تحفة العلية في شرح خطابات الحیدرية المجلد 4

هوية الکتاب

بسم الله الرحمن الرحیم

تحفة العلیة

في شرح خطاي باالحیدریة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3452 لسنة 2020

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP193.1.A2 I25 2020 :LC

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة.

جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3452 لسنة 2020

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP193.1.A2 I25 2020 :LC

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة.

جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة تحقيق المخطوطات

وحدة تحقيق الشروحات (13)

تحفة العلیة

في شرح خطاي باالحیدریة

لا فصح الدین محمد بن حبیب الله بن احمد الحسني الحسیني

من اعلام القرن الثامن الهجری

الجزء الرابع

تحقیق

السید علي الحسني الکربلائي

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1442 ه - 2021 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Inahj.org@gmail.com

ص: 4

ومن خطبة له عليه السّلام:

«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحًا لِذِكْرِهِ»: في عدة سور «وسَبَبًا لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ»: أراد الحمد هنا الشكر لقوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(1)وقد عرفت أعداده لزيادة النعمة «ودَلِيلًا عَلَى آلَائِهِ»: لاختصاص الشكر بموالي النعم وعلى «عَظَمَتِهِ» لاختصاصه باستحقاق ذلك لذاته إذ هو مبدأ كل نعمة ولأن الحمد لا ينبغي إلا له ثم أخذ في الموعظة فنبه السامعين على فعل الدهر بقوله:

«عِبَادَ اللهِ إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِینَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِینَ»: ليتذكَّروا أنّهم أمثالهم وانهم لاحقون بهم فيتقهقروا عن غيّهم ويعملوا لما بعد الموت، ثمّ نبّه على حاله في تقضّيه بأنّ كلّ وقت مضى منه لا يعود، وأنّ كلّ وقت منه له أهل ومتاع من الدنيا إنّما يكون في الوجود بوجود ذلك الوقت، وظاهر أنّه تنقضي بتقضّيه ولا يبقى سرمدًا ما فيه وذلك قوله: «لَا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّی مِنْهُ ولَا يَبْقَى سَرْمَدًا مَا فِيهِ

آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ»: أي يفعل بكم أخر كما يفعل بكم أول.

«مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ»: وفي نسخة مصححة متشابهة أموره فإنّه کما كان أوّلا يعدّ قومًا للفقر وقومًا للغنى، وقومًا للضعة وقومًا للرفعة، وقومًا للوجود وآخرین اللعدم كذلك هو آخرا.

«مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ»: أي دلالاته علي شيمته وطبيعته وأفعاله التي يعامل الناس بها قديمًا وحديثًا متعاضد يتبع بعضها بعضًا ونسبته هذه الأمور إلى الدهر جریًا على ما في أوهام العرب وإن كان الفاعل هو الله تعالى، وإنما للدهر الأعداد کما سبق ثم نبه على قرب الساعة وشبه سوقها لهم بسوق الزاجر لنوق وحثه لها.

ص: 5


1- سورة إبراهيم: الآية 7

(1)«وكأني بكم السَّاعَةِ تْحَدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشوْلِهِ»: النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتي عليها من نتاجها سبعة اشهر الواحدة شائلة على غير قياس وإنما الشول لخلوّها من العشار فیکون سوقها بعنف وأسرع، ولمّا نبّههم على قربها وإنّها تحدوهم نبّههم على وجوب اشتغال كلّ بنفسه فقال: «فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَیْرِ نَفْسِهِ تَحَیَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ وارْتَبَكَ»: اختلط «فِي الْهَلَكَاتِ» لأنه غير محصل النور يهتدي به في الظلمات طريق الأخرة بل إنما يحصل أعطيته وأغشية من الهيئات البدنية اكتسبها عما أشتغل به من متاع الدنيا والعمل لها وعلمت أن تلك الأغطية مغشية لنور البصر فلأجرم متحير في تلك الظلمات ويرتبك في مهالك الطريق ومغاويها.

«ومَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ»: ونفسه الأمارة «فِي طُغْيَانِهِ وزَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ والنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِینَ»: قرن ذكر الجنّة بذكر فضيلة السبق، والنار برذيلة الأفراط ليقوى الباعث على طلب الأشرف الغايتين والهرب من أخسّها، مع أنه هدي إلى طلب أحدیهما والهرب من الأخرى بذكر سببهما.

(2)«عِبَادَ اللهِ اعْلَمُوا أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ»: وجه هذه الاستعارة كونها تحصن النفس أمّا في الدنيا فمن الرذائل الموبقة المنقّصة الموجبة لكثير من الهلكات الدنيويّة، وأما في الآخرة فمن ثمرات الرذائل ملكات السوء المستلزمة للعذاب الأليم.

«والْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ»: ووجه الاستعارة كونه مستلزما لضدّ ما استلزم التقوی.

ص: 6


1- ورد في بعض متون النهج: فَكَأَنَّكُمْ
2- ورد في بعض متون النهج: اعْلَمُوا عِبَاد اللهِ

«لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ ولَا يُحْرِزُ: يحفظ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَلَا وبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا»: كونها أسبابًا مستلزمة للأذى في الآخرة كما يستلزم إبرة العقرب أو سمّها للأذى، ومن روی حمّة مشددّة أراد شدّة الخطايا وبأسها لأنّ حمة الحرّ معظمته، وظاهر کون التقوى قاطعا لبأس الخطايا وماحيا لآثارها.

«وبِالْيَقِنِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى»: فإنّ الإنسان إذا حصل على كمال القوّة النظريّة باليقين وعلى كمال القوّة العمليّة بالتقوى بلغ الغاية القصوى من الكال الإنسانيّ.

«عِبَادَ اللهِ اللهَ اللهَ»: أي خافوه «فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ»: فيه أشارة إلى أنّ للإنسان نفوسًا متعدّدة وهي باعتبار مطمئنّة؛ فأمّارة بالسوء، ولوّامة، وباعتبار عاقلة، وشهویّة، وغضبيّة. والإشارة إلى الثلاث الأخيرة، وأعزّها النفس العاقلة، إذ هي الباقية بعد الموت، ولها الثواب وعليها العقاب، وفيها الوصيّة، وغاية هذا التحذير حفظ كلّ نفسه ممّا یوبقها في الآخرة، وذلك بالاستقامة على سبيل الله، ولذلك قال:

«فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وأَنَارَ طُرُقَهُ»: وروي أبان بالآيات والنذر «فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ: فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ»: أيام الحياة «لأَيَّامِ الْبَقَاءِ»: الحال التي بعد الموت فيه تنبيه أن الزاد هو التقوى.

«قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وأُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ»: الارتحال «وحُثِثْتُمْ عَلَی الْمَسِیرِ»: ودلالتهم على الزاد في الآيات الَّتي دلَّهم الله تعالى بها عليه وأمرهم بالظعن كقوله تعالى «سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(1)

ص: 7


1- سورة آل عمران: الآية 133

وقوله «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ»(1)وبالجملة فكلّ أمر بالإعراض عن الدنيا والتنفير عنها فهو مستلزم للحثّ على الظعن، والأمر بالمسير عن الدنيا بالقلوب لأنّ الظعن هنا هو قطع درجات المعارف، والأعمال في سبيل الله، وصراطه المستقيم والمسير فيها، ويحتمل أن يريد بالحثّ على المسير حثّ الليل، والنهار بتعاقبهما على الأعمار؛ فهما سابقان حثيثان عنیفان؛ فيجب التنبيه لسوقهما على اتّخاذ الزاد لما يسوقان عليه.

«فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ لَا يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ»: وجه التشبيه ظاهر فالإنسان هو النفس، والمطايا هي الأبدان والقوى النفسانيّة، والطريق هي العالم الحسّيّ والعقليّ، والسير الذي ذكره قبل الموت هو تصرّف النفس في العالمين لتحصيل الكمالات المسعدة وهي الزاد لغاية السعادة الباقية، وأمّا السير الثاني الَّذي هو وقوف ينتظرون ولا يدرون متی یؤمرون به فهو الرحيل إلى الآخرة من دار الدنيا وطرح البدن، وقطع عقبات الموت، والقبر إذ الإنسان لا يعرف وقت ذلك.

وحينئذ يتبيّن ذلك من سرّ هذا الكلام أنّ قوله: وأمرتم بالظعن مع قوله: لا تدرون متی تؤمرون بالسير، غير متنافيين کما ظنّه بعضهم ثمّ أخذ في تزهيد الدنيا والتنفير عنها بذكر أنّ الإنسان غير مخلوق لها بل لغيرها فقال:

«أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ»: ومقتضى العقل أن يعمل الإنسان لما خلق له، وفي تزهيد المال بقوله: «فمَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ وتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وحِسَابُهُ»: من عقاب الهيئات الحاصلة بسبب محبّته وجمعه والتصرّف الخارج عن العدل فيه ثم رغب في وعد الله بقوله: «عِبَادَ اللهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الْخَیْرِ

مَتْرَكٌ عوض»: وبدل في النفاسة وبالتنفیر عما نهى بقوله: «ولَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ

ص: 8


1- سورة الذاريات: الآية 50

الشَّرِّ مَرْغَبٌ»: أي ليس فيه مصلحة ينبغي أن يجعلها الغافل غاية مقصودة له إذ هو تعالى أعلم بالمصالح فلا يليق بجوده أن ينتهي العبد عما فيه مصلحة راجحة ثم عقب بالتحذير من يوم الوعيد ووصفه بالصفات الَّتي باعتبارها يجب الخوف منه والعمل له فقال:(1)«احْذَرُوا يَوْمًا تُفْحَصُ فِيهِ الَأعْمَالُ»: لقوله تعالى «وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2)«ويَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ»: لقوله تعالى «إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا»(3)«وتَشِيبُ فِيهِ الَأطْفَالُ» لقوله سبحانه «يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا»(4)وأعلم أنّ هذه الصفات في يوم القيامة ظاهرة في الشريعة، وقد سلَّط التأويل عليها بعد الفضلاء فقال: أمّا الفحص عن الأعمال، فيرجع إلى إحاطة اللوح المحفوظ بها وظهورها للنفس عند مفارقتها للبدن أو إلى انتقاش النفوس بها كما تقدّم شرحه كقوله تعالى «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(5)، وأمّا ظهور الزلزال فيحتمل أن يريد التغيّر الَّذي لا بدّ منه والاضطراب العارض للبدن عند مفارقة النفس، والتشويش لها أيضا على ما تقدّم من الإشارة إلى أنّ الدنيا هي مقبرة النفوس وأجداثها، وأمّا مشيب الأطفال؛ فكثيرا ما یکنّی بذلك عن غاية الشدّة، يقال هذا أمر تشيب فيه النواصي وتهرم فيه الأطفال إذا كان صعبا ولا أصعب على النفس من حال المفارقة وما بعدها؛ ثمّ عقّب بالتحذير من المعاصي بالتنبيه على الرصد الملازم.

ص: 9


1- ورد في بعض متون النهج: عِبَادَ اللهِ
2- سورة النحل: الآية 56
3- سورة الزلزلة: الآية 1
4- سورة المزمل الآية 17
5- سورة آل عمران: الآية 30

«اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَدًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ»: أي حفاظًا «وعُيُونًا مِنْ جَوَارِحِكُمْ»: قال عز من قائل «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1)«وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2)والشهادة هنا بلسان الحال والنطق به فإنّ كلّ عضو لمّا كان مباشرا لفعل من الأفعال كان حضور ذلك العضو وما صدر عنه في علم الله تعالى بمنزلة الشهادة القوليّة بين يديه وأكَّد في الدلالة.

«وحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ»: أراد الكرام الكاتبين وقد سبقت الإشارة بالخطبة الأولى.

«لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ ولَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ»: صدقة لائح «وإِنَّ غَداً»: وقت الموت.

«مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ ويَجِيءُ الْغَدُ لَاحِقًا بِهِ فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ»: وحشته كنى بها عن القر «ومَخَطَّ

حُفْرَتِه»: روي معجمة وغير معجمة، وصفه بالصفات المنفرة المستلزمة للعمل الحلوله، ولما بعده.

«فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ»: أي ما أعظمه.

«ومَنْزِلِ وَحْشَةٍ ومُقَرَ غُرْبَةٍ وكَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ»: وهي الصيحة الثانية «إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ»(3)«والسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ

ص: 10


1- سورة النور: الآية 24
2- سورة فصلت: الآية 21
3- سورة يس: الآية 53

وبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ»: وهو حال استحقاق كلّ نفس ما لا بدّ لها منه من دوام عذاب أو دوام نعیم بحكم القضاء الإلهي، وذلك بعد زوال الهيئات الباطلة الممكنة الزوال من النفوس الَّتي لها استكمال ما ولحوقها بعالمها واضمحلال العلل الباطلة للنفوس وإليه أشار بقوله:

«قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الأَبَاطِيلُ واضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ واسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ»: هو رجوع كلّ امرئ إلى ثمرة ما قدّم.

«وصَدَرَتْ بِكُمُ الأُمُورُ مَصَادِرَهَا فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ»: عود إلى الموعظة الجامعة الكلَّيّة فأمر بالاتّعاظ بالعبر وكلّ ما يفيد تنبيهًا على أحوال الآخرة فهو عبرة.

«واعْتَبِرُوا بِالْغِیَرِ»: عود إلى الموعظة الجامعة الكلَّيّة فأمر بالاتّعاظ بالعبر وكلّ ما يفيد تنبيهًا على أحوال الآخرة فهو عبرة. «وانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ»: جمع نذير وهو أعمّ من الإنسان بل كلّ أمر أفاد تخويفًا بأحوال الآخرة فهو نذير والانتفاع به حصول الخوف عنه وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام: في التنبيه على فضيلة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

«أَرْسَلَهُ عَلَی حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ»: هي الزمان بين الرسولين.

(1)«وهَجْعَةٍ مِنَ الُأمَمِ»: كناية عن رقدتهم في مراقد الطبيعة، ونوم الغفلة عمّا خلقوا لأجله في مدّة زمان الفترة. «وانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ»: أشار به إلى ما كان الخلق عليه من نظام الحال بالشرائع السابقة وانبرام أمورهم بوجودها، وانتقاضها فساد ذلك النظام بتغيّر الشرائع واضمحلالها.

ص: 11


1- ورد في بعض متون النهج: وطُولِ

«فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَیْنَ يَدَيْهِ»: هو التوراة والإنجيل كما قال عز سلطانه «مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْکِتابِ»(1)وكلّ أمر يقدم أمرًا منتظر أو قريب منه يقال: إنّه جاء بين يديه.

«والنُّورِ للْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ»: ووجه الاستعارة ظاهر.

«فَاسْتَنْطِقُوهُ ولَنْ يَنْطِقَ ولَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَلَا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي والْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي ودَوَاءَ دَائِكُمْ ونَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ»: اعلم أنه عليه السلام أمر باستنطاقه وفسّر ذلك الاستنطاق باستماع العبارة عنه، إذ هو لسان الكتاب والسنّة، وكسّر أوهامهم الَّتي عساها تستنكر آمره باستنطاقه بقوله: فلن ينطق، ونبّه على ما فيه من علم الأوّلين والحديث عن القرون الماضية، وعلم ما يأتي من الفتن وأحوال القيامة وأنّ فيه دواء دائهم، وذلك الداء هو الرذائل المنقّصة، ودواء ذلك الداء هو لزوم الفضائل العلميّة، والعمليّة الَّتي اشتمل عليها القرآن الكريم، ونظام ما بينهم إشارة إلى ما اشتمل عليه من القوانين الشرعيّة، والحكمة السياسيّة الَّتي بها نظام العالم واستقامة أموره.

ومنها: في الأخبار عن حال بني أمية وما يحدث في دولتهم من الظلم.

«فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ ولَا وَبَرٍ»: كناية عن البدوي والحظري «إِلَّا وأَدْخَلَهُ الظَّلَمَةُ تَرْحَةً وأَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً فَيَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ ولَا فِي الأَرْضِ نَاصِرٌ»: كناية عن استحقاقهم عند فعلهم ذلك للتغيّر وزوال الدولة.

«أَصْفَيْتُمْ بِالأَمْرِ غَیْرَ أَهْلِهِ»: توخ للسامعين على إصفائهم بأمر الخلافة غير أهله والخطاب عام خصة العقل بمن هو راض بدولة معاوية وذریته وربما لحق

ص: 12


1- سورة المائدة: الآية 48

من تقاعد عن القيام معه في قتاله لأن العقود عن ردع الظالم وقتاله مستلزم لقوته ويجري مجري نصرته، وإعانته على ظلمة وأن لم يقصد القاعدة عنه كذا.

«وأَوْرَدْتُمُوهُ غَیْرَ مَوْرِدِهِ وسَيَنْتَقِمُ اللهُ مِمَّنْ ظَلَمَ مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ ومَشْرَبًا بِمَشْرَبٍ»: منصوبان بفعل مضمر تقديره ويبدل لهم.

«مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ ومَشَارِبِ الصَّبِرِ»: استعار العلقم واجبته لما يتجرعونه من شدائد القتل وأهوال العدو ومرارات زوال الدولة، «والْمَقِرِ ولِبَاسِ شِعَارِ

الْخَوْفِ ودِثَارِ السَّيْفِ»: استعار له مرشّحاً بذكر اللباس والدثار للسيف، ووجه الأولى ظاهر، ووجه الثانية ملازمة الخوف لهم كملازمة الشعار للجسد وقيل: إنما خصص الخوف بالشعار؛ لأنه باطن في القلوب والسيف بالدثار لأنه ظاهر في البدن، كما أنّ الشعار ما كان يلي الجسد والدثار ما كان فوقه، «وإِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وزَوَامِلُ الْآثَامِ»: جمع زاملة يقال للبعير الذي يستظهر الرجل متاعه وسرائه عليه ووجه استعارتها مع وجه استعارة المطايا حملهم للآثام، وأتي بإنّما إشارة إلى أنّ جميع حركاتهم وتصرّفاتهم على غير قانون شرعيّ فیکون خطيئة؛(1)«ثمَّ أُقْسِمُ لَتَنْخَمَنَّهَا»: لتزمينها، «أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ»: فاستعار التنخّم لزوال الخلافة عنهم فكأنّم قاؤها وقذفوها من صدورهم ملاحظة لشبهها بالنخامة، «ثُمَّ لَا تَذُوقُهَا ولَا يَتَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً»: كناية عن عدم رجوعها إليهم، «مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ»: الليل والنهار وما بمعنى المدة، وكنّى بذلك عن الأبد، وهو إخبار منه عمّا سيكون، وروي عن الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم أنّه أخبر أنّ بني أُميّة تملك الخلافة بعده مع ذمّ منه لهم نحو ما روى عنه عليه السَّلَام في تفسير قوله «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي

ص: 13


1- ورد في بعض النسخ: فَأُقْسِمُ

الْقُرْآنِ»(1)قال المفسرون: أنَّ تلك الرؤيا أنّه رأى بني أُميّة بنزون على منبره نزو القردة، وبهذا اللفظ عليه السَّلَام فسّر الآية وساءه ذلك، ثمّ قال: الشجرة الملعونة بنو أُميّة وبنو المغيرة، وروى عنه أنّه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتّخذوا مال الله دولا وعباده خولا، وكما روى عنه في تفسيره لقوله تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»(2)قال: ألف شهر يملك فيها بنو أُميّة، ونحو قوله: أبغض «الأسماء إلى الله الحكم والهشام والوليد»(3)وغير ذلك، والله سبحانه أعلم.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«ولَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ وأَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ»: إشارة إلى حفظه وحراسته لهم، «وأَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رِبَقِ الذُّلِّ وحَلَقِ الضَّيْمِ»: إيماء إلى حمايتهم من عدوهم واغتراهم به، «شُكْرًا مِنِّي لِلْبِرِّ الْقَلِيلِ وإِطْرَاقًا عَمَّا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ وشَهِدَهُ الْبَدَنُ مِنَ الْمُنْكَرِ الْكَثِیرِ»: فيه تنّبيههم على شكره للقليل من برّهم: أي مقدار طاعتهم لله في طاعته، وإطراقه عن كثير منکرهم ممّا شاهده بالمسامحة والعفو، يحمل ذلك منه على عدم التمكَّن من إزالته بالعنف والقهر نحو أن يستلزم ذلك مفسدة أكثر ممّا هم عليه من المنكر، وظاهر أنّهم غير معصومین ومحال أن تستقيم دولة أو يتمّ ملك بدون الإحسان إلى المحسنين من الرعيّة والتجاوز عن بعض المسيئين، وبالله الموفق.

ص: 14


1- سورة الإسراء: الآية 60
2- سورة القدر: الآية 3
3- المصنف: للصنعاني: ج 11 ص 42؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني بلفظ مقارب: ج 3 ص 275، وورد الحديث بلفظ مقارب في كثير من المصادر: مثل الكافي للكليني: ج 6 ص 21، وتهذیب الأحكام للشيخ الطوسي: ج 7 ص 749

ومن خطبة له عليه السّلام:

«أَمْرُهُ»: حكم قدرته الإلاهة «قَضَاءٌ»: لزوم لا يرد «وحِكْمَةٌ»: أي على وفق الحكمة الإلاهة والنظام الأكمل «ورِضَاهُ» يعود إلى علمه بطاعة العبد له وفق

أمره ونهيه «أَمَانٌ ورَحْمَةُ يَقْضِيِ بِعِلْمٍ»: إعادة لمعنى قوله: أمره قضاء وحكمة، يجري مجرى التفسير له.

«ويَعْفُو بِحِلْمٍ»: فالعفو يعود إلى الرضا بالطاعة بعد تقدّم الذنب، وإنّما يتحقّق العفو مع تحقّق القدرة على العقاب. إذ العجز لا يسمّی عفوا.

«اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وتُعْطِي وعَلَى مَا تُعَافِي وتَبْتَلِي»: فيه تعاليم العباد وأشار إلى حمده إلى كل حال.

«حَمْدًا يَكُونُ أَرْضَی الْحَمْدِ لَكَ وأَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ وأَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ»: أي أشدّه وقوعًا على الوجه اللائق المناسب لعظمته هذه باعتبار الكميَّة بقوله: «حَمْدًا

يَمْلأُ مَا خَلَقْتَ ويَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ حَمْدًا لَا حْجَبُ عَنْكَ ولَا يُقْصَرُ دُونَكَ»: إشارة إلى اعتبار غايته، «حَمْدًا لَا يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ ولَا يَفْنَى مَدَدُه»: إيماء إلى اعتبار مادّته، وقد يكون التفصيل في القول في بعض المواضع أبلغ وقعا في النفوس وألذّ، وقد يكون الإجمال والاختصار أنفع وأبلغ، ثمّ شرع في الاعتراف بالعجز عن إدراك کنه عظمته، وفي بيان وجه معرفته للخلق الممكنة، وهي إمّا بالصفات الحقيقيّة أو الاعتبارات السلبيّة أو الإضافيّة، «فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهً عَظَمَتِكَ إِلَّا(1)نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومُ»: إشارة إلى الصفات الحقيقيّة، وقد عرفت أنّهما يستلزمان الوجود، إذ كلّ حيّ موجود والقيّوم هو القائم بذاته المقيم لغيره، وكلّ قائم بذاته فهو موجود

ص: 15


1- ورد في بعض متون النهج: أَنَّا

واجب الوجود، «لَا تَأْخُذُكَ سِنَةٌ ولَا نَوْمٌ لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ ولَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ»: إشارة إلى اعتبارات سلبيّة، «أَدْرَكْتَ الأَبْصَارَ وأَحْصَيْتَ الأعمار(1)، وأَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي والأَقْدَامِ»: أي محيط القدرة بها، اعتبارات عقلي وبصري أضافية، ثمّ عاد إلى استحقار ما عدّده ممّا أدركه بالنسبة إلى ما لم يدركه من عظیم ملکوته فقال: «ومَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ ونَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ ونَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ»: ما استفهاميّة على سبيل الاستحقار لما استفهم عنه.

«ومَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ وقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ وانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ وحَالَتْ سُتُورُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ ما أَعْظَمُ»: ما بمعنى الذي محله الرفع بالابتداء وخبره اعظم والواو فيها للحال وإذا كان شأنك ما ذكر.

«فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ وأَعْمَلَ فِكْرَهُ لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ وكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ وكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ وكَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ»: أي ليصل إلى كنه معرفته وعلم كيفيّة نظام العالم الأعلى والأسفل: «رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِیراً»: کالا منقطعًا عن النظر.

«وعَقْلُهُ مَبْهُوراً»: مغلوبًا عن إدراك ما كلفه إدراكه من ذلك.

«وسَمْعُهُ وَالِهاً»: متحیرًا «وفِكْرُهُ حَائِراً»: وقد سبقت الإشارة إلى براهين هذه الأحكام غير مرة وبالله التوفيق.

منها: في ذم من يدعي رجاء الله ولا يعمل له، وتنبيهه أن رجائه ليس بخالص تكذيبه وبيان تقصيره في العمل.

منها: «يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اللهَ»: ذكر صورة الدعوى الحالية أو المقالية.

ص: 16


1- ورد في بعض متون الأعمال بدلاً من الأعمار

«كَذَبَ والْعَظِيمِ»: رد لتلك الدعوی مؤكدًا بالقسم البار وإنما قال: والعظيم دون الله، لأن ذكر العظمة هنا أسب للرجاء.

«مَا بَالُهُ لَا يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ»: ينتج أنّ هذا المدّعي للرجاء غير راج، ومراده الرجاء التامّ الَّذي يجتهد في العمل له ولذلك قال:

(1)«وكُلُّ خَوْفٍ مَحُقَّقٌ إِلاَّ خَوْفَ اللهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ»: توبيخ للسامعين في رجاء الله تعالى مع تقصيرهم في الأعمال الدينيّة، وتقدير الاستثناء الأوّل مع المستثنى منه: وكلّ رجاء لراج يعرف في عمله أي يعرف خلوص رجائه؛ فيما يرجوه إلَّا رجاء الراجي لله فإنّه غير خالص؛ وروی وكلّ رجاء إلَّا رجاء الله؛ فإنّه مدخول، والتقدير وكلّ رجاء محقّق أو خالص، لتطابق الكلَّيّتين على مساق واحد، وينبّه على الإضمار في الكلَّيّة الأولى قوله في الثانية: محقّق؛ فإنّه تفسير المضمر هناك.

«يَرْجُو اللهَ فِي الْكَبِیرِ ويَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِیرِ»: هنا قياس ضمير صغراه قوله: يرجو إلى قوله: الصغير، وتقدير كبراه وكلّ من كان كذلك؛ فينبغي أن يعطى الله الَّذي هو ربّه من رجائه، والعمل له ما لا يعطي المخلوقين، والَّذين هم عباده، والصغرى مسلَّمة، فإنّ الحسّ يشهد بأكثريّة أعمال الخلق لما يرجوه بعضهم من بعض بالنسبة إلى أعمالهم لما یرجونه من الله تعالى، وأمّا الكبرى فبيانها أنّ المقرّر في الفطر أنّ المرجوّ الكبير يستدعي ما يناسبه ممّا هو وسيلة إليه كميّة وكيفيّة وقوله.

«فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لَا يُعْطِي الرَّبَّ»: نقض للكبری(2).

ص: 17


1- وكُلُّ رَجَاءٍ إِلَّا رَجَاءَ اللهِ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ
2- الكبرى والصغرى من القياس ألاقتراني في المنطق، وهو من الأشكال الأربعة في القياس: أنظر: المنطق للمظفر: ص 247

«فَمَا بَالُ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ» بعِبَادِهِ: توبيخ وتشييع على من يخالف العمل بالنتيجة المذكور وقوله: «أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لهُ كَاذِبًا أَوْ تَكُونَ لَا تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً»: استفسار عن علَّة التقصير المذكور في الرجاء لله والعمل له بالنسبة إلى رجاء العباد، والعمل هم استفسارا على سبيل الإنكار، وتقريعًا على ما عساه يدّعى من إحدى العلَّتين المذكورتين وهما خوف الكذب في رجاء الله أو ظنّه غير أهل للرجاء، والأمر الأوّل خطاء عظيم لزم عن التقصير في معرفة الله، والثاني كفر صراح، وإنّما خصّص هاتين العلَّتين بالذكر لأنّهما المشهورتان في عدم رجاء الخلق بعضهم لبعض أو ضعفه، وانتفاؤهما في حقّ الله تعالى ظاهر؛ فإنّه تعالى الغنيّ المطلق الَّذي لا بخل فيه، ولا منع من جهته؛ فإنّ العبد إذا استعدّ بقوّة الرجاء له، والعمل لما يرجوه منه وحببت؛ إفاضة الجود عليه ما يرجوه فلا يكذب رجاؤه وهو الله تعالى الموضع التامّ له وقوله.

«وكَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَا يُعْطِي رَبَّهُ»: قياس ضمير استثنائيّ بيّن فيه قصور خوف الخائف من الله بالنسبة إلى خوفه من بعض عبيده، والضّمير في عبيده لله، وفي خوفه للخائف ويحتمل عوده إلى العبد؛ والملازمة في الشرطيّة ظاهرة، وكبرى القياس استثناء غير المقدّم لينتج عين التالي(1).

ص: 18


1- لينتج عين التالي: من الملازمات الشرطية مثاله إذا تحقق الملزوم تحقق اللازم، سواء أكان اللازم أعم أم مساوياً، ولكن لو أستثنی عين التالي فأنه لا يجب أن ينتج عين المقدم لجواز أن يكون اللازم أعم وثبوت الأعم لا يلزم منه ثبوت الأخص، وهذا من مسائل الحكم الاتصالي في القياس الاستثنائي، ينظر: المنطق للشيخ محمد رضا المظفر: ص 292. والمعنى: إن تحققَ خوف العبد من الله فسوف يلازمه عدم الخوف من خلق الله، والعكس عينه حاصل لو لازم العبد حب الدنيا أو موالاة عدو الله فسوف يلزم حينها بغض الله وعداوته من حيث لا يدري

«فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْدًا وخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً»: أي نسيئة ووَعْداً: توبيخ وتشنيع على من لزمه ذلك الاحتجاج وأنّه من القبيح المشهور المذكور أنّ يجعل الإنسان خوفه من عبد مثله نقدًا حاضرًا وخوفه من خالقه وعدًا غير حاضر، إشارة إلى علَّة إيثار الناس للحياة الدنيا على ما عند الله ممّا وعد به وانقطاعهم إليها وصيرورتهم عبيدًا لها.

«وكَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وكَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ آثَرَهَا عَلَى اللهِ تَعَالَی فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وصَارَ عَبْدًا لَهَا»: وذكر جزء العلَّة القريبة وهي عظمة الدنيا في أعينهم، وتمام هذه العلَّة حقارة ما تصوّروه من الوعد الأُخرويّ بالنسبة إلى الدنيا، وعلَّة هذه العلَّة ميلهم للذّات العاجلة كما هي، وغيبوبة اللذّات الموعودة وتصوّرها الضعيف بحسب الوصف، الَّذي غايته أن يوجب في أذهانهم مشابهة ما وعدوا به لما حضرهم الآن، فلذلك كانت العاجلة أعظم في نفوسهم وأكبر وقعًا في قلوبهم، ولذلك آثروها وانقطعوا إليها فاستعبدتهم، وغاية هذا التوبيخ التنفير عن الدنيا، والجذب عنها إلى الرغبة فيما وعد الله، ولذلك عقّب بالتنبيه على ترك الدنيا من الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وسایر الأنبياء والمرسلين الَّذين هم القدوة للخلق، وإعراضهم عنها، وعلى كونهم محلّ الأسوة الكافية لهم في ذلك فقال: «ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ»: الاقتداء قال عز من قائل «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(1).

«ودَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وعَيْبِهَا وكَثْرَةِ مَخَازِيهَا ومَسَاوِيهَا»: ثم أشار إلى

مقدّمة من مقدّمات الدليل على حقارتها وخبثها ب قوله: «إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ»: أي: الرَّسول، «أَطْرَافُهَا»: كناية عن عدم إعطائه إياها وبدليلها له كالملوك، «ووُطِّئَتْ»:

ص: 19


1- سورة الأحزاب: الآية: 21

مهدت، «لِغَیْرِهِ أَكْنَافُهَا»: بمعنى الأطراف، «وفُطِمَ منْ رَضَاعِهَا»: قبض،(1)«عَنْ زَخَارِفِهَا»: زينتها استعار لفظ الفطم لمنعه منها، الرضاع لها ملاحظة لمشابهتها للأُمّ وله بالابن، ووجهها ظاهر.

«وإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم إِذْ يَقُولُ: «إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»(2)واللهِ مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزًا يَأْكُلُهُ لَأنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ «بَقْلَةَ الأَرْضِ ولَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ»: أي رقيق جلده «لِهُزَالِهِ وتَشَذُّبِ لَحْمِهِ» تفرقه «وإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ عليه السلام».

«صَاحِبِ الْمَزَامِیرِ»: استعارة لأصواته كما ورد في الخبر لأن كل امر حسن ينسب إليها.

«وقَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»: من جهة مشاركة صوته عليه السلام لها وهي الآلة التي يرمز بها الحسن روى أنّ الوحش والطير كانت تقع عليه حال القراءة في محرابه لاستغراقها في لذّة صوته ونغمته.

«فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ»: أي نسائج من ورق النخل «بِيَدِهِ ويَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا ويَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا وإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السّلام فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ ويَلْبَسُ الْخَشِنَ»(3): شعر العنز «وكَانَ إِدَامُهُ الْجوعَ»: ووجهه قيام بدنه عليه السلام بالجوع كقيامه بالآدام.

«وسِرَاجُهُ بِالليْلِ الْقَمَرَ»: وجه الاستعارة مشاركتهما في الضوء.

ص: 20


1- ورد في بعض النسخ: وزُوِيَ
2- سورة القصص: 24
3- ورد في بعض متون النهج: ويَأْكُلُ الْجَشِبَ

«وظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا»: ووجه استتاره عن البرد بهما کاستتاره بالظلال.

«وفَاكِهَتُهُ ورَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ»: وجه الحمل التذاذ ذوقه وشمه به کما يلتذ غيره بها.

«ولَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ ولَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ ولَا مَالٌ يَلْفِتُهُ ولَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وخَادِمُهُ يَدَاهُ»: وجه الاستعارة فيها قيام انتفاعه برجليه ويديه كقیام انتفاع الغير بالدابّة والخادم، وبالجملة فحال الأنبياء المذكورين سلام الله عليهم أجمعين في التقشّف وترك الدنيا والإعراض عنها ظاهر معلوم بالتواتر، ولمّا وصف حالهم عاد إلى الأمر بالاقتداء بالرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم إذ فيه الأسوة الكافية لمن تأسّی به، وأقرب عهدًا ممّن سبق وذلك قوله:

«فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وعَزَاءً»: صبرًا «لِمَنْ تَعَزَّى»: لمن تصبر «وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ والْمُقْتَصُّ لَأثَرِهِ»: حثّ على التأسي واحد من قوله تعالى «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»(1)ثمّ عاد إلى اقتصاص حاله صلىَّ الله عليه - وآله - وسلَّم في ترك الدنيا والاقتصار منها على قدر الضرورة ليتبيّن ما يكون فيه التأسي به، فقال:

«قَضَمَ الدُّنْيَا»: أي كسر شهوتها بفأس الأعراض «قَضْماً»: كناية عن ذلك الاقتصار «ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً»: كناية عن عدم الالتفات إليها «أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا

كَشْحاً»: رجل أهضم بين الهضم وهو انضمام الجنبين لقلة الأكل.

ص: 21


1- سورة آل عمران: الآية 31

«وأَخْمَصُهُمْ(1)بَطْناً»: كناية عن كونه أقلّ الناس شبعًا فيها والتفاتا إلى مأكلها ومشاربها بكونه، روى عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أنّه كان إذا اشتدّ جوعه يربط حجرًا على بطنه ويسمّيه المشبّع مع ملکه قطعة واسعة من الدنيا، وروى: أنّه ما شبع آل محمّد من لحم قطَّ، وأنّ فاطمة، وبعلها وبنيها كانوا يصومون على أقراص من الشعير كانوا يعدّونها لإفطارهم وربّما آثروا بها السائلين، وطووا روی أنّهم فعلوا ذلك ثلاث ليال طووا في أيّامها حتّى كان ذلك سبب نزول سورة هل أتي في حقّهم كما هو المشهور في التفاسير.

«عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا»: ورد عنه صلى الله عليه [وآله] وسلم أنه قال: «عرضت علىّ كنوز الأرض ورفعت إلىّ مفاتيح خزائنها فكرهتها واخترت الدار الآخرة»(2).

«وأعَلِمَ أَنَّ اللهَ تعالى أَبْغَضَ شَيْئًا فَأَبْغَضَهُ وحَقَّرَ شَيْئًا فَحَقَّرَهُ وصَغَّرَ شَيْئًا فَصَغَّرَهُ»: فبغض الله لها عدم إرادتها لأوليائه داراً، أو إشارة إلى أنّها مقصود وجودها بالعرض وتحقيرها وتصغيرها بالقياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة، ثمّ نفرّ عن محبّتها بعد أن أشار إلى بغض الله لها وتصغيره إيّاها بجملة اعتراضيّة وهي قوله:

«ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ورَسُولُهُ وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ(3)لَكَفَى

ص: 22


1- ورد في بعض النسخ: مِنَ الدُّنْيَا
2- شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 9 ص 230؛ كذلك شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 3 ص 286؛ وهذا فقط الذي عثرت عليه، حيث أن ابن أبي الحديد المعتزلي وابن میثم البحراني لم يرجعا الحديث إلى مظانه. والله تعالى أعلم
3- ورد في بعض متون النهج: ورَسُولُهُ

بِهِ شِقَاقًا للهِ ومُحَادَّةً»: معاداة «عَنْ أَمْرِ الله»: ويتلخّص منها قياس(1)هكذا: أقلّ معایبنا(2)محبّتنا، لما أبغض الله، وتعظيمنا لما صغّر(3)، وكلّ محبّة وتعظيم كذلك، فکفی به شقاقًا له ومحادّة عن أمره(4)، فينتج أنّ أقلّ ما فينا من المعايب يكفينا في

ص: 23


1- قیاس: هو القياس المنطقي في القضايا المتضمن صورًا يقصد منها هيأة التأليف الواقع بين القضايا وتشمل هذه القضايا المقدمة، فيها صور القياس، ومواد تسمى: مواد القياس وهي تتألف من موضوع ومحمول أو من مقدم وتالي وعند الاستعمال والتطبيق نجمع المقدم مع التالي فنحصل على نتيجة تسمى نتيجة القياس ومثاله (شارب الخمر فاسق) هذا يسمی مقدم و(كل فاسق ترُد شهادته) هذا هو التالي إذن (شارب الخمر تُرد شهادته) هذه هي النتيجة، والمراد من هذا كله الوصول إلى استنباط قضية عقلانية يحكم بها العقل أما بصحتها أو بطلانها وطريقة القياس تساعد المفكر على سرعة الحصول على نتيجة يبني العاقل عليها قضاياه لتصحيح أفعاله، وتصرفاته وكلما كان استعمال القضايا على وفق القياس المنطقي كان الوقوع في الخطأ أقل. ولك في الاطلاع ومعرفة المزيد راجع المنطق للشيخ محمد رضا المظفر: ص 238
2- المعایب لغةً: جمع عيبة، والعيبة الحقيبة التي يُوضع بها ما يخص الرجل وما يعنيه ويهمه من الأمور الخاصة، وعقيدة الرجل من الأمور الخاصة، فلو حُمل حب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وجاء يوم القيامة فإن أقل ما يمكن حمله للنجاة به حبهم، ولو اجتمع الناس على حبهم لم يكن في الدنيا شيء يبغض الله تعالى، وهذا من قبيل قوله صلى الله عليه «لما أسري بي إلى السماء لقيتني الملائكة، ملائكة السماء بالبشارة من الله عز وجل، ولما صرت إلى السماء الرابعة لقيني جبرئيل في محفل من الملائكة، فقال لي: يا محمد لو اجتمعت أمتك على حب علي بن أبي يطالب لما خلق الله النار» والرواية طويلة: ولها يُنظر: نوادر المعجزات: لمحمد بن جریر الطبري الشيعي: ص: 75؛ وبلفظ قريب في: الأمالي للشيخ الطوسي: ص 641
3- محبّتنا، لما أبغض الله، وتعظيمنا لما صغّر: هذه العبارة بمعنى: إن بمحبتهم عظم الله تعالى ما وجب تعظيمه، وبغضهم صغر الله ما يجب تصغيره. وكلّ محبّة وتعظيم كذلك: بمعنی أن المحبة والبغض توصل إلى هذه النتيجة وهي: محبة الله تعالى أو بغض الله
4- فكفی به شقاقًا له ومحادّة عن أمره: بمعنى أن أقل الشقاق والمحادات لله تعالى بغض النبي صلى الله عليه وآله، وأهل بيته علیهم السلام لقوله تعالى «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا» سورة النساء الآية: 115

مشاقّة الله ومحادّته(1)ثم أردف ذلك بتمام أوصافه في ترك الدنيا والتكلَّف لها فقال:

«ولَقَدْ كَانَ صلّى الله عليه وآله وسلّم يَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ ويَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ»: روى عنه صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم أنّه قال: «إنّما أنا عبد آكل أكل العبيد، وأجلس جلسة العبيد»(2).

«ويَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ويَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ويَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ ويُرْدِفُ خَلْفَهُ»: غاية ذلك كله هو التواضع «ويَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ لإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا

وزَخَارِفَهَا»: أمره بتغييبيها محافظة من حركة الوسواس الخنّاس، وكما أنّ الأنبياء عليهم السّلام کانوا كاسرين للنفس الأمّارة بالسوء وقاهرين لشياطينهم كانوا أيضًا محتاجين إلى مراعاتهم، ومراقبتهم وتفقّد أحوال نفوسهم في كلّ لحظة، وطرفة فإنّها كاللصوص المخادعين للنفوس المطمئنّة، مهما تركت، وغفل عن قهرها والتحفّظ منها عادت إلى طباعها.

«فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشًا ولَا يَعْتَقِدَهَا قَرَارًا ولَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَامًا فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وأَشْخَصَهَا»: اذهبها «عَنِ الْقَلْبِ وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ وكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئًا أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ»: إشارة إلى الزهد الحقيقيّ وهو حذف الموانع الداخلة النفسيّة عن النفس، وما قبله من الأوصاف إشارة إلى زهده

ص: 24


1- فينتج أنّ أقلّ ما فينا من المعايب يكفينا في مشاقّة الله ومحادّته: بمعنى أن أقل ذخيرة لنا يوم القيامة أن نأتي ونحمل في صحائف أعمالنا محادة الله لمن أبغضنا ومحبة الله تعالى لمن أحبنا
2- يُنظر: الكافي للشيخ الكليني: ج 4 ص 159؛ وتذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 6 ص 235؛ والأمالي للشيخ الطوسي: ص 689؛ والغيبة للشيخ الطوسي: 163؛ ومعارج نهج البلاغة لعلي بن زید البيهقي: ص 281، وكلها ذكرت الخبر بلفظ مقارب

الظاهريّ وهو حذف الموانع الخارجيّة عنه؛ ثم عاد إلى التذكير بالمقدّمة السابقة للدليل على حقارة الدنيا وخبثها فأعاد ذکر جوعه هو وخاصّة من أهل بيته مع عظیم زلفته ورفعة منزلته عند الله تعالى وإزوائها عنه فقال:

«ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ»: لخصوصيته بالله «وزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ»: ولما ذكر تلك المقدمة شرع في الاستدلال بقوله: «فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ

بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّدًا بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ وأتى(1)بِالِإفْكِ الْعَظِيمِ وإِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَیْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وزَوَاهَا

عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ»: وهو: بقياس شرطيّ متّصل، مقدّمة حمليّة وتاليه شرطيّة منفصلة(2)؛ وتلخيصه: إذا كان محمّد صلىَّ الله عليه - وآله - وسلَّم جاء في الدنيا مع خاصّته وزوى إليه عند زخارفها مع عظیم زلفته عنده؛ فلا يخلو فعله به ذلك إمّا أن يكون إكراما له أو إهانة له، والقسم الثاني ظاهر البطلان إذ ثبت أنّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخصّ خواصّ الله، وإذا كان أحقر ملك في الدنيا لا يقصد بأحد من خاصّته إذا كان مطيعاً له الإهانة فكيف يصدر ذلك من جبّار الجبابرة ومالك الدنيا والآخرة؛ حکیم الحكماء رحیم الرحماء في حقّ أحقّ خواصّه وأشدّهم طاعة له، ولأجل وضوح ذلك اقتصر على تكذيب من قال به، وأكَّده

ص: 25


1- ورد في بعض متون النهج: واللهِ الْعَظِيمِ
2- مقدّمة حمليّة وتاليه شرطيّة منفصلة: من القياس في المنطق: وهو ضمن أقسام القياس بحسب مادته: حيث تتضمن: الحملية، ثم الشرطية، ثم الاستثنائي، وبمعنى أوضح: إن القياس الشرطی مثل: (أكرم الله محمداً بذلك أم أهانه) ومقدمة حملية مثل (فإن قال: أهانه فقد كذب وأتى بالأفك العظيم - والله العظيم-، وإن قال: أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غیره) وتاليه شرطية منفصلة مثل (بسط الله الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه) ولك أن تعرف أكثر راجع المنطق للمظفر: ص 240

بالقسم البارّ، وأمّا القسم الأوّل وهو أنّه أكرمه بذلك فمن المعلوم أنّ الشيء إذا كان عدمه إكرامًا وكمالًا كان وجوده نقصاً، وإهانة فكان وجود الدنيا في حقّ غيره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وإزوائها عنه مع قرب منزلته إهانة لذلك الغير وذلك يستلزم حقارتها ويبعث العاقل على النفار عنها، ثمّ عاد إلى الأمر بالتأسّي به صلَّی الله عليه وآله وسلَّم في ترك الدنيا تأكيدا لما سبق فقال:

«فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ(1)وأقبض أَثَرَهُ ووَلَجَ مَوْلِجَهُ»: هو أمر في صورة الخبر(2)وفيه زيادة تنبيه على أنّ الميل إليها محل الهلكة. «وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ»: أي أن لم يتأسّ به في أحواله في الدنيا وخالفه في الميل إلى شيء منها إذ قد عرفت أن حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة وهي الجاذبة عن درجات دار النعيم إلى دركات دار الجحيم، ثم ذكر صورة احتجاج على قوله: وإلَّا فلا يأمن الهلكة، بقوله: «فَإِنَّ(3)جَعَلَ مَحُمَّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم عَلَمًا لِلسَّاعَةِ»: أي أمارة عى قربها وروي علمًا وهو مجاز

لأنه سبب له، «ومُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ ومُنْذِرًا بِالْعُقُوبَةِ واطلعه على أحوال الآخرة ثم خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً: جائعًا ووَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيمًا لَمْ يَضَعْ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ»: كناية عن النبأ، «حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ»: فلو لم يكن الركون إليها وارتكاب أضداد هذه الأحوال منها مظنّة الهلكة لما نفر النبيّ صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم عنها وعقب بتعظيم منّة الله تعالى على الناس حین انعم عليه به سلفًا يتّبعونه وقائدًا يقتفون أثره، «فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِینَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفًا نَتَّبِعُهُ وقَائِدًا نَطَأُ عَقِبَهُ»: وأردف ذلك بذكر بعض أحواله الَّتي تأسّي به عليه السّلام فيها من

ص: 26


1- ورد في بعض متون النهج: واقْتَصَّ
2- في صورة الخبر بمعنى: نقل الخبر وليس الإنشاء؛ حيث إن الخبر إما أن يكون نقلاً في صورة الأخبار أو في صورة الإنشاء
3- ورد في بعض متون النهج: اللهَ

ترك الدنيا فقال: «واللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِقْرَعَتِي هَذِهِ»: وفي بعض النسخ مدرعتي هذه يعني قميصي، «حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا ولَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلَا تَنْبِذُهَا»: تلقيها والهمزة فيه للإنكار؛ «عَنْكَ فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّي»: ابعد عن جانبي؛ «فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَي»: مثل يضرب محتمل المشقة ليصل إلى الراحة وأصله أن القوم يسيرون بالليل؛ فيحمدون عاقبة ذلك بقرب المنزل؛ إذا اصبحوا ومطابقة الصباح لمفارقة النفس البدن؛ أو لإعراضها عنه، واتصالها بالأعلى بسبب تلك الرياضة الكاملة، وإشراق أنوار العالم العلويّ عليها الَّتي عنده تحمد عواقب الصبر على مکاره الدنيا، وترك لذّاتها، ومعاناة شدائدها مطابقة ظاهرة واقعة موقعها، وروی أنّه سئل عليه السَّلَام لم رقعت قميصك؟ فقال: يخشع لها القلب، ويقتدى بها المؤمنون، وممّا نقل في زهده عليه السَّلَام ما رواه أحمد في مسنده عن أبي النور الحوّام بالكوفة قال: جاءني عليّ بن أبي طالب عليه السَّلَام إلى السوق، ومعه غلام له وهو خليفة؛ فاشترى منّي قميصين وقال لغلامه: اختر أيّهما شئت؛ فأخذ أحدهما وأخذ عليّ عليه السَّلَام الآخر، ثمّ لبسه ومدّ یده؛ فوجد كمّه فاضلًا فقال: اقطع الفاضل فقطعه، ثمّ كفّه وذهب، وروى أحمد أيضًاً قال: لما أرسل عثمان إلى عليّ عليه السَّلَام، وجدوه مؤتزرا بعباءة محتجراً بعقال وهو يهنأ بعيراً له: أي: يمسحه بالقطران وهو الهناء والأخبار في ذلك كثيرة، وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام: في ذكر ممادح النَّبيّ صلَّى الله عليه - وآله - وسَلَّم ثم في الموعظة الحسنة والتنفير عن الدنيا:

«بَعَثَهُ بِالنُّورِ المضيء»: يعني نور النّبوة، «والْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ»: المعجزات والآيات الموضحة لنبوته، «والْمِنْهَاجِ الْبَادِي»: هو شريعته ودينه الواضح، «والْكِتَابِ الْهَادِي»: القرآن يهديه إلى سبيل الجنة، «أُسْرَتُهُ»: أهله، «خَیْرُ أُسْرَةٍ وشَجَرَتُهُ خَیْرُ شَجَرَةٍ»: هي

ص: 27

مستعارة لأصله وظاهر كون القريش أفضل العرب، «أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ»: استعارها لأشخاص بيته كعليّ وأولاده وزوجته وأعمامه وإخوته، واعتدال هذه الأغصان تقاربهم في الفضل والشرف، «وثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ»: مستعار لفضائلهم العلميّة والعمليّة، وتهدّلها كناية عن ظهورها وكثرتها وسهولة الانتفاع بها، «مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ»: مدينة سميت بها لأنها كانت قبل دخول له عليه السلام موضع الحيات فاذهبها الله منها بدعاية إلى خيبر وإنما ذكرهما في معرض مدحه لشرف مكة بالبيت العتيق وشرف المدينة بأهلها حين آووه ونصروه حين هاجر إليها.

«فعَلَا بِهَا ذِكْرُهُ وامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ»: وانتشر فيها صيته وامتدّت دعوته، ولأنّه هاجر إليها وهي بلدة مجدب قليل الخصب ضعيف الأهل مع غلبة خصومه وقوّة المشركين عليه في ذلك الوقت، ثمّ إنّه مع ذلك علا بها ذكره وانتشرت فيها صيته فكان ذلك من آیات نبوّته أيضاً.

«أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ»: ما جاء به من الآيات الَّتي قهر بها أعداء.

«ومَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ»: ما اشتمل عليه القرآن العظيم والسنّة الكريمة من الوعد والوعيد وضرب الأمثال والتذكير بالقرون الماضية والآراء المحمودة الجاذبة للناس في أرشد الطرق إلى جناب ربّهم، وكفى بها شفاء للقلوب من أدواء الجهل.

«ودَعْوَةٍ مُتَلَافِيَةٍ»: مستدرکه فإنّه استدرك بها ما فسد من نظام الخلق وتلافي بها ما هلك من قلوبهم وأسوّد من ألواح نفوسهم.

«أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ»: طرائق دینه وقوانین شریعته الَّتي لم يكن ليهتدي إليها إلَّا بظهوره.

ص: 28

«وقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ»: المعنية وهي ما كانت عليه أهل الجاهليّة من الآثام والفساد في الأرض.

(1)«والَأحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ»: ما فصّله وبيّنه لنا من أحكام دين الإسام الَّذي من ابتغى غیره دينا ضلّ عن سواء طريق النجاة.

«فَمَنْ يَبْتَغِ غَیْرَ الإِسْلَامِ دَيْنًا تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ»: في الآخرة «وتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ»: أي ينقطع متمسك النجاة في يده «وتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ»: عثرته في سفره إلى الآخرة «ويَكُنْ مَآبُهُ»: مرجعه «إِلَی الْحُزْنِ الطَّوِيلِ»: على فرط في جنب الله.

«والْعَذَابِ الْوَبِيلِ»: الشديد المهلك في دار البوار «وأَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تَوَكُّلَ الإِنَابَةِ إِلَيْهِ»: أي الالتفات بقلبه عن غره المسلَّم بجميع أموره إليه.

«وأَسْتَرْشِدُهُ»: أساله الإرشاد «السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَی جَنَّتِهِ الْقَاصِدَةَ إِلَی مَحَلِّ رَغْبَتِهِ»: ثم شرع في الموعظة فقال: «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ وطَاعَتِهِ فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَدًا والْمَنْجَاةُ أَبَداً»: أطلق النجاة عليها مجازًا إطلاقًا لأسم المسبّب على السبب المادّي لكونها معدّة لإفاضة النجاة من عذاب يوم القيامة، وقيل: النجاة الناقة الَّتي

ينجى عليها فاستعار لفظها للطاعة لأنّها كالمطيّة ينجو بها المطيع من العطب، والمنجاة إذ هي محلّ النجاة دائمًا «رَهَّبَ»: الله «فَأَبْلَغَ »: في وعيد «ورَغَّبَ فَأَسْبَغَ» في الترغيب غايته.

«ووَصَفَ لَكُمُ الدُّنْيَا»: بالأوصاف الموجبة للرغبة عنها «وانْقِطَاعَهَا وزَوَالَهَا وانْتِقَالَهَا»: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وما هذا الحياة الدنيا إلا لعب ولهو

ص: 29


1- ورد في بعض متون النهج: وبَيَنَّ بِهِ

الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار.

«فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا»: أراد الإعراض بالقلب الَّذي هو الزهد الحقيقيّ، وإنّما قال: لقلَّة ذلك، ولم يقل لعدمه لأنّ السالكين لابدّ أن يستصحبوا منها شيئًا، وهو ما يكتسبه أحدهم من الكمالات إلى الآخرة لكن القدر الَّذي يكتسبه المترفون من الكمالات، إذا قصدوا بأموالهم وسائر زينة الحياة الدنيا الوصول إلى الله تعالى قليل نور، ومع ذلك فهم في غاية الخطر من مزلَّة القدم في كلّ حركة وتصرّف بخلاف أمر القشف الَّذين اقتصروا منها على مقدار الضرورة البدنيّة، ويحتمل أن يريد بالقليل الَّذي يصحبهم منها كالكفن ونحوه.

«أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللهِ وأَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللهِ»: لأنّ الميل فيها إلى اللهو واللعب والاستمتاع بزينتها المستلزم لسخط الله أغلب من الانتفاع بها في سلوك سبيل الله.

«فَغُضُّوا عَنْكُمْ عِبَادَ اللهِ غُمُومَهَا»: أي إذا كانت كذلك فغضّوا عن أنفسكم الغمّ لأجلها.

«وأَشْغَالَهَا لِمَا قَدْ أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وتَصَرُّفِ حَالَاتِهَا»: والغمّ إنّما ينبغي أن يوجّه نحو ما يبقى.

«فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِيقِ»: على نفسه «النَّاصِحِ لها والْمُجِدِّ الْكَادِحِ»: الساعي إلى طاعته والارتقاء إلى درجات جنته «واعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارِعِ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ»: أعضاؤهم «وزَالَتْ أَسْمَاعُهُمْ وأَبْصَارُهُمْ وذَهَبَ

شَرَفُهُمْ وعِزُّهُمْ وانْقَطَعَ سُرُورُهُمْ ونَعِيمُهُمْ فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الأَوْلَادِ فَقْدَهَا وبِصُحْبَةِ الأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا لَا يَتَفَاخَرُونَ ولَا يَتَنَاسَلُونَ ولَا يَتَزَاوَرُونَ ولَا يَتَحَاوَرُونَ فَاحْذَرُوا

ص: 30

عِبَادَ اللهِ حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ»: الأمارة بالسوء «الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ»: عن العبور إلى حد الأفراط من فضيلة العفة «النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ»: مقابحها «فَإِنَّ الأَمْرَ»: أمر الدنيا

والآخرة «وَاضِحٌ»: واضح لمن اعتبر حالهما «والْعَلَمَ»: علم الشريعة الهادي للخلق إلى الحق «قَائِمٌ والطَّرِيقَ»: إلى الله جَدَدٌ: سهل «والسَّبِيلَ قَصْدٌ»: مستقیم فلا یکن أمركم عليکم غمة والله الهادي.

من كلام له عليه السّلام لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟

«فقال: يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِینِ تُرْسِلُ فِي غَیْرِ سَدَدٍ»: يقال للرجل إذا لم يكن ذا ثبات في عقله وأموره بحيث يسأل عمّا لا يعنيه أو يضع سؤاله في غیر موضعه ويستعجل: إنّه قلق الوضین، وأصله أنّ الوضین إذا قلق الوضین

أعنى مظان الفتنة اضطرب القتب فلم يثبت فطابق حال من لا يثبت في مقاله وحركاته فضرب له مثلًا له، وكذا ترسل إلخ أي تتكلَّم في غیر موضع الكلام لا على استقامة، وهذا تأديب له.

«وذلكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ»: حرمته «وحَقُّ الْمَسْأَلَةِ وقَدِ اسْتَعْلَمْتَ»: إيداء للعذر في حسن جوابه فإنّ للمصاهرة حقّ وللسائل على المسؤول حقّ الاسترشاد والسؤال. فأمّا كونه صهرا فلأنّ زینب بنت جحش زوجة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، كانت أسديّة، وهي زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثير بن غنم ابن دوذان بن أسد بن خزيمة، وأمّها أميمة بنت عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف فهي بنت عمّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. قالوا: والمصاهرة المشار إليها هي هذه، ونقل القطب الراونديّ أنّ عليّاً عليه السّلام كان متزوّجا في بني أسد، وأنكره ابن أبی الحدید معتمدًا على أنّه لم

ص: 31

يبلغنا ذلك، والإنكار لا معنى له، إذ ليس كلّ ما لم يبلغنا من حالهم لا يكون حقًّا ويلزم أن لا يصل إلى غيرنا.

«فَاعْلَمْ أَمَّا الِاسْتِبْدَادُ»: الاستئثار «عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ ونَحْنُ الأَعْلَوْنَ نَسَبًا والأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم نَوْطًا فَإِنَّهَا»: يعود إلى معنى الأثرة في الاستبداد «كَانَتْ أَثَرَةً»: اسم من الاستئثار.

«شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ»: عند الإماميّة من تقدّم عليه في الإمامة، وعند غيرهم أهل الشورى بعد مقتل عمر.

«وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ»: أراد نفسه وأولاده المعصومین المستحقين للأمانة عليهم السلام ومن تبعهم.

«والْحَكَمُ اللهُ والْمَعْوَدُ إِلَيْهِ(1)الْقِيَامَةِ»: مبتدأ وخبر أي المرجع فيها وهذا الكلام في معنى التظلم والتشكي.

«ودَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ»: نواحيه جمع حجرة بفتح الحاء أو بيت قصيدة لأمرئ القيس وتمامه ولكن الحديث ما حدث الرواحل وأصله أنه ينقل في أحياء العرب بعد قتل ابنه، فنزل على رجل من خذيلة طيّ يقال له طريف فأحسن جواره. فمدحه وأقام معه؛ ثمّ إنّه خاف أن يكون له منعة فتحوّل عنه ونزل على خالد بن النبهاني فأغارت بنو خذيلة عليه وهو في جوار خالد فذهبوا بإبله فلمّا أتوا الخبر ذكر ذلك لخالد فقال له: أعطني رواحلك ألحق عليها؛ فأردّ عليك إبلك ففعل؛ فرکب خالد في أثر القوم حتّى أدركهم فقال: يا بني خذيلة أغرتم على إبل جاری. قالوا: ماهو لك بجار؛ قال: بلى والله وهذه رواحله

ص: 32


1- ورد في بعض النسخ: يَوْمَ

. فرجعوا إليه فأنزلوه عنهنّ، وذهبوا بهنّ، وبالإبل؛ فقال أُمرء القیس القصيدة الَّتي أوّلها البيت: والنهب هنا ما ينهب وحجراته جوانبه، وحديث الثاني مبتدأ والأوّل خبره، وما للتنكير، وهي الَّتي إذا دخلت نكرة زادته إبهاما كقوله: لأمر ما جدع قصير أنفه، والمعنى دع ذكر الإبل؛ فإنّه مفهوم، ولكن حديث الرواحل حديث ما: أي حدیث مبهم لا يدرى كيف هو، وذلك أنّه قيل: إنّ خالدا هو الَّذي ذهب بالرواحل؛ فكان عنده لبس في أمرها؛ فأمّا استشهاده عليه السّلام به؛ فالمرويّ في استشهاده النصف الأوّل من البيت، ووجه مطابقته لما هو فيه أنّ السابقين من الأئمّة، وإن كانوا قد استبدّوا بهذا الأمر؛ فحديثهم مفهوم؛ إذ لهم الاحتجاج بالقدمة في الإسلام، والهجرة، وقرب المنزلة من الرسول، وكونهم من قریش، فدع ذكرهم، وذكر نهبهم هذا المقام في ما سبق.

«وهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ»: أي ولكن هات ما نحن فيه الآن من خطبته وهو الأمر العظيم، واستعمل بدفعه؛ فأن هذا مما يمكن تلافيه، واستدراکه، وأشار بالخطب إلى الأحوال التي أدته منازل عالية في هذا الأمر مع بعده عنه حتى صار قائمًا عند كثير من الناس مقامه عليه السلام.

«فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ»: أشار إلى عتبة ممن تقدم عليه في هذا الأمر، وضحکه بعد ذلك بتعجب مما حکمت به الأوقات ثم قال:

«ولَا غَرْوَ»: أي ذلك أمر بعيد عن العجب «واللهِ»: ثم أخذ في استعظامه فقال: «فَيَا لَهُ خَطْبًا يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ»: أي نفسه حتى صار کُلًا عجب، وهو من باب الإغراق، والمبالغة كقول: أبن هاني قد سرت في الميدان يوم اطرادهم؛ فعجبت حتى كدت لا أتعجب، ويحتمل أن يقال في لا عز والله أي إذا نظر الإنسان إلى

ص: 33

حقيقة الدنيا يصرف أحوالها ويكون قتاله استئنافا؛ فالاستعظام هذا الأمر وقوله:

«ويُكْثِرُ الأَوَدَ»: الاعوجاج على هذا ظاهر فأن كل أمر بعد عن الشريعة أرداد الأمر به اعوجاجاً.

«حَاوَلَ الْقَوْمُ»: هو قريش «إِطْفَاءَ نُورِ اللهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ»: استعارة لخاصته الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم من أهل بيته «وسَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ»: استعير لهم باعتبار كونهم معدیًا لهذا الأمر ولوزمه ووجه الاستعاريتين ظاهر يريد أنهم حالوا إزالة هذا عن معدیًا لهذا الأمر ولوزمه ووجه الاستعارتين ظاهر یریدانهم حالوا إزالة هذا الأمر عن معدته ومستقرة الأحق به وهو بيت الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم.

«وجَدَحُوا»: خلطوا «بَيْنِي وبَيْنَهُمْ شِرْبًا وَبِيئاً»: خطأ من الماء ذا الوباء استعارة لذلك الأمر واستعار وصف الوبى له باعتبار كونه سببًا للهاك والقتل بينهم فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وعَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى أي فأن تجتمعوا علي وترتفع بيني وبينهم ما ابتلينا

به من هذه المحق «أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ»: أي أسلك بهم محض الحق.

«وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى»: أي أبوا إلا البقاء على ما هم عليه فلا أسف عليهم وأقتبس الآية المشتملة على تأدیب نفسه وتوطينها على نزل الألف عليهم أن لم يؤمنوا وعلى تهديدهم ووعيدهم باطلاع الله على السيئة فقال:

«فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ»(1).

ص: 34


1- سورة فاطر: الآية 8

ومن خطبة له عليه السّلام مشتملة: من علم التوحيد على مباحث

«الْحَمْدُ للهِ خَالِقِ الْعِبَادِ وسَاطِحِ»: باسط: أشارة إلى خلق الأرض وجعلها مهادًا لما يخلق من الحيوان.

«الْمِهَادِ»: الأرض «ومُسِيلِ الْوِهَادِ ومُخْصِبِ النِّجَادِ»: إيماء إلى نجاد لسائر ما ينتفع به الخلق في الدنيا أي موسع المرتفع منها وفي هذا الكلام أشارة إلى أنه مبدا لجميع الموجودات وبيانه أن لفظ العباد مشتمل على من في السموات ومن في الأرض لقوله تعالى «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا»(1)، ويدخل في ذلك الأجسام الفلكية لكونها أجسامًا للملائكة إذ عرفت ذلك فقد اشتملت هذه الألفاظ على إيجاده لجميع الموجودات الممكنة وقد ثبت ان خالق الجميع لا يكون ممكنناً فاستلزم ذلك كونه تعالى واجب الوجود.

«لَيْسَ لأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ»: أي لا حدّ لكونه أوّلًا للأشياء تقف عنده أوّليّته وتنتهي به وإلَّا لكان مُحْدّثًا فكان ممكنًا فلم يكن واجب الوجود. هذا خُلف(2).

«ولَ لأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ»: أي لا غاية ينتهي إليها وإلا لقَبِلَ العدم فلم یکن واجب الوجود خُلف.

«هُوَ الأَوَّلُ ولَمْ يَزَلْ والْبَاقِي بِلَا أَجَلٍ»: تأكيد الاعتبارين بعبارة الأثبات «خَرَّتْ»: سقطت «لَهُ الْجِبَاهُ ووَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ»: إشارة إلى کمال الوهيّته واستحقاقه للعبادة.

ص: 35


1- سورة مريم: الآية 93
2- خُلف بمعنی: خلاف القواعد والمسلمات

«حَدَّ الأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا»: أي ميز الأشياء لما خلقها لا يشتبه مثلان كل ذلك مبین عن صاحبه وفي بعض النسخ، بن لشيء من المخلوقات حدًا يعلن أنه تعالى لا يسببها، فانه تعالى لا يحد ولا يجري عليه صفاة المصنوعات فعلى هذا يكون آياته مفعولا له عى الأول مصدر في موضوع الحال.

«لَا تُقَدِّرُهُ الأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ والْحَرَكَاتِ ولَا بِالْجَوَارِحِ والأَدَوَاتِ»: وكل هم قدره بشيء منها فقد ضل ضلالا بعيدًا عن تصوره وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

«لَا يُقَالُ لَهُ مَتَى»: لينزهه عن لحوق الزمان «ولَا يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِحَتَّى»: لأنه منزه عن غايته.

«الظَّاهِرُ لَا يُقَالُ مِمّا»: أي مع غاية ظهوره لا مادّة له ولا أصل يستفاد منه فلا يقال ممّ هو موجود.

«والْبَاطِنُ لَ يُقَالُ فِيمَا»: أي مع غايته بطونه وخفائه لا حيز له فيقال فيها بطن وخفي كسائر الخفيات من الأجسام والجسمانيات، وقد سبق بيانه تعالى ظاهرًا وباطنًا غیر مرة.

«لَا شَبَحٌ فَيُتَقَصَّی»: أي ليس بشخص فيلحقه التغير والانقضاء.

«ولَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى»: أي يحويه الحجاب إذ الشخص للناظر والحجاب من لواحق الأجسام التي تنزه قدسه عنها.

«لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ ولَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ»: قد عرفت معنی قربه وبعده في الخطبة الأولى، ولمّا كان الالتصاق، والافتراق من لواحق الأجسام لا جرم تنزّه قربه وبعده من الأشياء عنها ثم أشار إلى إحاطة علمه تعالى بكل

ص: 36

المعلومات بقوله:

«ولَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ»: شخص تنصره إذا رمى.

«ولَا كُرُورُ لَفْظَةٍ ولَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ»: تقدّمها وأراد الربوة المتقدّمة: أي في النظر والبادية عند مدّ العين فإنّ الربي أوّل ما يقع في العين من الأرض.

«ولَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ ولَا غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِیرُ وتَعْقُبُهُ»(1)أي وتتعقبه فحذف أحدى التائين كقوله تعالى «تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ»(2)وروی تعقبه، والضمير المنصوب فيه للقمر.

«ذَاتُ النُّورِ فِي الْكُرُورِ والأُفُولِ وتَقَلُّبِ الأَزْمِنَةِ والدُّهُورِ مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ وإِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ ومُدَّةِ وكُلِّ إِحْصَاءٍ وعِدَّةٍ»: لأنه تعالى فالق الكل ومبدأه فوجب وقبليته.

«تَعَالَی عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ»: انتحل: دعي بالكذب أي تنزه عما تصفه به المشبّهة والمتّبعون لحكم أوهامهم في جنابه المقدّس «مِنْ صِفَاتِ الأَقْدَارِ ونِهَايَاتِ الأَقْطَارِ وتَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ»: افتتانه «وتَمَكُّنِ الأَمَاكِنِ»: وسائر ما هي حدود ولواحق متقيد بها ذاوت الأخيار «فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ منه وإِلَی غَیْرِهِ مَنْسُوبٌ»: أي إليهم.

«لمْ يَخْلُقِ الأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ ولَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ»: أي لم يخلق ما خلق على مثال سبق يكون أصلًا ولا أول له حذا حذوه وقيل: معناه أنه ليس لما خلق اصل أزلي أبدي خلق منه من مادته، وصورة كما زعمت الفلاسفه وروي، ولا من أوائل أبدية.

ص: 37


1- ورد في بعض متون النهج: الشَّمْسُ
2- سورة النساء: الآية 97

«بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ»: أي بل هو المخترع لإقامة حدوده، وهي ماله من المقادير، والأشكال، والنهايات والآجال، والغايات على، وفق الحكمة الإلهية «و» كذلك «صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ»: أي أتى به على وجه الأحكام والإتقان. «لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ»: إشارة إلى کمال قدرته وإحاطة علمه.

«ولَا لَهُ بِطَاعَةِ شَيْءٍ انْتِفَاعٌ»: لأن الانتفاع من لوازم الحاجة الممتنعة عليه وهو أشارة إلى وصف الغني.

«عِلْمُهُ بِالأَمْوَاتِ الْمَاضِینَ كَعِلْمِهِ بِالأَحْيَاءِ الْبَاقِینَ وعِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الأَرْضِ السُّفْلَی»: إشارة إلى أنّ علمه غير مستفاد من غيره، ولا يلحقه تغيّر، وتجدّد فلا يتجدّد له علم لم یکن بل علمه تعالى أزليّ أبديّ تامّ لم يلحقه نقصان، نسبة جميع الممكنات إليه على سواء، وقد علمت تحقيقه في المباحث الإلهيّة في مظانها وبالله التوفيق.

منها: في تنبيه الإنسان وجذبه إلى الرحمن

«أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ»: المستوي «والْمُنْشَأُ الْمَرْعِيُّ»: المعتنى بأمره «فِي ظُلُمَاتِ

الأَرْحَامِ ومُضَاعَفَاتِ الأَسْتَارِ»: فيه تنبيه على وجود خالقه الحكيم اللطيف، وقد عرفت كيفيّة تخليق الإنسان تحريره شيئًا؛ فشيئًا إلى حال كماله ووضعه، وهكذا

نبّهه بقوله: «بُدِئْتَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِینٍ، ووُضِعْتَ فِي قَرارٍ مَكِینٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، وأَجَلٍ مَقْسُومٍ تَمُورُ»: تتحرك «فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِينًا لَا تُحِیرُ دُعَاءً ولَا تَسْمَعُ نِدَاءً ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَی دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا ولَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا فَمَنْ هَدَاكَ لِاجْتِرَارِ»: تناول «الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ وعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وإِرَادَتِكَ»: على وجود خالق هداه إلى جميع حاجاته، فهذا القدر من العلم بالصانع أمر ضروريّ

ص: 38

في النفوس، وإن احتاج إلى أدنى تنبيه وما وراء ذلك من صفات الكمال، ونعوت الجلال أمور لا تطَّلع عليها العقول البشريّة بالكنه، وإنّما تطَّلع منها على اعتبارات، ومقایسات له إلى خلقه، ويحتاج فيها إلى الدليل والبرهان؛ وقد أشرنا إلى ذلك من قبل؛ ونبّه على بعد إدراكها والعجز عنها بقوله:

«هَيْهَاتَ إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ والأَدَوَاتِ»: أي من يعجز من صفات نفسه في حال تخليقه والاطَّلاع على منافع جزئيّات أعضائه مع كونها

محسوسة مشاهدة له.

«فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ»: الَّتي هي أبعد الأشياء عنه مناسبة.

«أَعْجَزُ ومِنْ تَنَاوُلِهِ»: إدراكه بالمقايسة والتشبيه «بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِینَ»: وصفاتهم «أَبْعَدُ»: وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام،

لما اجتمع الناس عليه وشكوا مما نقموه: انکروه «على عثمان، وسألوه»: الضمير له عليه السلام «مخاطبته عنهم واستعتابه لهم، فدخل على عثمان وقال: إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وقَدِ اسْتَسْفَرُونِي»: أي جعلوني سفيرًا ورسولًا «بَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ ووَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ مَا أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ، ولَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ

مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَی شَيْءٍ؛ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ ولَا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ، وقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا، وسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا، وصَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم كَمَا صَحِبْنَا، ومَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، ولَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَی بِعَمَلِ الْخَیْرِ مِنْكَ وأَنْتَ أَقْرَبُ

إِلَی(1)رَسُولِ اللهِ صلىّ الله عليه وآله وسلّم وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا»: هي عروق الشجر

ص: 39


1- ورد في بعض متون النهج: أَبيِ: بمعنى أن النبي صلى الله عليه وآله هو الأب الروحي لكل مؤمن ومؤمنة كما قال تعالى «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» سورة التوبة: الآية 128

وهنا مستعار لما بينه من القرابة وأما كونه أقرب إلى الرسول وشيحة منهما فلكونه من ولد عبد مناف دونهما.

«وقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالَا فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ واللهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى ولَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ وإِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ»: قد عرفت

المراد منهما «فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وهَدَى»: أي أفضل من غیره من أحاد الناس «فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وإِنَّ السُّنَنَ لَنَیِّرَةٌ

لَهَا أَعْلَامٌ وإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً وإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ ولَيْسَ مَعَهُ نَصِیرٌ ولَا عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى؛ ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا وإِنِّي أَنْشُدُكَ اللهَ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الأُمَّةِ الْمَقْتُولَ فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ والْقِتَالَ إِلَی يَوْمِ الْقِيَامَةِ ويَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا ويَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا فَلَا يُبْصِرُونَ

الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجًا ويَمْرُجُونَ: يختلطون فِيهَا مَرْجًا فَلَا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً»: بتشديد التاء ما يسوقه العدو في الغارة من الدواب.

«يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السِّنِّ وتَقَضِّي الْعُمُرِ»: أعلم أن حاصل الكلام استعتاب باللين من القول؛ فأثبت له منزلته من العلم: أي بأحكام الشريعة والسنن المتداولة بينهم في زمن الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم، والظهور على كلّ ما ظهر عليها منها من مرئيّ ومسموع والصحبة المماثلة لصحبته، وذكر أنّ الشيخين ليسا بأولى منه بعمل الحقّ؛ ثمّ فخّمه عليهما بقرب الوشيجة من رسول الله صلَّی

ص: 40

الله عليه - وآله - وسلَّم والصهورة دونهما، ثمّ حذّره الله، وعقّب التحذير بتنبيهه على أنّه غیر محتاج إلى تعليم؛ فيما يراد منه مع وضوح طريق الشريعة، وقيام أعلام الدين، ثمّ تنبيهه على أفضليّة الإمام العادل بالصفات المذكورة، وعلى قيام أعلام السنن، وعلى قيام أعلام البدع ليقتدى بتلك، وينكب عن هذه. ثمّ على حال الإمام الجائر يوم القيامة بما نقل من الخبر عن سيّد البشر صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ثمّ ناشده الله تعالى محذّرًا له أن يكون المقتول في هذه الأُمّة وقد كان الرسول

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبر بذلك بهذه العبارة الَّتي نقلها بعد قوله: يقال: أو بما يناسبها ثمّ نهاه أن يكون شيعة لمروان بن الحكم: بصرفه حسب مقاصده بعد بلوغه معظم السنّ وتقضّى عمره، وقد كان مروان من أقوى الأسباب الباعثة على قتل عثمان، وكان يعكس الآراء الَّتي يشار عليه بها منه عليه السّلام، وغیره مع كونه بغيضًا إلى المعتبرين من الصحابة، وكونه طريد الرسول صلَّى الله عليه

- وآله - وسلَّم.

فأنظر أيها الذكي في هذا الترتيب العميق الأنيق، وأدرك سلوك طريق النصح من هذا الطريق، ولا نظن أن قوله: عليه السلام ما أعرف شيئًا تجهله أقرار بأنه يعلم من العلوم الدينية، والأحكام الشرعية مثل ما يعلمه عليه السلام، بل كان يراقب جانبه ويداريه ويقول: قولًا لينًا لعله يتذكر.

«فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ فَقَالَ عليه السّلام مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا أَجَلَ فِيهِ ومَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ»:

كلام جزل حاسر لما عساه يكون مماطلة من طلب التأجيل لأنّ الحاضر لا معنى لتأجيله، والغائب لا عذر في تأخره بعد بلوغ أمره إليه كالَّذي أعطاه أقربائه من

أموال بيت المال على غیر وجهه، وقد سبق في الفصول المتقدّمة من أمر عثمان مع

ص: 41

الصحابة وما نقموه عليه ما فيه كفاية وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام يذكر فيها بديع خلقة الطاوس:

للتنبيه على عجائب صنع الله تعالى حتى يلتفت إليه ويتفكر في ملكوته «ابْتَدَعَهُمْ خَلْقًا عَجِيبًا مِنْ حَيَوَانٍ»: فيه تغليب العقلاء وقد عفت معنى الابتداع

«ومَوَاتٍ»: ما لا حياة به «وسَاكِنٍ»: كالأرض «وذِي حَرَكَاتٍ»: كالأفاك «وأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ»: ما ظهر للعقول من لطائف المخلوقات فاستدلت بها «عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ وعَظِيمِ قُدْرَتِهِ مَا انْقَادَتْ»: أي أقام منها.

«لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ ومَسَلِّمَةً لَهُ ونَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلَائِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ»: استعار لفظ النعيق في الأسماع لظهور تلك الدلائل في صماخ العقل والضمیر في به له الثابتة إلى الله في دلائله يحتمل العود إلى كل واحد منهما.

«ومَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ»: أي ونعقت في أسماعنا دلائل ما خلق «صُوَرِ الأَطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الأَرْضِ»: شقوقها كالعطا والصدأ.

«وخُرُوقَ فِجَاجِهَا»: جمع فج وهي الطريق بین الجبلین كالقبح «ورَوَاسِيَ أَعْلَامِهَا»: أي رؤس الجبال كالعقاب والصقر ثم أخذ يصف اختلافها بالأجنحة

في هيئاتها وكيفيات خلقها تحت تصريف قدرته وحكمته فقال: «مِنْ ذَواتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وهَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ ومُرَفْرِفَةٍ»: محرَّكة(1)«الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ والْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ»: طرق «الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ والْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ»: ثم أشار إلى اعتبار تكوينها وأحداثها في عجائب صورها وألوانها وتركيب خلقها بقوله: «كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ ورَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ»: جمع حقه، «مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ

ص: 42


1- ورد في بعض متون النهج: بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ

ومَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ»: غلظه «خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً»: نهوضًا كالنَّعام، «وجَعَلَهُ يَدِفُّ»: يذهب «دَفِيفاً»: ثم نبَّه على لطيف حكمته في تنسيقها مختلفة الألوان والأصباغ بقوله: «ونَسَقَهَا»: نظم بريشها «عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الأَصَابِيغِ»: الألوان «بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ ودَقِيقِ صَنْعَتِهِ فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ واحد لَا يَشُوبُهُ غَیْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ ومِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ»:

كالفواخت وشرع في التنبيه بحال الطاوس على لطف الصبغ لأشتمله على جميع الألوان قال عليه السلام:

«ومِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقًا الطَّاوُسُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ ونَضَّدَ أَلْوَانَهُ»: جعل بعضها فوق بعض.

«فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ»: أراد قصب ريش ذنبه وجناحه أي ضبط أصولها بالأعصاب والعظام وشرج بعضها ببعض.

«وذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ إِذَا أدَرَجَ إِلَی الأُنْثَى»: مشى إليها «نَشَرَهُ»: أي الذنب «مِنْ طَيِّهِ وسَمَا بِهِ مُطِلاًّ»: مرتفعًا «عَلَى رَأْسِهِ كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ»: فأنه في تلك الحالة يبسط ريشه ثم يرفعه وينصبه فيصیر كهيئة الشراع المرفوع وفي وجه التشبيه بادرة على ذلك أشار إليها بقوله: «عَنَجَهُ»: عطفه ونصبه «نُوتِيُّهُ»: ملاحة ذلك أن الملاحین يصرفون الشراع تارة إلى بعض؛ فأشبههم هذا الطائر عند حركته لأراده السفاد وزيفانه في تصريف ذنبه، وتحويله له في ذلك هيئته لا يستثبت، وجه الشبه فيها كما

هو إلَّا من شاهدها مع مشاهدة المشبّه به، ولذلك قال: بعد أن قال:

«يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ ويَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ يُفْضِيِ كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ ويَؤُرّ»: من الأرّ بمعنى الجماع «بِمَلَاقِحِهِ»: القح الفحل الناقة وفي بعض النسخ بملاقحه أي اللقاح «أَرَّ

ص: 43

الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ»: شديدة الشبق.

(1)أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلىَ مُعَايَنَةٍ لاَ كَمَنْ يِحُيلُ عَلىَ ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ ولَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ يتشحُهَا»: تسربها «مَدَامِعُهُ فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَيْ»: جانبي.

«جُفُونِهِ وأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ بذوق ذَلِكَ ثُمَّ تَبِيضُ لَا مِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَى الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ»: الذي نحى قليلًا قليلًا أي لو كان حاله في النكاح كزعم من يزعمه

وهو إشارة إلى زعم قوم أن الذكر تدمع عينه فتقف الدمعة بین أجفانه فتأتي الأنثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة، وروي تنشجها مدامعها: أي تغصّ بها وتحاور فيها.

«لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ»: لم ينكر ذلك وإنما قال ليس ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب والعرب تزعم أن الغراب لا تسفد، ومن أمثالهم أخفي سفاد الغراب، ويزعمون أن اللقاح من مطاعمة الذكر، والأنثى وإيصال جزء من الماء الذي في قانصته إليها وهي أن يضع كل منهما منقاره في منقار صاحبه، وينزقا وذلك مقدمة للسفاد في كثیر من الطیر كالحمام وغیره، وهذا وإن كان ممكنًا في بعض الطیر كالطاووس، والغراب غیر أنّ ذلك بعيد على أنّه قد نقل في الشفاء أنّ القبجة تحبلها ريح تهبّ من ناحية الحجل ومن سماع صوته، وفيه أن النوع المسمّى ما لاقيا يتلاصق بأفواهها؛ ثمّ يتشابك فذلك

سفادها، ونقل الجاحظ في كتاب الحيوان أنّ الطاووسة قد تبيض من الريح بأن تكون في سفالة الريح، وفوقها الذكر؛ فتحمل ريحه فتبيِّض قال: وبيض الريح

ص: 44


1- ورد في بعض متون النهج: لِلضَرِّابِ

قبلّ أن يفرخ، وأقول: قد يوجد في الدجاج ذلك إلَّا أنّه قلّ ما يفرخ كما ذكره، ثمّ عاد إلى الطاووس فقال: «تَخَالُ»: نظن «قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ»: جمع مدري وهي خشبة ذات أطراف كأصابع الكف محددة الروس يبقى بها الطعام «ومَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ»: الخطوط المستديرة بقصة «وشُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ»: الذهب «وفِلَذَ الزَّبَرْجَدِ»: شبه عليه السلام قصب دنبه بالمذاري من الفضة ومن شاهد صورة قيام ذنبه مع بياض أصول ريشه ويفرقها عند نشرة للسفاد على روس الذنب بخالص العقيقان في الصفرة الفاقعة مع ما يعلوها من الرنق وما في وسط تلك الدارات من الدوائر البقطع الزبرجد في الخضرة واستعار لها لفظ الشموس ملاحظة لمشابهتها لها في الاستدارة والاستثارة ثم قال: «فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الأَرْضُ قُلْتَ جَنًى»: فعيل بمعنى المفعول أي الملتقط، «جُنِيَ مِنْ

زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ»: وجه الشبه اجتماع الألوان مع نضارتها وبهجتها، «وإِنْ ضَاهَيْتَهُ: شبهته «بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الْحُلَلِ»: منقوشها، «أَوْ مُونِقِ عَصْبِ الْيَمَنِ»: أي: المعجب من برودها، ووجه الشبه في كلّ منهما ما ذكر، «وإِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَیْنِ الْمُكَلَّلِ»: المزين الذي جعل كالإكليل،

أي: شدت فيه ورصفت، حاصل الكلام أنَّه شبَّه قصب ريشه بصفائح من فضة رصفت بالفصوص المختلفة الألوان فيما ذكرته كالإكليل بذلك الترصيع، ثم

حكى صورة مشبه صوته فقال: «يَمْشِيِ مَشْيَ الْمَرِحِ»: من به النشاط، «الْمُخْتَالِ»: الذي يجربونه تكبراً، «ويَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وجَنَاحَيْهِ فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكًا لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ»: ثوبه، «وأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ »: ما يتشح من أديم ويرصع بالجواهر فتجعله المراد على

عاتقها إلى كشحها ولفظ الضحك والقهقهة والسربال مستعار؛ «فَإِذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَی قَوَائِمِهِ زَقَا»: صاح، «مُعْوِلًا»: صارخًا «بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِینُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ ويَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ لأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ»: دقاق، «كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلَاسِيَّةِ»: هي المتولَّدة

ص: 45

بین الدجاج الهنديّ والفارسيّ في القة والطول والتشظي وسو العرقوب ثم أخذ في وصف صيصته وقزعته فقال: «وقَدْ نَجَمَتْ»: طلعت «مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ»: خرقه، «صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ»: الهندة الَّتي في مؤخّر رجل الديك، «ولَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ

قُنْزُعَةٌ»: وهي رويشات يسیر طوال في مؤخّر رأسه نحو الثلث بارزة عن ريش رأسه، «خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ»: ثمّ أخذ في وصف عنقه، وشبّه مخرجه بالإبريق فقال: «ومَخْرَجُ عَنُقِهِ كَالإِبْرِيقِ»: وجه الشَّبه الاهية المعلومة بالمشاهدة «ومَغْرِزُهَا»: من

رأسه، «إِلَی حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْيَمَانِيَّةِ»: في السَّواد المشرق، «أَوْ كَحَرِيرَةٍ»: سودأ «مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ»: في سرابها ومخالطة بصيص المرآة لها، «وكَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ»: متلحف، «بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ»: أسود، «إِلَّا أَنَّهُ»: ذلك السَّواد، «يُخَيَّلُ»:

للناظر «لِكَثْرَةِ مَائِهِ وشِدَّةِ بَرِيقِهِ أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ»: ثمّ وصف الخيط الأبيض عند محلّ سمعه فقال: «ومَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٍّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ»: وشبّهه في دقّته واستوائه بخطَّ القلم الدقيق، «فِي لَوْنِ الأُقْحُوَانِ»: البابونج شبهه به في بياضه

فقال: «أَبْيَضُ يَقَقٌ»: هو خالص البياض؛ «فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ»: يلمع ثم اجمل تعديه الألوان فقال: «وقَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وقَدْ أَخَذ مِنْهُ بِقِسْطٍ»: يصيب،

«وغَلَاهُ»: أي: زاد في الصّبغ، «بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وبَرِيقِهِ وبَصِيصِ دِيبَاجِهِ ورَوْنَقِهِ»: ولفظ الديباج مستعار لريشه ثم رجع إلى تشبيهه بالأزاهیر المبثوثة على كمال قدرة صانعها فقال:

«فَهُوَ كَالأَزَاهِیرِ الْمَبْثُوثَةِ لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ»: أي لم تعدها «ولَا شُمُوسُ قَيْظٍ»: شدة الحر لأنّه لمّا خيّل أنّها أزاهیر وكان من شأن الأزاهیر المختلفة أنّها لا تتكوّن إلَّا في زمن الربيع بإمطاره، وحرارة الشمس المعدّة لتنويره أراد أن يبیّن عظمة

صانعها بأنّها مع كونها أزاهیر خلقها بغیر مطر ولا شمس، ثمّ أخر عن حالة له

ص: 46

أخرى هي محلّ الاعتبار في حكمة الصانع وقدرته فقال:

«وقَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ ويَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ فَيَسْقُطُ تَتْرَى» شيئًا بعد شيء «ويَنْبُتُ تِبَاعًا فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الأَغْصَانِ ثُمَّ يَتَلَحَقُ نَامِيًا حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ لَا يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ ولَا يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَیْرِ مَكَانِهِ»: ثمّ نبّه على وجود حكمة الصانع في الشعرة الواحدة من شعرات ريشه فقال: «وإِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ»: من شفافيّتها وشدّة بصيصها تارة «حُمْرَةً وَرْدِيَّةً وتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً وأَحْيَانًا صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً»: كصفرة الذهب.

«فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَی صِفَةِ هَذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِینَ، وأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ والأَلْسِنَةَ أَنْ

تَصِفَهُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُيُونِ فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُودًا مُكَوَّنًا ومُؤَلَّفًا مُلَوَّنًا وأَعْجَزَ الأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ، وقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ

وسُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ والْهَمَجَةِ إِلَی مَا فَوْقَهُا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ والْفِيَلَةِ ووَأَى عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ إِلَّا، وجَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ والْفَنَاءَ غَايَتَهُ»: واعلم أنّه قد ذكرت للطاووس أحوال أخرى تخصّه أكثرها قالوا: إنّه غاية ما يعيش خمسًا وعشرين سنة، وتبيض في السنة الثالثة من عمره، وتبيض في السنة مرّة واحدة اثنتي عشرة بيضة في ثلاثة أيّام، ويحضنها ثلاثین يومًا فتفرخ، وتحتّ ريشه عند سقوطه ورق الشجر وينبت مع ابتداء ورقه ثم عقب ذلك التبليغ

باستبعاد وصول الفطن العميقة إلى صفة هذا، وأراد العجز عن وصف علل هذه الألوان، واختلافها واختصاص كلّ من مواضعها بلون غیر الآخر، وعلل هيئاتها وسائر ما عدّده وذلك قوله: «فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح الأذهان أوتستنظم وصف أوصاف الواصفین وأقل أجرائه قد اعرض

ص: 47

الأوهام أن نذر له والألسنة تصف»: أي أقل جزء منه مما يحیر الأوهام في درك علته وتقصر الألسن عن وصفه ويحتمل أن يريد العجز عن استثبات جزيئات اوصافه الظاهرة، وتشريحه فأن ما ذكره عليه السلام، وأن كان في غاية البلاغة إلا أن فيه فداء ذلك الجزيئات لم يستثبتها الوصف وهو الأقرب ويؤيده تنزيهه لله

تعالى بقوله: «فسبحان الذي بهر العقول»: غلب العقول عليها «عن وصف خلق جلاله»: وأظهره «للعيون فادركته محدودًا أو مكنونًا وملفوفًا وعجز الألسن عن

تلخيص صفته وقعد بها عن تأدية نعته»: ثم نزهه باعتبار آخر فقال:

«فسبحان من أدمج قوائم الذرة»: صغار النمل «وبهجته»: ذياب صغیرة كالبعوض يسقط عى وجوه الغنم والحمر.

«إلى ما فوقها من خلق الحيتان والفيلة»: مثلًا باعتبار حكمته وتقدير على كل حي منهما ضرورة الموت قال:

«وأي وعد عى نفسه إلا تصطرت» شبح: شخص «مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام»: الموت «موعده والفنا غايته»: فيه تنبيه على ذكر هادم اللذات كما ورد في الخبر منها في صفة الجنة: «فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ»:استعارة لطيفة.

«نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ»: زهدت «نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَی الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا ولَذَّاتِهَا وزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا ولَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ»

اضطراب «أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ»: جمع كثيب الرمل «عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا وفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وأَفْنَانِهَا وطُلُوعِ

تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا»: جمع غلاف والإضافة للتأكيد.

«تُجْنَى مِنْ غَیْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَىَ مُنْيَةِ»: رجاء «مُجْتَنِيهَا ويُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي

ص: 48

«أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ»: العسل المصفف الصافي «والْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ»:

حاصل الكلام أنك لو نظرت بعین بصيرتك، وفكرت في معنى ما وصف لك من متاع الجنّة لم تجد لشيء من بدائع ما اخرج إلى الدنيا من متاعها إلى شيء من

متاع الجنّة إلَّا نسبة وهميّة، إذا لاحظتها نفسك عزفت، وأعرضت عن متاع الدنيا وما يعدّ فيها لذّة، وغابت بفكرها في اصطفاق الأشجار الموصوفة فيها، وتمايل

أغصانها، ثمّ وصف أشجارها، وأنهارها وسائر ما عدّده من متاع الجنّة، وصفًا لا مزيد عليه، فهذه هي الجنّة المحسوسة الموعودة، وأنت بعد معرفتك بقواعد التأويل، وحقائق ألفاظ العرب، ومجازاتها واستعاراتها، وتشبيهاتها، وتمثيلاتها وسائر ما عدّدناه لك في صدر الكتاب من قواعد علم البيان، وكان لك مع ذلك ذوق طرف من العلم الإلهيّ أمكنك؛ أن تجعل هذه الجنّة المحسوسة سلَّمًا ومثالًا

لتعقّل الجنّة المعقولة، ومتاعها كتأويلك مثلًا أشجار الجنّة استعارة للملائكة السماويّة والاصطفاق ترشيح لها، وكثبان للمسك للمعارف، والكمالات الَّتي لهم من، واهب الجود، وهم مغمورون؛ فيها وقد وجدوا لها، ومنها كما تنبت الأشجار في الكثبان، والأنهار استعارة للملائكة المجرّدين عن التعلَّق بالأجرام الفلكيّة باعتبار كون هذه الملائكة أصولًا، ومبادي للملائكة السماويّة كما أنّ الأنهار مبادي ممدّة لحياة الأشجار، وأسباب لوجودها، واللؤلؤ الرطب والثمار استعارة لما يفيض من تلك الأرواح من العلوم، والكمالات على النفوس القابلة لها من غیر

بخل ولا منع، فهي ثمارها تأتى على منية مجتنيها بحسب استعداده لكلّ منها، والقوّة المتخيّلة تحكى تلك الإفاضات في هذه العبارات، والظواهر المحسوسة المعدودة، وتكسوها صورة ما هو مشتهى للمتخيّل كلّ بحسب شهوته؛ ولذلك

كان في الجنّة كلّ ما تشتهي الأنفس، وتلذّ الأعین ويتأهّل لحضوره؛ فيحضر لها عند إرادتها إيّاه، وكذلك لفظ العسل، والخمر استعارة لتلك الإفاضات المشتهات

ص: 49

الملذّة للنفس بحسب محاكاة المتخيّلة لها في صورة هذا المشروب المحسوس المشتهى

لبعض النفوس فتصوّره بصورته.

«قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ وأَمِنُوا نُقْلَةَ الأَسْفَارِ»: استعار وصف التمادي الَّذي هو من أفعال العقلاء لتأخّر الكرامة عنهم،

وانتظارهم لها في الدنيا إلى غاية حلولهم دار القرار، وحصول الكرامة لهم هناك، وأمنهم من نقلة الأسفار؛ ثمّ عقّب بتشويق المستمع إلى ما هناك، وأمنهم من نقلة الأسفار؛ ثم عقب بتشويق المستمع إلى هاهنا بقوله: «فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ»

أخذت في اعداد نفسك «أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ»: للوصول «إِلَی مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ»: أي يفاض «مِنْ تِلْكَ الصور(1)الْمُونِقَةِ»: المعجبة «لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ: مت شَوْقًا إِلَيْهَا ولَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِيِ هَذَا الْمَنَاظِرِ»: إلي لرحلت «إِلَی مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالًا بِهَا» لقربهم إلى ما يشتاق إليه.

«جَعَلَنَا اللهُ وإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلَی مَنَازِلِ الأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ». ختم الخطبة بالدعاء لنفسه وللسامعين أن يعدّهم الله تعالى لسلوك سبيله وقطع منازل طريقه الموصلة إلى منازل الأبرار، وهي درجات الجنّة، ومقاماتها وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست بموجبة كما هو مذهب الاعتزال بل الاتصال إليها بمحض الأفضال، والله اعلم بحقيقة الحال.

«تفسیر ما في هذه الخطبة من الغريب قوله عليه السلام: «ويؤر بملاقحة الأر» كناية عن النكاح يقال أر المرأة بارها أذا نكحها، وقوله كأنه قلع داري ع نجه نوتيه

القلع شراع السفينة وداري منسوب إلى دارين وهي بلدة على البحر يجلب منها

ص: 50


1- ورد في بعض متون النهج: الْمَنَاظِرِ

الطيب»: وكانت مغمورة في زمانه عليه السلام وعنجه أي عطفه يقال: عنجت الناقة أعنجها عنجًا إذا عطفتها والنوتي الملاح. وقوله: ضفتي جفونه أراد جانبي جفونه والضفتان الجانبان. وقوله: وفلذ الزبرج جمع فلذة وهي القطعة، وقوله كبائس اللؤلؤ الرطب الكباسة العذق والعساليج الغصون واحدها عسلوج.

ومن خطبة له عليه السلام:

«لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ»: لأن الكبیر أكثر تجربة وعلمًا وأكيس وأحزم فكان بالقدوة أولى.

«ولْیَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ»: لأنّ مظنّة الضعف وأهل لأن يرحم ويعذر لقلَّة عقليّته للأمور، وإنّما بدء بأمر الصغیر لأنّه أحوج إلى التأديب، والغاية من هذا الأمر انتظام أمورهم وحصول ألفتهم بما أمرهم به.

«ولَا تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ ولَا عَنِ اللهِ يَعْقِلُونَ»: إشارة إلى وجه الشبه أي يحبسون شيئًا في موضعه أحدًا عن الله ولهم.

«كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ»: الفيض الكسر والاداح جمع أدحى فعول من الدحو وهو الموضع الذي تفرخ فيه النعامة ثم أشار إلى وجه التشبيه فقال: «يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْرًا ويُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً»: قيل في بيانه هم يشتهون إذن ببيض الأفاعي في أعشاشها، ووجه الشبه أنّها إن كسرها کاسر لم يتأذَّ الحيوان به، وقيل: لأنّه يظنّ بيض القطا فيأثم کاسره، وإن لم يكسر يخرج حضانها شرًّا إذ يخرج أفعى قاتلًا فكذلك هؤلاء إذا أشبهوا جفاة الجاهليّة لا يحلّ لأجدادهم، وإهانتهم لحرمة ظاهر الإسلام عليهم وإن أهملوا وتركوا على ما هم عليه من الجهل، وقلَّة الأدب خرجوا شياطين، أقول حمل العبارة على هذا المعنى بعيد، يظهر أدنی تأمل ويشكل إذا حمل على

ص: 51

ظاهره لكن لم يجلس على ذیل کلامه غبار الخطأ فينبغي أن يرجح جانب المعنی والله سبحانه أعلم.

ومنها: في الإشارة إلى حال أصحابه.

«افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ وتَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ»: هو عليه السلام وهو افتراقهم إلى الخوارج وغيرهم بعد اجتماعهم عليه.

«فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ»: أي يكون منهم من يتمسّك بمن أخلفه بعدي من ذريّة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

«أَيْنَمَا مَالَ مَالَ مَعَهُ»: أي أينما سلك، سلك معه كالشيعة، وتقدير الكلام: ومنهم من ليس كذلك، إلَّا أنّه استغنى بالقسم الأوّل لدلالته على الثاني.

«عَلَی أَنَّ اللهَ سَيَجْمَعُهُمْ»: أي من كان على عقيدته فينا ومن لم يكن.

«لِشَرِّ يَوْمٍ: يكون لِبَنِي أُمَيَّةَ»: يعنى إذا فسد دنياهم اجتمعوا على هلاك بني أمية.

«كَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ»: وهو قطع السحاب المتفرقة.

«يُؤَلِّفُ اللهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ(1)يجعلهم رُكَامًا كَرُكَامِ السَّحَابِ»: شبه جمعهم لهم وتأليفه بينهم بجمعه لقزع السحاب في الخريف، وتراكمهم بذلك الجمع كتراكم ذلك القزع ووجه الشبه الاجتماع بعد التفرق.

«ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ لَهُمْ أَبْوَاباً»: هي إشارة أما إلى وجوه الإلواء التي تكون أسباب الغلبة والأموال وغير ذلك.

ص: 52


1- ورد في بعض النسخ: يَجْمَعُهُمْ

«يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ»: أي من أوطانهم ومنازلهم التي أزعجهم بنوا أمية وألزمهم فيها.

«كَسَيْلِ الْجَنَّتَیْنِ»: واستعار لخروجهم لفظ السيل، وشبّهه بسيل جنّتي مأرب وهما جنّتا سبأ المحكيّ عنها في القرآن الكريم «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ» الآية(1)ووجه الشبه الشدّة في الخروج وإفساد ما يأتون عليه كقوّة ذلك السيل.

«حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَةٌ»: أكمه «ولَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ أَكَمَةٌ»: تأكيد لسابقه «ولَمْ ترُدَّ سَنَنَهُ»: طريقه «رَصُّ طَوْدٍ»: جبل اتصال «ولَا حِدَابُ أَرْضٍ»: مرتفعها «يُذَعْذِعُهُمُ اللهُ»: يفرقهم «فِي بُطُونِ أَوْدِيَتِهِ ثُمَّ يَسْلُكُهُمْ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ»: من ألفاظ القرآن الكريم.

«يَأْخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ ويُمَكِّنُ لِقَوْمٍ فِي دِيَارِ قَوْمٍ»: أراد کما أنّ الله یُنزّل من السماء ماء فيكنّه في أعماق الأرض ثمّ يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها كذلك هؤلاء القوم يفرّقهم الله في بطون الأودية وغوامض الأرض ثمّ يظهرهم بعد الاختفاء فيأخذ بهم من قوم حقوق آخرين، ويمكَّن قوما من ملك قوم وديارهم.

«وأيْمُ اللهِ لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ»: أي بني أُميّة «بَعْدَ الْعُلُوِّ والتَّمْكِینِ لهم كَمَا تَذُوبُ الأَلْيَةُ عَلَى النَّارِ»: ووجه الشبه الفناء والاضمحلال، ومصداق هذه الأخبار ما كان من أمر الشيعة الهاشميّة، واجتماعها على إزالة ملك بني أُميّة من كان منهم ثابتًا على، ولاء عليّ وأهل بيته، ومن حاد منهم عن ذلك في أواخر أيّام مروان

ص: 53


1- سورة سبأ: الآية 16

الحمار عند ظهور الدعوة الهاشميّة، ثمّ عاد إلى توبيخ السامعين بالإشارة إلى سبب الطمع فيهم ممّن هو دونهم في القوّة والمنزلة وقوّته عليهم فقال:

«أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ ولَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِینِ الْبَاطِلِ لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ ولَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ»: يعني معاوية وأصحابه، وذلك السبب هو تخاذلهم عن نصرة الحقّ وتضاعفهم عن إضعاف الباطل، وهو في معرض التوبيخ واللائمة لهم.

«لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهً بَنِي إِسْرَائِيلَ»: وجه الشبه لحوق الضعف والمذلَّة والمسكنة لهم حيث لم يجتمعوا على العمل بأوامر الله فرماهم بالتيه وضرب عليهم الذلَّة والمسكنة. ثمّ أخبرهم بعاقبة أمرهم في التخاذل، وهو إضعاف التيه والتفرّق بعده لالتفاتهم عن الحقّ ومقاطعة بعضهم له مع دنوّه وقربه من الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ووصلهم لمعاوية وغيره مع بعده عنه فقال.

«ولَعَمْرِي لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً(1)خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وقَطَعْتُمُ الأَدْنَى ووَصَلْتُمُ الأَبْعَدَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ»: عنى نفسه

القدسية «سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ»: وطريقه «وكُفِيتُمْ مَئُونَةَ الِاعْتِسَافِ»: المشي

علي غیر طريق «ونَبَذْتُمُ الثِّقْلَ »: نقل الأوزار في الآخرة «عَنِ الأَعْنَاقِ»: أعناق نفوسكم وظاهر كونها قادحة؛ «الْفَادِحَ»: المثقل ويحتمل أن يريد بالثقل الفادح الآثام مع ما يلحقهم في الدنيا من الخطوب الفادحة بسبب عصيان الإمام والخروج عن أمره وبالله التوفيق.

ص: 54


1- ورد في بعض متون النهج: بِمَا

ومن خطبة له عليه السّلام في أول خلافته:

«إِنَّ اللهَ تَعَالَی أَنْزَلَ كِتَابًا هَادِياً»: إلى طريق الحقِّ، «بَیَّنَ فِيهِ الْخَیْرَ والشَّرَّ فَخُذُوا نَهْجَ الْخَیْرِ تَهْتَدُوا»: لكونه طريق الهدى إلى المطالب الحقيقيّة الباقية، «واصْدِفُوا»: اعرضوا، «عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ»: طريقه لاستلزام الإعراض عنه لزوم طريق الحقّ

فالاستقامة فيه، تَقْصِدُوا الْفَرَائِضَ وفي نسخة: الفرائض «أَدُّوهَا إِلَی اللهِ»: إشارة أي الزموا الفرائض اقضوا ما فات منها واحفظوا على ما يستقبل منها، «تُؤَدِّكُمْ إِلَی الْجَنَّةِ»: لأنّها منتهى الخیر كلَّه وفيه تنبيه على أنَّه أقوى طرق الخیر، «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ حَرَامًا غَیْرَ مَجْهُولٍ»: بل هو في غاية الوضوح، «وأَحَلَّ حَلَالًا غَیْرَ مَدْخُولٍ»: أي لا عيب فيه ولا شبهة فلا عذر لمن تركه، «وفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحَرَمِ كُلِّهَا»: هذا لفظ الخر النبويّ: «حرمة المسلم فوق كلّ حرمة دمه وماله»(1)، «وشَدَّ بِالِإخْلَاصِ والتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا»: أي: ربطها بهما فأوجب على المخلصین المعترفین بالوحدانيَّة المحافظة على حقوق المسلمين ومراعاة موضِعها، وقرن بتوحيده بذلك حتّى صار فضله كفضل التوحيد، ثمّ عرّف المسلم بلفظ الخبر النبويّ أيضا فقال: «فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ ويَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ»(2): من جوامع الكلم، «ولَا يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلَّا بِمَا يَجِبُ »: أورده له تأكيدًا له، «بَادِرُوا أَمْرَ

الْعَامَّةِ وخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وهُوَ»: أي ذلك الأمر «الْمَوْتُ» وإنما كان مع لكل الحيوان

ص: 55


1- شرح النهج لابن میثم البحراني ج 3 ص 319؛ وشرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 9 ص 289؛ والمعتبر للمحقق الحلي: ج 1 ص 337 باختلاف في العبارة، وتذكرة الفقهاء للعلامة للحلي: ج 2 ص 113
2- الإيضاح للفضل بن شاذان الأزدي: هامش ص 212؛ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة الدينوري: ص 290؛ دلائل النبوة لإسماعيل الأصبهاني: ج 4 ص 1245؛ الفايق في غريب الحديث للزمخشري: ج 1 ص 252؛ کشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي: ج 1 ص 439؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي في: ج 4 ص 76

خاصة أحدهم لأن له مع كل شخص خصوصية وكيفية مخالفته لحاله مع غيرة وأمر بها بمبادرته إلى بمبادرة العمل له مع ولما بعده قبل سبقه اليهم «فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ»: أي ماتوا أمامكم وهم كالمنتظرين لكم.

«وإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ»: أي: السابقين إلى الآخرة اللاحقين منكم ليبعث الكلّ جميعاً، وقد سبقت هذه الألفاظ بعينها وشرحها مستوفي.

«اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ»: بلزوم خوفه في مراعاة ما ينبغي لكلّ أحد مع غيره.

و«وبِلَادِهِ»: ترك الفساد في الأرض، ونبّه عى وجوب ذلك بإستعقاب كلّ عمل وإن قلّ للسؤال عنه، ومناقشة الحساب عليه بقوله: «فَإِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ»: فيقال: لم استوطنتم هذا المكان وزهدتم في ذلك.

«والْبَهَائِمِ»: فيقال: لم ضربتم هذه وقتلتم هذه ولم أجعتموها؟، وإليه الإشارة بقوله تعالى: «وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(1)، وقوله «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»(2)، قيل: هو شبع البطن وبارد الماء ولذّة النَّوم وظلال المساكن واعتدال الخلق، وقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ» فيقال: لم أشغلت قلبك وسمعك، وفي الخبر الصحيح النبويّ إنّ الله عذّب إنسانا بهرة حبسه في بيت وأجاعه حتّى هلك، ثمّ أجمل القول بعد تفصيله فقال: «وأَطِيعُوا اللهَ ولَا تَعْصُوهُ وإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَیْرَ فَخُذُوا بِهِ وإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ»: وأرشدَ إلى الأخذ بالخير عند رؤيته والإعراض عن الشرّ عند رؤيته، وبالله التوفيق.

ص: 56


1- سورة النحل: الآية 93
2- سورة التكاثر : الآية 8

ومن كلام له عليه السّلام بعد ما بويع بالخلافة: في اعتذار منه عليه السّلَام في تأخير القصاص من قتلة عثمان:

«وقد قال له قوم من الصَّحابة: لو عاقبت قومًا ممَّن أجلب على عثمان»: جمع عليه؛ فقال عليه السَّلَام: «يَا إِخْوَتَاهْ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ»: دليل على أنّه كان ذلك في نفسه، وحاصل هذا العذر عدم التمكَّن كما ينبغي؛ ولذلك قال: «ولَكِنْ كَيْفَ لِي بِقُوَّةٍ والْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ»: قوتهم وصدقه عليه السَّلَام ظاهر فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا من المجلبين عليه، وكان من أهل مصر ومن الكوفة خلق عظیم حضروا من بلادهم، وقطعوا المسافة البعيدة؛ لذلك وانضمّ إليهم أعراب أجلاف من البادية وعبدان المدينة، فكانوا غاية الشوكة حال اجتماعهم، وثاروا ثورة واحدة؛ ولذلك قال: «يَمْلِكُونَنَا ولَا نَمْلِكُهُمْ وهَا هُمْ

هَؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُكُمْ»: بتشديد الدَّال وتخفیفها وكسر العين وضمّها جمع عبد.

«والْتَفَّتْ»: انضمت «إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ وهُمْ خِلَالَكُمْ»: وسطكم، «يَسُومُونَكُمْ»:

يكلفونكم، «عَلَى مَا شَاءُوا»: وروى أنّه عليه السَّلَام جمع الناس ووعظهم، ثمّ قال: ليقم قتلة عثمان فقام بأسرهم إلَّا القليل، وكان ذلك الفعل منه استشهادًا على صدق قوله عليه السَّلَام: والقوم على حدّ شوكتهم، ومع تحقّق هذه الحال لا يبقى له موضع قدرة على شيء من أمرهم، فلذا استفهم على سبيل الإنكار وقال: «وهَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعًا لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْءٍ تُرِيدُونَهُ»: ثمّ قال على سبيل قطع لجاج الطالبین مخاطبًا لهم: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّةٍ»: يريد أمر المجلبین عليه إذ لم يكن قتلهم إيّاه بمقتضى الشريعة، إذ الصادر عنه من الأحداث لا يجب فيها قتل.

«وإِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً»: أي معينين وناصرين؛ ثمّ قسّم الناس على تقدير

ص: 57

الشروع في أمر القصاص إلى ثلاثة أقسام، وهو احتجاج منه على الطالبين وتضعيف لرأيهم بقياس ضمن من الشكل الأوّل مرکَّب من شرطيّتين متّصلتين صغراهما قوله: و «إِنَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ إِذَا حُرِّكَ»: كانوا فيه.

«عَلَى أُمُورٍ»: وتقدير الكبرى فإذا كان الناس فيه عى أمور لم يتمكَّن من إتمامه وفعله؛ فينتج أنّ هذا الأمر إذا حرّك لا يتمّ فعله، ثمّ عدّ تلك الأمور بقوله: «فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ»: أي: تری کونه مصيبًا کما یری الطالبون.

«وفِرْقَةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ»: أي: ترى أنّه مخطئ وهم أنصار المقتصّ منهم.

«وفِرْقَةٌ لَا تَرَى هَذَا ولَا ذَاكَ»: بل يتوقّف کما جرى ذلك في أمر التحكيم، ثمّ أمرهم بالصبر إلى غاية هدوء الناس، إذ بيّن لهم أنّه لا مصلحة في تحريك الأمر حينئذ فإنّ الحقوق عند هدوء الناس، واستقرار القلوب أسهل مأخذًا وذلك قوله: «فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدؤاَ النَّاسُ»: يسكنوا، «وتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَافقهَا(1)وتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ

مُسْمَحَةً»: بفتح الميم أي: مسهلة وبكسرها من أسمحت... أي: ذلَّت نفسه.

«فَاهْدَأُوا عَنِّي وانْظُرُوا مَا ذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي»: يدلّ على ترصّده وانتظاره للفرصة من هذا الأمر ثمّ خوّفهم من الاستعجال بفعل يضعف شوكة الدين

ويورث وهنه؛ فقال: «ولَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ»: تضعف «قُوَّةً وتُسْقِطُ مُنَّةً»: قوة، «وتُورِثُ وَهْنًا وذِلَّةً»: فإنّه لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم لم يؤمن من تجدّد فتنة أخرى أعظم من الأولى، وهو غالب الظنّ؛ فكان الأمور في التدبير والَّذي يقتضيه العقل، والشرع الإمساك إلى حين سكون الفتنة، وتفرّق أولئك الشعوب ورجوع كلّ قوم إلى بلادهم، وربّما كان عليه السَّلَام ينتظر مع ذلك أن يحضر بنو

ص: 58


1- ورد في بعض متون النهج: مَوَاقعهَا

عثمان للطلب بدمه، ويعيّنون قومًا بأعيانهم بعضهم للقتل، وبعضهم للحصار کما جرت عادة المتظلَّمين إلى الإمام ليتمكَّن من العلم بحكم الله؛ فليقع الأمر كذلك، وعصي معاوية وأهل الشام والتجأ إليه ورثة عثمان، وفارقوا حوزة أمير المؤمنين عليه السَّلَام ولم يطلبوا القصاص، وإنّما طالبوه مغالبة، وجعلها معاوية عصبيّة جاهليّة، ولم يأت أحد منهم الأمر من بابه، وقيل: ذلك ما كان من أمر طلحة، والزبير ونقضهما للبيعة، ونهبهما أموال المسلمين بالبصرة، وقتلهما للصالحين من أهلها، وكلّ تلك الأمور الَّتي جرت مانعة الإمام عن التصديّ للقصاص؛ ولذلك قال عليه السّلام لمعاوية في بعض كلامه: فأمّا طلبك بدم عثمان؛ فادخل في الطاعة، وحاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله، وسنّة رسوله، ولما كثر القول عليه في أمر عثمان، واضطرب الأمر من قبل طلحة، والزبير ومعاوية لغلبة الظن حينئذ بمخالفة واضطراب أمر الشام فقال: «وسَأُمْسِكُ الأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ وإِذَا لَمْ أَجِدْ

بُدًّا فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ»: أي قد انتدبت هذه العذر وأن يقبلوا مني؛ فسأمسك الأمر أي أمر الخلافة بجهدي؛ فإذا لم أجد بدًا من قتال من ينبغي وينكث؛ فآخر الدواء الكي أي الحرب، والقتال لأنها الغاية التي ينتهي أمر العصاة إليها، ومداواة أمراض قلوبهم كما ينتهي مداواة المريض إلى أن يكون وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة:

«إِنَّ اللهَ تعالى بَعَثَ رَسُولها هَادِيًا بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وأَمْرٍ قَائِمٍ»: مستقيم، «لَا يَهْلِكُ عَنْهُ»: أي: عن مخالفته.

«إِلَّا هَالِكٌ»: أي: أعظمه كما تقول لا يعلم الفنّ من هذا العلم إلَّا عالم: أي: من بلغ الغاية من العلم، صدر الفضل بالأمور الجامعة للمسلمين التي هي أصول دولتهم وتذکیر به لهم بها ليرجعوا إليها.

ص: 59

«وإِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُشَبَّهَاتِ هُنَّ الْمُهْلِكَاتُ»: لمخالفتها الكتاب والسنّة الجامعين لحدود الله وخروجه عنهما، وأراد الهلاك الأُخرويّ.

«إِلَّا مَا حَفِظَ اللهُ مِنْهَا»: استثناء من المهلکات: أي إلَّا ما حفظ الله منها بالعصمة عن ارتكابها، إذ لا تكون مهلكة إلَّا لمن ارتكبها، والمشبهات ما أشبه السنة وليس منها، وروى المشبّهات بتشديد الباء وفتحها، وهو ما شبّه على الناس وليس، وروى المشتبهات: أي الملتبسات.

«وإِنَّ فِي سُلْطَانِ اللهِ»: سلطان الإسلام.

«عِصْمَةً لأَمْرِكُمْ»: وظاهر أنّ فيه متعة وعصمة لهم؛ فإنّ الَّذي نصرهم وهم قليلون حيّ قيّوم فبالأولى أن ينصرهم على كثرتهم بشرط طاعته الخالصة والدخول في أمر سلطانه؛ ولذلك قال: «فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَیْرَ مُلَوَّمَةٍ»: أي: غير ملوم صاحبها بالنسبة إلى النفاق والرياء.

«ويروي(1)مُسْتَكْرَهٍ بَهِا»: ويروى غير ملويّة: أي معوجّة، ثمّ أخذ في وعيدهم إن لم تطيعوهُ بقوله: «واللهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الإِسْلَامِ ثُمَّ لَا يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَدًا حَتَّى يَأْرِزَ الأَمْرُ إِلَی غَيْرِكُمْ»: أي: يصير أمر الخلافة إلى غيرهم، وأراد أمر الخلافة، ثمّ إن جعلنا حتّى وما بعدها غاية لنقل السلطان عنهم لم يفهم عنها عوده إليهم، وإن جعلناها غاية من عدم نقله إليهم فهم منها ذلك، وقد استشكل قوله لا يرجع إليهم أبدًا بالدولة العباسية، والجواب عنه من وجوه أن القوم الذين خاطبهم من أصحابه بهذا الخطاب لم يرجع الدولة إليهم أبداً؛ فإن أولئك بعد انقضاء دولة بني أمية لم يبقَ منهم أحد ثم لم ترجع إلى أحد من أولاده

ص: 60


1- ورد في بعض متون النهج: (ولاَ) بدلًا من (ویروي)

أصلًا أنه قيد بالغاية؛ فقال: لا نصر إليكم حتى يصير في قومٍ آخرين، وظاهر أنَّه كذلك بانتقاله إلى بني أميَّة، قيل: إنما عادلان الشرط لم يقع وهو عدم الطاعة؛ فإن أكثرهم أطاعوا طاعة غير ملومة، ولا مستكره بها، قال قوم: أراد بقوله ابدًا المبالغة كما تقول لغيرك لأحبسنه أبداً، والمراد بالقوم الذين يأرز(1)إليهم هذا الأمر بنو أُميّة كما هو الواقع، وقوله: «إِنَّ هَؤُلَاءِ»: إشارة إلى طلحة والزبير وعائشة وأتباعهم.

«قَدْ تَمَالَأوا»: تعاونوا، «عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَاتِي»: لا ما أظهروه من الطلب بدم عثمان.

«وسَأخبركم(2)مَا لْمَ أَخَفْ عَلىَ جَمَاعَتِكُمْ فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلىَ فَيَالَةِ هَذَا الرَّأْيِ انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِينَ»: وعد بالصبر عليهم ما دام لا يخاف على حوزة الجماعة، وإخوانهم إن يقولوا على ضعف رأيهم في مسيرهم، ومخالفتهم قطعوا نظام المسلمين وفرّقوا جماعتهم، ثم بيَّن عليه السَّلَام على سخطهم لأمارته فقال: «وإِنَّمَا طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَدًا لِمَنْ أَفَاءَهَا اللهُ عَلَيْهِ»: أي: جعل تعالى تلك الأرض قبالة وغنيمة خاصة له والإشارة إلى بيت الرَّسول صلَّى الله عليه وآله.

«فَأَرَادُوا رَدَّ الأُمُورِ عَلَى أَدْبَارِهَا»: أي أرادوا إخراج هذه الأمور عن أهل بيت الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم آخرا كما أخرجوه، وصرف هذا الأمر عنهم بعد إقباله إلى ما كان عليه من إدباره عنهم، ثمّ أخبر عنهم بما لهم عليه من الحقّ

ص: 61


1- يأرز: بمعنى البخل والتقبض قال ابن منظور عن الجوهري: جوهري: أَرَزَ فان يَأْرِزُ أَرْزاً وأُرُوزاً إِذا تَضامَّ وتَقَبَّضَ من بخْلِه، فهو أَرُوزٌ؛ يُنظر لسان العرب لابن منظور: ج 5 ص 305
2- ورد في بعض النسخ: وسَأَصْبُرِ

إن أطاعوه الطاعة غير مدخولة، وهي أن يعمل فيهم بكتاب الله ويسير سيرة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والقيام بحقوقه الَّتي أوجبها وإقامة سنَّته فقال: «ولَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللهِ ت وسِیرَةِ رَسُولِه والْقِيَامُ بِحَقِّهِ والنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ»: يعني الرفع وذلك هو الواجب على الإمام وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام کلَّم به بعض العرب:

وهو كليب الجرمي، وقد أرسله قوم من أهل البصرة لمّا قرب عليه السَّلَام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتتزول الشبهة من نفوسهم فبيّن له عليه السّلام من أمره معهم ما علم به أنّه على الحقّ. ثمّ قال له: بایع. فقال: إنّي رسول قوم ولا أحدث حدثا دونهم حتّى أرجع إليهم. كذا في أكثر النسخ لكن في آخر بعضها بعد قول الرجل فبايعته عليه السّلام. والرجل يعرف بكليب الجرميّ.

«أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِدًا تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ فَرَجَعْتَ إِلَيْهِمْ وأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَلأِ والْکَلأِ فَخَالَفُوا إِلَی الْمَعَاطِشِ والْمَجَادِبِ مَا كُنْتَ صَانِعًا قَالَ كُنْتُ تَارِكَهُمْ ومُخَالِفَهُمْ إِلَی الْكَلأ والْمَاءِ فقال عليه السلام: فأمدد إذا يدك فقال الرجل: فو الله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي، فبايعته عليه السّلام: أعلم أن الجرميّ: منسوب إلى بني جرم، وكان قومًا من أهل البصرة بعثوه إليه عليه السّلام ليستعلم حاله أهو على حجّة أم على شبهة فلمّا رآه وسمع لفظه لم يتخالجه شكّ في صدقه فبايعه، وكان بينهما الكلام المنقول. ولا ألطف من التمثيل الَّذي جذبه به عليه السّلام فالأصل في هذا التمثيل هو حالة هذا المخاطب في وجدانه للماء والكلاء على تقدير كونه رائدا لهما، والفرع هو حاله في وجدانه للعلم والفضائل والهداية عنده، والحكم في الأصل هو مخالفته لأصحابه إلى الماء

ص: 62

والکلاء على تقدير وجدانه لهما ومخالفة أصحابه له، وعلَّة ذلك الحكم في الأصل هو وجدانه للكلاء والماء، ولمّا كان المشبّه لهذه العلَّة وهو وجدانه للفضائل والعلوم الَّتي هي غذاء النفوس ومادّة حياتها كما أنّ الكلاء والماء غذاء للأبدان ومادّة حياتها موجود لهذا الرائد في الفرع، وهو حالة وجدانه للعلم، والفضل والهداية وجب عن تلك العلَّة مثل الحكم في الأصل، وهو مخالفة أصحابه إلى الفضل، والعلم والهداية عنده عليه السّلام، ولزم أن يبايع وهو تمثيل لا تكاد النفس السليمة عند سماعه أن تقف دون الانفعال عنه والإذعان له، ولذلك أقسم الرجل أنّه لم يستطع الامتناع عند قيام هذه الحجّة فبايع وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام لما عزم على لقاء القوم بصفين:

«اللهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ والْجَوِّ الْمَكْفُوفِ»: قد مرت الإشارة إلى ذلك في الخطبة الأولى وفيه تنبيه على كمال عظمته وهذا الدعاء مما يتسعبد به القلوب والأبدان لاستفاضة الغلبة والنصر على العدو «الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً»: مغيب «الِلَّيْلِ

والنَّهَارِ»: لأن الفلك بحركته «ومَجْرًى لِلشَّمْسِ والْقَمَرِ ومُخْتَلَفًا لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ»: هذا ظاهر وليس فيه دلالة على أنّ النجوم تتحرّك: بذاتها من دون حركته.

«وجَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً»: قبلة «مِنْ مَلَائِكَتِكَ لَا يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ»: إشارة إلى الأرواح الفلكيّة لأجرامها، وقد سبقت الإشارة إليهم وبيان أنّم لا يسأمون من العبادة في الخطبة الأولى.

«ورَبَّ هَذِهِ الأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَارًا لِلأَنَامِ ومَدْرَجًا لِلْهَوَامِّ والأَنْعَامِ ومَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى ومَا لَا يُرَى»: قال بعض العلماء: من أراد أن يعرف حقيقة قوله عليه السّلام: ما يرى وما لا يرى؛ فليوقد نارًا صغيرة في فلاة في ليلة صيفيّة،

ص: 63

وينظر ما يجتمع عليها من غرائب أنواع الحيوان العجيبة الخلق لم يشاهدها هو ولا غيره. وأقول: يحتمل أن يريد بقوله: وما لا يرى ما ليس من شأنه أن يرى إمّا لصغره؛ أو لشفافيّته، ثمّ باعتبار کونه ربّا للجبال بقوله:

«ورَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلأَرْضِ أَوْتَادًا ولِلْخَلْقِ اعْتِماَداً»: وقد علمت معنی کونها أوتادًا للأرض، وأمّا كونها اعتمادا للخلق فلأنّهم قد يبنون بها المساكن ويقوم فيها من المنافع ما لا يقوم في الأودية لكثير من الأشجار والثمار، ولأنّها معادن الينابيع؛ ومنابع المعادن، وظاهر كونها إذن معتمدًا للخلق في مراتعهم ومنافعهم.

«إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ»: وهو العبور إلى طرف الإفراط من فضيلة العدل.

«وسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ»: ثمّ التسديد والاستقامة عليها: «وإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ واعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ»: فتنة الغبن والإنقهار فإنّ المغلوب إذا كان معتقدًا أنّه على الحقّ قلَّما يسلم من التسخّط على البخت والتعتّب على ربّه، وربّما كفر کثیر من الناس عند نزول البلاء بهم. وظاهر كونه فتنة: أي صارفًا عن الله. فاسعتصم عليه السّلام منها تلك وأمثالها استثباتًا لنفسه على الحقّ وتأديبا للسامعين. ثمّ أخذ فيما العادة أن يستحمی به الإنسان أصحابه في الحرب، ويستثير به طباعهم: من الاستفهام عن حامي الذمار، والَّذي تصيبه الغيرة من أهل المحافظة عند نزول الحقائق: أي عظائم الأمور وشدائدها فقال: «أَيْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ والْغَائِرُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَهْلِ الْحّفَاظِ الْنارُ وَرَاءَكُمْ»: أي أن رجوعكم القهقري هربًا من العدوا ومستلزم لدخولكم النار واستحقاقكم لها، «والْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ»: والجنّة أمامكم: أي في إقدامكم على العدوّ والتقدّم إلى مناجزته، وهو كلام في غاية الوجازة والبلاغة وبالله التوفيق.

ص: 64

ومن خطبة له عليه السّلام:

«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَا تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً ولَا أَرْضٌ أَرْضاً»: حمد الله تعالى باعتبار إحاطة علمه بالسماوات والأرضين، واستلزم ذلك تنزيهه تعالى عن وصف المخلوقين. إذ كانوا في إدراكهم لبعض الأجرام السماويّة، والأرضيّة محجوبين عمّا ورائها، وعلمه تعالى هو المحيط بالكلّ الَّذي لا يحجبه السواتر ولا تخفى عليه السرائر.

منها: «وقَدْ قَالَ لي قَائِلٌ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ لَحَرِيصٌ»:

هو سعد بن أبي وقّاص مع وروي فيه: أنت منّی بمنزلة هارون من موسی، وهو محلّ التعجّب.

«فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ واللهِ لأَحْرَصُ وأَبْعَدُ»: أي أحرص على هذا الأمر وأبعد من استحقاقه. وهو في صورة احتجاج بقياس ضمير من الشكل الأوّل(1)مسکت للقائل صغراه ما ذكر، وتقدیر کبراہ: وكل من كان على هذا الأمر أحرص وأقرب وأبعد منه فليس له أن يعيّر الأقرب إليه بالحرص عليه وكذا صح.

قوله: «وأَنَا أَخَصُّ وأَقْرَبُ»: بالحق صغری قیاس ضمیر احتجّ به على أولويّته بطلب هذا الأمر، وتقدير كبراه وكلّ من كان أخصّ، وأقرب إلى هذا الأمر فهو أولى بطلبه، وروى أنّ هذا الكلام قاله يوم السقيفة، والقائل هو أبو عبيدة بن الجرّاح، والرواية الأولى أظهر وأشهر.

ص: 65


1- الشكل الأول: من الأشكال الأربعة في قياس المنطق، التي فيها الحمل، أي حمل المعنى، ووضعه على الصغرى والكبرى، أما في الصغرى فالمعنى موضعًا وهو: وأَنَا أَخَصُّ وأَقْرَبُ، وفي الكبرى هو: من كان على هذا الأمر أحرص وأقرب وأبعد منه فليس له أن يعيّر الأقرب إليه بالحرص عليه

«وإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقًّا لِي وأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وبَيْنَهُ وتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلأِ الْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لَا يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ»: وروى بهت فعلى الثاني معناه تحیر وعلى الأول أنتبه كأنه كان غافلًا ذاهلًا عن الحجة فاستيقظ من منام غفلته ثم أخذ في استغاثه الله تعالى على قريش ومن أعانهم عليه فقال: «اللهُمَّ

إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ»: أستعينك «عَلَى قُرَيْشٍ ومَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي»: فأنهم لم يرعوا قربة من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم.

«وصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ»: بعدم التفاتهم إلى ما رووه من النصوص النبوية في حقه.

«وأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْرًا هُوَ لِي»: أي الخلافة ثم قال:(1)«ألا أن فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ»: أي إنّهم لم يقتصروا على أخذ حقّي ساكتين عن دعوی کونه حقّا لهم ولكنّهم أخذوه مع دعواهم أنّ الحقّ لهم، وأنّه يجب عليّ أن أترك المنازعة فيه. فليتهم أخذوه معترفين أنّه حقّ لي فكانت المصيبة أهون، وروی نأخذه ونتركه بالنون في الكلمتين، وعليه نسخة الرضي رضي الله عليه والمراد إنّا نتصرّف فيه کما نشاء بالأخذ والترك دونك، وهذه شكاية ظاهرة لا تأويل فيها.

منها في ذكر أصحاب الجمل: وإظهار عذره في قتال أصحاب الجمل، وذكر لهم ثلاث كبائر من الذنوب تستلزم إباحة قتالهم وهي قوله: «فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ

حُرْمَةَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم كَمَا تُجَرُّ الأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا مُتَوَجِّهِینَ بِهَا إِلَی الْبَصْرَةِ»: وجه الشبه انتهاك الحرمة ونقصانها.

«فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا وأَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم

ص: 66


1- ورد في بعض متون النهج: أَلاَ إِنَّ

لَهُمَا ولِغَيْرِهِمَا»: ضمير التثنية لطلحة والزبير، وفي ذلك جرأة على رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم وروي عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال يومًا لنسائه وهن عنده جميعًا «ليت شعري أيتكن صاحب الجمل الأرب»(1)وتنجو بعد ما كادت، وروی حبیب بن عثمان قال: لمّا خرجت عائشة وطلحة، والزبير من مكَّة إلى البصرة طرقت ماء الحوؤب، وروي الجؤاب، وهو ماء لبنی عامر بن صعصعة؛ فنبحتهم الكلاب؛ فنفرت صغار إبلهم؛ فقال قائل منهم: لعن الله الحوؤب فما أكثر کلابها، فلمّا سمعت عايشة ذكر الحوؤب قالت: أهذا ماء الحوؤب قال: نعم. قالت: ردّوني؟، فسئلوها ما شأنها وما بدء لها، فقالت: إنّي سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «كأنّي بكلاب الحوؤب قد نبحت بعض نسائي ثمّ قال لي: يا حميراء إيّاك أن تكونيها»(2). فقال لها

ص: 67


1- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 5 ص 11؛ والمحاسن للبرقي: ج 1 ص 285؛ والكافي للكليني: ج 2 ص 234؛ ومسند الحميدي لعبد الله بن الزبير الحميدي: ج 2 ص 271؛ والمعيار والموازنة لأبو جعفر الإسكافي: هامش ص 15؛ والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي في المصنف: ج 6 ص 237؛ مسند ابن راهويه لإسحاق بن راهويه: ج 1 ص 427
2- قل من يذكر خروج عائشة وحديث النبي صلى الله عليه وآله إلا أن الشيد المفيد رحمه الله تعالى ذكر ما هو قريب منه في كتابه الجمل ص 125؛ فأحببت أن أذكره لزيادة المعرفة قال: ((وروی الواقدي عن أفلح بن سعيد عن یزید بن زیاد عن عبد الله ابن أبي رافع عن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله قالت كنت مقيمة بمكة تلك السنة حتى دخل المحرم فلم أر إلا رسول طلحة والزبير جاءني عنهما يقول إن أم المؤمنين عائشة تريد أن تخرج للطلب بدم عثمان فلو خرجت معها رجونا أن يصلح بکما فتق هذه الأمة فأرسلت إليهما والله ما بهذا أمرت ولا عائشة لقد أمرنا الله أن نقر في بيوتنا لا نخرج للحرب أو للقتال مع أن أولياء عثمان غيرنا والله لا يجوز لنا عفو ولا صلح ولا قصاص وما ذاك إلا لولد عثمان وأخرى نقاتل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ذو البلاء والعناء وأولى الناس بهذا الأمر والله ما أنصفتما رسول الله في نسائه حيث تخرجوهن إلى العراق وتتركوا نساءكم في بيوتكم ثم أرسلت إلى عائشة فنهتها أشد النهي عن طلحة والزبير في الخروج لقتال علي (ع) وذكرتها أمورا تعرفها وقالت لها أنشدك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لك اتق الله واحذري أن تنبحك كلاب الحوأب فقالت نعم وردعتها بعض الردع ثم رجعت إلى رأيها في المسير))؛ كذلك يُنظر شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد المعتزلي: ج 9 ص 313؛ كذلك لوامع الحقائق في أصول العقائد للميرزا أحمد الآشتياني: ج 1 ص 90

الزبير: مهلا يرحمك الله؛ فإنّا قد جزنا ماء الحوؤب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأنّ هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوؤب؛ فلفّف لها الزبير وطلحة وطلبا خمسين أعرابيّاً جعلا لهم جعلا؛ فحلفوا لها وشهدوا أنّ هذا الماء ليس بماء الحوؤب؛ فهذه أوّل شهادة زور علمت في الإسلام، فسارت لوجهها؛ فأمّا قوله في الحرف: تنجو بعد ما كانت، فقالت الإماميّة: معناه تنجو من القتل بعد ما كادت أن تقتل، وقال المعتذرون لها معناه تنجو من النار بالتوبة بعد ما كادت أن تدخلها بما فعلت.

الناسخ(1)نكثهم لبيعته وأشار إليه بقوله: «فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ وسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعًا غَیْرَ مُكْرَهٍ»: الثالثة: قتلهم لعامله بالبصرة وخزّان بیت المال وغيرهم وإليه الإيماء بقوله:

«فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْرًا وطَائِفَةً غَدْراً»: بعد إعطائهم الأمان، وخلاصة القصّة ما روى أنّ طلحة والزبير، وعائشة لمّا انتهوا في مسيرهم إلى حفر أبی موسی قریب البصرة كتبوا إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ، وهو يومئذ عامل عليّ على البصرة: أنّ أخل لنا دار الأمارة؛ فلمّا قرأ كتابهم بعث إلى الأحنف بن قيس وإلى حكيم بن جبلَّة العبديّ فأقرئهما الكتاب، فقال الأحنف: إنّهم إن حاولوا بهذا الطلب بدم عثمان وهم الَّذين أکَّبوا على عثمان، وسفكوا دمه فأراهم، والله لا يزايلونا حتّى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا، وأظنّهم سيركبون منك خاصّة ما لا قبل

ص: 68


1- الظاهر من كلمة الناسخ هنا: أي في نسخة ثانية نكثهم لبيعته

لك به، والرأي إن تتأهّب لهم بٍالنهوض إليهم في من معك من أهل البصرة؛ فإنّك اليوم الوالي عليهم، وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك، وقال حكيم: مثل ذلك. فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيتما لكنّي اكره الشرّ وأن أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به، فقال له حکیم: فأذن لي حتّى أسير إليهم بالناس؛ فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلَّا نابذتهم إلى سواء فقال عثمان: ولو كان ذلك لي لسرت إليهم بنفسي فقال حكيم: أمّا والله لئن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلنّ قلوب كثير من الناس إليهم، ولیزیلنّك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم، فأبي عثمان. ثمّ كتب عليّ عليه السّلام إلى عثمان بن حنیف لمّا بلغه مسير القوم إلى البصرة: من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أمّا بعد فإنّ البغاة عاهدوا الله؛ ثمّ نكثوا وتوجّهوا إلى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به، والله أشدّ بأسًا وأشدّ تنكيلًا؛ فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة، والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الَّذي؛ فارقونا عليه؛ فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلَّا التمسّك بحبل النكت والخلاف؛ فناجزهم القتال حتّى يحكم الله بينك، وبينهم وهو خير الحاكمين، وكتبت كتابي هذا من الربذة، وأنا معجّل السير إليك إنشاء الله، وكتب عبيد الله بن أبي رافع في صفر سنة ستّ وثلاثين؛ فلمّا وصل الكتاب إلى عثمان بعث أبا الأسود الدؤليّ، وعمران بن الحصين إليهم فدخلا على عائشة؛ فسألاها عمّا جاء بهم. فقالت لهما: ألقيا طلحة والزبير. فقاما وألقيا الزبير فكلَّماه فقال: جئنا لنطلب بدم عثمان وندعو الناس أن يردّوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم؛ فقالا له: إنّ عثمان لم يقتل بالبصرة لتطلبا دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان وأين هم، وإنّك وصاحبك وعائشة كنتم أشدّ الناس عليه، وأعظمهم

ص: 69

إغراء بدمه، فأقيدوا أنفسكم، وأمّا إعادة أمر الخلافة شوری فكيف وقد بایعتم عليّا طائعين غير مكرهين، وأنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأنت آخذ قائم سيفك تقول ما أحد أحقّ بالخلافة منه.

وامتنعت من بيعة أبي بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول فقال لهما: اذهبا إلى طلحة. فقاما إلى طلحه فوجداه خشن الملمس شديد العريكة قويّ العزم في إثارة الفتنة، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه بما جرى، وقال له أبو الأسود: يا ابن حنيف قد أتيت؛ فانفر وطاعن القوم؛ وجالد واصبر وأبرز لهما مستلئماً وشمّر؛ فقال ابن حنيف: أي والحرمين لأفعلنّ، وأمر منادیه فنادى في الناس: السلاح السلاح؛ فاجتمعوا إليه وأقبلوا حتّى انتهوا إلى المربد؛ فملأ مشاة وركبانا فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب، فسكتوا بعد جهد فقال: أمّا بعد فإنّ عثمان بن عفّان كان من أهل السابقة، والفضيلة ومن المهاجرين الأوّلين الَّذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ونزل القرآن ناطقًا بفضلهم، وأحد الأئمّة الوالين علیکم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله، وقد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه فأتيناه واستعتبناه فأعتبنا فعدا عليه امرؤ ابتزّ هذه الأُمّة أمرها غصبًا بغير رضى ولا مشورة؛ فقتله وساعده على ذلك قوم غير أتقياء؛ ولا أبرار فقتل محرمًا بريئًا تائباً، وقد جئتناكم أيّها النّاس نطلب بدمه؛ وندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا الله قتلهم قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شوری بین المسلمين وكانت خلافته رحمة للأُمّة جميعًا فإنّ كلّ من أخذ الأمر من غير رضى العامّة ولا مشورة منها ابتزازًا كان ملکه ملکًا مغصوبًا وحدثًا كبيراً؛ ثمّ قام الزبير؛ فتكلَّم بمثل کلام طلحة. فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا عليًّا فيمن بایعه

ص: 70

ففيم بايعتما ثمّ نستیما، فقالا: ما بايعناه وما لأحد في أعناقنا بيعة وإنّما استكرهنا على بيعته. فقال ناس: قد صدقًا ونطقا بالصواب، وقال آخرون: ماصدقًا ولا أصاباً؛ حتّى ارتفعت الأصوات فأقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع أيّها الناس أقلَّوا الكلام واسكتوا. فسكت الناس لها.

فقالت: إنّ أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر وبدّل. ثمّ لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتّى قتل مظلومًا تائبًا وإنّما نقموا عليه ضربه بالسوط وتأميره الشبّان وحمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر، وحرمة البلد ذبحا کما يذبح الجمل، ألا وإنّ قريشًا رمت غرضها بنبالها وأدمت أفواهها بأيديها وما نالت بقتلها إيّاه شيئا ولا سلکت به سبيلًا قاصدًا أما والله ليرونها بلایا عقيمة تنبه النائم، وتقيم الجالس، وليسلطنّ عليهم قوم لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب. أيّها الناس إنّه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحلّ به دمه مصّتموه کما یماصّ الثوب الرحيض، ثمّ عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته، وخروجه من ذنبه وبایعتم ابن أبي طالب بغیر مشورة من الجماعة ابتزازًا وغصبا، أتراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ولا أغضب لعثمان من سيوفكم. ألا إنّ عثمان قتل مظلومًا؛ فاطلبوا قتلته فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثمّ اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الَّذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان قال: فماج الناس واختلطوا؛ فمن قائل يقول: القول ما قالت، ومن قائل يقول: وما هي من هذا الأمر إنّما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها.

وارتفعت الأصوات وكثر اللغط حتّى تضاربوا بالنعال وترامو بالحصا؛ ثمّ تمایزوا فرقتين فرقة مع عثمان بن حنيف وفرقة مع طلحة والزبير؛ ثمّ أقبلا من المربد يريدان عثمان بن حنيف؛ فوجدوه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك

ص: 71

فمضوا حتّى انتهوا إلى مواضع الدبّاغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير، وأصحابهما بالرماح فحمل عليهم حکیم بن جبلَّة فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتّى أخرجوهم من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالأحجار؛ فأخذوا إلى مقبرة بني مازن فوقفوا بها مليّا حتّی ثابت إليهم خيلهم، ثمّ أخذوا على مسنّاة البصرة حتّى انتهوا إلى الرابوقة.. ثمّ أتوا سبخة دار الرزق؛ فنزلوها فأتاهما عبد الله بن حكيم التميميّ لمّا نزلا السبخة بكتب کتباها إليه فقال لطلحة: يا أبا محمّد أما هذه كتبك إلينا فقال: بلى فقال: فكنت أمس تدعونا إلى خلع عثمان، وقتله حتّى إذا قتلته أتيتنا ثائرًا بدمه، فلعمري ما هذا رأيك، ولا تريد إلَّا هذه الدنيا مهلا؛ إذا كان هذا رأيك قبلت من عليّ ما عرض عليك من البيعة؛ فبايعته طائعًا راضيًا؛ ثمّ نكثت بيعتك، وجئتنا لتدخلنا في فتنتك؛ فقال: إنّ عليّا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس؛ فعلمت أنّي لو لم أقبل ما عرضه عليّ لا يتمّ لي؛ ثمّ يغري بي من معه؛ ثمّ أصبحا من غد فصفّا للحرب، وخرج إليهما عثمان في أصحابه؛ فناشدهما الله والإسلام، وأذكر هما بيعتهما ثلاثا؛ فشتماه شتمًا قبيحًا وذكرا أُمّة.

فقال للزبير: أما والله لو لا صفيّة، ومكانها من رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم فإنّها أذنتك إلى الظلّ، وإنّ الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة يعني طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسوئکما؛ اللهمّ إنّي قد أعذرت إلى هذين الرجلين؛ ثمّ حمل عليهم فاقتتل الناس قتالًا شديدًا؛ ثمّ تحاجزوا واصطلحوا على أن یکتب بینهم کتاب صلح.

فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاريّ، ومن معه من المؤمنين من شيعة عليّ بن أبي طالب، وطلحة، والزبير ومن معهما من المؤمنين

ص: 72

والمسلمين من شيعتهما أنّ لعثمان بن حنيف الأنصاريّ دار الأمارة، والرحبة والمسجد، وبیت المال والمنبر، وأنّ لطلحة والزبير، ومن معهما أن ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة، ولا يضارّ بعضهم بعضاً في طريق، ولا سوق، ولا فرضة، ولا مشرعة، ولا مرفق حتّى يقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب؛ فإن أحبّوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمّة، وإنّ أحبّوا ألحق كلّ قوم بهواهم، وما أحبّوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله، وميثاقه، وأشدّ ما أخذه على نبيّ من أنبيائه من عهد وذمّة؛ وختم الكتاب، ورجع عثمان حتّى دخل دار الأمارة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بأهلهم، ويداووا جراحاتهم؛ فمكثوا كذلك أيّامًا؛ ثمّ خاف طلحة، والزبير من مقدم عليّ عليه السّلام، وهما على تلك القلَّة؛ والضعف فراسلوا القبائل يدعوهم إلى الطلب بدم عثمان؛ وخلع عليّ عليه السّلام؛ فبايعهم على ذلك الأزد وضبّة، وقيس غيلان كلَّها إلَّا الرجل؛ والرجلين من القبيلة كرهوا أمرهم؛ فتواروا عنهم، وبايعهما هلال بن، وكيع بمن معه من بني عمرو ابن تميم، وأكثر بنی حنظلة وبنی دارم؛ فلمّا استوسق لهما أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ریح، ومطر في أصحابهما، وقد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة فتقدّم عثمان ليصلَّى بهم فأخّره أصحاب طلحة والزبير، وقدّموا الزبير فجاءت الشرط حرس بیت المال و، أخّروا الزبير وقدّموا عثمان؛ فغلبهم أصحاب الزبير؛ فقدّموه، وأخّروا عثمان؛ فلم يزالوا كذلك حتّى كادت الشمس أن تطلع؛ فصاح بهم أهل المسجد؛ ألا تتّقون الله أصحاب محمّد قد طلعت الشمس؛ فغلب الزبير فصلَّي بالناس فلمّا انصرف من صلاته صاح بأصحابه المتسلَّحين أن خذوا عثمان فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفهما؛ فلمّا أسر ضرب ضرب الموت، ونتفت حاجباه وأشفار عينيه وكلّ شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا

ص: 73

السيالحة وهم سبعون رجلاً فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة فأشارت إلى أحد أولاد عثمان أن اضرب عنقه فإنّ الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله. فنادى عثمان يا عائشة ويا طلحة ويا زبير إنّ أخي سهل بن حنيف خليفة عليّ بن أبي طالب على المدينة وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعنّ السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقى منكم أحدا.

فكفّوا عنه وخافوا من قوله فتركوه، وأرسلت عائشة إلى الزبير أن اقتل السيالحة(1)فإنّه قد بلغني الَّذي صنعوا بك قبل، فذبحهم، والله كما يذبح الغنم ولی ذلك عبد الله ابنه، وهم سبعون رجلا، وبقيت منهم بقيّة متمسّكون ببیت المال قالوا: لا نسلَّمه حتّى يقدم أمير المؤمنين فسار إليهم الزبير في جيش ليلاً وأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبراً؛ فحكى أنّ القتلى من السيالحة يومئذ أربع مأة رجل، وكان غدر طلحة، والزبير بعثمان بن حنيف بعد غدرهم في بيعة عليّ غدرا في غدر، وكانت السيالحة أوّل قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً، وخيّروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعليّ؛ فاختار الرحيل؛ فخلَّوا سبيله فلحق بعليّ عليه السّلام؛ فلمّا رآه بکی، وقال له شيخ وجئتك أمرداً، فقال عليّ عليه السّلام: إنّا لله وإنّا إليه راجعون قالها ثلاثاً فذلك معنى قوله: فقدموا على عاملي بها، وخزّان بيت مال المسلمين.

إلى آخره؛ ثمّ أقسم عليه السّلام فقال: «فَوَ اللهِ أن»: بالكسر والفتح زائدة.

«لَوْ لَمْ يُصِيبُوا»: أي يقيلوا «مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ»: إليه «لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا ولَمْ يَدْفَعُوا

ص: 74


1- السيالحة: هم الأعراب، ويحتمل أن يكون قبيلة من قبائل اليمن، والظاهر أن عائشة طلبت من الزبير أن يقتل الأعراب؛ لسان العرب لابن منظور: ج 3 ص 487

عَنْهُ بِلِسَانٍ ولَا بِيَدٍ»: وفيه أشكال إذ المفهوم من هذا الكلام تعليله عليه السلام جواز قتل من لم ينكر المنكر واجب عنه، بأنّه يجوّز قتلهم لأنّهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا مع أنّه ممّا حرّمه الله، فجرى ذلك مجرى اعتقادهم لإباحة الزنا وشرب الخمر.

وأيضًا بأنّ جواز قتلهم لدخولهم في عموم قوله تعالى «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» الآية(1)وإنّ هؤلاء القوم قد حاربوا رسول الله لقوله صلىَّ الله عليه وآله وسلَّم: «حربك يا عليّ حربي»(2)، وسعوا في الأرض بالفساد، واعترض المجيب الأوّل عليه. فقال: الإشكال إنّما هو في تحليله لقتل الجيش المذكور لقوله: لم ينكر على من قتل رجلًا واحدًا من المسلمين فالتعليل بعدم إنكار المنكر لا بعموم الآية.

وأقول: الجواب الثاني أشدّ، والأوّل ضعيف. لأنّ القتل وإن وجب على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين بتأويل لهم كقتل هؤلاء القوم لمن قتلوا وخروجهم لما خرجوا له فإنّ جميع ما فعلوه كان بتأويل لهم وإن كان معلوم الفساد.

فظهر الفرق بين اعتقاد حلّ الخمر والزنا وبين اعتقاد هؤلاء لإباحة ما فعلوه، وأمّا الاعتراض على الجواب الثاني فضعيف أيضاً. لأنّ له أن يقول: إنّ قتل المسلم الَّذي لا ذنب له عمدًا إذا صدر من بعض الجيش ولم ينكر الباقون مع

ص: 75


1- سورة المائدة: الآية 33
2- أوائل المقالات للشيخ المفيد: ص 285، الإفصاح للشيخ المفيد: ص 128؛ الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص 245؛ التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة: لأبي الفتح الكراجكي: ص 111؛ وشرح النهج: لقطب الدين الراوندي ج 1 ص 365؛ والشافي في الإمامة: للشريف المرتضى: ج 4 ص 41؛ وللحديث تتمه وفيه: وسلمك سلمي

تمكَّنهم وحضورهم كان ذلك قرينة دالَّة على الرضا من جميعهم بالقتل، والراضي بالقتل شريك القاتل خصوصًا إذا كان معروفًا بصحبته والاتّحاد به کاتّحاد بعض الجيش ببعض. فكان خروج ذلك الجيش على الإمام العادل محاربة لله ورسوله، وقتلهم لعامله وخزّان بيت مال المسلمين ونهبهم له وتفريق كلمة أهل المصر وفساد نظامهم سعي في الأرض بالفساد، وذلك عين مقتضى الآية.

دَعْ مَا إِنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ: أي لو كان من قتلوه من المسلمين واحدا لحلّ لي قتلهم فكيف وقد قتلوا منهم عدّة مثل عدّتهم الَّتي دخلوا بها البصرة وما بعد دع زائدة، والمماثلة هنا في الكثرة. وصدق عليه السّلام فإنّهم قتلوا من أوليائه وخزّان بیت المال بالبصرة خلقًا كثيرًا کما ذكرناه على الوجه الَّذي ذكره بعض غدرًا وبعض صبراً. وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

مصدرة بمادح الرسول صلَّى الله عليه - وآله - ووسلَّم أَمِینُ وَحْيِهِ: وتنزيله من التحريف والتبديل.

وخَاتَمُ رُسُلِهِ وبَشِيرُ رَحْمَتِهِ: بالثواب والجزيل ونَذِيرُ نِقْمَتِهِ: بالعذاب الوبيل شاهد الأول قوله عز من قائل وخاتم النبيين والثاني «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا».

ثمّ أردفه ببيان الأحكام فقال: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الأَمْرِ: أي الخلافة أقواهم.

أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ: أكملهم قدر على السياسة والأكمل وعلمًا بمواقعها وكيفيّاتها وكيفيّة تدبير المدن والحروب وذلك يستلزم کونه أشجع الناس: وأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ

اللهِ فِيهِ: وهو يستلزم الأعلميّة بأصول الدين وفروعه ليضع الأعمال مواضعها

ص: 76

ويستلزم أن يكون أشد حفاظًا على مراعاة حدود الله والعمل بها وذلك يستلزم كون أزهد الناس وأعبدهم وأعفهم وأعدلهم ولما كانت هذه الفضائل مجتمعة له عليه السلام كان ذلك إشارة إلى نفسه وروي بدل أعملهم أعلمهم ثم أردف بیان حكم المشاغب للإمام بعد انعقاد بیعته، وهو أنّه يستعتب: أي أنّه في أوّل مشاغبته يطلب منه العتبى والرجوع إلى الحقّ والطاعة بلين القول.

فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ: وذلك الحکم مقتضى قوله تعالى «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» الآية(1)، بيان كيفيّة انعقاد الإمامة بالإجماع.

ولَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ حَتَّى يَخْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ فَمَا إِلَی ذَلِكَ سَبِيلٌ: أنّ الإجماع لا يعتبر فيه دخول جميع الناس حتّى العوامّ إذ لو كان ذلك شرطا لأدّى إلى أن لا ينعقد إجماع قطَّ فلم تصحّ إمامة أحد أبدًا لتعذّر اجتماع المسلمين بأسرهم من أطراف الأرض بل المعتبر في الإجماع اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أُمّة محمّد صلَّى الله عليه - وآله - وسلم على بعض الأمور، وهم العلماء، وقد كانوا بأسرهم مجتمعين حين بيعته عليه السّلام فليس لأحد منهم بعد انعقادها أن يرجع، ولا لمن عداهم من العوامّ ومن غاب عنهما أن يختاروا غير من أجمع هؤلاء عليه وإليه أشار بقوله: ولَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ ولَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ: وكأني بك تقول: إنّه عليه السّلام إنّما احتجّ على القوم بالإجماع على بيعته، ولو كان له متمسّك آخر من نصّ أو غيره لكان احتجاجه بالنصّ أولى فلم يعدل إلى دعوى الإجماع.

ص: 77


1- سورة الحجرات الآية 9

أقول: احتجاجه به بالإجماع لا يتعرّض لنفي النصّ ولا لإثباته بل يجوز أن يكون النصّ موجوداً، وإنّما احتجّ عليهم بالإجماع لاتّفاقهم على العمل به فيمن سبق من الأئمّة، ولأنّه يحتمل أن يكون سكوته عنه لعلمه بأنّه لا يلتفت إلى ذكره على تقدير وجوده لأنّه لمّا لم يلتفت إليه في مبدأ الأمر حين موت الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم فبالأولى أن لا يلتفت إليه الآن وقد طالت المدّة وبعد العهد فلم تكن في ذكره فائدة.

«أَلَا وإِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَیْنِ رَجُلًا ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ»: أي خرج على الإمام العادل بعد تمام بیعته وادّعى أنّ الإمامة حقّ له وقد ثبت بالإجماع على غيره أنّها ليست له.

«وآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ»: أي خرج عليه ولم يمتثل له في شيء من الأحكام، والأوّل إشارة إلى أصحاب الجمل، والثاني إلى معاوية.

«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا خَیْرُ مَا تَوَاصَی الْعِبَادُ بِهِ وخَیْرُ عَوَاقِبِ الأُمُورِ عِنْدَ اللهِ»: ثم شرع يعلم أصحابه حكم البغاة من أهل القبلة على سبيل الإجمال، وأحال التفصيل على أوامره حال حربه، وقد كان الناس قبل حرب الجمل لا يعرفون كيفيّة قتال أهل القبلة، ونقل عن الشافعي أنّه قال: (لو لا عليّ عليه السلام ما عرفت شيء من أحكام أهل البغي)(1)فقال: «وقَدْ فُتِحَ بَابُ

الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وبَیْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ولَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ»: أي البصائر والعقول الراجحة.

ص: 78


1- شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 9 ص 331 وذكر هذا القول ابن میثم البحراني في شرح النهج: ج 3 ص 342؛ وكذلك ابن میثم البحراني في اختيار مصباح السالكين: ص 358: ولم يرجع القول كلٌ منهما الحديث إلى مظانه: ولم أعثر على مصدر آخر لقول الشافعي، إلا أنه على شهرته مقبول عندنا، ولما ورد مثله عن عمر بن الخطاب لو لا علي لهلك عمر، أو قوله لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها إلا أبو الحسن، ومثله كثير فمن شاء فليراجع

«والصبر»: أي على المكاره وعن التسرّع إلى الوساوس.

«والْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ الْحَقِّ»: وذلك أنّ المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة وأكبروه، والمقدمون منهم على ذلك إنّما أقدموا على خوف، فقال عليه السّلام: إنّ هذا العلم لا يدركه كلّ أحد، وروى بفتح اللام، وذلك ظاهر فإنّ حامل العلم علیه مدار الحرب وقلوب العسكر منوطة به فيجب أن يكون بالشرائط المذكورة ليضع الأشياء مواضعها، ثمّ أمرهم بقواعد كلَّيّة عند عزمه على المسير للحرب فقال:

«فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ولَا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا»: أي لا يتسرّعوا إلى إنكار أمر فعله أو يأمرهم به حتّى سألوه عن فائدته وبيانه.

«فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِیرَاً»: أي قوّة على التغيير إن لم يكن في ذلك الأمر مصلحة في نفس الأمر وفائدة أمرهم بالتبيّن عند استنكار أمر أنّه يحتمل أن لا يكون ما استنكروه منكراً في نفس الأمر فيحكمون بكونه منكراً لعدم علمهم بوجهه، ويتسرّعون إلى إنكاره بلسان؛ أو يد فيقعون في الخطأ، قيل فيه إيماء إلى أنّه ليس كعثمان في صبره على ارتكاب الناس لما كان ينهاهم عنه بل يغيّر كلّ ما ينكره المسلمون ويقتضي العرف والشرع تغييره.

«أَلَا وإِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وتَرْغَبُونَ فِيهَا وأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وتُرْضِيكُمْ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ ولَا مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ ولَا الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ»: فيه تنفير عن تمنّيها وعن الغضب بفواتها والرضى بحصولها بكونها ليست الدار والمنزل الَّذي خلقوا له ودعوا إليه، واستلزم ذلك التنفير التنبيه على ما ورائها، والعمل له.

ص: 79

«أَلَا وإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ ولَا تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا»: فيه نفور عنها بفنائها عنهم وفنائهم عنها.

«وهِيَ وإِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا»: فيه تنفير أيضًا بأنّه لا فائدة فيها فإنّها وإن كانت تغرّ وتخدع بما فيها ممّا يعتقد خيرًا وكمالا فإنّ فيها ما يقابل ذلك وهو التحذير بما فيها من الآفات والتغيّرات المعدودة شرّاً.

«فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا وأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا وسَابِقُوا فِيهَا»: إلى الخیر الخالص «في الدَّارِ الَّتِي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا»: وخلقتم لأجلها «وانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا»: أي يزهدوا الزهد الحقيقيّ فيها.

«ولَا يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِینَ الأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا»: أشارة إلى أن الزهد الظاهريّ مع الحنين إلى ما زوی منهاعن أحدكم غير منتفع وبه خصّ حنين الأمة لأنّ الحنين الكثير مايسمع منها لأنّ العادة أن تضرب، وتؤذى؛ فيكثر حنينها، وروى حنين بالخاء المعجمة، والخنين کالبكاء في الأنف، وإذ أمر بالزهد الحقيقي أمر بالصبر على طاعة الله، وعبادته والمحافظة على أوامر كتابه، ونواهيه إذ بالزهد یکون حذف الموانع الداخلة والخارجة، وبالطاعة والعبادة يكون تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، وهما جزاء الرياضة والسلوك في سبيل الله وذلك قوله: «واسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ والْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ»: وظاهر أنّ طاعة الله سببٌ عظيم لإفاضة نعمه الدنيويّة والأُخرويّة، ثمّ أكَّد الأمر بالمحافظة على الدين لما فيها من الخير الدائم التامّ الأخروي الَّذي لا نسبة لخير الدنيا إليه فقال: «أَلَا وإِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ أَلَا وإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْءٌ

حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وقُلُوبِكُمْ إِلَی الْحَقِّ»: أراد بأخذها

ص: 80

إلهامهم لطلبه، وهدايتهم إليه وجذبهم إلى سلوك سبيله.

«وأَلْهَمَنَا وإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ»: الصبر على طاعته وعن معصية وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام في معنى طلحة بن عبيد الله:

وشأنه وفي حال تحقیق حال طلحة قال: حين بلغه خروج طلحة والزبير إلى البصرة وتهديدهم له.

«قَدْ كُنْتُ ومَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ ولَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وأَنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَنِي رَبِّي مِنَ النَّصْرِ»: جواب تشديدهم، وقد مرّت هذه الألفاظ بعينها إلَّا أنّ هناك: وإنّي على يقين من ربّي، وهنا وأنا على ما قد وعدني ربّی من النصر، وذلك الَّذي هو عليه هو اليقين بالنصر على لسان الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم، والواو في قوله: وما أهدّد للحال، وكان تامّة.

«واللهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّدًا لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ إِلَّا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ لأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ ولَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ»: أعان «فِيهِ لِيَلْتَبِسَ الأَمْرُ ويَقَعَ الشَّكُّ»: إشارة إلى شبهتهم في الخروج إلى البصرة وهي الطلب بدم عثمان، ثمّ إلى معارضة هذه الشبهة وهي أنّ خروجه ليس إلَّا خوفًا من أن يطلب بدمه لأنّه مظنّة ذلك، وقد سبقت منّا الإشارة إلى دخول طلحة في تحريض الناس على قتل عثمان، وجمعه لهم في داره، وروى أنّه منع الناس من دفنه ثلاثة أيّام، وأنّ حكيم بن حزام، وجبیر بن مطعم استنجدا بعليّ في دفنه؛ فأقعد لهم طلحة في الطريق أناسا يرمونهم بالحجارة، فخرج به نفر من أهله يريدون به حائطاً في المدينة يعرف بحشّ کوکب کانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلمّا صار هناك رجم سريره فهمّوا بطرحه؛ فأرسل إليهم عليّ عليه السّلام؛ فكفّهم عنه

ص: 81

حتّى دفن بحشّ کوکب، وروى أنّه جادل في دفنه بمقابر المسلمين وقال: ينبغي أن يدفن بدير سلع يعني مقابر اليهود.

وبالجملة فهو كما قال عليه السّلام: لم يكن في القوم أحرص منه على قتله لكنّه أراد أن يغالط بما أجلب في الطلب بدمه ليلتبس الأمر ويقع الشكّ في دخوله في قتله، ثم أحتج عليه وقطع عذره في الخروج والطلب بدمه فقال:

«ووَاللهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِمًا كَمَا كَانَ يَزْعُمُ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَازِرَ قَاتِلِيهِ وأَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ، ولَئِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَقَدْ

كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنَهْنِهِینَ: المناعین عَنْهُ والْمُعَذِّرِينَ فِيهِ ولَئِنْ كَانَ فِي شَكٍّ

مِنَ الْخَصْلَتَیْنِ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ ويَرْكُدَ جَانِبًا ويَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلَاثِ وجَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ ولَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ»: تقرير هذا القياس الشرطيّ(1)أنّ حاله في أمر عثمان وخروجه في طلب دمه لا تخلو من أمور ثلاثة:

فإنّه إمّا أن يعلم أنّه كان ظالمًا؛ أو يعلم أنّه كان مظلومًا؛ أو يشكّ في الأمرين ويتوقّف فيهما؛ فإن كان الأوّل فقد كان الواجب عليه أن يساعد قاتليه، ويؤازرهم وینابذ ناصریه لوجوب إنكار المنكر عليه، وهو قد عكس الحال لأنّه نابذ قاتلیه وثار في طلب دمه مع ناصریه ممّن توهّم فيه ذلك، وإن كان الثاني فقد كان يجب

ص: 82


1- القياس الشرطي: هو: السبر والتقسيم ويسميه المنطقيون القياس الشرطي المنفصل فإن لم يكن تقسيماً سموه بالمتصل وهو لغة الاختبار، ومنه الميل الذي يختبر به الجرح الذي يقال اله المسبار وسمي هذا به لأن المناظر في العلة يقسم الصفات، ويختبر كل، واحد منها في أنه هل يصلح للعلية أم لا؟. وقد أشير إليه في قوله تعالى «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ»: سورة المؤمنون: الآية 91: أخرجه الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه: ج 4 ص 200

عليه أن يكون ممّن يكفّ الناس عنه ويعتذر عنه فيما فعل لوجوب إنكار المنكر أيضًاً مع أنّه ممّن وازر عليه الناس، وأظهر أحداثه، وعظَّمها كما هو المنقول المشهور عنه، وإن كان الثالث فقد كان الواجب عليه أن يعتزله، ويسكن عن الخوض في أمره ولم يفعل ذلك بل ثار في طلب دمه، فكان في هذه الأحوال الثلاثة محجوجًا في خروجه ونكثه للبيعة، فإذن ما جاء به من ذلك أمر لا يعرف بابه: أي وجه دخوله فيه، ولم يسلَّم فيه عذر وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السلام:

«أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ»: أي أنّ أعمالهم محصّلة في اللوح المحفوظ.

«والتَّارِكُونَ»: لما أمروا به «الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ»: أي منتقص من أعمارهم وقيناتهم الدنيويّة من مال وأهل، ثمّ نبّههم على ذهابهم عن الله وهو التفاتهم عن طاعته ورغبتهم في غیره وهو الحياة الدنيا وزينتها فقال:

«مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللهِ ذَاهِبِینَ وإِلَی غَیْرِهِ رَاغِبِینَ كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَی مَرْعًى وَبِيٍّ»: كثیر الوباء «ومَشْرَبٍ دَوِيٍّ»: كثیر الداء ووجه الشبه أنّهم لغفلتهم

كالنعم ونفوسهم الأمّارة بالسوء القائدة لهم إلى المعاصي كالراعي القائد إلى المرعى

الوبيّ ولذّات الدنيا ومشتهياتها، وكون تلك اللذّات والمشتهيات محلّ الآثام الَّتي هي مظنّة الهلاك الأُخرويّ والداء الدويّ تشبه المرعى الوبيّ والمشرب الدويّ.

«وإِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لَا تَعْرِفُ مَا ذَا يُرَادُ بِهَا إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وشِبَعَهَا أَمْرَهَا»: تشبيه لهم آخر بمعلوفة الغنم، ووجه الشبه أنّهم لعنايتهم بلذّات الدنيا من المطاعم والمشارب كالغنم المعتني بعلفها، وكون ذلك التلذّذ غايته الموت تشبه غاية المعلوفة، وهي الذبح، وكونهم غافلين من غاية الموت وما يراد

ص: 83

بهم يشبه غفلة النعم عن غايتها من الذبح، وكونهم يظنّون أنّ الإحسان إليهم ببسط اللذّات الدنيويّة في بعض الأوقات دائم في جميع أوقاتهم و، أنّ شبعهم في هذه الحياة وريّهم هو غايتهم الَّتي خلقوا لأجلها وتمام أمرهم يشبه غفلة النعم في حال حضور علفها في بعض الأوقات عمّا بعده من الأوقات وتوهّمها أنّ ذلك غايتها الَّتي خلقت لأجلها، ووجه هذا الشبه مرکَّب من هذه الوجوه. ثمّ أقسم أنّه لو شاء لأخبر كلّ رجل منهم بمواضع تصرّفاته وحركاته وجميع أحواله فقال: «واللهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ ومَوْلِجِهِ وجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ»: وهو: كقول المسيح عليه السّلام: «وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(1)والسبب في ذلك الاطلاع هو أن النفس الناطقة متی قوته وافية بضبط الجوانب المتجاذبة ولم يكن اشتغالها بتدبير البدن عائقًا لها عن ملاحظة مبادئها والاتصال بالحضرة الأهل لاهية بحيث تقوى على استخلاص الحس المشترك وضبطه عن الحواس الظاهرة، فأن النفس والحال هذه إذا توجهت إلى الجناب المقدس لاستعلام ما كان أو سيكون اقتضت عليها الصور الكلية لتلك الأمور ثم أنها تستعين في ظبطها بالقوة المتخيلة فيحاكيها بما يشابهها من الأمور المحسوسة ثم لحظة إلى خزانة الخيال فيصيرها مشاهدة للحس والله اعلم بحقيقة الحال.

«ولَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم»: أي أخاف أن تغلوا في أمري، وتفضّلوني على رسول الله، بل كان يخاف أن يكفروا فيه بالله کما ادّعت النصارى في المسيح حيث أخبرهم بالأمور الغائبة.

«أَلَا وإِنِّي أُفْضِيهِ إِلَی الْخَاصَّةِ»: أي أهل العلم والخاصة والثبات من أصحابي «مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ»: الكفر مِنْهُ: وهكذا شأن العلماء وأساطين الحكمة ورأيهم أن

ص: 84


1- سورة آل عمران: الآية 49

لا يضعوا العلم إلَّا في أهله، هذا الآن مع الناس من يدّعي فيه النبوّة وأنّه شريك محمّد في الرسالة، ومنهم من أدّعى أنّه إله، وهو الَّذي أرسل محمّداً، إلى غير ذلك من الضلال. وفيه يقول بعض شعرائهم:

ومن أهلك عادًا وثمود بدواهيه ٭٭٭ ومن كلَّم موسی فوق طور إذ يناديه ومن قال على المنبر يومًا وهو راقيه ٭٭٭ سلوني أيّها الناس فحاروا في معانيه

«والَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ واصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً»: أي فيما يخبر به من هذه الأمور.

«ولقَدْ عَهِدَ»: الرسول «إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وبِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ ومَنْجَى مَنْ يَنْجُو ومَآلِ هَذَا الأَمْرِ ومَا أَبْقَى شَيْئًا يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وأَفْضَى بِهِ» أي أداه «إِلَيَّ»: وذلك التعليم منه ما يكون على وجه جزئيّ أعني أن يخبره بواقعة واقعة، ومنه ما يكون على وجه كلَّيّ: أي يلقى إليه أصولًا كلَّيّة يعد ذهنه بها لاستفاضته الصور الجزئيّة من واهب الصور کما سبق تقريره، وممّا نقل عنه من ذلك في بعض خطبته الَّتي يشير فيها إلى الملاحم يؤمی به إلى القرامطة: ينتحلون لنا الحبّ والهوى، ويضمرون لنا البغض، والقلي، وآية ذلك قتلهم ورّاثنا، وهجرهم أحداثنا، وصحّ ما أخبر عنه لأنّ القرامطة قتلت من آل أبي طالب خلقًا كثيراً وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصبهانيّ.

قيل: ومن هذه الخطبة وهو يشير إلى السارية الَّتي كانت يستند إليها في مسجد الكوفة، كأنّي بالحجر الأسود منصوباً هنا وقع من القرامطة في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به عليه السّلام.

ص: 85

أقول: في هذا النقل نظر لأنّ المشهور أنّ القرامطة نقلوا الحجر الأسود إلى أرض البحرين، وسواه موضعًا وَضعه فيه يسمّى إلى الآن بالكعبة، وبقي هناك مدّة ثمّ أعيد إلى مكَّة، وروي أنّه مات في المجيء به خمسة وعشرون بعيرًا وعاد به إلى مكَّة بعير ليس بالقويّ، وذلك من أسرار دین الله تعالى، ولم ينقل أنّهم نقلوه مرّتين.

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي واللهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ: احرضكم على طاعة إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى أنزجر قَبْلَكُمْ عَنْهَا: فيه إيماء إلى العمل بمقتضى الخبر، عض نفسك ثم غيرك وبالله التوفيق».

ومن خطبة له عليه السلام:

«انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللهِ»: في كتابه وعلى لسان رسوله «واتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللهِ واقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللهِ»: فيما لأجله خلقوا، وإنّما عدّد اسم الله صريحا دون الضمر للتعظيم

ثمّ أشار إلى وجه وجوب الامتثال عليهم بقوله: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ»: أي الآيات والنذر الواضحة.

«وأَخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ»: ببعث الرسل «وبَیَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الأَعْمَالِ ومَكَارِهَهُ مِنْهَا»: في كتابه العزيز «لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ»: محابّه «وتَجْتَنِبُوا هَذِهِ»: المحرمات ثمّ نبّه على ما في الطاعة وامتثال التكليف من الشدّة بقوله: «فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله

وسلّم كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، وإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ»(1): واعلم أنه عليه السلام لم ينبّه على الشدّة مجرّدة بل قرنها بذكر الجنّة وجعلها محجوبة بها

ص: 86


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 159، وكذلك مسند: ابن راهويه: لإسحاق بن راهويه في ج 1 ص 408 ومجمع الزوائد للهيثمي: ج 10 ص 235؛ الطبراني في المعجم الكبير: ج 9 ص 104

لتحصل الرغبة في الجنّة فيتمّ السعي في قطع تلك الحجب المكروهة، وكذلك قرن الشهوات بذکر کونها محفوفة بها النار تنفيرًا عنها.

«واعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ شَيْءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي كُرْهٍ ومَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيْءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ»: قد عرفت سرّ ذلك، وأنّ النفس للقوّة الشهویّة أطوع منها للعقل خصوصًا فيما هو أقرب إليها من اللذّات المحسوسة الَّتي يلحقها العقاب إليها.

«فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ»: الأمارة بالسوء.

«فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً»: عن الله «وإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَی مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى»: ثم نبه على حال المؤمن بالحق فقال: «واعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمْسِيِ ولَا يُصْبِحُ إِلَّا ونَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ»: أي لا يعتمد على كل ما يتمنى ويعلم أن

نفسه كثیرة الظنون قليلة العلوم أكثر ما يخطر بباله الظن «فَلَا يَزَالُ زَارِياً»: غائبًا «عَلَيْهَا ومُسْتَزِيدًا لَهَا»: الأعمال الصالحة وقد سبقت الإشارة إلى ذلك «فَكُونُوا

كَالسَّابِقِينَ»: من الأكابر «قَبْلَكُمْ والْمَاضِینَ أَمَامَكُمْ»: إلى الجنة «قَوَّضُوا»: فلقوا أنفسكم مِنَ «الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ»: متاعه للسفر «وطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ»: ثم عقب بذكر القرآن وممادحه ترغيبًا في الاقتداء به فقال: «واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ»: يعني يرشد إلى وجوه المصالح كما أن الناصح كذلك «الَّذِي لَا يَغُشُّ»: ترشيح الاستعارة «والْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ»: إلى طريق الله وروي لا يضل أي لا يضل غیره «والْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ»: فيه استعارة وترشيح ووجهها اشتماله على الأخبار والقصص الصحيح وفهمه واستفادته عنه كالمحدث الصادق

ومَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ»: وقرّائه لاستماعه منهم، وتدبّره عنهم «إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى»: فإنّ فيه من الآيات الباهرة والنواهي الزاجرة ما يزيد بصيرة المستبصر من الهدى، وينقص من عمى الجهل.

ص: 87

«واعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ»: أي ليس بعد نزوله للناس وبيانه الواضح حاجة بالناس إلى بيان حكم في إصلاح معاشهم ومعادهم.

«ولَا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِن غِنًى»: أي قبل نزوله لا غنى عنه للنفوس الجاهلة، وإذا كان بهذه الصفة أمرهم بأخذ الشفاء عنه فقال: «فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ»: أي أدواء الجهل «واسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأْوَائِكُمْ»: شدتكم وفقركم.

«فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وهُوَ الْكُفْرُ والنِّفَاقُ والْغَيُّ والضَّلَالُ»: أراد بالكفر بالله عمي القوّة النظريّة من قوى النفس عن معرفة صانعها ومبدعها إلى غاية إنكاره أو اتّخاذ ثان له، والنفاق مستلزم لرذيلة الكذب المقابلة لفضيلة الصدق، ثمّ لرذيلة الغدر المقابلة لفضيلة الوفاء، وقد سبق بيان حال النفس في هاتين القوتين الرذيلتين.

والغيّ وهو رذيلة التفريط من فضيلة الحكمة، والضلال وهو الانحراف عن فضيلة العدل، وإلى كونه شفاء الإشارة بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل: يا رسول الله ما جلاؤها قال: قراءة القرآن وذكر الموت»(1)، وهو مشتمل على ذكره في مواضع كثيرة.

«فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ»: أي أعدّوا أنفسكم لمولاها لاشراك المطالب من الله بما أشتمل عليه القرآن.

«وتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ»: أي القرآن لأن من أحبه استكمل بما فيه فحسن توجهه

ص: 88


1- شعب الإيمان أحمد بن حسين البهقي: ج 2 ص 353؛ والدعوات (سلوة الحزين) لقطب الدين الراوندي: ص 237؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 279؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 3 ص 332؛ شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 9 ص 311

«ولَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ»: أي لا تجعلوا تعلَّمكم له لطلب الرزق به من خلق مثلكم فإنّه لم ينزل لذلك.

«إِنَّهُ مَا تَوَجَّهً الْعِبَادُ إِلَی اللهِ تَعَالَی بِمِثْلِهِ»: وذلك لاشتماله على جميع الكمالات النفسانيّة من العلوم، ومكارم الأخلاق والنهي عن جميع الرذائل الموبقة.

«واعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ»: استعار له لفظيهما ووجها كون تدبّره والعمل بما فيه ماحيًا لما يعرض للنفس من الهيئات الرديئة من المعاصي، وذلك مستلزم لمحو غضب الله کما يمحو الشفيع المشفّع أثر الذنب عن قلب المشفوع إليه، وذلك سرّ الخبر المرفوع ما من شفيع من ملك، ولا نبيّ ولا غيرهما أفضل من القرآن، وكذلك.

«قَائِلٌ مُصَدَّقٌ»: وجه الاستعارة كونه ذا ألفاظ إذا نطق بها لا يمكن تكذيبها كالقائل الصادق «وأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ ومَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ»: محل فلانًا إذ قال عليه قولًا يوقعه في مكروه وهنا استعارة من جهة أن لسان حال القرآن شاهد في علم الله، وحضرة ربوبيته على من أعرض عنه بعدم أتباعه ومخالفته لما اشتمل عليه وتلك شهادته لا يجوز عليها الكذب فبالواجب أن يصدق؛ فأشبه الساعي إلى سلطان في حق غیره بما نصره

«فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَیْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ»: وعلى الاحتمال المنادي هو لسان حال الأعمال، والحرث كلّ عمل بطلب به غاية وتستخرج منه ثمرة، والابتلاء هاهنا ما يلحق النفس على الأعمال وعواقبها من العذاب بقدر الخروج فيها عن طاعة الله، وظاهر أنّ حرث القرآن

والبحث عن مقاصده لغاية الاستكمال به برئ من لواحق العقوبات، واذا كان الأمر كذلك؛ «فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وأَتْبَاعِهِ واسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ»: أي يتّخذوه دليلًا قائدًا إلى ربّكم.

ص: 89

«واسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ»: اتخذوه ناصحًا على نفوسكم الأمّارة بالسوء لكونها هي الغاشية تقودهم إلى معصية الله، والقرآن زاجرًا لهم عمّا تأمرهم به تلك فيجب أن تقبل نصيحته عليها.

«واتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ»: أي إذا رأيتم رأيًا يخالف القرآن فاتّهموا ذلك فإنّه صادر عن النفس الأمّارة.

«واسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ»: عدوها غشاوة ولا تتبعوها وإنما قال: واستغشّوا وفي الآراء: اتّهموا لأنّ الهوى هو ميل النفس الأمّارة من غير مراجعة للعقل فإذا حكمت النفس عن متابعتها بحكم فهو غشّ صراح، وأمّا الرأي فقد يكون بمراجعة العقل وحكمه، قد يكون بدونه فجاز أن يكون حقّاً، وجاز أن یکون باطلًا فكان بالتهمة أولى، ثمّ أمر بلزوم العمل الصالح فقال: «الْعَمَلَ الْعَمَلَ»: أي ألزموها «ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ»: أي راعوا عواقبكم ونهاية اعمالكم وغايتها فأن الأمور بخواتيمها «والِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ»: على العمل «ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ»: عليه

وحقيقة مقاومة الهوى في معنى التراخي والمنفك عن العمل الذي هو معنى وجودي بخلاف الاستقامة عليه فأنها كيفية له والورع فأنه جزء منه وكرر تلك

الألفاظ للتأكيد والنصب في جمعيتها على الأضواء ثم اشار إلى أن تلك النهاية هي النهاية التي لهم وأمرهم بالانتهاء إليها وهي الأمر التي خلقوا لأجله أعنى الوصول إلى الله طاهرين من رجس الشيطان وذلك قوله:(1)«إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا

إِلَی نِهَايَتِكُمْ وإِنَّ لَكُمْ عَلَمًا فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وإِنَّ لِلإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَی غَايَتِه»:

قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أيها الناس أن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم

ص: 90


1- ورد في بعض النسخ: والْوَرَعَ الْوَرَعَ

وأن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم» والمراد بالغاية، والنهاية، واحد، وبالمعالم حضائر القدس ومنازل الملائكة واستعار العلم لنفسه عليه السلام.

«واخْرُجُوا»: متوجهین «إِلیَ اللهِ بِکَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ»: فرائضه «وبَیَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ»: الإخلاص بها لوجهه، ثمّ رغَّبهم في طاعته واتّباع أوامره بقوله: «أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وحَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ»: قبل أنما ذكر الاحتجاج وإن كان ذلك الموقف ليس موقف محاجّة لأنّه إذا شهد لهم فكأنّه أثبت الحجّة لهم فأشبه المحاجّ، وأقول: لمّا كان إمام کلّ قوم هو المخاطب عنهم والشهيد لهم كما قال تعالى «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ»(1)وقوله «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا»(2)«َقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ»(3)وكان ذلك الموقف هو موقف السؤال والجواب وكان ذلك معنى الحاجّة والمجادلة، والخلوص من الأسئلة بأجوبتها يشبه غلب المشترك بالحجّة وهو البرهان المطلوب، وجرت العادة بأنّ البرهان يكون عند المحاجّة، وكذلك الانقطاع عن الجواب يشبه كون السؤال محجوجاً، وهذا الاحتجاج والشهادة عند القائلين بحشر الأجساد، وحاليّة عند غيرهم.

«أَلَا وإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ»: في علم الله «قَدْ وَقَعَ والْقَضَاءَ الْمَاضِيَ »: أي النافذ «قَدْ تَورَّدَ»: دخل في الوجود شيئًا فشيئاً، وقد علمت فيما سلف أنّ القضاء هو العلم الإلهي بما يكون وما هو كائن، وأنّ القدر تفصيله الواقع على وفقه لكنّه أشار بوقوع القدر هنا إلى وقع خاص وهو خلافته وما يلزمها من الفتن والوقائع، وروى أنّ هذه الخطبة من أوائل الخطب الَّتي خطب بها أيّام بويع بعد قتل عثمان.

ص: 91


1- سورة الإسراء: الآية 71
2- سورة النحل: الآية 84
3- سورة القصص: الآية 75

قال بعض الشارحين: وفي هذا الكلام إشارة إلى أنّ الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم أخبره أنّ الأمر سيصل إليه في آخر وقته، وأقول: لا شكّ أنّ وقوع هذا الأمر من القدر السابق على وفق القضاء، وليس للَّفظ إشعار بما قال إذ كان عليه السّلام عالمًا بأنّ كلّ واقع في الوجود فبقضاء من الله وقدره.

«وإِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللهِ»: وعده «وحُجَّتِهِ قال جل ذكره «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»(1)»: أي لمّا وقع هذا الأمر إلّي فإنيّ أتكلَّم بكذا، وعدة الله ما وعد به عباده الَّذين اعترفوا بربوبيّته واستقاموا على سلوك سبيله بطاعته من تنزّل الملائكة عليهم بذهاب الخوف والحزن والبشارة بالجنّة، وأمّا حجّته الَّتي تكلَّم بها فقوله:

«وقَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللهُ»: أي اعترفتم بالربوبيّتة «فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ وعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ»: الَّتي هي عن علم والخالصة من الرياء والنفاق.

«ثُمَّ لَم يمْرُقُوا فيها»: يخرجوا منها بالتحذلق والتشدّد إلى طرف الإفراط الَّذي هي ثمرة الجهل «ولَا تَبْتَدِعُوا فِيهَا»: أي ولا تحدثوا فيها بدعة.

«ولَم تُخَالِفُوا عَنْهَا»: وتحيدوا يمينًا وشمالًا فتقعوا في مهاوي الهلاك فإنّكم متی فعلتم ذلك فقد تمّ شرط استحقاقكم لإنجاز عدته المذكورة فإنّ ذلك الشرط مرکَّب من الاعتراف بربوبيّته، والاستقامة على الأمور المذكورة فحينئذ يجب أن تفاض تلك العدة، ومع فوات جزء من ذلك الشرط لا يقع المشروط فلم يتحقّق

ص: 92


1- سورة فصلت الآية 30

الموعود به، وذلك معنى قوله:

«فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»: أي لا يجدون بلاغًا يوصلهم إلى المقصد لأنّ الشرط هو البلاغ إلى المقصد الحقيقيّ، ثمّ شرع في النهى

عن النفاق فقال: «ثُمَّ إِيَّاكُمْ وتَهْزِيعَ الأَخْلَاقِ»: لأنّه يغيرها وينقلها من حال إلى حال. «وتَصْرِيفَهَا»: وذلك هو النفاق، إذ المنافق لا يلزم خلقًا واحدًا بل تارة يكون صادقاً، وتارة كاذباً، وتارة وفيّا، وأخرى غادراً، ومع الظالمين ظالم، ومع أهل العادلين عادل ولذلك قال:

«واجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِدًا ولْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ»: واستلزم النهي عن أمور، وهي الفضل من القول ووضعه في غير مواضعه والغيبة والنميمة والسعاية والمسابة والقذف ونحوه، وكلَّها رذائل في طرف الإفراط من فضيلة العدل.

«فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِا»: تعليل لذلك النهى، وإشارة إلى خروجه بصاحبه عن فضيلة العدل إلى الرذائل الَّتي هي موارد الهلكة في الآخرة والدنيا کما أنّ الفرس الجموح مخرج بصاحبه إلى الهلاك، ولفظ الجموح مستعار له بهذا الاعتبار.

«واللهِ مَا أَرَى عَبْدًا يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ»: لأنّ التقوى النافع هو تقوى التامّ، وخزن اللسان وكفّه عن الرذائل المذكورة جزء عظيم من التقوى لا يتمّ بدونه فهي إذن لا ينفع إلَّا به.

«وإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ وإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ»: تنبّيه على ما ينبغي عند إرادة القول من التثبّت والتأمّل ما يراد النطق به، وعلى ما لا ينبغي من القول بغير مراجعة الفكر، وقرن الأوّل بالإيمان ترغيبا فيه، والثاني بالنفاق تنفيرًا عنه.

ص: 93

«لأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ خَیْرًا أَبْدَاهُ وإِنْ كَانَ شَرًّا وَارَاهُ وإِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لَا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ ومَا ذَا عَلَيْهِ»: بیان معنی کون اللسان وراء وأماما، وتلخيصه أنّ الوراء في الموضعين كناية عن التبعيّة لأنّ لسان المؤمن تابع لقلبه فلا ينطق إلَّا بعد تقديم الفكر فيما ينبغي أن يقوله، وقلب المنافق وذكره متأخّر عن نطقه فكان لفظ الوراء استعارة من المعنى المحسوس للمعقول.

«ولَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ولَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»(1): استشهاد على أنّ الإيمان لا يتمّ إلَّا باستقامة اللسان على الحقّ وخزنه عن الرذائل الَّتي عدّدناها وذلك عين ما ادّعاه في قوله: إنّ التقوى لا ينفع العبد حتّى يخزن لسانه. فأمّا برهان الخبر فهو أنّ استقامة القلب عبارة عن التصديق بالله ورسوله و اعتقاد حقيّة ما وردت به الشريعة من المأمورات والمنهيّات، وذلك عين الإيمان وحقيقته؛ فإذن لا يستقيم الإيمان حتّى يستقيم القلب، وأمّا أنّه لا يستقيم القلب حتّى يستقيم اللسان فلأنّ استقامة اللسان على الإقرار بالشهادتين ولوازمها وعلى الإمساك عمّا لا ينبغي من الأمور المعدودة من لوازم استقامة القلب لحكمنا على غير المقرّ بتلك الأمور والقائل بها بعدم الإيمان الكامل، ولا يستقيم أمر من دون لازمه.

«فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللهَ تَعَالَی وهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وأَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ»: أمر بالاجتهاد في لقاء الله تعالى

ص: 94


1- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار للزمخشري: ج 2 ص 261؛ الغزالي في إحياء علوم الدين: ج؛ ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 23؛ الذهبي في ميزان الاعتدال: ج 4 ص 263؛ لسان الميزان لبن حجر: ج 6 ص 164؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 279

على هذه الأحوال، وشرط بالاستطاعة لعسره وشدته وأن كان واجب الترك على كل حال واشدها الكف عن الغيبة؛ فأنه يكاد أن لا يستطاع وإلى نحو هذا أشاره الرسول صلى الله عليه [وآله] «المسلم من سلم الناس من يده ولسانه»(1)«واعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَامًا أَوَّلَ ويُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَامًا أَوَّلَ»: أراد ما ثبت من طريق النصّ في زمان الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يجوز أن ينقض بالقياس، والاجتهاد بل كلّ ما ورد به النصّ؛ فيتبع فيه مورد النصّ فما كان حلالًا بمقتضى النص وعمومه العام الماضي فهو في هذا العام حلال، وكذا في الحرام، وعموم هذا الكلام يقتضى عدم جواز نسخ النصّ وتخصيصه بالقياس وهو مذهب الإمامية لاعتقادهم بطلان القول بالقياس المتعارف، ومن يجوّز تخصیصه به يحمل هذا الكلام على عدم قبول القياس في نسخ النصّ من كتاب أو سنّة.

«وأَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ»: أي القياس «لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئًا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ولَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللهُ والْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللهُ»: تأكيد لاتّباع النصّ وما كان عليه أهل البيت من الدين ممّا هو معلوم بينهم دون ما أحدث من الآراء والمذاهب.

«فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الأُمُورَ وضَرَّسْتُمُوهَا»: أحكمتموها بالتجربة «ووُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ

قَبْلَكُمْ وضُرِبَتِ لَكُمْ الأَمْثَالُ ودُعِيتُمْ إِلَی الأَمْرِ الْوَاضِحِ»: إشارة إلى وجوه العلم ومأخذه، ووجه اتّصاله بما قبله أنّهم إذا كانوا قد أحكموا الأمور تجربة، ووعّظوا

ص: 95


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 198؛ الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا: ص 38؛ مسند الشهاب لمحمد بن سلامة القضاعي: ج 2 ص 62؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 1 ص 53؛ شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 1 ص 41؛ منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة قطب الدين الراوندي: ص 162؛ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري: ص 353

بمن كان قبلهم، وضربت لهم الأمثال، ودعوا إلى الأمر وهو الدين وطريقه فلا بدّ أن تكون نفوسهم قد استعدّت بذلك لعلم الأحكام الشرعيّة ومقاصدها من الكتاب والسنّة وعادات الرسول والأئمة، فلا يخفى عليهم ما ابتدع بعدها، وأنّ كلّ بدعة حرام فضلًا أن ترفع حكم نصّ أو سنّة سبق العلم بها.

«فَلَا يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ»: المذكور «إِلَّا أَصَمُّ»: من هو شديد الصمم «ولَا يَعْمَى عَنْه إِلَّا أَعْمَى»: أي بصرة اشتدّ عماها «ومَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِالْبَلَاءِ والتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ

بِشَيْءٍ مِنَ الْعِظَةِ وأَتَاهُ التّنْقُصِ مِنْ أَمَامِهِ»: لأنّ الإنسان في مبدأ الفطرة خال عن العلوم، وإنّما خلقت له هذه الآلات البدنيّة ليتصفّح بها صور المحسوسات ومعانيها ويتنبّه لمشاركات بينها، ومباينات فيحصل له التجربة وسائر العلوم الضروريّة والمكتسبة فمن لم ينتفع بالبلاء: أي بامتحان الأمور وتجاريبها، وهو إشارة إلى اعتبار الأمور والتفكَّر فيها والابتلاء بها کالوقوع في المكاره ومعاناة الأعمال ولم يستفد منها علمًا فظاهر أنّه لا ينفعه العظة لأنّ العظة فرع تصفّح الأمور واعتبار آيات الله منها، ومحال أن يحصل فرع من دون أصله وحينئذ يأتيه النقص في كمال نفسه ووجوه مصالحه، ويحتمل أن يريد الموعظة، وظاهر أنّ الموعظة أيضًا لا ينفعه لأنّ البلاء بالمكاره والوقائع النازلة أقوى فعلًا في النفس وأكثر تأثيرًا فإذا لم ينتفع بها ولم يستفد منها علمًا فبالأولى أن لا ينتفع بها وإنما قال من أمامه، لأنّ الكمالات الَّتي يتوجّه إليها بوجه عقله تفوته لنقصان تجربته ووقوف عقله عنها؛ فأشبه فوتها له مع طلبه لها إتيان النقصان له من أمامه.

«حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ ويُنْكِرَ مَا عَرَفَ»: إشارة إلى غاية نقصانه، وهي الاختلاط والحكم على غير بصيرة فتارة يتخيّل فيما أنكره، وجهله أنّه عارف بحقيقته، وتارة ينكر ما كان يعرفه ويحكم بصحّته لخيال يطرأ عليه.

ص: 96

«وإِنَّما النَّاسَ رَجُلَانِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً ومنهاجاً»: وهو منهاج الدين «ومُبْتَدِعٌ بِدْعَةً لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ»: يعتمد عليه «ولَا ضِيَاءُ حُجَّةٍ»: يقوده في ظلمات

الجهل وفيه مساحة لطيفة لا يخفى على من له مسكة ثم رجع إلى ممادحة فقال:

«وإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَدًا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِینُ»: وفيه استعارة وترشيح وقد عرفت ووجهها مراراً.

«وسَبَبُهُ الأَمِينُ وفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْوبِ»: يحيى به كما يحيى الأنعام بالربيع.

«ويَنَابِيعُ الْعِلْمِ»: من حيث أنّ العلوم عند تدبّره والتفهم عنه يقتنص عنه وينتفع بها كما تفيض الماء عن الينابيع. «ومَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَیْرُهُ»: وجه الإطلاق ان الفهم عنه يلفف عن القلب ضد الجهل کما يجلو الصيقل المرآة واستشكل هذا القول بان سائر العلوم جلاء له والجواب من وجهين: أحدهما: أنّ العلوم الجالية للقلب هي المعدّة لسلوك سبيل الله والوصول إلى الغاية من الكمال النفسانيّ كالعلوم الإلهيّة، وعلم الأخلاق وأحوال المعاد، ولا علم منها إلَّا وفي القرآن أصله ومادّته وهو مقتبس من القرآن.

الثاني: أنّ هذا الكلام صدر عنه عليه السّلام ولم يكن في ذلك الزمان علم بدون ولا استفاد المسلمون إلَّا من القران فلم يكن إذن جلاء للقران غيره.

«مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ»: لمقاصد القرآن.

«وبَقِيَ النَّاسُونَ»: الذين استبقى يحدد العلوم الضر وتربيته منهم بعد عدم مثله والمتناسون الذين يظهرون نسيان شيء تكلفاً كما يقال: تمارض أي أظهر المرض، المتعهدون للتشاغل والنسيان للحوادث إلى الله وفي بعض النسخ، هو في معنی الترشيح لهم؛ ثمّ يأمرهم بإغاثة عامل الخير؛ ثم بّالإعراض عن السنة وإنكاره.

ص: 97

«فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَیْرًا فَأَعِينُوا عَلَيْهِ وإِذَا رَأَيْتُمْ شَرًّا فَاذْهَبُوا عَنْهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، كَانَ يَقُولُ: «يَا ابْنَ آدَمَ اعْمَلِ الْخَیْرَ ودَعِ الشَّرَّ فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ»(1): استشهد على وجوب امتثال أمره بالخبر النبويّ، وقد نبّه الخبر على وجوب عمل الخير والانتهاء عن الشرّ باستلزام ذلك لكون فعلًا جودًا قاصدًا واستعار وصفي الجواد القاصد له، ووجه المشابهة أنّ العامل للخير المنتهي عن الشرّ مستقيم على طريق الله فلا تعریج في طريقه ولا اعوجاج فيكون سيره في سلوك سبيل الله أسرع سير ذا الجواد من الخيل المستقيم على الطريق.

«أَلَا وإِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ وظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ وظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللهِ»: وبرهانه النصّ والمعقول: قال الله سبحانه «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(2)هذا هو النص والمعقول أنّ المغفرة عبارة إمّا عن محو آثار الجرائم عن ألواح النفوس أو عمّا يستلزم ذلك من ستر الله تعالى عليها أن تتحرق بنار جهنّم، والهيئات البدنيّة الَّتي حجبت نفوس المشركين عن معرفة الله هيئات متمكَّنة من تلك النفوس قد صارت ملكات لا يمكن زوالها مع عدم مسكتهم بالمعارف الإلهيّة، فهم في العذاب ماكثون، وفي سلاسل تلك الهيئات وأغلالها مكبّلون؛ فإذًا لا تتحقّق المعرفة في حقّهم لعدم مخلصهم منها، وجاذبهم عنها وهي عصمة المعرفة.

«وأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَر فَظُلْمَ العَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الهيئات»: خصلات شر لا يستعمل في الخير وهي التي لا يكتسب للنفس هيئة ردية باقية بل حاله يسرع

ص: 98


1- شرح النهج: لقطب الدين الراوندي: ص 163؛ وكذلك شرح النهج لابن ابي الحديد المعتزلي: ج 10 ص 31؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 279، ولم أعثر على مصادر أخرى للحديث حيث إن من ذكره لم يرجع به إلى مظانه
2- سورة النساء: الآية 48

زوالها وإليه الإشارة بقوله تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ»(1)أي في حال كونهم ظالمين.

«وأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً»: واليه الاشارة بقوله: يوم يقتصّ للجماء من القرناء»(2)، وهذا الظالم إن كانت له مسكة ببعض عصم النجاة من المعارف الإلهيّة وجب خلاصه من العذاب بعد حين لكن يتفاوت مكثه بحسب تفاوت شدّة تمكَّن تلك الهيئات الرديئة من نفسه وضعفها، وإليه أشارة الخبر النبويّ «يخرجون من النار بعد ما يصيرون حممًا وفحماً»(3)ولتعقيب بيان قسم الثاني من الظلم بذکر شدة القصاص في الاخرة، أخره عن بيان القسم الثالث فقال: «الْقِصَاصُ هُنَاكَ»: يوم القيامة «شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحًا بِاْلمُدَى»: جمع المدية وهي الشفرة «ولَا ضَرْبًا بِالسِّيَاطِ»: كقصاص الدنيا «ولَكِنَّهُ ممَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ»: من العقوبات بالنار المشهورة أوصافها روي عن الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم أنه كان جالسًا في أصحابة فسمع هدة فقال: «هذا حجرًا أرسله الله من سعير جهنم فهو يهوي فيها منذ سبعين خريفًا حتى بلغ الآن قعرها»(4)فهذا بعض أوصافها المحسوسة، واعلم أن هذا الخبر تمامًا ما يكشف سرّه، وهو أنّ

ص: 99


1- سورة الرعد: الآية 6
2- الاقتصاد للشيخ الطوسی: هامش ص 91، المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 99، شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 3 ص 363؛ المستدرك: للحاكم النيسابوري ج 2 ص 316
3- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي: ج 3 ص 83؛ تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام): لورام بن أبي فراس المالكي الأشتري، وأعلام الدين في صفات المؤمنين لحسن بن محمد الديلمي: ص 252
4- مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 330؛ صفاة الشيعة للشيخ الصدوق: ص 31؛ معاني الأخبار كذلك للصدوق: ص 239؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 280؛ مجمع الزوائد للهثمي: ج 5 ص 320؛ البيهقي في شعب الإيمان أحمد بن الحسين: ج 7 ص 4

الراوي قال: فسمعنا بعد ذلك صيحة وصراخًا فقلنا: ما هذا فقالوا: فلان المنافق مات وكان عمره يومئذ سبعين خريفًا قال بعض من تلطَّف: إنّ المراد بجهنّم المشار إليها هي الدنيا ومتاعها، وبالحجر ذلك المنافق لم ينفع بوجوده مدة حيوته ولم تكسب نفسه خيرًا أو أشبه الحجر في ذلك، وإرسال الله تعالى له هو إفاضته عليه ما استعدّ له من اتّباع هواه فيها والانهماك في شهواتها والتيه عن سبيلها المشار إليه بقوله تعالى «يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ»(1)وسفيرها هوّ لها بالنسبة إليه وذلك حين استعداده للانهماك فيها، وأوّل الأمور العاندة له في طرق الضلال من متاعها ولذّاتها، وهويّه فيها سبعين خريفًا هو انهماکه فيها مدّة عمره، وبلوغها قعرها هو وصوله بموته إلى غاية العذاب بسبب ما اكتسب منها من ملكات السوء كما أومنا إليه غير مرّة. ثمّ نهى عن التلوّن في دين الله، قال: «والتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللهِ»: وكنّى

به عن منافقة بعضهم لبعض فإنّ ذلك يستلزم الفرقة ولذلك قال: «فَإِيَّاكُمْ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَیْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ»: فإنّ الاجتماع على الحقّ المكروه إليكم كالحرب مثلًا خير لكم من الافتراق في الباطل المحبوب عندكم كمتاع الدنيا، ثمّ تمّم النهي عن الفرقة وقال: «فإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَدًا بِفُرْقَةٍ خَیْرًا مِمَّنْ مَضَى ولَا مِمَّنْ بَقِيَ»: أي لا من الماضین ولا من الباقین، ولمّا كان

الخبر في الاجتماع والألفة والمحبّة حتّى يصیر الناس كرجل، واحد ويتمّ نظام العالم بذلك كان في الفرقة أضداد ذلك، ولذلك ما روى عن الرسول صلَّى الله

عليه وسلم «من فارق الجماعة قيد شبر؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»(2)ثمّ أعاد النهى عن الغيبة للناس بذكر معايبهم فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَه

ص: 100


1- سورة الرعد: الآية 27
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 280؛ الكامل لعدي بن عبد الله الجرجاني في: ج 2 ص 247؛ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري: ص 471

عَيْبُه عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ»: طوبی فعلی من الطيب، والواو منقلبة عن الياء، وقيل: هي اسم شجرة في الجنّة، وعلى التقديرين فهو مبتداء.

ثمّ نبّه على فضل العزلة ولزوم البيت للاشتغال بطاعة الله والبكاء والندم على خطيئة فقال: «وطُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وأَكَلَ قُوتَهُ واشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وبَكَى عَلَى

خَطِيئَتِهِ»: ثم ذكر ثمرة العزلة وقال: «فكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ»: واعلم أنّ الناس قد اختلفوا في أنّ العزلة أفضل أم المخالطة؛ ففضّل جماعة من مشاهير الصوفيّة والعارفين العزلة منهم إبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، وداود الطائي والفضيل بن عياص، وسليمان الخواص وبشر الحافي، وفصل آخرون المخالطة منهم الشعبي وابن أبي ليلى، وهشام بن عروة، وابن شبرمة، وابن عيينة وابن المبارك، واحتجّ الأوّلون بالنقل والعقل: أمّا النقل فقوله صلَّى الله عليه - وآله - وسلم: لعبد الله بن عامر الجهني لمّا سأله عن طريق النجاة قال له: «ليسعك بيتك أمسك عليك لسانك وابك على خطيئتك»(1)، وقيل له صلىَّ الله عليه وسلم: أيّ الناس أفضل. فقال: «رجل في شعب من الشعاب يعبد ربّه ويدع الناس من شّره»(2)، وقال صلىَّ الله عليه وسلم: «ان الله يحبّ العبد التقى النقي الخفيّ»(3)، وأمّا العقل؛ فهي أنّ في العزلة فوائد مطلوبة لله لا يوجد في

ص: 101


1- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 2 ص 379؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 597؛ المحاسن للبرقي: ج 1 ص 94؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 306؛ السنن الکبری للنسائي: ج 2 ص 292؛ ومسند شهاب لمحمد بن سلامة القضاعي: ج 1 ص 276؛ والتمهيد لابن عبد البر: ج 4 ص 210
2- شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 3 ص 365؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 280؛ شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي في: ج 10 ص 42
3- مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 16؛ البخاري: ج 3 ص 201؛ سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1317؛ الترمذي في سننه: للترمذي: ج 3 ص 106؛ والنسائي في سننه: ج 6 ص 11؛ أحمد بن الحسين البيهقي في سننه: ج 9 ص 159

المخالطة، فكانت أشرف منها الفراغ لعبادة الله والذكر له والاستئناس بمناجاته والاستكشاف لأسراره في أمور الدنيا والآخرة من ملكوت السماوات والأرض، ولذلك كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يتعبّد بجبل حری ويعتزل به حتّى آتنه النبوّة، واحتجّ الآخرون بالقرآن والسنّة: أمّا القرآن فقوله تعالى «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»(1)وقوله «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا»(2)ومعلوم أنّ العزلة تنفي تألَّف القلوب وتوجب تفرّقها، وأمّا السنّة فقوله صلَّى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»(3)وروى أنّ رجلاً أتی جبلاً ليتعبد فيه فجاء به أهله إلى الرسول صلىَّ الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك وقال له: «إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يومًا واحدًا خيرًا له من عبادة سبعين سنة»(4)أقول: إنّ كلا الاحتجاجين صحيح ولكنّ ليس أفضليّة العزلة مطلقًا ولا أفضليّة المخالطة مطلقًا بل كلّ في حقّ بعض الناس بحسب مصلحته، وفي بعض الأوقات بحسب ما يشتمل عليه من المصلحة.

واعلم أنّ من أراد أن يعرف مقاصد الأنبياء عليهم السّلام من أوامرهم وتدبيراتهم؛ فينبغي أن يتعرّف طرفًا من قوانين الأطبّاء، ومقاصدهم من العبادات

ص: 102


1- سورة آل عمران: الآية 103
2- سورة آل عمران: الآية 105
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي في: ج 1 ص 280؛ الكامل لعدي بن عبد الله الجرجاني في الكامل: ج 2 ص 247؛ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: لعبد العظيم المنذري: ص 471
4- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 1 ص 376؛ إحياء علوم الدين: للغزالي: ج 6 ص 61؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 281؛ وشعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي: ج 7 ص 297

المطلقة؛ فإنّه كما أنّ الأطبّاء هم المعالجون للأبدان بأنواع الأدوية، والعلاجات لغاية بقائها على صلاحها؛ أو رجوعها إلى العافية من الأمراض البدنيّة كذلك الأنبياء عليهم السّلام، ومن يقوم مقامهم؛ فإنّهم أطبّاء النفوس، والمبعوثون لعلاجها من الأمراض النفسانيّة كالجهل، وسائر رذائل الأخلاق بأنواع الكلام من الآداب والمواعظ والأوامر، والنواهي والضرب والقتل، وكما أنّ الطبيب قد يقول الدواء الفلاني نافع من المرض الفلاني، ولا يعني به في كلّ الأمزجة بل في بعضها كذلك الأنبياء الأنبياء، والأولياء إذا أطلقوا القول في شيء؛ أنّه نافع کالعزلة مثلًا، فإنّهم لا يريدون أنّها نافعة لكلّ إنسان، وكما أنّ الطبيب قد يصف لبعض المرضى دواء وتصف شفاءه فيه، ويرى أنّ ذلك الدواء بعينه لمريض آخر كالسلمّ القاتل، ويعالجه بغيره كذلك الأنبياء عليهم السّلام قد يرون أنّ بعض الأمور دواء لبعض النفوس فيقتصرون عليه، وقد يرون أنّ بعض الأوامر علاج لبعض النفوس کالأمر بالعزلة والحثّ عليها لبعض الناس، فقد يرون أنّ ذلك العلاج بعينه مضرّ لغير تلك النفس؛ فيأمرونها بضدّ ذلك الأمر بالمخالطة، والمعاشرة، وأكثر ما يختارون العزلة لمن بلغ رتبة من الكمال في قوّتیه النظريّة والعمليّة، واستغني عن مخالطة كثير من الناس لأنّ أكثر الكمالات الإنسانيّة من العلوم، والأخلاق إنّما يحصل بالمخالطة خصوصاً؛ إذا كان ذلك الإنسان أعني المأمور بالعزلة خاليًا عن غائلة يحتاج أن يتكسب لهم، وأكثر ما يختارون المخالطة، والاجتماع لتحصّيل الألفة والاتّحاد بالمحبّة، وبه حفظ أصل الدين، وتقويته بالجهاد، وتحصيل الكمالات الَّتي نظامه بها كما بيناه أمر الدارين لأنّ أكثر العلوم والأخلاق يستفاد من العشرة والمخالطة كما بيّنّاه والله سبحانه اعلم.

ص: 103

ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين بعد ما ابلغه أمرها

«فَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ»: والإجماع: تصميم العزم، وملاء القوم أشرافهم، والخطاب لمن أنكر عليه عدم رضاه بالتحكيم بعد الرضا به.

«عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَیْنِ»: أبو موسى وعمرو بن العاص «فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا»: بخسًا عِنْدَ الْقُرْآنِ: كالعطف التفسیري(1)«وتَكُونُ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وقُلُوبُهُمَا

تَبَعَهُ»: أطلق القلوب على المقول الإراديّة مجازًا إطلاقًاً فالاسم السبب على المسبب كقوله تعالى «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا»(2)وذلك هو شرط رضاه عليه السّلام بالتحكيم. ثمّ حكی خروجهما عمّا اشترطه عليهما، ونبههما عن الكتاب، وتركهما للحقّ مع أبصار هما له، وخروجهما عن فضيلة العدل بحسب الهوى إلى رذيلة الجور والاعوجاج عن طريقة الحقّ.

«فَتَاهَا عَنْهُ وتَرَكَا الْحَقَّ وهُمَا يُبْصِرَانِهِ وكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا والِاعْوِجَاجُ دئبهما»: عادتهمما وسوء رأيهما «وقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ والْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وجَوْرَ حُكْمِهِمَا والثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لأَنْفُسِنَا حِینَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ»: إنّا على برهان وثقة من أمرنا، وليس بلازم لنا حكمهما لأنّهما خالفا الشرط.

«وأَتَيَا بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ»: وقد حكينا فيما سبق طرفًا من حال التحكيم وخداع عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري وبالله التوفيق.

من خطبة له عليه السّلام: خطب بها بعد مقتل عثمان في أول خلافته.

«لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ»: وفي بعض النسخ «عن شأن»: وذلك لأنّ الشغل لشيء إمّا

ص: 104


1- ورد في بعض النسخ: ولاَ يُجَاوِزَاهُ
2- سورة التحريم: الآية 4

لقصور القدرة أو العلم، وقدرته تعالى وعلمه المحيطان بكلّ مقدور ومعلوم فإذن لا يشغله مقدور عن مقدور ولا معلوم عن معلوم، وتقرير هاتين المسألتين في الكتب الكلاميّة والحكمیّة.

«ولَا يُغَیّرُهُ زَمَانٌ»: وإذ ثبت أنّه تعالى خالق الزمان، ولا زمان يلحقه، فلا تغيّر يلحقه بتغييره، ولأنّه واجب الوجود، ولا شيء من المتغيّر في ذاته أوصافه بواجب الوجود فلا شيء منه يلحقه التغيّر.

«ولَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ»: لبراءته عن الجسميّة ولواحقها، وكلَّما كان كذلك فهو برئ عن المكان ولواحقه.

«ولَا يَصِفُهُ لِسَانٌ»: أي لا يعبر اللسان عن حقيقة وصفه، وبيان ما هو وذلك أنّه تعالى منزّه عن وجوه التراكيب؛ فمحال أن يقع العقول على حقيقة وصفه

فكيف باللسان الَّذي هو المعبّر عنه.

«لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ ولَا نُجُومِ السَّمَاءِ ولَا سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ»: الساقيات والسواقي الرياح التي تسفي التراب.

«ولَا دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا»: الحجر الأملس «ولَا مَقِيلُ الذَّرِّ فِي الليْلَةِ الظَّلْمَاءِ يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الأَوْرَاقِ وخَفِيَّ طَرْفِ الأَحْدَاقِ»: أشار إلى إحاطة علمه المقدّس

بكلَّيّات الأمور وجزئيّاتها، وهذه مسألة عظيمة حارت فيها العقول، وقد أشرنا إليها في الموسوم بالقواعد الإلهيّة في شرح الفقه الأكبر للشافعي رحمه الله ثمّ عقّد هذه التنزيه بالكلمة التوحيد، وذكر الله تعالى أحوالا شهد بوحدانيّته عليها فقال: «وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً إِلَّا اللهُ غَیْرَ مَعْدُولٍ بِهِ»: أي لا اسوي بالله أحدا(1)«ولَا مَشْكُوكٍ

ص: 105


1- بمعنى لا أُساوي بالله تعالى أحدا

فِيهِ»: في وجوده فإنّ ذلك ينافي الشهادة بوحدانيّه.

«ولَا مَكْفُورٍ دِينُهُ»: لأنّه يستلزم النقصان في معرفته فكان الاعتراف به كمالًا لمعرفته والشهادة بوحدانيته.

«ولَا مَحْحُودٍ تَكْوِينُهُ»: إيجاده الموجودات وكونه ربًّا لها، ثمّ عقّب وصف المشهود له حال تلك الشهادة بأوصاف الشاهد بها باعتبار شهادته فقال: «شَهَادَةَ

مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ»: أي اعتقاده جازم لا حوله غبار الربية.

«وصَفَتْ دِخْلَتُهُ»: باطنه أي تقي الباطن من الرياء والنفاق. «وخَلَصَ

يَقِينُهُ»: بوجود المشهود له وكمال وحدانيّته من الشكوك والشبهات فيه: «وثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ»: بكمال تلك الشهادة والقيام بحقوقها وسائر الأعمال الصالحة وأردفها بأحثها وذكر للمشهود بحقّيتة رسالاته أيضًا أوصافًا وهي قوله: «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الْمُجْتَبَى»: المختار «مِنْ خَلَائِقِهِ»: وذلك يعود إلى إكرامه بإعداد نفسه لقبول أنوار النبوّة.

«والْمُعْتَامُ»: المختار «لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ»: أي لإيضاح ما يخفى من الحقائق الإلهيّة والشرعيّة الَّتي بيّنها.

«والْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ»: أي بنفائسها وهى الكمالات النفسيّة من العلوم ومكارم الأخلاق الَّتي اقتدر معها على تكميل الناقصین. «والْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ»: أي لرسالاته الكريمة وتعديدها باعتبار نزول الأوامر عليه في كلّ أمرٍ أمر بتبليغه إلى الخلق رسالة كريمة.

«والْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى»: أي أعلامه، وهي قوانين الشريعة ودلالات الكتاب والسنّة.

ص: 106

«والْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى»: استعار الغربيب وهو شدّة السواد لشدة ظلمة الجهل والجلاء لزوال تلك الظلم بأنوار النبوّة ثمّ أنّه الناس منبّهًا لهم على قبائح

الدنيا ومذامّها.

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا والْمُخْلِدَ إِلَيْهَا»: أي الراكن وذلك أنّ المؤمّل لبعض مطالبها لا يزال يجدّد له أمارات خياليّة على مطالبه وهميّة وأنّها ممكنة التحصيل نافعة؛ فتوجب له مبتدّأ الأمل، وقد يخترم دون بلوغها، وقد

ينكشف بطلان تلك الأمارات بعد العباء الطويل.

«ولَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ»: وأحبّها بل تسمح به للمهالك وترميه بغرائب من النوائب «وتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا»: أي من ملكها وأخذها بالغلبة فعن قريب

تقهره وتغلبه الأوصاف المذكورة الَّتي من شأنها أن يكون للعدوّ استلزم الكون فيها والاغترار بها ومحبّتها والتملَّك لها ثمّ أخذ عليه السّلام في التنبيه على وجوب

شكر المنعم واستدراكها بالفزع إلى الله، وأقسم أنّ زوالها غنيمة ليس إلَّا بذنوب اجترحتموها قال: «وأيْمُ اللهِ مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ

إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا»: إشارة إلى أنّها تعدّ زوال النعم، وحلول النقم لأنّم لو استحقّوا إفاضة النعم مع الذنوب لكان منعهم إيّاها منعًا للمستحقّ المستعدّ، وذلك عین الظلم وهو من الجود الإلهي محال كما قال «لا»: أي منهم مع ذنوبهم ليسوا لمستحقي النعمة.

«لَأِنَّ الله لَيْسَ بِظَاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»: وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(1)القوي الداهي وهي كونها تعبر

ص: 107


1- سورة الأنفال: الآية 51

الممل لها وتقلب مقالبها ولا سقى على محبتها مستعارة، ووجه المشابه الهلاك فيها، وعنها في الآخرة كاستلزام الغرور بالعدو الداهي الذي لا يحب أحدا، والركون إليها الهلاك حتى يغيروا ما بأنفسهم أي يستعدّوا للتغيّر بالمعاصي.

«لَوْ أَنَّ النَّاسَ حِینَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ وتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ فَزِعُوا إِلَی رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ ووَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ»: من سایر الأحوال إشارة إلى أنّ الفزع إلى الله بصدق النيّة ووله من قلوبهم وذهولها عن كلّ شيء سوى الله بعدّ الإعداد التامّ لإفاضة المطالب سواء كانت عودها نعمة أو استحداثها أو زوال نقمة أو استنزالها على عدد.

«وإِنِّي لأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ»: کنی بها عن أمر الجاهليّة كناية بالمجاز إطلاقًا لأسم الظرف على المظروف: أي أخشى أن تكون أحوالكم أحوال الجاهلية في التعصبات الباطلة بحسب الأهواء المختلفة.

«وقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَیْرَ مَحْمُودِينَ»: قالت الأمامية هي تقديم عليه من سبق من الأيمّة وقال غيرهم هي حركاتهم وميلهم عليه في تقديم عثمان، وقت الشورى واخبارهم له وما جرى فيها من الأقوال والأفعال.

«ولَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ»: أي صلاح أحوالكم واستقامة سيرتكم الَّتي كنتم عليها في زمن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم.

«إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ»: عند الله وفي الدنيا «ومَا عَلَيَّ إِلَّا الْجُهْدُ»: في عود ذلك الأمر عليكم «ولَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ»: يفهم منه أنّه لو قال لكان مقتضى قوله نسبة من تقدّم عليه إلى الظلم له وتخطئهم في التقدّيم عليه، وذكر معایب تقتضي وجوب

ص: 108

تأخّيرهم في نظرتهم وتقدير الكلام ولكنّي لا أقول فلم أكن مريدًا للقول: «عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ»: عفا الله عمّا سلف إشارة إلى مسامحته لهم بما سبق منهم. إذ العادة جارية بأن يقول الإنسان مثل ذلك فيما يسامح به غيره من الذنوب، وأحسن العبارات في ذلك لفظ القرآن الكريم فيقتبس في الكلام وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام له صلوات الله تعالى عليه: في التوحيد والتنزيه

وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: أفأ عبد ما لا أرى: استفهام على سبيل الإنكار لعبادة ما لا يدركه وفيه إزراء للسائل: فقال: وكيف تراه فقال: لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ ولَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ: تنزیه له عن الرؤية بحاسّة البصر وشرح لكيفيّة الرؤية الممكنة، ولمّا كان تعالى منزّهًا عن الجسميّة ولواحقها من الجهة وتوجيه البصر إليه وإدراکه به وإنّما یری ویدرك بحسب ما يمكن لبصيرة العقل لا جرم نزّهه عن تلك وأثبت له هذه وأراد بحقائق الإيمان أركانه، وهي التصديق بوجود الله ووحدانيّته وسائر صفاته واعتبار أسمائه الحسنى، وعدّ من جملتها اعتبارات منها قوله: «قَرِيبٌ مِنَ الأَشْيَاءِ»: ولمّا كان من مفهوم القرب المطلق الملامسة والإلصاق وهما من عوارض الجسميّة نزّه قربه تعالى عنها فقال: «غَیْرَ مُلَامِسٍ»:

وأخرجت هذه القرينة ذلك اللفظ عن حقيقته إلى مجازه وهو اتّصاله بالأشياء وقربه منها بعلمه المحيط وقدرته التامّة: «بَعِيدٌ مِنْهَا غَیْرَ مُبَايِنٍ»: ولمّا كان البعد يستلزم المباينة، وهي أيضًا من لواحق الجسميّة نزّهه عنه به، وقد سبق بيان ذلك مرارا فكان بعده إشارة إلى مباينته بذاته الكاملة عن مشابهة شيء منها.

«مُتَكَلِّمٌ لَا بِرَوِيَّةٍ»: وكلامه يعود إلى علمه بصور الأوامر والنواهي وسائر أنواع الكلام عند قوم وإلى المعنى النفسانيّ عند الأشعري وإلى خلقة الكلام في

ص: 109

جسم النبيّ عند المعتزلة ونزهه عن كلام الخلق لكونه مانعا للأفكار والتروّي وكذلك. «مُرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ»: تنزيه لإرادته عن مثليّة إرادتنا في سبق العزم والهمّة لها وكذا.

«صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ»: تنزه لصنعه عن صنع المخلوقين لكونه بالجارحة الَّتي هي من لواحق الجسميّة.

«لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ»: قد يراد به رقیق القوام، وقد ويراد به صغير الحجم المستلزمين للخفاء، وعديم اللون من الأجسام، والمحكم من الصنعة، وهو تعالى منزّه عن إطلاقه بأخذ هذه المعاني لاستلزامها الجسميّة والإمكان فبقي إطلاقها عليه باعتبارين أحدهما تصرّفه في الذوات والصفات تصرّفاً بفعل الأسباب المعدّة لها لإفاضة كمالاتها والثاني جلالة ذاته وتنزيهها عن قبول الإدراك البصري.

«كَبِیرٌ لَا يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ»: ضد الرأفة «بَصِیرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ»: أي رقّة الطبع والانفعال النفسانيّ وقد سبق بيانه.

«تَعْنُو»: يخضع ويذل «الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وتَوجل الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ»: إذ هو الإله المطلق لكلّ موجود وممكن فهو العظيم المطلق الَّذي تفرّد باستحقاق ذلّ الكلّ وخضوعه له، ووجيب القلوب اضطرابها من هيبته عند ملاحظة كلّ منها ما يمكن له من تلك العظمة وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام في ذم أصحابه:

«أَحْمَدُ اللهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ وقَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ»: ما كان القضاء هو حكم العلم الألهي با یکون قال علي ما قضي من أمر لأنه أعم من فعل ولما كان القدر

ص: 110

هو تفصل القضاء وإيجاد الأشياء على وفقه قال وقدر من فعل.

«وعَلَى ما ابْتِلَاني بِكُمْ»: تخصيص لبعض ما قضى وقدر له «أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ وإِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ إِنْ أُهمِلْتُمْ خُضْتُمْ»: أي أن خليتم بينكم وبین أنفسكم خضتم فيما لا ينبغي وإِنْ حُورِتمْ حرْتُمْ بالجأ: ضعفتم وانكسرتم وقيل حرمتم أي صحتم وروی حرمتم أي أعرضتم.

«وإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ وإِنْ أُجِئْتُمْ إِلَی مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ»: رجعتم إلى هنا شرح لوجوه الابتلاء بهم وحاصلها يعود الى مخالفتهم له في جميع ما يريده منهم مما ينتظر به حالهم.

«لَا أَبَا لِغَيْرِكُمْ»: دعا بالذل لغيرهم وفيه نوع تلطف لهم والأصل لا أب والألف مزيدة أما الاستثقال توالى اربع حركات فاتبعوا الفتحة فانقلبت أو لأنهم

قصدوا الإضافة وأتوا بالكلام للتأكيد.

«ما تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ والْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ»: يحتمل أن يكون على الرفع دعا عليهم وعلى النصب مفعول ينتظرون المحذوف.

«فَوَ اللهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي»: وقت موتى «ولَيَأْتِيَنِّي» حشوة لطيفة في الكلام وأنى بها موكدة لأن إتيان الموت أمر محقق وكأنه رد بها ما يقتظيه إن من الشك «ليَفُرِّقَنَّ بَيْنِي وبَيْنِكُمْ»: تهديد لهم بفراقة وإنشغاب أمورهم بعدة ثم أخذ في الصخر منهم فقال: «وانى لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ: متعظ وبِكُمْ غَیْرُ كَثِیرٍ»: لأن الكثیر فإنما يراد

للمنفعة فحيث لا منفعة فكأنه لا كثره. «لله اسمُ»: جملة اسمية فيها معنى التعجّب من حالهم، ومثله: لله أبوك ثمّ أخذ في استفهامهم عمّا يدّعون أنّه موجود فيهم، وهو الدين والحميّة والأنفة، ومن شأن الدين أن يشمل على إنكار المنكر والحميّة

ص: 111

أن يسجد وتثير القوّة الغضبيّة لمقاومة العدوّ استفهامًا على الإنكار عليهم فقال:

«أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ: ولَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ: ثم استفهم لتقرير التعجب من حالهم معهم في تفرّقهم عنه حتّى عند الدعوة إلى العطاء، ومن حال معاوية مع قومه

في اجتماعهم عليه من غیر معونة ولا عطاء فقال: ولَيْسَ عَجَبًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ: أوغاد الناس «فَيَتَّبِعُونَه عَلَى غَیْرِ مَعُونَةٍ ولَا عَطَاءٍ وأَنَا أَدْعُوكُمْ

«وأَنْتُمْ تَرِيكَةُ الإِسْلَامِ»: هي البيضة التي يتركها النعامة وهنا بمعنى بيضة الإسلام ووجه المشابهة انهم خلف ألإسلام وبقية أهله كالبيضة التي تركها

النعامة . «والنَّاسِ»: أي خيارهم «إِلَی الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ»: وكأني بك تقول المشهور أنّ معاوية إنّما استجلب من استجلب من العرب بالأموال والرغائب فلم قال عليه السلام: فيتّبعونه على غير معونة ولا عطاء أقول انه لم يكن يعطى جنده على وجه المعونة والعطاء المتعارف بين الجند، وإنّما كان يعطى رؤساء القبائل من اليمن والشام الأموال الجليلة ليستعبدهم بها وأولئك الرؤساء يدعون أتّباعهم من العرب فيعطونهم وصادق إذن أنّهم يتّبعونه على غير معونة ولا إعطاء، وأمّا هو عليه السّلام فإنّه كان يقسّم الأموال بالسويّة بين الأتباع والرؤساء على وجه الرزق والعطاء ولا يرى لشريف على مشروف فضلاً، وكان أكثر من يقعد عن نصرته من الرؤساء لما يجدونه من أنفسهم من أمر المساواة بينهم وبين الأتباع، وإذا أحسّ الأتباع بذلك تخاذلوا أيضا متابعة لرؤسائهم ومعونة الجند هي في وقت الحاجة لترميم أسلحتهم وإصلاح دوابّهم هو خارج من العطاء المفروض شهرًا فشهراً: «إِنَّه لَا يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضًی فَتَرْضَوْنَه ولَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْه»: بل لا بدّ لكم من التفرّق والمخالفة على

الحالین ثمّ نبّههم على سوء صنعهم معه بقوله: «وإِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ»:

ص: 112

قد لاحظ هذه الحال أبو الطيّب فقال:

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ٭٭٭ وحسبت المنايا أن تكون أمانيا

تمنّيتها لمّا تمنّيت أن أرى ٭٭٭ صديقا فأعيا أوعدوّا مداجيا

«قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ وفَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ وعَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ وسَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ»: إشارة إلى وجوه الامتنان عليهم وهی مدارستهم الكتاب: أي تعليمه، ومفاتحتهم الحجاج أي محاذاتهم وجوه الاحتجاج في تعريفهم ما أنكروه: من الأمور المجهولة لهم، وتسويغهم ما محوه. واستعار وصف التسويغ إمّا لإعطایه لهم العطيّات والأرزاق الَّتي كانوا يحرمونها من يد غيره لو كان كمعونة، وإمّا لإدخاله العلوم في أفواه أذهانهم ونبوّ أفهامهم عنها فكأنّهم ألقوها صلحوها لعدم للإساغة، ووجه الاستعارتين ظاهر وقوله: «لَوْ كَانَ الأَعْمَى يَلْحَظُ أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ»: إلى أنّهم جهّال لا يلحظون بأعین بصائرهم ما أفادهم من العلوم،

وغافلون لا يستيقظون من سنة غفلتهم بما أتعظهم به من المواعظ وغيرها، ولفظ الأعمى والنائم مستعاران: «وأَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِالله»: يعجب من شدة قرب أهل الشام من الجهل بالله.

«قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ ومُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ»: أي عمرو بن العاص وهو رئيسهم رئیس المنافقين وأهل الغدر والخداع، وإذا كان الرئيس القائد والمؤدّب في تلك الطريق بحال الرجلين المشار إليهما فما أقرب أتباعهما من البعد عن الله والجهل به وأقرب: صنيعة التعجّب.

وقائدهم معاوية: جملة اسميّة محلَّها الجرّ صفة لقوم، وفصّل بين الموصوف

ص: 113

والصفة بالجار والمجرور كما في قوله تعالى «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ»(1)والغرض من ذكرهم ووصفهم بما وصف التنفير عنهم وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام

وقد أرسل رجلًا من أصحابه يعلم علم قوم من جند الكوفة هموا باللحاق بالخوارج، وكانوا على خوف منه عليه السلام، فلما عاد إليه الرجل قال عليه السلام له: «أمنوا فقطنوا؟ «اقاموا أم جبنوا فظعنوا فقال الرجل»: «بل ظعنوا» سافروا يا أمير المؤمنين فقال: عليه الصلاة والسلام:

«بُعْدًا لَهُمْ»: نصب على المصدر أي أبعد الله بعدًا فيه هلاكهم كَمَا بَعِدَتْ «اهلكت ثَمُودُ أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ»: أسرعت الريح سددته وصُبَّتِ «السُّيُوفُ عَلَى هَامَتتِهِمْ لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ»: استحفهم وروى أستقتلهم بقتلهم ورضى عنهم وهى أقوى لقرنيه قوله: «وهُوَ

غَدًا مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ ومُتَخَلٍّ عَنْهُمْ»: أي تارك لهم فإنّ التبرئ في مقابلة الاستقبال وذلك كقوله تعالى «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(2)«فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهِمْ

مِنَ الْهُدَى»: أي يكفيهم ذلك عذابًا والباء زائدة كهي في قوله تعالى «وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا»(3)، «وارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلاَلِ والْعَمَى»: أي رجوعهم إلى الضلال القديم

ص: 114


1- سورة التوبة: الآية 101
2- سورة الأنفال: الآية 48
3- سورة النساء: الآية 116

وعمى الجهل الَّذي كانوا عليه بعد خروجهم منه بهدايته «وصَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ»: بالخروج عن طاعته.

«وجِمَاحِهِمْ فِي التِّيه»: الجهل بعد والهوى الاستقرار في مدينة العلم والعقل واستعير الجماح لخروجهم عن فضيلة العدل إلى رذيلة الإفراط منها كما سبق في العلوّ في طلب الحقّ إلى حدّ الجور عن الصراط المستقيم وبالله التوفيق.

«ومن خطبة له عليه السّلام روى عن نوف البكالي»:

الجوهري بفتح الباء وتخفيف الكاف كان صاحبه عليه السلام ونقل عن ثعلب أنه منسوب الى بكالة قبيلته وقيل منسوب الى بكالة أسم حي من همدان وتكسل اكثر وقيل بكال بكسر الباء من حمير فمنهم هذا الشخص هو يعرف بابن فصالة صاحب على علیه السلام والاقوال محتمله.

قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي: هو ابن اخته عليه السلام، أم هاني بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأبو وهب بن أبي وهب بن عمر بن عامد بن عمران بن مخزوم وهو صحابي: وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان وكأن جبينه ثفنة بعير واحدة الثفنات وهي ما يقع على الأرض من أغصانه فقال: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَصَايرُ الْخَلْقِ وعَوَاقِبُ الأَمْرِ»: حمدا له باعتبار کونه منتهى جميع آثاره في عالم الأمر والخلق انتهاء في أوليتها بالصنع وانتهاء في آخريتها لأنه غايه مطلوب السالكين وهو الباقي بعد كل شيء منها باعتبار وجوده فهو المستحق لبقاء ذاته وهي الممكثة والمستحقة للفناء باعتبار كونه ممكنًا لها ولما كان الحمد قد یکون لأداء حق ما سبق من النعمة وقد تكون للاستزادة منها قال

ص: 115

«نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ»: بالحق والاتحاد على وفق الحكمة والمنفعة «ونَیِّرِ بُرْهَانِهِ»: في متقن صنعه ومحكمه وعلى السنه رسله لسوقها في صراطها المستقيم إلى جنات النعيم وهدايتنا إليها ونَوَامِي: زوائد «فَضْلِهِ وامْتِنَانِهِ ولِشُكْرِهِ أَدَاءً وإِلَی

ثَوَابِهِ مُقَرِّبًا ولِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِبًا» حمده بإفاضة أسباب معاشنا ومعادنا ناضراً إلى ما يراد منها والقرب من ثوابه الآخروي لاستكمال النفس بذلك، وحسن مزيده من نعمه الحاضرة كما قال تعالى لین شكرتم لأزيدنكم ثم أردف ذلك الشكر بطلب المعونة منها استعانة بالصفات المعدودة فقال «ونَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ

لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ الفضل مُذْعِنٍ منقاد لَهُ بِالْعَمَلِ والْقَوْلِ»: فأن استعانة من هذه صفته يكون أقرب الاستعانات إلى إجابة المستعان بالعون لقوتها باستجماعها قوة الرجاء والأمل له تعالى وحسن اليقین في قدرته على بذل النفع ودفع الضر والشكر والإذعان بالطاعة العملية والقولية ثم أردف ذلك بالإقرار بالأيمان الكامل وهو إيمان من استكمل الأوصاف المعدودة وهي رجاء

المطالب العالية منه حال السفن التام بابه أهله والرجوع إليه عن جميع المواطن وفي ساير المهمات حال الإيمان به والخضوع حال انقياده لعزته ثم الإخلاص له

حال توحيده ثم تعظيم تمجيده واللوذ به به حال الراغبة أليه والاجتهاد فيها فقال «ونُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِنًا وأَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِنًا وخَنَعَ»: خضع «لَهُ مُذْعِنًا

وأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّدًا وعَظَّمَهُ مُمَجِّدًا ولَاذَ بِهِ رَاغِبًا مُجْتَهِداً»: وظاهر أن ذلك الإيمان كامل «لمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكًا له»: والعادة أن يكون والد العزيز

عزيزا «وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثًا هَالِكا»: وهو تنزیه له عن صفات البشر أذ العادة أن الإنسان يهلك فيرثه ولده وبرهانها انهما من لواحق الحيوانية المستلزمة للجسمية المتره قدسه عنها.

ص: 116

«ولَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ ولَا زَمَانٌ»: وهو جزء الزمان وإذا كان خالق الوقت والزمان فبالحرى أن يتقدمهما «ولَمْ يَتَعَاوَرْهُ»: لم يسوله اولم يحلف عنه «زِيَادَةٌ ولَا نُقْصَانٌ»: لأنهما من لواحق الممكنات لاستلزامهما التعيیر المستلزم للإمكان المنزه قدسه عنها «بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِیرِ الْمُتْقَنِ»: المحكم «والْقَضَاءِ الْمُبْرمَ»: وهي الأحكام والإتقان في مصنوعاته المجودة على وفق القضاء المحكم «فَمِنْ

شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ»: كقوله تعالى «اللَّهُ خَالِقُ»(1)«السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا»(2)وقوله «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ»(3)الآية، «مُوَطَّدَاتٍ» مثبتات «بِلَا عَمَدٍ قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ»: قد مر بيانهما في الخطبة الأولى «دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ غَیْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ ولَا مُبْطِياتٍ»: دعاهن حکم سلطان القدرة الإلهية عليهن وأجابتهن دخولهن في الوجود عن ذلك الحكم وطوعهن أو إذعانهن من غير تلكئ لا تباطئي في إجابتهن خضوعهن في رق الحاجة والإمكان لوجوب وجوده سلطانه «ولَوْ لَا إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ انقيادهن بالطاعة لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعًا لِعَرْشِهِ ولَا مَسْكَنًا لِمَلَائِكَتِهِ ولَا مَصْعَدًا لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ والْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ»: كلام حق فأن الإقرار بالربوبية له راجح إلى لسان الحال المتمكن بالحاجة إلى الرب والانقياد لحكم قدرته ولولاه لم يكن فيها عرش ولم يكن أهلًا لقبول تدبير أحوال الملائكة وسكناها ولم يكن له قابلة لصعود الملائكة بالكلم الطيب، والأعمال الصالحة بالحق وقد سبقت الإشارة إلى بيان الصعود بالأعمال وغيرها في الخطبة الأولى بحسب الإمكان ولفظ

ص: 117


1- سورة الزمر الآية 62
2- سورة فاطر: الآية 41
3- سورة الأعراف: الآية 185

الدعاء والإقرار والإذعان مستعار ويحتمل أن يكون حقائق نظرًا إلى أن لها أرواحًا مدبرة عاقلة «جَعَلَ يحويها أَعْلَاماً»: علامات «يَسْتَدِلُّ بِهَا الْجیْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الأَقْطَار»: أشار إلى بعض غایات وجود النجوم وقد سبق بيان ذلك.

«لَمْ يَمْنَعْ نور ضَوْءَهَا ادْلْهِمَامُ»: شدة ظلمة «سُجُفِ ستور الليْلِ الْمُظْلِمِ ولَا اسْتَطَاعَتْ جَلَابِيبُ سَوَادِ الْنَادِسِ»: الظلمات «أَنْ ترُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ

تَلأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ»: وجه استعارة السجف والجلابيب للساتر من سواد الليل ظاهر وخص القمر بالذكر لكونه من الآيات العظيمة والمقابلة بن الضياء والظلمة

مقابلة العدم والملكة وكل منهما يوجد بوجود شبيه ويعدم بعدم شبيه فلا يكون رفع احدهما بالآخر فظاهرٌ أذن أن نور القمر والنجوم لا يمنعه الوجود ثم ترة

سبحانه بحسب أحاطة علمه بحسب كليات الأشياء وجزئياتها قال عليه السلام «فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ»: وصف للمبالغة «ولَا لَيْلٍ سَاجٍ فِي بِقَاعِ الأَرَضِینَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ» أي مهابط الأرض «ولَا فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ»: ما ارتفع من الأرض من ذيل الجبال «ومَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ»: إشارة إلى تسبيحه في قوله تعالى ويسبح الرعد بحمده قيل وذلك التسبيح يعود إلى شهادته

بلسان حاله وذلك الصوت على كمال قدرته مسخر السحاب «ومَا تَلَلالات منه بُرُوقُ الْغَمَامِ ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الأَنْوَاءِ» إنما

أضافها لأن العرب يُضيف المطر والريح والحر والبرد إلى الأنواء «وانْهِطَال»: إنضباب «السَّمَاءِ المطر ويَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ ومَقَرَّهَا ومَسْحَبَ الذَّرَّةِ»: وموضع

السحب وهو المجر «ومَجَرَّهَا ومَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا ومَا تَحْمِلُ الأُنْثَى فِي بَطْنِهَ»: ثم عاد إلى حمده تعالى باعتبار تقدمه في الوجود على ساير مخلوقاته فقال: «الْحَمْدُ للهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ»:

ص: 118

قد عرفت ما يقال في العرش والكرسي ثم نزهه باعتبارات سلبيه فقال:

«لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ ولَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ»: أي لا يحدثه وهو من صفات وقد مرت الإشارة إلى عجز العقول والأوهام عن وصفه تعالى «ولَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ»: لأحاطه علمه وقدرته وقد سبق أيضًا بيانه «ولَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ»: عطيته، لأنه نحو ذي الحاجة ويتوجه، وقد تنزه قدسه عنها «ولَا يَنْظُرُ بِعَیْنٍ»: أراد أن إدراكه ليس بحاسة البصر

وأن كان بصیرًا وذلك لتنزه قدسه عن الحواس «ولَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ»: أي لا يجد العقول بالأمكنة ومحيط باعتبارها لبراته عن التحيز وهي نفي الكمية المتصلة عنه «ولَا

يُوصَفُ بِالأَزْوَاجِ»: وهي نهي الكم المنفصل أي ليس فيه أثنينية وتعدد.

«ولَا يُخْلَقُ بِعِلَاجٍ»: تنزيه لصنعه عن وساطة الآلة والحيلة كأصحاب الصنائع.

«ولَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ»: لتخصيص إدراكها بالأجسام وكيفياتها وتنزيه تعالى عن الجسمية ولواحقها «ولَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ» تنزيه له عن التشبيه بخلقه لا كما يتوهمه أهل التجسيم.

«الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً»: تنزيه له عن البشرية في التكلم أي هو متكلم بلا جارحة نطق ولا لهوات «وأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً»: فقيل أراد آياته في كلامه لأن

لا نضر بن قوله تكليمًا «بِلَا جَوَارِحَ ولَا أَدَوَاتٍ ولَا نُطْقٍ ولَا لَهَوَاتٍ»: اعتراض غير مناسب والذي أراه من تلك الآيات ما روى أنه كان يسمع الصوت من جهاته الست على حد سماع البشر من جهة مخصوصة، وله دوي کوقع السلاسل العظيمة الحصباء الأصم وفي هذه الكيفية سر لطيف وهو أن كونه يسمع من الجهات الست، الأعلى سواء إيماء إلى عدم سماعه منها فلا جرم قيل يسمع من الجهات الست وهو أولى من أن يقال يسمع لا من جهة لتعذر ذلك عن أوهام

ص: 119

الخلق فأما كونه کوقع السلاسل في القوة؛ فأشار إلى عظمته بالنسبة إليه فشبه بأشد الأصوات حرسًاً وقيل أراد بها الآيات السبع کانشقاق البحر وقلب العصا ثعباناً وغيرهما ثم نبه على عجز القوة البشرية عن وصف کماله تعالى بقوله: «بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ جِبْرِيلَ ومِيكَائِيلَ وجُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِینَ»: وينتج باستثناء نقيض تاليه(1)أي لكنه لا يمكنه وصف هؤلاء بالحقيقة؛ فلا يمكنك وصف تعالى؛ بیان الملازمة أن وصفه تعالى إذا كان ممكنًا لك؛ فوصف بعض آثاره أسهل عليك، وأما بطلان التالي فلان حقيقة سائر الملائكة المقربين غير معلومة لأحد من البشر ومن عجز عن وصف بعض آثاره فهو عن وصفه أعجز «فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ»: مقار الطهارة عن الهيئات البدنية والتعقلات الخيالية عن شوائب النفس الأمارة بالسوء «مُرْجَحِنِّینَ»: الأرتحان: الميل واستعير هنا لخضوعهم تحت سلطان هيبته، وعظمته «مُتَوَلِّهَةً »: متحیرة «عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِینَ»: ثم نبه على ما يُدْرَكُ من جهته الوصف فقال:

«وإنما يدرك بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَة والأَدَوَاتِ»: وفي بعض النسخ الهيئات وهو أظهر أي التي تحيرت بها ويحيط به الأفهام من جهتها «ومَنْ يَنْقَضِيِ إِذَا بَلَغَ أَمَدَ

حَدِّهِ بِالْفَناء»: أي ومن يلحقها الفناء ينقضي إذا بلغ أمد حده ويقف الأفهام على ذلك الحد، ويحلله إلى إجزائه فيطلع على كنهه منها؛ ثم عقب ذلك التنزيه

بتوحيده ونفي الكثرة عنه فقال «فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ»: هو أما محسوس فأضاء بأنوار الكواكب أو معقول وهو ظلام الجهل فأضاءه بأنوار العلم والشرائع.

ص: 120


1- نقيض تاليه: من الملازمات العقلية التي تعالج القضايا العامة، ومنها إذا ثبت اللازم ثبت الملزوم، والمعنى فمن لا يستطيع أن يصف المخلوق فكيف له أن يصف الخالق، وإذا كان العجز ثابت في أول الوصف فكذلك العجز في تاليه

«وأَظْلَمَ بِظُلْمَتِه كُلَّ نُورٍ»: إذ جميع الأنوار المحسوسة أو المعقولة لغيره مثلًا سنه مضمحلة في نور علمه وظلام بالنسبة إلى ضياء برهانه في جميع مخلوقاته الكاشفة عن وجوده؛ ثم شرع في الموعظة فبدأ بالوصية بتقوى باعتبار أمرين هما سبب البقاء في الحيوة الدنيا وهما الملبوس والمطعوم بقوله:

«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ»: اللباس والزينة «وأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ»: أيحتمل أن يريد بها سائر أسباب البقاء وهي تذكر أنه لا سبيل إلى البقاء ودفع الموت تخويفًا به واحتج عليه بقياس استثنائي هو قوله: «فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا يَجِدُ إِلَی الْبَقَاءِ سُلَّمًا أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عليهما السّلام» لكنه لم يجده أما الملازمة؛ فلأنه عليه السلام كان أقوى سلطان، وجد في العالم لاستيلاء حكمه على الجن، والأنس مع النبوة، وعظيم الزلفة عند الله؛ فكان أولى بدفعه لو كان يمكن دفعه واليه الإشارة بقوله: «الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ

الْجِنِّ والإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وعَظِيمِ الزُّلْفَةِ»: أي القرية والى بطلان التالي أشار بقوله: «فَلَمَّا اسْتَوْفَی طُعْمَتَهُ واسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ»: استعارهما لمراقي الأمراض وأسبابها التي هي تنال الموت ووجها، فلو وجد له مدفعا لدفعه عن نفسه لكنه لم يدفع.

«وأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً والْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ»: ثم شرع في التنبيه على الاعتبار بأحوال القرون السَّالِفَةِ واستفهم عن قرن تنبيهًا على فناهم استفهامًا على سبيل التقرير فقال: «وإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً»:

«أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ»: أولاد، لاود بن أدم بن سام بن نوح، وكان اليمن والحجاز، وغيرهما من الأقاليم؛ فمن أولادهم، عملاق وطسم، وحدس الملك، وكانوا يغروا الملك بعد عملاق بن لاود في طسم؛ فلما أملكهم عملاق معًا، وأكثر

ص: 121

العيب، والفساد في الأرض كان يطاء العروس ليلة هدائها إلى بعلها، وأن كانت بكر أقصمها قبل، وصولها إليه؛ ففعل ذلك بإمرة من خدلس؛ فغضب لها أخوها، وبايعه على قوم قتل عملاق بن طسم، وأهل بيته؛ فصنع أخوها طعامًا ودخل عملاق الملك إليه؛ ثم وثب به، وبطسم، وأهل بيته؛ فأتي على رؤسائهم ونجا منهم رماح من قصار إلى أحدى جيثان بن تبع الحميري ملك اليمن فاستغاث به، واستنجده على جديس، وإلى ذو جيسان؛ في حمير بلاد جو، وهي قصبة اليمامة واستأصل حدسًاً وأخرب اليمامة؛ فلم يبق لحدس باقية ولا لطسم إلا اليسير منهم ثم ملك بعد طسم وحدس دثانین اهثم بن لود بن آدم بولده، وأهله فنزل بأرض دثار وهي المعروفة الآن برمل علاج؛ فبغوا في الأرض حيناً حتى؛ أفناهم الله؛ ثم ملك بعد دثار عبد ضخم بن أسف بن لاود فنزلوا بالطائف حنينًا ثم نادوا:

«أين الفراعنة وأبناء الفراعنة»: ثم ملوك مصر؛ فمنهم الوليد بن الريان فرعون يوسف؛ ومنهم الوليد بن مصعب فرعون موسى، ومنهم فرعون الأعرج الذي غزی بني اسرائيل، واخرب بیت المقدس.

«أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ»: قيل أنهم أصحاب النبي شعيب عليه السلام وكانوا عبدة أصحاب وهم مواشي، وآثار يستقون منها، والرس مسيرهم عظيم جدًا انخسفت بهم وهم حولها، وقیل الرس قرية باليمامة كان مسكنها، وقيل قوم من بقايا ثمود؛ فبغوا فأهلكوا وقيل الرس أصحاب الأخدود، والرس هو الأخدود، وقيل الرس نهر في إقليم الباب، والأبواب مبداه من مدينة، وينتهي الى نهر الكسر؛ فيختلط به حتى يصب في بحر الخزر، وكان هناك ملوك ألو بس وقوة وقد اشار إليه بقوله: «الذين قتلوا النَّبِيِّنَ وأَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ»: فأهلكهم الله ببغيهم «أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وهَزَمُوا بِالأُلُوفِ

ص: 122

وعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وبينوا الْمَدَاينَ»: تعميم بعد تخصيص منها؛ «وضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وأَلْصَقَ الأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ».

منها: «قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا»:

أي حينها لم يفعل ولم يقل شيئًا إلا إذا دعي اليه داعي الحكمة والاشارة إلى العارف مطلقًا وقال بعض الامامية الاشارة الى الامام المنتظر، وليس بواضح من هذا الكلام، ولفظ الجنة مستعار في الاستعداد للحكمة بالزهد والعبادة الحقيقية المواظبة على ما والله ووجه الاستعارة أن بذلك الاستعداد يأمن أصابه سهام

الهوى ثوران دواعي الشهوات القائدة إلى النار كما يأمن لابس الجُنةِ من أذى الضرر والجرح.

«وأَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الإِقْبَالِ عَلَيْهَا والْمَعْرِفَةِ بِهَا»: أي بقدرها «والتَّفَرُّغِ لَهَا»: من العلاق الدنيوية بالزهد من جملة الاستعداد لها أيضاً.

«فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا وحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا»: استعار لها الضالة لمكان إسناده لها وطلبه كما يطلبه الضالة من الإبل وإليه الإشارة بقوله: «الحكمة ضالة المؤمن»(1)«هو»: أي الابس للحكمة.

«مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الإِسْلَامُ»: أشارة إلى إخفائه نفسه، وإثارة العزلة عند اختفاء الإسلام وضعفه، وظهور البدع المنكرات كما أشار إليه سيد المرسلين

صلى الله عليه [وآله] «الإسلام بدأ غريبًا وسيعود كما بدأ»(2)«وضَرَبَ بِعَسِيبِ

ص: 123


1- يُنظر: قصار الحكم والمواعظ: للواسطي: رقم: 80
2- المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي: ص 299؛ النوادر لفضل الله الراوندي: ص 102؛ الغيبة للقاضي النعمان المغربي: ج 3 ص 371، الغيبة للنعماني: ص 29

ذَنَبِه»: طرقه «وأَلْصَقَ الأَرْضَ بِجِرَانِه بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِه»: على خلقه إذ العلماء العارفون حجج الله في الأرض على عباده خليفة من خلائف أنبيائه لقوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «العلماء ورثة الأنبياء»(1)وجه استعارة العسب والذنب والحران ملاحظة: تشبه بالبعیر التارك ويكنى بذلك عن ضعفه وقلة نفعه حال بروكه ثم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ وأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الأَوْصِيَاءُ إِلَی مَنْ بَعْدَهُمْ وأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا

وحَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ»: وجه الاستعارتين ظاهر مما سبق: «فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا»: فلم يجتمعوا تذكیر لهم بموعظته لهم، وتنبيه بأن ما كلف به في حقهم ما كلفت به الأنبياء مع أممهم والأوصياء إلى من بعدهم ومعاينة لهم وتوبيخ لهم على عدم

استقامتهم واجتماعهم على أوامره مع تأديبه لهم بالضرب والتحذير بالزواجر «للهِ أَنْتُمْ أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَامًا غَیْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ ويُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ»: استفهام لهم عن توقفهم إمامًا هاديًا مرشدًا غیره استفهامًا على سبيل الإنكار وأكَّده بقوله: «أَلَا إِنَّه قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلًا»: الخیر وصلاح أهلها.

«وأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً»: من الشرور الَّتي أدبرت بمقدم الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم وظهور الإسلام.

«وأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ الله الأَخْيَارُ»: المتوقّع منهم كمثله عليه في الهداية لسبيل

الله، وإزماعهم للترحال كناية عن اقتضاء الزمان لفنائهم من الدنيا والرحيل عنها؛ «وبَاعُوا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى بِكَثِیرٍ مِنَ الآخِرَةِ لَا يَفْنَى»: استعار البيع

ص: 124


1- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 1 ص 376؛ إحياء علوم الدين للغزالي ج 6 ص 61؛ عوالي اللئالي: لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 281؛ شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 7 ص 297

لتعويضهم بالقليل الفاني الكثير الباقي، ثمّ أخذ في التذكير بنفي ضرر الموت وعدم الحياة عن إخوانه من الصحابة المقتولين بصفّين، وزهّد في تلك الحياة بكونها محلّ تجرّع الغصص وشرب الكدر الآلام والأعراض ومشاهدات المنكرات فقال: «مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ وهُمْ بِصِفِّینَ أَلَّا يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً

يُسِيغُونَ الْغُصَصَ ويَشْرَبُونَ الرَّنْقَ»: أي الكدر، ولمّا زهّد في تلك الحياة نبّه على مالهم في عدمها من الفائدة فقال: «قَدْ والله لَقُوا الله فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ وأَحَلَّهُمْ دَارَ الأَمْنِ» أي الجنّة «بَعْدَ خَوْفِهِمْ»: من هول أهل الضلال ثمّ أخذ في الاستفهام عن طريق الحقّ ومن مضى عليه مستصحبًا له استفهاما عى سبيل التوجّع لفقدهم

والتوحّش لفراقهم فقال: «أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ ومَضَوْا عَلَى الْحَقِّ»: عن أعيان أدبارهم قائلاً: «أَيْنَ عَمَّارٌ»: وفضله في الصحابة مشهور وأبوه عربيّ قحطانيّ وأُمّه لأبي حذيفة بن المغيرة المخزوميّ ولدت عمّارا فأعتقه أبو حذيفة فمن هنا كان عمّار مولى لبنی مخزوم، وأسلم هو وأُمّه سميّة فعذّبهما بنو مخزوم في الله فأعطاهم عمّار ما بلسانه مع اطمئنان قلبه بالإيمان فنزلت «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»(1)وهاجر إلى أرض الحبشة، وصلىَّ القبلتين، وهو من المهاجرين الأوّلين، وشهد بدرًا والمشاهد كلَّها، وأُبلى بلاء حسنا، ثمّ شهد اليمامة فأُبلى فيها أيضاً ويومئذ قطعت أُذنه.

وعن ابن عبّاس في قوله تعالى «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»(2)وقال هو عمّار بن یاسر.

وعن النبي صلَّى الله عليه وسلم: «عمّار جلدة ما بين عيني تقتله الفية الباغية

ص: 125


1- سورة النساء: الآية 106
2- سورة الأنعام: الآية 122

لا أنالها الله شفاعتي»(1)، وعنه صلىَّ الله عليه وآله وسلم «من أبغض عمّاراً أبغضه الله»(2).

«وأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ»: بتشديد الباء وسكونها فهو من الأنصار كنية أبو الهيثم. واسمه مالك بن مالك، وقيل: بل اسم أبيه عمرو بن الحارث وهو التيّهان، كان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً، والمشهور أنّه شهد صفّين معه عليّ عليه السّلام وقيل بها، وقيل توفّي في زمن الرسول صلَّى الله عليه وسلم.

«وأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ»: كنية أبو عماره واسمه خزيمة بن ثابت الفاكهة بن ثعلب الخطمي الأنصاري من الأوس، جعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم شهادته کشهادة رجلين لقصّة مشهورة، وشهد بدرًا وما بعدها من المشاهد، وكانت راية بنی خطمة من الأوس يوم الفتح بيده، وشهده صفّين معه عليه السّلام فلمّا قتل عمّار قاتل هو حتّى قتل.

«وأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ وأُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَی الْفَجَرَةِ»: أي الذين قتلوا بصفّين معه من الصحابة كابن بديل وهاشم بن عتبة ونحوهما، وتعاقدهم على المنيّة اتفاقهم على المقاتلة إلى أن يقتلوا والفجرة الَّذين حملت رؤوسهم إليهم من الشام.

قَالَ: «ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِه عَلَى لِحْيَتِه الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ فَأَطَالَ الْبُكَاءَ»: مستكنًا متوجفًا على فقيدهم ثم قال: أَوِّه: مکسورة الهاء ساكنة الواو كلمة توجع.

ص: 126


1- المسترشد لمحمد بن جریر الطبري الشيعي: ص 157؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس النباطي: ص 83؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 113
2- صحيح ابن حبان: لابن حبان: ج 15 ص 556، الشافي للشريف المرتضى: ج 4 ص 293

«أُهٍ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوه»: أي يفهموا مقاصده ومعاينه: «وتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ »: فهموا ما لأجله العبادات «فَأَقَامُوه»: واظبوا عليه نظرًا إلى

أسرارها.

«أَحْيَوُا السُّنَّةَ»: النبويّة «وأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ»: خالفوا لها «دُعُوا لِلْجِهَادِ»: إليه لأقامه الدين «فَأَجَابُوا ووَثِقُوا بِالْقَائِدِ»: يعنى نفسه عليه السلام في سبيل الله «فَاتَّبَعُوه ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِه الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ الله أَلَا وإِنِّي مُعَسْكِرٌ»: جامع لكم

«فِي يَومِي هَذَا فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَی الله»: الخروج إلى الجهاد الَّذي هو سبيله الموصلة

إليه وإلى ثوابه «فَلْيَخْرُجْ»: قَالَ نَوْفٌ «وعَقَدَ لِلْحُسَیْنِ عليه السلام فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، ولِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَه الله»: الخزرجي «فِي عَشَرَةِ آلَافٍ»: هو صحابي كنيته أبو عبد الملك روى عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أحاديث أبوه سعد من رؤساء بالخزرج وهو سعد بن عبادة الَّذي جادلت قومه إقامته خليفة بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وكان قيس هذا من كبار شيعة عليّ ومحبّيه، وشهد معه حروبه كلَّها، وكان مع الحسن أبنه ونقم عليه صلحه لمعاوية.

«ولأَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ»: هو خالد بن سعد بن کعب الخزرجي من بني النجّار شهد العقبة وبدرًا وساير المشاهد، وعليه نزل رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلم لمّا خرج عن بني عمرو بن عوف حين قدم المدينة مهاجرًا فلم يزل رسول الله عنده حتّی بنی مسجده ومساكنه ثمّ انتقل إليها، وشهد معه عليه السلام عليّ مشاهده كلَّها الجمل وصفّين، وكان على مقدّمته يوم النهروان.

«ولِغَيْرِهِمْ عَلَى أَعْدَادٍ أُخَرَ وهُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إِلَی صِفِّینَ فَمَا دَارَتِ الْجُمُعَةُ حَتَّى ضَرَبَه الْمَلْعُونُ ابْنُ مُلْجَمٍ لَعَنَه الله فَتَرَاجَعَتِ الْعَسَاكِرُ فَكُنَّا كَأَغْنَامٍ فَقَدَتْ رَاعِيهَا تَخْتَطِفُهَا الذِّئَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ» في هذا التشبيه نكات يظهر بالتأمل وبالله التوفيق.

ص: 127

ومن خطبة له عليه السلام:

«الْحَمْدُ للهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَیْرِ رُؤْيَةٍ»: نقل باب آثاره عند العقول المعرفة المتنزهة عن ادراك البصر المختص بالأجسام ولواحقها.

«والخالق مِنْ غَیْرِ مَنْصَبَةٍ»: تعب اذ هو مستلزم للآلات المستلزمة للجسمية التي من شأنها الضعف والنهلة في القوة، ثم بنه على استناد الخلق والنعم المضافة الى قدرته لتعسر السابقون لسنتهم إليه وباعتبار استعباده الأرباب على کمال غيره المطلق الواجبي المطلق المستلزم لخضوع کل موجود في حد الإمكان فالحاجة إليه وبشهادته للعظماء على كمال عظمته وجود الواجبي المطلق المستلزم لفقر كل إليه ويعيدهم له.

وقال: «خَلَقَ الْخَلَقَ بِقُدْرَتِهِ، واسْتَعْبَدَ الأَرْبَابَ بِعِزَّهِ، وسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ»: ثم تنبه أسكانهم الدنيا وبعثه رسله إلى الْجِنِّ والإِنْسِ رُسُلَهُ منهم فقال: «وهُوَ «الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَه وبَعَثَ إِلَی الْجِنِّ والِإنْسِ رُسُلَه: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ»(1)» على کمال لطفه بخلقه وحكمته في إيجادهم في الدنيا وأشار إلى غاية ذلك بقوله: «لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا»: ما يغطَّی کحجب الدنيا عن أعين بصائرهم من أحوال الآخرة الَّتي خلقوا لأجلها.

«ولِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا»: ضر الدنيا وعواقبها.

«ولِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا»: تشبيها كما في القران الكريم «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

ص: 128


1- سورة الأنعام: الآية 30

كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ»(1)وامثالها. «ولِيُبَصُرِّوهُمْ عُيُوبَهَا ولِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبرَ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا»: جمع مصحة وهي الصحّة.

«وأَسْقَامِهَا وحَلَالِهَا وحَرَامِهَا»: وعطف على تصرّف، ويحتمل أن يكون عطفًا على أسقامها باعتبار أنّ الحلال والحرام من تصاريف الدنيا، وبيانه أنّ كثيرًا من المحرّمات التي كانت حلالًا من نبيّ قبله، وبالعكس وذلك تابع لمصالح الخلق بمقتضى تصاريف أوقاتهم وأحوالهم الَّتي هي تصاريف الدنيا. «ومَا أَعَدَّ سبحانه».

«لِلْمُطِيعِینَ»: إمّا عطف على معتبر أو على «عيونها»: أي ويبصرونهم ما أعدّ الله سبحانه.

«للْمُطِيعِینَ مِنْهُمْ والْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ ونَارٍ وكَرَامَةٍ وهَوَانٍ أَحْمَدُه إِلَی نَفْسِه كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَی خَلْقِه»: أي أحمده حمدًا يكون في الكيفيّة والكميّة على الوجه الَّذي طلبا الحمد لنفسه من خلقه، «جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً»: أي مقدارا من الكيفيّة والكميّة ينتهي إليه وحدّاً يقف عنده، قال عز من قائل «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا»(2)«ولكلّ قدر أجلا»: أي ولكلّ مقدار وقت یکون، انقضاؤه فيه وفناؤه.

«ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً»: أراد بالكتاب العلم الإلهي المعبّر عنه بالكتاب المبين واللوح المحفوظ المحيط بكلّ شيء وفيه رقم كلّ شيء.

منها في ذكر القران «فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِر»:

من باب إطلاق اسم المسبب على السبب أذ الآمر والناهي هو الله تعالى «وصَامِتٌ نَاطِقٌ»: أطلاقه علیه مجازًا إذ النطق هو المتكلم تعالى من باب إطلاق

ص: 129


1- سورة يونس: الآية 26
2- سورة الطلاق: الآية 3

اسم المتَعلق على المتعلق. «حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ»: لاشتماله على وعدهم ووعيدهم وبيان غاية وجودهم والمطلق منهم والاعتذار اليهم «إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(1)ولأنه خاصة ما بعث به الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم وقد بعث رسله مبشرين، ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأنه أقوى المعجزة التي احتج بها الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم على الله الخلق في صدقه.

«وأَخَذَ عَلَيْهِم مِيثَاقَهُ»: الضمير للكتاب وذلك من مطالب الله الحقه وهو ما أشار إليه القرآن الكريم «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(2)الآية والتقدير أخذ عليهم الميثاق بما فيه.

«وارتهن عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ»: أي جعل أنفسهم رهنًا على العمل بما فيه والوفاء به فمن نكث فإنما ینکث على نفسه ومن أوفي بما عاهد عليه الله فسويته أجرًا عظيماً.

«وأَتَمَّ به نُورَهُ»: أي نور نبوته هدایته للخلق والنور المتمم هو نور النبوة المنشاء إليه بقوله تعالى «وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(3)وإطفاؤه بما كانوا يقولونه من کونه صلى الله عليه [وآله] وسلم معلمًا مجنونًا وساحرًا كذابًا وكونه أساطير الأولين اكتتبها.

ص: 130


1- سورة الأعراف: الآية 172
2- سورة الأعراف: الآية 172
3- سورة التوبة: الآية 33

«وأكرم به نبيه وقَبَضَ نَبِيَّهُ»: صلّى الله عليه وآله وسلّم «وقَدْ فَرَغَ إِلَی الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الهدى»: كقوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1)الآية وأحكام الْهُدَى بیان طرقه وكيفية سلوكهما وتنبيهًا في قلوب المؤمنين ثم أمر بتعظيم الله تعالى قائلاً: «فَعَظِّمُوا مِنْه سُبْحَانَه مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِه»: يقال عظمت من فلان كما يقال عظمته وما هنا مصدريته أي عظموه كتعظيمه لنفسه واطلبوا المناسبة في تعظيمكم له كتعظيمه ثم أشار إلى وجه وجوب تعظيمها له فقال: «لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ دِينِه»: بل كشفه لكم وتنبيه بأجمعه بقدر الإمكان.

«ولَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا رَضِيَه أَوْ كَرِهَه إِلَّا وجَعَلَ لَه عَلَمًا بَادِياً»: أي دليلًا ظاهراً: «وآيَةً مُحْكَمَةً»: لا يحتمل ألا وجهًا واحداً.

«أتَزْجُرُ عَنْه أَوْ تَدْعُو إِلَيْه فَرِضَاه فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وسَخَطُه فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ»: أشاره إلى أن المرضى له ممن الأحكام أو مسخوطًا واحد في جميع الأوقات لا يتغیر ولا ينقص وفيه إيماء إلى أن رفع شيء من الأحكام السابقة بالقياس والرأي لا يجوز كما سبق بيان مذهبه الحق عليه السلام في ذلك.

«واعْلَمُوا أَنَّه لَنْ يَرْضَی عَنْكُمْ بِشَيْءٍ سَخِطَه عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ولَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْءٍ رَضِيَه مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»: فليس لكم أن تحلوه وتحرموه باجتهاد ويحتمل أن يزيد بقوله فرضاه فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وسَخَطُهُ فِمَا بَقِيَ وَاحِدٌ أي فيما بقي من الأحكام الجزيئة التي لم يدل النص عليها المطابقة بل يحتاج إلى اجتهاد في إلحاقها بالنصوص وأدرجها تحتها، ومعنى وحده رضاه، وسخطه فيها أن الحكم

ص: 131


1- سورة المائدة: الآية 3

المطلوب أو المكروه فيها واحد لا يجوز الاختلاف فيه حتى يحكم أحد المجتهدين في الشيء الواحد بالحل والآخر فيه بالحرمة ويختلف الفتاوی بل الحكم في تلك القضية أما مسخوط أو مرضي ويكون ذلك نهيًا منه عليه السلام عن الاختلاف في الفتیا کما علمت ذمه لذلك فيما سبق من الفصول ویکون قوله: واعملوا إلى قبلكم في معنى النهي عن دفع الأحكام الشرعية بالاجتهاد والقياس کما قررناه وقيل معناه النهي عن الاختلاف في الفساد أيضًا أي لَنْ يَرْضَی عَنْكُمْ بشيء

سَخِطَهُ فيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كما أشار إليه تعالى بقوله «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»(1)وكذلك لن يسخط علیکم بالأجماع والاتفاق المرضي ممن كان قَبْلَكُمْ وقيل بل المراد أنه لن يرضى عنكم بشيء سخطه ممن كان قبلكم من الاعتقادات في المسائل الإلهية ولن يسخط علیکم بشيء رضيه ممن كان قبلكم من الاعتقادات الحقة ويكون ذلك مختصًا بالأصول دون الفروع.

«وإِنَّمَا تَسِیرُونَ فِي أَثَرٍ بَیِّنٍ ويَتكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ»: أشارة إلى أن الأدلة لكم واضحة قد يزاولها الأولون قبلكم فانهم يتكلمون بها

ويسردونها ورجع القول المردد منه.

«قَدْ كَفَاكُمْ مَئُونَةَ دُنْيَاكُمْ»: كقوله تعالى «وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ»(2)وتلك أما بخلقها وإيجادها وإما برزقة لكل ما كتب في اللوح المحفوظ.

«وحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ»: هو تكرارًا وأمر به، نقل عن الحسن البصري أنه قال أن الله تعالى كفانا مؤنه دیننا وحثنا على القيام بوظائف دنيانا هو إشارة إلى شدة

ص: 132


1- سورة الأنعام: الآية 159
2- سورة إبراهيم: الآية 34

التحفظ في الدين والاقتراض عليه.

«وافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ»: لما كان لكل من الجوارح عبادة كانت العبادة المفروضة باعتبار اللسان الذكر وقد علمت أنه باب عظيم من أبواب السلوك إلى

الله بل هو روح العبادات كلها أذ كل عبادة لم تقع بالذكر فهي خداج(1).

«وأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى وجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ»: لفظ الحاجة مستعارًا اذ تنزه قدسه تعالى ووجه مشابهة المحتاج هو الحب واللطف المتكرر منه حتى كأنه محتاج إلى عبادة العباد وتقواهم ولما استلزمت التقوى الحقيقية الوصول إلى الله لأجرم کانت منتهی رضاه من خلقه ثم أمرهم بها بعد التنبيه عليها منبهًا على الوجوه التي لأجلها تحصل تقوى الله وخشيته فقال: «فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ»: أي بحيث يعلم ما لا تعلمون ولفظ العين مجاز في العلم إطلاقًا لأسم السبب على المسبب لاستلزامها إياه.

«ونَوَاصِيكُمْ بِيَدِه»: أي في قدرته وإنما خصها أشارة إلى أن أعظم أنسان وأشرف ما فيه مملوك واليد مجاز في القدرة أطلاقًا لأسم السبب القابلي على المسبب.

«وتقلبكم فِي قَبْضَتِهِ»: أي تصرفكم في حركاتكم وسكناتكم بحسب تصريف قدرته وحكمته لأخرج عنه في شيء.

«إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَه وإِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ»: كمال قال «يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ»(2)«وقَدْ وَكَّلَ بِذَلِكَ»: للكتب «حَفَظَةً كِرَامًا لاَ يُسْقِطُونَ حَقًّا ولاَ يُثْبِتُونَ

ص: 133


1- الخداج: أخدج فلان أمره إذا لم يحكمه، قال الأصمعيّ: الخداج النقصان، وأصل ذلك من خداج الناقة إذا ولدت ولدًا ناقص الخلق أو لغير تمام (لسان العرب: 2 / 248)
2- سورة النحل: الآية 19

بَاطِلًا» وقد سبقت الإشارة إلى الكتب غیر مرة ثم أكد القول بالتقوى بقوله: «واعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنَ الْفِتَنِ ونُورًا مِنَ الظُّلَمِ ظلم»: الجاهل بأنوار العلوم الخالصة عن الاستعداد بالتقوى. «ويُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ»: لقوله

تعالى وهم فيما اشتهت انفسهم خالدون «ويُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ»: هو المنزل المبارك المأمور بطلبه في قوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ»(1)«فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ»: كناية عن الجنة ونسبها إلى نفسه تعظيماً لها وترغيبًا فيها وظاهر حسن تلك النسبة فأن الجنة المحسوسة أشرف دار وبيت لأشرف المخلوقات وأما المعقولة فهي يعود إلى درجات الوصول والاستغراق في المعارف الإلهية التي بها السعادة والبهجة واللذة التامة وهي جامع الاعتبار العقلي منازلًا يشاء الله وخاصته ومقامات ملائكته ورسله وفي المعارف أن الملك العظيم إذ صرف عنايته إلى نبأ دار يسكنها هو وخاصته أن يقول أنها يخص الملك وأنه بناها لنفسه.

«ظِلُّهَا عَرْشُه»: ظاهر الكلام تدل على أنها في السموات وأن العرش عليها وفي هذه الكلمة لطيفة وذلك أنك قد علمت أن العرش يطلق ويراد به الفلك التاسع ويطلق ويراد به العقل الأول باعتبار إحاطته بجميع الموجودات باعتبار حمله لمعرفة صانعه الأول جلت عظمته ويطلق ويراد به سلطانه وعظمته واستعار الظل للعرش بالمعنى الأول باعتبار حركة الفلك من الأسباب المعدة لوصول النفوس البشرية والفلكيةِ لكمالها بالمعارف الإلهية التي بها الراحة الكبرى من حرارة نار الجهل ولهبها كما أن بالظل الراحة من حرارة الشمس وبالمعنى الثاني أيضًا هو أن المعارف الإلهية المفاضة على أسرار المستعدين من قبل ذلك الملك المقدس فیکون

ص: 134


1- سورة المؤمنون: الآية 29

بها راحة الکبری کما یكون بالظل أيضًا وبالمعنى الثالث أن سلطانه تعالى وعلوه هو المستولي على كل سلطان والعالي عليه العلو المطلق أذ هو مبتدأ راحة النفوس بجميع کمالاتها الفعلية فهو ظلها الذي يلجأ وإطلاق لفظ الظل على النعمة والسلطان في العرف ظاهر يقال أنا في ظل فلان الملك وعدله إذا كان في نعمة منه وعنايته.

«ونُورُهَا بَْجَتُه »: فبهجته تعالى تعود إلى بهائه وجماله المرق في أقطار العالمن

عى أسرار النفوس وظاهر كونه نور الجنة التي يعتبر فيها أبصار البصائر ويستغرق

الابتهاج به الملائكة المقربون.

«وزُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ ورُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ»: فيه لطفة وذلك أنه لما كانت النفوس البشرية متحدة كانت متقاربة المنازل في الكمال فيكون لها ذلك فعبر عن الرسل بالرفقاء في الجنة لسكانها ولما خالفت أنواع الملائكة السماوية والمجردتين علائق الأجسام وتفاوت في الكمالات، لا جرم خصص الملائكة بكونهم زوارها أي زوار ساكنيها إذ كان الرفيق الصق وأقرب من الناس وعبر بتلك الزيارة عن حضور الملاء الأعلى عند النفوس الكاملة حين انقطاعها عن العلائق والتفاتها غبياً، ولما كان الحضور غیر دائم بل بحسب، فلباب النفوس أشبه الزيادة واستعير له لفضها وإنما كان الملك هو الزائر دون النفس لا صورته ومثاله هو الواصل إلى النفس عند استعدادهما لتصوره من فيض واهب الصور ثم عاد إلى التذكير بأمر المعاد فقال:

«فَبَادِرُوا الْمَعَادَ وسَابِقُوا الآجَالَ»: أراد بالمبادرة والمسابقة المعالجة إلى ما يصلحه ويخلص من أهواله من سائر القرابات إلى الله.

«فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ»: يرع «أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الأَمَلُ»: أمل الدنيا والبقاء فيها

ص: 135

فلأجل ذلك الانقطاع وقرنه يجب أن يلتفت إلى صلاح المعاد.

«ويَرْهَقَهُمُ الأَجَلُ»: أي يلحقهم ولأجل ذلك اللحوق يجب أن يسارع إلى العمل لما يتبقى، «ويُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ»: بإدراك الأجل فيجب مبادرتها.

«فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْه الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»: أي أصبحتم في حال الحياة والصحة والأمن وسائر الأسباب التي كان يتمنى من كان قبلكم الرجعة إليها ويمكنكم معها العمل.

«وأَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ ليْسَتْ بِدَارِكُمْ وقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالِارْتِحَالِ وأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ»: الواو للحال واستعار لهم وصف بنو السبيل لكونهم في هذا الدار العرض بقصد بهم والعناية الإلهية غايه أخرى وتحتهم الشريعة على الرحيل منها فهم فيها كالمسافرين وأبواب مدينتهم جنود الله واقرب الأبواب إلى الدنيا الأرحام التي منها يخرجون إليها وأبواب الخروج منها هي الموت ولفظ البنو مستعار مشهور يقرب من الحقيقة فظاهر أذن دار لا يبقى الإنسان فيها بل يكون الإنسان من طريق أخرى ليست بدار للسالك إلى تلك الدار ونبه على إيذانهم فيها الرحيل منها وتنفيرًا على الركون إليها واتخاذها وطنًا وعلى أمر من أمرهم فيها تنبيهًا على أن هناك غاية لها يجب أن يستعد للسلوك إليها ولفظ الزاد مستعار تقوى الله وطاعته التي هي دار النفوس إلى حضرة رب العالمين.

«واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرًا عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ»: تذكیر لهم بالوعيد على المعاصي وأمر لهم برحمة نفوسهم وذلك بالأعمال الصالحة

وأتباع أوامر الله، «فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه والْعَثْرَةِ تُدْمِيه والرَّمْضَاءِ»: الرملة الحارة «تُحْرِقُه فَكَيْفَ إِذَا كَانَ

ص: 136

بَیْنَ طَابَقَیْنِ مِنْ نَارٍ»: الطابق الآجر الكبیر فارسي معرب «ضَجِيعَ حَجَرٍ وقَرِينَ شَيْطَانٍ»: في قوة احتجاج على وجوب تلك الرحمة وتلخيصه أنكم جربتم أنفسكم في هذه الأمور الحقيرة فجزعتم وكل من جزع في أمثال هذه فبالأولى أن تجزع من کونه بين طابقين من نار كذلك وقد علمت أن للنار سبع طبقات وهي دركات بها وضجيج حجر من قوله تعالى «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»(1)وقرين شيطان من قوله تعالى «فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ٭ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ»(2)وهم الشياطين وقوله «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ»(3)«أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً»: خازن نار جهنم «إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا لِغَضَبِه وإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَیْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعًا مِنْ زَجْرَتِه»: هذه من صفاة النار المحسوسة ذكرها للتخويف والتحذير «أَيُّهَا الْيَفَنُ»: الشيخ «الْكَبِیرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَه الْقَتِیرُ»: خالطه الشيب «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ»: التصقت «أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الأَعْنَاقِ ونَشِبَتِ الْجَوَامِعُ»: أي علقت الأغلال والجامعة الغل لأنها تجمع الیدین إلى العنق.

«حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ»: خاطب الشيخ الكبير لأنه أولى بالإقلاع عن المعصية لقربه من الآخرة وسؤاله عن حال سؤال تفريع وتوبيخ للمعصية وأطواق النار المحسوسة ظاهر وأطواقها المعقولة تمكن الهيئات البدنية من أعناق النفوس وأغلالها من سواعدها ثم أخذ في التحذير من الله لغاية العمل بما يرضيه حال الصِّحَّةِ والْفُسْحَةِ قَبْلَ دخول ضديهما فقال:

ص: 137


1- سورة البقرة: الآية 24
2- سورة الشعراء: الآية 94 - 95
3- سورة الزخرف: الآية 36

«فَالله الله مَعْشَرَ الْعِبَادِ وأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ وفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا»: أي من قبل أن تقدروا على تخليص رقابكم وكان من أفاعيل الجاهلية أن الراهن إذا لم يرد ما عليه في الوقت الموقت ملك المرتهن الرهن يقال علق الرهن أذا بقي في يد المرتهن لا يقدر على تخليصه.

«أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ»: كناية عن قطع الليل بالعبادة كقوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا»(1)وإنما خص الليل لأنه مظنة الخلوة لله والفراغ من الناس ولأن النهار محل عبادة أخرى كالجهاد وغيره. «وأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ»: أي أجعلوها ضامرة بطول الصيام.

«واسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ»: كناية عن القيام في الصلاة «وأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ»: في الصدقات والزكوات «وخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ»: أذ سوها بالقيام والصيام ولا شك أن الأخذ من الجسد بهذه العبادات جود على النفس بملكات الخير والقرب من الله ولذلك قال: «فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، ولَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا: في ذكر أن أتعاب الجسد جود على النفس ترغيب فيه ثم أستشهد بالآيتين على وعد الله قال: فَقَدْ قَالَ الله سُبْحَانَه «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(2)وقَالَ تَعَالَی «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ»(3)وجه استعارة لفظ القرض كثرة الأوامر الإلهية الطالبة للصدقات فأشبهت طلب المحتاج المستقرض وقائد هذه الاستشهاد مع قوله: «فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ»:

ص: 138


1- سورة الإنسان: الآية 26
2- سورة محمد: الآية 7
3- سورة الحديد: الآية 11

أي لم يطلب نصرتکم من ذله «ولَمْ يَسْتَقْرِظْكُمْ مِنْ قُلٍّ»: قلة المال «اسْتَنْصَرَكُمْ ولَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ واسْتَقْرَظَكُمْ ولَهُ خَزَائنُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسن عملاً»: أعلامهم بأنّه

الغنّى المطلق عن عباده فيما طلبه منهم من بصیرة وقرض، وبيان عناية الإلهيّة منهم بذلك وهو الابتلاء، وقد علمت ابتاء الله تعالى لخلقه غر مرّة. «فَبَادِرُوا

بِأَعْمَالِكُم»: أن تبادروا بها.

«تَكُونُوا مَعَ جِیَرانِ الله فِي دَارِه»: قال جل وعلا «وَفُتِحَتْ لهم أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ»(1)«رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَه»: قال جل شأنه «أُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»(2)«وأَزَارَهُمْ مَلَائِكَتَه»: لقوله تعالى «وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(3)«وأَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً»: «لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ»(4)«وصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوبًا ونَصَبًا» «لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ «الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ»(5)«ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(6)اقتباس من الآية ووجه ظاهر.

ص: 139


1- سورة الزمر: الآية 73
2- سورة النساء: الآية 69
3- سورة الرعد الآية 22
4- سورة الأنبياء: الآية 2
5- سورة فاطر: الآية 35
6- سورة الحديد: الآية 21

«أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ «وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ»(1)عَلَى نَفْسِيِ وأَنْفُسِكُمْ وهُوَ «حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»(2)» هذه خاتمة الخطبة، وفيها الاستعانة بالله على النفوس الأمّارة بالسوء في قهرها وتطويعها للنفوس المطمئينّة فإنّه نعم المعين ونعم الوكيل.

ومن كلام له عليه السلام للبرج بن مسهر الطائي: كان شاعرًا مشهورًا من شعراء الخوارج.

وقد قال بحسب يسمعه لا حكم الا الله وكان من الخوارج «اسْكُتْ قَبَحَكَ اللهُ»: أبعدك عن الخیر «يَا أَثْرَمُ»: أي ساقط التنبيه ودعاه بما فيه أهانه له وانتفاضًا كما هو العادة في إهانة ذوى العاهات بذكر آفاتهم.

«فَوَالله لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيه ضَئِيلًا شَخْصُكَ»: صغيرًا حقيرًا في زمن العدل بين الجماعة وظهور الحق قبل زمان قوّة الإسلام وقبل ظهور الفتن وهو الباطل.

«خَفِيًّا صَوْتُكَ»: كناية عن عدم الالتفات إلى أقواله وحقارته.

«حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ»: وأستعار النعير لظهور الباطل ملاحظة لشبهه في قوّته بظهور الرجل الصائل النصائح بكلامه عن جرأته وشجاعته، وشبّه ظهوره بين الناس ارتفاع ذكره عند ظهور الباطل وقوّته بطعمه، قرن الماعز في السرعة بغتة: أي طلعت بلا شرف، ولا شجاعة، ولا قدم بل على غفلة كنبات قرن الماعز، ومن البلاغة تشبیه من يراد إهانته بالمهين الحقير، وتشبيه من يراد تعظيمه بالعظيم الخطير وبالله التوفيق.

ص: 140


1- سورة يوسف: الآية 18
2- سورة آل عمران: الآية 173

ومن خطبة له عليه السّلام:

روى أن صاحبًا لأمير المؤمنين عليه يقال له همام كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم فتثاقل عن جوابه؛ ثم قال عليه: یا همّام اتّق الله وأحسن «فإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ»(1)من هيهنا اختلف نسخ النهج فكثيرًا منها تكون هذه الخطبة فيها أول المجلد الثاني بعد الخطبة المسماة بالقاصعة ويكون عقيب كلامه للبرج بن مسهر الطائي ومن خطبته له عليه السلام الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد وكثير من النسخ تكون هذه الخطبة فيها متصلة بكلامه عليه السلام للبرح بن مسهر ويتأخر تلك الخطبة ويكون بعد قوله ومن كلام له عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ویتصل ذلك إلى تمام الخطبة المسماة بالقاصعة ثمّ يليه باب المختار من کلام أمير المؤمنين ورسائله، وعليه جماعة من الفضلاء ووافقتهم في هذا الترتيب لغلبة الظنّ باعتمادهم على النسخ الصحيحة. فأمّا همام هذا هو: همام بن شریح بن یزید بن مرّة بن عمرو بن جابر بن عوف الأصهب، وكان من شيعة عليه السّلام، وأوليائه ناسکًا عابداً، وتثاقله عليه السّلام عن جوابه لما رأى من استعداد نفسه لأثر الموعظة، وخوفه عليه أن يخرج به خوف الله إلى انزعاج نفسه وضعفها. وأمره بتقوى الله أي في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله واحسن أي أحسن إليها بترك تكليفها فوق طاقتها ولذلك قال عليه السلام حين ضعف همام أما والله لقد كنت أخافها عليه.

«فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِذلك الْقَوْلِ»: إلا بما سال «حَتَّى عَزَمَ عَلَيْه»: بذلك أي الح عليه في السؤال وأقسم إجابة قال: «فَحَمِدَ الله وأَثْنَى عَلَيْه وصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ وآله

ص: 141


1- سورة النحل: الآية 128

ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الله سُبْحَانَه وتَعَالَی خَلَقَ الْخَلْقَ حِینَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِنًا مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ»: وإنما قدمه لأنه لما كانت أوامره تعالى بأسرها أو أكثرها يعود إلى الأمر بتقواه وطاعته، وكان أشرف ما يتقرب إليه للبشر بالتقوى وهو في معرض صفة المتقين فربما خطر ببعض أوهام الجاهلين أن الله تعالى في تقواه وطاعته منفعة وله بمعصيته مضره فصدر الخطبة تنزيهه تعالى عن الانتفاع والتضرر وقدم برهان ذلك فقال: «لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»: ثم أكد کمال غناه وقرره بقوله: فقسم الله بينهم معايشهم ووضعهم من الدنيا مواضعهم لأنه إذا كان، وجوده هو مبدأ خلقهم وقسمة معايشهم، ووضعهم من الدنيا في مراتبهم ومنازلهم من غنی وفقیر وشريف ووضيع فهو الغني المطلق واليه الإشارة بقوله تعالى «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» (1)ثم أخذ في غرض الخطبة وهو وصف المتقين فوصفهم بالوصف المجمل فقال:

«فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا»: في الدنيا «هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ»: وهو فضيلة العدل المتعلَّقة باللسان، وحاصله أن لا يسكت عمّا ينبغي أن يقال فيكون مفرّطاً، ولا يقول ما ينبغي أن يسكت عنه فيكون مفرطًا بل يضع كلَّا من الكلام في موضعه اللايق به، وهو أخصّ من الصدق لجواز أن يصدق الإنسان فيما لا ينبغي من القول.

«ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ»: وهو فضيلة العدل في الملبوس، فلا يلبسون ما يلحقهم بأهل الخسة والدناءة مما يخرج به عن عرف الزاهدين فيها.

ص: 142


1- سورة الزخرف: الآية 32

«ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ»: والتواضع ملكة تحت العفّة تعود إلى العدل بین رذيلتي المهانة والكبر، ومشى التواضع مستلزم للسكون والوقار.

«غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ»: هو ثمرة العفة «ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ»: وهو فضيلة العدل في قوّة السمع، والعلوم النافعة ما هو

كمال القوّة النظريّة من العلم الإلهي وما يناسبه، وما هو كمال للقوّة العمليّة وهى الحكمة العمليّة.

«نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ»: أي لا يقنطون من بلاء نزل بها ولا ينظرون برجاء يصيبها بل مقامها في الحالين مقام الشكر. والَّذي صفة مصدر محذوف، والضمير العايد إليه محذوف أيضاً، والتقدير نزل كالنزول الَّذي نزلته في الرخاء، ويحتمل أن يكون المراد بالَّذي الَّذين محذف النون كما في قوله تعالى «كَالَّذِي خَاضُوا»(1)ويكون المقصود تشبيههم حال نزول أنفسهم منهم في البلاء بالَّذين نزلت أنفسهم منهم في الرخاء، والمعنى واحد.

«ولَوْ لَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ الله عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَیْنٍ شَوْقًا إِلَی الثَّوَابِ وخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ»: أراد غلبة الشوق إلى ثواب الله والخوف من عقابه على نفوسهم إلى غاية أنّ أرواحهم لا تستقرّ في أجسادهم من ذلك لولا الآجال الَّتي كتبت لهم، وهذا الشوق والخوف إذا بلغ إلى حدّ الملكة فإنّه يستلزم دوام الجدّ في العمل والإعراض عن الدنيا، ومبدأهما تصوّر عظمة الخالق، وبقدر ذلك يكون تصوّر عظمة وعده ووعیده، وبحسب قوّة ذلك التصوّر یکون قوّة الخوف والرجاء، وهما بابان عظيمان للجنّة.

ص: 143


1- سورة التوبة: الآية 69

«عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ»: وذلك بحسب الجواذب الإلهيّة إلى الاستغراق في معرفته ومحبّته، وبحسب تفاوت ذلك الاستغراق یکون تفاوت تصوّر العظمة، وبحسب تصوّر عظمته تعالى يكون تصوّرهم لأصغريّة ما دونه ونسبته إليه في أعين بصائرهم.

«فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ»: إشارة إلى أنّ العارف وإن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدته بعین بصيرته لأحوال الجنّة وسعادتها وأحوال النار وشقاوتها كالَّذين شاهدوا الجنّة بعین حسّهم وتنعّموا فيها، وكالَّذين شاهدوا النار وعذّبوا فيها، وهى مرتبة

عین اليقین، فحسب هذه المرتبة كانت شدّة شوقهم إلى الجنّة وشدّة خوفهم من

النار.

«قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ»: وذلك ثمرة خوف الغالب.

«وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ»: لأنّ مبدئها الشرور محبّة الدنيا وأباطيلها والمتقون بمعزل عن ذلك «وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ»: ومبدأ ذلك كثرة الصيام والسهر وجشوبة المطعم وخشونة الملبس وهجر الملاذّ الدنيويّة. «وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ»: لاقتصارِهم على القدر الضرورة في حوائج الدنيا من ملبس ومآكل ولا أخف من هذه الحاجة؛ «وأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ»: وملكة العفة فضيلة القوة الشهوية، وهي الوسط بین رذيلتي خمود الشهوة والفجور «صَبَرُوا أَيَّامًا قَصِیرَةً»: وهي مدة حياتهم على المكاره ثم تركوا الملاذ الدنيوية.

«أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً»: وإنّما ذكر قصر مدّة الصبر واستعقابه للراحة الطويلة ترغیبًا فيه، وتلك الراحة بالسعادة في الجنّة كما قال تعالى «وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا

ص: 144

جَنَّةً وَحَرِيرًا»(1)الآية.

«تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ»: استعار لأعمالهم الصالحة وامتثال أوامر الله، ووجه المشابهة كونهم متعوّضین بمتاع الدنيا وبحركاتهم في العبادة متاع الآخرة، ورشّح بلفظ الربح لأفضليّة متاع الآخرة وزيادته في النفاسة على ما تركوه.

«يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ»: أشارة إلى أنّ ذلك بتيسير الله لأسبابه وإعدادهم له بالجواذب الإلهيّة.

«أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا»: إشارة إلى الزهد الحقيقيّ، وهو ملكة تحت العفّة، وكنّى بإرادتها عن كونهم أهلا لأن يكونوا فيها رؤساءً وأشرافاً وكونها بمعرض أن تصل إليهم لو أرادوها، ويحتمل أن يكون على حذف المضاف.

«وأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا»: إشارة إلى من تركها وزهد فيها بعد الانهماك فيها والاستمتاع بها ففكّ بذلك الترك والإعراض والتمرّن على طاعة الله أغلال الهيئات الرديئة المكتسبة منها من عنقه، ولفظ الأسر استعارة في تمكَّن تلك الهيئات من نفوسهم، ولفظ الفدية استعارة لتبديل ذلك الاستمتاع بها بالإعراض عنها والمواظبة على طاعة الله، وإنّما عطف بالواو في قوله: ولم يريدوها، وبالفاء في: ففدوا. لأنّ هذه الإرادة ما يكون في الدنيا متأخر عن أقبالها عليه كذلك قد يكون متقدمًا عليه لقوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «ومن جعل الأخرة أكبر همه جمع الله عليه همّه وأتته الدنيا وهي راغمه»(2)، فلم يحسن العطف هنا بالفاء، وأمّا الفدية فلمّا لم

ص: 145


1- سورة الإنسان الآية 12
2- لم أعثر على نص الحديث إلا في شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 3 ص 417، حيث إنه لم يرجع الحديث إلى مظانه، وورد في مضمونه ما يقارب نص الحديث والقسم الأخير منه في أغلب المصادر بهذه العبارة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله يقول الله عز وجل: «وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أؤته منها إلا ما قدرت له»؛ إرشاد القلوب للديلمي: ج 1: ص 179؛ الكافي للشيخ الكليني: ج 2 ص 335

يكن إلَّا بعد الأسر لاجرم عطفها بالفاء.

«أَمَّا الليْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِینَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِياً يُحَزِّنُونَ بِه

أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ بِه دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعًا

وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقًا، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ

أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»: أشار عليه السلام بهذا الكلام إلى تطويع نفوسهم الأمارة بالسوء بالعبادات، وشرح لكيفيّة استثمارهم للقرآن العزيز في تلاوته وغاية ترتيلهم له بفهم مقاصده وتحزينهم لأنفسهم به عند ذكر الوعيد وأن من استثارتهم لأدواء دائهم، ولمّا كان داؤهم هو الجهل وسائر رذائل العمليّة كان دواء الجهل العلم، ودواء كل رذيلة الحصول على الفضيلة المضادة فهم بتلاوة القرآن يستثيرون بالتخزين الخوف من وعبد الله المضاد للانهماك في الدنيا ودواؤه والعلم الذي هو داء الجهل وكذلك كل فضيلة حث القرآن عليها فهي دواء لما يضادها من الرذائل وما في الكلام شرح لكيفية التخزين والتشويق «فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ»: ذكر لكيفية ركوعهم.

«مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وأَكُفِّهِمْ ورُكَبِهِمْ وأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ»: أشارة إلى كيفية سجودهم.

«يَطْلُبُونَ إِلَی الله تَعَالَی فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ»: أشارة إلى غاياتهم من عباداتهم «وأَمَّا النَّهَارَ»: عطف على أما الليل وكلاهما يجوز فيه الرفع على المبتدئة والنصب على الظرفية «فَحُلَمَاءُ»: فضيلة تحت ملكة الشجاعة هي الوسط بين رذيلتي المهانة

ص: 146

والإفراط في الغضب، وروي حکماء وأراد الحكم الشرعية وما قبلها من کمال القوة العلمية والعملية وتخصيص الليل بالصلاة لكونه أولى بها «عُلَماَء»: أراد کمال القوة النظرية بالعلم النضري وهو معرفة الصانع وصفاته «أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ»: خائفون من الله وقد مرّ ذكر العفّة والخوف، وإنّما كرّرها هنا في إعداد صفاتهم بالنهار وذكرها هناك في صفاتهم المطلقة ثم شرح الخوف الغالب بهم بقوله:

«قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ»: وإنّما يفعل الخوف ذلك لاشتغال النفس المدبّرة للبدن به عن النظر في صلاح البدن، ووقوف القوّة الشهویّة والغاذيّة عن إدّاء بدل ما يتحلَّل، وشبّه بری الخوف لهم ببري القداح ووجه التشبيه شدّة النحافة، ويتبع ذلك تغيّر السحنات والضعف عن الانفعالات النفسانيّة من الخوف والحزن.

«يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَ ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ ويَقُولُ قَدْ خُولِطُوا»: إشارة إلى ما يعرض لبعض العارفين عند اتّصال نفسه بالملأ الأعلى واشتغالها عن تدبير البدن وضبط حركاته من أن يتكلَّم بكلام خارج عن المتعارف مستبشع بين أهل الشريعة الظاهرة فينسب ذلك منه إلى الاختلاط والجنون وتارة إلى الكفر والخروج عن الدین کا نقل عن الحسين بن منصور الحلَّاج وغيره.

«ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ»: وهو اشتغال أسرارهم بملاحظة جلال الله ومطالعة أنوار الملأ الأعلى.

«لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ ولَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِیرَ»: وذلك لتصوّرهم شرف غايتهم المقصودة بأعمالهم.

«فَهُمْ لأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ»: فتهمتهم لأنفسهم وخوفهم

ص: 147

من أعمالهم يعود إلى شکَّهم فيما يحكم به أوهامهم من حسن عبادتهم، وكونها مقبولة أو واقعة على الوجه المطلوب الموصل إلى الله تعالى فإنّ هذا الوهم یکون مبدأ للعجب بالعبادة والتقاصر عن الازدياد من العمل والتشكَّك في ذلك وتهمة النفس بانقيادها في ذلك الحكم للنفس الأمّارة يستلزم خوفها أن تكون تلك الأعمال قاصرة عن الوجه المطلوب وغير واقعة عليه فيكون باعثا على العمل وکاسرا للعجب به، وقد عرفت أن العجب من المهلکات کا قال عليه السّلام: ثلاث مهلکات: ((شحّ مطاع وهوى متّبع وإعجاب المرء بنفسه))(1).

«إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِّمَا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِيِ مِنْ غَیْرِي ورَبِّي

أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْيِ اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِ بِمَا يَقُولُونَ واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ واغْفِرْ

لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ»: وخوفهم من تزكية الناس لهم هو الدواء لما ينشأ عن تلك التركية من الكبر والعجب بایزکَّون به، كأن كثيرًا منها مايخص أحدهم ويعرف به إلا أن بعضها قد يدخله الرياء فلا يدل على التقوى الحقيقية.

«فَمِنْ عَلَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ»: وذلك أن يقاوم في دينه الوسواس الخناس ولا يدخل فيه خداع الناس وهذا أنما يكون في دين العالم.

«وحَزْمًا فِي لِینٍ»: أي الحزم في الأمور الدنيويّة والتثبّت فيها ممزوجًا باللين للخلق وعدم الفظاظة عليهم كما في المثل: لا تكن حلوًا فتسترط ولا مرًّا فتلفظ، وهي فضيلة العدل في المعاملة مع الخلق، وقد علمت أنّ اللين قد يكون للتواضع المطلوب بقوله: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(2) وقد يكون عن

ص: 148


1- يُنظر: الخصال لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 666؛ والخصال للشيخ الصدوق: ص 84؛ والمجزات النبوية للشريف الرضي: ص 196
2- سورة الحجر: الآية 88

مهانة وضعف يقين، والأوّل هو المطلوب وهو المقارن للحزم في الدين ومصالح النفس، والثاني رذيلة ولا يمكن معه الحزم لانفعال المهين عن كلّ حادث.

«وإِيمَانًا فِي يَقِینٍ»: ولمّا كان الإيمان عبارة عن التصديق بالصانع وبما وردت به الشريعة، وكان ذلك التصديق قابلًا للشدّة والضعف، فتارة يكون عن التقليد وهو الاعتقاد المطابق لا لموجب، وتارة يكون عن العلم وهو الاعتقاد المطابق لموجب هو الدليل، وتارة عن العلم به مع العلم بأنّه لا يكون إلَّا كذلك، وهو علم اليقين و محقّقوا السالكين لا يقفون عند هذه المرتبة بل يطلبون اليقين بالمشاهدة بعد طرح حجب الدنيا والإعراض عنها أراد أنّ علمهم علم يقين لا يتطرّق إليه احتمال.

«وحِرْصًا فِي عِلْمٍ»: والازدياد منه «وعِلْمًا فِي حِلْمٍ وقَصْدًا فِي غِنًى»: وهو فضيلة العدل في استعمال متاع الدنيا وحذف الفضول عن قدرة الضرورة «وخُشُوعًا فِي عِبَادَةٍ»: هو ثمرة الفكر في جلال المعبود وملاحظة عظمته التي هو روح العبادة «وتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ»: وذلك بترك الشكوى إلى الخلق والطلب منهم وإظهار الغني عنهم وينشأ عن القناعة والرضا بالقضاء وعلو الهمة ويعين على ذلك ملاحظة وعد الأجل وما أعد للمتقين.

«وصَبْرًا فِي شِدَّةٍ وطَلَبًا فِي حَاَلٍ»: هو ينشأ عن العفة «ونَشَاطًا فِي هُدًی»: وسلوك سبيل الله، وينشأ عن قوّة الاعتقاد فيها وعد المتّقون وتصوّر شرف الغاية.

«وتَحَرُّجاً»: تأثياً «عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الأَعْاَلَ الصَّالِحَةَ وهُوَ عَلَى وَجَلٍ»: أي من أن يكون على غير الوجه اللائق فلا يقبل کما روى عن زين العابدین علیه السّلام أنّه كان في التلبية وهو على راحلته فخرّ مغشيًّا عليه فلمّا أفاق قيل له ذلك. فقال:

ص: 149

«خشيت أن يقول لي ربّي: لا لبّيك ولا سعديك»(1).

يُمْسِيِ وهَمُّهُ الشُّكْرُ»: على ما رزقوا بالنهار وما لم يرزقوا «ويُصْبِحُ وهَمُّهُ

الذِّكْرُ»: لتذكرهم الله ويرزقهم من الكمالات النفسانيّة والبدنيّة كما قال تعالى «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ»(2).

«يَبِيتُ حَذِرًا ويُصْبِحُ فَرِحًا حَذِرًا لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وفَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنَ

الْفَضْلِ والرَّحْمَةِ: تفسير المحذور وما به الفرح، وليس مقصوده تخصيص البيات بالحذر والصباح بالفرح كما يقول أحدنا يمسي فلان ويصبح حذرًا فرحاً، وكذلك تخصيصه الشكر بالمساء والذكر بالصباح يحتمل أن لا يكون مقصودا. إِنِ

«اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِياَ تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ»: إشارة إلى مقاومته النفس الأمّارة بالسوء عند استصعابها عليه، وقهره لها على ما تكره وعدم مطاوعته لها في ميولها الطبيعيّة ومحابّها.

«قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ»: من الكمالات النفسانيّة الباقية كالعلم والحكمة ومكارم الأخلاق المستلزمة للذّات الباقية والسعادة الدائمة، وقره عينه كناية عن لذّته و ابتهاجه لاستلزامها لقرار العين و بردها برؤية المطلوب.

«وزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى»: من متع الدنيا «يَمْزُجُ الْعِلْمِ بالْحِلْمَ»: فلا يجهل ولا يطيش.

«والْقَوْلَ بِالْعَمَلِ»: فلا يقول ما لا يفعل فلا يأمر بمعروف ويقف دونه ولا

ص: 150


1- الأمالي للشيخ الصدوق بلفظ مقارب: ص 234، والخصال، وعلل الشرائع: ج 1 ص 230؛ وروض الواعظين للفتال النيسابوري: ص 212
2- سورة البقرة: الآية 152

ينهي عن منكر ثمّ يفعله، ولا يعد فيخلف فيدخل في مقت الله كما قال تعالى «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(1).

«تَرَاهُ قَرِيبًا أَمَلُهُ»: لكثرة ذكر الموت والوصول إلى الله.

«قَلِيلًا زَللهُ»: قد عرفت أن زلل العارفين يكون من باب ترك الأولى لأنّ صدور الخيرات عنهم صادر ملكة والجواذب فيهم إلى الزلل والخطيئات نادرة تكون لضرورة منهم أو سهو، ولا شكّ في قلَّته.

«خَاشِعًا قَلْبُهُ»: عن تصوّر عظمة المعبود و جلاله.

«قَانِعَةً نَفْسُهُ»: لملاحظة حكمة الله في قدرته و قسمته الأرزاق، ويعين عليها تصوّر فوائدها الحاضرة وغايتها في الآخرة.

«مَنْزُوراً»: أي قليلًا «أَکْلُهُ»: لما يتصوّر في البطنة من ذهاب الفطنة وزوال الرقّة وحدوث القسوة والكسل عن العمل.

«سَهلًا أَمْرهُ»: أي لا يتكلف لأحد ولا يكلَّف أحداً. «حَرِيزةاً»: محفوظًا «دِينُهُ»: فلا يهمل منه شيئا ولا يطرق إليه خللاً، «مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ»: لفظ الموت مستعار الحمود شهوته عمّا حرّم عليه. ويعود إلى العفّة؛ «مَكْظُومًا غَيْظُهُ»: هو من فضائل القوّة الغضبيّة.

«الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ والشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ»: للعلم بعدم قصده للشرور.

«إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِنَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ»: أي رآه الناس في عداد الغافلين عن ذكر الله لتركه الذكر باللسان كتب عند الله من الذاکرین لاشتغال قلبه بالذكر وإن

ص: 151


1- سورة الصف: الآية 3

ترکه بلسانه.

«وإِنْ كَانَ في الذَّاكِرِينَ»: بذكر لسانه فيهم لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِینَ يَعْفُو عَمَّنْ

ظَلَمَهُ»: وهو فضيلة تحت الشجاعة، وخصّ من ظلمه ليتحقّق عفوه مع قوّة الداعي إلى الانتقام.

«ويُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ»: وهي فضيلة تحت السخاء. «ويَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ»: فضيلة تحت العفّة.

«بَعِيدًا فُحْشُهُ»: أي قلَّما يخرج في أقواله إلى ما لا ينبغي «لَيِّنًا قَوْلُهُ»: عند معاملات الناس ووعظهم ومعاملتهم، وهو من أجزاء التواضع.

«غَائِبًا مُنْكَرُهُ حَاضِرًا مَعْرُوفُهُ»: للزومه حدود الله «مُقْبِلًا خَیْرُهُ مُدْبِرًا شَرُّهُ»: أقبال خيره أخذه في الازدياد من الطاعة وتشميره فيها، وبقدر ذلك يكون إدباره عن الشرّ لأنّ من استقبل أمرًا وسعى فيه بعد مّا يضادّه.

فِي «الزَّلَزِلِ وَقُورٌ»: كنّى بها عن الأمور العظام المستلزمة لاضطراب القلوب وأحوال الناس، والوقار ملكة تحت الشجاعة.

«وفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ»: وذلك ثباته وعلوّ همّته عن أحوال الدنيا، «وفِي الرَّخَاءِ شَکُورٌ»: كثيرة الشكر لمحبّته المنعم جلَّت قدرته فيزداد شكره في رخائه وإن قلّ.

«لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ»: أي مع قيام الداعي «ولَا يَأْثَمُ لمَنْ يُحِبُّ»: هو سلب الرذيلة الفجور عنه باتّباع الهوى فيمن يحبّ إمّا بإعطائه ما لا يستحقّ أو دفع ما يستحقّ عليه عنه کما يفعله قضاة السوء وأمراء الجور فالمتّقي لا يأثم بشيء من ذلك مع قيام الداعي إليه، وهو المحبّة لمن يحبّه بل يكون على فضيلة العدل في

ص: 152

الكلّ على السواء.

يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ»: لتحرّزه في دينه من الكذب، إذ الشهادة إنّما يحتاج إليها مع إنكار الحقّ، وذلك كذب. «لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ»: أي لا يفرط فيما استحفظه الله من دينه وكتابه، وذلك لورعه ولزوم حدود الله.

«ولَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ»: من آيات الله وعبره وأمثاله ولا يترك العمل بها، وذلك المداومته ملاحظتها وكثرة إخطارها بباله والعمل بها لغايته المطلوبة منه.

«ولَا يُنَابِزُ بِالأَلْقَابِ»: نابزه لقبه وذلك لملاحظة النهي في الذكر الحكيم ولا تنابزوا بالألقاب ولسر ذلك النهي وهو كون ذلك مستلزم لأثارة الفتن والتباغض بين الناس «ولَا يُضَارُّ بِالْجَارِ»: لملاحظة وصية الله تعالى به والجار ذي القربى والجار الجنب ووصية رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم في المرفوع إليه «أوصاني ربي بالجار حتى ظننت أنه يورثه»(1) ولغاية ذلك وهي الألفة والاتحاد بالدين.

ولَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ: لعلمه بأسرار القدر، وملاحظته لأسباب المصائب، وأنّه في معرض أن يصيبه فيتصوّر أمثالها في نفسه فلا يفرح بنزولها على غيره.

ولَا يَدْخُلُ بالْبَاطِلِ ولَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ: أي لا يدخل فيما يبعّد عن الله تعالى من باطل الدنيا ولا يخرج عمّا يقرّب إليه من مطالبه الحقّة، وذلك لتصوّر شرف غايته.

إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ: لوضعه كلًّا من الصمت والكلام في موضعه.

وإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ: لغلبة ذكر الموت وما بعده على قلبه، ممّا نقل من

ص: 153


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 6 ص 101، مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 125؛ السنن الكبرى: أحمد بن الحسين البيهقي: ج 8 ص 11، مجمع الزوائد: للهيثمي: ج 8 ص 165؛ شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 10 ص 160

صفات الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم: كان أكثر ضحكه التبسّم، وقد يفتر أحيانا، ولم يكن من أهل القهقهة.

«وإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ»: وذلك منه نظرًا إلى ثمرة الصبر وإلى الوعد الكريم ذلك «ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ»(1).

«نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ»: أي نفسه الأمارة بالسوء لمقاومته لها وقهرها و مراقبته إيّاها، والناس من أذاه في راحة لذلك.

«والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ»: أي من آذاه «أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِخِرَتِهِ وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ »:شر

«نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ»: أي لزهده فيما في أيدي الناس ونزاهته عنه لاعن کبر وتعظيم عليهم.

«ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِینٌ ورَحْمَةٌ»: ودنوّه من دنا منه عن لين ورحمة منه لهم لا بمكر بهم وخديعة لهم عن بعض المطالب کما هو عادة الخبيث المکَّار.

«لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وعَظَمَةٍ ولَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وخَدِيعَةٍ»: هذه الصفات والعلامات قد يتداخل بعضها بعضاً، ولكن تورد بعبارة أخرى أو يذكر مفردة ثمّ يذكر ثانيًا مركَّبة مع غيرها، وبالجملة فهذه الخطبة من جليل وبليغ وصفه.

«قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا»: أي غشي عليه ومات، «فَقَالَ أَمِیرُ

الْمُؤْمِنِینَ عليه السّلام: أَمَا واللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ: أما والله لقد كنت أخافها عليه»: واعلم انه عليه السلام لم يكن يغلب على ضنه إلا الصعقة من الوجد الشديد فأما أن فيها موته فلم یکن

ص: 154


1- سورة الحج: الآية 60

مظنونًا له فلا تحم حول ما قيل أنه كيف جاز منه عليه السلام أن يجيب مع غلبة ضنه بهلاکه وهو كالطبيب أن يعطي كلًا من المرضى بحسب احتمال طبيعته من الدواء.

«ثُمَّ قَالَ أَهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا»: وكان همام من أهلها ولذلك فعلت به ما فعلت «فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ فَقَالَ عليه السّلام وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتًا لَ يَعْدُوهُ وسَبَبًا لَ يَتَجَاوَزُهُ»: ولا يتأخّر أي علَّة فاعلة لا يتعدّاها إلى غيرها من الأسباب فمنها ما يكون موعظة بالغة لهذه هو جواب مقنع اللسامع مع أنّه حقّ وصدق، وهو إشارة إلى السبب الأبعد لبقائه عليه السّلام عند سماع المواعظ البالغة وهو الأجل المحكوم به للقضاء الإلهيّ، وأمّا السبب القريب للفرق بينه وبين همّام ونحوه فقوّة نفسه القدسيّة على قبول الواردات الإلهيّة وتعوّده بها وبلوغ رياضته حدّ السكينة عند ورود أكثرها وضعف نفس همّام عمّا ورد عليه من خوف الله ورجائه. ولم يجب عليه السّلام بمثل هذا الجواب الاستلزامه تفضيل نفسه، أو لقصور فهم السائل، ونهيه له عن مثل هذا السؤال والتنفير عنه کونه من نفثات الشيطان لوضعه في غير موضعه فقال:

«فَمَهْلًا»: أي رفقًا «لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ»: وبالله العصمة والتوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام يصف فيها المنافقين:

«نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وذَادَ»: دفع «عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ»: حمده باعتبارين: وهما التوفيق لطاعته الَّتي هي سبب الفوز الأكبر والطرد عن معصيته الَّتي هي سبب الخسران الأخسر، وذلك الذود إمّا بالنواهي أو بحسم أسباب

ص: 155

المعاصي وعدم الإعداد لها والكلّ منه سبحانه.

«ونَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً»: يتعلق الكلام تماماً وهو مفعول بأن لسانه نظرًا إلى قوله تعالى «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(1) «وبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً»: وهو الدين المبين العاصم لمن تمسّك له عن الهوى في مهاوي الهلاك ودركات الجحيم.

«ونَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ خَاضَ إِلَی رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَةٍ»: شدة استعارها لمعظم الشرور والمكاره المتكافئة المجتمعة حين بعثته صلَّى الله عليه وآله وسلم ملاحظة لشبهها بغمرة الماء، ورشّح بذكر الحوض، وکنّی به عن مقاساته للمتاعب الكثيرة وملاقاته للنوائب من المشركين في بدء دعوته.

«وتَجَرَّعَ فِيهِ»: أي الله والرضوان «كُلَّ غُصَّةٍ»: كناية عن عوارض الغموم له من ملاقاة تلك المكاره.

«وقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الأَدْنَوْنَ»: أي تغیّر قلوب أقربائه عليه حينئذ «وتَأَلَّبَ عَلَيْهِ

الأَقْصَوْنَ»: أي أجتمع على محاربته البعيد من أقصى البلاد.

«وخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا وضَرَبَتْ إِلَی مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا»: مثلان کنّی بهما عن المسارعة إلى حربه لأنّ أقوى عدوّ الخيل إذا خلعت أعنّتها، وأقوى عدوّ الرواحل إذا ضربت بطونها، وفيه إيماء إلى أنّهم أتوه فرسانًا وركبانًا متسرّعين إلى حربه.

«حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا»: وشرورها أي حروبها الَّتي هي ثمرة العداوة، وأطلق على الحرب مجازاً. «مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ وأَسْحَقِ الْمَزَارِ»: أبعد موضع، ومن

ص: 156


1- سورة إبراهيم: الآية 7

طالع كتب السير يطَّلع على ما لاقى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من المشاقّ کاستهزاء قریش به في أوّل الدعوة، ورميهم إيّاه بالحجارة حتّى أدموا عقبيه، وصياح الصبيان به، وفرث الكرش على رأسه، وفتلهم الثوب في عنقه، وحصره هو وأهله في شعب بنی هاشم سنين عدّة محرّمة معاملتهم ومبايعتهم و مناکحتهم وكلامهم حتّى كادوا يتلفون جوعًا لو لا بعض من كان يحنو عليهم لرحم أو لسبب آخر؛ فكان يسترق لهم القليل من الدقيق؛ أو التمر فيلقيه إليهم ليلاً، ثمّ ضربهم لأصحابه وتعذيبهم بالجوع والوثاق في الشمس وطردهم إيّاهم عن شعاب مكَّة حتّى خرج بعضهم إلى الحبشة وخرج هو عليه السّلام مستجيرًا منهم تارة بثقيف وتارة ببني عامر وتارة بربيعة الفرس وبغيرهم، ثمّ أجمعوا على قتله والفتك به ليلًا حتّى هرب منهم لائذًا بالأوس والخزرج تارکًا الأولاده وأهله ناجیًا بحشاشة نفسه حتّى وصل إلى المدينة فناصبوا الحرب ورموه بالكتائب وضربوا إليه آباط الإبل حتّى أكرمه الله تعالى ونصره وأيّد دينه وأظهره، ثمّ عقّب عليه السّلام بالوصيّة بتقوى الله والتحذير من المنافقين وتعديد مذاقهم ليعرفوا فيجتنبوا ويحصل النفار عنهم فقال: «أُوصِيكُمْ، عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ، وأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ»: المتحرفون عن سبيل الله لعدم الاهتداء إليها المضلون لغيرهم عنها بالشبهات الباطلة: «والزَّالُّونَ»: الفاعلون للزلالزل «الْمُزِلُّونَ»: الحاملون للناس على الزلة «يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً»: كناية عن تغيراتهم في أقوالهم وأفعالهم من حال إلى حال بحسب أغراضهم الفاسدة فينقلون کلًا بوجهه ولسان غير الآخر.

«ويَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً»: أي تشعّب أحوالهم وأقوالهم بحسب تشعّب أغراضهم «ويَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ»: أراد بعدهم قصدهم بكل مكروه على وجه الحيلة

ص: 157

«ويَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ»: أي يتبعون وجوه الحيلة في هلاكهم وآذاهم.

«قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ»: فاسدة «وصِفَاحُهُمْ»: جمع صفحة وهي الظاهر ««نَقَيِّة»: أراد اشتمال نفوسهم على الداء النفسانيّ من الحسد والحقد والمكر والخديعة وإعمال الحيلة مع إظهار البشاشة والصداقة والمحبّة والنصيحة لهم، وهذا هو الضابط في النفاق، وهو أن يظهر الإنسان بلسانه أمرًا حسنا محمودا ويبطن خلافه.

«يَمْشُونَ بالْخَفَاءَ»: كناية عن كون حركاتهم القوليّة والفعليّة فيما یریدونه في خفاء أفهام الناس ويَدِبُّونَ الضَّرَاءَ»: هو الشجر الملتف في الوادي والخفاء والضراء منصوبان على الظرف، وهما مثلان لمن يختل غيره ويخدعه.

«وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ»: أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين من الموعظة والأمر بالتقوى وطاعة الله الذي هو دواء الغيّ والضلال وشفاء منهما، وأفعالهم أفعال الفاسقين الضالَّين من معصية الله الَّتي هي الداء الأكبر والعياء المعيي للأطبّاء.

«حَسَدَةُ الرَّخَاءِ ومُؤَكِّدُو الْبَاَءِ»: أي إن رأوالمرء رخاء حسدوه، وإن رأوا به بلاء أكَّدوه بالسعاية والتأليب عليه وروی: ومولَّدواً، وهو ظاهر.

«ومُقْنِطُو الرَّجَاءِ»: أي إذا رجا راج أمرًا ففي طباعهم أن يقنطوه ويؤيسوه. وهكذا شأن المنافق الكذّاب أن يبعّد القريب ويقرّب البعيد.

«لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ»: كناية عن كثرة من يقتلونه أو يؤذونه بخديعتهم و مکرهم، وكنّی بالطريق إمّا عن كلّ مقصد قصدوه، أو عن كلّ حيلة احتالوها ومکر مکروه فانّه لابدّ أن يستلزم أذى.

ص: 158

«وإِلَی كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ»: أي من شأن المنافق أن يتّخذ إلى كل قلب ذريعة ووجها غير الآخر فيكون صديق الكلّ حتّى المعاندين ليتوصّل بذلك إلى إثارة الفتن وإيقاع الشرّ بينهم وهو في نفس الأمر عدوّ الكلّ.

«ولِكُلِّ شَجْوٍ»: حزين «دُمُوعٌ»: كناية عن توجّعهم لكلّ شجو وتوصّلهم بذلك إلى أغراضهم وإن كان لأهل الشجر البعداء أعداء.

«يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ ويَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ»: أي يثني أحدهم على الآخر ليثنى الآخر عليه، ويترقّب كلّ منهم الجزاء من صاحبه على ثنائه.

«إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا»: أي ألّحوا في السؤال وهو من المذام کما قال تعالى «لا

يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً»(1) «وإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا»: العيوب وربّما ذکرها بمحضر من لا تحبّ ذكرها معه وليسوا كالناصحين الَّذين يعرضون بالذنب عند العتاب تعريضًا لطيفًا دون التصريح.

«وإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا»: أي إذا ولَّى أحدهم ولاية أسرف فيها بالظلم والانهماك في مأكله ومشربه وعبر في قينات الدنيا إلى حدّ الإفراط من فضيلة العدل، وذلك الجهله بالعواقب وتصوّره أن لا غاية أشرف ممّا هو فيه.

«قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا ولِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا»: أي من الشبه يموهّون عليه ويغطَّونه بها.

«ولِكُلِّ حَيٍّ قَاتِاً»: أي سببًا یمیتونه به، والحيّ أعمّ من الإنسان هنا بل كلّ أمر يحيى ويقوم إذا أرادوا فساده.

ص: 159


1- سورة البقرة: الآية 273

«ولِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً»: من الحيل «ولِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً»: لفظ الليل مستعار لما أشكل من الأمور وأظلم، ولفظ المصباح للرأي الَّذي يدخلون به في ذلك الأمر ويهتدون إلى وجهه به گرأي عمرو بن العاص على معاوية ليلة الحرير برفع المصاحف ودعوتهم أهل العراق أن يحاكموهم إلى كتاب الله فلم يكن لذلك المشكل إلا ذلك الرأي الصعب.

«يَتَوَصَّلُونَ إِلَی الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ»: أي بإظهار اليأس عمّا في أيدي الناس والزهد فيه كما يفعله كثير من زهّاد الوقت.

«لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ»: استعار الأسواق لأحوالهم في معاملة الخلق من أخذ وإعطاء فإنّ فعلهم ذلك يقيمها بين الناس ويروجّها عليهم.

«ويُنْفِقُوا»: يروجوا «بِهِ أَعْلَقَهُمْ»: وهي مستعارة لما يزعمون أنّهم نفيس من آرائهم وحركاتهم الخارجة عن أوامر الله، «يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ»: أي يوقعون بأقوالهم الشبه في القلوب.

«ويَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ»: عليهم الباطل بصورة الحق «قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ»: أي قد عرفوا كيف يسلكون في مقاصدهم من الآراء والحيل.

«وأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ»: أي عرّجوا مضائقها كنّاية عن دقائق المداخل في الأمور، وبتعويجها عن أنّهم إذا أرادوا الدخول في أمر مضيّق أظهروا أنّهم يريدون غيره تعمية على الغير وتلبسا أن يقف على وجه الحيلة فيفسد مقصودهم.

«فَهُمْ لَمُةُ الشَّيْطَانِ»: جماعته وأتباعه «وحُمَةُ النِّیرَانِ»: أسم مستعار لمعظم شرورهم، ووجه المشابهة استلزامها للأذى البالغ.

ص: 160

«أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

ومن خطبة له عليه السّلام:

«الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وجَلَالِ كِبْرِيَائِهِ مَا حَیَّرَ مُقَلَ الْعُيُونِ

مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ»: أي أظهر من ملكوت السماوات والأرض، وترتيب العالمين على وجه النظام الأتمّ ممّا هو محلّ العجب العجيب الَّذي تحار أبصار البصائر في كيفيّة وقوعه من القدرة الإلهيّة، وفي ترتيبه على النظام الأكمل بل كلّ مخلوق منها فهو محلّ ذلك العجب والحيرة، ولفظ المقل مستعار ونسبة ذلك إلى جلال کبریائه مناسب لما أنّ السلطان والعظمة، والكبرياء يناسب صدور الآثار العظيمة العجيبة المحكمة.

«ورَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ»: أي ما يخطر للنفوس فيهمهم به، وردعه لها استلزام کاله المطلق عجزها عن إدراك حقيقته . وقد سبق ذلك غير مرّة.

«وأَشْهَدُ أَنْ لَ إِلَهً إِلَّ اللهُ شَهَادَةَ إِيمَانٍ وإِيقَانٍ وإِخْاَصٍ وإِذْعَانٍ»: أعتبر فيها أربعة أمور: الأول: أي يطابق القول فيها للعقد القلبيّ، ويكون اعتقادها يقينًا وهو اعتقاد أن لا إله إلَّا هو مع اعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون المعتقد إلَّا ذلك. الثالث: أن يحذف عن ذلك المعتقد كلّ أمر عن درجة الاعتبار ولا يلاحظ معه غيره. الرابع: ثمرة ذلك الإخلاص وكماله، ويتفاوت بتفاوته ويعود إلى سائر الطاعات والعبادات الَّتي هي من حقوق تلك الكلمة وتوابعها. ثمّ أردفها بأختها فقال:

«وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وأَعْلاَمُ الْهَدَى دَارِسَةٌ»: رأي أئمّة الدين

ص: 161

الهادين إلى سبيل الله قاطبة. «ومَنَاهِجُ الدِّينِ»: وهي قوانينه الَّتي يسلك فيها جزئیّات الأحكام؛ «طَامِسَةٌ»: دارسة أنمحى آثارها «فَصَدَعَ بِالْحَقِّ»: ماصلب من الباطل.

«ونَصَحَ لِلْخَلْقِ»: ليردهم عن غوايتهم إلى الصراط الله «وهَدَى إِلَی الرُّشْدِ»: إياهم في سلوكه «وأَمَرَ بِالْقَصْدِ»: بالعدل والاستقامة عليه «صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ

وسَلَّمَ»: ثم نبه السامعين إجمالًا على أن خلق الله تعالى لهم ليس خاليًا عن غايته.

«واعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثًا ولَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلًا»: مهملين عن أمر يراد بهم كإهمال البهيمة «عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وأَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ»: نبه على علمه بمبلغ نعمه عليهم كمية وكيفية وإحصائه لها عددًا ليبعثهم على شكرها ولذلك قال:

«فَاسْتْفتِحُوهُ»: أي أطلبوا منه أن يفتح علیکم أبواب برکاته. «واسْتَنْجِحُوهُ»: اطلبوا منه نجاح حاجاتكم، واطلبوا إليه: أي الهداية إلى حضرته ووجوه مرضاته، واستمنحوه أن يعطیکم کمالکم، كلّ ذلك بالشكر وسائر العبادات الَّتي بها الاستعداد لإفاضة رحمته، ثم اظهر وجوه کماله وعظمته ونزهه عن صفات المخلوقين وقربه من عباده ليطلبوا منه وإليه ويستنجحوه ویستمنحوه وتنفتح آمالهم منه بقوله: «فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ ولَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ»: أنه ليس بمتحيّز «وإِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ»: في حالة واحدة بعلمه المحيط لاستحالة ذلك المتحيّز. «وفِي كُلِّ حِینٍ وأَوَانٍ»: بمعنی مساوقة وجوده لوجود الزمان لا بمعنى الظرفيّة له لتنزّهه تعالى عن لحوق الزمان المتأخّر عنه بمراتب من المعلولات.

«ومَعَ كُلِّ إِنْسٍ وجَانٍّ»: يعلمه وهو معكم أينما «لَا يَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ»: أي لا يظهر خللًا في ماله.

ص: 162

«ولَا يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ»: النوال «ولَا يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ ولَا يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ»: هو بلوغ الجود منه أقصى مقدوره، وبرهان تلك الأحكام أنّ الثلم والنقصان والاستنفاد والاستقصاء على المقدور يستلزم النهاية والحاجة المستلزمين للإمكان، وهو منزه وكذلك قوله: «ولَا يَلْوِيهِ»: لا يصرفه «شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ ولَا يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ ولَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ ولَا يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ ولَا»: برهان هذه الأحكام أنّ الصرف واللهو يستلزمان الغفلة عن أمر والفطنة لغيره بعد الغفلة عنه، وكذلك حجز الهبة ومنعها عن سلب نعمة أخرى وشغل الغضب له عن الرحمة مستلزمان قصور القدرة وضعفها وتعلَّقها بمحلّ جسماني، وذلك مستلزم للنقصان المستلزم للحاجة والإمكان المنزّه قدس الله تعالى عنه، وكذلك توليه الرحمة عن العقاب يستلزم رقّة الطبع ورحمة النفوس البشرية المستلزمة لعوارض الجسميّة وجلال الله منزّه عنها.

«ولَا يُجِنُّهُ(1)»: ولا تسره «الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُور»: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يخفيه بطون حقيقته عن العقول وخفاؤه عن العيون عن ظهوره للبصائر في صور آثاره وملكوت قدرته. الثاني: أنّه ليس في شيء حتّى يخفى فيه عن الظهور على الأشياء والاطَّلاع عليها.

«ولَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ»: أي لا يقطعه کونه ظاهرًا أو عالمًا بالأمور الظاهرة عن أن يكون باطنًا لا يطَّلع العقل عليه أو عن علمه بواطن الأمور وحقائقها.

«قَرُبَ»: بعلمه وقدرته من الأشياء قرب العلَّة من معلوها.

ص: 163


1- ورد في بعض النسخ: ولا تُولُهِهُ رَحَمْةٌ عَنْ عِقَابٍ

«فَنَأَی»: بعد بحقيقته عن إدراك العقول والحواسّ. «وعَلَا فَدَنَا»: فعلوه شرفه بالقياس إلى آثاره شرف العلَّة على المعلول ودنوّه منها قربه. «وظَهَرَ فَبَطَنَ وبَطَنَ فَعَلَنَ»: تأكيد لما قبله، وقد سبق بيانه غير مرّة.

«ودَانَ ولَمْ يُدَنْ»: أي جزى المحسن بإحسانه ولم يقدر أحد أن يحزنه «لَمْ يَذْرَأ الْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ ولَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلَالٍ»: تنزیه لايجاده لآثاره عن استخراج الحيل وإجالة وجوه الآراء في استخراجها، ثمّ عن الاستعانة بغيره في شيء من آثاره. ثمّ عن مبدأ الاستعانة وهو الكلال والإعياء لاستلزام ذلك تناهى القوّة المستلزمة للجسميّة، وإذ قدّم تنزيه الحقّ سبحانه عمّا لا ينبغي له، ووصفه با ينبغي له شرع في الوصيّة بتقواه قائلاً: «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا الزِّمَامُ»: وجه استعارة كونها قائدة للعبد إلى طريق الحق مانعة له عن الجور إلى طرف الباطل كالزمام للناقة.

«والْقِوَام»: أفاد به کونها مقيمة للعبد في سلوك سبيل الله أيضًا إقامة للمصدر مقام اسم الفاعل.

«فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا»: أي بما به يوثق منها وهو سائر أنواع العبادات الَّتي هي أجزاؤها، والتمسّك فيها يعود إلى لزومها والمواظبة عليها.

«واعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا»: أي بالخالص منها دون المشوب بالرياء والنفاق فأن الالتجاء إلى خالصهاهو المخلص من عذاب الله.

«تَؤُلْ بِكُمْ»: انجزم لكونه جواب الأمر: «إِلَی أَكْنَانِ الدَّعَةِ»: مواطن الراحة من الآلام وهي غرفات الجنّة.

«ومَعَاقِلِ الْحِرْزِ وأَوْطَانِ السَّعَةِ»: أيضًا من مضيق الأبدان وضنك هبوب النيران، وهي المانعة من عذاب الله.

ص: 164

«ومَنَازِلِ الْعِزِّ»: في جوار الله فِي «يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ»: يتعلَّق بتأول وهو يوم القيامة وسائر ما عدّده من صفات مّما نطق به الكتاب الكريم كقوله تعالى «إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ»(1) «وتُظْلِمُ لَهُ الَأقْطَارُ»: الجوانب «وتُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ»: جمع صرمة وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين والعشار جمع العشراء الناقة التي أتت عليها من يوم ارسل فيه الفحل عشرة أشهر وزوال عنها أسم المخاض ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع ما في بطنها وهي أعزامو العرب.

«ويُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَزْهَقُ»: تهلك «كُلُّ مُهْجَةٍ»: دم القلب «وتَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ

وتَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ»: أي الجبال العالية «والصُّمُّ الرَّوَاسِخُ»: حجر صم شديد

صلب والرواسخ الثوابت «فَيَصِیرُ صَلْدُهَا»: هو الحجر الأملس «سَرَابًا رَقْرَقاً»: ترقرق السراب لمع وكل شيء له تلالؤ وذهاب ومجي فهو رقراق «ومَعْهَدُهَا»: المنزل الذي لا يزال به القوام «قَاعاً»: أرضا خالية «سَمْلَقاً»: صفصفا مستوياً ليس بعضه أرفع من بعض «فَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ ولَا حَمِيمٌ يَنْفَعُ ولَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ»: وأما المعقولة فقد قال بعض السالكين أن الإنسان إذا حضرته الوفاة شخص بصره عقله إلى ما انكشف له من الأقطار الآخروية وأظلمت عليه أنضار الدنيا وغاب منها ما كان شاهدة وتعطلت عليه عشاره وناداه دواعي الأجل إلى آخره فزهقت نفسه وأجابت الداعي وركبت لهجته وذلت شوامخ الجبال وراسخها في نظرة لعظمة الله عند مشاهدة كبريائه فيصير لا نسبة لها في نضره إلى ما شاهد من عظيم ملکوته فكأنها اضمحلت وغابت وصارت في نضره كالسراب المترقرق الذي لا أصل بعدما كان يراها عليه من العلو والعظمة وكل ذلك يرى ما كان معهودًا

ص: 165


1- سورة إبراهيم: الآية 42

التهاد لقاع الصفصف المستوي تحت سلطان الله وقهره وحينئذ ينقطع عن الشفيع الشافع والصديق الدافع والعذر النافع وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام: في ذكر البعثة حين ظهور الأحوال الَّتي كان العالم عليها تنبيهًا على فضلها وفضيلة الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلم.

«بَعَثَهُ حِینَ لَا عَلَمٌ قَائِمٌ ولَا مَنَارٌ سَاطِعٌ»: هما مستعاران للهداة إلى الله الداعين إليه وعدم قيامه وسطوته مستعار بعدمهم زمان الفترة «ولَا مَنْهَجٌ وَاضِحٌ»: أي طريق إلى الله خالص عن شوب الأباطيل يتبع «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ

وأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوصٍ»: يقال: شخص من بلد إلى بلد ذهب وهي اشاره إلى ضرورة الارتحال عنها بالموت.

«ومَحَلَّةُ تَنْغِيصٍ»: إلى تنغيص لذاتها بالآلام والأمراض حتى قيل أن اللذة فيها إنما هي الخلاص من الألم.

«سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ وقَاطِنُهَا بَائِنٌ»: أي ساكن بالبلد بعيد کالبلد بعيد كالتفسير لقوله دار شخوص «تَميِدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لَجُجِ الْبِحَارِ»: معظمها «فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ»: الهالك «ومِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى بُطُونِ الأَمْوَاجِ تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالَهِا وتَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالَهِا فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ ومَا نَجَا مِنْهَا»: مثل ضربة لها ولا حوال أهلها فيها فمثلها بالسفينة عند عصف الريح ومثل تصرفاتها وتغيراتها بميدان السفينة ورميهم فيها بالأمراض والجوانب التي هي مضنة الهلاك بالأحوال التي تلحق أهل السفينة عند هبوب الريح العاصف حال كونها في الحج البحار ومثل أنفاسهم عند بعض تلك الحوادث و نزولها بهم إلى ميت بها لا يرجى له عوده ولا يستدرك له متفارط بانقسام ركَّاب السفينة عند

ص: 166

عصف الريح عليها إلى غريق هالك وإلى ناج، ومثّل الناجي من بعض الأمراض الَّذي تأخّر موته إلى مرض آخر فلاقي من أهوال الدنيا في تلك المدّة ما لاقي ثمّ لحقه الموت بالأخرة بالناجي من الغرق الَّذي تحمله الأمواج وتدفعه الرياح ويقاسي أهوال البحر وشدائده ثمّ بعد خلاصه منه لا بدّ له من وقت هو أجله ومرض هو المهلك: أي محلّ هلاکه. ثمّ أمر بالعمل وذكر الأحوال الَّتي يمكن فيها ومعها العمل تنبيها على انتهاز الفرصة فقال:

(1)«عِبَادَ اللهِ الآنَ فَاعْلَمُوا، والَألْسُنُ مُطْلَقَةٌ»: صحيحة يمكن لها ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر التكاليف المتعلَّقة بها.

«والأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ والأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ»: مطاوعة للعمل قبل يبسها بالسقم والأمراض «والْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ»: أي محل التصرف وهو الدنيا واسع کنی به عن وقت الصحة ويقرب منه قوله: «والْمَجَالُ عَرِيضٌ قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ»: وألحاقه وحُلُولِ الْمَوْتِ: إنما ذكر تحذيرًا منه وجذبًا إلى العمل لما بعده وإذا كان الأمر كذلك. «فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ»: أي يذکَّروه ويخطر ببالهم أنّه حقّ ويقدّروا أنّه واقع ليكون آكد في العمل. ولذلك قال صلَّى الله عليه وآله وسلم: «أكثروا من ذكر هادم اللذّات»(2).

«ولَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ»: لأنه يستلزم توهم البعد عنکم وذلك ويجب التكاسل عن العمل وبالله التوفيق.

ص: 167


1- ورد في بعض متون النهج: فَإِلیَ مَهْلَكٍ
2- يُنظر: مسند زيد بن علي بن الحسين: شرح ص 386 باختلاف يسير؛ عيون أخبار الرضا: لعلي بن بابويه القمي: ج 2 ص 75؛ المجازات النبوية للشريف الرضي: 403. والمغني لعبد الله بن قدامة: ج 2 ص 302

ومن خطبة له عليه السّلام: على فضيلة لغاية قبول قوله فيما يأمرهم به.

«ولَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم أَنِّ لَمْ أَرُدَّ عَلىَ اللهِ ولَا عَلىَ رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ»: وهم العلماء وأهل الدين الَّذين استحفظوا کتاب الله ودينه: أي جعلوا حفظة له وأودعوا إيّاه، وقال بعض الشارحين: وفيه إيماء إلى ما كان يفعله بعض الصحابة من التسرّع والاعتراض على الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم في مواضع كما نقل عن عمر يوم الحديبيّة عند سطر کتاب الصلح أنّه أنكر ذلك وقال لرسول الله: ألسنا على الحقّ قال: بلى. قال: أو ليسوا الكاذبين. قال: بلی. قال: فكيف تعطى الريبة في ديننا. فقال صلَّى الله عليه - وآله - وسلم: أنا أعمل بما أومر به . فقام عمر فقال لقوم من الصحابة: ألم يكن قد وعدنا الله بدخول مكَّة وها نحن قد صددنا عنها ثمّ ننصرف بعد أن أعطينا الريبة في ديننا والله لو وجدت أعواناً لم اعط الريبة أبداً فقال له أبو بكر: ويحك الزم غزوه فو الله إنّه لرسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلم وأنّ الله لا يضيّعه. ثمّ قال له: أقال لك: إنّه سيدخل مكَّة هذا العام. فقال: لا. قال: فسيدخلها. فلمّا فتح النبيّ صلَّى الله عليه - وآله - وسلم مكَّة وأخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال: هذا الَّذي وعدتم به))(1).

«ولَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْيِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ»: ترجع «فِيهَا الأَبْطَالُ وتَتَأَخَّرُ

فِيهَا الأَقْدَامُ نَجْدَةً»: شجاعة «أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا»: أعلم أن مواساته له صلى الله عليه [وآله] وسلم ممّا اختصّ به عليه السّلام، وذلك في مواطن: فثبت معه يوم أحد وفرّ الناس، روى المحدّثون أنّ رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلم لمّا أرتثّ يوم أحد، ونادي الناس قتل محمّد رأته کتیبة من المشركين وهو صريع بين القتلى إلَّا أنّه حيّ فصمدت له، فقال لعليّ: «أكفني هذه، فحمل عليها فهزمها وقتل

ص: 168


1- شرح النهج: لابن أبي الحديد المعتزلي ج 10 ص 180

رئيسها: ثمّ صمدت له أخرى، فقال ياعلي: أكفني هذه فحمل عليها وقتل رئيسها، ثمّ صمدت له ثالثة فكذلك، فكان رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم يقول: قال لي جبرئيل حينئذ: يا محمّد هذه المواساة، فقلت: وما يمنعه وهو منّى وأنا منه، فقال جبرئیل: وأنا منکما»(1)، وروى المحدّثون أيضاً أنّ المسلمين سمعوا ذلك اليوم هاتفًا من قبل السماء ينادي: لا سيف إلَّا ذو الفقار ولا فتى إلَّا عليّ، فقال الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلم: ألا تسمعون هذا صوت جبرئیل وكذلك ثبت معه يوم حنين في نفر يسير من بنی هاشم بعد أنّ ولَّى المسلمون الأدبار، وحامی عنه، وقتل قوما من هو أذن بين يديه حتّی ثابت إليه الأنصار وانهزمت هو أذن وغنمت أموالها، وأمّا يوم خبير فقصّته مشهورة.

«ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي ولَقَدْ

سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي»: أراد بذلك أنّ رأسه حينئذ كان على ركبتيه، وعلى ذلك يكون في صدره عند إكبابه عليه والأشبه أنّه أراد تسنيده حين اشتداد علَّة موته، ثمّ سيلان نفسه في كفه وإمرارها على وجهه، وأراد بنفسه دمه يقال إنّ رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلم قاء، وقت موته دمًا يسيراً، وأنّ علیًّا عليه السّلام مسح بذلك الدم وجهه، ولا ينافي ذلك نجاسة الدم لجواز أن يخصّص دم الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم کما روى أنّ أبا طيبة الحجّام شرب دمه صلَّى الله عليه - وآله - وسلم حين حجمه فقال: «إذن لا يتّجع بطنك»(2) «ولَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ صلّى الله عليه - وآله - وسلّم والْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِ»: وكان هو الَّذي

ص: 169


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 8 هامش ص 110؛ المناقب للمغازلي: هامش ص 165، المسترشد لمحمد بن جرير الطبري (الشيعي): هامش ص 348، وابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ج 10 ص 182
2- أمتاع السماع للمقريزي: ج 7 ص 113؛ اختیار مصباح السالكين لابن میثم البحراني ص 370

يغسّله والفضل بن عباس يصّب الماء عليه، روی أنّه عصب عيني الفضل حين صبّه الماء، ونقل عنه صلَّى الله عليه - وآله - وسلم أنّه قال: لا يبصر عورتي غيرك أحد إلَّا عمی، وروى أنّه عليه السّلام قال: ما قلَّبت عضوا إلَّا وانقلب لا أجد له ثقلا كأنّ معي من يساعدني عليه، وما ذلك إلَّا الملائكة.

«فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ مَأٌ يَهْبِطُ ومَأٌ يَعْرُجُ ومَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ»:

أي صوت خفي «مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ»: دفناه فِي «ضَرِيحِهِ فَمَنْ ذَا

أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيًّا ومَيِّتاً» منصوبان على الحال من الضمير المجرور في به، وأمّا دفنه فتنازع الصحابة في أنّه يلحد أو يضرح فأرسل العبّاس إلى عبيدة بن الجرّاح وكان يحفر لأهل مكَّة ويضرح لهم على عادتهم، وأرسل إلى أبي طلحة الأنصاري وكان يلحد لأهل المدينة على عادتهم فقال: اللهم اختر لنبيّك فجاء أبو طلحة فلحدله، وتنازعوا فيمن يدخل القبر معه فقال علي عليه السّلام: لا ينزل معه أحد غيري وغير العبّاس. ثمّ أذن في نزول الفضل وأسامه بن زید؛ ثمّ ضجّت الأنصار وسألوا أن ينزل منهم رجل فأنزلوا أوس بن خوليّ وكان بدريّا، وقد يعبّر بالضريح عن القبر فيكون أعمّ من الشقّ واللحد.

فأمّا ضجيج الدار والأفنية بأصوات الملائكة ملايهبط منهم وملأ يصعد بحيث لا يفارق هینمتهم(1) سمعه في حال صلاتهم عليه إلى أن واراه في ضريحه. فقد عرفت كيفيّة سماع البشر لأصوات الملائكة في مقدمات الكتاب، وكذلك صلاتهم تعود إلى وساطتهم في إفاضة الرحمة من الله تعالى على العباد، وكذلك علمت معنى الصعود والهبوط منهم فيما سبق.

ص: 170


1- هینمتهم: الصوت الخافت؛ قال: الزمخشري في أساس البلاغة ص 1068 هینم هينمة أخفی کلامه

وأعلم أنّ حمل الكلام على ظاهره عند الإمكان أولى من التعسّف في التأويل، وذكر هذه الفضيلة بهذه المقامات تجرى مجرى صغری قیاس ضمير من الشكل الأوّل استدلّ به على أنّه لا أحقّ منه به. وأراد أنّه لا أحقّ بالمنزلة والقرب منه. ففي حياته بالأُخوّة والوزارة، وبعد موته بالوصيّة والخلافة إذ لا يريد أنّه أحقّ بذاته فبقي أن يريد كونه أحقّ به في المنزلة وولاية أمره بعده. ثمّ عقّب ذکر فضيلته بأمرهم أن يمضوا في جهاد عدوّهم فقال:

«فَانْفُذُوا عَلَی بَصَائِرِكُمْ»: عقائدكم أنّكم على الحقّ وأنّ عدوهم على الباطل.

«ولْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ فَوَالَّذِي لَا إِلَهً إِلَّ هُوَ إِنِّ لَعَىَ جَادَّةِ الْحَقِّ

وإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ»: أکَّد بالقسم البارّ أنّه فيما يأمرهم به على طريق الحقّ، وأنّ خصومه على مزلَّة الباطل، وذكر الجادّه للحقّ جذبًا إليه، وان خصومهم على مزلة الباطل تنفيرًا عنه ولأنه لا طريق واضحة له يعلم حق أو برهان صدق کا عليه الطريق الحقّ.

«أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ»: هذه خاتمة الخطبة، وفيه إشارة إلى أمور يعرفه تعرفه بالتأمل الصادق وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«عْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ»: صوتها فِي «الْفَلَوَاتِ»: المفاوز وفيه تنبيه على انه تعالى يعلمها حين يجأر من جدب الأرض نفسها هي الجلاء مجاز أطلاقًا لأسم المسبب على السبب «وأَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ»: قلوبكم إذ قد علمت أنّ بها الأمان من عذاب الآخرة، وقد يكون بها الأمان من فزع الدنيا. لأنّ أكبر مخاوف الدنيا الموت وما يؤدّى إليه، والمتّقون العارفون بمعزل عن تقيّة الموت بل عسی یکون

ص: 171

محبوبًا لهم لكونه وسيلة لهم إلى اللقاء الخالص لمحبوبهم الأقصى، وإليه الإشارة بقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(1) دلَّت الآية على أنَّ الصادق في دعوى الولاية يتمنّی الموت، وكذلك قوله تعالى «قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(2).

«وضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ»: واستعار الظلمة للجهل وتغطية القلب، ورشّح بذكر السواد لاستلزام الظلمة السواد، وهو كقوله: وجلا عشائكم وراعي في هذه القرائن كلها المضادة ثم أكد الوصية بطاعة الله بآداب فقال: «فَاجْعَلُوا طَاعَةَ

اللهِ شِعَاراً»: کنّی بذلك عن ملازمتهم لها كما يلزم الشعار الجسد، ثمّ عن كونها في الباطن دون الظاهر بقوله: «دُونَ دِثَارِكُمْ»: لقلَّة فائدتها وهو المشار إليه بقوله: «ودَخِیلًا»: سرًا «دُونَ شِعَاركُمْ»: لإمكان ذلك فيها دون الشعار المحسوس، ثمّ فسّر ذلك فقال: «ولَطِيفًا بَیْنَ أَضْلَاعِكُمْ»: وكنّى بلطفها عن اعتقادها وعقليَّتها ويكون بين أضلاعهم عن إيداعها القلوب.

«وأَمِیرًا فَوْقَ أُمُورِكُمْ»: واستعار لها لفظ الأمير باعتبار إكرامهم لها وتقديمها على سائر مهمّاتهم، «ومَنْهَاً لِحِینِ وُرُودِكُمْ»: أي يوم القيامة، واستعار لفظ المنهل لها، ووجه المشابهة أنّ التقوى والطاعة لله مظنّة التروّي من شراب الأبراریوم القيامة كما أنّ موارد الإبل مظنّة ريّها، «وشَفِيعاً»: وسيلة إلى الله «لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ»: وظاهر كون المطيع يستعدّ بطاعته لدرك بغيته من الله تعالى، ولفظ الشفيع مستعار اللوسيلة والقربة.

ص: 172


1- سورة الجمعة: الآية 6
2- سورة البقرة: الآية 94

«وجُنَّةً لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ»: كونه ساترًا يوم القيامة من الفزع الأكبر من عذاب الله «ومَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ»: قد عرفت كيفيّة إعداد الطاعة لقبول الأنفس الأنوار العلويّة والأسرار الإلهية المخلَّصة من ظلمة القبور والعذاب الأُخرويّ، وفي الخبر: أنّ العمل الصالح يضيء قبر صاحبه كما يضيء المصباح الظلمة، واستعار لها المصابيح لاستلزامها الإنارة.

«وسَكَنًا لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ»: في القبور وهو ما يستأنس به النفوس کما روی: أنّ العمل الصالح والخُلق الفاضل يراه صاحبه بعد الموت في صورة شابّ حسن الصورة والثياب طیّب الريح فيسلَّم عليه فيقول له: من أنت فيقول: أنا خُلقكَ الحسن أو عملك الحسن؛ وحاصله يعود إلى كون الطاعة سبباً للاستيناس من وحشة الآخرة، وذلك أنّ الوحشة إنّما تعرض في المكان لمن كان غافلًا عنه وغير متوقّع له ولا متهيّئ للانتقال إليه و مطمئنّاً بوطنه الأوّل وبأهله وجاعلهم كلّ الأُنس، فأمّا أهل الطاعة فإنّهم أبداً متفکَّرون فيما ينتقلون إليه ومتذکَّرون له، واثقون بأنس ربّهم، وملتفتون بأنس ربهم وانسهم أبدًا به، وفرحهم دائمًا بلقائه، واعتقادهم في الدنيا أنّهم لأهلها بأبدانهم مجاورون؛ فمنهم مهربون وإلى العزلة ينقطعون، فبالحريّ أن لا يعرض لهم وحشة وأن تكون أعمالهم سبباً لعدم الوحشة الَّتي عساها تعرض لهم، ولمّا كان الإنسان في الدنيا لا يتصوّر ما بعد الموت بالحقيقة لأجرم لا بدّ له من وحشة ما إلَّا أنّ الأنوار الإلهيّة والأُنس بالرفيق الأعلى مزيل لها.

«ونَفَسًا لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ»: أي سعة وروحالما يعرض من کرب منازل الآخرة وأهوالها.

«فَإِنَّ طَاعَةَ اللهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَةٍ»: أي مهالك محيطة وهي الرذائل الموبقة الَّتي هي محالّ الهلاك. «ومَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَةٍ»: وهي مخاوف الآخرة وحرّ نيرانها.

ص: 173

«وأُوَارِ نِیرَانٍ مُوقَدَةٍ فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ»: بعدت «عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ

دُنُوِّهَا»: منه، وكثيرًا ما يعبّر بالتقوى عن الطاعة وإن كانت أخصّ في بعض المواضع أمّا في بعد شدائد الآخرة فظاهر، وأمّا في الدنيا فلأنّ المتّقين هم أسلم الناس من شرور الناس لبعدهم عن مخالطاتهم ومجاذباتهم لمتاع الدنيا، وبغضهم لها، إذ كانت محبّتها والحرص عليها منبعًا لجميع الشرور والشدائد.

«واحْلَوْ لَتْ لَهُ الأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا»: أمّا أمور الآخرة فكالتكليف والوارد عليهم لها بالعبادات، وظاهر أنّها عند المتّقين أحلى وألذّ من كلّ شيء بعد مرارتها في ذوقهم في مبدأ سلوكهم، وثقلها عليهم، وعلى غيرهم من الجاهلين، وأمّا المرّ من أمور الدنيا؛ فكالفقر والعري والجوع، وكلّ ذلك شعار المتّقين، وهو أحلى في نفوسهم، وآثر من كلّ شعار، وإن كان مرّا في ذوقهم في مبدأ السلوك، وقبل وصولهم إلى ثمرات التقوی.

«وانْفَرَجَتْ عَنْهُ الأَمْوَاجُ بَعْدَ رَاكُمِهَا»: وهي مستعارة للهيئات البدنيّة الرديئة وملكات السوء الَّتي إذا تكاثفت وتوالت على النفس أغرقتها في بحار عذاب الله، وظاهر کون لزوم التقوی سبباً ينفرج باستعداد النفوس به عنها تلك الهيئات وينمحي من لوحها وإن كثرت، «وأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا»: وذلك أنّ المتّقين عند ملاحظة غايتهم من نفوسهم يسهل عليهم كلّ صعب من أمور الدنيا ممّا يشتدّ على غيرهم كالفقر، والمرض وكلّ شديد، وكذلك يسهل عليهم كلّ صعب من مطالب الآخرة بعد إتعاب تلك المطالب لهم قبل تصوّرها التامّ في أوّل التكليف.

«وهَطَلَتْ»: سالت «عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا»: احتباسها والكرامة تعود إلى الكمالات النفسانيّة الباقية والالتذاذ بها، ولاحظ في إفاضتها عليهم مشابهتها

ص: 174

بالغيث فاستعار لها لفظ الهطل وأسنده إليها، وكذلك لفظ القحوط، وکنّی به عن منعهم إيّاها قبل استعدادهم بالتقوى لها؛ «وتَحَدَّبَتْ»: تعطفت «عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ»: الإلهيّة بإفاضة الكمالات عليهم.

«بَعْدَ نُفُورِهَا»: بعد نفورها عنهم لعدم الاستعداد أيضاً، ولفظ التحدّب مستعار للإرادة أو لأثر الرحمة، وكذلك لفظ النفور لعدم أثرها في حقّهم قبل ذلك.

«وتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا»: نقصانها ولفظ التفجّر مستعار لانتشار وجوه إفاضات النعم الدنيويّة والآخرويّة كما قال تعالى «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»(1) وكذلك لفظ النضوب لعدمها قبل الاستعداد لها ملاحظة لشبه النعم بالماء في الاستعارتين.

«ووَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا»: لفظ الوبل مستعار للفيض الكثير من البركة بعد الاستعداد بالتقوى، ولفظ الرذاذ للقليل قبل ذلك الاستعداد ملاحظة الشبهها بالغيث أيضاً، وظاهر كون التقوى سببًا لمزيد الفيض على كلّ من كان له بعض الکلمات لمن يستعدّ بالعلوم دون الزهد والعبادة ثمّ يسلكهما، و بعد الفراغ من فضائلها والترغيب فيها من تلك الجهة أعاد الأمر بها ورغَّبّ فيها باعتبارات أُخر من إنعام المنعم فقال: «فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ»: أي جاذبًا لهم إلى جنّته، مرغَّبًا لهم في كرامته، «ووَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ وامْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ»: كقوله تعالى «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»(2) في غير موضع من كتابه، ثمّ أمرهم بتعبيد أنفسهم وتذليلها لعبادته والخروج إليه من حقّه الَّذي يطلبه منهم وهو طاعته.

ص: 175


1- سورة الطلاق: الآيتان 2 - 3
2- سورة البقرة: الآية 231

«فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ واخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ»: ثمّ ذكر الإسلام وفضائله تفسيرًا لطاعته فقال: «ثُمَّ إِنَّ هَذَا الإِسْلَامَ دِينُ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ»: أي طريقًا إلى معرفته ونیل ثوابه: «واصْطَنَعَهُ»: اختاره «عَلَى عَيْنِهِ»: وهي كلمة يقال لما يهتمّ به وكأنّه للصنعة الَّتي يختارها من عملت له ويشاهدها بعينه، ولفظ العين مجاز في العلم، وعلى تفيد الحال: أي على علم منه بشرفه وفضيلته ووجه الحكمة فيه، ونحوه قوله تعالى «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»(1) «وأَصْفَاهُ خِیَرَةَ خَلْقِه»: أي اصطفى للبعثة به وإليه خير خلقه محمّد صلى الله وآله وسلم، «وأَقَامَ دَعَائِمَهُ

عَلَى مَحَبَّتِهِ»: ولفظ الدعائم مستعار إمّا لأهل الإسلام أو لأركانه، ووجه المشابهة قيامه بها في الوجود كقيام الشيء المدعوم بدعائمه، وكلمة على للحال، والضمير في محبّته للإسلام، أي أقام دعائمه حال المحبّة له، وقيل بل الله كما تقول طبع الله قلبي على محبّته.

«أَذَلَّ الأَدْيَانَ بِعِزَّها»:. وذلَّها يعود إلى عود الالتفات إليها فيكون مجازًا من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب، أو ذلَّة أهلها، فيكون من باب حذف المضاف، وظاهر أنّ عزّ الإسلام سبب للأمرين.

«ووَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ»: لما ذكر «وأَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ»: وهم المشركون والمكذّبون له من الملل السابقة إهانتهم بالقتل، وأخذ الجزية والصغار لهم، وكرامته إجلاله وأجلال أهله وتعظيمهم في النفوس.

«وخَذَلَ مُحَادِّيهِ»: مخالفيه «بِنَصْرِهِ»: أي بنصر أهله وفي القرائن الأربع التضادّ: العزّ لذلّ، والرفع، والوضع، والكرامة والإهانة، والنصر والخذلان.

ص: 176


1- سورة طه: الآية 39

«وهَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلَلَةِ برُكْنِهِ»: وقوّته وأركانها تعود إلى العقائد المضلَّة في الجاهليّة أو إلى أهل الضلالة وهو مستعار، ووجها الاستعارة قيام الضلالة بتلك العقائد أو بأهلها كقيام الأركان بها وكذلك الهدم لزوال الضلالة بقوّة الإسلام وأهله.

«وسَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ»: استعار السقي لإفاضة علوم الدين على نفوسهم وكمالها بها، ولفظ العطش لما كانوا عليه من الجهل البسيط وعدم العلم وكذلك استعار لفظ الحياض لعلماء الإسلام الَّذين هم أوعيته وحياضه الَّتي ترده العطاش من العلوم والحكمة الدينيّة، «وأَتْأَقَ»: ملأ «الْحِيَاضَ بمَوَاتِحِهِ»: استعار المواتح إمّا للأئمّة من القرن الأول الآخذين للإسلام من الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم الَّذي هو الينبوع، أو لأفكار العلماء وسؤالاتهم وبحثهم عن الدين وأحكامه واستفادتهم بها، ووجه الاستعارتين كونهم مستخرجين للعلم، والدین عن مظانّه کما يستخرج الماتح الماء من البئر، ولفظ الحياض للمستفيدين.

«ثُمَّ جَعَلَهُ لَا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ»: مستعار لما يتمسّك الإنسان به منه، ناجيًا من الهلاك الأخرويّ والمرور اللاحقة للملل السابقة وكان عدم الانفصام مظنّة سلامة المتمسّك من الهلاك كنّی به عن دوام السلامة به.

«ولَا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ»: كناية عن عدم انقهار أهله وجماعته.

«ولَا انْهِدَامَ لأَسَاسِهِ»: استعار الأساس للكتاب والسنّة الَّذين هما أساس الإسلام، ولفظ الانهدام لاضمحلالهما، «ولَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ»: لعلمائه أو للكتاب والسنّة وقوانينها وأراد بعدم زوالهما عدم انقراض العلماء أو عدم القوانين الشرعيّة.

(1)«ولَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ»: إشارة إلى بقائه إلى يوم الدين.

ص: 177


1- ورد في بعض النسخ: ولَا انْقِطاعَ لِشَجَرَتِهِ

«ولَا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ»: قوانينه وأصوله وهو كقوله: لا انقلاع لشجرته.

«ولَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ»: أي لا ينقطع التفريع عليه بل كلّ ذهن سلیم فکَّر في أصوله وهي الكتاب والسنّة استخرج منها ما لم يستخرجه غيره.

«ولَا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ»: وكنّی بعدم الضيق عن عدم صعوبة قوانينه على أهل التكليف، أو لازم الضيق وهو مشقّة السالكين به إلى الله كما قال صلَّى الله عليه - وآله وسلم: بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحة.

«ولَا وُعُوثَةَ»: شدة «لِسُهُولَتِهِ»: كناية عن كونه في غاية العدل بين الصعوبة وبين السهولة المفرطة كما عليه أكثر الأديان السابقة من التشبيه، والتجسيم فإنّ سلوكها مع ذلك، وتصوّرها في غاية السهولة لكنّها طرق يبعد حصول المطالب الحقيقيّة، والوصول إلى التوحيد الخالص منها؛ فكانت في سهولها هذه الوعوثة.

«ولَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ»: بیاضه استعار الوضح لصفائه عن كدر الباطل الَّذي هو سواد ألواح نفوس الكافرين والمنافقين.

«ولَا عِوَجَ لِنْتِصَابِهِ»: استعار لفظ الانتصاب لاستقامته في إدّائه، إذ هو الصراط المستقيم في الدنيا.

«ولَا عَضَلَ»: لا عوجاج «فِي عُودِهِ ولَا وَعَثَ لِفَجِّهِ»: أي لا صعوبة لطريقته

«ولَانْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ»: كناية عن عدم خلو الأرض منهم.

«ولَا مَرَارَةَ لِحَلَاوَتِهِ»: وذلك أنّ حلاوة الإسلام الحقيقيّ في قلوب المتّقين لا يشوبها مرارة من مشقّة تكليف ونحوها لما يتصوّرونه من شرف غايتهم.

«فَهُوَ»: أي الإسلام «دَعَائِمُ»: وذلك إشارة إلى تعريفه بأجزائه وهي كالشهادتين

ص: 178

والعبادات الخمس کما ورد في الخبر: بنى الإسلام على خمس.

«أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا»: أي أبنيت الله اصولها فيه إشارة إلى أنه تعالى بناها على أسرار من الحقّ عميقة لا يهتدي إليها إلَّا آحاد الخلق وهو أسرار العبادات.

«وثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا ويَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا»: كثرت ماؤها إشارة إلى تعريفه من قبل مادّته وهي الكتاب والسنّة، واستعار لهما لفظ الينابيع نظرا إلى فيضان العلوم الإسلاميّة النقليّة والعقليّة عنهما كفيضان الماء عن الينابيع، ولفظ العيون لما صدرا عنه، وهو علم الله ونفوس ملائكته ونبيّه صلَّى الله عليه وآله وسلم، وظاهر غزارة تلك العلوم وكثرتها.

«ومَصَابِيحُ شَبَّتْ»: اوقدت «نِيرَانُهَا»: إشارة إلى مادّته أيضا باعتبار أنّ في الكتاب والسنّة أدلَّة أحكامها وبراهينها، واستعار لها لفظ المصابیح باعتبار کونها تضيء الطريق لخابطها إلى الله، ورشّح بذكر إضرام نيرانها.

«ومَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا»: جمع سافر بمعنى المسافر «وأَعْاَمٌ قُصِدَ بِهَا

فِجَاجُهَا»: إشارة إلى تلك المادة باعتبار أنّ فيها أمارات على أحكام الله الظنيّة يقتدى بها المسافرون السالكون إلى قصدها والقاصدون لطرقها الَّتي هي منصوبة عليها.

«ومَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا»: استعار المناهل لتلك الموادّ أيضًا باعتبار كونها من العلم لواردیها و مقتبسيه منها كما تروى ورّاد الحياض بمائها.

«جَعَلَ اللهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ»: وذلك في نحو قوله تعالى «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 179

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1) وقوله «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»(2) ولأنّ فيه أتمّ وسيلة إلى غاية الكمالات الإنسانيّة الَّتي هي منتهی مايرضاه الله ويحبّه من عباده.

«وذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ»: الضمير الله: أي لدعائم الَّتي جعلها الله له في إصلاح خلقه وهي الشرائع وقوانينها، وظاهرٌ أنّ الأنوار الَّتي جاء بها الإسلام والهداية الَّتي به أشرف وأعلى منها في سائر الشرائع فهو كالذروة لها.

«وسَنَامَ طَاعَتِهِ»: لفظ السنام مستعار لمجموع ما أشتمل عليه من الهدايا ووجه المشابهة شرفها أيضًا وعلوها بالنسبة إلى الطاعات السابقة عليه لشرف السنام بالنسبة إلى باقي الأعضاء.

«فَهُوَ عِنْدَ اللهِ وَثِيقُ الأَرْكَانِ»: هي أجزائه، ووثاقتها تعود إلى بنائها على الأسرار الحقيقيّة والعلم التام لواضعها بكيفيّة وضعها وكمال فائدتها بحيث لا يمكن انتفاضها وسرعة زوالها.

«رَفِيعُ الْبُنْيَانِ»: أي ما أرتقى أهله إليه من المجد والفضيلة، وظاهر علوّ قدره وقدر أهله وتعظيمهم في النفوس على سائر الأديان وأهلها.

«مُنِیرُ الْبُرْهَانِ»: أراد برهانه الَّذي دعى الخلق إليه وهو القرآن وسائر المعجزات، ولا شكّ في إنارتها وإضاءتها في أقطار العالم واهتداء أكثر الخلق بها.

«مُضِيءُ النِّيرَانِ»: أي أنواره من العلوم والأخلاق المضيئة على علمائه وأئمّته.

ص: 180


1- سورة المائدة: الآية 3
2- سورة آل عمران: الآية 19

«عَزِيزُ السُّلْطَانِ»: أراد قوّته وعزّة أهله ودولته وترقية من التجأ إليه به.

«مُشْرِفُ الْمَنَارِ»: وكنّى به عن علوّ قدر علمائه وأئمّته وانتشار فضلهم

والهداية بهم.

«مُعْوِذُ الْمَثَارِ»: أي يعجز الخلق إثارة دفائنه وما فيه من كنوز الحكمة ولا

يمكنهم استقصاء ذلك منه، وروى المنال: أي يعجز الناس إمّا بالإتيان بمثله

أو باستقصاء حكمه وثمراته، وروى المثال وهو ظاهر. ثمّ لمّا بیّن فضيلته أمر

بتعظيمه واتّباعه وأداء حقّه وهو العمل به مع اعتقاد شرفه وكونه مؤدّيا إلى الجنّة

فقال:

«فَشَرِّفُوهُ واتَّبِعُوهُ وأَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وضَعُوهُ مَوَاضِيعَهُ»: هي القلوب لا الألسن

والشعار الظاهر فقطَّ، ثمّ لمّا فرغ من ذلك شرع في فضائل من بعث به ليذكَّرهم

نعمة من الله بعد نعمة، وقرن ذكره بذكر أحوال الدنيا حن البعثة ليظهر شرفها

فقال:

«ثُمِّ إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلّم بِالْحَقِّ حِینَ دَنَا

مِنَ الدُّنْيَا الِنْقِطَاعُ وأَقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الِطِّلَاعُ»: وقد بيّنّا ذلك في قوله: ألا وإنّ

الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وعلى الجملة فيحتمل أن يريد قرب انقطاع الدنيا

وزوالها بالكلَّيّة وحضور الآخرة والقيامة الكبرى كما عليه ظاهر الشريعة ويحتمل

أن يريد قرب انقطاع دنيا كلّ أُمّة منهم وحضور آخرتهم بموتهم وانقراضهم ولفظ

الاطَّلاع استعارة كما سبق.

«فأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ»: بهجتها بأنوار الأنبياء السابقين وضياء

الشرائع، وإظلامها حن بعثة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم باندراس تلك

ص: 181

الآثار وفسادها.

«وقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ»: كناية عن ظهوره شدائدها وإثارة الفتن بين أهلها وما كانت العرب عليه من الخبط والاختلاف في الحروب والغارات المؤدّية إلى الفناء.

«وخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ»: وكنّی به عن عدم الاستقرار بها وطيب العيش فإنّ ذلك إنّما يتمّ ويعتدل بنظام الشرائع والنواميس الإلهيّة.

«وأَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ»: أي قرب انقيادها للزوال فِي «انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا واقْتِرَابٍ

مِنْ أَشْرَاطِهَا»: علاماتها وهي علامات الساعة وأشراطها.

«وتَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا»: كنّى بالحلقة عن نظامها واجتماع أهلها بالنواميس والشرائع وبانفصامها عن فساد ذلك النظام.

«وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا»: أي من أسبابه فأن التصرف النافع فيها إنما يتم بالنواميس الشرعية وقوانينها.

«وعَفَاءٍ مِنْ أَعْلَمِهَا»: استعارها للعلماء والصلحاء بها وكان عليهم العفاء

حينئذ «وتَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا»: كناية عن ظهوره الفساد فيها.

«وقِصَرٍ مِنْ طُولَهِا»: فإنّ الدنيا إنّما يكون طولها ودوامها عند صلاحها بالشرائع، وإن قصرها يكون عند فسادها وعدم النظام الشرعيّ. ثمّ رجع إلى تعديد فوائد بعثة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: «جَعَلَهُ اللهُ بَلَاغًا لِرِسَالَتِهِ»: كقوله عز من قائل «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا

ص: 182

بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(1)

«وكَرَامَةً لأُمَّتِهِ»: لكونه داعيا لهم إلى الكرامة الباقية التامّة وسبب للكرامة.

«ورَبِيعًا لأَهْلِ زَمَانِهِ»: وجه استعارة الربيع له كونه بهجة للمسلمين وعلمائهم

وسببًا لبطنتهم من العلم والحكمة كما أن الربيع سبب لبهجة الحيوان بمراعيها

وبطنتهم وسمنهم.

«ورِفْعَةً لأَعْوَانِهِ»: أي لأعوان الله «وشَرَفًا لأَنْصَارِهِ»: وهم المسلمون وظاهر

كونه صلَّى الله عليه وآله وسلم سبب رفعتهم وشرفهم، ثمّ عقّب بذكر بعض

الأنوار الَّتي بعث بها صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو الكتاب العزيز، وعدّد

فضائله فقال:

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُورًا لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ»: أراد نور العلم والأخلاق

المشتمل عليها، واستعار لفظ المصابيح إمّا لما انتر من علومه وحكمه فاقتدى

بها الناس، وإمّا لعلمائه وحامي فوائدها.

«وسِرَاجًا لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ»: أي لا ينقطع هداية الناس به وهو كالأوّل.

«وبَحْرًا لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ»: لفظ البحر مستعار له باعتبارين: أحدهما عمق أسراره بحيث لا يحيط بها الأفهام ولا تصل إلى أغوارها العقول كما لا يدرك الغائض قعر البحر العميق. والثاني: كونه معدنا لجواهر العلوم النفيسة والفضائل كما أنّ البحر معدن للجواهر.

«ومِنْهَاجًا لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ»: ظاهر كونه طائعًا واضحًا لمن سلك به إلى الله

ص: 183


1- سورة المائدة: الآية 67

وتفهم مقاصده لا يضلّ قصده.

«وشُعَاعًا لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ»: أي لا يغطَّى الحقّ الوارد به ظام شبهة ولا تلبيس

باطل، ولفظ الشعاع والضوء والظلمة مستعار.

«وفُرْقَانًا لَا يُحْمَدُ بُرْهَانُهُ»: أي فيه براهن يفرق بین الحقّ والباطل لا يخمد،

ولفظ الخمود مستعار ملاحظة لشبه البرهان بالنار في الإضائه فنسب إليه وصفها.

«وتِبْيَانًا لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ»: استعار البنيان لما انتظم في الكتاب ورشّح بذكر

الأركان لاستلزام البنيان لها.

«وشِفَاءً لَا تْخُشَى أَسْقَامُهُ»: كما قال تعالى «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ»(1) وظاهر كون تدبّره وأسراره شفاء للنفوس من أعراض

الجهل ورذائل الأخاق، وذلك شفاء لا يخاف استعقابه بمرض وذلك أنّ

الفضائل النفسانيّة إذا صارت ملكات لم تزل ولم يتبدّل بأضدادها وإن كان أيضا

شفاء للأبدان كما سبق.

«وعِزًّا لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وحَقًّا لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ»: وأنصاره، وهم المسلمون

المعتزّون به، والملتجئون إليه العاملون عى، وفقه السالكون به إلى الله، وظاهر أنّ أولئك الأنصار والأعوان لا يهزمهم أحد ولا يخذلهم الله أبدا.

«فَهُوَ مَعْدِنُ الإِيمَانِ»: الَّذي يستنار منه الإيمان الكامل بالله ورسوله وبما جاء به.

«وبُحْبُوحَتُهُ»: وظاهر كون اعتقاد حقّيته وتفهّم مقاصده والعمل بها واسطة

عقد الإيمان.

ص: 184


1- سورة الإسراء: الآية 82

«ويَنَابِيعُ الْعِلْمِ وبُحُورُهُ»: هذان اللفظان استعارة له باعتبار كونه محلّ فيض العلوم النفيسة واستفادتها منه.

«ورِيَاضُ الْعَدْلِ وغُدْرَانُهُ»: واللفظان له باعتبار کونه اصلًا موردًا للإسلام بني على أحكامه وبه يقوم کما أن الأثافي للقدر وهي ثلاثة أحجار توضع تحته زمان أيقاد النار، والتبيان لما يحمل عليه.

«وأَثَافِيُّ الإِسْاَمِ وبُنْيَانُهُ»: واللفظان مستعاران له باعتبار کونه أصلًا للإسلام يبتنى عليه، وبه يقوم کما أنّ الأثافيّ للقدر والبنيان لما يحمل عليه.

«وأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وغِيطَانُهُ»: وهذان أيضًا مستعاران له باعتبار کونه معدنًا للحقّ ومظنّة له كما أنّ الأودية والغيطان وهو جمع غایط بمعنى الواسع من الأرض مظانّ الكلاء والماء.

«وبَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وعُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ»: إنّما کرّر استعارة البحر والعيون له باعتبار آخر وهو كونه لا ينتهي فوائده والمقاصد المستنبطة منه وكذلك.

«ومَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ»: النضوب بالعيون لإمكان ذلك فيها دون البحر والورود بالمناهل وهو غاية ورود الماء.

«ومَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ»: أي مقامات من العلوم إذا نزلتها العقول المسافرة إلى الله لا تضلّ لاستنارتها وشدّة إضاءتها وكذلك.

«وأَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وآكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ»: استعار الأعلام والآكام للأدلَّة والأمارات فيه على طريق إلى معرفته وأحكامه باعتبار كونها هادية إليها كما تهدى الأعلام الطرق.

ص: 185

«جَعَلَهُ اللهُ رِيًّا لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ»: استعار لفظ الريّ له باعتبار كونه دافعًا ألم

الجهل عن النفوس كما يدفع الماء ألم العطش، ولفظ العطش للجهل البسيط أو

لاستعداد الطالبن للعلوم واشتياقهم إلى الاستفادة، وأطلق لفظ الريّ على المروى

مجازا إطلاقا لاسم الازم عى ملزومه.

«ورَبِيعًا لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ»: لفظ الربيع مستعار له باعتبار كونه مرعى لقلوب

الفقهاء يستثمرون منه الأحكام، وبهجة لها كالربيع للحيوان.

«ومَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ»: وظاهر كونه طريقًا واضحا للصالحين إلى الله.

«ودَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ»: كقوله: شفاء لا يخشى سقامه.

«ونُورًا لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ»: أي لا تبقى مع هدايته إلى الأحكام ظلمة على البصیرة، وهو كقوله: وشعاعًا لا يظلم نوره.

«وحَبْلًا وَثِيقًا عُرْوَتُهُ»: استعار لفظ الحبل له والعروة لما يتمسّك به منه،

وكنّى بوثاقة عروته عن كونه منجيًا لمن تمسّك به.

«ومَعْقِلًا مَنِيعًا ذِرْوَتُهُ»: استعار لفظ المعقل باعتبار كونه ملجأ من الجهل

ولوازمه وهو العذاب، ورشّح بذكر الذروة وكنّى بمنعتها عن كونه عزيزا يمنع

من لجأ إليه.

«وعِزًّا لِمَنْ تَوَلَّهُ»: أي اتّذه وليّا يلقى إليه مقاليد أموره ولا يخالفه، وظاهر

كونه سبب اقتباسها وبذلك الاعتبار عزه في الدارين.

«وسِلْمًا لِمَنْ دَخَلَهُ»: أي أمنا ودخوله: الخوض في تدبّیر مقاصده واقتباسها،

وبذلك الاعتبار يكون منافيًا من عذاب الله ومن الوقوع في الشبهات الَّتي هي

ص: 186

مهاوي الهلاك.

«وهُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ»: وهو ظاهر.

«وعُذْرًا لِمَنِ انْتَحَلَهُ»: أي من نسبه إلى نفسه بدعوى حفظه أو تفسره ونحو

ذلك معتذرًا بذلك من تكليف لا يليق به أو يشقّ عليه، وهذا كمال يقال لمن

يقصد إنسانا بأذى: لا ينبغي لك أن تؤذيه فإنّه من حملة القرآن الكريم أو ممّن

يعلم علومه فيكون ذلك سببا لرك أذاه «وبُرْهَانًا لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وشَاهِدًا لِمَنْ خَاصَمَ

بِهِ وفَلْجًا لِمَنْ حَاجَّ بِهِ»: هذه الثلاثة متقاربة، وأطلق لفظ الفلج عليه من جهة ما يحتجّ به إطلاقا لاسم الغاية على ذي الغاية إذ غاية الاحتجاج به الفوز، والشاهد والحجّة أعمّ من البرهان.

«وحَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ»: أي يحمل يوم القيامة حملته وحفظته الآن، وعبّر بحمله

لهم عن إنجائه لهم من العذاب اطلاقًا لاسم السبب عى المسبّب.

«ومَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ»: استعار له لفظ المطيّة باعتبار كونه منجيًا لهم كقوله:

حاملًا ولفظ الأعمال لاتّباع قوانينه والمواظبة عليها المنجية من العذاب كما ينجى إعمال المطيّة في الطريق البعيد.

«وآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ»: وذلك باعتبار تدبّر أمثاله وقصصه فإنّ فيها آيات وعبرًا

كما قال تعالى «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ»(1).

«وجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلأَمَ»: أي لمن استلأمه ولبسه كالدرع، واستعار له لفظ الجنّة

لوقايته من استعدّ بعلمه من عذاب الله، وكنّى باستلئامه عن ذلك الاستعداد.

ص: 187


1- سورة الحجر: الآية 75

«وعِلْمًا لِمَنْ وَعَى»: أي لمن حفظه و فهم مقاصده.

«وحَدِيثًا لِمَنْ رَوَى»: وذلك باعتبار ما فيه من القصص وأخبار القرون الماضية فإنّ أصدق حديث يروى منها ما اشتمل عليه القرآن، ويحتمل أن يريد كونه قولًا كونه قولًا وكمالًا لمن نقله كما قال وهو أصدق القائلین «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ»(1) وتكون فائدة هذا الوصف أنّ فيه غنية لمن أراد أن يتحدّث بحديث غيره ممّا لا يفيد فائدته فينبغي أن يعدل إليه ويشتغل بتلاوته والتحدّث به.

«وحُكْمًا لِمَنْ قَضَى»: أي فيه الأحكام الَّتي يحتاج إليها القضاة، وروى حكمًا:

أي حاكمًا ترجع إليه القضاة ولا يخرجون عن حكمه وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام كان يوصى به أصحابه: بالمحافظة على أمور ثلاثة:

تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّاَةِ وحَافِظُوا عَلَيْهَا»: وذلك بافتقار الإنسان أحوال نفسه حال الصلاة ومراقبتها حذرا أن تشوبها نزغات الشيطان ثمّ بالمحافظة على أوقاتها وأداء أركانها كما هي.

«واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وتَقَرَّبُوا بِهَا»: إلى الله لكونها أفضل العبادات والقرب إليه؛ ثم أشار إلى فضيلتها ووجه وجوبها:

أحدها: قوله: «فَإِنَّهَا كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ كِتابًا مَوْقُوتاً»: أي مفروضاً، وقيل منجّمًا في كلّ وقت صلاة معيّنة.

أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَی جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِیَن سُئِلُوا «مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ

ص: 188


1- سورة الزمر: الآية 23

نَكُ مِنَ الْمُصَلِّینَ»(1)»: فيه تحذير لتاركها بالتنبيه عى استلزام تركها لدخول النار.

«وإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ»: تشبيه للمعقول بالمحسوس ووجه

الشبه ظاهر.

«وتُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ»: أي وتطلق أعناق النفوس من أغلالها كما تطلق

الربقة من عنق الشاة.

««وشَبَّهَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه -وآله - وسلّم بِالْحَمَّةِ»: أي الحفيرة التي فيها الحميم وهو الماء الحار.

«التي تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ والليْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا

عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ»: لفظ الحديث أيسّر أحدكم أن يكون على بابه جمّة يغتسل منها كلّ يوم خمس مرّات فلا يبقى عليه من درنه شيء فقالوا: نعم. قال: فإنّها الصلوات الخمس.

«وقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ ولَا

قُرَّةُ عَیْنٍ مِنْ وَلَدٍ ولَا مَالٍ»: وهم الذين «يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ»: في شانهم ««رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»(2) وكَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم نَصِباً»: أي كثیر التعب «بِالصَّلَاةِ بَعْدَ التَّبْشِرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(3)» وامتثاله لذلك الأمر في نفسه وأهله «فَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بها ويُصْبِرُ عليها نَفْسَهُ»: وروي أنه صلى الله عليه

ص: 189


1- سورة المدثر: الآية 42
2- سورة النور: الآية 37
3- سورة طه: الآية 132

[وآله] وسلم قام في الصاة حتى تورمت قدماه، فقيل له في ذلك. فقال: أفلا

أكون عبدًا شكوراً، وذلك من أوضح الدلائل عى كثرة فوائدها وقوّة فضيلتها،

واعلم أنّه قد ورد في فضلها أخبار كثیرة بعد تأكيد القرآن للأمر بها، وقد بيّنّا

ذلك وأشرنا إلى فضيلتها إشارة مستوفاة في الفصل الَّذي أوّله: إنّ أفضل ما

يتوسّل به المتوسّلون إلى الله سبحانه الإيان به وبرسوله.

«ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّاَةِ قُرْبَاناً»: يتقرب بها إلى الله «لأَهْلِ الإِسْلَامِ»:

أشار إلى سرّ الجعل المذكور وسنبيّ ذلك.

«فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا»: بإعطائها «فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً»: ساترة

ماحتة لذنوبه «ومِنَ النَّارِ حِجَازاً»: منعًا «ووِقَايَةً فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ»: أي لا

يجعلنها تبعة نفسه «ولَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهفَهُ»: حسرته «فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَیْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا»: من الثواب الآخروي «فَهُوَ جَاهِلٌ

بِالسُّنَّةِ مَغْبُونُ الأَجْرِ ضَالُّ الْعَمَلِ طَوِيلُ النَّدَمِ»: فيه إشارة إلى شرط كونها مقرّبة

إلى الله تعالى وبيان كون قبولها مشروطًا بطيب النفس ببيان سرّها، وقد عرفته أيضًا في ذلك الفصل وعلمت أنّ من أقسام المستنزلين على المال من اقتر منه على أداء الواجب من الزكاة من غر زيادة ولا نقصان وهم العوامّ لجهلهم برّ البذل

وبخلهم بالمال وميلهم إليه من ضعف حبّهم للآخرة قال تعالى «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها

فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ»(1) فظاهرة الفرق الَّذين ذكرناهم مّمن استنزل

عن المال، ومحابسّهم وقربهم من الله تعالى وبعدهم بقدر طيب أنفسهم عن بذل

المال والإعراض عنه ومحبّته، وهذه الفرقة أعني من اقتر معهم عى أداء الواجب فقط تنقسم إلى مؤدّ لذلك الحقّ بطيب نفس ومسامحة، وإلى مؤدّ له مع بقاء محبّته

ص: 190


1- سورة محمد: الآية 37

وتكدير النفس ببذله وتلهّف عليه أو انتظار جزاء له، وباعتبار القسمين الأوّلین مع القسم الأوّل من هذه الفرقة يكون بذل المال والزكاة قربة كما أشار إليه عليه السلام لاستلزامه رفض هذا المحبوب الَّذي يتصوّر بإذنه أنّ جميع الكمالات الدنيويّة يستفاد منه رغبة عنه، ومحبّة لله ورغبة فيما عنده، وتكون كفّارة ماحية لرذيلة البخل وما يستلزمه من الذنوب، ويكون حجابًا بن العبد وبن عذاب الله. إذا علمت أنّ مبدأ العذاب في الآخرة حبّ الدنيا وأعظمه حبّ المال فإذا كان بذل المال مستلزماً لزوال حبّه كان بذلك الاعتبار حجاباً من العذاب ووقاية منه، وأمّا إيتاء الزكاة عى الوجه الثاني فهو المذموم والمنهيّ عنه بقوله: ولا يكثرنّ عليها لهفه؛ بعد أمره بها في قوله: فا يتبعنّها أحد نفسه، ويلزم باذلها عى ذلك الوجه النقائص المذكورة: وهي الجهل بالسنّة فإنّ السنّة في أدائها أن يؤدّى بطيب نفسه ومسامحة، وأن يكون مغبونًا في الأجر؛ فإنّ إيتانها على وجه توقّع جزاء لها لا على، وجه القربة إلى الله غر مستلزم لرضوانه، وذلك هو الغبن، وإن حصل له جزاء غیر رضوان الله؛ فإنّ الحصول على كلّ جزاء غیر رضوانه جزاء ناقص، وغبن فاحش بالتشبيه إليه، وأن يكون ضالّ العمل، وهو إعطاؤه ذلك المال، وبذله على غیر وجهه وقصده به غر سبيل الهدى إلى رضوان الله، وأن يكون طويل الندم: أي

في محبّة المال، وفيا يرجوه به من الجزاء.

«ثُمَّ أَدَاءَ الَأمَانَةِ»: الَّتي أشار إليها القرآن الكريم بقوله «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»(1) وقد بيّنّا فيما سلف أنهّا تعود إلى العبادة، والطاعة

المطلوبة من الإنسان بما هو إنسان، وظاهر أنّها لا يمكن من غره؛ فإنّه إنّما

ص: 191


1- سورة الأحزاب: الآية 72

حملها من حيث خلق مستصلحًا لله لدينه، وبيان ذلك: أنّ مخلوقات الله تعالى؛

إمّا جمادات أو ذات حياة، وذوات الحيات إمّا الملائكة والحيوان الأرضي، والحيوان

الأرضي إمّا أعجم أو ناطق.

فالحيوان منها، وهو الإنسان هو المتأهّل لعمارة الدارين، والكون فيها، وهو

الواسطة بین خلقین، وضيع، وهو الحيوان الأعجم، وشريف وهو الملك، وقد

استجمع قوّتي العاملین؛ فهو كالحيوان في الشهوة، والغضب، وقوّة التناسل وسائر

القوى البدنيّة المختصّة بالحيوان، وكالملك في القوّة المجرّدة، والعقل، والعلم

والعبادة، وسائر الكمالات النفسانيّة، ووجه الحكمة في ذلك أنّه تعالى لمّا اقتضت عنايته إيجاده لهذه العبادة المخصوصة أن يجعل في الأرض خليفة لعمارتها جمع له بن القوّتین؛ فإنّه لو كان كالبهيمة خالياً عن العقل لم يتأهّل لمعرفته، وعبادته الخاصّة، ولو خلق كالملك معرّى عن الشهوة، والغضب، وسائر القوى البدنيّة لم يصلح

لعمارة أرضه وخلافته فيها ولذلك قال للملائكة «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(1) فإذن هذه العبادة الخاصّة، وهي الأمانة المشار إليها لا يصلح لها إلَّا الإنسان ولا يمكن من غيره، وقد علمت أيضًاً فيما سلف أنّ إباء السماوات والأرض، والجبال عن حملها يعود إلى امتناع قبولها بلسان حال قصورها، وعدم صلاحيّتها لها، وإشفاقها

من عقوبة الله عى التقصر عن أداء حقوقها كما أشار إليه أمر المؤمنین عليه السّلام بقوله: أشفقن من العقوبة، ولم يكن ذلك إباء استكبار لخضوعها تحت ذلّ الحاجة إليه، ولفظ الإشفاق مجاز في ثمرته، ولازمه وذلك أنّ السلطان مثلاً إذا كلَّف بعض رعيّته حمل أمانة تكليف تخير؛ فخاف ذلك المكلَّف العقوبة على تقصره في أداء تلك الأمانة؛ فإنّ خوفه يستلزم تركه، وامتناعه من حمله؛ فكان الامتناع من الأمانة

ص: 192


1- سورة البقرة: الآية 30

مسبّبًا عن الإشفاق؛ فأطلق الإشفاق هنا على إباء السماوات والأرض بلسان حالها مجازًا إطلاقًا الاسم السبب على المسبّب وقيل: إنّ ذلك الإباء، والإشفاق على، وجه التقدير وإنّما جيء بلفظ الواقع لأنّ الواقع أبلغ منه أي: لو كانت هذه الأجرام عاقلة؛ ثمّ عرضت عليها، وظائف الدين عرض تخيير لاستثقلت ذلك مع كبر أجسامها، وشدّتها، ولأمتنعت من حملها؛ إشفاقا من القصور عن أداء حقّها؛ ثمّ إنّ مخاطبة الجماد، والإخبار عنها نظرا؛ إلى قرينة الحال طريقة مشهورة للعرب، ومستحسنهم في تعارفهم كقولهم: يا دار ما صنعت بك الأيّام، ونحوه بل مخاطبة بعض الجمادات لبعض بلسان أحوالها كقولهم: قال الحائط للوند: لم تشقّني قال : سل من يدقّني، ونحو ذلك كثير؛ فأمّا قوله عليه السّلام:

«فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا»: فتلك الخيبة تعود إلى حرمان ثمرة هذه العبادة وما يستلزمه من الحصول على الكمالات، إذ ليست من أهلها ثم قال:

«إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ والأَرَضِینَ الْمَدْحُوَّةِ»: أي المبسوطة «والْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ فَلَا أَطْوَلَ ولَا أَعْرَضَ ولَا أَعْلَى ولَا أَعْظَمَ مِنْهَا»: تنبيهًا للإنسان على جرأته على المعاصي، وتضييع هذه الأمانة إذ أهلّ لها وحملها، وتعجّب منه في ذلك؛ فكأنّه يقول: إذا كانت هذه الأجرام العلويّة الَّتي لا أعظم منها قد امتنعت من حمل هذه الأمانة حين عرضت عليها فكيف حملها من هو أضعف منها ثم قال:

«ولَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّة أَوْ عِزٍّ لَمْتَنَعْنَ»: إشارة إلى أنّ امتناعهنّ لم يكن لعزّة وعظمة أجساد ولا استکبار عن الطاعة له، وأنّه لو كان كذلك لكانت أولى بالمخالفة عن كلّ شيء لأعظميّة أجرامها على كلّ المخلوقات.

ص: 193

«ولَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وهُوَ الإِنْسَانُ»: قيل: إنّ الله تعالى عند خطابها خلق فيها فهمًا وعقلاً، وقيل: إنّ إطلاق العقل مجاز في مسبّبه، وهو الامتناع عن قبول هذه الأمانة كلفظ الإشفاق فإنّ عقليّة المكلَّف العقوبة على التقصر في تكليف يخیّر فيه، ويخاف التقصر يستلزم تركه لذلك التكليف واستقالته منه، وإذ لم يكن لها عقل من جهة ما هي أجرام أطلق لفظ العقل عى لازمه، وثمرته وهو الامتناع، والإباء مجازًا إطلاقًا لاسم السبب على المسبّب كإطلاق لفظ الإرادة على ميل الحائط في قوله تعالى «جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ»(1) وقيل: يحتمل أن يعود الضمر في أشفقن، وعقلن إلى من يعقل من الملائكة السماويّة؛ إذ لكلّ جرم سماويّ ملك يدبّره هو كالبدن له لإمكان ذلك فيها دون سائر الأجرام الأرضيّة.

««إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»(2)»: وما جهله الإنسان هو عظمة الله وغاية هذه

الأمانة، وتقصره في أداء واجباتها المستلزم لعقوبته، واستحقاق سخط الله، وكونه ظلوماً: أي كثر الظلم لنفسه لعدم محافظته عى هذه الأمانة، وكونه جهولا:

أي كثر الجهل بأسرار هذه الأمانة، والغفلة عمّا يستلزمه فعلها، وتركها وعن

الوعيدات الواردة عى التقصر فيها.

«إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ»: مكتسبون «فِي لَيْلِهِمْ

ونَهَارِهِمْ لَطُفَ بِهِ خُبْرًا وأَحَاطَ بِهِ عِلْماً»: فيه تنبيه لهذا الظلوم الجهول على إحاطة

علم الله تعالى بجميع أحواله واكتساباته في ليله ونهاره، وأنّه لطيف الخبر والمعرفة بها ينفذ علمه في البواطن كما يقع على الظواهر.

ص: 194


1- سورة الكهف: الآية 77
2- سورة الأحزاب: الآية 72

«أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ»: أي شهود له عليكم من قوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1).

«وجَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ»: وذلك باعتبار كونها معينة عليهم «وضَمَائِرُكُمْ عُيُونُهُ»:

أي طلائعه وجواسيسه كقوله تعالى «وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ»(2) وتلك الشهادة والإعانة بلسان الحال، وقد عرفت كيفيّة إنطاق الجوارح، وشهادة النفوس على أنفسها.

«وخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ»: كنّى بالخلوات عمّا يفعل فيها من معاصي الله مجازاً، وإنّما

خصّصها لأنّها مظنّة المعاصي، ويحتمل أن يريد بالخلوة مصدر قولك: خلوت

خلوا. فيكون حقيقة، وظاهر كونه عيانا لله: أي معاينة له، وكلّ ذلك تحذير، وتنفير عن تحريك الجوارح، والخلوة بها فيما لا ينبغي من المعاصي وبالله والعصمة.

ومن كلام له عليه السّلام

«واللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي»: أي ليس بأقدر مني على فعل الدنيا وهو استعمال العقل والرأي الجيّد؛ فيما يراد فعله ممّا لا ينبغي مع إظهار إرادة غیره، ويسمّى صاحبه داهيا، وداهية للمبالغة، واكد ذلك بالقسم البار.

«ولَكِنَّهُ يَغْدِرُ ويَفْجُرُ»: إشارة إلى لازم الدهاء التي لأجلها تركه وهو الغدر وبواسطته الفجور؛ فأن الوفاء لما كان نوعًا تحته العفة كان الغدر عن نفسه لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ثم جعل الغدر، واسطة في أثبات الفجور لمعوية بقياس ضمه من الشكل الأول، فقوله: ولكنه يغدر في صغرى القياس وقوله يفجر في قوة

ص: 195


1- سورة النور: الآية 24
2- سورة الأنعام: الآية 130

النتيجة؛ فكأنه قال ولكنه يغدر وكل من يغدر؛ فهوا يفجر، والنتيجة فهو أذن يفجر.

«ولَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ ولَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وكُلُّ

فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ»: فيه تنبيه على لزوم الكفر له بقياس آخر من الشكل الأوّل نبّه على صغراه بقوله: وكلّ غدرة فجرة، وعلى كبراه بقوله: وكلّ فجرة كفرة، وإذ ثبت في القياس الأوّل أنّه فاجر واستلزم قوله: وكلّ فجرة كفرة أن كلّ فاجر کافر ثبت بهاتين المقدّمتين أنّه كافر. وروي: غدرة، وفجرة، وكفرة. وهو كثير الغدر والفجور والكفر وذلك أصرح في إثبات المطلوب، وقيل وجه لزوم الكفر أنّ هنا الغادر على وجه استباحة ذلك واستحلاله، كما كان هو المشهور من حال عمرو بن العاص ومعاوية في استباحة ما علم تحريمه بالضرورة من دين محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم وجحده وهو معنى الكفر، ويحتمل أنّه يريد كفر نعم الله وسترها بإظهار معصيته كما هو المفهوم اللغويّ من لفظ الكفر. وإنّما وحّده ليتعدّد الكفر بحسب تعدّد الغدر فيكون أدعى إلى النفار عن الغدر، إذ هو في معرض التنفير.

«ولِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»: لفظ الخبر النبويّ، وفيه تنفير عن رذيلة الغدر.

«واللهِ مَا اُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ»: أي أخذ فلا تقریر وتأكيد لما ذكرناه من معرفته بوجوه الآراء وكيفيّة الدهاء للداهي فإنّ ما يكون كذلك لا يلحقه غفلة عمّا يعمل عليه من الحيلة والمكيدة.

«ولَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ»: أي لا يطلب غمزي وإضعافي فإنّي لا أضعف عمّا أُرمی به من الشدائد، وروی بالراء أي لا استجهل بشدائد المكائد، وهذا الكلام صدر منه عليه السّلام کالجواب لما كان يسمعه من أقوال الجاهلين بحاله ونسبتهم

ص: 196

له إلى قلَّة التدبر وسوء الرأي ونسبة معاوية إلى استخراج وجوه المصالح، والآراء الصحيحة في الحرب وغيرها.

فاعلم أنّ الجواب عن هذا الخيال يستدعى؛ فهم حاله عليه السّلام وحال

معاوية وغره ممّا ينسب إلى جودة الرأي، وبيان التفاوت بينهم وبينه وذلك راجع

إلى حرف واحد وهو أنّه عليه السّلام كان ملازمًا في جميع حركاته قوانن الشريعة

مدفوعًا إلى اتّباعها ورفض ما العادة أن يستعمل في الحروب.

فالتدابیر من الدهاء والخبث والمكر والحيلة والاجتهادات في النصوص

وتخصيص عموماتها بالآراء وغیر ذلك ممّا لم ترخص فيه الشريعة، وكان غیره

يعتمد جميع ذلك سواء وافق الشريعة أو لم يوافق فكانت وجوه الحيل والتدبیر

عليهم أوسع، وكان مجالها عليه أضيق، ونقل عن أبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في هذا المعنى كلام طويل خلاصته أن قال: إنّ ربّما رأيت بعض من يظنّ بنفسه العقل والعلم وأنّه من الخاصّة، وهو من العامّة، ويزعم أنّ معاوية كان أبعد غورا وأصحّ فكرا وأجود مسلكا من عليّ وليس الأمر كذلك، وساؤمى إلى موضع غلطه، وذلك أنّ عليّاً عليه السّلام كان لا يستعمل في حروبه إلَّا ما يوافق الكتاب والسنّة، وكان معاوية يستعمل ما يخالفهما كاستعماله ما يوافقهما، ويسر في الحرب بسیرة ملك الهند إذا لا في كسرى، وكان عليّ يقول لأصحابه: لا تبدؤهم بالقتال حتّى يبدؤكم ولا تتّبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا بابا مغلقا، هذه سیرته في ذي الكلاع وفي أبي الأعور السلمي وفي عمرو بن العاص وفي حبيب بن مسلمة وفي جميع الرؤساء كسرته في الحاشية والأتباع، وأصحاب الحروب إنّما

يقصدون الوجه الَّذي به هاك الخصم وينتظرون وجه الفرصة للشريعة كالحريق والغريق ودفق السموم والتضريب بن الناس بالكذب وإلقاء الكتب في العسكر

ص: 197

أو موافقا لها فمن اقتر في التدبر على الكتاب، والسنّة فقد منع نفسه الطويل

العريض من التدبر وما لا يتناهى من المكائد، والصدق والكذب أكثر من الصدق وحده والحال والحرام أكثر من الحال وحده؛ فعيّ عليه السام كان مستلجمًا بلجام الورع عن جميع القول إلَّا ما فيه لله رضى، وممنوع اليدين من كلّ بطش إلَّا بما دلّ عليه الكتاب والسنّة دون أصحاب الدهاء والمكر والمكائد فلمّا رأت العوامّ نوادر معاوية في المكائد وكثرة معايبه في الخديعة وما تهيّأ له ولم يروا مثل ذلك من عليّ ظنّوا القصور فظنّهم أنّ ذلك من رجحان عند معاوية، ونقصان في عليّ؛ ثمّ انظر بعد ذلك كلَّه هل يعدّ لمعاوية من الخداع أكبر من رفع المصاحف، ثمّ انظر هل خدع بها إلَّا من على رأي عليّ عليه السام، فقد صدقت ولكن ليس ذلك محل النزاع ولم يختلف في غرارة أصحاب عليّ، وعجلتهم، وتسرّعهم وتنازعهم، وإنّما كان ذا البحث في التمييز بينه، وبن معاوية في الدهاء، والمكر وصحّة العقل والرأي؛ فهذه خلاصة كلامه، ومن تأمّله بعن الأنصاف علم صحّته وصدقه، ومن هذا يتبیّن لك الجواب عن كلّ ما نسب إليه من التقصر في خلافته كعدم إقراره لمعاوية على الولاية في أوّل خلافته ثمّ يعزله بعد ذلك لما يستلزم تقريره من الظلم، وكشبهة التحكيم، وكنسبتهم له إلى التوحّش لبعض أصحابه حتّى فارقوه إلى معاوية كأخيه عقيل وشاعره النجاشي ومصقلة بن هبرة، وكتركه لطلحة والزبر حتّى فارقاه وخرجا إلى مكَّة وأذن لهما في العمرة وذهب عنه الرأي في ارتباطهما عنده ومنعه لهما من البعد عنه، وأمثال ذلك فإنّ الأنصاف عند اعتبار حاله في جميع ما نسب إليه يقتى موافقته للشريعة وعدم خروجه عنها. وتفصيل الأجوبة عن ذلك ممّا يخرج عن الغرض، وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام: في ترغيب أصحابه السالكين لطريق الهدى في

ص: 198

البقاء على ما هم عليه.

«أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ»: ومن العادة أن يستوحش الناس من الوحدة وقلَّة الرفيق في الطريق الطويل الصعب فنهی عن الاستيحاش في تلك الطريق، وكنّی به عمّا عساه يعرض لبعضهم من الوسوسة بأنّهم ليسوا على حقّ لقلَّتهم وكثرة مخالفيهم لأنّ قلَّة العدد في الطريق مظنّة الهلاك والسلامة مع الكثرة ونحو ذلك فنبّههم على أنّهم في طريق الهدى وإن كانوا قليلين، ثم نبه على قلة أهل طريق الحق وهو اجتماع الناس على الدنيا فقال: «فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِرٌ وجُوعُهَا طَوِيلٌ»: استعار لها المائدة ملاحظة تشبهها في كونها مجتمع اللذّات، وكنّی عن قصر مدّتها بقصر شبعها، وعن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل في الآخرة بطول جوعها، ولفظ الجوع مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت إلى المطاعم الحقيقيّة الباقية من الكمالات النفسانيّة الفانية بسبب الغفلة في الدنيا؛ فلذلك نسب الجوع إليها، ويحتمل أن يكون مستعارًا لما تتلهّف عليه النفس وتتأسّف بعد المفارقة من اللذّات الدنيويّة الَّتي لا تحصل عليها بعد الموت أبدا فيطول جوعها منها، وراعي المقابلة فالجوع بإزاء الشبع والطول بإزاء القصر.

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا والسُّخْطُ»: أي إنّما يجمع الناس في عذاب الله رضاهم بالمنكرات ومعاصي الله وإن لم يباشرها أكثرهم وسخطهم لمحابة من الأعمال، ومصداق ذلك قصة ثمود في عموم العذاب لهم بفعل عاقر الناقة؛ فإنّهم بأسرهم ما فعلوا ذلك؛ «وإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ

لَّمَا عَمُّوهُ بِالرِّضَا»: الضمير للرجل أو للعقر فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «فَعَقَرُوها»(1) نسب

ص: 199


1- سورة الشعراء: الآية 157

الفعل إلى جميعهم لرضاهم به. «فَأَصْبَحُوا نادِمِینَ»(1) وإلى ما ذكره عليه السلام أشار الله تعالى بقوله «واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(2) وظاهر أنّ الراضي بفعل شريك فاعله وفي قوّته، وكذلك إنّما يجمع الله الناس في رحمته باجتماعهم على رضا محابة وسخط كارهه.

«فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ، خُوَارَ السِّكَّةِ»: الحديد التي يثار

الأرض في طرف خشبة.

«الْمُحْمَاةِ»: التي أحمت بالنار «فِي الأَرْضِ الْخَوَّارَةِ»: اللينة نفسه للعذاب اللاحق لهم المشار إليه بقوله «فأصبحوا نادمین» فأخذهم العذاب، وقد فسّره القرآن الكريم أيضًا في قوله «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ»(3) فبینّ عليه السّلام كيفيّة ذلك وشبّه صورة أرضهم في خسوفها وذهابها بصورة في الأرض المذكورة، وإنما قال المحماة تنبيهًا على قوّة تصويتها وسرعة غوصها لأنّ المحماة يكون لها في الأرض كشيش زائدة عى ما تقتضيه حركتها ويعينها الحمى عى النفوذ. فأمّا قصّة ثمود فالمنقول أنّهم خلفه عاد في الأرض بعد هلاكهم عنها فكثروا وعمّروا أعمارا طويلة حتّى كان الرجل يبنى المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتّوا البيوت في الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش؛ فعتوا عن أمر الله، وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان. فبعث الله إليهم صالحًا وكانوا قومًا عربًا وصالح من أوسطهم نسبًا فدعاهم إلى الله

فلم يتّبعه إلَّا قليل منهم مستضعفون؛ فحذّرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال: أيّة آية

تريدون؟. فقالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم من السنة تدعو إلهك وندعو

ص: 200


1- سورة الشعراء: الآية 157
2- سورة الأنفال: الآية 25
3- سورة الأعراف: الآية 78

آلهتنا فإن استجيب لك اتّبعناك وإن استجيب لنا اتّبعتنا. فقال: نعم. فخرج معهم ودعوا أربابهم وسألوها فلم تجب.

فقال كبيرهم وأشار إلى صخرة مفردة في ناحية الجبل يسمّونها الكاثبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة جوفاء وبراء فإن فعلت صدّقناك وأجبناك؛ فأخذ عليهم المواثيق بذلك؛ ثمّ صلَّى ودعا ربّه فتمخّضت الصخرة کما تمخّض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء کما طلبوا، وعظماؤهم ينظرون؛ ثمّ نتجت ولدًا مثلها في العظم؛ فآمن به رئیسهم ونفر من قومه ومنع أعقابهم ناس من رؤسائهم أن يؤمنوا؛ فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غبّاً فإذا كان يوم شربها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتّى تشرب كلّ ماء فيها ثمّ تفجّج فيحلبون ما شاؤوا حتّى تمتلي أوانيهم فيشربون ويدّخرون؛ فإذا وقع الحرّ تصیّفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه، وإذا وقع البرد تشتّت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهم، وزيّنت لهم عقرها امرأتان: عنيزة أُمّ غنم وصدقة بنت المختار کانتا كثيرتي المواشي لمّا أضرّت بمواشيهما.

فعقرها قدار الأحمر واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق سقبها(1) حتّی رقی جبلا يقال له غارة فرغا ثلاثا، وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجّت الصخرة بعد رغائه(2) فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غدا ووجوهکم مصفرة وبعد غد وهي محمّرة واليوم الثالث وهي مسوّدة.

ص: 201


1- سبقها: أي فصيلها
2- رغا البعير، والناقة، يرغو رغاء. الخليل الفراهيدي، العين: ج 4 ص 444

ثمّ يغشاكم العذاب؛ فلمّا رأوا العلامات همّوا بقتله؛ فأنجاه الله إلى أرض فلسطين؛ فلمّا كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر وتكفّنوا بالأنطاع(1) فأتتهم الصيحة وخسف شدید وزلزال فتقطَّعت قلوبهم فهلكوا.

«أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ ومَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِّيهِ»: قد سبق منا بيان أمثال هذا المقال والله أعلم بحقيقة الحال وله الحمد والمنة.

ومن كلام له عليه السّلام:

روى عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام: فقد جاء في الخبر أنّه رآها تبكي عند موته فقال لها: «أما ترضين أن تكون سيّدة نساء هذه أهل الجنة»(2)، وروى أنّه قال: «سادات نساء العالمين أربع: خديجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم، ومریم بنت عمران»(3). وكان كالمناجي

ص: 202


1- نطع أو ثوب يشد على مورك الرحل ثم يثني فيدخل فضله تحت الرحل، ليستريح بذلك الراكب. كما أورده الجوهري في الصحاح: ج 4 ص 1615
2- أقول: ورد حديث ((فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)) في مصادر عدة مع مقدمة من حديث النبي صلى الله عليه وآله، أو مع زيادة لبيان بعض الفضائل، وإن عبد الرزاق الصنعاني في المصنف أورد جزءًا من الحديث على حسب ما يقتضيه المقام. کما ذکره: البخاري: ج 4 ص 183 والترمذي في سننه: ج 3265؛ واقرب من أورده الشيخ الطوسي في الأمالي: ص 248 أما بقية المصادر بلفظ مقارب کما أورده الشيخ الصدوق في كتبه الأمالي: ص 187؛ الخصال: ص 599؛ عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 301؛ کمال الدین وتمام النعمة: ص 263؛ من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 603، وأورده الخزاز القمي ص 124، وأيضًا الشيخ الطوسي بعبارة قريبة من أصل الحديث، في تهذیب الأحکام: ج 6 ص 87
3- أورد الحديث بلفظ «سادات نساء العالمين» ابن أبي الحديد المعتزلي: ج 10 ص 266، وأما ابن المغازلي في مناقبه: ص 283 وغيره أوردوه بعبارة «حسبك من نساء العالمين أربع»؛ يُنظر مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 104؛ عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار لابن البطريق: ص 387؛ الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس: ص 520

به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قبره «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي وعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ والسَّرِيعَةِ اللحَاقِ بِكَ قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي ورَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي»: سلم عليه السلام عليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، كعادة الزائرين لكن الزيارة هنا قلبيّة، وفائدة ذكر شرعه اللحاق، والتشكَّي إليه من سرعة تواتر المصائب عليه بموته ولحوقها عقيبه، والمنقول أنّ مدّة حياتها بعده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أربعة أشهر، وقيل: ستّة أشهر؛ ثمّ أخذ في التشكَّي إليه کالمخاطب له من قلَّة صبره ورقّة تجلَّده وتحمّله للمصيبة بها، وفي قوله: صفيّتك إشارة إلى ما كان لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من التبجيل والمحبّة والإكرام.

«إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي»: أي التعزي «لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وفَادِحِ»: ثقيل «مُصِيبَتِكَ

مَوْضِعَ تَعَزٍّ»: كالعذر والتسلية له، أي وأن كانت هذه المصيبة عظيمة يقلّ لها الصبر ويرقّ لها التجلَّد فإنّ المصيبة بفراقك أعظم، وكما صبرت في تلك على كونها أشدّ فلان الصبر على هذه أولى.

ثم أخذ شارعًا للمصيبة به صلى الله عليه [وآله] وسلم ومقاساته عنه فقال: فَلَقَدْ وسَّدَدْتُكَ»: أي جعلت لك وسادة «فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وفَاضَتْ »: سالت «بَیْنَ نَحْرِي وصَدْرِي نَفْسُكَ»: كالشرح للمصيبة وكالتذكير لنفسه بها.

«فَإِنَّا للهَّ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»: امتثال لقوله عز شأنه «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ

ص: 203

إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(1) «فَلَقَدِ اسْتُرُجِعَتِ الْوَدِيعَةُ

وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ»: استعارهما لتلك النفس، ووجه استعارة الأولى أنّ النفوس في هذه الأبدان تشبه الودائع، والأمانات في كونها تسترجع إلى في وجوب المحافظة عليها من المهلکات، ويحتمل أن يريد ما هو المتعارف بين الناس من كون المرأة وديعة الرجل کما يقال: النساء ودائع الكرام، ووجه الثانية أنّ كلّ نفس رهينة على الوفاء بالميثاق الَّذي، واثقها الله تعالى به، والعهد الَّذي أخذ عليها حين الإهباط إلى عالم الحسّ، والخيال أن ترجع إليه سالمة من سخطه، عاملة بأوامره غير منحرفة من صراطه الموضوع على لسان رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإن وافت بعهدها خرجت من وثاق الرهن وضوعف لها الأجر کما قال تعالى «وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(2) وأن نكثت وارتكبت ما نهيت عنه بقت رهينة بعملها كما قال تعالى «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»(3) يصدق على الذكر والأنثى وقد سبقت الإشارة إلى ذلك «أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ»: دائم «وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ»: مؤرق «إِلَی أَنْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ»: أي الجنة «وسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ»: أي بالغ واستقص في السؤال منها.

«واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ»: هذا أشارة إلى حزنه «ولَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ ولَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ»: يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من أمته بعده فيما كان يعتقده حقًا من الخلافة ونحلة فدك لها فزحزحا عنهما مع نوع من الأهتضام والغلظة

ص: 204


1- سورة البقرة: الآية 155 - 156
2- سورة الفتح: الآية 10
3- سورة المدثر: الآية 38

عليه في القول على قرب عهدهم بالرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم وطراوة الذكر الذي هو القرآن الأمر لإكرام ذوي القربی.

«والسَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ»: منغص «ولَا سَئِمٍ»: هذه صورة وداع المحبّين الناصحين بجاري العادة.

«فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَلَةٍ وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللهُ الصَّابِرِينَ»: تنزيه لنفسه عمّا عساه يعرض لبعض من يلازم القبور لشدّة الجزع والأسف عن وهم أنّه لاعوض عن ذلك الفائت، والأجر على التعزّي والصبر عنه، وما وعد الله به الصابرين على نزول المصائب هو صلاته ورحمته في قوله جل طوله «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»(1) وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام: في التنفير عن الدنيا والترغيب في الآخرة بذكر الغاية من وجودهما.

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ»: يسلك بها إلى الآخرة سلوکًا اختياريّا كسلوك عباد الله الصالحين إليه، واضطراريّا كعبور الكلّ إلى الآخرة بالموت، وأراد هنا الاضطراريّ.

وهاتان القرينتان کالمقدّمة لقوله: فخذوا من ممّركم لمقرّكم.

«والآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ»: وهاتان القرينتان کالمقدمة لقوله: «فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ

لِمَقَرِّكُمْ ولَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ»: بمجاهرته بالمعصية «عِنْدَ مَنْ يَعْرِفَ أَسْرَارَكُمْ»: فأنه إذا كان يعلم أسراركم فهو يعلم ظواهر كم أولى.

ص: 205


1- سورة البقرة: الآية 156 - 157

«وأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ»: أمر لهم بالزهد في الدنيا وکنی عنه بإخراج القلوب منها يقال أمر لهم بالزهد في الدنيا قبل الموت، وكنّی عنه بإخراج القلوب منها. يقال: خرج فلان عن كذا، وأخرج نفسه عن كذا إذا أعرض عنه وتبرّء منه.

«فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ»: إشارة إلى قصد العناية الإلهيّة منها، وقد عرفت معنی الاختبار.

«ولِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ»: أي لنيل السعادة في الآخرة بالذات، أو الشقاوة لمن حرّمها بالعرض.

«إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ مَا تَرَكَ»: ما ترك من متاع الدنيا.

«وقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ»: من الأعمال الصالحة وإنّما قرن ذكر الناس وما یسئلون عنه بذکر الملائكة وما یسئلون عنه لينبّه على شرف الأعمال المسعدة في الآخرة على متاع الدنيا لكون الأوّل مطلوب الملائكة وما تعتنون بالفحص عنه، وكون الثاني معتني الناس الغافلين، وفي لفظ ماترك وما قدّم لطف شبيه تنبيه على أنّ متاع الدنيا مفارق متروك والأعمال الصالحة مقدّمة باقية نافعة للمرء في معاده فينبغي أن تكون العناية بها دون المفارق المتروك.

لّلهَّ «آبَاؤُكُمْ»: كلمة تقولها العرب لتعظيم المخاطب بنسبته أو بنسبة أبيه إلى الله يقال: لله أنت ولله أبوك، وقيل: اللام للعاقبة: أي إلى الله تصير آبائكم لكن بذلك يخرج الكلام عن معنى التعجّب والاستعظام.

«فَقَدِّمُوا بَعْضاً»: من متاع الدنيا كالصدقات ونحوها «يَكُنْ لَكُمْ»: ثمراتها في

ص: 206

الآخرة «ولَا تُخْلِفُوا كُلاًّ فَيَكُونَ(1) عَلَيْكُمْ»: لقوله صلىَّ الله عليه وآله وسلَّم: يا بن آدم ليس لك من دنياك إلَّا ثلاث: ما أكلت؛ فأفنيت أو لبست؛ فأبليت أو تصدّقت فأبقيت، ولا تخلَّفوها بأسرها لغيركم فيكون علیکم وزرها، وقد علمت كيفيّة استلزام الصدقة والزكوات، ونحوها للملكات الفاضلة؛ والثواب الأخروي، واستلزام البخل، وادخار المال للشقاوة الأُخرويّة، وإنّما خصّص البعض بالتقديم لأنّ حرمان الورثة لا يجوز، ونهی عن تخليف الكلّ لأنّ ترك الزكاة والصدقة لا يجوز، وروی تكن لكم قرضًا ویكن عليكم كلًّا هو كقوله تعالى «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا»(2) ولفظ القرض مستعار، ووجها الاستعارة أنّه القرض يستلزم في العادة الطلب من المقترض وشكره لمقرضه وأداه إليه فأشبه ذلك تكرر أوامر الله الطالبة للزكاة والصدقة وشكر الله للمنفقين في سبيله وجزاؤه للمتصدّقين في الآخرة بأضعاف ما بذلوه وأنفس كميّة وكيفيّة والكلّ لا منفعة فيه مع وجود مضرّته، ولمّا كان حفظ المال، وتخليفه بعد الموت كذلك لا جرم كان كلَّا وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام كان كثيرًا ما ينادی به أصحابه:

«تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ الله»: أي من الدنيا وهو الاستعداد للسفر إلى الله بما يحتاج إليه المسافرون إلى حضرته من الزاد المبلغ وهو التقوى.

«فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ»: والرحيل يحتمل أن يريد به السفر بالموت فيكون المنادي هو حوادث الأيّام الداعية بضرورتها للأمزجة إلى الانهدام، ويحتمل أن يريد به السفر إلى الله بالرياضة الكاملة، والمبادي بذلك هو الرسول صلَّى الله عليه

ص: 207


1- ورد في بعض متون النهج: فَرْضاً
2- سورة البقرة: الآية 245

وآله وسلَّم والكتاب العزيز وأولياء الله.

«وأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ»: أي الميل والإقامة «عَلَی الدُّنْيَا»: إلا على القدر الضروريّ منها.

«وانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ»: أي ما بحضرتكم في الدنيا یمکنکم إعداده والاستعداد به وهو الأعمال الصالحة والتقوى.

«فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كؤُوداً»: شاقة استعار لفظ العقبة بوصف الكؤود للموت والمشابهة شدّة الملاقاة وقطع منازله في حال تألم النفوس إلى آخر الموت.

«ومَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً»: أراد بها منازل الآخرة بعده من القبر وسائر درجات النفوس في الشقاوة والأهوال الآخرويّة.

«لَ بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا والْوُ قُوفِ عِنْدَهَا»: وظاهر أنّه لا بدّ من ورود تلك المنازل والوقوف عندها إلى حين عبورها خصوصًا أصحاب الملكات الرديئة والعلائق الدنيّة البدنيّة فإنّ وقوفهم بها أطول وشدائدهم فيها أهول.

«واعْلَمُوا أَنَّ مَلَحِظَ الْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَانِيَةٌ وكَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وقَدْ نَشِبَتْ»: علقت «فِيکُمْ»: أخذ بعض لوازم المستعار وهو الملاحظة وذويها، وکنّی بذلك عن كونها لهم بالرصد لا ينقطع عنهم، وروى دانية: أي قريبة منهم، وكذلك المخالب ونشبتها كناية عن لحوق الآفات والأمراض المهلكة لهم، ومعنى التشبيه هاهنا تشبيه المقدّر القريب وقوعه وهو لحوق الموت لهم، ونسبة مخالب المنية فيهم بوقوع ذلك في السرعة، والبقاء في بمخالبها للإلصاق، والواو للحال.

«وقَدْ دَهَمَتْكُمْ»: فاجئتكم «منهَا مُفْظِعَاتُ الأُمُورِ ومُعْضِاَتُ الْمَحْذُورِ»: كناية عن لحوق شدائد الموت، ومثقلات الظهور المحذورة وهي الذنوب.

ص: 208

«فَقَطِّعُوا عن عَلَائِقَ الدُّنْيَا»: أمر بالزهد الحقيقيّ فيها؛ والتخفيف منها بترك الفضول والاستكثار من متاعها.

«واسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى»: أي اتخذوه ظهيرًا لكم على مشاقّ السفر إلى الآخرة وبالله التوفيق. قال السيد رضي الله عنه: وقد مضى شيء من هذا الكلام فيما تقدم بخلاف هذه الرواية ومن كلام له عليه السلام کلم به طلحة والزبير بعد بيعة الخلافة وقد عنا من ترك الخلافة مساورتهما والاستقامة في الأمور بهما، لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِیرًا وأَرْجَأْتُمَا كَثِیراً.

واعلم أنّ الرجلين كانا يؤمّلان الأمر لأنفسهما فلمّا صار إليه عليه السّلام عاد إلى رجاء أن يداخلهما في أمره وأن يزد لهما في العطاء على غيرهما کما فضّل بعض الأئمّة من قبله وأن يشاركهما في أكثر الآراء المصلحيّة محبّة منهما للجاه ونظرا إلى محلَّهما وشرفهما لكنّ الرجل لمّا جعل دلیله الكتاب العزيز والسنّة النبويّة وكان هو القويّ على تفريع الأحكام منهما دون غيره وصاحب أسرارهما كما علمت رجوع أكابر الصحابة والخلفاء السابقين إليه في كثير الأحكام لاجرم لم یکن به حاجة إلى الاستشارة فيما يقع إليه من الوقائع، وأشار باليسير الَّذي نقماه إلى ترك مشورتهما وتسويتهما بغيرهما في العطاء وإن كان عندهما صعبًا فهو لكونه عنده غير حقّ في غاية من السهولة، والكسير الَّذي أرجاه ما أخّراه من حقّه ولم يوفياه إيّاه، وروی کثيرًا بالثاء بثلاث نقط، وأشار به إلى ما يعود إلى صلاح المسلمين من الآراء الَّتي ينبغي أن يتحدّث فيها، ويحتمل أن يريد أنّ الَّذي أبداه ونقماه بعض ممّا في أنفسهما، وقد دلّ ذلك على أنّ في أنفسهما أشياء كثيرة وراء ما ذكره الم يقولها، ثم استفسر عن الحق الذي نقما ترکه فقال:

أَلَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْءٍ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ، أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ

ص: 209

أَمْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ: وتلخيصه أنّ الحقّ الَّذي تنقمان على تركه إمّا أن يكون متعلَّقًا بكما أو بغیر کما من المسلمين، والأوّل إمّا أن يكون قسمًا استأثرت به أو غيره من الحقوق دفعتكما عنه ظلماً، والثاني إمّا أن یکون ترکه منّی ضعفا أو جهلًا به أو خطأ لدليل الحكم فيه، والاستفهام في الأقسام كلَّها استفهام إنکار لها و مستند منعه وإنكاره لها ظاهر فإنّ التسوية في العطاء سنّة الرسول فيجب اتّباعها، والاستشارة في الحوادث ونحوها إنّما يجب مع عدم الحكم في الواقعة أو مع جهله ولم يكن عادمًا لأحكام الوقائع الواردة عليه ولا جاهلًا بها، ولذلك لم يترك حقًّا لأحد من المسلمين عن ضعف منه لأنّه كان خليفة الوقت ولا عن جهل بحكم ولا بدليله لأنّه كان أعلم الأُمّة بأحكام الله، ولمّا كان الَّذي نقماه عليه في تلك الحال من الأقسام المذكورة إنّما هو ترك مشورتهما والسوية في العطاء بينهما وبين غيرهما أشار إلى الجواب عن الأوّل بقوله(1):

واللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ ولَا فِي الْوِلَيَةِ إِرْبَةٌ ولَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا

وحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَی كِتَابِ اللهِ ومَا وَضَعَ لَنَا وأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ

بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ ومَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فَاقْتَدَيْتُهُ فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَی

رَأْيِكُمَا ولَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا ولَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِرَكُمَ وإِخْوَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا ولَا عَنْ غَيْرِكُمَا: فقوله: والله.. إلى قوله: حملتموني عليها کالمقدّمة في الجواب المكاسرة من توهّمهما رغبته في الخلافة ومحبّته للملك والسلطان الاستيثار عليهما ونحو ذلك فإنّه إذا انكسر ذلك الوهم لم يبق علَّة طلبه للولاية إلَّا نصرة الحقّ وإقامته کما صرّح هو به في غير موضع وحينئذ تندفع شبهتها عنه. وقوله: فلمّا أفضت. إلى قوله: فاقتديته. وجه الجواب دلّ به على صغرى القياس

ص: 210


1- أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ

فيه، وخلاصته: أي إنّما أحكم بالكتاب فأتّبعته وأقتدي بالسنّة، وتقدير الكبرى وكلّ من فعل ذلك فلا حاجة به في الحكم إلى الرأي. وقوله، فلم أحتج. إلى قوله، غیر کما کالنتيجة. وقوله: ولا وقع حکم جهلته. أحد الأقسام الَّتي استفهم عنها على سبيل الإنكار أوّلا قد صرح بانکاره هاهنا و منعه على تقدير دعواهم له. ثمّ بتسليمه تسليم جدل أنّه لو وقع لم يكن يرغب عنهما ولا عن غيرهما من المسلمين والاستشارة فيه؛ ثمّ ذكر الأمر الثاني ممّا نقماه عليه فقال: «وأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الأُسْوَةِ»: أني أستويتكما بغيركما في العطاء وإجاب عنه بقوله: «فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي ولَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي»: أي لم أجعل الحاكم في ذلك هواي، وروی ولا ولَّيته هوی منّى على أن يكون هوى مفعولًا أي سلطت هواي على ذلك؛ «بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وأَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَدْ فُرِغَ مِنْهُ»: خلاصته أنّ حكمي بالتسوية في القسمة لم يكن عن رأي منّى ولا هوى أتّبعته ولكن وجدته أنا وأنتم قد فرغ الله منه: أي من القضاء به في اللوح المحفوظ وإنزاله، ويقال للأمر الثابت الَّذي لا يحتاج إلى إيجاد أو تكميل مفروغ منه، ونسبة الفراغ إلى الله مجازًا لمناسبته ما قضاه بفعل العبد الَّذي فرغ من عمله.

«فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللهُ مِنْ قَسْمِهِ وأَمْىَ فِيهِ لحُكْمَهُ»: أي لمّا وجدته كذلك لم أمل إليكما بما يرضيكما مع مخالفته لما جاء به الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

«فَلَيْسَ لَكُمَا واللهِ عِنْدِي ولَا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى»: رجوعي وهذا لازم بنتيجتی قياسيّة في الجوابين فإنّه لمّا ثبت أنّه لا حقّ لهما فيما نقماه عليه لم يكن عليه أن يعتب.

«أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وقُلُوبِكُمْ إِلَی الْحَقِّ وأَلَهْمَنَا وإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ»: عن الميول الباطلة وعلى الحقّ، وروى فلم أحتجّ إليكما: أي في الإرشاد إلى أحكام الله بعد فراغه منها.

ص: 211

وقوله: فليس لكما. إلى قوله. عتبی.

لازم بنتيجتى قياسيّة في الجوابين فإنّه لما ثبت أنّه لا حقّ لهما في نقماه عليه لم يكن عليه أن يعتب؛ ثمّ أخذ في الدعاء لها ولنفسه بأخذ الله قلوبهم إلى الحقّ وإلهامهم الصبر رأي حقّاً وعدلا وأعان على العمل به، أو رأي جورا وظلما فردّه وأعان على صاحبه جذ بالهما إلى ذلك وبالله التوفيق.

ثم قال رحم الله رجلًا رآی حقاً»: وعدلًا «فأعان عليه»: أي على العمل به «أو رأي جورا وظلما فردّه وأعان على صاحبه»: جذبًا لهما إلى ذلك وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام وقد سمع قومًا من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين:

«إِنِّي أَكْرَهُ لَكُ مْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ

- كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»: أي لو عدلتم عن السباب إلى وصف أعمالهم وتذكيرهم بكونهم ظالمين لكم وضالَّين عن السبيل ذكرًا على وجه النصيحة والهداية.

«وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللهُمَّ احْقِنْ»: احفظ «دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ وأَصْلِحْ

ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ واهْدِهِمْ مِنْ ضَلَلَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ ويَرْعَوِيَ

عَنِ الْغَيِّ والْعُدْاوه»: أي حرص لكان أصوب في القول من «مَنْ لَهِجَ بِهِ»: رذيلة السباب ولأنّ في تذكيرهم بأحوالهم ونصحهم إيّاهم فائدة وهي رجاء أن يعودوا إلى الحقّ ولأنّ ذلك أبلغ في العذر من غيره، إذ لكم أن تقولوا بعد ذلك إنّكم نصحتموهم، وطلبتم منهم العتبی؛ فلم يستعينوا فقوله: لو عطف على قوله: وصفتم، ولو مقدّرة عليه، وجواها مقدّر بعد إتمام الدعاء، والتقدير لو قلتم هذا

ص: 212

الدعاء لكان أصوب، وأبلغ في العذر، وهذا والدعاء مطابق لصورة حال الحرب، واشتمل على طلب حقن الدماء؛ أوّلًا لأنّ سفكه هو الخوف الحاضر، وعلى طلب علَّته وهي إصلاح ذات البين: أي ما بيننا، وبينهم من الأحوال الموجبة للافتراق حتّى يكون أحوال أُلفة واتّفاق، ولمّا كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين كقولك: اسقني ذا إنائك: أي ما في إنائك من الشراب، وقيل: ذات البين حقيقة الفرقة: أي صلح حقيقة الفرقة بينا، وبينهم وبدّلهم بالألفة؛ ثمّ على طلب العلَّة الحاسمة للفرقة الموجبة لاصلاحها، وهي هداهم من ضلالتهم بمعرفة من جهل الحقّ له وارعوا به من عداوته، وهي طرف التفريط من فضيلة الحكمة، وعداوته وهو طرف الإفراط من فضيلة العدل، وقد كانت الرذيلتان في أصحاب معاوية؛ فإنّه لمّا قصرت، وطئتهم عن وجه الحقّ، وغلبت عليهم الشبهة بغوا وتعدّوا وهجوا بعدوانهم، وروي عوض الغيّ العمى وهو عمى البصيرة و غباوتها وبالله التوفيق.

وقال عليه السّلام في بعض أيام صفين، وقد رأى الحسن عليه السلام يتسرع إلى الحرب:

«امْلِكُوا عَنِّي»: أي أمسوا لأجي «هَذَا الْغُاَمَ لَا يَهُدَّنِي»: لا يكسرني روي ومنصوباً والثاني: أحسن لأنه محروم علي جواب الأمر، والرفع للأتباع كقوله تعالى «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ»(1) ولمّا كان وجود الولد المنتفع ممّا یشدّ القوّة، وتقوى به النفس خصوصاً مثل الحسن عليه السّلام کنّی بقوله: لا يهدّني على تقدير هلاکه عن إضعافه لركنه، وانکسار نفسه بذلك؛ ثمّ على علَّة أخرى لوجوب المحافظة عليه مع أخيه عليهما السّلام:

ص: 213


1- سورة آل عمران: الآية 120

«فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي الْحَسَنَ والْحُسَیْنَ عليها السلام عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم».

قال السيد رضي الله عنه قوله: عليه السلام «املكوا عني هذا الغلام» من أعلى الكلام وأفصحه: لأنه من جامع الكلم والله سبحانه أعلم.

ومن كلام له عليه السلام قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة:

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ»: أي من الطاعة «حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ»: لفظ النهك واستناده إلى الحرب استعارة لأضعافها لهم ملاحظة لشبههم بالثوب الَّذي خلقه اللبس، وتشبّهها بمستعملة في كونها سببًا لذلك الإضعاف: أي لم أزل كذلك إلى تلك الغاية.

«وقَدْ واللهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وتَرَكَتْ»: كناية عن تصرفها فيهم بوجوه التصرّف وهو كالعذر لهم، وإرادته بقوله: «وهِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ»: أي أبغ في الجهد لكي لا يتفاخروا بعدوانها لهم، ثمّ أخذ في التشكَّي منهم إليهم وعتابهم على عصيانهم له وحكمهم عليه بالرجوع إلى التحكيم حتّى صار مأمورا لهم ومنهیّا بعد کونه آمرا فيهم وناهياً، وذلك من معكوس الحكم، ومضادّ لما ينبغي لهم فقال: «لَقَدْ كُنْتُ

أَمْسِ أَمِیرًا فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُورًا وكُنْتُ أَمْسِ نَاهِيًا فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيًّا وقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ»: أي بترك القتال وهو كالتوبيخ لهم على ذلك.

«ولَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُون»: أي ليس لي قدرة على ذلك وإن كان له ذلك بحسب المصلحة والشرع وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام بالبصرة،

ص: 214

وقد دخل على العلاء بن زید الحارثي يعوده وهو من أصحابه، فلما رأى سعة داره قال: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا»: أستفهمه عن غرضه في توسعة داره استفهام توبیخ وإنكار لما أنّ ذلك ينافي الزهد في الدنيا والحرص في الآخرة.

«وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ»: وفي رواية أنت على استفهام تثبیت وتقرير، وفي رواية أما أنت، أراد أنّك لو كنت أنفقت ما أخرجته على بنائها من المال في سبيل الله لكان أولى ولکنت إليه أحوج منها.

«وبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وتُطْلِعُ

مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا»: هي ووجوهها الشرعيّة المتعلَّقة به کالزكاة والصدقة وغيرهما، وظاهر كونها مبلَّغه إلى الآخرة عند إخراج تلك الحقوق منها، ومقرّ به إلى الله.

«فَإِذًا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ أَشْكُو إِلَيْكَ

أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ ومَا لَهُ: قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا»: أي يفزع منها «قَالَ عَلَيَّ بِهِ»: أي جيئوا به، ينوب مناب فعل الأمر.

«فَلَاَّ جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ»: تصغير عدوّ، وأصله عدي قلَّبوا الواو ياء تخفيفًا وأدغموا فيها ياء التصغير، وإنّما صغّره استصغارا له باعتبار أنّ شيطانه لم يعدّه إلى كبيرة بل قاده إلى أمر وإن كان خارجًا به عن الشريعة إلَّا أنّه قريب من السلامة، ودخل عليه بالخدعة في رأي الصالحين، وكان شيطانه بذلك الاعتبار صغيرًا بالنسبة إلى شيطان؛ آخر وهو باعتبار القيادة لذلك الوسواس عدّى نفسه، وقيل: بل صغّره في حقه حقارة؛ فعله ذلك لكونه عن جهل منه، وإنّما منعه من هذه الطريقة لكونه لم يترك الدنيا على وجه الترك بل كان بمشاركة هواه

ص: 215

لعقله، وكان تركه ذلك مستلزمًا لإهمال حقوق تجب عليه في الشريعة ويلزمه فيه بقوله: «لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ»: أي جعلك هائمًا على أن فعله ذلك بمشاركة الشيطان ولم يكن عن غفلته خالصة بقوله: «أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ ووَلَدَكَ»: على الحقوق اللازمة له من قبلهم، وقد أهملها بفعله ذلك بقوله: «أَتَرَى اللهَ أَحَلَّ لَكَ

الطَّيِّبَاتِ»: والحلال من الرزق.

«وهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ»: في مقام التوبيخ له على ذلك الترك وهو كقوله تعالى «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» الآية(1)، والحاصل أنّ ترك الدنيا بالكلَّيّة ليس هو مطلوب الشارع من الزهد فيها، والتخلَّي عنها لأنّه الشارع يراعی نظام العالم باشتراك الخلق في عمارتها، وتعاونهم على المصالح بقاء النوع الإنسانيّ، وترك الدنيا، وإهمالها بالكلَّيّة يعدم ذلك النظام، وينافيه بل الَّذي يأمر به الشارع القصد في الدنيا واستعمال متاعها على القوانين الَّتي، وردت بها الرسل، والوقوف فيها عند الحدود المضروبة في شرائعهم دون تعدّيها كما أشار إليه عليه السّلام من منع هذا الرجل، وأمّا السالكون من الصوفيّة بعد عصر الصحابة؛ فهم على الطريقين فمنهم من يختار القشف، وترك الطيّبات، وهجر اللذّات رأساً، ومنهم من يؤثر الترف، والَّذي يفعله المحقّقون من السالكين من التقشّف فلا ينافي الشريعة لعلمهم بأسرارها وطريقتهم تلك أقرب إلى البلاء من طريق المترفين لكون الترف مجال الشيطان، وقد كان سلوك الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وعليّ عليه السّلام، وجماعة من أكابر الصحابة أميل إلى طريق التقشّف لكن مع مشاركتهم

ص: 216


1- سورة الأعراف: الآية 32

لأهل الدنيا في تدبير أحوال المدن، وصلاح العالم غير منقطعين عن أهلها ولا منعزلين.

«قَالَ»: يَا أَمِرَ الْمُؤْمِنِینَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ، وجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ: طعام جشب أي غليظ خشن وقيل هو الذي لا أدام معه وحاصله أنه قاس نفسه في تركه للدنيا عليه السلام وتقديره أنك إذا نهيتني عن ذلك فكيف بك أرى من هذه الحال وانت المقتدى به أو كيف اصنع بك مع الحال التي انت عليها وإنما ينبغي أن أقتدي بك فأجابه عليه السلام بجواب أقناعي بيّن فيه الفرق بَيّنهُ وبَيّنَهْ وهو أن قال:

«قَالَ وَيْحَكَ»: للترحم أي أني ما فعل ذلك لكونه أمامًا «إنِّيِ لَسْتُ كَأَنْتَ وإِنَّ

اللهَ تَعَالَ فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ»: أي يسويها في حالهم «كَيْلَا يَتَبَيَّغَ»: يتهيج «بِالْفَقِرِ فَقْرُهُ» : فيضعف عن حمله فيكفر أو يفسق وقد كانت حاله عليه السّلام قبل الخلافة كذلك، والجواب المحقّق هو ما قلناه من کون هذه الطريق أسلم، وأمّا الفرق بينهما فيرجع إلى أنّ عاصمًا سلك على غير علم بكيفيّة السلوك مع ترك الحقوق الَّتي تلزمه لأهله وولده فكانت حالة الَّتي فارقها أولى به وبالله التوفيق.

ومن كلام له وقد سأله سائل عن أحاديث البدع:

أي المبتدعة بعد الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المنقولة عنه، ومايبتنی عليه من الأفعال المبدعة في الدين: وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر فقال: عليه السلام:

«إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقًّا وبَاطِاً وصِدْقًا وكَذِبًا ونَاسِخًا ومَنْسُوخًا وعَامًّا

ص: 217

وخَاصًّا ومُحْكَمًا ومُتَشَابِهًا وحِفْظًا ووَهْماً»: تعديد الأنواع الكلام الواقع إلى الناس نقلًا عن الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم والصدق والكذب من خواصّ الخبر، والحقّ، والباطل أعمّ منهما لصدقهما على الأفعال، وعلى الناسخ والمنسوخ، والعامّ، والخاصّ والمتشابه، وقد مضى تفسير هذه المفهومات، وأمّا الحفظ؛ فهو ما حفظ عن رسول الله کما هو، والوهم ماغلط فيه ووهم مثلا أنّه عام، وهو خاصّ أو أنّه ثابت وهو منسوخ إلى غير ذلك.

«ولَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى عَهْدِه»: نحو ما روى أنّ رجلًا سرق رداء الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وخرج إلى قوم وقال هذا رداء محمّد أعطانيه لتمكَّنوني من تلك المرأة واستنكروا ذلك فبعثوا من سأل الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن ذلك فقام الرجل الكاذب فشرب ماء فلدغته حيّة فمات، وكان النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين سمع بتلك الحال قال لعليّ: خذ السيف وانطلق فإن وجدته وقد كفيت فأحرقه بالنار فجائه وأمر بإحراقه فكان ذلك سبب الخبر المذكور.

«حَتَّى قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ»: واعلم أنّ العلماء ذكروا في بيان أنّه لا بدّ أن يكذّب عليه دليلًا فقالوا: قد نقل عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «سيكذّب عليّ»(1) فإن كان الخبر صدقاً فلا بد أن يكذّب عليه، وإن كان كذبًا فقد کذب عليه؛ ثمّ شرع في قسمة رجال الحديث وقسّمهم إلى أربعة أقسام.

«وإِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ»: ودلّ الحصر بقوله: «لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ

ص: 218


1- يُنظر قرب الإسناد للحميري القمي: ص 92 والمحصول لفخر الدين الرازي: ج 4 ص 300، وشرح النهج لابن میثم البحراني: ج 4 ص 22

كتبه ورسائله (عليه السلام) اور f1 اع رجل مما ظهر للإيماني ممتع بالإسلام»: أي يظهره شعارا له «لا يتأثم ولا ترج»: لا يعرف بالإثم ولزوم العقاب عليه في الآخرة فلا يحذر منه، ووجه دخول الشبهة في قبول قوله: كونه ظاهر الإسلام.

يكذب على رشول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمدا فلو علم الناس أنه شنا گات لم يقبوا منه ول وضوا قوله ولكنهم قالوا صاحب شول الله ص راه وسمع منه وقف عنه: لقفت الشيء وتلقفه تناوله بسرعة: فيأون بقوله وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبرك»: كقوله إن المنافقين في الدژ الأقل من الار» (1) «ووممممهم با هم به»: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك رشول الله والله يعلم إ ل وله والله يشهد إثر المنافقين لكانيون الآية(3) دلت على وصفهم بالكذب في مطابقة عقائدهم لألسنتهم في الشهادة بأنه رسول حق ومن كان يعتقد أنه غير رسول فإنه مظنة الكذب عليه.

ثم تقوا بعده صلى الله عليه وآله وسلم فتقروا إلى أمير الممكة»: إشارة إلى ما كانوا يتقربون به إليهم من وضع الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فضلهم وأخذهم على ذلك الأجر من أولئك الأئمة.

(3) «فؤلؤهم الأعمال»: أي جعلوهم ولاة لها.

وجعلوهم گاما على رقاب الاس وأكلوا بهم الدنيا وإما الا مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله» : فيه إشارة إلى علة فعل المنافق لما يفعل فظاهر أن حب (1) سورة النساء: الآية 145. (2) سورة المنافقون: الآية 1. (3) ورد في بعض النسخ: والدعاة إلى النار بال ور والبهتاني .

ص: 219

الدنيا هو الغالب على الناس من المنافقين وغيرهم لقربهم من المحسوس وجهلهم بأحوال الآخرة وما يراد بهم من هذه الحياة إلَّا من هدى الله فعصمه بالجذب في طریق هدایته إليه عن محبّة الأمور الباطلة، وفيه إيماء إلى قلَّة الصالحين كما قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ»(1) وقوله «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»(2) وإنّما قل: ثمّ بقوا بعده عليه السّلام. ثمّ حکی حالهم مع أئمّة الضلال وإن كانت لم يوجدوا بعد إمّا تنزيلًا لما لا بدّ منه من ذلك المعلوم له منزلة الواقع أو إشارة إلى من بقي منهم بعد الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وتقرّب إلى معاوية لأنّه أدراك أم ضلالة له وأشار القسم الثاني بقوله:

(3)ورَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئًا لْمَ يْحَفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَوَهِمَ فِيهِ ولْمَ يَتَعَمَّدْ

كَذِبًا فَهُوَ فِي يَدَيْهِ ويَرْوِيهِ ويَعْمَلُ بِهِ ويَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه

وآله فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ ولَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ: ترکه وذلك أن يسمع من الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلامًا فيتصوّر منه معنى غير ما يريده الرسول، ثمّ لا يحفظ اللفظ بعينه فيورده بعبارته الدالَّة على ما تصوّره من المعنى فلا يكون قد حفظه وتصوّره على وجهه المقصود للرسول فوهم فيه ولم يتعمّد كذبًا لوهمه فهو في يديه يرويه ويعمل به على وفق ما تصوّر منه ويسنده إلى الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم، وعلَّة دخول الشبهة على المسلمين فيه هي عدم علمهم بوهمه، وعلَّة دخولها عليه في الرواية والعمل هو و همه حين السماع حتّى لو علم ذلك لترك روايته والعمل به، وأشار إلى القسم

ص: 220


1- سورة ص: الآية 24
2- سورة سبأ الآية 13
3- ورد في بعض النسخ: فَهَذَا أَحَدُ الَأرْبَعَةِ

الثالث بقوله: «ورَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله شَيْئًا يَأْمُرُ

بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وهُوَ لَ يَعْلَمُ أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وهُوَ لَا يَعْلَمُ

فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ ولَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ»: وذلك على دخول الرواية على الشبهة وعلى المسلمين.

«ولَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ»: وأشار إلى القسم الرابع بقوله:

«وآخَرُ رَابِعٌ لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللهِ ولَا عَلَى رَسُولِهِ مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفًا مِنَ اللهِ

وتَعْظِياً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، ولَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ ولَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ وحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ وعَرَفَ الْخَاصَّ والْعَامَّ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ»: أي عمل بالعام فيها عدا صورة التخصيص.

«وعَرَفَ الْمُتَشَابِهً ومُحْكَمَهُ وقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ص الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ

فَكَلَامٌ خَاصٌّ وكَلَمٌ عَامٌّ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللهُ سُبْحَانَهُ بِهِ»: فيه يلهج إلى قوله تعالى «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى»(1) «ولَا مَا عَنَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه

وآله وسلم فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ ويُوَجِّهُهُ عَلَى غَیْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ ومَا قُصِدَ بِهِ ومَا خَرَجَ

مِنْ أَجْلِهِ»: فيه تنبيه داخل فيه فإنّ منهم من كان يسمع الكلام ذي الوجهين منه خاصّ ومنه عامّ فلا يعرف أنّ أحدهما مخصّص الآخر أو يسمع العامّ دون الخاصّ فينقل العامّ بوجهه على غير معرفة معناه أو أنّه خرج على سبب خاصّ فهو مقصور عليه وانتقل سببه فيعتقده عامًّا أو أنّه عامّ فيعتقده مقصورًا على السبب

ص: 221


1- سورة النجم: الآية 3

ولا يعمل به فيما عدا صورة السبب فيتّبعه الناس في ذلك، كما عليه من يعتقد وجوب العمل بمذهب الراوي وأن خالف ما رواه.

«ولَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ ويَسْتَفْهِمُهُ»: أشارة إلى جواب سؤال تقدّيره: فكيف يقع الاشتباه عليهم في قوله مع كثرتهم وتواضعه لهم فلا يسألونه؛ فأجاب أنّهم ليسوا بأسرهم كانوا يسألونه لاحترامهم له وتعظيمه في قلوبهم، وإنّما كان يسأله آحادهم.

«حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الأَعْرَابِيُّ أو الطَّارِئُ»: أي أنهم كانوا ليحبّون ويريدون مجييء بدوي أو غريب يطلع عليهم.

«فَيَسْأَلَهُ عليه السلام حَتَّى يَسْمَعُوا»: وينفتح لهم باب السؤال، ونبّه على أنّه عليه السّلام بقوله: «وكَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وحَفِظْتُهُ»: أنه كان يستقصي في سؤاله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن كلّ ما يشتبه ويحفظ جوابه ليرجع الناس إلى فضيلته والاقتباس من أنواره «فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي

اخْتِلَفِهِمْ وعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ» وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«وكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وبَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ

الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَسًا جَامِداً»: أي أرضًاً بابسًا أشار في هذا الفصل إلى الأجرام الأرضية، والسماوية، ومادتها ووصف كيفية خلقها عنه، وقد مر بيان كل ذلك مستوفي في الخطبة الأولى وفي هذا الفصل فوائد الأولى: أنّه لمّا كانت هذه الأجرام في غاية القوّة، والعظمة، ومع ذلك ففيها من عجائب الصنع، وبدائعه مایبهر العقول ويعجزها عن كيفيّة شرحه لأجرم نسبها إلى اقتدار جبروته وعظمته

ص: 222

وبديع لطائف صنعته تنبيهًا بالاعتبار الأولى على أنّه الأعظم المطلق، وبالثاني على لطفه وحكمته الباهرة.

«ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ»: أي خلق من البحر «أَطْبَاقاً»: جمع طبق وهو أن يكون بعضها

فوق بعض «فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَاَوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ وقَامَتْ عَلَى

حَدِّه»: الضمير الله أو لأمره قيامها على حده كناية عن وقوفها على ما حده لها من المقدار والشكل والهيئة(1).

«يَحْمِلُهَا الأَخْضَرُ»: أي يحمل الأرض الماء «الْمُثْعَنْجِرُ»: السائل «والْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ»: سمي البحر قمقمة الله أي جمعه «وقَدْ ذَلَّ»: القمقام «لأَمْرِهِ وأَذْعَنَ لَهِيْبَتِهِ»: مهابته «ووَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ»: ذلَّة البحر لأمره وإذعانه لهيبته دخوله تحت ذل الإمكان والحاجة إلى قدرته وتصريفها له، وهو من باب الاستعارة.

«وجَبَلَ»: خلق «جَلَمِيدَهَا»: جمع جلمود «ونُشُوزَ مُتُونِهَا»: جمع نشز بمعنی المرتفع «وأَطْوَادِهَا»: هذه الضمائر للأرض «وَأَرْسَاهَا»: أي أثبت الجبال «فِي مَرَاسِيهَا»: جمع المرسي وهو موضع النبات «وأَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا»: رسخ مستقرها فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ ورَسَتْ»: ثبتت «أُصُولَهُا فِي الْمَاءِ فَأَنْهَدَ»: أقام «جِبَالَهَا

عَنْ سُهُولَهِا»: هما لأرض «وأَسَاخَ»: ارسخ «قَوَاعِدَهَا»: للجبال «فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا ومَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا»: هما لأرض «فَأَشْهَقَ قِلَالَا»: أي حال حركتها(2) «مِنْ أَنْ تِمَيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا»: يفهم منه أنّه لولا الجبال كونها أوتادًا للأرض لمادّت وساخت بأهلها؛ فأمّا كونها مانعة لها من الميدان فقد عرفت

ص: 223


1- ورد في بعض متون النهج: وأَرْسَى أَرْضاً
2- ورد في بعض النسخ: وأَطَالَ أَنْشَازَهَا وجَعَلَهَا لِأَرْضِ عِمَادًا وأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَادًا فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا

وجهه في الخطبة الأولى، وأمّا كونها تسيخ لولاها؛ فلأنّها إذا مادّت انقلبت بأهلها فغاص الوجه الَّذي هم عليه وذلك مراده بسيخها فالمانع بها من الميدان هو المانع بها أن تسيخ أو تزول عن موضعها.

«فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا وأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا»: فيه إشارة إلى أنّ أصلها من زبد الماء كما أشير إليه من قبل، ويحتمل أن يشير بذلك إلى ما كان مغموراً بالماء منها، ثمّ سال الماء عنه إلى مواضع أسفل منه فخلا وجفّ وهي مواضع كثيرة مسكونة وغير مسكونة.

«فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَادًا وبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشًا فَوْقَ بَحْرٍ لِجُّيٍّ»: أي البحر العميق

كثر الماء «رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وقَائِمٍ لَا يَسْرِي تُكَرْكِرُهُ »: تردده «الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ

وتَمْخُضُهُ»: تحركه «الْغَاَمُ الذَّوَارِفُ»: إشارة إلى أنّ البحر إذا وقع فيه المطر يريح ويتمخض ويضطرب كثيرًا وذلك لتحريك رفع المطر له بكثرته وقوّته أو لكثرة اقتران المطر بالرياح فتموّجه، وأغلبها تحریکًا له الرياح الجنوبيّة لانکشافه لها، وقد شاهدنا ذلك كثيراً.

«إِنَّ فِي ذلِكَ»: أي في عدد المخلوقات المذكورة وتصريف القدرة الربّانيّة لها «لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى»: تنبيهاً على وجوه الاعتبار بها لمن يخشى الله، وأراد العلماء الانحصار الحشية فيهم بقوله تعالى «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1) وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«اللهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ»: ما زائده «مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَیْرَ الْجَائِرَةِ

ص: 224


1- سورة فاطر: الآية 28

والْمُصْلِحَةَ غَیْرَ الْمُفْسِدَةِ»(1): وهي دعوته إيّاهم إلى جهاد أعداء الدين والبغاة عليه.

«فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ»: التأخر «عَنْ نُصْرَتِكَ والإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ

دِينِكَ فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ»: أي نطلب شهادتك «عَلَيْهِ بأَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً ونَسْتَشْهِدُ

عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وسمَاوَاتِكَ»: وفي ذلك الاستشهاد ترغيب إلى الجهاد وتنفير عن التأخّر عنه، إذ كان كأنّه إعلام لله بحال المتخاذلين عن نصرة دينه وقعودهم عما أمرهم من الذب عنه؛ فتتحرك أوهامهم بالقرع إلى طاعته وكذلك وصفه لمقالته بالعدل والإصلاح ترغيب في سماعها وجذب إليها وفي قوله: «ثُمَّ

أَنْتَ بَعْدَ»: أي بعد تلك الشهادة عليه

«الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ»: تنبيه على عظمة ملك الله، وتحقيرٌ للنفوس المتخاذلة عن نصرة الدين «والْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ»: وفي التذكير بوعبد الله وأنّ في ذلك التخاذل ذنب عظيم يؤخذ به العبد وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«الْحَمْدُ للهَّ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِینَ»: أي الرفيع عن أن يشابه مخلوقاته في ذاته وصفاته وأفعاله.

«الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ»: أي يعجز كل قائل عن ذکر کنه عظمته وصفاته

«الظَّاهِرِ»: وجوده «بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ»: بسبب أفعاله العجيبة للمتفکرین.

الْبَاطِنِ »: كنه ذاته وصفاته «بِجَاَلِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِینَ»: أي غير مدرك بالحواس ولا يحيط به ظنون الظانين وقد سبق التحقيق وقيل الظاهر العالي على

ص: 225


1- ورد في بعض النهج: فِي الدِّينِ والدُّنْيَا

كل شيء والغالب له من ظهر عليه أذ علاه وغلبه والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه.

«الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ ولَا ازْدِيَادٍ»: برهان ذلك أنه لو أمكن الكسب لأمكن الجهل والثاني باطل فالمقدم مثله وبيان بطلان التالي ظاهر ووجه الملازمة أن عند أرباب الألباب «ولَ عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ»: كالتأكيد لما قبله.

«الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ ولَا ضَمِیرٍ»: إذ هي من صفات البشر تعالى عن ذلك خالق السموات والقوى والقدر.

«الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ»: إذ هو يدرك بعين البصيرة لا بعين البصر «ولَا يَسْتَضِءُ بِالأَنْوَارِ»: الظاهر بل بالباطنة «ولَا يَرْهَقُهُ»: أي لا يغشاه «لَيْلٌ ولَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ»: أي لا يظهره، وروي لا يرهقه أي لا يعجله، وقيل أي لا يباينه ليل بمكروه ولا نهار مجبوب أي لا يرهقه ليل مكروهًا لظلمته والنهار غير مكروه الضيائه، ولذلك أضاف إليه لفظ جري بخلاف الليل يومي إلى أن المنفعة والمضرة لا يجوزان عليه تعالى على، وجه من الوجوه ولذلك أكد الكلام بعبارتين.

«لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالإِبْصَارِ ولَا عِلْمُهُ بِالإِخْبَارِ»: روي كل منهما على المصدر والجمع وأراد أن الله سبحانه مدرك وليس أدار که بحاسة البصر وقد سبق بيانه وأن الله خبير عالم الأخبار من نفسه أو من غيره بیانه يظهر مما قد سلف ولما فرغ من التحميد وما يتعلق به شرع في صفات الرسول وفضله بقوله:

منها في ذكر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ: الضياء النبوة والهداية.

«وقَدَّمَهُ فِي الِصْطِفَاءِ»: أخباره من بين خلقه فتوجه بتيجان الرسالة وما

ص: 226

يتعلق بها «فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ»: أي ضم به متفارقات أحكام الإسلام وأدرجها تحت القواعد المضبوطة.

«وسَاوَرَ»: واثب «بِهِ الْمُغَالِبَ»: شبه ذاته تعالى بالواثب الغالب في الغلبة وانقياد المخالفين فاستعار المساورة له.

«وذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وسَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ»: أي بين به الأحكام التي لا يتطرق إليه سرادقاته إقدام أحكام أوهام الأيام وفيه استعارة وترشیح کما سبق مثل ذلك وكذا في قوله «حَتَّى سَرَّحَ »: فرق «الضَّلَالَ عَنْ يَمِینٍ وشِمَالٍ».

ومن خطبة له عليه السّلام:

«وأَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وحَكَمٌ فَصَلَ»: هما اسمان من أسمائه ورد بهما الخبر وعني العدل أنه يفعل في ملکه ما یرید؛ فيشير إلى استحقاقه لصفات العلو لأن حقيقة العدل أن یکون فعله حسن صواب، وإنما يكون حسنًا صوابًا إذا كان لفاعله أن يفعل فهو عادل وأفعاله عدل وله أن يفعل بحق ملکه ما يريد في خلقه والحاكم الحكم فصل بين الحق، والباطل وحكم في الأزل لعبادة ماشاء فمن شقي وسعيد وقريب وبعيد فمن حكم له بالسعادة لا يشقى أبداً ومن حكم عليه بالشقاوة لا يسعد أبداً.

«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسوله وسَيِّدُ عِبَادِهِ»: راغب السيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة، وينسب ذلك فيقال سيد الثوب، والفرش ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلًا في نفسه سيداً.

«كُلَّمَا نَسَخَ اللهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَیْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا»: أي كلما أزال الله قرنًا وجعل قرناً، آخر مكان الأولين جعل آباء محمد في خير منهم وقد سبق مثل ذلك وقوله:

ص: 227

«لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ»: معناه لم يفرغ فيه ران.

«ولَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ»: يقال ضربت فيه؛ فلانة بعرق ذي أشب أي التباس أي لم يدرك عاهر فيه سهمًا ولا فاخر نصيبًا لأنه لم يلده إلا الطاهرون والطاهرات؛ ثم ينبه على حكمه ذلك فقال:

«أَلَا وإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَیْرِ أَهْلًا ولِلْحَقِّ دَعَائِمَ»: استعار للأئمة الهداة ملاحظة لشبههم بعمد البيت أذ بهم يحفظ أركان الإسلام كما يحفظ الأركان بالأعمدة.

«ولِلطَّاعَةِ عِصَماً»: جمع عصمة وهي ما يحفظ الشيء أو يمنع عما يضر به.

«وإِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْنًا مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ يَقُولُ عَلَى الأَلْسِنَةِ ويُثَبِّتُ

الأَفْئِدَةَ»: صفة عونا أو حال عن الله بقول: إذا أعزهم على فعل طاعة فأن الله يحسن توفيقه ويثبت قلوبكم على إتمام تلك الطاعة وعلى غيرها من الطاعات وفاعل يقول ضمير قوله عوناً.

«فِيهِ» أي في العون «کِفَاءٌ لِمُکْتَفٍ»: الذي يطلب الكفاية.

«وشِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ»: طالب شفاء النفس عن داء الجهل.

«واعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ»: صفة عباد الله.

«يَصُونُونَ مَصُونَهُ»: خبران وفي نسخة الرضي رضي الله عنه بخطه المستحفظون.

«ويُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ»: كناية عن أنهم يحفظون أحكام الشريعة عن الخلل وينشرون قواعده وعلومه التي بمثابة غدر المياه وفيه استعارة وترشيح وقد مر غير مرة نضيره وقيل المستحفظون هنا الإمام المعصوم الذي استحفظه الله علومه

ص: 228

شرائعه على لسانه.

«يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَيَةِ»: النصرة والمودة: قال سيبويه بالفتح المصدر وبالكسر الاسم لأن أنتضام الأحكام بالاجتماع لا بالافتراق.

«ويَتَلَقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ ويَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ويَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ»: استعار السقي هم ملاحظة لشبه ما يعطى كل منهم حصنًا مما أعطاه الله من خزائن لطفه من العلوم والأخلاق ألماً.

«لَا تَشُوبُهُمُ»: لا يخلطهم «الرِّيبَةُ»: التهمة.

«ولَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ»: أي لا يقع في كلامهم غيبة أحد على غفلة أيضًا ثم قال:

«عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وأَخْلَقَهُمْ»: أي على جميع ما ذكره من خصال الخير شد الله قلوبهم وأعانهم.

«فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ»: أي على ذلك المذكور.

«وبِهِ يَتَوَاصَلُونَ»: فيه تنبيه على حسن هذه الصفاة وقبح اضدادها.

«فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ويُلْقَى»: أي كانوا متفاضلين كتفاضل البدر المنقى للحراثة وفيه أشاره إلى وجه الشبه أي كما أن البذر مختار جيده ويلقي رديه كذلك اختارهم الله للحراثة الآخروية وقوله:

«قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وهَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ»: من تتمة بيان وجه الشبهة محضت الذهب بالنار إذا خلصته بها مما يشوبه والتمحيص الابتلاء والاختبار أيضاً.

ص: 229

«فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولَهِا»: أي بما يجب عليه من حسن القبول لقوله تعالى فتقبلهاربها بقبول حسن «ولْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولَهِا»: هي من أسماء القيامة.

«ولْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وقَلِيلِ مُقَامِهِ»: في دار الدنيا وهو المراد بقوله:

«فِي مَنْزِلٍ حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلً فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ»: أي ليعمل للآخرة فأنها داره التي يتحول إليها.

«ومَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ»: أي مواضع انتقاله التي تعرفها وتعرف أنه ينتقل إليها کما يقال فلان من معارفي أي من أعرفه وقيل أي للمعرفة بعد المعرفة بالانتقال.

«فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ»: الذي لا خيانة فيه بل يكون سالمًا لكل آفة «أَطَاعَ

«مَنْ يَهْدِيهِ وتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ»: يهلكه «وأَصَابَ سَبِيلَ السَّاَمَةِ»: طريق الشريعة التي فيها السلامة ن الأهوال ومخافات الآخرة «بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ»: أي لا يتصرف فيه برأيه أعمى البصيرة، ولا يتبع جاهلا به بل ينقاد أمامه الهادي ويجيب عما يأمر به العادي فقوله:

«وطَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ»: كالتفسير له.

«وبَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ»: أي سابق فعل الواجبات قبل الموت، وفيه استعادة قد ذكرت في أمثاله غير مرة.

«وتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ»: اساب الهوي «واسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وأَمَاطَ الْحَوْبَةَ»: أي بعد الاثم.

«فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ»: الراط المستقيم صراط الله «وهُدِيَ نَهْجَ السَّبِيل» فلو لم يفعل ما ذكره لكان مفرطًا لا عذر له أذا أقيم لدى الجبار عما أتته به في الليل والنهار وبالله التوفيق.

ص: 230

ومن دعاء له عليه السّلام:

«الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتًا ولَا سَقِيمًا ولَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ»: ضَرَبَّان العروق إحساسهما بالمرض والألم فيها:

«ولَا مَأْخُوذًا بِأَسْوَأِ عَمَلِي ولَا مَقْطُوعًا دَابِرِي»: اصله الله دابرهم أي مهلك من بقي منهم قال تعالى «أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ»(1) أي أصلهم وقيل دابر الرجل عقبه.

«ولَا مُرْتَدًّا عَنْ دِينِي ولَا مُنْكِرًا لِرَبِّي ولَا مُسْتَوْحِشاً»: أي حزينًا «مِنْ إِيمَانِي»:

أي جعلني مستأنسًا به: «ولَا مُلتَبِساً»: أي مختلطًا «عَقْلِي ولَا مُعَذَّبًا بِعَذَابِ الأُمَمِ

مِنْ قَبْلِي»: حمد الله سبحانه وفيه تعليم السامعين على أجل نعمة التي الوجود والصحة، والقوة، وأنه لم يلقه في مُردّي عَصبَه بأقبح عمله، وَاعطَائه الولد، وتوفيقه على الثبات على الدين، والاستئناس به؛ ثم جاء عليه السلام في معرض الانكسار وهضم نفسه القدسية فقال:

«أَصْبَحْتُ عَبْدًا مَمْلُوكًا ظَالِمًا لِنَفْيِ لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ ولَا حُجَّةَ لِي ولَا أَسْتَطِيعُ أَنْ

آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي ولَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي»: فيه إشارة إلى قدرة الله تعالى وألوهيته وقدمه لا تنصروه في ملکه سواه ثم لاذ به عن الاحتياج فيما أعطاه من غناه وغيره فقال:

«اللهُمَّ إِنِّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ أَوْ أَضِلَّ فِ هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ»: أظلم فِي

«سُلْطَانِكَ أَوْ أُضْطَهَدَ والأَمْرُ لَكَ»: أشار إلى أنه الغني المطلق، أفتقر العبد أم لا قيل الغني الكفاية، والظرفية تدل على الشمول، وأن هدايته ودلالته على وجوده

ص: 231


1- سورة الحجر: الآية 66

ذاته، وصفاته باقية بإنشاء الأجرام العلوية، وأبداع الأجسام السفلية، وأن له سلطة شاملة محيطة على الموجودات تقدير على ما يريد أمضاؤه ويقوى على ما يشاء وفيه اعتراف بأن زمام الأنام بيده.

«اللهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا»: تسردها(1) «مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي»: أي إذا «وأول وديعة ترجعها»: أردت أن تسترد مني بعض أعضائي فقيل أن نزعت روحي التي عليها اعتماد البدن وقوامه فانتزع نفسي وفيه أشارة إلى كرامة الأعضاء والأركان ومن الآية العظيمة.

«اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ»: فتن الرجل

وأُفتتن والافتتان يتعدى ولا يتعدّى «أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا»: التتابع التهافت في الشر وتتابع بطرح (تا) المضارعة وروي على الأصل أي يتابع «دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ»: أي متجاوزًا عنه وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام خطبها بصفين:

«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا بِوِلَيَةِ أَمْرِكُمْ»: هي أسم لما توليته وقمت به مثل الأمارة فإذا أرادو المصدر فتحوا.

«ولَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ»: قد سبق بيان ما على الإمام وما على الرعية وسنذكره إيضاحه.

«فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ»: في أن يصف بعضهم بعضا.

«وأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ»: أي أنصاف بعضهم بعضا من نفسه أراد أنه من

ص: 232


1- ورد في بعض النسخ: مِنْ كَرَائِمِي وأَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتِجَعُهَا

حيث القول سهل ومن حيث العمل عسر.

«لَا يَجْرِي لأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ ولَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ»: أي سنة الله جارية على أن من له الحق على الغير كان لآخر عليه حق وفيه نوع تأكيد ما ادعاه قبله.

«ولَوْ كَانَ لأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ ولَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصًا للهَّ سُبْحَانَهُ دُونَ

خَلْقِه»: هذا مقدمة قياس شرطي وبيّن الملازمة بقوله:

«لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ»: أي لو كان ذلك المذكور اختص به سبحانه لأنه القادر على الأطلاق وغيره داخل تحت قدرته ويجب عليه إطاعة أمره ونهيه.

«ولِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ»: حكمه أي أنه سبحانه عادل يفعل ما ينبغي فلو أجرى أن له الحقوق لا عليه لكان عدلاً.

«ولَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ»: أي على حقه عليهم «مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّاً مِنْهُ وتَوَسُّعًا بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ»: بیان ما هو راجع إلى الله «أَهْلُهُ»: خبر هو وفيه إيماء إلى أن لا يجب على الله شيء لا کما زعمت المعتزلة.

«ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقًا افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ»: کما للأنبياء والأئمة على الرعية يعني طاعتهم.

«فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا»: يتساوى فيها ولا تنحرم، والضمير إلى لحقوق التي افترضها الله لبعض الناس على بعض.

«ويُوجِبُ بَعْضُهَا»: بعض تلك الحقوق وهي الطاعة «بَعْضاً»: وهي الهداية والمراعاة والوعظ.

ص: 233

«ولَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا»: أي لا يستحق على الأئمة ذلك الأرعاء منهم للأئمة ومتابعتهم.

«وأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ»: الله «سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ»: فرض وافترض مقادیر كل ما يجب على المكلفين.

«حَقُّ الْوَالِي عَلَی الرَّعِيَّةِ وحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَی الْوَالِي»: أعظم مبتدأ خبره حق.

«فَرِيضَةٌ: خبر مبتدأ محذوف أي كلاهما فريضة «فَرَضَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ»: وبين وجوهها «لِکُلٍّ»: أي لكل واحد منهم «عَلَی کُلٍّ»: وإذا روي فريضة بالنصب فعلی المدح او الحال.

«فَجَعَلَهَا نِظَامًا لأُلْفَتِهِمْ»: اجتماعهم «وعِزًّا لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا

بِصَلَاحِ الْوُلَةِ ولَا تَصْلُحُ الْوُلَةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ»: العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب بینهم استعارة للحق ووجه المشابهة ظاهر.

(1)«وقَامَتْ»: استقامت «مَنَاهِجُ الدِّينِ واعْتَدَلَتْ مَعَالُمِ الْعَدْلِ»: قد سبق مثل ذلك وبيانه:

«وجَرَتْ عَلَى أَذْلَالَهِا»: مسالكها السُّنَنُ: أي جري جميع ما سنه رسول الله على طرقه والسنن جمع سنة وهو كل فعل أدامه عليه السلام ولم يثبت أنه مخصوص به.

«فَصَلَحَ بِذَلِكَ»: الطرز «الزَّمَانُ وطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ ويَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ»:

ص: 234


1- ورد في بعض متون النهج: «فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَی الْوَالِي حَقَّهُ وأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ»

اسناد مجازي لطيف.

«وإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ»: أي ذهب بهم.

«اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ»: أي كلمات الناس وأقوالهم في طاعتهم «وظَهَرَتْ

مَعَالِمُ الْجَوْرِ وكَثُرَ الإِدْغَالُ»: الإفساد «فِي الدِّينِ وتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ»: جمع محجة وهي جادة الطريق.

«فَعُمِلَ بِالْهَوَى وعُطِّلَتِ»: أهملت «الأَحْكَامُ وكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ»: وهي الجهالات وغيرها من الخلاق الذميمة.

«فَلَا يُسْتَوْحَشُ»: لا يحزن «لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ»: أهمل «ولَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ

فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأَبْرَارُ وتَعِزُّ الأَشْرَارُ وتَعْظُمُ تَبِعَاتُ الله» وعقوباته «عِنْدَ الْعِبَادِ»: فإذا عرفتم ما لأداء الحق وعدمه.

«فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ وإِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللهِ حِرْصُهُ وطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ

الطَّاعَةِ لَهُ»: ما موصولة بمعنى الذي، والضمير لله وقد سبق بيان أن العبد بمعزل عن أداء حق شكره، وطاعته تعالى إذ بكل نعمة يستحق طاعة، وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

«ولَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ»: الملتبسة «بِمَبْلَغِ جُهْدِهِم»: طاقتهم «والتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ»: تصديره بما سبق للترغيب فيه بتذكیر

نعمه تعالى «ولَيْسَ امْرُؤٌ وإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ

بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ»: يعني أن المرء لو كبر بحيث لا مزية عليه فهو حقيق بأن یعان عليه إذ لم يخرج بذلك عن ربقة الاحتياج وفيه بيان ضمني

ص: 235

أعانته عليه السلام على ما حمله الله من حقه.

«ولَا امْرُؤٌ وإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ واقْتَحَمَتْهُ»: أردته «الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِینَ عَلَى ذَلِكَ»: الحق غیره «أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ»: وفي هذا الكلام إشارات:

الأولى: إلى عظمة الله وكثرت أفضاله، الثانية: إلى أنه سبحانه يستحق بكل نعمة طاعة، الثالثة: إلى أنه حقوقه على العباد كثيرة.

الرابعة: إلى (النصيحة أبو سلمان الخطابي) كلمة جامعة معناها: خسارة الحظ للمنصوح له وهي: أما لله تعالى قال العلماء أما النصيحة لله فمعناها: منصرف إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه وترك الألحاد في صفاته ووصفه بصفاته الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه عن جميع أنواع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه، ومولاة من أطاعه ومعادات من عصاه، وجهاد من كفره، والاعتراف بنعمته، وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة، والحث عليها؛ والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها كالخطابي وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فالله تعالي غني عن نصح ناصح وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فتصدیقه على الرسول والأيمان بما جاء به وطاعته في أمره ونهيه ونصرته حيًا وميتًا ومعاداة من عاده؛ وموالاة من والاه وإعظام حقه وتوقيره وأحياء طريقته وسنته وبث دعوته، ونشر سنته، ونهي التهمة عنها، واستشارة علومها، والتفقه في معانيها ونحو ذلك، وأما النصيحة لأئمة المسلمين؛ فمعاونتهم على الحق کما أشار إليه عليه السلام، وطاعتهم فيه وأمرتهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف وإعلامهم بما غفلوا عنه، أو لم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم و تألیف قلوبهم الناس لطاعتهم، وأما نصيحته عامة المسلمين؛ فهم من عدا ولاة

ص: 236

الأمر؛ فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم، ودنياهم وكف الأذى عنهم؛ فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ودنياهم وتعيبهم عليه بالقول، والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق، وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقیر کبیرهم، ورحمة صغيرهم وتحويلهم بالموعظة الحسنة، وترك غيبتهم، وحسدهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم، وإعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول، والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع التضحية، وتنشيط همهم إلى الطاعات الخامسة إلى أن انتظام أحوال الأنام ليس إلا بالمعاونة، ولا يبقى القوة البشرية عليه منفردة السادسة إلى السلطان ينبغي أن ينضر عظمته، والرعية حقارته؛ فيعين كل منهما صاحبه بحسب الوسع والطاعة في إعلاء الدين.

«فَأَجَابَهُ عليه السلام رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُكْثِرُ فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ

ويَذْكُرُ سَمْعَهُ وطَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ عليه السلام إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللهِ سُبْحَانَهُ

فِي نَفْسِهِ وجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ»: وهذا ظاهر مکشوف؛ إذ تضمحل كل عظمته عند عظمته بل، وجود كل شيء فضلاً عن عظمته، وقد ينتهي إلى تحير الباطن، وولهه واضمحلال، وجوده في وجوده کما قال:

ص: 237

قلب شرود وعقل واله *** وشربة سكرها باق إلى الأبد

يا عاذل العاشقين أرفق عليه فيه *** أفنوا زمانهم ما لهم ولا كمد

اقتنائهم الحب والكتمان قاطبة *** حتی رماهم بلا روح ولا جسد

فالدمع منهمل والعقل مرتحل *** والشجوماد من الأحشاء والكبد

وفي ذلك مراتب متفاوتة ودرجات متصاعدة كما أشار إليه عليه السلام.

«وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ»: أي يصغر عنده لعظمته كل من سواه «لَمَنْ عَظُمَتْ

نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ ولَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ»: وعلله بقوله:

«فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً»: لأن ملاحظة عظمة الأثر يقتضي إلى ملاحظة عظمة المؤثر، وكذا النعمة، والمنعم، والدین بالواهدة المرتبة أجهدهم في طاعته، وأجلسهم على أرائك محبته بل في حجر تربیته، ونضر إليهم بعين عاطفته حتی بلغوا مبلغ الرجال الكاسلين، وأسبغ عليهم سجالًا مثل سجال النبين، والصديقين، وكتبهم عنده في دوان المقربين المشاهدين لحاضرين كما قال وهو اصدق القائلين «فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ»(1) «وإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ»: أرداء «حَالَاتِ الْوُلَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ

أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ ويُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ»: إذ الأمور حينئذ لا يتمشى ويبتعد عنه من يجب ولا يته، ويظلمهم وإنما قال عند صالح الناس إذ لا اعتداد بظن طالحهم وفيه تنبيه لأكثر الملوك إذ هم على هذا السلوك، ولو تأملوا حقيقة

ص: 238


1- سورة النساء: الآية 69

حالهم لعلموا أنهم الصعلوك ولا يليق الكبرياء إلا بمالك الملوك.

«وقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ»: من الحولان «فِي ظَنِّكُمْ أَنِّ أُحِبُّ الإِطْرَاءَ»: من

الحولان «واسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ ولَسْتُ بِحَمْدِ اللهِ كَذَلِكَ»: إذ لم يكن سوى الله في قلبه، ومن كان كذلك كيف يلق به في أن يحجب الفخر وتضع أمره على الكبر اللذين لا يلتقيان إلا بعظمة الله أو يضر به ذلك ويُعامل بها يعامل به الجبابرة من الخطاب به وقوله:

«ولَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطًا للهِّ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ

أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ والْكِبْرِيَاءِ»: يجری مجری تسلیم الجدل: أي وهب إنّي أُحبّ أن يقال ذلك فيّ باعتبار ما فيه اللذّة لكنّي لو كنت كذلك لتركته باعتبار آخر، وهو الانحطاط والتصاغر عن تناول ما هو الله أحقّ به من العظمة والكبرياء، ونبّه في ذلك على أنّ الإطراء يستلزم التكبّر والتعظيم فكان ترکه له وكراهته لكونه مستلزما لهما.

«ورُبَّمَا اسْتَحْلَ النَّاسُ الثَّنَاءَ»: أي وجدوه حلا «بَعْدَ الْبَلَاءِ»: وروي استحل بمعنى وجدوه حلالاً والأول أحسن وهذا يجري مجرى تمهيد العذر لمن أثنى عليه فكأنّه يقول: وأنت معذور في ذلك حيث رأيتني أجاهد في الله وأحثّ الناس على ذلك، ومن عادة الناس أن يستحلوا الثناء عند أن يبلوا بلاء حسنا في جهاد أو غيره من سائر الطاعات. ثمّ أجاب عن هذا العذر في نفسه بقوله:

«فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَي اللهِ سُبْحَانَهُ وإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ

فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا»: أراد فلا تثنوا عليّ لأجل ما ترونه منّی من طاعة الله؛ فإنّ ذلك إنّما هو إخراج لنفسي إلى الله من الحقوق

ص: 239

الباقية عليّ لم أفرغ بعد من أدائها وهي حقوق نعمه، ومن فرائضه الَّتي لا بدّ من المضي فيها، وكذلك إليكم من الحقوق الَّتي أوجبها الله عليّ لكم من النصيحة في الدين والإرشاد إلى الطريق الأقصد والتعليم لكيفيّة تناوله، وفي خطَّ الرضى رحمه الله من التقيّة بالتاء، والمعنى فإنّ الَّذي أفعله من طاعة الله إنّما هو إخراج لنفسي وإليكم من بقية الخلق فيما يجب عليّ من الحقوق أو كان عليه السلام إنّما يعبد الله لله غير ملتفت في شيء من عبادته وأداء واجب حقّه إلى أحد سواء خوفا منه أو رغبة إليه، وكأنّه قال: لم أفعل شيئا وهو أداء حقّ وجب عليّ وإذا كان كذلك فكيف أستحقّ أن يثني عليّ لأجله بثناء جميل وأقابل بهذا التعظيم وهو من باب التواضع لله وتعليم كيفيّته وكسر النفس عن محبّة الباطل والميل إليه.

ثم أرشدهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من السيرة عنده ونهاهم عن أمور فالأول قوله:

«فَلَا تُكَلِّمُونِ بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ»: لما فيه من إغراء النفس، ولأنّه عليه السّلام ليس بجبّار فيكون ذلك منهم وصفا للشيء في غير موضعه.

والثاني: «ولَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ»: وسرعة الغضب من الملوك وغيرهم، وذلك التحفّظ كتكلَّف ترك المساورة والحديث إجلالا وخوفا منه؛ أو كترك مشاورته؛ أو إعلامه ببعض الأمور؛ أو كالقيام بين يديه فإنّ ذلك التحفّظ قديفوت به مصالح كثيرة، ولأنّه ممّا يغرق النفس بحبّ الفخر والعجب، ولأنّه وضع للشيء في غير موضعه.

الثالث: «ولَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ»: والنفاق لما فيه من فساد الدين والدنيا.

والرابع: «ولَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي»: وأن كان فيه مرارة فأن عدَّله

ص: 240

عليه السلام يستلزم قبول الحق كيف كان.

«ولَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْيِ»: أي ولا تضنوا بي ألتماس إعظام لنفسي فأني لا ألتمس عظمة نفسي واستعطافها عند غيري وذلك لمعرفته بمن هو أهله دونه وهو الله تعالى.

«فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ»: قياس ضمير من الشكل الثاني بيّن فيه أنّه لا يستثقل قول الحقّ له وعرض العدل عليه ليزول ظنّ من ظنّ ذلك به، والمذكور هو صغرى القياس وتلخيصها أنّ من استثقل قول الحقّ له، وعرض العدل عليه كان العمل الحقّ، والعدل عليه ثقيلا بطريق أولى، وتقدير الكبرى، ولا شيء من العمل بهما بثقیل عليّ؛ أمّا الصغرى؛ فظاهرة لأنّ تكلَّف؛ فعل الحقّ أصعب على النفس من سماع وصفه، وأمّا الكبرى فلأنّه عليه السّلام يعمل بهما من غير تكلَّف؛ واستثقال کما هو المعلوم من حاله؛ فينتج أنّه لا شيء من قول الحقّ له وعرض العدل عليه بثقیل.

السادس: «فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ»: لما في الكفّ عن ذلك من المفسدة.

«فَإِنِّ لَسْتُ فِي نَفْسِيِ بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْيِ مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي»: من قبيل التواضع الباعث لهم على الانبساط معه بقول الحقّ، وفي قوله: إلَّا أن يكفى الله من نفسي: أي من نفسي الأمّارة بالسوء ما هو أقوى منّی على دفعه وكفايته من شرورها، وهو إسناد العصمة إلى الله تعالى.

«فَإِنَّمَا أَنَا وأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَیْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ

ص: 241

أَنْفُسِنَا وأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَی مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَلَةِ بِالْهُدَى وأَعْطَانَا

الْبَصِیرَةَ بَعْدَ الْعَمَى»: أي من الضلالة في الجاهليّة، وعمى الجهل فيها عن إدراك الحقّ وسلوك سبيل الله إلى الهدى والبصيرة لما ينبغي من مصالح الدارين، وذلك ببعثة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وظهور نور النبوّة عنه.

قيل أشار بقوله كنا إلى العرب وأن لم يكن عليه السلام فيه وفي هذا الكلام تأديب في الانقياد بالله وبدليل لعظمته وظاهر کونه تعالى يملك منا أنفسنا وَمثلها وخواطرها إذ الكل منه وهو بيد قبضه والاستعداد له وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام: في التظلم والتشكي والاستغاثة بالله على قريش فيما دفعوه عنه من حق الإمامة التي هو أولى به:

«اللهُمَّ إِنِّ أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ»: أستعينك عليهم وأطلب منك أن تنتقم

منهم.(1) «فَإِنُهَّمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي»: كناية عن المذكور «وأَكْفَئُوا»: قلبوا «إِنَائِي»: عن إعراضهم وتفرّقهم عنه فإنّ ذلك من لوازم قلب الإناء كما أنّ من لوازم نصبهم له وتعديله إقبالهم واجتماعهم عليه.

«وأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقًّا كُنْتُ أَوْلَ بِهِ مِنْ غَیْرِي»: قالت الأمامية الإشارة بالمجتمعين إلى قريش حين وفات الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وذلك الغير الَّذي كان هو أولى منه هم الخلفاء الثلاثة قبله، وقال غيرهم: بل أشار بالمجمعين إليهم وقت الشورى، واتّفاقهم بعد الترديد الطويل على عثمان فلا يدخل الشيخان الأوّلان في هذه الشكاية، والقول الثاني ضعيف، إذ صرّح بمثل هذه الشكاية من الأئمّة الثلاثة قبله في الخطبة الشقشقيّة كما بيّناه، وبالجملة مراده من هذا الكلام،

ص: 242


1- ورد في بعض متون النهج: ومَنْ أَعَانُهَمْ

وأمثاله بعد استقراء أقواله، وتصفّح أحواله لا يخفى على عاقل، ويشبه أن يكون صدور هذا الكلام منه حين خروج طلحة والزبير إلى البصرة تظلَّما عليهما فيكون المفهوم من قوله: وأجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري إنکارا الإجماعهم منازعته ذلك الحقّ؛ فإنّه إذا كان أولى به ممّن سبق من الأئمّة على جلالة قدرهم وتقدّمهم في الإسلام فكيف بهؤلاء مع كونهم أدون حالا منهم، وهو كقوله فيا لله وللشوری متی اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر.

«وقَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ

مُتَأَسِّفاً»: حكاية لقولهم بلسان حال فعلهم لا أنّهم قالوا له ذلك.

«فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ»: معن «ولَا ذَابٌّ»: دافع لهم «ولَا مُسَاعِدٌ»: معاون

«إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ»: أي أنجلت عن الموت «فَأَغْضَيْتُ عَلَى

الْقَذَى» أي صبرت على الأذى.

«وجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا وصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ»: قد مضى تفسير مستوفي في الشقشقة وفي فصل بعدها بثلث وعشرين فصلاً.

«وآلَمَ لِلْقَلْبِ»: أي أشد إيلامًا «مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ»: قطع السكين العريض هذا ظاهر؛ فأن تألم النفوس بما يفوتها من الكمالات النفسانية؛ أشد نکیر من الآلام الحسية من حر السكين وغيره ومن طالع الفصلين المتقدّمين علم التفاوت في الرواية لهما ولهذا الفصل.

ولذا قال الرضي رضي الله عنه:

وقد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة إلا أنی کررته ههنا لاختلاف

ص: 243

الروايتين منها في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السّلام «فَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِي وخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فِي يَدَيَّ وعَلى أَهْلِ مِصْرٍ كُلُّهُمْ فِي طَاعَتِي وعَلَى بَيْعَتِي فَشَتَّتُوا كَلِمَتَهُمْ»: أي فرقوها «وأَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ ووَثَبُوا عَلَى شِيعَتِي فَقَتَلُوا طَاِئفَةً منْهُمْ غَدْرًا وطَاِئفَةٌ عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ»: أي فرقوها «وأَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ ووَثَبُوا عَلَى شِيعَتِي

فَقَتَلُوا طَاِئفَةً منْهُمْ غَدْرًا وطَاِئفَةٌ عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ»: استعارة حسنة للصبر على القتل والقتال.

«فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللهَ صَادِقِینَ»: أشار بالذين قدموا عماله إلى طلحة والزبير وعائشة واتباعهم فأما حالهم مع عماله وما فعلوا بهم و وبخزّان بیت المال بالبصرة فقد مرّ ذكره مستوفي، وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد: بن أبي العاص بن أمية وهما قتيلان يوم الجمل:

«لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ»: كنية طلحة «بِهَذَا الْمَكَانِ غَرِيبًا أَمَا واللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ

أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ أَدْرَكْتُ وَتْرِي»: حقدي «مِنْ بَنِي عَبْدِ

مَنَافٍ وأَفْلَتَنِي»: نحاني «أَعْيَانُ بَنِي جُمَحَ لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَی أَمْرٍ»: أي مدوها

إليه «لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ»: أي كسرت أعناقهم وفي هذا الفصل إشارات الأولى أن قتله عليه السلام لمن قتله من مخالفيه ومن قبل من عسكره ليس إلا أقامه للدين، ونضام العالم، وليس للإنسان بقول کما قال بعض الناس قبل هؤلاء على كثرتهم فساد ظاهر لأنه، وأن كان فسادا ألا أنه خير بالنسبة إلى صلاح جميع المسلمين، وفعل ما هو تصوره جزئية من الفساد لمصلحة كلية، وأجب في الحكمة وهو كقطع عضو فاسد لإصلاح باقي البدن.

الثانية: قوله: تحت بطون الكواكب کناية لطيفة عن الفلوات، وأراد أنّی کنت

ص: 244

أكره أن يكونوا بهذه الحالة في الفلوات بحيث لا كنّ ولا ظلّ يواريهم.

الثالثة: لقائل أن يقول: لم قال عليه السّلام: أدركت و تری من بنی عبد مناف والوتر الحقد وهو رذيلة فكيف يجوز منه عليه السلام أن ينسبه إلى نفسه ويقول: قد أدركته، والجواب أنّ الحقد تعود حقيقته إلى ثبات الغضب، وبقائه ببقاء صورة المؤذي في الخيال، ومن حيث إنّ ثبات ذلك الغضب بتصوّر المؤذي في الدين لا يكون رذيلة، فلا يكون أخذ الحقّ به ونصرته مكروهة.

الرابعة: أنّ طلحة والزبير كانا من بنی عبد مناف من قبل الأُمّ دون الأب فإنّ أبا الزبير من بني عبد العزّى بن قصي بن كلاب، وأمّا طلحة من بنی جعد بن تمیم بن مرّة، وكان في زمن أمير المؤمنين عليه السّلام من بني جمح عبد الله بن صفوان بن أُميّة بن خلف، وعبد الرحمن بن صفوان، وقيل: كان مروان بن الحكم منهم أُخذ أسيرا يوم الجمل واستشفع بالحسين إلى أبيه عليهم السّلام، وروي عوض أعيان أغيار بني جمح وهم السادات أيضاً.

والخامسة: إتلاع رقابهم استعارة كنّی بها عن تطاولهم لأمر الخلافة مع كونهم ليسوا أهلا لها. ووقصهم كناية عن قتلهم دون ذلك الأمر وقصورهم عنه وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام في ذكر النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ»: أشار به إلى صرف همّته في تحصيل الكمالات العقليّة من العلوم والأخلاق وإحياء عقله النظري والعمل بها بعد الرياضة بالزهد والعبادة.

«وأَمَاتَ نَفْسَهُ»: إيماء إلى قهر نفسه الأمّارة بالسوء، وتطويعها بالعبادة للنفس المطمئنّة بحيث لا يكون لها تصرّف على حدّ طباعها إلَّا بإرسال العقل وباعثه

ص: 245

فكانت في حكم الميّت عن الشهوات والميول الطبيعيّة الَّذي لا تصرف له من نفسه.

«حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ»: أي حتّى انتهت به إماتته لنفسه الشهويّة إلى أن دقّ جليله، وکنّی بجلیله عن بدنه؛ فإنّه أعظم مایری منه.

«ولَطُفَ غَلِيظُهُ»: إشارة إلى لطف بدنه أيضاً، ويحتمل أن يشير به إلى لطف قواه النفسانيّة بتلك الرياضة وكسر الشهوة؛ فإنّ إعطاء القوّة الشهویّة مقتضى طباعها من الانهماك في المآكل، والمشارب ممّا يثقل البدن، ویکدّر الحواسّ، ولذلك قيل: البطنة تذهب الفطنة وتورث القسوة والغلظة.

فإذا قصرت على حدّ العقل لطفت الحواسّ عن قلَّة الأبخرة المتولَّدة عن التملَّؤ بالطعام والشراب، ولطف بلطف ذلك ما غلظ من جوهر النفس بالهيئات البدنيّة المكتسبة من متابعة النفس الأمّارة بالسوء كلطف المرأة بالصقال حتّی يصير ذلك اللطف مسبّباً لاتّصالها بعالمها واستشراقها بأنوار من الملأ الأعلى.

«وبَرَقَ لَهُ لَمِعٌ كَثِرُ الْبَرْقِ: أشار باللامع إلى ما يعرض اللسان عند بلوغ الإرادة والرياضة حدّا ما من الجلسات إلى الجناب الأعلى؛ فيظهر له أنوار إلهيّة لذيذة شبيهة بالبرق في سرعة لمعانه واختفائه، وتلك اللوامع مسمّاة عند أهل الطريقة بالأوقات، وكلّ وقت فإنّه محفوف بوجد إليه قبله ووجد عليه بعده لأنّه لمّا ذاق تلك اللذّة؛ ثمّ فارقها حصل فيه حنين، وأنين إلى ما فات منها؛ ثمّ إنّ هذه اللوامع في مبدأ الأمر تعرض له قليلًا قليلًا؛ فإذا أمعن في الأرتياض كثرت، فأشار باللامع إلى نفس ذلك النور، وبكثرة برقه إلى كثرة عروضه بعد الإمعان في الرياضة.

ص: 246

ويحتمل أن يكون قد استعار لفظ اللامع للعقل الفعّال، ولمعانه ظهوره للعقل الإنسانيّ، وكثرة بروقه إشارة إلى كثرة؛ فيضان تلك الأنوار الشبيهة بالبروق عند الإمعان.

«فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ»: أي كان سببًا لسلوكه في سبيل الله إليه «وسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ»: أي ظهرت له بسبب ذلك أنّ الطريق الحقّ إلى الله هي ماهو عليه من الرياضة.

«وتَدَافَعَتْهُ الأَبْوَابُ»: أي أبواب الرياضة «إِلَی بَابِ السَّاَمَةِ ودَارِ الإِقَامَةِ»: وهي أبواب الجنّة أعني تطويع النفس الأمّارة، والزهد الحقيقيّ، والأسباب الموصلة إليهما كالعبادات وترك الدنيا؛ فإنّ كلّ تلك أبواب يعبر منها السالك حتّى ينتهي إلى باب السلامة، وهو الباب الَّذي إذا دخله السالك تيقّن فيه السلامة من الانحراف عن سلوك سبيل الله بمعرفته أنّ تلك هي الطريق، وذلك الباب هو الوقت الَّذي أشرنا إليه، وهو أوّل منزل من منازل الجنّة العقليّة.

وقوله: «وثَبَتَتْ رِجْاَهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الأَمْنِ والرَّاحَةِ»: أي ثبتت، إشارة إلى الطور الثاني للسالك بعد طور الوقت، ويسمّى طمأنينة، وذلك أنّ السالك ما دام في مرتبة الوقت فإنّه يعرض لبدنه عند لمعان تلك البروق في سرّه اضطراب وقلق يحسّ بها خلسة لأنّ النفس؛ إذا فاجأها أمر عظيم اضطربت، وتقلقلت؛ فإذا کثرت تلك الغواشي ألفتها بحيث لا تنزعج عنها ولا تضطرب لورودها عليها بل تسكن وتطمئن لثبوت قدم عقله في درجة أعلى من درجات الجنّة الَّتي هي قرار الأمن والراحة من عذاب الله.

وقوله: «بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وأَرْضَ رَبَّهُ»: متعلَّق يثبت أيضاً: أي وثبتت رجلاه بسبب استعمال قلبه ونفسه في طاعة الله وإرضائه بذلك الاستعمال، وبالله التوفيق.

ص: 247

ومن كلام له عليه السّلام قاله بعد تلاوته: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»

«يَا لَهُ مَرَامًا مَا أَبْعَدَهُ»: هذا اللام: لام الجرّ للتعجّب كقولهم: يا للدواهي، والجارّ والمجرور في محلّ النصب لأنّه المنادي ويروی: یا مراماً، أي يا قوم تعالوا لهذا العجب والضمير في قوله له للعجب الذي هو كالمعلوم عند النداء ثم میز ذلك العجب فقال:

«مَرَاماً»: فنصبه على التميز «مَا أَبْعَدَهُ وزَوْرًا مَا أَغْفَلَهُ وخَطَرًا مَا أَفْظَعَهُ»: وأرد التعجّب من بعد ذلك المرام وهو التكاثر؛ فإنّ الغاية المطلوبة منه لا يدركها الإنسان لأنّ كلّ غاية بلغها؛ ففوقها غاية أخرى قد أدركهاغيره؛ فنفسه تطمح إليها، وذلك التعجّب من شدّة غفلة الزور: أي الزائرين للمقابر لأنّ الكلام خرج بسبب الآية، وظاهر أنّ غفلة الإنسان عمّا يزور ويقدم بعد تلك الزيارة عليه غفلة عظيمة وهي محلّ التعجب، وكذلك التعجّب من فظاعة الخطر والإشراف على شدائد الآخرة؛ فإنّ كلّ خطر دنیاوي يستحقر في جنبه.

«لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ»: أي من الأموات «مُدَّكرِ»: منصوب بفعل مقدار أي وجدوا أي مذكر كناية عما حلوه من الآثار التي هي العبرة وهو استفهام على سبيل التعجب من ذلك المذكر في إفادته للعبر لأولي الأبصار.

«وتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ»: أي تركو منهم ما ينتفعون به ومكاثرتهم بالماضين من قومه الين هم بعد الموت أبعد الناس عنه أو الذين كمالاتهم أبعد الكمالات عنه وکنی بالمكان البعيد عن ذلك الاعتبار فإنّ الأموات و کمالاتهم في عمان

ص: 248

أبعد الاعتبارات عن الأحياء، وكذلك استفهم عن ذلك استفهام إنكار، وتوبيخ فقال:

«أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ»: أي بقبورهم «أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى»: جمع هالك

«يَتَكَاثَرُونَ يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَادًا خَوَتْ: خلت «وحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ»: وذلك الارتجاع بالمفاخرة بهم فكأنّهم بذكرهم لهم في العجز قد أرتجعوهم بعد موتهم، ويحتمل أن يكون ذلك مستفهمًا عنه أيضاً؛ على سبيل الإنكار، وإن لم يكن حرف الاستفهام، والتقدير أير تجعون منهم بفخرهم لهم أجسادا خوت.

«ولأَنْ يَكُونُوا عِبَرًا أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً»: تقرير مؤكد لتوبيخه لهم على ترك العبرة بالمدّكر الَّذي هو وجه النفع وأخذهم بالوجه البعيد وهو الافتخار، وكشف المعناه كذلك قوله: «ولأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ»: بالاعتبار بمصارعهم فإنّه يستلزم الخشوع لعزّة الله والخشية منه، أولى بالعقل والتدبير.

«أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ»: بالمفاخرة والمكاثرة «لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ

بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ» هي أن يركب أمرًا على غير بيان هي أن يركب أمرًا على غير بيان لنسبتها إليها: أي نظروا إليها بأبصار قلوب غطَّى عليها الجهل بأحوالهم فساروا في تلك الأحوال بجهالة غامرة لهم، وإليه أشار بقوله:

وضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ ولَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ

الْخَاوِيَةِ والرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ»: الضمير للعرصات أي لو طلب منها النطق القالت بلسان حالها.

«ذَهَبُوا فِي الأَرْضِ ضُلَّالًا وذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالً»: نصبهما على الحال اذهبوا في الأرض هالكين وذهبتم بعدهم جاهلين بأحوالهم.

ص: 249

«طَأُونَ فِي هَامِهِمْ »: رؤسهم «وتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ»: أي تطلبون أن تكونوا في أجسادهم ناسين مفاخرة بهم وقيل يستثبتون الأشجار في أجسادهم وذلك في المواضع التي بليت فيها الأجساد.

«وتَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا»: أي تأكلون مما تركوا أراد الميراث.

«وتَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا وإِنَّمَا الأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ ونَوَائِحُ عَلَيْكُمْ»: أي تضيعون الأعمار بالباطل فتكاد أيام عمر کم تبكي، وتنوح علیکم کما بکت وناحت عليهم، وأستعار لفظ البواكي، والنوائح لآثام الحياة ملاحظة لتشبههما في مفارقتهم لها بالأمهات التي فارقتها أولادها بالموت.

«أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ»: أي السابقون إلى الماء والواحدفارط أراد السابقين لكم إلى غايتكم وهي الموت وما بعده إلى مناهلكم وفي تلك الموارد أيضاً.

«الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ»: جمع مقام لأنّ ألفه عن واوها.

«وحَلَبَاتُ الْفَخْرِ»: جمع حلبة وهي خيل تجمع للسباق «مُلُوكًا وسُوَقاً: منصوبان على الحال والثاني خلاف الأول «سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلً»: البرزخ ما بين لدنيا والآخرة من وقت الموت إلى حين المبعث، ومن مات دخل البرزخ، وبطونه ماغاب، وبطن منه عن علومنا، ومشاهدتنا، والسبيل فيه هي مسلك التقرير بهم إلى غايتهم من سعادة أو شقاء.

«سُلِّطَتِ الأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ»: البرزخ «فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وشَرِبَتْ مِنْ

دِمَائِهِمْ»: نسبة الكل والشرب إلى الأرض مجاز يقارب الحقيقة في كثرة الاستعمال.

ص: 250

«فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً»: الفجوة الفرجة بين الشيّئين و فجوة الدنيا ساحتها والجمع فجوات والحسم الجماد الكثيف الصلب الذي يختص بیبوسته وفجوة الدنيا ساحتها واجمع فجوات والجسم الجماد الكثيف الصلب الذي يختص بیبوسته ولا يوجد فيه حياة وهو اسم جنس فلذلك لم يجمع.

«لَا يَنْمُونَ»: لا يزيدون «وضِمَاراً»: غائبًا لا يرجى إيابه «لَا يُوجَدُونَ لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الأَهْوَالِ»: أهوال الأرض عليهم «ولَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الأَحْوَالِ ولَا يَحْفِلُونَ»: لا يبالون.

«بِالرَّوَاجِفِ ولَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ»: أي لا يسمعون إليها وإنّما سلبها عنهم لكونها توابع الحياة وصفاتها وكأني بك وهذا ينافي مانقل من عذاب القبر فأنه ملزوم للفزع والحزن.

فأقول: إنما سلب عنهم الفزع والحزن من أهوال الدنيا والمشاهدة لها وكذلك الحفلة بأهوالها وسماعها، وعذاب القبر ليس من ذلك القبيل بل من أحوال الآخرة وأهوالها ولا يلزم من سلب الفزع الخاص سلب العام.

«غُيَّبًا لَا يُنْتَظَرُونَ وشُهُودًا لَا يَحْضُرُونَ»: فيه تنبّيه على أنّ غيبتهم وشهودهم ليس كغيبة أهل الدنيا وشهودهم. إذ كان الغائب في الدنيا من شأنه أن ينتظر والشاهد فيها حاضر وهم شاهدون بأبدانهم مع صدق الغيبة عليهم عنّا: أي بأنفسهم، ولمّا امتنع ذلك العود لا جرم صدق أنّهم غيّب لا ينتظرون، وشهود لا يحضرون.

«وإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعًا فَتَشَتَّتُوا وأُلَّفًا فَافْتَرَقُوا»: الألف الأليف ويجمع على الآلاف مثل کافر وكفار.

ص: 251

«ومَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ ولَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ»: حفت «أَخْبَارُهُمْ وصَمَّتْ

دِيَارُهُمْ ولَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْسًا بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَسًا وبِالسَّمْعِ صَمَمًا وبِالْحَرَكَاتِ

سُكُوناً»: أي عدم عملنا بأخبارهم وصمم ديارهم عند ندائنا ليس لأجل طول عهد بيننا وبينهم، ولا بعد محلَّتهم، ومستقرّهم فإنّ الميّت حال موته وهو بعد مطروح البدن مشاهدٌ لنا تعمى علينا أخباره ولا يسمع ندائنا دیاره، ولكن ذلك لأجل أنّهم سقوا كأس المنيّة فبدّلتهم بالنطق خرسًا وبالسمع صممًا وبالحركات سکونًا و إسناد العمى إلى الأخبار والصمم إلى الديار مجاز كقولهم: نهاره صائم وليله قائم.

«فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ»: يوم أي إذا أراد أحد ينشئ صفة حالهم، شبّههم بالصرعى عن النوم، ووجه الشبه عدم الحركات والسماع والنطق مع الهيئة المشاهدة من المستغرق في نومه؛ ثمّ نبّه على أنّهم في أحوالهم الأُخرويّة من تجاورهم مع وحدتهم، وتهاجرهم ليس كذلك في الدنيا فقال:

«جِیرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ»: أي هم جيران من حيث الجوار والقرب ولكن لا يستأنس بعضهم بحديث بعض.

«وأَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ»: وإنما كانت مخالفة لتلك الأحوال في الدنيا إذ من شأن الجيران فيها أن يأنس بعضه ببعض والأحياء أن يثيروا وأشار بالجوار إلى تقارب أبدانهم في القبور وبالمحابة إلى ما كانوا عليه من التحاب في الدنيا.

«بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ»: جمع عروة للكنوز، القميص أي مع ذلك فهؤلاء لا يتعارفون وذهبت شفقة الأخوة التي كانت بينهم وإليه أشار بقوله:

وانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الإِخَاءِ فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ»: هو لا يكون في جماعة «وهُمْ

ص: 252

جَمِيعٌ وبِجَانِبِ الْهَجْرِ وهُمْ أَخِلَّاءُ»: فيه أشارة إلى عدم تزاورهم كذلك إخلاؤهم إلى ما كانوا عليه من المودة في الدنيا.

«لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحًا ولَا لِنَهَارٍ مَسَاءً»: لكونها من لواحق الحركات الدنيويّة الفانية عنهم فتساوي الليل والنهار بالنسبة إليهم، وكذلك قوله:

«أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً»: أبدا والجديدان الليل والنهار لتجدّد كلّ منهما أبداً، واستعار وصف الظعن لانتقالهم إلى الدار الآخرة، وكون ذلك الجديد الَّذي ظعنوا فيه سرمدًا عليهم ليس حقيقة لعدم عوده بعينه بل إسناد السرمديّة إليه لكونه جزء من الزمان الَّذي يلزمه السرمديَّة لذاته حقيقة.

«شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا»: الخوف ضن متعلق بحصول مضرة في المستقبل أو خوف منفعة.

«ورَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا»: علاماتها «أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا»: فيه إشارة إلى صعوبة أهوال الآخرة وعظمية أحوالها بالنسبة إلى ما يخاف منها في الدنيا، وذلك أمر عرف بأخبار الشريعة الحقّة وتأكَّد باستقراء اللذّات، والآلام العقليّة، ونسبتها إلى الحسيّة، ثمّ إنّ الخوف، والرجاء لأمور الآخرة إنّما يبعثان منّا بسبب، وصف تلك الأمور، وإنّما يفعل من تلك الأوصاف ما كان فيه مناسبة، وتشبّه بالأمور المخوفة، والمرجّوة في الدنيا؛ فنحن نتصوّر تلك على قياس هذه؛ فذلك سبب سهولتها علينا؛ وضعف خوفنا منها، ورجائنا لها حتّى لو شاهدنا؛ أخطار تلك الدار لشاهدنا أشدّ ممّا نخافه الآن ونتصوّره ونقدّره بأوهامنا. فلا جرم لمّا وصل السابقون شاهدوا أفظع ممّا خافوا.

«فَكِلْتَا الْغَايَتَیْنِ»: أي غاية المؤمنين والكافرين من سعادة وشقاوة «مُدَّتْ لَهُمْ»:

ص: 253

أي مدّ لهم أجل ينتهون «إِلَی مَبَاءَةٍ»: غاية ومرجع وهو الجنّة أو النار «فَاتَتْ»: سبقت بالمباعة «مَبَالِغَ الْخَوْفِ والرَّجَاءِ»: خوفناورجاءنا: أي هو أعظم ممّا نخافه ونرجوه، وأسند المدّ إلى الغاية مجازا.

«فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا»: عجزوا «بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا ومَا عَايَنُوا»: ثم تكلم بما هو من أفصح الكلام وأبلغه فقال:

«ولَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ»: انمحت «وانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ

الْعِبَرِ»: التي يعتر بها «وسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ» مجاز في علمها بأحوالهم التي من شأنها أن يسمع أطلاقًا لأسم السبب عل المسبب «وتَكَلَّمُوا مِنْ غَیْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ»: أي من غير أفواه وألسنة لحمانيّة ولكن بألسنة أحواليّة.

«فَقَالُوا كَلَحَتِ»: عبست «الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ»: النواعم «وخَوَتِ الأَجْسَامُ

النَّوَاعِمُ»: فيه رعاية اليقين «ولَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى» استعارها للتغيّر والتقشّف والتمزيق العارض لجسم الميّت لمشابهتها العظم البالي، ويحتمل أن يريد بها الأكفان.

«وتَكَاءَدَنَا»: انقلنا «ضِيقُ الْمَضْجَعِ»: القر «وتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ»: وحشة القبور واستعار التوارث لكون تلك الوحشة لأبائهم قتلهم فحصلت لهم بعدهم.

«وتَهَكَّمَتْ»: تهدمت «عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ»: أي تهدمت علينا المقابر والمحال الصامتة الخالية وقبل معناه اشتدت علينا من قولهم تهكم عليه اشتد غضبه.

«فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا»: ما كان معروفًا منها في الدنيا «وطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ»: القبور «إِقَامَتُنَا ولَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجًا

ولَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعًا فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ»: أي تخليت صورهم «بِعَقْلِكَ»: أيها المخاطب

ص: 254

وأستحقر بها في خيالك.

«أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ»: أي ما حجب بأغطية التراب والسواتر الأجسادهم عن بصرك.

«وقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ واكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ»: أي ثبتت الهوام في أسماعهم وأقامت فيها وجعلنا موطنًا وصار التراب بمنزلة كحل البصر وخسوف العين ذهابها في الرأس وتَقَطَّعَتِ الأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَقَتِهَا»: فصاحتها وحدتها في الكلام «وهَمَدَتِ الْقُلُوبُ»: ماتت «فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا»: استعارة لحياتها وحركاتها «وعَاثَ»: افسد «فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا»: فتحها «وسَهَّلَ طُرُقَ الْفَةِ إِلَيْهَا»: الأسناد مجاز مُسْتَسْلِمَاتٍ: منقادات حال للجوارح و العامل عاث أو سهل.

«فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ ولَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ»: جواب لو «لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ»: أحزانها «وأَقْذَاءَ عُيُونٍ»: وأحسن بقوله:

«لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ وغَمْرَةٌ لَ تَنْجَلِي»: لا ينكشف وصفًا کمالیًا فأنه لا مزيد عليه في البلاغة اللذيذة وأراد بالغمرة من الفظاعة ما أنغمرهم من الشدائد.

«فَكَمْ أَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وأَنِيقِ لَوْنٍ»: معجبة «كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ

تَرَفٍ»: فعيل بمعنى المفعول أي معدي بالنزف وهو التنعم الذي يطغي.

«ورَبِيبَ شَرَفٍ»: مربوبه: «يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ»: التعليل التلهي بشيء عما هو خير منه والتجري به كما يعلل الصبي بشيء من الطعام.

ص: 255

«ويَفْزَعُ إِلَی السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ»: أي يفزع عن المصيبة النازلة به إلى المسرات والمتنزهات.

«ضَنًّا بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ»: أي تخيلًا بطيبه ولينه «وشَحَاحَةً»: بخلًا «بِلَهْوِهِ ولَعِبِهِ

فَبَيْنَا»: اصله بين وألف عن اشباع الفتحة.

«هُوَ يَضْحَكُ إِلَی الدُّنْيَا»: كناية عن ابتهاجه بها وما فيها من القيَّنات وغاية أقباله عليها لأنه غاية المبتهج للشيء أن يضحك له وكذلك ضحك الدنيا مجاز في أقبالها عليه أطلاقًا لأسم السبب الغائي على مسببه «وتَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ

غَفُولٍ»: الذي يكثر الغفلة فيه.

«إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ»: استعارة للآلام و مصائب الدهر ووجه المشابهة استلزامها للأذی کاستلزام الحسك له ورشح بذكر الوطي «ونَقَضَتِ الأَيَّامُ قُوَاهُ

ونَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ»: جمع حتف بمعنى الهلاك.

«مِن كَثَبٍ» : فيه استعارة النظر لاستعداده لها فتشابهت في ذلك التراصد للشيء المنصوب نظره ليقتنصه.

«فَخَالَطَهُ بَثٌّ»: حزن «َلا يَعْرِفُهُ ونَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ»: وهي الحال الَّتي يجدها الإنسان عند وهم الموت من الوسواس، والتخيّلات، والغموم، والأحزان الَّتي لم تكن تعرض له.

«وتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ»: انتصاب أنس على الحال وما بمعنى الزمان وكان تامة وبصحته متعلق بأنس أي حال ما هو آنس زمان مدّة محنته، وقيل: ما مصدريّة، وهو كقولك: أخطب ما يكون الأمير قائمًا وتقديره كونه على أحواله بصحته، والتقدير آنس کونه على أحواله لصحّته.

ص: 256

«فَفَزِعَ»: فهرب وألتجأ «إِلَی مَا كَانَ عَوَّدَهُ الأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ»:

البارد «وتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً ولَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا

هَيَّجَ بُرُودَةً ولَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ»: فيه إشارة إلى لوازم العلاج عند سقوط القوة عن المرض الحارّ والبارد المقاوم لها، وليس العلاج بالبارد هو المثوّر للحرارة، ولا بالعكس لأنّ الدواء معين للطبيعة على مقاومة المرض فلا يكون مثوّرًا له، ولكن ما كان مع ذلك العلاج وتلك الإعانة لغلب الحرارة والبرودة ويظهر بسبب ذلك: أي الدواء، وكذلك قوله: ولا اعتدل المريض في علاجه بما یمازج تلك الطبائع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة إلَّا كان مادّة لذاتها، وليس مادّة على الحقيقة ولكن لمّا كان يغلب معه المرض على القوّة فكأنّه مادّة له فنسبت إليه، وهي أمور عرفيّة يقال كثيراً، والكلام فيها على المتعارف.

«حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ »: طبيبه «وذَهَلَ»: غفل «مُمَرِّضُهُ»: الذي يجتهد في إزالة مرضه «وتَعَايَا»: عجز «أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ وخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْهُ»: إشارة إلى سكوتهم عند السؤال عن حاله، وذلك أنّهم لا يخبرون عن عافية لعدمها، وتكره نفوسهم الإخبار عنه بما هو عليه من الحال لشدّتها عليهم، في ذلك السكوت عن حاله المشبه للجرش في قوته، فذلك استعارة له.

«وتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ»: حتى «يَكْتُمُونَهُ»: أي يتجادلون عظة كلامه دون ذلك المريض ويتسارون في ذلك على سبيل التخاصم کاتمين لذلك عن غيرهم.

«فَقَائِلٌ هُوَ لِهَا بِهِ»: أي يقول: هو بموت الذي به من الوجع والعلة أي يخلص من هذا المرض فكأنه له «ومُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ»: أي ممن يتمنى ويظهر أمنيته أن عافيته وسلامته بؤت أليه.

ص: 257

«ومُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِینَ مِنْ قَبْلِهِ»: أي الصبر واشتقاقه من تأسی به أي تعزي وبالجملة فيه إشارة إلى ما يختار أهل المريض المشرف على الموت أحواله وصورة ما العادة جارية أن يقولواثم أشار إلى صفة الأخذ في الموت المعتاد للناس.

«فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا وتَرْكِ الأَحِبَّةِ إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ فَتَحَیَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ ويَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ

عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ ودُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ مِنْ كَبِرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ»: عبارة عن الآباء.

«أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ»: عبارة عن الأولاد.

«وإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا»: أي أفظع من أن يحيط بها وصف الإنسان أو يستقیم شرحها على الإنسان كما يخبر عليه السلام، ويعلم ذلك على سبيل الجملة، وبالحدس، والقياس إلى الأمراض الصعبة الَّتي يمارسها الناس، ويشتدّ عليهم فيعرف عند مقاساتها ومعاناة شدائدها، وكان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول في سكرات موته: «الَّلهمّ أعنّي على سكرات الموت»(1) مع کمال اتّصاله بالعالم الأعلى فلا شكّ في شدّتها وبالله التوفيق وهو المستعان.

ومن كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته:

ص: 258


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 64؛ سنن ابن ماجة لمحمد بن یزید القزويني: ج 1 ص 515؛ مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 568؛ شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي في شرح النهج: ص 250

««رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ»(1): إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَی جَعَلَ

الذِّكْرَ»: أي القرآن الكريم لقوله تعالى «وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ»(2) ونحوه، وقيل: هو إشارة إلى تحميده تعالى وتسبيحه وتكبيره وتهليله والثناء عليه.

«جِلاءً لِلْقُلُوبِ»: استعارة لإزالة كل ماسوي المذكور عن لوح القلب بالذكر کما تنزال خشب المرأة بالصقال: «تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ»: ثقل الأذن يجوز بلفظ السمع في أقبالها على ما ينبغي أن يسمع من أوامر الله ونواهيه، والوقرة في أعراضها عنها.

«وتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ»: بفتح العين وضمها وكسرها أراد بالأبصار أداركها للحقائق وما ينبغي له.

«وتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ»: أي للحق وسلوك طريقة بعد المعاندة وفيه والانحراف عنه وبالعشوة عدم ذلك الإدراك إطلاقًا في المجاز لأسم السبب على المسبب هذا وأعلم أن في كلامه عليه السلام إشارة إلى فضيلة الذكر وهي في القرآن كثيرة كقوله تعالى «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(3) «اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا»(4) «فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ»(5) وكذا في الأخبار واذكروا الله في الغافلين كالقاتل في الفارين ما عمل أبن آدم أنجاله من العذاب الله من ذكر الله قالو يا رسول الله، ولا الجهاد في

ص: 259


1- سورة النور: الآية 37
2- سورة الأنبياء: الآية 50
3- سورة البقرة: الآية 151
4- سورة الأحزاب: الآية 41
5- سورة البقرة: الآية 198

سيل الله قال: إلا أن يضرب نفسك حتى ينقطع؛ ثم يضرب به حتى ينقطع من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر منه ذكر الله ونحو ذلك، وفائدته أنّ المؤثّر من الذكر والنافع منه ما كان على الدوام؛ أو في أكثر الأوقات مع حضور القلب، وبدونهما فهو قليل الجدوى، وبذينك الاعتبارين هو المقدّم على سائر العبادات بل هو روح العبادات العمليّة، وله أوّل يوجب الأُنس بالله وآخر يوجبه الأُنس بالله، و المريد في مبدأ أمره قد يكون متكلَّفًا لذكر الله ليصرف إليه قلبه، ولسانه عن الوسواس فإن وفّق بالمداومة أنس به، وانغرس في قلبه حبّ المذكور، وممّا ينبّه على ذلك أنّ أحدنا يمدح بين يديه شخص، ويذكر بحميد الخصال؛ فيحبّه، ويعشقه بالوصف وكثرة الذكر؛ ثمّ إذا عشق بكثرة الذكر اضطرّ إلى كثرة الذكر آخرا بحيث لا يصبر عنه؛ فإنّ من أحبّ شيئا أكثر ذكره، ومن أكثر من ذكر شيء وإن كان متكلَّفًا أحبه، وقد شاهدنا ذلك كثيراً.

كذلك أوّل ذكر الله متكلَّف إلى أن يثمر الأُنس به والحبّ له.

ثمّ يمتنع الصبر عنه آخراً فيصير الثمرة مثمراً، ولذلك قال بعضهم: کابدت القرآن عشرين سنة؛ ثمّ تنعّمت به عشرين سنة، ولا يصدر التنعّم إلَّا عن الأُنس والحبّ ولا يصدر الأُنس إلَّا من المداومة على المكابدة حتى يصير التكلَّف طبعاً. ثمّ إذا حصل الأُنس بالله انقطع عن غير الله، وما سوى الله هو الذي يفارقه عند الموت فلا تبقى معه في القبر أهل، ولا مال، ولا ولد، ولا، ولاية، ولا تبقى إلَّا المحبوب المذكور فيتمتّع به، ويتلذّذ بانقطاع العوائق الصارفة من أسباب الدنيا و محبوباتها؛ إذا عرفت ذلك فقوله: جعله جلاء إشارة إلى فائدته، وهي استعداد النفوس بمداومته على الوجه الَّذي ذكرناه لمحبّة المذكور والإعراض عمّا سواه، ثم أشار إلى فائدته في استعداده النفوس بمداومته على الوجه الذي ذكرنا لمحبته

ص: 260

المذكورة، والأعراض عما سواه؛ ثم أشار إلى أنه لم يخل الزمان من عباد الله، وأوليائه ألهمهم معرفته، وأفاض على إفكارهم، وعقولهم صور الحق وكيفية الهداية إليه مکاشفة بقوله:

«ومَا بَرِحَ للهَّ عَزَّتْ آلَؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ»: قطعة من الدهر «بَعْدَ الْبُرْهَةِ وفِي أَزْمَانِ

الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ»: أخطر ببالهم «فِي فِكْرِهِمْ وكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ»: إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم «أن في أمتي محدثون»(1) «فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الأَبْصَارِ والأَسْمَاعِ والأَفْئِدَةِ»: أي استضاؤا بمصباح نور اليقظة، وهي في القلوب واستعدادها الكامل لما ينبغي لها من الكالات العقليّة، ونورها تلك اليقظة هو ما يفاض عليها بسبب، واستعدادها بها، وبفطنة الأبصار، والأسماع بتتّبعها لإبصار الأمور النافعة المحصّلة منها عبرة، و كمالاً نفسانيًّا، وسماع النافع من الكلام، وأنوار اليقظة فيهما ما يحصل بسبب ذلك الإبصار، والسماع من أنوار الكمالات النفسانيّة.

ثمّ شرع في وصف حالهم في هديهم لسبيل الله لتذكير بآياته.

«يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللهِ ويُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ»: أي كناية شدائدها النازلة بالماضين من الأمم، وأصله أنّها يقع في الأيّام، ويحتمل أن يكون مجازًا إطلاقًا لاسم المحلّ على الحالّ، ومقام اللله كناية عن عظمته وجلالته المستلزمة للهيبة والخوف.

«بِمَنْزِلَةِ الأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ»: أي مثل الرجال الذين يهدون في المفاوز التي لا

ص: 261


1- مقدمة فتح الباري: ص 101 وقد وردت كلمة (محدثون) في مصادر كثيرة وفق مضامين مختلفة جلها (من أمتي محدثون) بمعنی علماء ملهمون؛ يُنظر: صفحة مقدمة المعلق لمحمد بن محمد بن خالد البرقي ج 1 ص 18؛ بصائر الدرجات لمحمد بن حسن 329؛ الكافي الشيخ للكليني: ج 1 ص 247، ومثله أيضًا الكافي: ج 1 ص 270

طريق فيها وروي بمنزلة الأدلة في الفلوات، وجه الشبهة كونهم هادين لسبيل الله کما يهدي الأدلة ووجه آخر قد اشار إليه بقوله:

«مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ ومَنْ أَخَذَ يَمِينًا وشِمَالًا»: أي سلك أحد طرفي الأفراط والتفريط.

«ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ وحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ»: الأبدية «وكَانُوا كَذَلِكَ»: أي كما وصفناهم «مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ»: إطلاق المصابیح باعتبار إضائتهم لطريق الله والأدلة باعتبار هداتهم إلى الحق وتميزه عن شبهات الباطل.

«وإِنَّ لِلذِّكْرِ لأَهْلًا أَخَذُوهُ»: الذكر «مِنَ الدُّنْيَا بَدَلً فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ ولَا بَيْعٌ

عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ»: وقوله: وكانوا كذلك. أي كما وصفناهم، واستعار لفظ المصابیح باعتبار إضائتهم بكمالاتهم بطريق الله، ولفظ الأدلَّة باعتبار هداهم إلى الحقّ وتمييزه عن شبهاب الباطل.

وقوله: وإن للذكر لأهلا. إلى قوله: أيّام الحياة. أراد أن أهله من اشتغلوا به حتّى أحبّوا المذكور ونسوا ماعداه من المحبوبات الدنيويّة، أو وجبة محبّة المذكور محبّة ذكره وملازمته حتّى اتّخذوه بدلًا من متاع الدنيا، وطيّباتها ولم يشغلهم عنه تجارة ولا بيع وقطعوا به أيّام حياتهم الدنيا.

«ويَهْتِفُونَ»: يتناهون «بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِینَ ويَأْمُرُونَ

بِالْقِسْطِ»: فيه إشارة إلى وجوه طاعتهم للله وعبادتهم له وهي من ثمرات الذكر ومحبّة المذكور لأنّ من أحبّ محبوبًا سلك مسلکه؛ ولم يخالف رسمه، وكان له في ذلك الابتهاج واللذّة «ويَأْتَمِرُونَ بِهِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ فَكَأَنَّاَ قَطَعُوا

الدُّنْيَا إِلَی الآخِرَةِ وهُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ

ص: 262

الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الإِقَامَةِ فِيهِ وحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا»: شبههم في يقينهم بالله وبما جاءت به كتبه ورسله، وتحقّقهم لأحوال القيامة، ووعدها ووعيدها بعين اليقين ممن قطع الدنيا إلى الآخرة مع كونه فيها، وبمن اطلع على ماغاب عنه عن أهل الدنيا من أحوال أهل البرزخ وطول إقامتهم فيه «فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ»: تلك الأحوال «لأَهْلِ الدُّنْيَا»: بالعبارات الواضحة والآيات اللائحة.

«حَتَّى كَأَنَّهُمْ»: في وصفهم لها عن ضياء سرائرهم وصقال خواطر نفوسهم بالرياضة التامة.

«يَرَوْنَ»: بأبصارهم «مَا لَايَرَى النَّاسُ ويَسْمَعُونَ»: بآذانهم «مَا لَا يَسْمَعُونَ»: بآذانهم «مالا شمعون»: إذ يمرون في مشاهدات ومسموعات لا يدركها الناس، ولمّا كان السبب في قصور النفوس عن إدراك أحوال الآخرة هو تعلَّقها بهذه الأبدان، واشتغالها بتدبيرها والانغماس في الهيئات الدنيويّة المكتسبة عنها، وكان هؤلاء الموصوفون؛ قد غسلوا درن تلك الهيئات عن ألواح نفوسهم بمداومة ذكر الله، وملازمة الرياضة التامّة حتّى صارت نفوسهم کمرآة مجلوّة؛ حوذي بها شطر الحقائق الإلهيّة؛ فتجلَّت وانتقشت هالا جرم شاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة، وسبيل الهلاك، وما بينهما فسلكوا على بصيرة وهدوا الناس على يقين، وأخبروا عن أمور شاهدوها بأعين بصائرهم، وسمعوا بآذان عقولهم؛ فكأنّهم في وضوح ذلك لهم، وظهوره وإخبارهم عنه قد شاهدوا ماشاهده الناس بحواسّهم؛ فشاهدوا ما لم يشاهده الناس وسمعوا ما لم يسمعوه.

«فَلَو مَثَّلْتَهُم لِعَقْلِكَ»: أي استحضرت صورهم وأعمالهم «فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ ومَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ»: وهي مقامات العبادات و مجالسهم.

ص: 263

«وقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ» أذهانهم وما ثبت فيها من أفعالهم ونشرها: تتّبع نفوسهم بأفكارها وتخيّلاتها لصور تلك الأعمال، وتصفّحها لها المشبّهة لتصفّح الأوراق. والواو للحال في قوله: «وفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِیرَةٍ

وكَبِرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا»: روي قصروُا وقصرّوُا والثاني أحسن لأن التقصير هو الرجوع من أمر مع القدرة عليه وقصر بمعنى عجز.

«أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا»: قصروا فيها «وحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ

فَضَعُفُوا عَنِ الِسْتِقْلَلِ بِهَا»: النهوض بها.

«فَنَشَجُوا»: أصاحوا بالبكاء «نَشِيجًا وتَجَاوَبُوا نَحِيباً»: البكاء بعينه «يَعِجُّونَ

إِلَی رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ واعْتِرَافٍ»: إذا أردت أن ينكشف القناع عن جمال المرام في هذا المقام فاستمع لما يتلوا عليك برفیق توفيق الملك العلام فنقول لما كان معنى المحاسبة يستدعي محاسبتًا حتی یکون النضر إليه في رأس المال وفي الربح والخسران ليتيقن له الزيادة، والنقصان فأن كان من فضله حاصل استوفاه، وأن كان من خسران طالبه بضمانه، وكلفه النوافل، والفضائل، والخسران المعاصي و موسم هذه التجارة جملة النهار؛ فينبغي أن يكون للعبد في آخر ساعة يطالب بها نفسه، ويحاسبها على حركاتها، وسکناتها؛ فأن كان قد أدى الفرائض على، وجهها ودَعتها في مثلها، وأن قوتها من أصلها طالبها بالقضاء، وأن أدتها ناقصة؛ فالجبران بالنوافل، وأن ارتكبت معصية اشتغل بها بعقابها، ومعاتبها ليستوفي منها ما يدارك به تفريطها كما يصنع التاجر بشریکه، و كما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط بتحفظ مداخل الزيادة والنقصان كذلك ينبغي أن ينظر النفس، ومكرها فإنّها مخادعة مکَّارة؛ فليطالبها أوّلاً بتصحيح الجواب عمّا تكلَّم به طول نهاره وليتولَّى من حسابها بنفسه ما سيتولَّاه غيره في حفل القيامة، وكذلك عن نظره

ص: 264

وخواطره وأفكاره وقيامه وقعوده وأكله وشربه، وحتّى عن سكونه، وسكوته. فإذا عرف أنّها أدّت الحقّ في الجميع كان ذلك القدر محسوباً له فيظهر بها الباقي ويقرّره عليها، ويكتبه على صحيفة قلبه؛ ثمّ إنّ النفس غريم يمكن أن يستوفي منه الديون أما بعضها؛ فبالغرامة، والضمان، وبعضها بردّ عينها بالعقوبة لها على ذلك ولا يمكن شيء من ذلك إلَّا بعد تحقّق الحساب وتميّز باقي الحقّ الواجب عليه.

ثمّ يشتغل بعده بالمطالبة، وينبغي أن يحاسب الإنسان النفس على جميع العمر يوماً يوماً، وساعة في جميع الأعضاء الظاهرة، والباطنة كما نقل عن توبة بن الصمة وكان بالرقّة وكان محاسباً لنفسه فحسب يوماً؛ فإذا هو ستّين سنة فحسب أيّامها فإذا أحد وعشرون ألف يوم وخمس مائة يوم فصرخ فقال: يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب؛ ثمّ خرّ مغشيّاً عليه فإذا هو ميّت فسمعوا قائلاً يقول: يالك ركضة إلى الفردوس الأعلى؛ فهكذا ينبغي أن تكون المحاسبة، ولو رمی العبد بكلّ معصية حصاة في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة من عمره ولكنّه يتساهل في حفظها، والملكان يحفظان عليه كما قال تعالى «أَحْصَاهُ اللَّهُ» إذا عرفت ذلك فقوله: وفرغوا لمحاسبة أنفسهم إلى قوله: «ندم واعتراف». إشارة إلى حال وجدانهم عند محاسبة أنفسهم لتقصيرها، والخسران في رؤوس أموالهم الَّتي هي الطاعات و نشيجهم ونحيبهم وعجّهم في الندم، والاعتراف بالذنب إشارة إلى حالهم في تدارك ذلك الخسران بالشروع في الجبران؛ فأوّل مقاماته التوبة ولوازمها المذكورة قوله:

«لَرَأَيْتَ أَعْلَمَ هُدًى ومَصَابِيحَ دُجًى»: قد مر غير مرة وجه هاتين الاستعارتين.

«قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ»: كناية عن إحاطة عنايتهم به، وذلك لکمال استعدادهم لقبول الأنوار عن الله بواسطة الملائكة الكروبيّة، ووجوب فيضها عليهم عنهم،

ص: 265

وفي ذلك الإشارة إلى إكرامهم بذلك.

«وتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ»: إشارة إلى بلوغ استعداد نفوسهم لإفاضة السكينة عليها وهي المرتبة الثالثة من أحوال السالك بعد الطمأنينة، وذلك أن تكثّر تلك البروق واللوامع الَّتي كانت تغشيه حتّى يصير ما كان مخوفاً منها مألوفا، وكانت تحصل لا لمشيئة السالك فيصير حصولها بمشيئته وإرادته.

«وفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ»: إشارة إلى فتح أبواب سماء الجود الإلهيّ بإفاضة الكمالات عليهم كما قال تعالى «فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ»(1).

«وأُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ»: مراتب الوصول إليه «فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللهُ

عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ»: بالأعمال الصالحة المبلَّغة إليها.

«وحَمِدَ مَقَامَهُمْ»: فيها «يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ»: أي يدعونه ويتوقّعون بدعائه تجاوزه عن ذنوبهم، وأن لا يجعل تقصيرهم فيها عساهم قصّروا فيه سببا الانقطاع فيضه، وقد علمت أنّ سيّئات هؤلاء يعود إلى ترك الأولى بهم.

«رَهَائِنُ فَاقَةٍ»: روي بالنصب على الحال، وبالرفع على تقديرهم، وهي جمع رهينة بمعنى الرهن ووجه الاستعارة لهم لكونهم في محل الحاجة «إِلَی فَضْلِهِ»: لا معدل ولا ملجألهم عنه کالرهائن في يد المرهون.

«وأُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ»: وجه المشابهة كونهم في مقام الذلَّة بحسب عظمته کالأسير بالنظر إلى عظمة من أسرّه.

«جَرَحَ طُولُ الأَسَى»: والفتح الهمزة كونهم في مقام الذلة بحسب عظمته

ص: 266


1- سورة القمر الآية 11

کالأسير بالنظر إلى عظمته من أسره «قُلُوبَهُمْ وطُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ»: فذلك الجرح من لوزم اطلاعهم على جناية أنفسهم، وخسران معاملتهم لها بعد محاسبتها.

«لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَی اللهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ»: إشارة إلى توجه أسرارهم وعقولهم إلى القبلة الحقيقية استشراقًا لأنوار الله واستسماحاً لجوده.

«يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ»: عليه بالفزع المذكور لديه.

«الْمَنَادِحُ ولَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ»: إشارة إلى سعة جوده وفضله وأنه أكرم الأكرمين ليتبين أنه احق مسؤول بإعطاء سؤال وإلى مرغوب إليه بإسداء مرغوب.

«فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَیْرُكَ»: أي فتولّ أنت حساب نفسك، فإنّ حساب غيرها من النفوس وهي الَّتي لم يحاسبها صاحبها یتولَّاه غيرك وهو أسرع الحاسبين، وذلك في معنى تهديد الإنسان على ترك محاسبة نفسه وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ»:

«أَدْحَضُ مَسْؤُولٍ حُجَّةً»: دحض حجته بطلت وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير الإنسان عند سؤال ربّه له ما غرّك بربّك الكريم أدحض مسؤول حجّة «وأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً»: وأشدّه انقطاعا في عذره.

«لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ»: ومبالغته تجهیل نفسه: كثرة إهمالها في متابعة هواها وتركها عن الإصلاح، والمنصوبات الثلاثة مميّزات.

ص: 267

«يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ ومَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ومَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ»: استفهامات عن أسباب جرأته على الذنوب، وأسباب غرّته بربّه، وغفلته عن شدّة بأسه وعن أسباب أُنسه بهلكة نفسه بتوريطها في المعاصي معها استفهامًا على سبيل التقريع والتوبيخ، ويحتمل أن يكون قوله: ما انسك تعجّباً، وكذلك الاستفهام عن قوله:

«أَمَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ»: صحة أي من داء الجهل.

«أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ»: نوم غفلة «أَمَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ كمَا تَرْحَمُ مِنْ

غَيْرِها»: إلَّا أنّ الاستفهامات الثلاثة الأولى يطلب فيها تصوّر تلك الأسباب وفهم حقيقتها على سبيل تجاهل المعارف، وفي هذه الثلاثة الأخيرة يطلب فيها التصديق ثمّ نبّه على، وجوب رحمته لنفسه كما يرحم غيرها بقوله: «فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ»: هي في قوّة صغری قیاس احتجّ به، ووجه ذلك أنّك قد ترحم نفسك بإنقاذها من بلاء تقع فيه، وكبراه هكذا و كل من يرحم غيره فهو أولى أن يرحم نفسه ينتج إنّك أولى أن ترحم نفسك من دائها.

ثم استفهم عن أسباب صبره على دائه، وتجلَّده على مصائبه الَّتي تلحقه بسبب ذلك الداء، وتعزيّه عن البكاء على نفسه، وعلى أعزّ الأنفس علیه استفهام توبيخ ولائمة حسنها بعد ذلك الاحتجاج ظاهرة فقال:

«فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وجَلَّدَكَ عَلَى بِمُصَابِكَ وعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ

وهِيَ أَعَزُّ الأَنْفُسِ عَلَيْكَ»: ونبه بقوله:

«وكَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ»: إتيان عقوباته تعالى فجأة وغفلة

ص: 268

ولیلاً.

وقَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ»: مذاهب «سَطَوَاتِهِ»: على بعض أسباب اليقظة لعظمة الله عن الغفلة عنها وهي خوف بیات نقمه أن يوقعها به ليلًا كقوله تعالى «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ»(1) و مدارج سطواته مجاري بطشه و قهره وهي محالّ المعاصي وأسبابه، والتورط فيها: الحصول فيها المستلزم للهلاك الأُخرويّ.

فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ»: عن ذكر الله. «بِعَزِيمَةٍ»: على ظله عنه.

«ومِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ»: أي من نوم الغفلة في ناضر القلب عن ذلك باليقظة له، ثمّ أمر بما ينبغي أن يكون تلك العزيمة عليه وتلك اليقظة له وهما طاعة الله و الأُنس بذكره.

«وكُنْ للهَّ مُطِيعًا وبِذِكْرِهِ آنِساً»: ثم نبه له على ضروب نعم الله عليه و مقابلته لها بالكفران والمعصية لعلَّه يتذكَّر أو يخشی؛ فأمره أن يتمثّل في ذهنه في حال إعراضه عن ربّه وانهما که في معصيته إقباله عليه بضروب نعمه من دعوته له بكلامه على ألسنة خواصّ رسله إلى عفوه، وتعمّده إيّاه بفضله، وإقامته في كنف ستره، وتقلَّبه في سعة فضله فقال:

«وتَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَی عَفْوِهِ ويَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ

وأَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَی غَیْرِهِ فَتَعَالَ» من صرف وضبعاً.

«قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ وتَوَاضَعْتَ، مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَىَ مَعْصِيَتِهِ»: ومن قوي

ص: 269


1- سورة الأعراف: الآية 97

ومن ضعيف حالان تعجب عليه السلام من هذا الحال يعطي الملك المتعال الإنسان سجال الأفضال، ولا يستنكره النوال بل يعصيه خلاف ما يستحقه من الأجلال؛ فليتعجب ولينته صاحب البال من هذا المقال، وليقل یا محول الحول والأحوال حول حالنا إلى أحسن حال.

«وأَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ وفِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ»: ولقد أحسن بهذا التنبيه فإنّ استحضار ذهن العاقل لضروب هذه النعم في حال الإقبال على المعصية من أقوى الجواذب إلى الله عنها، وإنّما قال: تمثّل، لأنّ الحاضر في الذهن ليس هو نفس أقبال الله بل مثاله و قوله:

«فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ ولَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَیْنٍ»: يقال طرف بصره یطرف و مطرفًا أذا أطبق أحد جفنيه على الآخر؛ «فِي نِعْمَةٍ يْحُدِثُهَا

لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ»: ولقد أحسن بهذا التشبيه فأن استحضار ذهن العاقل لضروب هذه لنعم في حال الأقبال على المعصية من أقوى الجواذب إلى الله تعالى، وإنما قال يمثل الحاضر في الذهن ليس هو نفس أقبال الله بل مثاله وقوله:

«فَمَا ظَنُّكَ بهِ لَو أطَعْتَهُ»: صورة احتجاج للترغيب في الطاعة بعد التوبيخ على ترکها، وتخليصه أنك لو أطعته لكان تفضله عليك أكبر، وأتم فضنك به أقوى بیان الملازمة أن فظله كان عليك حال معصيتك له كثيراً كما تقدم بيانه؛ فبطريق الأولى أن يتم فضله عليك حال طاعتك إياه وحسن ضنك به.

وأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَیْنِ فِي الْقُوَّةِ مُتَوَازِيَیْنِ فِي الْقُدْرَةِ

لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الأَخْلَاقِ ومَسَاوِئِ الأَعْمَالِ»: أي لو كان هذا

ص: 270

الوصف الذي ذكرناه من أقبال الله عليك بضروب نعمه، ومقابلتك على معاصيه، وصف مثلين من الناس في القوة والقدرة والمنزلة، وكنت أنت المسيء منهما لكان مما ينبغي لك من الحياء، والأنفة أن يكون أول حاكم على نفسك تقصير، ودهم أخلاقها ومفاتيح أعمالها، وهو صورة أحجاج يقرر عليه في مساوي أعماله، ويجذبه فيه بذلك إلى تبديلها بمحاسنها في قياس ضمير من الشكل الأوّل ذکر في الكلام صغراه تلخيصها: أنّك أوّل حاکم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون موليك هذه النعم مثلا لك، وتقدير الكبرى، وكلّ من كان كذلك؛ فأولى به أن يكون أوّل حاكم عليها بتقصيرها على تقدير أن يكون موليه تلك النعم خالقه ومالك رقّه، وينتج أنّ الأولى بك أن يكون أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون مولى تلك النعم خالقك ومالك رقّبتك.

«وحَقًّا أَقُولُ»: أي أقول قولًا حقاً؛ «مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ ولَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ»: تقدير منع لما عساه أن يجيب به الناس سؤاله تعالى إيّاهم بقوله: ما غرّك بربّك، وهو كثير في كلامهم: إنّ الدنيا هي الغارّة، وكما نسب القرآن الكريم إليها ذلك بقوله «وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا»(1) وكلامه عليه السّلام حقّ من وجهين: أحدهما: أنّ الإستغرار من لواحق العقل، وليست الدنيا ذات عقل، والثاني: أنّها لم تخلق الاستغرارها؛ إذ كان مقصد العناية الإلهيّة بوجود الإنسان فيها؛ فلا يجوز أن ينسب إليها الاستغرار حقيقة؛ لكن لمّا كانت سبباً ماديَّاً للاغترار بها جاز أن ينسب إليها الاستغرار مجازاً.

«ولَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ»: أي أظهرت لك المواعظ وكاشفت بالعداوة والعطاب بنزع الخافض، ورويت بالرفع على الفاعل وروي کاشفتك العطاء،

ص: 271


1- سورة الأنعام: الآية 70

وهو تقرير لمنع نسبة الأستغرار إليها بنسبة ضده إليها وهو النصيحة له بمكاشفة العطاء، وهي محال الاتعاظ من تصاريفها؛ أو عبرها و مجاهرتها.

«وآذَنَتْكَ»: أعلمتك «عَلَى سَوَاءٍ» عدل إذ خلقت لذلك التغيير، والإعلام وعلى ذلك التصريف، ولم يمكن أن يكون إلَّا كذلك؛ فلم یکن تصاريفها بك جورا عليك.

«ولَهِيَ»: الام للتأكيد «بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ والنَّقْصِ»: بالضاد

والضاد «فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وأَوْفَی مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ»: زيادة تأكيد لنصيحتها وتخويف منها، واستعار لفظ الوعد لإشعارها في تغييراتها بما يتوقّع من مصائبها كما أنّ الوعد إشعار بإعطاء مطلوب، واستعمل الوعد في مكان الوعيد مجازاً إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر کتسمية السيّئة جزاء، وكذلك استعار لها لفظ الصدق، والوفاء ملاحظة لشبهها بالصادق الوفّي في أنّه لا بدّ من إيقاع ما وعد به وقوله: «أصدق وأوفي» مع قوله: «من أن تكذبك أو تغرك» من باب اللفّ والنشر وفيه المقابلة.

وقوله: «ولَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ وصَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ»: تقرير لبعض لوازم الغفلة عليه، وهی تهمته للمناصح منها، وتكذيبه لصادق خبرها، وأطلق لفظ التهمة، والتكذيب مجازا في عدم الالتفات إلى نصيحتها بتصاريفها وما يعلم من صادق تغيّراتها، وعدم اعتبار ذلك منها إطلاقاً؛ لاسم ذي الغاية على غايته، وكانت غاية التهمة، والتكذيب عدم الالتفات إلى المتّهم والمكذّب والإعراض عنها.

«ولَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا»: أي تطلبت حتى عرفتها «فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ»: الخالية «والرُّبُوعِ»:

ص: 272

كتبه ورسائله (عليه السلام) المنازل «الْخَالِيَةِ لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِرِكَ وبَاَغِ مَوْعِظَتِكَ بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ

والشَّحِيحِ بِكَ»: صورة احتجاج نبه على صدقها في نصيحتها كي تستنصح، ولما مهتم بقياس شرطي متصل تقريره: ولئن تعرفها أي طلب معرفتها في نصيحتها من الديار الخاوية، والربوع الحالية للأمم السالفة، والقرون الماضية لتعرفها بمنزلة الشفيق عليك كذلك، وبيان الملازمة محال على الوجدان بعد تعرفها، والاستثناء في هذه المتصلة لعين المقدم لينتج عين التالي.

ولَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَارًا ومَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ»: مدح للدنيا باعتبار استعمالها على الوجه المقصود بالعناية الإلهيّة وهو الاعتبار بها دون الرضا بها لذاتها واتّخاذها وطنا ودار إقامة، أي والمخصوص هي الدنيا، ودارًا و محلًا منصوبان على التميز يقومان مقام اسم الجنس الَّذي هو اسم نعم إذا حذف، وهاهنا مسئلتان: إحداهما: أنّ اسم الجنس الَّذي هو اسم نعم، وبئس تضاف في العادة إلى ما فيه الألف واللام كقولك: نعم صاحب القوم، وقد أضافه هاهنا إلى ما ليس فيه الألف واللام، وقد جاء مثله في الشعر كقوله: فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم.

الثانية: أنّه جمع بين اسم الجنس والنكرة الَّتي تبدل منه، وقد جاء مثله في قوله: فنعم الزاد زاد أبيك زادا، وإنّما أضاف دارا إلى من لم يرض بها، ومحلَّا إلى من لم يوطَّنها لأنّ الدنيا؛ إنّما يكون دارا ممدوحة باعتبار کونها دار من لم يرض بها، ولم يوطنّها لاستلزام عدم رضاهم بها؛ الانتفاع بالعبر بها واتّخاذ زاد التقوى، وأولئك هم المتّقون السعداء بها، ويحتمل أن يكون داراً، ومحلَّاً منصوبين على التميز عن قوله: لم يرض بها ولم يوطَّنها.

«وإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَدًا هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ»: وجه سعادتهم استثمارهم للكمالات المسعدة في الآخرة منها، ولن يحصل ذلك إلَّا بالهرب لاستلزام الهرب

ص: 273

عن الشيء التباعد عنه والزهد فيه، وظاهر أنّ التباعد منها بالقلوب؛ إلَّا ما دعت الضرورة إليه، واتّخاذها مع ذلك سببًا إلى الآخرة من أسباب السعادة، ومستلزماتها كما أشار إليه سيّد المرسلين صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حاله فيها بقوله: «وما أنا والدنيا إنّما مثلي فيها كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت له شجرة فنزل فقعد في ظلَّها ساعة ثمّ راح وتركها»(1).

«إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ»: كقوله تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ»(2) المفسرون الراجفة: هي النفخة الأولى في الصور وهي صيحة عظيمة فيها تردّد واضطراب کالرعد يصعق فيها الخلائق و«تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ»(3) وهى النفخة الثانية تردف الأوّلى.

«وحَقَّتْ»: تبينت «بِجَلَئِلِهَا الْقِيَامَةُ»: الجليلة المحنة العظمية وروي حقت بجلائلها أي أحاطت بأمور عظام «ولِحَقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وبِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ

وبِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ»: إشارة إلى الحقوق كلّ نفس يوم القيامة بمعبودها ومطاعها وما ألفته وأحبّته من أمر دنيويّ أو أُخرويّ فأقبلت عليه وعملت له، و نحوه أشارة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يحشر المرء مع من أحبّ، ولو أحبّ أحدكم حجرالحشر معه»(4).

ص: 274


1- يُنظر الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1 ص 467، المعجم الكبير للطبراني: ج 10 ص 162؛ وشعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي: ج 7 ص 311؛ مشكاة الأنوار لعلي الطبرسي: ص 463؛ ومجمع الزوائد للهيثمي: ج 10 ص 326
2- سورة النازعات: الآية 6
3- سورة النازعات: الآية 7
4- الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي: ص 260؛ شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 3 ص 237، تفسیر ابن عربي: ج 1 ص 42، ولم يُرجع كل من هذه المصادر الحديث إلى مظانه

«فَلَمْ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وقِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ ولَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي

الأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ»: تقرير لعدله تعالى في ذلك اليوم، والمعنى أنّ كلّ حركة ولو طرفة عين في الهواء أو همس قدم في الأرض فإنّها لا تجري في عدله إلَّا بحقّها لا يزاد عليه ولا ينقص عنه؛ ثمّ أشار إلى كثرة الحجج الباطلة يومئذ، والأعذار المنقطعة ترغیبا في تحصيل الكمالات البرهانيّة ولزوم آثار المرسلين والأولياء الأبرار في سلوك سبيل الله.

«فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ وعَلَئِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ»: وإنّما ذكر مخاوف ذلك اليوم وأهواله بعد ذكر السعداء فيه، وتعيين أنّهم هم الهاربون من الدنيا اليوم ليرغَّب إلى الاقتداء بهم في ذلك الهرب لغاية تلك السعادة، وإذا كان الأمر كذلك:

«فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ»: في ذلك اليوم «وتَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ»: في محفل القيامة وذلك الأمر هو ما أشرنا إليه من البرهان واقتفاء آثار المرسلين.

«وخُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ»: أي خذ ما يبقى له من الكمالات المسعدة في الآخرة ممّا لا يبقى له وهو الدنيا ومتاعها، وقد بيّنا کيفيّة ذلك الأخذ غير مرّة.

«وتَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ»: أي: استعد له بالزهد والعبادة.

«وشِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ»: وذلك بأن يوجّه سرّه إلى الله تعالى بعد الزهد الحقيقي والعبادة الكاسرة للنفس الأمّارة بالسوء لتشرق لوامع الأنوار الإلهيّة، وبروقها الَّتي هي بروق النجاة وأبواب السلامة.

«وارْحَلْ إلى مَطَايَا التَّشْمِيرِ»: إشارة إلى الجدّ في سلوك سبيل الله والاجتهاد

ص: 275

في العمل لما بعد الموت، واستعار لفظ المطايا لآلات العمل، والإرحال لإعمالها وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام في التبري من الظلم:

«واللهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ»: نبت شوكي ذو حسك لها ثلاث رؤوس محدّدة على أيّ وجه وقعت من الأرض كان لها رأسان قائمان «مُسَهَّداً»: الذي أذهب نومه حزن أو وجع وسهد الرجل قل نومه.

«أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً»: مقيداً.

«أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ ورَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِمًا لِبَعْضِ الْعِبَادِ وغَاصِبًا

لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ»: أعلم غرضه عليه السلام من هذا الفصل ما ذكر، وذلك أن أحدهم كان يأتيه؛ فيسأله العطاء، وهو عليه السلام لم يكن ليشقى لنفسه شيئاً ولا يرى أن يعطيه لبيت المال أحد دون غيره؛ فيحرمه وربما كان في غاية الحاجة؛ فينسبه إلى الظلم، والتخصيص بالمال دونه؛ فتبرأ بهذا الكلام ما نسب إليه من ذلك؛ فيما ذكر بيان لمقدار تقربه عن الظلم، وغايتها، وعلة ترجيحه، واختياره لأحد الأمرين المذكور على الظلم مع ما يستلزمه من التألم والعذاب؛ فأن ما يستلزمه الظلم من عذاب الله أشد خصوصاً في حق من فرط يعني نصرته بتفاوت العذابين مؤكدًا لذلك البيان بالقسم البار ولفظ الحطام مستعار لمتاع الدنيا باعتبار حقارته، وأصله ما أنكسر من نبت الأرض.

«فكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَدًا لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولَهُا»: أي الرجوع من السفر.

«ويَطُولُ فِة الثَّرَى حُلُولَهُا»: أي في التراب الندي استفهام عن وجه ظلمه لأحد استفهام انکار على من نسب إليه ذلك مع ذكر سببين يمنعان العاقل من الظلم.

ص: 276

«واللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وقَدْ أَمْلَقَ»: افتقر «حَتَّى اسْتَمَحَنِي»: حتى طلب من عطية

«مِنْ بُرِّكُمْ صَاعًا ورَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ»: خضاب اسود و من أشتد جوعه يسود وجهه بعد صفرته.

«وعَاوَدَنِ مُؤَكِّدًا وكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّدًا فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّ أَبِيعُهُ

دِينِي وأَتَّبِعُ»: استعار التبع لما يتوهم من استفاضة لذة العطاء لأخ الفقير مما يفوت من الدين بسبب الظلم في عطيته على غير الوجه الشرعي.

قِيَادَهُ مُفَارِقًا طَرِيقَتِي: ما يقوده به من الاستعطاف والرحم عن طريقة العدل.

فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً: وإنما أحمی له ليتنبّه بها على النار الأُخرويّة.

«ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ: أي مثل صياح

مهزول مِنْ أَلِمَهَا وكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا»: مكواها.

«فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَتَئِنُّ»: يقال الأنين أكثر من الحنين.

«مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وتَجُرُّنِي إِلَی نَارٍ سَجَرَهَا»: أوقدها.

«جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى»: ووجه الاحتجاج أنّك إذا كنت تئنّ من هذه فبالأولى أن تئنّ من ذلك النار، وغاية ذلك أن تترك الظلم بطلب ما لا تستحقّه لاستلزام الأنين من نار الله عدم ترك الظلم، ولمّا أثبت علة وجوب ترك الظلم بذلك الطلب أعقبه بالاحتجاج لنفسه على وجوب ترکها للظلم بإعطائه بقوله: أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى: أي إذا كنت تئنّ من الأذى فبالأولى أن أئنّ من لظى، وفيه تنزيل للمتوقّع الَّذي لا بدّ منه بسبب الظلم منزلة الواقع ليكون أبلغ في الموعظة، وإنّما أضاف الإنسان إلى الحديدة لأنّه

ص: 277

إنسانا خاصّاً هو المتولَّي لأمر تلك الحديدة؛ فعرّفه بإضافته إليها، وكذلك الإضافة في جبّارها، وإنّما قال: للعبه استسهالاً وتجوزًا لذلك بالنسبة فعل الحار من سجر النار، وكذلك جعل العلَّة الحاملة على سجر النار هو غضب الجبّار تعظيما لشأنه.

وفي هذا الكلام تنبيه على نفي الظلم عنه ببلوغه في المحافظة على بيت المال ومراعاة العدل إلى الحد الذي فعله مع اخيه عقيل على شدة فاقة عياله وكونه ذا حق في بيت المال ومعلوم أن من لم يدعه هذه الأسباب الثلاثة وهي الأخوة والفاقة والحق الموجود، إلى أن يدفعه إليه خوفًا من شبهة الظلم فهو أنزه الناس أن يظلم أو يحوم حول الظلم بوجه.

«وأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ»: من عقيل وحاله «طَارِقٌ»: الذي يأتي ليلًا «طَرَقَنَا

بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا»: أي بهدية لفها في شيء «ومَعْجُونَةٍ»: أي بعسل عجنه بسمن ودقيق ونحوها شَنِئْتُهَا: اتعظها فيه تنبيه على بغضه الأمور اللذيذة الدنيوية ونفرته عنها زهدًا فيها.

كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا: وجه شبهها به هو ما تصوره في قبولها من الفساد وما قصد بها مهدها في طلب الميل إليه المستلزم للظلم والجور عن سبيل الله وأمّا وجه كون المهدي أعجب من عقيل فلأنّ عقيلاً جاء بثلاث وسائل كلّ منها يستلزم العاطفة عليه: وهى الأخوّة والفاقة وكونه ذا حقّ في بيت المال، وهذا المُهدى إنّما أدلى بهديّته.

«فَقُلْتُ»: له «أَصِلَةٌ»: أي عطية «أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ»: أراد به حصر وجوه البرّ في العرف لأنّ التقرّب إلى الله ببذل المال لعباده إما صلة الرحم أولاً، والثاني فإمّا على وجه الصدقة؛ أو الزكاة الواجبة، ولم يذكر الهديّة لأنّه لم يكن في، وهم عاقل

ص: 278

خصوصًا زمن خلافته، وذلك أنّ مطلوب العاقل منه بالهديّة إمّا حقّ أو باطل، والحقّ لا يحتاج فيه إلى الهديّة والباطل لا يفعله بوجه، وكذلك لمّا قال له الطارق: إنّها هديّة. دعا عليه، ونسبه إلى الجنون والهذيان، ولمّا أقسّم عليه السلام وجوده البرّ أبطل قسمين منها بقوله: فذلك محرّم علينا أهل البيت. وأراد الصدقة والزكاة.

«فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»: وأراد الصدقة والزكاة وأما صلة الرحم فلم يحتج إلى أبطالها لأن الطارق لم يكن ذا رحم له.

«فَقَالَ لَا ذَا ولَا ذَاكَ ولَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ»: مجري إبطال الحصر بإبراز قسم رابع هو الهديّة في جواب قوله ولكنها هدية.

«فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ»: الثکول من النساء.

«أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي»: قرّر عليه فيه ما فهمه من غرضه بالهديّة، وهو خداعه عن دينه. إذا لهديّه لغرض حرام صورة استغرار وخداع، وذكره تنفيرًا لصاحب الهدية عن فعله ذلك، ولمّا كان ذلك الأمر لو تمّ الغرض به استلزم نقصان الدين كالخداع عن الدين فأطلق استعارة وقوله: «أَمُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو

جِنَّةٍ»: أي مروع ومجنون «أَمْ تَهْجُرُ»: ويهذي من حمى ومرض استفهام في سبيل الأنكار والتوبيخ على ذلك الخدع بعد تقريره عليه السلام؛ أذ كان المخادع لمثله عليه السلام عن دينه لا يكون إلا على الوجوه المذكورة غالبًا، ولا يتصوران أن يصدر منه ذلك الخداع عن رؤية صحيحة، وقد ذكر وجوه الخروج عن الصواب مما يتعلق بالعقل واللسان.

«واللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ»: أقسام الأرض «بِمَا تَحْتَ أَفْلَكِهَا عَلَى أَنْ

أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ»: قشرها «مَا فَعَلْتُهُ»: يحتمل أن يكون إشارة

ص: 279

إلى وهم الطارق فيه أنه بفعله مطلوبه الحرام بتلك الهديّة، وإبطالًا لذلك الوهم وهو دليل منه على أنه العدل.

«وإِنّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا»: وتأكل بأطراف أسنانها دليل على غاية الزهد منه في الدنيا كقوله في الشقشقيّة: ولألفيتم دنیاکم هذه أهون عندي من عفطة عنزه.

«مَا لِعَلِيٍّ ولِنَعِيمٍ يَفْنَى ولَذَّةٍ لَا تَبْقَى»: استفهام إنكار لملامته لذة الدنيا ولذّاتها الفانية، والمعنى أنّ حالة عليّ تنافي ذلك النعيم، واختياره يضادّ تلك اللذّة.

«نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ»: نومه «وقُبْحِ الزَّلَلِ»: وهو تفاحش الانحراف عن سبيل الله الموقع في مهاوي الهلاك «وبِهِ نَسْتَعِينُ»: على دفع ما نعوذ به منه وبالله التوفيق.

ومن دعاء له عليه السّلام:

«اللهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ»: الغناء «ولَا تَبْذُلْ جَاهِيَ»: منزلتي وقدري

«بِالإِقْتَارِ»: واعلم أن الغنى المطلوب لمثله عليه السلام هو ما دفع ضرورة حاجته بحسب الاقتصاد والقناعة لا المفهوم المتعارف بين أرباب الدنيا من جمع المال وادّخاره والاتّساع به فوق الحاجة، وطلب الغني على ذلك الوجه محمود، وعلى الوجه الثاني هو المذموم، والفقر هو ما احتاج الإنسان معه إلى سؤال الناس ويلزمه بذلك الاعتبار لوازم صارفة عن وجه الله وعبادته: أوّلها: ابتذال الجاه ونقصان الحرمة، ولمّا كان الجاه والغنی کالمتلازمين لا يليق أحدهما إلَّا بالآخر جعل مزيل الجاه الفقر لأنّه مزيل الغني، وإلى وجوب تلازمهما أشار أبو الطيّب بقوله:

ص: 280

فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله *** ولا مال في الدنيا لمن ليس له مجد

والجاه أيضًا له اعتباران فما أريد الاستعانة به على أداء حقوق الله وطاعته فهو الوجه المحمود الَّذي سأل الله حفظه عليه بالغنا عن الناس، وهو الَّذي امتنّ الله تعالى به على الأنبياء في قوله «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»(1) ومن وما أريد به الفخر والترؤّس في الدنيا فمذموم.

«فَأَسْتَرْزِقَ»: جواب صن «طَالِبِي رِزْقِكَ»: فيه دليل على أنه أراد بالجاه ما ذكر لا المذموم إذ من لوازمه استرزاق الخلق الذين من شأنهم أن يسالوا الرزق الا أن يطلب منهم لما فيه ذلك من الذل والخضوع للمطلوب منه ومهانة النفس لاشتغالها عن التوجه إلى المعبود ما يجب أن يستعاذ بالله منه ومن أدعيتي زين العابدين عليه السلام «تَمَدَّحْتَ بِالْغِناءِ عَنْ خَلْقِكَ وَأنْتَ أهْلُ الْغِنى عَنْهُمْ وَنَسَبْتَهُمْ إلَی الْفَقْرِ وَهُمْ أهْلُ الْفَقْرِ إلَيْكَ فَمَنْ حاوَلَ سَدَّ خَلَّتِهِ مِنْ عِنْدِكَ وَرامَ صَرْفَ الْفَقْرِ عَنْ نَفْسِهِ بِكَ فَقَدْ طَلَبَ حاجَتَهُ في مَظانِّا وَأتى طَلِبَتَهُ مِنْ وَجْهِها وَمَنْ تَوَجَّهَ بِحاجَتِهِ إلى أحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ أوْ جَعَلَهُ سَبَبَ نُجْحِها دُونَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْحِرْمانِ وَاسْتَحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَوْتَ الإِحْسانِ»(2) لعدم استعداده لنفحات الله بالتوجه إلى غيره واشتغال نفسه بذلك الغير ونبه بقوله طالبي رزقك على عدم أهليتهم لأن يطلب منهم.

ص: 281


1- سورة آل عمران: الآية 45
2- الصحيفة السجادية: الدعاء الثالث عشر: ص 70

«وأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ»: وظاهر أن الحاجة قد يدعوا إلى ذلك والتجربة تقضي بأن طلب العطوفة من الأشرار والحاجة إليهم تستلذ معه ذو المرو وتطعم العلقم وتستحلي مذاق الصبر.

«وأُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وأُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي»: وذلك مستلزم للصرف عن الله والتوجه إلى القبلة الحقيقية.

«وأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ الإِعْطَاءِ والْمَنْعِ»: الواو لحال أي لا تبدل خلقي بالإفناء فيلحقني ما يلحقني من المكاره المعدودة وأنت من وراء ذلك كله أولى من

أعطى ومنع بأن يعطي ويمنع «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»: ومفهوم كونه راء ذلك كله أحاطته وكونه مسند الغنى وأهله المحتاج إليهم من الخلق وكذا الفقر ولوازمه لقدر على صرفه والإغناء عن الخلق لكن كونه محيطًا وكونه مستندًا للورائية(1)والمستند والوراء المعقول للمعقول والمحسوس للمحوس وبالله التوفيق.

ص: 282


1- الوارئية باعتبار ورود كلمة (وأنت من وراء ذلك) في دعائه عليه السلام

المحتويات

ومن خطبة له عليه السّلام:...5

ومن خطبة له عليه السّلام: في التنبيه على فضيلة الرسول صلَّى الله عليه وآله...11

ومنها: في الأخبار عن حال بني أمية وما يحدث في دولتهم من الظلم...12

ومن خطبة له عليه السّلام:...14

ومن خطبة له عليه السّلام:...15

منها: في ذم من يدعی رجاء الله ولا يعمل له، وتنبيهه أن رجائه ليس بخالص تكذيبه وبیان تقصيره في العمل...16

ومن خطبة له عليه السّلام: في ذكر ممادح النَّبيّ صلَّى الله عليه - وآله - وسَلَّم ثمّ في الموعظة الحسنة والتنفير عن الدنيا:...27

من كلام له عليه السّلام لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟...31

ومن خطبة له عليه السّلام مشتملة: من علم التوحيد على مباحث...35

منها: في تنبيه الإنسان وجذبه إلى الرحمن...38

ومن كلام له عليه السّلام،...39

ص: 283

ومن خطبة له عليه السّلام يذكر فيها بديع خلقة الطاوس...42

ومن خطبة له عليه السلام:...51

ومنها: في الإشارة إلى حال أصحابه...52

ومن خطبة له عليه السّلام في أول خلافته:...55

ومن كلام له عليه السّلام بعد ما بويع بالخلافة: في اعتذار منه عليه السّلَام في تأخير القصاص عن قتلة عثمان:...57

ومن خطبة له عليه السّلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة:...59

ومن كلام له عليه السّلام کلَّم به بعض العرب:...62

ومن كلام له عليه السّلام لما عزم على لقاء القوم بصفين:...63

ومن خطبة له عليه السّلام:...65

منها: «وقَدْ قَالَ لي قَائِلٌ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ إِنَّكَ عَلَی هَذَا الأَمْرِ لَحَرِيصٌ»:...65

ومن خطبة له عليه السّلام:...76

ومن كلام له عليه السّلام في معنى طلحة بن عبيد الله:...81

ومن خطبة له عليه السلام:...83

ومن خطبة له عليه السلام:...86

ص: 284

ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين بعد ما ابلغه أمرها...104

من خطبة له عليه السّلام: خطب بها بعد مقتل عثمان في أول خلافته...104

ومن كلام له عليه السّلام له صلوات الله تعالى عليه: في التوحيد والتنزيه...109

ومن كلام له عليه السّلام في ذم أصحابه:...110

ومن كلام له عليه السّلام...114

ومن خطبة له عليه السّلام روى عن نوف البكالي:...115

منها: «قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا»:...123

ومن خطبة له عليه السلام:...128

منها في ذكر القرآن «فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِر»:...129

ومن كلام له عليه السلام للبرج بن مسهر الطائي: كان شاعرًا مشهورًاً من شعراء الخوارج...140

ومن خطبة له عليه السّلام:...140

ومن خطبة له عليه السّلام يصف فيها المنافقين:...155

ومن خطبة له عليه السّلام:...160

ومن خطبة له عليه السّلام: في ذكر البعثة حين ظهور الأحوال الَّتي كان العالم عليها تنبيهًا على فضلها وفضيلة الرسول صلَّى الله عليه - وآله -وسلم...165

ص: 285

ومن خطبة له عليه السّلام: على فضيلة لغاية قبول قوله فيما يأمرهم به...167

ومن خطبة له عليه السّلام:...171

ومن كلام له عليه السّلام كان يوصى به أصحابه: بالمحافظة على أمور ثلاثة:...188

ومن كلام له عليه السّلام...195

ومن كلام له عليه السّلام: في ترغيب أصحابه السالكين لطريق الهدى في البقاء على ما هم عليه...198

ومن كلام له عليه السّلام:...202

ومن كلام له عليه السلام: في التنفير عن الدنيا والترغيب في الآخرة بذکر الغاية من وجودهما...205

ومن كلام له عليه السّلام كان كثيرًا ما ينادی به أصحابه:...207

ومن كلام له عليه السّلام وقد سمع قومًا من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين:...212

وقال عليه السّلام في بعض أيام صفين، وقد رأى الحسن عليه السلام يتسرع إلى الحرب...213

ومن كلام له عليه السلام قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة:...213

ومن كلام له عليه السّلام بالبصرة،...214

ص: 286

ومن كلام له وقد سأله سائل عن أحاديث البدع:...217

ومن خطبة له عليه السّلام:...222

ومن خطبة له عليه السّلام:...224

ومن خطبة له عليه السّلام:...225

منها في ذكر النبي صلَّى الله عليه وآله: أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ: الضياء النبوة والهداية...226

ومن خطبة له عليه السّلام:...227

ومن دعاء له عليه السّلام:...230

ومن خطبة له عليه السّلام خطبها بصفين:...232

ومن كلام له عليه السّلام: في التظلم والتشكي والاستغاثة بالله على قريش فيما دفعوه عنه من حق الإمامة التي هو أولى به:...241

ومن كلام له عليه السّلام لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد: بن أبي العاص بن أمية وهما قتيلان يوم الجمل:...243

ومن كلام له عليه السّلام في ذكر النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم:...245

ومن كلام له عليه السّلام قاله بعد تلاوته: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ٭ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»...247

ومن كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته: «رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ»...258

ص: 287

ومن كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ»...267

ومن كلام له عليه السّلام في التبري من الظلم:...275

ومن دعاء له عليه السّلام:...280

ص: 288

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.