإن أذنت لنا قلنا. قال: قولوا. فذكر يمين الرجل و الشعر. فقال: أمّا قوله «إن التي ناولتني(1)» هي الخمرة. و قوله: «قتلت» يعني مزجت بالماء. و قوله: «كلتاهما حلب العصير» يعني به الخمر و مزاجها، فالخمر عصير العنب، و الماء عصير السّحاب؛ قال اللّه عزّ و جلّ: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ الْمُعْصِرٰاتِ مٰاءً ثَجّٰاجاً انصرفوا إذا شئتم.

غناؤه لحنا على مثال لحن لمخارق:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ عن أبيه قال:

غنّى مخارق يوما بحضرة الواثق:

حتى إذا الليل خبا ضوأه *** و غابت الجوزاء و المرزم(2)

/خرجت و الوطء خفيّ كما *** ينساب من مكمنه الأرقم

فاستملح الواثق الشعر و اللحن، فصنع في نحوه:

قالت إذا الليل دجا فأتنا *** فجئتها حين دجا الليل

خفيّ وطء الرّجل من حارس *** و لو درى حلّ بي الويل

و لحنه فيه من الرّمل. و صنع فيه الناس ألحانا بعده: منها لعريب خفيف رمل، و منها ثقيل أوّل لا أعلم لمن هو؛ و سمعت ذكاء و محمد بن إبراهيم قريضا يغنّيانه و ذكرا أنهما أخذاه عن أحمد بن أبي العلاء، و لا أدري لمن هو.

تحدّث إسحاق إليه بقصة أعرابيّ عاشق و غنى في شعره فوصله و وصل الأعرابيّ:

حدّثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال:

سرت إلى سرّمن رأى بعد قدومي من الحجّ، فدخلت إلى الواثق فقال: بأي شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب و أشعارهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين جلس إليّ فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحادثني فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان منظرا و حديثا و أدبا. فاستنشدته فأنشدني:

سقى العلم الفرد الذي في ظلاله *** غزالان مكحولان مؤتلفان

إذا أمنا التفّا بجيدي تواصل *** و طرفاهما للرّيب مسترقان(3)

أرغتهما ختلا فلم أستطعهما *** و رميا ففاتاني و قد قتلاني

ثم تنفّس تنفّسا ظننت أنه قد قطع حيازيمه. فقلت: مالك بأبي أنت؟ فقال: إن لي وراء هذين الجبلين شجنا، و قد حيل بيني و بين المرور به و نذروا دمي، و أنا أتمتّع بالنظر إلى الجبلين تعلّلا بهما إذا قدم الحاجّ، ثم يحال بيني و بين ذلك. فقلت له: زدني مما قلت في ذلك. فأنشدني:

/

إذا ما وردت الماء في بعض أهله *** حضور فعرّض بي كأنّك مازح

ص: 198


1- الرواية المتقدمة في البيت: «... عاطيتني».
2- الجوزاء: برج في السماء، سميت بذلك لأنها معترضة في جوز السماء أي وسطها. و المرزمان: نجمان مع الشعريين.
3- الاستراق: اختلاس النظر و السمع، و مثله التسرق و المسارقة.

فإن سألت عنّي حضور فقل لها *** به غبّر(1) من دائه و هو صالح

فأمرني الواثق فكتبت له الشعرين. فلمّا كان بعد أيّام دعاني فقال: قد صنع بعض عجائز دارنا الشعرين لحنا فاسمعه، فإن ارتضيته أظهرناه و إن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحته. فغنّي لنا من وراء الستار، فكان في نهاية الجودة، و كذلك كان يفعل إذا صنع شيئا. فقلت له: أحسن و اللّه صانعه يا أمير المؤمنين ما شاء!. فقال: بحياتي؟ فقلت: و حياتك، /و حلفت له بما وثق به، و أمر لي برطل فشربته، ثم أخذ العود فغنّاه ثلاث مرات، و سقاني ثلاثة أرطال و أمر لي بثلاثين ألف درهم. فلما كان بعد أيّام دعاني فقال: قد صنع أيضا عندنا في الشعر الآخر، و أمر فغنّي به؛ فكانت حالي فيه مثل الحال في الأوّل. فلما استحسنته و حلفت له على جودته ثلاث مرات، سقاني ثلاثة أرطال و أمر لي بثلاثين ألف درهم. ثم قال لي: هل قضيت حقّ هديّتك؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ فأطال اللّه بقاءك، و تمّم نعمتك، و لا أفقدنيها منك و بك. ثم قال: لكنك لم تقض حقّ جليسك الأعرابيّ و لا سألتني معونته على أمره، و قد سبقت مسألتك و كتبت بخبره إلى صاحب الحجاز و أمرته بإحضاره، و خطبت المرأة له و حمل صداقها إلى قومها عنه من مالي. فقبّلت يديه و قلت: السّبق إلى المكارم لك، و أنت أولى بها من عبدك و من سائر الناس.

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني:
اشارة

منها الصوتان اللذان في الأخبار المتقدّمة.

صوت

حتى إذا الليل خبا ضوأه *** و غابت الجوزاء و المرزم

أقبلت و الوطء خفيّ كما *** ينساب من مكمنه الأرقم

ذكر يحيى المكيّ أنّ اللحن لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى البنصر، و ذكر الهشاميّ أنه منحول.

طرب شيخ لسماع مغنية فرمى بنفسه في الفرات:

فأخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و إسماعيل بن يونس و غيرهما قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن ابن كناسة قال:

اصطحب شيخ مع شباب في سفينة في الفرات و معهم مغنّية. فلمّا صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ: معنا جارية لبعضنا و هي مغنّية، فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت لنا فعلنا. قال: أنا أصعد إلى طلل(2) السفينة، فاصنعوا أنتم ما شئتم. فصعد، و أخذت الجارية عودها فغنّت:

حتى إذا الصبح بدا ضوأه *** و غابت الجوزاء و المرزم

أقبلت و الوطء خفيّ كما *** ينساب من مكمنه الأرقم

ص: 199


1- غبر الشيء: بقيته.
2- في الأصول: «ظلال السفينة» بالظاء المعجمة. و التصويب عن كتب اللغة. و طلل السفينة: جلالها، و هو غطاء تغشى به كالسقف للبيت.

فطرب الشيخ و صاح ثم رمى بنفسه بثيابه في الفرات، و جعل يغوص في الفرات و يطفو و يقول: أنا الأرقم! أنا الأرقم! فألقوا أنفسهم خلفه، فبعد لأي ما استخرجوه، و قالوا له: يا شيخ، ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إليكم عنّي! فإنّي و اللّه أعرف من معاني الشعر ما لا تعرفون. و قال إسماعيل في خبره/فقلت له: ما أصابك؟ فقال: دبّ شيء من قدمي إلى رأسي كدبيب النمل و نزل في رأسي مثله، فلمّا وردا على قلبي لم أعقل ما عملت.

و أمّا ما في الخبر من الصّنعة في: «قالت إذا الليل دجا» فإنّ لحن الواثق هو المشهور، و ما وجدت في كتب «الأغاني» غيره، بل سمعت محمد بن إبراهيم المعروف بقريض و ذكاء وجه الرّزّة يغنّيان فيه لحنا من الثقيل الأوّل المذموم؛ فسألتهما عن صانعه فلم يعرفاه، و ذكرا جميعا أنّهما أخذاه/عن أحمد بن أبي العلاء.

علمه بالغناء و عدد أصواته و ذكر المشهور منها:

و أخبرني الصولي عن أحمد بن محمد بن إسحاق عن حمّاد بن إسحاق قال:

كان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء، و بلغت صنعته مائة صوت، و كان أحذق من غنّى بضرب العود. قال: ثم ذكرها فعدّ منها:

يفرح الناس بالسّماع و أبكي *** أنا حزنا إذا سمعت السّماعا

و لها في الفؤاد صدع مقيم *** مثل صدع الزّجاج أعيا الصّناعا

الشعر للعبّاس بن الأحنف. و الغناء للواثق خفيف ثقيل. و فيه لأبي دلف خفيف رمل.

و منها:

ألا أيّها النفس التي كادها الهوى *** أ فأنت إذا رمت السّلوّ غريمي

أفيقي فقد أفنيت صبري أو اصبري *** لما قد لقيتيه عليّ و دومي

الشعر و الغناء للواثق خفيف رمل.

و منها:

سقى العلم الفرد الذي في ظلاله *** غزالان مكحولان مؤتلفان

أرغتهما ختلا فلم أستطعهما *** و رميا ففاتاني و قد قتلاني

/الغناء للواثق ثقيل أوّل. و فيه لإسحاق رمل و هو من غريب صنعته، يقال إنه صنعته بالرّقّة.

و منها:

كلّ يوم قطيعة و عتاب *** ينقضي دهرنا و نحن غضاب

ليت شعري أنا خصصت بهذا *** دون ذا الخلق أم كذا الأحباب

فاصبر النفس لا تكونن جزوعا *** إنما الحبّ حسرة و عذاب

فيه للواثق رمل، و لزرزور ثقيل أوّل، و لعريب هزج.

و منها:

و لم أر ليلى بعد موقف ساعة *** بخيف منى ترمي جمار المحصّب

ص: 200

و يبدي الحصى منها إذا قذفت به *** من البرد أطراف البنان المخضّب

فأصبحت من ليلى الغداة كناظر *** مع الصبح في أعقاب نجم مغرّب

ألا إنما غادرت يا أمّ مالك *** صدى أينما تذهب به الريح يذهب

الصنعة في هذا الشعر ثقيل أوّل و هو لحن الواثق فيما أرى. و نسبه حبش، و هو قليل التحصيل، إلى ابن محرز في موضع، و إلى سليم في موضع آخر، و إلى معبد في موضع ثالث.

و منها:

أمست و شاتك قد دبّت عقاربها(1) *** و قد رموك بعين الغشّ و ابتدروا

تريك أعينهم ما في صدورهم *** إنّ الصدور يؤدّي غيبها النظر

الشعر للمجنون. و الغناء للواثق ثاني ثقيل. و فيه لمتيّم ثقيل أوّل. و قد نسب لحن كل واحد منهما إلى الآخر.

/و منها:

عجبت لسعي الدهر بيني و بينها *** فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدهر

فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى *** و زدت على ما لم يكن بلغ الهجر

الغناء للواثق رمل. و فيه لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى، و لابن سريج ثقيل أوّل بالبنصر، /و لعريب ثقيل أوّل آخر.

و منها:

كأنّ شخصي و شخصه حكيا *** نظام نسرينتين في غصن

فليت ليلي و ليله أبدا *** دام و دمنا به فلم نبن

الشعر أظنّه لعليّ بن هشام أو لمراد(2). و لحن الواثق فيه ثقيل أوّل. و فيه لعريب ثقيل أوّل آخر. و فيه لأبي عيسى بن الرشيد و لمتيّم لحنان لم يقع إليّ جنسهما.

و منها:

أهابك إجلالا و ما بك قدرة *** عليّ و لكن ملء عين حبيبها

و ما فارقتك النفس يا ليل أنها *** قلتك و لكن قلّ منك نصيبها

لحن الواثق فيه ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى. و فيه لغيره لحن.

و منها(3):

في فمي ماء و هل ين *** طق من في فيه ماء!

أنا مملوك لمملو *** ك عليه الرّقباء

ص: 201


1- لو كان: «عقاربهم» لا تحدث الضمائر.
2- مراد: شاعرة علي بن هشام و هي التي رثته لما قتله المأمون. (راجع ص 304 من الجزء السابع من هذه الطبعة).
3- في الأصول: «و منه».

كنت حرّا هاشميّا *** فاسترقّتني الإماء

و سباني من له كا *** ن على الكره السّباء

/أحمد اللّه على ما *** ساقه نحوي القضاء

ما بعينيّ دموع *** أنفد الدمع البكاء

الغناء للواثق رمل.

و منها(1):

أيّ عون على الهموم ثلاث *** مترعات(2) من بعدهنّ ثلاث

بعدها أربع تتمّة عشر *** لا بطاء لكنهنّ حثاث

فيه رمل ينسب إلى الواثق و إلى متيّم.

و منها(1):

أيا عبرة العينين قد ظمئ الحدّ *** فما لكما من أن تلمّا به بدّ

و يا مقلة قد صار يبغضها الكرى *** كأن لم يكن من قبل بينهما ودّ

لئن كان طول العهد أحدث سلوة *** فموعد بين العين و العبرة الوجد(3)

و ما أنا إلاّ كالذين تخرّموا *** على أنّ قلبي من قلوبهم فرد

الشعر و الغناء للواثق رمل. و فيه لأبي حشيشة هزج، ذكر ذلك الهشاميّ الملقّب بالمسك، و أخبرني جحظة أنه للمسدود. و أخبرني جحظة أن من صنعة أبي حشيشة في شعر الواثق خفيف رمل و هو:

سألته حويجة فأعرضا *** و علق القلب به و مرضا

فاستلّ منّي سيف عزم منتضى *** فكان ما كان و كابرنا القضا

قال: و في هذا الشعر أيضا بعينه للواثق رمل، و لقلم الصالحيّة فيه هزج. و قد غلط جحظة في هذا الشعر، و هو لسعيد بن حميد مشهور، و له فيه خبر قد ذكرناه في موضعه(4).

غاضبه خادم له فقال فيه شعرا غنى فيه:

أخبرني عمّي عن عليّ بن محمد بن نصر عن جدّه(5) ابن حمدون عن أبيه حمدون بن إسماعيل قال:

كان الواثق يحبّ خادما له كان أهدي إليه من مصر، فغاضبه يوما و هجره، فسمع الخادم يحدّث/صباحا له

ص: 202


1- في الأصول: «و منه».
2- كذا في ج. و في سائر الأصول: «متبعات».
3- الوجد: اللقاء.
4- راجع الجزء السابع عشر من «الأغاني» ص 2-9 طبع بولاق.
5- كذا في الأصول. و المعروف أن ابن حمدون خال علي بن محمد بن نصر لا جدّه. (راجع «الاستدراك الأول» في الجزء الخامس ص 537 من هذه الطبعة).

بحديث أغضبه عليه، إلى أن قال له: و اللّه إنه ليجهد منذ أمس على أن أصالحه فما أفعل. فقال الواثق في ذلك:

يا ذا الذي بعذابي ظلّ مفتخرا *** هل أنت إلاّ مليك جار إذ قدرا

لو لا الهوى لتجازينا على قدر *** و إن أفق مرّة منه فسوف ترى

قال: و غنّى الواثق و علّويه فيه لحنين، ذكر الهشاميّ أن لحن الواثق خفيف ثقيل، و في أغاني علّويه: لحنه في هذا الشعر خفيف رمل.

غنى في شعر لعلي بن الجهم:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني بن أبي العيناء عن أبيه عن إبراهيم بن الحسن بن سهل قال:

كنّا وقوفا على رأس الواثق في أوّل مجالسه التي جلسها لمّا ولي الخلافة، فقال: من ينشدنا شعرا قصيرا مليحا؟ فحرصت على أن أعمل شيئا فلم يجئني، فأنشدته لعليّ بن الجهم:

لو تنصّلت إلينا *** لوهبنا لك ذنبك

ليتني أملك قلبي *** مثلما تملك قلبك

أيّها الواثق بالل *** ه لقد ناصحت ربّك

سيّدي ما أبغض العي *** ش إذا فارقت قربك

أصبحت حجّتك العلي *** ا و حزب اللّه حزبك

/فاستحسنها و قال: لمن هذه؟ فقلت: لعبدك عليّ بن الجهم. فقال: خذ ألف دينار لك و له؛ و صنع فيها لحنا كنّا نغنّي به بعد ذلك.

يوم له مع المغنين بسرّمن رأى:

أخبرني محمد بن يحيى بن أبي عبّاد قال حدّثني أبي قال:

لما خرج المعتصم إلى عمّوريّة استخلف الواثق بسرّمن رأى، فكانت أموره كلّها كأمور أبيه. فوجّه إلى الجلساء و المغنّين أن يبكّروا إليه يوما حدّد لهم، و وجّه إلى إسحاق، فحضر الجميع. فقال لهم الواثق: إني عزمت على الصّبوح، و لست أجلس على سرير حتى أختلط بكم و نكون كالشيء الواحد، فاجلسوا معي حلقة، و ليكن كلّ جليس إلى جانبه مغنّ، فجلسوا كذلك. فقال الواثق: أنا أبدأ؛ فأخذ عودا فغنّى و شربوا و غنّى من بعده، حتى انتهى إلى إسحاق فأعطي العود فلم يأخذه. فقال: دعوه. ثم غنّوا دورا آخر. فلما بلغ الغناء إلى إسحاق لم يغنّ، و فعل هذا ثلاث مرّات. فوثب الواثق فجلس على سريره و أمر الناس فأدخلوا، فما قال لأحد منهم: اجلس. ثم قال: عليّ بإسحاق!. فلما رآه قال: يا خوزيّ يا كلب! أ تنزّل لك و أغنّي و ترتفع عنّي! أ ترى لو أنّي قتلتك كان المعتصم يقيدني بك! ابطحوه! فبطح فضرب ثلاثين مقرعة ضربا خفيفا، و حلف ألاّ يغنّي سائر يومه سواه. فاعتذر و تكلّمت الجماعة فيه، فأخذ العود و ما زال يغنّي حتى انقضى ذلك اليوم، و عاد الواثق إلى مجلسه.

شعره في خادم يهواه:

وجدت في بعض الكتب عن ابن المعتزّ قال: كان الواثق يهوى خادما له فقال فيه:

ص: 203

سأمنع قلبي من مودّة غادر *** تعبّدني خبثا بمكر مكاشر

خطبت إليه الوصل خطبة راغب *** فلاحظني زهوا بطرف مهاجر

قال أبو العبّاس عبد اللّه بن المعتزّ: و للواثق في هذا الشعر لحن من الثقيل الأوّل.

ألقى على غلمانه صوتا فأخذوه عنه:

/أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال حدّثني عبد أمّ غلام الواثق قال:

دعا بنا الواثق مع صلاة الغداة و هو يستاك فقال: خذوا هذا الصوت، و نحن عشرون غلاما كلّنا يغنّي و يضرب، ثم ألقى علينا:

أشكو إلى اللّه ما ألقى من الكمد *** حسبي بربّي فلا أشكو إلى أحد

فما زال يردّده حتى أخذناه عنه.

نسبة هذا الصوت

أشكو إلى اللّه ما ألقى من الكمد *** حسبي بربّي فلا أشكو إلى أحد

أين الزمان الذي قد كنت ناعمة *** مهلّة بدنوّي منك يا سندي

و أسأل اللّه يوما منك يفرحني *** فقد كحلت جفون العين بالسّهد

شوقا إليك و ما تدرين ما لقيت *** نفسي عليك و ما بالقلب من كمد

الغناء للواثق ثقيل أوّل بالبنصر. و فيه لعريب أيضا ثقيل أوّل بالوسطى.

كان إسحاق يصحح له غناءه:

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد المكّيّ قال حدّثني أبي قال:

كان الواثق يعرض صنعته على إسحاق، فيصلح الشيء بعد الشيء ممّا يخفى على الواثق؛ فإذا صحّحه أخرجه إلينا و سمعناه.

أمر مخارقا و علويه و عريب أن يعارضوا لحنا له:

حدّثنا جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال حدّثني مخارق قال:

لمّا صنع الواثق لحنه في:

حوراء ممكورة(1) منعّمة *** كأنما شفّ وجهها نزف

/و صنع لحنه في «سأذكر سربا طال ما كنت فيهم» أمرني و علّويه و عريب أن نعارض صنعته فيهما؛ ففعلنا و اجتهدنا ثم غنّيناه. فضحك فقال: أمنّا معكم أن نجد من يبغّض إلينا صنعتنا كما بغّض إسحاق إلينا «أيا منشر الموتى». قال حمّاد: هذا آخر لحن صنعه أبي. يعني الذي عارض به لحن الواثق في «أيا منشر الموتى».

ص: 204


1- الممكورة: المدمجة الخلق من النساء، و قيل: المستديرة الساقين. و قوله: «كأنما شف وجهها نزف» يريد أنها رقيقة المحاسن و كأن دمها و دم وجهها نزف. و المرأة أحسن ما تكون غب نفاسها لأنه يكون قد ذهب تهيج الدم فتصير رقيقة المحاسن.
غناه إسحاق صوتا فتطير به:

أخبرني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

دخلت يوما إلى الواثق و هو مصطبح، فقال لي: غنّي يا إسحاق بحياتك عليك صوتا غريبا لم أسمعه منك حتى أسرّ به بقيّة يومي. فكأن اللّه أنساني الغناء كلّه إلاّ هذا الصوت:

يا دار إن كان البلى قد محاك *** فإنه يعجبني أن أراك

أبكي الذي قد كان لي مألفا *** فيك فأتي الدار من أجل ذاك

- و الغناء في هذا اللحن للأبجر رمل بالوسطى عن ابن المكّيّ و هو الصواب، و ذكر عمرو بن بانة أنه لسليم - قال فتبينت الكراهية في وجهه، و ندمت على ما فرط منّي. و تجلّد فشرب رطلا كان في يده، و عدلت عن الصوت إلى غيره. فكان و اللّه ذلك اليوم آخر جلوسي معه.

و ممّن حكي عنه أنه صنع في شعره و شعر غيره المنتصر
اشارة

<غناه المنتصر:> فإنّي ذكرت ما روي عنه أنه غنّى فيه على سوء العهدة في ذلك و ضعف الصنعة، لئلا يشذّ عن الكتاب شيء قد روي و قد تداوله الناس. فممّا ذكر عنه أنه غنّى فيه:

صوت

سقيت كأسا كشفت *** عن ناظريّ الخمرا

فنشّطتني و لقد *** كنت حزينا خاثرا

الشعر للمنتصر، و هو شعر ضعيف ركيك إلاّ أنه يغنّي فيه.

كان متحلفا في قول الشعر و متقدما في غيره و كان يغني قبل الخلافة:
اشارة

و حدّثني الصّوليّ عن أحمد بن يزيد المهلّبي عن أبيه قال:

كان طبع المنتصر متخلّفا في قول الشعر و كان متقدّما في كل شيء غيره؛ فكان إذا قال شعرا صنع فيه و أمر المغنّين بإظهاره، و كان حسن العلم بالغناء. فلمّا ولي الخلافة قطع ذلك و أمر بستر ما تقدّم منه. من ذلك صنعته في شعره و هو من الثقيل الأوّل المذموم:

سقيت كأسا كشفت *** عن ناظريّ الخمرا

قال: و من شعره الذي غنّى فيه و لحنه ثاني ثقيل:

صوت

متى ترفع الأيّام من وضعنه *** و ينقاد لي دهر عليّ جموح

أعلّل نفسي بالرجاء و إنني *** لأغدو على ما ساءني و أروح

ص: 205

قال: و كان أبي يستجيد هذين البيتين و يستحسنهما. و نذكرها هنا شيئا من أخبار المنتصر في هذا المعنى دون غيره أسوة ما فعلنا في نظرائه.

أراد الشرب علانية فجاء الناس ليروه فقال شعرا فتفرقوا:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن يحيى بن أبي عبّاد قال حدّثني أبي قال:

أراد المنتصر أن يشرب في الزّقاق، فوافى الناس من كل وجه ليروه و يخدموه؛ فوقف على شاطئ دجلة و أقبل على الناس فقال:

لعمري لقد أصحرت خيلنا *** بأكناف دجلة للملعب

و الشعر «بأكناف دجلة للمصعب» و لكنّه غيّره لأنه تطيّر من ذكر المصعب -

فمن يك منّا يبت آمنا *** و من يك من غيرنا يهرب

قال: فعلم أنه يريد الخلوة بالنّدماء و المغنّين، فانصرفوا، فلم يبق معه إلاّ من يصلح للأنس و الخدمة.

جفا يزيد المهلبي لاختصاصه بالمتوكل ثم عفا عنه و أكرمه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ قال: كان أبي أخصّ الناس بالمنتصر، و كان يجالسه قبل مجالسته المتوكّل. فدخل المتوكّل يوما على المنتصر على غفلة، فسمع كلامه فاستحسنه، فأخذه إليه و جعله في جلسائه. و كان المنتصر يريد منه أن يلازمه كما كان، فلم يقدر على ذلك لملازمته أباه؛ فعتب عليه لتأخّره عنه على ثقة بمودّة و أنس به. فلما أفضت إليه الخلافة استأذن عليه؛ فحجبه و أمر بأن يعتقل في الدار فحبس أكثر يومه. ثم أذن له فدخل و سلّم و قبّل الأرض بين يديه ثم قبّل يده، فأمره بالجلوس؛ ثم التفت إلى بنان بن عمرو و قال له: غنّ، و كان العود في يده:

غدرت و لم أغدر و خنت و لم أخن *** و رمت بديلا بي و لم أتبدّل

- قال: و الشعر للمنتصر - فغنّاه بنان. و علم أبي أنه أراده بذلك فقام فقال: و اللّه ما اخترت/خدمة غيرك و لا صرت إليها إلاّ بعد إذنك. فقال: صدقت؛ إنما قلت هذا مازحا؛ أ تراني أتجاوز بك حكم اللّه عزّ و جلّ إذ يقول: وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ فِيمٰا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لٰكِنْ مٰا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً . ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده:

ألا يا قوم قد برح الخفاء *** و بان الصبر منّي و العزاء

تعجّب صاحبي لضياع مثلي *** و ليس لداء محروم دواء

جفاني سيّد قد كان برّا *** و لم أذنب فما هذا الجفاء

حللت بداره و علمت أنّي *** بدار لا يخيب بها الرجاء

فلمّا شاب رأسي في ذراه *** حجبت بعقب ما بعد اللّقاء(1)

فإن(2) تنأى ستور الإذن عنّا *** فما نأت المحبّة و الثناء

ص: 206


1- كذا في أ. و في سائر الأصول: «ما يعد الرخاء» و هو تحريف.
2- في ح: «تثني».

/

و إن يك كادني ظلما عدوّ *** فعند البحث ينكشف الغطاء

أ لم تر أنّ بالآفاق منّا *** جماجم حشو أقبرها الوفاء

و قد وصف الزمان لنا زياد(1)*** و قال مقالة فيها شفاء

ألا يا ربّ مغموم سيحظى *** بدولتنا و مسرور يساء

أ منتصر الخلائف جدت فينا *** كما جادت على الأرض السماء

وسعت الناس عدلا فاستقاموا *** بأحكام عليهنّ الضياء

و ليس يفوتنا ما عشت خير *** كفانا أن يطول لك البقاء

قال: فقال له المنتصر: و اللّه إنك لمن ذوي ثقتي و موضع اختياري، و لك عندي الزّلفى، فطب نفسا. قال و وصلني بثلاثة آلاف دينار.

شعر الحسين بن الضحاك فيه:

حدّثني الصّولي قال حدّثني عون بن محمد الكنديّ قال:

لمّا ولي المنتصر الخلافة دخل عليه الحسين بن الضحّاك فهنّأه بالخلافة و أنشده:

تجدّدت الدنيا بملك محمد *** فأهلا و سهلا بالزمان المجدّد

هي الدولة الغرّاء راحت و بكّرت *** مشهّرة(2) بالرّشد في كل مشهد

لعمري لقد شدّت عرا الدّين بيعة *** أعزّ بها الرحمن كلّ موحّد

هنتك أمير المؤمنين خلافة *** جمعت بها أهواء أمّة أحمد

قال: فأظهر إكرامه و السرور به، و قال له: إن في بقائك بهاء للملك، و قد ضعفت عن الحركة، فكاتبني بحاجاتك و لا تحمل على نفسك بكثرة الحركة. و وصله بثلاثة آلاف دينار ليقضي بها دينا بلغه أنه عليه.

/قال: و قال الحسين بن الضحّاك فيه و قد ركب الظهور وراءه الناس، و هو آخر شعر قاله:

ألا ليت شعري أبدر بدا *** نهارا أم الملك المنتصر

إمام تضمّن أثوابه *** على سرجه قمرا من بشر

حمى اللّه دولة سلطانه *** بجند القضاء و جند القدر

فلا زال ما بقيت مدّة *** يروح بها الدهر أو يبتكر

/قال: و غنّى فيه بنان و عريب.

ص: 207


1- يريد زياد ابن أبيه و هو معروف.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «مشمرة».
شعر يزيد المهلبي فيه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ قال: أوّل قصيدة أنشدها أبي في المنتصر بعد أن ولي الخلافة:

ليهنك ملك بالسعادة طائره *** موارده محمودة و مصادره

فأنت الذي كنّا مرجّى فلم نخب *** كما يرتجى من واقع الغيب باكره

بمنتصر باللّه تمّت أمورنا *** و من ينتصر باللّه فاللّه ناصره

فأمر المنتصر عريب أن تغنّي نشيدا في أوّل الأبيات و تجعل البسيط في البيت الأخير؛ فعملته و غنّته به.

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد قال: صلّى المنتصر بالناس في الأضحى سنة سبع و أربعين و مائتين؛ فأنشده أبي لمّا انصرف:

ما استشرف الناس عيدا مثل عيدهم *** مع الإمام الذي باللّه ينتصر

غدا بجمع كجنح الليل يقدمه *** وجه أغرّ كما يجلو الدّجى القمر

يؤمّهم صادع بالحق أحكمه *** حزم و علم بما يأتي و ما يذر

لو خيّر الناس فاختاروا لأنفسهم *** أحظّ منك لما نالوه ما قدروا

قال: فأمر له بألف دينار، و تقدّم إلى ابن المكّيّ أن يغنّي في الأبيات.

غناه بنان بن عمرو بشعر مروان فأمره ألا يغني في شعر آل أبي حفصة:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال حدّثني بنان بن عمرو المغنّي قال: غنّيت يوما بين يدي المنتصر:

هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفّكم أو تسترون هلالها

فقال لي: إيّاك و أن تغنّي بحضرتي هذا الصوت و أشباهه، فما أحبّ أن أغنّى إلاّ(1) في أشعار آل أبي حفصة خاصّة.

غناء المعتز باللّه:
اشارة

و ممن هذه سبيله في صنعة الغناء المعتزّ باللّه:

فإني لم أجد له منها شيئا إلا ما ذكره الصّوليّ في أخباره؛ فأتيت بما حكاه للعلّة التي قدّمتها من أنّي كرهت أن يخلّ الكتاب بشيء قد دوّنه الناس و تعارفوه. فممّا ذكر أنه غنّى فيه:

صوت

لعمري لقد أصحرت خيلنا *** بأكناف دجلة للمصعب

فمن يك منّا يبت آمنا *** و من يك من غيرنا يهرب

ص: 208


1- لعله: «فما أحب أن أغني في أشعار إلخ» بحذف «إلا»؛ لأن هذا البيت من قصيدة مشهورة لمروان بن أبي حفصة مطلعها: طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالجمال دلالها

الشعر لعديّ بن الرّقاع. و الغناء للمعتزّ خفيف رمل. و هذه الأبيات من قصيدة لعديّ يقولها في الوقعة التي كانت بين عبد الملك بن مروان و المصعب بن الزّبير بطسّوج(1) مسكن، فقتل فيها مصعب بقرية من مسكن يقال لها دير الجاثليق، و ذكرته الشعراء في هذه الأبيات:

لعمري لقد أصحرت خيلنا *** بأكناف دجلة للمصعب

/يهزّون كلّ طويل القنا *** ة لدن و معتدل الثّعلب(2)

فداؤك أمّي و أبناؤها *** و إن شئت زدت عليها أبي

و ما قلتها رهبة إنما *** يحلّ العقاب على المذنب

/إذا شئت نازلت مستقتلا *** أزاحم كالجمل الأجرب

فمن يك منّا يبت آمنا *** و من يك من غيرنا يهرب

ص: 209


1- الطسوج: القرية أو الناحية. و طسوج مسكن: بالعراق. و دير الجاثليق يقع من طسوج مسكن غربي دجلة قرب بغداد من آخر السواد و أوّل أرض تكريت.
2- الثعلب هنا: رأس الرمح.

14 - أخبار عديّ بن الرّقاع و نسبه

نسبه:

هو عديّ بن زيد بن مالك بن عديّ بن الرّقاع بن عصر بن عكّ(1) بن شعل(2) بن معاوية بن الحارث و هو عاملة بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد. و أمّ معاوية بن الحارث عاملة بنت وديعة من قضاعة، و بها سمّوا عاملة.

و نسبه الناس إلى الرّقاع، و هو جدّ جدّه، لشهرته؛ أخبرني بذلك أبو خليفة عن محمد بن سلاّم.

شاعر أموي اختص بالوليد بن عبد الملك جعله ابن سلام في الطبقة الثالثة:

و كان شاعرا مقدّما عند بني أميّة مدّاحا لهم خاصّا بالوليد بن عبد الملك. و له بنت شاعرة يقال لها سلمى، ذكر ذلك ابن النّطّاح. و جعله محمد بن سلاّم في الطبقة الثالثة من شعراء الإسلام. و كان منزله بدمشق. و هو من حاضرة الشعراء لا من باديتهم. و قد تعرّض لجرير و ناقضه في مجلس الوليد بن عبد الملك، ثم لم تتمّ بينهما مهاجاة، إلاّ أنّ جريرا قد هجاه تعريضا في قصيدته:

حيّ الهدملة(3) من ذات المواعيس

و لم يصرّح لأن الوليد حلف إن هو هجاه أسرجه و ألجمه و حمله على ظهره، فلم يصرّح بهجائه.

ما جرى بينه و بين جرير في حضرة الوليد بن عبد الملك:

أخبرني أبو خليفة إجازة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال أخبرني أبو الغرّاف قال:

دخل جرير على الوليد بن عبد الملك و هو خليفة و عنده عديّ بن الرّقاع العامليّ. فقال الوليد لجرير: أ تعرف هذا؟. قال: لا يا أمير المؤمنين. فقال الوليد: /هذا عديّ بن الرّقاع. فقال جرير: فشرّ الثياب الرّقاع، قال: ممّن هو؟ قال: العامليّ. فقال جرير: هي التي يقول [فيها] اللّه عزّ و جلّ عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ تَصْلىٰ نٰاراً حٰامِيَةً . ثم قال:

يقصّر باع العامليّ عن النّدى *** و لكنّ أير العامليّ طويل

فقال له عديّ بن الرّقاع:

أ أمّك كانت أخبرتك بطوله *** أم انت امرؤ لم تدر كيف تقول

فقال لا! بل أدري كيف أقول. فوثب العامليّ إلى رجل الوليد فقبّلها و قال: أجرني منه. فقال الوليد لجرير: لئن شتمته لأسرجنّك و لألجمنّك حتى يركبك فيعيّرك الشعراء بذلك. فكنى جرير عن اسمه فقال:

ص: 210


1- كذا في الأصول. و في شرح «القاموس» مادة (رقع): «عدي». و في «المقتضب» لياقوت (ص 79): «عدة».
2- كذا في شرح «القاموس» و «و الاشتقاق» لابن دريد و «المقتضب». و في الأصول: «شغل» بالغين المعجمة، و هو تصحيف.
3- الهدملة و المواعيس: موضعان.

إني إذا الشاعر المغرور حرّبني *** جار لقبر على مرّان(1) مرموس

قد كان أشوس آباء فورّثنا *** شغبا على الناس في أبنائه الشّوس(2)

أقصر فإنّ نزارا لن يفاضلها(3) *** فرع لئيم و أصل غير مغروس

و ابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن *** لم يستطع صولة البزل القناعيس

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال أبو عبيدة:

دخل جرير على الوليد بن عبد الملك و عنده عديّ بن الرّقاع العامليّ. فقال له الوليد: أ تعرف هذا؟ قال: لا، فمن هو؟ قال: هذا ابن الرّقاع. قال فشرّ الثياب الرّقاع، فممّن هو؟ قال: من عاملة. قال: أ من التي قال اللّه تعالى فيها: عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ تَصْلىٰ نٰاراً حٰامِيَةً !. فقال الوليد: و اللّه ليركبنّك! /لشاعرنا و مادحنا و الراثي لأمواتنا تقول هذه المقالة!! يا غلام بإكاف(4) و لجام. فقام إليه عمر بن الوليد فسأله أن يعفيه فأعفاه. فقال: و اللّه لئن هجوته لأفعلنّ و لأفعلنّ. فلم يصرّح بهجائه و عرّض، فقال قصيدته التي أوّلها:

حيّ الهدملة من ذات المواعيس

و قال فيها يعرّض به:

قد جرّبت عركتي في كلّ معترك *** غلب الأسود فما بال الضّغابيس(5)

فضل جرير عليه كثيرا في مجلس بعض الخلفاء:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني سليمان بن عيّاش السّعديّ قال:

ذكر كثيّر و عديّ بن الرّقاع العامليّ في مجلس بعض خلفاء بني أميّة، فامتروا فيهما أيّهما أشعر و في المجلس جرير. فقال جرير: لقد قال كثيّر بيتا هو أشهر و أعرف في الناس من عديّ بن الرّقاع نفسه؛ ثم أنشد قول كثيّر:

أ أن زمّ أجمال و فارق جيرة *** و صاح غراب البين أنت حزين

قال: فحلف الخليفة لئن كان عديّ بن الرّقاع أعرف في الناس من بيت كثيّر ليسرجنّ جريرا و ليلجمنّه و ليركبنّ عديّ بن الرّقاع على ظهره. فكتب إلى واليه بالمدينة: إذا فرغت من خطبتك فسل الناس من الذي يقول:

أ أن زمّ أجمال و فارق جيرة *** و صاح غراب البين أنت حزين

و عن نسب ابن الرّقاع. فلمّا فرغ الوالي من خطبته قال: إنّ أمير المؤمنين كتب إليّ أن أسألكم من الذي يقول:

أ أن زمّ أجمال و فارق جيرة

ص: 211


1- أراد قبر تميم بن مر يمرّان على أربع مراحل من مكة إلى البصرة. و حربني: أغضبني، يقال: منه حرب الرجل يحرب حربا (من باب فرح).
2- الشوس (بالتحريك): التكبر و النظر بمؤخر العين.
3- كذا في «ديوانه» المخطوط. و في أكثر الأصول: «لن يفاخركم». و في س: «لن يفاخرهم».
4- الإكاف: برذعة الحمار.
5- الغلب: جمع أغلب و هو الغليظ الرقبة. و الضغابيس: جمع ضغبوس و هو الضعيف.

/قال: فابتدروا من كل وجه يقولون: كثيّر كثيّر. ثم قال: و أمرني أن أسأل عن نسب ابن الرّقاع؛ فقالوا: لا ندري؛ حتى قام أعرابيّ من مؤخّر المسجد فقال: هو من عاملة.

نقد محمد بن المنجم بيتا من شعره:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه قال قال لي محمد بن المنجّم: ما أحد ذكر لي فأحببت أن أراه فإذا رأيته أمرت بصفعه إلا عديّ بن الرّقاع. قلت: و لم ذلك؟ قال: لقوله:

و علمت حتى ما أسائل عالما *** عن علم واحدة لكي أزدادها

فكنت أعرض عليه أصناف العلوم، فكلما مرّ به شيء لا يحسنه أمرت بصفعه.

جاءه شعراء ليعارضوه فردت عليهم بنته فأفحمتهم:

حدّثني إبراهيم بن محمد بن أيّوب قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم قال:

كان عديّ بن الرّقاع ينزل بالشام، و كانت له بنت تقول الشعر. فأتاه ناس من الشعراء ليماتنوه(1) و كان غائبا؛ فسمعت بنته و هي صغيرة لم تبلغ دور وعيدهم، فخرجت إليهم و أنشأت تقول:

تجمّعتم من كل أوب و بلدة *** على واحد لا زلتم قرن واحد

فأفحمتهم:

كان من أوصف الشعراء للمطية:

و قال عبد اللّه بن مسلم:

و ممّا ينفرد به و يقدّم فيه وصف المطيّة؛ فإنه كان من أوصف الشعراء لها.

استحسن أبو عمرو شعره:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا محمد بن عبّاد بن موسى قال: كنت عند أبي عمرو أعرض أو يعرض عليه رجل بحضرتي من شعر عديّ بن الرّقاع، و قرأت أو قرأ هذه الأبيات:

/

لو لا الحياء و أنّ رأسي قد عسا(2)*** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

/و كأنها وسط النساء أعارها *** عينيه أحور من جآذر جاسم

و سنان أقصده النّعاس فرنّقت *** في عينه سنة و ليس بنائم

فقال أبو عمرو: أحسن و اللّه!. فقال رجل كان يحضر مجلسه أعرابيّ كأنه مدنيّ: أما و اللّه لو رأيته مشبوحا بين أربعة و قضبان الدّفلى(3) تأخذه لكنت أشدّ له استحسانا. يعني إذا كان يغنّي به على العود.

ص: 212


1- ماتنه في الشعر: عارضه.
2- عسا: اشتد.
3- الدفلي: نبت مرّ زهره كالورد الأحمر و حمله كالخروب
استحسن أبو عبيدة بيتا له:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد عن عليّ بن المغيرة قال:

كان أبو عبيدة يستحسن بيت عديّ بن الرّقاع:

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت *** في عينه سنة و ليس بنائم

جدّا و يقول: ما قال أحد في مثل هذا المعنى أحسن منه في هذا الشعر. و في هذا الشعر غناء، نسبته:

صوت

لو لا الحياء و أن رأسي قد عسا *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

و كأنّها وسط النساء أعارها *** عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت *** في عينه سنة و ليس بنائم

ألمم على طلل عفا متقادم *** بين الذّئيب(1) و بين غيب النّاعم

/عروضه من الكامل. الجآذر: جمع جؤذر و هي أولاد البقر الوحشيّة. و جاسم: موضع. و يروى في هذا الشعر «عاسم» مكان «جاسم». و الوسنان: النائم، و الوسن النوم، الواحدة منه سنة. و التّرنيق: الدنوّ من الشيء يريد أن يفعله، يقال: رنّقت العقاب لصيدها إذا دنت منه، و ترنيقها أيضا أن تقصّر عن الخفقان بجناحيها. و يقال: طير مرنّقة إذا جاءت تطير ثم أرادت الوقوع و مدّت أجنحتها فلم تخفق و ترجّحت. و يقال للقوم إذا قصّروا في سيرهم، و للسابح إذا قصّر في الخفق بيديه و رجليه: قد رنّقوا ترنيقا. الشعر لعديّ بن الرّقاع. و الغناء لابن مسجح خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و فيه ثقيل أوّل بالبنصر ينسب إليه أيضا، و ذكر الهشاميّ أنه من منحول يحيى بن المكّيّ إليه.

استحسن أبو عمرو شعره و استحسن مدني الغناء به:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو قال:

كنت عند أبي و رجل يقرأ عليه شعر عديّ بن الرّقاع. فلما قرأ عليه القصيدة التي يقول فيها:

لو لا الحياء و أنّ رأسي قد عسا *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

قال أبي: أحسن و اللّه عديّ بن الرّقاع!. قال: و عنده شيخ مدنيّ جالس، فقال الشيخ: و اللّه لئن كان عديّ أحسن لما أساء أبو عبّاد. قال أبي: و من هو أبو عبّاد؟ قال: معبد. و اللّه لو سمعت لحنه في هذا الشعر لكان طربك أشدّ و استحسانك له أكثر. فجعل أبي يضحك.

ص: 213


1- كذا في «معجم البلدان» في الكلام عن الذؤيب و غيب الناعم. و في الأصول: «الركيك» و هو تحريف. و الذؤيب: ماء بنجد لبني دهمان بن نصر بن معاوية. و ذكر ياقوت أن غيب الناعم موضع في شعر عدي بن الرقاع، و ذكر البيت.
مدح عبيدة بن عبد الرحمن حين عزله الوليد فجفاه الوليد ثم رضي عنه:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن جرير عن محمد بن سلاّم قال:

/عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الرحمن عن الأردنّ و ضربه و حلقه و أقامه للناس و قال/للمتوكّلين به: من أتاه متوجّعا و أثنى عليه فأتوني به. فأتى عديّ بن الرّقاع، و كان عبيدة إليه محسنا، فوقف عليه و أنشأ يقول:

فما عزلوك مسبوقا و لكن *** إلى الخيرات سبّاقا جوادا

و كنت أخي و ما ولدتك أمّي *** وصولا باذلا لي مسترادا

و قد هيضت لنكبتك القدامى *** كذاك اللّه يفعل ما أرادا

فوثب المتوكّلون به إليه، فأدخلوه إلى الوليد و أخبروه بما جرى. فتغيّظ عليه الوليد و قال له: أ تمدح رجلا قد فعلت به ما فعلت!. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه كان إليّ محسنا، و لي مؤثرا، و بي برّا؛ ففي أيّ وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم!. فقال: صدقت و كرمت! فقد عفوت عنك و عنه لك! فخذه و انصرف. فانصرف به إلى منزله.

عدّه جرير أنسب الشعراء لشعر له:

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثني أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال نوح بن جرير لأبيه: يا أبت، من أنسب الشعراء؟ قال له: أ تعني ما قلت؟ قال: إنّي لست أريد من شعرك إنما أريد من شعر غيرك. قال: ابن الرّقاع في قوله:

لو لا الحباء و أنّ رأسي قد عسا *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

الثلاثة الأبيات. ثم قال لي: ما كان يبالي أن لم يقل بعدها شيئا.

عجب جرير من توفيقه في تشبيه دقيق:

أخبرني الحسن بن عليّ عن هارون بن محمد بن عبد الملك عن أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:

قال جرير: سمعت عديّ بن الرّقاع ينشد:

تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه(1)

/فرحمته من هذا التشبيه فقلت: بأيّ شيء يشبّهه ترى! فلما قال:

قلم أصاب من الدّواة مدادها

رحمت نفسي منه

تابع روح بن زنباع ثم خالفه و تابع نائل بن قيس في نسبهم:

أخبرني اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه عن ابن حبيب عن أبي عبيدة قال:

مال روح بن زنباع الجذاميّ إلى يزيد بن معاوية لمّا فصل بين الخطبتين فقال: يا أمير المؤمنين، ألحقنا

ص: 214


1- الروق: القرن.

بإخوتنا من معدّ فإنا معدّيّون، و اللّه ما نحن من قصب الشام و لا من زعاف(1) اليمن. فقال يزيد: إن أجمع قومك على ذلك جعلناك حيث شئت. فبلغ ذلك عديّ بن الرّقاع فقال:

إنّا رضينا و إن غابت جماعتنا *** ما قال سيّدنا روح بن زنباع

يرعى ثمانين ألفا كان مثلهم *** ممّا يخالف أحيانا على الرّاعي

قال: فبلغ ذلك نائل بن قيس الجذاميّ، فجاء يركض فرسه حتى دخل المقصورة في الجمعة الثانية. فلمّا قام يزيد على المنبر، وثب فقال: أين الغادر الكاذب روح بن زنباع؟! فأشاروا إلى مجلسه. فأقبل عليه و على يزيد ثم قال:

يا أمير المؤمنين، قد بلغني ما قال لك هذا، و ما نعرف شيئا منه و لا نقرّ به، و لكنّا قوم من قحطان يسعنا ما يسعهم و يعجز عنّا ما يعجز عنهم. فأمسك روح و رجع عن رأيه. فقال عديّ بن الرّقاع في ذلك:

أضلال ليل ساقط أكنافه *** في الناس أعذر أم ضلال نهار

قحطان والدنا الذي ندعى له *** و أبو خزيمة خندف بن نزار

/أ نبيع والدنا الذي ندعى له *** بأبي معاشر غائب متواري

تلك التجارة لا زكاء لمثلها *** ذهب يباع بآنك(2) و إبار

/فقال له يزيد: غيّرت يا ابن الرّقاع. قال: إنّ ناثلا و اللّه عليّ أعزّهما سخطا، و أنصحهما لي و لعشيرتي. قال أبو عبيدة: الإبار: جمع إبرة.

ما كان بينه و بين ابن سريج في حضرة الوليد بن عبد الملك:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن جدّه إبراهيم:

أن الأحوص و ابن سريج قدما المدينة(3)، فنزلا في بعض الخانات ليصلحا من شأنهما، و قد قدم عديّ بن الرّقاع و كانت هذه حاله، فنزل عليهما. فلما كان في بعض الليل أفاضوا في الأحاديث؛ فقال عديّ بن الرّقاع لابن سريج: و اللّه لخروجنا كان إلى أمير المؤمنين أجدى علينا من المقام معك يا مولى بني نوفل. قال: و كيف ذلك؟ قال: لأنك توشك أن تلهينا فتشغلنا عمّا قصدنا له. فقال له ابن سريج: أو قلّة شكر أيضا!. فغضب عديّ و قال:

أنك لتمنّ علينا أن نزلنا عليك؛ و إني أعاهد اللّه ألاّ يظلّني و إياك سقف إلا أن يكون بحضرة أمير المؤمنين. و خرج من عندهما. و قدم الوليد من باديته فأذن لهما فدخلا. و بلغه خبر ابن الرّقاع و ما جرى بينه و بين ابن سريج؛ فأمر بابن سريج فأخفي(4) في بيت و دعا بعديّ فأدخله؛ فأنشده قصيدة امتدحه بها. فلما فرغ، أومأ إلى بعض الخدم فأمر ابن سريج فغنّى في شعر عديّ بن الرّقاع يمدح الوليد:

عرف الديار توهّما فاعتادها *** من بعد ما شمل البلى أبلادها(5)

ص: 215


1- كذا في الأصول: و لعله «من رعان اليمن» أي جبالها أو «من زعانف اليمن».
2- الآنك: الرصاص.
3- كذا في الأصول. و الأحرى أن تكون «دمشق» إذ المعروف أن دمشق كانت عاصمة ملك بني أمية التي كان يقصد إليها الروّاد و الوافدون و بها ينزلون.
4- كذا في أ، م. و في سائر الأصول: «فأدخل».
5- اعتادها: أعاد النظر إليها مرة بعد أخرى لدروسها حتى عرفها. و شمل: عم. و الأبلاد: الآثار.

/فطرب عديّ و قال: لا و اللّه ما سمعت يا أمير المؤمنين بمثل هذا قطّ و لا ظننت أن يكون مثله طيبا و حسنا. و لو لا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت طائف من الجنّ. أ يأذن لي أمير المؤمنين أن أقول؟ قال: قل. قال: مثل هذا عند أمير المؤمنين و هو يبعث إلى ابن سريج يتخطّى به قبائل العرب فيقال: ابن سريج المغنّي مولى بني نوفل بعث أمير المؤمنين إليه!. فضحك ثم قال للخادم: أخرجه فخرج. فلما رآه عديّ أطرق خجلا ثم قال: المعذرة إلى اللّه و إليك يا أخي، فما ظننت أنك بهذه المنزلة، و إنك لحقيق أن تحتمل على كل هفوة و خطيئة. فأمر لهم الوليد بمال سوّى بينهم فيه، و نادمهم يومئذ إلى الليل.

نسبة هذا الصوت المذكور في هذا الخبر و سائر ما مضى في أخبار عدي قبله من الأشعار التي فيها غناء:

صوت

عرف الدّار توهّما فاعتادها *** من بعد ما شمل البلى أبلادها

إلاّ رواكد كلّهن قد اصطلى *** حمراء أشعل أهلها إيقادها

عروضه من الكامل. الشعر لعديّ بن الرّقاع. و الغناء لابن محرز خفيف ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.

أفحمه كثير في حضرة الوليد بن عبد الملك:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:

أنشد عديّ بن الرّقاع الوليد بن عبد الملك قصيدته التي أوّلها:

عرف الديار توهّما فاعتادها

و عنده كثيّر و قد كان يبلغه عن عديّ أنه يطعن على شعره و يقول: هذا شعر حجازيّ مقرور إذا أصابه قرّ الشام جمد و هلك. فأنشده إيّاها حتى أتى على قوله:

/

و قصيدة قد بتّ أجمع بينها *** حتى أقوّم ميلها و سنادها(1)

فقال له كثيّر: لو كنت مطبوعا أو فصيحا أو عالما لم تأت فيها بميل و لا سناد فتحتاج إلى أن تقوّمها. ثم أنشد:

نظر المثقّف في كعوب قناته *** حتى يقيم ثقافه منآدها

فقال له كثيّر: لا جرم أنّ الأيام إذا تطاولت عليها عادت عوجاء، و لأن تكون مستقيمة لا تحتاج إلى ثقاف أجود لها.

ثم أنشد:

و علمت حتى ما أسائل واحدا *** عن علم واحدة لكي أزدادها

فقال كثيّر: كذبت و ربّ البيت الحرام! فليمتحنك أمير المؤمنين بأن يسألك عن صغار الأمور دون كبارها حتى يتبيّن جهلك. و ما كنت قطّ أحمق منك الآن حيث تظنّ هذا بنفسك. فضحك الوليد و من حضر، و قطع بعديّ بن الرّقاع حتى ما نطق.

ص: 216


1- يريد بالسناد هنا عيبا في الشعر. و السناد في اصطلاح العروضيين هو اختلاف الحرف الذي قبل الردف بالفتح و الكسر. و الردف هو حرف اللين الذي قبل الرويّ. (انظر الكلام عليه في «العقد الفريد» ج 3 ص 222-223 طبع بولاق، و «اللسان» مادة «سند»).

15 - أخبار المعتزّ في الأغاني و مع المغنّين و ما جرى هذا المجرى

شعره في جارية يهواها:
اشارة

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر(1) قال حدّثني جدّي حمدون بن إسماعيل قال:

اصطبح المعتزّ في يوم ثلاثاء و نحن بين يديه ثم وثب فدخل، و اعترضته جارية كان يحبّها و لم يكن ذلك اليوم من أيامها فقبّلها و خرج؛ فحدّثني بما كان و أنشدني لنفسه في ذلك:

صوت

إني قمرتك يا سؤلي و يا أملي *** أمرا مطاعا بلا مطل و لا علل

حتّى متى يا حبيب النفس تمطلني *** و قد قمرتك(2) مرّات فلم تف لي

يوم الثلاثاء يوم سوف أشكره *** إذ زارني فيه من أهوي على عجل

فلم أنل منه شيئا غير قبلته *** و كان ذلك عند أعظم النّفل

قال: و عمل فيه لحن خفيف و شربنا عليه سائر يومنا. الغناء في هذه الأبيات لعريب رمل عن الهشاميّ. و لأبي العبيس في الثالث و الرابع هزج.

طارحه بنان المغني في بيت من الشعر و تغنى فيه:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ قال حدّثني أبي قال:

كان المعتزّ يشرب على بستان مملوء من النّمّام(3) و بين النّمّام شقائق النعمان، فدخل إليه يونس بن بغا و عليه قباء أخضر؛ فقال المعتزّ:

صوت

شبّهت حمرة خدّه في ثوبه *** بشقائق النّعمان في النّمّام

ثم قال: أجيزوا. فابتدر بنان المغنّي، و كان ربّما عبث بالبيت بعد البيت، فقال:

و القدّ منه إذا بدا في قرطق(4) *** كالغصن في لين و حسن قوام

فقال له المعتزّ: فغنّ فيه الآن، فعمل فيه لحنا. لحن بنان في هذين البيتين من خفيف الثقيل الثاني و هو الماخوريّ.

ص: 217


1- في الأصول: «محمد بن علي بن نصر». و قد تقدّم هذا الاسم غير مرة كما أثبتناه.
2- كذا في أ، م. و في سائر الأصول: «قصدتك».
3- النمام: نبت ورقة كالسذاب عطريّ قويّ الرائحة. سمي بذلك لسطوع رائحته.
4- القرطق: قباء ذو طاق واحد (معرب).
أخبر بوفاة أم يونس بن بغا ففتر المجلس ثم عاد أحسن ما كان:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني محمد بن يحيى بن أبي عبّاد قال حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال:

شرب المعتزّ و يونس بن بغا بين يديه يسقيه و الجلساء و المغنّون بين يديه و قد أعدّ الخلع و الجوائز، إذ دخل بغا فقال: يا أمير المؤمنين، /والدة عبدك يونس في الموت و هي تحبّ أن تراه؛ فأذن له فخرج. و فتر المعتزّ و نعس بعده، و قام الجلساء و تفرّق المغنّون، إلى أن صلّيت المغرب، و عاد المعتزّ إلى مجلسه، و دخل يونس و بين يديه الشموع. فلما رآه المعتزّ دعا برطل فشربه و سقى يونس رطلا و غنّاه المغنّون، و عاد المجلس أحسن ما كان؛ فقال المعتزّ:

صوت

تغيب فلا أفرح *** فليتك ما تبرح

و إن جئت عذّبتني *** بأنّك لا تسمح

فأصبحت ما بين ذي *** ن لي كبد تجرح

على ذاك يا سيّدي *** دنوّك لي أصلح

ثم قال: غنّوا فيه، فجعلوا يفكّرون. فقال المعتزّ لسليمان بن القصّار الطّنبوريّ: ويلك! ألحان الطّنبور أملح و أخفّ فغنّ فيه أنت؛ فغنّى فيه لحنا؛ فدفع إليه دنانير/الخريطة و هي مائة دينار مكيّة و مائتان مكتوب على كلّ دينار منها «ضرب هذا الدينار بالجوسق بخريطة(1) أمير المؤمنين المعتزّ باللّه» ثم دعا بالخلع و الجوائز لسائر الناس، فكان ذلك المجلس من أحسن المجالس.

لحن سليمان بن القصّار في هذه الأبيات رمل مطلق.

لما قتل بغا هنأه الناس بالظفر:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن عبد السميع الهاشميّ قال حدّثني أبي قال:

لمّا قتل بغا(2) دخلنا فهنأنا المعتزّ بالظّفر، فاصطبح و معه يونس بن بغا، و ما رأينا قطّ وجهين اجتمعا أحسن من وجهيهما. فما مضت ثلاث ساعات حتى سكر، ثم خرج علينا المعتزّ فقال:

ما إن ترى منظرا إن شئته حسنا *** إلاّ صريعا يهادى(3) بين سكرين

سكر الشراب و سكر من هوى رشأ *** تخاله و الذي يهواه غصنين

ص: 218


1- لعله: «لخريطة أمير المؤمنين» أي ضربت لخزانته الخاصة.
2- هو أحد قوّاد الأتراك المبرزين و قد اشترك في قتل المتوكل بدسيسة من ابنه المنتصر، و كان يتولى الحرس ليلة قتل فسهل للقتلة الدخول للقصر. خدم عدّة خلفاء في الدولة العباسية. و جفاه المعتز فوكل به وليدا المغربي فقتله غيلة و حمل رأسه إليه، فوهبه عشرة آلاف دينار و خلع عليه خلعة، و نصب رأسه بسامرا ثم ببغداد. (راجع الطبري القسم الثالث ص 1458-1461، 1694 - 1497).
3- جاء فلان يهادي بين اثنين مهاداة (بالبناء للمفعول): جاء يتمايل.

ثم أمر فتغنّى فيه بعض المغنّين.

قصة المعتز و يونس بن بغا مع ديراني:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن محمد بن إسحاق الخراسانيّ قال حدّثني الفضل بن العباس(1) بن المأمون قال:

/كنت مع المعتزّ في الصيد، فانقطع عن الموكب و أنا و يونس بن بغا معه، و نحن بقرب قنطرة(2) و صيف، و كان هناك دير فيه ديرانيّ يعرفني و أعرفه، نظيف ظريف مليح الأدب و اللفظ. فشكا المعتزّ العطش. فقلت: يا أمير المؤمنين، في هذا الدير ديرانيّ أعرفه خفيف الروح لا يخلو من ماء بارد، أ فترى أن نميل إليه؟ قال نعم. فجئناه فأخرج لنا ماء باردا، و سألني عن المعتزّ و يونس فقلت: فتيان من أبناء الجند؛ فقال: بل مفلتان من حور الجنّة.

فقلت له: هذا ليس في دينك. فقال: هو الآن في ديني. فضحك المعتزّ. فقال لي الدّيرانيّ: أ تأكلون شيئا؟ قلت نعم. فأخرج شطيرات و خبزا و إداما نظيفا، فأكلنا أطيب أكل، و جاءنا بأطراف(3) أشنان. فاستظرفه المعتزّ و قال لي:

قل له فيما بينك و بينه: من تحبّ أن يكون معك من هذين لا يفارقك. فقلت له، فقال: «كلاهما(4) و تمرا».

فضحك المعتزّ حتى مال على حائط الدّير. فقلت للدّيرانيّ: لا بدّ من أن تختار. فقال: الاختيار و اللّه في هذا دمار، و ما خلق اللّه عقلا يميّز بين هذين. و لحقهما الموكب، فارتاع الدّيرانيّ. /فقال له المعتزّ: بحياتي لا تنقطع عما كنا فيه، فإنّي لمن ثمّ مولى و لمن هاهنا صديق. فمزحنا ساعة؛ ثم أمر له بخمسمائة(5) ألف درهم. فقال(6): و اللّه ما أقبلها إلاّ على شرط. قال: و ما هو؟ قال: يجيب/أمير المؤمنين دعوتي مع من أراد. قال: ذلك لك. فاتّعدنا ليوم جئناه فيه، فلم يبق غاية، و أقام للموكب كلّه ما احتاج إليه، و جاءنا بأولاد النصارى يخدموننا. و وصله المعتزّ يومئذ صلة سنيّة؛ و لم يزل يعتاده و يقيم عنده.

ولي الخلافة و له سبع عشرة سنة، و شعره في ذلك:
اشارة

حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن المعتزّ قال:

بويع للمعتزّ بالخلافة و له سبع عشرة سنة كاملة و أشهر. فلما انقضت البيعة قال:

توحّدني الرحمن بالعزّ و العلا *** فأصبحت فوق العالمين أميرا

ص: 219


1- كذا في «مسالك الأبصار» (ح 1 ص 282 طبع دار الكتب المصرية) و «معجم البلدان» في كلامهما عن دير مرمار - و في «معجم البلدان»: «دير مرماري» بياء - و في الأصول: «العباس بن المفضل بن المأمون». و ذكر اليعقوبي في تاريخه أن المأمون خلف من الولد الذكور ستة عشر و ذكر منهم «العباس» و «الفضل».
2- كذا في ج و «مسالك الأبصار». و في سائر الأصول: منظرة وصيف».
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «بأظرف إنسان» و هو تحريف.
4- في «مسالك الأبصار»: «فقال: كلاهما» بدون «و تمرا». و «كلاهما و تمرا» مثل قائله عمرو بن حمران و قد مر به رجل أضر به العطش و السغوب و بين يديه زبد و تامك و تمر. فقال له الرجل: أطعمني من هذا الزبد و التامك. فقال عمرو: «نعم كلاهما و تمرا» فصارت مثلا في زيادة الإكرام. أي لك كلاهما و أزيد تمرا. و يروي «كليهما و تمرا» بالنصب على تقدير فعل محذوف أي أطعمك.
5- في «مسالك الأبصار»: «بخمسين ألف درهم».
6- في الأصول: «فقبلها فقال... إلخ» بزيادة كلمة «فقبلها». و ظاهر أنها من زيادات النساخ، إذ يأباها سياق الكلام، و ليست موجودة في «مسالك الأبصار».

هكذا ذكر الصّوليّ في قافية الشعر. و وجدته في أغاني بنان مرفوع القافية، و له فيه صنعة. و لعلّ المعتزّ قال البيت، فأضاف بنان إليه آخر و جعل المخاطبة عن نفسه للمعتزّ فقال:

صوت

توحّدك الرحمن بالعز و العلا *** فأنت على كل الأنام أمير

تقاتل عنك التّرك و الخزر كلّها *** كأنّهم أسد لهنّ زئير

الغناء لبنان [لحنان(1)] خفيف ثقيل و خفيف رمل. و مما قاله المعتزّ و غنّى فيه قوله - ذكر الصّوليّ أن عبد اللّه بن المعتزّ أنشده إيّاه لأبيه -:

صوت

ألا حيّ الحبيب فدته نفسي *** بكأس من مدامة خانقينا(2)

فإنّي قد بقيت مع الليالي *** أقاسي الهمّ في يده سنينا

الغناء فيه لعريب خفيف رمل، و لبنان هزج.

/و ممّن ذكر أن له صنعة من الخلفاء المعتمد.

غناء المعتمد:

قال محمد بن يحيى الصّوليّ ذكر عبد اللّه بن المعتزّ عن القاسم بن زرزور أن المعتمد ألقى عليه لحنا صنعه في هذا الشعر و هو:

ليس الشّفيع الذي يأتيك مؤتزرا *** مثل الشّفيع الذي يأتيك عريانا

الشعر للفرزدق. و الغناء للمعتمد، و لحنه فيه خفيف ثقيل. هذه حكاية الصّوليّ. و في غناء عريب: لها في هذا البيت خفيف ثقيل. و لا أعلم لمن هو منهما على صحة، إلاّ أنّ المشهور في أيدي الناس أنه لعريب. و لم أسمع للمعتمد غناء إلاّ من هذه الجهة التي ذكرتها.

ص: 220


1- زيادة عن ح.
2- خانقين: بلدة من نواحي السواد في طريق همذان من بغداد.

16 - ذكر أخبار الفرزدق في هذا الشعر خاصة دون غيره

اشارة

لأنّ أخباره كثيرة جدّا، فكرهت أن أثبتها هاهنا في غناء مشكوك فيه، فذكرت نسبه و خبره في هذا الشعر خاصة، و أخباره تأتي بعد هذا في موضع مفرد يتسع لطول أحاديثه

نسبه:

الفرزدق لقب غلب عليه. و اسمه همّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك [بن حنظلة بن مالك] بن زيد مناة بن تميم.

هو و جرير و الأخطل أشعر طبقات الإسلاميين:

و هو و جرير و الأخطل أشعر/طبقات الإسلاميّين و المقدّم في الطبقة الأولى منهم. و أخباره تذكر مفردة في موضع آخر يتّسع لها، و نذكر هاهنا في هذا المعنى. فأخبرني خبره في ذلك جماعة. فممّن أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني به أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلاّم، و أخبرني به محمد ابن العباس اليزيديّ عن السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة و ابن الأعرابيّ، قال عمر بن شبّة خاصّة في خبره حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني أبي:

حديث الفرزدق و النوار و ذمه بني قيس و زهيرا و بني أم النسير لمعاونتهم إياها:

أنّ عبد اللّه بن الزّبير تزوّج تماضر بنت منظور بن زبّان، و أمّها مليكة بنت خارجة بن سنان بن أبي حارثة، فخاصم الفرزدق امرأته النّوار إلى ابن الزّبير. هكذا ذكر محمد بن يحيى و لم يذكر السبب في الخصومة، و ذكرها عمر بن شبّة و لم يروها عن أحد، و ذكرها ابن حبيب عن أصحابه، و ذكرها أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة: أن رجلا من بني أميّة خطب النّوار بنت أعين المجاشعيّة، فرضيته و جعلت أمرها إلى الفرزدق. فقال لها: أشهدي لي بذلك على نفسك شهودا ففعلت، و اجتمع الناس لذلك. فتكلّم الفرزدق ثم قال: اشهدوا أنّي قد تزوّجتها و أصدقتها كذا و كذا، فأنا ابن عمّها/و أحقّ بها. فبلغ ذلك النّوار فأبته و استترت من الفرزدق و جزعت و لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقريّ. فقال فيها:

بني عاصم لا تلجئوها فإنكم *** ملاجئ للسّوءات دسم العمائم(1)

بني عاصم لو كان حيّا أبوكم *** للام بنيه اليوم قيس بن عاصم

فقالوا: و اللّه لئن زدت على هذين البيتين لتقتلنّك غيلة. فنافرته إلى عبد اللّه بن الزّبير و أرادت الخروج إليه؛ فتحامى الناس كراءها. ثم إن رجلا من بني عديّ يقال له زهير بن ثعلبة و قوما يعرفون ببني أمّ النّسير أكروها؛ فقال الفرزدق:

ص: 221


1- دسمت عمائمهم، أي و سخت و قذرت.

و لو لا أن تقول بنو عديّ *** أ ليست أمّ حنظلة النّوار

أتتكم يا بني ملكان عنّي *** قواف لا تقسّمها(1) التّجار

يعني بالنّوار هاهنا بنت جلّ(2) بن عديّ بن عبد مناة و هي أمّ حنظلة بن مالك بن زيد مناة و هي إحدى جدّاته. و قال فيها أيضا:

سرى بالنّوار عوهجيّ(3) يسوقه *** عبيد قصير الشّبر(4) نائي الأقارب

تؤمّ بلاد الأمن دائبة السّرى *** إلى خير وال من لؤيّ بن غالب

فدونك عرسي(5) تبتغي نقض عقدتي *** و إبطال حقّي باليمين الكواذب

/و قال أيضا:

و لو لا أنّ أمّي من عديّ *** و أني كاره سخط الرّباب

إذا لأتى الدواهي(6) من قريب *** جزاء غير منصرف العقاب

و صلت على بني ملكان منّي *** بجيش غير منتظر الإياب(7)

و قال لزهير أيضا:

لبئس العبء يحمله زهير *** على أعجاز صرمته(8) نوار

/لقد أهدت وليدتنا إليكم *** عوائر(9) لا تقسّمها التّجار

و قال لبني أمّ النّسير:

لعمري لقد أردى النّوار و ساقها *** إلى الغور أحلام خفاف عقولها

أطاعت بني أمّ النّسير فأصبحت *** على قتب يعلو الفلاة دليلها

و قد سخطت منّي النّوار الذي ارتضى *** به قبلها الأزواج خاب رحيلها

ص: 222


1- لعله يريد أن التجار يروونها كلها في رحلاتهم لا ينقصون منها شيئا لجودتها، فلا يختارون بعضها دون بعض لأنها كلها جيدة مختارة.
2- كذا في «شرح القاموس» مادة «جلل» و «النقائض» ص 804 و في الأصول: «حل» بالحاء المهملة و هو تصحيف.
3- عوهجي: طويلي العنق. يريد جملا.
4- كذا في أ، م: و «النقائض». و قصير الشير: متقارب الخطو. و نائي الأقارب: غريب بعيد عن أهله. و في سائر الأصول: «السير» بالسين المهملة و هو تصحيف.
5- كذا في «النقائض»، و قد ورد فيها البيت هكذا: فدونك عرسي تبتغي نقض عهدتي و إبطال حقي بالمنى و الأكاذب و في الأصول: «فدونك أرشا» و هو تحريف.
6- كذا في «النقائض». و في الأصول: «الزواهر» و هو تحريف.
7- لعله يريد أنه يغزو و يحتل فلا يعود و لا ينتظر إيابه.
8- الصرمة: القطعة من الإبل نحو الثلاثين.
9- عواثر: سوائر. يريد قصائده.

و إن امرأ أمسى تحبّب زوجتي *** كماش إلى أسد الشّرى يستبيلها(1)

و من دون أبوال الأسود بسالة *** و بسطة أيد يمنع الضّيم طولها

و إنّ أمير المؤمنين لعالم *** بتأويل ما أوصى العباد رسولها

فدونكها يا ابن الزّبير فإنها *** مولّعة يوهي الحجارة قيلها

استشفعت النوار إلى ابن الزبير امرأته فاستشفع هو بابنه حمزة:
اشارة

فلما قدمت مكّة نزلت على بنت منظور بن زبّان، و استشفعت بها إلى زوجها عبد اللّه. و انضمّ الفرزدق إلى حمزة بن عبد اللّه بن الزّبير، و أمّه بنت منظور هذه، و مدحه فقال:

/

أصبحت قد نزلت بحمزة حاجتي *** إنّ المنوّه باسمه الموثوق

الأبيات. و قال فيه أيضا:

يا حمز هل لك في ذي حاجة غرضت(2) *** أنضاؤه بمكان غير ممطور

فأنت أحرى قريش أن تكون لها *** و أنت بين أبي بكر و منظور

بين الحواريّ و الصّدّيق في شعب *** نبتن في طيّب الإسلام و الخير

هذه الأبيات كلّها من رواية أبي زيد خاصّة. قالوا جميعا: و قال في النّوار:

هلمّي لابن عمّك لا تكوني *** كمختار على الفرس الحمارا

و قال فيها أيضا:

تخاصمني النّوار و غاب فيها *** كرأس الضّبّ يلتمس الجرادا

قال أبو زيد في خبره خاصّة: فجعل أمر الفرزدق يضعف و أمر النّوار يقوى. و قال الفرزدق:

أمّا بنوه(3) فلم تقبل شفاعتهم *** و شفعت بنت منظور بن زبّانا

صوت

ليس الشّفيع الذي يأتيك مؤتزرا *** مثل الشّفيع الذي يأتيك عريانا

- غنّت في هذا البيت عريب خفيف ثقيل أوّل بالبنصر - فبلغ ابن الزّبير هذا فدعا النّوار فقال: إن شئت فرّقت بينكما و قتلته فلا يهجونا أبدا، و إن شئت سيّرته إلى بلاد العدوّ. فقالت: ما أريد واحدة منهما. قال: فإنه ابن عمّك و هو فيك راغب، أ فأزوّجه إيّاك؟ قالت نعم. فزوّجه إيّاها. فكان الفرزدق يقول: خرجنا متباغضين و رجعنا متحابّين.

ص: 223


1- كذا في ج: و «اللسان» مادة «بول» أي يأخذ بولها في يده. و في الأصول: «يستغيلها» بالغين المعجمة، و هو تحريف.
2- كذا في «ديوانه». و في الأصول: «عرضت» بالعين المهملة. و غرض بالمكان: مل و ضجر. و الأنضاء: جمع نضو و هو المهزول من الإبل.
3- كذا في ج و «النقائض». و في سائر الأصول: «بنوك».
هدده ابن الزبير و غيره جلاء قومه تميم عن البيت فقال في ذلك شعرا:

أخبرني أحمد قال حدّثني عمرو بن شبّة قال قال عثمان بن سليمان:

شهدت الفرزدق يوم نازع النّوار فتوجّه القضاء عليه، فأشفق من ذلك و تعرّض لابن الزّبير بكلام أغضبه، و كان ابن الزّبير حديدا. فقال له ابن الزّبير: أيا ألأم الناس! و هل أنت و قومك إلا جالية العرب! و أمر به/فأقيم. و أقبل علينا فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة و خمسين سنة فاستلبوه؛ و أجمعت العرب عليها لما انتهكت ما لم ينتهكه أحد قطّ فأجلتها من أرض تهامة. فلما كان في طائفة من ذلك اليوم لقيني الفرزدق فقال:

هيه! أ يعيّرنا ابن الزّبير جلاءنا(1) عن البيت! اسمع! ثم قال:

فإن تغضب قريش ثم تغضب *** فإنّ الأرض ترعاها(2) تميم

هم عدد النجوم و كلّ حيّ *** سواهم لا تعدّ لهم نجوم

فلو لا بنت(3) مرّ من نزار *** لما صحّ المنابت و الأديم

بها كثر العديد و طاب منكم *** و غيركم أحذّ(4) الرّيش هيم

فمهلا عن تذلّل من عززتم *** بخولته و عزّ به الحميم

أعبد اللّه مهلا عن أذاتي *** فإنّي لا الضعيف و لا السّئوم

و لكنّي صفاة لم تؤبّس(5) *** تزلّ الطير عنها و العصوم(6)

/أنا ابن العاقر الخور(7) الصّفايا *** بصوأر(8) حيث فتّحت العكوم(9)

و ذكر الزّبير بن بكّار عن عمه أن عبد اللّه بن الزّبير لمّا حكم على الفرزدق قال: إنما حكمت عليّ بهذا لأفارقها فتثب عليها؛ و أمر به فأقيم، و قال له ما قال في بني تميم. قال: ثم خرج عبد اللّه بن الزّبير إلى المسجد فرأى الفرزدق في بعض طرق مكة و قد بلغته أبياته التي قالها، فقبض ابن الزّبير على عنقه فكاد يدقّها، ثم قال:

ص: 224


1- في الأصول: «أ يعيرنا ابن الزبير بجلائنا» و هي لغة رديئة.
2- كذا صححها الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و في ج: «ترغبها» و هو تصحيف عن «ترعيها». و في سائر الأصول: «ترضاها» و هو تحريف.
3- كذا صححها الأستاذ الشنقيطي. و في الأصول: «نبت» و هو تصحيف.
4- أحذ الريش: قصيره. و الهيم: العطاش. و لعله يكنى بذلك عن الضعف و الذلة.
5- كذا في ج و نسخة الشنقيطي. و تؤبس: تكسر. و في سائر الأصول: «تؤنس» بالنون، و هو تصحيف.
6- لعله جمع عصم (بالضم) الذي هو جمع عصماء. و العصم الظباء.
7- كذا صححها الأستاذ الشنقيطي. و الخور: جمع خوّارة، و هي الغزيرة اللبن من النوق و الشاء، على غير قياس. و في ج: «الجول». و الجول: الجماعة من الإبل. و في سائر الأصول: «الحور» بالحاء المهملة و هو تصحيف.
8- صوأر: ماء لكلب فوق الكوفة مما يلي الشام، و هو الماء الذي تعاقر عليه غالب بن صعصعة أبو الفرزدق و سحيم بن وثيل الرياحي، و كان قد عقر غالب ناقة و فرقها على بيوت الحي، و جاء إلى سحيم منها بجفنة، فغضب سحيم وردها فقام و عقر ناقة؛ فعقر غالب أخرى و تعاقرا حتى أقصر سحيم.
9- العكوم: جمع عكم، و هو العدل (بكسر العين) أو الكارة و هي وعاء الثياب و الطعام. لعله يريد أنه ينهب ما تحمله هذه النوق ثم يذبحها.

لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا *** و لو رضيت رمح استه(1) لاستقرّت

قال الزّبير: و هذا الشعر لجعفر بن الزّبير.

ما كان بينه و بين ابن الزبير بعد ما قال له ما حاجتك بالنوار و قد كرهتك:

أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا ابن سلاّم قال أخبرنا إبراهيم بن حبيب الشّهيد قال:

قال ابن الزّبير للفرزدق: ما حاجتك بها و قد كرهتك! كن لها أكره و خلّ سبيلها. فخرج و هو يقول: ما أمرني بطلاقها إلا ليثب عليها. فبلغ ذلك ابن الزّبير فخرج و قد استهلّ هلال ذي الحجّة و لبس ثياب الإحرام يريد البيت الحرام، فألفى الفرزدق بباب المسجد عند الباعة، فأخذ بعنقه فغمزها حتى جعل رأسه بين ركبتيه و قال:

لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا *** و لو رضيت رمح استه لاستقرّت

قال الزّبير: و هذا البيت لجعفر بن الزبير.

هجاه جعفر بن الزبير فنهاه أخوه عن ذلك:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة عن محمد بن يحيى عن أبيه قال:

لمّا قال الفرزدق في ابن الزّبير:

أمّا بنوه فلم تقبل شفاعتهم *** و شفّعت بنت منظور بن زبّانا

قال جعفر بن الزّبير:

ألاّ تلكم عرس الفرزدق جامحا *** و لو رضيت رمح استه لاستقرّت

فقال عبد اللّه بن الزّبير: أ تجزرنا كلبا(2) من كلاب بني تميم! لئن عدت لم أكلّمك أبدا.

قال: و تماضر التي عناها الفرزدق أمّ خبيب و ثابت ابني عبد اللّه بن الزّبير. و ماتت عند/عبد اللّه، فتزوّج أختها أمّ هاشم فولدت له هاشما و حمزة و عبّادا.

قال: و في أمّ هاشم يقول الفرزدق يستعينها على ابن الزّبير و يشكو طول مقامه:

تروّحت الرّكبان يا أمّ هاشم *** و هنّ مناخات لهنّ حنين

و خيّسن(3) حتى ليس فيهنّ نافق *** لبيع و لا مركوبهن سمين

قال: و هذا يدلّ على أن النّوار كانت استعانت بأمّ هاشم لا بتماضر.

فلما أذنت النوار في تزويجها منه استعان في مهرها سلم بن زياد فأعانه:

فما أذنت النّوار لعبد اللّه في تزويجها بالفرزدق حكم لها عليه بمهر مثلها عشرة آلاف درهم. فسأل: هل بمكة أحد يعينه؟ فدلّ على سلم بن زياد، و كان ابن الزّبير حبسه، فقال فيه:

ص: 225


1- رمح الاست: الكناية فيه واضحة.
2- يقال: أجزرت القوام إذ أعطيتهم شاة يذبحونها. يريد: أتعرض أعراضنا للفرزدق ينهشها.
3- خيسن: لم يسرّحن.

دعي مغلقي الأبواب دون فعالهم *** و مرّي تمشّي بي - هبلت - إلى سلم

إلى من يرى المعروف سهلا سبيله *** و يفعل أفعال الكرام التي تنمي

/ثم دخل على سلم فأنشده. فقال له: هي لك و مثلها نفقتك، ثم أمر له بعشرين ألفا فقبضها. فقالت له زوجته أمّ عثمان بنت عبد اللّه بن عثمان بن أبي العاصي الثّقفيّة: أ تعطي عشرين ألفا و أنت محبوس! فقال:

ألا بكرت عرسي تلوم سفاهة *** على ما مضى منّي و تأمر بالبخل

فقلت لها و الجود منّي سجيّة *** و هل يمنع المعروف سؤّاله مثلي

ذريني فإنّي غير تارك شيمتي *** و لا مقصر عن السّماحة و البذل

و لا طارد ضيفي إذا جاء طارقا *** فقد طرق الأضياف شيخي من قبلي

أ أبخل! إنّ البخل ليس بمخلد *** و لا الجود يدنيني إلى الموت و القتل

أبيع بني حرب بآل خويلد(1) *** و ما ذاك عند اللّه في البيع بالعدل

و أشري(2) ابن مروان الخليفة طائعا *** بنجل بني العوّام! قبّح من نجل

فإن تظهروا لي البخل آل خويلد *** فما دلّكم دلّي و لا شكلكم شكلي

و إن تقهروني حيث غابت عشيرتي *** فمن عجب الأيام أن تقهروا مثلي

لم تحسن النوار عشرته فتزوّج عليها حدراء بنت زيق و مدحها و ذمّ النوار:

قال دماذ في خبره: ثم اصطلحا و رضيت به، و ساق إليها مهرها و دخل بها و أحبلها قبل أن تخرج من مكة ثم خرج بها و هما عديلان في محمل. فكانت لا تزال تشارّه و تخالفه، لأنها كانت صالحة حسنة الدّين و كانت تكره كثيرا من أمره. فتزوّج عليها حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبد اللّه بن عمرو بن الحارث بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، فتزوّجها على مائة من الإبل. فقالت له النّوّار: ويلك! تزوّجت أعرابيّة دقيقة السّاقين بوّالة على عقبيها على مائة بعير!. فقال الفرزدق يفضّلها عليها و يعيّرها أنها كانت تربّيها أمة:

/

لجارية بين السّليل عروقها *** و بين أبي الصّهباء(3) من آل خالد

أحقّ بإغلاء المهور من التي *** ربت و هي تنزو في حجور الولائد

و مدحها أيضا فقال:

/

عقيلة من بني شيبان ترفعها *** دعائم للعلى من آل همّام

من آل مرّة بين المستضاء بهم *** من رهط صيد مصاليت و حكّام

بين الأحاوص(4) من كلب مركّبها *** و بين قيس بن مسعود و بسطام

ص: 226


1- خويلد: هو الجد الثاني لابن الزبير.
2- أشري: أبيع.
3- أبو الصهباء: يعني بساطم بن قيس. و السليل: هو السليل بن قيس أخو بسطام.
4- الأحاوص: عوف و عمرو و شريح و ربيعة، أولاد الأحوص بن جعفر بن كلاب.

و قال أيضا يمدحها و يعرّض بالنّوار:

لعمري لأعرابيّة في مظلّة(1) *** تظلّ بأعلى(2) بيتها الرّيح تخفق

كأمّ غزال أو كدرّة غائص *** إذا ما أنت مثل الغمامة تشرق

أحبّ إلينا من ضناك(3) ضفنّة *** إذا وضعت عنها المراوح تعرق

فقال بعض(4) باهلة يجيبه:

أعوذ باللّه من غول مغوّلة *** كأنّ حافرها في الحدّ ظنبوب(5)

تستروح الشاة من ميل إذا ذبحت *** حبّ اللّحام كما يستروح الذّئب

هاجاه جرير بإغراء النوار:

و أغضب الفرزدق النّوار بمدحه إيّاها، فقالت: و اللّه لأخزينّك يا فاسق! و بعثت إلى جرير فجاءها؛ فقالت: أ لا ترى ما قال لي الفاسق! و شكت إليه. فقال:

/

فلا أنا معطي الحكم عن شفّ(6) منصب *** و لا عن بنات الحنظليّين راغب

و هنّ كماء المزن يشفى به الصّدى *** و كانت ملاحا غيرهنّ المشارب

لقد كنت أهلا أن تسوق دياتكم(7)*** إلى آل زيق أن يعيبك عائب

و ما عدلت ذات الصّليب(8) ظعينة *** عتيبة و الرّدفان منها و حاجب

ألا ربّما لم نعط زيقا بحكمه *** و أدّى إلينا الحكم و الغلّ(9) لازب

ص: 227


1- المظلة (بفتح الميم و كسرها): الخباء الكبير.
2- في ح و «النقائض» «بروقي بيتها». و الروق من البيت: رواقه أي شقته التي دون الشقة العليا.
3- الضناك (بكسر الضاد): الضخمة من النساء. و الضفنة (بكسر الضاد و فتح الفاء و كسرها و تشديد النون): الحمقاء مع عظم خلق.
4- هو عبد اللّه بن الحجاج بن عبد اللّه المعروف بالأصم الباهلي.
5- في ح و «النقائض»: «في حد ظنبوب». و الظنبوب: حرف الساق اليابس من قدم. و بعده في «النقائض»: و ركبناها سلاح ما يقوم لها إلا الشياطين في تلك الأعاريب
6- الشف (هاهنا) النقصان، و قد يكون الشف الفضل أيضا. («النقائض» ص 807).
7- أي لقد كنت أهلا أن يعيبك عائب لأجل سوقك الديات إلى آل زيق. و المراد بالديات المائة من الإبل التي ساقها الفرزدق مهرا إلى آل زيق.
8- ذات الصليب: يريد بها حدراء، و ذلك أن أجدادها كانوا نصارى فعيره ذلك. و ظعينة: امرأة. و الأصل في الظعينة المرأة تكون على البعير، ثم استعمل العرب الظعينة حتى صيروا المرأة ظعينة بغير بعير. و عتيبة: يريد عتيبة بن الحارث بن شهاب بن عبد قيس بن كناس بن جعفر بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، و قد رأس و كان فارس مضر في زمانه. و حاجب: هو حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم. و الردفان هما: عتاب بن هرميّ بن رياح بن يربوع، و عوف بن عتاب بن هرميّ، و الردف: الذي يردف الملك يعادله في ركوبه و يجلس في مجلسه إذا قام من مجلسه. (عن «النقائض» ص 808 إلى 809 ببعض تصرف).
9- كذا في «النقائض» و في الأصول: «و النعل» و هو تحريف. و لازب: لازم.

حوينا أبا زيق و زيقا و عمّه *** و جدّه زيق قد حوتها المقانب(1)

فأجابه الفرزدق بقصيدة منها:

أ لست إذ القعساء(2) أنسل(3) ظهرها *** إلى آل بسطام بن قيس بخاطب

/فنل مثلها من مثلهم ثم لمهم *** بملكك من مال مراح و عازب

فلو كنت من أكفاء حدراء لم تلم *** على دارميّ بين ليلى و غالب

و إني لأخشى إن خطبت إليهم *** عليك التي لاقى يسار الكواعب

- يسار كان عبدا لبني غدانة، فأراد مولاته على نفسها، فنهته مرّة بعد مرة، و ألحّ فوعدته، فجاء فقالت له: إني أريد أن أبخّرك فإن رائحتك متغيّرة؛ فوضعت تحته مجمرة و قد أعدّت له حديدة حادّة، فأدخلت يدها فقبضت على ذكره و هو يرى أن ذلك لشيء، فقطعته بالموسى؛ فقال: «صبرا على مجامر الكرام» فذهبت مثلا - عاد الشعر:

و لو قبلوا منّي عطيّة سقته *** إلى آل زيق من وصيف مقارب(4)

هم زوّجوا قبلي ضرارا و أنكحوا *** لقيطا و هم أكفاؤنا في المناسب

و لو تنكح الشمس النجوم بناتها *** إذا لنكحناهنّ قبل الكواكب

و قال جرير:

/

يا زيق أنكحت قينا باسته حمم *** يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق(5)

غاب المثنّى فلم يشهد نجيّكما *** و الحوفزان و لم يشهدك مفروق

أين الألى أنزلوا النعمان مقتسرا *** أم أين أبناء شيبان الغرانيق

يا ربّ قائلة بعد البناء بها *** لا الصّهر راض و لا ابن القين معشوق

و قال الفرزدق(6) لجرير في هذا:

إن كان أنفك قد أعياك محمله *** فاركب أتانك ثم اخطب إلى زيق

/قال: و لامه الحجّاج و قال: أ تزوّجت ابنة نصرانيّ على مائة ناقة؟! قال: و ما هي في جود الأمير! قال:

فاشترى الإبل و ساقها.

رأى في طريقه إلى حدراء كبشا مذبوحا فتشاءم بموتها و شعره حين أخبر بوفاتها:

فلمّا كان في بعض الطريق و معه أوفى بن خنزير أحد بني التّيم بن شيبان بن ثعلبة دليله رأى كبشا مذبوحا،

ص: 228


1- المقانب: جمع مقنب، و هو الجماعة من الخيل تجتمع للغارة.
2- القعساء من النساء: الداخلة الصلب العظيمة البطن. و إنما عني هاهنا أتانا. يعني أن بني كليب قالوا لجرير: مالك و قد حسنت حال أعيارك لا تأتي آل بسطام فتخطب إليهم كما فعل الفرزدق. («النقائض» ص 813).
3- كذا في «النقائض». و أنسل ظهرها أي طرّت فسقط و برها القديم و نبت و بر جديد و ذلك لسمنها. و في الأصول: «أنحل ظهرها».
4- عطية: هو أبو جرير. و المقارب: الدون، و قيل: هو الوسط بين الجيد و الرديء.
5- راجع هذا الشعر و شرحه في ترجمة جرير في الجزء الثامن من هذه الطبعة ص (85-86).
6- في الأصول: «و قال جرير للفرزدق» و قد صححها كما أثبتناها الأستاذ الشنقيطي في نسخته.

فقال: يا أوفى، هلكت و اللّه حدراء!. قال: ما لك بذلك من علم!. فلمّا بلغ قال له بعض قومها: هذا البيت فانزل، و أمّا حدراء فهلكت. و قد عرفنا الذي يصيبكم في دينكم من ميراثها و هو النصف فهو لك عندنا. فقال: لا و اللّه لا أرزأ منه قطميرا، و هذه صدقتها(1) فاقبضوها. فقال: يا بني دارم! و اللّه ما صاهرنا أكرم منكم. قال: و في هذه القصة يقول الفرزدق:

عجبت لحادينا المقحّم سيره *** بنا موجفات من كلال و ظلّعا

ليدنينا ممن إلينا لقاؤه *** حبيب و من دار أردنا لتجمعا

و لو يعلم الغيب الذي من أمامنا *** لكرّ بنا حادي المطيّ فأسرعا

يقولون زر حدراء و التّرب دونها *** و كيف بشيء وصله قد تقطّعا

و ما مات عند ابن المراغة مثلها *** و لا تبعته ظاعنا حيث ودّعا

يقول ابن خنزير بكيت و لم تكن *** على امرأة عينا أخيك لتدمعا

و أهون رزء لامرئ غير جازع *** رزيّة مرتجّ الرّوادف أفرعا

استعان الحجاج في مهر حدراء فعذله فشفع له عنبسة بن سعيد:

و قال ابن سلاّم فيما أخبرنا به أبو خليفة عنه قال حدّثني حاجب بن زيد و أبو الغرّاف قالا:

تزوّج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدّين و هو عبد اللّه بن عمرو بن الحارث بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان على حكم أبيها، فاحتكم مائة من الإبل. فدخل على الحجّاج/فعذله فقال: أ تزوّجتها على حكمها و حكم أبيها مائة بعير و هي نصرانية و جئتنا متعرّضا أن نسوقها عنك! اخرج ما لك عندنا شيء!. فقال عنبسة بن سعيد بن العاصي و أراد نفعه: أيها الأمير، إنها من حواشي إبل الصدقة؛ فأمر له بها. فوثب عليه جرير فقال:

يا زيق قد كنت من شيبان في حسب *** يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق

أنكحت ويحك قينا باسته حمم *** يا زيق ويحك هل بارت بك السّوق

ثم ذكر باقي القصيدة بمثل رواية دماذ.

أراد أن تحمل حدراء فاعتلوا بموتها و شعر لجرير في ذلك:
اشارة

قال ابن سلاّم: و أراد الفرزدق أن تحمل؛ فاعتلّوا عليه و قالوا: ماتت، كراهة أن يهتك جرير أعراضهم. فقال جرير:

/

و أقسم ما ماتت و لكنّه التوى *** بحدراء قوم لم يروك لها أهلا

رأوا أن صهر القين عار عليهم *** و أن لبسطام على غالب فضلا

إذا هي حلّت مسحلان(2) و حاربت *** بشيبان لاقى القوم من دونها شغلا

ص: 229


1- الصدقة: المهر.
2- مسحلان: موضع في بلاد بني يربوع.

و حدراء هذه هي التي ذكرها الفرزدق في أشعاره. و من ذلك قوله:

صوت

عزفت بأعشاش(1) و ما كدت تعزف *** و أنكرت من حدراء ما كنت تعرف

و لجّ بك الهجران حتى كأنّما *** ترى الموت في البيت الذي كنت تألف(2)

عروضه من الطويل. عزفت عن الشيء انصرفت عنه، عزف يعزف عزوفا. الشعر للفرزدق. و الغناء لسلسل، ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه لحن للغريض من الثّقيل الأوّل بالبنصر من رواية حبش.

قصة ما كان بينه و بين ابن أبي بكر بن حزم حين أنشده من شعر حسان في المسجد:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش و محمد بن العباس اليزيديّ قالا حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ قال حدّثنا محمد بن حبيب و أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال قال اليربوعيّ:

قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص الزّهريّ: قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان. قال:

فإني و الفرزدق و كثيّرا لجلوس في المسجد نتناشد الأشعار، إذ طلع علينا غلام شخت(3) آدم في ثوبين ممصّرين (أي مصبوغين بصفرة غير شديدة) ثم قصد نحونا حتى جاء إلينا فلم يسلّم، فقال: أيّكم الفرزدق؟ فقلت مخافة أن يكون من قريش: أ هكذا تقول لسيّد العرب و شاعرها! فقال: لو كان كذلك لم أقل هذا له. فقال له الفرزدق: و من أنت لا أمّ لك؟! قال: رجل من بني الأنصار ثم من بني النّجّار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم. بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب و تزعم مضر ذلك لك، و قد قال صاحبنا حسّان شعرا فأردت أن أعرضه عليك و أؤجّلك سنة؛ فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب و إلا فأنت كذّاب منتحل.

ثم أنشده قول حسّان:

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى *** و أسيافنا يقطرن من نجدة دما

متى ما تزرنا من معدّ عصابة *** و غسّان نمنع حوضنا أن يهدّما

- قيل إن قوله: «و غسان» هاهنا قسم أقسم به، لأن غسّان لم تكن تغزوهم مع معدّ -

أبى فعلنا المعروف أن ننطق الخنا *** و قائلنا بالعرف إلاّ تكلّما

ولدنا بني العنقاء و ابني محرّق *** فأكرم بنا خالا و أكرم بنا ابنما

/فأنشده القصيدة إلى آخرها و قال له: إني قد أجّلتك فيها حولا، ثم انصرف. و انصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه ما يدري أيّ طريق يسلك، حتى خرج من المسجد. قال: فأقبل كثيّر عليّ فقال: قاتل اللّه الأنصاريّ! ما أفصح لهجته، و أوضح حجّته، و أجود شعره!. قال: فلم نزل في حديث الفرزدق و الأنصاريّ بقيّة يومنا. حتى إذا كان الغد خرجت من منزلي إلى مجلسي الذي كنت فيه بالأمس؛ و أتاني كثيّر فجلس معي. فإنّا لنتذاكر الفرزدق و نقول: ليت

ص: 230


1- أعشاش: موضع في بلاد بني تميم لبني يربوع بن حنظلة.
2- في «النقائض»: «الذي كنت تيلف» و هي لغة تميم.
3- الشخت: الدقيق الضامر أصلا لا هزالا.

شعري ما فعل، إذ طلع علينا في حلّة أفواف(1) يمانية موشّاة، له غديرتان، حتى/جلس في مجلسه بالأمس، ثم قال: ما فعل الأنصاريّ؟ قال: فنلنا منه و شتمناه. فقال: قاتله اللّه! ما رميت بمثله و لا سمعت بمثل شعره! فارقتكما فأتيت منزلي فأقبلت أصعّد و أصوّب في كلّ فنّ من الشعر، فلكأنّي مفحم أو لم أقل قطّ شعرا حتى نادى المنادي بالفجر، فرحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت ذبابا(2)، ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أبا لبنى - و قال سعدان(3): أبا ليلى! - فجاش صدري كما يجيش المرجل، ثم عقلت ناقتي و توسّدت ذراعها؛ فما قمت حتى قلت مائة و ثلاثة عشر بيتا. فبينا هو ينشدنا، إذ طلع علينا الأنصاريّ حتى انتهى إلينا فسلّم ثم قال: أما إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقّتّه لك، و لكنّي أحببت ألاّ أراك إلا سألتك عما صنعت. فقال: اجلس، ثم أنشده:

عزفت بأعشاش و ما كدت تعزف

فلمّا فرغ الفرزدق من إنشاده قام الأنصاريّ كئيبا. فلمّا توارى طلع أبوه و هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في مشيخة من الأنصار، فسلّموا علينا و قالوا: /يا أبا فراس، قد عرفت حللنا و مكاننا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و وصيّته بنا.

و قد بلغنا أنّ سفيها من سفهائنا تعرّض لك، فنسألك باللّه لمّا حفظت فينا وصيّة النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و وهبتنا له و لم تفضحنا.

قال إبراهيم بن محمد: فأقبلت أكلّمه أنا و كثيّر؛ فلما أكثرنا عليه قال: اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشيّ.

قال: و قد كان جرير قال:

ألا أيّها القلب الطّروب المكلّف *** أفق ربّما ينأى هواك و يسعف

ظللت و قد خبّرت أن لست جازعا *** لربع بسلمانين(4) عينك تذرف

فجعل الفرزدق هذه القصيدة نقيضة لها.

نسبة ما في الخبر من الأصوات
اشارة

منها:

صوت

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى *** و أسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بنى العنقاء و ابنى محرّق *** فأكرم بنا خالا و أكرم بنا ابنما

عروضه من الطويل. الشعر لحسّان بن ثابت. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن بانة.

ما كان بين النابغة و حسان بسوق عكاظ حين مدح النابغة الخنساء:
اشارة

أخبرني عمّي الحسن بن محمد قال حدّثني محمد بن سعد الكرانيّ عن أبي عبد الرحمن الثّقفي، و أخبرني

ص: 231


1- الأفواف: جمع فوف (بالضم) و هو القطن.
2- ذباب (رواه الحزامي بكسر أوله و العمراني بضمه): جبل بالمدينة.
3- لم يتقدم في سند هذا الخبر شخص بهذا الاسم.
4- سلمانان (بضم أوّله و تكرير النون): اسم موضع، تضاف إليه البرقة المعروفة ببرقة سلمانين. (راجع «معجم البلدان» في سلمانين و «برقة سلمانين»).

أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرنا إبراهيم بن أيّوب الصائغ عن ابن قتيبة:

/أن نابغة بني ذبيان كان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء؛ فدخل إليه حسّان بن ثابت و عنده الأعشى و قد أنشده شعره و أنشدته الخنساء قولها:

قذى بعينك أم بالعين عوّار

حتى انتهت إلى قولها:

و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به *** كأنه علم في رأسه ثار

و إنّ صخرا لمولانا و سيّدنا *** و إن صخرا إذا نشتو لنحّار

فقال: لو لا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس! أنت و اللّه أشعر من كل ذات/مثانة(1). قالت: و اللّه و من كلّ ذي خصيتين. فقال حسّان: أنا و اللّه أشعر منك و منها. قال: حيث تقول ما ذا؟ قال: حيث أقول:

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى *** و أسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء و ابني محرّق *** فأكرم بنا خالا و أكرم بنا ابنما

فقال: إنك لشاعر لو لا أنك قلّلت عدد جفانك و فخرت بمن ولدت و لم تفخر بمن ولدك. و في رواية أخرى: فقال له: إنك قلت «الجفنات» فقلّلت العدد و لو قلت «الجفان» لكان أكثر. و قلت «يلمعن في الضّحى» و لو قلت «يبرقن بالدّجى». لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقا. و قلت «يقطرن من نجدة دما» فدللت على قلة القتل و لو قلت «يجرين» لكان أكثر لانصباب الدّم. و فخرت بمن ولدت و لم تفخر بمن ولدك. فقام حسّان منكسرا منقطعا.

مما يغنّي فيه من قصيدة الفرزدق الفائية قوله:

صوت

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** و إن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

فيه رمل بالوسطى، يقال: إنه لابن سريج، و ذكر الهشاميّ أنه من منحول يحيى المكّيّ.

انتحل بيتا لجميل:

أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني أبو مسلمة موهوب بن رشيد الكلابيّ قال:

وقف الفرزدق على جميل و الناس مجتمعون عليه و هو ينشد:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** و إن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

فأشرع إليه رأسه من وراء الناس و قال: أنا أحقّ بهذا البيت منك. قال: أنشدك اللّه يا أبا فراس!. فمضى الفرزدق و انتحله.

ص: 232


1- المثانة: المراد بها هنا موضع الولد من الأنثى.
عرّض هو و كثير كل منهما للآخر أنه سرق بيتا من جميل:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير قال حدّثني أبي عن جدّي:

أن الفرزدق لقي كثيّرا فقال له: ما أشعرك يا كثيّر في قولك:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

فعرّض له بسرقته إيّاه من جميل:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى على كلّ مرقب

فقال له كثيّر: أنت يا فرزدق أشعر منّي في قولك:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** و إن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

- قال: و هذا البيت لجميل سرقه الفرزدق - فقال الفرزدق لكثيّر: هل كانت أمّك ترد البصرة؟ قال: لا! و لكن أبي كان نزيلا لأمّك.

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن ابن شهاب عن طلحة بن عبد اللّه بن عوف قال: لقي الفرزدق كثيّرا بقارعة البلاط و أنا و هو نمشي؛ فقال له الفرزدق: يا أبا صخر! أنت أنسب العرب حيث تقول:

/

أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

قال: و أنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول:

/

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** و إن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

- قال عبد العزيز: و هذان البيتان جميعا لجميل، سرق أحدهما الفرزدق، و سرق الآخر كثيّر - فقال له الفرزدق: يا أبا صخر، هل كانت أمّك ترد البصرة؟ قال: لا! و لكن أبي كان كثيرا يردها. قال طلحة: فو الذي نفسي بيده لقد تعجّبت من كثيّر و جوابه، و ما رأيت أحدا قطّ أحمق منه؛ لقد دخلت عليه يوما في نفر من قريش، و كنّا كثيرا نهزأ به، و كان يتشيّع تشيّعا قبيحا، فقلنا له: كيف تجدك يا أبا صخر؟ فقال: بخير. هل سمعتم الناس يقولون شيئا؟ قلت: نعم! يتحدّثون أنك الدجّال. قال: و اللّه إن قلت ذلك إنّي لأجد في عيني هذه ضعفا منذ أيام!.

و لجرير قصيدة يناقض بها هذه القصيدة في أوّلها غناء نسبته:

ألا أيّها القلب الطّروب المكلّف *** أفق ربّما ينأى هواك و يسعف

ظللت و قد خبّرت أن لست جازعا *** لربع بسلمانين عينك تذرف

الشعر لجرير. و الغناء لمحمد بن الأشعث الكوفيّ ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو بن بانة. و قال حبش: فيه ثقيل أوّل بالوسطى. و ليس ذلك بصحيح.

ص: 233

رجع الحديث إلى سياقه حديث الفرزدق و النّوار:
تزوّج رهيمة بنت غنيم اليربوعية:

قال دماذ: و تزوّج الفرزدق على النّوار امرأة من اليرابيع، و هم بطن من النّمر بن قاسط حلفاء لبنى الحارث بن عباد القينيّ، و قد انتسبوا فيهم. فقالت له النّوار: و ما عسى أن تكون القينيّة؟! فقال:

/

أرتك(1) نجوم اللّيل و الشمس حيّة *** زحام بنات الحارث بن عباد

نساء أبوهنّ الأغرّ و لم تكن *** من الحتّ(2) في أجبالها و هداد(3)

و لم يكن الجوف(4) الغموض محلّها *** و لا في الهجاريّين رهط زياد

أبوها الذي أدنى النّعامة بعد ما *** أبت وائل في الحرب غير تماد

- يعني بأبيها الذي أدنى النعامة الحارث بن عباد، و أراد قوله:

قرّبا مربط النّعامة منّي

-

عدلت بها ميل النّوار فأصبحت *** مقاربة لي بعد طول بعاد

و ليست و إن أنبأت أنّي أحبّها *** إلى دارميّات النّجار جياد

و قال أبو عبيدة حدّثني أعين بن لبطة قال: تزوّج الفرزدق، مضارّة للنّوار، امرأة يقال لها رهيمة بنت غنيم بن درهم من اليرابيع، قوم من النّمر بن قاسط في بني الحارث بن عباد. و أمّها الحميضة(5) من بني الحارث. فنافرته الحميضة فاستعدت عليه. فأنكرها الفرزدق و قال: أنا منها بريء، و طلّق ابنتها و قال:

إن الحميضة كانت لي و لا بنتها *** مثل الهراسة(6) بين النّعل و القدم

إذا أتت أهلها منّي مطلّقة *** فلن أردّ عليها زفرة النّدم

/مضى الحديث. و لم أجد لأحد من الخلفاء الذين ذكرتهم و الذين لم أذكرهم، بعد الواثق، صنعة يعتدّ بها إلا المعتضد، فإنه صنع صنعة متقنة عجيبة، أبرّت(7) على صنعة سائر الخلفاء/سوى الواثق، و فضل فيها أكثر أهل الزمان الذي نشأ فيه. و إنما ذكرت صنعة من بينهما، لأنها قد رويت، فأمّا حقيقة الغناء الجيّد فليس بينهما مثلهما.

ص: 234


1- في «ديوانه»: «أراك». و في «النقائض»: «سوف يريك النجم».
2- الحت: قبيلة من كندة.
3- هداد: حي من اليمن.
4- الجوف: المطمئن من الأرض. و يحتمل أن يكون الغموض بفتح الغين صيغة مبالغة من غمض المكان إذا تطامن و خفي. و يحتمل أن يكون جمع غمض، و هو المكان المنخفض المطمئن. و إنما وصف المفرد بالجمع لإرادة الجنس، كما يقال الدينار الصفر، و الدرهم البيض. و منه قول الفرزدق نفسه على رواية «الأغاني» كما تقدّم في صفحة 325 من هذا الجزء: و إبطال حقي باليمين الكواذب
5- في «النقائض» ص 595: «الخميصة» بالخاء المعجمة و الصاد المهملة.
6- الهراسة: واحدة الهراس، و هو شوك كأنه حسك.
7- كذا في ج. «و أبرأت: علت. و في سائر الأصول: «أبرزت» و هو تحريف.

و ذكر عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر صنعة المعتضد فقرّظها، و قال: لم أجد لحنا قديما قد جمع من النّغم ما جمعه لحن ابن محرز في شعر مسافر بن أبي عمرو و هو:

يا من لقلب مقصر *** ترك المنى لفواتها

فإنه جمع من النغم العشر ثمانيا، و لحن ابن محرز أيضا في شعر كثيّر:

توهّمت بالخيف رسما محيلا *** لعزّة تعرف منه الطّلولا

و هو أيضا يجمع ثمانيا من النّغم. و قد تلطّف بعض من له دربة و حذق بهذه الصناعة حتى جمع النّغم العشر في هذا الصوت الأخير متوالية، و جمعها في صوت آخر غير متوالية، و هو في شعر ابن هرمة:

فإنّك إذ أطمعتني منك بالرضا *** و أيأستني من بعد ذلك بالغضب

و أعجب من ذلك ما عمله أمير المؤمنين المعتضد باللّه؛ فإنه صنع في رجز دريد بن الصّمّة «يا ليتني فيها جذع» لحنا من الثقيل الأوّل يجمع النّغم العشر، فأتى به مستوفى الصنعة محكم البناء، صحيح الأجزاء و القسمة، مشبع المفاصل، كثير الأدوار، لا حقا بجيّد صنعة الأوائل. و إنما زاد فضله على من تقدّمه لأنه عمله في ضرب من الرجز /قصير جدّا، و استوفى فيه الصنعة كلّها على ضيق الوزن، فصار أعجب مما تقدّمه؛ إذ تلك عملت في أوزان تامّة و أعاريض طوال يتمكّن الصانع فيها من الصنعة و يقتدر على كثرة التصرّف؛ و ليس هذا الوزن في تمكّنه من ذلك فيه مثل تلك.

نسبة هذا اللحن
صوت

يا ليتني فيها جذع *** أخبّ فيها و أضع(1)

أقود وطفاء(2) الزّمع *** كأنها شاة صدع(3)

الشعر لدريد بن الصّمّة. و الغناء للمعتضد، و لحنه ثقيل أوّل يجمع النّغم العشر.

ص: 235


1- الجذع: الصغير السن. و الخبب و الوضع: نوعان من السير.
2- الزمع: هنات شبه أظفار الغنم في الرسغ، في كل قائمة زمعتان كأنما خلقتا من قطع القرون؛ أو الزمعة: الشعرة المدلاة في مؤخر رجل الشاة و الظبي و الأرنب. و وطفاء: كثيرة الشعر سابغته. يريد فرسا هذه صفتها.
3- الصدع من الأوعال و الظباء و الإبل و الحمر: الفتى الشاب القوي منها.

ص: 236

فهرس موضوعات الجزء التاسع

الموضوع الصفحة

كثير عزة 5

عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر 30

مسافر بن أبي عمرو بن أمية 36

- خبر عمارة بن الوليد و السبب الذي من أجله سحر 40

- الأرمال الثلاثة المختارة 44

ذكر امرئ القيس و نسبه و أخباره 55

أخبار الأعشى و نسبه 75

نسب عمرو بن سعيد بن زيد و أخباره 90

أصوات معبد المسماة مدن معبد و تسمّى أيضا حصون معبد 94

ذكر عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة و نسبه 96

- صوت من أصوات معبد المعروفة بالمدن 105

ذكر الشماخ و نسبه و خبره 109

- صوت من مدن معبد 119

ذكر قيس بن ذريح و نسبه و أخباره 124

- صوت من مدن معبد في شعر عنترة 150

- صوت من مدن معبد في شعر الحارث بن خالد المخزومي 153

ذكر الحارث بن خالد و نسبه 155

- نسبه أصوات معبد في قتيلة 162

- سبعة ابن سريج 163

أغاني الخلفاء و أولادهم و أولاد أولادهم 172

ذكر عمر بن عبد العزيز و شيء من أخباره 175

نسب الأشهب بن رميلة و أخباره 185

- عود إلى أخبار عمر بن عبد العزيز 188

- غناء الوليد بن يزيد 188

- غناء الواثق 189

- غناء المنتصر 205

- غناء المعتز باللّه 208

أخبار عديّ بن الرقاع و نسبه 210

أخبار المعتز في الأغاني و مع المغنّين و ما جرى هذا المجرى 217

ذكر أخبار الفرزدق في هذا الشعر خاصة دون غيره 221

ص: 237

المجلد 10

هویة الکتاب

الأغاني

سایر نویسندگان

مصحح و مترجم:

مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی

المجلدات : 25ج

زبان: عربی

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374

تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری

ص: 238

اشارة

ص: 239

ص: 240

مقدمة التحقيق

بيان حول الجزء العاشر

بحمد اللّه و حسن توفيقه، تمّ هذا الجزء بعد مقابلته بأصوله المخطوطة و المطبوعة، و بعد تصحيح ما وفّقنا له، و ضبط ما ينبغي ضبطه من لغة و أسماء، و تحرّي وجه الصواب جهد الطاقة فيما وضعناه من شروح و تعليقات.

و الأصول التي اعتمدنا عليها في المراجعة هي الأصول التي اعتمدنا عليها في مراجعة الأجزاء السابقة، و قد تقدّم وصف هذه الأصول جميعا في تصدير الجزء الأول. و تقدّم في هذا التصدير أن النسخة التي اصطلحنا على أن نرمز لها بحرف «أ» مكتوبة بخطوط مختلفة.

و المجلد الذي راجعنا عليه في هذا الموضع من هذه النسخة مكتوب بالخط المغربي، كتبه - كما هو وارد في آخر صفحة منه - بثغر الجزائر محمد بن محمد المدعو السلاوي الحسني الفاسي المنشأ و الدار في أواخر جمادي الثانية من سنة ست و تسعين و مائة و ألف هجرية. و هو أكبر حجما من سائر مجلدات هذه النسخة؛ إذ يبلغ طول صحفة 31 سنتيمترا، و عرضها 20 و طول ما رسم من الكتابة في الصحف 22 بعرض 13 و في كل صفحة 29 سطرا. أما سائر الأجزاء فهي دونه في الحجم و في عدد السطور. و أوّل هذا المجلد محلى و مجدول بالذهب، و يقع في 303 ورقة و باقي الصحف مجدول بالمداد الأحمر.

و يبتدئ هذا المجلد بأخبار عنترة بن شدّاد العبسي التي تقع في أوّل صفحة 237 من الجزء الثامن من هذه الطبعة، و ينتهي بأخبار أبي زبيد و تقع في الجزء الثاني عشر من هذه الطبعة.

و هذا الاختلاف بين هذا المجلد و سائر المجلدات يدل على أنه ليس من أسفار النسخة التي في دار الكتب المصرية و المرقومة برقم 1318 أدب، و إنما جمع معها و سلك في رقمها. و في آخره ما يدل على ذلك صراحة إذ ورد فيه: «تم السفر الثالث من كتاب الأغاني...» و هذا السفر يصل إلى قريب من نصف الكتاب مع أن هذه النسخة تقع في أربعة عشر مجلدا كما قلنا في وصفها في تصدير الكتاب. و واضح من هذا أن هذا المجلد لا بد أن يكون جزءا من نسخة أخرى لا تعدو أسفارها ستة أو سبعة على الأكثر.

و قد اطلع على هذا المجلد كما اطلع على سائر مجلدات هذه النسخة الأستاذ الكبير شيخ الأزهر الشيخ حسن بن محمد العطار من جلّة العلماء و الأدباء في القرن الثالث عشر الهجري.

و قد وضعت لهذا الجزء فهارس كاملة كالأجزاء السابقة، غير أنا توسعنا في فهرس هذا الجزء عند ذكر أسماء رجال السند؛ إذ لم نكتف بذكر رقم أو رقمين لكل رجل بل أثبتنا كل أرقام الراوي إذا اختلف من روى عنهم أو من رووا عنه، ليكون ذلك مرجعا للرجال الذين روى عنهم أبو الفرج أخباره التي ذكرها في كتابه.

ص: 241

ص: 242

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *

1 - أخبار دريد بن الصمة و نسبه

نسبه:

هو دريد بن الصّمّة. و اسم الصّمّة، فيما ذكر أبو عمرو، معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر بن بكر بن علقة، و قيل علقمة، بن خزاعة بن غزيّة بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن. و أما أبو عبيدة فقال: هو دريد بن الصّمّة، و اسمه معاوية بن الحارث بن بكر بن علقة و لم يذكر معاوية. و قال ابن سلاّم: الحارث بن معاوية بن بكر بن علقة.

صفاته:

و دريد بن الصّمّة فارس شجاع شاعر فحل، و جعله محمد بن سلاّم أوّل شعراء الفرسان. و قد كان أطول الفرسان الشعراء غزوا، و أبعدهم أثرا، و أكثرهم ظفرا، و أيمنهم نقيبة عند العرب، و أشعرهم دريد(1) بن الصّمّة.

قتل يوم حنين:

و قال أبو عبيدة: كان دريد بن الصّمّة سيّد بني جشم و فارسهم و قائدهم، و كان مظفّرا ميمون النّقيبة، و غزا نحو مائة غزاة ما أخفق في واحدة منها، و أدرك/الإسلام فلم يسلم، و خرج مع قومه في يوم حنين مظاهرا للمشركين، و لا فضل فيه للحرب، و إنّما أخرجوه تيمّنا به و ليقتبسوا من رأيه، فمنعهم مالك بن عوف من قبول مشورته، و خالفه لئلا يكون له ذكر، فقتل دريد يومئذ على شركه. و خبره يأتي بعد هذا.

إخوته:

و كان لدريد اخوة و هم عبد اللّه الذي قتلته غطفان، و عبد يغوث قتله بنو مرّة، و قيس قتله بنو أبي بكر بن كلاب، و خالد قتله بنو الحارث بن كعب، أمّهم جميعا ريحانة بنت معد يكرب الزّبيديّ أخت عمرو بن معد يكرب كان الصّمّة سباها ثم تزوّجها فأولدها بنيه. و إيّاها يعني أخوها عمرو بقوله في شعره:

أ من ريحانة الدّاعي السّميع *** يؤرّقني و أصحابي هجوع

/إذا لم تستطع شيئا(2) فدعه *** و جاوزه إلى ما تستطيع

ص: 243


1- يلاحظ بأدنى تأمل أن سياق الكلام مستغن عن ذكر هذا الاسم.
2- في «أ، ح، م»: «أمزا».
ابنه و بنته شاعران:

و كان لدريد ابن يقال له سلمة، و كان شاعرا و هو الذي رمى أبا عامر الأشعريّ (1) بسهم فأصاب ركبته فقتله و ارتجز فقال:

إن تسألوا عنّي فإني سلمه *** ابن سمادير(2) لمن توسّمه

أضرب بالسيف رءوس المسلمة

و كانت لدريد أيضا بنت يقال لها عمرة [و كانت](3) شاعرة، و لها فيه مراث كثيرة.

شعره في الصبر على النوائب:

أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة و أخبرني به محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، و أخبرني بأخبار/له مجموعة و متفرّقة جماعة من شيوخنا أذكرهم في مواضعهم، و أخبرني أيضا بخبره محمد بن خلف بن المرزبان عن صالح بن محمد عن أبي عمرو الشّيبانيّ و قد بيّنت رواية كل واحد منهم في موضعها، قال أبو عبيدة سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصّمّة حيث يقول:

تقول أ لا تبكي أخاك! و قد أرى *** مكان البكا لكن بنيت على الصبر

لمقتل عبد اللّه و الهالك الذي *** على الشّرف الأعلى قتيل أبي بكر

و عبد يغوث أو خليلي خالد *** و عزّ مصابا حثو(4) قبر على قبر

أبى القتل إلاّ آل صمّة إنهم *** أبوا غيره و القدر يجري إلى القدر

فإمّا ترينا ما تزال دماؤنا *** لدى واتر يشقى بها آخر الدهر

فإنّا للحم السيف غير نكيرة *** و نلحمه(5) حينا و ليس بذي نكر

يغار علينا واترين فيشتفى *** بنا إن أصبنا، أو نغير على وتر

بذاك قسمنا الدّهر شطرين قسمة *** فما ينقضي إلا و نحن على شطر

و أخبرني ابن عمّار قال: حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال حدّثني محمد بن القاسم الأسديّ عن صاعد مولى الكميت بن زيد يقول: أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصّمّة، و ذكر هذه الأبيات.

يوم اللوى و مقتل أخيه عبد اللّه و ما رثاه به من الشعر:
اشارة

قال أبو عبيدة: فأما عبد اللّه بن الصّمّة فإن السبب في مقتله إنه كان غزا غطفان و معه بنو جشم و بنو نصر

ص: 244


1- أبو عامر الأشعري هو ابن عم أبي موسى الأشعري، و قد كان هذا الحادث يوم حنين.
2- سمادير اسم أم سلمة امرأة دريد بن الصمة.
3- الزيادة عن «ح».
4- في «أ»: «حثى قبر» يقال: حثوت عليه التراب أحثوه حثوا و حثيته أحثيه حثيا، و الياء أعلى.
5- لحمه (من باب فتح): أطعمه اللحم. و في «الصحاح»: «و لا تقل ألحمه و الأصمعي يقوله».

أبناء معاوية فظفر بهم و ساق أموالهم في يوم يقال له يوم اللّوى و مضى بها. و لما كان منهم غير بعيد قال: انزلوا بنا، فقال له/أخوه دريد: يا أبا فرعان - و كانت لعبد اللّه ثلاث كنى: أبو فرعان، و أبو ذفافة، و أبو أوفى، و كلّها قد ذكرها دريد في شعره -: نشدتك اللّه ألاّ تنزل فإنّ غطفان ليست بغافلة عن أموالها، فأقسم لا يريم حتى يأخذ مرباعه(1) و ينقع نقيعه(2)، فيأكل و يطعم و يقسم البقيّة بين أصحابه، فبينا هم في ذلك و قد سطعت الدّواخن، إذا بغبار قد ارتفع أشدّ من دخانهم، و إذا عبس و فزارة و أشجع قد أقبلت فقالوا لربيئتهم(3): انظر ما ذا ترى؟ فقال أرى قوما جعادا كأن سرابيلهم قد غمست في الجاديّ (4) قال: تلك أشجع، ليست بشيء. ثم نظر فقال: أرى قوما كأنهم الصّبيان، أسنّتهم عند آذان خيلهم. /قال: تلك فزارة. ثم نظر فقال: أرى قوما أدمانا(5) كأنما يحملون الجبل(6) بسوادهم، يخدّون(7) الأرض بأقدامهم خدّا، و يجرّون رماحهم جرّا، قال: تلك عبس و الموت معهم! فتلاحقوا بالمنعرج من رميلة اللّوى فاقتتلوا فقتل رجل من بني قارب و هم من بني عبس عبد اللّه بن الصّمّة فتنادوا: قتل أبو ذفافة! فعطف دريد فذبّ عنه فلم يغن شيئا و جرح دريد فسقط فكفّوا عنه و هم يرون أنه قتل، و استنقذوا المال و نجا من هرب. فمرّ الزّهدمان و هما من بني عبس، و هما زهدم و قيس ابنا حزن بن وهب بن رواحة و إنما قيل لهم الزّهدمان تغليبا لأشهر الاسمين عليهما، كما قيل العمران لأبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما، و القمران للشمس و القمر. قال دريد: فسمعت زهدما العبسيّ يقول لكردم الفزاريّ إني لأحسب دريدا حيّا/فانزل فأجهز عليه، قال: قد مات، قال: انزل فانظر إلى سبّته(8) هل ترمّز؟ قال دريد: فسددت من حتارها(9) أي من شرجها، قال فنظر فقال: هيهات، أي قد مات، فولّى عنّي، قال و مال بالزّجّ في شرج دريد فطعنه فيه فسال دم كان قد احتقن في جوفه، قال دريد فعرفت الخفّة حينئذ فأمهلت، حتى إذا كان الليل مشيت و أنا ضعيف قد نزفني(10) الدّم حتى ما أكاد أبصر، فجزت بجماعة تسير(11) فدخلت فيهم، فوقعت بين عرقوبي بعير ظعينة، فنفر البعير فنادت: نعوذ باللّه منك، فانتسبت لها فأعلمت الحيّ بمكاني، فغسل عنّي الدم و زوّدت زادا و سقاء فنجوت، و زعم بعض الغطفانيّين أن المرأة كانت فزاريّة و أنّ الحيّ كانوا علموا بمكانه فتركوه فداوته المرأة حتى برأ و لحق بقومه، قال: ثم حجّ كردم بعد ذلك في نفر من بني عبس، فلما قاربوا ديار دريد تنكّروا خوفا، و مرّ بهم فأنكرهم، فجعل يمشي فيهم و يسألهم من هم؟ فقال له كردم: عمّن تسأل؟ فدفعه دريد، و قال:

أمّا عنك و عمّن معك فلا أسأل أبدا، و عانقه، و أهدي إليه فرسا و سلاحا، و قال له: هذا بما فعلت بي يوم اللّوى.

ص: 245


1- المرباع بكسر أوله: ربع الغنيمة، و هو حظ الرئيس في الجاهلية.
2- نقع الشيء في الماء و غيره ينقعه (من باب فتح) فهو نقيع، و مثله أنقعه. نبذه: أي اتخذ منه النبيذ.
3- الربيئة: الطليعة.
4- الجاديّ: الزعفران.
5- الأدمان: جمع آدم على مثال سودان و حمران. و الآدم من الناس: الأسمر.
6- في ج م: «الأرض».
7- يخدون: يشقون.
8- السبة بالضم: الاست. و ترمز (بحذف إحدى تاءيها): تضطرب و تتحرك.
9- الحتار بالكسر: ما أحاط بالشيء كحتار الغربال و المنخل.
10- يقال: نزف الدم فلانا فهو منزوف و نزيف أي سال منه دم كثير حتى يضعف.
11- في «أ، م»: «قيس».

و قال دريد يرثي أخاه عبد اللّه:

أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد *** بعاقبة(1) و أخلفت كلّ موعد

و بانت و لم أحمد إليك جوارها *** و لم ترج منّا ردّة اليوم أوغد

/و هي طويلة و فيها يقول:

أ عاذلتي كلّ امرئ و ابن أمّه *** متاع كزاد الراكب المتزوّد

أعاذل إن الرّزء أمثال خالد(2) *** و لا رزء ممّا أهلك المرء عن يد

نصحت لعارض و أصحاب عارض *** و رهط بني(3) السّوداء و القوم شهّدي

فقلت لهم ظنّوا(4) بألفي مدجّج *** سراتهم في الفارسيّ المسرّد

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى *** فلم يستبينوا الرّشد إلاّ ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم و قد أرى *** غوايتهم و أنّني(5) غير مهتد

و هل أنا إلاّ من غزيّة(6) إن غوت *** غويت، و إن ترشد غزيّة أرشد

دعاني أخي و الخيل بيني و بينه *** فلما دعاني لم يجدني بقعدد(7)

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا *** فقلت أعبد اللّه ذلكم الرّدي

/فإن يك عبد اللّه خلّى مكانه *** فلم يك وقّافا و لا طائش اليد

/و لا برما(8) إذا الرياح تناوحت *** برطب العضاه و الهشيم المعضّد

نظرت إليه و الرّماح تنوشه(9) *** كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد

فطاعنت عنه الخيل حتى تبدّدت *** و حتى علاني اشقر اللّون مزبد(10)

ص: 246


1- بعاقبة أي بأخرة.
2- ذكر المؤلف فيما مر إخوة دريد و ذكر منهم خالدا و عبد اللّه. و التصريح بهذا الاسم في هذا الشعر الذي قاله دريد في رثاء أخيه عبد اللّه خاصة يدل على أن عبد اللّه و خالدا و عارضا (المذكور في البيت التالي) ثلاثة أسماء لشخص واحد و قد صرح بذلك شارح الحماسة ج 2 ص 156 حيث قال: «عارض هو أخو دريد و كانت له ثلاثة أسماء عارض و عبد اللّه و خالد، و ثلاث كنى كان يكنى أبا أوفى و أبا ذفافة و أبا فرعان أو أبا فرغان».
3- رهط بني السوداء يعني بهم أصحاب أخيه عبد اللّه. و القوم شهدي أي شهودي.
4- ظنوا: أي أيقنوا أو معناه ما ظنكم بألفين من الأعداء راصدين لكم يرقبونكم. و المدجج: التام السلاح، من الدجة و هي شدة الظلمة لأن الظلمة تستر كل شيء، و المدجج يستر نفسه بالسلاح. و سراتهم: أشرافهم و سادتهم. و الفارسي المسرد عني به الدروع المتتابعة الحلق في نسجها.
5- كذا في «ح» و «الحماسة». و في «سائر الأصول»: «أو».
6- غزية: قبيلة من هوازن. و هي رهط الشاعر.
7- القعدد كقنفذ: الجبان اللئيم القاعد عن المكارم.
8- البرم: الضجر. و تناوحت الرياح هبت صبا مرة و شمالا مرة و جنوبا مرة، و ذلك آية الجدب. و العضاه: كل شجر يعظم و له شوك. و الهشيم: النبت اليابس المتكسر. و المعضد: المقطع بالمعضد.
9- تنوشه: تتناوله. و الصياصي: جمع صيصية و هي شوكة الحائك التي يسوى بها السداة و اللحمة.
10- هذه رواية الأصول و فيه إقواء. و رواية «الحماسة»، فطاعنت عنه الخيل حتى تنفست و حتى علاني حالك اللون أسودي قال التبريزي: و يروي أسود على الإقواء. و أسودي يريد أسوديا كما قيل في الأحمر أحمري و في الدوّار دوّاري ثم خففت ياء النسب بحذف إحداهما.

فما رمت حتى خرّقتني رماحهم *** و غودرت أكبو في القنا المتقصّد(1)

قتال امرئ واسى أخاه بنفسه *** و أيقن أنّ المرء غير مخلّد

صبور على وقع المصائب حافظ *** من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

في بعض هذه الأبيات غناء و هو:

صوت
تمثل عليّ عليه السّلام بشعره:

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى *** فلم يستبينوا الرّشد إلاّ ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم و قد أرى *** غوايتهم و أنّني غير مهتد

و هل أنا إلاّ من غزيّة إن غوت *** غويت و إن ترشد غزيّة أرشد

الغناء ليحيى المكيّ ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى البنصر من رواية ابنه أحمد، و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و لم ينسبه إلى أحمد. و هذه الأبيات تمثّل بها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه عند منصرفه من صفّين.

/حدّثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجليّ قال حدّثنا حسين بن نضر بن مزاحم قال حدّثنا عمر بن سعيد عن أبي مخنف عن رجاله أن عليّا عليه السّلام لمّا اختلفت كلمة أصحابه في أمر الحكمين و تفرّقت الخوارج و قالوا له ارجع عن أمر الحكمين و تب و اعترف بأنك كفرت إذ حكّمت، و لم يقبل ذلك منهم، و خالفوه و فارقوه تمثّل بقول دريد:

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى *** فلم يستبينوا الرّشد إلاّ ضحى الغد

الأبيات:

أخوه عبد اللّه و أسماؤه و كناه:

قال أبو عبيدة: كانت لعبد اللّه بن الصّمّة ثلاثة أسماء و ثلاث كنى: عبد اللّه و معبد و خالد. و يكنى أبا ذفافة و أبا فرعان و أبا أوفى.

و قال دريد:

أبا ذفافة من للخيل إذ طردت *** فاضطرّها الطعن في وعث(2) و إيجاف

يا فارس الخيل في الهيجاء إذ شغلت *** كلتا اليدين درورا غير وقّاف

له أفضل بيت في الصبر على النوائب:

ص: 247


1- المتقصد: المتكسر.
2- الوعث هنا: الطريق الخشن الغليظ العسر. و الإيجاف: سرعة السير.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس أنه كان يقول: أفضل بيت قالته العرب في الصبر على النوائب قول دريد بن الصّمّة:

قليل التّشكّي للمصيبات حافظ *** من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

عاتبته زوجته أم معبد على بكائه أخاه فطلقها و قال شعرا:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير عن أبي المهاجر، و ذكر مثله أبو عمرو الشّيبانيّ، أنّ أمّ معبد التي ذكرها دريد في شعره هذا كانت امرأته فطلّقها، لأنها/رأته شديد الجزع على أخيه، فعاتبته على ذلك و صغّرت شأن أخيه و سبّته، فطلّقها و قال فيها:

أرثّ جديد الحبل من أم معبد *** بعاقبة و أخلفت كلّ موعد

/و بانت و لم أحمد إليك جوارها *** و لم ترج منا ردّة اليوم أوغد

فقالت له أمّ معبد: بئس و اللّه ما أثنيت عليّ يا أبا قرّة! لقد أطعمتك مأدومي، و بثثتك مكتومي، و أتيتك باهلا(1) غير ذات صرار و ما استفرمت(2) قبلك إلاّ من حيض.

و قال أبو عبيدة في خبره: بلغ دريد بن الصّمّة أن زوجته سبّت أخاه فطلّقها و ألحقها بأهلها و قال في ذلك:

أعبد اللّه إن سبّتك عرسي *** تقدّم بعض لحمي قبل بعض

إذا عرس امرئ شتمت أخاه *** فليس فؤاد شانئه بحمض(3)

معاذ اللّه أن يشتمن رهطي *** و أن يملكن إبرامي و نقضي

حارب غطفان يوم الغدير طلبا بثأر أخيه و قال شعرا:

أخبرنا هاشم بن محمد قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال:

أغار دريد بن الصّمّة بعد مقتل أخيه عبد اللّه على غطفان يطالبهم بدمه، فاستقراهم(4) حيّا حيّا، و قتل من بني عبس ساعدة بن مرّ، و أسر ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب، أسره مرّة بن عوف الجشميّ. فقالت بنو جشم: لو فاديناه(5)! فأبى ذلك دريد عليهم، و قتله بأخيه عبد اللّه، و قتل من بني فزارة رجلا يقال له حزام و إخوة له، و أصاب/جماعة من بني مرّة و من بني ثعلبة بن سعد و من أحياء غطفان، و ذلك في يوم الغدير. و في هذا اليوم و في من قتل فيه منهم يقول:

تأبّد من أهله معشر *** فجوّ سويقة(6) فالأصفر

ص: 248


1- الباهل «في الأصل»: الناقة لإصرار عليها، تريد أنها أباحته نفسها.
2- كذا في «ح»، و استفرمت المرأة: تضيقت بالفرم (بفتح أوله و إسكان ثانيه) أي عالجت ذلك الموضع منها ليضيق و يستحصف، و ربما تتعالج بحب الزبيب و نحوه تضيق به متاعها.
3- فؤاد حمض: فاسد متغير.
4- استقراهم: تتبعهم.
5- فاداه: أطلقه و قبل فديته. و في «القرآن الكريم» وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسٰارىٰ تُفٰادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرٰاجُهُمْ.
6- تأبد: أقفر. و معشر و جو سويقة و الأصفر أسماء مواضع.

فجزع الحليف(1) إلى واسط *** فذلك مبدى و ذا محضر

فأبلغ سليمى و ألفافها(2) *** و قد يعطف النّسب الأكبر

بأنّي ثأرت بإخوانكم *** و كنت كأنّي بهم مخفر(3)

صبحنا فزارة سمر القنا *** فمهلا فزارة لا تضجروا

و أبلغ لديك بني مازن *** فكيف الوعيد و لم تقرروا

فإن تقتلوا فتية أفردوا *** أصابهم الحين أو تظفروا

فإنّ حزاما لدى معرك *** و أخوته حولهم أنسر

و يوم يزيد بني ناشب *** و قبل يزيدكم الأكبر

أثرنا صريخ بني ناشب *** و رهط لقيط فلا تفخروا

تجرّ الضّباع(4) بأوصالهم *** و يلقحن منهم و لم يقبروا

/و يقول في ذلك أيضا دريد بن الصّمّة في قصيدة له أخرى:

جزينا بني عبس جزاء موفّرا *** بمقتل عبد اللّه يوم الذّنائب(5)

و لو لا سواد الليل أدرك ركضنا *** بذي الرّمث و الأرطى(6) عياض بن ناشب

قتلنا بعبد اللّه خير لداته *** ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب

قال أبو عبيدة: أنشد عبد الملك بن مروان شعر دريد بن الصّمّة هذا فقال: كاد دريد أن ينسب ذؤاب بن أسماء إلى آدم. فلما بلغ المنشد قوله:

و لو لا سواد الليل أدرك ركضنا *** بذي الرّمث و الأرطى عياض بن ناشب

/قال عبد الملك: ليت الشمس كانت بقيت له قليلا حتى يدركه.

قال أبو عبيدة و قال دريد أيضا في هذه الوقعة:

قتلنا بعبد اللّه خير لداته *** و خير شباب الناس لو ضمّ أجمعا

ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب *** منيّته أجرى(7) إليها و أوضعا

فتى مثل متن السيف يهتزّ للنّدى *** كعالية الرّمح الرّدينيّ أروعا

ص: 249


1- الجزع: منعطف الوادي. و الحليف و واسط: موضعان.
2- ألفافها: قومها المجتمعون حولها، مفرده لف بالكسر.
3- أخفره: نقض عهده و غدره. و الهمزة فيه للإزالة أي أزال خفارته كأشكاه إذا أزال شكواه.
4- يشير إلى ما هو معروف عن الضبع من أنها إذا لقيت قتيلا بالعراء و ورم و انتفخ غرموله تأتيه فتركبه و تقضي حاجتها منه ثم تأكله (راجع «نهاية الأرب» ج 9 ص 274 طبع دار الكتب المصرية و «الحيوان» للجاحظ طبع مصر ج 5 ص 40).
5- الذنائب يوم من أيام العرب المشهورة (راجع «الأغاني» ج 5 ص 35-63 طبع دار الكتب المصرية).
6- ذو الرمث: موضع. و الرمث و الأرطى نبتان.
7- أجرى إليها: قصد إليها.

أغرته أمه بالاستعانة بأخواله في ثأر أخيه فأبى و قتل ذؤاب بن أسماء:

و قال ابن الكلبيّ: قالت ريحانة بنت معد يكرب لدريد بن الصّمّة بعد حول من مقتل أخيه: يا بنيّ إن كنت عجزت عن طلب الثأر بأخيك فاستعن بخالك و عشيرته من زبيد، فأنف من ذلك و حلف لا يكتحل و لا يدّهن و لا يمسّ طيبا و لا يأكل لحما و لا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، فغزا هذه الغزاة و جاءها بذؤاب بن أسماء فقتله بفنائها، و قال: هل بلغت ما في نفسك؟! قالت: نعم متّعت بك! و روي عن ابن الكلبيّ لريحانة في هذا المعنى أبيات لم تحضرني و قد كتبت خبرها.

أخوه قيس بن الصمة و مقتله:

و أمّا قتيل أبي بكر الذي ذكره دريد فإنه أخوه قيس بن الصّمّة، قتله بنو أبي بكر بن كلاب. و كان السبب في ذلك، فيما أخبرني به هاشم بن محمد عن دماذ عن أبي عبيدة، أنّه غزا في قومه بني خزاعة من بني جشم، فأغاروا على إبل لبني كعب بن أبي بكر بن كلاب، فانطلقوا بها. و خرج بنو أبي بكر بن كلاب في طلبها حتى إذا دنوا منهم قال عمرو بن سفيان الكلابيّ، و كان حازما عاقلا، امكثوا، و مضى هو متنكّرا حتى لقي رجلا من بني خزاعة فسلّم عليه و استسقاه فسقاه و انتسب له هلاليّا، فسأله عن قومه و أين مرعى إبلهم، و أعلمه أنه جاء رائدا(1) لقومه يريد مجاورتهم، فخبّره الرجل بكلّ ما أراد، فرجع إلى قومه و قد عرف بغيته، فصبح القوم فظفرت بهم بنو كلاب و قتلوا قيس بن الصّمّة، و ذهبوا بإبل بني خزاعة و ارتجعوا إبلهم(2). و كان يقال لعمرو بن سفيان ذو السيفين، لأنه كان يلقى الحرب و معه سيفان خوفا من أن يخونه أحدهما. و إيّاه عنى دريد بن الصّمّة بقوله:

إنّ امرأ بات عمرو بين صرمته(3) *** عمرو بن سفيان ذو السّيفين مغرور

يا آل سفيان ما بالي و بالكمو *** هل تنتهون و باقي القول مأثور؟

يا آل سفيان ما بالي و بالكمو *** أنتم كبير و في الأحلام عصفور

هلاّ نهيتم أخاكم عن سفاهته *** إذ تشربون و غاوي الخمر مدحور؟

لا أعرفن لمّة سوداء داجية *** تدعو كلابا و فيها الرمح مكسور

لن تسبقوني و لو أمهلتكم(4) شرفا *** عقبى إذا أبطأ الفحج(5) المخاصير(6)

خبر الحرب بين بني عامر و بني جشم و بين أسد و غطفان:

و أخبرنا بخبر ابتداء هذه الحروب محمد بن العبّاس اليزيديّ قال قرأت على أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابيّ قال:

ص: 250


1- في ب، س، ح: «زائرا» و هو تحريف.
2- في ب، س: «أموالهم».
3- الصرمة بكسر الصاد: القطيع من الإبل و الغنم اختلف في عدده.
4- في ب، س: «أهملتكم».
5- الفحج بضم الفاء و سكون الحاء: جمع أفحج أو فحجاء، وصف من الفحج بفتح الفاء و الحاء و هو تباعد ما بين أوساط الساقين من الرجل و الدابة.
6- المخاصير: جمع مخصور و هو الذي يشتكي خصره.

أغارت بنو عامر بن صعصعة و بنو جشم بن معاوية على أسد و غطفان، و كان دريد بن الصّمّة و عمرو بن سفيان بن ذي اللّحية متساندين(1)، فدريد على بني جشم بن معاوية، و عمرو بن سفيان على بني عامر. فقال عبد اللّه بن الصّمّة/لأخيه: إنّي غير معطيك الرّئاسة، و لكنّ لي في هذا اليوم شأنا. ثم اشترك عبد اللّه و شراحيل بن سفيان، فلما أغار القوم أخذ عبد اللّه من نعم بني أسد ستّين و أصاب القوم ما شاءوا. و أدرك رجل من بني جذيمة عبد اللّه بن الصّمّة فقال له عبد اللّه بن الصّمّة: ارجع فإني كنت شاركت شراحيل بن سفيان، فإن استطاع دريد فليأته و ليأخذ مالي منه. و أقام دريد في أواخر الحيّ فقال له عمرو: ارتحل بالناس قبل أن يأتيك الصّراخ(2)، فقال: إني أنتظر أخي عبد اللّه. حتى إذا أطال عليه قال له: إن أخاك قد أدرك فوارس من الحليفيّين يسوقون بظعنهم فقتلوه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيث يفترقون قال دريد لشراحيل(3): إن عبد اللّه أنبأني و لم يكذبني قطّ أن له شركة مع شراحيل فأدّوا إلينا شركته. فقالوا له: ما شاركناه قطّ. فقال دريد: ما أنا بتارككم حتى أستحلفكم عند ذي الخلصة (وثن من أوثانهم). فأجابوه إلى ذلك و حلفوا، ثم جاء عبد اللّه بغنيمة عظيمة فجاءوه ينشدونه الشّرك. فقال لهم دريد: أ لم أحلّفكم حين ظننتم أن عبد اللّه قد قتل. فقالوا: ما حلفنا و جعلوا يناشدون عبد اللّه أن يعطيهم، فقال: لا، حتى يرضى دريد، فأبى أن يرضى فتوعّدوه أن يسرقوا إبله. فقال دريد في ذلك:

/

هل مثل قلبك في الأهواء معذور *** و الحبّ بعد مشيب المرء مغرور

و ذكر الأبيات التي تقدّمت في الخبر قبل هذا و زاد فيها:

إذا غلبتم صديقا تبطشون به *** كما تهدّم في الماء الجماهير(4)

و أنتم معشر في عرقكم شنج(5) *** بزخ الظهور و في الأستاه تأخير

قد علم القوم أنّي من سراتهم *** إذا تقبّض في البطن المذاكير

و قد أروع سوام القوم ضاحية *** بالجرد يركضها الشّعث المغاوير(6)

يحملن كلّ هجان(7) صارم ذكر(8) *** و تحتهم شزّب(9) قبّ مضامير

أو عدتم إبلي كلاّ سيمنعها *** بنو غزيّة لا ميل و لا صور(10)

ص: 251


1- التساند: التعاضد.
2- الصراخ: صوت الاستغاثة.
3- بالتأمل في سياق هذه القصة يلاحظ أن هذه الكلمة زائدة.
4- الجماهير: الرمال الكثيرة المتراكمة.
5- العرق: الأصل. و الشنج: التقبض و التقلص، و البزخ: تقاعس الظهر عن البطن، و قيل هو خروج الصد و دخول الظهر يريد أنهم مشوهو الأجسام غير أهل للرئاسة.
6- الجرد: جمع أجرد و هو الفرس القصير الشعر. و الشعث جمع أشعث و هو المغبر الرأس المتلبد الشعر. و المغاوير جمع مغوار و هو المقاتل الكثير الغارات.
7- الهجان: الكريم.
8- كذا في «ح». و في «سائر الأصول»: «كرم».
9- الشزب: جمع شازب، و هو الضامر اليابس، و القب: جمع أقب و هو من الخيل الدقيق الخصر الضامر البطن.
10- الصور: جمع أصور و هو المائل و في ح، أ، م «و لا عور».
أخوه عبد يغوث و مقتله و ما رثاه به:

و أمّا عبد يغوث بن الصّمّة و خبر مقتله فإنه كان ينزل بين أظهر بني الصّادر فقتلوه. قال أبو عبيدة في خبره:

قتله مجمّع بن مزاحم أخو شجنة بن مزاحم و هو من بني يربوع بن غيظ بن مرّة. فقال دريد بن الصّمّة:

أبلغ نعيما و أوفى إن لقيتهما *** إن لم يكن كان في سمعيهما صمم

فما أخي بأخي سوء فينقصه *** إذا تقارب بابن الصّادر القسم

/و لن يزال شهابا يستضاء به *** يهدي المقانب(1) ما لم تهلك الصّمم(2)

عاري الأشاجع(3) معصوب بلمّته *** أمر الزّعامة، في عرنينه شمم

خالد بن الصمة و مقتله:

قال أبو عبيدة: أمّا قوله «أو نديمي خالد»، فإنه يعني خالد بن الصّمّة؛ فإن بني الحارث بن كعب غزت بني جشم بن معاوية، فخرجوا إليهم فقاتلوهم فقتلت بنو الحارث خالد بن الصّمّة، و إيّاه عنى. و قال غير أبي عبيدة:

خالد بن الحارث(4) الذي عناه دريد هو عمّه خالد بن الحارث أخو الصّمّة/بن الحارث قتلته أحمس (بطن من شنوءة)، و كان دريد بن الصّمّة أغار عليهم في قومه فظفر بهم و استاق إبلهم و أموالهم و سبى نساءهم و ملأ يديه و أيدي أصحابه، و لم يصب أحد ممّن كان معه إلاّ خالد بن الحارث عمّه، رماه رجل منهم بسهم فقتله؛ فقال دريد بن الصّمّة يرثيه:

يا خالدا خالد الأيسار و النّادي *** و خالد الرّيح إذ هبّت بصرّاد(5)

و خالد القول و الفعل المعيش به *** و خالد الحرب إذ عضّت بأزراد(6)

و خالد الرّكب إذ جدّ السّفار بهم *** و خالد الحيّ لمّا ضنّ بالزاد

/و قال أبو عبيدة: قال دريد يرثي أخاه خالدا:

أميم أجدّي عافي الرّزء و اجشمي *** و شدّي على رزء ضلوعك و ابأسي

حرام عليها أن ترى في حياتها *** كمثل أبي جعد فعودي أو اجلسي

أعفّ و أجدى نائلا لعشيرة *** و أكرم مخلود(7) لدى كلّ مجلس

و ألين منه صفحة لعشيرة *** و خيرا أبا ضيف و خيرا لمجلس

ص: 252


1- المقانب: جمع مقنب و هو الجماعة من الخيل تجتمع للغارة.
2- الصمم: جمع صمة و هو الشجاع. و لعله عنى قومه.
3- الأشاجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، و قيل هي عروق ظاهر الكف واحدها أشجع. و العرنين: الأنف.
4- كذا في «الأصول». و لعله: «خالد الذي عناه دريد هو عمه خالد بن الحارث... إلخ».
5- الصراد: الغيم الرقيق لا ماء فيه.
6- كذا في أ، م،. و الأزراد: جمع زرد و هي الدرع المزرودة؛ سميت بذلك للينها و تداخل بعضها في بعض. و في «سائر الأصول»: «قصت بأوراد». و الأوراد: جمع ورد، و الورد من معانيه القطيع من الطير و الجيش على التشبيه به.
7- كذا في الأصول.

تقول هلال خارج من غمامة *** إذا جاء يجري في شليل(1) و قونس

يشدّ متون الأقربين بهاؤه *** و يخبث نفس الشانئ المتعبّس

و ليس بمكباب(2) إذا الليل جنّه *** نؤوم إذا ما أدلجوا في المعرّس

و لكنّه مدلاج ليل إذا سرى *** يندّ(3) سراه كلّ هاد مملّس(4)

هذه رواية أبي عبيدة.

يوم ثيل:

و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عمّه العبّاس بن هشام عن أبيه أن خالد بن الصّمّة قتل في غارة أغارتها بنو الحارث بن كعب على بني نصر بن معاوية في يوم يقال له يوم ثيل(5)، فأصابوا ناسا من بني نصر.

و بلغ الخبر بني جشم فلحقوهم، و رئيس بني جشم يومئذ مالك بن حزن، فاستنقذوا ما كان في أيديهم من غنائم بني نصر، فأصابوا ذا القرن الحارثيّ أسيرا و فقئوا عين شهاب بن أبان الحارثيّ بسهم، /و قتل يومئذ خالد بن الصّمّة و كان مع مالك بن حزن، و أصابت بنو جشم منهم ناسا، و كان رئيس بني الحارث بن كعب يومئذ شهاب بن أبان، و لم يشهد دريد بن الصّمّة ذلك اليوم؛ فلما رجعوا قتلوا ذا القرن بخالد بن الصّمّة، و لما قدّم لتضرب عنقه، صاح بأوس بن الصّمّة، و كان له صديقا، و لم يكن أوس حاضرا، فلم ينفعه ذلك و قتل. فلما قدم أوس غضب و قال: أ قتلتم رجلا استجار باسمي! فقال عوف بن معاوية في ذلك:

نبّئت أوسا بكى ذا القرن إذ شربا *** على عكاظ بكاء غال مجهودي(6)

إنّي حلفت بما جمّعت من نشب *** و ما ذبحت على أنصابك السّود

لتبكينّ قتيلا منك مقتربا *** إنّي رأيتك تبكي للأباعيد

قصة زواجه بامرأة وجدها ثيبا:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة، و أخبرني عبد اللّه بن مالك النحويّ الضّرير قال حدّثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

تزوّج دريد بن الصّمّة امرأة فوجده ثيّبا، و كانوا قالوا له إنها بكر، فقام عنها قبل أن يصل إليها، /و أخذ سيفه فأقبل به إليها ليضربها، فتلقّته أمّها لتدفعه عنها، فوقف يديها (أي حزّهما و لم يقطعهما)، فنظر إليها بعد ذلك و هي معصوبة فقال:

أقرّ العين أن عصبت يديها *** و ما إن تعصبان على خضاب

ص: 253


1- الشليل: الغلالة تلبس تحت الدرع. و القونس: أعلى بيضة الحديد، و قيل مقدم البيضة.
2- المكباب: الكثير النظر إلى الأرض.
3- يندّ: يشر، و ينفر.
4- كذا في الأصول. و الظاهر أنها محرفة عن «عملس» و هو القوي الشديد على السفر أو القوي على السير السريع، و مثله «العمرس».
5- لم نجد يوما بهذا الاسم فيما راجعنا من مصادر. و في ياقوت: «ثيتل بالفتح ثم السكون ماء قرب النباج كانت به وقعة مشهورة».
6- في «ج»: «مجلودي».

فأبقاهنّ أن لهنّ جدّا *** و واقية كواقية الكلاب

قالوا: يريد أن الكلب يصيبه الجرح فيلحس نفسه فيبرأ.

ما جرى بينه و بين عياض الثعلبي:

قال أبو عبيدة و ابن الأعرابيّ جميعا في هذه الرواية: أسر دريد بن الصّمّة عياضا الثّعلبيّ أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فأنعم(1) عليه. ثم إن دريدا أتاه بعد ذلك يستثيبه. فقال له: ائت رحلك حتى أبعث إليك بثوابك؛ فانصرف دريد. فبعث إليه بوطب(2) نصفه لبن و نصفه بول. فغضب دريد و لم يلبث إلاّ قليلا حتى أغار على بني ثعلبة، و استاق إبل عياض، و أفلت عياض منه جريحا؛ فقال دريد في ذلك من قصيدة:

فإن تنج يدمى عارضاك فإنّنا *** تركنا بنيك للضّباع و للرّخم(3)

جزيت عياضا كفره و عقوقه *** و أخرجته من المدفّأة(4) الدّهم

ألا هل أتاه ما ركبنا سراتهم *** و ما قد عقرنا من صفيّ (5) و من قرم

هجا عبد اللّه بن جدعان ثم مدحه:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: هجا دريد بن الصّمّة عبد اللّه بن جدعان التّيميّ تيم قريش فقال:

هل بالحوادث و الأيام من عجب *** أم بابن جدعان عبد اللّه من كلب

است حميت(6) و هي في عكم ربّته *** في يوم حرّ شديد الشرّ و الهرب

إذا لقيت بني حرب و أخوتهم *** لا يأكلون عطين(7) الجلد و الأهب

لا ينكلون و لا تشوي(8) رماحهم *** من الكماة ذوي الأبدان و الجبب(9)

/فاقعد بطينا مع الأقوام ما قعدوا *** و إن غزوت فلا تبعد من النّصب

فلو ثقفتك(10) وسط القوم ترصدني *** إذا تلبّس منك العرض(11) بالحقب

ص: 254


1- أنعم عليه: أطلقه.
2- الوطب: سقاء للبن يتخذ من جلد.
3- الرخم: (بضم الراء و سكون الخاء): جمع رخمة (بفتح الراء و الخاء). و هي طائر أبقع على شكل النسر خلقة إلا أنه مبقع بسواد و بياض يقال له الأنوق.
4- المدفأة: الإبل الكثيرة الأوبار و الشحوم.
5- الصفي: الناقة الغزيرة اللبن. و القرم: الفحل.
6- الحميت: المتين. و العكم (بكسر العين و سكون الكاف): العدل يجعل فيه المتاع و يشد عليه بالعكام أي الحبل. و يلاحظ أن هذا الشطر غير واضح.
7- العطين: الجلد المدبوغ.
8- تشوي: تصيب الشوى و لا تقتل. و الشوى: الأطراف.
9- الأبدان: جمع بدن و هو هنا الدرع القصيرة. و الجبب: جمع جبة و هي هنا الدرع أيضا.
10- ثقفه: صادفه.
11- العرض هنا: الجسد، و الحقب شيء تتخذه المرأة تعلق به معاليق الحلي تشده على وسطها. يريد إذا صادفتك وسط القوم لبست لبسة النساء و استخفيت.

و ما سمعت بصقر ظلّ يرصده *** من قبل هذا بجنب المرج(1) من خرب(2)

قال: فلقيه عبد اللّه بن جدعان بعكاظ فحيّاه و قال له: هل تعرفني يا دريد؟ قال لا. قال: فلم هجوتني؟ قال: و من أنت؟ قال: أنا عبد اللّه بن جدعان. قال: هجوتك لأنك كنت امرأ كريما، فأحببت أن أضع شعري موضعه. فقال له عبد اللّه: لئن كنت هجوت لقد مدحت؛ و كساه و حمله على ناقة برحلها. فقال دريد يمدحه:

إليك ابن جدعان أعملتها *** مخفّفة للسّرى و النّصب

فلا خفض حتّى تلاقي امرأ *** جواد الرّضا و حليم الغضب

و جلدا إذا الحرب مرّت به *** يعين عليها بجزل الحطب

رحلت البلاد فما إن أرى *** شبيه ابن جدعان وسط العرب

سوى ملك شامخ ملكه *** له البحر يجري و عين الذّهب

تغزل في الخنساء و خطبها فامتنعت و تهاجيا:

/أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم موقوفا عليه لم يتجاوزه إلى غيره، و حدّثني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة عن الأصمعيّ و أبي عبيدة، و أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة، و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدثني عليّ بن المغيرة عن أبي عبيدة، و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان/قال حدّثني أبو بكر العامريّ قال حدّثني ابن نوبة(3) عن أبي عمرو الشّيبانيّ، و أخبرني عمّي قال حدّثنا ثعلب عن ابن الأعرابيّ (4)، و قد جمعت أخبارهم على اختلاف ألفاظهم في هذا الموضع، أن دريد بن الصّمّة مرّ بالخنساء بنت عمرو بن الشّريد، و هي تهنأ بعيرا لها و قد تبذّلت حتى فرغت منه، ثم نضت عنها ثيابها فاغتسلت و دريد بن الصّمّة يراها و هي لا تشعر به فأعجبته؛ فانصرف إلى رحله و أنشأ يقول:

حيّوا تماضر و اربعوا صحبي *** وقفوا فإن وقوفكم حسبي

أخناس قد هام الفؤاد بكم *** و أصابه تبل من الحبّ

ما إن رأيت و لا سمعت به *** كاليوم طالي أينق جرب

متبذّلا تبدو محاسنه *** يضع الهناء مواضع النّقب(5)

متحسّرا نضح الهناء به *** نضح العبير بريطة العصب(6)

ص: 255


1- كذا في «الأصول». و لعله «المرخ» و هو شجر سريع الورى يقتدح به.
2- الخرب: ذكر الحباري، و قيل الحباري كلها.
3- الذي في ج، أ: «... و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو نوبة... إلخ».
4- في أ، م هنا زيادة، هي: «و أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو بكر العامري عن ابن الأعرابي».
5- الهناء: القطران. و النقب (بضم النون و تسكين القاف أو فتحها): القطع المتفرقة من الجرب. و الواحدة نقبة، و قيل هي أول ما يبدو من الجرب.
6- في ب، س: «العطب». و العطب (بالضم و بضمتين): القطن.

فسليهم عنّي خناس إذا *** عضّ الجميع الخطب ما خطبي

- قالوا: و تماضر اسمها. و الخنساء لقب غلب عليها - فلما أصبح غدا على أبيها(1) فخطبها إليه. فقال له أبوها: مرحبا بك أبا قرّة! إنك للكريم لا يطعن في حسبه، و السيّد لا يردّ عن حاجته، و الفحل لا يقرع أنفه. - و قال أبو عبيدة خاصّة مكان «لا يطعن في حسبه» «لا يطعن في عيبه»(2) - و لكن لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها، و أنا ذاكرك لها/و هي فاعلة. ثم دخل إليها و قال لها: يا خنساء، أتاك فارس هوازن و سيّد بني جشم دريد بن الصّمّة يخطبك و هو من تعلمين، و دريد يسمع قولهما. فقالت: يا أبت، أ تراني تاركة بني عمّي مثل عوالي الرّماح و ناكحة شيخ بني جشم هامة(3) اليوم أو غد!. فخرج إليه أبوها فقال: يا أبا قرّة قد امتنعت، و لعلّها أن تجيب فيما بعد.

فقال: قد سمعت قولكما، و انصرف. هذه رواية من ذكرت. و قال ابن الكلبيّ: قالت لأبيها: أنظرني حتى أشاور نفسي، ثم بعثت خلف دريد وليدة فقالت لها: انظري دريدا إذا بال، فإن وجدت بوله قد خرق الأرض ففيه بقيّة، و إن وجدته قد ساح على وجهها فلا فضل فيه. فاتّبعته وليدتها ثم عادت إليها فقالت: وجدت بوله قد ساح على وجه الأرض، فأمسكت. و عاود دريد أباها فعاودها فقالت له هذه المقالة المذكورة؛ ثم أنشأت تقول:

أ تخطبني، هبلت، على دريد *** و قد أطردت(4) سيّد آل بدر!

معاذ اللّه ينكحني حبركى(5) *** يقال أبوه من جشم بن بكر

/و لو أمسيت في جشم هديّا(6) *** لقد أمسيت في دنس و فقر

فغضب دريد من قولها و قال يهجوها:

وقاك اللّه يا ابنة آل عمرو *** من الفتيان أمثالي و نفسي

فلا تلدي و لا ينكحك مثلي *** إذا ما ليلة طرقت بنحس

/لقد علم المراضع في جمادى *** إذا استعجلن عن حزّ(7) بنهس

بأنّي لا أبيت بغير لحم *** و أبدأ بالأرامل حين أمسي

و أنّى لا ينال الحيّ ضيفي(8) *** و لا جاري يبيت خبيث نفس

إذا عقب القدور تكنّ مالا(9) *** تحتّ حلائل الأبرام عرسي

ص: 256


1- في «الأمالي» ج 2 ص 161 طبع دار الكتب المصرية أنه خطبها إلى أخيها معاوية.
2- كذا في الأصول. و لعلها: «في غيبة» بالغين المعجمة.
3- يقال: فلان هامة اليوم أو غد؛ إذا شاخ و أشرف على الموت.
4- أطردت: أمرت بطرده.
5- الحبركى: الغليظ الطويل الظهر القصير الرجلين، و الأنثى منه حبركاة. و قد ورد هذا البيت في «اللسان» هكذا: و لست بمرضع ثديي حبركي قصير الشبر من جشم بن بكر
6- الهدي: العروس.
7- الحز: القطع. و النهس: تعرّق ما على العظم و انتزاعه بمقدم الأسنان.
8- رواية «الأمالي»: و أني لا يهر الضيف كلبي أي لا ينبح في وجهه لأنسه به.
9- كذا في «ح». و في «سائر الأصول»: «تكن ملأى» و هو تحريف. و رواية هذا الشطر في «الأمالي» و «اللسان» (في مادة برم): «إذا عقب القدور عددن مالا». و عقبه القدر: ما التزق بأسفلها من تابل و غيره. و تحت: تعجل، يقال حته دراهمه إذا عجل له النقد. و قد وردت هذه الكلمة في الأصول «تحب» و التصويب عن «اللسان». يريد أنه إذا اشتد القحط و عدّت عقب القدور مالا عجلت زوجته العطاء لزوجات الأبرام. و الأبرام: اللئام، الواحد: برم، و هو في «الأصل» الذي لا يدخل مع القوم في الميسر.

و أصفر من قداح النّبع صلب *** خفيّ الوسم في ضرس(1) و لمس

دفعت إلى المفيض(2) إذا استقلّوا *** على الرّكبات(3) مطلع كلّ شمس

فإن أكدى(4) فتامكة تؤدّى(5) *** و إن أربى فإني غير نكس

و تزعم أنني شيخ كبير *** و هل خبّرتها أني ابن أمس

/تريد شرنبث(6) القدمين شثنا *** يبادر بالجدائر كلّ كرس

و ما قصرت يدي عن عظم أمر *** أهمّ به و لا سهمي بنكس

و ما أنا بالمزجّى(7) حين يسمو *** عظيم في الأمور و لا بوهس

قال: فقيل للخنساء: أ لا تجيبينه؟ فقالت: لا أجمع عليه أن أردّه و أهجوه.

آخر أيامه و شعره بعد أن أسن و ضعف جسمه:
اشارة

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: لما أسنّ دريد جعل له قومه بيتا مفردا عن البيوت، و وكّلوا به أمة تخدمه، فكانت إذا أرادت أن تبعد في حاجة قيّدته بقيد الفرس. فدخل إليه رجل من قومه فقال له: كيف أنت يا دريد؟ فأنشأ يقول:

أصبحت أقذف أهداف المنون(8) كما *** يرمي الدّريئة(9) أدنى فوقة(10) الوتر

ص: 257


1- ضرس السهم: عجمه.
2- المفيض: الضارب بالقداح.
3- في الأصول: «الركبان» و التصويب عن «الأمالي»؛ و يروى فيه: دفعت إلى النجيّ و قد تجاثوا على الركبات مطلع كل شمس قال أبو علي قال لنا أبو بكر قال أبو حاتم عن الأصمعي: هذا غلط، إنما هو مغرب كل شمس، لأن الأيسار إنما يتياسرون بالعشيات.
4- أكدى: أخفق و لم يصب.
5- كذلك في الأصول. و يلاحظ أنه لم يرد في «كتب اللغة» إلا التامك بدون هاء التأنيث. و التامك: الناقة العظيمة السنام أو السنام نفسه. و النكس: الرجل الضعيف لا خير فيه.
6- الشرنبث: الغليظ. و الشئن: الغليظ أيضا. و الكرس: ما تكرس أي صار بعضه فوق بعض. و الجدائر: جمع جديرة و هي الحظيرة. و قد رواه أبو علي في «الأمالي»: تريد أ فيحج الرجلين شثنا يقلع بالجديرة كل كرس و قال: و يروى: تريد شرنبث الكفين شئنا يقلع بالجدائر كل كرس
7- المزجي من القوم: المزلج و هو الملصق بالقوم و ليس منهم، و الرجل الناقص المروءة، و الدون من كل شيء، و البخيل. و الوهس: الذليل الموطوء.
8- في أ، م: «السنين». و في ح: «المئين».
9- الدريئة: حلقة يتعلم عليها الرامي الرمي؛ قال عمرو بن معد يكرب: ظلت كأني للرماح دريئة أ قاتل عن أبناء جرم و فرّت
10- في «اللسان»: «الفوق: مشق رأس السهم حيث يقع الوتر. و حرفاه: زنمتاه. و هذيل تسمى الزنمتين الفوقتين.

في منصف(1) من مدى تسعين من مائة *** كرمية الكاعب العذراء بالحجر

في منزل نازح م الحيّ منتبذ *** كمربط العير لا أدعى إلى خبر

/كأنّني خرب(2) قصّت قوادمه *** أو جثّة من بغاث في يدي خصر(3)

يمضون أمرهم دوني و ما فقدوا *** منّي عزيمة أمر ما خلا كبري

و نومة لست أقضيها و إن متعت(4) *** و ما مضى قبل من شأوي و من عمري

و أنني رابني قيد حبست به *** و قد أكون و ما يمشى على أثري

إن السّنين إذا قرّبن من مائة *** لوين مرّة(5) أحوال على مرر

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: قالت امرأة دريد له: قد أسننت و ضعف جسمك و قتل أهلك و فني شبابك، و لا مال لك و لا عدّة، فعلى أيّ شيء تعوّل إن طال بك العمر أو على أي شيء تخلّف أهلك إن قتلت؟ فقال دريد:

صوت

أعاذل إنما أفنى شبابي *** ركوبي في الصّريخ إلى المنادي

مع الفتيان حتى كلّ جسمي *** و أقرح عاتقي حمل النّجاد

أعاذل إنه مال طريف *** أحبّ إليّ من مال تلاد

أعاذل عدّتي بدني(6) و رمحي *** و كلّ مقلّص شكس القياد

و يبقى بعد حلم القوم حلمي *** و يفنى قبل زاد القوم زادي

هذا الشعر رواه أبو عبيدة لدريد، و غيره يرويه لعمرو بن معد يكرب، و قول أبي عبيدة أصحّ. لابن(7)محرز في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر/عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أن لابن سريج فيها ثاني ثقيل بالبنصر. و خلط المغنّون بهذا الشعر قول عمرو بن معد يكرب في هذين اللحنين:

أريد حياته(8) و يريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد

و لو لا لاقيتني و معي *** تكشّف شحم قلبك عن سواد

ص: 258


1- منصف الشيء: وسطه.
2- الخرب: ذكر الحباري.
3- كذا في الأصول. و لعلها «هصر». و يقال ليث هصور و هصر (ككتف) و هصر (كصرد).
4- متعت: طابت.
5- المرة: طاقة الحبل.
6- البدن هنا: الدرع. و فرس مقلص (بكسر اللام): طويل القوائم منضم البطن.
7- في الأصول هنا. «و لابن محرز... إلخ».
8- في ب، س: «حباءه».
قتلت بنو يربوع الصمة أباه فغزاهم:

و قال أبو عبيدة فيما رويناه عن دماذ عنه: قتلت بنو يربوع الصّمّة أبا دريد غدرا، و أسروا ابن عمّ له؛ فغزاهم دريد ببني نصر فأوقع ببني يربوع و بني سعد جميعا، فقتل فيهم. و كان فيمن قتل عمّار بن كعب؛ و قال فيهم:

دعوت الحيّ نصرا فاستهلّوا *** بشبّان ذوي كرم و شيب

على جرد كأمثال السّعالي *** و رجل مثل أهمية(1) الكثيب

فما جبنوا و لكنّا نصبنا *** صدور الشّرعبيّة(2) للقلوب

فكم غادرن من كاب صريع *** يمجّ نجيع جائفة(3) ذنوب

و تلكم عادة لبني رباب *** إذا ما كان موت من قريب

فأجلوا و السّوام لنا مباح *** و كلّ كريمة خو عروب

و قد ترك ابن كعب في مكرّ *** حبيسا بين ضبعان و ذيب

كان أبوه شاعرا:

قال أبو عبيدة: و كان الصّمة أبو دريد شاعرا، و هو الذي يقول في حرب الفجار التي كانت بينهم و بين قريش:

/

لاقت قريش غداة العقي *** ق أمرا لها وجدته وبيلا

و جئنا إليهم كموج الأتيّ (4)*** يعلو النّجاد و يملا المسيلا

و أعددت للحرب خيفانة(5)*** و رمحا طويلا و سيفا صقيلا

و محكمة من دروع القيو *** ن تسمع للسيف فيها صليلا

و كان أخوه مالك شاعرا:

قال: و كان أخوه مالك بن الصّمّة شاعرا؛ و هو القائل يرثي أخاه خالدا:

أ بني غزيّة إنّ شلوا(6) ماجدا *** وسط البيوت السّود مدفع كركر(7)

لا تسقني بيديك إن لم ألتمس *** بالخيل بين هبولة(8) فالقرقر

ص: 259


1- كذا في أكثر الأصول. و في م، ح: «أمهية» و لا معنى لهما. فلعل الصواب «أهيلة» جمع هيال و هو ما انهال من الرمال.
2- الشرعبية: الطويلة، يريد الرماح.
3- الجائفة: الطعنة التي تنفذ إلى الجوف. و ذنوب: طويلة الشر و الأذى؛ و مثله قولهم: يوم ذنوب إذا كان طويل الشر لا ينقضي.
4- الأتي: السيل لا يدري من أين أتى.
5- الخيفانة: الفرس.
6- الشلو (بالكسر) هنا: الجسد.
7- كركر: علم على عدة مواضع.
8- هبولة و القرقر: موضعان.
تحالف مع معاوية بن عمرو بن الشريد ورثاه:

/أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال: تحالف دريد بن الصّمّة و معاوية بن عمرو بن الشّريد و تواثقا إن هلك أحدهما أن يرثيه الباقي بعده، و إن قتل أن يطلب بثأره. فقتل معاوية بن عمرو بن الشّريد، قتله هاشم بن حرملة بن الأشعر المرّيّ. فرثاه دريد بقصيدته التي أولها:

ألا هبّت تلوم بغير قدر *** و قد أحفظتني و دخلت ستري

و إلاّ تتركي لومي سفاها *** تلمك عليه نفسك غير عصر

و فيها يقول:

فإنّ الرّزء يوم وقفت أدعو *** فلم أسمع معاوية بن عمرو

و لو أسمعته لأتاك يسعى *** حثيث السّعي أو لأتاك يجري

بشكّة(1) حازم لا غمز فيه *** إذا لبس الكماة جلود نمر(2)

/عرفت مكانه فعطفت زورا(3) *** و أين مكان زور يا ابن بكر

على إرم(4) و أحجار ثقال *** و أغصان من السلمات سمر

و بنيان القبور أتى عليها *** طوال الدهر شهرا بعد شهر

حديث عارض الجشمي عنه و قد خرف:

أخبرني عبد اللّه بن مالك النحويّ قال حدّثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

وقف عارض الجشميّ على دريد و قد خرف و هو عريان و هو يكوّم كوم بطحاء(5) بين رجليه يلعب بذلك؛ فجعل عارض يتعجّب مما صار إليه دريد. فرفع رأسه دريد إليه و قال:

كأنّني رأس حضن(6) *** في يوم غيم و دجن(7)

يا ليتني عهد زمن *** أنفض رأسي و ذقن

كأنّني فحل حصن *** أرسل في حبل عنن

أرسل كالظّبي الأرن(8) *** ألصق أذنا بأذن

قال: ثم سقط؛ فقال له عارض: انهض دريد! فقال:

ص: 260


1- الشكة: السلاح.
2- يقال: لبس فلان لفلان جلد النمر إذا تنكر له. و كانت ملوك العرب إذا جلست لقتل إنسان لبست جلود النمر ثم أمرت بقتل من تريد قتله.
3- الزور في اللغة: الجمل القوي، و لعله هنا اسم جملة.
4- الإرم: حجارة تنصب علما في المفازة.
5- البطحاء هنا: الحصى الصغار.
6- حضن: سم جبل.
7- الدجن: جمع دجنة و هي الظلمة.
8- الأرن: النشيط.

لا نهض في مثل زماني الأوّل *** محنّب الساق شديد(1) الأعصل

ضخم الكراديس(2) خميص الأشكل(3) *** ذي(4) حنجر رحب و صلب أعدل

خرج في حرب حنين و هو شيخ و نصح مالك بن عوف فخالفه:

حدّثنا محمد بن جرير الطّبري قال حدّثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الزّهريّ عن عبيد اللّه بن عبد اللّه قال:

لمّا فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة أقام بها خمس عشرة ليلة يقصر(5)، و كان فتحها في عشر ليال بقين من شهر رمضان. قال ابن إسحاق: و حدّثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: لمّا سمعت به هوازن جمعها مالك بن عوف النّصريّ، فاجتمعت إليه ثقيف مع هوازن، و لم يجتمع إليه من قيس إلاّ هوازن و ناس قليل من بني هلال، و غابت عنها كعب و كلاب، فجمعت نصر و جشم و سعد و بنو بكر و ثقيف و احتشدت، و في بني جشم دريد بن الصّمّة شيخ كبير فان ليس فيه شيء إلا التيمّن برأيه و معرفته بالحرب، و كان شيخا مجرّبا، و في ثقيف في الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود، و في بني مالك ذو الخمار سبيع/بن الحارث، و جماع أمر الناس إلى مالك بن عوف. فلمّا أجمع مالك المسير حطّ مع الناس أموالهم و أبناءهم و نساءهم. فلمّا نزلوا بأوطاس(6)اجتمع إليه الناس و فيهم دريد بن الصّمّة في شجار(7) له يقاد به. فقال لهم دريد: بأيّ واد أنتم؟ قالوا:

بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، ليس بالحزن الضّرس(8) و لا السّهل الدّهس(9). ما لي أسمع رغاء الإبل و نهيق الحمير و بكاء الصغير و ثغاء الشاء؟! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم و نساءهم و أموالهم. فقال: أين مالك؟ فدعي له به. فقال له: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، و إنّ هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام!. ما لي أسمع رغاء البعير و نهيق الحمير و بكاء الصّبيان و ثغاء الشاء؟! قال: سقت مع الناس نساءهم و أبناءهم و أموالهم. قال: /و لم؟ قال: أردت أن أجعل مع كلّ رجل أهله و ماله ليقاتل عنهم. قال: فانقضّ به و وبّخه و لامه، ثم قال: راعي ضأن و اللّه (أي أحمق)! و هل يردّ المنهزم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلاّ رجل بسيفه و رمحه، و إن كانت عليك فضحت في أهلك و مالك. ثم قال: ما فعلت كعب و كلاب؟ قال: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحدّ و الجدّ! لو كان يوم علاء و رفعة لم تغب عنه كعب و كلاب! و لوددت أنكم

ص: 261


1- التحنيب: احديداب في وظيفي يدي الفرس، و هو مما يوصف صاحبه بالشدّة. و الأعصل: المعوج الصلب من كل شيء، و منه ناب أعصل أي معوج شديد؛ قال أوس بن حجر: رأيت لها نابا من الشر أعصلا و في الأصول: «أعضل» بالضاد و هو تصحيف.
2- الكراديس: جمع كردوس و هو كل عظم تام ضخم.
3- ليس في «كتب اللغة» إلا الشاكلة بمعنى الخاصرة و هي المرادة في هذا الشعر.
4- كذا في «جميع الأصول»: المراد به ليس واضحا.
5- قصر الصلاة: أن يترك من ذوات الأربع ركعتين و يصلي ركعتين.
6- أوطاس: واد بديار هوازن.
7- الشجار: مركب أصغر من الهودج.
8- الضرس: الصعب.
9- الدهس: اللين السهل.

فعلتم مثل ما فعلوا. فمن شهدها منهم؟ قالوا: بنو عمرو بن عامر و بنو عوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان(1)من عامر لا ينفعان و لا يضرّان. ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة(2) بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا. ارفعهم إلى أعلى(3) بلادهم و علياء قومهم ثم الق القوم بالرجال على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، و إن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك و مالك و لم تفضح في حريمك. قال: لا و اللّه ما أفعل ذلك أبدا! إنك قد خرفت و خرف رأيك و علمك. و اللّه لتطيعنّني يا معشر هوازن أو لأتكئنّ على هذا السيف حتى يخرج من وراء ظهري - فنفس على دريد أن يكون له في ذلك اليوم ذكر و رأي - فقالوا له: أطعناك و خالفنا دريدا. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده و لم أغب عنه. ثم قال:

يا ليتني فيها جذع *** أخبّ فيها و أضع

أقود وطفاء الزّمع *** كأنّها شاة صدع

قال: فلما لقيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انهزم المشركون فأتوا الطائف و معهم مالك بن عوف، و عسكر بعضهم بأوطاس و توجّه بعضهم نحو نخلة(4)، و تبعت خيل/رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من سلك نخلة، فأدرك ربيعة بن رفيع السّلميّ أحد بني يربوع بن سمّال(5) بن عوف دريد بن الصّمّة فأخذ بخطام جمله و هو يظن أنه(6) امرأة، و ذلك أنه كان في شجار له، فأناخ به فإذا هو برجل شيخ كبير و لم يعرفه الغلام. فقال له دريد: ما ذا تريد؟ قال:

أقتلك. قال: و من أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السّلميّ. فأنشأ دريد يقول:

ويح ابن أكمة(7) ما ذا يريد *** من المرعش الذّاهب الأدرد

فأقسم لو أنّ بي قوّة *** لولّت فرائصه ترعد

و يا لهف نفسي ألاّ تكون *** معي قوّة الشارخ(8) الأمرد

/ثم ضربه السّلميّ بسيفه فلم يغن شيئا. فقال له: بئس ما سلّحتك أمّك! خذ سيفي هذا من مؤخّر رحلي في القراب فاضرب به و ارفع عن العظام و اخفض عن الدّماغ، فإنّي كذلك كنت أفعل بالرجال، ثم إذا أتيت أمّك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصّمّة، فربّ يوم قد منعت فيه نساءك!. فزعمت بنو سليم أن ربيعة قال: لمّا ضربته بالسيف سقط فانكشف، فإذا عجانه(9) و بطن فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل أعراء(10). فلمّا رجع ربيعة

ص: 262


1- الجذع: الشاب الحدث.
2- بيضة القوم: أصلهم و مجتمعهم.
3- في السيرة: «متمنع بلادهم».
4- نخلة: المراد هنا نخلة اليمانية، و هي واد يصب فيه يدعان (اسم واد) و به مسجد لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و به عسكرت هوازن يوم حنين («معجم البلدان» لياقوت).
5- في الأصول: «سماك» و التصويب من «السيرة لابن هشام» و «القاموس».
6- كذا في السيرة. و في الأصول: «أنها».
7- كذا في الأصول. و في «مختصر الأغاني»: «تكمة». و قد جاء في «سيرة ابن هشام» (ج 2 ص 852) أن ربيعة بن رفيع هذا يقال له ابن الدغنة و هي أمه فغلبت على اسمه، و يقال: ابن لذعة.
8- كذا في «مختصر الأغاني». و في سائر الأصول: «الشامخ» و الشارخ: الشاب.
9- العجان: الدبر، و قيل هو ما بين الدبر و القبل.
10- فرس عري: غير مسرج، وصف بالمصدر، ثم جعل اسما فجمع فقيل خيل أعراء. و لا يقال فرس عريان كما لا يقال رجل عري.

إلى أمّه أخبرها بقتله إياه؛ فقالت له: لقد أعتق قتيلك ثلاثا من أمهاتك. و بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في آثار من توجّه قبل أوطاس أبا عامر الأشعريّ ابن عمّ أبي موسى الأشعريّ، فهزمهم/اللّه جلّ و عزّ و فتح عليه. فيزعمون أنّ سلمة بن دريد بن الصّمّة رماه بسهم فأصاب ركبته فقتله (يعني أبا عامر).

فقالت عمرة بنت دريد ترثيه:

جزى عنّا الإله بني سليم *** و أعقبهم بما فعلوا عقاق(1)

و أسقانا إذا سرنا إليهم *** دماء خيارهم يوم التّلاقي

فربّ منوّه بك من سليم *** أجيب و قد دعاك بلا رماق(2)

و ربّ كريمة أعتقت منهم *** و أخرى قد فككت من الوثاق

و قالت عمرة ترثيه أيضا:

قالوا قتلنا دريدا قلت قد صدقوا *** و ظلّ دمعي على الخدّين يبتدر(3)

لو لا الذي قهر الأقوام كلّهم *** رأت سليم و كعب كيف تأتمر

إذا لصبّحهم غبّا و ظاهرة(4) *** حيث استقرّ نواهم جحفل ذفر(5)

استحثه قومه على الأخذ بثأر أخيه خالد من بني الحارث فقال شعرا و أجابه عبد اللّه بن عبد المدان:

و نسخت من كتاب مترجم بأنه نسخ من نسخة عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ يأثره عن أبيه قال قال محمد بن السّائب الكلبيّ:

كان دريد بن الصّمّة يوما يشرب مع نفر من قومه، فقالوا له: يا أبا ذفافة - و كان يكنى بأبي ذفافة و بأبي قرّة - أ ينجو بنو الحارث بن كعب منك و قد قتلوا/أخاك خالدا!؟ فقال لهم: إنّ القوم جمرة(6) مذحج، و هم أكفاء جشم، و لا يجمل بي هجاؤهم. فاحفظوه بكثرة القول و أغضبوه، فقال:

يا بني الحارث أنتم معشر *** زندكم وار و في الحرب بهم(7)

ص: 263


1- في «لسان العرب» و «السيرة لابن هشام»: «و عقتهم» بدل «و أعقبهم». و عقاق (بالبناء على الكسر): العقوق.
2- الرماق من العيش: البلغة و القليل يمسك الرمق.
3- في أ، م: «ينحدر». و في «سيرة ابن هشام» «فظل دمعي على السربال ينحدر».
4- كذا في «السيرة» لابن هشام. و قد جاء في «لسان العرب» (في مادة «غبب»): «و من كلامهم لأضربنك غب الحمار و ظاهرة الفرس؛ فغب الحمار أن يرعى يوما و يشرب يوما، و ظاهرة الفرس أن يشرب كل يوم نصف النهار». و في الأصول: «عنا و ظاهرهم» و هو تحريف.
5- كذا في «السيرة». و الذفر: المتغير الرائحة؛ يقال: كتيبة ذفرا. أي إنها سهكة من الحديد و صدئه. و في الأصول «زفر» بالزاي و هو تحريف.
6- يقال: بنو فلان جمرة، إذا كانوا أهل منعة و شدّة. و الجمرة: كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم لا يخالفون أحدا و لا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لفراغ القبائل، كما صبرت عبس لقبائل قيس. قال أبو عبيدة: جمرات العرب ثلاثة بنو ضبة بن أد، و بنو الحارث بن كعب، و بنو نمير بن عامر، و طفئت منهم جمرتان: طفئت ضبة لأنها حالفت الرباب، و طفئت بنو الحارث لأنها حالفت مذحج، و بقيت نمير لم تطفأ لأنها لم تحالف.
7- بهم: جمع بهمة و هو الشجاع.

و لكم خيل عليها فتية *** كأسود الغاب يحمين الأجم

ليس في الأرض قبيل مثلكم *** حين يرفضّ العدا غير جشم

لست للصّمّة إن لم آتكم *** بالخناذيذ(1) تبارى في اللّجم

فتقرّ العين منكم مرّة *** بانبعاث الحرّ نوحا تلتدم(2)

و ترى نجران منكم بلقعا *** غير شمطاء و طفل قد يتم

فانظروها كالسّعالي(3) شزّبا *** قبل رأس الحول إن لم أخترم

قال: فنمي قوله إلى عبد اللّه بن عبد المدان، فقال يجيبه:

نبّئت أنّ دريدا ظلّ معترضا *** يهدي الوعيد إلى نجران من حضن(4)

/كالكلب يعوي إلى بيداء مقفرة *** من ذا يواعدنا بالحرب لم يحن(5)

إن تلق حيّ بني الدّيّان تلقهم *** شمّ الأنوف إليهم عزّة(6) اليمن

ما كان في الناس للدّيّان من شبه *** إلاّ رعين و إلاّ آل ذي يزن

/أغمض جفونك عمّا لست نائله *** نحن الذين سبقنا الناس بالدمن

نحن الذين تركنا خالدا عطبا *** وسط العجاج كأنّ المرء لم يكن

إن تهجنا تهج أنجادا شرامحة(7) *** بيض الوجوه مرافيدا على الزمن

أورى زياد لنا زندا و والدنا *** عبد المدان و أورى زنده قطن(8)

رده أسماء بن زنباع عن ظعينته زينب و طعنه فأصاب عينه:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أبو بكر العامريّ عن ابن الأعرابيّ قال:

أغار دريد بن الصّمّة في نفر من أصحابه، فمرّوا بأسماء بن زنباع الحارثي و معه ظعينته زينب، فأحاطوا به لينتزعوها في يده، فقاتلهم دونها فقتل منهم و جرح، ثم اختلف هو و دريد طعنتين: فطعنه دريد فأخطأه، و طعنه أسماء فأصاب عينه، و انهزم دريد و لحق بأصحابه؛ فقال دريد في ذلك:

شلّت يميني و لا أشرب معتّقة *** إذ أخطأ الموت أسماء بن زنباع

قال: و هي قصيدة.

ص: 264


1- الخناذيذ: جياد الخيل، واحدها خنذيذ.
2- تلتدم: تضرب صدرها في النياحة.
3- السعالي: الغيلان، واحدها سعلاة. و الشزب: جمع شازب و هو الضامر.
4- حضن: جبل بنجد.
5- لم يحن: لم يهلك.
6- في الأصول: «غرة» بالراء المهملة و هو تصحيف.
7- الشرامحة: جمع شرمح و هو القوي و الطويل.
8- في هذا البيت إقواء و هو اختلاف حركة الروي.
قصته مع أنس بن مدركة الخثعمي و يزيد بن عبد المدان و شعره في ذلك:

و نسخت من كتاب أبي عمرو الشّيبانيّ الذي ذكرته يأثره عن محمد بن السّائب الكلبيّ قال:

جاور رجل من ثمالة عبد اللّه بن الصمّة، فهلك عبد اللّه و أقام الرجل في جوار دريد. و أغار أنس بن مدركة الخثعميّ على بني جشم، فأصاب مال الثّماليّ و أصاب ناسا من ثمالة كانوا جيرانا لدريد؛ فكفّ دريد عن طلب القوم و شغل بحرب من يليه، و قال لجاره ذلك: أمهلني عامي هذا. فقال الثماليّ: قد أمهلتك عامين. و خرج دريد ليلة لحاجته و قد أبطأ في أمر الثّماليّ، فسمعه يقول:

/

كساك دريد الدهر ثوب خزاية *** و جدّعك الحامي حقيقته أنس

دع الخيل و السّمر الطّوال لخثعم *** فما أنت و الرّمح الطويل و ما الفرس

و ما أنت و الغزو المتابع للعدا *** و همّك سوق العود و الدّلو و المرس(1)

فلو كان عبد اللّه حيّا لردّها *** و ما أصبحت إبلي بنجران تحتبس

و لا أصبحت عرسي بأشقى معيشة *** و شيخ كبير من ثمالة في تعس

يراعي نجوم الليل من بعد هجعة *** إلى الصبح محزونا يطاوله النّفس

و كنت و عبد اللّه حيّ و ما أرى *** أبالي من الأعداء من قام أو جلس

فأصبحت مهضوما حزينا لفقده *** و هل من نكير بعد حولين تلتمس

قال: فضاق دريد ذرعا بقوله، و شاور أولي الرأي من قومه؛ فقالوا له: ارحل إلى يزيد بن عبد المدان؛ فإنّ أنسا قد خلّف المال و العيال بنجران للحرب التي وقعت بين خثعم، و إن يزيد يردّها عليك. فقال دريد: بل أقدّم إليه قبل ذلك مدحة ثم انظر ما موقعي من الرجل، فقال هذه القصيدة و بعث بها إلى يزيد:

/

بني الدّيّان ردّوا مال جاري *** و أسرى في كبولهم(2) الثّقال

و ردّوا السّبي إن شئتم بمنّ *** و إن شئتم مفاداة بمال

فأنتم أهل عائدة و فضل *** و أيد في مواهبكم طوال

متى ما تمنعوا شيئا فليست *** حبائل أخذه غير السؤال

و حربكم بني الدّيّان حرب *** يغصّ المرء منها بالزّلال

و جارتكم بني الدّيّان بسل(3)*** و جاركم يعدّ مع العيال

حذا عبد المدان لكم حذاء *** مخصّرة الصدور على مثال

/بني الدّيّان إنّ بني زياد *** هم أهل التكرّم و الفعال

فأولوني بني الدّيّان خيرا *** أقرّ لكم به أخرى الليالي

ص: 265


1- العود: المسن من الإبل. و المرس: الحبل، و المراد هنا حبل الاستقاء.
2- في أ، م، ح: «في كبولكم».
3- البسل: الحرام.

قال: فلما بلغ يزيد شعره قال: وجب حقّ الرجل! فبعث إليه أن اقدم علينا. فلما قدم عليه أكرمه و أحسن مثواه. فقال له دريد يوما: يا أبا النّضر، إني رأيت منكم خصالا لم أرها من أحد من قومكم: إني رأيت أبنيتكم متفرّقة، و نتاج خيلكم قليلا، و سرحكم يجيء معتما، و صبيانكم يتضاغون(1) من غير جوع. قال: أجل! أمّا قلّة نتاجنا فنتاج هوازن يكفينا و أمّا تفرّق أبنيتنا فللغيرة على النساء. و أمّا بكاء صبياننا فإنّا نبدأ بالخيل قبل العيال. و أمّا تمسّينا بالنّعم فإنّ فينا الغرائب و الأرامل، تخرج المرأة إلى مالها حيث لا يراها أحد. قال: و أقبلت طلائعهم على يزيد، فقال شيخ منهم:

أتتك السلامة فارع النّعم *** و لا تقل الدّهر إلاّ نعم

و سرّح دريدا بنعمى جشم *** و إن سالك المرء إحدى القحم(2)

فقال له دريد: من أين جاء هؤلاء؟ فقال: هذه طلائعنا لا نسرح و لا نصطبح حتى يرجعوا إلينا. فقال له: ما ظلمكم من جعلكم جمرة مذحج. و ردّ يزيد عليه الأسارى من قومه و جيرانه، ثم قال له: سلني ما شئت؛ فلم يسأله شيئا إلاّ أعطاه إيّاه. فقال دريد في ذلك:

مدحت يزيد بن عبد المدان *** فأكرم به من فتى ممتدح

إذا المدح زان فتى معشر *** فإنّ يزيد يزين المدح

حللت به دون أصحابه *** فأورى زنادي لمّا قدح

/و ردّ النساء بأطهارها *** و لو كان غير يزيد فضح

و فكّ الرجال و كلّ امرئ *** إذا أصلح اللّه يوما صلح

و قلت له بعد عتق النساء *** و فكّ الرّجال و ردّ اللّقح(3)

أجر لي فوارس من عامر *** فأكرم بنفحته إذا نفح

و ما زلت أعرف في وجهه *** بكرّي السؤال ظهور الفرح

رأيت أبا النّضر في مذحج *** بمنزلة الفجر حين اتّضح

إذا قارعوا عنه لم يقرعوا *** و إن قدّموه لكبش نطح

/و إن حضر الناس لم يخزهم *** و إن وازنوه بقرن رجح

فذاك فتاها و ذو فضلها *** و إن نابح بفخار نبح

قصته مع مسهر بن يزيد الحارثي و شعره:

قال و قال ابن الكلبيّ: خرج دريد بن الصّمّة في فوارس من قومه في غزاة له، فلقيه مسهر بن يزيد الحارثيّ، الذي فقأ عين عامر بن الطّفيل، يقود بامرأته أسماء بنت حزن الحارثيّة. فلما رآه القوم قالوا: الغنيمة،

ص: 266


1- تضاغى من الطوى: تضوّر من الجوع و صاح.
2- القحم: جمع قحمة و هي الأمر الشاق لا يكاد يركبه أحد.
3- اللقح: جمع لقحة و هي الناقة الحلوب.

هذا فارس واحد يقود ظعينة، و خليق أن يكون الرجل قرشيّا. فقال دريد: هل منكم رجل يمضي إليه فيقتله و يأتينا به و بالظّعينة؟ فانتدب إليه رجل من القوم فحمل عليه، فلقيه مسهر فاختلفا طعنتين بينهما، فقتله مسهر بن الحارث. ثم حمل عليه آخر فكانت سبيله سبيل صاحبه؛ حتى قتل منهم أربعة نفر. و بقي دريد وحده فأقبل إليه؛ فلما رآه ألقى الخطام من يده إلى المرأة و قال: خذي خطامك؛ فقد أقبل إليّ فارس ليس كالفرسان الذين تقدّموه؛ ثم قصد إليه و هو يقول:

أما ترى الفارس بعد الفارس *** أرداهم عامل رمح يابس

/فقال له دريد: من أنت للّه أبوك؟ قال: رجل من بني الحارث بن كعب. قال: أنت الحصين؟ قال لا. قال:

فالمحجّل هوذة؟ قال لا. قال: فمن أنت؟ قال: أنا مسهر بن يزيد. قال: فانصرف دريد و هو يقول:

أ من ذكر سلمى ماء عينيك يهمل *** كما انهلّ خزر من شعيب مشلشل(1)

و ما ذا ترجّي بالسلامة بعد ما *** نأت حقب و ابيضّ منك المرجّل(2)

و حالت عوادي الحرب بيني و بينها *** و حرب تعلّ الموت صرفا و تنهل

قراها إذا باتت لديّ مفاضة *** و ذو خصل نهد المراكل هيكل(3)

كميش(4) كتيس الرّمل أخلص متنه *** ضريب(5) الخلايا و النّقيع المعجّل

عتيد لأيّام الحروب كأنّه *** إذا انجاب ريعان العجاجة أجدل(6)

يجاوب(7) جردا كالسّراحين(8) ضمّرا *** ترود بأبواب البيوت و تصهل

على كل حيّ قد أطلّت بغارة *** و لا مثل ما لاقى الحماس و زعبل

- الحماس و زعبل: قبيلتان من بني الحارث بن كعب -

غداة رأونا بالغريف(9) كأنّنا *** حبيّ (10) أدرّته الصّبا متهلّل

بمشعلة تدعو هوازن، فوقها *** نسيج من الماذيّ (11) لأم مرفّل

/لدى معرك فيها تركنا سراتهم *** ينادون، منهم موثق و مجدّل

ص: 267


1- شلشل الماء: قطر.
2- المرجل: الشعر؛ يقال: رجل الشعر إذا سرحه.
3- المفاضة هنا: الدرع. و ذو خصل: يريد فرسا. و المراكل: جمع مركل و هو حيث تصير رجلك من الدابة؛ يقال فرس نهد المراكل أي واسع الجوف. و الهيكل: الضخم.
4- الكميش: السريع.
5- الضريب: اللبن. و الخلايا: جمع خلية و هي الناقة المخلاة للحلب. يريد أن هذا الفرس معتنى به.
6- الأجدل: الصقر.
7- كذا في ح. و في سائر الأصول: «يحارب» و هو تحريف.
8- السراحين: الذئاب واحدها سرحان.
9- كذا في الأصول. و لعلها العزيف أو نحو ذلك.
10- الحبي: السحاب المتراكم. و في الأصول: «حيي» بياءين.
11- الماذي: الدروع اللينة السهلة. و اللأم: الدروع، واحدها لأمة. و المرفل: المسبغ.

نجذّ جهارا بالسيوف رءوسهم *** و أرماحنا منهم تعلّ و تنهل

ترى كلّ مسودّ العذارين فارس *** يطيف به نسر و عرفاء(1) جيأل

قال مؤلّف هذا الكتاب: هذه الأخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبيّ موضوعة كلّها، و التوليد بيّن فيها و في أشعارها، و ما رأيت شيئا منها في ديوان دريد بن الصّمّة على سائر الروايات. و أعجب من ذلك هذا الخبر الأخير؛ فإنه ذكر فيه ما لحق دريدا من الهجنة و الفضيحة في أصحابه و قتل من قتل معه و انصرافه منفردا، و شعر دريد هذا يفخر فيه/بأنّه ظفر ببني الحارث و قتل أمائلهم؛ و هذا من أكاذيب ابن الكلبيّ. و إنما ذكرته على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء قد رواه الناس و تداولوه.

ص: 268


1- كذا في ج و العرفاء: الضبع؛ سميت بذلك لكثرة شعر رقبتها. و جيأل: من أسماء الضبع أيضا، معرفة بغير ألف و لام. و قال كراع: الجيأل، فأدخل عليها الألف و اللام، و شاهده قول العجاج: يدعن ذا الثروة كالمجبل و صاحب الإقتار لحم الجيأل و في سائر الأصول: «و غربال جيأل» و هو تحريف.

2 - أخبار المعتضد في صنعة هذا اللحن و غيره من الأغاني

اشارة

<- دون أخباره في غير ذلك لأنها كثيرة تخرج عن حدّ الكتاب - و شيء من أخباره مع المغنّين و غيرهم يصلح لما هاهنا>

راسل عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر في أمر النغم العشر حتى فهمها و جمعها في صوت:
اشارة

حدّثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر أن المعتضد بعث إليه - لما صنعت جاريته شاجي اللحن الذي يجمع النّغم العشر - بظبي و حبيب جاريتي أخيه سليمان بن عبد اللّه بن طاهر حتى أخذتا اللحن عنه و نقلتاه إليه و ألقتاه على جواريه. قال: و لم يزل يراسلني مع عبد اللّه بن أحمد بن حمدون في أمر النّغم العشر و يسألني عنها و أشرحها له، حتى فهمها جيّدا و جمعها في صوت صنعه في شعر دريد بن الصّمّة:

يا ليتني فيها جذع *** أخبّ فيها و أضع

و ألقاه عليهما حتى أدّتاه إليّ مستعلما بذلك هل هو صحيح القسمة و الأجزاء أم لا، فعرّفته صحّته و دللته على ذلك حتى تيقّنه فسرّ بذلك؛ و هو لعمري من جيّد الصنعة و نادرها. و قد صنع المعتضد ألحانا في عدّة أشعار قد صنع فيها الفحول من القدماء و المحدثين و عارضهم بصنعته فأحسن و شاكل و ضاهى، فلم يعجز و لا قصّر و لا أتى بشيء يعتذر منه. فمن ذلك أنه صنع في:

أمّا القطاة فإنّي سوف أنعتها *** نعتا يوافق نعتي بعض ما فيها

لحنا في الثقيل الأوّل بالبنصر في نهاية الجودة، سمعت إبراهيم بن القاسم بن زرزور يغنّيه، فكان من أحسن ما صنع في هذا الصوت على كثرة الصنعة فيه و اشتراك/القدماء و المحدثين في صنعته مثل معبد و نشيط و مالك و ابن محرز و سنان و عمر الوادي و ابن جامع و إبراهيم و ابنه إسحاق و علّويه. و أظرف من ذلك أنه صنع في:

تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته *** و بيّن لو يستطيع أن يتكلّما

لحنا من الثقيل الأوّل(1) بالوسطى، و قد صنع قبله ابن سريج لحنا هو من الألحان الثلاثة المختارة من الغناء كلّه، فما قصّر في صنعته و لا عجز عن بلوغ الغاية فيها؛ هذا بعد أن صنع إسحاق فيها لحنا من الثقيل الثاني عارض ابن سريج به في لحنه، فما امتنع من أن يتلو مثل هذين و لا نظير لهما في القدماء و المحدثين، ثم جوّد غاية التجويد فيما اتّبعهما به و عارضهما فيه. هذا مع أصوات له صنعها تزاهي(2) المائة صوت، ما فيها ساقط و لا مرذول، و سأذكر منها ما يصلح ذكره في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 269


1- في أ، م: «الثاني».
2- تزاهي: تضاهي. و زهاء الشيء: قدره.

و من نادر صنعة المعتضد:

صوت

أناة فإن تغن عقّب بعدها *** وعيدا، فإن لم يغن أغنت عزائمه

/الشعر لإبراهيم بن العبّاس، و الغناء للمعتضد ثقيل أوّل. هذا بيت قاله إبراهيم و هو لا يعلم أنه شعر، و إنما كتب به في رسالة عن المعتصم(1) إلى بعض أصحاب الأطراف فقال في فصل منه: «و إن عند أمير المؤمنين في أمرك أناة، فإن لم تغن عقّب بعدها وعيدا، فإن لم يغن أغنت عزائمه». فلما تأمّله أنه شعر و أنه بيت نادر فأخرجه في شعره.

ص: 270


1- في ج: «عن المعتضد».

3 - أخبار إبراهيم بن العباس و نسبه

نسبه، و شيء عن آبائه:

إبراهيم بن العبّاس بن محمد بن صول، و كان صول رجلا من الأتراك، ففتح يزيد بن المهلّب بلده و أسلم على يديه، فهم موالي يزيد. و لما دعا يزيد إلى نفسه لحق به صول لينصره فصادفه قد قتل. و كان يقاتل كلّ من بينه و بين يزيد من جيش بني أميّة و يكتب على سهامه: صول يدعوكم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيّه. فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك، فاغتاظ و جعل يقول: ويلي على ابن الغلفاء! و ما له و للدّعاء إلى كتاب اللّه و سنّة و نبيّه! و لعلّه لا يفقه صلاته!. و كان ابنه محمد بن صول من رجال الدولة العبّاسية و دعاتها، و قد كان بعض أهليهم ادّعوا أنه عرب و أن العباس بن الأحنف خالهم. و أمّا صول فإنّ خالد بن خداش(1) ذكر عن أهله قالوا: كان صول و فيروز أخوين ملكا على جرجان، و كانا تركيّين تمجّسا و تشبّها بالفرس. فلما حضر يزيد بن المهلّب جرجان أمّنهما، فأسلم صول على يديه و لم يزل معه حتى قتل يوم العقر(2). و كان محمد بن صول يكنى(3) أبا عمارة، أحد الدّعاة، و قتله عبد اللّه بن عليّ لما خالف مع مقاتل بن حكيم العكّيّ (4) و عدّة آخرين.

كان يقول الشعر ثم يختاره:

و أمّا إبراهيم بن العباس و أخوه عبد اللّه فإنهما كانا من وجوه الكتّاب، و كان عبد اللّه أسنّهما و أشدّهما تقدّما، و كان إبراهيم آدبهما و أحسنهما شعرا، و كان يقول الشعر ثم يختاره، و يسقط رذله، ثم يسقط الوسط، ثم يسقط ما يسبق إليه، فلا يدع من القصيدة إلا اليسير، و ربما لم يدع منها إلاّ بيتا أو بيتين؛ فمن ذلك قوله:

/

و لكنّ الجواد أبا هشام *** و فيّ العهد مأمون المغيب

و هذا ابتداء يدلّ على أنّ قبله غيره؛ و قوله في أخيه:

و لكنّ عبد اللّه لما حوى الغنى *** و صار له من بين إخوته مال

و هذا أيضا ابتداء يدلّ على أنّ قبله غيره. و كان إبراهيم و أخوه عبد اللّه من صنائع ذي الرّئاستين، اتّصلا به فرفع منهما. و تنقّل إبراهيم في الأعمال الجليلة و الدواوين إلى أن مات و هو يتقلّد ديوان الضّياع و النفقات بسرّمن رأى في سنة ثلاث و أربعين و مائتين للنصف من شعبان.

قال محمد(5) بن داود و حدّثني أحمد بن سعيد بن حسّان قال حدّثني ابن إبراهيم قال سمعت دعبلا يقول:

ص: 271


1- في الأصول «خراش» بالراء. و قد تقدم خالد بن خداش غير مرة في الأجزاء السابقة.
2- هو عقر بابل و هو موضع عند كربلاء قتل عنده يزيد بن المهلب (انظر الحاشية رقم 1 ص 22 ح 9 من «الأغاني» طبع دار الكتب المصرية).
3- كذا في الأصول. و لعله: «و يكنى أبا عمارة إلخ».
4- هو أحد قواد أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. (انظر الكلام عليه في «تاريخ الطبري» ق 2 ص 2001-2003، 2005، 2016 طبعة أوربا).
5- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «أحمد بن داود».

لو تكسّب إبراهيم بن العبّاس بالشعر لتركنا في غير شيء. قال: ثم أنشدنا له، و كان يستحسن ذلك من قوله:

إنّ امرأ ضنّ بمعروفه *** عنّي لمبذول له عذري

ما أنا بالراغب في عرفه *** إن كان لا يرغب في شكري

هجاؤه محمد بن عبد الملك الزيات و تشفيه بموته:

/و كان إبراهيم بن العباس صديقا لمحمد بن عبد الملك الزيّات، ثم آذاه و قصده و صارت بينهما شحناء عظيمة لم يمكن تلافيها، فكان إبراهيم يهجوه؛ فمن قوله فيه:

أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة *** و قصّر قليلا عن مدى غلوائكا

لئن كان هذا اليوم يوما حويته *** فإن رجائي في غد كرجائكا

و له فيه أيضا:

دعوتك في بلوى ألمّت صروفها *** فأوقدت من ضغن عليّ سعيرها

فإنّي إذا أدعوك عند ملمّة *** كداعية عند القبور نصيرها

/و قال فيه لمّا مات:

لمّا أتاني خبر الزيّات *** و أنّه قد صار في الأموات

أيقنت أنّ موته حياتي

هجره صديقه الحارث بن بُسخُنَّر مرضاة لمحمد بن عبد الملك الزيّات فقال في ذلك شعرا:
اشارة

أخبرني حجظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال: لما انحرف محمد بن عبد الملك الزيّات عن إبراهيم تحاماه الناس أن يلقوه، و كان الحارث بن بُسخُنَّر صديقا له مصافيا، فهجره فيمن هجره من إخوانه؛ فكتب إليه:

تغيّر لي فيمن تغيّر حارث *** و كم من أخ قد غيّرته الحوادث

أ حارث إن شوركت فيك فطالما *** غنينا و ما بيني و بينك ثالث

و قد قيل: إن هذه الأبيات لإسحاق بن إبراهيم الموصليّ.

و من جيّد قول إبراهيم بن العباس و فيه غناء:

صوت

خلّ النّفاق لأهله *** و عليك فالتمس الطّريقا

و اذهب بنفسك أن ترى *** إلاّ عدّوا أو صديقا

الغناء لأبي العبيس بن حمدون، ثقيل أوّل.

ص: 272

قصة عشقه لقينة و انكماشه لتأخرها و شعره فيها:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: كان إبراهيم بن العباس يهوى قينة بسرّمن رأى، فكان لا يكاد يفارقها. فجلس يوما للشرب و معه إخوان له، و دعا جماعة من جواري القيان، و دعاها فأبطأت، فتنغّص عليهم يومهم لما رأوا من شغل قلبه بتأخّرها، ثم وافت فسرّي عنه و طابت نفسه و شرب و طرب، ثم دعا بدواة فكتب:

أ لم ترنا يومنا إذ نأت *** فلم تأت من بين أترابها

و قد غمرتنا دواعي السرور *** بإشعالها و بإلهابها بها

/و مدّت علينا سماء النعيم *** و كلّ المنى تحت أطنابها(1)

و نحن فتور إلى أن بدت *** و بدر الدّجى بين أثوابها

فلمّا نأت كيف كنّا لها *** و لمّا دنت كيف صرنا بها

و أمر من حضر فقرأ عليها الأبيات؛ فتجنّت و قالت: ما القصّة كما وصفت، و قد كنتم في قصفكم مع من حضر. و إنما تجمّلتم لي لمّا حضرت. فأنشأ يقول:

يا من حنيني إليه *** و من فؤادي لديه

/و من إذا غاب من بي *** نهم أسفت عليه

إذا حضرت فما(1) من *** هم من اصبو إليه

من غاب غيرك منهم *** فأمره في يديه

قال: فرضيت عنه، و أتممنا يومنا على أحسن حال.

أجازه دعبل في شعر:

و قال محمد بن داود حدّثني محمد بن القاسم قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال حدّثني إبراهيم بن العباس - قال حدّثني به دعبل أيضا فكانا متفقين في الرواية - قال: كنّا نطلب جميعا بالشعر، فخرجنا و كنا في محمل، فابتدأت أقول في المطّلب بن عبد اللّه بن مالك:

أ مطّلب أنت مستعذب

فقال دعبل:

لسمّ الأفاعي و مستقتل

فقلت:

فإن أشف منك تكن سبّة

فقال دعبل:

ص: 273


1- الأطناب: جمع طنب: و هو حبل طويل يشدّ به سرادق البيت.

و إن أعف عنك فما تفعل

روى له الأخفش أبياتا كان يفضلها و يستجيدها:

أنشدني الأخفش لإبراهيم بن العباس و كان يفضّلها و يستجيدها:

أميل مع الذّمام على ابن أمّي *** و آخذ للصّديق من الشقيق

و إن ألفيتني حرّا مطاعا *** فإنك واجدي عبد الصديق

أفرّق بين معروفي و منّي *** و أجمع بين مالي و الحقوق

جوابه لأبي أيوب:

أخبرني عمّي قال حدّثني أبو الحسن بن أبي البغل قال حدّثني عمّي قال:

اجتاز محمد(1) بن عليّ برد الخيار على أبي أيوب ابن أخت الوزير و هو متولّي ديار مضر فلم يتلقّه، و نزل الرّقّة فلم يصل إليه و لم يبرّه، و خرج عنها فلم يشيّعه. فلامه إخوانه و قالوا: يشكوك إلى إبراهيم بن العباس.

فكتب إلى إبراهيم يعتذر مما جرى بعلّة.

فكتب إليه إبراهيم على ظهر كتابه:

أبدا معتذر لا يعذر *** و ركوب للتي لا تغفر

و ملقّى بمساو كلّها *** منه تبدو و إليه تصدر

هي من كل الورى منكرة *** و هي منه وحده لا تنكر

كان يهوى جارية اسمها «سامر» أهدت له جاريتين:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني ابن برد الخيار عن أبيه قال:

كان إبراهيم بن العباس يهوى جارية لبعض المغنّين بسرّمن رأى يقال لها سامر، و شهر بها، فكان منزله لا يخلو منها. ثم دعيت في وليمة لبعض أهلها فغابت عنه أياما ثم جاءته و معها جاريتان لمولاتها. و قالت له: قد أهديت صاحبتيّ إليك عوضا من مغيبي عنك؛ فأنشأ يقول:

صوت

أقبلن يحففن مثل الشمس طالعة *** قد حسّن اللّه أولاها و أخراها

ما كنت فيهن إلاّ كنت واسطة *** و كنّ دونك يمناها و يسراها

الغناء لسلسل مولى بني هاشم، ثاني ثقيل بالوسطى مطلق. و ليس لسلسل خبر يدوّن و لا هو من المشهورين و لا ممّن خدم الخلفاء أو دوّن له حديث. و ذكر حبش أنه لسلسل مولاة محمد بن حرب الهلاليّ.

و سلسل هذه كانت من أحسن الناس وجها و غناء، و كانت لبعض المغنّين بالبصرة، و كان محمد بن حرب هذا

ص: 274


1- كذا في الأصول و «تاريخ الطبري» (ق 3 ص 1499). و في «معجم الأدباء» لياقوت في الكلام على إبراهيم بن العباس: «محمد بن علي بن برد الخباز» بالزاي.

يتعشّقها و لم تكن مولاته. فأخبرني الحرميّ بن أبي/العلاء قال حدّثنا إسحاق بن محمد النّخعيّ قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال: أتى أبان بن عبد الحميد الشاعر رجلا بالبصرة و له قينة يقال لها سلسل، فصادف عندها محمد بن قطن الهلاليّ و عثمان بن الحكم بن صخر الثّقفيّ فقال:

فتنت سلسل قلب ابن قطن *** ثم ثنّت بابن صخر فافتتن

فأتيت اليوم كي أنقذهم *** فإذا نحن جميعا في قرن

فأظنّ الغلط وقع على حبش من هاهنا أو سمع هذا الخبر فتوهّم أنّها مولاة محمد بن حرب.

ذهابه مع دعبل و رزين و ركوبهم حمير أهل الشوك و شعرهم في ذلك:

أخبرني عمّي و وكيع قالا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن عيسى بن عبد الرحمن قال:

خرج إبراهيم بن العباس و دعبل بن عليّ و أخوه رزين في نظرائهم من أهل الأدب رجّالة إلى بعض البساتين في خلافة المأمون، فلقيهم قوم من أهل السواد من أصحاب الشّوك، فأعطوهم شيئا و ركبوا تلك الحمير؛ فأنشأ إبراهيم يقول:

/

أعيضت بعد حمل الشّو *** ك أحمالا من الحرف(1)

نشاوى لا من الصّهبا *** ء بل من شدّة الضّعف

فقال رزين:

فلو كنتم على ذاك *** تؤولون إلى قصف

تساوت حالكم فيه *** و لم تبقوا على خسف

فقال دعبل:

و إذا فات الذي فات *** فكونوا من بني الظّرف

و مرّوا نقصف اليوم *** فإني بائع خفّي

فانصرفوا معه فباع خفّه و أنفقه عليهم.

رثاؤه لابنه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال لي عليّ بن الحسين الإسكافيّ:

كان لإبراهيم ابن قد يفع و ترعرع، و كان معجبا به فاعتلّ علّة لم تطل و مات؛ فرثاه بمرات كثيرة، و جزع عليه جزعا شديدا. فممّا رثاه به قوله:

كنت السواد لمقلتي *** فبكى عليك النّاظر

من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر

فيه رمل لابن القصّار. و من مراثيه إيّاه قوله:

ص: 275


1- كذا في الأصول.

و ما زلت مذ لد أعطيته *** أدافع عنه حمام الأحل

أعوّذه دائبا بالقرآن *** و أرمي بطرفي إلى حيث حلّ

فأضحت يدي قصدها واحد *** إلى حيث حلّ فلم يرتحل

عاتبه أبو وائلة في لهوه فقال شعرا:

و قال أحمد بن أبي طاهر حدّثني أبو وائلة قال: قلت لإبراهيم بن العبّاس: قد أخملت نفسك و رضيت أن تكون تابعا أبدا لاقتصارك على القصف و اللعب؛ فأنشأ يقول:

/

إنّما المرء صورة *** حيث حلّت تناهت

أنا مذ كنت في التصرّف لي حال ساعتي

وهبه أخوه عبد اللّه ثلث ماله و أخته الثلث الآخر و شعره في ذلك:

أخبرنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني ابن السّخيّ قال:

وهب عبد اللّه بن العبّاس لأخيه إبراهيم ثلث ماله، و وهب لأخته الثلث الآخر، فسار مساويا لهما في الحال؛ فقال إبراهيم:

/

و لكنّ عبد اللّه لمّا حوى الغنى *** و صار له من بين أخوته مال

رأى خلّة منهم تسدّ بماله *** فساهمهم حتى استوت بهم الحال

و هذا مما عيب على إبراهيم قوله ابتداء «و لكنّ عبد اللّه». و قد كرّره في شعره فقال:

و لكنّ الجواد أبا هشام *** و فيّ العهد مأمون المغيب

بطيء عنك ما استغنيت عنه *** و طلاّع عليك مع الخطوب

و السبب في ذلك اختياره شعره و إسقاطه ما لم يرضه منه.

عزله عن الأهواز:

و قرأت في بعض الكتب: لمّا عزل إبراهيم بن العبّاس عن الأهواز في أيام محمد بن عبد الملك الزيّات اعتقل بها و أوذي، و كان محمد قبل الوزارة صديقه، و كان يؤمّل منه أن يسامحه و يطلقه، فكتب إليه:

فلو إذ نبا دهر و أنكر صاحب *** و سلّط أعداء و غاب نصير

تكون عن الأهواز داري بنجوة *** و لكن مقادير جرت و أمور

و إني لأرجو بعد هذا محمدا *** لأفضل ما يرجى أخ و وزير

فأقام محمد على قصده و تكشّفه و الإساءة إليه حتى بلغ منه كلّ مكروه، و انفرجت الحال بينهما على ذلك، و هجاه إبراهيم هجاء كثيرا.

أرسل ابن الزيات أبا الجهم للنكاية به:

و أخبرني محمد بن يحيى الصّولي قال حدّثني أبو عبد اللّه الباقطانيّ أو الطّالقانيّ قال حدّثني عليّ بن الحسين بن

ص: 276

عبد الأعلى قال:

وجّه محمد بن عبد الملك بأبي الجهم أحمد بن سيف إلى الأهواز ليكشف إبراهيم بن العبّاس، فتحامل عليه تحاملا شديدا. فكتب إبراهيم إلى محمد بن عبد الملك يعرّفه ذلك و يشكوه إليه و يقول له: أبو الجهم كافر لا يبالي ما عمل، و هو القائل لمّا مات غلامه يخاطب ملك الموت:

و أقبلت تسعى إلى واحدي *** ضرارا كأنّي قتلت الرسولا

تركت عبيد بني طاهر *** و قد ملئوا الأرض عرضا و طولا

فسوف أدين بترك الصلاة *** و أصطبح الخمر صرفا شمولا

فكان محمد لعصبيّته على إبراهيم و قصده له يقول: ليس هذا الشعر لابي الجهم، إنما إبراهيم قاله و نسبه إليه.

مدح المتوكل ببيتين و غنى بهما جعفر بن رفعة:
اشارة

أخبرني أحمد بن جعفر بن رفعة قال حدّثني أبي قال دعاني إبراهيم بن العبّاس و قال: قد مدحت أمير المؤمنين المتوكّل ببيتين، فغنّ فيهما و أشعهما، و دعا لي بطيب كثير فأعطانيه، و خلع عليّ خلعة سريّة، فغنّيت فيهما. و البيتان:

صوت

ما واحد من واحد *** أولى بفضل أو مروّه

ممّن أبوه و جدّه *** بين الخلافة و النّبوّة

و أشعتهما و غنّى فيهما المتوكّل فاستحسنهما و وصله صلة سنيّة.

لحن جعفر بن رفعة في هذين البيتين رمل بالبنصر.

مدح الرضا لما عقدت ولاية العهد فأجازه:

/أخبرني محمد بن يونس الأنباريّ قال حدّثني أبي:

أن إبراهيم بن العباس الصّوليّ دخل على الرّضا لمّا عقد له المأمون و ولاّه العهد، فأنشده قوله:

أزالت عزاء القلب بعد التجلّد *** مصارع أولاد النبيّ محمد

/ - صلى اللّه عليه و سلم - فوهب له عشرة آلاف درهم من الدراهم التي ضربت باسمه. فلم تزل عند إبراهيم، و جعل منها مهور نسائه، و خلّف بعضها لكفنه و جهازه إلى قبره.

آذى إسحاق ابن أخي زيدان فهدّده فكف عنه:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني أبو العبّاس بن الفرات و الباقطانيّ قالا:

كان إسحاق بن إبراهيم ابن أخي زيدان صديقا لإبراهيم بن العبّاس، فأنسخه شعره في مدح الرّضا، ثم ولي إبراهيم بن العبّاس في أيام المتوكّل ديوان الضّياع، فعزله عن ضياع كانت بيده بحلوان، و طالبه بمال وجب عليه، و تباعد بينهما. فقال إسحاق لبعض من يثق به: قل لإبراهيم بن العبّاس: و اللّه لئن لم يكفف عمّا يفعله فيّ

ص: 277

لأخرجنّ قصيدته في الرّضا بخطّه إلى المتوكّل. فأحجم عنه إبراهيم و تلافاه، و وجّه من ارتجع القصيدة منه و جعله على ثقة من أنه لا يظهرها، ثم أفرج عنه و أزال ما كان يطالبه به.

نادرته في ثقيل:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا إبراهيم بن المدبّر قال:

راكبت إبراهيم بن العبّاس، فلقينا رجل كان إبراهيم يستثقله، فسلّم عليه. فلمّا مضى قال: يا أبا إسحاق إنه جرميّ. فقلت: ما كان عندي إلا أنه من أهل السّواد. فضحك و قال: إنما أردت قول الشاعر:

تسائل عن أخي جرم *** ثقيل و الذي خلقه

كتابه في شفاعة لرجل إلى بعض إخوانه:

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني محمد(1) بن السّخيّ قال حدّثني الحسن بن عبد اللّه الصّوليّ قال:

/كتب عمّي إبراهيم بن العبّاس شفاعة لرجل إلى بعض إخوانه: فلان ممّن يزكو شكره، و يحسن ذكره، و يعني أمره، و الصنيعة عنده واقعة موقعها، و سالكة طريقها.

و أفضل ما يأتيه ذو الدّين و الحجا *** إصابة شكر لم يضع معه أجر

مدحه عبيد اللّه بن يحيى عند المتوكل:

أخبرني عمّي عن أبي العيناء قال:

كان عبيد اللّه بن يحيى يقول للمتوكّل: يا أمير المؤمنين، إن إبراهيم بن العبّاس فضيلة خبأها اللّه لك، و ذخيرة ذخرها لدولتك.

طلب إليه المتوكل وصف القدور الإبراهيمية و مجونهما في ذلك:

و ذكر عن عليّ بن يحيى:

أنّ المتوكل بعث إلى إبراهيم بن العبّاس يأمره أن يصف له القدور الإبراهيميّة، و كان ابتدعها؛ فكتب له صفتها، و كتب في آخرها في ذكر الأبازير: «و وزن دانق» و نسي أن يكتب من أيّ شيء. فلمّا وصلت إليه الصفة اغتاظ ثم قال لعليّ بن يحيى: احلف بحياتي أن تقول له ما آمرك به، ففعل. فقال له: قل وزن دانق من أي شيء؟ أ من بظر أمّك! قال عليّ بن يحيى: فدخلت إليه فقلت: إني جئتك في رسالة عزيز عليّ أن أؤدّيها؛ فقال: هاتها، فأدّيتها. قال: فارجع إليه و قل له عنّي: يا سيّدي، إن عليّ بن يحيى أخي و صديقي و قد أدّى الرسالة؛ فإن رأيت أن تجعل وزن الدّانق من بظر أمّي و بظر أمّه جمعا تفضّلت بذلك. فقلت: قبحك اللّه! و أنا أيش ذنبي! قال: قد أدّيت الرسالة و هذا جوابها. فدخلت إلى المتوكّل فقال: إيه ما قال لك؟ فقلت: قبح اللّه ما جئتك به! و أخبرته بالجواب؛ فضحك حتى فحص برجله و جعل يشرب عليه بقيّة يومه. و إذا لقيته قال لي: يا عليّ، وزن دانق أيش! فأقول: لعنة اللّه على إبراهيم.

ص: 278


1- كذا في جميع الأصول هنا. و قد جاء في صفحة 55 في جميع الأصول أيضا: «أحمد بن السخي». و ليس لدينا ما يرجع إحدى الروايتين.
داعب الحسن بن وهب و شعره في ذلك:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد قال:

دعا الحسن بن وهب إبراهيم بن العبّاس؛ فقال له: أركب و أجيئك عشيّا فلا تنتظرني بالغداة. /فأبطأ عليه، و أسرع الحسن في شربه فسكر و نام، و جاء إبراهيم فرآه على تلك الحال، فدعا بدواة و كتب:

رحنا إليك و قد راحت بك الرّاح *** و أسرعت فيك أوتار و أقداح

قال: و حدّثني محمد بن موسى قال:

نظر إبراهيم بن العباس الحسن بن وهب و هو مخمور فقال له:

عيناك قد حكتا مبي *** تك كيف كنت و كيف كانا

و لربّ عين قد أرت *** ك مبيت صاحبها عيانا

فأجابه الحسن بن وهب بعشرين بيتا و طالبه بمثلها؛ فكتب إليه بأربعة أبيات و طالبه بأربعين بيتا. و أبيات إبراهيم:

أ أبا عليّ خير قولك ما *** حصّلت أنجعه و مختصره

ما عندنا في البيع من غبن *** للمستقلّ بواحد عشرة

أنا أهل ذلك غير محتشم *** أرضى القديم و أقتفي أثره

ها نحن وفّيناك أربعة *** و الأربعون لديك منتظره

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني القاسم بن إسماعيل قال:

سمعت إبراهيم بن العبّاس و قد لبس سواده يوما يقول: يا غلام هات ذلك السيف الذي ما ضرّ اللّه به أحدا قطّ غيري.

كان يستثقل ابن أخيه و حكايات عنه في ذلك:

قال: و سأل يوما عن ابن أخيه طماس و هو أحمد بن عبد اللّه بن العبّاس فقيل له:

هو مشغول بطبيب و منجّم عنده، و كان يستثقله، فقال قل له يا غلام: و اللّه ما لك في الناس طبع؛ و لا في السماء نجم، فما لك تكلّف هذا التّكلّف.

/أخبرني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن السّخيّ قال:

أمر إبراهيم بن العبّاس أن يجمع كلّ أعور يمرّ في الطريق، فجمعوهم و وقفوهم و خرج و معه طماس، فلما رأى العور مجتمعين قال لطماس: كلّهم مثلك، فاترك هذا الصّلف فإنه داعية إلى التّلف.

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن موسى قال:

قال الحسن بن وهب لإبراهيم بن العبّاس: تعال حتى نعدّ البغضاء؛ قال: ابدأ بي أوّلا من أجل ابن أخي طماس ثم ثنّ بمن شئت.

ص: 279

أمر الحسن بن مخلد بأمر فأبطأ فيه فقال شعرا:

أخبرني الصّوليّ قال قال جعفر بن محمود:

ركبت بين يدي إبراهيم بن العبّاس. فأمر الحسن بن مخلّد(1) بأمر فاستبطأه فيه فنظر إليه فقال:

معجب عند نفسه *** و هو لي غير معجب

إن أقل لا يقل نعم *** عاتب غير معتب

مولع بالخلاف لي *** عامدا و التجنّب

قلت فيه بضدّ ما *** قيل في أمّ جندب

يريد قول امرئ القيس:

«خليليّ مرّا بي على أمّ جندب»

أي فأنا لا أريد أن أمرّ بك.

تنادر بابن الكلبي عند المتوكل لما جاء كتابه:

قال و أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا أحمد بن يزيد المهلّبيّ عن أبيه قال:

كان المتوكل قد ولّى ابن الكلبيّ البريد، و أحلفه بالطّلاق ألاّ يكتمه شيئا من أمر الناس جميعا و لا من أمره هو في نفسه. فكتب إليه يوما أن امرأته/خرجت مع حبّتها في نزهة، و أن حبّتها(2)/عربدت عليها فجرحتها في صدغها. فقرأه إبراهيم بن العبّاس على المتوكّل ثم قال له: يا أمير المؤمنين، قد صحّف ابن الكلبيّ، إنما هو: «جرحتها في سرمها»(3)، فضحك المتوكّل و قال: صدقت. ما أظن القصة إلاّ هكذا. قال: و لم يكن ابن الكلبيّ هذا من العرب، إنما كان أبوه يلقّب «كلب الرّحل» فقيل له الكلبيّ.

استعطافه محمد بن عبد الملك الزيات:

أخبرني عمّي قال حدّثنا ميمون بن هارون قال:

كتب إبراهيم بن العبّاس إلى محمد بن عبد الملك يستعطفه: كتبت إليك و قد بلغت المدية المحزّ(4)، و عدت الأيام بك عليّ، بعد عدوي بك عليها، و كان أسوأ ظنّي و أكثر خوفي، أن تسكن في وقت حركتها، و تكفّ عند أذاها، فصرت عليّ أضرّ منها، و كفّ الصديق عن نصرتي خوفا منك، و بادر إليّ العدوّ تقرّبا إليك.

و كتب تحت ذلك:

أخ بيني و بين الدّه *** ر صاحب أيّنا غلبا

ص: 280


1- هو الحسن بن مخلد بن الجراح. تولى «ديوان الضياع» للمتوكل بعد موت إبراهيم بن العباس هذا. (انظر الكلام عليه في «تاريخ الطبري»: ق 3 ص 1435 و 1444-1447 و 1647-1648).
2- الحبة: المحبوبة.
3- في الأصول: «صرمها» بالصاد. و هو تحريف.
4- كذا في «معجم الأدباء» لياقوت. و في الأصول: «المحزة».

صديقي

ما استقام فإن *** نبا دهر عليّ نبا

وثبت على الزمان به *** فعاد به و قد وثبا

و لو عاد الزمان لنا *** لعاد به أخا حدبا

قال و كتب إليه: أما و اللّه لو أمنت ودّك لقلت؛ و لكني أخاف منك عتبا لا تنصفني فيه، و أخشى من نفسي لائمة لا تحتملها لي. و ما قد قدّر فهو كائن، و عن كل حادثة أحدوثة. و ما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطا حالة أنا في مكروهها و ألمها أشدّ عليّ من أنّي فزعت إلى ناصري عند ظلم لحقني، فوجدت من يظلمني أخفّ نيّة في ظلمي منه، و أحمد اللّه كثيرا. ثم كتب في أسفلها:

/

و كنت أخي بإخاء الزمان *** فلما نبا صرت حربا عوانا

و كنت أذمّ إليك الزمان *** فأصبحت فيك أذمّ الزمانا

و كنت أعدّك للنائبات *** فأصبحت أطلب منك الأمانا

هجا محمد بن عبد الملك و كان قد أغرى به الواثق:

أخبرني الصّوليّ قال أخبرني الحسين بن فهم قال:

كان محمد بن عبد الملك قد أغرى الواثق بإبراهيم بن العبّاس، و كان إبراهيم يعاتبه على ذلك و يداريه، ثم وقف الواثق على تحامله عليه فرفع يده عنه و أمر أن يقبل منه ما رفعه، و ردّه إلى الحضرة مصونا، فلما أحسّ إبراهيم بذلك بسط لسانه في محمد، و حسن ما بينه و بين(1) ابن أبي دواد. و هجا محمد بن عبد الملك هجاء كثيرا؛ منه قوله:

قدرت فلم تضرر عدوّا بقدرة *** و سمت بها أخوانك الذّلّ و الرّغما

و كنت مليئا بالتي قد يعافها *** من الناس من يأبى الدّنيئة و الذّما

تمادح هو و أبو تمام:

أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا ابن السّخيّ قال حدثني الحسين بن عبد اللّه قال:

سمعت إبراهيم بن العبّاس حدّثنا يقول لأبي تمّام الطائي و قد أنشده شعرا له في المعتصم: يا أبا تمّام، أمراء الكلام رعيّة لإحسانك. فقال له أبو تمّام: ذلك لأني أستضيء بك و أرد شريعتك.

اعتذر له إبراهيم بن المدبر عن أخيه فقال شعرا:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال سمعت إبراهيم بن المدبّر يقول:

جرى بين إبراهيم/بن العبّاس و بين أخي أحمد بن المدبّر شيء، و كان يودّني دون أخي؛ فلقيته فاعتذرت إليه عنه؛ فقال لي: يا أبا إسحاق:

ص: 281


1- يعني بهذا أن محمد بن عبد الملك كان يعادي أحمد بن أبي دواد يهجوه. (انظر خبر ذلك مفصلا في ج 20 ص 51 من «الأغاني» طبع بلاق).
صوت

خلّ النّفاق لأهله *** و عليك فالتمس الطّريقا

و اذهب بنفسك أن ترى *** إلاّ عدوّا أو صديقا

الغناء لأبي العبيس.

احتال على المتوكل لينجي بعض عماله من العقوبة:
اشارة

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني القاسم بن إسماعيل قال:

انصرف إبراهيم بن العبّاس يوما من دار المتوكّل فقال لنا: أنا و اللّه مسرور بشيء مغموم منه. فقلنا له: و ما ذاك أعزّك اللّه؟ قال: كان أحمد بن المدبّر رفع إلى أمير المؤمنين أن بعض عمّالي اقتطع مالا، و صدق في الذي قاله، و كنت قد رأيت هلال الشهر و نحن مع أمير المؤمنين على وجهه فدعوت له، و ضحك إليّ فقال لي: إن أحمد قد رفع على عاملك كذا و كذا فاصدقني عنه؛ فضاقت عليّ الحجّة، و خفت أن أحقّق قوله إن اعترفت، ثم لا أرجع منه إلى شيء فيعود عليّ الغرم، فعدلت عن الحجّة إلى الحيلة فقلت: أنا في هذا يا أمير المؤمنين كما قلت فيك:

صوت

ردّ قولي و صدّق الأقوالا *** و أطاع الوشاة و العذّالا

أ تراه يكون شهر صدود *** و على وجهه رأيت الهلالا

قال: لا يكون و اللّه ذلك بحياتي يا إبراهيم! روّ هذا الشعر بنانا حتى يغنّيني فيه. فقلت: نعم يا سيّدي على ألاّ يطالب صاحبي بقول أحمد. فقال للوزير: تقبّل قول صاحبه في المال. فسررت بالظّفر، و اغتممت لبطلان هذا المال و ذهابه بمثل هذه الحيلة، و لعله قد جمع في زمن طويل و تعب شديد.

سرق ابن دريد و ابن الرومي شعره:

أنشدت عمّي رحمه اللّه أبياتا لابن دريد يمدح رجلا من أهل البصرة:

يا من يقبّل كفّ كلّ مخرّق *** هذا ابن يحيى ليس بالمخراق

قبّل أنامله فلسن أناملا *** لكنّهنّ مفاتح الأرزاق

فقال: يا بنيّ هذا سرقه هو و ابن الرّوميّ جميعا من إبراهيم بن العبّاس؛ قال إبراهيم بن العبّاس يمدح الفضل بن سهل:

لفضل بن سهل يد *** تقاصر عنها الأمل

فباطنها للنّدى *** و ظاهرها للقبل

و بسطتها للغنى *** و سطوتها للأجل

و سرقه ابن الرّوميّ فقال:

ص: 282

أصبحت بين خصاصة و مذلّة *** و الحرّ بينهما يموت هزيلا

فامدد إليّ يدا تعوّد بطنها *** بذل النّدى و ظهورها التّقبيلا

قال ثعلب إنه كان أشعر المحدثين:

أخبرني الصّوليّ قال سمعت أحمد بن يحيى ثعلبا يقول:

كان إبراهيم بن العبّاس أشعر/المحدثين. قال: و ما روى ثعلب شعر كاتب قطّ قال: و كان يستحسن كثيرا قوله:

لنا إبل كوم(1) يضيق بها الفضا *** و يفترّ عنها أرضها و سماؤها

فمن دونها أن تستباح دماؤنا *** و من دوننا أن تستباح دماؤها

حمى و قرى فالموت دون مرامها *** و أيسر خطب يوم حقّ فناؤها

ثم قال: و اللّه لو كان هذا لبعض الأوائل لاستجيد له.

مدح الحسن بن سهل:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال سمعت الحسن بن رجاء يقول:

كنّا بفم(2) الصّلح أيام بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل؛ فقدم إبراهيم بن العبّاس علينا و دخل إلى الحسن بن سهل فأنشده:

ليهنئك أصهار أذلّت بعزّها *** خدودا و جدّعت الأنوف الرّواغما

جمعت بها الشملين من آل هاشم *** و حزت بها للأكرمين الأكارما

بنوك غدوا آل النبيّ و وارثو ال *** خلافة و الحاوون كسرى و هاشما

فقال له الحسن: «شنشنة أعرفها(3) من أخرم» أي إنّك لم تزل تمدحنا، ثم قال له: أحسن اللّه عنّا جزاءك يا أبا إسحاق؛ فما الكثير من فعلنا بك بجزاء لليسير من حقّك.

قال شعرا في قينة اسمها «سامر» كان يهواها فغضبت عليه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:

أنشدني إبراهيم بن العبّاس لنفسه في قينة اسمها سامر كان يهواها فغضبت عليه:

و علّمتني كيف الهوى و جهلته *** و علّمكم صبري على ظلمكم ظلمي

و أعلم ما لي عندكم فيردّني *** هواي إلى جهل فأقصر عن علمي

ص: 283


1- الكوم: الإبل الضخمة العظيمة السنام، الواحد أكوم و الأنثى كوماء.
2- فم الصلح: نهر كبير فوق واسط عليه عدة قرى و فيه كانت دار الحسن بن سهل. («معجم البلدان» لياقوت).
3- هذا مثل، قاله أبو أخزم الطائي و كان له ابن يقال له أخزم؛ قيل: كان عاقا فمات و ترك بنين، فوثبوا يوما على جدهم فأدموه، فقال: إن بني ضرّجوني بالدم شنشنة أعرفها من أخزم من يلق آساد الرجال يكلم
شعره في قصر الليل:

أخبرني الصّوليّ قال:

سمعت عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر يقول: لا يعلم لقديم و لا لمحدث في قصر اللّيل أحسن من قول إبراهيم بن العبّاس:

/

و ليلة من اللّيالي الزّهر *** قابلت فيها بدرها ببدر

لم تك غير شفق و فجر(1)*** حتى تولّت و هي بكر الدّهر

تنكر له ابن الزيات لصلته بابن أبي دواد فاعتذر له بشعر:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثني أحمد بن بشر المرثديّ قال: كان إبراهيم بن العبّاس يوما عند أحمد بن أبي دواد، فلمّا خرج من عنده لقيه محمد بن عبد الملك الزيّات و هو خارج من داره؛ فتبيّن إبراهيم في وجه محمد الغضب فلم يخاطبه في العاجل بشيء. فلما انصرف إلى منزله كتب إليه.

دعني أواصل من قطع *** ت يراك بي إذ لا يراكا

إنّي متى أهجر لهج *** رك لا أضرّ به سواكا

و إذا قطعتك في أخي *** ك قطعت فيك غدا أخاكا

حتى أرى متقسّما *** يومي لذا و غدي لذاكا

مسح المداد بكم ثوبه و شعره في ذلك:

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني أبو العيناء قال:

كنت عند إبراهيم بن العبّاس و هو يكتب كتابا، فنقّط من القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمّه؛ فتعجّبت من ذلك؛ فقال: لا تعجب، المال/فرع و القلم أصل، و من هذا السّواد جاءت هذه الثياب، و الأصل أحوج إلى المراعاة من الفرع. ثم فكّر قليلا و قال:

إذا ما الفكر ولّد حسن لفظ *** و أسلمه الوجود إلى العيان

و وشّاه فنمنمه مسدّ(2) *** فصيح في المقال بلا لسان

ترى حلل البيان منشّرات *** تجلّى بينها صور المعاني

اتهمه المأمون بإفشاء سر مقتل الفضل بن سهل ثم عفا عنه بشفاعة هشام الخطيب:

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن صالح بن النطّاح قال:

ص: 284


1- في ب و س: «و بدر».
2- مسد: مصيب السداد.

لمّا عزم(1) المأمون على الفتك بالفضل بن سهل، و ندب له عبد العزيز بن عمران الطائيّ، و مؤنسا البصريّ، و خلفا المصريّ، و عليّ بن أبي سعد ذا القلمين، و سراجا الخادم، نمي الخبر إلى الفضل، فأظهره للمأمون و عاتبه عليه. فلمّا قتل الفضل و قتل المأمون قتلته، سأل من أين سقط الخبر إلى الفضل؟ فعرّف أنه من جهة إبراهيم بن العبّاس، فطلبه فاستتر. و كان إبراهيم عرف هذا الخبر من جهة عبد العزيز بن عمران، و كان الفضل استكتب إبراهيم لعبد العزيز بن عمران، فأخبر به الفضل. قال: و تحمّل إبراهيم بالناس على المأمون، و جرّد في أمره هشاما الخطيب المعروف بالعبّاسيّ و كان جريئا على المأمون لأنه ربّاه، و شخص إليه إلى خراسان في فتنة إبراهيم بن المهديّ، فلم يجبه المأمون إلى ما سأل. فلقيه إبراهيم مستترا و سأله عمّا عمل في حاجته.

فقال له هشام: قد وعدني في أمرك بما تحبّ. فقال له إبراهيم: أظنّ أن الأمر على غير هذا! قال: و ما تظنّ؟ قال: محلّك عند أمير المؤمنين أجلّ من أن يعدك شيئا فترضى بتأخيره، و هو أكرم من أن يعد مثلك شيئا فيؤخّره، و لكنك سمعت ما لا تحبّ فيّ فكرهت أن تغمّني به فقلت لي هذا القول، و أحسن اللّه على كل الأحوال جزاءك، فمضى هشام إلى المأمون فعرّفه خبر إبراهيم، فعجب من فطنته و عفا عنه. قال: و في هشام يقول إبراهيم بن العبّاس:

من كانت الأموال ذخرا له *** فإنّ ذخري أملي في هشام

فتى يقي اللاّمة عن عرضه *** و أنهب المال قضاء الذّمام

مدح الفضل بن سهل:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني أبو الحسين بن أبي البغل قال:

دخل إبراهيم بن العبّاس على الفضل بن سهل فاستأذنه في الإنشاد، فقال هات، فأنشده:

يمضي الأمور على بديهته *** و تريه فكرته عواقبها

فيظلّ يصدرها و يوردها *** فيعمّ حاضرها و غائبها

و إذا ألمّت صعبة عظمت *** فيها الرزيّة كان صاحبها

المستقلّ بها و قد رسبت *** و لوت على الأيام جانبها

و عدلتها بالحقّ فاعتدلت *** و وسعت راغبها و راهبها

و إذا الحروب غلت بعثت لها *** رأيا تفلّ به كتائبها

رأيا إذا نبت السيوف مضى *** عزم بها فشفى مضاربها

أجرى إلى فئة بدولتها *** و أقام في أخرى نوادبها

/و إذا الخطوب تأثّلت و رست *** هدّت فواصله نوائبها

و إذا جرت بضميره يده *** أبدت به الدّنيا مناقبها

و أنشدني عمّي لإبراهيم بن العبّاس في الفضل بن سهل و فيه غناء:

ص: 285


1- راجع الطبري في هذه القصة (ق 3 ص 1025-1028) ففيها اختلاف عما هنا.
صوت

فلو كان للشكر شخص يبين *** إذا ما تأمّله النّاظر

لمثّلته لك حتى تراه *** فتعلم أنّي امرؤ شاكر

الغناء لأبي العبيس ثقيل أوّل. و فيه لرذاذ ثاني ثقيل. حدّثني أبو يعقوب إسحاق بن يعقوب النّوبختيّ قال حدّثني جماعة من عمومتي و أهلنا أن رذاذا صنع في هذين البيتين لحنا أعجب به الناس و استحسنوه، فلما كثر ذلك صنع فيه أبو العبيس لحنا آخر، فسقط لحن رذاذ و اختار الناس لحن أبي العبيس.

مدح المتوكل و ولاة العهود فأجازوه:

أخبرني حنظلة قال حدّثني ميمون بن هارون قال:

لمّا عقد المتوكّل لولاة العهود من ولده ركب بسرّمن رأى ركبة لم ير أحسن منها، و ركب ولاة العهود بين يديه، و الأتراك بين أيديهم أولادهم يمشون بين يدي المتوكّل بمناطق الذهب، في أيديهم الطّبرزينات(1) المحلاّة بالذّهب، ثم نزل في الماء فجلس فيه و الجيش معه في الجوانحيّات(2) و سائر السفن، و جاء حتى نزل في القصر الذي يقال له العروس، و أذن للناس فدخلوا إليه. فلما تكاملوا بين يديه، مثل إبراهيم بن العبّاس بين الصفّين، فاستأذن في الإنشاد فأذن له، فقال:

و لمّا بدا جعفر في الخمي *** س بين المطلّ (3) و بين العروس

بدا لا بسا بهما حلّة *** أزيلت بها طالعات النّحوس

و لمّا بدا بين أحبابه *** ولاة العهود و عزّ النفوس

غدا قمرا بين أقماره *** و شمسا مكلّلة بالشموس

لإيقاد نار و إطفائها *** و يوم أنيق و يوم عبوس

ثم أقبل على ولاة العهود فقال:

أضحت عرى الإسلام و هي منوطة *** بالنّصر و الإعزاز و التأييد

بخليفة من هاشم و ثلاثة *** كنفوا الخلافة من ولاة عهود

قمر توافت حوله أقماره *** فحففن مطلع سعده بسعود

رفعتهم الأيام و ارتفعوا به *** فسعوا بأكرم أنفس و جدود

قال: فأمر له المتوكّل بمائة ألف درهم، و أمر له ولاة العهود بمثلها.

ص: 286


1- الطبرزين: آلة من السلاح تشبه الطبر (الفأس) أو هو الطبر بعينه. و هذا أصح لأن أصل معناه الطبر المعلق في السرج. فالفرس كان من عادتهم أن يعلقوا الطبر في السروج. (كتاب «الألفاظ الفارسية المعربة»).
2- الجوانحيات: نوع من السفن كما هو ظاهر من السياق.
3- المطل: اسم مكان أو قصر، كما هو ظاهر من السياق. و لم نقف عليه فيما بين أيدينا من معجمات البلدان.
فضل ابن برد الخيار شعره على شعر محمد بن عبد الملك الزيات:

أخبرني عمّي قال: اجتمعت أنا و هارون بن محمد بن عبد الملك و ابن برد الخيار في مجلس عبيد اللّه بن سليمان قبل وزارته، فجعل هارون ينشد من أشعار أبيه محاسنها، و يفضلها و يقدّمها. فقال له ابن برد الخيار: إن كان لأبيك مثل قول إبراهيم بن العبّاس:

أسد ضار إذا هيّجته *** و أب برّ إذا ما قدرا

/يعرف الأبعد إن أثرى و لا *** يعرف الأدنى إذا افتقرا

أو مثل قوله:

تلج السنون بيوتهم و ترى لهم *** عن جار بيتهم ازورار مناكب

و تراهم بسيوفهم و شفارهم *** مستشرفين لراغب أو راهب

حامين أو قارين حيث لقيتهم *** نهب العفاة و نهزة للرّاغب

فاذكره و افخر به، و إلاّ فأقلل من الافتخار و التّطاول بما لا طائل فيه؛ فحجل هارون. و قال عبيد اللّه بن سليمان: لعمري ما في الكتّاب أشعر من أبي إسحاق و أبي عليّ، (يعني عمّه الحسن بن وهب) ثم أمر بعض كتّابه بكتب المقطوعتين اللتين أنشدهما ابن برد الخيار.

هنأ الحسن بن سهل بصهر المأمون:

أنشدني عليّ بن سليمان الأخفش لإبراهيم بن العبّاس يهنّئ الحسن بن سهل بصهر المأمون:

هنتك أكرومة جلّلت نعمتها *** أعلت وليّك و اجتثّت أعاديكا

ما كان يحيا(1) بها إلا الإمام و ما *** كانت إذا قرنت بالحقّ تعدوكا

هجا محمد بن عبد الملك الزيات:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثني أبو محمد الحسن بن مخلد قال:

/أودع محمد بن عبد الملك الزيّات مالا عظيما و جوهرا نفيسا، و قد رأى تغيّرا من الواثق فخافه و فرّق ذلك في ثقاته من أهل الكرخ و معامليه من التّجار. و كان إبراهيم بن العبّاس يعاديه و يرصد له بالمكاره لإساءته إليه، فقال أبياتا و أشاعها حتى بلغت الواثق يغريه به:

نصيحة شانها وزير *** مستحفظ سارق مغير

ودائع جمّة عظام *** قد أسبلت دونها السّتور

تسعة آلاف ألف ألف *** خلالها جوهر خطير

بجانب الكرخ عند قوم *** أنت بما عندهم خبير

و الملك اليوم في أمور *** تحدث من بعدها أمور

ص: 287


1- كذا في جميع الأصول و لعلها «يحبو».

قد شغلته محقّرات *** و صاحب الكارة(1) الوزير

مدح المعتز بشعر:
اشارة

أنشدني عليّ بن سليمان الأخفش لإبراهيم بن العبّاس يمدح المعتزّ و فيه غناء:

صوت

سحور محاجر الحدقه *** مليح و الذي خلقه

سواء في رعايته *** مجانبه و من عشقه

لعيني في محاسنه *** رياض محاسن أنقه

فأحيانا أنزّهها *** و طورا في دم غرقه

يقول فيها في مدح المعتزّ باللّه:

فيا قمرا أضاء لنا *** يلألئ نوره أفقه

يشبّهه سنا المعتزّ *** ذو مقة إذا رمقه

أمير قلّد الرحم *** ن أمر عباده عنقه

/و فضّله و طيّبه *** و طهر في الورى خلقه

في الأربعة الأبيات الأول رمل ذكر الهشاميّ أنه لابن القصّار، و وجدته في بعض الكتب لعريب.

هنأه أحمد بن المدبر و كان يحرّض عليه فقال شعرا:

أنشدني الأخفش لإبراهيم بن العبّاس يقولها لأحمد بن المدبّر و قد جاءه بعد خلاصة من النكبة مهنّئا، و كان استعان به في أمر نكبته فقعد عنه، و بلغه أنه كان يحرّض عليه ابن الزيّات:

و كنت أخي بالدّهر حتى إذا نبا *** نبوت فلمّا عاد عدت مع الدّهر

فلا يوم إقبال عددتك طائلا *** و لا يوم إدبار عددتك في وتر

و ما كنت إلاّ مثل أحلام نائم *** كلا حالتيك من وفاء و من غدر

عاتبه ابن المدبر فقال شعرا:

و أنشدني الصّوليّ له في أحمد بن المدبر أيضا و قد عاتبه أحمد بن المدبّر على شيء بلغه فقال:

هب الزّمان رماني *** الشأن في الخلاّن

فيمن رماني لمّا *** رأى الزمان رماني

و من ذخرت لنفسي *** فصار ذخر الزمان

لو قيل لي خذ أمانا *** من أعظم الحدثان

ص: 288


1- الكارة: ما يجمع و يشد، و يعني بها السرة التي فيها المال.

لما أخذت أمانا *** إلاّ من الإخوان

و من أخبار المعتضد باللّه الجارية مجرى هذا الكتاب.
المعتضد و غلامه بدر:
اشارة

حدّثني عمّي عن جدّي رحمهما اللّه قال قال لي عبيد اللّه بن سليمان، و كان يأنس بي أنسا شديدا لقديم الصّحبة و ائتلاف المنشأ: دعاني المعتضد يوما فقال:

/أ لا تعاتب بدرا(1) على ما لا يزال يستعمله من التخرّق في النّفقات و الإثابات و الزيادات و الصّلات! و جعل يؤكّد القول عليّ في ذلك؛ فلم أخرج عن حضرته حتى دخل إليه بدر فجعل يستأمره في إطلاقات مسرفة و نفقات واسعة و صلات سنيّة و هو يأذن له في ذلك كلّه. فلما خرج رأى في وجهي إنكارا لما فعله بعد ما جرى بيني و بينه؛ فقال لي: يا عبيد اللّه قد عرفت ما في نفسك، و أنا و إيّاه كما قال الشاعر:

صوت

في وجهه شافع يمحو إساءته *** من القلوب مطاع حيثما شفعا

مستقبل الذي يهوى و إن كثرت *** منه الإساءة مغفور لما صنعا

و في هذين البيتين خفيف رمل.

كان المعتضد يطرب لغناء ابن العلاء في شعر الوليد بن يزيد:

حدّثني محمد بن إبراهيم قريض قال حدّثني أحمد بن العلاء قال:

غنّيت المعتضد:

كلّلاني توّجاني *** و بشعري غنّياني(2)

أطلقاني من وثاقي *** و اشدداني بعناني

فاستحسنه جدّا، ثم قال لي: ويحك يا أحمد! أما ترى زهو الملك في شعره و قوله:

كلّلاني توّجاني *** و بشعري غنّياني

و استعاده مرارا، ثم وصلني كلّ مرّة استعاده بعشرة آلاف درهم، و ما وصل بها مغنّيا قبلي/و لا بعدي.

قال: و استعاده منّي ستّ مرّات و وهب لي ستّين ألفا، و قال النّوشجانيّ: بل وصله بعشرة آلاف درهم مرّة واحدة.

ص: 289


1- كان بدر هذا غلام المعتضد، ولاه الشرطة يوم ولي الخلافة، ثم ولاه بعد ذلك فارس. (انظر «تاريخ ابن الأثير» ص 317، 328، 332، 335 ج 7). قتله المكتفي سنة 289 لأنه أبى أن يبايعه. (انظر سبب مقتله بإسهاب في «تاريخ الطبري» ق 3 ص 2209 - 2216).
2- هذا من شعر الوليد بن يزيد (انظر ج 7 ص 93 من هذه الطبعة).
صنعة أولاد الخلفاء الذّكور منهم و الإناث
اشارة

فأوّلهم و أتقنهم صنعة و أشهرهم ذكرا في الغناء إبراهيم بن المهديّ؛ فإنه كان يتحقّق(1) به تحقّقا شديدا و يبتذل نفسه و لا يستتر منه و لا يحاشي أحدا. و كان في أوّل أمره لا يفعل ذلك إلاّ من وراء ستر و على حال تصوّن عنه و ترفّع، إلا أن يدعوه إليه الرّشيد في خلوة و الأمين بعده. فلمّا أمّنه المأمون تهتّك بالغناء و شرب النّبيذ بحضرته و الخروج من عنده ثملا و مع المغنّين، خوفا منه و إظهارا له أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه و هتك ستره فيها حتى صار لا يصلح لها. و كان من أعلم الناس بالنّغم و الوتر و الإيقاعات و أطبعهم في الغناء و أحسنهم صوتا. و هو من المعدودين في طيب الصّوت خاصّة؛ فإنّ المعدودين منهم في الدولة العبّاسية: ابن جامع و عمرو بن أبي الكنّات و إبراهيم ابن المهديّ و مخارق. و هؤلاء من الطبقة الأولى، و إن كان بعضهم يتقدّم. و كان إبراهيم مع علمه و طبعه مقصّرا عن أداء الغناء القديم و عن أن ينحوه في صنعته، فكان يحذف نغم الأغاني الكثيرة العمل حذفا شديدا و يخفّفها على قدر ما يصلح(2) له و يفي بأدائه. فإذا عيب ذلك عليه قال: أنا ملك و ابن ملك، أغنّي كما أشتهي و على ما ألتذّ. فهو أوّل من أفسد الغناء القديم، و جعل للناس طريقا إلى الجسارة على تغييره. فالناس إلى الآن صنفان: من كان منهم على مذهب إسحاق و أصحابه ممّن كان ينكر تغيير الغناء القديم و يعظم الإقدام عليه و يعيب من فعله، فهو يغنّي الغناء القديم على جهته أو قريبا منها. و من أخذ بمذهب إبراهيم بن المهديّ أو اقتدى به مثل مخارق و شارية و ريّق و من أخذ عن هؤلاء إنما يغنّي الغناء القديم كما/يشتهي هؤلاء لا كما غنّاه من ينسب إليه، و يجد على ذلك مساعدين ممّن يشتهي أن يقرب عليه مأخذ الغناء و يكره ما ثقل و ثقلت أدواره، و يستطيل الزمان في أخذ الغناء الجيّد على جهته بقصر معرفته. و هذا إذا اطّرد فإنّما الصنعة لمن غنّى في هذا الوقت لا للمتقدّمين؛ لأنهم إذا غيّروا ما أخذوه كما يرون و قد غيّره من أخذوه عنه و أخذ ذلك أيضا عمّن غيّره، حتى يمضي على هذا خمس طبقات أو نحوها. لم(3) يتأدّ إلى الناس في عصرنا هذا من جهة الطبقة غناء قديم على الحقيقة البتّة. و ممن أفسد هذا الجنس خاصّة بنو حمدون بن إسماعيل فإن أصلهم فيه مخارق، و ما نفع اللّه أحدا قطّ بما أخذ عنه، و زرياب الواثقيّة فإنها كانت بهذه الصورة تغيّر الغناء كما تريد، و جواري شارية و ريّق. فهذه الطبقة على ما ذكرت. و من عداهم من الدّور بمثل(4) دور غريب و دور جواريها و القاسم بن زرزور و ولده و دور بذل الكبرى و من أخذ عنها، و جواري البرامكة و آل هاشم و آل يحيى بن معاذ و دور آل الرّبيع و من جرى مجراهم ممّن(5) تمسّك بالغناء القديم و حمله كما سمعه، فعسى أن يكون قد بقي ممّن أخذ بذلك المذهب قليل من كثير، و على(6) أن/الجميع من

ص: 290


1- كذا في الأصول. و لعلها «يتحفى به تحفيا... إلخ».
2- في الأصول: «ما أصلح له» و هو تحريف.
3- في الأصول: «فلم».
4- لعله: «مثل».
5- لعله: «فقد».
6- لعله: «على».

الصحيح و المغيّر قد انقضى في عصرنا هذا.

فمن مشهور غناء إبراهيم بن المهديّ:

صوت

هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفّكم أو تسترون هلالها

أو تدفعون مقالة من ربّكم *** جبريل بلّغها النبيّ فقالها

طرقتك زائرة فحيّ خيالها *** زهراء تخلط بالدّلال جمالها

الشعر لمروان بن أبي حفصة. و الغناء لإبراهيم بن المهديّ، ثقيل أوّل بالبنصر، و ذكر حبش أن فيه لآبن جامع لحنا ماخوريّا.

ص: 291

4 - أخبار مروان بن أبي حفصة و نسبه

نسبه و شيء من أخبار آبائه:

هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة. و يكنى أبا السّمط. و اسم أبي حفصة يزيد. و ذكر النّوفليّ عن أبيه أنه كان يهوديّا، فأسلم على يدي مروان بن الحكم. و أهله ينكرون ذلك و يذكرون أنه من سبي إصطخر(1)، و أنّ عثمان اشتراه فوهبه لمروان بن الحكم. و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا محمد بن إدريس بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة بمثل ذلك. قال: و شهد أبو حفصة الدّار(2) مع مولاه مروان بن الحكم، و قاتل قتالا شديدا و قتل رجلا من أسلم يقال له بنان. و جرح مروان يومئذ، أصابته ضربة قطعت علباءه(3) فسقط، فوثب عليه أبو حفصة و احتمله، فجعل يحمله مرّة على عنقه و مرّة يجرّه، فيتأوّه؛ فيقول له:

اسكت و اصبر؛ فإنه إن علموا أنك حيّ قتلت. فلم يزل به حتى أدخله دار امرأة من عنزة فداواه فيها حتى برئ؛ فأعتقه مروان و نزل له عن أمّ ولد له يقال لها سكّر كانت له منها بنت يقال لها حفصة؛ فحضنها، فكني أبا حفصة؛ فحفصة بنت مروان. قال: و كان مروان إذا ولي المدينة وجّه أبا حفصة إلى اليمامة - و كانت مضافة إلى المدينة - ليجمع ما فيها من المال و يحمله إليه. قال: فمرّ أبو حفصة بقرية من قرى اليمامة يقال لها العرض، فوقف على باب فاستسقى ماء، فخرجت إليه جارية معصر(4) فسقته فأعجبته؛ فسأل عنها ليشتريها؛ فقيل له:

هي حرّة، و هي مولاة لبني عامر بن حنيفة. فمضى حتى قدم حجرا(5)، ثم تبعتها نفسه/فتزوّجها، فلم يخرج من اليمامة حتى حملت بيحيى بن أبي حفصة، ثم حملت بمحمد ثم بعبد اللّه ثم بعبد العزيز. فلما وقعت فتنة ابن الزّبير خرج أبو حفصة مع مروان إلى الشام.

قال محمد بن إدريس و حدّثني أبي قال كان مروان بن أبي الجنوب يقول: أمّ يحيى بن أبي حفصة لحناء(6)بنت ميمون من ولد النابغة الجعديّ، و إنّ الشعر أتى آل أبي حفصة بذلك السبب. قال: و شهد أبو حفصة مع مروان يوم الجمل و قاتل قتالا شديدا. فلما ظفر عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، لجأ مروان إلى مالك بن مسمع فدخل داره و معه أبو حفصة، فقال لمالك: أغلق بابك. فقال له مالك: إن لم أمنعك و الباب مفتوح لم أمنعك و الباب مغلق. فطلب عليّ رضي اللّه عنه مروان منه، فلم يدفعه إليه إلا برهينة، فدفع مالك الرهنية إلى أبي /حفصة، و مضى مروان إلى عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، و قال لأبي حفصة: إن حدث حدث بصاحبك

ص: 292


1- إصطخر: بلدة بفارس، و هي من أعيان حصونها و مدنها.
2- يريد دار عثمان بن عفان رضي اللّه تعالى عنه، و ذلك أنه يوم هاجت الفتنة عليه لزم داره فحصروه فيها حتى قتلوه و سمي ذلك بيوم الدار.
3- العلباء: عصبة صفراء في صفحة العنق.
4- أعصرت المرأة: بلغت عصر شبابها و أدركت.
5- حجر: حاضرة اليمامة.
6- في ابن خلكان (ج 2 ص 133): «حيا بنت ميمون».

فعليك بالرّهينة. فلما أتى مروان عليّا كساه كسوة، فكساها مروان أبا حفصة، فغدا فيها أبو حفصة. و بلغ عليّا رضي اللّه عنه ذلك فغضب و قال: كسوته كسوة فكساها عبدا!. و شهد أبو حفصة مع مروان مرج(1) راهط، و كان له بلاء. و كان أبو حفصة شاعرا.

قال أبو أحمد قال لي محمد بن إدريس أخبرني أبي أنّ أبا السّمط مروان بن أبي الجنوب أنشده لأبي حفصة يوم الدّار:

و ما قلت يوم الدّار للقوم صالحوا *** أجل لا، و لا اخترت الحياة على القتل

و لكنّني قد قلت للقوم جالدوا *** بأسيافكم لا يخلصنّ إلى الكهل

/قال: و أنشدني لأبي حفصة أيضا:

لست على الزّحام بالأصر(2) *** إني لورّاد حياض الشرّ

معاود للكرّ بعد الكرّ

قال يحيى و أخبرني محمد بن إدريس قال:

عكل تدّعي أنّ أبا حفصة منهم، يقولون: هو من كنانة بن عوف بن عبد مناة بن طابخة بن إلياس بن مضر، و قد كانوا استعدوا عليه مروان بن الحكم، و قالوا: إنما باعته عمّته لمجاعة؛ فأبى هو أن يقرّ لهم بذلك. ثم استعدوا عليه عبد الملك بن مروان أيضا؛ فأبى إلاّ أنه رجل من العجم من سبي فارس، نشأ في عكل و هو صغير.

قال محمد بن إدريس: و ولد السّموءل بن عادياء يدّعونه، و السموأل من غسّان. قال محمد: و زعم أهل اليمامة و عكل و غيرهم أنّ ثلاثة نفر أتوا مروان بن الحكم و هم أبو حفصة و رجل من تميم و رجل من سليم، فباعوا أنفسهم منه في مجاعة نالتهم؛ فاستعدى أهل بيوتاتهم عليهم، فأقرّ أحدهم و هو السّلميّ أنه إنما أتى مروان فباعه نفسه و أنه من العرب؛ فدسّ إليه مروان من قتله. فلمّا رأى ذلك الآخران ثبتا على أنهما موليان لمروان. فأخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: زعم المدائنيّ أنه كان لأبي حفصة ابن يقال له مروان سمّاه مروان بن الحكم باسمه، و ليس بالشّاعر، و أنه كان شجاعا مجرّبا، و أمدّ به عبد الملك بن مروان الحجّاج و قال له: قد بعثنا إليك مولاي ابن أبي حفصة و هو يعدل ألف رجل. فشهد معه محاربة ابن الأشعث، فأبلى بلاء حسنا و عقرت تحته عدّة خيول، فاحتسب بها الحجّاج عليه من عطائه. فشكاه إلى عبد الملك و ذمّ الحجّاج عنده؛ فعوّضه مكان ما أغرمه الحجّاج. و كان يحيى جدّ مروان بن سليمان جوادا ممدّحا.

جرير يودع ابنه يحيى بن أبي حفصة:

أخبرنا محمد العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

أراد جرير أن يوجّه ابنه بلال بن جرير إلى الشام في بعض أمره، فأتى يحيى بن أبي حفصة فأودعه إيّاه، ثم بلغ بلالا أنّ بعض بني أميّة يريد الخروج، فقال لأبيه: لو كلّفت هذا القرشيّ أمري! فقال له جرير:

ص: 293


1- مرج راهط: في غوطة دمشق من ناحية الشرق، و فيه كانت الواقعة بين مروان بن الحكم و الضحاك بن قيس داعية ابن الزبير، فقتل مروان فيها الضحاك و خلصت له الخلافة.
2- من الصرير يقال: صر الرجل إذا صاح صياحا شديدا.

أ زادا سوى يحيى تريد و صاحبا *** ألا إنّ يحيى نعم زاد المسافر

/و ما تأمن الوجناء(1) وقعة سيفه *** إذا أنفضوا(1) أو قلّ ما في الغرائر

يحيى بن أبي حفصة يتزوّج بنت زياد بن هوذة:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال:

تزوّج يحيى بن أبي حفصة بنت زياد بن هوذة بن شمّاس بن لأي بن أنف الناقة؛ فاستعدى عليه عمّاها عبد الملك بن مروان و قالا: أ ينكح إبراهيم بن عديّ و هو من كنانة منك و إليك بنتها، و ينكح هذا العبد هذه!.

فقال عبد الملك: بل العبد ابن العبد و اللّه إبراهيم بن عديّ - و كان مغمور النسب في الإسلام - و اللّه لهذا أشرف منه، و إن لأبيه من البلاء في الإسلام ما ليس لأبيها و لا لأبيكما، و ما أحبّ أنّ لي بيحيى ألفا منكما. و اللّه لو تزوّج بنت قيس بن عاصم ما نزعتها منه. و من زوّجه فقد زوّج ابني هذا، و أشار إلى ابنه سليمان. فخرجا و تخلّف يحيى بعدهما، فقال: يا أمير المؤمنين، إنهما قد أنضيا ركابهما و أخلقا ثيابهما و التزما مئونة في سفرهما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعوّضهما عوضا! فقال: أبعد ما قالا فيك!! قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: بل أعطيك أنت ما سألت لهما و تعطيهما ما شئت. فكساه و وصله و حمله. فخرج يحيى إليهما ففرّق ذلك عليهما، و زوّج ابنه سليمان بنت أحدهما، و ولدت بنت زياد منه أولادا.

يهنئ الوليد بن عبد الملك و يعزيه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا الفضل اليزيديّ قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال حدّثني مروان بن أبي حفصة قال:

دخل يحيى بن أبي حفصة على الوليد بن عبد الملك لمّا بويع له بالخلافة بعد أبيه، فهنّأه و عزّاه و أنشده:

إنّ المنايا لا تغادر واحدا *** يمشي ببزّته و لا ذا جنّه

لو كان خلق للمنايا مفلتا *** كان الخليفة مفلتا منهنّه

بكت المنابر يوم مات و إنما *** بكت المنابر فقد فارسهنّه

لمّا علاهنّ الوليد خليفة *** قلن ابنه و نظيره فسكنّه

لو غيره قرع المنابر بعده *** لنكرنه فطرحنه عنهنّه

زوج بنيه من بنات مقاتل المنقري فهجاه القلاح فرد عليه:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا العنزيّ قال:

خطب يحيى بن أبي حفصة إلى مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقريّ ابنته و أختيه، فأنعم(2) له بذلك. فبعث يحيى إلى بنيه سليمان و عمر و جميل، فأتوه بالجفر(3) فزوّجهن بنيه ثلاثتهم، و دخلوا بهنّ ثم حملوهن إلى حجر. فقال القلاح بن حزن المنقريّ في ذلك:

ص: 294


1- الوجناء: الناقة الشديدة. و أنفض القوم: أرملوا، و قيل هلكت أموالهم و فني زادهم.
2- أنعم له: أفضل و قال نعم.
3- جفر: علم على أسماء مواضع كثيرة. (انظر «معجم البلدان» لياقوت في الكلام عليه).

سلام على أوصال قيس بن عاصم *** و إن كنّ رمسا في التراب بواليا

أ ضيّعتموا خيلا عرابا فأصبحت *** كواسد لا ينكحن إلاّ المواليا

فلم أر أبرادا أجرّ لخزية *** و ألأم مكسوّا و ألأم كاسيا

من الخزّ و اللائي بحجر عليكم *** نشرن فكنّ المخزيات البواقيا

/فقال يحيى يردّ عليه:

ألا قبح اللّه الفلاح و نسوة *** على البئر يعطشن الكلاب من النّتن

نكحنا بنات القرم قيس بن عاصم *** و عمدا رغبنا عن بنات بني حزن

/أبا كان خيرا من أبيك أرومة *** و أوسط في سعد و أرجح في الوزن

لبيت بني حزن من الذّلّ وهنة *** كوهنة بيت العنكبوت التي تبني

و لم تر حزنيّا، و لو ضمّ أربعا *** و أبرز(1)، في فرج يعفّ و لا بطن

و ضيف بني حزن يجوع و جارهم *** إذا أمن الجيران ناء من الأمن

يذكر خروج ابن المهلب:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال أنشدني محمد بن إدريس ليحيى يذكر خروج يزيد بن المهلّب و يتأسّف على الحجّاج:

لا يصلح الناس إلاّ السيف إذ فتنوا *** لهفي عليك و لا حجّاج للدين

لو كان حيّا غداة الأزد إذ نكثوا *** لم يحص قتلاهم حسّاب ديرين

لم تأته الأزد عند الباب تربصه *** مثل الجراد تنزّى في التّبابين(2)

من كلّ أفحج(3) ذي حنف مخالفة *** أرفت به السّفن علجا غير مجنون

قال أبو أحمد: و أنشدني ليحيى في سفيان بن عمرو و إلى اليمامة:

لقد عصاني ابن عمرو إذ نصحت له *** و لو أطعت(4) لما زلّت به القدم

لو كنت أنفخ في فحم لقد وقدت *** ناري و لكن رماد ماله حمم

بخل مروان بن أبي حفصة و نوادر له في ذلك:

و ليحيى أشعار كثيرة؛ و إنما ذكرنا هاهنا منها ما ذكرنا لنعرف أعراق مروان في الشعر. و كان مروان أبخل الناس على يساره و كثرة ما أصابه من الخلفاء، لا سيّما من بني العبّاس، فإنه كان رسمهم أن يعطوه بكل بيت يمدحهم به ألف درهم.

ص: 295


1- أبرز: اتخذ الإبريز و هو الذهب الخالص يريد باتخاذ الإبريز كثرة المال.
2- تربصه: تنتظره. و التبابين: جمع تبان، و هو سراويل صغير، فارسي معرب.
3- الأفحج: ذو الفحج، يقال رجل أفحج و امرأة فحجاء. و الفحج هو تداني صدور القدمين و تباعد العقبين. و الحنف: اعوجاج الرجل إلى الداخل. و أرفت السفينة: دنت من الشط. و غير مجنون: غير مغطى، من جنه الشيء إذا ستره يريد علجا لا شك فيه.
4- في الأصول: «اطقت» بالقاف و ظاهر أنه مصحف عما أثبتناه.

أخبرنا أحمد بن عمّار و قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ قال سمعت أبي يقول:

كان المهديّ يعطي مروان و سلما الخاسر عطيّة واحدة، و كان سلم يأتي باب المهديّ على البرذون قيمته عشرة آلاف درهم، و السّرج و اللجام المقذوذين(1)؛ و لباسه الخزّ و الوشي و ما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان، و رائحة المسك و الغالية و الطّيب تفوح منه، و يجيء مروان و عليه فرو كبش، و قميص كرابيس(2) و عمامة كرابيس، و خفّا كبل(3) و كساء غليظ منتن الرائحة، و كان لا يأكل اللّحم بخلا حتى يقرم(4) إليه، فإذا قرم أرسل غلامه فاشترى له رأسا فأكله. فقيل له: نراك لا تأكل إلاّ الرءوس في الصّيف و الشتاء، فلم تختار ذلك؟ قال:

نعم! الرأس أعرف سعره، و لا يستطيع الغلام أن يغبنني فيه، و ليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه، إن مسّ عينا أو أذنا أو خدّا وقفت عليه، فآكل منه ألوانا، آكل عينيه لونا، و أذنيه لونا، و غلصمته(5) لونا، و أكفى مئونة طبخه، فقد اجتمعت لي فيه مرافق.

أخبرنا يحيى بن عليّ قال أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر عن أبي العلاء المنقريّ قال حدّثني موسى بن يحيى قال:

أوصلنا إلى مروان بن أبي حفصة في وقت من الأوقات سبعين ألف درهم، و جمع إليها مالا حتى تمّت مائة و خمسين ألف درهم، و أودعها يزيد بن مزيد.

/قال: فبينا نحن عند يحيى بن خالد إذ دخل يزيد بن مزيد، و كانت فيه دعابة، فقال: يا أبا عليّ أودعني مروان خمسين و مائة ألف درهم و هو يشتري الخبز من البقّال. قال فغضب يحيى ثم قال: عليّ/بمروان، فأتي به. فقال له: أخبرني أبو خالد لما أودعته من المال و ما تبتاعه من البقّال، و اللّه لما يرى من أثر البخل عليك أضرّ من الفقر لو كان بك.

أخبرنا يحيى قال و حدّثني عمر بن شبّة عن أبي العلاء المنقريّ عن موسى بهذا الخبر، إلاّ أنه قال: فقال له يحيى: يا مروان، و اللّه لا بالبخل أسوأ عليك أثرا من الفقر لو صرت إليه، فلا تبخل.

أخبرنا يحيى قال حدّثني عمر بن شبّة قال:

بلغني أن مروان بن أبي حفصة قال ما فرحت بشيء قطّ فرحي بمائة ألف وهبها لي أمير المؤمنين المهديّ، فوزنتها فزادت درهما فاشتريت به لحما.

أخبرنا يحيى قال حكى أبو غسّان عن أبي عبيدة عن جهم بن خلف قال:

أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة، فأطعمنا تمرا، و أرسل غلامه بفلس و سكرّجة(6) ليشتري له زيتا. فلما جاء بالزّيت قال لغلامه: خنتني! قال: من فلس كيف أخونك! قال: أخذت الفلس لنفسك و استوهبت الزيت.

ص: 296


1- المقذوذ: المزين المسوّى.
2- الكرابيس: جمع كرباس و هو هنا الثوب الخشن.
3- الكبل: الكثير الصوف من الفراء.
4- كذا في أ، ح و قرم إلى اللحم اشتدت شهوته له. و في «الأصول»: «يقدم» بالدال المهملة و هو تحريف.
5- الغلصمة: اللحم بين الرأس و العنق، و قيل رأس الحلقوم بشواربه.
6- السكرجة: الصحفة.

أخبرنا يحيى قال أخبرنا أصحاب التّوّزيّ عنه قال:

مرّ مروان بن أبي حفصة في بعض سفراته و هو يريد منى(1) بامرأة من العرب فأضافته، فقال: للّه عليّ إن وهب لي الأمير مائة ألف أن أهب لك درهما، فأعطاه ستين ألف درهم، فأعطاها أربعة دوانق.

/أخبرنا يحيى قال أخبرني أبي عن أبي دعامة قال:

اشترى مروان لحما بنصف درهم، فلما وضعه في القدر و كاد أن ينضج، دعاه صديق له، فردّه على القصّاب بنقصان دانق. فشكاه القصّاب و جعل ينادي: هذا لحم مروان، و ظنّ أنه يأنف لذلك. فبلغ الرشيد ذلك فقال: ويلك! ما هذا! قال: أكره الإسراف.

قصة له مع أبي الشمقمق:

أخبرنا يحيى قال أخبرني أبي عن أبي دعامة قال:

أنشدت لرجل من بني بكر بن وائل في مروان:

و ليس لمروان على العرس غيرة *** و لكنّ مروانا يغار على القدر

أخبرنا يحيى قال أخبرني أبو هفّان قال حدّثني يحيى بن الجون العبديّ قال:

فرّق المهديّ على الشعراء جوائز، فأعطى مروان ثلاثين ألفا. فجاءه أبو الشّمقمق فقال له: أجزني من الجائزة. فقال له: أنا و أنت نأخذ و لا نعطي. قال: فاسمع منّي بيتين. قال: هات. فقال أبو الشّمقمق:

لحية مروان تقي عنبرا *** خالط مسكا خالصا أذفرا(2)

فما يقيمان بها ساعة *** إلاّ يعودان جميعا خرا

فأمر له بدرهمين. و أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة عن أبي هفّان فذكر مثل الخبر الماضي و زاد فيه. فأعطاه عشرة دراهم، فقال له خذ هذه و لا تكن رواية الصّبيان.

مدح الهادي فداعيه في المعجل و المؤجل و وصله:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب عن جدّي عبد اللّه بن مصعب قال.

/دخل مروان بن أبي حفصة على موسى الهادي، فأنشده قوله فيه:

تشابه يوما بأسه و نواله *** فما أحد يدري لأيّهما الفضل

فقال له الهادي: أيّما أحبّ إليك: أ ثلاثون ألفا معجّلة أم مائة ألف تدوّن في الدّواوين؟ فقال له: يا أمير المؤمنين أنت تحسن ما هو خير من هذا و لكنّك نسيته، أ فتأذن لي/أن أذكّرك؟ قال نعم. قال: تعجّل لي الثلاثين ألفا و تدوّن المائة الألف(3) في الدّواوين. فضحك و قال: بل يعجّلان جميعا؛ فحمل المال إليه أجمع.

ص: 297


1- كذا في م. و في ب، ح، س: «و هو يريد مغني امرأة». و في أ: «و هو يريد مغني بامرأة» و كلاهما تحريف.
2- الأذفر: الجيد من المسك.
3- في الأصول المائة ألف.
مدح المهدي فلحنه اليزيدي فاعترض على سوء أدبه:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني سليمان بن جعفر قال حدّثني أحمد بن عبد الأعلى قال:

اجتمع مروان بن أبي حفصة و أبو محمد اليزيديّ عند المهديّ؛ فابتدأ مروان ينشد:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها

فقال اليزيديّ: لحن و اللّه و أنا أبو محمد. فقال له مروان: يا ضعيف الرأي أ هذا لي يقال! ثم قال:

بيضاء تخلط بالجمال دلالها

فقال له(1) بعض من حضر: يا أمير المؤمنين أ يتكنّى في مجلسك! (يعني اليزيديّ) فقال: اعذروا شيخنا، فإن له حرمة.

سأله الرشيد عن الوليد بن يزيد فأجابه:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال أخبرني مروان بن أبي حفصة قال قال لي الرشيد: هل دخلت على الوليد بن يزيد؟ فقلت: نعم دخلت مع عمومتي إليه.

قال: فأخبرني عنه. قال: /فذهبت أتزحزح. فقال لي: إنّ أمير المؤمنين لا يكره ما تقول، فقل ما شئت.

فقلت: يا أمير المؤمنين، كان من أجمل الناس و أشدّهم و أشعرهم و أجودهم. دخلت عليه مع عمومتي و لي لمّة فينانة، فجعل يغمز القضيب فيها و يقول: ولدتك سكّر؟ - و هي أمّ ولد لمروان بن الحكم فوهبها(2) لجدّي أبي حفصة فولدت منه - فقلت له: نعم. قال لي الرشيد: فهل تحفظ من شعره شيئا؟ قلت: نعم، سمعته ينشد في خلافته و ذكر هشاما و تحامله عليه و ما كان يريد من نقض أمره و ولايته:

ليت هشاما عاش حتى يرى *** مكتله(3) الأوفر قد أترعا

كلنا له الصاع التي كالها *** و ما ظلمناه بها أصوعا

و ما أتينا ذاك عن بدعة *** أحلّه الفرقان لي أجمعا

فقال الرشيد: يا غلام، الدواة و القرطاس، فأتي بهما، فأمر الأبيات فكتبت.

فضل خلف الأحمر شعرا له على شعر للأعشى:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّه قال حدّثني خلاّد الأرقط قال:

جاءنا مروان بن أبي حفصة إلى حلقة يونس، فأخذ بيد خلف الأحمر فأقامه، و أخذ خلف بيدي فقمنا إلى دار أبي(4) عمير فجلسنا في الدهليز. فقال مروان لخلف: نشدتك اللّه يا أبا محرز إلاّ نصحتني في شعري فإن

ص: 298


1- كذا في الأصول و لعلها من زيادات النساخ.
2- كذا ب: الأصول و لعله «وهبها».
3- المكتل: زبيل يعمل من الخوص يحمل فيه التمر و غيره يسع خمسة عشر صاعا.
4- في ج: «ابني عمير».

الناس يخدعون في أشعارهم، و أنشده قوله:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها *** بيضاء تخلط بالجمال دلالها

فقال له: أنت أشعر من الأعشى في قوله:

رحلت سميّة غدوة أجمالها

/فقال له مروان: أ تبلغ بي الأعشى هكذا! و لا كلّ ذا! قال: ويحك! إنّ الأعشى قال في قصيدته هذه:

فأصاب حبّة قلبها و طحالها

و الطّحال ما دخل قطّ في شيء إلا أفسده، و أنت قصيدتك سليمة كلّها. فقال له مروان: إني إذا أردت أن أقول القصيدة رفعتها في حول، أقولها في أربعة أشهر، و أنتخلها(1) في أربعة أشهر، و أعرضها في أربعة أشهر.

عرض شعرا له على يونس فمدحه و فضله على شعر للأعشى:

و أخبرني بهذا الخبر هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم قال أبو دلف هاشم بن محمد و حدّثني به الرّياشيّ عن الأصمعي قال:

جاء مروان بن أبي حفصة إلى حلقة يونس، /فسلّم ثم قال لنا: أيّكم يونس؟ فأومأنا إليه. فقال له:

أصلحك اللّه! إني أرى قوما يقولون الشعر، لأن يكشف أحدهم سوأته ثم يمشي كذلك في الطريق أحسن له من أن يظهر مثل ذلك الشعر. و قد قلت شعرا أعرضه عليك، فإن كان جيّدا أظهرته، و إن كان رديئا سترته. فأنشده قوله:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها

فقال له يونس: يا هذا اذهب فأظهر هذا الشعر فأنت و اللّه فيه أشعر من الأعشى في قوله:

رحلت سميّة غدوة أجمالها

فقال له مروان: سررتني و سؤتني. فأمّا الذي سررتني به فارتضاؤك الشعر. و أمّا الذي ساءني فتقديمك إيّاي على الأعشى و أنت تعرف محلّه. فقال: إنما قدّمتك عليه في تلك القصيدة لا في شعره كلّه لأنه قال فيها:

فأصاب حبّة قلبها و طحالها

و الطّحال لا يدخل في شيء إلاّ أفسده، و قصيدتك سليمة من هذا و شبهه.

قال الأصمعي إنه مولد و لا علم له باللغة:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني العبّاس بن ميمون طائع قال:

سمعت الأصمعيّ ذكر مروان بن أبي حفصة فقال: كان مولّدا، لم يكن له علم باللغة.

أنشد شعر جماعة من الشعراء فقال عن كل واحد منهم إنه أشعر الناس:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني أحمد بن عبيد اللّه عن العتبيّ قال حدّثني بعض أصحابنا قال:

ص: 299


1- في الأصول: «أنتحلها» بالحاء المهملة و هو تصحيف.

أنشدنا مروان بن أبي حفصة يوما شعر زهير ثم قال: زهير و اللّه أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى فقال:

الأعشى أشعر الناس، ثم أنشد شعرا لامرئ القيس فقال: امرؤ القيس أشعر الناس، ثم قال: و الناس و اللّه أشعر الناس. أي إن أشعر الناس من أنشدت له فوجدته قد أجاد، حتى ينتقل إلى شعر غيره.

اشترى من أعرابي شعرا مدح به مروان بن محمد فمدح هو به معن بن زائدة فأكرمه:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني أبي قال:

اجتاز مروان بن أبي حفصة برجل من باهلة من أهل اليمامة و هو ينشد قوما كان جالسا إليهم شعرا مدح به مروان بن محمد، و إن قتل قبل أن يلقاه و ينشده إيّاه، أوّله:

مروان يا ابن محمد أنت الذي *** زيدت به شرفا بنو مروان

فأعجبته القصيدة، فأمهل الباهليّ حتى قام من مجلسه، ثم أتاه في منزله فقال له: إني سمعت قصيدتك و أعجبتني، و مروان قد مضى و مضى أهله وفاتك ما قد رمته(1) عنده؛ أ تبيعني القصيدة حتى أنتحلها، فإنه خير لك من أن تبقى عليك و أنت فقير؟ قال نعم. قال: بكم؟ قال: بثلاثمائة درهم. قال: قد ابتعتها؛ فأعطاه الدراهم و حلّفه بالطلاق/ثلاثا و بالأيمان المحرجة ألاّ ينتحلها أبدا و لا ينسبها إلى نفسه و لا ينشدها، و انصرف بها إلى منزله، فغيّر منها أبياتا و زاد فيها، و جعلها في معن، و قال في ذلك البيت:

معن بن زائدة الذي زيدت به *** شرفا إلى شرف بنو شيبان

و وفد بها إلى معن بن زائدة فملأ يديه، و أقام عنده مدة حتى أثرى و اتّسعت حاله. فكان معن أوّل من رفع ذكره و نوّه به. قال: و له فيه مدائح بعد ذلك شريفة و مراث حسنة.

نقل قصة فرار معن أن عبدا أسود طلقه تكرما بعد ما عرفه:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن نعيم البلخيّ أبو يونس قال حدّثني مروان بن أبي حفصة و كان لي صديقا قال:

كان المنصور قد طلب معن بن زائدة طلبا شديدا، و جعل فيه مالا؛ فحدّثني معن بن زائدة باليمن أنه اضطرّ لشدّة/الطلب إلى أن أقام في الشمس حتى لوّحت وجهه، و خفّف عارضيه و لحيته، و لبس جبّة صوف غليظة، و ركب جملا من الجمال النّقّالة ليمضي إلى البادية فيقيم بها، و كان قد أبلى في حرب(2) يزيد بن عمر بن هبيرة بلاء حسنا غاظ المنصور و جدّ في طلبه. قال معن: فلما خرجت من باب حرب(3) تبعني أسود متقلّدا سيفا، حتى إذا غبت عن الحرس قبض علي خطام جملي فأناخه و قبض عليّ؛ فقلت له: مالك؟ قال: أنت طلبة أمير المؤمنين. قلت: و من أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين! قال: معن بن زائدة. فقلت: يا هذا اتّق اللّه! و أين أنا من معن! قال: دع هذا عنك فأنا و اللّه أعرف به منك. فقلت له: فإن كانت القصّة كما تقول/فهذا جوهر حملته معي

ص: 300


1- في ج: «ما قدرته».
2- هو يزيد بن عمر بن هبير. أبو خالد أحد رجالات بني أمية و فرسانهم و ولاتهم، أبلى مع مروان بن محمد في الدعوة العباسية، قتله أبو جعفر المنصور سنة 132 ه (انظر الكلام عليه في الطبري ق 2 ص 1363، 1372، 1913-1916، ق 3 ص 61-73).
3- موضع ببغداد ينسب إلى حرب بن عبد اللّه البلخي و يعرف بالراوندي أحد قوّاد أبي جعفر المنصور. (انظر «معجم البلدان» لياقوت في الكلام على الحربية).

يفي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه و لا تسفك دمي. قال: هاته فأخرجته إليه؛ فنظر إليه ساعة و قال:

صدقت في قيمته، و لست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك. فقلت: قل. قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت قطّ مالك كلّه؟ قلت لا. قال: فنصفه؟ قلت لا. قال: فثلثه؟ قلت لا.

حتى بلغ العشر فاستحييت فقلت: أظنّ أنّي قد فعلت هذا. فقال: ما أراك فعلته! أنا و اللّه راجل، و رزقي من أبي جعفر عشرون درهما، و هذا الجوهر قيمته آلاف دنانير، و قد وهبته لك، و وهبتك لنفسك و لجودك المأثور عنك بين الناس، و لتعلم أن في الدنيا أجود منك، فلا تعجبك نفسك و لتحقر بعد هذا كلّ شيء تفعله، و لا تتوقّف عن مكرمة. ثم رمى بالعقد في حجري و خلّى خطام البعير و انصرف. فقلت: يا هذا قد و اللّه فضحتني، و لسفك دمي أهون عليّ ممّا فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإنّي غنيّ عنه. فضحك ثم قال: أردت أن تكذّبني في مقامي هذا، و اللّه لا آخذه و لا آخذ بمعروف ثمنا أبدا، و مضى. فو اللّه لقد طلبته بعد أن أمنت و بذلت لمن جاءني به ما شاء فما عرفت له خبرا، و كأن الأرض ابتلعته.

سبب رضا المنصور عن معن بن زائدة:

قال: و كان سبب رضا المنصور عن معن أنه لم يزل مستترا حتى كان يوم الهاشميّة(1)، فلما وثب القوم على المنصور و كادوا يقتلونه، وثب معن و هو متلثّم فانتضى سيفه و قاتل فأبلى بلاء حسنا، و ذبّ القوم عنه حتى نجا و هم يحاربونه بعد، /ثم جاء و المنصور راكب على بغلة و لجامها بيد الرّبيع؛ فقال له: تنحّ فإنّي أحقّ باللّجام منك في هذا الوقت و أعظم فيه غناء. فقال له المنصور: صدق فادفعه إليه؛ فأخذه و لم يزل يقاتل حتى انكشفت تلك الحال. فقال له المنصور: من أنت للّه أبوك؟ قال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة.

قال: قد أمّنك اللّه على نفسك و مالك، و مثلك يصطنع. ثم أخذه معه و خلع عليه و حباه و زيّنه. ثم دعا به يوما و قال له: إنّي قد أمّلتك لأمر، فكيف تكون فيه؟ قال: كما يحبّ أمير المؤمنين - قال: قد ولّيتك اليمن، فابسط السيف فيهم حتى ينقض حلف ربيعة و اليمن - قال: أبلغ من ذلك ما يحبّ أمير المؤمنين. فولاّه اليمن و توجّه إليها فبسط السيف فيهم حتى أسرف.

عاتب المنصور معنا على إكرامه له فأجابه إنما أكرمه لمدحه هو:

قال مروان: و قدم معن بعقب ذلك فدخل على المنصور فقال له بعد كلام طويل: قد بلغ أمير المؤمنين عنك شيء لو لا مكانك عنده و رأيه فيك لغضب عليك. قل: و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فو اللّه ما تعرّضت لك منك، قال: إعطاؤك مروان بن أبي حفصة ألف دينار لقوله/فيك:

معن بن زائدة الذي زيدت به *** شرفا إلى شرف بنو شيبان

إن عدّ أيام الفعال فإنّما *** يوماه يوم ندى و يوم طعان

فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما أعطيته ما بلغك لهذا الشعر، و إنما أعطيته لقوله:

ما زلت يوم الهاشميّة معلما *** بالسيف دون خليفة الرحمن

ص: 301


1- الهاشمية: مدينة بناها السفاح بالكوفة. و ذلك أنه لما ولي الخلافة نزل بقصر ابن هبيرة و استتم بناءه و جعله مدينة و سماها الهاشمية. فلما توفي دفن بها. و استخلف المنصور فنزلها و استتم بناء كان بقي فيها و زاد فيها ما أراد. و كانت فيها وقعة بين أبي جعفر المنصور و الراوندية، و هم قوم يقولون بتناسخ الأرواح و يزعمون أن روح آدم حلت في أحد رجالات المنصور، و أن ربهم الذي يطعمهم و يسقيهم هو أبو جعفر المنصور و أن الهيثم بن معاوية جبريل. (راجع «معجم البلدان» لياقوت و «تاريخ الطبري» ق 3 ص 129، 131).

فمنعت حوزته و كنت وقاءه *** من وقع كلّ مهنّد و سنان

فاستحيا المنصور و قال: إنما أعطيته ما أعطيته لهذا القول؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! و اللّه لو لا مخافة النّقمة(1) عندك لأمكنته من مفاتيح بيوت الأموال و أبحته إيّاها، فقال له المنصور: للّه درّك من أعرابيّ! ما أهون عليك ما يعزّ على الرجال و أهل الحزم!

مدح المهدي فرده لمدحه معنا ثم مدحه العام المقبل فأجازه مائة ألف درهم:

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن موسى قال أخبرني محمد بن موسى بن حمزة قال أخبرني الفضل بن الرّبيع قال:

رأيت مروان بن أبي حفصة و قد دخل على المهديّ بعد وفاة معن بن زائدة في جماعة من الشعراء فيهم سلم الخاسر و غيره، فأنشده مديحا فيه، فقال له: و من أنت؟ قال: شاعرك يا أمير المؤمنين و عبدك مروان بن أبي حفصة. فقال له المهديّ: أ لست القائل:

أقمنا باليمامة بعد معن *** مقاما لا نريد به زوالا

و قلنا أين نرحل بعد معن *** و قد ذهب النّوال فلا نوالا

قد ذهب النّوال فيما زعمت، فلم جئت تطلب نوالنا؟ لا شيء لك عندنا، جرّوا برجله؛ فجرّوا برجله حتى أخرج. قال: فلما كان من العام المقبل تلطّف حتى دخل مع الشعراء - و إنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في كلّ عام مرّة - فمثل بين يديه و أنشده بعد رابع أو بعد خامس من الشعراء:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها *** بيضاء تخلط بالجمال(2) دلالها

قادت فؤادك فاستقاد و مثلها *** قاد القلوب إلى الصّبا فأمالها

قال: فأنصت الناس لها حتى بلغ إلى قوله:

هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفّكم أو تسترون هلالها

أو تجحدون مقالة عن ربّكم *** جبريل بلّغها النّبيّ فقالها

شهدت من الأنفال آخر آية(3) *** بتراثهم فأردتم إبطالها

/قال: فرأيت المهديّ قد زحف من صدر مصلاّه حتى صار على البساط إعجابا بما سمع، ثم قال: كم هي؟ قال: مائة بيت. فأمر له بمائة ألف درهم. فكانت أوّل مائة ألف درهم أعطيها شاعر في أيام بني العبّاس.

مدح الرشيد فرده لمدحه معنا ثم مدحه بعد أيام فأجازه لكل بيت ألفا:

قال: و مضت الأيام و ولي هارون الرشيد الخلافة، فدخل إليه مروان؛ فرأيته واقفا مع الشعراء ثم أنشده قصيدة امتدحه بها. فقال له: من أنت؟ قال: شاعرك و عبدك يا أمير المؤمنين مروان بن أبي حفصة. قال له:

ص: 302


1- في ج «الشنعة».
2- في ج في هذا الموضع: «بالحياء».
3- يريد قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولٰئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ.

أ لست القائل في معن بن زائدة! و أنشده البيتين اللّذين أنشده إيّاهما المهديّ، ثم قال: خذوا بيده فأخرجوه، لا شيء لك عندنا، فأخرج. فلما كان بعد ذلك بأيام تلطّف حتى دخل؛ فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

/

لعمرك ما أنسى غداة المحصّب *** إشارة سلمى بالبنان المخضّب

و قد صدر الحجّاج إلاّ أقلّهم *** مصادر شتى موكبا بعد موكب

قال: فأعجبته، فقال: كم قصيدتك من بيت؟ فقال: ستون أو سبعون. فأمر له بعدد أبياتها ألوفا. فكان ذلك رسم مروان عندهم حتى مات.

مدح المهدي في الرصافة فأجازه:

أخبرني عمّي قال حدّثني الفضل بن محمد اليزيديّ عن إسحاق قال:

دخل مروان بن أبي حفصة على المهديّ في أوّل سنة قدم عليه. قال: فدخلت عليه في قصره بالرّصافة فأنشدته قولي فيه:

أمرّ و أحلى ما بلا الناس طعمه *** عذاب أمير المؤمنين و نائله

فإنّ طليق اللّه من أنت مطلق *** و إنّ قتيل اللّه من أنت قاتله

كأنّ أمير المؤمنين محمدا *** أبو جعفر في كلّ أمر يحاوله

قال: فأعجب بها، و أمر لي بمال عظيم؛ فكانت تلك الصلة أوّل صلة سنيّة وصلت إليّ في أيام بني هاشم.

مدح المهدي و ذم عنده يعقوب بن داود فأجازه من خالص ماله:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن عبد اللّه العبديّ الراوية قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال حدّثني مروان بن أبي حفصة قال:

دخلت على المهديّ في قصر(1) السلام، فلما سلّمت عليه، و ذلك بعقب سخطه على يعقوب(2) بن داود، قلت(3): يا أمير المؤمنين إنّ يعقوب رجل رافضيّ و إنه سمعني أقول في الوراثة:

أنّى يكون و ليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام

فذلك الذي حمله على عداوتي. ثم أنشدته:

كأنّ أمير المؤمنين محمدا *** لرأفته بالناس للناس والد

على أنه من خالف الحقّ منهم *** سقته يد الموت الحتوف الرّواصد

ثم أنشدته:

ص: 303


1- كذا في الأصول. و الذي في كتابي ما يعول عليه في «المضاف و المضاف إليه» و «معجم البلدان» لياقوت أن قصر السلام من أبنية الرشيد بن المهدي بالرقة. و الذي بناه المهدي هو قصر السلامة و هو القصر الذي بناه بالآجر في عيساباذ الكبرى (انظر «تاريخ الطبري» ق 3 ص 502، 517).
2- هو يعقوب بن داود السلمي، كان وزير للمهدي ثم غضب عليه و سجنه في المطبق و ما زال به حتى أيام هارون الرشيد. و قد ذكره أبو الفرج في ترجمة بشار بن برد في «الأغاني» (ج 3 من هذه الطبعة).
3- في الأصول: «فقلت».

أحيا أمير المؤمنين محمد *** سنن النبيّ حرامها و حلالها

قال فقال لي المهديّ: و اللّه ما أعطيك إلا من صلب مالي فاعذرني، و أمر لي بثلاثين ألف درهم، و كساني جبّة و مطرفا، و فرض لي على أهل بيته و مواليه ثلاثين ألفا أخرى.

مدح مغنا فأعطاه عطايا سنية لم يستكثرها عليه ابن الأعرابي:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز قال حدّثنا ابن الأعرابيّ أن مروان بن أبي حفصة أخبره أنه وفد على معن بن زائدة فأنشده قوله:

/

بنو مطر يوم اللّقاء كأنّهم *** أسود لها في بطن خفّان(1) أشبل

هم يمنعون الجار حتّى كأنما *** لجارهم بين السّماكين منزل

لهاميم(2)، في الإسلام سادوا و لم يكن *** كأوّلهم في الجاهليّة أوّل

هم القوم إن قالوا أصابوا و إن دعوا *** أجابوا و إن أعطوا أطابوا و أجزلوا

و لا يستطيع الفاعلون فعالهم *** و إن أحسنوا في النائبات و أجملوا

قال: فأمر لي بصلة سنيّة و خلع عليّ و حملني و زوّدني. قال ثم قال لنا ابن الأعرابيّ: لو أعطاه كلّ ما يملك لما وفاه حقّه. قال: و كان ابن الأعرابيّ يختم به الشعراء، و ما دوّن لأحد بعده/شعرا.

سئل عن جرير و الفرزدق أيهما أشعر فأجاب بشعر:

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال أخبرني أحمد بن موسى بن حمزة قال:

رأيت مروان بن أبي حفصة في أيام محمد بن زبيدة في دار الخلافة و هو شيخ كبير، فسألته عن جرير و الفرزدق أيّهما أشعر، فقال لي: قد سئلت عنهما في أيام المهديّ و عن الأخطل قبل ذلك، فقلت فيهم قولا عقدته في شعر ليثبت. فسألته عنه فأنشدني:

ذهب الفرزدق بالهجاء و إنّما *** حلو القريض و مرّه لجرير

و لقد هجا فأمضّ أخطل تغلب *** و حوى النّهى ببيانه المشهور

كلّ الثلاثة قد أجاد فمدحه *** و هجاؤه قد سار كلّ مسير

و لقد جريت ففتّ غير مهلّل(3) *** بجراء لا قرف(4) و لا مبهور

إني لآنف أن أحبّر مدحة *** أبدا لغير خليفة و وزير

ما ضرّني حسد اللئام و لم يزل *** ذو الفضل يحسده ذوو التقصير

قال: فلم ير أن يقدّم على نفسه غيرها. و كتبت الأبيات عن فيه.

ص: 304


1- خفان كحسان: موضع كثير الغياض قرب الكوفة و هو مأسدة.
2- اللهاميم: جمع لهميم و هو السابق الجواد.
3- هلل الرجل: جبن و فرّ.
4- القرف: الشديد الحمرة و لعله يعني به الهجين.
مدح معنا فسأله عن أمله فأعطاه إياه و استقله له:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني أبو حاتم السّجستانيّ قال حدّثني العنسيّ قال:

لمّا قدم معن بن زائدة من اليمن، دخل عليه مروان بن أبي حفصة و المجلس غاصّ بأهله، فأخذ بعضادتي(1) الباب و أنشأ يقول:

و ما أحجم الأعداء عنك بقيّة(2) *** عليك و لكن لم يروا فيك مطمعا

له راحتان الجود و الحتف فيهما *** أبى اللّه إلا أن تضرّا و تنفعا

قال فقال له معن: احتكم، قال: عشرة آلاف درهم. فقال معن: ربحنا عليك تسعين ألفا. قال: أقلني.

قال: لا أقال اللّه من يقيلك.

رمى محرز معنا بالظلم فرد عليه بما أخجله:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبي قال:

لما قدم معن بن زائدة من اليمن استقبله الناس، و تلقّاه مروان بن أبي حفصة، فأنشده قصيدة يهنّئه فيها بقدومه و برأي المنصور فيه، و تلقّاه فيمن تلقّاه أبو القاسم(3) محرز فجعل يقول له: سفكت الدماء، و ظلمت الناس، و تعدّيت طورك بذلك. فلما أكثر على معن التفت إليه ثم قال له: يا محرز أخبرني بأي خفّيك تضرب اليوم: أبا السّباعيّ أم بالثّمانيّ؟ قال: فانقطع و سكت خجلا.

و دخل معن على المنصور، فلما سلّم عليه و سأله قال له: يا معن، أعطيت ابن حفصة مائة ألف درهم عن قوله فيك:

معن بن زائدة الذي زيدت به *** شرفا إلى شرف بنو شيبان

فقال له: كلاّ يا أمير المؤمنين بل أعطيته لقوله:

ما زلت يوم الهاشميّة معلما *** بالسيف دون خليفة الرحمن

فاستحيا المنصور من تهجينه إيّاه فتبسّم و قال: أحسنت يا معن في فعلك.

ترك يحيى بن منصور الشعر فلما سمع بكرم معن مدحه و قال مروان في ذلك شعرا:

أخبرني الحسن بن عليّ المصريّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عليّ بن ثور قال حدّثني أبو العبّاس العدويّ قال:

لمّا ولي معن بن زائدة اليمن كان يحيى بن منصور الذّهليّ قد تنسّك و ترك الشعر. فلما بلغته أفعال معن وفد إليه و مدحه، فقال مروان بن أبي حفصة:

ص: 305


1- عضادتا الباب. خشبتاه من جانبيه.
2- البقية: الإبقاء.
3- هو أبو القاسم محرز بن إبراهيم أحد قواد أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. انظر الكلام عليه في الطبري (ق 3 ص 1955-1957).

لا تعدموا راحتي معن فإنّهما *** بالجود أفتنتا يحيى بن منصور

/لما رأى راحتي معن تدفّقتا *** بنائل من عطاء غير منزور(1)

ألقى المسوح التي قد كان يلبسها *** و ظلّ للشعر ذا رصف و تحبير

تزوجت امرأة من أهله في بني مطر فلم يرضهم و قال شعرا:

أخبرني محمد بن مزيد و عيسى بن الحسين قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال:

ورد على مروان بن أبي حفصة كتاب و هو بالمدينة أن امرأة من أهله تزوّجت في قوم لم يرض صهرهم يقال لهم بنو مطر؛ فقال في ذلك لأخيها:

لو كنت أشبهت يحيى في مناكحه *** لما تنقّيت فحلا جدّه مطر

للّه درّ جياد كنت سائسها *** ضيّعتها و بها التّحجيل و الغرر

نبّئت خولة قالت يوم أنكحها *** قد طالما كنت منك العار أنتظر

تهكم بالجنى الشاعر فهجاه و لم يعف عنه حتى حقره:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا الحسن بن عليّ المعروف بحدّان(2) عن محمد بن حفص بن عمرو بن الأيهم الحنفيّ قال:

مرّ مروان بن أبي حفصة برجل من تيم اللاّت بن ثعلبة يعرف بالجنّيّ؛ فقال له مروان: زعموا أنك تقول الشعر. فقال له: إن شئت عرّفتك ذلك. فقال له مروان: ما أنت و الشعر، ما أرى ذلك من طريقتك و لا مذهبك و لا تقوله! فقال الجنّيّ: اجلس و اسمع فجلس؛ فقال الجنّي يهجوه:

/

ثوى اللؤم في العجلان يوما و ليلة *** و في دار مروان ثوى آخر الدّهر

غدا اللؤم يبغي مطرحا لرحاله *** فنقّب في برّ البلاد و في البحر

فلمّا أتى مروان خيّم عنده *** و قال رضينا بالمقام إلى الحشر

و ليست لمروان على العرس غيرة *** و لكنّ مروانا يغار على القدر

فقال له مروان: ناشدتك اللّه إلاّ كففت، فأنت أشعر الناس. فحلف الجنيّ بالطلاق ثلاثا أنه لا يكفّ حتى يصير إليه بنفر من رؤساء أهل اليمامة ثم يقول بحضرتهم: قاق في استي بيضة. فجلبهم إليه مروان و فعل ذلك بحضرتهم، و كان فيهم جدّي يحيى بن الأيهم، فانصرفوا و هم يضحكون من فعله.

عزى الهادي في المهدي ببيتين تناقلهما الناس:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني أبو عبد اللّه بن سليمان بن زيد الدّوسيّ قال حدّثني الفضل بن العبّاس بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهليّ قال حدّثنا محمد بن حرب بن قطن بن قبيصة بن مخارق الهلاليّ قال:

ص: 306


1- يقال: أعطاه عطاء غير منزور: إذا لم يلح عليه فيه بل أعطاه عفوا.
2- سمي بحدان: وحدان بضم أوله و فتحه.

لمّا مات المهديّ وفدت العرب على موسى يهنّئونه بالخلافة و يعزّونه عن المهديّ؛ فدخل مروان بن أبي حفصة فأخذ بعضادتي الباب ثم قال:

لقد أصبحت تختال في كل بلدة *** بقبر أمير المؤمنين المقابر

و لو لم تسكّن بابنه في مكانه *** لما برحت تبكي عليه المنابر

قال فخرج الناس بالبيتين.

مدح عمرو بن مسعدة في مرضه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال:

مرض عمرو بن مسعدة، فدخل عليه مروان بن أبي حفصة و قد أبّل من مرضه فأنشأ يقول:

صحّ الجسم يا عمرو *** لك التّمحيص و الأجر

/و للّه علينا الحم *** د و المنّة و الشكر

فقد كان شكا شوقا *** إليك النّهي و الأمر

قال فنحا نحوه مسلم بن الوليد فقال:

قالوا أبو الفضل محموم فقلت لهم *** نفسي الفداء له من كل محذور

يا ليت علّته بي غير أن له *** أجر العليل و أنّي غير مأجور

رأي الغول في بعض سفراته ففزع:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا أبو حذيفة قال حدّثني رجل من بني سليم في مسجد الرّصافة قال أخبرني مروان بن أبي حفصة قال:

وفدت في ركب إلى الرشيد فصرنا في أرض موحشة قفر، و جنّ علينا الليل فسرنا لنقطعها، فلم نشعر إلاّ بامرأة تسوق بنا إبلنا و تحدو في آثارنا، فإذا هي الغول. فلما لاح الفجر عدلت عنّا و أخذت عرضا(1) و جعلت تقول:

يا كوكب الصّبح إليك عنّي *** فلست من صبح و ليس منّي

قال: فما أذكر أني فزعت من شيء قطّ فزعي ليلتئذ.

عارضه التغلبي في شعره في وراثة بني العباس:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عليّ بن الحسن الكوفيّ قال حدّثني محمد بن يحيى بن أبي مرّة التّغلبيّ قال:

مررت بجعفر بن عفّان الطائيّ يوما و هو على باب منزله، فسلّمت عليه، فقال لي: مرحبا يا أخا تغلب، اجلس فجلست. فقال لي: أ ما تعجب من ابن أبي حفصة لعنه اللّه حيث يقول:

ص: 307


1- العرض: الناحية.

أنّى يكون و ليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام

فقلت بلى و اللّه إني لأتعجّب منه و أكثر اللّعن له، فهل قلت في ذلك شيئا؟ فقال: نعم قلت:

/

لم لا يكون و إنّ ذاك لكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام

للبنت نصف كامل من ماله *** و العمّ متروك بغير سهام

ما للطّليق و للتّراث و إنّما *** صلّى الطليق مخافة الصّمصام

لازمه صالح بن عطية الأضجم أياما ثم قتله:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد بن سليمان النّوفليّ قال حدّثني صالح بن عطية الأضجم قال:

لما قال مروان:

أنى يكون و ليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام

لزمته و عاهدت اللّه أن أغتاله فأقتله أيّ وقت أمكنني ذلك، و ما زلت ألاطفه و أبرّه و أكتب أشعاره، حتى خصصت به، فأنس بي جدا، و عرفت ذلك بنو حفصة جميعا فأنسوا بي، و لم أزل أطلب له غرّة حتى مرض من حمى أصابته، فلم أزل أظهر له الجزع عليه و ألازمه و ألاطفه، حتى خلا لي البيت يوما فوثبت عليه فأخذت بحلقه فما فارقته حتى مات، فخرجت و تركته، فخرج إليه أهله بعد ساعة فوجدوه ميتا، و ارتفعت الصّيحة فحضرت و تباكيت و أظهرت الجزع عليه حتى دفن، و ما فطن بما فعلت أحد و لا اتهمني به.

نشأته و نسب أمه شكلة:

ثم نعود إلى ذكر إبراهيم بن المهديّ و أمّه شكلة(1). و يكنى أبا إسحاق. و شكلة أمّه مولّدة، كان/أبوها من أصحاب المازيار، يقال له شاه أفرند، فقتل مع المازيار و سبيت بنته شكلة، فحملت إلى المنصور، فوهبها لمحيّاة أمّ ولده فربّتها و بعثت بها إلى الطائف فنشأت هناك و تفصّحت؛ فلما كبرت ردّت إليها. فرآها المهديّ /عندها فأعجبته، فطلبها من محيّاة فأعطته إيّاها، فولدت منه إبراهيم. و كان رجلا عاقلا فهما ديّنا(2) أديبا شاعرا راوية للشعر و أيّام العرب خطيبا فصيحا حسن العارضة.

مدحه إسحاق الموصلي:

و كان إسحاق الموصليّ يقول: ما ولد العبّاس بن عبد المطّلب بعد عبد اللّه بن العباس: رجلا أفضل من إبراهيم بن المهديّ. فقيل له: مع ما تبذّل له من الغناء؟ فقال: و هل تمّ فضله إلا بذاك!. حدّثني بذلك محمد بن يزيد عن حمّاد عن أبيه.

كان ينسب ما يصنع لشارية و ريق جاريتيه:

و كان أشدّ خلق اللّه إعظاما للغناء، و أحرصهم عليه، و أشدّهم منافسة فيه. و كانت صنعته ليّنة، فكان إذا صنع شيئا

ص: 308


1- ضبط في «القاموس» بالقلم بفتح أوّله. و في الطبري بفتح أوّله و كسره.
2- هذه الكلمة ليس في ج.

نسبه إلى شارية و ريّق، لئلا يقع عليه في طعن أو تقريع، فقلّت صنعته في أيدي الناس مع كثرتها لذلك. و كان إذا قيل له فيها شيء قال: إنما أصنع تطرّبا لا تكسّبا، و أغنّى لنفسي لا للناس فأعمل ما أشتهي.

كان ينازع إسحاق و يجادله و جرت بينهما مناظرات في الغناء:

و كان حسن صوته يستر عوار ذلك كلّه. و كان الناس يقولون لم ير في جاهليّة و لا إسلام أخ و أخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهديّ و أخته عليّة. و كان يماظّ(1) إسحاق و يجادله، فلا يقوم له و لا يفي به، و لا يزال إسحاق يغلبه و يغصّه بريقه و يغصّ منه بما يظهر عليه من السّقطات و يبيّنه من خطئه في وقته(2) و عجزه عن معرفة الخطأ الغامض إذا مرّ به؛ و قصوره عن أداء الغناء القديم فيفضحه بذلك. و قد ذكرت قطعة من هذه الأخبار في أخبار إسحاق و أنا أذكرها هنا منها ما لم أذكر هناك.

و ممّا خالف إبراهيم بن المهديّ و من قال بقوله على إسحاق فيه: الثّقيلان و خفيفهما؛ فإنّه سمّى الثقيل الأوّل و خفيفه الثقيل الثاني و خفيفه، و سمّى الثقيل الثاني و خفيفه الثقيل الأوّل و خفيفه؛ و جرت بينهما في ذلك مناظرات و مجادلات و مراسلة و مكاتبة و مشافهة، و حضرهما النّاس، فلم يكن فيهم من يفي بفصل/ما بينهما و الحكم لأحدهما على صاحبه. و وضع لذلك(3) مكاييل لتعرف بها أقدار الطرائق، و أمسك كلّ واحد منهما إلى آخر أقداره، فلم يصحّ شيء يعمل عليه، إلاّ أن قول إبراهيم بن المهديّ اضمحلّ و بطل و ترك، و عمل الناس على مذهب إسحاق؛ لأنّه كان أعلم الرجلين و أشهرهما. و أوضح إسحاق أيضا لذلك وجوها فقال: إنّ الثقيل الأوّل يجيء منه قدران، الثّقيل الأوّل التّامّ، و القدر الأوسط من الثقيل الأوّل، و جميعا طريقته واحدة لاتّساعه و التمكّن منه، و الثقيل الثاني لا يجيء هذا فيه و لا يقاربه. و الثّقيل الأوّل يمكن الإدراج في ضربه لثقله، و الثّقيل الثاني لا يندرج لنقصه عن ذلك. و لهما في هذا كلام كثير و مخاطبات قد ذكرتها في أخبارهما، و شرحت العلل مبسوطة في كتاب ألّفته في النّغم شرحا ليس هذا موضعه و لا يصلح فيه. و أمّا التّجزئة و القسمة فإنّهما أفنيا أعمارهما في تنازعهما فيهما، حتى كان يمضي لهما الزمان الطويل لا تنقطع مناظرتهما و مكاتبتهما في قسمة و تجزئة صوت واحد فيه، و حتى كانا يخرجان إلى كلّ قبيح، و حتى إنهما ماتا جميعا و بينهما منازعة في هذا الصوت /و قسمته:

حيّيا أمّ يعمرا *** قبل شحط من النّوى

لم يفصل بينهما فيها إلى أن افترقا. و لو ذهبت إلى ذكر ذلك و شرح سائر أخبار إبراهيم بن المهديّ و قصصه لمّا ولي الخلافة و غير ذلك من وصفه بفصاحة اللسان، و حسن البيان، و جودة الشعر، و رواية العلم، و المعرفة بالجدل، و جزالة الرأي، و التصرّف في الفقه و اللّغة، و سائر الآداب الشريفة، و العلوم النفيسة، و الأدوات الرفيعة، لأطلت. و إنّما الغرض في هذا الكتاب الأغاني أو ما جرى مجراها، لا سيما لمن كثرت الروايات و الحكايات عنه؛ فلذلك اقتصرت على ما ذكرته من أخباره دون ما يستحقّه من التفضيل و التّبجيل و الثناء الجميل.

ص: 309


1- يماظ: ينازع.
2- في الأصول: «وقت».
3- لعله: و وضع كلاهما أو كل منهما أو نحو ذلك.
كلمة لإبراهيم بن المهدي عن نفسه في صنعة الغناء:

أخبرني عمّي رحمه اللّه قال حدّثني عليّ بن محمد بن بكر عن جدّه حمدون بن إسماعيل قال قال لي إبراهيم بن المهديّ:

لو لا أنّي أرفع نفسي عن هذه الصناعة لأظهرت فيها ما يعلم الناس معه أنهم لم يروا قبلي مثلي.

غنى الرشيد و عنده ابن جامع و إبراهيم الموصلي فأطرياه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنى أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشميّ قال حدّثني أحمد بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه قال:

دخلت يوما إلى الرشيد و في رأسي فضلة خمار، و بين يديه ابن جامع و إبراهيم الموصليّ. فقال: بحياتي يا إبراهيم غنّني. فأخذت العود و لم ألتفت إليهما لما في رأسي من الفضلة فغنّيت:

أسرى بخالدة(1) الخيال و لا أرى *** شيئا ألذّ من الخيال الطّارق

فسمعت إبراهيم يقول لآبن جامع: لو طلب هذا بهذا الغناء ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا. فقال ابن جامع:

صدقت. فلمّا فرغت من غنائي وضعت العود ثم قلت: خذا في حقّكما و دعا باطلنا.

نسبة هذا الصوت
صوت

أسرى بخالدة(1) الخيال و لا أرى *** شيئا ألذّ من الخيال الطارق

إنّ البليّة من تملّ (2) حديثه *** فانقع فؤادك من حديث الوامق

أهواك فوق هوى النفوس و لم يزل *** مذ بنت قلبي كالجناح الخافق

/طربا إليك و لم تبالي حاجتي *** ليس المكاذب كالخيل الصّادق(3)

الشعر لجرير. و الغناء لابن عائشة رمل بالوسطى عن عمرو.

غنى الرشيد و عنده سليمان بن أبي جعفر و جعفر بن يحيى:

أخبرني جحظة قال أخبرني هبة اللّه بن إبراهيم المهديّ قال حدّثني أبي، و حدّثني الصوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني هبة اللّه - و لم يذكر عن أبيه - قال:

كان الرشيد يحبّ أن يسمع أبي. و قال جحظة عن هبة اللّه عن إبراهيم قال: كان الرشيد يحب أن يسمعني، فخلا بي مرّات إلى أن سمعني. ثم حضرته مرّة و عنده سليمان بن أبي جعفر؛ فقال لي: عمّك و سيّد ولد

ص: 310


1- رواية «الديوان»: «أسرى لخالدة إلخ».
2- في «ديوان جرير»: «يمل» بالبناء المجهول.
3- في الأصول: شوقا إليك و لم تجاز مودتي ليس المكذب بالحبيب الصادق و التصويب عن «الديوان».

المنصور بعد أبيك و قد أحبّ أن يسمعك؛ فلم يتركني حتى غنّيت بين يديه:

إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية *** و إذ أجرّ إليكم سادرا رسني

/فأمر لي بألف ألف درهم، ثم قال لي ليلة و لم يبق في المجلس إلاّ جعفر بن يحيى: أنا أحبّ أن تشرّف جعفرا بأن تغنّيه صوتا. فغنّيته لحنا صنعته في شعر الدّارميّ:

كأنّ صورتها في الوصف إذ وصفت *** دينار عين من المصريّة العتق

نسبة هذين الصوتين، منهما
اشارة

نسبة هذين الصوتين، منهما(1)

صوت

سقيا لربعك من ربع بذي سلم *** و للزمان به إذ ذاك من زمن

إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية *** و إذ أجرّ إليكم سادرا رسني

الشعر للأحوص. و الغناء لآبن سريج ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.

/أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني أحمد بن زهير عن مصعب قال: أنشد منشد و ابن أبي عبيدة عندنا قول الأحوص:

إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية *** و إذ أجرّ إليكم سادرا رسني

فوثب قائما و ألقى طرف ردائه و جعل يخطو إلى طرف المجلس و يجرّه. ثم فعل ذلك حتى عاد إلينا. فقلنا له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنّي سمعت هذا الشعر مرّة فأطربني، فجعلت على نفسي ألاّ أسمعه أبدا إلاّ جررت رسني.

و الآخر من الصوتين:
صوت

كأنّ صورتها في الوصف إذ وصفت *** دينار عين من المصريّة العتق

أو درّة أعيت الغوّاص في صدف *** أو ذهب صاغه الصّوّاغ في ورق

الشعر للدّارميّ. و الغناء لمرزوق الصّوّاف رمل بالبنصر عن ابن المكيّ. و ذكر عمرو أن هذا اللّحن للدّارميّ أيضا. و ذكر الهشاميّ أنه لابن سريج. و في هذا الخبر أنه لإبراهيم بن المهديّ. و فيه خفيف رمل يقال إنه لحن مرزوق الصّوّاف، و يقال إنه لمتيّم ثاني ثقيل عن الهشاميّ و ابن المعتزّ.

غنى صوتا على أربع طبقات:

أخبرني يحيى بن المنجّم قال ذكر لي عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر عن إسحاق بن عمر بن بزيع قال:

كنت أضرب على إبراهيم بن المهديّ صوتا(2) ذكره فغنّاه على أربع طبقات. على الطبقة التي كان العود

ص: 311


1- لعله: «الأول منهما إلخ».
2- كذا في أ، م و في سائر الأصول: «ضربا».

عليها، و على ضعفها، و على إسجاحها، و على إسجاح الإسجاح. قال أبو أحمد قال عبيد اللّه: و هذا شيء ما حكي لنا عن أحد غير إبراهيم، /و قد تعاطاه بعض الحذّاق بهذا الشأن، فوجده صعبا متعذّرا لا يبلغ إلاّ بالصوت القويّ و أشدّ ما في إسجاح الإسجاح؛ لأن الضّعف لا يبلغ إلاّ بصوت قويّ مائل إلى الدقة، و لا يكاد ما اتّسع مخرجه يبلغ ذلك. فإذا دق حتى يبلغ الإضعاف لم يقدر على الإسجاح فضلا عن إسجاح الإسجاح. فإذا غلظ حتى يتمكّن من هذين لم يقدر على الضّعف.

غنى صوتا لمعبد:

أخبرني عمّي قال حدّثني ابن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشميّ قال حدّثني محمد بن سليمان بن موسى الهادي قال:

دعاني إبراهيم بن المهديّ يوما فصرت/إليه، و غنّى صوتا لمعبد:

أ في الحقّ هذا أنّني بك مولع *** و أنّ فؤادي نحوك الدّهر نازع

فقال لي: لمن هذا الغناء؟ فقلت: يا سيّدي يقولون إنه لمعبد، و لا غنّى و اللّه معبد كذا قطّ، و لا سمعت أحدا يقول كذا، لا و اللّه ما في الدنيا كذا. قال: فضحك ثم قال: و اللّه يا بنيّ ما قمت بنصف ما كان يقوم به معبد.

نسبة هذا الصوت

أمّا اللّحن فمن الثقيل الثاني، و قد ذكر في هذا الخبر أنه لمعبد، و ما وجدته في شيء من الكتب له. و ذكر الهشاميّ أنه لابن المكيّ.

عاب مخارقا عند المأمون:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن محمد بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثني إسحاق بن محمد قال حدّثني عيسى بن محمد القحطبيّ قال حدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر قال:

لمّا قدم المأمون من خراسان لم يظهر لمغنّ بالمدينة مدينة السلام غيري، فكنت أنادمه سرّا، و لم يظهر للنّدماء أربع سنين، حتى ظفر بإبراهيم بن المهديّ. /فلمّا ظفر به و عفا عنه ظهر للندماء ثم جمعنا؛ و وجّه إلى إبراهيم فحضر في ثياب مبتذلة. لمّا رآه المأمون قال: ألقى عمّي رداء الكبر عن منكبيه، ثم أمر له بخلع فاخرة و قال: يا فتح(1) غدّ عمّي؛ فتغدّى إبراهيم بحيث يراه المأمون ثم تحوّل إلينا، و كان مخارق حاضرا، فغنّى مخارق:

هذا و ربّ مسوّفين(2) صبحتهم *** من خمر بابل لذّة للشارب

فقال له إبراهيم: أسأت فأعد؛ فأعاده، فقال: قاربت و لم تصب. فقال له المأمون: إن كان أساء فأحسن أنت. فغنّاه إبراهيم ثم قال لمخارق: أعده فأعاده، فقال: أحسنت. فقال للمأمون: كم بين الأمرين؟ فقال:

ص: 312


1- هو فتح خادم المأمون. انظر الطبري (ق 3 ص 1041).
2- المسوفون: الصبر؛ يقال: إن فلانا لمسوّف (بالبناء للفاعل) إذا كان صبورا. (راجع «لسان العرب» في مادة سوف).

كثير. فقال لمخارق: إنما مثلك كمثل الثّوب الفاخر إذا غفل عنه أهله وقع عليه الغبار فأحال لونه، فإذا نفض عاد إلى جوهره. ثم غنّى إبراهيم:

يا صاح يا ذا الضّامر العنس *** و الرّحل ذي الأقتاد و الحلس(1)

أمّا النّهار فما تقصّره *** رتكا(2) يزيدك كلّما تمسي

ضنّ على مخارق بصوت:

قال: و كانت لي جائزة قد خرجت، فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر سيّدي بإلقاء هذا الصّوت عليّ مكان جائزتي فهو أحبّ إليّ منها. فقال: يا عمّ ألق هذا الصّوت على مخارق، فألقاه عليّ، حتى إذا كدت أن آخذه قال: اذهب فأنت أحذق الناس به. فقلت: إنه لم يصلح لي بعد. قال: فاغد عليّ. فغدوت عليه فغنّاه متلوّيا؛ فقلت: أيها الأمير، لك في الخلافة ما ليس لأحد، أنت ابن الخليفة و أخو الخليفة و عمّ الخليفة، /تجود بالرّغائب و تبخل عليّ بصوت! فقال: ما أحمقك! إن المأمون لم يستبقني محبّة فيّ و لا صلة لرحمي و لا رباء للمعروف عندي، و لكنه سمع من هذا الجرم(3) ما لم يسمع من غيره. قال: فأعلمت المأمون مقالته؛ فقال: إنّا لا نكدّر على أبي إسحاق عفونا عنه، فدعه. فلما كانت أيّام المعتصم نشط للصّبوح يوما فقال: أحضروا عمّي.

فجاء في درّاعة من غير طيلسان. فأعلمت المعتصم خبر الصّوت سرّا. فقال: يا عمّ غنّني:

يا صاح يا ذا الضّامر العنس

فغنّاه؛ فقال: ألقه على مخارق. فقال: قد فعلت، و قد سبق منّي/قول ألاّ أعيده عليه. ثم كان يتجنّب أن يغنّيه حيث أحضره.

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت

هذا و ربّ مسوّفين صبحتهم *** من خمر بابل لذّة للشارب

بكروا عليّ بسحرة فصبحتهم *** بإناء ذي كرم كقعب الحالب

بزجاجة ملء اليدين كأنّها *** قنديل فصح(4) في كنيسة راهب

الشعر لعديّ بن زيد. و الغناء لحنين خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.

صوت

يا صاح يا ذا الضّامر العنس *** و الرّحل ذي الأقتاد و الحلس

ص: 313


1- يقال جمل ضامر، و ناقة ضامر (بغير هاء) و ضامرة. و العنس: الناقة الصلبة القوية. و الحلس: كل شيء ولي ظهر البعير و الدابة تحت الرحل و القتب و السرج.
2- الرتك: سير للإبل سريع.
3- الجرم هنا: الحلق أو الصوت.
4- الفصح (بالكسر): عيد للنصارى.

أمّا النّهار فما تقصّره *** رتكا يزيدك كلّما تمسي

الشعر لخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد.

طلبت إليه أخته أسماء سماع غنائه:

و ذكر أحمد بن أبي طاهر عن أثير مولاة منصور بن المهديّ عن ذؤابة مولاته أيضا قالت قالت لي أسماء بنت المهديّ:

قلت لأخي إبراهيم: يا أخي أشتهي و اللّه أن أسمع من غنائك شيئا. فقال: إذا و اللّه يا أختي لا تسمعين مثله، عليّ و عليّ، و غلّظ في اليمين، إن لم يكن إبليس ظهر لي و علّمني النّقر و النّغم و صافحني و قال لي: اذهب فأنت منّي و أنا منك.

غضب عليه الأمين ثم رضي عنه:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه قال:

غضب عليّ محمد الأمين في بعض هناته، فسلّمني إلى كوثر(1)، فحبسني في سرداب و أغلقه عليّ فمكثت فيه ليلتي. فلما أصبحت إذا أنا بشيخ قد خرج عليّ من زاوية السّرداب، و دفع إليّ وسطا(2) و قال: كل فأكلت، ثم أخرج قنّينة شراب فقال: اشرب فشربت، ثم قال لي: غنّ:

لي مدّة لا بدّ أبلغها *** معلومة فإذا انقضت متّ

لو ساورتني الأسد ضارية *** لغلبتها ما لم يج الوقت

فغنّيته. و سمعني كوثر فصار إلى محمد و قال: قد جنّ عمّك و هو جالس يغنّي بكيت و كيت. فأمر بإحضاري فأحضرت و أخبرته بالقصّة، فأمر لي بسبعمائة ألف درهم و رضي عنّي.

طارح أخته علية فأطربا المأمون و أحمد بن الرشيد:

أخبرني عمّي قال حدّثني ابن أبي سعد قال سمعت ينشو يحدّث عن أبي أحمد بن الرشيد قال:

كنت يوما بحضرة المأمون و هو يشرب، فدعا بياسر و أدخله فسارّه(3) بشيء و مضى و عاد. فقام المأمون و قال لي: قم، فدخل دار الحرم و دخلت معه، فسمعت غناء/أذهل عقلي و لم أقدر أن أتقدّم و لا أتأخّر. و فطن المأمون لما بي فضحك ثم قال: هذه عمّتك عليّة تطارح عمّك إبراهيم:

ما لي أرى الأبصار بي جافية

نسبة هذا الصوت

ما لي أرى الأبصار بي جافية *** لم تلتفت منّي إلى ناحيه

ص: 314


1- هو كوثر خادم محمد الأمين. (انظر فقرا عليه في الطبري ق 3 ص 899، 928، 939، 956، 965).
2- كذا في الأصول و ظاهر أنه يريد نوعا من الطعام.
3- في الأصول: «فسره».

/

لا ينظر الناس إلى المبتلى *** و إنما الناس مع العافيه

و قد جفاني ظالما سيّدي *** فأدمعي منهلّة هاميه(1)

صحبي سلوا ربّكم العافيه *** فقد دهتني بعدكم داهيه

الشعر و الغناء لعليّة بنت المهديّ خفيف رمل. و أخبرني ذكاء وجه الرّزّة أن لعريب فيه خفيف رمل آخر مزمورا، و أنّ لحن عليّة مطلق.

كتب إليه إسحاق بجنس صوت فغناه من غير أن يسمعه:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني أبي عن إبراهيم عن عليّ بن هشام أنّ إسحاق كتب إلى إبراهيم بن المهديّ بجنس صوت صنعه و إصبعه و مجراه و إجراء لحنه؛ فغنّاه إبراهيم من غير أن يسمعه فأدّى ما صنعه. و الصوت:

حييّا أمّ يعمرا *** قبل شحط من النّوى

قلت لا تعجلوا الرّوا *** ح فقالوا ألا بلى

أجمع الحيّ رحلة *** ففؤادي كذي الأسى

نسبة هذا الصوت

الشّعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل مطلق في مجرى الوسطى. و ذكر عمرو بن بانة أنه لمالك. و فيه للهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن ابن المكيّ، و زعم الهشاميّ أنه لحن مالك. و فيه/لحنان من الثقيل الثاني أحدهما لإسحاق و هو الذي كتب به إسحاق إلى إبراهيم بن المهدي.

و الآخر زعم الهشامي أنه لإبراهيم، و زعم عبد اللّه بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام أنّه لابن محرز.

أخبرني عمّي قال حدّثني الحسين بن يحيى أبو الجمان: أنّ إسحاق بن إبراهيم لمّا صنع صوته:

قل لمن صدّ عاتبا

اتّصل خبره بإبراهيم بن المهديّ فكتب يسأله عنه؛ فكتب إليه بشعره و إيقاعه و بسيطه و مجراه و إصبعه و تجزئته و أقسامه و مخارج نغمه و مواضع مقاطعه و مقادير أدواره و أوزانه، فغنّاه. قال: ثم لقيني فغنّانيه، ففضلني فيه بحسن صوته.

نسبة هذا الصوت

قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا

قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا

الشعر و الغناء في هذا اللحن لإسحاق، ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها. و فيه لغيره ألحان.

ص: 315


1- في، ب، س، ج: «واهبة».
سمعه أحمد بن أبي داود فذهل عن نفسه و رجع عن إنكاره الغناء:

أخبرني ابن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثني إسحاق بن محمد عن أبيه قال:

سمعت أحمد بن أبي دواد يقول: كنت أعيب الغناء و أطعن على أهله، فخرج المعتصم يوما إلى الشّمّاسيّة في حرّاقة يشرب، و وجّه في طلبي فصرت إليه؛ فلما قربت منه سمعت غناء حيّرني و شغلني عن كلّ شيء، فسقط سوطي من يدي؛ فالتفتّ إلى زنقطة غلامي أطلب منه سوطه، فقال لي: قد و اللّه سقط سوطي. فقلت له:

فأيّ شيء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته شغلني عن كلّ شيء فسقط سوطي من يدي؛ فإذا قصّته قصّتي. قال: و كنت أنكر/أمر الطّرب على/الغناء و ما يستفزّ الناس منه و يغلب على عقولهم، و أناظر المعتصم فيه. فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر؛ فضحك و قال: هذا عمّي كان يغنّيني:

إنّ هذا الطويل من آل حفص *** نشر المجد بعد ما كان ماتا

فإن تبت ممّا كنت تناظرنا عليه في ذمّ الغناء سألته أن يعيده. ففعلت و فعل، و بلغ بي الطّرب أكثر ممّا يبلغني عن غيري فأنكره؛ و رجعت عن رأيي منذ ذلك اليوم. و قد أخبرني بهذا الخبر أبو الحسن عليّ بن هارون بن عليّ بن يحيى المنجّم عن أبيه عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر فذكر هذه القصّة أو قريبا منها لزيادة اللّفظ و نقصانه، و ذكر أنّ الصوت الذي غنّاه إبراهيم:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها *** بيضاء تخلط بالحياء دلالها

هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفّكم أو تسترون هلالها

اتخذ لنفسه حراقة بحذاء داره:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني الحسن بن عليل قال:

سمعت هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ يقول: اتّخذ أبي حرّاقة فأمر بشدّها في الجانب الغربيّ بحذاء داره، فمضيت إليها ليله فكان أبي يخاطبنا من داره بأمره و نهيه، فنسمعه و بيننا عرض دجلة و ما أجهد نفسه.

ثناء ابن أبي ظبية عليه:

أخبرني عمي قال سمعت عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة يقول حدّثني ابن أبي ظبية قال: كنت أسمع إبراهيم بن المهديّ يتنحنح فأطرب.

غنى و عنده عدّة من المغنين و غنّى بعده مخارق فأعاد هو فأطرب:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني القطراني المغنّي عن محمد بن جبر عن عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ قال:

/كنّا عند إبراهيم بن المهديّ ذات يوم و قد دعا كلّ مطرب محسن من المغنّين يومئذ و هو جالس يلاعب أحدهم بالشّطرنج. فترنّم(1) بصوت فريدة:

ص: 316


1- كذا في ج. و في أ: «فترتم بعضهم». و في سائر الأصول: «فترنم أحدهم» و كلاهما تحريف. و في «نهاية الأرب» (ج 4 ص 228. طبع دار الكتب المصرية): «فترنم إبراهيم».

قال لي أحمد و لم يدر ما بي *** أ تحبّ الغداة عتبة حقّا

و هو متّكئ. فلما فرغ منه ترنّم به مخارق فأحسن فيه و أطربنا و زاد على إبراهيم، فأعاده إبراهيم و زاد في صوته فعفّى على غناء مخارق. فلما فرغ ردّه مخارق و غنّى فيه بصوته كلّه و تحفّظ فيه، فكدنا نطير سرورا.

و استوى إبراهيم جالسا و كان متّكئا فغنّاه بصوته كلّه و وفّاه نغمه و شذوره، و نظرت إلى كتفيه تهتزّان و بدنه أجمع يتحرّك حتى فرغ منه، و مخارق شاخص نحوه يرعد و قد انتقع لونه و أصابعه تختلج؛ فخيّل لي و اللّه أنّ الإيوان يسير بنا. فلمّا فرغ منه تقدّم إليه مخارق فقبّل يده و قال: جعلني اللّه فداك أين أنا منك! ثم لم ينتفع مخارق بنفسه بقيّة يومه في غنائه، و اللّه لكأنما كان يتحدث.

نسبة هذا الصوت

قال لي أحمد و لم يدر ما بي *** أ تحبّ الغداة عتبة حقّا

فتنفّست ثم قلت نعم حبّ *** ا جرى في العروق عرقا فعرقا

ما لدمعي عدمته ليس يرقا(1) *** إنما يستهلّ غسقا فغسقا(2)

طربا نحو ظبية تركت قلبي من الوجد قرحة ما تفقّا(3)/الشعر لأبي العتاهية. و الغناء لفريدة خفيف رمل بالوسطى. و فيه لإبراهيم بن المهديّ خفيف رمل آخر.

و لفريدة أيضا لحن من الثقيل الثاني في أبيات من هذه القصيدة و هي:

قد لعمري ملّ الطبيب و ملّ ال *** أهل منّي مما أداوى و أرقى

ليتني متّ فاسترحت فإنّي *** أبدا ما حييت منها ملقّى(4)

غنى الأمين فأطربه:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني عمّي منصور بن المهديّ:

أنه كان عند أبي في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين، فتشاغل أبي بالشّرب في بيته و لم يمض، و أرسل إليه عدّة رسل فتأخّر. قال منصور: فلما كان من غد قال: ينبغي أن تعمل على الرّواح إليّ لنمضي إلى أمير المؤمنين فنترضّاه؛ فما أشكّ في غضبه عليّ. ففعلت و مضينا. فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مشرف على حير(5) الوحش و هو مخمور، و كان من عادته ألاّ يشرب إذا لحقه الخمار. فدخلنا؛ و كان طريقنا على حجرة تصنع فيها الملاهي. فقال لي أخي: اذهب فاختر منها عودا ترضاه، و أصلحه غاية الإصلاح حتى لا تحتاج إلى

ص: 317


1- يرقا: يجف و ينقطع، و أصله الهمز.
2- الغسق: الانصباب؛ يقال: غسقت العين تغسق (من باب ضرب) غسقا و غسقانا إذا دمعت.
3- تفقأ: تنفلق و تنشق، و أصله الهمز.
4- الملقى: الممتحن الذي لا يزال يلقاه مكروه إثر مكروه.
5- الحير: الحظيرة و البستان.

تغييره البتّة عند الضّرب؛ ففعلت و جعلته في كمّي. و دخلنا على الأمين و ظهره إلينا. فلما بصرنا به من بعيد قال:

أخرج عودك فأخرجته، و اندفع يغنيّ:

و كأس شربت على لذّة *** و أخرى تداويت منها بها

لكي يعلم الناس أنّي امرؤ *** أتيت الفتوّة من بابها

/و شاهدنا الجلّ (1) و الياسم *** ين و المسمعات بقصّابها

و بربطنا(2) دائم معمل *** فأيّ الثلاثة أزرى بها

فاستوى الأمين جالسا و طرب طربا شديدا و قال: أحسنت و اللّه يا عمّ و أحييت لي طربا، و دعا برطل فشربه على الرّيق و امتدّ في شربه. قال منصور: و غنّى إبراهيم يومئذ على أشدّ طبقة يتناهى إليها في العود، و ما سمعت مثل غنائه يومئذ قطّ. و لقد رأيت منه شيئا عجيبا لو حدّثت به ما صدّقت، كان إذا ابتدأ يغنّي أصغت الوحش إليه و مدّت أعناقها، و لم تزل تدنو منّا حتى تكاد أن تضع رءوسها على الدّكّان الذي كنّا عليه، فإذا سكت نفرت و بعدت منّا حتى تنتهي إلى أبعد غاية يمكنها التّباعد فيها عنّا، و جعل الأمين يعجب من ذلك، و انصرفنا من الجوائز بما لم ننصرف بمثله قطّ.

كتب له إسحاق بصوت صنعه فغناه و أجاده:

أخبرني عمّي و الصّوليّ قالا حدّثنا الحسين بن يحيى الكاتب أبو الجمان أنّ إسحاق كتب إلى إبراهيم بن المهديّ بصوت صنعه في شعر له و هو:

قل لمن صدّ عاتبا *** و نأي عنك جانبا

قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا

و بيّن له شعره و إيقاعه و بساطه و مجراه و إصبعه و تجزئته و قسمته و مخارج نغمه و مواضع مقاطعه و مقادير أوزانه، فغنّاه إبراهيم، ثم لقيه بعد ذلك فغنّاه إيّاه فما خرم منه شذرة و لا نغمة. قال: و فاقني فيه بحسن صوته.

نسبة هذا الصوت

/

قل لمن صد عاتبا *** و نأى عنك جانبا

قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا

/و اعترفنا بما ادّعي *** ت و إن كنت كاذبا

فافعل الآن ما أرد *** ت فقد جئت تائبا

يقال: إنّ الشعر لإسحاق، و لم أجده في مجموع شعره. و وجدت فيه لحنا لحكم الواديّ في ديوان أغانيه و لحنه من الماخوريّ، و هو خفيف من خفيف(3) الثقيل الثاني بالبنصر. و كذلك ذكرت دنانير أنّه لحكم الواديّ؛

ص: 318


1- انظر شرح هذا البيت مفصلا في «الأغاني» ج 6 ص 299 من هذه الطبعة.
2- البربط: العود، فارسي معرب. و في أ و م: «و إبريقنا دائما معمل».
3- في أ و م: «و هو خفيف من الثقيل الثاني... إلخ».

و يشبه أن يكون الشعر لغيره. و لحن إسحاق الذي كتب به إلى إبراهيم بن المهديّ ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها.

و فيه ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر لم يقع إليّ نسبته إلى صانعه، و أظنّه لحن حكم.

غنى أبا دلف العجلي و أهداه جارية:

أخبرني عمّي قال حدّثنا أبو عبد اللّه المرزبان قال حدّثني إبراهيم بن أبي دلف العجليّ قال:

كنّا مع المعتصم بالقاطول(1)، و كان إبراهيم بن المهديّ في حرّاقته بالجانب الغربيّ و أبي و إسحاق الموصليّ في حرّاقتيهما في الجانب الشرقيّ، فدعاهما يوم جمعة فعبرا إليه في زلال(2) و أنا معهما و أنا صغير و عليّ أقبية و منطقة. فلما دنونا من حرّاقة إبراهيم نهض و نهضنا و نهضت بنهوضه صبيّة له يقال لها غضّة، و إذا في يديه كأسان و في يديها كأس. فلما صعدنا إليه اندفع فغنّى:

حيّا كما اللّه خليليّا *** إن ميّتا كنت و إن حيّا

إن قلتما خيرا فأهل له *** أو قلتما غيّا فلا غيّا

ثم ناول كلاّ منهما كأسا و أخذ هو الكأس التي كانت في يد الجارية و قال: اشربا على ريقكما، ثم دعا بالطعام فأكلوا و شربوا، ثم أخذوا العيدان فغنّاهما ساعة/و غنّياه؛ و ضرب و ضربا معه، و غنّت الجارية بعدهم.

فقال لها أبي: أحسنت مرارا. فقال له: إن كنت أحسنت فخذها إليك، فما أخرجتها إلاّ إليك.

سمع من مخارق لحنا فأطراه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عليّ بن محمد بن نصر قال حدّثني أبو العبيس بن حمدون قال: لمّا صنع مخارق في شعر العتّابي.

أخضنى المقام الغمر إن كان غرّني *** سنا خلّب أو زلّت القدمان

غنّاه إبراهيم بن المهديّ؛ فقال له: أحسنت و حياتي ما شئت! فسجد مخارق سرورا بقول إبراهيم ذلك له.

غنى عمرو بن بانة لحنا و حدّثه حديثه:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني القطرانيّ عن عمرو بن بانة قال: غنّى إبراهيم بن المهديّ يوما:

أدارا بحزوى هجت للعين عبرة *** فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق

فاستحسنته و سألته إعادته عليّ حتى آخذه عنه ففعل. ثم قال لي: إنّ حديث هذا الصوت أحسن منه.

قلت: و ما حديثه أعزّك اللّه؟ قال: غنّانيه ابن جامع و الصنعة فيه له، فلما أخذته عنه غنّيته إيّاه ليسمعه منّي، فاستحسنه جدّا و قال: كأنّي و اللّه ما سمعته قطّ إلاّ منك ثم كان صوته بعد ذلك على نسبة هذا الصوت.

ص: 319


1- القاطول: اسم نهر كأنه مقطوع من دجلة، و هو نهر كان في موضع سامرا قبل أن تعمر، و كان الرشيد أول من حفر هذا النهر و بنى على فوهته قصرا سماه أبا الجند.
2- ظاهر أنه نوع من السفن و لم نقف عليه.
قصته مع ابن بُسخُنَّر و جاريته شارية و مخارق و علوية:

/أخبرني عليّ بن إبراهيم الكاتب قال حدّثنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن خرداذبه قال حدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر قال:

وجّه إليّ إبراهيم بن المهديّ يوما يدعوني، و ذلك في أوّل خلافة المعتصم، فصرت إليه و هو جالس وحده و شارية جاريته خلف السّتارة، فقال: إني قلت شعرا و غنّيت فيه و طرحته على شارية فأخذته و زعمت أنّها أحذق به منّي، و أنا أقول/إني أحذق به منها، و قد تراضينا بك حكما بيننا لموضعك من هذه الصناعة، فاسمعه منّي و منها و احكم و لا تعجل حتى تسمعه ثلاث مرّات. فقلت نعم. فاندفع يغنّي بهذا الصوت:

أضنّ بليلى و هي غير سخيّة *** و تبخل ليلى بالهوى و أجود

فأحسن و أجاد. ثم قال لها: تغنّي، فغنّته فبرّزت فيه حتى كأنه كان معها في أبيجاد، و نظر إليّ فعرف أنّي قد عرفت فضلها عليه، فقال: على رسلك! و تحدّثنا ساعة و شربنا. ثم اندفع فغنّاه ثانية فأضعف في الإحسان، ثم قال لها: تغنّي، فغنّت فبرت و زادت أضعاف زيادته، و كدت أشقّ ثيابي طربا. فقال لي: تثبّت و لا تعجل. ثم غنّاه ثالثة فلم يبق غاية في الإحكام، ثم أمرها فغنّت، فكأنه إنما كان يلعب. ثم قال لي: قل، فقضيت لها؛ فقال: أصبت، فكم تساوي عندك؟ فحملني الحسد له عليها و النّفاسة بمثلها أن قلت: تساوي مائة ألف درهم.

فقال: أ و ما تساوي على هذا الإحسان و هذا التّفضيل إلاّ مائة ألف! قبح اللّه رأيك! و اللّه ما أجد شيئا أبلغ في عقوبتك من أن أصرفك، قم فانصرف إلى منزلك مذموما. فقلت له: ما لقولك اخرج من منزلي جواب، و قمت و انصرفت، و قد أحفظني كلامه و أرمضني(1). فلمّا خطوت خطوات التفتّ إليه فقلت له: يا إبراهيم! أ تطردني من منزلك! فو اللّه ما تحسن أنت و لا جاريتك شيئا. و ضرب الدّهر ضربانه، ثم دعانا المعتصم بعد ذلك و هو بالوزيريّة في قصر التّل(2)، فدخلت أنا و مخارق و علّويه، و إذا أمير المؤمنين مصطبح و بين يديه ثلاث جامات:

جام فضّة مملوءة دنانير جددا، و جام ذهب مملوءة دراهم جددا، و جام قوارير مملوءة عنبرا، فظننّا أنها لنا بل لم نشكّ في ذلك، فغنّيناه و أجهدنا/أنفسنا، فلم يطرب و لم يتحرّك لشيء من غنائنا. و دخل الحاجب فقال:

إبراهيم بن المهديّ. فأذن له فدخل، فغنّاه أصواتا أحسن فيها، ثم غنّاه بصوت من صنعته و هو:

ما بال شمس أبي الخطّاب قد غربت *** يا صاحبيّ أظنّ الساعة اقتربت

فاستحسنه المعتصم و طرب له، و قال: أحسنت و اللّه! فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين فإن كنت أحسنت فهب لي إحدى هذه الجامات؛ فقال: خذ أيّتها شئت، فأخذ التي فيها الدنانير؛ فنظر بعضنا إلى بعض. ثم غنّاه إبراهيم بشعر له و هو:

فما مزّة قهوة قرقف *** شمول تروق براووقها(3)

فقال: أحسنت و اللّه يا عمّ و سررت. فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت أحسنت فهب لي جاما أخرى؛ فقال:

خذ أيّتهما شئت، فأخذ الجام التي فيها الدراهم؛ فعند ذلك انقطع رجاؤنا منها. و غنّاه بعد ساعة:

ص: 320


1- في أ، م: «و أمضني».
2- في ب، س: «قصر الليل».
3- المزة و القهوة و الفرقف و الشمول: من أسماء الخمر. و الراووق: باطية الخمر.

/

ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى *** عشير(1) الذي ألقى فيلتئم الحبّ

فارتجّ بنا المجلس الذي كنا فيه، و طرب المعتصم و استخفّه الطرب فقام على رجليه، ثم جلس فقال:

أحسنت و اللّه يا عمّ ما شئت! قال: فإن كنت قد أحسنت يا أمير المؤمنين فهب لي الجام الثالثة؛ فقال: خذها فأخذها. و قام أمير المؤمنين، و دعا إبراهيم بمنديل فثناه طاقتين و وضع الجامات فيه و شدّه، و دعا بطين فختمه و دفعه إلى غلامه، و نهضنا إلى الانصراف، و قدّمت دوابّنا. فلما ركب إبراهيم التفت إليّ فقال: يا محمد بن الحارث، زعمت أنّي لا أحسن أنا و جاريتي شيئا، و قد رأيت ثمرة الإحسان. فقلت في نفسي: قد رأيت، فخذها لا بارك اللّه لك فيها! و لم أجبه بشيء.

نسبة هذه الأصوات
صوت

ما بال شمس أبي الخطّاب قد غربت *** يا صاحبيّ أظنّ الساعة اقتربت

أم لا فما بال ريح كنت آملها *** غدت عليّ بصرّ(2) بعد ما خبئت

أشكو إليك أبا الخطّاب جارية *** غريرة بفؤادي اليوم قد لعبت

رأيت قيّمها يوما يحدّثها(3) *** يا ليتها قربت منّي و ما بعدت

الشّعر و الغناء لإبراهيم بن المهديّ رمل بالبنصر. و فيه هزج بالبنصر، ذكر عمرو بن بانة أنه لإبراهيم الموصليّ، و ذكر غيره أنه لإبراهيم بن المهديّ.

صوت

ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى *** عشير الذي ألقى فيلتئم الحبّ

وصالكم صدّ و قربكم قلى *** و عطفكم سخط و سلمكم حرب

الشعر للعبّاس بن الأحنف. و الغناء لإبراهيم.

شعره في باقة نرجس غنى به المعتصم:
اشارة

و قال ابن أبي طاهر حدّثني المؤمّل بن جعفر قال: سمعت أبي يقول: كانت في يد المعتصم باقة نرجس فقال لإبراهيم بن المهديّ: يا عمّ قل فيها أبياتا و غنّ فيها. فنكت في الأرض بقضيب في يده هنيهة ثم قال:

صوت

ثلاث عيون من النّرجس *** على قائم أخضر أملس

يذكّرنني طيب ريّا الحبيب *** فيمنعنني لذّة المجلس

ص: 321


1- العشير: جزء من عشرة كالعشر.
2- ريح صر: شديدة الصوت و البرد.
3- كذا في أ، م و في ج: «و النأي عندكم». و في سائر النسخ: «و الشوق يغلبني».

و صنع فيه لحنا و غنّاه به، فأعجبه و أمر له بجائزة. لحن إبراهيم في هذين البيتين خفيف رمل بالبنصر، ذكر لي ذكاء و غيره ذلك.

غضب عليه المأمون و سجنه فاستعطفه حتى عفا عنه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد النّحوي عن الجاحظ، و أخبرني به محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا يموت بن المزرّع عن الجاحظ قال:

أرسل إليّ ثمامة(1) يوم جلس المأمون لإبراهيم بن المهديّ و أمر بإحضار الناس على مراتبهم فحضروا فجيء بإبراهيم، و أخبرني عمّي قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثني محمد بن عمرو الأنباريّ من أبناء خراسان قال:

لمّا ظفر المأمون بإبراهيم بن/المهديّ أحبّ أن يوبّخه على رءوس الناس. قال: فجيء بابراهيم يحجل في قيوده، فوقف على طرف الإيوان و قال:(2): السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته. فقال له المأمون: لا سلّم اللّه عليك و لا حفظك و لا رعاك و لا كلأك يا إبراهيم. فقال له إبراهيم: على رسلك يا أمير المؤمنين! فلقد أصبحت وليّ ثأري، و القدرة تذهب الحفيظة، و من مدّ له الاغترار في الأمل هجمت به الأناة على التّلف. و قد أصبح ذنبي فوق كلّ ذنب، كما أنّ عفوك فوق كلّ عفو - و قال الحسن بن عليل في خبره: و قد أصبحت فوق كلّ ذي ذنب، كما أصبح كلّ ذي عفو دونك - فإن تعاقب فبحقّك، و إن تعف فبفضلك. قال:

فأطرق مليّا ثم رفع رأسه فقال: إنّ هذين أشارا عليّ بقتلك. فالتفت فإذا المعتصم و العبّاس بن المأمون، فقال:

يا أمير المؤمنين، أمّا حقيقة الرأي في معظم تدبير الخلافة و السياسة فقد أشارا عليك به و ما غشّاك إذ كان ما كان منّي، و لكنّ اللّه عوّدك من العفو عادة جريت عليها دافعا ما تخاف بما ترجو، فكفاك اللّه. فتبسّم المأمون و أقبل على ثمامة ثم قال: إنّ من الكلام ما يفوق الدرّ و يغلب السّحر، و إن كلام عمّي منه، أطلقوا عن عمّي/حديده و ردّوه إليّ مكرّما. فلما ردّ إليه قال: يا عمّ صر إلى المنادمة و ارجع إلى الأنس، فلن ترى منّي أبدا إلاّ ما تحبّ.

فلمّا كان من الغد بعث إليه بدرج(3) فيه:

يا خير من ذملت يمانية به *** بعد الرسول لآيس أو طامع

و أبرّ من عبد الإله على الهدى *** نفسا و أحكمه بحقّ صادع

عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج *** فالموت في جرع السّمام النّاقع(4)

متيقّظا حذرا و ما يخشى العدا *** نبهان من وسنات ليل الهاجع

و اللّه يعلم ما أقول فإنها *** جهد الأليّة من حنيف راكع

ص: 322


1- ثمامة: هو ثمامة بن أشرس أبو معن النميري أحد المعتزلة البصريين، ورد بغداد و اتصل بهارون الرشيد و غيره من الخلفاء، و له أخبار و نوادر يحكيها عنه أبو عثمان الجاحظ و غيره. (انظر «تاريخ بغداد» ج 7 ص 145).
2- انظر في هذا المقام الطبري ق 3 ص 1076 طبع أوربا و «تاريخ بغداد» ج 6 ص 144 طبع مصر.
3- الدرج (بالفتح و يحرّك): ما يكتب فيه.
4- رواية الطبري: فالصاب يمزج بالسمام الناقع

قسما و ما أدلي إليك بحجّة *** إلاّ التّضرّع من محبّ خاشع

ما إن عصيتك و الغواة تمدّني *** أسبابها إلاّ بنيّة طائع

حتى إذا علقت حبائل شقوتي *** بردى على حفر المهالك هائع(1)

لم أدر أنّ لمثل ذنبي غافرا *** فأقمت أرقب أيّ حتف صارعي

ردّ الحياة إليّ بعد ذهابها *** ورع الإمام القاهر المتواضع

أحياك من ولاّك أطول مدّة *** و رمى عدوّك في الوتين بقاطع

إنّ الذي قسم الفضائل(2) حازها *** في صلب آدم للإمام السابع

كم من يد لك لا تحدّثني بها *** نفسي إذا آلت إليّ مطامعي

أسديتها عفوا إليّ هنيئة *** فشكرت مصطنعا لأكرم صانع

و رحمت أطفالا كأفراخ القطا *** و عويل عانسة كقوس النّازع

و عفوت عمّن لم يكن عن مثله *** عفو و لم يشفع إليك بشافع

إلاّ العلوّ عن العقوبة بعد ما *** ظفرت يداك بمستكين خاضع

/قال: فبكى المأمون ثم قال: عليّ به، فأتي به فخلع عليه و حمله و أمر له بخمسة آلاف دينار، و دعا بالفرّاش فقال له: إذا رأيت عمّي مقبلا فاطرح له تكأة، فكان ينادمه و لا ينكر عليه شيئا. و روي بعض هذا الخبر عن محمد بن الفضل الهاشميّ فقال فيه: لمّا فرغ المأمون من خطابه دفعه إلى ابن أبي خالد(3) الأحول و قال:

هو صديقك فخذه إليك. فقال: و ما تغني صداقتي عنه و أمير المؤمنين ساخط عليه! أما إنّي و إن كنت له صديقا لا أمتنع من قول الحقّ فيه. فقال له: قل فإنّك غير متّهم. قال و هو يريد التّسلّق على العفو عنه(4): إن قتلته فقد قتلت الملوك قبلك أقلّ جرما منه، و إن عفوت عنه عفوت عمّن لم يعف قبلك عن مثله. فسكت المأمون ساعة ثم تمثّل:

فلئن عفوت لأعفون جللا *** و لئن سطوت لأوهنن عظمي(5)

قومي هم قتلوا أميم أخي *** فإذا رميت أصابني سهمي

خذه يا أحمد إليك مكرّما، فانصرف به. ثم كتب إلى المأمون قصيدته العينيّة. فلمّا قرأها رقّ له و أمر بردّه إلى منزله(6) و ردّ ما قبض منه من أمواله و أملاكه. و في خبر عمّي عن الحسن بن عليل قال: حدّثني محمد بن إسحاق الأشعريّ عن أبي داود: أن المأمون تقدّم إلى محمد بن مزداد لمّا أطلق إبراهيم أن يمنعه داري الخاصّة

ص: 323


1- الهائع هنا: المنتشر.
2- في الطبري: «الخلافة».
3- هو أحمد بن أبي خالد الأحول أحد رجالات المأمون و موضع ثقته. (انظر الطبري ق 3 ص 1038، 1042، 1064، 1065، 1075).
4- في الأصول: «قال و هو يريد التسلق على العفو عنه فقال... إلخ» و كلمة «فقال» لا موضع لها في الكلام.
5- هذا شعر الحارث بن وعلة الذهلي. (انظر «أشعار الحماسة» ص 96 طبع أوربا).
6- لعله: «منزلته».

و العامّة، و يوكّل به رجلا من قبله يثق به ليعرّفه أخباره و ما يتكلّم به. فكتب إليه الموكّل به أنّ إبراهيم لمّا بلغه منعه من داري الخاصّة و العامّة تمثّل:

يا سرحة الماء قد سدّت موارده *** أما إليك طريق غير مسدود(1)

/لحائم حام حتى لا حيام له *** محلّأ عن طريق الماء مطرود

فلما قرأها المأمون بكى و أمر بإحضاره من وقته مكرّما و إنزاله في مرتبته؛ فصار إليه محمد فبشّره بذلك و أمره بالرّكوب فركب. فلما دخل على المأمون قبّل البساط ثم قال:

البرّ بي منك وطّا العذر عندك لي *** دون اعتذاري فلم تعذل و لم تلم

و قام علمك بي فاحتجّ عندك لي *** مقام شاهد عدل غير متّهم

رددت مالي و لم تمنن عليّ به *** و قبل ردّك مالي قد حقنت دمي

تعفو بعدل و تسطو إن سطوت به *** فلا عدمناك من عاف و منتقم

فبؤت منك و قد كافأتها بيد *** هي الحياتان من موت و من عدم

فقال له: اجلس يا عمّ آمنا مطمئنّا، فلن ترى أبدا منّي ما تكره، إلا أن تحدث حدثا أو تتغيّر عن طاعة؛ و أرجو ألاّ يكون ذلك منك إن شاء اللّه.

بذ أحمد بن يوسف الكاتب في حسن المحاضرة:

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ابن حمدون عن أبيه قال:

كنت أحبّ أن أجمع بين إبراهيم بن المهدي و أحمد بن يوسف الكاتب بما كنت أراه من تقدّم أحمد و غلبته الناس جميعا بحفظه و بلاغته و أدبه في كل محضر و مجلس. فدخلت يوما على إبراهيم بن المهديّ و عنده أحمد بن يوسف و أبو العالية الخزريّ، فجعل إبراهيم يحدّثنا فيضيف شيئا إلى شيء، مرّة يضحكنا و مرّة يعظنا /و مرّة ينشدنا و مرة يذكّرنا، و أحمد بن يوسف ساكت. فلما طال بنا المجلس أردت أن أخاطب أحمد، فسبقني إليه أبو العالية فقال:

مالك لا تبح يا كلب الدّوم *** قد كنت نبّاحا فمالك اليوم

فتبسّم إبراهيم ثم قال: لو رأيتني في يد جعفر بن يحيى لرحمتني كما رحمت أحمد منّي.

أثنى عليه إسحاق:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال قال لي إسحاق: ليس فيمن يدّعي العلم بالغناء مثل إبراهيم بن المهديّ و أبي دلف القاسم بن عيسى العجليّ. فقيل له: فأين محمد بن الحسن بن مصعب منهما؟ فقال: لو قيل لك إن محمد بن الحسن يبصر الغناء لكان ينبغي لك أن تقول: و كيف يبصر الغناء من نشأ بخراسان لا يسمع من الغناء العربيّ إلاّ ما لا يفهمه!.

ص: 324


1- هذا الشعر لإسحاق الموصلي.
إقرار ابن بانة له و لإسحاق بالعلو في فن الغناء:

أخبرني يحيى قال حدّثني أبو العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال:

رأيت إسحاق الموصليّ يناظر إبراهيم بن المهديّ في الغناء، فتكلّما فيه بما فهماه و لم نفهم منه شيئا.

فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء ما نحن منه في قليل و لا كثير.

فضل المأمون غناءه على غناء إسحاق في شعر للأخطل:

أخبرني عمّي عن عليّ بن محمد بن نصر عن جدّه حمدون: أنّ المأمون قال لإسحاق: غنّني لحنك في شعر الأخطل:

يا قلّ خير الغواني كيف رغن به *** فشربه و شل منهنّ تصريد(1)

فغنّاه إيّاه فاستحسنه، ثم قال لإبراهيم بن المهديّ: هل صنعت في هذا الشعر شيئا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: فهاته؛ فغنّاه فاستحسنه المأمون و قدّمه على صنعة إسحاق، و لم يدفع إسحاق ذلك.

علمه إسحاق لحنا فطرب له الأمين و قصة ذلك:

أخبرني أبو الحسن عليّ بن هارون بن عليّ بن يحيى الموصليّ قال ذكر أبي عن جدّي عن عبد اللّه بن عيسى الماهانيّ قال:

دخلت يوما على إسحاق بن إبراهيم الموصليّ في حاجة، فرأيت عليه مطرف خزّ أسود ما رأيت قطّ أحسن منه؛ فتحدّثنا إلى أن أخذنا في أمر المطرف فقال: لقد كانت/لكم أيّام حسنة و دولة عجيبة، فكيف ترى هذا؟ فقلت له: ما رأيت مثله. فقال: إن قيمته مائة ألف درهم، و له حديث عجيب. فقلت له: ما أقوّمه إلاّ نحوا من مائة دينار. فقال إسحاق: اسمع حديثه: شربنا يوما من الأيّام، فبتّ و أنا مثخن، فانتبهت لرسول محمد الأمين، فدخل عليّ فقال لي: يقول لك أمير المؤمنين عجّل إليّ - و كان بخيلا على الطعام فكنت آكل قبل أن أذهب إليه - فقمت فتسوّكت و أصلحت أمري، و أعجلني الرسول عن الغداء. فدخلت عليه و إبراهيم بن المهديّ جالس عن يمينه و عليه هذا المطرف و جبّة خزّ دكناء. فقال لي محمد: يا إسحاق تغدّيت؟ فقلت: نعم يا سيّدي. فقال:

إنّك لنهم، أ هذا وقت غداء! فقلت: أصبحت يا أمير المؤمنين و بي خمار، فكان ذلك ممّا حداني(2) على الأكل.

فقال لهم: كم شربنا؟ فقالوا: ثلاثة أرطال. فقال: اسقوه مثلها. فقلت: إن رأيت أن تفرّقها عليّ! فقال: تسقى رطلين و رطلا. فدفع إليّ رطلان فجعلت أشربهما و أنا أتوهّم أنّ نفسي تسيل معهما، ثم دفع إليّ رطل آخر فشربته فكأنّ شيئا انجلى عنّي. فقال غنّني:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدّم

فغنّيته؛ فقال: أحسنت و طرب، ثم قام فدخل. و كان يفعل ذلك كثيرا، يدخل إلى النساء/و يدعنا.

فقمت في أثر قيامه فدعوت غلاما لي فقلت: اذهب إلى منزلي و جئني

ص: 325


1- كذا في «ديوان الأخطل» (طبع المطبعة الكاثوليكية ببيروت سنة 1891 م). و في الأصول: «لشربة». و الشرب (بالكسر) هنا: الحظ من الماء. و الوشل هنا: القليل. و التصريد: السقي دون الري. يريد بهذا الشطر أن حظه منهن قليل.
2- كذا في ج. و في سائر الأصول: «جرأني».

ببزماوردتين(1) و لفّهما في منديل و اذهب ركضا و عجّل. فمضى الغلام فجاءني بهما. فلما وافى الباب و نزل عن الدّابة انقطع البرذون فنفق من شدّة ما ركضه، فأدخل إليّ البزماوردتين فأكلتهما و رجعت إليّ نفسي و عدت الى مجلسي. فقال/لي إبراهيم: إن لي إليك حاجة أحبّ أن تقضيها لي. فقلت: إنما أنا عبدك و ابن عبدك، قل ما شئت. قال: تردّ عليّ:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا

و هذا المطرف لك. فقلت: أنا لا آخذ منك مطرفا على هذا، و لكنّي أصير إليك إلى منزلك فألقيه على الجواري و أردّه عليك مرارا. فقال: أحبّ أن تردّه عليّ الساعة و أن تأخذ هذا المطرف فإنه من لبسك و من حاله كذا و كذا.

فرددت عليه الصوت مرارا حتى أخذه. ثم سمعنا حركة محمد فقمنا حتى جاء فجلس ثم قعدنا، فشرب و تحدّثنا. فغنّاه إبراهيم:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا

فكأنّي و اللّه لم أسمعه قبل ذلك حسنا، و طرب محمد طربا عجيبا و قال: أحسنت و اللّه يا عمّ! أعط يا غلام عشر بدر لعمّي الساعة، فجاءوا بها. فقال: يا أمير المؤمنين إنّ لي فيها شريكا. قال: و من هو؟ قال: إسحاق. قال:

و كيف؟ قال: إنما أخذته الساعة منه لمّا قمت. فقلت له: و لم! أضاقت الأموال على أمير المؤمنين حتى يشركك فيما تعطاه! قال: أمّا أنا فأشركك و أمير المؤمنين أعلم. فلما انصرفنا من المجلس أعطاني ثلاثين ألفا و أعطاني هذا المطرف. فهذا أخذ به مائة ألف درهم و هي قيمته.

حج مع الرشيد و قصته مع جارية رآها:
اشارة

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال قال لي إبراهيم بن المهديّ:

حججت مع الرشيد؛ فلما صرنا بالمدينة خرجت أدور في عرصاتها، فانتهيت إلى بئر و قد عطشت و جارية تستقي منها، فقلت: يا جارية، امتحي لي دلوا. فقالت: أنا و اللّه عنك في شغل بضريبة مواليّ عليّ. فنقرت بسوطي على سرجي و غنّيت:

صوت

رام قلبي السّلوّ عن أسماء *** و تعزّى و ما به من عزاء

سخنة في الشتاء باردة الصي *** ف سراج في الليلة الظلماء

كفّناني إن متّ في درع أروى *** و امتحالي من بئر عروة مائي

- الشّعر للأحوص. و الغناء لمعبد رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق - و تمام هذه الأبيات:

إنّني و الذي تحجّ قريش *** بيته سالكين نقب كداء(2)

لملمّ بها و إن أبت منها *** صادرا كالذي وردت بداء

ص: 326


1- البزماورد: طعام يسمى «لقمة القاضي» و «فخذ الست» و «لقمة الخليفة»، و هو مصنوع من اللحم المقلي بالزبد و البيض. (انظر كتاب «التاج» للجاحظ ص 173 هامشة 3).
2- كداء بأعلى مكة عند المحصب.

و لها مربع ببرقة خاخ(1) *** و مصيف بالقصر قصر قباء

قلبت لي ظهر المجنّ فأمست *** قد أطاعت مقالة الأعداء

و لمعبد أيضا في البيت الأخير من هذه الأبيات ثم الأوّل و الثاني خفيف ثقيل عن الهشاميّ. و لابن سريج في:

و لها مربع ببرقة خاخ

و كفّناني إن متّ في درع أروى

رمل عن الهشاميّ أيضا. و لإبراهيم في: «رام قلبي» و ما بعده ثاني ثقيل عن حبش - قال إبراهيم/بن المهدي في الخبر: فرفعت الجارية رأسها إليّ فقالت: أ تعرف بئر عروة؟ قلت لا. قالت: هذه و اللّه بئر عروة، ثم سقتني حتى رويت، و قالت: إن رأيت أن تعيده ففعلت، فطربت و قالت: و اللّه لأحملنّ قربة إلى رحلك!. فقلت: افعلي، ففعلت و جاءت معي تحملها. فلما رأت الجيش و الخدم فزعت. فقلت/لها: لا بأس عليك! و كسوتها و وهبت لها دنانير و حبستها عندي، ثم صرت إلى الرشيد فحدّثته حديثها؛ فأمر بابتياعها و عتقها؛ فما برحت حتى اشتريت و أعتقت، و أخذت لها منه صلة و افترقنا.

حواره مع المأمون حين استعطفه بكلام سعيد بن العاص لمعاوية:

حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش و محمد بن خلف بن المرزبان قالا حدّثنا محمد بن يزيد النّحويّ قال حدّثنا الفضل بن مروان قال:

لمّا أدخل إبراهيم بن المهديّ على المأمون و قد ظفر به، كلّمه إبراهيم بكلام كان سعيد بن العاص كلّم به معاوية بن أبي سفيان في سخطة سخطها عليه و استعطفه به. و كان المأمون يحفظ الكلام، فقال له المأمون:

هيهات يا إبراهيم! هذا كلام سبقك به فحل بني العاص بن أميّة و قارحهم سعيد بن العاص و خاطب به معاوية.

فقال له إبراهيم(2): مه يا أمير المؤمنين؟! و أنت أيضا إن عفوت فقد سبقك فحل بني حرب و قارحهم إلى.

العفو، فلا تكن حالي عندك في ذلك أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنّك أشرف منه، و أنا أشرف من سعيد، و أنا أقرب إليك من سعيد إلى(3) معاوية، و إن أعظم الهجنة أن تسبق أميّة هاشما إلى مكرمة. فقال: صدقت يا عمّ، و قد عفوت عنك.

غضب عليه الأمين فاستعطفه:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

جرى بين محمد الأمين و بين إبراهيم بن المهديّ كلام على النّبيذ، فوجد عليه محمد. فلمّا كان بعد أيام بعث إليه إبراهيم بألطاف فلم يقبلها؛ فوجّه إليه وصيفة مليحة مغنيّة معها عود معمول من عود هنديّ، و قال هذه الأبيات و غنّى فيها و ألقاها عليها حتى أخذت الصنعة و أحكمتها، ثم وجّه بها إليه. فوقفت الجارية بين يديه

ص: 327


1- برقة خاخ: قرب المدينة، و كذلك قباء.
2- في ب، س: «فقال له إبراهيم فكان مه يا أمير المؤمنين» و كلمة «فكان» لا موقع لها في الكلام.
3- كذا في ح. و في سائر النسخ: «عند».

و قالت له: عمّك و عبدك يا أمير المؤمنين يقول لك - و اندفعت تغنّي بالشعر و هو -:

هتكت الضمير بردّ اللّطف *** و كشّفت هجرك لي فانكشف

/و إن كنت تنكر شيئا جرى *** فهب للخلافة ما قد سلف

وجد لي بصفحك عن زلّتي *** فبالفضل يأخذ أهل الشرف

قال: فسرّ محمد بها، و بعث إلى إبراهيم فأحضره و رضى عنه و أمر له بخمسة آلاف دينار و تمّم يومه معه.

صالح جاريته صدوف:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني سعيد بن صالح الأسديّ قال حدّثني جعفر بن محمد الهاشميّ قال حدّثني بعض خدم إبراهيم بن المهديّ قال:

كانت لإبراهيم بن المهديّ جارية يقال لها صدوف، و كان لها من نفسه موضع. فحسدها جواريه على محلّها منه، فلم يزلن يبلغنه عنها ما يكره حتى غضب عليها و جفاها أياما؛ ثم شقّ ذلك عليه و اغتمّ به، و لم يطب نفسا بمراجعتها و صلحها. فدخل عليه الأعرابيّ أخو معلّلة صاحبة الفضل بن الربيع، و كان حسن الشّعر حلو اللفظ فصيحا، و كان إبراهيم يأنس به، فقال له: ما لي أرى الأمير منكسرا منذ أيّام؟ فأمسك. فقال: قد عرفت حال الأمير و قلت في/أمره أبياتا إن أذن لي أنشدته إيّاها. فتبسّم و قال: هات؛ فأنشده:

أعتبت أم عتبت عليك صدوف *** و عتاب مثلك مثلها تشريف

لا تقعدنّ تلوم نفسك دائبا *** فيها و أنت بحبّها مشغوف

إن الصّريمة لا ينوء بحملها *** إلاّ القويّ بها و أنت ضعيف

فاستحسن إبراهيم الأبيات و أمر له بمائتي دينار، و بعث إلى صدوف فخرجت إليه و رضي عنها، و بعثت إليه صدوف بمائة دينار.

قيل له تب و أحرق دفاتر الغناء فقال ريق تحفظ كل غنائي:

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني أحمد بن عليّ بن حميدة قال حدّثتني ريّق قالت:

/مرض إبراهيم بن المهديّ مرضة أشرف منها على الموت، فجعل يتذكّر شغفه بالغناء و ما سلف له فيه و يتندّم عليه. فقال له بعض من حضر: فتب و أحرق دفاتر الغناء. فحرّك رأسه ساعة ثم قال: يا مجانين! فهبني أحرقت دفاتر الغناء كلّها، ريّق أيش أعمل بها؟ أ أقتلها و هي تحفظ كلّ شيء في دفاتر الغناء!!

رأى عليا في النوم:

أخبرني جعفر بن قدامة و الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني المبرّد عن أحمد بن الربيع عن إبراهيم بن المهديّ قال:

رأيت عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه في النوم، فقلت له: إن الناس قد أكثروا فيك و في أبي بكر و عمر، فما عندك في ذلك؟ فقال لي: إخسأ! و لم يزدني على ذلك. و أخبرني الكوكبيّ بهذا الخبر عن الفضل بن الرّبيع عن أبيه قال:

ص: 328

كان إبراهيم شديد الانحراف عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه؛ فحدّث المأمون يوما أنه رأى عليّا في النوم، فقال له: من أنت؟ فأخبره أنه عليّ بن أبي طالب. قال: فمشينا حتى جئنا قنطرة فذهب يتقدّمني لعبورها؛ فأمسكته و قلت له: إنما أنت رجل تدّعي هذا الأمر بامرأة و نحن أحقّ به منك! فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يوصف عنه. فقال: و أيّ شيء قال لك؟ فقال: ما زادني على أن قال سلاما سلاما. فقال له المأمون: قد و اللّه أجابك أبلغ جواب. قال: و كيف؟ قال: عرّفك أنك جاهل لا يجاوب مثلك؛ قال اللّه عز و جل: وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ الْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلاٰماً . فخجل إبراهيم و قال: ليتني لم أحدّثك بهذا الحديث.

تمنى له الأمين طول العمر:

أخبرني الكوكبيّ قال حدّثني المفضّل بن سلمة عن هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه قال:

قلت للأمين يوما: يا أمير المؤمنين جعلني اللّه فداءك! فقال: بل جعلني اللّه فداءك؛ فأعظمت ذلك. فقال:

يا عمّ لا تعظمه فإنّ لي عمرا لا يزيد و لا ينقص؛ /فحياتي مع الأحبّة أطيب من تجرّعي فقدهم، و ليس يضرّني عيش من عاش بعدي منهم.

غنى للأمين لحنا فطرب و طلب إليه أن يلقنه إحدى جواريه، و قصة ذلك:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني أبي قال: كنت يوما بين يدي الأمين أغنّيه؛ فغنّيته:

صوت

أقوت منازل بالهضاب *** من آل هند و الرّباب

خطّارة بزمامها *** و إذا ونت ذلل(1) الرّكاب

ترمي الحصاء بمناسم *** صمّ صلادمة صلاب

قال: فاستحسن اللّحن و سألني عن صانعه؛ فعرّفته أن ابن جامع حدّثني عن سياط أنه لآبن/عائشة؛ فلم يزل يشرب عليه لا يتجاوزه، ثم انصرفنا ليلتنا تلك. و وافاني رسوله حين انتبهت من النوم و أنا أستاك، فقال لي:

يقول لك: بحياتي يا عمّ لا تشتغل بعد الصلاة بشيء غير الركوب إليّ. فصلّيت و تناولت طعاما خفيفا و أنا ألبس ثيابي خوفا من رجوع رسوله، و ركبت إليه. فلما رآني من بعيد صاح بي: يا عمّ بحياتي:

خطّارة بزمامها

فلمّا دخلت المجلس ابتدأته و غنّيته؛ فأمر بإحضار صبيّة كان يتحظّاها، فأخرجت إليّ صبيّة كأنها لؤلؤة في يدها العود. فقال: بحياتي يا عمّ ألقه عليها! فأعدته مرارا و هو يشرب؛ حتى إذا ظننت أنها قد أخذته أمرتها أن تغنّيه فغنّته، فإذا هو قد استوى لها إلاّ في موضع كان فيه و كان صعبا جدّا فجهدت جهدي أن يقع لها طلبا لمسرّته، و كان حقيقا منّي بذلك، فلم يقع لها البتّة. و رأى جهدي في أمرها و تعذّره عليها، فأقبل عليها/و قد سكر ثم قال: نفيت من الرشيد و كلّ أمة لي حرّة و عليّ عهد اللّه لئن لم تأخذيه في المرّة الثالثة لآمرنّ بالقائك في دجلة!

ص: 329


1- ذلل: جمع ذلول و هو السهل المنقاد من الناس و الدواب، الذكر و الأنثى فيه سواء.

قال: و دجلة تطفح و بيننا و بينها نحو ذراعين و ذلك في الربيع، فتأمّلت القصّة، فإذا هو قد سكر، و إذا الجارية لا تقوله كما أقوله أبدا. فقلت: هذه و اللّه داهية، و يتنغّص عليه يومه و أشرك في دمها، فعدلت عمّا كنت أغنّيه عليه و تركت ما كنت أقوله، و غنّيته كما كانت هي تقوله، و جعلت أردّده حتى انقضت ثلاث مرّات أعيده فيها على ما كانت هي تقوله، و أريته أنّى أجتهد. فلما انقضت الثلاث المرّات قلت لها: هاتيه الآن، فغنّته على ما كان وقع لها. فقلت: أحسنت يا أمير المؤمنين، و ردّدته معها ثلاث مرّات، فطابت نفسه و سكن، و أمر لي بثلاثين ألف درهم.

حدث لجحظة مع طرخان ما حدث له هو مع الأمين:

قال جحظة: و قد لحقني مثل هذا؛ فإنّ طرخان(1) بن محمد بن إسحاق بن كنداجيق استحسن صوتا غنّيته و هو:

أعياني الشّادن الرّبيب *** أكتب أشكو فلا يجيب

من أين أبغي شفاء دائي *** و إنما دائي الطّبيب

- و لحنه رمل - فقال: أحبّ أن تطرحه على زهرة جاريتي، فمكثت أتردّد إليها شهرا و أكثر و أردّده عليها و هو يصلني و يخلع عليّ و يعطيني كلّ شيء حسن يكون في مجلسه، فلا تأخذه منّي و لا يقع لها. فلمّا كان بعد شهر قلت له: أيّها الأمير قد و اللّه استحييت من كثرة ما تعطيني بسبب هذا الصوت، و قد أعياني أن تأخذه زهرة؛ ثم حدّثته حديث إبراهيم بن المهديّ و قلت له: لو لا أني آمنك عليها لقلته أنا كما تقوله هي حتى نتخلّص جميعا.

و ليس و حياتك تأخذه أبدا كما أقوله و لا فيه حيلة. فقال لي: فدعه إذا.

غنى بحضرة المأمون لحنا و أراد ابن بُسخُنَّر أن يأخذه عنه فضلله:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم قال حدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر قال:

غنّى إبراهيم بن المهديّ يوما بحضرة المأمون:

صوت

يا صاح يا ذا الضّامر العنس *** و الرّحل ذي الأنساع و الحلس

أمّا النّهار فأنت تقطعه *** رتكا و تصبح مثل ما تمسي

- في هذين البيتين لحن لمالك خفيف ثقيل عن يونس و الهشاميّ. قال: و لمعبد فيه ثقيل أوّل، /و قد نسب قوم لحن كلّ واحد منهما إلى الآخر. قال محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر في الخبر: و اللحن لمالك بن أبي السّمح و هو من قصاره. هكذا في الخبر - قال: فاستحسنه المأمون، و ذهبت آخذه، ففطن لي إبراهيم فجعل يزيد فيه مرّة و ينقص منه أخرى بزوائده التي كان يعملها في الغناء، و علمت ما هو يصنع فتركته. فلمّا قام قلت للمأمون: يا سيّدي إن رأيت أن تأمر إبراهيم أن يلقي عليّ:

يا صاح يا ذا الضّامر العنس

ص: 330


1- كان من الأمراء. (انظر الكلام عليه في «صلة تاريخ الطبري» ص 63).

قال: أفعل. فلما عاد قال له: يا إبراهيم ألق على محمد:

يا صاح يا ذا الضّامر العنس

فألقاه عليّ كما كان يغنّيه مغيّرا، ثم انقضى المجلس و سكر المأمون. فقال لي إبراهيم: قم الآن فأنت أحذق الناس به، فخرجت و خرج. ثم جئته إلى منزله فقلت له: ما في الأرض أعجب منك! أنت ابن الخليفة و أخو الخليفة و عمّ الخليفة تبخل على وليّ لك مثلي لا يفاخرك بالغناء و لا يكاثرك بصوت!! فقال لي: يا محمد ما في الدنيا أضعف عقلا منك! و اللّه ما استبقاني المأمون محبّة لي و لا صلة لرحمي، و لكنه سمع من هذا الجرم شيئا فقده من سواه فاستبقاني لذلك. فغاظني فعله. فلما دخلت/على المأمون حدّثته بما قال لي. فقال المأمون: يا محمد هذا أكفر الناس لنعمة! و أطرق مليّا ثم قال لي: لا نكدّر على أبي إسحاق عفونا عنه و لانقطع رحمه، فدع هذا الصوت الذي ضنّ به عليك إلى لعنة اللّه.

قال بيتا يكيد به لدعبل:

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن يزيد قال:

قلت لدعبل: باللّه أسألك أنت القائل:

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة *** إذا حسبوا يوما و ثامنهم كلب

فقال: لا و اللّه! فقلت: من قاله؟ قال: من حشا اللّه قبره نارا إبراهيم بن المهديّ، كافأني بذلك عن هجائي إيّاه ليشيط(1) بدمي.

خطأ مخارقا في لحن غناه للمأمون ثم لقنه إياه على وجهه:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر قال:

لمّا رضي المأمون عن إبراهيم بن المهديّ و نادمه، دخل عليه متبذّلا في ثياب المغنّين و زيّهم. فلما رآه و ضحك و قال: نزع عمّي ثياب الكبر عن منكبيه. فدخل و جلس، و أمر المأمون بأن يخلع عليه فألبس الخلع. ثم ابتدأ مخارق فغنّى:

صوت

خليليّ من كعب أ لمّا هديتما *** بزينب لا يفقد كما أبدا كعب

من اليوم زوارها فإنّ مطيّنا *** غداة غد عنها و عن أهلها نكب(2)

فقال له إبراهيم: أسأت و أخطأت. فقال له المأمون: يا عمّ إن كان أساء و أخطأ فأحسن أنت. فغنّى إبراهيم الصوت. فلمّا فرغ منه قال لمخارق: أعده الآن، فأعاده فأحسن. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين كم بين الصوت الآن و بينه في أوّل الأمر؟ /قال: ما أبعد ما بينهما! فالتفت إلى مخارق ثم قال: إنما مثلك يا مخارق مثل الثوب الوشي الفاخر، إذا تغافل عنه أهله سقط عليه الغبار فحال لونه، فإذا نفض عاد إلى جوهره.

ص: 331


1- أشاط دمه و بدمه: أذهبه.
2- نكب: مائلات، واحدها أنكب و نكباء.
سأله الرشيد عن أحسن الأسماء و أسمجها فأجابه:

أخبرني جعفر بن قدامة(1) قال حدّثتني شارية الكبرى مولاة إبراهيم بن المهديّ قالت: سمعت مولاي إبراهيم بن المهديّ يحدّث قال:

كنت بين يدي الرشيد جالسا على طرف حرّاقة من حرّاقاته و هو يريد الموصل/و قد بلغنا إلى السودقانية(2)، و المدّادون يمدّون السفن، و الشّطرنج بيني و بينه، و الدّست متوجّه له، إذ أطرق هنيهة ثم قال لي:

يا ابن أمّ، ما أحسن الأسماء عندك؟ قلت: محمد اسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. قال: ثم أيّ شيء بعده؟ قلت: هارون اسم أمير المؤمنين. قال: فما أسمج الأسماء؟ قلت: إبراهيم. فزجرني ثم قال: ويحك! أ تقول هذا! أ ليس هو اسم إبراهيم خليل الرحمن! فقلت له: بشؤم هذا الاسم لقي من نمرود ما لقي و طرح في النار. قال: فإبراهيم ابن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم؟ قلت: لا جرم أنه لم يعمّر من أجله. قال: فإبراهيم الإمام؟ قلت بحرفة(3) اسمه قتله مروان في حرّان(4). و أزيدك يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن الوليد خلع، و إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن قتل، و عمّه إبراهيم بن حسن سقط عليه السجن فمات، و ما رأيت و اللّه أحدا يسمّى/بهذا الاسم إلاّ قتل أو نكب أو رأيته مضروبا أو مقذوفا أو مظلوما. ثم ما انقضى الكلام حتى سمعت ملاّحا يصيح بآخر: مدّ يا إبراهيم يا عاضّ بظر أمّه مدّ.

فقلت له: أبقي لك شيء بعد هذا! ليس و اللّه في الدنيا اسم أشأم من إبراهيم و السلام. فضحك و اللّه حتى أشفقت عليه.

غنى المأمون لحنا عرض فيه بالحسن بن سهل:

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ عن أبيه قال:

دخل الحسن بن سهل على المأمون و هو يشرب؛ فقال له: بحياتي و بحقّي عليك يا أبا محمد إلاّ شربت معي قدحا، و صبّ له من نبيذه قدحا. فأخذه بيده و قال له: من تحبّ أن يغنّيك؟ فأومأ إلى إبراهيم بن المهديّ فقال له المأمون: غنّه يا عمّ، فغنّاه:

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت

يعرّض به لما كان لحقه من السوداء و الاختلاط. فغضب المأمون حتى ظنّ إبراهيم أنّه سيوقع به، ثم قال له:

أبيت إلاّ كفرا يا أكفر خلق اللّه لنعمه! و اللّه ما حقن دمك غيره! و لقد أردت قتلك فقال لي: إن عفوت عنه فعلت فعلا لم يسبقك إليه أحد، فعفوت و اللّه عنك لقوله. أ فحقّه أن تعرّض به و لا تدع كيدك و لا دغلك! أ و أنفت من إيمائه إليك بالغناء!. فوثب إبراهيم قائما و قال: يا أمير المؤمنين، لم أذهب حيث ظننت، و لست بعائد؛ فأعرض عنه.

ص: 332


1- في ب، س: «جعفر بن محمد بن قدامة». و قد تقدم هذا الاسم في رجال السند غير مرة.
2- ظاهر من السياق أنها موضع.
3- كذا في الأصول و هو تحريف و المعنى المراد واضح إذ هو يريد بشؤم اسمه أو نحو ذلك.
4- في بعض الأصول هكذا: «في جراب النورة» و في بعضها: «في حراب النورة» و كلاهما تحريف. و المذكور في كتب التاريخ: أن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس القائم بالدعوة العباسية قتله مروان بن محمد و هو في سجنه بحران، و قيل: إنه مات بالطاعون فيه، و قيل: إنه مات مسموما. و حران مدينة عظيمة و هي قصبة ديار مضر على طريق الموصل و الشام و الروم. (انظر «تاريخ الطبري» ق 3 ص 24-27 «و معجم البلدان» لياقوت في الكلام على «حران»).
غنى للمعتصم لحنا و سمعه أحمد بن أبي دواد فمال للغناء بعد أن كان يتجنبه:

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني جرير بن أحمد بن أبي دواد قال حدّثني أخي عن أبي قال:

كنت أتجنّب الغناء و أطعن على أهله و أذمّ لهجهم به؛ فوجّه المعتصم إليّ عند خروجه من مدينة السلام:

الحق بي؛ فلحقت به بباب الشمّاسيّة و معي غلامي زنقطة، فوجدته قد ركب الزورق، و سمعت عنده صوتا أذهلني حتى سقط سوطي/من يدي و لم أشعر به، ثم احتجت و قد أعنق بي برذوني أن أكفّه بسوطي. فقلت لغلامي: هات سوطك؛ فقال: سقط و اللّه من يدي لمّا سمعت هذا الغناء. فغلبني الضّحك حتى بان في وجهي.

و دخلت إلى المعتصم بتلك الحال. فلمّا رآني قال لي: ما يضحكك يا أبا عبد اللّه؟ فحدّثته، فقال: أ تتوب الآن من الطعن علينا في السماع؟ فقلت له: قبل ذلك من كان يغنّيك؟ قال: عمّي إبراهيم، كان يغنّيني:

إنّ هذا الطويل من آل حفص *** أنشر المجد بعد ما كان ماتا

ثم قال: أعده يا عمّ ليسمعه أبو عبد اللّه فإني أعلم أنه لا يدع مذهبه. فقلت: بلى و اللّه لأدعنّه/في هذا و لا لمتك عليه. فقال: أمّا إذ(1) كانت توبته على يديك يا عمّ فلقد فزت بفخرها و عدلت برجل ضخم عن رأيه إلى شأننا.

فضله مخارق على نفسه و على إبراهيم الموصلي و ابن جامع:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني طلحة بن عبد اللّه الطّلحيّ قال حدّثني الحسين بن إبراهيم(2)قال:

كنت أسأل مخارقا: أيّ النّاس أحسن غناء؟ فيجيبني جوابا مجملا حتى حففت(3) عليه يوما قال: كان إبراهيم الموصليّ أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، و أنا أحسن غناء من إبراهيم الموصليّ بعشر طبقات، و إبراهيم بن المهديّ أحسن غناء منّي بعشر طبقات. قال ثم قال لي: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا، و إبراهيم بن المهديّ أحسن الجنّ و الإنس و الوحش و الطير صوتا، و حسبك هذا.

سمع إسحاق الموصلي صوتا من لحنه و شعره فطرب له و استعاده عامة يومه و قصة ذلك:

حدّثني عليّ بن هارون المنجّم قال حدّثني محمد بن أحمد بن عليّ بن يحيى قال سمعت جدّي عليّ بن يحيى يقول حدّثني محمد بن الفضل الجرجرائي(4) قال:

/انتبهت يوما مغلّسا، فدخل إليّ الغلام فقال لي: إسحاق الموصليّ بالباب قبل أن أصلّي الغداة. فقلت:

يدخل، في الدنيا إنسان يستأذن لإسحاق! فدخل فقال: حملني الشوق إليك على أن بكرت هذا البكور، و قد حملت معي نبيذي و عملت على المقام عندك. فقلت: مرحبا بك و أهلا. و دعوت طبّاخي فسألته عمّا في

ص: 333


1- كذا في ج. و في سائر الأصول: «إذا» و هو تحريف.
2- في ب، س: «الحسين بن إبراهيم بن رياح» و ورد في الأصول المخطوطة كما أثبتناه.
3- يقال حفه القوم و به و حواليه إذا أحدقوا به و أطافوا و عكفوا، فلعله يريد هنا حتى أحدقت به مضيفا عليه بالجواب.
4- كذا في الطبري (ق 3 ص 1379، 1407، 1514) و في الأصول: «الجرجاني» و هو تحريف.

المطبخ، فذكر أشياء يسيرة، منها قطعة جدي و طباهج(1) و درّاج معلّق. فقال: ما أريد غير ذلك، هاته الساعة.

فقلت للطبّاخ: عجّل بإحضاره، و عملت على الأكل معه و على أن نأخذ في شأننا. فدخل حاجبي فقال: رسول الأمير إسحاق(2) بن إبراهيم بالباب، و إذا فرانق يذكر أنه وجّه به إلى محمد بن الفضل ليحضره. قال فقال لي إسحاق: قم في حفظ اللّه و اجتهد في أن تتعجّل. قال: فتقدّمت إلى الخادم بإخراج الجواري إليه و وضع النّبيذ بين يديه، و لبست ثيابي و خرجت و ركبت. فلمّا سرت قليلا قلت في نفسي: أنا أخسر النّاس صفقة إن تركت إسحاق بن إبراهيم الموصليّ في منزلي و مضيت إلى إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ، و لا أدري ما يريد منّي. فقلت لفرانق: هل لك في خير؟ قال: و ما هو؟ قلت: تأخذ ثلاثين درهما و تمضي فتقول: إنك وجدتني شارب دواء.

قال نعم. فدفعت إليه ثلاثين درهما، و ختمت له ختما و رجعت. فقال لي إسحاق: أسرعت الكرّة، فأخبرته بما صنعت؛ فقال وفّقت. فجلست و كان يأكل فأكلت معه، فأخذنا في شأننا. و خرج الجواري إليه فغنّين حتى مرّ صوت إبراهيم بن المهديّ في شعره و هو:

جدّد الحبّ بلايا *** أمرها ليس يسيرا

/ - و لحنه من الثّقيل الثاني - قال: فطرب إسحاق طربا ما رأيته طرب مثله قطّ، و عجب من إحسانه في صنعته و جودة قسمته، و لم يزل صوتنا يومنا أجمع لا نغنّي غيره حتى شرب إسحاق قطر ميزة(3)، و فيه من المشمّس(4)الذي كان يشربه ثلاثة عشر رطلا، و كلّما حضرت صلاة قام إسحاق يصلّي بنا، فصلّى بنا العتمة و قد فني قطر ميزه فشرب من نبيذي رطلين على الصوت. قال: و كان محمد بن الفضل ينزل بسوق الثلاثاء و إسحاق ينزل على نهر المهديّ. و قد وزّر محمد بن الفضل للمتوكّل قبل عبيد اللّه بن يحيى.

نسبة هذا الصوت

جدّد الحبّ بلايا *** أمرها ليس يسيرا

كبر الحبّ و قدما *** كان إذ حلّ صغيرا

ذلّل(5) الحبّ رقابا *** كان أدناها عسيرا

ليس لي من حبّ إلفي *** غير حرماني السرورا

الشّعر و الغناء لإبراهيم بن المهديّ ثاني ثقيل.

أحب جارية عند بعض أهله و قال فيها شعرا:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد قال حدّثني عبد الوهّاب بن محمد بن عيسى قال:

ص: 334


1- الطباهج: الكباب. (فارسي معرب). و الدراج: ضرب من الطير يطلق على الذكر و الأنثى.
2- هو إسحاق بن إبراهيم المصعبي حاكم بغداد في أيام المأمون و المعتصم و الواثق، و هو من أرباب المكانة العالية في الرواية و الأدب و نقد الغناء. (انظر الحاشية رقم 1 من كتاب «التاج» للجاحظ ص 31).
3- القطرميز: قلة كبيرة من الزجاج، فارسي معرب.
4- كذا في ج و لعله يعني به نبيذا من الأنبذة صنع في الشمس. و في أ، م: «المشمشي». و في ب، س: «المشمش».
5- في أ، م: «ملك».

استتر إبراهيم بن المهديّ عند بعض أهله من النّساء، فوكّلت بخدمته جارية جميلة و قالت همسا: إن أرادك لشيء فطاوعيه و أعلميه ذلك حتى يتّسع له، فكانت توفّيه حقّه في الخدمة و الإعظام و لا تعلمه بما قالت لها؛ فجلّ مقدارها في نفسه إلى أن قبّل يوما يدها، فقبّلت الأرض بين يديه. فقال:

يا غزالا لي إليه *** شافع من مقلتيه

/و الذي أجللت خدّ *** يه فقبّلت يديه

بأبي وجهك ما أك *** ثر حسّادي عليه

أنا ضيف و جزاء الضّ *** يف إحسان إليه

قال: و عمل فيه بعد ذلك لحنا في طريقة الهزج.

غنى للمأمون بشعر له و كان يخشى بطشه فرق له و أمنه:

و قال أحمد بن أبي طاهر:

غنّى إبراهيم بن المهديّ يوما و المأمون مصطبح، و قد كان خافه و بلغه عنه تنكّره:

ذهبت من الدنيا و قد ذهبت منّي *** هوى الدهر بي عنها و ولّى بها عنّي

فرقّ له المأمون لمّا سمعه، و قال له: و اللّه لا تذهب نفسك يا إبراهيم على يد أمير المؤمنين، فطب نفسا؛ فإنّ اللّه قد أمّنك إلاّ أن تحدث حدثا يشهد عليك فيه عدل، و أرجو ألاّ يكون منك حدث إن شاء اللّه.

نسبة هذا الصوت
صوت

ذهبت من الدّنيا و قد ذهبت منّي *** هوى الدّهر بي عنها و ولّى بها عنّي

فإن أبك نفسي أبك نفسا نفيسة *** و إن أحتسبها أحتسبها على ضنّ

الشّعر و الغناء لإبراهيم بن المهديّ ثاني ثقيل بالوسطى. و هذا الشعر قاله إبراهيم بن المهديّ لمّا أخرج الجند عيسى(1) بن محمد ابن أخي خالد من الحبس، و له في ذلك خبر طويل، و قد شرطنا ألاّ نذكر من أخباره إلا ما كان من جنس الغناء.

و في هذه القصيدة يقول:

/

و أفلتني عيسى و كانت خديعة *** حللت بها ملكي و فلّت بها سنّي

قال ابن أبي طاهر و حدّثني أبو بكر بن الخصيب قال حدّثني محمد بن إبراهيم قال:

غنّى إبراهيم بن المهديّ يوما عند المأمون فأحسن، و بحضرة المأمون كاتب لطاهر يكنى أبا زيد، فطرب

ص: 335


1- كان من القوّاد، و قد ناصر إبراهيم بن المهدي في وثوبه على الخلافة، و كان من وجوه شيعته ثم غضب عليه و أمر بضربه و حبسه لخيانة ظهرت منه. (انظر «تاريخ الطبري» «ق 3 ص 1002، 1004، 1006، 1007، 1011، 1022، 1023، 1030 - 1034).

حتى وثب فأخذ طرف ثوب إبراهيم فقبّله. فنظر إليه المأمون منكرا لفعله. فقال/ما تنظر! أقبّله و اللّه و لو قتلت عليه! فتبسّم المأمون و قال: أبيت إلاّ ظرفا.

أراد الحسن بن سهل أن يضع منه فعرض هو به:

قال ابن أبي طاهر و حدّثني عليّ بن محمد قال سمعت بعض أصحابنا يقول:

اجتمع إبراهيم بن المهديّ و الحسن بن سهل عند المأمون؛ فأراد الحسن أن يضع(1) من إبراهيم فقال له: يا أبا إسحاق أيّ صوت تغنّيه العرب أحسن؟ يريد بذلك أن يشهّر إبراهيم بالغناء و العلم به. فقال إبراهيم: بيت الأعشى:

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت

أي إنك موسوس، و كان بالحسن شيء من هذا.

غنت مغنية بحضرته فداعبها:

أخبرني عمّي عن جدّي عن عليّ بن يحيى المنجّم قال:

غنّت مغنّية و إبراهيم بن المهديّ حاضر:

من رأى نوقا غدت سحرا

فقال إبراهيم: أنا رأيت هذا. قيل له: و أين رأيته أيها الأمير؟ قال: رأيت ولد عليّ بن ريطة يمضون في السّحر إلى الصيد.

سمعته رومية أعجمية فبكت تأثرا من صوته:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني بعض الكتّاب عن ريّق قالت:

/خرجت يوما إلى سيّدي (تعني إبراهيم بن المهديّ) و قد صنع لحنه في:

و إذا تباع كريمة أو تشترى *** فسواك بائعها و أنت المشتري

و إذا صنعت صنيعة أتممتها *** بيدين ليس نداهما بمكدّر

و جارية لنا روميّة أعجميّة لا تفصح في أقصى الدار تكنس، و هو يطرح الصوت على شارية، و الأعجميّة تبكي أحرّ بكاء سمعته قطّ، فجعلت أعجب من بكائها و انظر إليها حتى سكت، فلما سكت قطعت البكاء، فعلمت أنّ هذا من غلبته بحسن صوته لكلّ طبع فصيح و أعجميّ.

غنى الأمين صوتا فأجازه:

أخبرني الحسين بن يحيى و ابن المكّيّ و ابن أبي الأزهر عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

غنّى إبراهيم بن المهديّ ليلة محمدا الأمين صوتا لم أرضه في شعر لأبي نواس و هو:

يا كثير النّوح في الدّمن *** لا عليها بل على السّكن

سنّة العشّاق واحدة *** فإذا أحببت فاستكن

ص: 336


1- في ب، س: «يسمع» و هو تحريف.

ظنّ بي من قد كلفت به *** فهو يجفوني على الظّنن

رشأ لو لا ملاحته *** خلت الدّنيا من الفتن

فأمر له بثلاثمائة ألف درهم(1). قال إسحاق فقال إبراهيم له: يا أمير المؤمنين قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف(2) درهم، فقال: هل هي إلا خراج بعض الكور!. هكذا ذكر إسحاق. و قد روى محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر هذه الحكاية عن إبراهيم فقال: لمّا أردت الانصراف قال: أوقروا زورق عمّي دنانير، فانصرفت بمال جليل.

كان يحسن الإيقاع على الطبل و الناي:

أخبرني أبو الحسن عليّ بن هارون قال ذكر لي أبو عبد اللّه الهشاميّ عن أهله قال قال إبراهيم بن المهديّ - و قد خرج إلى ذكر الطّبل و الإيقاع به - فقال إبراهيم:

/هو من الآلات التي لا يجوز أن تبلغ نهايتها. فقيل له: و كيف خصّ الطّبل بذلك؟ فقال: لأن عمل اليدين فيه عمل واحد، و لا بدّ من أن يلحق اليسار فيه نقص عن اليمين، و دعا بالطّبل ليرينا كيف ذلك فأوقع إيقاعا لم نكن نظنّ أن مثله يكون، و هو مع ذلك يرينا موضع زيادة اليمين على اليسار. قال و قال له الأمين في بعض خلواته: يا عمّ أشتهي أن أراك تزمر. فقال: يا أمير المؤمنين، ما وضعت على فمي نايا قطّ و لا/أضعه، و لكن يدعو أمير المؤمنين بفلانة - من موالي المهديّ - حتى تنفخ في النّاي و أمرّ يدي عليه. فأحضرت و وضعت النّاي على فيها و أمسكه إبراهيم، فكلما مرّ الهواء أمرّ أصابعه، فأجمع سائر من حضر أن لم يسمع مثله قطّ.

حسن ترجيعه في لحن:

و أخبرني أبو الحسن عليّ بن هارون أيضا قال حدّثني أبي قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه و أبو عبد اللّه الهشاميّ قالا:

كان إبراهيم بن المهديّ إذا غنّى لحنه:

هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفّكم أو تسترون هلالها

فبلغ إلى قوله:

جبريل بلّغها النبيّ فقالها

هزّ حلقه فيه و رجّعه ترجيعا تتزلزل منه الأرض.

غنت متيم الهشامية لحنا فاختلس إيقاعه منها:

أخبرني محمد بن إبراهيم قريض قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال حدّثني الهشاميّ قال:

كانت متيّم الهشاميّة ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد و إبراهيم بن المهديّ حاضر، فتغنّت متيّم في الثقيل الأوّل:

ص: 337


1- في ب، س: «دينار».
2- في ب، س: بعشرين ألف ألف درهم هل هي إلخ».

لزينب طيف تعتريني طوارقه

/فأشار إليها إبراهيم أن تعيده. فقالت متيّم للمعتصم: يا سيّدي إن إبراهيم يستعيدني الصوت و أظنّه يريد أن يأخذه. فقال لها: لا تعيديه. فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضرا بمجلس المعتصم و كانت متيّم غائبة عنه، فانصرف إبراهيم بالليل إلى منزله و متيّم في منزلها بالميدان و طريقه عليها و هي في منظرة لها مشرفة على الطريق و هي تطرح هذا الصوت على بعض جواري بني هاشم، فتقدّم إلى المنظرة على دابّته و تطاول حتى أخذ الصوت، ثم ضرب باب المنظرة بمقرعته و قال: قد أخذناه بلا حمدك.

نسبة هذا الصوت

لزينب طيف تعتريني طوارقه *** هدوءا إذا النّجم ارجحنّت(1) لواحقه

سيبكيك مرنان(2) العشيّ يجيبه *** لطيف بنان الكفّ درم(3) مرافقه

إذا ما بساط اللّهو مدّ و قرّبت *** للذّاته أنماطه و نمارقه(4)

الشعر للنّميريّ. و الغناء لمعبد، و لحنه من القدر الأوسط من الثّقيل الأول بالبنصر في مجراها عن إسحاق.

و فيه لمالك خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن يونس و الهشاميّ.

برهان محمد بن موسى المنجم على أنه أحسن الناس غناء:

أخبرني عليّ بن هارون قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:

كان محمد بن موسى المنجّم يقول: حكمت أنّ إبراهيم بن المهديّ أحسن الناس كلّهم غناء ببرهان، و ذلك أنّي كنت أراه بمجالس الخلفاء مثل المأمون و المعتصم يغني المغنون و يغنّي، فإذا ابتدأ الصوت لم يبق من الغلمان و المتصرّفين في الخدمة و أصحاب الصناعات و المهن الصّغار و الكبار أحد إلاّ ترك ما في يده و قرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه، فلا يزال مصغيا إليه لاهيا عمّا كان فيه ما دام يغنّي، حتى إذا أمسك و تغنّى غيره رجعوا إلى التّشاغل بما كانوا فيه و لم يلتفتوا إلى ما يسمعون. /و لا برهان أقوى من هذا في مثل هذا من شهادة الفطن له و اتّفاق الطّبائع - مع اختلافها و تشعّب طرقها - على الميل إليه و الانقياد له.

كانت له أشياء لم يكن لأحد مثلها:

حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال:

قلت للمعتصم: كانت لأبي أشياء لم يكن لأحد/مثلها. فقال: و ما هي؟ قلت: شارية و زامرتها معمعة.

فقال: أمّا شارية فعندنا، فما فعلت الزّامرة؟ قلت: ماتت. قال: و ما ذا؟ قلت: و ساقيته مكنونة، و لم ير أحسن وجها و لا ألين و لا أظرف منها. قال: فما فعلت؟ قلت: ماتت. قال: و ما ذا؟ قلت: نخلة كانت تحمل رطبا طول الرّطبة

ص: 338


1- ارجحن النجم: مال نحو المغرب.
2- المرنان: الكثير الرنين، و يقال: سحابة مرنان و قوس مرنان، أي كثيرة الرنين. و المراد هنا: آلة الطرب.
3- درم: جمع أدرم و هو من لا حجم لعظامه.
4- نسب هذا البيت في «الكامل» للمبرد ص 708 طبع أوربا لنصيب.

منها شبر. قال: فما فعلت؟ قلت: جمّرتها(1) بعد وفاته. قال: و ما ذا؟ قلت: قدحه الضّخضاح. قال: و ما فعل؟ قلت: الساعة و اللّه حجمني فيه أبو حرملة فسألته أن يهبه لي ففعل، و وجّهت به إلى منزلي فغسل و نظّف و أعيد إلى خزانتي، فرأيت أبي فيما يرى النائم في ليلتي تلك و هو يقول لي:

أ يترع ضحضاحي دما بعد ما غدت *** عليّ به مكنونة مترعا خمرا

فإن كنت منّي أو تحبّ مسرّتي *** فلا تغفلن قبل الصّباح له كسرا

فانتبهت فزعا و ما فرق(2) الصبح حتى كسرته.

كتب إليه إسحاق الموصلي فأجابه:

فأمّا المماظّة(3) التي كانت بينه و بين إسحاق فقد مضى في خبر إسحاق منها طرف. و نذكر هاهنا منها ما جرى مجرى محاسن إبراهيم و القيام بحجّته إن كانت له، و عذره(4) فيما عيب عليه لأنه بذلك حقيق. فمن ذلك نسخت من كتاب أعطانيه أبو الفضل العبّاس بن أحمد بن ثوابة رحمه اللّه بخطّ إسحاق في قرطاس - و أنا أعرف خطّه - و جواب لإبراهيم بن المهديّ في ظهره بخطّ ضعيف و أظنّه خطّه؛ لأنه لو كان خطّ/كاتب(5) لكان أجود من ذلك الخطّ، و قد ذهب أوّل الكتاب فذهب منه أوّل الابتداء و الجواب، و نسخت بقيّته؛ فكان ما وجدته من ابتداء إسحاق:

و كنت - جعلت فداءك - كتبت في كتابك إلى محمد بن واضح تذكر أنك مولاي و سيدي(6). فمتى دفعت ذلك! و هل لي فخر غيره! أو لأحد عليّ و على أبي رحمه اللّه من قبلي نعمة سواكم!. و أحبّ (7) ذلك أن يكون، و أرجو أن أموت قبل أن يبتليني اللّه بذلك إن شاء اللّه. فأمّا ذكرك - جعلت فداءك - الصناعة فقد أجلّ اللّه قدرك عن الحاجة إلى دفعها و الاعتذار عنها. و أمّا أنا المسكين فأنت تعلم أني لم أتّخذ ما نحن فيه صناعة قطّ، و أني لم أردها إلاّ لكم شكرا لنعمتكم و حبّا للقرب منكم و إليكم. فليس ينبغي أن يعيبني ذلك عندكم، و لا يجوز لأحد أن يعيبني به إذ كان لكم. و قد علمت أنك لم تضعني من علّويه و مخارق بحيث وضعتني إلاّ لغضب أحوجك إلى ذلك، و إلاّ فأنت تعلم أنهما لو كانا مملوكين لي لآثرت تعجيل الرّاحة منهما بعتقهما أو تخلية سبيلهما على ثمن أصيبه ببيعهما أو حمد أكتسبه بثمنهما، فكيف أظنّ أني عندك مثلهما، أو أنك تقرنني(8) إليهما و تذكرني معهما!. أو تلومني الآن على أن أخرس فلا أنطق بحرف، و أن أفرّ من الغناء فرارك من الخطأ فيه، و أمتعض منه امتعاضك ممن يخفي عليك شيئا من علومه!. كيف ترى - جعلت فداءك - الآن سبابي و أنت ترى أنّ أحدا لا

ص: 339


1- جمر النخلة: قطع جمارها.
2- فرق الصبح: تبين و اتضح.
3- المماظة: المخاصمة و المنازعة.
4- في الأصول: «و عذر» من غير هاء الضمير.
5- كذا في ب، س. و في سائر النسخ: «كتابه».
6- كذا في أ، م. و في سائر النسخ: «مولى و سيد».
7- كذا في الأصول و لعل صوابه: «و لا أحب ذلك أن يكون إلخ».
8- في الأصول: «تقربني» و هو تحريف.

يحسن(1) السّبّ غيرك!. قد أحدثت لي - جعلت فداءك - أدبا و زدتني بصيرة فيما أحبّ من تركه و ترك الكلام فيه. فإن ظننت أنّ هذا فرار من الحجّة و تعريد(2) عن المناظرة، كما قلت، فقد ظفرت و صرت إلى ما أحببت؛ و إلاّ فإنه لا ينبغي للحرّ أن يتلهّى بما لا تقوم لذّته بمعرّته، /و لا لعاقل أن يبذل ما عنده لمن لا يحمده، و لعلّه لا يقلّب العين فيه حتى يلحقه ما يكره منه. و أمّا ما قاله أبي - رحمه اللّه - من أنه لم يزل يتمنّى أن يرى من/سادته من يعرف قدره حقّ معرفته و يبلغ علمه بهذه الصناعة الغاية العظمى حتى رآك، فقد صدق، ما زال يتمنّى ذلك و ما زلت أتمنّاه. فهل رأيت - جعلت فداءك - حظّي(3) منه إلاّ بأن ساويت به(4) من لم يكن يساوي شسعه، و لعلك لا ترضى في بعض القوم حتى تفضّله عليه، لا تنفعه عندك معرفة به، و لا رعاية لطول الصّحبة و الخدمة، و لا حفظ لآثار محمودة باقية نذكرها و نحتجّ بها. ثم ها أنا من بعده تضعني بالموضع الذي تضعني به، و تنسبني إلى ما تنسبني إليه؛ لأني توخّيت الصواب و اجتهدت في البذل و المناصحة، لا يدفعك عنّي حفظ لسلف، و لا صيانة لخلف، و لا استدامة لقديم ما نعلم، و لا مصانعة لما تطلب، و لا ولاء مما أكره أن أقوله(5). فما أرى - جعلت فداءك - من معرفتك بما في أيدينا إلاّ تجرّع الحسرات، و تطلّبك لنا العثرات، و اللّه المستعان. كيف أصنع جعلت فداءك! إن سكتّ لم تقبل ذلك مني، و إن صدقت كذّبتني، و إن كذبت ظفرت بي، و إن مزحت لأطربك و أضحكك و أقرب من أنسك و آخذ بنصيبي من كرمك غضبت و سببت، و لو كنت قريبا منك لضربت! وليتك فعلت، فكان ذلك أيسر من غضبك. ثم من أعظم المصائب عندي أمرك إيّاي أن أسأل محمد بن واضح عن قول قلته فيّ عند عمرو بن بانة. فو اللّه - جعلت فداءك - إني لأبشع(6) بذكره فكيف أحبّ أن أذكره و أذكر له!. و إني لأرثي لك من النّظر إليه، و أعجب من صبرك عليه، مع أني - أعوذ باللّه من ذلك - لو رغبت في هذا منه و من مثله لكفيتك و نفسي ذلك بأن أكسوه ثوبين، أو أهب له دينارين، أو أقول له أحسنت في صوتين، حتى نبلغ أكثر مما أردت لي أو أريده لنفسي. فالحمد للّه الذي جعل/حظّي منك هذا! و مثله غير مستصغر لشأنك و لا مستقلّ لقليل حسن رأيك. و اللّه أسأل أن يطيل بقاءك، و يحسن جزاءك، و يجعلني فداءك. قد طال الكتاب، و كثر العتاب. و جملة ما عندي(7) من الإعظام و الإجلال اللّذين لا أخاف أن أجعلهما عندك، و المحبة التي لا أمتنع منها و لا أعرف سواها، و السمع و الطاعة في تسليم ما تحب تسليمه و الإقرار بما أحببت أن أقرّ به، و سأشهد على ذلك محمد بن واضح و أشهد لك به من أحببت و أؤدّي الخراج. و لكن لا بدّ من فائدة و إلاّ انكسر، فهات - جعلت فداءك - و أوف و استوف فإنك واجد صحة و استقامة إن شاء اللّه. مدّ اللّه في عمرك، و صبّرني عليك، و قدّمني قبلك، و جعلني من كل سوء فداءك.

ص: 340


1- كذا في الأصول.
2- التعريد: الفرار.
3- لعله: «حظه».
4- كذا في ج. و في سائر الأصول «فيه» و هو تحريف.
5- كذا في الأصول.
6- بشع بالأمر: ضاق به ذرعا.
7- كذا في الأصول و لعلها: «و جملة ما عندي الإعظام و الإجلال اللذان إلخ».
نسخة جواب إبراهيم بعد ما ذهب منه
اشارة

... و أيّة سلامة أقدر لك عليها إلاّ أسوقها إليك، أعطاني اللّه ما أحبّ من ذلك لك. فأمّا أن أتكلّم من ورائك بشيء تستثقله متعمّدا؛ فما أنا إذا بحرّ و لا كريم، معاذ اللّه من ذلك!. و لئن جمعني و إيّاك و عليّ بن هشام مجلس لأستشهدنّه على أشياء لم أذكرها لك، و لم أكتب بها إليك، إجلالا لقدر حالك عندي من اعتداد بمثل ذلك مني، و أنت عنه غافل، و اللّه به عليم. و أما الرشوة(1) فأرجو أن تجيئك على ما تشتهي آتاك اللّه ما تحب فيما تحب و تكره و جعلك له شاكرا. و أمّا الفوائد التي وعدت ورودها علينا فإنّي لواثق أنك لا تفيدني شيئا فأنظر فيه إلاّ وجدتني فيه فطنا أجيد تفتيشه و أعرف كنهه و أفيدك فيه و فيما استنبطت منه ما لا تجد عند نفسك/أكثر منه، فأما غيرك فالهباء المنثور. و يا رأس المشنّعين(2) تقول إني عيّرتك بالصّناعة ثم تحتج بحذقك في تحريف الأقوال و اكتساب الحجج، لتفحم خصمك، و تعلي حجّتك، /فكيف أعيبك بحاجتي إليك، و ما أنا داخل فيه معك! لا! و لكني قلت لك: إني لست كفلان و فلان ممن لو كان عنده أمر ينازعك به ثقل عليك، إنما أنا رجل من مواليك متوسّل إليك بما يسرّك، أو كصاحب لك تناظره بما تحب أن تجد من تناظره فيه، فليكن ذلك بالإنصاف و طلب الصواب أصبته أو أخطأته، لا بالحميّة و الأنفة و الحيلة لتردّ الحقّ بالباطل. هذا معنى قولي؛ و قد استشهدت عليك فيه أبا جعفر، و جاءني كتابك و هو عندي يشهد لي. و الكتاب الذي هذا فيه بخطّي عنده(3)لم يردّه عليّ، فتتبّع ما فيه و خذني به. فلعمري لئن كنت قرنتك بمن ذكرت لأعيبك بالتشبيه لك بهم ما عبت غير رأيي، و لا جهّلت غير نفسي. و لست أعتذر من هذا لأنك تشهد لي بالحقّ فيه، و إنما تريد أن تخصمني(4) بلا حجّة، فيكفيني علمك بما عندي، و إلاّ فأنت إذا بي أجهل منّي بك. و قلت: «تذكرني معهما(5)» فقد ذكر اللّه النار مع الجنة، و موسى مع فرعون، و إبليس مع آدم، فلم يهن بذلك موسى و لا آدم و لا أكرم فرعون و إبليس، فأعفني من المغالطة لي و التحريف لقولي، و استمتع بي و أمتعني بالمصادقة. فإن أنت لم تفعل بقيت واحدا مستوحشا، و لم تجد غيري إن علم ما تعلم لم ينقصك، و إن علم أكثر منك لم يشنك، و إن أفهمته كافاك، و إن استفهمته شفاك. لا و اللّه ما أردت إلا ما ذكرته لك، و لا أحسبك ظننت فيّ غير ذلك؛ لأنك لا تجهلني فأنا عندك غير جاهل. و واحدة هي لك دوني، و و اللّه ما كنت أبالي ألاّ أسمع من مخارق و علّويه شيئا حتى أسمع بنعيهما، و لا أراهما حتى أراهما ميّتين، و ما في هذا غيرك و الإعظام لك و الإكرام. و ذلك أنهما كانا لك غلامين فصيّرتهما ندّين تقول فيهما و يقولان فيك، و إنّما هما صنيعتاك و خرّيجا/تأديبك و إن كانا غير طائل. فلو أعرضت عن انتقاصهما و رفعت ما رفع اللّه من قدرك عن الإفراط في عيبهما، لكان ذلك أشبه بك و أجمل بمحلّك و خطرك و مكانك. و كذلك الذي ترثي له منه و صاحبه محمد بن الحارث، فو اللّه ما أحبّ لك في أدبك و فضلك و دينك و محلّك أن تشهّر نفسك لهما بهذا و مثله، و أن ينتهي إليهما ذلك عنك. أقول يعلم اللّه في ذلك لا لهما(6). و إنّ

ص: 341


1- لعل إبراهيم يشير بهذا و نحوه إلى أشياء خاصة جرت بينه و بين إسحاق.
2- كذا في ج و في سائر الأصول: «المغنين».
3- في ب، س: «عندك لم تردّه عليّ».
4- خصمه يخصمه (بكسر الصاد في المضارع): غلبه في الخصومة. و كسر عين الفعل في المضارع هنا شاذ في هذا الباب.
5- يريد مخارقا و علويه، كما سيأتي في السياق.
6- كذا في الأصول. و لعل صواب العبارة: «أقول - يعلم اللّه - ذلك لك لا لهما».

ذلك، لو صرت إليه، لأجمل بك و أجلّ لقدرك و إن كنت لتتخوّلهما به. و لو أردت ذلك، و إن زهدت فيه، لم تضع نفسك و محلّك مع غلمان أحداث يبسطون ألسنتهم فيك بما بسطته منهم على نفسك، و لو لم تفعل لكنت أعظم في عيونهم من بعض مواليهم الذين تولّوا منّتهم. هذا رأيي لك بما هو أكبر لأمرك و أشبه بمحلّك. و و اللّه ما غششتك و لا أوطأتك عشواء، فاختر لنفسك ما رأيت. و لا و اللّه لا سمعا بهذا أبدا و لا بما قلته فيّ إلا خزيا حتى يموتا، و لا أردت - يشهد اللّه - بهذا غيرك. و أمّا من ذكرت أنّي أسوّيه بأبي إسحاق رحمه اللّه و هو لا يساوي شسعه فإنك عنيت ابن جامع. و أنت لا تدخل بيني و بين أبي إسحاق رضي اللّه عنه، و لا أظنك و اللّه أشدّ حبّا له مني، و لا كان لك أشدّ حبّا منه لي، فقد تعلم كيف كان لي، و لكن لا أظلم ابن جامع كما تظلمه أنت/يا أظلم البشر. و لئن ضمنت أن تنصفني لأكلمنّك فيه بما لا تدفعه، و لكنّي لا أكلّمك في شيء حتى أثق بهذه منك، و إلاّ وسعني من السكوت ما وسعك. و من العجب الذي لم أر مثله و المكابرة التي لا يشبهها شيء اعتداؤك عليّ في التجزئة حيث(1) تقول:

حيّيا أمّ يعمرا *** قبل شحط من النّوى

/يا أخي و حبيب نفسي فانظركم في هذا من العيوب!! قولك: «ييا» ليكون مثل «شحط» في الوزن، أ يكون مثل هذا في الكلام! في الجزء الثاني «حيّ» حتى يكون مثل «قبل»، هل يكون مثل هذا! أ و ليس في «ييا» المشدّدة أربع ياءات، و في «حي» التي عطفت بها ثلاث فتصير سبع ياءات، و إنّما هي ثلاث في الأصل: الياء المشدّدة و ياء الاثنين حيث(2) تقول «حييا»!. و الناس في هذا بيني و بينك بهائم، فمن استعدي عليك! و لو أنصفت لعلمت أنّه لا يمكن في:

حيّيا أمّ يعمرا

غير ما جزّأت أنا إلاّ بهذا الغلط الذي لا يحول من تحريك ساكن تجعله أوّل الكلام فقد زدت قبله حرفا، أو تسكين متحرّك فتريد بعده حرفا؛ كقولك «أم يعمرا قابل شحطن» حيث جعلت قبل الباء ألفا، و كقولك «أم يعمرن قبلا» فزدت الألف لتسكت عليها لأن السكوت على متحرّك لا يمكن. فأيّة حجّة هذه! أ و من يصبر لك على هذا! و إنما أردت أنا ما يجوز فجئني بتجزئة واحدة، لا أريد غير ذلك منك. مالك يا أخي تنفس عليّ الصواب فيما لا نقيصة عليك فيه و لا عيب، ثم اتخذت تحمّدي إليك، بما قلت لك أن تسأل محمدا عن(3) قولي فيك بظهر الغيب. ذنبا بطبعك على الظلم و التحريف، حتى كأني أعلمتك أن أحدا تنقّصك فحميت لذلك، و لم يكن غير الردّ عليه. و اللّه ما مثلي يمنّ بهذا، و لكنّي كنت إذا تحدّثت مع محمد خاليا كلّمته بمثل ما أكلّمك به من الردّ و الجدل، فلما كان عندنا من يحتشم كان كلامي بما يجب(4) أن أتكلّم به من الإكرام و التقديم، فقال لي: أيّ شيء هذا الذي أرى؟ فقلت له: هذا كلام الحشمة و ذلك كلام الأنس. فأردت بإعلامك هذا أن تعلم أنّي لا أريد بما أنازعك فيه شيئا يزيغ عما تعرف مني، و أني أذكرك/بما يشبهك في موضعه. فلو اتّقيت اللّه و أبقيت على الإخاء لما كنت تحرّف هذا بشيء، و هو جميل أرضاه من نفسي، فتصيّره قبيحا تريد أن أعتذر إليك منه.

و أما أداء الخراج و الإشهاد، فهذا شيء لم أطلبه منك، إنما أنت طلبته منّي ظالما لي. و ذلك لأني لم أنازعك إلاّ منازعة مناظر يحبّ أن يعرف حسن فحصه و ثاقب نظره.

ص: 342


1- في ج، ب، س: «حتى».
2- في ج، ب، س: «حتى».
3- في الأصول: «من».
4- في الأصول: «يحب».

و أمّا الرّئاسة فقد جعلها اللّه لك على أهل هذا العمل، و لا رئاسة لي عليهم و لا لك عليّ؛ لأني في العلم مناظر و في العمل متلذّذ. فلا تظلمني و لا نفسك لي.

و من بعد فإني أحبّ أن تخبرني كيف أنت اليوم بعد. و اللّه غممتني، لا غمّك اللّه و لا غمّني بك. و لو شئت أرسلت إلى يحيى بن خالد طبيب أخي عبيد اللّه فإنه رفيق مبارك عليم، و هو منك قريب في دار الرّوم، أخذت برأيه و من علاجه. وهب اللّه لك العافية و وهبها لي فيك برحمته.

و إنّما ذكرت هذا الابتداء و جوابه على طولهما، و هما قليل من كثير من مكاتباتهما، لتعرف بهما طرفا من مقدارهما في المنازعة و المجادلة، و أن إسحاق كان يريد من إبراهيم التّواضع له و الخنوع برئاسته و يتحامل عليه في بعض/الأوقات، و ينحو إبراهيم نحو ما فعله به؛ لأنّ نفسه تأبى ما يريده إسحاق منه، فيستعمل معه من المباينة مثل ما استعمله، و يكونان في طرفين من الظّلم يبعد كلّ واحد منهما عن إنصاف صاحبه. و قد روى يوسف بن إبراهيم أخبارا فيما جرى بينهما - فوجدت كلامهما مرصوفا رصف إبراهيم بن المهديّ و منظوما نظم منطقه - فيها تحامل على إسحاق شديد، و حكايات ينسب من نقلها إلى جهل بصناعته كان إسحاق بعيدا من مثله، فعلمت أن إبراهيم عمل ذلك و ألّفه و أمر يوسف بنشره في الناس ليدور في أيديهم ذكر له يفضل به. و ذلك بعيد وقوعه، و لن تدفع الحقائق بالأكاذيب، و لا يزيل/الخطأ الصواب، و لا الخطل السداد. و كفى من نضح عن إسحاق بأن أغاني إبراهيم بن المهديّ لا يكاد يعرف منها صوت و لا يروى منها إلاّ اليسير، و أنّ كلامه في تجنيس الطرائق اطّرح، و عمل على مذهب إسحاق، و انقضى الصّنع لإبراهيم بذلك مع انقضاء مدّته، كما يضمحلّ الباطل مع أهله. فعدلت عن ذكر تلك الأخبار؛ لا لأنّها لم تقع إليّ، و لكنّها أخبار يتبين فيها التحامل و الحنق، و تتضمّن من السبّ لإسحاق و الشتم و التجهيل ما يعلم أنه لم يكن يقضي على مثله لأحد و لو خاف القتل(1)، فاستبردت ذلك و اطّرحته، و اعتمدت من أخبار إبراهيم على الصحيح، و ما جرى مجرى هذا الكتاب من خبر مستحسن و حكاية ظريفة دون ما يجري مجرى التحامل؛ فقد مضى في صدر الكتاب من أخبارهما و إغصاص إسحاق إيّاه بريقه و تجريعه أمرّ من الصبر ما ينبئ عن بطلان غيره.

و ممن صنع من أولاد الخلفاء عليّة بنت المهديّ، و لا أعلم أحدا منهم بعد إبراهيم أخيها كان يتقدّمها. و كان يقال: ما اجتمع في الجاهلية و لا الإسلام أخ و أخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهديّ و عليّة أخته. و أخبارها تذكر بعد هذا تالية لما أذكره من غنائها. فمن صنعتها:

صوت

تضحك عمّا لو سقت منه شفا *** من أقحوان بلّه قطر النّدى

أغرّ يجلو عن غشا العين العشا *** حلو بعيني كلّ كهل و فتى

إنّ فؤادي لا تسلّيه الرّقى *** لو كان عنها صاحيا لقد صحا

الشعر لأبي النّجم العجليّ. و الغناء لعليّة بنت المهديّ رمل بالوسطى.

ص: 343


1- في هذه الجملة غموض. و لعلها تصح على هذا الوجه «... ما يعلم أنه لم يكن يقضي بمثله على أحد و لو خاف القتلى» أو نحو ذلك.

5 - أخبار أبي النّجم و نسبه

أصله و نسبه، و هو في الطبقة الأولى من الرجاز:

قال أبو عمرو الشّيبانيّ: اسمه المفضّل، و قال ابن الأعرابيّ: اسمه الفضل بن قدامة بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن الحارث بن عبدة بن الحارث بن إلياس بن عوف بن ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عجل بن لجيم بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. و هو من رجّاز الإسلام الفحول المقدّمين و في الطبقة الأولى منهم.

هو أبلغ في النعت من العجاج:

أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحيّ إجازة عن محمد بن سلاّم و ذكر ذلك الأصمعيّ أيضا قالا قال أبو عمرو بن العلاء:

كان أبو النّجم أبلغ في النّعت من العجّاج.

انتصف مع الرجاز من الشعراء:

/أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني الفضل بن العبّاس الهاشميّ عن أبي عبيدة قال:

ما زالت الشعراء تغلب(1) حتى قال أبو النّجم:

الحمد للّه الوهوب المجزل

و قال العجّاج:

قد جبر الدين الإله فجبر

و قال رؤبة:

و قاتم الأعماق خاوي المخترق(2)

فانتصفوا منهم.

أعظمه رؤبة و قام له عن مكانه:

و وجدت في أخبار أبي النّجم عن أبي عمرو الشّيبانيّ قال:

ص: 344


1- كذا في ج. و في سائر النسخ: «تقصر بالرجاز حتى... إلخ».
2- المخترق: الممر.

قال له فتيان من عجل: هذا رؤبة بالمربد(1) يجلس فيسمع شعره و ينشد الناس و يجتمع إليه فتيان من بني تميم، فما يمنعك من ذلك؟ قال: أو تحبّون هذا؟ قالوا نعم. قال: فأتوني بعسّ (2) من نبيذ فأتوه به، فشربه ثم نهض و قال:

إذا اصطبحت أربعا عرفتني *** ثم تجشمت الذي جشّمتني

فما رآه رؤبة أعظمه و قام له عن مكانه و قال: هذا رجّاز العرب. و سألوه أن ينشدهم فأنشدهم:

الحمد للّه الوهوب المجزل

و كان إذا أنشد أزبد و وحش بثيابه (أي رمى بها). و كان من أحسن الناس إنشادا. فلما فرغ منها قال رؤبة:

هذه أمّ الرّجز. ثم قال: يا أبا النّجم، قد قرّبت مرعاها إذ جعلتها بين رجل و ابنه. يوهم عليه رؤبة أنه حيث قال:

تبقّلت(3) من أوّل التّبقّل *** بين رماحي مالك و نهشل

أنه يريد نهشل بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم. فقال له أبو النّجم: هيهات! الكمر(4) تشابه. أي إني إنما أريد مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. و نهشل قبيلة من ربيعة و هؤلاء يرعون الصّمّان(5)/و عرض الدّهناء. قال أبو عمرو: و كان سبب ذكر هاتين القبيلتين (يعني بني مالك و نهشل) أنّ دماء كانت بين بني دارم و بني نهشل و حروبا في بلادهم، فتحامى جميعهم الرّعي فيما بين فلج(6) و الصّمّان مخافة أن يعرّوا(7) بشرّ حتى عفا(8) كلؤه و طال، فذكر أنّ بني عجل جاءت لعزّها إلى ذلك الموضع فرعته و لم تخف من هذين الحيّين، ففخر به أبو النّجم. قال: و يدلّ على ذلك قول الفرزدق:

أ ترتع بالأحياء سعد بن مالك *** و قد قتلوا مثنى بظنّة(9) واحد

فلم يبق بين الحيّ سعد بن مالك *** و لا نهشل إلا دماء الأساود(10)

ترتيب الرجاز في رأي بعض الرواة:

و قال الأصمعيّ: قيل لبعض رواة العرب: من أرجز النّاس؟ قال: بنو عجل ثم بنو سعد ثم بنو عجل ثم بنو سعد. (يريد الأغلب ثم العجّاج ثم أبا النّجم ثم رؤبة).

ص: 345


1- يعني مربد البصرة و هو من أشهر محالها، و كانت به سوق الإبل قديما ثم صار محلّة عظيمة سكنها الناس، و به كانت مفاخرات الشعراء و مجالس الخطباء.
2- العس: القدح الكبير.
3- تبقلت: خرجت لطلب البقل.
4- الكمر: جمع كمرة، و هي رأس الذكر. يريد أن الرجال اختلطت عليك. و قد صار هذا مثلا، و لفظه «الكمر أشباه الكمر».
5- الصمان: أرض فيها غلظ و ارتفاع، و فيها قيعان واسعة و رياض معشبة، و إذا أخصبت ربعت العرب جميعا. و كان الصمان في قديم الدهر لبني حنظلة، و الحزن لبني يربوع، و الدهناء لجماعتهم، و الصمان متاخم للدهناء و العرض: الوادي.
6- فلج: علم على عدّة مواضع.
7- يعروا: يصابوا. و في الأصول: «يغروا». بالغين المعجمة و هو تصحيف.
8- عفا: كثر.
9- الظنة: التهمة.
10- الأساود: شخوص القتلى، و هو جمع الجمع للسواد؛ و منه قول الأعشى: تناهيتم عنا و قد كان فيكم أساود صرعى لم يسوّد قتيلها
كان يتسرع إلى رؤبة فيكفه عنه المسمعي:

أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال قال عامر بن عبد الملك المسمعيّ:

كان رؤبة و أبو النّجم يجتمعان عندي فأطلب لهما النبيذ، فكان أبو النّجم يتسرّع إلى رؤبة حتى أكفّه عنه.

ناجز العجاج حتى هرب منه:

و نسخت من كتاب أبي عمرو الشّيبانيّ قال حدّثني بعض البصريّين منهم أبو برزة المرثديّ - قال و كان عالما راوية - قال:

خرج العجّاج متحفّلا(1) عليه جبّة خزّ و عمامة خزّ على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمربد و الناس مجتمعون، فأنشدهم قوله:

قد جبر الدّين الإله فجبر

/فذكر فيها ربيعة و هجاهم. فجاء رجل من بكر بن وائل إلى أبي النّجم و هو في بيته فقال له: أنت جالس و هذا العجّاج يهجونا بالمربد قد اجتمع عليه الناس!! قال: صف لي حاله و زيّه الذي هو فيه، فوصف له. فقال:

ابغني/جملا طحّانا قد أكثر عليه من الهناء(2)، فجاء بالجمل إليه. فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها و اتّزر بالأخرى و ركب الجمل و دفع خطامه إلى من يقوده، فانطلق حتى أتى المربد. فلمّا دنا من العجّاج قال: اخلع خطامه فخلعه، و أنشد:

تذكّر القلب و جهلا ما ذكر

فجعل الجمل يدنو من الناقة يتشمّمها و يتباعد عنه العجّاج لئلا يفسد ثيابه و رحله بالقطران، حتى إذا بلغ إلى قوله:

شيطانه أنثى و شيطاني ذكر

تعلّق الناس هذا البيت و هرب العجاج.

غلب الشعراء عند عبد الملك بن مروان أو سليمان بن عبد الملك و ظفر منه بجارية:

و نسخت من كتاب أبي عمرو قال حدّثني أبو الأزهر ابن بنت أبي النّجم عن أبي النجم أنّه كان عند عبد الملك بن مروان - و يقال عند سليمان بن عبد الملك - يوما و عنده جماعة من الشعراء، و كان أبو النّجم فيهم و الفرزدق، و جارية واقفة على رأس سليمان أو عبد الملك تذبّ عنه، فقال: من صبّحني بقصيدة يفتخر فيها و صدق في فخره فله هذه الجارية. فقاموا على ذلك ثم قالوا: إن أبا النّجم يغلبنا بمقطّعاته (يعنون بالرّجز)، قال: فإني لا أقول إلاّ قصيدة. فقال من ليلته قصيدته التي فخر فيها و هي:

علق الهوى بحبائل الشّعثاء

/ثم أصبح و دخل عليه و معه الشعراء فأنشده، حتى إذا بلغ إلى قوله:

ص: 346


1- متحفلا: متزينا.
2- الهناء: القطران.

منّا الذي ربع(1) الجيوش لظهره *** عشرون و هو يعدّ في الأحياء

فقال له عبد الملك: قف، إن كنت صدقت في هذا البيت فلا نريد ما وراءه. فقال الفرزدق: و أنا أعرف منه ستة عشر، و من ولد ولده أربعة كلّهم قد ربع. فقال عبد الملك أو سليمان: و من ولد ولده هم ولده، ادفع إليه الجارية يا غلام. قال: فغلبهم يومئذ.

قال: و بلغني من وجه آخر أنه قال له: فإذا أقررت له بستة عشر فقد وهبت له أربعة، و دفع إليه الجارية، فقدم بها البادية؛ فكان بينه و بين أهله شرّ من أجلها.

وصف جارية لخالد بن عبد اللّه القسري لساعته فوهبها له:

و قال أبو عمرو:

بعث الجنيد بن عبد الرحمن المرّيّ إلى خالد بن عبد اللّه القسريّ بسبي من الهند بيض، فجعل يهب لأهل البيت كما هو للرّجل من قريش و من وجوه الناس، حتى بقيت جارية منهنّ جميلة كان يدّخرها و عليها ثياب أرضها فوطتان. فقال لأبي النّجم: هل عندك فيها شيء حاضر و تأخذها الساعة؟ قال: نعم أصلحك اللّه! فقال العريان بن الهيثم النّخعيّ: كذب و اللّه ما يقدر على ذلك.

فقال أبو النّجم:

علقت خودا من بنات الزّطّ(2) *** ذات جهاز(3) مضغط ملطّ(4)

رابي المجسّ جيّد المحطّ *** كأنّما قطّ على مقطّ

إذا بدا منها الذي تغطّي *** كأنّ تحت ثوبها المنعطّ(5)

/شطّا(6) رميت فوقه بشطّ *** لم ينز في البطن و لم ينحطّ

فيه شفاء من أذى التّمطّي *** كهامة الشيخ اليماني الثّطّ(7)

و أومأ بيده إلى هامة العريان بن الهيثم. فضحك خالد و قال للعريان: كيف ترى!. أحتاج إلى أن يروّي(8)فيها يا عريان؟! قال: لا و اللّه! و لكنّه ملعون ابن ملعون:

و قال أبو عمرو في هذه الرواية و أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني محمد بن المغيرة(9) بن محمد عن الزّبير بن بكّار عن فليح بن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير قال:

ص: 347


1- ربع الجيوش: أخذ ربع أموالهم، و كان ذلك حظ الرئيس عند الغلبة، و اسم هذا النصيب المرباع.
2- الزط: جبل أسود من السند.
3- الجهاز هنا: فرج المرأة.
4- ملط: مستور، من ألط الشيء إذا ستره.
5- انعط الثوب: انشق.
6- الشط: جانب السنام.
7- الثط: الخفيف اللحية.
8- يروي: يتروى و يفكر.
9- في أ، م: «المغيرة بن محمد».
غضب عليه هشام ثم سمر معه ليلة فرضي عنه:

ورد أبو النّجم على هشام/بن عبد الملك في الشعراء. فقال لهم هشام: صفوا لي إبلا فقطّروها(1)و أوردوها و أصدروها حتى كأنّي انظر إليها. فأنشدوه و أنشده أبو النّجم:

الحمد للّه الوهوب المجزل

حتى بلغ إلى ذكر الشمس فقال «و هي على الأفق كعين...» و أراد أن يقول «الأحول» ثم ذكر حولة هشام فلم يتمّ البيت و أرتج عليه. فقال هشام: أجز البيت. فقال «كعين الأحول» و أتمّ القصيدة. فأمر هشام فوجئ(2)عنقه و أخرج من الرّصافة، و قال لصاحب شرطته: يا ربيع إيّاك و أن أرى هذا!، فكلّم وجوه الناس صاحب الشّرطة أن يقرّه ففعل، فكان يصيب من فضول أطعمة الناس و يأوي إلى المساجد. و قال الزّبير في خبره قال أبو النّجم: و لم يكن أحد بالرّصافة يضيف إلاّ سليم بن كيسان الكلبيّ و عمرو بن بسطام التّغلبيّ، فكنت آتي سليما فأتغدّى عنده، و آتي عمرا فأتعشّى عنده، و آتي المسجد فأبيت فيه. قال: فاهتمّ هشام ليلة و أمسى لقس النّفس/و أراد محدّثا يحدّثه، فقال لخادم له: ابغني محدّثا أعرابيّا أهوج شاعرا يروي الشعر. فخرج الخادم إلى المسجد فإذا هو بأبي النّجم، فضربه برجله و قال له: قم أجب أمير المؤمنين. قال: إنّي رجل أعرابيّ غريب.

قال: إيّاك أبغي، فهل تروي الشعر؟ قال: نعم و أقوله. فأقبل به حتى أدخله القصر و أغلق الباب، قال: فأيقن بالشرّ ثم مضى به فأدخله على هشام في بيت صغير، بينه و بين نسائه ستر رقيق و الشّمع بين يديه تزهر(3). فلما دخل قال له هشام: أبو النّجم؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين طريدك. قال: اجلس. فسأله و قال له: أين كنت تأوي و من كان ينزلك؟ فأخبره الخبر. قال: و كيف اجتمعا لك؟ قال: كنت أتغدّى عند هذا و أتعشّى عند هذا.

قال: و أين كنت تبيت؟ قال: في المسجد حيث وجدني رسولك. قال: و مالك من الولد و المال؟ قال: أمّا المال فلا مال لي، و أمّا الولد فلي ثلاث بنات و بنيّ يقال له شيبان. فقال: هل زوّجت(4) من بناتك أحدا؟ قال: نعم زوّجت اثنتين، و بقيت واحدة تجمز(5) في أبياتنا كأنّها نعامة. قال: و ما وصّيت به الأولى؟ - و كانت تسمّى «برّة» بالراء - فقال:

أوصيت من برّة قلبا حرّا *** بالكلب خيرا و الحماة شرّا

لا تسأمي ضربا لها و جرّا *** حتى ترى حلو الحياة مرّا

و إن كستك ذهبا و درّا *** و الحيّ عمّيهم بشرّ طرّا

فضحك هشام و قال: فما قلت للأخرى؟ قال قلت:

سبّي الحماة و ابهتي(6) عليها *** و إن دنت فازدلفي إليها

ص: 348


1- قطر الإبل: قرب بعضها من بعض على نسق.
2- في ب، س: «بوجء عنقه و إخراجه». يقال وجأه باليد و بالسكين إذا ضربه.
3- زهر السراج: تلألأ.
4- في ح، ب، س: «أخرجت».
5- جمز: عدا و أسرع.
6- بهته: قذفه بالباطل. و هي هنا على تضمين ابهتي معنى افترى عليها فتتعدى بعلى.

و أوجعي بالفهر(1) ركبتيها *** و مرفقيها و اضربي جنبيها

/و ظاهري النّذر لها عليها *** لا تخبري الدّهر به ابنتيها

قال: فضحك هشام حتى بدت نواجذه و سقط على قفاه. فقال: ويحك! ما هذه وصيّة يعقوب ولده! فقال: و ما أن كيعقوب يا أمير المؤمنين. قال: فما قلت للثالثة؟ قال قلت:

أوصيك يا بنتي فإني ذاهب *** أوصيك أن تحمدك القرائب

و الجار و الضيف الكريم السّاغب *** لا يرجع المسكين و هو خائب

/و لا تني أظفارك السّلاهب(2) *** منهنّ في وجه الحماة كاتب

و الزوج إنّ الزوج بئس الصاحب

قال: فكيف قلت لها هذا و لم تتزوّج؟ و أيّ شيء قلت في تأخير تزويجها؟ قال قلت فيها:

كأنّ ظلاّمة أخت شيبان *** يتيمة و والداها حيّان

الرأس قمل كلّه و صئبان(3) *** و ليس في الساقين إلاّ خيطان

تلك التي يفزع منها الشيطان

قال: فضحك هشام حتى ضحك النساء لضحكه، و قال للخصيّ: كم بقي من نفقتك؟ قال: ثلاثمائة دينار.

قال: أعطه إيّاها ليجعلها في رجل ظلاّمة مكان الخيطين.

كان أسرع الناس بديهة:

و قال الأصمعيّ أخبرني عمّي و أخبرني ببعض هذا الحديث ابن بنت أبي النّجم أنّ أبا النّجم قال:

الحمد للّه الوهوب المجزل

في قدر ما يمشي الإنسان من مسجد الأشياخ إلى حاتم الجزّار. و مقدار ما بينهما غلوة(4) أو نحوها.

قال: و كان أسرع الناس بديهة.

سئل الأصمعي أي الرجز أحسن و أجود فقال رجز أبي النجم:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أبو أيوب المدينيّ قال حدّثنا أبو الأسود النوجشاني(5) قال:

مرّ أبي بالأصمعي و أنا عنده فقال له: يا أبا سعيد أيّ الرّجز أحسن و أجود؟ قال: رجز أبي النّجم.

سأله هشام بن عبد الملك عن رأيه في النساء فأجابه:

ص: 349


1- الفهر: الحجر يملأ الكف.
2- السلاهب: الطويلة.
3- الصئبان: جمع صؤابة و هي بيضة القمل.
4- الغلوة: رمية سهم أبعد ما يقدر عليه، و يقال: هي قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة.
5- كذا في الأصول. و لم نقف على هذه النسبة فيما لدينا من كتب «الأنساب». و الظاهر أنها محرفة عن «النوشجاني» نسبة إلى نوشجان بلدة بفارس.

نسخت من كتاب أحمد بن الحارث الخرّاز قال حدّثنا المدائنيّ قال:

دخل أبو النّجم على هشام بن عبد الملك و قد أتت له سبعون سنة. فقال له هشام: ما رأيك في النساء؟ قال: إنّي لأنظر إليهنّ شزرا(1) و ينظرن إليّ خزرا. فوهب له جارية و قال له: اغد عليّ فأعلمني ما كان منك. فلما أصبح غدا عليه. فقال له: ما صنعت؟ فقال: ما صنعت شيئا و لا قدرت عليه، و قد قلت في ذلك أبياتا. ثم أنشده:

نظرت فأعجبها الذي في درعها *** من حسنه و نظرت في سرباليا

فرأت لها كفلا يميل بخصرها *** وعثا(2) روادفه و أجثم(3) جاثيا

و رأيت منتشر العجان(4) مقلّصا *** رخوا مفاصله و جلدا باليا

أدنى له الرّكب(5) الحليق كأنما *** أدنى إليه عقاربا و أفاعيا

إنّ النّدامة و السّدامة فاعلمن *** لو قد صبرتك للمواسي خاليا

ما بال رأسك من ورائي طالعا *** أ ظننت أنّ حر الفتاة و رائيا

فاذهب فإنّك ميّت لا ترتجى *** أبد الأبيد و لو عمرت لياليا

/أنت الغرور إذا خبرت و ربما *** كان الغرور لمن رجاه شافيا

لكنّ أيري لا يرجّى نفعه *** حتى أعود أخا فتاء ناشيا

فضحك هشام و أمر له بجائزة أخرى.

حدث هشام بن عبد الملك عن نفسه فأضحكه:

قال أبو عمرو الشّيبانيّ قال ابن كناسة:

قال هشام بن عبد الملك لأبي النّجم: يا أبا النّجم حدّثني. قال: عنّي أو عن غيري؟ قال: لا بل عنك.

قال: إنّي لمّا كبرت عرض لي البول، فوضعت عند رجلي شيئا أبول فيه. فقمت من الليل أبول، فخرج منّي صوت فتشدّدت، ثم عدت فخرج منّي صوت آخر، فأويت إلى فراشي، فقلت: يا أمّ الخيار هل/سمعت شيئا؟ فقالت: لا و اللّه و لا واحدة منهما! فضحك. قال: و أمّ الخيار التي يعني بقوله:

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي *** عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

و هي أرجوزة طويلة.

ذكر فتاة في شعره فتزوجت:

و قال أبو عمرو الشّيباني:

ص: 350


1- الشزر: النظر بجانب العين في إعراض. و الخزر: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخر عينه. و تسكين الزاي في الخزر لغة.
2- الوعث: اللين.
3- الكناية هنا ظاهرة.
4- العجان: القضيب الممدود من الخصية إلى الدبر.
5- الركب: الفرج.

أتت مولاة لبني قيس بن ثعلبة أبا النّجم فذكرت له أنّ بنتا لها أدركت منذ سنتين، و هي من أجمل النساء و أمدّهنّ قامة و لم يخطبها أحد، فلو ذكرتها في الشعر! فقال: أفعل، فما اسمها؟ قالت: نفيسة. فقال:

نفيس يا قتّالة الأقوام *** أقصدت قلبي منك بالسّهام

و ما يصيب القلب إلاّ رام *** لو يعلم العلم أبو هشام

ساق إليها حاصل الشام *** و جزية الأهواز كلّ عام

و ما سقى النّيل من الطعام *** إذ ضاق منها موضع الإدغام(1)

/أجثم جاث مستدير حام *** يعضّ في كين(2) له تؤام

عضّ النجاريّ (3) على اللّجام

فقالت: حسبك حسبك! و وفد إلى الشام، فلما رجع سمع الزّمر و الجلبة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: نفيسة تزوّجت.

وصف فهود عبد الملك بن بشر بن مروان:

قال أبو عمرو و ذكر عليّ بن المسور بن عمرو عن الأصمعيّ قال أخبرني بعض الرّواة و حدّثني ابن أخت أبي النّجم:

أنّ عبد الملك بن بشر بن مروان قال لأبي النّجم: صف لي فهودي هذه. فقال:

إنا نزلنا خير منزلات *** بين الحميرات المباركات

في لحم وحش و حباريات(4) *** و إن أردنا الصيد ذا اللّذّات

جاء مطيعا لمطاوعات *** علّمن أو قد كنّ عالمات

فسكّن الطّرف بمطرفات *** تريك آماقا مخطّطات

مدح الحجاج برجز و طلب إليه واديا في بلاده:

و نسخت من كتاب الخرّاز عن المدائنيّ عن عثمان بن حفص أنّ أبا النّجم مدح الحجّاج برجز يقول فيه:

ويل امّ دور عزّة و مجد *** دور ثقيف بسواء نجد

أهل الحصون و الخيول الجرد

فأعجب الحجّاج رجزه و قال: ما حاجتك؟ قال تقطعني ذا الجبنين. فوجم لها و سكت، ثم دعا كاتبه فقال: انظر ذا الجبنين ما هو! فإن ذا الأعرابيّ سألنيه لعلّه نهر من أنهار العراق. فسألوا عنه فقيل: واد في بلاد بني عجل أعلاه حشفة(5) و أسفله سبخة يخاصمه فيه بنو عمّ له. فقال: اكتبوا له به. قال: فأهله به إلى اليوم.

ص: 351


1- الكناية في «موضع الإدغام» ظاهرة يفسرها البيت التالي.
2- الكين: لحم باطن الفرج.
3- لم نعثر على هذه النسبة في مظانها. و لعله يريد به فرسا كريم النجار.
4- حباريات: مفردها حباري و هو طائر يضرب به المثل في البلاهة و الحمق.
5- الحشفة: صخرة رخوة في سهل من الأرض. و السبخة: أرض ذات نز و ملح.
أخطأ في أشياء أخذت عليه:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال قال الأصمعيّ:

أخطأ أبو النّجم في أشياء أخذت عليه، منها قوله:

و هي على عذب رويّ المنهل *** دحل أبي المرقال خير الأدحل

من نحت عاد في الزمان الأوّل

قال الأصمعي: الدّحل لا تورده الإبل إنما تورد الرّكايا(1). و قد عيب بهذا و عيب بقوله في البيت الذي يليه: إنّ هذا الدّحل من نحت عاد. قال: و الدّحلان لا تحفر و لا تنحت، إنما هي/خروق و شعاب في الأرض و الجبال لا تصيبها الشمس، فتبقى فيها المياه؛ و هي هوّة في الأرض يضيق فمها ثم يتّسع فيدخلها ماء السماء.

قال الأصمعيّ: و قال يصف فرسه و قد أجراه في حلبة:

تسبح أخراه و يطفو أوّله

قال الأصمعيّ: أخطأ في هذا؛ لأنه إذا سبح أخراه كان حمار الكساح أسرع منه. قال الأصمعيّ: و حدّثني أبي أنّه رأى فرسه هذا فقوّمه بسبعين درهما. و إنّما يوصف الجواد بأنه تسبح أولاه و تلحق رجلاه. قال: و خير عدو الذكور أن تشرف، و خير عدو الإناث أن تنبسط و تصغى(2) كعدو الذئب.

ص: 352


1- الركايا: جميع ركية و هي البئر.
2- تصغى: تميل.

6 - أخبار عليّة بنت المهديّ و نسبها و نتف من أحاديثها

أمها مكنونة أم ولد اشتريت للمهدي في حياة أبيه:

عليّة بنت المهديّ أمّها أمّ ولد مغنّية يقال لها مكنونة، كانت من جواري المروانيّة المغنّية.

نسخت من كتاب محمد بن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات أن ابن القدّاح(1) حدّثه قال:

كانت مكنونة جارية المروانيّة - و ليست من آل مروان بن الحكم، هي زوجة الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عبّاس - مغنّية، و كانت أحسن جارية بالمدينة وجها، و كانت رسحاء(2)، و كان بعض من يمازحها يعبث بها فيصيح: طست طست(3). و كانت حسنة الصدر و البطن، فكانت توضح بهما و تقول: و لكن(4) هذا!.

فاشتريت للمهديّ في حياة أبيه بمائة ألف درهم، فغلبت عليه، حتى كانت الخيزران تقول: ما ملك امرأة أغلظ عليّ منها. و استتر أمرها عن المنصور حتى مات، فولدت له عليّة بنت المهديّ.

بعض صفاتها:

أخبرني عمّي قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن عمّه قال:

كانت عليّة بنت المهديّ من أحسن الناس و أظرفهم تقول الشّعر الجيّد و تصوغ فيه الألحان الحسنة، و كان بها عيب، كان في جبينها فضل سعة حتى تسمج(5)، فاتّخذت العصائب المكلّلة بالجوهر لتستر بها جبينها، فأحدثت و اللّه شيئا ما رأيت فيما ابتدعته النساء و أحدثته أحسن منه.

كانت حسنة الدين و لا تشرب و لا تغني إلا أيام حيضها:

أخبرني الحسين بن يحيى و وكيع قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال سمعت إبراهيم بن إسماعيل الكاتب يقول:

كانت عليّة حسنة الدّين، و كانت لا تغنّي و لا تشرب النّبيذ إلاّ إذا كانت معتزلة الصلاة، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة و القرآن و قراءة الكتب، فلا تلذّ بشيء غير قول الشعر في الأحيان، إلاّ أن يدعوها الخليفة إلى شيء فلا تقدر على خلافه. و كانت تقول: ما حرّم اللّه شيئا إلاّ و قد جعل فيما حلّل منه عوضا، فبأيّ شيء يحتجّ عاصيه و المنتهك لحرماته!. و كانت تقول: لا غفر اللّه لي فاحشة ارتكبتها قطّ، و لا أقول في شعري إلا عبثا.

ص: 353


1- في أ، م: «أبا القداح».
2- الرسحاء: القليلة لحم العجز و الفخذين.
3- لعل المراد تشبيهها في استواء عجزها مع ظهرها و فخذيها باستواء قعر الطست.
4- في ب، س: «و يكن هذا».
5- في أ، م: «تسفّح» (بتشديد الفاء). و في ح: «تسبح». و عبارة «النجوم الزاهرة» (ج 2 ص 191 طبع دار الكتب المصرية): «و كان في جبهتها سعة تشين وجهها».
لم يجتمع في الإسلام أخ و أخت أحسن غناء منها و من أخيها:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني عون بن محمد الكنديّ قال سمعت عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع يقول:

ما اجتمع في الإسلام قطّ أخ و أخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهديّ و أخته عليّة، و كانت تقدّم عليه.

كانت تحب المكاتبة بالشعر و كاتبت طلا فمنعها الرشيد:
اشارة

أخبرني محمد قال حدّثنا عون بن محمد الكنديّ قال حدّثنا سعيد بن إبراهيم قال:

كانت عليّة تحب أن تراسل بالأشعار من تختصّه، فاختصّت خادما يقال له «طلّ» من خدم الرشيد، فكانت تراسله بالشعر، فلم تره أيّاما، فمشت على ميزاب و حدّثته و قالت في ذلك:

/

قد كان ما كلّفته زمنا *** يا طلّ من وجد بكم يكفي

حتى أتيتك زائرا عجلا *** أمشي على حتف إلى حتف

فحلف عليها الرشيد ألاّ تكلّم طلاّ و لا تسمّيه باسمه، فضمنت له ذلك. و استمع عليها يوما و هي تدرس(1)آخر سورة البقرة حتى بلغت إلى قوله عزّ و جلّ: فَإِنْ لَمْ يُصِبْهٰا/وٰابِلٌ فَطَلٌّ و أرادت أن تقول: «فطلّ» فقالت: فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين. فدخل فقبّل رأسها و قال: قد وهبت لك طلاّ، و لا أمنعك بعد هذا من شيء تريدينه. و لها في طلّ هذا عدّة أشعار فيها لها صنعة. منها:

صوت

يا ربّ إني قد غرضت(2) بهجرها *** فإليك أشكو ذاك يا ربّاه

مولاة سوء تستهين بعبدها *** نعم الغلام و بئست المولاه

«طلّ» و لكنّي حرمت نعيمه *** و وصاله إن لم يغثني اللّه

يا ربّ إن كانت حياتي هكذا *** ضرّا عليّ فما أريد حياه

الشعر و الغناء لها خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. و قد ذكر ابن خرداذبه أن الشعر و الغناء لنبيه الكوفيّ، و أنه هوي جارية تغنّي، فتعلّم الغناء من أجلها و قال الشعر، و لم يزل يتوصّل إليها بذلك حتى صار مقدّما في المغنّين، و أنّ هذا الشعر له فيها و الصنعة أيضا.

حجب عنها طل فقالت فيه شعرا و صحفت اسمه:
اشارة

أخبرني أحمد بن محمد أبو الحسن الأسديّ قال حدّثني محمد بن صالح بن شيخ بن عمير عن أبيه قال:

حجب طلّ عن عليّة فقالت و صحّفت اسمه في أوّل بيت:

أيا سروة(3) البستان طال تشوّقي *** فهل لي إلى ظلّ لديك سبيل

ص: 354


1- كذا في أكثر النسخ. و في أ، م: «تريد» و هي محرفة عن «تذبر» بالذال بمعنى تقرأ.
2- غرضت بهجرها أي ضجرت. و في الأصول: «عرضت» بالعين المهملة و هو تصحيف.
3- السرو: شجر حسن الهيئة قويم الساق، و قد فسر به صاحب «القاموس» العرعر.

متى يلتقي من ليس يقضى خروجه *** و ليس لمن يهوى إليه دخول

عسى اللّه أن نرتاح من كربة لنا *** فيلقى اغتباطا خلّة و خليل

/عروضه من الطويل. الشعر و الغناء لعليّة خفيف رمل. كذا ذكر ميمون بن هارون، و ذكر عمرو بن بانة أنه لسلسل خفيف رمل بالوسطى. و أوّل الصوت:

متى يلتقي من ليس يقضى خروجه

و ذكر حبش أنه للهذليّ خفيف رمل بالبنصر.

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق الطّالقانيّ قال حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن الحسين الهشاميّ قال:

قالت عليّة في طلّ و صحّفت اسمه في هذا الشعر و غنّت فيه:

صوت

سلّم على ذاك الغزال *** الأغيد الحسن الدّلال

سلّم عليه و قل له *** يا غلّ ألباب الرجال

خلّيت جسمي ضاحيا *** و سكنت في ظلّ الحجال(1)

و بلغت منّي غاية *** لم أدر فيها ما احتيالي

الشعر و الغناء لعليّة خفيف رمل. و ذكر غير هذا أن الغناء لأحمد بن المكيّ في هذه الطريقة.

أنت تقول الشعر في خادمها رشأ و تكنى عنه بزينب:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني ميمون بن هارون عن محمد بن عليّ بن عثمان/الشّطرنجيّ:

أن عليّة كانت تقول الشعر في خادم لها يقال له «رشأ» و تكني عنه. فمن شعرها فيه و كنت عنه بزينب:

صوت

وجد الفؤاد بزينبا *** وجدا شديدا متعبا

أصبحت من كلفي بها *** أدعى سقيما(2) منصبا

/و لقد كنيت عن اسمها *** عمدا لكي لا تغضبا

و جعلت زينب سترة *** و كتمت أمرا معجبا

قالت و قد عزّ الوصا *** ل و لم أجد لي مذهبا

و اللّه لا نلت المودّة *** أو تنال الكوكبا

هكذا ذكر ميمون بن هارون، و روايته فيه عن المعروف بالشّطرنجيّ و لم يحصّل ما رواه. و هذا الصوت شعره لابن

ص: 355


1- الحجال: جمع حجلة و هي ستر العروس في جوف البيت.
2- في أ، م: «شقيا».

رهيمة المدنيّ. و الغناء ليونس الكاتب، و لحنه من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و هو من زيانب يونس المشهورات و قد ذكرته معها(1). و الصحيح أنّ عليّة غنّت فيه لحنا من الثقيل الأوّل بالوسطى، حكى ذلك ابن المكيّ عن أبيه، و أخبرني به ذكاء عن القاسم بن زرزور.

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني الحسين بن يحيى الكاتب أو الجماز(2) قال حدّثني عبيد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ قال:

لمّا علم من عليّة أنها تكني عن رشأ بزينب قالت:

صوت

القلب مشتاق إلى ريب *** يا ربّ ما هذا من العيب

قد تيّمت قلبي فلم أستطع *** إلاّ البكايا عالم الغيب

خبأت في شعري اسم الذي *** أردته كالخبء في الجيب

قال: و غنّت فيه لحنا من طريقه خفيف الرّمل الأوّل فصحّفت اسمها في ريب.

هجت طغيان حين و شت بها إلى رشأ:

قال: و كانت لأم جعفر جارية يقال لها طغيان، فوشت بعليّة إلى رشأ و حكت عنها ما لم تقل، فقالت عليّة:

لطغيان خفّ مذ ثلاثين حجّة *** جديد فلا يبلى و لا يتخرّق

و كيف بلى خفّ هو الدّهر كلّه *** على قدميها في الهواء معلّق

فما خرقت خفّا و لم تبل جوربا *** و أمّا سراويلاتها فتمزّق

شعرها حين امتنع رشأ عن شرب النبيذ:
اشارة

قال: و حلف رشأ ألاّ يشرب النبيذ سنة، فقالت:

صوت

قد ثبت(3) الخاتم في خنصري *** إذ جاءني منك تجنّيك

حرّمت شرب الراح إذ عفتها *** فلست في شيء أعاصيك

فلو تطوّعت لعوّضتني *** منه رضاب الرّيق من فيك

فيا لها عندي من نعمة *** لست بها ما عشت أجزيك

يا زينبا قد أرّقت مقلتي *** أمتعني اللّه بحبّيك

ص: 356


1- انظر الجزء الرابع من «الأغاني» من هذه الطبعة ص 402 و ما بعدها.
2- مر هذا الاسم في الجزء الخامس ص 273 باسم «الحسين بن يحيى أبي الجمان» و في الجزء السابع ص 208 باسم «الحسين بن يحيى أبي الحمار».
3- الكناية هنا غير مفهومة و إن كان المعنى الإجمالي واضحا.

/غنّت فيه عليّة هزجا.

غنى عقيد للمعتصم بشعر فسأل عنه فقال محمد بن إسماعيل إنه لها فغضب و أعرض عنه:
اشارة

أخبرني جحظة و محمد بن يحيى قالا حدّثنا ميمون بن هارون قال حدّثني الحسن(1) بن إبراهيم بن رباح قال: قال لي محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي:

كنت عند المعتصم و عنده مخارق و علّويه و محمد بن الحارث و عقيد، فتغنّى عقيد و كنت أضرب عليه:

صوت

نام عذّالي و لم أنم *** و اشتفى الواشون من سقمي

و إذا ما قلت بي ألم *** شكّ من أهواه في ألمي

/فطرب المعتصم و قال: لمن هذا الشعر و الغناء؟ فأمسكوا. فقلت: لعليّة، فأعرض عنّي، فعرفت غلطي و أنّ القوم أمسكوا عمدا، فقطع(2) بي. و تبيّن حالي، فقال: لا ترع يا محمد؛ فإنّ نصيبك فيها مثل نصيبي.

الغناء لعليّة خفيف رمل. و قد قال قوم: إنّ هذا اللحن للعبّاس بن أشرس الطّنبوريّ مولى خزاعة، و إن الشعر لخالد الكاتب.

غنى بنان للمنتصر بلحن لها في شعر الرشيد:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني أحمد بن يزيد قال حدّثني أبي قال:

كنّا عند المنتصر، فغنّاه بنان لحنا من الرمل الثاني و هو خفيف الرمل:

صوت

يا ربّة المنزل بالبرك(3) *** و ربّة السلطان و الملك

تحرّجي باللّه من قتلنا *** لسنا من الدّيلم و التّرك

فضحكت. فقال لي: ممّ ضحكت؟ قلت: من شرف قائل هذا الشعر، و شرف من عمل اللّحن فيه، و شرف مستمعه. قال: و ما ذاك؟ قلت: الشعر فيه للرشيد، و الغناء لعليّة بنت المهديّ. و أمير المؤمنين مستمعه. فأعجبه ذلك و ما زال يستعيده.

أخذت من إسحاق لحنا و غنته الرشيد ثم غناه هو للمأمون فعنفه:
اشارة

حدّثني إبراهيم بن محمد بن بركشة قال سمعت شيخا يحدّث أبي و أنا غلام فحفظت عنه ما حدّثه به و لم أعرف اسمه، قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال:

عملت في أيام الرّشيد لحنا و هو:

ص: 357


1- في ب، س: «الحسين».
2- قطع بي: يريد سدّت عليّ مسالك القول.
3- البرك: علم على عدّة مواضع.
صوت

سقيا لأرض إذا ما نمت نبّهني *** بعد الهدوّ بها قرع النّواقيس

كأنّ سوسنها في كلّ شارقة *** على الميادين أذناب الطّواويس

/قال: فأعجبني و عملت على أن أباكر به الرّشيد. فلقيني في طريقي خادم لعليّة بنت المهديّ، فقال:

مولاتي تأمرك بدخول الدّهليز لتسمع من بعض جواريها غناء أخذته عن أبيك و شكّت فيه الآن. فدخلت معه إلى حجرة قد أفردت لي كأنها كانت معدّة فجلست، و قدّم لي طعام و شراب فنلت حاجتي منهما، ثم خرج إليّ خادم فقال لي: تقول لك مولاتي: أنا أعلم أنك قد غدوت إلى أمير المؤمنين بصوت قد أعددته له محدث، فأسمعنيه و لك جائزة سنيّة تتعجّلها، ثم ما يأمر به لك بين يديك، و لعله لا يأمر لك بشيء أو لا يقع الصوت منه بحيث توخّيت، فيذهب سعيك باطلا. فاندفعت فغنّيتها إيّاه، و لم تزل تستعيده مرارا، ثم أخرجت إليّ عشرين ألف درهم و عشرين ثوبا، و قالت: هذه جائزتك، و لم تزل تستعيده مرارا. ثم/قالت: اسمعه منّي الآن؛ فغنّته غناء ما خرق سمعي مثله. ثم قالت: كيف تراه؟ قلت: أرى و اللّه ما لم أر مثله. قالت: يا فلانة أعيدي له مثل ما أخذ؛ فأحضرت لي عشرين ألفا أخرى و عشرين ثوبا. فقالت: هذا ثمنه، و أنا الآن داخلة إلى أمير المؤمنين، أبدأ أتغنّى(1) به، و أخبر أنّه من صنعتي. و أعطي اللّه عهدا لئن نطقت أنّ لك فيه صنعة لأقتلنّك! هذا إن نجوت منه إن علم بمصيرك إليّ. فخرجت من عندها و و اللّه إنّي لكالموقن(2) بما أكره من جائزتها أسفا على الصوت، فما جسرت و اللّه بعد ذلك أن أتنغّم به في نفسي فضلا عن أن أظهره حتى ماتت. فدخلت على المأمون في أوّل مجلس جلسه للّهو بعدها، فبدأت به أوّل ما غنّيت. فتغيّر لون المأمون و قال: من أين لك ويلك هذا؟! قلت:

و لي الأمان على الصدق؟ قال: ذلك لك. فحدّثته الحديث. فقال: يا بغيض! فما كان في هذا من النفاسة حتى شهرته و ذكرت هذا منه مع ما قد أخذته من العوض! و هجّنني فيه هجنة وددت معها أنّي لم أذكره. فآليت ألاّ أغنّيه/بعدها أبدا. الشعر في هذا الصوت لإسماعيل بن يسار النّسائي، و قيل: إنه لإسحاق. و لحنه من الثقيل الأوّل مطلق في مجرى الوسطى. و ذكر حبش أنه للهذليّ، و لم يحصّل ما قاله.

طارحت أخاها إبراهيم الغناء و سمعها من في مجلس المأمون:

أخبرني عمّي قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال قال لي ينشو المغنّي حدّثني أبو أحمد بن الرشيد قال:

كنت يوما عند المأمون و إلى جانبي منصور و إبراهيم عمّاي، فجاء ياسر دخلة فسارّ المأمون. فقال المأمون لإبراهيم: إن شئت يا إبراهيم فانهض، فنهض. فنظرت إلى ستر قد رفع مما يلي دار الحرم، فما كان بأسرع من أن سمعت شيئا أقلقني. فنظر إليّ المأمون و أنا أميل فقال لي: يا أبا أحمد مالك تميل؟ فقلت: إني سمعت شيئا ما سمعت بمثله. فقال: هذه عمّتك عليّة تطارح عمّك إبراهيم:

ما لي أرى الأبصار بي جافية

ص: 358


1- في ب، س: «و لن أبدأ بغناء غيره».
2- في أ، م: «و و اللّه إني لأكاد أموت بما أكره إلخ».
نسبة هذا الصوت:
صوت

ما لي أرى الأبصار بي جافية *** لم تلتفت منّي إلى ناحيه

لا ينظر الناس إلى المبتلى *** و إنّما الناس مع العافيه

صحبي سلوا ربّكم العافيه *** فقد دهتني بعدكم داهيه

صارمني بعدكم سيّدي *** فالعين من هجرانه باكيه

الشعر لأبي العتاهية، و ذكر ابن المعتز أنّه لعليّة و أنّ اللحن لها خفيف رمل. و ذكر أنه لغيرها خفيف رمل مطلق، و لحن عليّة مزموم.

أرسلت إلى الرشيد و منصور شرابا مع خلوب و غنتهما بلحن لها:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني أبو العبّاس أن بشرا المرثديّ قال قالت لي ريّق:

كنت يوما بين يدي الرشيد و عنده أخوه منصور و هما يشربان، فدخلت إليه خلوب(1) (جارية لعليّة) و معها كأسان مملوءتان و تحيّتان، و مع خادم يتبعها عود، فغنّتهما قائمة و الكأسان في أيديهما و التحيتان بين أيديهما:

صوت

حيّا كما اللّه خليليّا *** إن ميّتا كنت و إن حيّا

/إن قلتما خيرا فخير لكم *** أو قلتما غيّا فلا غيّا

فشربا. ثم دفعت إليهما رقعة فإذا فيها: «صنعت يا سيّديّ أختكما هذا اللّحن اليوم، و ألقته على الجواري، و اصطبحت فبعثت لكما به، و بعثت من شرابي إليكما و من تحياتي و أحذق جواريّ لتغنّيكما. هنأكما اللّه و سرّكما و أطاب عيشكما و عيشي بكما».

دعا إبراهيم بن المهدي إسحاق و أبا دلف و غنتهم جاريته لحنا لها:

أخبرني عمّي قال حدّثني بنحو من هذا أبو عبد اللّه المرزبان قال حدّثني إبراهيم بن أبي دلف العجليّ قال:

كنّا مع المعتصم بالقاطول(2) و كان إبراهيم بن المهديّ في حرّاقته بالجانب الغربيّ، و أبي و إسحاق بن إبراهيم الموصليّ في حرّاقتيهما بالجانب الشرقيّ. فدعاهما في يوم جمعة، فعبرا إليه من زلال(3) و أنا معهما و أنا صغير، عليّ أقبية و منطقة فلما دنونا من حرّاقة إبراهيم فرآنا نهض و نهضت بنهوضه صبيّة له يقال لها «غضّة» و إذا

ص: 359


1- في أ، م: «خلوى».
2- القاطول: اسم نهر كأنه مقطوع من دجلة، و هو نهر كان في موضع سامرا قبل أن تعمر، و كان الرّشيد أوّل من حفر هذا النهر و بنى على فوهته قصرا.
3- ظاهر من السياق أنه نوع من السفن كالزورق و نحوه. و قد ورد هذا الاسم في كتاب «تزيين الأسواق» لداود الأنطاكي صفحة 258 طبع حجر بمصر سنة 1279 هجرية في قوله: «فعزمت على واسط لأن لي بها صديقا من الكتاب فجئت فرأيت زلالا مهيأ فطلبت النزول معهم فقالوا نحملك بدرهمين، و لكن الزلال لهاشمي لا يريد معه غريبا، فتزيّ بزينا كأنك بعض الملاحين...» و كتب مصححه بالهامش: «قوله زلالا كأنه نوع من السفن كالزورق كما يظهر من بقية الكلام» ا ه و انظر الكلام عليه في «قاموس دوزي».

في يديها كأسان و في يده كأس. فلما صعدا إليه اندفع فغنّى:

/

حيّا كما اللّه خليليّا *** إن ميّتا كنت و إن حيّا

إن قلتما خيرا فأهلا(1) به *** أو قلتما غيّا فلا غيّا

ثم ناول كلّ واحد منهما كأسا، و أخذ هو الكأس الثالث(2) الذي في يد الجارية و قال: هلمّ نشرب على ريقنا قدحا. ثم دعا بالطعام فأكلنا، و وضع النبيذ فشربنا، و غنّياه و غنّاهما و ضربا معه و ضرب معهما، و غنّت الصبيّة، فطرب أبي و قال لها: أحسنت أحسنت!. فقال له إبراهيم: إن كانت أحسنت فخذها، فما أخرجتها إلاّ لك.

شكت إليها أم جعفر انقطاع الرشيد فقالت شعرا و غنت به فرجع إليها:
اشارة

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم و إسماعيل بن يونس قالا حدّثنا أبو هفّان قال:

أهديت إلى الرشيد جارية في غاية الجمال و الكمال، فخلا معها يوما و أخرج كلّ قينة في داره و اصطبح، فكان جميع من حضره من جواريه المغنّيات و الخدمة في الشراب زهاء ألفي جارية في أحسن زيّ من كلّ نوع من أنواع الثياب و الجوهر. و اتّصل الخبر بأمّ جعفر فغلظ عليها ذلك، فأرسلت إلى عليّة تشكو إليها. فأرسلت إليها عليّة: لا يهولنّك هذا، فو اللّه لأردنّه إليك، قد عزمت أن أصنع شعرا و أصوغ فيه لحنا و أطرحه على جواريّ، فلا تبقى عندك جارية إلاّ بعثت بها إليّ و ألبسيهنّ ألوان الثياب ليأخذن الصوت مع جواريّ، ففعلت أمّ جعفر ما أمرتها به عليّة. فلما جاء وقت صلاة العصر لم يشعر الرشيد إلا و عليّة قد خرجت عليه من حجرتها، و أم جعفر من حجرتها معها زهاء ألفي جارية من جواريها و سائر جواري القصر، عليهنّ غرائب اللباس، و كلهنّ في لحن واحد هزج صنعته عليّة:

صوت

منفصل عنّي و ما *** قلبي عنه منفصل

يا قاطعي اليوم لمن *** نويت بعدي أن تصل

/فطرب الرّشيد و قام على رجليه حتى استقبل أمّ جعفر و عليّة هو على غاية السرور، و قال: لم أر كاليوم قطّ. يا مسرور لا تبقينّ في بيت المال درهما إلا نثرته. فكان مبلغ ما نثره يومئذ ستة آلاف ألف درهم، و ما سمع بمثل ذلك اليوم قطّ.

كانت تحب لحن الرمل:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال/حدّثني محمد بن يزيد المبرّد قال:

كانت عليّة تقول: من لم يطربه الرمل لم يطربه شيء. و كانت تقول: من أصبح و عنده طباهجة(3) باردة و لم يصطبح فعليه لعنة اللّه.

ص: 360


1- كذا في ح. و في أ، م: «فأهلا له». و في ب س: «فخير لكم».
2- كذا في الأصول. و يلاحظ أن الكأس مؤنثه.
3- الطباهجة: ضرب من اللحم المقلي.
غنت هي و أخوها إبراهيم و زمر عليهما أخوهما يعقوب:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني يوسف بن إبراهيم قال قالت لي عريب:

أحسن يوم رأيته و أطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهديّ عند أخته عليّة و عندهم أخوهم يعقوب، و كان أحذق الناس بالزّمر. فبدأت عليّة فغنّتهم من صنعتها و أخوها يعقوب يزمر عليها:

صوت

تحبّب فإن الحبّ داعية الحبّ *** و كم من بعيد الدّار مستوجب القرب

و غنّى إبراهيم في صنعته و زمر عليه يعقوب:

صوت

يا واحد الحبّ ما لي منك إذ كلفت *** نفسي بحبّك إلاّ الهمّ و الحزن

لم ينسنيك سرور لا و لا حزن *** و كيف لا! كيف ينسى وجهك الحسن

و لا خلا منك قلبي لا و لا جسدي *** كلّي بكلّك مشغول و مرتهن

نور تولّد من شمس و من قمر *** حتى تكامل منه الرّوح و البدن

فما سمعت مثل ما سمعته منهما قطّ، و أعلم أني لا أسمع مثله أبدا.

تمارت خشف و عريب في عدد أصواتها بحضرة المتوكل:
اشارة

قال ميمون بن هارون قلت لعريب:

رأيت في النوم كأنّي سألت عليّة بنت المهديّ عن أغانيها فقالت لي: هي نيّف و خمسون صوتا. فقالت لي عريب: هي كذلك. و قد أخبرني بنحو هذا الخبر عبد اللّه بن الرّبيع الرّبيعيّ قال حدّثني وسواسة و هو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدّثتني خشف الواضحيّة أنها تمارت هي و عريب في غناء عليّة بحضرة المتوكّل أو غيره من الخلفاء، فقالت هي: هي ثلاثة و سبعون صوتا. فقالت عريب: هي اثنان و سبعون صوتا. فقال المتوكّل: غنّيا غناءها، فلم تزالا تغنّيان غناءها حتى مضى اثنان و سبعون صوتا، و لم تذكر خشف الثالث و السبعين فقطع بها و استولت عريب عليها و انكسرت. قالت: فلمّا كان الليل رأيت عليّة فيما يرى النائم فقالت: يا خشف خالفتك عريب في غنائي! قلت: نعم يا سيّدتي. قالت: الصواب معك، أ فتدرين ما الصوت الذي أنسيته؟ قلت: لا و اللّه! و لوددت أني فديت ما جرى بكلّ ما أملك. قالت هو:

صوت

بني الحبّ على الجور فلو *** أنصف المعشوق فيه لسمج

ليس يستحسن في حكم الهوى *** عاشق يحسن تأليف الحجج

لا تعيبن من محبّ ذلّة *** ذلّة العاشق مفتاح الفرج

و قليل الحب صرفا خالصا *** لك خير من كثير قد مزج

ص: 361

و كأنّها قد اندفعت تغنّيني به، فما سمعت أحسن مما غنّته، و لقد زادت لي فيه أشياء في نومي لم أكن أعرفها. فانتبهت و أنا لا أعقل فرحا به. فباكرت الخليفة و ذكرت له القصّة. فقالت عريب: هذا شيء صنعته أنت لما جرى بالأمس، و أمّا الصوت فصحيح. فخلفت للخليفة بما رضي/به أنّ القصة كما حكيت. فقال: رؤياك و اللّه /أعجب، و رحم اللّه عليّة! فما تركت ظرفها حيّة و ميّتة، و أجازني جائزة سنيّة. و لعليّة في هذا الصوت أعني:

بني الحب على الجور فلو

لحنان: خفيف ثقيل و هزج. و قيل إن الهزج لغيرها.

سمع الرشيد لحنين لها من جاريتيها عند إبراهيم الموصلي فرجع إليها و سمعهما منها و مدحهما:
اشارة

و نسخت من كتاب محمد بن الحسن الكاتب حدّثني أحمد بن محمد الفيرزان(1) قال حدّثني بعض خدم السلطان عن مسرور الكبير، و نسخت هذا الخبر بعينه من كتاب محمد بن طاهر يرويه عن ابن الفيرزان(1)، و فيهما خلاف يذكر في موضعه، قال:

اشتاق الرشيد إلى إبراهيم الموصليّ يوما، فركب حمارا يقرب من الأرض، ثم أمر بعض خدم الخاصة بالسعي بين يديه، و خرج من داره، فلم يزل حتى دخل على إبراهيم. فلما أحسّ به استقبله و قبّل رجليه. و جلس الرشيد فنظر إلى مواضع قد كان فيها قوم ثم مضوا، و رأى عيدانا كثيرة، فقال: يا إبراهيم ما هذا؟ فجعل يدافع.

فقال: ويلك! اصدقني. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، جاريتان أطرح عليهما. قال: هاتهما. فأحضر جاريتين ظريفتين، و كانت الجاريتان لعليّة بنت المهديّ بعثت بهما يطرح عليهما. فقال الرشيد لإحداهما: غنّي، فغنّت - و هذا كله من رواية محمد بن طاهر -:

بني الحبّ على الجور فلو *** أنصف المعشوق فيه لسمج

ليس يستحسن في حكم الهوى *** عاشق يحسن تأليف الحجج

لا تعيبن من محبّ ذلّة *** ذلّة العاشق مفتاح الفرج

و قليل الحب صرفا خالصا *** لك خير من كثير قد مزج

فأحسنت جدّا. فقال الرشيد: يا إبراهيم لمن الشعر؟ ما أملحه! و لمن اللحن؟ ما أظرفه! فقال: لا علم لي. فقال للجارية، فقالت: لستّي. قال: و من ستّك؟ قالت: عليّة/أخت أمير المؤمنين. قال: الشعر و اللحن؟! قالت نعم! فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلى الأخرى فقال: غنّي؛ فغنّت:

صوت

تحبّب فإن الحبّ داعية الحبّ *** و كم من بعيد الدار مستوجب القرب

تبصّر فإن حدّثت أنّ أخا هوى *** نجا سالما فارج النّجاة من الحب

إذا لم يكن في الحب سخط و لا رضا *** فأين حلاوات الرسائل و الكتب

- الغناء لعليّة خفيف ثقيل. و في كتاب علّويه: الغناء له - فسأل إبراهيم عن الغناء و الشعر؛ فقال: لا علم

ص: 362


1- في أ، م: «الغيزران».

لي يا أمير المؤمنين. فقال للجارية: لمن الشعر و اللحن؟ فقالت لستّي. قال: و من ستّك؟ فقالت: عليّة أخت أمير المؤمنين. فوثب الرشيد و قال: يا إبراهيم احتفظ بالجاريتين. و مضى فركب حماره و انصرف إلى عليّة. هذا كله في رواية محمد بن طاهر، و لم يذكره محمد بن الحسن، و لكنه قال في خبره: إن الرشيد زار الموصلي هذه الزيارة ليلا، و كان سببها(1) أنه انتبه في نصف الليل فقال: هاتوا حماري فأتي بحمار كان له أسود يركبه في القصر قريب من الأرض، فركبه و خرج في درّاعة(2) و شيء متلثّما بعمامة وشي ملتحفا برداء وشي، و خرج بين يديه مائة/خادم أبيض سوى الفرّاشين. و كان مسرور الفرغاني جريئا عليه لمكانته عنده، فلما خرج على باب القصر قال: أين يريد أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ قال: أردت منزل الموصليّ. قال مسرور: فمضى و نحن بين يديه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم، فتلقّاه و قبّل حافر حماره و قال: يا أمير المؤمنين، جعلني اللّه فداءك، أ في مثل هذه الساعة تظهر!! قال: نعم! شوق طرق بي. ثم نزل فجلس في طرف الإيوان و أجلس إبراهيم. فقال له إبراهيم: يا سيّدي/أ تنشط لشيء تأكله؟ قال: نعم، و ما هو؟ قال: خاميز(3) ظبي. فأتي به كأنّما كان معدّا له فأصاب منه شيئا يسيرا، ثم دعا بشراب كان حمل معه. فقال له إبراهيم الموصليّ: أغنّيك يا سيّدي أم يغنّيك إماؤك؟ فقال: بل الجواري. فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان و جانبيه. فقال: أ يضربن كلّهن أم واحدة واحدة؟ فقال: بل تضرب اثنتان اثنتان و تغنّي واحدة فواحدة. ففعلن ذلك حتى مرّ صدر الإيوان و أحد جانبيه و الرّشيد يسمع و لا ينشط لشيء من غنائهنّ، إلى أن غنّت صبيّة من حاشية الصّفّ.

صوت

يا موري الزّند قد أعيت قوادحه *** اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس

ما أقبح الناس في عيني و أسمجهم *** إذا نظرت فلم أبصرك في الناس

فطرب لغنائها و استعاد الصوت مرارا و شرب أرطالا، ثم سأل الجارية عن صانعه فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت إليه، فأخبرته بشيء أسرّته إليه. فدعا بحماره فانصرف و التفت إلى إبراهيم فقال: ما عليك ألاّ تكون خليفة! فكادت نفسه تخرج، حتى دعا به بعد و أدناه. هذا نظم رواية محمد بن الحسن في خبره.

و قال محمد بن طاهر في خبره: فقال للموصليّ: احتفظ بالجاريتين، و ركب من ساعته إلى عليّة فقال: قد أحببت أن أشرب عندك اليوم. فتقدّمت فيما تصلحه، و أخذا في شأنهما. فلمّا أن كان في آخر الوقت حمل عليها بالنبيذ، ثم أخذ العود من حجر جارية فدفعه إليها، فأكبرت ذلك. فقال: و تربة المهديّ لتغنّنّ!. قالت: و ما أغنّي؟ قال: غنّي:

بني الحبّ على الجور فلو

/فعلمت أنه قد وقف على القصة فغنّته. فلمّا أتت عليه قال لها غنّي:

تحبّب فإنّ الحبّ داعية الحب

فلجلجت ثم غنّته. فقام و قبّل رأسها و قال: يا سيّدي هذا عندك و لا أعلم! و تمّم يومه معها.

ص: 363


1- في الأصول: «سببه».
2- الدراعة: ضرب من الثياب، أو هي جبة مشقوقة المقدم.
3- الخاميز: مرق السكباج المبرد المصفى من الدهن. أعجمي معرب.
عادها أخوها إبراهيم و كرر السؤال عنها فخجل من جوابها:

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو العبيس بن حمدون قال قال إبراهيم بن المهديّ:

ما خجلت قطّ خجلتي من عليّة أختي. دخلت عليها يوما عائدا فقلت: كيف أنت يا أختي جعلت فداءك و كيف حالك و جسمك؟ فقالت: بخير و الحمد للّه. و وقعت عيني على جارية كانت تذبّ عنها فتشاغلت بالنظر إليها فأعجبتني و طال جلوسي، ثم استحييت من عليّة فأقبلت عليها فقلت: و كيف أنت يا أختي جعلت فداءك و كيف حالك و جسمك؟ فرفعت رأسها إلى حاضنة لها و قالت: أ ليس هذا قد مضى مرّة و أجبنا عنه! فخجلت خجلا ما خجلت مثله قطّ، و قمت و انصرفت.

أمرها الرشيد بالغناء فغنته من وراء ستار و كان معه جعفر فعرفه بها:
اشارة

أخبرني عبد اللّه بن الرّبيع الرّبيعيّ قال حدّثني أحمد بن إسماعيل عن محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد قال:

شهدت أبي جعفرا و أنا صغير و هو يحدّث يحيى بن خالد جدّي في بعض/ما كان يخبره به من خلواته مع الرّشيد، قال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين ثم أقبل على حجرة يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة ففتحت له، ثم رجع من كان معنا من الخدم، ثم صرنا إلى حجرة مغلقة ففتحها بيده و دخلنا جميعا و أغلقها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه و في صدره مجلس مغلق فقعد على باب المجلس، فنقر هارون الباب بيده نقرات فسمعنا حسّا، ثم أعاد النّقر فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النّقر ثالثة فغنّت جارية ما ظننت و اللّه أنّ اللّه خلق مثلها في حسن الغناء و جودة الضّرب. فقال لها أمير المؤمنين بعد أن غنّت أصوتا: غنّي صوتي، فغنّت صوته، و هو:

صوت

و مخنّث شهد الزّفاف و قبله *** غنّى الجواري حاسرا و منقّبا

لبس الدّلال و قام ينقر دفّه *** نقرا أقرّ به العيون و أطربا

إنّ النساء رأينه فعشقنه *** فشكون شدّة ما بهنّ فأكذبا

- في هذا اللحن خفيف رمل نسبه يحيى المكيّ إلى ابن سريج و لم يصحّ له، و فيه خفيف ثقيل في كتاب عليّة أنه لها، و ذكر عبد اللّه بن محمد بن عبد الملك الزيّات أنه لريّق. و اللّحن مأخوذ من:

إنّ الرجال لهم إليك وسيلة

و هو خفيف ثقيل للهذليّ، و يقال إنه لابن سريج، و هو يأتي في موضع آخر - قال: فطربت و اللّه طربا هممت معه أن أنطح برأسي الحائط. ثم قال غنّي:

طال تكذيبي و تصديقي

فغنّت:

صوت

طال تكذيبي و تصديقي *** لم أجد عهدا لمخلوق

ص: 364

إنّ ناسا في الهوى غدروا *** أحدثوا(1) نقض المواثيق

لا تراني بعدهم أبدا *** أشتكي عشقا لمعشوق

- لحن عليّة في هذا الصوت هزج. و الشعر لأبي جعفر محمد بن حميد الطّوسيّ و له فيه لحن خفيف ثقيل. و لعريب فيه ثقيل أوّل و خفيف ثقيل آخر - قال: فرقص الرشيد و رقصت معه، ثم قال: امض بنا فإنّي أخاف أن يبدو منّا ما هو أكثر من هذا، فمضينا. فلما صرنا إلى الدّهليز قال و هو قابض على يدي: أعرفت هذه المرأة؟ قال قلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: فإني أعلم أنك ستسأل عنها و لا تكتم ذلك، و أنا أخبرك/أنها عليّة بنت المهديّ. و و اللّه لئن لفظت به بين يدي أحد و بلغني لأقتلنّك. قال: فسمعت جدّي يقول له: فقد و اللّه لفظت به، و و اللّه ليقتلنّك! فاصنع ما أنت صانع.

نسبة الصوت الذي أخذ منه:
اشارة

و مخنّث شهد الزّفاف و قبله

صوت

إنّ الرجال لهم إليك وسيلة *** إن يأخذوك تكحّلي و تخضّبي

و أنا امرؤ إن يأخذوني عنوة *** أقرن إلى سير الرّكاب و أجنب

/و يكون مركبك القعود(2) و حدجه *** و ابن النّعامة يوم ذلك مركبي

الناس يروون هذه الأبيات لعنترة بن شدّاد العبسيّ، و ذكر الجاحظ أنها لخزز(3) بن لوذان، و هو الصحيح.

و خزر شاعر قديم يقال إنه قبل امرئ القيس. و قد اختلف في معنى قوله «ابن النعامة» فقال أبو عبيدة و الأصمعيّ: النعامة فرسه و ابنها ظلّها. يقول: أقاد في الهاجرة إلى جنبها فيكون ظلّي كالراكب لظلّها. و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: ابن النّعامة مقدّم رجله مما يلي الأصابع. يقول: فلا يكون لي مركب إلاّ رجلي. و قال خالد بن كلثوم: ابن النعامة الخشبة التي يصلب عليها. يقول: أقتل و أصلب فتكون الخشبة مركبي. و احتجّ من ذكر أنه يعنى ظلّ فرسه و أنه يكون كالراكب له بقول الشاعر:

إذ ظلّ يحسب كلّ شيء فارسا *** و يرى نعامة ظلّه فيحول

قال: و ابن النعامة: ظلّ كلّ شيء. و قد مضى هذا الصوت مفردا مع خبره في موضع آخر.

أمرها الرشيد بالغناء فنظمت فيه شعرا و غنته به فطرب:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا أحمد بن يزيد المهلّبيّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال:

زار الرّشيد عليّة فقال لها: باللّه يا أختي غنّيني. فقالت: و حياتك لأعملنّ فيك شعرا و لأعملنّ فيه لحنا، فقالت من وقتها:

ص: 365


1- في ب، س: «حسنوا».
2- القعود: من الإبل ما اتخذه الراعي للركوب و حمل الزاد و المتاع. و الحدج: مركب من مراكب النساء نحو الهودج و المحفة.
3- كذا في «القاموس» (في مادة «لوذ»). و في الأصول: «حزن» و هو تحريف.
صوت

تفديك أختك قد حبوت بنعمة *** لسنا نعدّ لها الزمان عديلا

إلاّ الخلود، و ذاك قربك سيّدي *** لا زال قربك و البقاء(1) طويلا

و حمدت ربّي في إجابة دعوتي *** فرأيت حمدي عند ذاك قليلا

و عملت فيه لحنا من وقتها في طريقة خفيف الرّمل، فأطرب الرّشيد و شرب عليه بقيّة يومه.

طلب الرشيد أختها و لم يطلبها فقالت شعرا و بعثت من غناه له فأحضرها:
اشارة

قال: و قالت للرّشيد أيضا و قد طلب أختها و لم يطلبها.

صوت

ما لي نسيت و قد نودي بأصحابي *** و كنت و الذّكر عندي رائح غادي

أنا التي لا أطيق الدّهر فرقتكم *** فرقّ لي يا أخي من طول إبعاد

قال: و غنّت فيه لحنا من الثقيل الثاني، و بعثت من غنّاه للرشيد، فبعث فأحضرها.

حجت و تأخرت فتكدر الرشيد فنظمت شعرا و غنته فرضي عنها:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني زرزور الكبير غلام جعفر بن موسى الهادي:

أنّ عليّة حجّت في أيّام الرّشيد، فلمّا انصرفت أقامت بطيزناباذ(2) أيّاما، فانتهى ذلك إلى الرشيد فغضب.

فقالت عليّة:

صوت

أيّ ذنب أذنبته أيّ ذنب *** أي ذنب لو لا رجائي لربّي

بمقامي بطيزناباذ يوما *** بعده ليلة على غير شرب

ثم باكرتها عقارا شمولا *** تفتن النّاسك الحليم و تصبي

قرقفا قهوة تراها جهولا *** ذات حلم فرّاجة كلّ كرب

قال: و صنعت في البيتين الأوّلين لحنا خفيف الثقيل، و في البيتين الأخيرين لحنا من/الرّمل. فلمّا جاءت و سمع الشعر و اللحنين رضي عنها.

اشتاقها الرشيد و هو بالرقة فطلبها فجاءته و قالت شعرا و عملت فيه لحنا:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال:

ص: 366


1- في أ، م: «في البقاء».
2- كذا في «معجم البلدان» لياقوت. و طيزناباذ: موضع بين الكوفة و القادسية، كان من أنزه المواضع محفوفا بالكروم و الشجر و الحانات و المعاصر، و كان من المواضع المقصودة للهو و البطالة. و في الأصول: «طيرتاباذ» و هو تحريف.

اشتاق الرّشيد إلى عمّتي عليّة بالرّقّة، فكتب إلى خالها يزيد بن منصور في إخراجها إليه فأخرجها. فقالت في طريقها:

صوت

اشرب و غنّ على صوت النّواعير *** ما كنت أعرفها لو لا ابن منصور

لو لا الرجاء لمن أمّلت رؤيته *** ما جزت بغداد في خوف و تغرير

و عملت فيه لحنا في طريقة الثقيل الأوّل.

كانت مع الرشيد في الري فحنت إلى العراق بشعر فردها:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال: حدّثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الهشاميّ أبو عبد اللّه قال:

لمّا خرج الرّشيد إلى الرّيّ أخذ أخته عليّة معه. فلمّا صار بالمرج(1) عملت شعرا و صاغت فيه لحنا في طريقة الرمل و غنّت به، و هو:

صوت

/

و مغترب بالمرج يبكي لشجوه *** و قد غاب عنه المسعدون على الحبّ

إذا ما أتاه الرّكب من نحو أرضه *** تنشّق يستشفي برائحة الرّكب

فلمّا سمع الصّوت علم أنها قد اشتاقت إلى العراق و أهلها به فردّها.

غنت الرشيد في يوم فطر:
اشارة

و نسخت من كتاب هارون بن محمد الزّيّات حدّثني بعض موالي أبي عيسى بن الرّشيد عن أبي عيسى: أن عليّة غنّت الرّشيد في يوم فطر:

صوت

طالت عليّ ليالي الصّوم و اتّصلت *** حتى لقد خلتها زادت على الأبد

شوقا إلى مجلس يزهى بصاحبه *** أعيذه بجلال الواحد الصّمد

الغناء لعليّة ثاني ثقيل لا يشكّ فيه، و ذكر بعض الناس أنه للواثق، و ذكر آخرون أنه لعبد اللّه بن العبّاس الرّبيعي. و الصحيح أنه لعليّة. و فيه لعريب ثقيل أوّل غنّته المعتمد يوم فطر فأمر لها بثلاثين ألف درهم.

ضربت وكيلها سباعا و حبسته لخيانته فشفع فيه جيرانه فقالت شعرا:

و قال ميمون بن هارون حدّثني أحمد بن يوسف أبو الجهم قال:

كان لعليّة وكيل يقال له سباع، فوقفت على خيانته فضربته و حبسته، فاجتمع جيرانه إليها فعرّفوها جميل مذهبه و كثرة صدقه، و كتبوا بذلك رقعة، فوقّعت فيها:

ص: 367


1- المرج: يريد به مرج القلعة، بينه و بين حلوان منزل إلى جهة همذان. كذا ذكر ياقوت في «معجمه» و ذكر البيتين الواردين في هذه القصة.

ألا أيّ هذا الرّاكب العيس بلّغن *** سباعا و قل إن ضمّ داركم(1) السّفر(2)

أ تسلبني مالي و إن جاء سائل *** رققت له إن حطّه نحوك الفقر

كشافيه المرضى بعائدة الزّنا *** تؤمّل أجرا حيث ليس لها أجر

تركت الغناء لموت الرشيد فألح عليها الأمين فغنته:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثتني علم السّمراء جارية عبد اللّه بن موسى الهادي أنّها شهدت عليّة غنّت الأمين في شعر لها، و هو آخر شعر قالته فيه، و طريقته من الثقيل الثاني. و كانت لمّا مات الرّشيد جزعت جزعا شديدا و تركت النّبيذ و الغناء. فلم يزل بها الأمين حتى عادت فيهما على كره.

و الشعر:

صوت

أطلت عاذلتي لومي و تفنيدي *** و أنت جاهلة شوقي و تسهيدي

/لا تشرب الراح بين المسمعات وزر *** ظبيا غريرا نقيّ الخدّ و الجيد

قد رنّحته شمول فهو منجدل *** يحكي بوجنته ماء العناقيد

قام الأمين فأغنى الناس كلّهم *** فما فقير على حال بموجود

لحن عليّة في هذا الشعر ثاني ثقيل. و لعريب فيه هزج، و قيل إنّ الهزج لإبراهيم بن المهديّ.

قالت شعرا في لبانة بنت أخيها علي بن المهدي و غنت فيه:
اشارة

و قال ميمون بن هارون حدّثني محمد بن أبي عون قال حدّثتني عريب أنّ عليّة قالت في لبانة بنت أخيها عليّ بن المهديّ شعرا و غنّت فيه من الثّقيل الأول:

صوت

و حدّثني عن مجلس كنت زينه *** رسول أمين و النساء شهود

فقلت له كرّ(3) الحديث الذي مضى *** و ذكرك من ذاك(4) الحديث أريد

و قد ذكر الهشاميّ أنّ هذا اللحن لإسحاق غنّاه بالرّقّة. و ليس ذلك بصحيح.

سمعها إسماعيل بن الهادي تغني مستترة عند المأمون فأذهله غناؤها:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى عن عون بن محمد عن أبي أحمد بن الرّشيد. و نسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن الحسن عن عون بن محمد عن أبي أحمد بن الرّشيد و اللفظ له قال:

دخل يوما إسماعيل بن الهادي إلى المأمون، فسمع غناء أذهله. فقال له المأمون: مالك؟ قال: قد سمعت

ص: 368


1- كذا في الأصول. و الأظهر أن تكون «ضم ركبكم» أو «حل - أو جاز - داركم السفر» أو نحو ذلك.
2- السفر: القوم المسافرون.
3- في ح: «فقلت لها كرى».
4- في ب، س: «من بين الحديث».

ما أذهلني، و كنت أكذّب بأن الأرغن الرّوميّ يقتل طربا، و قد صدّقت الآن بذلك. قال: أو لا تدري ما هذا؟ قال: لا و اللّه! قال: هذه عمّتك عليّة تلقي على عمّك إبراهيم صوتا من غنائها. إلى هاهنا رواية محمد بن يحيى. و في رواية محمد بن الحسن قال: هذه عمّتك تلقى على عمّك إبراهيم صوتا استحسنه من غنائها. فأصغيت إليه فإذا هي تلقى عليه:

صوت

ليس خطب الهوى بخطب يسير *** ليس ينبيك عنه مثل حبير

ليس أمر الهوى يدبّر بالرأ *** ي و لا بالقياس و التفكير

اللّحن في هذا لعليّة ثقيل أوّل. و فيه لإبراهيم بن المهديّ ثاني ثقيل عن الهشاميّ.

توفيت و لها خمسون سنة، و سبب وفاتها:

أخبرني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه:

أنّ عليّة بنت المهديّ ولدت سنة ستين و مائة، و توفّيت سنة عشر و مائتين(1) و لها خمسون سنة. و كانت عند موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس. و أخبرني محمد بن يحيى عن عون بن محمد قال حدّثني محمد بن عليّ بن عثمان قال: ماتت عليّة سنة تسع و مائتين، و صلّى عليها المأمون. و كان سبب وفاتها أنّ المأمون ضمّها إليه و جعل يقبّل رأسها، و كان وجهها مغطّى، فشرقت من ذلك و سعلت ثم حمّت بعقب هذا أيّاما يسيرة و ماتت.

و ممّن صنع أولاد الخلفاء أبو عيسى بن الرّشيد
اشارة

فمن صنعته:

صوت

قام بقلبي و قعد *** ظبي نفى عنّي الجلد

خلّفني مدلّها *** أهيم في كلّ بلد

أسهرني ثم رقد *** و ما رثى لي من كمد

ظبي إذا ازددت له *** تذلّلا تاه و صدّ

/وا عطشا إلى فم *** يمجّ خمرا من برد

عروضه من مجزوء الرّجز. و الشعر و الغناء لأبي عيسى بن الرّشيد، و لحنه فيه ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى من روايتي عبد اللّه بن المعتزّ و الهشاميّ. و ذكر الهشاميّ أنّ له أيضا فيه لحنا من ثقيل الرّمل، و ذكر حبش أنّ الرّمل لحسين بن محرز. و فيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل.

ص: 369


1- في الأصول: «ست عشرة و مائتين» و التصويب عن «نهاية الأرب» و «النجوم الزاهرة».

7 - أخبار أبي عيسى بن الرّشيد و نسبه

شيء من أوصافه:

اسمه أحمد، و قيل بل اسمه صالح بن الرشيد. و هذا النّسب أشهر من أن يشرح. و أمّه أمّ ولد بربريّة.

و كان من أحسن النّاس وجها و مجالسة و عشرة، و أمجنهم و أحدّهم نادرة و أشدّهم عبثا. و كان يقول شعرا ليّنا طيّبا من مثله.

كان جميل الوجه:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفاف قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد الورّاق قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن طاهر أنه سمع أباه يقول: سمعت أبي (يعني طاهر بن الحسين) يحدّث أنه سمع الرشيد يقول للمأمون: أنت تعلم أنك أحبّ الناس إليّ، و لو أستطيع أن أجعل لك وجه أبي عيسى لفعلت.

كان إذا ركب جلس له الناس لرؤية حسنه:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني مسيّح بن حاتم العكليّ قال حدّثنا إبراهيم بن محمد قال:

كان يقال: انتهى جمال ولد الخلافة إلى أولاد الرشيد، و من أولاد الرشيد إلى أولاد محمد و أبي عيسى. و كان أبو عيسى إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما يجلسون للخلفاء.

مدحت عريب حسنه و غناءه:

حدّثني محمد قال حدّثني يعقوب بن بنان قال حدّثني عليّ بن الحسين الإسكافيّ قال:

كنت عند أبي الصّقر إسماعيل بن بلبل و عنده عريب، فسمعتها تقول: انتهى جمال الرشيد إلى محمد الأمين و أبي عيسى، ما رأى الناس مثلهما، و كان المعتزّ في طرازهما. قال: و سمعتها تقول لأبي العباس بن حمدون: ما غناؤك(1) من غناء أبي عيسى بن الرّشيد! و ما سمعت قطّ غناء أحسن من غنائه، و لا رأيت وجها أحسن من وجهه.

عجب الرشيد من جواب له في صباه و قبله:

أخبرني محمد قال حدّثني الغلابيّ قال حدّثنا يعقوب بن جعفر قال:

قال الرّشيد لأبي عيسى ابنه و هو صبيّ: ليت جمالك لعبد اللّه (يعني المأمون). فقال له: على أنّ حظّه منك لي. فعجب من جوابه على صباه و ضمّه إليه و قبّله.

سخط من رؤية هلال شهر رمضان:

ص: 370


1- كذا في أ، م. و في ح: «في غنائك من غناء أبي عيسى إلخ». و في ب، س: «في غنائك مشابهة من غناء أبي عيسى إلخ».

و أخبرني الحسن بن عليّ و أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قالا حدّثنا عبد للّه بن أبي سعد عن محمد بن عبد اللّه بن طاهر عن أبيه قال:

حدّثني من شهد المأمون ليلة و هم يتراءون هلال شهر رمضان و أبو عيسى أخوه معه و هو مستلق على قفاه، فرأوه و جعلوا يدعون. فقال أبو عيسى قولا أنكر عليه في ذلك المعنى. كأنه كان متسخّطا لورود الشهر، فما صام بعده.

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا الحسين بن فهم قال: قال أبو عيسى بن الرشيد:

دهاني شهر الصّوم لا كان من شهر *** و ما صمت شهرا بعده آخر الدّهر

فلو كان يعديني الإمام بقدرة *** على الشهر لاستعديت جهدي على الشّهر

فناله بعقب قوله هذا الشعر صرع، فكان يصرع في اليوم مرّات إلى أن مات، و لم يبلغ شهرا آخر.

مدح إبراهيم بن المهدي غناءه:

و ذكر عليّ بن الهشاميّ عن جدّه ابن حمدون قال: قلت لإبراهيم بن المهديّ: /من أحسن الناس غناء؟ قال: أنا. قلت: ثم من؟ قال: أبو عيسى بن الرّشيد. قلت: ثم من؟ قال: مخارق.

عابث طاهر بن الحسين أمام المأمون فغضب فترضاه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني ابن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن طاهر قال حدّثنا محمد بن سعيد أخو غالب الصّعديّ (1) قال:

كان أبو عيسى بن الرشيد و طاهر بن الحسين يتغدّيان مع المأمون، فأخذ أبو عيسى هندباءة(2) فغمسها في الخلّ و ضرب بها عين طاهر الصحيحة. فغضب طاهر/و شقّ ذلك عليه و قال: يا أمير المؤمنين إحدى عينيّ ذاهبة، و الأخرى على يدي عدل، يفعل هذا بي بين يديك!! فقال له المأمون: يا أبا الطّيّب إنه و اللّه ليعبث بي(3)أكثر من هذا العبث.

عرّض بيعقوب بن المهديّ فضحك المأمون و نهاه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن طاهر قال حدّثني أبو عيسى بن عليّ بن عيسى بن ماهان قال:

بينا المأمون يخطب يوم الجمعة على المنبر بالرّصافة و أخوه أبو عيسى تلقاء وجهه في المقصورة، إذ أقبل يعقوب بن المهديّ و كان أفسى الناس، معروفا بذلك. فلما أقبل وضع أبو عيسى كمّه على أنفه، و فهم المأمون ما أراد فكاد أن يضحك. فلمّا انصرف بعث إلى أبي عيسى فأحضره و قال له: و اللّه لهممت أن أبطحك فأضربك مائة درّة! ويلك! أردت أن تفضحني بين أيدي الناس يوم جمعة و أنا على المنبر! إيّاك أن تعود لمثل هذه!. قال: و كان

ص: 371


1- هذه النسبة إلى صعدة، و هي من بلاد اليمن.
2- الهندباء: صنفان من النبات: أحدهما قريب الشبه من الخس عريض الورق، و الآخر أدق و أرق منه و في طعمه مرارة. (انظر «مفردات ابن البيطار» طبعة بلاق ج 2 ص 118).
3- في ح، ب، س: «معي».

يعقوب بن المهديّ لا يقدر أن يمسك الفساء إذا جاءه. فاتخذت له داية مثلّثة و طيّبتها و تنوّقت فيها. فلمّا وضعتها تحته فسا، فقال: هذه ليست بطيّبة. فقالت له الداية: فديتك! هذه قد كانت طيّبة و هي مثلثة، فلما ربّعتها فسدت.

قال: و كان يعقوب هذا محمّقا، كان يخطر بباله الشيء فيشتهيه فيثبته في إحصاء خزائنه. فضجّ خازنه من ذلك، فكان يثبت الشيء ثم يثبت تحته أنه ليس عنده، و إنما أثبته ليكون ذكره عنده إلى أن يملكه. فوجد في دفتر له(1) فيه ثبت ثياب: «ثبت ما في الخزانة من الثّياب المثقّلة الإسكندرانيّة و الهشاميّة، لا شيء - أستغفر اللّه - بل عندنا منها زرحية(2) كانت للمهدي. الفصوص الياقوت الأحمر التي من حالها كذا و كذا لا شيء - أستغفر اللّه - بل عندنا منها درج كان فيه/للمهديّ خاتم هذه صفته». فحمل ذلك الدفتر إلى المأمون، فضحك لمّا قرأه حتى فحص برجله و قال: ما سمعت بمثل هذا قطّ!.

كان المأمون يحبه و يتمنى أن يلي الأمر بعده:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا سليمان بن داود المهلّبيّ قال حدّثني الهيثم بن محمد بن عبّاد عن أبيه قال:

كان المأمون أشدّ الناس حبّا لأبي عيسى أخيه، كان يعدّه للأمر بعده، و تذاكرنا ذلك كثيرا، و سمعته يقول يوما: إنه ليسهل عليّ أمر الموت و فقد الملك، و ما يسهل شيء منهما على أحد، و ذلك لمحبّتي أن يلي أبو عيسى الأمر من بعدي لشدّة حبّي إيّاه.

كان يحب صيد الخنازير فوقع عن دابته، و كان ذلك سبب موته:

أخبرني محمد بن عليّ قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال:

كان سبب موت أبي عيسى بن الرّشيد أنه كان يحب صيد الخنازير، فوقع عن دابّته فلم يسلم دماغه، فكان يتخبّط في اليوم مرّات إلى أن مات.

عزاء محمد بن عباد المأمون فيه:

حدّثني محمد قال حدّثنا أبو العيناء قال حدّثنا محمد بن عبّاد المهلّبيّ قال:

لمّا مات أبو عيسى بن الرّشيد دخلت إلى المأمون و عمامتي عليّ، فخلعت عمامتي و نبذتها وراء ظهري - و الخلفاء لا تعزّى في العمائم - و دنوت. فقال لي: يا محمد، حال القدر/دون الوطر. فقلت: يا أمير المؤمنين، كلّ مصيبة أخطأتك تهون، فجعل اللّه الحزن لك لا عليك.

مات سنة تسع و مائتين:

أخبرنا محمد قال حدّثنا عون بن محمد قال سمعت هبة اللّه بن إبراهيم يقول: مات أبو عيسى بن الرّشيد سنة تسع و مائتين، و صلّى عليه المأمون و نزل في قبره، و امتنع من الطعام أياما حتى خاف أن يضرّ ذلك به.

وجد عليه المأمون وجدا شديدا:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني أبو العيناء قال سمعت محمد بن عبّاد يقول:

ص: 372


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «... دفتر عنده له فيه».
2- ظاهر من السياق أنها ضرب من الثياب، و لم نعثر عليها فيما عرفناه من مظان.

/لمّا توفّي أبو عيسى بن الرّشيد وجد المأمون عليه وجدا شديدا، و كان له محبّا و إليه مائلا. فركب إلى داره حتى حضر أمره و صلّى عليه، و حضره الناس، و كنت فيمن حضر، فما رأيت مصابا حزينا قطّ أجمل أمرا في مصيبة و لا أحرق وجدا منه من رجل صامت تجري دموعه على خدّيه من غير كلح(1) و لا استنثار.

بكاه المأمون و تمثل شعرا و عزاه فيه ابن أبي دواد و عمرو بن مسعدة و ناحت عليه عريب:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن أبي سعد الورّاق قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن طاهر قال حدّثني أبي قال قال أحمد بن أبي دواد:

دخلت على المأمون في أوّل صحبتي إيّاه و قد توفّي أخوه أبو عيسى و كان له محبّا و هو يبكي و يمسح عينيه بمنديل، فقعدت إلى جنب عمرو بن مسعدة و تمثّلت قول الشاعر:

نقص من الدّنيا و أسبابها *** نقص المنايا من بني هاشم

و لم يزل على تلك الحال ساعة يبكي، ثم مسح عينيه و تمثّل:

سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض *** فحسبك منّي ما تجنّ الجوانح

كأن لم يمت حيّ سواك و لم تنح *** على أحد إلاّ عليك النوائح

ثم التفت إليّ فقال: هيه يا أحمد! فتمثّلت قول عبدة بن الطّبيب:

عليك سلام اللّه قيس بن عاصم *** و رحمته ما شاء أن يترحّما

تحيّة من أوليته منك نعمة *** إذا زار عن شحط بلادك سلّما

و ما كان قيس هلكه هلك واحد *** و لكنّه بنيان قوم تهدّما

فبكى ساعة ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو! قال: نعم يا أمير المؤمنين

بكّوا حذيفة لم تبكّوا مثله *** حتى تعود قبائل لم تخلق

/فإذا عريب و جوار معها يسمعن ما يدور بيننا، فقلن: اجعلوا لنا معكم في القول نصيبا. فقال لها المأمون: قولي، فربّ صواب منك كثير. فقالت:

كذا(2) فليجلّ الخطب و ليفدح الأمر *** و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر

كأنّ بني العبّاس يوم وفاته *** نجوم سماء خرّ من بينها البدر

فبكى و بكينا. ثم قال لها المأمون: نوحي، فناحت و ردّ عليها الجواري. فبكى المأمون حتى قلت: قد خرجت نفسه، و بكينا معه أحرّ بكاء، ثم أمسكت. فقال لها المأمون: اصنعي فيه لحنا و غنّي به. فصنعت فيه لحنا على مذهب النّوح و غنّته إيّاه على العود. فو الذي لا يحلف بأجلّ منه لقد بكينا عليه غناء أكثر ممّا بكينا عليه نوحا.

ص: 373


1- كذا في الأصول. و الذي في «كتب اللغة». كلح وجه الرجل كلوحا و كلاحا (كغراب): تكشر في عبوس أو عبّس فأفرط في تعبسه. و الاستنثار: إخراج ما في الأنف من أذى.
2- يلحظ أن هذا الشعر لأبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي، و قد قتل هذا الأمير في حرب كانت بينه و بين أصحاب بابك الخرمي سنة 214 هجرية. و المروي هنا أن أبا عيسى بن الرشيد مات سنة 209 هجرية، فتأمل هذا، و أصل الشعر «كأن بني نبهان» فغير و جعل «كأن بني العباس».
طلب المأمون من أبي العتاهية أن يسليه عنه:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا الطّبيب(1) بن محمد الباهليّ قال حدّثني موسى بن سعيد عن أخيه عمرو قال:

لمّا مات/أبو عيسى بن الرشيد وجد عليه المأمون وجدا شديدا حتى امتنع من النّوم و لم يطعم شيئا.

فدخل عليه أبو العتاهية، فقال له المأمون: حدّثني يا أبا إسحاق بحديث بعض الملوك ممن كان في مثل حالنا و فارقها. فقال: يا أمير المؤمنين، لبس سليمان بن عبد الملك أفخر ثيابه و مسّ أطيب طيبه و ركب أفره خيله و تقدّم إلى جميع من معه أن يركب في مثل زيّه و أكمل سلاحه، و نظر في مرآته فأعجبته هيئته و حسنه، فقال: أنا الملك الشابّ، ثم قال لجارية له: كيف ترين؟ فقالت:

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى *** غير أن لا بقاء للإنسان

أنت خلو من العيوب و ممّا *** يكره الناس غير أنّك فاني

/فأعرض بوجهه، فلم تدر عليه الجمعة إلاّ و هو في قبره. قال: فبكى المأمون و الناس، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم. قال: و هذان البيتان لموسى شهوات.

بعض أصواته:
اشارة

و من غناء أبي عيسى و جيّد صنعته، و الشعر له، و طريقته من الثقيل الثاني مطلق في مجرى البنصر. و ذكر حبش أن فيه لحسين بن محرز أيضا صنعة من خفيف الرّمل:

صوت

رقدت عنك سلوتي *** و الهوى ليس يرقد

و أطار السّهاد نو *** مي فنومي مشرّد

أنت بالحسن منك يا *** حسن الوجه تشهد

و فؤادي بحسن وج *** هك يشقى و يكمد

و من غنائه أيضا و هو من صدور صنعته في شعر الأخطل - و لحنه من الثقيل الأوّل -:

صوت

إذا ما زياد علّني ثم علّني *** ثلاث زجاجات لهنّ هدير

خرجت أجرّ الذيل حتى كأنني *** عليك أمير المؤمنين أمير

و لإسحاق في هذا الشعر رمل بالبنصر عن عمرو.

ص: 374


1- في ب، س: «الطيب».
و ممن عرفت له صنعة من أولاد الخلفاء عبد الله بن موسى الهادي
صوته في شعر له:
اشارة

فمن صنعته:

صوت

تقاضاك دهرك ما أسلفا *** و كدّر عيشك بعد الصّفا

فلا تجزعنّ فإنّ الزمان *** رهين بتشتيت ما ألّفا

و ما زال قلبك مأوى السرور *** كثير الهوى ناعما مترفا

ألحّ عليك بروعاته *** و أقبل يرميك مستهدفا

الشعر و الغناء لعبد اللّه بن موسى. و لحنه ماخوريّ و هو خفيف الثقيل الثاني بالوسطى.

اختلف مع ثقيف الخادم في صوت فضرب ثقيف رأسه بالعود فحلم عليه، و كان معربدا:

أخبرني أحمد بن جعفر حجظة قال حدّثني أبو حشيشة قال:

كان عبد اللّه بن موسى الهادي أضرب الناس بالعود و أحسنهم غناء. و كان له غلام أسود يقال له قلم، فعلّمه الصوت و حذّقه. فاشترته منه أمّ جعفر بثلاثمائة ألف درهم. قال أبو حشيشة فحدّثني/دلشاد غلام عبد اللّه بن موسى قال: كنت أنا و ثقيف الخادم الأسود مولى الفضل بن الربيع نضارب مولاي عبد اللّه بن موسى و قد أخذ النّبيذ من الجماعة. فضرب عبد اللّه و ثقيف صوتا فاختلفا فيه و تشاجرا. فقال عبد اللّه: كذا أخذته من منصور زلزل. و قال ثقيف: كذا أخذته منه، و طال تشاجرهما فيه. و كان ثقيف معربدا يذهب عقله من أدنى شيء يشربه، و كان عبد اللّه أيضا معربدا. فغضب ثقيف و رفع العود و هو لا يعقل، فضرب به رأس عبد اللّه بن موسى فطوّقه إيّاه.

و ابتدر خدم عبد اللّه؛ فقال لهم عبد اللّه بن موسى: لا تمسّوه و أخرجوا العود من عنقي فأخرجوه. و كان عبد اللّه بن موسى أشدّ خلق اللّه عربدة أيضا، فرزق في ذلك اليوم حلما لم ير مثله، و قال لخدمه: إن قتلته قتلت كلبا و تحدّث الناس بذلك، و لكن اخلعوا عليه و هبوا له و لا يدخل منزلي أبدا.

دعا الحفصي فآثر عليه أخاه إسماعيل:

قال جحظة قال أبو حشيشة أخبرني الحفصيّ المعزفيّ قال:

دعاني عبد اللّه بن موسى يوما و دعاني أخوه إسماعيل؛ فآثرت إسماعيل لما كان في عبد اللّه من العربدة. فلم نشعر إلاّ بعبد اللّه قد وافانا وقت العصر على برذون أشهب متقلّدا سيفا و هو سكران. فلما رأيناه تطايرنا في الحجر، فنزل عن دابّته و جلس. و جثا إسماعيل بين يديه إجلالا له، و قال له: يا سيّدي قد سررتني بتفضّلك و مصيرك إليّ. قال: دعني من هذا، من عندك؟ قال: فلان و فلان، فعدّ جماعة من كان عنده. قال له: هاتهم.

فدعا بنا فخرجنا و قد متنا فزعا. فأقبل عليّ من بينهم فقال لي: يا حفصيّ! أبعث إليك ثلاثة أيام تباعا فتدعني و تجيء إلى إسماعيل! و ضرب بيده إلى سيفه، /فقام إسماعيل بيني و بينه و قال: نعم! يجيئني و يدعك؛ لأنه لا ينصرف من عندك إلاّ بشجّة أو عربدة مع حرمان، و لا ينصرف من عندي إلاّ ببرّ مع خلعة و وعد محصّل، أ فتلومه على ذلك!. فكفّ عبد اللّه و كان شديد العربدة و قام و انصرف.

ص: 375

قال شعرا في خادم لصالح بن الرشيد:

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد الكنديّ قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن أبيه سليمان بن داود - و كان يكتب لأبي جعفر - قال:

كنت جالسا مع عبد اللّه بن موسى الهادي، فمرّ به خادم لصالح بن الرّشيد. فقال له: ما اسمك؟ فقال له:

اسمي «لا تسل». فأعجبه حسنه و حسن منطقه فقال لي: قم بنا حتى نسرّ اليوم بذكر هذا البدر، فقمت معه.

فأنشدني في ذلك اليوم:

و شادن مرّ بنا *** يجرح باللّحظ المقل

مظلوم خصر ظالم *** منه إذا يمشي الكفل

اعتدلت قامته *** و اللحظ منه ما عدل

بدر تراه أبدا *** طالع سعد ما أفل

سألته عن اسمه *** فقال لي اسمي «لا تسل»

و أطلعت في وجنتي *** ه وردتان من خجل

فقلت ما أخطأ من *** سمّاك بل قال المثل

لا تسألن عن شادن *** فاق جمالا و كمل

/قال: و قال فيه - و قد قيل إنه من هذه الأبيات -:

عزّ الذي نهوى و ذلّ *** صبّ الفؤاد مختبل

لجّ به الهجر و ذا ال *** هجر إذا لجّ قتل

من شادن منتطق *** فاق جمالا و كمل

تناصف الحسن به *** فلا تسل عن «لا تسل»

كان له ابن جيد الضرب و طلب إلى المكي أن يقومه موهما أنه مملوك:

و قال حدّثني محمد بن أحمد المكيّ عن أبيه قال:

دعاني عبد اللّه بن موسى يوما فقال لي: أ تقوّم غلاما ضاربا مغنّيا قيمة عدل لا حيف فيه على البائع و لا على المشتري؟ فقلت نعم. فأخرج إليّ ابنه القاسم و كنت قد عرفته، و هو أحسن من القمر ليلة البدر، فأخذ عودا فضرب، فأكببت على يديه أقبّلهما. فقال لي عبد اللّه: أتقبّل يد غلام مملوك!! قلت: بأبي و أمّي هو من مملوك! و قبّلت رجله أيضا. فقال: أمّا إذ عرفته فأحبّ أن تضاربه، ففعلت. فلمّا رأى الغلام زيادتي عليه في الضّرب اغتمّ و أقبل على أبيه فقال له كالمعتذر من ذنبه: أنا متلذّذ و هذا متكسّب. فضحكت و قلت: هو ذاك يا سيّدي.

و عجبت من حدّة جوابه معتذرا على صغر سنّه.

ص: 376

كان كريما ممدحا:
اشارة

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال:

كان عبد اللّه بن موسى جوادا كريما ممدّحا، و فيه يقول الشاعر - و فيه لعلويه لحن من خفيف الثّقيل الأول بالبنصر -:

صوت

أعبد اللّه أنت لنا أمير *** و أنت من الزمان لنا مجيز

حكيت أباك موسى في العطايا *** إمام النّاس و الملك الكبير

غنى بشعر لعمر بن أبي ربيعة:
اشارة

قال محمد بن يحيى و العتّابيّ: و لعبد اللّه بن موسى غناء في قول عمر بن أبي ربيعة:

صوت

إنّ أسماء أرسلت *** و أخو الشوق مرسل

أرسلت تستزيرني *** و تفدّي و تعذل

و لحنه فيه رمل. قال: و فيه لابن سريج و الغريض و مالك ألحان.

عربد على المأمون فحبسه ثم سمه فمات:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين قال حدّثني أبو سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب قال:

كان عبد اللّه بن موسى الهادي معربدا، و كان قد أحفظ(1) المأمون مما يعربد عليه إذا شرب معه. فأمر بأن يحبس في منزله فلا يخرج منه؛ و أقعد على بابه حرسا. ثم تذمّم من ذلك فأظهر له الرّضا و صرف الحرس عن بابه، ثم نادمه فعربد عليه أيضا و كلّمه بكلام أحفظه. و كان عبد اللّه مغرما بالصّيد، فأمر المأمون خادما من خواصّ خدمه يقال له «حسين» فسمّه في درّاج و هو بمرسى(2) أباد، فدعا عبد اللّه بالعشاء، فأتاه حسين بذلك الدّرّاج فأكله. فلما أحسّ بالسمّ ركب في الليل و قال لأصحابه: هو آخر ما تروني. قال: و أكل معه من الدّرّاج خادمان، فأمّا أحدهما فمات من وقته، و أمّا الآخر فبقي مدّة ثم مات، و مات عبد اللّه بعد أيام.

ص: 377


1- في ج: «و كان قد أعضل بالمأمون» أي أعياه أمره و ضاقت به الحيل فيه.
2- لم نقف على هذا الموضع.
و ممن رويت له صنعة من أولاد الخلفاء عبد اللّه بن محمد الأمين

فمن مشهور صنعته:

ألا يا(1) دير حنظلة المفدّى *** لقد أورثتني سقما و كدّا

أزفّ من العقار إليك دنّا(2) *** و أجعل تحته الورق المندّى

الشعر و الغناء لعبد اللّه بن محمد الأمين، أخبرني بذلك محمد بن يحيى الصّوليّ عن عبد اللّه بن المعتزّ و له فيه لحنان خفيف رمل و خفيف ثقيل. و فيه لعبد اللّه بن موسى الهادي رمل. و فيه ثاني ثقيل، و ذكر حبش - و هو ممن لا يحصّل قوله - أنه لحنين، و لم يصحّ عندنا من صانعه.

ص: 378


1- سيذكر المؤلف هذا الدير في ص 200-201 من هذا الجزء.
2- في أ، م، ح: «زفا» بالفاء و هي مصحفة عن «زقا» بالقاف.

8 - أخبار عبد الله بن محمد و نسبه:

نسبه:

عبد اللّه بن محمد الأمين بن هارون الرّشيد بن محمد المهديّ بن عبد اللّه المنصور بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب. و أمّ عبد اللّه بن محمد أمّ ولد. و كان ظريفا غزلا يقول شعرا ليّنا و يصنع صنعة صالحة. و أمّ محمد الأمين زبيدة بنت جعفر بن المنصور. و زبيدة لقب غلب عليها، و اسمها أمة العزيز. و كان المنصور يرقّصها و هي صغيرة - و كانت سمينة حسنة البدن - فيقول لها: يا زبيدة يا زبيدة، فغلب عليها ذلك.

كان صديقا لأبي نهشل فأحب جارية اشتراها أخوه فكتب له شعرا فأخذها له منه:

أخبرني الصوليّ قال حدّثني عون بن محمد الكنديّ قال:

كانت بين عبد اللّه بن محمد الأمين و بين أبي نهشل بن حميد مودّة. فاعترض عبد اللّه جارية مغنّية لبعض نساء بني هاشم و أعطى بها مالا عظيما. فعرفت منه رغبة فيها فزادت عليه في السّوم، فتركها ليكسرهم. فجاء أخ لأبي نهشل بن حميد فاشتراها و زاد. فتبعتها نفس عبد اللّه، فسأل أبا نهشل أن يسأل أخاه النزول له عنها، فسأله ذلك فوعده و دافعه. فكتب عبد اللّه إلى أبي نهشل:

يا ابن حميد يا أبا نهشل *** مفتاح باب الحدث المقفل

يا أكرم الناس ودادا و أر *** عاهم لحقّ ضائع مهمل

أحسنت في ودّي و أجملت بل *** جزت فعال المحسن المجمل

بيتك في ذي يمن شامخ *** تقصر عنه قنّتا يدبل(1)

خلفت فينا حاتما ذا النّدى *** وجدت جود العارض المسبل

أيّ أخ أنت لذي وحدة *** تركته بالعزّ في جحفل

/نجوم حظّي منك مسعودة *** فيما أرجّي لسن بالأفّل

فصدّق الظنّ بما قلته *** و سهّل الأمر به يسهل

لا تحرمنّي و لديك المنى *** باللّه صيد الرّشأ الأكحل

رميت منه بسهام الهوى *** و ما درى بالرّمي(2) في مقتلي

أدنيتني بالوعد في صيده *** إدناء عطشان من المنهل

ص: 379


1- يذبل: جبل مشهور الذكر بنجد.
2- في ح: «ما الرمي».

ثم تناسيت و أسلمتني *** إلى مطال موحش المنزل

تركتني في لجّة عمائما *** لا أعرف المدبر من مقبل

/صرّح بأمر واضح بيّن *** لا خير في ذي لبس(1) مشكل

قال: فلم يزل أبو نهشل بأخيه حتى نزل له عنها.

خرج إلى ضيعته و تكاتب هو و نديمه أبو نهشل بشعر:

و أخبرني الصّوليّ أيضا بغير إسناد، و وجدت هذا الخبر في كتاب لمحمد بن الحسن الكاتب يرويه عن أبي حسّان الفزاريّ قال:

كان أبو نهشل بن حميد صديقا لعبد اللّه بن محمد الأمين و نديما. و كانت لعبد اللّه ضيعة بالسّواد تعرف بالعمريّة، فخرج إليها و أقام بها أيّاما. فكتب إليه أبو نهشل:

سقى اللّه بالعمريّة الغيث منزلا *** حللت به يا مؤنسي و أميري

فأنت الذي لا يخلق الدهر ذكره *** و أنت أخي حقّا و أنت سروري

فأجابه عبد اللّه:

لئن كنت بالعمريّة اليوم لاهيا *** فإنّ هواكم حيث كنت ضميري

فلا تحسبنّي في هواكم مقصّرا *** و كن شافعي من سخطكم و مجيري

قال محمد بن الحسن في خبره: و صنع عبد اللّه في هذه الأبيات الأربعة لحنا، و صنع فيها(2) سليم بن سلاّم لحنا آخر.

نادم الواثق و الخلفاء من بعده إلى المعتمد، و شعر له فيه:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن المعتز قال:

كان عبد اللّه بن محمد الأمين ينادم الواثق ثم نادم بعده سائر الخلفاء إلى المعتمد.

قال: و أنشدني له في المعتمد:

رأيت الهلال على وجهكا *** فما زلت أدعو إلهي لكا

فلا زلت تحيا و أحيا معا *** و آمنني اللّه من فقدكا

قال: و من شعره - و له فيه لحن من الرّمل الثاني و هو خفيف الرمل -:

صوت

يا من به كلّ خلق *** تراه صبّا متيّم

و من تجالل تيها *** فما تراه يكلّم

ص: 380


1- حرّك لضرورة الشعر.
2- في الأصول: «فيه».

لا شيء أعجب عندي *** ممن يراك فيسلم

فأمّا دير حنظلة الذي ذكره في شعره و فيه الغناء المذكور من صنعته متقدّما، فإنه دير بالجزيرة. أخبرني بخبره هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال أنشدني أبو المحكم لحنظلة بن أبي عفراء أحد بني حيّة الطائيّين و هم رهط أبي زبيد(1) و رهط إياس(2) بن قبيصة:

و مهما يكن ريب الزمان فإنني *** أرى قمر الليل المغرّب كالفتى

يهلّ صغيرا ثم يعظم ضوأه *** و صورته حتى إذا ما هو استوى

تقارب يخبو ضوأه و شعاعه *** و يمصح(3) حتى يستسرّ فلا يرى

/كذلك زيد المرء ثم انتقاصه *** و تكراره في دهره(4) بعد ما مضى

تصبّح أهل الدّار و الدّار زينة(5) *** و تأتي الجبال من شماريخها العلا

فلا ذا غنى(6) يرجئن عن فضل ماله *** و إن قال أخّرني و خذ رشوة أبى

و لا عن فقير يأتخرن لفقره *** فتنفعه الشكوى إليهنّ إن شكا

/قال: و كان حنظلة هذا قد تعبّد في الجاهليّة و تفكّر في أمر الآخرة و تنصّر و بنى ديرا بالجزيرة؛ فهو الآن يعرف به يقال له دير حنظلة. و فيه يقول الشاعر:

يا دير حنظلة المهيّج لي الهوى *** قد تستطيع دواء عشق العاشق

ص: 381


1- هو حرملة بن المنذر بن معد يكرب الطائي، كان نصرانيا و هو ممن أدرك الجاهلية و الإسلام. (انظر ترجمته في «الأغاني» ج 11 ص 24 طبع بلاق).
2- كان واليا لكسرى على الحيرة بعد قتله النعمان بن المنذر. (انظر «تاريخ ابن الأثير» ج 1 ص 356-369).
3- مصح: ذهب و انقطع.
4- في «معجم البلدان»: «في إثره».
5- في الأصول: «ريبة» و التصويب عن «معجم البلدان».
6- يلاحظ أن الضمائر في هذا البيت بعده متباينة، و المراد بها واحد هو الموت، فإذا كان ضمير جمع فالمراد المنايا.
و ممن صنع من أولاد الخلفاء أبو عيسى بن المتوكّل
اشارة

كان عبد اللّه بن المتوكّل جمع له صنعة مقدارها أكثر من ثلاثمائة صوت، منها الجيّد الصنعة و منها المتوسط، قد سمعنا كثيرا منها؛ إلاّ أني أذكر من ذلك ما عرفت شاعره و كان له خبر يتّصل به حسب ما شرطناه في هذا الكتاب و ضمّنّاه إيّاه من الأخبار، ثم أذكر أخبار أبي عيسى بعد ذلك.

قال ابن المعتز حدّثني النّميريّ قال سمعت أبا عيسى بن المتوكّل يقول: إذا أتممت صنعة ثلاثمائة صوت و ستين صوتا عدد أيّام السنة تركت الصنعة، فلمّا صنعها ترك الصنعة. فمنها - و هو لعمري من جيّد الغناء و فاخر الصنعة، و لو لم يصنع غيره لكفاه - في شعر أبي العتاهية:

صوت

يضطرب الخوف و الرجاء إذا *** حرّك موسى القضيب أو فكّر

و لحنه من الثّقيل الأوّل. و الشعر لأبي العتاهية، و قد مضت أخباره؛ و إنما قدّمت ذكره بجودة صنعته و أنه شبّه فيه بصنعة الفحول و محكم أغاني الأوائل.

و منها:

صوت

هي النّفس ما حمّلتها تتحمّل *** و للدّهر أيّام تجور و تعدل

و عاقبة الصّبر الجميل جميلة *** و أفضل أخلاق الرجال التّجمّل

الشعر لعليّ بن الجهم. و الغناء لأبي عيسى بن المتوكّل، ثاني ثقيل بالوسطى.

ص: 382

9 - أخبار عليّ بن الجهم و نسبه

نسبه و نسب قبيلته بني سامة:

هو عليّ بن الجهم بن بدر بن الجهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كرّاز بن كعب بن مالك(1) بن عيينة(2) بن جابر بن الحارث(3) بن عبد البيت بن الحارث بن سامة بن لؤيّ بن غالب. هكذا يدّعون، و قريش تدفعهم عن النّسب و تسمّيهم بني ناجية، ينسبون إلى أمّهم ناجية، و هي امرأة سامة بن لؤيّ. و كان سامة، فيما يقال، خرج إلى ناحية البحرين مغاضبا لأخيه كعب بن لؤيّ في مماظّة(4) كانت بينهما، فطأطأت ناقته رأسها إلى الأرض لتأخذ شيئا من العشب، فعلق بمشفرها أفعى فعطفته على قتبها فحكّته به، فدبّ الأفعى على القتب حتى نهش ساق سامة فقتله. فقال أخوه يرثيه(5):

عين جودي لسامة بن لؤيّ *** علفت ساق ساقه العلاّقه(6)

ربّ كأس هرقتها ابن لؤيّ *** حذر الموت لم تكن مهراقه

و قال من يدفع بني سامة من نسّابي قريش: و كانت معه امرأته ناجية. فلمّا مات تزوّجت رجلا من أهل البحرين فولدت منه الحارث، و مات أبوه و هو صغير. فلمّا ترعرع طمعت أمّه في أن تلحقه بقريش، فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤيّ. فرحل/من البحرين(7) إلى عمّه/كعب و أخبره أنه ابن أخيه سامة. فعرف كعب أمّه و ظنّه صادقا في دعواه. و مكث عنده مدّة، حتى قدم مكة ركب من أهل البحرين، فرأوا الحارث فسلّموا عليه و حادثوه ساعة. فسألهم عنه كعب بن لؤيّ و من أين يعرفونه، فقالوا له: هذا ابن رجل من أهل بلدنا يقال له فلان، و شرحوا له خبره. فنفاه كعب و نفى أمّه، فرجعا إلى البحرين فكانا هناك، و تزوّج الحارث و أعقب هذا العقب.

و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «عمّي سامة لم يعقب». و كان بنو ناجية ارتدّوا عن الإسلام. و لما ولي عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه الخلافة دعاهم إلى الإسلام؛ فأسلم بعضهم و أقام الباقون على الرّدّة فسباهم و استرقّهم؛ فاشتراهم مصقلة(8) بن هبيرة منه و أدّى ثلث ثمنهم و أشهد بالباقي على نفسه، ثم أعتقهم و هرب من تحت ليله إلى

ص: 383


1- في «ابن خلكان»: «بن كعب بن جابر بن مالك».
2- في «ابن خلكان»: «عتبة».
3- في «ابن خلكان»: «... ابن الحارث بن قطن بن خديج بن قطن بن أحزم بن ذهل بن عمرو بن مالك بن عبيدة بن الحارث بن سامة... إلخ».
4- المماظة: المخاصمة و المنازعة.
5- ورد في «لسان العرب» (في مادّة «فوق») أن امرأة رجل من الأزد هي التي قالت هذا الشعر ترثيه و كان سامة نزل على زوجها ضيفا. فلما أصبح قعد يستن، فنظرت إليه زوجة الأزدي فأعجبها. فلما رمى سواكه أخذتها فمصتها. فنظر إليها زوجها، فحلب ناقة و جعل في حلابها سما و قدّمه إلى سامة، فغمزته المرأة فهراق اللبن و خرج يسير. فبينا كان في موضع يقال له جوف الخميلة نهشه أفعى، كما جاء في الأصل. و انظر بقية هذا الشعر في «لسان العرب».
6- العلاقة: في الأصل المنية. و يريد هنا الحية.
7- في الأصول: «من أهل البحرين».
8- انظر هذه القصة مفصلة في الطبري ق 1 ص 3439-3442).

معاوية، فصاروا أحرارا، و لزمه الثمن، فشعّث(1) عليّ بن أبي طالب شيئا من داره، و قيل بل هدمها. فلم يدخل مصقلة الكوفة حتى قتل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

و زعم ابن الكلبيّ: أنّ سامة بن لؤيّ ولد غالب بن سامة و أمّه ناجية، ثم هلك سامة فخلف عليها ابنه الحارث بن سامة، ثم هلك ابنا سامة و لم يعقبا(2)، و أنّ قوما من بني ناجية بنت(3) جرم بن ربّان(4) علاف ادّعوا أنهم بنو سامة بن لؤيّ، و أنّ أمّهم ناجية/هذه و نسبوها هذا النسب، و انتموا إلى الحارث بن سامة و هم الذين باعهم عليّ بن أبي طالب إلى مصقلة. قال: و دليل ذلك و أنّ هؤلاء بنو ناجية بنت جرم قول علقمة الخصيّ التّميميّ أحد بني ربيعة بن مالك:

زعمتم أنّ ناجي بنت جرم *** عجوز بعد ما بلي السّنام

فإن كانت كذاك فألبسوها *** فإنّ الحلى للأنثى تمام

و هذا أيضا قول الهيثم بن عديّ. فأمّا الزّبير بن بكّار فإنّه أدخلهم في قريش و قال: هم قريش العازبة. و إنما سمّوا العازبة لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمّهم ناجية بنت جرم بن ربّان و هو علاف، و هو أوّل من اتخذ الرّحال العلافيّة فنسبت إليه. و اسم ناجية ليلى؛ و إنما سمّيت ناجية لأنها سارت في مفازة معه فعطشت فاستسقته ماء، فقال لها: الماء بين يديك، و هو يريها السّراب، حتى جاءت الماء فشربت و سمّيت ناجية. و للزّبير في إدخالهم في قريش مذهب و هو مخالفة فعل أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه و ميله إليهم لإجماعهم على بغضه رضي اللّه عنه، حسب المشهور المأثور من مذهب الزّبير في ذلك.

كان شاعرا فصيحا اختص بالمتوكل و هجاء عليا و شيعته:

و كان عليّ بن الجهم شاعرا فصيحا مطبوعا؛ و خصّ بالمتوكّل حتى صار من جلسائه، ثم أبغضه لأنه كان كثير السّعاية إليه بندمائه و الذّكر لهم بالقبيح عنده، و إذا خلا به عرّفه أنهم يعيبونه و يثلبونه و يتنقّصونه، فيكشف عن ذلك فلا يجد له حقيقة، فنفاه بعد أن حبسه مدّة. و أخباره تذكر على شرح بعد هذا. و كان ينحو نحو مروان بن أبي حفصة في هجاء آل أبي طالب و ذمّهم و الإغراء بهم و هجاء الشّيعة، و هو القائل:

و رافضة تقول بشعب رضوى *** إمام، خاب ذلك من إمام

إمام من له عشرون ألفا *** من الأتراك مشرعة السّهام

/و فيه يقول البحتريّ:

إذا ما حصّلت عليا قريش *** فلا في العير أنت و لا النّفير

ص: 384


1- يريد أنه نقض بعضا منها.
2- في أ، م: «ثم هلك ابن سامة و لم يعقب».
3- في الأصول هنا: «ابن جرم».
4- ربان علاف: بالراء المهملة المفتوحة و الباء الموحدة المشدّدة، و ليس في العرب غيره، و من سواه فبالزاي المعجمة. و قد ورد هذا الاسم في الأصول محرفا بصور شتى، و في أكثرها زيادة «ابن» بين ربان و علاف، و هما لشخص واحد، كما ذكر ذلك المؤلف في الصفحة التالية. (راجع «القاموس» و «شرحه» في مادتي ربن و علف).

و ما رغثاؤك(1) الجهم بن بدر *** من الأقمار ثمّ و لا البدور

و لو أعطاك ربّك ما تمنّى *** لزاد الخلق في عظم الأيور(2)

علام هجوت مجتهدا عليّا *** بما لفّقت من كذب و زور

أ ما لك في استك الوجعاء شغل *** يكفّك عن أذى أهل القبور

و سمعه أبو العيناء يوما يطعن على عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فقال له: أنا أدري لم تطعن على عليّ أمير المؤمنين. فقال له: أ تعني قصّة بيعه أهلي من مصقلة بن هبيرة؟ قال: لا! أنت أوضع من ذلك، و لكن لأنه قتل الفاعل فعل قوم لوط و المفعول به، و أنت أسفلهما.

هجا بختيشوع فسبه عند المتوكل فحبسه سنة ثم نفاه و قال في ذلك شعرا:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد الهشاميّ قال:

كان عليّ بن الجهم قد هجا بختيشوع(3)، فسبّه عند المتوكّل فحبسه المتوكّل. فقال عليّ بن الجهم في حبسه عدّة قصائد كتب بها إلى المتوكل فأطلقه بعد سنة، ثم نفاه بعد ذلك إلى خراسان. فقال أوّل ما حبس قصيدة كتب بها إلى أخيه، أوّلها قوله:

توكّلنا على ربّ السماء *** و سلّمنا لأسباب القضاء

و وطّنّا على غير اللّيالي *** نفوسا سامحت بعد الإباء

و أفنية الملوك محجّبات *** و باب اللّه مبذول الفناء

/هي الأيّام تكلمنا و تأسو *** و تأتي بالسعادة و الشقاء

و ما يجدي الثّراء على غنيّ *** إذا ما كان محظور العطاء

حلبنا الدّهر أشطره و مرّت *** بنا عقب(4) الشّدائد و الرّخاء

و جرّبنا و جرّب أوّلونا *** فلا شيء أعزّ من الوفاء

و لم ندع الحياء لمسّ ضرّ *** و بعض الضرّ يذهب بالحياء

و لم نحزن على دنيا تولّت *** و لم نسبق إلى حسن العزاء

توقّ النّاس يا ابن أبي و أمّي *** فهم تبع المخافة و الرّجاء

و لا يغررك من وغد إخاء *** لأمر ما غدا حسن الإخاء

أ لم تر مظهرين عليّ عيبا(5) *** و هم بالأمس إخوان الصّفاء

ص: 385


1- الرغثاء: أصلها عصب أو عرق في الثدي يدر اللبن. و استعملها البحتري هنا في الأب.
2- في «ديوان البحتري» طبع مطبعة الجوائب: و لو أعطاك ربك ما تمنى عليه لزاد في غلظ الأيور
3- هو بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع الأكبر المتطبب. (انظر الطبري ق 3 ص 667، 1437، 1447، 1790).
4- العقب: جمع عقبة و هي النوبة.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «عتبا» و هو تصحيف.

فلمّا أن بليت غدوا و راحوا *** عليّ أشدّ أسباب البلاء

أبت أخطارهم أن ينصروني *** بمال أو بجاه أو ثراء

و خافوا أن يقال لهم خذلتم *** صديقا فادّعوا قدم الجفاء

تضافرت الرّوافض و النّصارى *** و أهل الاعتزال على هجائي

- يعني بأهل الاعتزال عليّ بن يحيى المنجّم و قد كان بلغه عنه ذكر له: -

و عابوني و ما ذنبي إليهم *** سوى علمي بأولاد الزّناء

/فبختيشوع يشهد لابن عمرو *** و عزّون لهارون المرائي

و ما الجذماء بنت أبي سمير *** بجذماء اللّسان عن الخناء

إذا ما عدّ مثلكم رجالا *** فما فضل الرجال على النساء

عليكم لعنة اللّه ابتداء *** و عودا في الصّباح و في المساء

/إذا سمّيتم للنّاس قالوا *** أولئك شرّ من تحت السّماء

أنا المتوكّليّ هوى و رأيا *** و ما بالواثقيّة من خفاء

و ما حبس الخليفة لي بعار *** و ليس بمؤيسي منه التنائي

قال أبو الشبل شعره في الحبس كشعر عدي بن زيد:

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد قال قال لي أبو الشّبل البرجميّ: ما شعر عليّ بن الجهم في الحبس بدون شعر عديّ بن زيد(1).

حبسه المتوكل بسعاية جلسائه و نفاه إلى خراسان فعذبه طاهر بن عبد اللّه فقال شعرا:

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد قال:

كان سبب حبس المتوكّل عليّ بن الجهم أنّ جماعة من الجلساء سعوا به إليه و قالوا له: إنه يجمّش(2)الخدم و يغمزهم، و إنّه كثير الطعن عليك و العيب لك و الإزراء على أخلاقك؛ و لم يزالوا به يوغرون صدره عليه حتى حبسه؛ ثم أبلغوه عنه أنه هجاه. فنفاه إلى خراسان و كتب بأن يصلب إذا وردها يوما إلى الليل. فلما وصل إلى الشاذياخ(3) حبسه طاهر بن عبد اللّه بن طاهر بها، ثم أخرج فصلب يوما إلى الليل مجرّدا ثم أنزل. فقال في ذلك:

لم ينصبوا بالشّاذياخ عشيّة *** الاثنين مسبوقا و لا مجهولا

ص: 386


1- عدي بن زيد الشاعر حبسه النعمان، و له شعر في حبسه. (انظر ترجمته في الجزء الثاني ص 97 و ما بعدها من هذه الطبعة).
2- يجمش الخدم: يلاعبهم و يقرّصهم.
3- الشاذياخ: من ضواحي نيسابور أم بلاد خراسان، و كانت قديما بستانا لعبد اللّه بن طاهر بن الحسين ملاصقا مدينة نيسابور، فبنى فيه دارا له، ثم أمر الجند بالبناء حوله فعمرت حتى اتصل بناؤها ببناء نيسابور و صارت من جملة محالها. (عن «معجم البلدان» لياقوت).

نصبوا بحمد اللّه ملء قلوبهم *** شرفا و ملء صدورهم تبجيلا

ما ازداد إلا رفعة بنكوله(1) *** و ازدادت الأعداء عنه نكولا

هل كان إلاّ الليث فارق غيله *** فرأيته في محمل محمولا

/لا يأمن الأعداء من شدّاته *** شدّا يفصّل هامهم تفصيلا

ما عابه أن بزّ عنه لباسه *** فالسيف أهول ما يرى مسلولا

إن يبتذل فالبدر لا يزري به *** أن كان ليلة تمّه مبذولا

أو يسلبوه المال يحرن فقده *** ضيفا ألمّ و طارقا و نزيلا

أو يحبسوه فليس يحبس سائر *** من شعره يدع العزيز ذليلا

إنّ المصائب ما تعدّت دينه *** نعم و إن صعبت عليه قليلا

و اللّه ليس بغافل عن أمره *** و كفى بربك ناصرا و وكيلا

و لتعلمنّ (2) إذا القلوب تكشّفت *** عنها الأكنّة من أضلّ سبيلا

كتب المتوكل لطاهر بإطلاقه فأطلقه فقال شعرا:

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال:

كتب المتوكّل إلى طاهر بن عبد اللّه بإطلاق عليّ بن الجهم. فلمّا أطلقه قال:

أ طاهر إنّي عن خراسان راحل *** و مستخبر عنها فما أنا قائل

أ أصدق أم أكني عن الصّدق(3) أيّما *** تخيّرت أدّته إليك المحافل

و سارت به الرّكبان و اصطفقت به *** أكفّ قيان و اجتبته القبائل

/و إنّي بغالي الحمد و الذّمّ عالم *** بما فيهما نامي الرّميّة(4) ناضل

و حقّا أقول الصّدق إنّي لمائل *** إليك و إن لم يحظ بالودّ مائل

أ لا حرمة ترعى أ لا عقد ذمّة *** لجار ألا فعل لقول مشاكل

أ لا منصف إن لم نجد متفضّلا *** علينا أ لا قاض من الناس عادل

/فلا تقطعن غيظا عليّ أناملا *** فقبلك ما عضّت عليّ الأنامل

ص: 387


1- يريد بنكوله الأولى التنكيل به، و بالثانية الفرار عنه و الإحجام. و يلاحظ في الأولى أنه يقال: نكل به تنكيلا و نكل به مخفف و الاسم النكال بالفتح.
2- في أ، م: «و ليعلمن» بالياء المثناة من تحت.
3- في أ، م: «عن الحق».
4- الرمية النامية: التي أصيبت ثم غابت عن الرامي و ماتت؛ يقال أنمى فلان الصيد فنمى؛ قال امرؤ القيس يهجو: فهو لا تنمي رميته ما له لا عدّ من نفره يريد علي بن الجهم أنه يصيب مرماه. و ناضل: وصف من نضله إذا سبقه أو غلبه في المناضلة و هي المباراة في الرمي.

أ طاهر إن تحسن فإنّي محسن *** إليك و إن تبخل فإنّي باخل

فقال له طاهر: لا تقل إلاّ خيرا فإني لا أفعل بك إلاّ ما تحبّ؛ فوصله و حمله و كساه.

جمش جارية فباعدته فقال شعرا فأجابته:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد قال:

كان عليّ بن الجهم في مجلس فيه قينة، فعابثها و جمّشها، فباعدته و أعرضت عنه، فقال فيها:

خفي(1) اللّه فيمن قد تبلت فؤاده *** و غادرته نضوا كأنّ به وقرا

دعي البخل لا أسمع به منك إنّما *** سألتك أمرا ليس يعري لكم ظهرا

فقالت له: صدقت يا أبا الحسن، ليس يعري لنا ظهرا، و لكنّه يملأ بطنا!!

كان يتشاءم من الحارثي فرآه فقال شعرا:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا إبراهيم بن المدبّر قال حدّثنا علي بن الجهم قال:

كان الحارثيّ يجيء إلى حلوان(2) و أنا أتولاّها - و كان عليّ بن الجهم على مظالمها - فإذا وردها وقع الإرجاف(3)، فلم يزل متّصلا حتى يخرج، فإذا خرج سكن الإرجاف. فأتاني مرّة و ظهر كوكب الذّنب في تلك الليلة، فقلت:

لمّا بدا أيقنت بالعطب *** فسألت ربّي خير منقلب

لم يطلعا إلاّ لآبدة(4) *** الحارثيّ و كوكب الذّنب

/قال ابن المدبّر: و كان الحارثيّ أعور مقبّح الوجه، و فيه يقول أبو عليّ البصير:

يا معشر البصراء لا تتطرّفوا(5) *** جيشي و لا تتعرّضوا لنكيري

ردّوا عليّ الحارثيّ فإنّه *** أعمى يدلّس نفسه في العور(6)

انتحل شعرا لإبراهيم بن العباس:

أخبرني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال أنشدني إبراهيم بن المدبّر لعليّ بن الجهم و ذكر أن عليّا أنشده إيّاه لنفسه:

ص: 388


1- كذا في الأصول بإثبات الياء في «خفي» في هذا البيت، و في «دعي» في البيت بعده. و نحسب أن هذه الياء من زيادات النساخ، و أن الخطّاب لمذكر و المراد به أنثى، كما يدل عليه سياق الكلام. و إلا فبعيد أن يقع مثل عليّ بن الجهم في هذا الخطأ اللغوي؛ إذ الأمر من «خاف» للمخاطبة «خافي».
2- حلوان: مدينة بالعراق.
3- الإرجاف هنا: الزلزلة؛ يقال رجفت الأرض و أرجفت.
4- الآبدة: الداهية الخالدة الذكر، و الأمر العظيم تنفر منه و تستوحش.
5- تطرف الشيء: تحيفه و أخذ من أطرافه.
6- كذا في ح. و في سائر النسخ: «بالعور».

أميل مع الذّمام على ابن أمّي *** و آخذ للصّديق من الشّقيق

و إن ألفيتني حرّا مطاعا *** فإنّك واجدي عبد الصديق

أفرّق بين معروفي و منّي *** و أجمع بين مالي و الحقوق

فقال إبراهيم: كذب و اللّه عليّ بن الجهم و أثم. و اللّه لهذا الشعر أشهر(1) بإبراهيم بن العبّاس من إبراهيم بالعباس أبيه.

قال المتوكل إنه كذاب و أثبت كذبه بكلامه له:

أخبرني الحسن قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثنا إبراهيم بن المدبّر قال قال المتوكّل:

عليّ بن الجهم أكذب خلق اللّه. حفظت عليه أنّه أخبرني أنه أقام بخراسان ثلاثين سنة، ثم مضت مدّة أخرى و أنسي ما أخبرني به، فأخبرني أنه أقام بالثغور ثلاثين سنة، ثم مضت مدّة أخرى و أنسي الحكايتين جميعا، فأخبرني أنه أقام بالجبل/ثلاثين سنة، ثم مضت مدّة أخرى فأخبرني أنه أقام بمصر و الشام ثلاثين سنة، فيجب أن يكون عمره على هذا و على التقليل مائة و خمسين سنة(2)، و إنما يزاهي سنّه الخمسين سنة. فليت شعري أيّ فائدة له في هذا الكذب و ما معناه فيه!!

عربد عليه بعض ولد علي بن هشام فهجاهم:

أخبرني محمد بن إبراهيم قال حدّثنا عبد اللّه بن المعتزّ، و حدّثني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال:

اجتمع عليّ بن الجهم مع قوم من ولد عليّ بن هشام في مجلس، فعربد عليه بعضهم، فغضب و خرج من المجلس، و اتّصل الشرّ بينهم حتى تقاطعوا و هجروه و عابوه و اغتابوه. فقال يهجوهم:

بني متيّم هل تدرون ما الخبر *** و كيف يستر أمر ليس يستتر

حاجبتكم: من أبوكم يا بني عصب *** شتّى و لكنّما للعاهر الحجر

قد كان شيخكم شيخا له خطر *** لكنّ أمّكم في أمرها نظر

و لم تكن أمّكم - و اللّه يكلؤها - *** محجوبة دونها الحرّاس و السّتر

كانت مغنّية الفتيان إن شربوا *** و غير ممنوعة منهم إذا سكروا

و كان إخوانه غرّا غطارفة *** لا يمكن الشيخ أن يعصي إذا أمروا

قوم أعفّاء إلاّ في بيوتكم *** فإنّ في مثلها قد تخلع العذر

فأصبحت كمراح(3) الشّول حافلة *** من كلّ لاقحة في بطنها درر

ص: 389


1- في ب، س: «أشبه».
2- يلاحظ أن مجموع السنين التي ذكرها لا يبلغ مائة و خمسين.
3- في الأصول: «كمريح» و المراح: مأوى الإبل. و الشول من النوق: التي خف لبنها و ارتفع ضرعها و أتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها أو ثمانية، فلم يبق في ضروعها إلا شول من اللبن أي بقية مقدار ثلث ما كانت تحلب حدثان (بكسر أوّله و سكون ثانيه) نتاجها. واحدتها شائلة، و هو جمع على غير قياس. و أما الناقة الشائل (بغير هاء) فهي اللاقح التي تشول بذنبها للفحل أي ترفعه، فذلك آية لقاحها، و ترفع مع ذلك رأسها و تشمخ بأنفها، و هي حينئذ شامذ، و جمعها شوّل و شمذ. و المراد من البيت ظاهر.

فجئتم عصبا من كلّ ناحية *** نوعا(1) مخانيث في أعناقها الكبر(2)

فواحد كسرويّ في قراطقه(3) *** و آخر قرشيّ حين يختبر

ما علم أمّكم من حلّ مئزرها *** و من رماها بكم يا أيّها القذر

/قوم إذا نسبوا فالأم واحدة *** و اللّه أعلم بالآباء إذ كثروا

لم تعرفوا الطّعن إلاّ في أسافلكم *** و أنتم في المخازي فتية صبر

أحببت إعلامكم إنّي بأمركم *** و أمر غيركم من أهلكم خبر

تفكّهون بأعراض الكرام و ما *** أنتم و ذكركم السادات يا عرر(4)

هذا الهجاء الذي تبقى مياسمه(5) *** على جباهكم ما أورق الشّجر

سعى عند المتوكل بندمائه و بلغه أنه هجاه فحبسه، و أحسن شعره في الحبس:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال:

كتب صاحب الخبر إلى المتوكّل أن الحسن بن عبد الملك بن صالح احترق فمات. فقال عليّ بن الجهم:

قد بلغني أنّ العامل قتله و صانع صاحب الخبر حتى كتب بهذا. و كان يسعى بالجلساء إلى المتوكّل فأبغضه و أمره بأن يلزم بيته، ثم بلغه أنه هجاه فحبسه. و أحسن شعر قاله في الحبس قصيدته التي أوّلها:

قالت(6) حبست فقلت ليس بضائري *** حبسي و أيّ مهنّد لا يغمد

أ و ما رأيت اللّيث يألف غيله *** كبرا و أوباش السّباع تردّد

و الشمس لو لا أنّها محجوبة *** عن ناظريك لما أضاء الفرقد

و البدر يدركه السّرار(7) فتنجلي *** أيّامه و كأنّه متجدّد

/و الغيث يحصره الغمام فما يرى *** إلاّ و ريّقه يروع(8) و يرعد

و الزاعبيّة(9) لا يقيم كعوبها *** إلاّ الثّقاف(10) و جذوة تتوقّد

و النار في أحجارها مخبوءة *** لا تصطلى إن لم تثرها الأزند

ص: 390


1- كذا في الأصل أي و هما نوعا مخانيث... إلخ، فسرهما في البيت الثاني، و إن كان مع ذلك يحتمل أنها حرفت عن كلمة على وزن فعل بضم أوله جمعا لأفعل، مثل نوك جمع أنوك أو نحو ذلك.
2- الكبر: الطبل. معرب.
3- القراطق: جمع قرطق و هو القباء.
4- العرر: جمع عرة و هو الرجل يكون شين القوم؛ يقال: فلان عرة أهله.
5- المياسم: جمع ميسم (بكسر الميم) و هو هنا أثر الوسم و الجمع مواسم على الأصل باعتباره من وسم، و مياسم على اللفظ.
6- في ب، س: «قالوا».
7- السرار: (بالفتح و الكسر) آخر أيام الشهر.
8- في الأصول: «يراع».
9- الزاعبية: رماح منسوبة إلى رجل من الخزرج يقال له زاعب كان يعمل الأسنة.
10- الثقاف: آلة من خشب تسوّي بها الرماح.

/

و الحبس ما لم تغشه لدنيّة *** شنعاء نعم المنزل المتورّد(1)

بيت يجدّد للكريم كرامة *** و يزار فيه و لا يزور و يحمد

لو لم يكن في الحبس إلاّ أنّه *** لا يستذلّك بالحجاب الأعبد

كم من عليل قد تخطّاه الرّدى *** فنجا و مات طبيبه و العوّد

يا أحمد بن أبي دواد إنّما *** تدعى لكلّ عظيمة يا أحمد

أبلغ أمير المؤمنين فدونه *** خوض الرّدى و مخاوف لا تنفد

أنتم بنو عمّ النبيّ محمد *** أولى بما شرع النبيّ محمّد

ما كان من كرم فأنتم أهله *** كرمت مغارسكم و طاب المحتد

أ من السّويّة يا ابن عمّ محمد *** خصم تقرّبه و آخر تبعد

إنّ الذين سعوا إليك بباطل *** حسّاد نعمتك التي لا تجحد

شهدوا و غبنا عنهم فتحكّموا *** فينا و ليس كغائب من يشهد

لو يجمع الخصماء عندك مجلس *** يوما لبان لك الطريق الأقصد

فبأيّ جرم أصبحت أعراضنا *** نهبا تقسّمها اللئيم الأوغد

دخل على المتوكل و الطبيب يفحص علته و كانت جاريته قبيحة أغضبته فضربها ثم اغتم لذلك فقال هو في ذلك شعرا:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال قال لي أبو الفضل الرّبعيّ (2) قال قال لي عليّ بن الجهم:

دخلت على المتوكّل و قد بلغني أنّه كلّم قبيحة جاريته فأجابته بشيء أغضبه، فرماها بمخدّة فأصابت عينها فأثّرت فيها، فتأوّهت و بكت و بكى المعتزّ لبكائها؛ فخرج المتوكّل و قد حمّ من الغمّ و الغضب. فلما بصر بي دعاني و إذا الفتح(3) يري بختيشوع القارورة و يشاوره فيها. فقال لي: قل يا عليّ في علّتي هذه شيئا وصف أنّ الطبيب ليس يدري ما بي؛ فقلت:

/

تنكّر حال علّتي الطّبيب *** و قال أرى بجسمك ما يريب

جسست العرق منك فدلّ جسّي *** على ألم له خبر عجيب

فما هذا الذي بك هات قل لي *** فكان جوابه منّي النّحيب

و قلت أيا طبيب الهجر دائي *** و قلبي يا طبيب هو الكئيب

فحرّك رأسه عجبا لقولي *** و قال الحب ليس له طبيب

ص: 391


1- المتورد: الذي يورد و يزار مثل المورود. و في ب، س: «المتودد» و هو تحريف.
2- في أ، م: «الربيعي».
3- هو الفتح بن خاقان وزير المتوكل و نديمه.

فأعجبني الذي قد قال جدّا *** و قلت بلى إذا رضي الحبيب

فقال هو الشفاء فلا تقصّر *** فقلت أجل و لكن لا يجيب

ألا هل مسعد يبكي لشجوي *** فإنّي هائم فرد غريب

فقال: أحسنت و حياتي! يا غلام اسقني قدحا؛ فجاءه بقدح فشرب و سقيت الجماعة مثله. و خرجت إليه فضل الشاعرة بأبيات أمرتها قبيحة أن تقولها عنها. فقرأها فإذا هي:

/

أكتمنّ الذي في القلب من حرق *** حتى أموت و لم يعلم به الناس

و لا يقال شكا من كان يعشقه *** إنّ الشّكاة لمن تهوى هي الياس

و لا أبوح بشيء كنت أكتمه *** عند الجلوس إذا ما دارت الكاس

فقال المتوكّل: أحسنت يا فضل. و أمر لها ولي بعشرين ألف درهم، و دخل إلى قبيحة فترضّاها.

خرج مع جماعة إلى الشام فقطع عليهم الأعراب الطريق ففرّ أصحابه و ثبت هو و قال شعرا:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد قال:

خرج عليّ بن الجهم إلى الشام في قافلة، فخرجت عليهم الأعراب في خساف(1) فهرب من كان في القافلة من المقاتلة، و ثبت عليّ بن الجهم فقاتلهم قتالا شديدا، و ثاب الناس إليه فدفعهم و لم يحظوا بشيء. فقال في ذلك:

/

صبرت و مثلي صبره ليس ينكر *** و ليس على ترك التّقحّم يعذر

غريزة حرّ لا اختلاق تكلّف *** إذا خام(2) في يوم الوغى المتصبّر

و لمّا رأيت الموت تهفو بنوده *** و بانت علامات له ليس تنكر

و أقبلت الأعراب من كلّ جانب *** و ثار عجاج أسود اللّون أكدر

بكلّ مشيح(3) مستميت مشمّر *** يجول به طرف(4) أقبّ مشمّر

بأرض خساف حين لم يك دافع *** و لا مانع إلاّ الصّفيح(5) المذكّر

فقلّل في عينيّ عظم جموعهم *** عزيمة قلب فيه ما جلّ يصغر

بمعترك فيه المنايا جواسر *** و نار الوغى بالمشرفيّة تسعر

فما صنت وجهي عن ظبات سيوفهم *** و لا انحزت عنهم و القنا تتكسّر

و لم أك في حرّ الكريهة محجما *** إذا لم يكن في الحرب للورد مصدر

ص: 392


1- في الأصول «حساف» بالحاء المهملة و هو تصحيف. و خساف: برية بين بالس و حلب. («معجم البلدان» لياقوت).
2- خام: نكص و جبن.
3- المشيح: المجد.
4- الطرف: الكريم من الخيل. و الأقب: الدقيق الخصر الضامر البطن.
5- الصفيح هنا: السيف العريض.

إذا ساعد الطّرف الفتى و جنانه *** و أسمر خطّيّ و أبيض مبتر(1)

فذاك، و إن كان الكريم بنفسه، *** إذا اصطكّت الأبطال في النّقع عسكر

منعتهم من أن ينالوا قلامة *** و كنت شجاهم و الأسنّة تقطر

و تلك سجايانا قديما و حادثاً *** بها عرف الماضي و عزّ المؤخّر

أبت لي قروم أنجبتني أن أرى *** و إن جلّ خطب خاشعا أتضجّر

أولئك آل اللّه فهر بن مالك *** بهم يجبر العظم الكسير و يكسر

هم المنكب العالي على كلّ منكب *** سيوفهم تفني و تغني و تفقر

قال إن أباه حبسه في الكتاب و هو صبيّ فكتب إلى أمّه شعرا فكذبه إبراهيم بن المدبر:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق و الحسن بن عليّ قالا جميعا حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عيسى بن أبي حرب قال حدّثني عليّ بن الجهم قال:

حبسني أبي في الكتّاب، فكتبت إلى أمي:

يا أمّتا أفديك من أمّ *** أشكو إليك فظاظة الجهم

قد سرّح الصّبيان كلّهم *** و بقيت محصورا بلا جرم

قال: و هو أوّل شعر قلته و بعثت به إلى أمّي؛ فأرسلت إلى أبي: و اللّه لئن لم تطلقه لأخرجنّ حاسرة حتى أطلقه. قال عيسى فحدّثت بهذا الخبر إبراهيم بن المدبّر فقال: عليّ بن الجهم/كذّاب، و ما يمنعه من أن يكون ولّد هذا الحديث و قال هذا الشعر و له ستون سنة، ثم حدّثكم أنه قاله و هو صغير، ليرفع من شأن نفسه!.

مدح أحمد بن أبي دواد و كان منحرفا عنه ليشفع له في حبسه فقعد عنه فهجاه و شمت به بعد أن نفاه المتوكل:

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال:

كان أحمد بن أبي دواد منحرفا عن عليّ بن الجهم لاعتقاده مذهب الحشويّة(2). فلما حبس عليّ بن الجهم مدح أحمد بن أبي دواد عدّة مدائح، و سأله أن يقوم بأمره و يشفع فيه، فلم يفعل و قعد عنه. فمنها قوله:

يا أحمد بن أبي دواد إنّما *** تدعى لكلّ عظيمة يا أحمد

أبلغ أمير المؤمنين و دونه *** خوض الرّدى و مخاوف لا تنفد

أنتم بنو عمّ النبيّ محمد *** أولى بما شرع النبيّ محمّد

و هذه الأبيات من قصيدته التي أوّلها:

قالت حبست فقلت ليس بضائري

ص: 393


1- المعروف في «كتب اللغة» أن يقال سيف باتر و بتار (بتشديد التاء) و بتار (وزان غراب) و بتور. و لكن عليّ بن الجهم استعمل هنا هذه الصيغة، فرجحنا هذا الضبط؛ إذ المستعمل في القطع من هذه المادة إنما هو «بتر» الثلاثي، و اسم الآلة منه مبتر.
2- الحشوية: طائفة يقولون: حكم الأحاديث كلها واحد، و عندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. و هم فرقة من المرجئة. (انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ج 4 ص 162 طبع دار الكتب المصرية).

/فلمّا نفى المتوكّل أحمد بن أبي دواد شمت به عليّ بن الجهم و هجاه فقال:

يا أحمد بن أبي دواد دعوة *** بعثت إليك جنادلا و حديدا

ما هذه البدع التي سمّيتها *** بالجهل منك العدل و التوحيدا

أفسدت أمر الدّين حين وليته *** و رميته بأبي الوليد(1) وليدا

لا محكما جزلا(2)، و لا مستطرفا(3) *** كهلا، و لا مستحدثا معمودا(4)

شرها، إذا ذكر المكارم و العلا *** ذكر القلايا(5) مبدئا و معيدا

و يودّ لو مسخت ربيعة كلّها *** و بنو إياد صحفة و ثريدا

و إذا تربّع في المجالس خلته *** ضبعا و خلت بني أبيه قرودا

و إذا تبسّم ضاحكا شبّهته *** شرقا تعجّل شربه مردودا

لا أصبحت بالخير عين أبصرت *** تلك المناخر و الثّنايا السّودا

كتب من حبسه شعرا لطاهر بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين:

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد قال:

كتب عليّ بن الجهم إلى طاهر من الحبس(6):

إن كان لي ذنب فلي حرمة *** و الحقّ لا يدفعه الباطل

و حرمتي أعظم من زلّتي *** لو نالني من عدلكم نائل

و لي حقوق غير مجهولة *** يعرفها العاقل و الجاهل

و كلّ إنسان له مذهب *** و أهل ما يفعله الفاعل

و سيرة الأملاك منقولة *** لا جائر يخفى و لا عادل

و قد تعجّلت الذي خفته *** منك و لم يأت الذي آمل

شعره في مقين كان ينزل عنده في جماعة بالكرخ:

حدّثني عمّي قال حدّثنا محمد قال:

كان عليّ بن الجهم يعاشر جماعة من فتيان بغداد لما أطلق من حبسه و ردّ من النفي، و كانوا يتقاينون(7)ببغداد، و يلزمون منزل مقيّن بالكرخ يقال له المفضّل. فقال فيه عليّ بن الجهم:

ص: 394


1- أبو الوليد هو محمد بن أحمد بن أبي دواد، كان يتولى المظالم بسامرا و عزله المتوكل سنة 237 ه.
2- الجزل هنا: الجيد الرأي أصيله.
3- لعلها «مستظرفا» بالظاء المعجمة أي معدودا ظريفا.
4- لعلها: «محمودا».
5- القلايا: المقليات، مفرده قلية.
6- بعد هذه الكلمة و قبل الشعر كلمة «صوت» في ح، ب، س: و لم يذكر فيه ألحانا حتى يكون لهذه الكلمة موقع.
7- ظاهر أن معناه: يجالسون القيان، و أن معنى مقين صاحب قيان.

نزلنا بباب الكرخ أطيب منزل *** على محسنات من قيان المفضّل

/فلابن سريج و الغريض و معبد *** بدائع في أسماعنا لم تبدّل

أوانس ما للضّيف منهنّ حشمة *** و لا ربّهنّ بالجليل المبجّل

يسرّ إذا ما الضّيف قلّ حياؤه *** و يغفل عنه و هو غير مغفّل

و يكثر من ذمّ الوقار و أهله *** إذا الضّيف لم يأنس و لم يتبذّل

و لا يدفع الأيدي المريبة غيرة *** إذا نال حظّا من لبوس و مأكل

و يطرق إطراق الشّجاع مهابة *** ليطلق طرف الناظر المتأمّل

أشر بيد و اغمز بطرف و لا تخف *** رقيبا إذا ما كنت غير مبخّل

و أعرض عن المصباح و الهج بمثله *** فإن خمد المصباح فادن و قبّل

و سل غير ممنوع و قل غير مسكت *** و نم غير مذعور و قم غير معجل

لك البيت ما دامت هداياك جمّة *** و كنت مليّا بالنّبيذ المعسّل

فبادر بأيّام الشّباب فإنّها *** تقضّى و تفنى و الغواية تنجلي

و دع عنك قول الناس أتلف ماله *** فلان فأضحى مدبرا غير مقبل

هل الدهر إلاّ ليلة طرحت بنا *** أواخرها في يوم لهو معجّل

/سقى اللّه باب الكرخ من متنزّه *** إلى قصر(1) وضّاح فبركة(2) زلزل

مساحب أذيال القيان و مسرح ال *** حسان و مثوى كلّ خرق معذّل(3)

لو انّ امرأ القيس بن حجر يحلّها *** لأقصر عن ذكر الدّخول و حومل(4)

إذا لرأى(5) أن يمنح الودّ شادنا *** مقصّر أذيال القبا غير مسبل

إذا الليل أدنى مضجعي منه لم يقل(6) *** عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

ص: 395


1- قصر وضاح: قصر بني للمهدي قرب رصافة بغداد، و قد تولى النفقة عليه رجل من أهل الأنبار يقال له وضاح فنسب إليه. و قيل وضاح من موالي المنصور. و قال الخطيب: لما أمر المنصور ببناء الكرخ قلد ذلك رجلا يقال له الوضاح بن شبا، فبنى القصر الذي يقال له قصر الوضاح. («معجم البلدان» لياقوت).
2- بركة زلزل: ببغداد بين الكرخ و الصراة (بفتح أوّله) و باب المحول (بتشديد الواو مع فتحها) و سويقة أبي الورد تنسب إلى زلزل الضارب. («معجم البلدان» لياقوت).
3- الخرق من الرجال: الكريم الذي يتخرق في كرمه أي يتسع فيه. و المعذل: الذي يكثر الناس عذله و لومه على إسرافه في الكرم.
4- رواية «معجم البلدان»: منازل لا يستتبع الغيث أهلها و لا أوجه اللذات عنها بمعزل منازل لو أن أمرا القيس حلها لأقصر عن ذكر الدخول فحومل
5- في ياقوت: إذا لرآني أمنح الود شادنا مقلص.......
6- في الأصول: «لم أقل». و التصويب من «معجم البلدان» لياقوت عند الكلام على قصر وضاح.
أنشد إبراهيم بن المدبر شعرا لنفسه فكذبه و قال إن الشعر لإبراهيم بن العباس:

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال أنشدني عليّ بن الجهم لنفسه:

و إذا جزى اللّه امرأ بفعاله *** فجزى أخا لي ماجدا سمحا

ناديته عن كربة فكأنّما *** أطلعت عن ليل به صبحا

فقلت له: ويلك! هذا لإبراهيم بن العبّاس يقوله في محمد بن عبد الملك الزيّات! فجحدني و كابر. فدخل يوما عليّ بن الجهم إلى إبراهيم بن العبّاس و أنا عنده. فلمّا رآني قال: اجتمع الإبراهيمان. فتركته ساعة ثم أنشدت البيتين، و قلت لإبراهيم بن العباس: إنّ هذا يزعم أنّ هذين البيتين له. فقال: كذب، هذان لي في محمد /ابن عبد الملك الزيّات. فقال له عليّ بن الجهم بقحة: أ لم أنهك أن تنتحل شعري! فغضب إبراهيم و جعل يقول له بيده: سوأة عليك سوأة لك! ما أوقحك! و هو لا ينكر(1) في ذلك و لا يخجل. ثم التقينا بعد مدّة فقال:

أ رأيت كيف أخزيت إبراهيم بن العباس!! فجعلت أعجب من صلابة وجهه.

شعر له في الفراق:

حدّثني(2) عمّي قال أنشدنا محمد بن سعد لعليّ بن الجهم و فيه غناء:

اعلمي يا أحبّ شيء إليّا *** أنّ شوقي إليك قاض عليّا

/إن قضى اللّه لي رجوعا إليكم *** لا ذكرت الفراق ما دمت حيّا

إنّ حرّ الفراق أنحل جسمي *** و كوى القلب منك بالشّوق كيّا

كان محمد بن عبد الملك الزيات منحرفا عنه و يسبعه عند الخليفة فهجاه:

حدّثني(2) عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال:

كان محمد بن عبد الملك الزيّات منحرفا عن عليّ بن الجهم و كان يسبعه(3) عند الخليفة و يعيبه و يذكره بكلّ قبيح. فقال فيه عليّ بن الجهم:

لعائن اللّه متابعات *** مصبّحات و مهجّرات

على ابن عبد الملك الزيّات *** عرّض شمل الملك للشّتات

و أنفذ الأحكام جائرات *** على كتاب اللّه ذاريات(4)

و عن عقول الناس خارجات *** يرمي الدواوين بتوقيعات

ص: 396


1- في ح، ب، س: «لا يفكر».
2- في ب، س، ح: «قال حدّثني إلخ» و كلمة «قال» هنا لا موقع لها.
3- سبعه (من باب ضرب و منع) شتمه و وقع فيه. و هذه الكلمة محرفة في الأصول، ففي ب، س: «يسبه» و في أ، م: «يبشعه» و في ح: «يسيعه».
4- كذا في الأصول بالذال المعجمة. و ذاريات من ذرت الريح التراب تذروه و تذريه: فرقته و أطارته. يريد أنها تعفى كتاب اللّه. و يحتمل أن يكون زاريات بالزاي أي عائبات.

معقّدات كرقى الحيّات *** سبحان من جلّ عن الصّفات

بعد ركوب الطّوف(1) في الفرات *** و بعد بيع الزّيت بالحبّات

/صرت وزيرا شامخ الثّبات(2) *** هارون(3) يا ابن سيّد السّادات

أما ترى الأمور مهملات *** تشكو إليك عدم الكفاة

فعاجل العلج بمرهفات *** من بعد ألف(4) صخّب الأصوات

بمثمرات(5) غير مورقات *** ترى بمتنيه مرصّفات

ترصّف الأسنان في اللّثات

استرفد عمر بن الفرج فلم يرفده ثم قبض على عمر فشمت به و قال شعرا:

أخبرني عمي قال حدّثني محمد بن سعد قال:

كان عليّ بن الجهم سأل عمر بن الفرج الرّخّجيّ (6) معاونته، و استرفده في نكبته فلم يعاونه و لم يرفده، ثم قبض على عمر بن الفرج و أسلم إلى نجاح(7) ليصادره. فقال عليّ بن الجهم له:

أبلغ نجاحا فتى الفتيان مألكة(8) *** تمضي بها الرّيح إصدارا و إيرادا

لن يخرج المال عفوا من يدي عمر *** أو يغمد السّيف في فوديه إغمادا

الرّخّجيّون لا يوفون ما وعدوا *** و الرّخّجيّات لا يخلفن ميعادا

قال و قال في عمر بن الفرج أيضا:

جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما *** تيه الملوك و أفعال المماليك

/أردت شكرا بلا برّ و مرزئة(9) *** لقد سلكت طريقا غير مسلوك

ظننت عرضك لا يرمى بقارعة *** و ما أراك على حال بمتروك

ص: 397


1- الطوف: قرب ينفخ فيها و يشد بعضها إلى بعض كهيئة السطح يركب عليها في الماء و يحمل عليها.
2- كذا في الأصول و النفس غير مرتاحة لها (؟).
3- يريد هارون الواثق الخليفة العباسي.
4- يريد ألفا من السياط.
5- مثمرات: لها ثمر. و الثمرة من السوط: عقدة في طرفه تشبيها بالثمر في الهيئة و التدلي عنه كتدلي الثمر.
6- كان هو و أبوه فرج من أعيان الكتاب في أيام المأمون إلى أيام المتوكل. عضب عليه المتوكل؛ لأن الواثق وكله به حين غضب عليه يكتب عنه و يحفظ أخباره. فلما ولي الخلافة نكبه في شهر رمضان سنة 233 ه و أمر بحبسه و مصادرة أمواله. (راجع الطبري ق 3 ص 1370 ص 1377).
7- هو نجاح بن سلمة أبو الفضل، كان على ديوان التوقيع و التتبع على العمال في عهد المتوكل، ثم نكبه عنده عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان سنة 245، و كان متمكنا من المتوكل و إليه الوزارة و عامة أعماله. (راجع الطبري ق 3 ص 1440-1447).
8- المألكة: الرسالة.
9- يقال: رزأه ماله من باب قطع و علم رزءا و مرزئة إذا أصاب منه خيرا.
تمثل بشعره نديم لسليمان بن وهب و كان عربد عليه و أغضبه فرضي عنه:

أخبرني عمّي قال حدّثني الحسن بن الحسن بن رجاء عن أبيه قال:

كان لسليمان بن(1) وهب نديم يأنس به و يألفه، فعربد عليه ليلة من الليالي عربدة قبيحة، فاطّرحه و جفاه مدّة. فوقف له على الطريق. فلما مرّ به وثب إليه(2) فقال له: أيها الوزير، أ لا تكون في أمري كما قال عليّ بن الجهم:

القوم إخوان صدق بينهم نسب *** من المودّة لم يعدل بها نسب

تراضعوا درّة الصّهباء بينهم *** فأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب

/لا تحفظنّ على السّكران زلّته *** و لا تريبنك من أخلاقه ريب

فقال له سليمان: قد رضيت عنك رضا صحيحا، فعد إلى ما كنت عليه من ملازمتي.

و أوّل هذه الأبيات:

الورد يضحك و الأوتار تصطخب *** و النّاي يندب أشجانا و ينتحب

و الرّاح تعرض في نور الرّبيع كما *** تجلى العروس عليها الدّرّ و الذّهب

و اللّهو يلحق مغبوقا بمصطبح *** و الدور(3) سيّان محثوث و منتخب

و كلّما انسكبت في الكأس آونة *** أقسمت أنّ شعاع الشّمس ينسكب

أنشد عبد اللّه بن طاهر شعرا و كان مغتما فسرى عنه:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال حدّثني أسلم مولى عبد اللّه بن طاهر قال:

دخل عليّ بن الجهم يوما على عبد اللّه بن طاهر في غدوة من غدوات الرّبيع و في السماء غيم رقيق و المطر يجيء قليلا و يسكن قليلا، و قد كان عبد اللّه عزم على الصّبوح. فغاضبته حظيّة له، فتنغّص عليه عزمه و فتر. فخبّر عليّ بن الجهم بالخبر و قيل له: قل في هذا المعنى شيئا، لعله ينشط للصّبوح. فدخل عليه فأنشده:

صوت

أما ترى اليوم ما أحلى شمائله *** صحو و غيم و إبراق و إرعاد

كأنّه أنت يا من لا شبيه له *** وصل و هجر و تقريب و إبعاد

فباكر الرّاح و اشربها معتّقة *** لم يدّخر مثلها كسرى و لا عاد

و اشرب على الرّوض إذ لاحت زخارفه *** زهر و نور و أوراق و أوراد

ص: 398


1- هو أبو أيوب سليمان بن وهب بن سعيد. كتب للمأمون و هو ابن أربع عشرة سنة ثم لإيتاخ ثم لأشناس، ثم ولي الوزارة للمهتدي باللّه ثم للمعتمد على اللّه، و قد مدحه خلق كثير من أعيان الشعراء كأبي تمام و البحتري. و تنقل سليمان المذكور في الدواوين الكبار و الوزارة. و لم يزل كذلك حتى توفي مقبوضا عليه في منتصف صفر سنة 272. (راجع ابن خلكان).
2- في ب، س، ح: «عليه».
3- كذا في الأصول.

كأنّما يومنا فعل الحبيب بنا *** بذل و بخل و إيعاد و ميعاد

و ليس يذهب عنّي كلّ فعلكم *** غيّ و رشد و إصلاح و إفساد

فاستحسن الأبيات و أمر له بثلاثمائة دينار؛ و حمله و خلع عليه، و أمر بأن يغنّى في الأبيات. الغناء لبذل الطّاهريّة، خفيف رمل. و فيه لغيرها هزج.

جلس في المقابر بعد خروجه من السجن و قال شعرا:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد قال حدّثني رجل من أهل خراسان قال:

رأيت عليّ بن الجهم بعد ما أطلق من حبسه جالسا في المقابر؛ فقلت له: ويحك! ما يجلسك هاهنا؟!

فقال:

يشتاق كلّ غريب عند غربته *** و يذكر الأهل و الجيران و الوطنا

و ليس لي وطن أمسيت أذكره *** إلاّ المقابر إذ صارت لهم وطنا

شعر له و فيه غناء:
اشارة

حدّثني عمّي قال أنشدنا أحمد بن عبيد و محمد بن سعد لعليّ بن الجهم و فيه غناء:

صوت

لو تنصّلت إلينا *** لوهبنا لك ذنبك

بأبي ما أبغض العي *** ش إذا فارقت قربك

ليتني أملك قلبي *** مثل ما تملك قلبك

أيّها الواثق باللّه لقد ناصحت ربّك

ما رأى النّاس إماما *** أنهب الأموال نهبك

أصبحت حجّتك العل *** يا و حزب اللّه حزبك

الغناء لعريب رمل. و فيه لغيرها هزج.

مدح أبا أحمد بن الرشيد فلم يعطه شيئا فهجاه:

حدّثني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال:

كان عليّ بن الجهم قد مدح أبا أحمد بن الرّشيد فلم يعطه شيئا، فقال يهجوه:

/

يا أبا أحمد لا ين *** جي من الشّعر الفرار

لبني العبّاس أحلا *** م عظام و وقار

و لهم في الحرب إقدا *** م و رأي و اصطبار

و لهم ألسنة تب *** ري كما تبري الشّفار

ص: 399

و وجوه كنجوم اللّيل تهدي من يحار و نسيم كنسيم الرّوض جادته القطار

و لعطفيك عن المج *** د شماس و ازورار

إن تكن منهم بلا شكّ فللعود قتار(1)

رثى عبد اللّه بن طاهر بشعر و أنشده ابنه يعزيه:

حدّثني جحظة و عمّي قالا حدّثنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:

دخل إلينا عليّ بن الجهم بعقب موت أبي و المجلس حافل بالمعزّين، فمثل قائما و أنشدنا يرثيه:

أيّ ركن و هى من الإسلام *** أيّ يوم أخنى على الأيّام

جلّ رزء الأمير عن كلّ رزء *** أدركته خواطر الأوهام

سلبتنا الأيّام ظلاّ ظليلا *** و أباحت حمى عزيز المرام

يا بني مصعب حللتم من النا *** س محلّ الأرواح في الأجسام

فإذا رابكم من الدّهر ريب *** عمّ ما خصّكم جميع الأنام

انظروا هل ترون إلاّ دموعا *** شاهدات على قلوب دوامي

من يداوي الدّنيا و من يكلأ المل *** ك لدى فادح الخطوب العظام

نحن متنا بموته و أجلّ ال *** خطب موت السّادات و الأعلام

لم يمت و الأمير طاهر(2) حيّ *** دائم الانتقام و الإنعام

و هو من بعده نظام المعالي *** و قوام الدّنيا و سيف الإمام

قال: فما أذكر أني بكيت أو رأيت في دورنا باكيا أكثر من يومئذ.

غنت عريب المعتز بشعر له فطرب و فرّق مالا:

حدّثني عمّي قال حدّثنا أبو الدّهقانة النّديم قال:

دخلنا يوما إلى المعتزّ و هو مصطبح على صوت اختاره و اقترحه على عريب، و أظنّ الصنعة لها، فلم يزل يشرب عليه بقيّة يومه، فلمّا سكر أمر لها بثلاثين ألف درهم، و فرّق على الجلساء كلّهم الجوائز و الطّيب و الخلع.

و الصوت:

/

العين بعدك لم تنظر إلى حسن *** و النّفس بعدك لم تسكن إلى سكن

كأنّ نفسي إذا ما غبت غائبة *** حتى إذا عدت لي عادت إلى بدني

و الشعر لعليّ بن الجهم.

ص: 400


1- القتار: ريح العود المحرق.
2- يريد طاهر بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين.
خرج مع عبد اللّه بن طاهر للصيد و شربوا فقال شعرا يصف ذلك:

حدّثني جحظة و محمد بن خلف وكيع و عمّي قالوا جميعا حدّثنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:

لمّا أطلق أبي طاهر عليّ بن الجهم من الحبس أقام معه بالشّاذياخ(1) مدّة. فخرجوا يوما إلى الصّيد، و اتّفق لهم مرج كثير الطير و الوحش، و كانت أيّام الزّعفران، فاصطادوا صيدا كثيرا حسنا، و أقاموا يشربون على الزّعفران. فقال علي بن الجهم يصف ذلك:

وطئنا رياض الزّعفران و أمسكت *** علينا البزاة البيض حمر الدّرارج(2)

و لم تحمها الأدغال منّا و إنّما *** أبحنا حماها بالكلاب النوابج(3)

بمستروحات(4) سابحات بطونها *** على الأرض أمثال السّهام الزّوالج(5)

و مستشرفات بالهوادي(6) كأنها *** و ما عقفت منها رءوس الصّوالج

/و من دالعات ألسنا فكأنّها *** لحى من رجال خاضعين كواسج(7)

/فلينا بها الغيطان فليا كأنّها *** أنامل إحدى الغانيات الحوالج(8)

فقل لبغاة الصّيد هل من مفاخر *** بصيد و هل من واصف أو مخارج(9)

قرنّا بزاة بالصّقور و حوّمت *** شواهيننا من بعد صيد الزّمامج(10)

كتب من حبسه إلى المتوكل شعرا:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال:

كتب عليّ بن الجهم إلى المتوكّل و هو محبوس:

صوت

أقلني أقالك من لم يزل *** يقيك و يصرف عنك الرّدى

و يغذوك بالنّعم السابغات *** وليدا و ذا ميعة أمردا

و تجري مقاديره بالذي *** تحبّ إلى أن بلغت المدى

ص: 401


1- راجع الحاشية رقم 3 صفحة 208 من هذا الجزء.
2- الدرارج: جمع درّاج و هو طير جميل المنظر ملوّن الريش. و في الأصول: «التدارج» و هو تحريف.
3- نباج الكلب: نباحه. و في أ، ح، م: «النوابح» بالحاء المهملة، و هو تصحيف. و في ب، س «البوارج» و هو تحريف.
4- استروح الشيء: تشممه. و سابحات: سريعات.
5- الزوالج: هنا بمعنى السريعة. يقال سهم زالج أي يزلج على وجه الأرض ثم يمضي.
6- الهوادي هنا: الأعناق. و عقفت: عطفت و عوجت.
7- دالعات ألسنا: مخرجات ألسنها من أفواهها. و الكوسج: الذي لحيته على ذقنه لا على عارضيه.
8- حوالج: جمع حالجة و هي التي تندف القطن حتى يخلص الحب منه.
9- خارجه: ناهده. يريد: هل من مناهض يناهضنا في الصيد.
10- كذا في أكثر الأصول. و الزمامج: جمع زمج (وزان سكر) و هو نوع من الطير يصاد به دون العقاب، تغلب على لونه الحمرة. و في ب، س: «الروامج». جمع رامج، و هو ملواح تصاد به الجوارح كالصقور و نحوها. و هذا لا يصلح في هذا المقام.

و يعليك حتى لو انّ السماء *** تنال لجاوزتها مصعدا

فما بين ربّك جلّ اسمه *** و بينك إلاّ نبيّ الهدى

فشكرا لأنعمه إنّه *** إذا شكرت نعمة جدّدا

و عفوك عن مذنب خاضع *** قرنت المقيم به المقعدا

إذا ادّرع الليل أفضى به *** إلى الصّبح من قبل أن يرقدا

عفا اللّه عنك أ لا حرمة *** تعوذ بفضلك أن أبعدا

لئن جلّ ذنب و لم أعتمد *** لأنت أجلّ و أعلى يدا

أ لم تر عبدا عدا طوره *** و مولى عفا و رشيدا هدى

/و مفسد أمر تلافيته *** فعاد فأصلح ما أفسدا

فلا عدت أعصيك فيما أمر *** ت حتى أزور الثّرى ملحدا

و إلاّ فخالفت ربّ السماء *** و خنت الصّديق و عفت النّدى

و كنت كعزّون أو كابن عمرو *** مبيح العيال لمن أولدا

يكثّر في البيت صبيانه *** يغيظ بهم معشرا جسّدا

شمت بأحمد بن أبي دواد حين فلج و قال شعرا يهجوه:

حدّثني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد قال:

لمّا فلج ابن أبي دواد شمت به عليّ بن الجهم و أظهر ذلك له و قال فيه:

لم يبق منك سوى خيالك لامعا *** فوق الفراش ممهّدا بوساد

فرحت بمصرعك البريّة كلّها *** من كان منهم موقنا بمعاد

كم مجلس للّه قد عطّلته *** كي لا يحدّث فيه بالإسناد

و لكم مصابيح لنا أطفأتها *** حتى يزول عن الطريق الهادي

و لكم كريمة معشر أرملتها *** و محدّث أوثقت في الأقياد

إنّ الأسارى في السّجون تفرّجوا *** لمّا أتتك مواكب العوّاد

و غدا لمصرعك الطبيب فلم يجد *** شيئا لدائك حيلة المرتاد

/فذق الهوان معجّلا و مؤجّلا *** و اللّه ربّ العرش بالمرصاد

لا زال فالجك الذي بك دائبا *** و فجعت قبل الموت بالأولاد

شعر له غنت فيه عريب:

أنشدني عمّي لابن الجهم و فيه غناء لعريب:

ص: 402

نطق الهوى بجوى هو الحقّ *** و ملكتني فليهنك الرّقّ

رفقا بقلبي يا معذّبه *** رفقا و ليس لظالم رفق

و إذا رأيتك لا تكلّمني *** ضاقت عليّ الأرض و الأفق

و أنشدني له و فيه غناء أيضا، و يقال إنه آخر شعر قاله:

يا رحمة للغريب بالبلد الن *** ازح ما ذا بنفسه صنعا

فارق أحبابه فما انتفعوا *** بالعيش من بعده و ما انتفعا

هجا مغنيا بشعر:

و قال لمغنّ حضر معه مجلسا و كان غير طيّب:

كنت في مجلس فقال مغنّي ال *** قوم كم بيننا و بين الشتاء

فذرعت البساط منّي إليه *** قلت هذا المقدار قبل الغناء

فإذا ما عزمت أن تتغنّى *** آذن الحرّ كلّه بانقضاء

استشفع بقبيحة إلى المتوكل و هو في حبسه فأرسلت إليه ابنها المعتز:

أخبرني عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال:

لمّا حبس أمير المؤمنين المتوكّل عليّ بن الجهم، و أجمع الجلساء على عداوته و إبلاغ الخليفة عنه كلّ مكروه و وصفهم مساويه، قال هذه القصيدة يمدحه و يذكّره حقوقه عليه، و هي:

عفا اللّه عنك أ لا حرمة *** تعوذ بعفوك أن أبعدا

و وجّه بها إلى بيدون الخادم، فدخل بها إلى قبيحة و قال لها: إنّ عليّ بن الجهم قد لاذ بك و ليس له ناصر سواك، و قد قصده هؤلاء النّدماء و الكتّاب لأنه رجل من أهل السنّة و هم روافض، فقد اجتمعوا على الإغراء بقتله. فدعت المعتزّ و قالت له: اذهب بهذه الرّقعة يا بنيّ إلى سيّدك و أوصلها إليه، فجاء بها و وقف بين يدي أبيه. فقال له: ما معك فديتك؟ فدنا منه و قال: هذه رقعة دفعتها إليّ أمّي. فقرأها المتوكّل و ضحك. ثم أقبل عليهم فقال: أصبح أبو عبد اللّه - فديته - خصمكم. هذه رقعة عليّ بن الجهم يستقيل(1)، و أبو عبد اللّه شفيعه، و هو ممن لا يردّ، و قرأها عليهم. فلمّا بلغ إلى قوله:

فلا عدت أعصيك فيما أمرت *** إلى أن أحلّ الثّرى ملحدا

/و إلاّ فخالفت ربّ السماء *** و خنت الصّديق و عفت النّدى

و كنت كعزّون أو كابن عمرو *** مبيح العيال لمن أولدا

وثب(2) ابن حمدون و قال للمعتزّ: يا سيّدي فمن دفع هذه الرّقعة إلى السيّدة؟ قال بيدون الخادم: أنا.

ص: 403


1- يستقيل: يطلب الإقالة من ذنبه و العفو عنه.
2- في الأصول: «فوثب».

فقالوا له: أحسنت تعادينا و توصل رقعة عدوّنا في هجائنا!! فانصرف بيدون و قام المعتزّ فانصرف. و استلب ابن حمدون قوله:

و كنت كعزّون أو كابن عمرو *** مبيح العيال لمن أولدا

/فجعل ينشدهم إيّاه و هم يشتمون ابن حمدون و يضجّون و المتوكّل يضحك و يصفّق و يشرب حتى سكر و نام، و سرقوا قصيدته من بين يدي المتوكّل و انصرفوا، و لم يوقّع بإطلاقه و نسيه. فقالوا لابن حمدون: ويلك! تعيد هجاءنا و شتمنا!! فقال: يا حمقى و اللّه لو لم أفعل ذلك فيضحك و يشرب حتى يسكر و ينام لوقع في إطلاقه و وقعنا معه في كلّ ما نكره.

هنأ المتوكل بفتح أرمينية:

أخبرني عليّ بن الحسين قال حدّثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدّثني أحمد بن حمدون قال:

لمّا افتتحت أرمينية و قتل إسحاق بن إسماعيل(1) دخل عليّ بن الجهم فأنشد المتوكّل قصيدته التي يهنّيه فيها بالفتح و يمدحه، فقال فيها و أومأ بيده إلى الرسول الوارد بالفتح و برأس إسحاق بن إسماعيل:

أهلا و سهلا بك من رسول *** جئت بما يشفي من الغليل

بجملة تغني عن التفصيل *** برأس إسحاق بن إسماعيل

قهرا بلا ختل و لا تطويل

/فاستحسن جميع من حضر ارتجاله هذا و ابتداءه، و أمر له المتوكّل بثلاثين ألف درهم، و تمّم القصيدة. و فيها يقول:

جاوز نهر الكرّ(2) بالخيول *** تردي بفتيان كأسد الغيل

معوّدات طلب الذّحول(3) *** خزر(4) العيون طيبي(5) النّصول

شعث على شعث من الفحول *** جيش يلفّ الحزن بالسّهول

كأنّه معتلج(6) السّيول *** يسوسه كهل من الكهول

لا ينثني للصّعب و الذّلول *** على أغرّ واضح الحجول

حتى إذا أصحر(7) للمخذول *** ناجزه بصارم صقيل

ضربا طلحفا(8) ليس بالقليل *** و منجنيق(9) مثل حلق الفيل

ص: 404


1- هو إسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية، ظفر به بغا و أحرق مدينة تفليس سنة 238 ه.
2- الكر (بضم أوّله): نهر بين أرمينية و أرّان يشق مدينة تفليس. و تردى الخيل رديا و رديانا: ترجم الحصا بحوافرها من شدة وطئها.
3- في أكثر الأصول: «الدخول» بالدال و الخاء و هو تصحيف و في ج: «الدحول» بالدال و الحاء المهملتين. و الذحول: جمع ذحل و هو الثأر.
4- خزر: جمع أخزر و خزراء. و خزر العين: ضيقها، و هو كناية عن الغضب.
5- في ج: «طيب» و في أ، م هكذا: «حيتي». و في ب، س: «صيتي».
6- اعتلجت الأمواج و السيول: التطمت.
7- أصحر: برز.
8- طلحفا: شديدا.
9- المنجنيق: آلة ترمى بها الحجارة. فارسي معرّب.

ترفضّ عن خرطومه الطويل *** صواعق من حجر السّجّيل(1)

تترك كيد القوم في تضليل *** ما كان إلاّ مثل رجع القيل

حتى انجلت عن حزبه المفلول *** و عن نساء حسّر ذهول

صوارخ يعثرن في الذّيول *** ثواكل الأولاد و البعول

لا و الذي يعرف العقول *** من غير تحديد و لا تمثيل

ما قام للّه و للرسول *** بالدّين و الدّنيا و بالتّنزيل

خليفة كجعفر المأمول

مدح المتوكل بقصيدة و أرسلها من حبسه مع علي بن يحيى:

أخبرني علي بن العبّاس قال حدّثني محمد بن عبد السلام قال:

رأيت مع عليّ بن يحيى المنجّم قصيدة عليّ بن الجهم يمدح المتوكّل و يصف الهارونيّ (2)، فقلت له: يا أبا الحسن، ما هذه القصيدة معك؟ فضحك و قال: قصيدة لعليّ بن الجهم سألني عرضها على أمير المؤمنين فعرضتها. فلمّا سمع قوله:

/

و قبّة ملك كأنّ النّجو *** م تصغي(3) إليها بأسرارها

تخرّ الوفود لها سجّدا *** إذا ما تجلّت لأبصارها

و فوّارة ثأرها في السماء *** فليست تقصّر عن ثارها

تردّ على المزن ما أنزلت *** إلى الأرض من صوب مدرارها

تهلّل وجهه و استحسنها. فلما انتهيت إلى قوله:

تبوّأت بعدك قعر السّجون *** و قد كنت أرثي لزوّارها

غضب و تربّد وجهه و قال: هذا بما كسبت يداه، و لم يسمع تمام القصيدة.

شاع مذهبه و شره فسافر لحلب فقتل في الطريق و قال شعرا قبل موته:

أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثني الحسين بن موسى قال:

لمّا شاع في الناس مذهب عليّ بن الجهم و شرّه و ذكره كلّ أحد بسوء من صديقه و عدوّه تحاماه الناس، فخرج عن بغداد إلى الشام، فاتّفقنا في قافلة إلى حلب. و خرج علينا نفر من الأعراب، فتسرّع إليهم قوم من المقاتلة، و خرج فيهم فقاتل قتالا شديدا و هزم الأعراب. فلمّا كان من غد خرج علينا منهم خلق كثير، فتسرّعت إليهم المقاتلة و خرج فيهم فأصابته طعنة قتلته، فجئنا به و احتملناه و هو ينزف دمه. فلما رآني بكى و جعل يوصيني بما يريد. فقلت له: ليس عليك بأس. فلما أمسينا قلق قلقا شديدا و أحسّ بالموت، فجعل يقول:

/

أزيد في الليل ليل *** أم سال بالصّبح سيل

ص: 405


1- السجيل: حجارة كالمدر.
2- الهاروني: قصر قرب سامراء ينسب إلى هارون الواثق باللّه. و هو على دجلة بينه و بين سامراء ميل.
3- يحتمل جدا أن تكون: «تفضى».

ذكرت أهل دجيل(1) *** و أين منّي دجيل

فأبكى كلّ من كان في القافلة، و مات مع السّحر، فدفن في ذلك المنزل على مرحلة من حلب.

و من صنعة أبي عيسى بن المتوكّل
صوت

إن الناس غطّوني تغطّيت عنهم *** و إن بحثوا عنّي ففيهم مباحث

و إن حفروا بئري حفرت بئارهم *** فسوف ترى ما ذا تثير النّبائث(2)

الشعر لأبي دلامة. و الغناء لأبي عيسى بن المتوكّل، و لحنه ثقيل أوّل عن المعتزّ.

ص: 406


1- دجيل: نهر مخرجه من أعلى بغداد بين تكريت و بينها مقابل القادسية دون سامرا.
2- النبائث: جمع نبيثة، و هي تراب البئر.

10 - أخبار أبي دلامة و نسبه

نسبه و هو مولى لبني أسد و كان فاسد الدين متهتكا:

أبو دلامة زند بن الجون. و أكثر الناس يصحّف اسمه فيقول «زيد» بالياء، و ذلك خطأ، و هو زند بالنون.

و هو كوفيّ أسود، مولى لبني أسد. كان أبوه عبدا لرجل منهم يقال له فضافض فأعتقه. و أدرك آخر أيّام بني أميّة، و لم يكن له في أيّامهم نباهة، و نبغ في أيام بني العبّاس، و انقطع إلى أبي عبّاس و أبي جعفر المنصور و المهديّ، فكانوا يقدّمونه و يصلونه و يستطيبون مجالسته و نوادره. و قد كان انقطع إلى روح بن حاتم المهلّبيّ أيضا في بعض أيّامه. و لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إلى أبي دلامة من المنصور خاصّة. و كان فاسد الدّين، رديء المذهب، مرتكبا للمحازم، مضيّعا للفروض، مجاهرا بذلك، و كان يعلم هذا منه و يعرف به، فيتجافى عنه للطف محلّه.

أول شعر عرف به:

و كان أوّل ما حفظ من شعره و أسنيت/الجوائز له به قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور و ذكر قتله أبا مسلم. فأخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن داود بن الجرّاح عن محمد بن القاسم عن أحمد بن حبيب قال: لمّا قال أبو دلامة قصيدته في قتل أبي مسلم التي يقول فيها:

أبا مسلم خوّفتني القتل فانتحى *** عليك بما خوّفتني الأسد الورد

أبا مسلم ما غيّر اللّه نعمة *** على عبده حتى يغيّرها العبد

أنشدها المنصور في محفل من الناس، فقال له: احتكم. قال: عشرة آلاف درهم، فأمر له بها. فلمّا خلا به قال له: إيه!! أما و اللّه لو تعدّيتها لقتلتك.

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن مسلم عن أبيه: سمّى لي أبو دلامة نفسه زندا (بالنون) ابن الجون. و أسلم مولاه فضافض، و له أيضا شعر، و كان في الصّحابة.

أعفاه المنصور من لبس السواد و القلانس دون الناس:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني جعفر بن الحسين المهلّبيّ قال:

كان أبو جعفر المنصور قد أمر أصحابه بلبس السّواد و قلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، و أن يعلقوا السّيوف في المناطق، و يكتبوا على ظهورهم: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّٰهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزّيّ. فقال له أبو جعفر: ما حالك؟ قال: شرّ حال، وجهي في نصفي، و سيفي في استي، و كتاب اللّه وراء ظهري، و قد صبغت بالسّواد ثيابي، فضحك منه و أعفاه وحده من ذلك، و قال له: إيّاك أن يسمع هذا منك أحد.

و نسخت من كتاب لابن النطّاح فذكر مثل هذه القصة سواء و زاد فيها:

ص: 407

و كنّا نرجّي من إمام زيادة *** فجاد بطول زاده في القلانس

تراها على هام الرجال كأنّها *** دنان يهود جلّلت بالبرانس

فضحك منه و أعفاه.

طلب من المنصور أو السفاح، كلب صيد ثم تدرج في الطلب إلى أشياء كثيرة:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد النحويّ قال حدّثني الجاحظ قال:

كان أبو دلامة بين يدي المنصور واقفا - و أخبرني إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة أنه كان واقفا بين يدي السّفّاح - فقال له: سلني حاجتك. قال أبو دلامة: كلب أ تصيّد به. قال: أعطوه إيّاه. قال: و دابّة أ تصيّد عليها.

قال: أعطوه. قال: و غلام يصيد بالكلب و يقوده. قال: أعطوه غلاما. قال: و جارية تصلح لنا الصّيد و تطعمنا منه. قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك فلا بدّ لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه دارا تجمعهم. قال: فإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين/يعيشون! قال: قد أعطيتك مائة جريب(1) عامرة و مائة جريب غامرة. قال: و ما الغامرة؟ قال: ما لا نبات فيه. فقال: قد أقطعتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد. فضحك و قال: اجعلوها كلّها عامرة. قال: فأذن لي أن أقبّل يدك. قال: أمّا هذه فدعها. قال: و اللّه ما منعت عيالي شيئا أقلّ ضررا عليهم منها. قال الجاحظ: فانظر إلى حذقه بالمسألة و لطفه فيها: ابتدأ بكلب فسهّل القصّة به، و جعل يأتي بما يليه على ترتيب و فكاهة، حتى نال ما لو سأله بديهة لما وصل إليه.

كني باسم جبل بمكة:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني السّكّريّ عن محمد بن حبيب قال: اسم/أبي دلامة زند بالنون، و من الناس من يرويه بالياء، و كنّي أبا دلامة باسم جبل بمكة يقال له أبو دلامة، كانت قريش تئد فيه البنات في الجاهليّة؛ و هو بأعلى مكة.

أنشد المنصور شعرا فأجازه:

و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن العمريّ عن الهيثم قال:

دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

إنّ الخليط أجدّ البين فانتجعوا(2) *** و زوّدوك خبالا بئس ما صنعوا

و اللّه يعلم أن كادت لبينهم *** يوم الفراق حصاة القلب تنصدع

عجبت من صبيتي يوما و أمّهم *** أمّ الدّلامة لمّا هاجها الجزع

لا بارك اللّه فيها من منبّهة *** هبّت تلوم عيالي بعد ما هجعوا

ص: 408


1- الجريب من الأرض: ثلاثة آلاف و ستمائة ذراع، و قيل: عشرة آلاف ذراع.
2- كان الأفضل أن يكون «أجدّوا البين فانتجعوا» ليتفق الضميران. على أنه يجوز أن يكون ضمير «الخليط» منفردا و جمعا.

و نحن مشتبهو الألوان أوجهنا *** سود قباح و في أسمائنا شنع

إذا تشكّت إليّ الجوع قلت لها *** ما هاج جوعك إلاّ الرّيّ و الشّبع

/ - و يروى و هو الجيّد:

أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا *** على الخليفة منه الرّيّ و الشّبع

لا و الذي يا أمير المؤمنين قضى *** لك الخلافة في أسبابها الرّفع

ما زلت أخلصها كسبي فتأكله *** دوني و دون عيالي ثم تضطجع

شوهاء مشنأة في بطنها ثجل *** و في المفاصل من أوصالها فدع(1)

ذكّرتها بكتاب اللّه حرمتنا *** و لم تكن بكتاب اللّه تنتفع

فاخرنطمت(2) ثم قالت و هي مغضبة *** أ أنت تتلو كتاب اللّه يا لكع

اخرج لتبغ لنا مالا و مزرعة *** كما لجيراننا مال و مزدرع

و اخدع خليفتنا عنها بمسألة *** إنّ الخليفة للسّؤال ينخدع

فضحك أبو جعفر و قال: أرضوها عنّي و اكتبوا له بمائتي جريب عامرة و مائتي جريب غامرة - و قال الهيثم:

بستمائة جريب عامرة و غامرة - فقال له: أنا أقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامرة فيما بين الحيرة و النّجف، و إن شئت زدتك. فضحك و قال: اجعلوها كلّها عامرة.

شهد عند ابن أبي ليلى لجارة له و قال شعرا فأمضى ابن أبي ليلى شهادته:

حدّثني محمد بن أحمد بن الطّلاّس قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:

شهد أبو دلامة بشهادة لجارة له عند ابن أبي ليلى(3) على أتان نازعها فيها رجل. فلمّا فرغ من الشهادة قال: اسمع ما قلت فيك قبل أن آتيك ثم اقض ما شئت. قال: هات؛ فأنشده:

/

إن الناس غطّوني تعطّيت عنهم *** و إن بحثوا عنّي ففيهم مباحث

و إن حفروا بئري حفرت بئارهم *** ليعلم يوما كيف تلك النّبائث

ثم أقبل على المرأة فقال: أ تبيعينني الأتان؟ قالت نعم. قال: بكم؟ قالت: بمائة درهم. قال: ادفعوها إليها ففعلوا. و أقبل على الرجل فقال: قد وهبتها لك، و قال لأبي دلامة: قد أمضيت شهادتك و لم أبحث عنك، و ابتعت ممّن شهدت له، و وهبت ملكي لمن رأيت. أرضيت؟ قال نعم، و انصرف.

شرب مع السيد الحميري أو أبي عطاء السندي فذم ابنته و أخبر المنصور فأكرمه:

/أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا محمد بن سلاّم عن عليّ بن إسماعيل قال:

ص: 409


1- الثجل: عظم البطن و استرخاؤه. و الفدع: الاعوجاج.
2- اخرنطمت: رفعت أنفها و استكبرت و غضبت.
3- هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة. أوّل من استقضاه على الكوفة يوسف بن عمر الثقفي و استقضاه بعد ذلك بنو العباس.

كنت أسقي أبا دلامة و السيّد، إذ خرجت بنت لأبي دلامة، فقال فيها أبو دلامة:

فما ولدتك مريم أمّ عيسى *** و لا ربّاك لقمان الحكيم

أجزيا أبا هاشم. فقال السيد(1):

و لكن قد تضمّك أمّ سوء *** إلى لبّاتها و أب لئيم

فضحك لذلك. ثم غدا أبو دلامة إلى المنصور فألفاه في الرّحبة يصلح فيها شيئا يريده، فأخبره بقصّة بنته و أنشده البيتين، ثم اندفع فأنشده بعدهما:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم *** قوم لقيل اقعدوا يا آل عبّاس

ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلّكم *** إلى السماء فأنتم أظهر الناس

و قدّموا القائم المنصور رأسكم *** فالعين و الأنف و الأذنان في الرأس

/فاستحسنها، و قال له: بأيّ شيء تحبّ أن أعينك على قبح ابنتك هذه؟ فأخرج خريطة قد كان خاطها من الليل فقال: تملأ لي هذه دراهم، فملئت فوسعت أربعة آلاف درهم.

و قد أخبرني بهذا الخبر عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:

دخل أبو عطاء السّنديّ يوما إلى أبي دلامة فاحتبسه عنده، و دعا بطعام فأكلا و شبعا، و خرجت إلى أبي دلامة صبيّة له فحملها على كتفه، فبالت عليه فنبذها عن كتفه، ثم قال:

بللت عليّ - لا حيّيت - ثوبي *** فبال عليك شيطان رجيم

فما ولدتك مريم أمّ عيسى *** و لا ربّك لقمان الحكيم

ثم التفت إلى أبي عطاء فقال له: أجز. فقال:

صدقت أبا دلامة لم تلدها *** مطهّرة و لا فحل كريم

و لكن قد حوتها أمّ سوء *** إلى لبّاتها و أبّ لئيم

فقال له أبو دلامة: عليك لعنة اللّه! ما حملك على أن بلغت بي هذا كلّه! و اللّه لا أنازعك بيت شعر أبدا.

فقال أبو عطاء: لأن يكون الهرب من جهتك أحبّ إليّ.

رثى السفاح عند المنصور فغضب و أراد إخراجه إلى الحرب فاسترضاه:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال حدّثني أبو مالك عبد اللّه بن محمد قال حدّثني أبي قال:

لمّا توفّي أبو العبّاس السفّاح دخل أبو دلامة على المنصور و الناس عنده يعزّونه؛ فأنشأ أبو دلامة يقول:

أمسيت بالأنبار يا ابن محمد *** لم تستطع عن عقرها تحويلا

ص: 410


1- كذا في ح. و في سائر النسخ: «السندي». و قد رجحنا رواية ح لأن أبا هاشم كنية السيد الحميري. و سيأتي في الصفحة التالية هذا الخبر بين أبي دلامة و أبي عطاء السندي. فلعل ذلك هو الذي أوقع النساخ في هذا اللبس.

ويلي عليك أهلي كلّهم *** ويلا و عولا في الحياة طويلا

/فلتبكينّ لك النساء بعبرة *** و ليبكينّ لك الرّجال عويلا

مات النّدى إذ متّ يا ابن محمد *** فجعلته لك في الثّراء(1) عديلا

إنّي سألت الناس بعدك كلّهم *** فوجدت أسمح من سألت بخيلا

أ لشقوتي أخّرت بعدك للتي *** تدع العزيز من الرجال ذليلا

/فلأحلفنّ يمين حقّ برّة *** باللّه ما أعطيت بعدك سولا(2)

قال: فأبكى الناس قوله. فغضب المنصور غضبا شديدا و قال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعنّ لسانك. فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين، إنّ أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرما و هو الذي جاء بي من البدو كما جاء اللّه بإخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لإخوته: لاٰ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّٰهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّٰاحِمِينَ . فسرّي عن المنصور و قال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العبّاس أمر لي بعشرة آلاف درهم و خمسين ثوبا و هو مريض و لم أقبضها. فقال المنصور: و من يعرف هذا؟ فقال: هؤلاء، و أشار إلى جماعة ممنن حضر. فوثب سليمان بن مجالد و أبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبي أيوب الخازن و هو مغيظ: يا سليمان ادفعها إليه و سيّره إلى هذا الطاغية (يعني عبد اللّه بن عليّ (3)، و قد كان خرج بناحية الشام، و أظهر الخلاف). فوثب أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، إني أعيذك باللّه أن أخرج معهم، فو اللّه إني لمشئوم. فقال المنصور: امض فإن يمني يغلب شؤمك فاخرج.

/فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما أحبّ لك أن تجرّب ذلك منّي على مثل هذا العسكر؛ فإني لا أدري أيّهما يغلب: أ يمنك أم شؤمي، إلاّ أني بنفسي أوثق و أعرف و أطول تجربة. قال: دعني من هذا فمالك من الخروج بد. فقال: إني أصدقك الآن، شهدت و اللّه تسعة عشر عسكرا كلّها هزمت؛ و كنت سببها. فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك العشرين فافعل. فاستغرب(4) أبو جعفر ضحكا، و أمره أن يتخلّف مع عيسى(5) بن موسى بالكوفة.

أغضب المنصور لكثرة مدحه السفاح:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:

لمّا مات أبو العبّاس السفّاح و ولي المنصور، دخل عليه أبو دلامة، فقال له أبو جعفر: أ لست القائل لأبي العبّاس:

ص: 411


1- الثراء: لغة في الثري. و سيرد في الصفحة التالية رواية أخرى: «بالتراب».
2- السول (يهمز و لا يهمز): ما سألته.
3- هو عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه بن عباس عم الخليفة المنصور، خرج عليه سنة ست و ثلاثين و مائة و دعا لنفسه؛ فوجه إليه المنصور أبا مسلم الخراساني و وقعت له معه وقعة هائلة دارت فيها الدائرة أخيرا على عبد اللّه.
4- أي أكثر من الضحك و بالغ فيه.
5- هو عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي العباسي أمير الكوفة. و كان وليّ عهد المنصور بعهد من السفاح ثم قدّم المنصور عليه في ولاية العهد ابنه المهدي، ثم خلعه المهدي من ولاية العهد.

و كنّا بالخليفة قد عقدنا *** لواء الأمر فانتقض اللواء

فنحن رعيّة هلكت ضياعا *** تسوق بنا إلى الفتن الرّعاء

قال: ما قلت هذا يا أمير المؤمنين. قال: كذبت و اللّه! أ فلست القائل:

هلك النّدى إذ بنت يا ابن محمد *** فجعلته لك في التراب عديلا

و لقد سألت الناس بعدك كلّهم *** فوجدت أكرم من سألت بخيلا

و لقد حلفت على يمين برّة *** باللّه ما أعطيت بعدك سولا

فقال أبو دلامة: إنّ أخاك صلّى اللّه عليه غلبني على صبري، و سلبني عزيمتي، و عزّني بإحسانه إليّ و جزعي عليه، فقلت ما لم أتأمّله، و إني أرغب في الثمن فاستفره السّلعة حيّا و ميّتا. فإن أعطيت ما أعطى، أخذت ما أخذ. فأمر به فحبس ثلاثا ثم خلّى سبيله و دعاه إليه فوصله، ثم عاد له إلى ما كان عليه.

أمره روح بن حاتم بمبارزة خارجى فخدعه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثني أبو دلامة قال:

أتى بي المنصور أو المهديّ و أنا سكران، فحلف ليخرجنّي/في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم(1)المهلّبيّ لقتال الشّراة(2). فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما و اللّه لو أنّ تحتي فرسك و معي سلاحك لأثّرت في عدوّك اليوم أثرا ترتضيه. فضحك و قال: و اللّه العظيم لأدفعنّ ذلك إليك، و لآخذنّك بالوفاء بشرطك. و نزل عن فرسه و نزع سلاحه و دفعهما إليّ، و دعا بغيرهما فاستبدل به. فلمّا حصل ذلك في يدي و زالت عنّي حلاوة الطمع، قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، و قد قلت بيتين فاسمعهما. قال: هات، فأنشدته:

إني استجرتك أن أقدّم في الوغى *** لتطاعن و تنازل و ضراب

فهب السّيوف رأيتها مشهورة *** فتركتها و مضيت في الهرّاب

ما ذا تقول لما يجيء و ما يرى *** من واردات الموت في النّشّاب

فقال: دع عنك هذا و ستعلم. و برز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة.

فقلت: أنشدك اللّه أيّها الأمير في دمي. قال: و اللّه لتخرجنّ. فقلت: أيها الأمير فإنه أوّل يوم من الآخرة. و آخر يوم من الدنيا، و أنا و اللّه جائع ما شبعت منّي جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج. فأمر لي برغيفين و دجاجة، فأخذت ذلك و برزت عن الصفّ. فلما رآني الشاري أقبل نحوي عليه فرو و قد أصابه المطر فابتلّ، و أصابته الشمس فاقفعلّ (3) و عيناه تقدان، فأسرع إليّ. /فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت، فوقف.

فقلت: أ تقتل من لا يقاتلك؟ قال لا. قلت: أ تقتل رجلا على دينك؟ قال لا. قلت: أ فتستحلّ ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عنّي إلى لعنة اللّه. قلت: لا أفعل أو تسمع منّي. قال: قل. قلت: هل كانت بيننا قطّ عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك عليّ، أو تعلم بين أهلي و أهلك وترا؟ قال: لا و اللّه.

ص: 412


1- هو روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، ولي إفريقية و البصرة و غيرهما، و كان جليلا شجاعا جوادا.
2- الشراة: الخوارج.
3- كذا في ح. و اقفعل: تقبض. و في سائر النسخ: «فانفعل». هو تحريف.

قلت: و لا أنا و اللّه لك إلا جميل الرأي، و إني لأهواك و أنتحل مذهبك و أدين دينك و أريد السّوء لمن أراده لك.

قال: يا هذا جزاك اللّه خيرا فانصرف. قلت: إنّ معي زادا أحبّ أن آكله معك، و أحبّ مواكلتك لتتوكّد المودّة بيننا، و يرى أهل العسكر هوانهم علينا. قال: فافعل. فتقدّمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابّنا و جمعنا أرجلنا على معارفها و الناس قد غلبوا ضحكا. فلما استوفينا ودّعني. ثم قلت له: إنّ هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني و تتعب. فإن رأيت ألاّ تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت، ثم انصرف و انصرفت.

فقلت لروح: أمّا أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك. و خرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه. فقلت(1):

إني أعوذ بروح أن يقدّمني *** إلى البراز فتخزى بي بنو أسد

إنّ البراز إلى الأقران أعلمه *** مما يفرّق بين الروح و الجسد

قد حالفتك المنايا إذ صمدت(2) لها *** و أصبحت لجميع الخلق بالرّصد

/إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم *** و ما ورثت اختيار الموت عن أحد

لو أنّ لي مهجة أخرى لجدت بها *** لكنّها خلقت فردا فلم أجد

فضحك و أعفاني.

أ أمره مروان بن محمد بمبارزة خارجي ففر منه:

أخبرني إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة قال قال أبو دلامة:

كنت/في عسكر مروان(3) أيام زحف إلى سنان الخارجيّ. فلمّا التقى الزّحفان خرج منهم رجل فنادى:

من يبارز! فلم يخرج إليه أحد إلاّ أعجله و لم ينهنهه(4). فغاظ ذلك مروان و جعل يندب الناس على(5) خمسمائة، فقتل أصحاب الخمسمائة، فزاد مروان و ندبهم على ألف، و لم يزل يزيدهم حتى بلغ خمسة آلاف درهم. و كان تحتي فرس لا أخاف خونه؛ فلمّا سمعت بالخمسة(6) آلاف ترقّبته(7) و اقتحمت الصّفّ. و اقتحمت الصّفّ. فلمّا نظرني الخارجيّ علم أنّي خرجت للطمع؛ فأقبل إليّ متهيّئا و إذا عليه فرو قد أصابه المطر فابتلّ، ثم أصابته الشمس فأقفعلّ، و إذا عيناه تقدان كأنّهما من غورهما في وقبين(8). فلمّا دنا منّي أنشأ يقول:

ص: 413


1- وردت هذه الأبيات في «وفيات الأعيان» لابن خلكان هكذا: إني أعوذ بروح أن يقدمني إلى القتال فيخزي بي بنو أسد إن المهلب حب الموت أورثكم و لم أرث أنا حب الموت من أحد إن الدنوّ إلى الأعداء أعلمه مما يفرق بين الروح و الجسد
2- في الأصول: «إن صدمت» و هو تحريف.
3- يعني مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
4- نهنهه: كفه و زجره. و سياق الكلام يقتضي أن يكون «و لم يمهله».
5- في الأصول: «عن».
6- هذه لغة ضعيفة و أفصح اللغات: «بخمسة الآلاف».
7- ترقبته: رصدته.
8- الوقب هنا: نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء.

و خارج أخرجه حبّ الطّمع *** فرّ من الموت و في الموت وقع

من كان ينوي أهله فلا رجع

فلمّا و قرت في أذني انصرفت عنه هاربا. و جعل مروان يقول: من هذا الفاضح؟ ائتوني به، فدخلت في غمار النّاس فنجوت.

أعطاه موسى بن داود مالا ليحج معه فهرب إلى السواد و سكر بالمال:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني أحمد بن سعيد قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا جعفر بن الحسين اللّهبيّ قال:

/عزم موسى بن داود بن عليّ الهاشميّ (1) على الحج. فقال لأبي دلامة: احجج معي و لك عشرة آلاف درهم. فقال: هاتها؛ فدفعت إليه، فأخذها و هرب إلى السّواد، فجعل ينفقها هناك و يشرب بها الخمر. فطلبه موسى فلم يقدر عليه، و خشي فوت الحج فخرج. فلمّا شارف القادسيّة إذا هو بأبي دلامة خارجا(2) من قرية إلى أخرى و هو سكران، فأمر بأخذه و تقييده و طرحه في محمل بين يديه ففعل ذلك به. فلمّا سار غير بعيد أقبل على موسى و ناداه:

يا أيّها الناس قولوا أجمعون(3) معا *** صلّى الإله على موسى بن داود

كأنّ ديباجتي خدّيه من ذهب *** إذا بدا لك في أثوابه السّود

إنّي أعوذ بداود و أعظمه *** من أن أكلّف حجّا يا ابن داود

خبّرت أنّ طريق الحجّ معطشة *** من الشراب و ما شربي بتصريد(4)

و اللّه ما فيّ من أجر فتطلبه *** و لا الثناء على ديني بمحمود

فقال موسى: ألقوه لعنه اللّه عن المحمل و دعوه ينصرف، فألقي و عاد إلى قصفه بالسّواد، حتى نفدت العشرة آلاف(5) درهم.

أمره المنصور بملازمة الجماعة في مسجد القصر فقال شعرا يستعفيه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير عن جعفر بن الحسين اللّهبيّ، و أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن العمري عن الهيثم بن عديّ قالا(6):

قال أبو أيّوب الموريانيّ لأبي جعفر، و كان يشنأ أبا دلامة،: إنّ أبا دلامة معتكف على الخمر فما يحضر

ص: 414


1- هو ابن عم السفاح، كان أبوه داود أمير مكة و المدينة، و استخلف حين احتضر على عمله ولده موسى. فاستعمل السفاح خاله زيادا على مكة، و موسى بن داود هذا على إمرة المدينة.
2- في الأصول: «خارج».
3- في الأصول المخطوطة: «أجمعين».
4- صرد شربه: قطعه.
5- راجع الحاشية رقم 4 في الصفحة السابقة.
6- كذا في ح. و في سائر الأصول: «قال» و هو تحريف.

صلاة و لا مسجدا، و قد أفسد فتيان العسكر. فلو أمرته/بالصلاة معك لأجرت فيه و في غيره من فتيان عسكرك بقطعه عنهم. فلمّا دخل عليه أبو دلامة قال له: يا ابن اللّخناء، ما هذا المجون الذي يبلغني عنك!. قال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين ما أنا و المجون و قد شارفت باب قبري!. قال: دعني من استكانتك و تضرّعك، و إيّاك أن تفوتك صلاة الظهر و العصر في مسجدي. فلئن فاتتاك لأحسننّ أدبك و لأطيلنّ حبسك. فوقع في شرّ و لزم المسجد أيّاما، /ثم كتب قصّته و دفعها إلى المهديّ فأوصلها إلى أبيه، و كان فيها:

أ لم تعلما أنّ الخليفة لزّتي(1) *** بمسجده و القصر ما لي و للقصر!

أصلّي به الأولى جميعا و عصرها *** فويلي من الأولى و ويلي(2) من العصر

أصلّيهما بالكره في غير مسجدي *** فما لي في الأولى و لا العصر من أجر

لقد كان في قومي مساجد جمّة *** سواه و لكن كان قدرا من القدر

يكلفني من بعد ما شبت خطّة *** يحطّ بها عنّي الثقيل من الوزر

و ما ضرّه و اللّه يغفر ذنبه *** لو انّ ذنوب العالمين على ظهري

قال: فلمّا قرأ المنصور قصّته ضحك و أعفاه من الحضور معه، و أحلفه أن يصلّي الصلاة في مسجد قبيلته.

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد عن الزّبير عن عمّه، و نسخت من بعض الكتب عن نصر بن محمد الخرّاز(3) عن أبيه عن الهيثم بن عديّ و روّانيه بعض من روى عن الزّبير.

أنّ أبا جعفر كان يحبّ العبث بأبي دلامة - و قال الآخر: إنّ أبا العبّاس السّفّاح كان يحب ذلك - فكان يسأل عنه فيوجد في بيوت الخمّارين لا فضل فيه. فعاتبه/على انقطاعه عنه؛ فقال: إنما أفعل ذلك خوفا أن تملّني.

فعلم أنه يحاجزه(4)، فأمر الربيع أن يوكّل به من يحضره الصلوات معه في جماعة في الدار. فلمّا طال ذلك عليه قال:

أ لم تريا أنّ الخليفة لزّني *** بمسجده و القصر ما لي و للقصر!

فقد صدّني عن مسجد أستلذّه *** أعلّل فيه بالسّماع و بالخمر

و كلّفني الأولى جميعا و عصرها *** فويلي من الأولى و عولي من العصر

أصلّيهما بالكره في غير مسجدي *** فما لي من الأولى و لا العصر من أجر

يكلّفني من بعد ما شبت توبة *** يحطّ بها عني المثاقيل من وزري

لقد كان في قومي مساجد جمّة *** و لم ينشرح يوما لغشيانها صدري

و و اللّه ما لي نيّة في صلاته *** و لا البرّ و الإحسان و الخير من أمري

و ما ضرّه و اللّه يغفر ذنبه *** لو انّ ذنوب العالمين على ظهري

ص: 415


1- لزه بكذا: ألزمه إياه.
2- في ج: «وعولي».
3- في ح: «الخرزي». و في أ، م: «الخرازي».
4- يعني: يتخلص منه و ينتحل المعاذير الباطلة لانقطاعه عنه.
ألزمه المنصور بالقيام شهر رمضان فكتب إلى ريطة شعرا يستشفع بها للمهدي:

فبلغته الأبيات فقال: صدق! ما يضرّني ذلك، و اللّه لا يصلح هذا أبدا، فدعوه يعمل ما يشاء. و قال الهيثم في خبره: فقال له أبو جعفر: قد أعفيناك من هذه الحال، و لكن على ألاّ تدع القيام معنا في ليالي شهر رمضان فقد أظل(1). فقال: أفعل. قال: إنك إن تأخّرت لشرب الخمر علمت ذلك. و و اللّه لئن فعلت لأحدّنّك. فقال أبو دلامة: البليّة في شهر أصلح منها في طول الدهر، سمعا و طاعة. فلمّا حضر شهر رمضان لزم المسجد. و كان المهديّ يبعث إليه في كل ليلة حرسيّا يجيء به؛ فشقّ ذلك عليه، و فزع إلى الخيزران و أبي عبيد(2) اللّه و كلّ من كان يلوذ بالمهديّ ليشفعوا له في الإعفاء/من القيام، فلم يجبهم. فقال له أبو عبيد اللّه: الدّالّ على الخير كفاعله، فكيف شكرك؟ قال: أتمّ شكر. قال: عليك بريطة(3) فإنّه لا يخالفها. قال: صدقت و اللّه، /ثم رفع إليها رقعة يقول فيها:

أبلغا ريطة أنّي *** كنت عبدا لأبيها

فمضى يرحمه الل *** ه و أوصى بي إليها

و أراها نسيتني *** مثل نسيان أخيها

جاء شهر الصّوم يمشي *** مشية ما أشتهيها

قائدا لي ليلة القد *** ر كأنّي أبتغيها

تنطح القبلة شهرا *** جبهتي لا تأتليها

و لقد عشت زمانا *** في فيافيّ وجيها

في ليال من شتاء *** كنت شيخا أصطليها

قاعدا أوقد نارا *** لضباب أشتويها

و صبوح و غبوق *** في علاب(4) أحتسيها

ما أبالي ليلة القد *** ر و لا تسمعنيها(5)

فاطلبي لي فرجا من *** ها و أجري لك فيها

فلمّا قرأت الرّقعة ضحكت و أرسلت إليه: اصطبر حتى تمضي ليلة القدر. فكتب إليها: إني لم أسألك أن تكلّميه في إعفائي عاما قابلا؛ و إذا مضت ليلة القدر فقد فني الشّهر. و كتب تحتها أبياتا:

/

خافي إلهك في نفس قد احتضرت *** قامت قيامتها بين المصلّينا

ص: 416


1- أظل: غشى و أشرف و أقبل.
2- هو أبو عبيد اللّه معاوية بن عبيد اللّه بن يسار الأشعري الكاتب الوزير. كان من رجالات المنصور ثم المهدي. عزله المهدي عن الوزارة ثم جعله على ديوان الرسائل، ثم عزله عنه سنة 167 ه.
3- ريطة: هي ابنة الخليفة أبي العباس السفاح و زوجة المهدي.
4- العلاب: جمع علبة و هي قدح ضخم من جلود الإبل أو هي قدح من خشب.
5- لا هنا نافية، و هو خبر يراد به النهي.

ما ليلة القدر من همّي فأطلبها *** إنّي أخاف المنايا قبل عشرينا

يا ليلة القدر قد كسّرت أرجلنا *** يا ليلة القدر حقّا ما تمنّينا!؟

لا بارك اللّه في خير أؤمّله *** في ليلة بعد ما قمنا ثلاثينا

فلما قرأت الأبيات ضحكت، و دخلت إلى المهديّ فشفعت له إليه، و أنشدته الشعرين، فضحك حتى استلقى، و دعا به و ريطة معه في الحجلة(1) فدخل؛ فأخرج رأسه إليه و قال: قد شفّعنا ريطة فيك، و أمرنا لك بسبعة آلاف درهم. فقال: أمّا شفاعة سيّدتي فيّ حتى أعفيتني فأعفاها اللّه من النار. و أمّا السبعة الآلاف فما أعجبني ما فعلته؛ إمّا أن تتمّها بثلاثة آلاف فتصير عشرة، أو تنقصني منها ألفين فتصير خمسة آلاف، فإنّي لا أحسن حساب السبعة. فقال: قد جعلتها خمسة. قال: أعيذك باللّه أن تختار أدنى الحالين و أنت أنت. فعبث به المهديّ ساعة ثم تكلّمت فيه ريطة فأتمّها له عشرة آلاف درهم.

أنشد المهدي شعره في نخاس فضحك منه:

أخبرني الحسين بن عليّ عن حمّاد عن أبيه قال:

مرّ أبو دلامة بنخّاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهنّ من كل شيء حسن، فانصرف مهموما، فدخل إلى المهدي فأنشده:

إن كنت تبغي العيش حلوا صافيا *** فالشعر أعزبه و كن نخّاسا

تنل الطّرائف من ظراف نهّد *** يحدثن كلّ عشيّة أعراسا

/و الربح فيما بين ذلك راهن *** سمحا بيعك كنت أو مكّاسا(2)

دارت على الشعراء حرفة نوبة(3) *** فتجرّعوا من بعد كأس كاسا

/و تسربلوا قمص الكساد فحاولوا *** بالنّخس كسبا يذهب الإفلاسا

فجعل المهديّ يضحك منه.

لفق رؤيا للمنصور و أخذ منه ثيابا:

نسخت من كتاب ابن النطّاح قال:

دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده:

رأيتك في المنام كسوت جلدي *** ثيابا جمّة و قضيت ديني

فكان بنفسجيّ الخزّ فيها *** و ساج(4) ناعم فأتمّ زيني

ص: 417


1- الحجلة: بيت يزين بالثياب و الأسرة و الستور.
2- مكس في البيع يمكس (من باب ضرب): نقص الثمن. و المراد هنا المشاحة في البيع و الشراء.
3- لعل صوابها: «نوبة حرفة».
4- الساج: الطيلسان الأخضر و قيل الأسود و قيل المقور ينسج كذلك، و في الأساس: «لبسوا السيجان و هي الطيالسة المدوّرة الواسعة».

فصدّق يا فدتك النفس(1) رؤيا *** رأتها في المنام كذاك عيني

فأمر له بذلك و قال له: لا تعد أن تتحلّم(2) عليّ ثانية، فأجعل حلمك أضغاثا و لا أحقّقه.

حبسه المنصور لسكره فبعث له من الحبس شعرا فعفا عنه:

ثم خرج من عنده و مضى فشرب في بعض الحانات فسكر و انصرف و هو يميل. فلقيه العسس فأخذوه، و قيل له:

من أنت و ما دينك؟ فقال:

ديني على دين بنى العبّاس *** ما ختم الطين على القرطاس

إنّي اصطبحت أربعا بالكاس *** فقد أدار شربها براسي

فهل بما قلت لكم من باس

فأخذوه و مضوا، و خرقوا ثيابه و ساجه و أتى به أبو جعفر - و كان يؤتى بكلّ من أخذه العسس - فحبسه مع الدّجاج في بيت. فلمّا أفاق جعل ينادي غلامه مرّة و جاريته أخرى فلا يجيبه أحد، و هو في ذلك يسمع صوت الدّجاج و زقاء الدّيوك. فلمّا أكثر قال له السّجّان: ما شأنك؟ قال: ويلك من أنت و أين أنا؟ قال: في الحبس، و أنا فلان السّجّان. قال: و من حبسني؟ قال: أمير المؤمنين. قال: /و من خرق طيلساني؟ قال: الحرس. فطلب منه أن يأتيه بدواة و قرطاس ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:

أمير المؤمنين فدتك نفسي *** علام حبستني و خرقت ساجي

أ من صفراء صافية المزاج *** كأنّ شعاعها لهب السّراج

و قد طبخت بنار اللّه حتّى *** لقد صارت من النّطف(3) النّضاج

تهشّ لها القلوب و تشتهيها *** إذا برزت(4) ترقرق في الزّجاج

أقاد إلى السّجون بغير جرم *** كأنّي بعض عمّال الخراج

و لو معهم حبست لكان سهلا *** و لكنّي حبست مع الدّجاج

و قد كانت تخبّرني ذنوبي *** بأنّي من عقابك غير ناجي

على أني و إن لاقيت شرّا *** لخيرك بعد ذاك الشّرّ راجي

فدعا به و قال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدّجاج. قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوقي معهنّ حتى أصبحت. فضحك و خلّى سبيله و أمر له بجائزة. فلمّا خرج قال له الرّبيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين. أ ما سمعت قوله «و قد طبخت بنار اللّه» (يعني الشمس). فأمر بردّه ثم قال: يا خبيث شربت الخمر؟ قال لا. قال:

أ فلم تقل «طبخت بنار اللّه» تعني الشمس. قال: لا و اللّه/ما عنيت إلاّ نار اللّه الموقدة التي تطّلع على فؤاد الرّبيع. فضحك و قال: خذها يا ربيع و لا تعاود التعرّض.

ص: 418


1- في ب، س: «الناس».
2- تحلم فلان: قال حلمت بكذا و هو كاذب.
3- النطفة: الماء الصافي قل أو كثر.
4- في أ، م: «برقت». و ترقرق: تلألأ أي تجيء و تذهب.
لفق رؤيا لتمار و أخذ منه تمرا:

قال ابن النطّاح: و مرّ أبو دلامة بتمّار بالكوفة فقال له:

رأيتك أطعمتني في المنام *** قواصر(1) من تمرك البارحة

/فأمّ العيال و صبيانها *** إلى الباب أعينهم طامحه

فأعطاه جلّتي(2) تمر و قال له: إن رأيت هذه الرؤيا ثانية لم يصحّ تفسيرها. فأخذهما و انصرف.

هنأ المهدي بقدومه من الري فملا حجره دراهم:

و قال ابن النطّاح:

لمّا قدم المهديّ من الرّيّ دخل عليه أبو دلامة فأنشأ يقول:

إنّي نذرت لئن رأيتك سالما *** بقرى العراق و أنت ذو وفر

لتصلّينّ على النبيّ محمد *** و لتملأنّ دراهما حجري

فقال: صلى اللّه عليه و سلم، و أمّا الدراهم فلا. فقال له: أنت أكرم من أن تفرّق بينهما ثم تختار أسهلهما. فأمر بأن يملأ حجره دراهم.

و مثل هذا و إن لم يكن منه ما حدّثني به الحسن بن عليّ عن أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:

قدم المهلّب من بعض غزواته، فلقيته عجوز من الأزد فقالت: أيّها الأمير، أسألك باللّه و الرّحم إلاّ وقفت فوقف، فدنت و قبّلت يده و قالت: هذا نذر كان عليّ، إنّي نذرت عليّ للّه أن أقبّل يدك إن قدمت سالما و تهب لي أربعمائة درهم و جارية صغديّة تخدمني. فضحك و قال: أمّا نحن فقد وفّينا بنذرك؛ ادفعوا إليها ذلك، و إيّاك يا أمّاه و هذه النّذور؛ فليس كلّ أحد يفي لك بها و ينشط لتحليلك منها.

ضجر من الصوم و الحر فكتب للمهدي شعرا فعجل جائزته:

قال ابن النطّاح:

و صام الناس في سنة شديدة الحرّ على عهد المهديّ، و كان أبو دلامة يتنجّز جائزة أمر له المهديّ بها.

فكتب إليه أبو دلامة رقعة يشكو فيها أذى الحرّ و الصوم و هي:

/

أدعوك بالرّحم التي هي جمّعت *** في القرب بين قريبنا و الأبعد

إلاّ سمعت و أنت أكرم من مشى *** من منشد يرجو جزاء المنشد

جاء الصيام فصمته متعبّدا *** أرجو رجاء الصائم المتعبّد

و لقيت من أمر الصّيام و حرّه *** أمرين قيسا بالعذاب المؤصد(3)

ص: 419


1- قواصر: واحدها قوصرة، و هي وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البواري.
2- الجلة (بالضم): قفة كبيرة للتمر.
3- المؤصد: المطبق.

و سجدت حتى جبهتي مشجوجة *** ممّا يناطحني الحصا في المسجد

فامنن بتسريحي بمطلك بالذي *** أسلفتنيه من البلاء المرصد

فلمّا قرأ المهديّ رقعته غضب و قال: يا عاضّ كذا من أمّه أيّ قرابة بيني و بينك؟! قال: رحم آدم و حوّاء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين! فضحك و قال: لا و اللّه ما نسيتهما؛ و أمر بتعجيل ما أجازه به و زاد فيه. و أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ قال حدّثنا الخزاعيّ عن المدائنيّ و زاد فيه قال: و أنشده أيضا في ذمّ الصّوم:

هل في البلاد لرزق اللّه مفترش *** أم لا ففي جلده من خشنة برش

- يعني أنّ جلد الرّزق خشن الملمس(1) فهو يحترش(2) كما يحترش الضّبّ - الشّعر:

أضحى الصّيام منيخا وسط عرصتنا *** ليت الصيام بأرض دونها حرش(3)

إن صمت أوجعني بطني و أقلقني *** بين الجوانح مسّ الجوع و العطش

/و إن خرجت بليل نحو مسجدهم *** أضرّني بصر قد خانه العمش

عزى أم سلمة بنت يعقوب في السفاح فأضحكها:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ عن أحمد بن زهير عن الزّبير عن عمّه، و نسخت من كتاب ابن النطّاح قال اليزيديّ في خبره:

/دخل أبو دلامة على ريطة بعد وفاة المهديّ، و قال ابن النطّاح: دخل على أمّ سلمة(4) بنت يعقوب بن سلمة بعد وفاة أبي العبّاس، و هو الصحيح، فعزّاها به و بكى و بكت معه، ثم أنشدها:

من مجمل في الصبر عنك فلم يكن *** صبري عليك غداة بنت جميلا

يجدون أبدالا به و أنا امرؤ *** لو متّ وجدا ما وجدت بديلا

إنّي سألت الناس بعدك كلّهم *** فوجدت أجود من سألت بخيلا

فقالت أمّ سلمة: لم أر أحدا أصيب به غيري و غيرك يا أبا دلامة. فقال: و لا سواء يرحمك اللّه، لك منه ولد و ما ولدت أنا منه. فضحكت - و لم تكن منذ مات أبو العبّاس ضحكت إلا ذلك الوقت - و قالت له: لو حدّثت الشيطان لأضحكته.

خدع المهدي بموت زوجته و خدعت زوجته الخيزران بموته كذلك فضحكا منهما:

أخبرنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا الغلابيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن الضحّاك قال:

دخل أبو دلامة على المهديّ و هو يبكي. فقال له: مالك؟ قال: ماتت أمّ دلامة، و أنشده لنفسه فيها:

ص: 420


1- في الأصول: «الملبس» بالباء.
2- احترش الضب و حرشه: صاده، و هو أن يحرك يده على حجرة لظنه حية فيخرج ذنبه ليضر بها فيأخذه. و منه المثل: «أ تعلمني بضب أنا حرشته» يخاطب به العالم بالشيء من يريد تعليمه.
3- الحرش (بالتحريك) لغة: الخشونة. يتمنى لو كان بينه و بين الصوم من غلظ الأرض و خزونها ما يحول دونه.
4- أم سلمة: هي أم سلمة المخزومية امرأة الخليفة أبي العباس السفاح، و تزوجها بعده عبد اللّه بن عبد الحميد المخزومي. (انظر «الأغاني» ج 4 ص 335 من هذه الطبعة).

و كنّا كزوج من قطا مفازة *** لدى خفض عيش ناعم مؤنق رغد

فأفردني ريب الزّمان بصرفه *** و لم أر شيئا قطّ أوحش من فرد

فأمر له بثياب و طيب و دنانير، و خرج. فدخلت أمّ دلامة على الخيزران فأعلمتها أنّ أبا دلامة قد مات، فأعطتها مثل ذلك، و خرجت. فلمّا التقى المهديّ و الخيزران عرفا حيلتهما فجعلا يضحكان لذلك و يعجبان منه.

فرض له المنصور على كل هاشمي عطاء فنقصه العباس بن محمد دينارين فذمه:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة، و نسخت أنا من كتاب ابن النطّاح قال:

دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده:

أما و ربّ العاديات ضبحا(1) *** حقّا و ربّ الموريات قدحا

إنّ المغيرات عليّ صبحا *** و الناكئات(2) من فؤادي قرحا(3)

عشر ليال بينهن ضبحا(4) *** يجلفن(5) مالي كلّ عام صبحا

فقال له أبو جعفر: و كم تذبح يا أبا دلامة؟ قال: أربعا و عشرين شاة. ففرض له على كل هاشميّ أربعة و عشرين دينارا، فكان يأخذها منهم. فأتى العباس بن محمد في عشر الأضحى يتنجّزها. فقال: يا أبا دلامة، أ ليس قد مات ابنك؟ قال بلى. قال: انقصوه دينارين. قال: أصلح اللّه الأمير لا تفعل، فإنه ترك عليّ ولدين.

فأبى إلاّ أن ينقصه. فخرج و هو يقول:

أخطاك ما كنت ترجوه و تأمله *** فاغسل يديك من العبّاس بالياس

و اغسل يديك بأشنان(6) فأنقهما *** مما تؤمّل من معروف عبّاس

جزاك ربّك يا عبّاس عن فرج *** جنّات عدن و عنّي جرزتي(7) آس

/فبلغ ذلك أبا جعفر فضحك، و اغتاظ على العبّاس، و أمره بأن يبعث إليه بأربعة و عشرين دينارا أخرى.

هذه رواية يزيد.

قيل إن هذه القصة مع علي بن صالح:

و أمّا ابن النطّاح فإنه ذكر أن الذي نقصه/الدينارين عليّ بن صالح و قال له: إنما نقصتك دينارين لموت ابنك دلامة. فحلف ألاّ يأخذ إلاّ خمسين دينارا، ثم قام مغضبا؛ فأتبعه الرسول فأعطاه إيّاها. فقال له:

ص: 421


1- الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدت ليس بصهيل و لا حمحمة.
2- نكأ القرح: قشره قبل أن يبرأ فيندي. و قد وردت هذه الكلمة في الأصول محرفة؛ ففي ح: «الناكثات». و في أ، م: «الناكنات». و في ب، س: «الفاتكات».
3- في الأصول: «قدحا» بالدال، و هو تحريف.
4- في أ، م: «صبحا» بالصاد المهملة. و هي في كلتا صورتيها غير واضحة.
5- يجلفن: يستأصلن. و في ب، س: «يتلفن». و في سائر الأصول. «يحلفن» بالحاء المهملة. و هو مصحف عما أثبتناه، كما يحتمل أن يكون مصحفا عن «يحلقن» بالقاف بمعنى يستأصلن أيضا.
6- الأشنان (بالضم): حمض تغسل به الأيدي.
7- الجرزة: الحزمة.

أولى(1) له. أمّا ما سبق فلا حيلة فيه، و المستأنف فقد أمنه. و قد كان قال فيه:

لعليّ بن صالح بن عليّ *** نسب لو يعينه بسماح

و بنو مالك كثير و لكن *** ما لنا في بقائهم من فلاح

غير فضل فإنّ للفضل فضلا *** مستبينا على قريش البطاح

تخاصم إلى عافية القاضي و داعبه:

أخبرني محمد بن أحمد عن محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:

خاصم رجل أبا دلامة في داره، فارتفعا إلى عافية القاضي؛ فأنشأ أبو دلامة يقول:

لقد خاصمتني دهاة الرّجال *** و خاصمتها سنة وافيه

فما أدحض اللّه لي حجّة *** و لا خيّب اللّه لي قافية

و من خفت من جوره في القضاء *** فلست أخافك يا عافيه

فقال له عافية: أما و اللّه لأشكونّك إلى أمير المؤمنين و لأعلمنّه أنك هجوتني. قال: إذا يعزلك. قال: و لم؟ قال: لأنّك لا تعرف المديح من الهجاء. فبلغ ذلك المنصور فضحك و أمر لأبي دلامة بجائزة.

أمره المهدي بهجاء أحد الحضور فهجا نفسه:

أخبرني محمد بن أحمد عن أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:

دخل أبو دلامة على المهديّ و عنده إسماعيل بن محمد و عيسى بن موسى و العبّاس بن محمد و محمد بن إبراهيم الإمام و جماعة من بني هاشم. فقال له: أنا أعطي اللّه عهدا لئن لم تهج واحدا ممّن في البيت لأقطعنّ لسانك - و يقال إنه قال: لأضربنّ عنقك - فنظر إليه القوم، فكلّما نظر إلى واحد منهم غمزه بأنّ عليه رضاه. قال أبو دلامة: فعلمت أنّي قد وقعت و أنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أر أحدا أحقّ بالهجاء منّي، و لا أدعى إلى السلامة من هجاء نفسي، فقلت:

ألا أبلغ إليك أبا دلامه *** فليس من الكرام و لا كرامه

إذا لبس العمامة كان قردا *** و خنزيرا إذا نزع العمامه

جمعت دمامة و جمعت لؤما *** كذاك اللّؤم تتبعه الدّمامه

فإن تك قد أصبت نعيم دنيا *** فلا تفرح فقد دنت القيامه

فضحك القوم و لم يبق منهم أحد إلاّ أجازه.

قال شعرا في المهدي و علي بن سليمان و قد خرجا للصيد فأصاب الأوّل و أخطأ الثاني:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير عن عمّه قال:

ص: 422


1- أولى له: معناها: التهدد و التوعد.

خرج المهديّ و عليّ بن سليمان إلى الصّيد، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب و أجريت الخيل، فرمى المهديّ ظبيا بسهم فصرعه، و رمى عليّ بن سليمان فأصاب بعض الكلاب فقتله. فقال أبو دلامة:

قد رمى المهديّ ظبيا *** شكّ بالسهم فؤاده

و عليّ بن سليما *** ن رمى كلبا فصاده

فهنيئا لهما كلّ *** امرئ يأكل زاده

/فضحك المهديّ حتى كاد أن يسقط عن سرجه، و قال: صدق و اللّه أبو دلامة، و أمر له بجائزة/سنيّة.

أخبرني بهذا الخبر عمّي عن الكرانيّ عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ فذكر مثل ما ذكره و قال فيه: فلقّب عليّ بن سليمان «صائد الكلب» و علق به.

أنشد المنصور شعرا فأعطاه دارا و كسوة ثم احتاج إلى الدار و عوّضه بدلها:

قال ابن النطّاح: و أنشد أبو دلامة المنصور يوما:

هاتيك والدتي عجوز همّة(1) *** مثل البليّة درعها في المشجب(2)

مهزولة اللّحيين(3) من يرها يقل *** أبصرت غولا أو خيال القطرب(4)

ما إن تركت لها و لا لآبن لها *** مالا يؤمّل غير بكر أجرب

و دجائجا(5) خمسا يرحن إليهم *** لمّا يبضن و غير عير(6) مغرب

كتبوا إليّ صحيفة مطبوعة(7) *** جعلوا عليها طينة كالعقرب

فعلمت أنّ الشّرّ عند فكاكها *** ففككتها عن مثل ريح الجورب

و إذا شبيه بالأفاعي رقّشت *** يوعدنني بتلمّظ و تثؤّب(8)

يشكون أنّ الجوع أهلك بعضهم *** لزبا(9) فهل لك في عيال لزّب

لا يسألونك غير طلّ سحابة *** تغشاهم من سيلك المتحلّب

يا باذل الخيرات يا ابن بذولها *** و ابن الكرام و كلّ قرم منجب

أنتم بنو العبّاس يعلم أنّكم *** قدما فوارس كلّ يوم أشهب

ص: 423


1- الهمة: العجوز الفانية.
2- المشجب (و مثله الشجاب): خشبات موثقة منصوبة توضع عليها الثياب و تنشر. يريد أن أمه فنيت حتى أشهت خشبات المشجب.
3- اللحى: عظم الحنك و هو الذي عليه الأسنان.
4- القطرب هنا: ذكر الغيلان أو الصغير من الجن.
5- يجوز في تابع المستثنى بغير مراعاة اللفظ و مراعاة المعنى. و قد روعي هنا المعنى.
6- العير (بالفتح): الحمار. و المغرب: الذي اشتد بياضه حتى نبيضّ محاجره و أرفاغه.
7- مطبوعة: مختومة.
8- في الأصول «و تثاؤب» و يقال لغة تثاءب و تثأب التضعيف. و قد آثرنا الثانية لأنه على رواية الأصول تكون في القافية ألف الأساس، و إذا كانت لزمت في القصيدة كلها.
9- اللزب (بالتحريك): ضيق العيش.

/

أحلاس(1) خيل اللّه و هي مغيرة *** يخرجن من خلل الغبار الأكهب(2)

قال: فأمر له بدار يسكنها و كسوة و دراهم. و كانت الدار قريبة من قصره، فأمر بأن تزاد في قصره بعد ذلك لحاجة دعته إليها. فدخل عليه أبو دلامة فأنشده قوله:

يا ابن عمّ النبيّ دعوة شيخ *** قد دنا هدم داره و دماره

فهو كالماخض التي اعتادها الطّل *** ق فقرّت و ما يقرّ قراره

إن تحز عسره بكفّيك يوما *** فبكفّيك عسره و يساره

أو تدعه فللبوار، و أنّى *** و لما ذا و أنت حيّ بواره

هل يخاف الهلاك شاعر قوم *** قدمت في مديحهم أشعاره

لكم الأرض كلّها فأعيروا *** شيخكم ما احتوى عليه جداره

فكأن قد مضى و خلّف فيكم *** ما أعرتم و أقفرت منه داره

فاستعبر المنصور، و أمر بتعويضه دارا خيرا منها و وصله.

عابه عند المهدي محرز و مقاتل ابنا ذؤال فهجاهما بحضرته:

قال ابن النطّاح:

و دخل أبو دلامة على المهديّ و عنده محرز و مقاتل ابنا ذؤال يعاتبانه على تقريبه أبا دلامة و يعيبانه عنده.

فقال أبو دلامة:

ألا أيّها المهديّ هل أنت مخبري *** و إن أنت لم تفعل فهل أنت سائلي

أ لم ترحم اللّحيين من لحيتيهما *** و كلتاهما في طولها غير طائل

و إن أنت لم تفعل فهل أنت مكرمي *** بحلقهما من محرز و مقاتل

فإن يأذن المهديّ لي فيهما أقل *** مقالا كوقع السيف بين المفاصل

/و إلاّ(3) تدعني و الهموم تنوبني *** و قلبي من العجلين جمّ البلابل

/فقال: أو آخذ لك منهما عشرة آلاف درهم يفديان بها أعراضهما منك؟ قال: ذلك إلى أمير المؤمنين.

فأخذها له منهما و أمسك عنهما.

مدح سعيد بن دعلج فأجازه:

قال ابن النطّاح:

و دخل أبو دلامة على سعيد بن دعلج(4) مولى بني تميم فقال:

ص: 424


1- أحلاس الخيل هنا: الملازمون ظهورها.
2- الكهبة: غبرة مشربة سوادا.
3- فعل الشرط محذوف أي و إلا تفعل تدعني.
4- كان أميرا على شرطة البصرة و أحداثها لأبي جعفر المنصور، ثم ولي البحرين له أيضا و عزله بعد ذلك. و ولي للمهدي طبرستان - و عزله عنها. (انظر ابن الأثير ج 6 ص 6 و 7 و 26 و 27 و 39 و 41).

إذا جئت الأمير فقل سلام *** عليك و رحمة اللّه الرحيم

و أمّا بعد ذاك فلي غريم *** من الأعراب قبّح من غريم

غريم لازم بفناء بيتي *** لزوم الكلب أصحاب الرّقيم(1)

له مائة عليّ و نصف أخرى *** و نصف النّصف في صكّ قديم

دراهم ما انتفعت بها و لكن *** وصلت بها شيوخ بني تميم

أتوني بالعشيرة يسألوني *** و لم أك في العشيرة باللّئيم

فضحك و أمر له بمائتين و خمسة و سبعين درهما و قال: ما أساء من أنصف، و قد كافأتك عن قومك و زدتك مائة

داعب المنصور في جنازة بنت عمه حتى ضحك:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن جعفر بن الحسين اللّهبيّ عن عمّه مصعب:

أنّ حمّادة بنت عيسى توفّيت و حضر المنصور جنازتها. فلمّا وقف على حفرتها قال لأبي دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: بنت عمّك يا أمير المؤمنين حمّادة بنت عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها. فضحك المنصور حتى غلب فستر وجهه.

سأل الخيزران جارية فوعدته بها و أبطأت فاستنجزها بشعر، و قصة زوجته و ابنه مع هذه الجارية:

أخبرني عمّي رحمه اللّه تعالى قال حدّثنا محمد بن سعد الكرّانيّ قال قال أبو عمر حفص بن عمر العمريّ حدّثنا الهيثم قال:

جحّت الخيزران، فلمّا خرجت صاح بها أبو دلامة. قالت: سلوه ما أمره. قالوا له: ما أمرك؟ فقال:

أدنوني من محملها. قالت: أدنوه، فأدني. فقال: أيّتها السيّدة، إنّي شيخ كبير و أجرك فيّ عظيم. قالت: فمه.

قال: تهبين لي جارية من جواريك تؤنسني و ترفق بي و تريحني من عجوز عندي، قد أكلت رفدي، و أطالت كدّي، و قد عاف جلدي جلدها، و تمنّيت بعدها، و تشوّقت فقدها. فضحكت الخيزران و قالت: سوف آمر لك بما سألت. فلما رجعت تلقّاها و ذكّرها، و خرج معها إلى بغداد فأقام حتى غرض(2). ثم دخل على أمّ عبيدة حاضنة موسى و هارون، فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها:

ص: 425


1- قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحٰابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كٰانُوا مِنْ آيٰاتِنٰا عَجَباً: «الرقيم اسم كلبهم، قال أمية بن أبي الصلت: و ليس بها إلا الرقيم مجاورا و صيدهم و القوم في الكهف همّد و قيل هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف، و قيل إن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل، و قيل: هو الوادي الذي فيه الكهف، و قيل الجبل، و قيل قريتهم، و قيل مكانهم بين غضبان و أيلة دون فلسطين». و في «اللسان» مادة رقم: «قال أبو القاسم الزجاجي في الرقيم خمسة أقوال: أحدها عن ابن عباس أنه لوح كتبت فيه أسماؤهم. الثاني أنه الدواة بلغة الروم عن مجاهد. الثالث القرية عن كعب. الرابع الوادي. الخامس الكتاب عن الضحاك و قتادة، و إلى هذا القول يذهب أهل اللغة».
2- غرض: ضجر و ملّ.

أبلغي سيّدتي باللّه يا أمّ عبيده أنها أرشدها اللّه و إن كانت رشيده

وعدتني قبل أن تخ *** رج للحجّ وليده

فتأنّيت و أرسل *** ت بعشرين قصيده

/كلّما أخلقن(1) أخلف *** ت لها أخرى جديده

ليس في بيتي لتمهي *** د فراشي من قعيده

غير عجفاء عجوز *** ساقها مثل القديده

وجهها أقبح من حو *** ت طريّ في عصيده

/ما حياة مع أنثى *** مثل عرسي بسعيده

فلمّا قرئت عليها الأبيات ضحكت و استعادتها منه لقوله «حوت طريّ في عصيده» و جعلت تضحك، و دعت بجارية من جواريها فائقة فقالت لها: خذي كل ما لك في قصري ففعلت، ثم دعت ببعض الخدم و قالت له:

سلّمها إلى أبي دلامة. فانطلق الخادم بها فلم يصادفه في منزله. فقال لامرأته: إذا رجع فادفعيها إليه، و قولي له: تقول لك السّيدة: أحسن صحبة هذه الجارية فقد آثرتك بها؛ فقالت له نعم. فلمّا خرج دخل ابنها دلامة فوجد أمّه تبكي. فسألها عن خبرها فأخبرته و قالت: إن أردت أن تبرّني يوما من الدهر فاليوم. فقال: قولي ما شئت فإني أفعله. قالت: تدخل عليها فتعلمها أنّك مالكها و تطؤها فتحرم عليه، و إلاّ ذهبت بعقله و جفاني و جفاك. ففعل و دخل إلى الجارية فوطئها و وافقها ذلك منه، و خرج. ثم دخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية؟ قالت: في ذلك البيت. فدخل إليها شيخ محطّم ذاهب، فمدّ يده إليها و ذهب ليقبّلها. فقالت له: مالك ويلك! تنحّ و إلاّ لطمتك لطمة دققت منها أنفك. فقال لها: أ بهذا أوصتك السيّدة!. فقالت: إنّها قد بعثت بي إلى فتى من حاله و هيئته كيت و كيت، و قد كان عندي آنفا، و نال منّي حاجته. فعلم أنه قد دهي من أمّ دلامة و ابنها.

فخرج إليه أبو دلامة فلطمه و لبّبه(2) و حلف/ألاّ يفارقه إلاّ عند المهديّ. فمضى به ملبّبا حتى وقف على باب المهديّ. فعرّف خبره و أنه قد جاء بابنه على تلك الحالة فأمر بإدخاله. فلمّا دخل قال له: مالك ويلك؟! قال:

عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمل ولد بأبيه، و لا ترضيني إلاّ أن تقتله. فقال له: ويلك فما فعل؟ فأخبره الخبر. فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال له أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟ فقال: عليّ بالسيف و النّطع. فقال له دلامة: قد سمعت حجّته يا أمير المؤمنين فاسمع حجّتي. قال: هات. قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، بنيك أمّي منذ أربعين سنة ما غضبت، و نكت جاريته مرّة واحدة فغضب و صنع بي ما ترى! فضحك المهديّ أكثر من ضحكه الأوّل، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة و أنا أعطيك خيرا منها. قال: على أن تخبأها لي بين السماء و الأرض، و إلاّ ناكها و اللّه كما ناك هذه. فتقدّم إلى دلامة ألاّ يعاود بمثل فعله، و حلف أنه إن عاود قتله، و وهب له جارية أخرى كما وعده.

ص: 426


1- كذا في أ. و في سائر الأصول: «أخلفن» بالفاء الموحدة.
2- لببه: أخذ بتلبيبه أن جمع ثيابه عند صدره و نحره في الخصومة ثم جرّه.
سأله المهدي عن شاعر فأطراه فأجازه لحسن محضره:

و قال ابن النطّاح:

دخل أبو دلامة على المهديّ و عنده شاعر ينشده. فقال له: ما ترى فيه؟ قال: إنه قد جهد نفسه لك فاجهد نفسك له. فقال المهديّ: و أبيك إنها لكلمة عذراء منك، أحسبك تعرفه! قال: لا و اللّه ما عرفته و لا قلت أنا إلاّ حقّا. فأمر للشاعر بجائزة، و لأبي دلامة بمثلها لحسن محضره.

خلع عليه العقيلي من ثيابه التي عليه:

قال ابن النطّاح و حدّثني أبو عبد اللّه العقيليّ قال:

رأيت على أبي دلامة فروة في الصّيف، فقلت له: أ لا تملّ هذه الفروة! قال: بلى، و ربّ مملول لا يستطاع فراقه. فنزعت فاضل ثيابي في موضعي و دفعتها إليه.

فزع من رؤية الفيل و قال فيه شعرا:

قال: و أهدي للمهديّ فيل، فرآه أبو دلامة فولّى هاربا و قال:

يا قوم إني رأيت الفيل بعدكم *** لا بارك اللّه لي في رؤية الفيل

/أبصرت قصرا له عين يقلّبها *** فكدت أرمي بسلحي في سراويلي

أنشد المهدي شعرا في بغلته و استوهبه أخرى غيرها:

/قال ابن النطّاح:

و دخل أبو دلامة على المهديّ فأنشده قصيدته في بغلته المشهورة:

أتاني بغلة(1) يستام(2) منّي *** عريق في الخسارة و الضّلال

فقال تبيعها؟ قلت ارتبطها *** بحكمك إن بيعي غير غالي

فأقبل ضاحكا نحوي سرورا *** و قال أراك سمحا ذا جمال

هلمّ إليّ يخلو بي خداعا *** و ما يدري الشّقيّ بمن يخالي

فقلت بأربعين فقال أحسن *** إليّ فإن مثلك ذو سجال(3)

فاترك خمسة منها لعلمي *** بما فيه يصير من الخبال

فقال المهديّ: لقد أفلتّ من بلاء عظيم. قال: و اللّه يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقّع صاحبها أن يردّها. قال: ثم أنشده:

فأبدلني بها يا ربّ طرفا(4) *** يكون جمال مركبه جمالي

ص: 427


1- في ج: «أتاني خائب».
2- استام: طلب السوم أن تعيين الثمن.
3- السجال هنا: المباراة و المساجلة يريد أنه لا يماكس في الثمن.
4- الطرف من الخيل: الكريم.

فقال لصاحب دوابّه: خيّره من الإصطبل مركبين(1). قال: يا أمير المؤمنين إن كان الاختيار لي وقعت في شرّ من البغلة، و لكن مره أن يختار لي، فقال: اختر له. و أخبرني به عمّي عن الكرانيّ عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ، و خبره أتمّ.

احتال على العباس بن محمد بشعر و أخذ منه ألفي درهم و كان راهن المهدي على ذلك فأخذ منه ستة آلاف:

و أخبرني محمد بن خلف عن أحمد بن الهيثم عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:

دخل أبو دلامة يوما على المهديّ، فحادثه ساعة و هو يضحك و قال له: هل بقي أحد من أهلي لم يصلك؟ قال: إن أمّنتني أخبرتك، و إن أعفيتني فهو أحبّ إليّ. قال: بل تخبرني و أنت آمن. قال كلّهم قد وصلني إلاّ حاتم بني العبّاس. قال: /و من هو؟ قال: عمّك العبّاس بن محمد. فالتفت إلى خادم على رأسه و قال: جأ(2)عنق العاضّ بظر أمّه. فلمّا دنا منه صاح به أبو دلامة: تنحّ يا عبد السّوء لا تخنث مولاك و تنكث عهده و أمانه.

فضحك المهديّ و أمر الخادم فتنحّى عنه، ثم قال لأبي دلامة: ويلك! و اللّه عمّي أبخل الناس. فقال أبو دلامة:

بل هو أسخى الناس. فقال له المهديّ: و اللّه لو متّ ما أعطاك شيئا. قال: فإن أنا أتيته فأجازني؟ قال: لك بكل درهم تأخذه منه ثلاثة دراهم. فانصرف أبو دلامة فحبّر للعبّاس قصيدة ثم غدا بها عليه و أنشده:

قف بالديار و أيّ الدهر لم تقف *** على المنازل بين الظّهر(3) و النّجف

و ما وقوفك في أطلال منزلة *** لو لا الذي استدرجت من قلبك الكلف

إن كنت أصبحت مشغوفا بساكنها *** فلا و ربّك لا تشفيك من شغف

دع ذا و قل في الذي قد فاز من مضر *** بالمكرمات و عزّ(4) غير مقترف(5)

هذي رسالة شيخ من بني أسد *** يهدي السلام إلى العبّاس في الصّحف

تخطّها من جواري المصر كاتبة *** قد طالما ضربت في اللام و الألف

و طالما اختلفت صيفا(6) و شاتية *** إلى معلّمها باللّوح و الكتف

حتّى إذا نهد الثّديان و امتلئا *** منها و خيفت على الإسراف و القرف(7)

صينت ثلاث سنين ما ترى أحدا *** كما يصون تجار درّة الصّدف

/فبينما الشيخ يهوي نحو مجلسه *** مبادرا لصلاة الصّبح بالسّدف(8)

ص: 428


1- في ب، س: «بين مركبين».
2- جأ: اضرب.
3- الظهر: موضع. و النجف (بالتحريك): موضع بظهر الكوفة و هو دومة الجندل بعينها، و القرب منه قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
4- في ب، س: «عزم».
5- مقترف: مكتسب.
6- في ب، س: «ضيفا» بالضاد المعجمة و هو تصحيف.
7- القرف: التهمة.
8- السدف: الظلمة.

حانت له لمحة منها فأبصرها *** مطلّة بين سجفيها من الغرف

/فخرّ و اللّه ما يدري غداتئذ *** أخّر منكشفا أم غير منكشف

و جاءه الناس أفواجا بمائهم *** ليغسلوا الرجل المغشيّ بالنّطف(1)

و وسوسوا بقران في مسامعه *** مخافة(2) الجنّ و الإنسان لم يخف

شيئا و لكنّه من حبّ جارية *** أمسى و أصبح موقوفا على التّلف

قالوا: لك الويل ما أبصرت؟ قلت لهم *** تطلّعت من أعالي القصر ذي الشّرف

فقلت أيّكم و اللّه يأجره *** يعين قوّته فيها على ضعف

فقام شيخ بهيّ من رجالهم *** قد طالما خدع الأقوام بالحلف

فابتاعها لي بألفي درهم فأتى *** بها إليّ فألقاها على كتفي

فبتّ ألثمها طورا و ألزمها *** طورا و أصنع بعض الشيء في اللّحف

فبين(3) ذاك كذا إذ جاء صاحبها *** يبغي الدراهم بالميزان ذي الكفف

و ذكر حقّ على زند و صاحبه *** و الحقّ في طرف و الطّين في طرف

و بين ذاك شهود لا يضرّهم *** أ كنت معترفا أم غير معترف

فإن يكن منك شيء فهو حقّهم *** أو لا فإنّي مدفوع إلى التّلف

قال: فضحك العبّاس و قال: ويحك أصادق أنت؟ قال: نعم و اللّه. قال: يا غلام ادفع إليه ألفي درهم ثمنها. قال: فأخذها ثم دخل على المهديّ فأخبره القصّة و ما احتال له به. فأمر له المهديّ بستة آلاف درهم.

و قال له المهديّ: كيف لا يضرّهم ذلك؟ قال: لأنّي معدم لا شيء عندي. و قال عمّي في خبره: فقال له العبّاس بن محمد شاركني في هذه الجارية. قال: أفعل و لكن على شريطة. قال: و ما هي؟ قال: الشّركة لا تكون إلاّ مفاوضة(4)، فاشتر معها أخرى، ليبعث كلّ واحد منا إلى صاحبه ما عنده/و يأخذ الأخرى مكانها ليلة و ليلة. فقال له العباس: قبحك اللّه و قبح ما جئت به! خذ الدراهم لا بارك اللّه لك فيها و انصرف.

أمره أبو مسلم بمبارزة رجل فقال شعرا أضحكه فأعفاه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني العبسيّ قال:

كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروبه مع بني أميّة. فدعا رجل إلى البراز؛ فقال له أبو مسلم: أبرز إليه. فأنشأ يقول:

ألا لا تلمني إن فررت فإنّني *** أخاف على فخّارتي أن تحطّما

ص: 429


1- النطف: جمع نطفة (بالضم) و هي الماء الصافي قل أو أكثر.
2- في ح، ب، س: «فخافه» و هو تحريف.
3- المشهور في مثل هذا أن يقال: فبينا ذاك كذا أو «بينما». و قد جاء بها أبو دلامة هنا على الأصل.
4- شركة المفاوضة: هي الشركة العامة في كل ما يملكه الشريكان.

فلو أنّني في السّوق أبتاع مثلها *** و جدّك ما باليت أن أتقدّما

فضحك و أعفاه.

وعدته ريطة جارية فاستنجزها بشعر:

و نسخت من كتاب ابن النطّاح:

أنّ ريطة وعدت أبا دلامة جارية فمطلته حتى امتدحها بعدّة قصائد، كلّ ذلك لا تفي له، ثم خرجت إلى مكّة و رجعت. و كانت لها جارية يقال لها أمّ عبيدة تخرج و تكلّم الرجال و تبلّغ عنها الرسائل. فقال أبو دلامة لأمّ عبيدة حين عيل صبره:

أبلغي سيّدتي إن *** شئت يا أمّ عبيده

/أنّها أرشدها الل *** ه و إن كانت رشيده

وعدتني قبل أن تخ *** رج للحجّ وليده

فتنظّرت و أرسل *** ت بعشرين قصيده

كلّما تخلق أولى *** بدّلت أخرى جديده

إنّني شيخ كبير *** ليس في بيتي قعيده

غير مثل الغول عندي *** ذات أوصال مديده

/وجهها أسمج من حو *** ت طريّ في عصيده

ذات رجل و يد كل *** تاهما مثل القديده

فدخلت على ريطة فأنشدتها الشعر، فأمرت له بجارية و مائتي دينار للنفقة عليها.

اشترى لأضيافه نبيذا من نباذه و لم يعطها الثمن و قال فيها شعرا:

أخبرني الحسين بن يحيى نسخت من كتاب إسحاق الموصليّ حدّثني أبي عن جدّي(1):

أنّ أبا دلامة نزل بالكوفة، فأتاه أضياف فغدّاهم، ثم بعث إلى سنديّة نبّاذة يقال لها دومة، فبعثت إليهم جرّة من نبيذ فشربوها، ثم أعاد فبعثت إليهم بأخرى، ثم جاءت تتقاضى الثمن. فقال: ليس عندي الثمن، و لكني أمدحك بما هو خير من نبيذك. فقال:

ألا يا دوم دام لك النّعيم *** و أحمر ملء(2) كفّك مستقيم

ص: 430


1- يلاحظ أن جدّ إسحاق بن إبراهيم الموصلي فارسي و هو ماهان أو ميمون بن بهمن، و أنه مات و ابنه طفل في الثانية أو الثالثة، فلا يعقل أن يكون إبراهيم روى عن أبيه. على أن ماهان لم يعرف أنه من رواة الأدب العربي. فلعل في كلمة «عن جدي» تحريفا أو هي من زيادات النساخ. (راجع ترجمة إبراهيم الموصلي في الجزء الخامس من هذه الطبعة ص 154).
2- كذا في ج. و في سائر الأصول: «مثل» و هو تحريف. و قد ورد هذا الشعر في الجزء العاشر صفحة 94 من «الأغاني» طبع بلاق في ترجمة الأقيشر، و روايته: ألا يا دوم دام لك النعيم و اسمر ملء كفك مستقيم شديد الأسر ينبض حالباه يحتم كأنه رجل سقيم يروّيه الشراب فيزدهيه و ينفخ فيه شيطان رجيم

شديد الأصل ينبذ(1) حالباه *** يئنّ كأنّه رجل سقيم

و هذا الخبر يروى عن الأقيشر أيضا.

قال شعرا في الجنيد النخاس يذمه و يمدح جارية له:

قال إسحاق و حدّثني أبي:

أنّ أبا دلامة كان كثير الزيارة للجنيد النخّاس، و كان يتعشّق جارية له و يبغضه. فجاءه يوما فقال: أخرج لي فلانة. فقال: إلى متى تخرج إليك و لست بمشتر!! /قال: فإن لم أكن مشتريا فإني أخ يمدح و يطرى. قال: ما أنا بمخرجها إليك أو تقول فيها شعرا. قال: فاحلف بعتقها أن تروّيها إيّاه و تأمرها بإنشاده من أتاك يعترضها و لا تحجبها. فحلف لا يحجبها. فقال أبو دلامة:

إنّي لأحسب أن سأمسي ميّتا *** أو سوف أصبح ثم لا أمسي

من حبّ جارية الجنيد و بغضه *** و كلاهما قاض على نفسي

فكلامها يشفى به سقمي *** فإذا تكلّم عاد لي نكسي

عاد إسحاق الأزرق و عنده طبيبه فقال شعرا ينصحه فيه بمجانبة الطبيب:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:

دخل أبو دلامة على إسحاق الأزرق يعوده، و كان إسحاق قد مرض مرضا شديدا، ثم تعافى منه و أفاق، فكان من ذلك ضعيفا، و عند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوّي بدنه. فقال أبو دلامة للطبيب: يا ابن الكافرة! أتصف هذه الأدوية لرجل أضعفه المرض! ما أردت و اللّه إلاّ قتله. ثم التفت إلى إسحاق فقال: اسمع أيها الأمير منّي. قال: هات ما عندك يا أبا دلامة. فأنشأ يقول:

نحّ عنك الطبيب و اسمع لنعتي *** إنّني ناصح من النّصّاح

ذو تجاريب قد تقلّبت في الصحّ *** ة دهرا و في السّقام المتاح

غاد هذا الكباب كلّ صباح *** من متون الفتيّة السّحّاح(2)

/فإذا ما عطشت فاشرب ثلاثا *** من عتيق في الشمّ كالتّفّاح

ثم عند المساء فاعكف على ذا *** و على ذا بأعظم الأقداح

فتقوّي ذا الضعف منك و تلفى *** عن(3) ليال أصحّ هذي الصّحاح

ذا شفاء ودع مقالة هذا *** ناك ذا أمّه بأير رباح(4)

ص: 431


1- ينبذ: ينبض.
2- السحاح: السمان، واحدها ساح و ساحة، بالحاء المشدّدة.
3- عن ليال أي بعد ليال.
4- رباح: القرد.

/فضحك إسحاق و عوّاده، و أمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم. و كان الطبيب نصرانيا فقال: أعوذ باللّه من شرّك يا ركل (يريد يا رجل). و قال الطبيب: اقبل منّي أصلحك اللّه و لا تسألني عن شيء قدّامه. فقال أبو دلامه:

أمّا و قد أخذت أجرة صفقتي(1) و قضيت الحق في نصح صديقي، فانعت له الآن أنت ما أحببت.

تنادر بسلمة الوصيف في حضرة المهدي:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبو الشّبل عاصم بن وهب البرجميّ قال:

دخل أبو دلامة على المهديّ و بين يديه سلمة الوصيف واقفا، فقال: إنّي أهديت إليك يا أمير المؤمنين مهرا ليس لأحد مثله. فإن رأيت أن تشرّفني بقبوله. فأمره بإدخاله إليه. فخرج و أدخل إليه دابّته التي كان تحته، فإذا به برذون محطّم أعجف هرم. فقال له المهديّ: أيّ شيء هذا ويلك! أ لم تزعم أنه مهر!. فقال له: أ و ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائما تسمّيه الوصيف و له ثمانون سنة، و هو عندك وصيف! فإن كان سلمة وصيفا فهذا مهر. فجعل سلمة يشتمه و المهديّ يضحك. ثم قال لسلمة: ويلك، إنّ لهذه منه أخوات، و إن أتى بها في محفل فضحك. فقال أبو دلامة: و اللّه لأفضحنّه يا أمير المؤمنين؛ فليس من مواليك أحد إلاّ و قد وصلني غيره، فإنّي ما شربت له الماء قطّ. قال: فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلّص من يدك.

قال: قد فعلت على أن لا يعاود. فقال له: ما ترى؟ قال: أفعل، فلو لا أنّي ما أخذت منه شيئا قطّ ما فعلت معه مثل هذه. فمضى سلمة فحملها إليه.

عبث به ابنه فأراد أن يخصيه فحكم زوجته:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد الكرانيّ قال حدّثني الخليل بن أسد عن عبد الرحمن بن صالح قال:

/جاء ابن أبي دلامة يوما إلى أبيه و هو في محفل من جيرانه و عشيرته جالس، فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إن شيخي، كما ترون، قد كبرت سنّه، و رقّ جلده، و دقّ عظمه، و بنا إلى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه و يبقي قوّته، فيخالفني فيه. و أنا أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم، فيها صلاح لجسمه، و بقاء لحياته، فأسعفوني بمسألته. فقالوا: نفعل حبّا و كرامة. ثم أقبلوا على أبي دلامة بألسنتهم و تناولوه بالعتاب حتى رضي و هو ساكت، فقال قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنّه لم يأت إلاّ ببليّة. فقالوا له: قل. فقال: إنّ أبي إنما يقتله كثرة الجماع، فتعاونوني عليه حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء، فيكون أصحّ لجسمه و أطول لعمره. فعجبوا من ذلك و علموا أنه إنما أراد أن يعبث بأبيه و يخجّله حتى يشيع ذلك عنه فيرتفع له بذلك ذكر، فضحكوا منه. ثم قالوا لأبي دلامة: قد سمعت فأجب. قال: قد سمعتم أنتم و عرّفتكم أنه لن يأتي بخير. قالوا: فما عندك في هذا؟ قال: قد جعلت أمّه حكما بيني و بينه فقوموا بنا إليها. فقاموا بأجمعهم فدخلوا إليها، و قصّ/أبو دلامة القصّة عليها، و قال لها: قد حكّمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: أنّ ابني - أصلحه اللّه - قد نصح أباه و برّه و لم يأل جهدا، و ما أنا إلى بقاء

ص: 432


1- كذا في جميع الأصول. و لعله: «أجرة صفتي إلخ».

أبيه بأحوج منّي إلى بقائه، و هذا أمر لم تقع به تجربة منّا، و لا جرت بمثله عادة لنا، و ما أشكّ في معرفته بذلك.

فليبدأ بنفسه فليخصها؛ فإذا عوفي و رأيناه ذلك قد أثّر عليه أثرا محمودا استعمله أبوه. فنعر(1) أبوه و جعل يضحك به، و خجل ابنه، و انصرف القوم يضحكون و يعجبون من خبثهم جميعا و اتّفاقهم في ذلك المذهب.

أمر المهديّ مروانيا بقتل خارجي فنبا السيف في يده فقال هو في ذلك شعرا:

أخبرني عمّي قال حدّثنا ميمون بن هارون عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه قال:

كان عند المهديّ رجل من بني مروان، فدخل إليه و سلّم عليه. فأتى المهديّ بعلج(2) فأمر المروانيّ بضرب عنقه، فأخذ السيف و قام فضربه فنبا السيف عنه، فرمى به المروانيّ و قال: لو كان من سيوفنا ما نبا. فسمع المهديّ الكلام فغاظه حتى تغيّر لونه و بان فيه. فقام يقطين(3) فأخذ السيف و حسر عن ذراعيه ثم ضرب العلج فرمى برأسه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنّ هذه سيوف الطاعة لا تعمل إلاّ في أيدي الأولياء و لا تعمل في أيدي أهل المعصية. ثم قام أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، قد حضرني بيتان أ فأقولهما؟ قال: قل. فأنشده:

أيّ هذا الإمام سيفك ماض *** و بكفّ الوليّ غير كهام(4)

فإذا ما نبا بكفّ علمنا *** أنّها كفّ مبغض للإمام

قال: فسرّي عن المهديّ و قام من مجلسه، و أمر حجّابه بقتل الرجل المروانيّ فقتل.

ص: 433


1- نعر: صاح و صوّت بخيشومه.
2- العلج: الرجل من كفار العجم.
3- يقطين: هو يقطين بن موسى البغدادي. (انظر الكلام عليه في الحاشية رقم 2 ص 285 ج 6 من كتاب «الأغاني» من هذه الطبعة).
4- الكهام من السيوف: الكليل الذي لا يقطع.

11 - أخبار عبد اللّه بن المعتزّ

اشارة

و ممن صنع من أولاد الخلفاء فأجاد و أحسن و برع و تقدّم جميع أهل عصره فضلا و شرفا و أدبا و شعرا و ظرفا و تصرّفا في سائر الآداب أبو العبّاس عبد اللّه بن المعتزّ باللّه.

أدبه و شعره و دفاع أبي الفرج عن مذهبه في الأدب:

و أمره، مع قرب عهده بعصرنا هذا، مشهور في فضائله و آدابه شهرة تشرك في أكثر فضائله الخاصّ و العامّ.

و شعره و إن كان فيه رقّة الملوكيّة و غزل الظّرفاء و هلهلة المحدثين، فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلوب المجيدين و لا تقصر عن مدى السابقين، و أشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبّه فيها بفحول الجاهليّة. فليس يمكن واصفا لصبوح، في مجلس شكل ظريف، بين ندامى و قيان، و على ميادين من النّور و البنفسج و النّرجس و منضود من أمثال ذلك، إلى غير ما ذكرته من جنس المجالس و فاخر الفرش و مختار الآلات، و رقّة الخدم، أن يعدل بذلك عما يشبهه من الكلام السّبط(1) الرقيق الذي يفهمه كلّ من حضر، إلى جعد الكلام و وحشيّه، و إلى وصف البيد و المهامة و الظّبي و الظّليم(2) و الناقة و الجمل و الديار و القفار و المنازل الخالية المهجورة؛ و لا إذا عدل عن ذلك و أحسن قيل له مسيء، و لا أن يغمط حقّه كلّه إذا أحسن الكثير و توسّط في البعض و قصّر في اليسير، و ينسب إلى التقصير في الجميع، لنشر المقابح و طيّ المحاسن. فلو شاء أن يفعل هذا كلّ أحد بمن تقدّم لوجد مساغا. و لو أنّ قائلا أراد الطعن على صدور الشعراء، لقد رأى أن يطعن على الأعشى - /و هو أحد من يقدّمه الأوائل على سائر الشعراء - بقوله: «فأصاب حبّة قلبه و طحالها(3)».

و بقوله:

/

و يأمر لليحموم(4) كلّ عشيّة *** بقتّ و تعليق فقد كاد يسنق

ص: 434


1- السبط: السهل المرسل. و الجعد: المعقد.
2- الظليم: ذكر النعام.
3- العيب في هذا ورود كلمة الطحال فيه و هي مما يأباها الذوق. و قد ورد كلام فيه في هذا الجزء (ص 81-82) فراجعه.
4- كذا في «لسان العرب» و كتاب «نسب الخيل» لابن الكلبي و كتاب «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة. و اليحموم: اسم فرسه. و القت: حب بري. و التعليق: ما تعلفه الدابة من شعير و نحوه. و يسنق: يأكل حتى يصيبه كالبشم. و قد ورد هذا البيت في ب، س هكذا: و قد كان يأمر همو كل ليلة بقت و تعليق فقد كاد يسبق و في الأصول المخطوطة: و قد كان يأمر همو في كل ليلة يقت و تعليق فقد كاد يسبق و هما تحريف و عيب هذا البيت أنه مدح به ملك الحيرة و هو لا يمدح به رجل من خساس الجنود؛ لأنه ليس من أحد له فرس إلا و هو يعلفه قتا و يقضمه شعيرا. و هذا مديح كالهجاء. و قال أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة: «و لست أرى هذا عيبا؛ لأن الملوك تعد فرسا على أقرب الأبواب من مجالسها بسرجه و لجامه خوفا من عدوّ يفجؤها أو أمر ينزل أو حاجة تعرض لقلب الملك فيريد البدار، فلا يحتاج إلى أن يتلوّم على إسراج فرسه و إلجامه. و إذا كان واقفا غدى و عشى. فوضع الأعشى هذا المعنى و دل به على ملكه و على حزمه». (راجع كتاب «الشعر و الشعراء» صفحة 141-142 طبع أوربا).

و أمثال لهذا كثيرة. و إنما على الإنسان أن يحفظ من الشيء أحسنه، و يلغي(1) ما لم يستحسنه، فليس مأخوذا به. و لكنّ أقواما أرادوا أن يرفعوا أنفسهم الوضيعة، و يشيدوا بذكرهم الخامل، و يعلوا أقدارهم الساقطة بالطعن على أهل الفضل و القدح فيهم، فلا يزدادون بذلك إلاّ ضعة، و لا يزداد الآخر إلاّ ارتفاعا. أ لا ترى إلى ابن المعتزّ قد قتل أسوأ قتلة، و درج فلم يبق له خلف يقرّظه و لا عقب يرفع منه، و ما يزداد بأدبه و شعره و فضله و حسن أخباره و تصرّفه في كلّ فنّ من العلوم إلاّ رفعة/و علوّا. و لا نظر إلى أضداده كلّما ازدادوا في طعنه و تقريظ أنفسهم و أسلافهم الذين كانوا مثلهم في ثلبه و الطعن عليه، زادوها سقوطا و ضعة، و كلّما وصفوا أشعارهم و قرّظوا آدابهم، زادوا بها ثقلا و مقتا. فإذا وقع عليهم المحصّل الموافق، عدلوا عن ثلبه في الآداب، إلى التشنيع عليه بأمر الدين و هجاء آل أبي طالب، و هم أوّل من فعل ذلك و شنّع به على آل أبي طالب عند المكتفي حتى نهاهم عنه، فعدلوا عن عيب أنفسهم بذلك إلى عيبه، و ارتكبوا أكثر منه. و أنا أذكر ذلك بعقب أخبار عبد اللّه، مصرّحا به على شرح إن شاء اللّه تعالى.

علمه بصناعة الموسيقى:

و كان عبد اللّه حسن العلم بصناعة الموسيقي، و الكلام على النغم و عللها. و له في ذلك و في غيره من الآداب كتب مشهورة، و مراسلات جرت بينه و بين عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر و بين بني حمدون، و غيرهم، تدلّ على فضله و غزارة علمه و أدبه.

كتاب عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر له و قد بعث إليه برسالة إلى ابن حمدون:

و لقد قرأت بخطّ عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر رقعة إليه بخطّه، و قد بعث إلى برسالة إلى ابن حمدون في أنه يجوّز و لا ينكر أن يغيّر الإنسان بعض نغم الغناء القديم، و يعدل بها إلى ما يحسن في حلقه و مذهبه. و هي رسالة طويلة، و شاوره فيها. فكتب إليه عبيد اللّه: «قرأت - أيّدك اللّه - الرسالة الفاضلة البارعة الموفّقة. فأنا و اللّه أقرؤها إلى آخرها، ثم أعود إلى أوّلها مبتهجا، و أتأمّل و أدعو مبتهلا، و عين اللّه التي لا تنام عليك و على نعمه عندك. فإنها - علم اللّه - النعمة المعدومة المثل. و لقد تمثّلت و أنا أكرّر نظري فيها قول القائل في سيّدنا و ابن سيّدنا عبد اللّه بن العبّاس:

كفى و شفى ما في النفوس و لم يدع *** لذي إربة في القول جدّا و لا هزلا

و لا و اللّه ما رأيت جدّا في هزل، و لا هزلا في جدّ يشبه هذا الكلام في بلاغته و فصاحته و بيانه و إنارة برهانه و جزالة ألفاظه. و لقد خيّل إليّ أنّ لسان جدّك/العبّاس عليه السّلام ينقسم على أجزاء، فلك - أعزّك اللّه - نصفها، و النصف الآخر مقسوم بين أبي جعفر المنصور و المأمون رحمة اللّه عليهما. و لو أنّ هذه الرسالة جبهت الإبراهيمين إبراهيم بن المهديّ و إبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق و هم مجتمعون لبهت منهم الناظر، و أخرس الناطق، و لأقرّوا لك بالفضل في السّبق، و ظهور حجّة الصّدق، ثم كان قولك لهم فرقا بين الحقّ و الباطل، و الخطأ و الصواب. و و اللّه ما تأخذ في فنّ من الفنون، إلاّ برّزت فيه تبريز الجواد الرّائع، المغبّر في وجه كلّ حصان تابع. عضد اللّه الشرف ببقائك، و أحيا الأدب/بحياتك، و جمّل الدنيا و أهلها بطول عمرك».

هذا كلام العقلاء و ذوي الفضل في مثله، لا كلام الثقلاء و ذوي الجهل. و الإطالة في هذا المعنى مستغنى عنها.

ص: 435


1- كذا في الأصول. و يحتمل أن يكون: «يلقى» بالقاف.

و المشهور عنه و عن أضداده و ما يأتي من أخباره بعد ذلك ففي معنى ما شرطته من جنس ما هو المقصد في كتابي هذا.

أصوات له في أشعار مختلفة:
اشارة

فمن صنعة عبد اللّه بن المعتز في شعره على أنّ أكثرها هذه سبيله فيها:

صوت

هل ترجعنّ ليال قد مضين لنا *** و الدار جامعة أزمان أزمانا(1)

صنعته في بيت واحد، و لحنه ثقيل أوّل.

/و من صنعته في الثقيل الأوّل أيضا - و فيه لعلّويه رمل قديم، و ما لحنه بدون لحن علّويه -:

صوت

سقى جانب القصرين فالدّير فالحمى *** إلى الشّجر المحفوف بالطّين و المدر(2)

و من صنعته الظّريفة(3) الشّكلة مع جودتها:

صوت

و إبلائي من محضر و مغيب *** و حبيب منّي بعيد قريب

لم ترد ماء وجهه العين إلاّ *** شرقت قبل ريّها برقيب

زارته زرياب في يوم الشعانين و غناها:
اشارة

خفيف ثقيل، ابتداؤه نشيد.

و من صنعته، و له خبر أخبرني به عليّ بن هارون بن المنجّم عن زرياب قالت: زرت عبد اللّه بن المعتزّ في يوم(4) السّعانين، فسرّ بورودي و صنع من وقته لحنا في شعر عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ الذي له فيه هزج و هو:

ص: 436


1- يقول: هل تعود ليال لنا مضت أزمان أزمان و الدار جامعة أسباب سرورنا و لهونا. و أزمان أزمان يراد به أزمان لهونا و أزمان سرورنا أو نحو ذلك مما يضاف إليه أزمان و يناسب المقام. و مثل هذا التركيب مما يجب فيه البناء على فتح الجزءين كالمركب المزجى. و كل ما ركب تركيب المزج من الظروف زمانية كانت أو مكانية يجب بناؤه، مثل قولك فلان يأتينا صباح مساء أي كل صباح و مساء، فحذف العاطف و ركب الظرفان قصدا للتخفيف تركيب خمسة عشر. قال الشاعر: و من لا يصرف الواسين عنه صباح مساء يبغوه خيالا و تقول: فلان يأتينا يوم يوم أي يوما فيوما؛ قال الشاعر: آت الرزق يوم يوم فأجمل طلبا و ابغ للقيامة زادا و مثال ما ركب من ظروف المكان قولهم: سهلت الهمزة بين بين؛ و منه قول الشاعر: نحمي حقيقتنا و بع ض القوم يسقط بين بينا و الأصل بين هؤلاء و بين هؤلاء. (راجع شرح «شذور الذهب في معرفة كلام العرب» لابن هشام الأنصاري طبع بلاق سنة 1282 ص 30، 31). و قد ورد هذا البيت في الأصول: «أزمان أزمان» و النون عارية من الشكل، و ليس فيها ألف الإطلاق. و رجعنا إلى «ديوانه» المطبوع فلم نجد فيه هذا البيت.
2- المدر: التراب المتلبد، أو هو قطع الطين اليابس.
3- كذا في ح. و في ب، س: «الظريفة الشكل». و في أ، م: «الطريفة الشكل».
4- في «لسان العرب» (في مادة سعن): «قال ابن الأثير: هو عيد لهم معروف قبل عيدهم الكبير بأسبوع، و هو سرياني، معرّب. و قيل: هو جمع واحده سعنون» اه. و المشهور فيه «الشعانين» بالشين المعجمة؛ فقد ورد في «صبح الأعشى» (ج 2 ص 415) في كلامه على أعياد القبط: «الثاني - الزيتونة، و هو عيد الشعانين، و تفسيره بالعربية التسبيح، يعملونه في سابع أحد من صومهم. و سنتهم فيه أن يخرجوا بسعف النخل من الكنيسة، و هو يوم ركوب المسيح لليعفور (و هو الحمار) في القدس و دخوله صهيون و هو راكب و الناس يسبحون بين يديه، يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر» اه.
صوت

/

أنا في قلبي من الظّبي كلوم *** فدع اللّوم فإنّ اللّوم لوم(1)

حبّذا يوم السّعانين و ما *** نلت فيه من سرور لو يدوم

الشعر لعبد اللّه بن العبّاس، و لحنه فيه هزج - قالت: فصنع عبد اللّه بن المعتزّ في البيت الثاني، و بعده بيت أضافه إليه، هزجا و هو:

زارني مولاي فيه ساعة *** ليته و اللّه ما عشت يقيم

و لحن ابن المعتزّ في «حبذا يوم السّعانين» هذا البيت خفيف رمل، و هو من نهايات الأغاني التي صنعها.

و من صنعته التي تظارف(2) فيها و ملح:

زاحم كمّي كمّه فالتويا *** وافق قلبي قلبه فاستويا

و طالما ذاقا الهوى فاكتويا *** يا قرّة العين و يا همّي و يا

أراد هنا بقوله «و يا» ما يقوله الناس في حكاية الشيء الذي يخاطبون به الإنسان من جميل أو قبيح، فيقولون: قلت له يا سيّدي و يا مولاي و يا و يا، و كذلك ضدّه ليستغنى بالإشارة بهذا النّداء عن الشرح. و لحن ابن المعتزّ في هذا هزج.

حرجت عليه نشر في صورة جميلة فقال فيها شعرا على البديهة:

حدّثني جعفر بن قدامة قال:

كنّا عند ابن المعتزّ يوما و عنده نشر و كان يحبها و يهيم بها، فخرجت علينا من صدر البستان/في زمن الربيع، و عليها غلالة معصفرة و في يديها جنّابي(3) باكورة

ص: 437


1- لوم: مخفف لؤم بالهمز.
2- في ب، س: «تظافر». و في سائر الأصول: «تضافر». و ظاهر أن كليهما تحريف.
3- كتب المرحوم العلامة أحمد تيمور باشا عن هذه الكلمة فيما كتبه عن لعب العرب في العدد الأوّل من المجلة السلفية (السنة الثانية ص 34) شرحا لهذه اللعبة رأينا أن ننقله كله لما حواه من قيمة علمية كعادة الباشا عليه الرحمة و الرضوان فيما يكتبه. قال: «الجنابي - في «القاموس»: «و الجناباء (بفتح أوله و ثانيه) و كسماني (بضم أوله و فتح ثانيه) لعبة للصبيان». و في «اللسان»: «الجناباء و الجنابي لعبة للصبيان يتجانب الغلامان فيعتصم كل واحد من الآخر» و نحوه في «المخصص»». و بعد أن نقل هذه العبارة عن «الأغاني» و «معاهد التنصيص» قال: «قلنا قوله «جنابي» باقلاء يظهر أنه شيء كالسلة و لم نعثر عليه في اللغة، و لعله مولد سمي بذلك لأنه يحمل في الجنب. و المفهوم من القصة أنه بتشديد النون لأن الجارية أرادت بقولها التجنيس باسم اللعبة، و هو وارد بالتشديد في شعر ابن المعتز كما ترى و إليه مال شارح «القاموس». و عبارته: «و الجناباء بالمد و الجنابي كسماني مخففا مقصورا هكذا في النسخ التي رأيناها و في «لسان العرب» بالضم و تشديد النون. و يدل على ذلك أن المؤلف ضبط سماني بالتشديد في (س م ن) فليكن هذا الأصح، ثم أنه في بعض النسخ بالمد في الثاني و كذا في «لسان العرب» أيضا، و الذي قيده الصاغاني بالضم و التخفيف ككسالى». انتهى و تتبعه مصححه بأنه سهو منه لأن المؤلف إنما ضبط سماني في (س م ن) بوزن حبارى اه. و نقول: السهو من الشارح في تعيين المادة و كأنه يريد مادة (ح و ر) لقول المؤلف فيها «و أحمد بن أبي الحواري كسكارى، و كسماني أبو القاسم الحوّاري، الزاهدان معروفان» و قد ناقشه فيها هناك و لا يبعد أن يكون قوله و كسماني حرفه النساخ عن (و كشقارى) كما نبه عليه المصحح على حاشية هذه المادة في نسخة «القاموس» المطبوعة ببلاق سنة 1303. بقي قول شارح «القاموس» إن (الجنابي) وردت بتشديد النون و بالمد أيضا في «لسان العرب». و لعلها وردت كذلك؟؟؟ طة بالقلم في النسخة التي كانت عنده؛ فإن النسخة التي بأيدينا ليس فيها إلا ما ذكرناه. و بعد، فتشديد هذه اللفظة في البيت إما أن يكون عن لغة فيها محكية اطلع عليها ابن المعتز أو عن خطأ شاع بين المولدين فجرت به ألسنة الشعراء. و اللّه أعلم اه».

باقلاّ(1). فقالت له: يا سيّدي تلعب معي جنّابي؟ فالتفت إلينا و قال على بديهته غير متوقّف و لا مفكّر:

/

فديت من مرّ يمشي في معصفرة *** عشيّة فسقاني ثم حيّاني

و قال تلعب جنّابي فقلت له *** من جاد(2) بالوصل لم يلعب بهجران

و أمر فغنّي فيه. غنّت فيما أرى فيه هزار لحنا، و هو رمل مطلق.

جدر خادمه نشوان فجزع عليه ثم عوفي فسرّ و قال شعرا:

حدّثني جعفر قال:

كان لعبد اللّه بن المعتزّ غلام يحبّه، و كان يغنّي غناء صالحا، يقال له «نشوان». فجدر و جزع عبد اللّه لذلك جزعا شديدا، ثم عوفي و لم يؤثّر الجدريّ في وجهه أثرا قبيحا. فدخلت إليه ذات يوم فقال لي: يا أبا القاسم، قد عوفي فلان بعدك، و خرج أحسن مما كان، و قلت فيه بيتين و غنّت زرياب فيهما رملا ظريفا، فاسمعهما إنشادا إلى أن تسمعهما غناء. فقلت: يتفضّل الأمير، أيّده اللّه تعالى، بإنشادي إيّاهما. فأنشدني:

لي قمر جدر لمّا استوى *** فزاده حسنا فزادت هموم

أظنّه غنّى لشمس الضّحى *** فنقّطته طربا بالنجوم

فقلت: أحسنت و اللّه أيّها الأمير. فقال لي: لو سمعته من زرياب كنت أشدّ استحسانا له. و خرجت زرياب فغنّته لنا في طريقة الرّمل في أحسن غناء، فشربنا عليه عامّة يومنا.

غضب عليه غلامه نشوان فقال شعرا يترضاه به:

حدّثني جعفر قال:

غضب هذا الغلام على عبد اللّه بن المعتزّ؛ فجهد في أن يترضّاه، فلم تكن له فيه حيلة. فدخلت إليه فأنشدني فيه:

بأبي أنت قد تما *** ديت في الهجر و الغضب

/و اصطباري على صدو *** دك يوما من العجب

ليس لي إن فقدت وج *** هك في العيش من أرب

رحم اللّه من أعا *** ن على الصلح و احتسب

قال: فمضيت إلى الغلام؛ و لم أزل أداريه و ارفق به حتى ترضّيته و جئته به، فمرّ لنا يومئذ أطيب يوم

ص: 438


1- في «معاهد التنصيص» طبع بلاق سنة 1274 ص 194: «جنابي من باكورة باقلاء».
2- في «معاهد التنصيص»: «من جدّ» و هي رواية جيدة.

و أحسنه، و غنّتنا هزار في هذا الشعر رملا عجيبا.

زار في حداثته أبا عيسى بن المتوكل و أنشده من شعره في كره البنات فمدحه:

أخبرني الحسين بن القاسم الكاتب قال حدّثني إبراهيم بن خليل الهاشميّ قال:

دخلت يوما إلى أبي عيسى بن المتوكّل، فوجدت عبد اللّه بن المعتزّ و قد جاءه مسلّما، و سنّه يومئذ دون عشرين سنة، إذ دخل عليّ (1) بن محمد بن أبي الشّوارب القاضي، فأكرمه أبو عيسى و نهض إليه. فلما استقرّ به المجلس قال لأبي عيسى: قد احتجت إلى معونتك في أمر دفعت إليه لم أستغن فيه عن تكليفك المعاونة. قال:

و ما هو؟ قال: زوّجت بنتا من بناتنا رجلا من أهلنا، فخرج عن مذاهبنا، و أساء عشرة أهله، و جعل منزل عيسى بن هارون أكثر مظانّه و أوطانه، و يهدّدنا و يوعدنا بشّره، حتى لقد نالنا من عيسى بسط ليده و لسانه فينا بالقبيح و القول السيئ، و كثرة معاونته له على ما يزري بدينه و نسبه. و قد توعّدنا بأنه يكشف وجهه لنا في معاونة صهرنا هذا الغاوي علينا. و لو لا نسبه الذي فخره لنا و عاره علينا، لانتصفنا منه بالحق دون التعدّي، إلاّ أنّي أستعيذك منه. /فقال له أبو عيسى: أنا أوجّه إليه بعد انصرافك، و أراسله بما أنا المتكفّل بعده بألاّ يعود إلى عشرته، /و الضامن أن أردّ(2) هذا الصّهر إلى حيث تحبّ و يقع بموافقتك. فشكره و دعا له و انصرف. فقال أبو عيسى: أ لا ترون إلى هذا الرجل النّبيه الفاضل السّريّ الشريف يدفع إلى مثل هذا! طوبى لمن لم تكن له بنت.

فقال عبد اللّه بن المعتزّ: أيّها الأمير إنّ لولدك في هذا المعنى شيئا قاله و استحسنه جماعة ممن يعلم و يقول الشعر.

فقال: هاته فداك عمّك. فأنشده لنفسه:

و بكر قلت موتي قبل بعل *** و إن أثرى و عدّ من الصّميم

أ أمزج باللّئام دمي و لحمي *** فما عذري إلى النّسب الكريم

فقال له أبو عيسى: أمتع اللّه أهلك ببقائك، و أحسن إليهم في زيادة إحسانه إليك، و جمّلهم بكمال محاسنك، و لا أرانا شرّا فيك.

كان يعمر داره و يبيضها و قال شعرا في ذلك:

أخبرني الحسين بن القاسم قال حدّثني عبد اللّه بن موسى الكاتب قال:

دخلت على عبد اللّه بن المعتزّ و في داره طبقات من الصّنّاع، و هو يبني داره و يبيّضها. فقلت: ما هذه الغرامة الحادثة؟ فقال: ذلك السّيل الذي جاء مذ ليال أحدث في داري ما أحوج إلى الغرامة و الكلفة، و قال:

ألا من لنفس و أحزانها *** و دار تداعى بحيطانها

أظلّ نهاري في شمسها *** شقيّا معنى ببنيانها

أسود وجهي بتبييضها *** و أهدم كيسي بعمرانها

ص: 439


1- هو علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي البصري قاضي القضاة أبو الحسن. كان ولي القضاء بسرّمن رأى، و كان عالما عفيفا ثقة. توفي سنة 283 ه (عن «النجوم الزاهرة» ج 3 ص 97 طبع دار الكتب المصرية).
2- في ب، س: «و أنا الضامن إن أراد هذا الصهر إلا حيث» و هو تحريف.
خفف النميري صلاته و أطال السجود بعدها فقال هو شعرا:

حدّثني جعفر بن قدامة قال:

كنت عند عبد اللّه بن المعتزّ و معنا النّميريّ، و حضرت الصلاة، فقام النّميريّ فصلّى صلاة خفيفة جدّا، ثم دعا بعد انقضاء صلاته و سجد سجدة طويلة جدّا، حتى استثقله جميع من حضر بسببها، و عبد اللّه ينظر إليه متعجّبا ثم قال:

/

صلاتك بين الورى نقرة *** كما اختلس الجرعة الوالغ

و تسجد من بعدها سجدة *** كما ختم المزود(1) الفارغ

انقطعت عنه بنت الكراعة و كان يحبها فقال شعرا:

أخبرني الحسين بن القاسم قال حدّثني عبيد(2) اللّه بن موسى الكاتب قال:

كانت بنت الكراعة تألف عبد اللّه بن المعتزّ، و كان يحب غناءها و يستظرفها و يحبّها و يواصل إحضارها، ثم انقطعت عنه فقال:

ليت شعري بمن تشاغلت بعدي *** و هو لا شكّ جاهل مغرور

هكذا كنت مثله في سرور *** و غدا في الهموم مثلي يصير

كان يحب جارية قبيحة الصورة فاعترض عليه النميري فأجابه بشعر:

حدّثني جعفر بن قدامة قال:

كنا عند ابن المعتز يوما و معنا النّميريّ، و عنده جارية لبعض بنات المغنّين تغنّيه، و كانت محسنة إلاّ أنها كانت في غاية من القبح، فجعل عبد اللّه يجمّشها و يتعلّق بها. فلمّا قامت قال له النّميريّ: أيّها الأمير، سألتك باللّه أ تتعشّق هذه التي ما رأيت قطّ أقبح منها؟ فقال عبد اللّه هو يضحك:

قلبي وثّاب إلى ذا و ذا *** ليس يرى شيئا فيأباه

/يهيم بالحسن كما ينبغي *** و يرحم القبح فيهواه

راسل خزامى فتأخرت عنه فقال شعرا فأجابته:

أخبرنا الحسين بن القاسم قال حدّثني أبو الحسن الأمويّ قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ قال:

كانت خزامى جارية الضبط المغنّى تنادمني و أنا حدث ثم تركت النبيذ. و كانت مغنّية محسنة شاعرة ظريفة.

فراسلتها مرارا فتأخّرت عنّي، فكتبت إليها:

رأيتك قد أظهرت زهدا و توبة *** فقد سمجت من بعد توبتك الخمر

فأهديت وردا كي يذكّر عيشة *** لمن لم يمتّعنا ببهجتها الدّهر

ص: 440


1- المزود: وعاء الزاد.
2- كذا في جميع الأصول هنا. و تقدم في الصفحة الماضية: «عبد اللّه بن موسى» و ذلك أيضا باتفاق الأصول.

/فأجابت:

أتاني قريض يا أميري محبّر *** حكى لي نظم الدّرّ فصّل بالشّذر(1)

أ أنكرت يا ابن الأكرمين إنابتي *** و قد أفصحت لي ألسن الدهر بالزّجر

و آذنني شرخ الشّباب ببينه *** فيا ليت شعري بعد ذلك ما عذري

شعره في موسم الربيع:

حدّثني جعفر بن قدامة قال:

كنت أسرح مع عبد اللّه بن المعتزّ في يوم من أيّام الرّبيع بالعبّاسيّة(2) و الدنيا كالجنّة المزخرفة. فقال عبد اللّه:

حبّذا آذار شهرا *** فيه للنّور انتشار

ينقص الليل إذا جا *** ء و يمتدّ النهار

و على الأرض اخضرار *** و اصفرار و احمرار

فكأنّ الرّوض وشي *** بالغت فيه التّجار

نقشه آس و نسري(3) *** ن و ورد و بهار(4)

هنأ عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر بولاية ابنه محمد شرطة بغداد:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال:

كتب عبد اللّه بن المعتزّ إلى عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر و قد استخلف مؤنس(5) ابنه محمد بن عبيد اللّه على الشّرطة ببغداد:

/

فرحت بما أضعافه دون قدركم *** و قلت عسى قد هبّ من نومه الدّهر

فترجع فينا دولة طاهريّة *** كما بدأت، و الأمر من بعده الأمر

عسى اللّه، إنّ اللّه ليس بغافل *** و لا بدّ من يسر إذا ما انتهى العسر

فكتب إليه عبيد اللّه قصيدة منها:

و نحن إذا ما نالنا مسّ جفوة *** فمنّا على لأوائها الصّبر و العذر

و إن رجعت من نعمة اللّه دولة *** إلينا فمنّا عندها الحمد و الشكر

ص: 441


1- الشذر: خرز تفصل به الجواهر في النظم.
2- العباسية: محلة كانت ببغداد منسوبة إلى العباس بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس.
3- النسرين: ورد أبيض عطري قويّ الرائحة. فارسي معرب.
4- البهار: نبت طيب الريح جعد له فقاحة صفراء ينبت أيام الربيع.
5- مؤنس: هو مؤنس الخادم. و كان يلقب بالمظفر لما عظم أمره. و كان شجاعا مقداما فاتكا مهيبا. عاش تسعين سنة منها ستون سنة أميرا. و كان قد أبعده المعتضد إلى مكة. و لما بويع المقتدر بالخلافة أحضره و قرّبه و فوّض إليه الأمور. قتل سنة 321 ه (انظر «النجوم الزاهرة» ج 3 ص 239).
انقطع عنه محمد هذا مدة طويلة فكتب له شعرا يعاتبه:

قال: و جاءه محمد بن عبيد اللّه بعقب هذا شاكرا لتهنئته، ثم لم يعد إليه مدّة طويلة. فكتب إليه عبد اللّه بن المعتزّ:

قد جئتنا مرّة و لم تعد *** و لم تزر بعدها و لم تعد

لست أرى واجدا بنا عوضا *** فاطلب و جرّب و استقص و اجتهد

ناولني حبل وصله بيد *** و هجره جاذبا له بيد

فلم يكن بين ذا و ذا أمد *** إلاّ كما بين ليلة و غد

أبيات من معلقة زهير و شرحها:
صوت

أ من(1) أمّ أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدّرّاج فالمتثلّم

بها العين و الآرام يمشين خلفة *** و أطلاؤها(2) ينهضن من كلّ مجثم

وقفت بها من بعد عشرين حجّة *** فلأيا عرفت الدار بعد توهم

/فلمّا عرفت الدار قلت لربعها *** ألا عم صباحا أيّها الرّبع و اسلم

و من يعص أطراف الزّجاج فإنّه *** يطيع العوالي ركّبت كلّ لهذم

و من هاب أسباب المنيّة يلقها *** و لو رام أسباب السماء بسلّم

عروضه من الطويل. الحومانة، فيما ذكر الأصمعيّ، الأرض الغليظة، و جمعها حوامين. و قال غيره:

الحومانة: ما كان دون الرّمل. و الدّرّاج و المتثلّم. موضعان. و روى أبو عمرو عن بعض ولد زهير «الدّرّاج» مضمومة الدال. و العين: البقر. و الآرام(3) تسكن الجبال. خلفة: يذهب فوج و يجيء فوج يخلفه مكانه.

و يروى: مجثم و مجثم. فمن قال مجثم قال: جثم يجثم جثوما، و من قال مجثم قال: جثم يجثم جثما، و اللأي: البطء. الزّجاج: جمع زجّ. قال: و أصله أنّ القوم كانوا إذا أرادوا صلحا قلبوا زجاج الرماح إلى فوق، فإن أبوا إلاّ الحرب قلبوا الأسنّة. و اللّهذم: السّنان المحدّد؛ يقال رمح لهدم و سنان لهذم: حادّ. و أمّ أوفى:

امرأة كانت لزهير فطلّقها. و له في ذلك خبر يذكر بعد هذا.

الشعر لزهير بن أبي سلمى. و الغناء للغريض، ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق في الأوّل و الثاني من الأبيات. و فيها لبذل الكبيرة ثقيل أوّل بالبنصر. و لعلّويه في الثالث و الرابع ثقيل أوّل. و لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى في الخامس و السادس. و فيهما ثقيل أوّل يقال إنه ليزيد حوراء:

ص: 442


1- أ من أمّ أوفى: يريد أ من منازل أمّ أوفى.
2- الأطلاء: جمع طلا و هو ولد البقرة و الظبية الصغير. و قوله ينهضن: يعني أنهن ينمن أولادهن إذا أرضعنهن ثم يرعين، فإذا ظنن أولادهن قد أنفدن ما في أجوافهن من اللبن صوتن بأولادهن فينهضن من مجاثمهن للأصوات ليرضعن. (عن شرح «ديوان زهير» للأعلم الشنتمري).
3- الآرام من الظباء: البيض الخالصة البياض، كما قال ذلك الأصمعي و أبو زيد. و في «اللسان» أنها تسكن الرمال.

12 - نسب زهير و أخباره

نسبه:

هو زهير بن أبي سلمى(1). و اسم أبي سلمى ربيعة(2) بن رياح بن قرّة بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن الأصمّ بن عثمان بن(3) عمرو بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار. و مزينة أمّ عمرو بن أدّ هي بنت كلب بن وبرة.

هو أحد الثلاثة المقدّمين على سائر الشعراء:

و هو أحد الثلاثة المقدّمين على سائر الشعراء، و إنما اختلف في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه. فأمّا الثلاثة فلا اختلاف فيهم، و هم امرؤ القيس و زهير و النّابغة الذّبيانيّ.

قال جرير هو شاعر الجاهلية:

أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم عن أبي قيس عن عكرمة بن جرير عن أبيه قال: شاعر أهل الجاهليّة زهير.

قال عمر لابن عباس إنه شاعر الشعراء:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا هارون بن عمر قال حدّثنا أيّوب بن سويد قال حدّثنا يحيى بن يزيد عن عمر بن عبد اللّه اللّيثيّ [عن ابن عباس](4) قال:

قال عمر بن الخطاب ليلة مسيره إلى الجابية(5): أين ابن عبّاس؟ فأتيته(6)؛ فشكا تخلّف عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه. فقلت(6): أ و لم يعتذر إليك؟ قال بلى، /قلت: فهو ما اعتذر به. ثم قال: أوّل من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر. إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة - ثم ذكر قصّة طويلة ليست من هذا الباب

ص: 443


1- سلمى بضم السين. و ليس في العرب سلمى بضم السين غيره.
2- في «شرح التبريزي على المعلقات»: «... ربيعة بن رياح بن قرة بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن برد بن لاطم (و في هامش نسخة مخطوطة للزوزني محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 47 أدب م «الأطم») بن عثمان بن مزينة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر». و في «طبقات الشعراء» لابن سلام: «... ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هزمة بن لام بن عثمان بن مزينة».
3- في ح «بن عثمان و هو عمرو إلخ».
4- تكملة في السند يقتضيها سياق الخبر.
5- الجابية: «قرية من أعمال دمشق ثم من عمل الجيدور من ناحية الحولان قرب مرج الصفر في شمال حوران. و يقال لها جابية الحولان أيضا. (عن «معجم البلدان» لياقوت).
6- كذا في أ، م. و في سائر الأصول: «فأتاه... فقال...».

فتركتها(1) أنا - ثم قال: هل تروي لشاعر الشعراء؟ قلت: و من هو؟ قال: الذي يقول:

/

و لو أنّ حمدا يخلد الناس أخلدوا *** و لكنّ حمد النّاس ليس بمخلد

قلت: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قلت: و بم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام و كان يتجنّب وحشيّ الشعر، و لم يمدح أحدا إلاّ بما فيه. قال الأصمعيّ: يعاظل بين الكلام: يداخل فيه(2). و يقال: يتّبع حوشيّ الكلام، و وحشيّ الكلام، و المعنى واحد.

كان قدامة بن موسى يقدّمه على سائر الشعراء:

أخبرنا أبو خليفة قال قال ابن سلاّم و أخبرني عمر بن موسى الجمحيّ عن أخيه قدامة بن موسى - و كان من أهل العلم -: أنه كان يقدّم زهيرا. قلت: فأيّ شيء كان أعجب إليه؟ قال: الذي يقول فيه:

قد جعل المبتغون الخير من هرم *** و السائلون إلى أبوابه طرقا

قال جرير هو أشعر أهل الجاهلية:

قال ابن سلاّم و أخبرني أبو قيس العنبريّ - و لم أر بدويّا يفي به - عن عكرمة بن جرير قال:

قلت لأبي: يا أبت من أشعر الناس؟ قال: أ عن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ قلت: ما أردت إلاّ الإسلام. فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها. قال: زهير أشعر أهلها. قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبعة الشعر. /قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك و يصيب وصف الخمر. قلت فما تركت لنفسك؟ قال:

نحرت الشعر نحرا.

قال عنه الأحنف بن قيس هو أشعر الشعراء:

أخبرني الحسن بن عليّ قال أخبرنا الحارث بن محمد عن المدائنيّ عن عيسى بن يزيد قال:

سأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، فقال: زهير. قال: و كيف؟ قال: ألقى عن المادحين فضول الكلام. قال: مثل ما ذا؟ قال: مثل قوله:

فما يك من خير أتوه فإنّما *** توارثه آباء آبائهم قبل

مدح عمر بن الخطاب شعره و روى منه:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو القيسيّ قال حدّثنا خارجة بن عبد اللّه بن سليمان عن زيد بن ثابت عن عبد اللّه بن أبي سفيان عن أبيه عن ابن عبّاس، قال: و حدّثنيه غيره و هو أتمّ من حديثه، قال قال ابن عبّاس:

خرجت مع عمر في أوّل غزاة غزاها. فقال لي ذات ليلة: يا بن عبّاس أنشدني لشاعر الشعراء. قلت: و من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمى. قلت: و بم صار كذلك؟ قال: لأنه لا يتّبع حوشي الكلام، و لا يعاظل

ص: 444


1- ذكرت هذه القصة مفصلة في الطبري ق 1 ص 2768-2771 فراجعه.
2- يعاظل الكلام: يحمل بعضه على بعض و يتكلم بالرجيع من القول و يكرر اللفظ و المعنى. أو يعقده و يوالي بعضه على بعض. و كل شيء ركب شيئا فقد عاظله. («اللسان» في مادة عظل).

من(1) المنطق، و لا يقول إلاّ ما يعرف، و لا يمتدح الرجل إلاّ بما يكون فيه. أ ليس الذي يقول:

إذا ابتدرت(2) قيس بن عيلان غاية *** من المجد من يسبق إليها يسوّد

/سبقت إليها كلّ طلق(3) مبرّز *** سبوق إلى الغايات غير مزنّد

كفعل جواد يسبق الخيل عفوه ال *** سّراع(4) و إن يجهد و يجهدن يبعد

و لو كان حمد يخلد الناس لم تمت *** و لكنّ حمد النّاس ليس بمخلد

أنشدني له، فأنشدته حتى برق الفجر. فقال: حسبك الآن، اقرأ القرآن. قلت: و ما أقرأ؟ قال: اقرأ الواقعة، فقرأتها و نزل فأذّن و صلّى.

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثني أبي قال حدّثنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا أبو عبيدة عن عيسى بن يزيد بن بكر قال قال ابن عبّاس: خرجت مع عمر، ثم ذكر الحديث نحو هذا.

استعاذ منه النبي صلى اللّه عليه و سلم فما قال شعرا حتى مات:

وجدت في بعض الكتب عن عبد اللّه/بن شبيب عن الزّبير بن بكّار عن حميد بن محمد بن عبد العزيز الزّهريّ عن أخيه إبراهيم بن محمد يرفعه:

أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نظر إلى زهير بن أبي سلمى و له مائة سنة فقال: «اللهم أعذني من شيطانه» فما لاك بيتا حتى مات.

خرج أبوه أبو سلمى مع خاله و ابن خاله لغزو طيء فمنعاه حقه في المغنم، و شعره في ذلك:

قال ابن الأعرابيّ و أبو عمرو الشّيبانيّ:

كان من حديث زهير و أهل بيته أنهم كانوا من مزينة، و كان بنو عبد اللّه بن غطفان جيرانهم، و قدما ولدتهم بنو مرّة. و كان من أمر أبي سلمى أنه خرج و خاله أسعد بن العدير بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض و ابنه كعب/بن أسعد في ناس من بني مرّة يغيرون على طيء، فأصابوا نعما كثيرة و أموالا فرجعوا حتى انتهوا إلى أرضهم. فقال أبو سلمى لخاله أسعد و ابن خاله كعب: أفردا لي سهمي، فأبيا عليه و منعاه حقّه، فكفّ عنهما؛ حتى إذا كان الليل أتى أمّه فقال: و الذي أحلف به لتقومنّ إلى بعير من هذه الإبل فلتقعدنّ عليه أو لأضربنّ بسيفي تحت قرطيك. فقامت أمّه إلى بعير منها فاعتنقت سنامه، و ساق بها أبو سلمى و هو يرتجز و يقول:

ص: 445


1- الذي تقدّم في الصفحة السابقة: «يعاظل في الكلام». و الذي في «اللسان» و شرح «القاموس» في استعمالات هذه المادة أنه يتعدى بنفسه، يقال عاظل الكلام كما يقال عاظل فيه و بينه.
2- يقول: إذا تسابقت قيس بن عيلان لإدراك غاية من المجد تسوّد من سبق إليها كنت السابق إليها. و قيس بن عيلان: قبيلة. (راجع الجزء السادس من «الأغاني» حاشية رقم 1 ص 1 من هذه الطبعة).
3- يقال: رجل طلق اليدين إذا كان معطاء. و ظاهر أنه يريد أن يصف الجواد بأنه ماض يجود بما عنده من العدو. و المبرز: الذي سبق الناس إلى الكرم و الخير. و المزند هنا: البخيل أو اللئيم. و يروى: «غير مجلد» أي ينتهي إلى الغايات من غير أن يجلد و يضرب.
4- في الأصول: «فيسرع». و التصويب عن «الديوان» بشرح الأعلم، و رواية البيت فيه. كفضل جواد الخيل يسبق عفوه ال سراع و إن يجهدن يجهد و يبعد

ويل لأجمال العجوز منّي *** إذا دنوت و دنون منّي

كأنّني سمعمع من جنّ

- سمعمع: لطيف الجسم قليل اللحم - و ساق الإبل و أمّه حتى انتهى إلى قومه مزينة.

فذلك حيث يقول:

و لتغدون إبل مجنّبة *** من عند أسعد و ابنه كعب

- مجنّبة: مجنوبة -

الآكلين صريح قومهما *** أكل الحبارى(1) برعم الرّطب(2)

البرعم(3): شجرة و لها نور - قال: فلبث فيهم حينا، ثم أقبل بمزينة مغيرا على بني ذبيان. حتى إذا مزينة أسهلت و خلّفت بلادها و نظروا إلى أرض غطفان، تطايروا عنه راجعين، و تركوه وحده. فذلك حيث يقول:

من يشتري فرسا لخير غزوها *** و أبت عشيرة ربّها أن تسهلا

/يعني أن تنزل السّهل. قال: و أقبل حين رأى ذلك من مزينة حتى دخل في أخواله بني مرّة. فلم يزل هو و ولده في بني عبد اللّه بن غطفان إلى اليوم.

قال معلقته في مدح هرم بن سنان و الحارث بن عوف و قد حملا دية هرم بن ضمضم في مالهما:

أ من أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

قالها زهير في قتل ورد بن حابس العبسيّ هرم بن ضمضم المرّيّ الذي يقول فيه عنترة و في أخيه:

و لقد خشيت بأن أموت و لم تدر *** للحرب دائرة على ابني ضمضم

و يمدح بها هرم بن سنان و الحارث بن عوف بن سعد بن ذبيان المرّيّين لأنهما احتملا ديته في مالهما؛ و ذلك قول زهير:

سعى ساعيا غيظ بن مرّة بعد ما(4) *** تبزّل ما بين العشيرة بالدّم

يعني بني غيظ بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان.

قال الأثرم أبو الحسن حدّثني أبو/عبيدة قال:

كان ورد بن حابس العبسيّ قتل هرم بن ضمضم المرّيّ، فتشاجر عبس و ذبيان قبل الصلح، و حلف حصين بن ضمضم ألاّ يغسل رأسه حتى يقتل ورد بن حابس أو رجلا من بني عبس ثم من بني غالب، و لم يطلع

ص: 446


1- الحبارى: طائر يضرب به المثل في البلاهة و الحمق، و هو طائر صحراوي يبيض في الرمال النائية.
2- الرطب: الرعي الأخضر من البقل و الشجر، و قبيل جماعة العشب الأخضر.
3- الذي في «اللسان»: أن البرعم كم ثمر الشجر و النور، و قيل هو زهرة الشجر و نور النبت قبل أن يتفتح. و قد استشهد بهذا البيت.
4- ما و الفعل بتأويل المصدر. و تبزل: تشقق، و بالدم: يريد بسفك الدم. يقول: سعى هذان السيدان (هرم بن سنان و الحارث بن عوف) في إحكام العهد بين عبس و ذبيان بعد تشقق الألفة و المودة بين القبيلة بسبب سفك الدماء بين عبس و ذبيان. (انظر «شرح ديوان زهير» للأعلم الشنتمري).

على ذلك أحدا، و قد حمل الحمالة(1) الحارث بن عوف بن أبي حارثة، و قيل بل أخوه حارثة بن(2) سنان.

فأقبل(3) رجل/من بني عبس ثم أحد بني مخزوم، حتى نزل بحصين بن ضمضم. فقال له حصين: من أنت أيّها الرجل؟ قال: عبسيّ. قال: من أيّ عبس؟ فلم يزل ينتسب حتى انتسب إلى بني غالب، فقتله حصين. و بلغ ذلك الحارث بن عوف و هرم بن سنان فاشتدّ عليهما، و بلغ بني عبس فركبوا نحو الحارث. فلمّا بلغه ركوبهم إليه و ما قد اشتدّ عليهم من قتل صاحبهم و أنّهم يريدون قتل الحارث، بعث إليهم بمائة من الإبل معها ابنه، و قال للرسول: قل لهم: الإبل أحبّ إليكم أم أنفسكم؟ فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك. فقال لهم الرّبيع بن زياد: يا قوم إنّ أخاكم قد أرسل إليكم: «الإبل أحبّ إليكم أم ابني تقتلونه مكان قتيلكم». فقالوا نأخذ الإبل و نصالح قومنا، و نتمّ الصّلح. فذلك حين يقول زهير يمدح الحارث و هرما:

أ من أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

و هي أوّل قصيدة مدح بها هرما، ثم تابع ذلك بعد.

قصة زواج الحارث بن عوف ببهيسة بنت أوس و تحمله الدية في ماله بين عبس و ذبيان:

و قد أخبرني الحسن بن عليّ بهذه القصة، و روايته أتمّ من هذه، قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن إسحاق المسيّبيّ قال حدّثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال:

قال الحارث بن عوف بن أبي حارثة: أ تراني(4) أخطب إلى أحد فيردّني؟ قال نعم. قال: و من ذاك؟ قال:

أوس بن حارثة بن لأم الطّائيّ. فقال الحارث لغلامه: ارحل بنا، ففعل. فركبا حتى أتيا أوس بن حارثة في بلاده فوجداه في منزله. فلمّا رأى الحارث بن عوف قال: مرحبا بك يا حار. قال: /و بك. قال: ما جاء بك يا حار؟ قال: جئتك خاطبا. قال: لست هناك. فانصرف و لم يكلّمه. و دخل أوس على امرأته مغضبا و كانت من عبس فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل و لم تكلّمه؟ قال: ذاك سيّد العرب الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرّيّ. قالت: فما لك لم(5) تستنزله؟ قال: إنه استحمق. قالت: و كيف؟ قال: جاءني خاطبا. قالت: أ فتريد أن تزوّج بناتك؟ قال نعم. قالت: فإذا لم تزوّج سيّد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك. قالت: فتدارك ما كان منك. قال بما ذا؟ قالت: تلحقه فتردّه. قال: و كيف و قد فرط منّي ما فرط إليه؟ قالت تقول له: إنك لقيتني مغضبا بأمر لم تقدّم فيه(6) قولا، فلم يكن عندي فيه من الجواب إلا ما سمعت، فانصرف و لك عندي كلّ ما أحببت فإنه سيفعل. فركب في أثرهما. قال خارجة بن سنان: فو اللّه إني لأسير إذ حانت منّي التفاتة فرأيته، فأقبلت على الحارث و ما يكلّمني غمّا فقلت له: هذا أوس بن حارثة في أثرنا. قال: و ما نصنع به! امض! فلمّا

ص: 447


1- الحمالة: الدية.
2- في «شرح التبريزي» و ابن الأنباري على «المعلقات» و الأعلم الشنتمري و «شرح ثعلب لديوان زهير»: «و قد حمل الحمالة الحارث بن عوف بن أبي حارثة و هرم بن سنان بن أبي حارثة».
3- في الأصول: «فأقبل على رجل إلخ» و التصويب عن المصادر المتقدّمة.
4- هكذا في الأصول. و لم يذكر المخاطب الذي كان يحدثه. و باقي القصة يعين أنه خارجة بن سنان.
5- في ب، س: «لاستنزله».
6- كذا في ج. و في سائر الأصول: «لم تقدّم مني فيه قولا».

رآنا لا نقف عليه صاح: يا حار اربع عليّ ساعة. فوقفنا له فكلّمه بذلك الكلام فرجع مسرورا. فبلغني أن أوسا لمّا دخل منزله قال لزوجته أدعي لي فلانة (لأكبر بناته) فأتته، فقال: يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيّد من سادات العرب، قد جاءني طالبا خاطبا، و قد أردت أن أزوّجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. /قال: و لم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردّة(1)، و في خلقي بعض العهدة(2)، و لست بابنة عمّه فيرعى رحمي، و ليس بجارك في البلد فيستحي منك، و لا آمن أن يرى منّي ما يكره فيطلّقني فيكون عليّ في ذلك ما فيه. قال: قومي بارك اللّه عليك.

ادعي لي فلانة (لابنته الوسطى)؛ فدعتها، ثم قال لها مثل قوله لأختها؛ فأجابته بمثل/جوابها و قالت: إني خرقاء و ليست بيدي صناعة، و لا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلّقني فيكون عليّ في ذلك ما تعلم، و ليس بابن عمّي فيرعى حقّي، و لا جارك في بلدك فيستحييك. قال: قومي بارك اللّه عليك. أدعي لي بهيسة (يعني الصغرى)، فأتي بها فقال لها كما قال لهما. فقالت: أنت و ذاك. فقال لها: إني قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. فقالت - و لم يذكر لها مقالتيهما - لكنّي و اللّه الجميلة وجها، الصّناع يدا، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلّقني فلا أخلف اللّه عليه بخير.

فقال: بارك اللّه عليك. ثم خرج إلينا فقال: قد زوّجتك يا حارث بهيسة بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمّها أن تهيّئها و تصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له، و أنزله إيّاه. فلمّا هيّئت بعث بها إليه. فلمّا أدخلت إليه لبث هنيهة ثم خرج إليّ. فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا و اللّه. قلت: و كيف ذاك؟ قال: لمّا مددت يدي إليها قالت: مه! أ عند أبي و إخوتي!! هذا و اللّه ما لا يكون. قال: فأمر بالرّحلة فارتحلنا و رحلنا بها معنا، فسرنا ما شاء اللّه. ثم قال لي: تقدّم فتقدمت، و عدل بها عن الطريق، فما لبث أن لحق بي. فقلت: أفرغت؟ قال لا و اللّه. قلت: و لم؟ قال:

قالت لي: أ كما يفعل بالأمة الجليبة أو السبيّة الأخيذة! لا و اللّه حتى تنحر الجزر، و تذبح الغنم و تدعو العرب، و تعمل ما يعمل لمثلي. قلت: و اللّه إني لأرى همّة و عقلا، و أرجو أن تكون المرأة منجبة إن شاء اللّه. فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل و الغنم، ثم دخل عليها و خرج إليّ. فقلت: أفرغت؟ قال لا. قلت: و لم؟ قال: دخلت عليها أريدها، و قلت لها قد أحضرنا من المال ما قد ترين، فقالت: و اللّه لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك.

قلت: و كيف؟ قالت: أتفرغ لنكاح النّساء و العرب تقتل بعضها! (و ذلك في أيام حرب عبس و ذبيان). قلت: فيكون ما ذا؟ قالت: اخرج/إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم، ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك. فقلت: و اللّه إني لأرى همّة و عقلا، و لقد قالت قولا. قال: فاخرج بنا. فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا فيما بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحتسبوا القتلى؛ فيؤخذ الفضل ممن هو عليه، فحملنا عنهم الدّيات، فكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين، فانصرفنا بأجمل الذّكر. قال محمد بن عبد العزيز: فمدحوا بذلك، و قال فيه زهير بن أبي سلمى قصيدته:

أ من أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

فذكرهما فيها فقال:

تداركتما عبسا و ذبيان بعد ما *** تفانوا و دقّوا بينهم عطر منشم(3)

ص: 448


1- الردة: القبح مع شيء من الجمال.
2- العهدة: الضعف.
3- منشم زعموا أنها امرأة عطارة من خزاعة، فتحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها على أن يقاتلوا حتى يموتوا، فضرب زهير بها المثل، أي صار هؤلاء في شدة الأمر بمنزلة أولئك. و قيل: هي امرأة من خزاعة كانت تبيع عطرا فإذا حاربوا اشتروا منها كافورا لموتاهم فتشاءموا بها، و كانت تسكن مكة. و فيه أقوال أخرى كثيرة راجعها في «لسان العرب» (في مادة نشم) و أمثال الميداني في «أشأم من منشم» و في «شرح الأعلم الشنتري» لديوان زهير.

فأصبح يجري فيهم من تلادكم *** مغانم شتّى من إفال(1) المرنّم

ينجّمها(2) قوم لقوم غرامة *** و لم يهريقوا بينهم ملء محجم

و ذكر قيامهم في ذلك فقال:

«صحا القلب عن سلمى و قد كاد(3) لا يسلو»

/و هي قصيدة يقول فيها:

تداركتما الأحلاف(4) قد ثلّ عرشها *** و ذبيان قد زلّت بأقدامها النّعل

و هذه لهم شرف إلى الآن، و رجع فدخل بها، فولدت له بنين و بنات.

مدح بقصيدته القافية هرما و أباه و إخوته:
اشارة

و مما مدح به هرما و أباه و إخوته و غنّي فيه قوله:

صوت

إنّ الخليط(5) أجدّ البين فانفرقا *** و علق القلب من أسماء ما علقا

و أخلفتك ابنة البكريّ ما وعدت *** فأصبح الحبل منها واهنا(6) خلقا

قامت تبدّى بذي ضال لتحزنني *** و لا محالة أن يشتاق من عشقا

بجيد مغزلة أدماء خاذلة *** من الظباء تراعي شادنا خرقا

انفرق: انفعل، من الفرقة. و أجدّ و جدّ بمعنى واحد، من الجدّ خلاف اللعب. و الواهن و الواهي واحد.

و الحبل: السّبب في المودّة(7). و الضّال: السّدر الصّغار، واحدتها ضالة. و الجيد: العنق. و المغزلة: الظبية التي لها غزال. و الأدماء: البيضاء. و الخاذلة: المقيمة على ولدها و لا تتبع الظباء. و الشّادن: الذي قد شدن أي تحرّك و لم يقو بعد. و الخرق: الدّهش.

غنّى مالك في الأوّل و الثاني من الأبيات خفيف رمل بالوسطى، و قيل إنه لابن جامع، و قيل بل لحن ابن

ص: 449


1- الإفال: جمع أفيل و هو الصغير من الإبل، و المزنم: اسم فحل معروف. و التلاد: المال القديم الموروث. و إنما خص الإفال لأنهم كانوا يغرمون في الدينة صغار الإبل. (عن الأعلم). و يروي هذا البيت في شرح «القاموس» (في مادة «زنم») هكذا): فأصبح يحدي فيهم من تلادكم مغانم شتى من إفال مزنم
2- ينجمها قوم: أي تجعل نجوما أي أقساطا على غارمها. يريد أن هذين الساعيين حملا دماء من قتل و غرم فيها قوم من رهطهما على أنهم لم يصبوا ملء محجم من دم، أي أعطوا فيها و لم يقتلوا (عن الأعلم).
3- في أ، م: «كان».
4- الأحلاف: أسد و غطفان و طيء. و ثلّ عرشها: أي أصابها ما كسرها و هدمها. و ذبيان: قبيلة الممدوحين و هم من غطفان. و إنما فصلهم منهم لأن حصين بن ضمضم المري جنى عليهم الحرب و هو منهم لأن مرة من ذبيان. و يقال «زلت بأقدامها النعل» إذا وقعت القبيلة في حيرة و ضلال. (عن الأعلم).
5- الخليط: المخالط، و يقال للجمع أيضا خليط.
6- في أ، م: «واهيا» بالياء المثناة.
7- في أ، م: «المحبة».

جامع بالبنصر. و في الثالث و الرابع لابن المكّيّ رمل صحيح من روايتي بذل و الهشاميّ.

/و في هذه القصيدة يقول يمدح هرما:

قد جعل المبتغون الخير من هرم *** و السائلون إلى أبوابه طرقا

من يلق يوما على علاّته هرما *** يلق السماحة منه و النّدى خلقا

ليث بعثر(1) يصطاد اللّيوث(2) إذا *** ما اللّيث كذّب(3) عن أقرانه صدقا

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطّعنوا *** ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا(4)

خرف سنان بن أبي حارثة ثم مات فرثاه:

و من مدائحه(5) إيّاهم قوله يمدح أبا هرم سنان بن أبي حارثة. و ذكر ابن الكلبيّ أنه هوي امرأة فاستهيم بها؛ و تفاقم به ذلك حتى فقد فلم يعرف له خبر. فتزعم بنو مرّة أنّ الجنّ استطارته فأدخلته بلادها، و استعجلته لكرمه. و ذكر أبو عبيدة أنّه قد كان هرم حتى بلغ مائة و خمسين سنة؛ فهام على وجهه خرقا ففقد. قال: فزعم لي شيخ من علماء بني مرّة أنه خرج لحاجته بالليل فأبعد، فلمّا رجع ضلّ (6) فهام طول ليلته حتى سقط فمات، و تبع قومه أثره فوجدوه ميّتا فرثاه(7) زهير بقوله:

إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلها(8) *** ما تبتغي غطفان يوم أضلّت(9)

/إنّ الرّكاب(10) لتبتغي ذا مرّة *** بجنوب نجد(11) إذا الشهور أحلّت

ينعين خير الناس عند شديدة *** عظمت مصيبته هناك و جلّت

و مدفّع ذاق الهوان ملعّن *** راخيت عقدة حبله(12) فانحلّت

و لنعم حشو الدّرع كان إذا سطا(13) *** نهلت من العلق(14) الرّماح و علّت

ص: 450


1- عثر: (بتشديد الثاء) اسم موضع باليمن، و قيل: هي أرض مأسدة بناحية تبالة.
2- في ح و «الديوان»: «الرجال».
3- كذب: أي لم يصدق الحملة. يقال: كذب الرجل عن كذا إذا رجع عنه. يقول: إذا رجع الشجاع عن قرنه و لم يصدق الحملة عليه فهذا الممدوح يصدقها. (عن الأعلم).
4- اعتنق: التزم قرنه. يقول: إذا ارتمى الناس في الحرب بالنبل دخل هو تحت الرمي فجعل يطاعنهم، فإذا تطاعنوا ضارب بالسيف، فإذا تضاربوا بالسيوف اعتنق قرنه و التزمه، أي أنه يزيد عليهم في كل حال من أحوال الحرب. (عن الأعلم).
5- الأبيات الآتية في الرثاء. و الرثاء ضرب من المدح.
6- في الأصول: «مثل» و هو تحريف.
7- في الأعلم: «و قيل إنما رثى بالأبيات حصن بن حذيفة».
8- في أ، م: «بعدها».
9- يقال: ضل فلان الطريق و أضل بعيره يقال الأوّل للثابت و الثاني لغيره.
10- الركاب: الإبل، و المراد راكبوها. و ذا مرة أي ذا عقل و رأي مبرم. و قوله «إذا الشهور أحلت» أي إذا دخلت الشهور التي يحل فيها الغزو.
11- في «ديوان زهير بشرح الأعلم» النحوي: «بجنوب نخل».
12- في أ، م: «كبله» و الكبل: القيد.
13- في «شرح الأعلم»: «و لنعم حشو الدرع أنت لنا إذا».
14- العلق: الدم.
أشعار له غنّى فيها:
اشارة

/و الذي فيه غناء من مدائح زهير قوله:

صوت

أ من أمّ سلمى(1) عرفت الطّلولا *** بذي حرض ما ثلاث مثولا

بلين و تحسب آياتهن *** على(2) فرط حولين رقّا محيلا(3)

الماثل هاهنا: اللاطئ بالأرض، و في موضع آخر: المنتصب القائم. و ذو حرض: موضع. و الحرض:

الأشنان. و آياتهنّ: علاماتهنّ. و فرط حولين: تقدّم حولين، و الفارط: المتقدّم.

غنّى في هذين البيتين إسحاق، و له فيهما لحنان: أحدهما ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، من كتابه. و الآخر ما خوريّ من مجموع غنائه، و روايته عن الهشاميّ. و فيهما للزّبير بن دحمان خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو. يقول فيها:

إليك سنان الغداة الرّحي *** ل أعصي النّهاة و أمضي الفئولا

جمع فأل، أي لا أتطيّر.

/

فلا تأمني(4) غزو أفراسه *** بني وائل و احذريه جديلا

و كيف اتقاء امرئ لا يئو *** ب بالقوم في الغزو حتى يطيلا(5)

و من الغناء في مدائح هرم قوله:

صوت

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم *** بلى و غيّرها الأرواح و الدّيم

كأنّ عيني و قد سال السّليل بهم *** و عبرة(6) ما هم لو أنّهم أمم

غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق *** في السّلك خان به ربّاته النّظم

الدّيم: جمع ديمة و هو المطر الذي يدوم يوما أو يومين مع سكون. سال السّليل بهم: أي ساروا فيه سيرا سريعا. و السّليل: واد. و قوله و عبرة ما هم أي هم عبرة(7)، و ما هاهنا صلة. لو أنهم أمم أي قصد كنت أزوهم. و الأمم: بين القريب و البعيد. و القلق: الذي لم يستقرّ لما انقطع الخيط. و النّظم: جمع واحدها نظام، شبّه دموعه بلؤلؤ انقطع سلكه، و بماء سال من الغرب.

ص: 451


1- في «شرح الأعلم»: «أ من آل ليلى إلخ».
2- في «شرح الأعلم»: «عن».
3- المحيل: الذي أتى عليه حول. شبه رسوم الدار برق مكتوب قد أتى عليه حول بحيث يتغير و يدرس.
4- يريد: يا بني وائل لا تأمني غزو فرسانه، و يا جديلة احذريه. و جديلة أم فهم و عدوان، و كان سنان يجاورهم. (عن الأعلم).
5- أي هو مطيل للغزو لأنه يتتبع أقصى أعدائه فلا يئوب بالقوم من غزوة إلا بعد مدة طويلة. فاتقاء مثل هذا أشد اتقاء. (عن الأعلم).
6- روي في «لسان العرب» مادة أمم: «و جيرة» و كذلك روي في مادة سلل مردفا بقوله: «و يروى: و عبرة».
7- أي هم سبب بكائي و حزني.

الغناء في هذه الأبيات رمل لابن المكيّ بالوسطى عن عمرو. و ذكر عمرو أن لإسحاق فيها لحنا أيضا.

و ذكر يونس أن فيها لحنا لمالك.

صوت

لمن الدّيار بقنّة الحجر(1) *** أقوين مذ حجج(2) و مذ دهر

/لعب الرّياح بها و غيّرها *** بعدي سوافي الرّيح(3) و القطر

دع ذا و عدّ القول في هرم *** خير الكهول و سيّد الحضر

لو كنت من شيء سوى بشر *** كنت المنوّر ليلة البدر

القنّة: الجبل الذي ليس بمنتشر. أقوين: خلون. و السّوافي: ما تسفي الرياح(4). قال: و القطر مخفوضة بنسقه على الرّيح(5)، و القطر لا سوافي(6) له. و هذا تفعله العرب في المجاورة، و هو مثل/قولهم: حجر ضبّ خرب.

غنّى في هذه الأبيات سائب خائر من رواية حمّاد عن أبيه، و لم يجنّسه. و فيه ثقيل أوّل بالبنصر نسبه عمرو بن بانة إلى معبد، و نسبه غيره إلى سائب، و إلى الأوسيّة مما ذكر حبش. قال: و هي من قيان الحجاز القدائم مولاة للأوس.

و منها قوله يمدح سنان بن أبي حارثة:

صوت

صحا القلب عن سلمى و قد كاد(7) لا يسلو *** و أقفر من سلمى التّعانيق فالثّقل

و قد كنت من سلمى سنين ثمانيا *** على صير أمر ما يمرّ و ما يحلو

و كنت إذا ما جئت يوما لحاجة *** مضت و أجمّت حاجة الغد ما تخلو

و كلّ محبّ أحدث النأي عنده *** سلوّ فؤاد غير حبّك ما يسلو

تأوّبني ذكر الأحبّة بعد ما *** هجعت و دوني قلّة الحزن فالرّمل

/فأقسمت جهدا بالمنازل من منى *** و ما سحفت فيه المقاديم(8) و القمل

ص: 452


1- الحجر: موضع بعينه و هو حجر اليمامة.
2- في ج و «ديوانه»: «من حجج و من شهر».
3- في «شرح الأعلم»: «المور» و هو التراب.
4- هذا على الرواية التي ذكره المؤلف. و على رواية الأعلم يراد بالسوافي الرياح، يعني أن الرياح و الأمطار تردّدت على هذه الديار حتى عفت رسومها و غيرت آثارها بما سفت الرياح عليها من التراب و محت الأمطار من الآثار.
5- في الأصول: «على الرياح».
6- إذا فسرت السوافي بالرياح فيصح أن يكون القطر مما تسفيه الرياح.
7- في أ، م: «كان».
8- المقاديم: جمع مقدم الرأس، و أراد بالقمل: الشعر الذي فيه القمل، على تقدير مضاف، أي و شعر القمل. و قد يراد على معناه فإنه تابع و مسحوف مع المقاديم و شعرها.

لأرتحلن بالفجر ثم لأدأبن *** إلى الليل إلاّ أن يعرّجني طفل

و هل ينبت الخطّيّ إلاّ وشيجه *** و تغرس إلاّ منابتها النّخل(1)

التّعانيق و الثّقل: موضعان. و يروى: فالنّخل. و قوله على صير أمر: أي على شرف أمر. و أجمّت:

دنت. و تأوّبني: أتاني ليلا. و التأويب: سير يوم إلى الليل. سحفت: حلقت، يقال سحف رأسه و سبته و جلطه:

حلقه. و قوله «يعرّجني طفل» قال يقال الطّفل: الليل، و يقال الطّفل: مغيب الشمس، و قال أبو عبيدة: الطفل:

الحزن، و إيقاده نار(2) التّحيير. و الخطّيّ: رماح نسبها إلى الخطّ و هي من جزيرة بالبحرين ترفأ إليها سفن الرماح. و الوشيج: القنا واحدها وشيجة. و الوشوج: دخول الشيء بعضه في بعض.

غنّى إبراهيم الموصليّ في الأوّل و الثاني ثقيلا أوّل بالبنصر من رواية الهشاميّ و عمرو. و غنّى إبراهيم أيضا في السادس و السابع و الثامن خفيف ثقيل. و في الثالث لمعبد خفيف ثقيل. و لعلّويه في السابع و الثامن خفيف رمل. و ذكر حبش أن لإبراهيم في الثامن لحنا ماخوريّا.

و من الغناء في مدائحه هرما قوله:

صوت

لمن طلل برامة لا يريم(3) *** عفا و أحاله عهد قديم(4)

/تطالعني خيالات لسلمى *** كما يتطالع الدّين الغريم

غنّاه دحمان ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و عفا: درس هاهنا، و في موضع آخر: كثر، و هو من الأضداد.

و خيالات: جمع خيال.

أنشد عمر رضي اللّه عنه شعرا له في هرم بن سنان فمدحه:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة، و قال المهلّبيّ في خبر له عن الأصمعيّ قال:

أنشد عمر بن الخطاب قول زهير في هرم بن سنان يمدحه:

دع ذا و عدّ القول في هرم *** خير الكهول و سيّد الحضر

لو كنت من شيء سوى بشر *** كنت المنوّر ليلة البدر

و لأنت أوصل منح سمعت به *** لشوابك الأرحام و الصّهر

/و لنعم حشو الدّرع أنت إذا *** دعيت نزال و لجّ (5) في الذّعر

ص: 453


1- هذا البيت وارد في «ديوانه» في القصيدة بعد أبيات عدّة لم يذكرها أبو الفرج، و قبله: فما يك من خير أتوه فإنما توارثه إباء آبائهم قبل
2- نار التحيير: هي النار التي توقد لهداية الحائر.
3- لا يريم: لا يبرح.
4- رواية «الديوان»: عفا و خلاله حقب قديم
5- في أ، م: «لز» بالزاي.

و أراك تفري(1) ما خلقت و بع *** ض القوم يخلق ثم لا يفري

أثني عليك بما علمت و ما *** أسلفت في النّجدات من ذكر

و السّتر دون الفاحشات و لا *** يلقاك دون الخير من ستر

فقال عمر: ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.

قال عمر لبعض ولد هرم قد خلد ذكره لكم:

قال و قال عمر لبعض ولد هرم: أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده. فقال عمر: إن كان ليحسن فيكم القول. قال: و نحن و اللّه إن كنّا لنحسن له العطاء. فقال: قد ذهب ما أعطيتموه و بقي ما أعطاكم.

حلف هرم أن يعطيه كلما لقيه:

قال: و بلغني أنّ هرما كان قد حلف ألاّ يمدحه زهير إلاّ أعطاه، و لا يسأله إلاّ أعطاه، و لا يسلّم عليه إلاّ أعطاه: عبدا أو وليدة أو فرسا. فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحا غير هرم، و خيركم استثنيت. و روى المهلّبيّ: و خيركم تركت.

سأل عمر ابنه عن الحلل التي كساه إياها هرم فأجابه:

أخبرني الجوهريّ و المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّه قال:

قال عمر لابن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر. قال: لكنّ الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر. و قد ذكر الهيثم بن عديّ أن عائشة خاطبت بهذه المقالة بعض بنات زهير.

شعر له مدح به هرما و لم يسبقه إليه أحد:

و قال أبو زيد عمر بن شبّة: و مما سبق فيه زهير في مدح هرم و لم يسبقه إليه أحد قوله:

قد جعل المبتغون الخير من هرم *** و السائلون إلى أبوابه طرقا

من يلق يوما على علاّته هرما *** يلق السّماحة منه و النّدى خلقا

يطلب شأو امر أين قدّما حسبا(2) *** بذّا الملوك و بذّا هذه السّوقا

هو الجواد فإن يلحق بشأوهما *** على تكاليفه فمثله لحقا

أو يسبقاه على ما كان من مهل(3) *** فمثل ما قدّما من صالح سبقا

ص: 454


1- تفري: تقطع. و خلقت أي قدرت الأديم و هيأته للقطع و الخرز. و المعنى: أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له و أنفذته و لم تعجز عنه، و بعض القوم يقدر الأمر و يتهيأ له ثم لا يقدم عليه و لا يمضيه عجزا و ضعف همة. (عن «شرح الأعلم»).
2- رواية هذا البيت في «شرح الأعلم» للديوان. يطلب شأو امرأين قدّما حسنا نالا الملوك و بذّا هذه السوقا و أراد بالمرأين: أباه وجده. يقول: تساوى أبواه بالملوك و سبقا أوساط الناس و هو يطلب سبقهما، و ذلك شديد لأنهما لا يجاريان في فعل. (عن «شرح الأعلم»).
3- المهل: التقدّم. يقال أخذ فلان المهلة و المهل على فلان إذا تقدمه. يقول: إن الممدوح معذور إذا سبقه أبواه و أخذا عليه المهلة في الشرف؛ لأن مثل فعلهما و ما قدماه من صالح سعيهما سبق من جاراهما. (عن «شرح الأعلم»).
مدح عبد الملك بن مروان شعره في مدح آل أبي حارثة:

أخبرني الجوهريّ و المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال قال المدائنيّ:

قال عبد الملك بن مروان: ما يضرّ من مدح بما مدح به زهير آل أبي حارثة من قوله:

على مكثريهم رزق من يعتريهم(1) *** و عند المقلّين السّماحة و البذل

ألاّ يملك أمور الناس (يعني الخلافة). قال ثم قال: ما ترك منهم زهير غنيّا و لا فقيرا إلاّ وصفه و مدحه.

مدح عثمان بن عفان شعرا له:

و قال ابن الأعرابيّ قال أبو زياد الكلابيّ: أنشد عثمان بن عفّان قول زهير:

و منهما تكن عند امرئ من خليقة *** و إن خالها تخفى على النّاس تعلم

فقال: أحسن زهير و صدق، لو أنّ رجلا دخل بيتا في جوف بيت لتحدّث به الناس. قال و قال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم:

«لا تعمل عملا تكره أن يتحدّث عنك به».

تمثل عروة بن الزبير ببيت له و قد استخف به عبد الملك بن مروان:

قال و قال عليّ بن محمد المدائنيّ حدّثني ابن جعدويه:

أنّ عروة بن الزّبير لحق بعبد الملك بن مروان بعد قتل أخيه عبد اللّه بن الزّبير. فكان إذا دخل إليه منفردا أكرمه، و إذا دخل عليه و عنده أهل الشام استخفّ به. فقال له يوما: يا أمير المؤمنين، بئس المزور أنت؛ تكرم ضيفك في الخلا، و تهينه في الملا، و قال(2): للّه درّ زهير حيث يقول:

/

فقرّي في بلادك إنّ قوما *** متى يدعوا بلادهم يهونوا

ثم استأذنه في الرّجوع إلى المدينة، فقضى حوائجه و أذن له. و هذا البيت من قصيدة لزهير قالها في بني تميم، و قد بلغه أنها حشدت لغزو غطفان؛ أوّلها:

/

ألا أبلغ لديك بني تميم *** و قد يأتيك بالخبر الظّنون

الظّنون: الذي لست منه على ثقة. و الظنين: المتّهم.

شعره في الحارث بن ورقاء و قد أخذ إبله و غلا:
اشارة

كان الحارث بن ورقاء الصّيداوي من بني أسد أغار على بني عبد اللّه بن غطفان فغنم فاستاق(3) إبل زهير و راعيه يسارا. فقال زهير:

بان(4)

الخليط و لم يأووا لمن تركوا *** و زوّدوك اشتياقا أيّة سلكوا

ص: 455


1- يعتريهم: يقصدهم و يطلب ما عندهم.
2- في أكثر النسخ: «فقال» و في ج: «قال».
3- كذا في ب، س. و في سائر النسخ: «فاستخف».
4- كذا في «الديوان». و في الأصول: «إن الخليط». و الخليط: الأصحاب المخالطون في الدار. و لم يأووا: أي لم يرحموا و لم يرقوا.

و هي طويلة يقول فيها:

لئن حللت بجوّ(1) في بني أسد *** في دين(2) عمرو و حالت بيننا فدك

ليأتينّك مني منطق قذع *** باق كما دنّس القبطيّة(3) الودك

فاردد يسارا و لا تعنف عليه و لا *** تمعك(4) بعرضك إنّ الغادر المعك

و لا تكونن كأقوام علمتهم *** يلوون ما عندهم حتى إذا نهكوا(5)

طابت نفوسهم عن حقّ خصمهم *** مخافة الشّرّ و ارتدّوا لما تركوا(6)

/و في هذه القصيدة مما يغنّى فيه:

صوت

أهوى لها أسفع الخدّين مطّرق *** ريش القوادم لم ينصب(7) له شرك

و قد(8) أكون أمام الحيّ تحملني *** جرداء لا فحج فيها و لا صكك

أهوى لها - يعني القطاة تقدّم وصفه إيّاها - صقر. و رواه الأصمعيّ: «هوى لها» و قال: هوى: انقضّ، و أهوى: أوفى. و مطّرق: ريشه بعضه على بعض ليس بمنتشر، و هو أعتق له. و قوله لم ينصب له شرك: أي لم يصطد و لم يذلّل. و القوادم: العشر المتقدّمات. و الفحج: تباعد ما بين الفخذين. و الصّكك: اصطكاك العرقوبين في الدوابّ، و في الناس الركبتين. قال: فلمّا أنشد الحارث هذا الشعر بعث بالغلام إلى زهير. و قيل: بل أنشد قول زهير:

تعلّم أنّ شرّ النّاس حيّ *** ينادى في شعارهم يسار(9)

ص: 456


1- جو: واد.
2- كذا في ج و «الديوان» و ياقوت في كلامه على فدك. و المراد بدين عمرو: طاعته و سلطانه. و عمرو هو عمرو بن هند الملك. و في سائر النسخ و ياقوت في كلامه على دير عمرو: «دير عمرو». و قال: «دير عمرو: جبال في طيء قرب قرية لهم يقال لها جو». ثم ذكر هذا البيت و الذي بعده. و فدك: قرية بالحجاز بينها و بين المدينة يومان أو ثلاثة.
3- كذا في «الديوان». و القبطية (بضم القاف): ثياب كتان بيض رقاق تعمل بمصر منسوبة إلى القبط (بكسر القاف) على غير قياس. و في الأصول «القطيفة» و هو تحريف. و الودك: الدسم. يقول: لئن حللت بحيث لا أدركك ليردن عليك هجوي و لأدنسنّ به عرضك كما يدنس الودك القبطية.
4- المعك: المطل و زنا و معنى. و المعك (بكسر العين): المطول. يقول: لا تمطلني بيسار فمطلك غدر. و كلما مطلني لحق ذلك بعرضك.
5- يلوون ما عندهم أي يمطلون بما عليهم من الدين. و نهكوا: شتموا و بولغ في هجائهم. (عن «شرح الأعلم»).
6- أي لما أوذوا بالهجاء دفعوا الحق إلى صاحبه و ارتدوا إلى إعطاء ما كانوا تركوه و منعوه من الحق مخافة من الشر و إبقاء على أعراضهم. (عن «شرح الأعلم»).
7- رواية «لديوان بشرح الأعلم»: «لم ينصب له الشبك». و نصب ريش القوادم على التشبيه بالمفعول به، كما تقول: زيد حسن الوجه، بنصب الوجه. (راجع «شرح الأعلم»).
8- هكذا غنى في هذا البيت. و أصله كرواية «الديوان»: و قد أروح أمام الحيّ مقتنصا قمرا مراتعها القيعان و النّبك و صاحبي وردة نهد مراكلها جرداء لا فحج فيها و لا صكك
9- الشعار: علامة القوم في سفرهم: اسم رجل أو شيء قد عرفوه فيما بينهم إذا دعوا به عرفوه. و إنما أراد أن يسارا صار عيبا عليهم يعرفون به كما يعرف كل قوم بشعارهم. (عن «شرح الديوان» لثعلب).

و لو لا عسبه(1) لرددتموه *** و شرّ منيحة(2) أير(3) معار

إذا جمحت(4) نساؤكم إليه *** أشظّ(5) كأنّه مسد مغار

/يبربر(6) حين يعدو(7) من بعيد *** إليها و هو قبقاب قطار

فردّه عليه. فلامه قومه و قالوا له: اقتله و لا ترسل به إليه، فأبى عليهم. فقال زهير عند ذلك:

أبلغ لديك بني الصّيداء كلّهم *** أنّ يسارا أتانا غير مغلول

و لا مهان و لكن عند ذي كرم *** و في حبال و فيّ العهد(8) مأمول

و هي قصيدة. فقال الحارث لقومه: أيّما أصلح: ما فعلت أو ما أردتم؟ قالوا: بل ما فعلت.

كان يذكر في شعره بنو غطفان و أحوال بني مرة و يمدحهم:

قال ابن/الأعرابيّ و حدّثني أبو زياد الكلابيّ:

أنّ زهيرا و أباه و ولده كانوا في بني عبد اللّه بن غطفان، و منزلهم اليوم بالحاجر(9)، و كانوا فيه في الجاهلية.

و كان أبو سلمى تزوّج إلى رجل من بني فهر بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان يقال له الغدير(10) - و الغدير هو أبو بشامة الشاعر(11) - فولدت له زهيرا و أوسا، و ولد لزهير من امرأة من بني سحيم. و كان زهير يذكر في شعره بني مرّة و غطفان و يمدحهم. و كان زهير في الجاهلية سيّدا كثير المال حليما معروفا بالورع.

شكا إليه رجل من غطفان بني عليم بن جناب فهجاهم:

قال و حدّثني حمّاد الرواية عن سعيد الرواية عن سعيد بن عمرو بن سعيد:

أنه بلغه أنّ زهيرا هجا آل بيت من كلب من بني عليم بن جناب(12)، و كان بلغه عنهم شيء من وراء وراء، و كان رجل من بني عبد اللّه بن غطفان أتى بني عليم(13)، و أكرموه لمّا نزل بهم و أحسنوا جواره، و كان رجلا مولعا

ص: 457


1- العسب: الضراب و النكاح أو هو ماء الفحل.
2- المنيحة: العارية.
3- في «شرح الأعلم»: «عسب».
4- رواية «اللسان» في مادة شظظ: «جنحت».
5- كذا في «الديوان». و أشظ: أنعظ و اشتدّ. و في الأصول: «أشد». و المسد: الحبل. و المغار: الشديد الفتل.
6- يبربر: يصوت. و القبقاب: من القبقبة و هي هدير الفحل. و القطار (بضم أوله): وصف من القطر أي يسيل، و قيل عن أبي محمد: المنتصب الرافع رأسه. (عن «شرح ثعلب»).
7- كذا في ح و «الديوان» بشرح الأعلم. و في «الديوان» بشرح ثعلب: «يغدو» بالغين المعجمة. و في سائر الأصول: «يبدو».
8- ورد هذا الشطر في «شرح الديوان» للأعلم الشنتمري هكذا: «و في حبال و فيّ غير مجهول». و الحبال: العهود و الذمم.
9- في الأصول: «بالحاجز» بالزاي و هو تصحيف.
10- كذا في «شرح ثعلب»، و قد صححه المرحوم الأستاذ الشنقيطي كذلك في نسخته، و يرجحه ما سيأتي في ص 312 من هذه الترجمة. و في الأصول هنا: «الغابر».
11- كذا في «شرح الديوان» لثعلب في الدخول على قصيدته الهمزية. و في الأصول: «هو أبو يسار هذا» و هو تحريف.
12- كذا في «شرح ثعلب» و «المعارف» لابن قتيبة. و في الأصول: «حبان» و هو تحريف.
13- في الأصول: «غليب» و هو تحريف.

بالقمار فنهوه عنه، فأبى إلاّ المقامرة. قمر مرة فردّوا عليه، ثم قمر أخرى فردّوا عليه، ثم قمر الثالثة فلم يردّوا عليه، فترحّل عنهم و شكا ما صنع به إلى زهير، و العرب حينئذ يتّقون الشعراء اتقاء شديدا. فقال: ما خرجت في ليلة ظلماء إلاّ خفت أن يصيبني اللّه بعقوبة لهجائي قوما ظلمتهم. قال: و الذي هجاهم به قوله:

عفا من آل فاطمة الجواء *** فيمن فالقوام فالحساء(1)

فذو هاش(2) فميث عريتنات(3) *** عفتها الرّيح بعدك و السماء

جرت سنحا فقلت لها أجيزي *** نوى مشمولة فمتى اللّقاء

كأنّ أوابد الثّيران فيها *** هجائن في مغابنها الطّلاء

لقد طالبتها و لكلّ شيء *** و إن طالت لجاجته انتهاء

و قد أغدو على شرب(4) كرام *** نشاوى واجدين لما نشاء

لهم طاس(5) و راووق و مسك *** تعلّ به جلودهم و ماء

الجواء: أرض. و يمن و القوادم: في بلاد غطفان. و الميث: جمع ميثاء. قال أبو عمرو: إذا كان مسيل الماء مثل نصف الوادي أو ثلثيه فهي ميثاء. و السماء هاهنا: /المطر. و السّانح: ما أقبل من شمالك يريد يمينك. و البارح: ضدّه. و قال أبو عبيدة: سمعت يونس بن حبيب يسأل رؤبة عن السانح و البارح فقال: السانح:

ما ولاّك ميامنه. و البارح: ما ولاّك مشائمه. و أجيزي: انفذي. قال الأصمعيّ: يقال أجزت الوادي إذ قطعته و خلّفته، و جزته: إذا سرت فيه فتجاوزته. و الأوابد: الوحشية. و الهجائن: إبل بيض. و المغابن: الأرفاغ، واحدها مغبن.

و مشمولة: سريعة الانكشاف. أخذه من الريح الشّمال إذا كانت مع السحاب لم يلبث أن يذهب(6). و جعل مشمولة هاهنا في النوى لأن نيّتهم كانت سريعة، فأحرى ذلك مجرى الذّمّ، فهذه السّنح.

غنّى في الأوّل و الثاني و السابع معبد ثقيلا أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و ذكر عليّ بن يحيى أنّ للغريض فيها خفيف ثقيل. و ذكر حبش أن فيه للهذليّ ثاني ثقيل بالوسطى. و في الثالث و الرابع مع بيت ليس لزهير أضيف إلى الشعر و هو:

بنفسي من تذكّره سقام *** أعالجه و مطلبه عناء

في(7) هذه الأبيات الثلاثة خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها، ذكر إسحاق أنه للغريض، /و غيره ينسبه إلى ابن سريج و إلى ابن عائشة. و في الرابع و الخامس لعلّويه رمل لا يشكّ فيه من عنائه.

ص: 458


1- الحساء: في بلاد غطفان.
2- ذو هامش: موضع في بلاد غطفان.
3- عريتنات: اسم واد.
4- رواية «الديوان»: و قد أغدو على ثبة كرام و الثبة: الجماعة من الناس.
5- رواية «الديوان»: «لهم راح».
6- في الأصول: «لم تلبث أن تذهب». و عبارة «لسان العرب»: «... و قال ابن السكيت: مشمولة سريعة الانكشاف، أخذه من أن الريح الشمال إذا هبت بالسحاب لم يلبث أن ينحسر و يذهب».
7- في الأصول: «و في».
طلب من خاله بشامة و هو يحتضر أن يقسم له من ماله فقال له أورثتك الشعر:

و قال ابن الأعرابيّ حدّثني أبو زياد، و ذكر بعض هذا الخبر إسحاق الموصليّ عن حمّاد الرواية و عن ابن الكلبيّ عن أبيه قال:

/و كان بشامة بن الغدير خال [زهير بن(1)] أبي سلمى، و كان زهير منقطعا إليه و كان معجبا بشعره. و كان بشامة رجلا مقعدا و لم يكن له ولد، و كان مكثرا من المال، و من أجل ذلك نزل إلى هذا البيت في غطفان لخئولتهم. و كان بشامة أحزم الناس رأيا، و كانت غطفان إذا أرادوا أن يغزوا أتوه فاستشاروه و صدروا عن رأيه، فإذا رجعوا قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم، فمن أجل ذلك كثر ماله. و كان أسعد غطفان في زمانه. فلما حضره الموت جعل يقسم ماله في أهل بيته و بين بني إخوته. فأتاه زهير فقال: يا خالاه لو قسمت لي من مالك!! فقال: و اللّه يا ابن أختي لقد قسمت لك أفضل ذلك و أجزله. قال: و ما هو؟ قال: شعري ورثتنيه، و قد كان زهير قبل ذلك قال الشعر، و قد كان أوّل ما قال. فقال له زهير: الشعر شيء ما قلته فكيف تعتدّ به عليّ؟ فقال له بشامة: و من أين جئت بهذا الشعر! لعلك ترى أنّك جئت به من مزينة، و قد علمت العرب أن حصاتها و عين مائها في الشعر لهذا الحيّ من غطفان ثم لي منهم، و قد رويته(2) عنّي. و أحذاه(3) نصيبا من ماله و مات.

بشامة خاله شاعر مجيد و شيء من شعره:
اشارة

و بشامة شاعر مجيد و هو الذي يقول:

صوت

أ لا ترين و قد قطّعتني(4) قطعا *** ما ذا من الفوت بين البخل و الجود

إلاّ يكن ورق يوما أراح به *** للخابطين فإنّي ليّن العود(5)

الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالبنصر، و قيل: إنه لإبراهيم.

طلق زوجته أم أوفى ثم ندم فقال شعرا:

قال ابن الأعرابيّ:

أمّ أوفى التي ذكرها زهير في شعره كانت امرأته، فولدت منه أولادا ماتوا، ثم تزوّج بعد ذلك امرأة أخرى، و هي أمّ ابنيه كعب و بجير؛ فغارت من ذلك و آذته، فطلّقها ثم ندم فقال فيها:

لعمرك و الخطوب مغيّرات *** و في طول المعاشرة التّقالي

لقد باليت مظعن أمّ أوفى *** و لكن أمّ أوفى ما تبالي(6)

ص: 459


1- وضعنا هذه التكملة لما تقدّم في ص 309.
2- يحتمل أن يكون: «و قد ورثته عني».
3- أحذاه: أعطاه.
4- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «قطعنني» بالنون. و يظهر أن الخطاب لزوجته أو للائمة تلومه في الكرم.
5- يقال: راحت الريح الشيء إذا أصابته. و يقال: خبط الشجرة إذا شدها ثم نقض ورقها.
6- في أ، م: «لا تبالي».

فأمّا إذ نأيت فلا تقولي *** لذي صهر أذلت و لم تذالي(1)

أصبت بنيّ منك و نلت منّي *** من اللّذات و الحلل الغوالي

عانت امرأة ابنه سالما فمات فرثاه:

و قال ابن الأعرابيّ:

كان لزهير ابن يقال له سالم، جميل الوجه حسن الشّعر. فأهدى رجل إلى زهير بردين(2)، فلبسهما الفتى و ركب فرسا له، فمرّ بامرأة من العرب بماء يقال له النّتاءة(3)، فقالت: ما رأيت كاليوم قطّ رجلا و لا بردين(2)و لا فرسا. فعثر به الفرس فاندقّت عنقه و عنق الفرس و انشقّ البردان(2). فقال زهير يرثيه:

رأت رجلا لاقى من العيش غبطة *** و أخطأه فيها الأمور العظائم

و شبّ له فيها بنون و توبعت *** سلامة أعوام له و غنائم

/فأصبح محبورا(4) ينظّر حوله *** بغبطته(5) لو أنّ ذلك دائم

و عندي من الأيّام ما ليس عنده *** فقلت تعلّم أنّما أنت حالم(6)

/لعلّك يوما أن تراعى بفاجع *** كما راعني يوم النّتاءة سالم

قال ابن الأعرابيّ:

هو و قومه شعراء:

كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، و كان أبوه شاعرا، و خاله شاعرا، و أخته سلمى شاعرة، و ابناه كعب و بجير شاعرين، و أخته الخنساء شاعرة، و هي القائلة ترثيه:

و ما يغني توقّي الموت(7) شيئا *** و لا عقد التّميم و لا الغضار

- و الغضار: كان أحدهم إذا خشي على نفسه يعلّق في عنقه خزفا أخضر -

إذا لاقى منيّته فأمسى *** يساق به و قد حقّ الحذار

و لاقاه من الأيّام يوم *** كما من قبل لم يخلد قدار(8)

و ابن ابنه المضرّب(9) بن كعب بن زهير شاعر، و هو القائل:

ص: 460


1- أذال المرأة: هزلها و أهانها. و في المثل: «أخيل من مذالة» و هي الأمة لأنها تهان و هي تتبختر من حمقها.
2- في الأصول: «بردتين... البردتان» قال ابن سيدة: البرد ثوب فيه خطوط و خص بعضهم به الوشي. و البردة: كساء يلتحف به، و قيل غير ذلك. (راجع «اللسان» في مادة برد).
3- النتاءة: ماء لبني عميلة أو ماء لغني. و قال الحفصي. النتاءة نخيلات لبني عطارد. و يوم النتاءة من أيام العرب. («معجم البلدان» لياقوت).
4- المحبور: المنعم. و منه قوله تعالى: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي ينعمون. و ينظر حوله أي ينظر حوله يمينا و شمالا.
5- كذا في «معجم البلدان» في الكلام على النتاءة. و في «الأصول»: «تغبطه». و في «الديوان» بشرح ثعلب: «بمغبطة». و لم ترد هذه الأبيات في «شرح الأعلم».
6- يخاطب ابنه. بقول: ما أنت فيه من السرور و الشباب بمنزلة الحلم.
7- في «اللسان» (في مادة غضر): «توقي المرء».
8- قدار: هو قدار بن سالف عاقر الناقة.
9- في «شرح القاموس» (في مادة ضرب): «و كمحدث (بكسر الدال المشددة) و معظم (بفتح الظاء المشددة) لقب عقبة بن كعب بن زهير. و بالوجهين ضبط في نسخة الصحاح». و في كتاب «الشعر و الشعراء» أنه شبب بامرأة من بني أسد فقال: و لا عيب فيها غير أنك واجد ملاقيها قد ديثت بركوب فضربه أخوها مائة ضربة بالسيف فلم يمت و أخذ الدية، فسمي المضرب.

إني لأحبس نفسي و هي صادية *** عن مصعب و لقد بانت لي الطّرق

/رعوى(1) عليه كما أرعى على هرم *** جدّي زهير و فينا ذلك الخلق

مدح الملوك و سعي في مسرّتهم *** ثم الغنى و يد الممدوح تنطلق

ما امتاز به شعره و كان سبب تقديمه:

أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال:

من قدّم زهيرا احتجّ بأنه كان أحسنهم شعرا، و أبعدهم من سخف، و أجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، و أشدّهم مبالغة في المدح، و أكثرهم أمثالا في شعره.

مرثية ابنه سالم:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الأصمعيّ قال:

كان لزهير ابن يقال له سالم، و كان من أمّ كعب بن زهير؛ فمات أو قتل، فجزع عليه كعب(2) جزعا شديدا، فلامته امرأته و قالت: كأنه لم يصب غيرك من الناس! فقال:

رأت رجلا لاقى من العيش غبطة *** و أخطأه فيها الأمور العظائم

و شبّ له فيها بنون و توبعت *** سلامة أعوام له و غنائم

فأصبح محبورا ينظّر حوله *** بغبطته لو أنّ ذلك دائم

و عندي من الأيّام ما ليس عنده *** فقلت له مهلا فإنك حالم

لعلك يوما أن تراعي بفاجع *** كما راعني يوم النّتاءة سالم

صوت

عزفت و لم تصرم و أنت صروم *** و كيف تصابي من يقال حليم

صددت فأطولت الصدود و لا أرى *** وصالا على طول الصّدود يدوم

/عروضه من الطويل. عزفت عن الشيء: إذا تركته و أبته نفسك. قال ابن الأعرابيّ: يقول لم تصرم صرم بتات. و لكن صرمت صرم دلال. و أطولت الصدود أي أطلته. و إنما قال هذا ضرورة(3). الشعر للمرّار بن سعيد الفقعسيّ. و الغناء لإسحاق رمل.

ص: 461


1- رعوى عليه: أي بقيا عليه؛ يقال: أرعى فلان على فلان إذا أبقى عليه.
2- تقدم في ص 313 أن هذا الشعر قاله زهير في ابنه سالم.
3- في «لسان العرب» (في مادة طول): «و أطلت الشيء و أطولت على النقصان و التمام بمعنى المحكم: و أطال الشيء و طوّله و أطوله: جعله طويلا. و كأن الذين قالوا ذلك إنما أرادوا أن ينهبوا على أصل الباب. قال: فلا يقاس هذا إنما يأتي للتنبيه على الأصل».

13 - ذكر المرّار و خبره و نسبه

نسبه و كان قصيرا ضئيل الجسم:

هو المرّار بن سعيد بن حبيب بن خالد بن نضلة بن الأشيم بن جحوان(1) بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين(2) بن الحارث بن ثعلبة(3) بن ذودان(4) بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار. و أمّ المرار بنت مروان بن منقذ(5) الذي أغار على بني عامر بثهلان(6) فقتل منهم/مائة بحبيب بن منقذ(5) عمّه(7)، و كانوا قتلوه.

و كان المرّار قصيرا مفرط القصر ضئيل الجسم. و في ذلك يقول:

عدّوني الثعلب عند العدد *** حتى استثاروا بي إحدى الأحد(8)

ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي(9) *** يرمي بطرف كالحريق الموقد

كان يهاجي المساور بن هند:

و كان يهاجي المساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسيّ. و فيه يقول المرّار:

شقيت بنو سعد بشعر مساور *** إنّ الشقيّ بكلّ حبل يخنق

و المساور القائل فيه:

ص: 462


1- كذا في ج و هو الصحيح كما في «شرح القاموس» (في مادة حجو). و في «سائر الأصول»: «هوازن» و هو تحريف.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «معين» بالميم و هو تحريف.
3- في جميع الأصول: «تغلب». و التصويب عن «شرح القاموس» (في مادتي قعن و جحو).
4- كذا في أ، م و «نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب» للقلقشندي و قد أورده في باب الذال المعجمة مع الواو. و في سائر الأصول: «دودان» بالدال المهملة.
5- كذا في ح. و في أ، م: «منقد» بالدال المهملة. و يظهر أنه مصحف عن منقذ بالذال المعجمة إذ لم يسم بهذا الاسم. و في ب، س: «منقر» بالراء المهملة.
6- ثهلان: جبل ضخم بالعالية عن أبي عبيدة. و قال نصر: ثهلان جبل لبني نمير بن عامر بن صعصعة بناحية الشريف به ماء و نخيل. (عن «معجم البلدان» لياقوت).
7- يلاحظ أنه أخوه لا عمه إلا أن يكون منقذ جدّ مروان و سقط اسم أبيه.
8- إحدى الأحد: الأمر المنكر الكبير. قال الشاعر: بعكاظ فعلوا إحدى الأحد و إحدى الأحد الداهية. يقول: حسبوني من عداد الثعالب عند لقاء الأبطال أروغ عنهم و لا أكافحهم حتى استثاروا مني داهية.
9- المعتدي: وصف من العدوان إلا أنه وقف على لغة ربيعة في تسكين المنصوب. و في الأصول: «معند» بالنون و بدون ياء. و يحتمل أن يكون مصحفا عن «معتد» وصف من أعتد الشيء إذا هيأه و أعده، و على هذا يكون وصفا للسلاح. و يرمي بطرف كالحريق الموقد: أراد أن عينه في غضبه حمراء كالنار الموقدة الملتهبة. (راجع «لسان العرب» في مادة أحد، «و خزانة الأدب» للبغدادي ج 3 ص 293 و 294).

ما سرّني أنّ أمّي من بني أسد *** و أنّ ربّي ينجيني من النار

أو أنّهم زوّجوني من بناتهم *** و أنّ لي كلّ يوم ألف دينار

من مخضرمي الدولتين أغار هو و أخوه بدر على بني عبس و نهبا إبلهم فحبسهما الوالي:

و المرّار من مخضرمي الدولتين. و قد قيل: إنّه لم يدرك الدولة العبّاسيّة.

و قال هذه القصيدة و هو محبوس. ذكر محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل و الكوفيّين:

أنّ المرّار بن سعيد كان أتى حصين بن برّاق من بني عبس، فوقف على بيوتهم فجعل يحدّث نساءهم و ينشدهنّ الشعر. فنظروا إليه و هم مجتمعون على الماء فظنّوا أنه يعظهنّ. ثم انصرف من عند النساء حتى وقف على الرجال. فقال له بعضهم: أنت يا مرّار تقف على أبياتنا و تنشد النساء الشعر! فقال: إنّما كنت أسألهن.

فجرى بينه و بينهم كلام غليظ، فوثبوا عليه و ضربوه و عقروا بعيره؛ فانصرف من عندهم إلى بني فقعس فأخبرهم الخبر، فركبوا معه حتى أتوا بني عبس فقاتلوهم فهزموهم، و فقأت بنو فقعس من بني عبس عينا و قتلوا رجلا ثم انصرفوا. فحمل أبو شدّاد النّصريّ لبني عبس مائتي بعير و غلّظوا عليهم في الدّية. ثم إنّ بدر بن سعيد أخا المرّار قال: قد استوفت عبس حقّها، فعلام أترك ضرب أخي و عقر جمله! فخرج حتى أتى جمالا لبني عبس في المرعى فرمى بعضها فعقرها ثم انصرف. فقال للمرّار: إنّه و اللّه ما يقنع بهذا و لكن اخرج بنا. فخرجا حتى أغارا على إبل لبني عبس فطرداها و توجها بها نحو تيماء(1). فلمّا كانا في بعض الطريق انقطع بطان راحلة بدر/فندر(2) عن رحله. فقال له المرّار: يا أخي أطعني و انصرف ودع هذه الإبل في النار، فأبى عليه. ثم سارا، فلمّا كانا في بعض الطريق عرض لهما ظبي أعضب(3) أحد القرنين. فقال المرّار لبدر: قد تطيّرت من هذا السفر، و لا و اللّه ما نرجع من هذا السفر أبدا، فأبى عليه بدر. فتفرّقت عبس فرقتين في طلب الإبل، فعمدت فرقة إلى وادي القرى(4)، و فرقة إلى تيماء؛ فصادفوا الإبل بتيماء تباع، فأخذوا المرّار و بدرا فرفعوهما إلى الوالي. و عرفت سمات عبس على الإبل فدفعت إليهم، و رفع المرّار و أخوه إلى المدينة فضربا و حبسا، فمات بدر في الحبس.

فكلّمت عدّة من قريش زياد بن عبد اللّه النّصريّ في المرّار فخلاّه. و قال في حبسه:

صرمت و لم تصرم و أنت صروم

و هي طويلة.

مات أخوه بدر في الحبس فرثاه:

و قال يرثي أخاه بدرا:

ألا يا لقومي للتّجلّد و الصبر *** و للقدر السّاري إليك و ما تدري

/و للشيء تنساه و تذكر غيره *** و للشيء لا تنساه إلاّ على ذكر

ص: 463


1- تيماء: بليد في أطراف الشام بين الشام و وادي القرى على طريق حاج الشام و دمشق.
2- ندر عن رحله: سقط.
3- الأعضب: المكسور.
4- وادي القرى: واد بين المدينة و الشام من أعمال المدينة كثير القرى.

و ما لكما بالغيب علم فتخبرا *** و ما لكما في أمر عثمان من أمر

و هي طويلة، يقول فيها:

ألا قاتل اللّه المقادير و المنى *** و طيرا جرت بين السّعافات(1) و الحبر(2)

و قاتل تكذيبي(3) العيافة بعد ما *** زجرت فما أغنى اعتيافي و لا زجري

/تروّح فقد طال الثّواء و قضّيت *** مشاريط كانت نحو غايتها تجري

- المشاريط: العلامات و الأمارات -

و ما لقفول(4) بعد بدر بشاشة *** و لا الحيّ آتيهم و لا أوبة السّفر

تذكّرني بدرا زعازع حجرة(5)*** إذا عصفت إحدى عشيّاتها الغبر

- الزعازع: الشديدة الهبوب. و الحجرة(5): السنة الشديدة -

إذا شولنا(6) لم نؤت منها بمحلب *** قرى الضّيف منها بالمهنّد ذي الأثر

و أضيافنا إن نبّهونا ذكرته *** فكيف إذا أنساه غابرة الدهر

إذا سلّم السّاري تهلّل وجهه *** على كل حال من يسار و من عسر

تذكّرت بدرا بعد ما قيل عارف(7)*** لما نابه يا لهف نفسي على بدر

إذا خطرت منه على النفس خطرة *** مرت(8) دمع عيني فاستهلّ على نحري

و ما كنت بكّاء و لكن يهيج(9) لي *** على ذكره طيب الخلائق و الخبر

أ عينيّ إني شاكر ما فعلتما *** و حقّ لما أبليتماني بالشكر

سألتكما أن تسعداني فجدتما *** عوانين(10) بالتّسجام باقيتي(11) قطر

ص: 464


1- في «معجم البلدان»: «السعافات بضم أوله و بعد الألف فاء و آخره تاء مثناة من فوق موضع في قول المرار». و استشهد بهذا البيت.
2- الحبر (بالكسر ثم السكون): اسم واد، كذا ذكره ياقوت في «معجم البلدان» و استشهد بأبيات من هذه القصيدة. و في الأصول: «الحجر» بالجيم.
3- في ياقوت: «و قاتل تئريب العيافة».
4- في ح: «و ما لقفولي».
5- في الأصول: «حجرة» بتقديم الحاء المهملة على الجيم و هو تصحيف. و في ياقوت: «لزبة» و سنة لزبة: شديدة.
6- الشول: جمع شائلة، و هي من الإبل ما أتى عليها من وضعها أو حملها سبعة أشهر فارتفع ضرعها و خف لبنها. و المحلب: إناء يحلب فيه. و الأثر (بالفتح و بالكسر و بضمتين): فرند السيف و رونقه. و رواية هذا البيت في كتاب «الشعر و الشعراء». ص 441 طبع. أوربا: «إذا شولنا لم نسع فيها بمرفد... إلخ».
7- عرف للأمر: صبر.
8- مرت دمع عيني: أرسلته و أسبلته. و استهل: سال.
9- في ب، س: «يهيجني».
10- العوان: النصف في سنها من كل شيء. و الحرب العوان: التي قوتل فيها مرة بعد أخرى، كأنهم جعلوا الأولى بكرا. و الحرب العوان هي أشد الحروب. فلعله يريد أن عينيه سجمتا الدمع أي أسالتاه مرة بعد أخرى.
11- كذا في كتاب «الشعر و الشعراء». و وردت هذه الكلمة في الأصول مصحفة، ففي بعضها: «يا قنتي» و في بعضها الآخر: «يا قبتي».

/

فلمّا شفاني اليأس عنه بسلوة *** و أعذرتما لا بل أجلّ من العذر

نهيتكما أن تسهراني(1) فكنتما *** صبورين بعد اليأس طاويتي غبر

يقول: طويتما أغبار دمعكما. و الأغبار: البقايا كأغبار اللّبن.

خرج حاجا و أضافه قرشي بالأبطح:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني رجل عن واصل بن زكريّا بن المرّار أنّ المرّار قال:

خرجت حاجّا فأنخت بناحية الأبطح، فجاء قوم فنحّوني عن موضعي و ضربوا فيه قبّة لرجل من قريش.

فلمّا جاء و جلس أتيته فقلت:

هذا قعودي باركا بالأبطح *** عليه عكما(2) أكمر(3) لم تفتح

فقال: و ما قصّتك؟ فأخبرته. فقال: و اللّه لا تفتح منهما شيئا حتى تنصرف، فأقم معنا، يدك مع أيدينا، و قعودك مع أباعرنا(4). فو اللّه ما فتحت العدلين حتى انصرفت بهما إلى أهلي. فما هجاني أحد قطّ هجاءه.

حبس هو و أخوه بدر، و شعره في الحبس:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال أخبرني أبو موهب رتيل الزّبيري أحد بني زبير بن عمرو بن قعين قال:

كان المرّار بن سعيد و أخوه بدر لصيّن، و كان بدر أشهر منه بالسرقة و أكثر غارات على الناس. فأغار بدر على ذود(5) لبعض بني غنم بن ذودان(6) فطردها، فأخذ/و رفع إلى عثمان بن حيّان/المرّيّ، و هو يومئذ على المدينة فحبسه. و طرد المرّار طريدة فأخذ معها و هو يبيعها بوادي القرى أو ببرمة(7)، فرفع إلى عثمان بن حيّان فحبسه. قال: فاجتمعا و مكثا في السجن مدّة؛ ثم أفلت المرّار و بقي بدر في السجن حتى مات محبوسا مقيّدا.

فقال المرّار و هو في الحبس:

أنار بدت من كوّة السّجن ضوأها(8) *** عشيّة حلّ الحيّ بالجرع(9) العفر

ص: 465


1- في كتاب «الشعر و الشعراء»: «أن تشمتا بي».
2- العكم: العدل و هو الغرارة.
3- أكمر: جمع كمر (بكسر الكاف و سكون الميم) نحو ذئب و أذؤب. و هذا الجمع سماعي في مثل هذا الوزن. و الكمر من البسر: ما لم يرطب على نخلة و لكنه سقط فأرطب على الأرض.
4- كذا في أ، م. و في سائر الأصول: «أقاعدنا» و هذا الجمع لم يرد في «كتب اللغة» في جمع قعود.
5- الذود: ثلاثة أبعرة إلى التسعة، و قيل إلى العشرة، و قيل غير ذلك. و لا يكون إلا من الإناث. و هو واحد و جمع كالفلك.
6- راجع الحاشية رقم 4 ص 317 و غنم هو أخو ثعلبة المذكور في تلك الصفحة. (راجع كتاب «سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب» للسويدي ص 58 طبع بغداد سنة 1270 هجرية).
7- برمة (بكسر أوله): عرض من أعراض المدينة بين خيبر و وادي القرى.
8- كذا في الأصول، بتأنيث الفعل لإضافة الفاعل إلى ضمير المؤنث.
9- كذا في ح بالراء المهملة. و الجرع بالتحريك: جمع جرعة بالتحريك أيضا و هي هنا الرملة العذاة الطيبة التي لا وعوثة فيها. و في سائر الأصول: الجزع بالزاي المعجمة و هو تصحيف.

عشيّة حلّ الحيّ أرضا خصيبة *** يطيب بها مسّ الجنائب(1) و القطر

فيا ويلتا(2) سجن اليمامة أطلقا *** أسيركما ينظر إلى البرق ما يفري(3)

فإن تفعلا أحمد كما و لقد أرى *** بأنكما لا ينبغي لكما شكري

و لو فارقت رجلي القيود وجدتني *** رفيقا بنصّ العيس(4) في البلد القفر

جديرا إذا أمسى بأرض مضلّة(5) *** بتقويمها حتى يرى وضح الفجر

خاصم رجلا من قومه و سابه، و قال في ذلك شعرا:
اشارة

و قال أبو عمرو الشّيبانيّ:

كان بين المرّار بن سعيد و بين رجل من قومه لحاء، فتقاذفا و تسابّا، ثم صارا إلى الضرب بالعصا؛ فقال في ذلك:

صوت

أ لم تربع فتخبرك المغاني *** فكيف و هنّ مذ حجج ثمان

برئت من المنازل غير شوق *** إلى الدار التي بلوى أبان(6)

لإسحاق في هذين البيتين هزج بالخنصر في مجرى البنصر من كتاب ابن المكّيّ.

كان أخوه بدر شاعرا، و شيء من شعره:
اشارة

و كان بدر بن سعيد(7) أخو المرّار شاعرا و هو الذي يقول:

صوت

يا حبّذا حين تمسي الريح باردة *** وادي أشيّ (8) و فتيان به هضم(9)

مخدّمون كرام في مجالسهم *** و في الرّحال إذا لاقيتهم خدم

ص: 466


1- الجنائب: جمع جنوب و هي الريح التي تقابل الشمال. و منه إذا جاءت الجنوب معها خير و تلقيح.
2- هكذا في جميع الأصول: و يا ويلتا بمعنى يا فضيحتا. و قد أشكل علينا مرجع الضمير المثنى في قوله «أطلقا أسيركما». و لهذا يحتمل أن تكون هذه الكلمة محرفة عن مثل قوله «فيا حارسي سجن اليمامة» أو نحو ذلك.
3- يفري: يشق؛ و البرق يشق الظلام.
4- نص العيس: استحثاثها و استقصاء آخر ما عندها من السير.
5- أرض مضلة (بفتح الضاد و تكسر): يضل فيها الطريق.
6- أبان: يطلق على موضعين هما أبان الأبيض و أبان الأسود. فالأبيض شرقي الحاجر فيه نخل و ماء و هو لبني فزارة و عبس. و الأسود: جبل لبني فزارة خاصة، و بينه و بين الأبيض ميلان. (عن «معجم البلدان» لياقوت).
7- في «لسان العرب» (في مادة هضم) و «معجم البلدان» في الكلام على أشي و شعوب و نقم أن قائله زياد بن منقذ. و في «شرح الحماسة» للتبريزي طبع أوربا ص 608 أن قائله زياد بن حمل بن سعد بن عميرة بن حريث و يقال زياد بن منقذ. و مثله في «لسان العرب» (في مادة أشي) غير أنه ورد فيه: «زياد بن حمد» بالدال محرفا.
8- أشي: موضع بالوشم. و الوشم: واد باليمامة؛ ذكر ذلك ياقوت و استشهد بالأبيات.
9- هضم: جمع هضوم. و فتيان هضم: يهضمون المال أي يكسرونه و ينفقونه.

و ما أصاحب من قوم فأذكرهم *** إلاّ يزيدهم حبّا إليّ هم(1)

الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالخنصر و البنصر عن ابن المكّيّ. و فيه لمتيّم خفيف رمل. و ذكر حبش، أن الثقيل للهذليّ. و فيه لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر ثقيل أوّل عن الهشاميّ.

صوت
صوت ابن صاحب الوضوء في شعر النابغة:

خطاطيف حجن في حبال متينة *** تمدّ بها أيد إليك نوازع

فإن كنت لا ذا الضّغن عنّي مكذّبا *** و لا حلفي عند البراءة نافع

فإنك كالليل الذي هو مدركي *** و إن خلت أن المنتأى عنك واسع

عروضه من الطّويل. يقول: أنا في قبضتك متى شئت قدرت عليّ كأني في خطاطيف تجذبني إليك و لا أقدر على الهرب منك. و يروى «و إن خلت أن المنتوى» أي الموضع الذي انتوي قصده. و المنتأى: المفتعل من النأي و الحجن: المعوجّة. و النّوازع: الجواذب. و الضّغن: الحقد.

الشعر للنابغة الذّبيانيّ. و الغناء لآبن صاحب الوضوء من رواية إسحاق و عمرو ما خوريّ بالبنصر.

انتهى الجزء العاشر من كتاب الأغاني و يليه الجزء الحادي عشر و أوّله أخبار النابغة و نسبه

ص: 467


1- ارتفع «هم» الأخير بيزيد. و قد وضع الضمير المنفصل موضع المتصل؛ لأنه كان الوجه أن يقول إلا يزيدونهم حبا إليّ؛ و مثله لطرفة: أصرمت حبل الحي إذ صرموا يا صاح بل ص؟؟؟ لوصال هم (عن «شرح ديوان الحماسة» للتبريزي).

ص: 468

فهرس موضوعات الجزء العاشر

الموضوع الصفحة

- أخبار دريد بن الصمة و نسبه 243

- أخبار المعتضد في صنعة هذا اللحن و غيره من الأغاني 269

- أخبار إبراهيم بن العباس و نسبه 271

- صنعة أولاد الخلفاء الذكور منهم و الإناث 290

- أخبار مروان بن أبي حفصة و نسبه 292

بعض أخبار إبراهيم بن المهدي 308

- أخبار أبي النجم و نسبه 344

- أخبار علية بنت المهدي و نسبها و نتف من أحاديثها 353

- أخبار أبي عيسى بن الرشيد و نسبه 370

و ممن عرفت له صنعة من أولاد الخلفاء: عبد اللّه بن موسى الهادي 375

و ممن رويت له صنعة من أولاد الخلفاء: عبد اللّه بن محمد الأمين 378

- أخبار عبد اللّه بن محمد و نسبه 379

و ممن صنع من أولاد أبو عيسى بن المتوكل 382

- أخبار علي بن الجهم و نسبه 383

و من صنعة أبي عيسى بن المتوكل 406

- أخبار أبي دلامه و نسبه 407

- أخبار عبد اللّه بن المعتز 434

أبيات من معلقة زهير 442

- نسب زهير و أخباره 443

- ذكر المرّار و خبره و نسبه 462

فهرس موضوعات الجزء العاشر 469

ص: 469

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.