خمس الألي من كنوز نهج البلاغة

هوية الکتاب

جميع الحقوقة محفوظة

الطبعة الأولي

1431 ه / 2010 م

عنوان المؤلف

سيد حسين السيد علي الأعرجي.

استراليا: أویلایر

4 Cigines ate

Morphett Ville SA 5043

Mob: 0061403617755

email: akaavaji @ hotmail.com

Australia Adelaide

الرويس علیها السلام مفرق محلات محفوظ ستورز - بناية رمال

ص.ب: 14/5479 - هاتف: 03/287179: 1/541211

تلفاکس11/557847

E - mail almahajja@terra.net.lb: 14/88TAIN JAUH www.darainahaja.com info@daralmahaja.com

محرر رقمي : روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

خَمْسُ لآلئ

مِن كنوز نَهج البَلاغَة

المؤَلّف

سَيّد حسَين السَیّد عَلى الأعْرجي

دار المحجة البيضاء

ص: 4

الإهداء

إلى روح والدي رحمه الله الذي طالما كان يحدّثُ عن نهج البلاغة، ويستشهد به فكان ذلك دافعاً لأبنائه أن يعذبوا لهذا الكنز العظيم، ويحاولوا الاستفادة منه، والإفادة به.

إلى روح الشيخ محمد عبده، وابن أبي الحديد وكلّ من ساهم في الاهتمام بهذا السفر الخالد، إن كان تفسيراً، أو بحثاً، أو دراسة أثروا بها الفكر العربي والإسلامي وأتحنوا الأجيال بذخائر هذه الكنوز الثمينة.

المؤلف

سيد حسين السيد علي الأعرجي

* * *

ص: 5

ص: 6

كلمة المؤلف

الحمدُ لله صاحب المنَّة ووليّ النّعم، والهادي إلى الرشاد أهل التَّفكّر والهمم والمسدّد للصواب وهو منتهى الكرم. أحمده على تتابع طَوله وتواتر عوائده وتوالي جوده وأصلّي على خيرة خلقه، وسُفن نجاته، ومصابيحُ هدايته محمدٌ وآله الطيبين الأبرار الطاهرين.

لا يختلف أحد على أنّ نهج البلاغة من أهمّ الكتب الإسلاميّة بعد القرآن والحديث النبويّ الشريف على الإطلاق. وقد اكتسب هذه الأهميّة العظيمة من عِظَم قيمته الأدبية والعلميّة والمعرفيّة، وكونه موسوعة من المعلومات والمفاهيم والأفكار المهمّة والمفيدة والمتجدّدة وخزينٌ معرفيٌّ ضخم استوعب مضامين فكرية ومواذ علميّة، ومناهج بلاغيّة، غاية في الروعة والرفعة والبداعة والسمو لا تبلى آثارها ولا تندرس أعلامها، ولا تُنسخُ معالمها وأن معطياتها حيّةٌ متجدّدة مع العصر، متفتّحةٌ للزمن، متواجدة مع الحياة. فإذا تدبّره المتدبّر، وتفحّصه الباحث فإنّه سيجد فيه ما يُغني بُغيته، ويُبلُّ غلّته، ويشفي شغفه، وفي أيّ مجالٍ، أو ساحةٍ، أو نادٍ، أو وادٍ أراد الولوج فيه فهو الذي لا يُساجل، ولا يُبارى ولا يُقاسُ به سواه.

إنّ من يتّجه باهتمامه نحو هذا السفر الجليل، وإنْ قضى عمراً، بل أعماراً في شأنه، ما هو إلّا كالمغترف من البحر بكفّه، لوفرة علومه،

ص: 7

وسماحة عطاله، وعظيم جوده الإمام علیه السلام يقول: [ما إنّ ههنا لعلماً جمّاً «وأشار إلى صدره» لو أصبتُ له حملة] (1) ويقول: [سلوني قبل أن تفقدوني] (2)، ما قالها أحد غيره إلّا وافتضح وقوله: [علّمني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من العلم ألفى باب يُفتح لي من كلّ باب الفُ باب]. وغيرها من الكلمات التي يبيّن فيها عظيم شأنه وعلوّ منزلته صلوات الله عليه:

ونحن إذا أردنا الخوض في الكلمات التي وردت على السن أهل البلاغة والفصاحة والعلم والحكمة في حقه وفي تبيان منزلقه، لطال بنا المقام، ولكن يكفي من ذلك كلّه، وسام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي ما بعده رسام، إذ يقول: أنا مدينة العليم وعليٌّ بابها (3) وأین باب كان صلوات الله عليه، وأيُّ علم أتحف به البدريَّة، رغم أنّ ما وصل إلينا منه أقلّ بكثير من الذي فاتنا، وأنّ الذي عرفناه أدنى من الذي جهلناه والذي وقع بأيدينا من الخطب والكلمات والحكم والكتب والرسائل، رغم جلال قدرها وسمو منزلتها وعظيم بدائعها، فهي جنب ما منحه الله تعالى من المواهب الرفيعة والمعارف الجليلة والكمالات السنيّة غيضٌ من فيض.

ها هو كتاب نهج البلاغة برفقتي منذ الصغر، وأنا الصفّح أوراقه، و أواظبُ على قراءته، أجدني في مجالات رحبة رحلباتِ للجري شاسعة، تشحذ هممي وتُحفًا عزائمي، وتدفعني للخوض والبحث والتبصّر، فألفي في كلّ كلمة زرّادة من علم وفي كلّ لفظ رواه من فلما، وعند كلّ محظةٍ بيادر من عطاء. ».

ص: 8


1- في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 147 الصفحة 990.
2- في الخطبة 92 الصفحة210: ومن كلامه رقم 187 الصفحة 387.
3- أخرجه الحاكم في المستدرك 1637: والطبراني في 11061: والدنمي في الفردوس «106».

فعلى مقدار جهدي، ومبلغ طائفي، حاولت أنّ أدخل في هذا المضمار، معتمداً على خزين حبّي وولائي لصاحب النهج، وتترّبي والقمالي إليه لائذاً به معتصماً بجواره، بعد التوکل والاستعانة بالله العليّ القدير، واستناداً لجامع رغبتي، وشديد تعلّقي في كسب ما يرجوه صاحب البضاعة المسجاة من وفاء الكيل، فكانت هذه المحاولة البحثيّة، والدراسة الموضوعيّة، لبعض ما يهمّ القارىء من النهج، وما يبتغيه من الفوائد ولا أدّعي أنّي منفردٌ في المجالات التي تناولتها، ولا ملمّ بكلّ ما تتطلّبه هذه المجالات من دراسة أو بحبّ أو تقصّ ولكنّها محاولة في اوّل، الطريق، ومبادرة شجّعني عليها شغفي واهتمامي وحبّي لهذا السفر الخالد، وحرصي على أنّ لا يكون منّا تقصير أو إهمالٌ أو عدم مبالاة لذخائر علومنا وتراثنا، ووجودنا.

وقد وضعت الكتاب في خمسة أبواب مختلفة المعارف، متنوّعة الفوائد، مواكبةً لقدوع وتشعّب المقاصد في نهج البلاغة، والأخذ من بعض هذا التنوّع بمقدار ما وقّفنا له، والقماس الجدّ والاجتهاد في دراسته وتتبّعه عسى أن يكون لنا جهد جديد في المستقبل إذا أراد الله سبحانه.

ووفاءً لشارحي النهج وعرفاناً منّا للجهود الجبّارة، والعطاءات الخلّاقة، التي تركوها لنا وما أفاضوا من غزير علمٍ، وجليل معرفةٍ، في شروحاتهم لكلام أمير المؤمنين علیه السلام - والشيخ محمد عبده «رحمه الله» واحدٌ من المهتمين بالنهج، والباحثين عن كنوزه - أعطيت لشرحه مساحة من الاهتمام والتتبّع والبحث للموضوعات المطروقة فيه، وبحسب الباب التي تنتمي إليه، أو ما رشح من توضيحات مؤلّفه الشريف الرضي رحمه الله وأيضاً كلٌّ حسب القساء، لذا فإنّ البحث في الموضوع المبؤب يشمل

ص: 9

كتاب نهج البلاغة بأجمعه: الأصل والشرح معاً، معتمداً النسخة المطبوعة في مؤسسة الأعلمي وهي الطبعة الأولى المصحّحة لسنة 1413 ه - 1993 م.

وفي حال الحاجة لشرح بعض الكلمات ومعرفة الغاية من القول في الأصل، فإنّي أخذت عن شرح الشيخ محمد عبده أيضاً، ليسره واختصاره مع بلوغ الغاية فيه. وفي حال تعذّر الوصول إلى البغية في المعلومة، تاريخيّة كانت أو فكريّة أو غيرها من شرح الشيخ محمد عبده اعتمدتُ اللجوء إلى المصادر الأخرى وخاصةً شرح ابن أبي الحديد، وغيره من المصادر للوصول إلى الغاية و إتمام الفائدة. مع مراعاة الاختصار في ذلك كلّه، ابتعاداً عن الملل.

فكان الباب الأوّل: فى لطائف الاستنباط من القرآن الكريم، وذكر الآيات البيّنات التي استشهد بها أمير المؤمنين علیه السلام، أو التي تطرّق إليها الشارح في معرض تبيانه معاني وفوائد الكلمات في الخطب أو الرسائل أو الكتب أو الحِكَم.

وكثيراً ما كان الإمام علیه السلام يستشهد بالآيات القرآنية، فهو تلميذ مدرسة القرآن والناطق به والمتعلّم منه، والعامل فيه. يقول علیه السلام: [وكتاب الله بين أظهركم ناطقٌ لا يعيا لسانه، وبيتٌ لا تُهدم أركانه، وعزٌّ لا تُهزمُ أعوانه] (1).

ويقولُ أيضاً: [ما جالس هذا القرآن أحدٌ إلّا وقام عنه بزيادةٍ أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصانٌ من عمى ] (2).

ص: 10


1- خطبة له رقم 131 الصفحة 281.
2- من الخطبة رقم 174 الصفحة 353.

ويقول: [وإنّ الله سبحانه لم يُعط أحداً بمثل هذا القرآن، فإنّه حبلُ الله المتين وسببه الأمين وفيه ربيعُ القلب، وينابيع العلم ] (1).

الباب الثاني: في الملاحم والفتن، وما أنبأ به علیه السلام في بعض خطبه وكلماته ورسائله وكتبه من أحداث وأخبار حصلت من بعده علیه السلام. يقول علیه السلام: [فوالذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة إنّ الذي أنبّئكم به عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم. ما كذب المبلّغ ولا جهل السامع] (2)، فالمبلّغ والسامع هو علیه السلام، ما كذب على النبيّ ولا جهل ما سمع منه، وما يُنبأ به أحوالُ هذه الأمّة،وأخبارها وهو الصدق واليقين.

وقوله: [لو تعلمون ما أعلم ممّا طوي عنكم غيبه، إذاً لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم] (3).

وردّ على من وصف أنباءه بعلم الغيب: [ ليس هو بعلم غيبٍ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم] (4)، [ألا وفي غدٍ - وسيأتي غدٌ بما لا تعرفون] (5).

الباب الثالث: في الاحتجاج مع أعدائه ومناوئيه، أو مع أصحابه والقريبين منه، بالبرهان والحجّة، ويضع الأمور مواضعها ممّا لا مردّ عليه، ولا منافسة له، حتّى تكون الغلبة من نصيبه في كلّ مواطن الاحتجاج والمناظرة، ومع الجميع. بما أُعطي من مواهب الفراسة، وقوّة الملاحظة، وغزارة العلم، وسعة المعرفة. يقول علیه السلام: [ والذي بعثه بالحق، واصطفاه على الخلق، ما أنطقُ إلّا صادقاً، وقد عهد إليّ بذلك 6.

ص: 11


1- من الخطبة رقم 174 الصفحة 356.
2- من الخطبة رقم 101 الصفحة 222.
3- من الخطبة رقم 115 الصفحة 256.
4- من كلام له علیه السلام رقم 126 الصفحة 275.
5- الخطبة رقم 136 الصفحة 286.

کلّه ... وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي إلّا أفرغه في أذني، وافضي به إلي] (1)، يعني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

الباب الرابع: الشعر والأمثال: يقول العقاد: وعندي انّه علیه السلام كان ينظم الشعر ويُحسن النظر فيه، وكان نقده للشعراء نقد عليم بصير، فكان علیه السلام كثير الاستشهاد بالقرآن والحديث النبوي، وكذلك كثير الاستشهاد بالشعر، لأنّه كان شاعراً بطبيعته، رغم أنّ صفة الشعر لم تكن الغالية عنده، بل وكانت نادرة.

الباب الخامس: المرأة في نهج البلاغة: وما ورد في ذكر المرأة في كلامه صلوات الله عليه، وفي مواطن كثيرة.

وجديرٌ أنْ أذكر أنّه ربّما بتكرر الكلام من الخطبة أو الرسالة أو الحكمة في أكثر من بابٍ من أبواب الكتاب، ذلك لتعدر الغرض في الكلام الواحد، مثلاً قد يكون الكلام متعلقاً بالشعر أو الأمثال، وله صلة بالملاحم أو الاحتجاج أو غيره، فيُذكر عندها في أبواب تلك الحالات بأجمعها.

وربَّما يُسعفني الزمان، وأحذر حذر هذه الفكرة في التتبّع لأبواب أخرى في النهج، وهي كثيرة جداً، ومشرعة لطالبيها، رحبة في عطائها، ولمن أراد أن يبتغي من جواهر هذا الكنز، فما عليه إلّا أنْ يدخل مدينة العلم من بابها التي تؤتى منها، ولا يضع بينه وبينها رتاجاً أو حاجزاً: بل يعتمد ويتوكّل ويباشر وما محصوله إلا كلّ فائدة، وكلّ ما يبتغيه من منافع له ولغيره.

وقد أسميت الكتاب: (خمسُ لآلي من كنوز نهج البلاغة)، نسبة 1.

ص: 12


1- من الخطبة رقم 173 الصفحة 351.

للأبواب الخمسة التي بنيتُ عليها وأخذت منها، وتيمّناً بالخمسة أهل الكساء، أولي العلم والفصاحة والبلاغة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وما الغايةٌ إلّا طمعاً بشفاعتهم، يرغبةٌ إليهم، وولاءً لهم. وآخر دعواي أن الحمد لله ربّ العالمين وصلاته وسلامه على الشرف خلقه وأحبّهم إليه محمّد وآله الطاهرين:

المؤلف

السيد حسين الأعرجي

2010/2/20م

* * *

ص: 13

ص: 14

مقدمة

لم نر في تراثنا العربي والإسلامي كنهج البلاغة حظي باهتمام العلماء والأدباء والباحثين، واسترعى انتباههم، وشحذ هممهم للتدقيق والتحقيق والتفسير والبحث.

وهذا السفر الخالد كان ولا زال في متناول الشرح من قبل أهل الاختصاص منذ القرن السادس وحتّى يومنا هذا، ومن المتعذّر إحصاء شروحاته، وقيل إنّها وصلت لأكثر من مائتين. وهذا بالطبع لا يشمل شروحات الخطبة الواحدة، أو المقطوعة المنفردة، وإنّما يعني ما وصل إليه الشارح من شمول الكتاب بأكمله بالشرح والتحقيق والتحليل. وقيل إنّ أوّل من بادر لشرحه، هو علي بن ناصر مؤلّف «أعلام نهج البلاغة» والذي عاصر الشريف الرضي. وقيل الشريف المرتضى أخو الشريف الرضي، بشرحه الخطبة الشِّقشقية، وقيل بل هو الشريف الرضي نفسه، عندما قام بشرح فقرات من الخطب وفسّر بعض جمله وغريب كلامه فهو أوّل الشارحين له.

وقيل قطب الدين الراوندي المتوفى سنة 573 ه، وهو صاحب «منهاج البراعة»، وقيل غير هؤلاء. وليس ما يهمّنا هنا استعراض شروحات كتاب نهج البلاغة، وإنّما جرت الإشارة إليه لتوضيح مدى اهتمام الباحثين قديمهم وحديثهم بهذا الذخر العظيم، والكنز الكبير.

ص: 15

إنّ النص في نهج البلاغة يتمتّع بسلطة فائقة ونادرة تستحوذ على الأذهان، وتستقطب الأفهام، وتستهوي الأذواق الرفيعة، لتسبر أغواره، وتحاول استخراج ما يمكن استخراجه من لآلي، وفوائد وعوائد وذخائر متنوعة بتنوّع جمالياته وعطاءاته وذخائره.

ومحتوي النهج لم يكن مقتصراً على الصور البلاغيّة الإعجازيّة التي حُسبت له، حتّى قيل عنه أنّه أعلى وأفخم وأرقي الكلام بعد كلام الله تعالى وكلام رسوله المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، فهو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين.

فبلاغة عليّ علیه السلام أنموذج رفيعٌ وسامٍ، يُجسّد قدرة الإمام على ترجمة ممارساته التي من خلالها ينطلق في رؤية العالم الخارجي، وفي سيرته تتوضّح طبيعة عرضه للمعاني والبيان. فالنصّ عنده ينقل أفكاره بصدق وهي تصلّ إلى المتلقّي بشكل فعال ومتحرك، وکأنّها تعيش في ذاته، وتكمن في نظرته، ولكنّها تنتظر من يُحرِّکها ويُخرجها للظاهر.

وبلاغة على علیه السلام تبلورت في النص الذي يخرج من رحم لغته وقدرته الابتكاريّة ففي مسائله الفكريّة التي يطرحها وبتلك القدرة، نجد أنّها تولد ترّاً. وكذلك أفكاره المشتركة المتداولة، فهو عندما يصبغها فكألّما جاء بها بمعطيات جديدة، وقناعات جديدة: إنّ أفكاره علیه السلام كانت تخترق الحُجب والغطاءات التي تحول بين النّاس وبين فطرتهم، فيتقبّلها الآخر ويقنع بها، لأنّ طرحه لها صادقاً في جميع الأوجه وفي كلّ الأزمنة.

إنّ أيّ نصّ في نهج البلاغة لم يكن عبارة عن قطعة بلاغيّة وحسب، أو لوحة فنيّة ذات جمال لغوي مجرّد، بل هو غاية في الإتقان والتمازج والاتحاد البلاغي الفكري، ففي صورة المطلقة هو آية بالجمال والفتنة،

ص: 16

وفي جوهره ومعطياته هو غاية في العبقريّة والعطاء، فالنصّ عنده دأئماً يرتقي إلى إصابة المعنى، وإيصال الفكرة التي يناضل من أجلها، ويسعى إلى إيصالها للنّاس، لذا جاء التنوّع في طروحات الإمام، والذي يجده من يتتبع نهجه.

فكما أنّ نهج البلاغة مصدر كبير من مصادر البيان واللّغة والبلاغة والأدب، فهو كنز من كنوز الفكر والعلوم والمعارف باختلافها: اجتماعيّة واخلاقيّة وأدبيّة وفلسفيّة وتاريخيّة وغيرها، وهو رافدٌ من روافد الإبداع الأدبي واللفظي، وسجل حافل بعلوم الكون والخلل والتوحيد والعدل والفلك وغيرها. إنّه بحقّ موسوعة شاملة، أغنت العقول وطلّاب المعارف بالأفكار، فلا يبتغي الطالب طلبة إلّا ويرى أفضلها وأحسنها في هذا الكنز:

لقد الطوت شخصيّة الإمام علیه السلام على قدرات عظيمة، وإمكاناتٍ مبدعة، لم تتوفّر لغيره، ومن خصوصیّات بلاغته، أنّ النصّ الذي يأتي به ارتجالاً، كما هو في المكتوب ترى فيه أوجه التكامل والترابط والانسجام وعلوّ القيمة، وكذلك في طول النصّ وقصره، الثوابت ذاتها موجودة فلا ملل لو كان النصّ طويلاً، ولا تقصير إنّ كان نصيراً، يقول ابن أبي الحديد: «إذا تأمّلته وجدته كلّه ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسد البسيط الذي ليس بعضٌ من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة ذلك لانسجام الألفاظ في المقطوعة الواحدة، وعلاقة اللفظة بالأخرى إذْ تأخذ بعنق قرينتها، فتجذبها إلى نفسها، لتدلّ عليها بذاتها، كان علیه السلام يستنطق الصّفات، فيهب لها القدرة على أنْ تُظهر نفسها بشفافيّة عالية، ووضوح فهو عندما يتكلّم عن السّحاب والطبيعة والطاووس والنملة وغيرها، ممّا يتطلّب الوصف، تجده

ص: 17

في غاية الإبداع اللفظي والبلاغي وغاية الدقّة بالملاحظة والإدراك العلمي، وسمو الوعي في الربط بين كل ذلك. فهو كما يقول العقاد: تلميذُ ربّه جل وعلا.

يقول جورج جرداق: ويستمر تولّد الأفكار في نهج البلاغة من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشدٍ لا ينتهي وهي مع ذلك لا تتراكم بل تتساوق ويترتّب بعضها على بعض.

ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم. وإنّك لتدهش أمام هذا المقدار من الإحكام والضّبط العميقين، حين تعلم أنّ عليّاً لم يكن ليعدّ خطبه ولو قبيل إلقائها بلحظات. فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت وإجهاد، كالبرق إذ يلمع ولا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. ومن ذكاء عليِّ المفرط والشامل في نهجه أنّه نوّع البحث والوصف فأحكم في كلّ موضوع، ولم يقصر جهده الفكري على واحدٍ من الموضوعات أو سبل البحث، فهو يتحدّث بمنطق الخبير الحكيم عن أحوال الدنيا وشؤون النّاس، وطبائع الأفراد والجماعات وهو يصف الأرض والسماء ويُسهب في القول بمظاهر الطبيعة الحيّة فيصف خفايا الخلق في النملة والطاووس والجرادة والخفّاش وما إلى ذلك. ويضع للمجتمعات دساتير وللأخلاق قوانين. ويُبدع في الحديث عن الكون وروائع الوجود.

إنّ الفكرة التي يطرحها عليٌّ علیه السلام، وفي أيّ ميدان أو موضوع فهي متحرّكة نابضة، تجري في عروقها دماءُ الحياة. وكما أنّها تُخاطب العقل فهي تُخاطب الشعور بنفس الحرارة والمقدار، لهذا كان الإعجاب حاضراً بآثار أفكاره، لأنّه أثرٌ فكريٌّ كامل تتوحّد فيه مخاطبة العقل مع مخاطبة الشعور والعاطفة وهذا ما نراه في نهج البلاغة وفي كلّ جزءٍ منه.

ص: 18

إنّ أسلوب أمير المؤمنين علیه السلام صريحٌ كقلبه وذهنه، صادق كطويّته، فلا عجب أنْ يكون نهجاً للبلاغة. ذلك ما يقرره جورج جرداق.

ونحن حينما نُمعن النظر في أقواله علیه السلام، خاصة فيما يهمّ موضوعات أبواب الكتاب، نجد مساحاتٍ واسعة للتأمّل والبحث والتدقيق، فحين نقرأ استشهاداته علیه السلام بالآيات القرآنيّة المباركة، نشعر بأنّ تلك الآيات تُلقى على مسامعنا مرتّلة مفسّرة، أو كأنّها أُنزلت للتوّ على لسان الوحي.

وإذا ما لقينا بيتاً من الشعر يستشهد به لحادثة معيّنة، أو خبر أو موقف، فإنّ معنى ذلك البيت يتناسق تماماً ويتّحد ويتمازج مع كلماته، وكأنّه جزءٌ منها، بل يُشعرك أنّ كلامه هو القصيدة الشعريّة والبيتُ تتمّة لها.

وإنْ وجدنا ذكراً للملاحم وأخبار الناس وما سيكون، مما عرّفه إيّاه النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم، يتحوّل ذلك الخبر إلى حقيقة معاشة ومدروكة، وكأنّنا كنّا مع الحدث وفي أثنائه، ولم تكن معرفتنا له سماعاً.

وفي احتجاجاته وما كان يسوقه من براهين وحجج ودلائل دامغة، يوحي لكلّ عقل حيّ متحرر، وواثق متفهّم بالحقيقة الكاملة، حتّى أنّه يكون حكماً بذاته، فيحكم له دائماً، ويحكم على غُرمائه دائماً أيضاً.

وعندما يكون للمرأة ذكرٌ في خطبه ورسائله وحكمه فإنّه يضع الأمور مواضعها فيما يخصُّ المرأة، دونما مجاملة أو مواربة فيما يتعرض له من شؤونها إنْ كان بالعموم و للجنس، أي جنس المرأة. أو للعهد أي لحالاتها الخاصّة، وبتعيين تلك الحالة، لمرأةٍ معيّنة لا بشمول الحالة.

وهكذا في كلّ المجالات والاتّجاهات فإنّ كلماته علیه السلام تتفجّر من

ص: 19

ينابيع بعيدة القرار في مادّتها، زاخرة بالحِكَم والأفكار والمعارف والعلوم. ما يجعل الفرص مواتية للبحث والباحثين، أنْ يجدوا كلّ ما هو جديد في نهج البلاغة، ویأخذوا من مادّته الغنيّة ما يشفي غلّتهم، ويُسمع نهمهم بكلّ ما هو نافع ومفيد. ويدفعهم لاستخراج الجواهر من منجم الجواهر، من نهج البلاغة، بل كنز البلاغة.

وقد دعوت الله سبحانه أن أكون ممّن وفّقوا لالتفاء جواهره، ومعرفة معادله، وتحصيل فوائده. حتى ظهر هذا الجهد المتواضع في طريق البحث والتدقيق والتحقيق لهذا الكنز، وهو طريقٌ طويل ومشوق، جعلنا الله من سالکيه والعارفين له و لحقوقه وحقوق صاحبه ببركة ولائنا احتماننا به علیه السلام، وأخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه النتجبین.

المؤلف

السيد حسين الأعرجي

ص: 20

بعض ما قاله قاله ابن أبي الحديد:

وأنصح من كل ناطق بلغة العرب من الأوّلين والآخرين، إلّا من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ذلك لأنّ فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته تعتمد على أمرين، هما: مفردات الألفاظ ومرکّباتها: أمّا المفردات فأنْ تكن سهلةٌ سلسلة غير وحليّة ولا معقدة، وألفاظه علیه السلام كلّها كذلك.

فأمّا المرکّبات فحُسن المعنى وسرعة وصوله إلى الأفهام، والشتماله على الصفات التي باعتبارها فضّل بعض الكلام على بعض، وتلك الصفات هي الصناعة التي سمّاها المتأخرون البديع، من المقابلة، والمطابقة وحسن التقسيم، وردّ أخر الكلام على صدره والتّرضيع والتسهيم والتوشيح، والمماثلة، والاستعارة، ولطافة استعمال المجاز، والموازنة والتكافؤ والتّسميط والمشاكلة.

ولا شبهة أنّ هذه الصفات كلّها موجودة في خطبه وكتبه، مبثولة متفرقة في فُرُش كلامه علیه السلام وليس يوجد هذان الأمران في كلام احدٍ:غيره فإن كان قد تعمَّلها وأفكر فيها، وأعمل رويَته في رصفها ونثرها، فلقد أتي بالعجب العجاب، ووجب أنْ يكون إمام الناس كلّهم في ذلك، لأنّه ابتكره ولم يُعرف منْ قبله وإنْ كان اقتضیها ابتداءٌ، وفاضت على

ص: 21

لسانه مرتجلة، وجاش بها طبعه بديهةً، من غير رويةٍ ولا اعتمال فأعجب وأعجب!

وعلى كلا الأمرين فلقد جاء مجلّياً والفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره.

وبحق ما قال معاوية لمحقن الضّبيّ، لمّا قال له: جئتك من عند أعيا الناس: يابن اللخناء العليِّ تقول هذا؟ وهل سنَّ الفصاحة لقريشِ غيره!

وعلم أنّ تكلّف الاستدلال على أنّ الشمس مضيئة يُتعب، وصاحبه منسوبٌ إلى السَّفه وليس جاحد الأمور المعلومة علماً ضرورياً بأشدّ سفهاً ممّن رام الاستدلال بالأدلّة النظريّة عليها (1). 7.

ص: 22


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج6 ص 336، 337.

أبواب الكتاب

الباب الأول: لطائف الاستنباط من القرآن الكريم في نهج البلاغة

الباب الثاني: الملاحم والفتن في نهج البلاغة

الباب الثالث: الاحتجاج في نهج البلاغة

الباب الرابع: الشعر والأمثال في نهج البلاغة

الباب الخامس: المرأة في نهج البلاغة

ص: 23

ص: 24

الباب الأوّل

اشارة

لطائف الاستنباط من القرآن الكريم

المدخل: وَصَف علیه السلام كتاب الله العزيز، القرآن الكريم في ميوا متعددة من خطبه ورسائله وكتبه ومن توصيفاته هذه وضيع علیه السلام اسساً للعلوم القرآنية، وأنشأ مبادىء التفسير للآيات القرآنية، فكما انه سابق مضمار کلّ علم وفضيلة، ومجلي حلبتها، كذلك في تفسير القرآن وعلومه، عنه أُخذ، ومنه فرع، وكلّ من برح في هذا الميدان له اقتفى رعلى مقاله احتدى: وكُتب التفسير تنبئك بذلك، فأكثر مأخوذٌ عنه، وبعضٌ منه مأخوذ عن ابن عباس رحمه الله، وما أخذ عن ابن عباس، فضله عائدٌ إليه، لانّه تلميذه وخرّيج مدرسته، وقد غُرف بملازمته له وانقطاعه إليه. وعندما سُئل ابن عباس: أين علمك من علم ابن عمّك علي؟ قال: كالقطرة في المحيط.

ولو نظرنا إلى قوله علیه السلام في ذكر كتاب الله وما يخصُّ الآيات القرآنية من تشريعات تمسٌ حياة المسلم وصلته بالقرآن، وما شُرّع له فيه يقول: [کتاب ربّکم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحکمه و متشابهه مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه بين مأخوذ في ميثاق علمه وموسّع على العباد في جهله وبين منبّت في الكتاب فرضه،

ص: 25

ومعلوم في السنّة نسخه وواجب في السّنة أخذه، ومرخّص في الكتاب تركه، وبين واجبٍ بوقته، وزائلٍ في مستقبله مباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغيرٍ أرصد له غفرانه وبين مقبولٍ في أدناه موسَّعٍ في أقصاه ] (1).

حلاله وحرامه: الحلال كالنكاح والحرام كالزني.

فرائضه وفضائله: الفرائض كفريضة الصبح، والفضائل كالنوافل التي يعظم الأجر فيها ولا حرج في التقصير عنها.

ناسخه و منسوخه: الناسخ كقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (2)، والمنسوخ كقوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (3).

ورخصه وعزائمه: الرخص كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) (4). والعزائم كقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ) (5).

خاصّه وعامّه: الخاص كقوله تعالى: ﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) (6)، والعام كقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (7).

عبره وأمثاله: العبر كقصة أصحاب الفيل والأمثال كقوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) (8)..

ص: 26


1- من الخطبة رقم 1 الصفحة 45، 46.
2- سورة التوبة، الآية: 5.
3- سورة البقرة الآية: 256.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
5- سورة محمد الآية: 19.
6- سورة الأحزاب الآية: 50.
7- سورة البقرة، الآية: 110.
8- سورة البقرة الآية: 17.

مرسله ومحدوده: المرسل: المطلق والمحدود: المقيّد كقوله: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (1).

محكمه ومتشابهه: محكمه كقوله تعالى: ﴿ققُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (2)، والمتشابه كقوله: (إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (3).

ثم قسَّم علیه السلام الكتاب قسمة ثانية، فقال: إنّ منه ما لا يسع أحداً جهله كقوله: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (4) ومنه ما يسع الناس جعله كقوله: (كهيعص) (5)، (حم ١ عسق ٢) (6).

ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ في السنّة، كقوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) (7) وما حكمه مذكور في السنّة منسوخ في الكتاب كصوم يوم عاشوراء. ففي الأوّل نسخ بما سنّه من رجم الزاني المحصن، والثاني نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنصّ الكتاب. واجبٌ بوقته وزائلٌ في مستقبله: مثاله، الواجبات المؤقّتة كصلاة الجمعة فإنّها تجب في وقت مخصوص، ويسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت.

ومباين بين محارمه، كبيرة وصغيرة، فالكبيرة أوعد عليها بالعقاب والصغيرة بالمغفرة.

ص: 27


1- سورة المجادلة، الآية: 3.
2- سورة الإخلاص، الآية: 1.
3- سورة القيامة، الآية: 23.
4- سورة البقرة الآية: 255.
5- سورة مريم، الآية: 1.
6- سورة الشورى، الآيتان: 1 - 2.
7- سورة النساء الآية: 15.

مقبول في أدناه موسّع في اقصاء: كقوله (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (1) فإِنَّ القليل من القرآن مقبول، والكثير منه مرخّصُ في تركه.

وهذه التقسيمات في أحكام القرآن وعلومه ومعارفه، لم تكن معلومة لأحد في مستهلّ نزول القرآن الكريم، حتى وضع علیه السلام لها قانوناً، وسنّ إليها دستوراً، واحتذى على أثره مَنْ جاء بعده معتمداً على أفكاره وعلمه بأسرار القرآن التي تعلّمها من مدرسة الوحي ومن أستاذه الأوّل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

وهو مصداقي لقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «تركت فيكم الثقلين ...» فهو سلام الله عليه و الأئمة من أولاده الثقل الذي حفظ لها القرآن وعرّفنا علومه و أسراره.

و یذکر علیه السلام کتاب الله العزيز في موضع آخر فيقول: [عليكم بكتاب الله فإنّه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والرأي الناقع، والعصمة للمتمسّك، والنجاة للمتعلّق، لا يعْوجُ فيُقام، ولا يزيغ فيُستعتب ولا تخلقه كثرة الردّ. وولوج السّمع، منْ قال به صَدَق، ومن عمل به سَبَق] (2).

وقوله عن القرآن في خطبة أخرى: [ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دافکم، ونظم ما بينكم] (3).

وقوله علیه السلام: [فإنّه يُنادي مناد يوم القيامة: ألا إنّ كلّ حارب مبتلي في حوله، وعاقبة عمله، غير حرفة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه ] (4).4.

ص: 28


1- سورة المزمل، الآية: 20.
2- من كلام له رقم 154 الصفحة 312، 313.
3- من خطبة له رقم 159 الجمعة 317.
4- عالم الخطية رقم 174 الصفحة 354.

وقوله: [فالقرآن آمرٌ زاجر، وصامتٌ ناطق، حجّة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، وارتهن عليه أنفسهم] (1).

وقوله: [ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا لطفا مصابيحه، وسراجاً لا يخبر تولّده، وبحراً لا يُدرك قعره ومنهاجاً لا يُضلُ نهجه، وشعاعاً لا یُظلمُ ضرره، وفرقاناً لا يحمد بُرهانه، وتبياناً لا تُهدمُ أركانه، وشفاءً لا تُخسي أسقامه، وعزّاً لا تُهزِمُ أنصاره، وحقاً لا تُخذلُ أعوانه ... جعله الله ربّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجٌ لطرق الصلحاء ] (2):

وقوله علیه السلام: [من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممَّن كان يتّخذ آيات الله هُزُواً] (3).

وقوله: [في قرأ القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بینکم ] (4).

الأول: خبرهم في قصص القرآن، والثاني: الخبر عن مصير: الأمور، وهو يعلم سنّة الله فيمن قبلنا وبعدنا، والثالث: الأحكام التي نصّ عليها.

وفي النهج تواصيف أخر، في أكثر من موضع للآيات القرآنية، بيّن فيها علیه السلام أحكام القرآن وعلومه وقواعد تفسيره وأسَّس لمن جاء بعده مباحث الكتاب الكريم العديدة ومعارفه التي كان يجهلها غيره، حتى أخذ7.

ص: 29


1- من الخطية رقم 181 الصفحة 371
2- من الخطبة رقم 196 الصفحة 429 - 430.
3- من حكم أمير المؤمنين رقم 229 الصفحة 675.
4- من الحكمة رقم 315 الصفحة 697.

عنه علماء التفسير واللغة والقرآن وبنَوا على بنيانه، والأسس التي أرساها سلام الله عليه الله عليه في هذا المجال المهم والجوهري من حياة المسلمين، كما في المجالات الأخرى، والعلوم والمعارف المتعدّدة الأخرى.

الآيات القرآنية في نهج البلاغة

«1» في الخطبة رقم - 1 - يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض، وخلق آدم. وهو علیه السلام وإنْ لم يذكر آية قرآنية بعينها بهذا الخصوص، إلّا أنّه أخذ من الآيات التي سنذكر بعضها واستدلّ بها على خلق السماوات والأرض وخلق آدم علیه السلام.

ففي الصفحة - 38 - قوله علیه السلام: [فسوّى منه سبع سماوات، جعل سفلاهنَّ موجاً مكفوفاً، وعلياهنَّ سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً بغير عمدٍ يدعمها، ولا دِسارٍ ينظمها. ثمَّ زيَّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب].

المكفوف: الممنوع من السيلان. يدعمها: يسندها ويحفظها من السقوط. والدِّسار: المسامير أو الخيوط تُشدُّ بها ألواح السفينة من ليف ونحوه. الثواقب: المنيرة المشرقة.

ففي سورة الأنبياء، الآية 32، قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا تَحفُوظاً).

وفي سورة الرعد، الآية 2 قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا).

وفي سورة لقمان الآية 10 قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ).

وفي سورة النازعات، الآية 28 قوله تعالى: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا 28)، والسمك: السقف وجهة العلو.

ص: 30

وفي سورة الصّافات الآية 6 قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ 6)

وفي سورة الطارق الآية 3 قوله تعالى: (النَّجْمُ النَّاقِبُ) وغيرها من الآيات البيّنات في خلق السماء والأرض. وإذا نظرنا إلى هذه الآيات وإلى قول الإمام علیه السلام، فإنّه من معين واحد لأنّه علیه السلام التلميذ القرآن وتلميذ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المنزل عليه الكتاب.

وأمّا في صفة خلق آدم علیه السلام وبنفس الخطبة رقم 1 في الصفحتين 40 و 41 يقول علیه السلام: [ثمّ جمع - سبحانه - من حَزَن الأرض و سهلها، وعذبها و سبخها تربةً سنَّها بالماء حتّى خلصت ولاطها بالبلّة حتّى لزبت. فجبل منها صورةً ذات أحناءٍ ووصول، وأعضاء وفصول ... ثمّ نفخ فيها من روحه فمثُلت إنساناً].

وقد وردت في القرآن الكريم آيات بيّنات عن خلقة آدم علیه السلام وتكوينه، فمرةً بلفظ التراب وأخرى بلفظ الطين. فالسور وآياتها التي تطرقت للّفظ الأوّل: آل عمران 59، الكهف37، الحج 5، الروم 20، فاطر 11، غافر 67.

أمّا الآيات التي جاءت باللّفظ الثاني: الأنعام 2، الأعراف 12، المؤمنون 12، السجدة 7، الصّافات 11، ص 71 و 76، الإسراء 61.

وقد أشار علیه السلام في خطب أخرى إلى موضوع أصل خلق الإنسان.

ففي الخطبة رقم 161 الصفحة 329 قوله: [ بُدئْتَ من سلالةٍ من طين، ووضعْتَ في قرار مكين].

وفي الخطبة 190 صفحة 395 والمسماة بالقاصعة يقول: [ ولكنّ الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم،

ص: 31

ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخُيلاء منهم] فبيّن العلّة من خلق آدم علیه السلام من التراب، وهو واضح وقد استشهد علیه السلام بنفس الخطبة بالأيات 71، 72، 73، 71 من سورة ص وسيأتي ذكرها في حينها.

* * *

«2» في الخطبة رقم 1 أيضاً الصفحة 41، استشهد علیه السلام بالآية الكريمة: (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (1) وقد جاءت بنفس اللفظ في كل هذه الآيات.

واستشهاده علیه السلام بهذه الآية بعد قوله: [واستأدى الله سبحانه الملائكية وديعته لديهم وعهد وصيّته إليهم]. أي أنّه سبحانه ملات من الملائكة أداء ودیعته، وودیعته هي عهده اليهم بقوله تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ 71 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ 72) (2) وهي الآية التي استشهد بها الشارح «محمد عبده» في نفس الصفحة 41.

* * *

«3» في الخطبة رقم 1 الصفحة 42 استدلّ علیه السلام بالأيتين 37 و 38 من سورة الحجر والآيتين 80 و 81 من سورة ص وبنفس اللفظ في قوله تعالى: (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 15) (إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 81)، ما يستحق به الشيطان في هذا الأمد سخط الله وما تتم به بليّة الشقاء عليه، ويكون الله سبحانه قد أنجز وعده في قوله: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ). 2.

ص: 32


1- سورة البقرة الایة: 34، سورة الاعراف، الایة 11، سورة الإسراء، الآية: 61، سورة الکهف، الآية 50، سورة الإسراء: الآية: 116.
2- سورة ص الآيتان: 71 و 72.

وهو إشارة لقوله علیه السلام: [فأعطاه الله النَّظِرَةَ استحقاقاً للسخطة واستتماماً للبليّة، وإنجازاً للعِدَةِ].

* * *

«4» في الخطبة رقم 1 الصفحتان 45 و 46 قوله علیه السلام:

[كتاب ربكم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه وفرائصه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعِبَره وأمثاله، ومُرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله، ومبيّناً غوامضه بين مأخوذٍ ميثاق علمه، وموسّعٍ على العباد في جهله، وبين مثْبتٍ في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنّة نسخه، وواجب في السنّة أخذه، ومرخّصٍ في الكتاب تركه، وبين واجبٍ بوقته، وزائلٍ في مستقبله، ومباين في محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغيرٍ أرصد له غفرانه، وبين مقبول في أدناه موسَّعٍ في أقصاه].

وقد ورد هذا الكلام وشرحه وأمثلته في مدخل هذا الباب، ولأهميته وما عزمنا على الأخذ بالآيات الواردة في شرح الشيخ «محمد عبده»، فقد كررناه هنا مع الأمثال و الآيات التي ذكرها الشارح كلٌّ حسب ما ورد في

كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وتقسيماته لما بيّنه في الكتاب الكريم.

حلاله: كالأكل من الطّيبات وحرامه أكل أموال الناس بالباطل.

فرائضه: كالزكاة هي أخت الصلاة، وفضائله: كنوافل الصدقات التي يعظم الأجر فيها، ولا حرج في التقصير عنها.

ناسخه كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) (1)، ومنسوخه كقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي5.

ص: 33


1- سورة الأنعام، الآية: 145.

ظُفُرٍ) (1). ورخصه، كقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) (2)، وعزائمه، كقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (3).

وخاصّه، كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) (4)، وعامّه، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (5).

والعِبَر: كالآيات التي تُخبر عن عذاب الأمم الماضية بعد فسوقها عن الحق والأمثال كقوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا) (6).

والمرسل: المطلق. والمحدود: المقيّد. والمحكم. كآيات الأحكام. والمتشابه، كقوله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (7).

والموسع على العباد في جهله: كالحروف المفتحة بها السور، مثل: «الم» و«الر» وغيرها، والمثبت في الكتاب فرضه: كالصلاة، فإنّها فُرضت على الّذين من قبلنا، غير أنّ السنّة بيّنت كيفيّتها والهيئة التي اختصَّنا الله بها، والمرخّص في الكتاب تركه ما لم يكن منصوصاً على عينه. بل ذكر في الكتاب ما يشتمله وغيره كقوله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (8). وقد عيّنتْه السنّة بسورة مخصوصة في كلّ ركعة، ولو بقينا عند مجمل الكتاب لكان لنا أنْ نقرأ في الصلاة غير الفاتحة جوازاً لا مؤاخذة معه..

ص: 34


1- سورة الأنعام، الآية: 146.
2- سورة المائدة الآية: 3.
3- سورة الأنعام، الآية: 121.
4- سورة التحريم، الآية: 1.
5- سورة الطلاق، الآية: 1.
6- سورة النحل، الآية: 75.
7- سورة الفتح، الآية: 10.
8- سورة المزمّل، الآية: 20.

الواجب بوقته: الزائل في مستقبله، كصوم رمضان، يجب في وقت من السّنة ولا يجب بغيره.

ونحن نجد في مواضع أخرى من كلام أمير المؤمنين حول القرآن الكريم فيه تقسيمات وأوصاف وضع فيها الأسس التي بنى عليها مفسرو الآيات القرآنية، ومن مدرسته البليغة أخذوا واقتفوا أثره حتّى وصلتنا تلك العلوم القرآنية في التفسير والنزول وأسبابه وغاياته، وتشريعات الآيات ومعانيها وغاياتها من خلال ما وصل إليه علماء التفسير واقتفائهم آثارها علیه السلام.

* * *

«5» من الخطبة 1 الصفحة 46، في ذكر الحج.

يذكر علیه السلام الآية المباركة: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (1)، مبيّناً فلسفة الحج وغايته وفوائده وعوائده، فيقول: [جعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً، وللعائذين حرماً، فرض حقّه وأوجب حجّه، وكتب عليكم وفادته].

والوفادة: الزيارة.

وعن حج بيت الله، جاء في الخبر أنّ في السماء بيتاً يطوفُ به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه «الضُّراح» وأنّ هذا البيت تحته على خط مستقيم.

وفي الحديث إنّ آدم لمّا قضى مناسكه وطاف بالبيت لقيته 7.

ص: 35


1- سورة آل عمران، الآية: 97.

الملائكة، فقالت: يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.

وفي الحديث: إنّ من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها إلّا الوقوف بعرفة. وفيه: أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفة فظنّ أنّ الله لا يغفر له.

* * *

(6) في الخطبة رقم 3 الصفحة 56، وهي الخطبة المسماة وهي بالشِّقشِقية: والشِّقشِقة: شيءٌ يُخرجه البعير من فيه إذا هاج، وإذا قالوا للخطيب: ذو شِقشقة فإنّما شبّهوه بالفحل.

يقول: [فلمّا نهضتُ بالأمر، نكثت طائفةٌ، ومَرَقَتْ أخرى، وقَسَط آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول] واستشهد علیه السلام بالآية الكريمة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83﴾ (1).

فالطائفة الناكثة هم أصحاب الجمل، قادهم طلحة والزبير وعائشة لحرب أمير المؤمنين ودارت رحاها في البصرة.

وأما القاسطون فهم أصحاب صفّين، قادهم معاوية وعمرو بن العاص، وكانت حربهم في صفّين قرب الشام.

وأمّا الطائفة المارقة فأصحاب النهروان وهم الخوارج.

وتسميات هذه الطوائف سمّاها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بقوله لأمير المؤمنين علیه السلام: «ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين، والمارقين» (2)..

ص: 36


1- سورة القصص، الآية: 83.
2- أخرجه الحاكم في المستدرك 4674، والطبراني في المعجم الكبير 4049، والأوسط 8433، وأبو يعلى في مسنده 519.

وقول الإمام علیه السلام في الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرمية» (1). والناكثون كونهم نكثوا بيعته علیه السلام من البداية، وقد كان علیه السلام يتلو وقت مبايعتهم له الآية الكريمة: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ﴾ (2).

* * *

«7» في الصفحة 57، جاء في تفسير «أهل السواد» السواد: العراق، وسمّي سوداً لخضرته بالزرع والأشجار. والعرب تسمي الأخضر أسود، واستشهد الشارح بالآية الكريمة: (مُدْهَامَّتَانِ 64) (3). والمراد هنا الخضرة.

* * *

(8) في الخطبة رقم 4 الصفحتان 59 و 60.

قوله علیه السلام: [ما شككت في الحق من أُريته. لم يوجس موسى علیه السلام خيفةً على نفسه، بل أشفق مِنْ غلبة الجهّال ودِوَل الضَّلال].

يتأسّى بموسى علیه السلام، إذ رموه بالخوف، ولم يكن ذلك الخوف على نفسه، وإنّما خاف من الفتنة والشبهة الداخلة على المكلّفين عند إلقاء السحرة عصيَّهم، فخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى، وكذلك الإمام صلوات الله عليه، لا يخاف على نفسه من الأعداء الذين نصبوا له الحبائل، وأرصدوا إليه المكائد، وسعّروا عليه نار الحرب، وإنّما خاف افتتان المكلّفين بشبههم وتمويهاتهم، فتقوى دول الضلال، وتغلب كلمة 4.

ص: 37


1- أخرجه البخاري، كتاب المناقب 2610 ومسلم، باب ذكر الخوارج 1063.
2- سورة الفتح، الآية: 10.
3- سورة الرحمن، الآية: 64.

الجهّال، كما كان من نبيّ الله موسی علیه السلام، وهو أحسن تفسير لقوله تعالى: واستشهد الشارح بالآية الكريمة: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ 67) (1). وأفضل تبرئة لنبيّ الله من الشكّ في أمره.

وقبلها في قوله علیه السلام بنفس الصفحة [اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان] أراد من العجماء: رموزه وإشاراته التي تتضمّنها هذه الخطبة، فإنّها وإنْ كانت غامضة على من لا بصيرة له، لكنّها جليّة ظاهرة، واستشهد الشارح بالآية المباركة: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ 37) (2). لهذا سمّاها ذات البيان مع أنّها عجماء.

* * *

«9» من كلام له رقم 16 الصفحتان 69 و 70 لمّا بويع بالمدينة.

قوله: [ألا وإنّ التقوى مطايا ذللٌ، حُمل عليها أهلها، وأُعطوا أزمّتها، فأوردتهم الجنّة. حقٌ وباطل ولكلِّ أهلٌ، فلئن أَمِرَ الباطل لقديماً فعل، ولئن قلَّ الحقُّ فلربّما ولعل، ولقلَّما أدبر شيءٌ فأقبل].

وقد عقّب الشريف الرضي رضي الله عنه، على هذا الكلام بقوله: إنّ في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظَّ العجب منه أكثر من حظِّ العجب به، وفيه - مع الحال التي وصفنا - زوائد من الفصاحة لا يقومُ بها لسان، ولا يطَّلع فجَّها إنسان، ولا يعرف ما أقول إلّا من ضرب في هذه الصناعة بحقّ، وجرى فيها على عرق، واستشهد بالآية المباركة: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ 43) (3)..

ص: 38


1- سورة طه، الآية: 67.
2- سورة ق، الآية: 37.
3- سورة العنكبوت الآية: 43.

أراد أمير المؤمنين علیه السلام، أنّ ما يمكن أنْ يكون عليه الإنسان ينحصر في أمرين: الحق والباطل ولا يخلو العالم منهما، ولكلِّ أهل. فللحق أقوامٌ وللباطل كذلك أقوام. ولئن كثر الباطل بكثرة أعوانه، فلقد كان منه قديماً لأنّ البصائر الزائغة عن الحقيقة أكثر من الثابتة عليها.

ولئن كان الحقّ قليلاً بقلّة أنصاره فلربّما غلبت قلّته كثرة الباطل، ولعلّه يقهر الباطل ويمحقه.

وقوله: ولقلّما أدبر شيءٌ فأقبل: كلمة تضجّر، يستبعد بها أنْ تعود دولةٌ لقوم بعد ما زالت عنهم.

* * *

(10) من كلام له رقم 17 الصفحة 72، في صفحة من يتصدّى للحكم بين الأمّة وليس لذلك بأهل.

يقول علیه السلام: [إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجلٌ وكله الله إلى نفسه فهو جائرٌ عن قصد السبيل مشغوفٌ بكلام بدعة ... حمّالٌ خطايا غيره، رهنٌ بخطيئته].

وهو الضال المولع بتنميق الكلام لتزيين البدعة، الداعي إلى الضلالة، قد غرّر بنفسه وأوردها هلكتها، فهو رهنٌ بخطيئته حاملٌ لخطايا غيره من الّذين أضلّهم كما قال تعالى، واستشهد الشارح بالآية الكريمة: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) (1).3.

ص: 39


1- سورة العنكبوت الآية: 13.

وفي الصفحة 74 من نفس الكلام قوله علیه السلام: [يُذري الروايات إذراء الريح الهشيم]، ويروى هذا الكلام بصيغة أخرى: [يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم]، يقول الشارح: وهو أفصح.

والهشيم: ما يبس من النّبات وتفتّت. وأذْرته الريح: أطارته وفرّقته. واستشهد الشارح بالآية الكريمة: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) (1). فكما أنّ الريح في حمل الهشيم لا تبالي بتمزيقه وتبديده، فكذلك هذا الجاهل يفعل بالروايات ما تفعله الريح بالهشيم.

* * *

(11) من كلام له رقم 18 الصفحة 76، في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا.

يستدل علیه السلام على اشتمال الكتاب العزيز لجميع الأحكام والتشريعات التي بلّغ بها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، بالآية المباركة: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (2). وذكر بين قوسین قرآنيين: (فيه تبيان كل شيء) وهو من قول الإمام علیه السلام وليس آية قرآنيّة. إنّما الآية القرآنيّة بنفس المعنى هى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (3).

وذكر أنّ الكتاب يُصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه واستشهد بالآية: ( ... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). (4)

فكان الاختلاف دليلاً على أنّه ليس من عند الله، وما كان من عند الله .

ص: 40


1- سورة الكهف، الآية: 45.
2- سورة الأنعام، الآية: 38.
3- سورة النحل، الآية: 89.
4- سورة النساء، الآية: 82.

وجب أن لا يكون فيه اختلاف. فالقرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تمنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تُكشفُ الظلمات إلّا به.

* * *

«12» من الخطبة رقم 21 الصفحة 79، في موعظة الناس.

قوله علیه السلام: [فإنّ الغاية أمامكم، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما يُنتظر بأوّلكم آخركم].

الغاية: النواب أو العقاب، ويُحتمل أنْ يكون أراد بالغاية الموت. تحدوكم تسوقكم، وتخفّفوا تلحقوا: الرجل يسعى وهو غير مثقل، فهو يلحق الّذين سبقوه. وينتظر بأولكم آخركم: إنّما يُنتظر ببعث الّذين ماتوا في أوّل الدهر، مجيء مَنْ يموتون في آخره. يقول الشيخ محمد عبده: إنّ الساعة لا ريب فيها، وإنّما ينتظر بالأوّل مدّة لا يبعث فيها حتى يرد الآخرون، وينقضي دور الإنسان في هذه الدنيا، ولا يبقى على وجه ا الأرض أحد، فتكون الساعة بعد هذا. واستشهد بالآية المباركة: ﴿يَوْمِ يُبْعَثُونَ 14)، وقد وردت في أكثر من آية وهي: الأعراف 14، الحجر 36، المؤمنون 100، الشعراء 87، الصّافّات 144 وص 79.

يقول الشريف الرضي عن كلام أمير المؤمنين: إنّ هذا الكلام لو وُزن بعد كلام الله سبحانه، وبعد كلام رسول الله بكلّ كلام، لمال به راجحاً، وبرَّز عليه سابقاً، فأمّا قوله علیه السلام: «تخفّقوا تلحقوا» فما سُمع كلامٌ أقلُّ منه مسموعاً، ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة، وأنقع نطقتها من حكمة.

ص: 41

أنقع: من قولهم ناقع: أي ناجع في إطفاء العطش. والنطفة: الماء الصافي.

* * *

«13» في الخطبة رقم 23 الصفحتان 81 و 82، في وصيّته بالقرابة و العشيرة.

قوله علیه السلام: [فإنّ المرء المسلم البريء من الخيانة، ما لم يغش دناءةً تظهر فيخشع لها إذا ذكرت، ويُغرى بها لئام الناس، كان كالفالج الياسر الذي ينتظر أوّل فورةٍ من قداحه، توجب له المغنم، ويُرفعُ بها عنه المغرم].

الفالج: الظافر. والياسر: المقامر الذي يلعب بقداح الميسر، وفي الكلام تقديم وتأخير ونسقه: «كالياسر الفالج»، كقوله تعالى، واستشهد الشارح بالآية: ﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ 27﴾ (1)

وفي الصفحة 82 من نفس الخطبة رقم 23، ورد في الشرح: وقوله: [فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه] يُريد علیه السلام: احذروا الحسد فإنّ مبعثه انتقاص صُنع الله تعالى، واستهجان بعض أفعاله، وقد حذّرنا سبحانه الجرأة على عظمته فقال: واستشهد الشارح بالآيتين: ﴿ ... وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ 40 ... وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ 41) (2). وكثيرة الآيات الدالة على ذلك.

ومصدر كلامه علیه السلام، النهي عن الحسد، وهو من أقبح الأخلاق .

ص: 42


1- سورة فاطر، الآية: 27.
2- سورة البقرة، الآيتان: 40 - 41.

المذمومة. وروي عن ابن مسعود أنّ النبي علیه السلام قال: ألا لا تعادوا نعم الله. قيل: يا رسول الله، ومن الذي يعادي نعم الله؟ قال: الّذين يحسدون الناس (1).

قيل لأرسطو: ما بال الحسود أشدّ غمّاً من المكروب؟ قال: لأنّه يأخذ نصيبه من عموم الدنيا، ويُضاف إلى ذلك غمُّه بسرور الناس.

ومن الكلام المروي عن أمير المؤمنين علیه السلام عن الحسد: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.

وقال أبو تمام:

وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويت، أتاح له لسان حسود وتذاكر قومٌ من ظرفاء البصرة الحسد، فقال رجل منهم: إنّ الناس ربّما حسدوا على الصّلب، فأنكروا عليه ذلك، ثمّ جاءهم بعد أيّام، فقال: إنّ الخليفة قد أمر بصلب الأحنف بن قيس، ومالك بن مسمع، وحمدان الحجّام، فقالوا: هذا الخبيث يُصلب مع هذين الرئيسين! فقال: ألم أقل إنّ الناس يحسدون على الصَّلب.

* * *

«14» في الخطبة رقم 27 الصفحة 89 وما بعدها، الحثّ على الجهاد و ذمّ القاعدين عنه.

قوله علیه السلام: [فمن تركه - أي الجهاد - ألبسه الله ثوب الذلّ، وشمله البلاء، وديّث بالصغار والقماءة، وضُرب على قلبه بالأسداد].

دُيِّث: ذُلّل. القماءة: الصغر. والأسداد: جمع سد، يُريد الحجب .

ص: 43


1- ذكره القرطبي في تفسيره «251/5».

التي تحول دون البصيرة والرشاد، واستشهد الشارح بالآية: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (1).

ویروی [وضرب على قلبه بالإسهاب] وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة.

* * *

«15» من الخطبة رقم 28 الصفحة 93 وما تلاها، في الحثّ على التزوّد للآخرة.

قوله علیه السلام: [ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السّباق، والسّبقة الجنّة، والغاية النار ... ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة]. يقول الشريف الرضي: لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، ويضطرُّ إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام، وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال، وقادحاً زناد الاتّعاظ والازدجار، ومن أعجبه قوله علیه السلام: «ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السباق والسّقة الجنّة والغاية النار». فإنّ فيه مع فخامة اللفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرّاً عجيباً، ومعنّى لطيفاً، فلم يقل: «السّبقة النار» كما قال: «السّبقة الجنة» لأنّ الاستباق إنّما يكون إلى أمرٍ محبوب، وغرض مطلوب، فقال: «الغاية النار» لأنّ الغاية قد ينتهي إليها مَن لا يسرّه الانتهاء إليها، ومَنْ يسرّه ذلك، فهي بذلك كالمصير والمآل واستشهد الرضي بالآية الكريمة: (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ 30) (2).

ص: 44


1- سورة يس الآية: 9.
2- سورة إبراهيم الآية: 30.

فلم يقل سبقتكم إلى النار.

و المضمار: الموضع والزمن الذي تُضمر فيه الخيل للسباق، وتضمير الخيل: ربطها وإكثار علفها حتى تسمن، ثمّ يُقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتّى تهزل. وإنّما يُفعل ذلك بالخيل، لتُخفّف وتسرع في الجري عند السّباق، كما إنّنا نعمل في الدنيا لنيل السعادة والفوز في الآخرة.

والسّبقة: الغاية، ومن معانيها: الرهن الذي يوضع في السّباق، ولكنّ الشريف الرضي فسّرها بالغاية المحبوبة، أو المرّة من السّبق.

أما قوله: فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة: أي اعملوا في السرّاء كما تعملون في الضرّاء، لا تصرفكم النِّعَم عن خشية الله والخوف منه.

وما يناسب هذا المأخذ من مواعظ الصالحين يرحمهم الله، أنّ أبا حازم الأعرج، وهو من الصالحين عاش أيّام بني أميّة. لمّا قربت وفاة عبدالملك رأى غسّالاً يلوي بيده ثوباً، فقال عبدالملك: وددت أنّي كنت غسّالاً مثل هذا، أعيش بما اكتسب يوماً فيوماً. فذُكر ذلك لأبي حازم، فقال: الحمد الله الذي جعلهم عند الموت يتمنّون ما نحن فيه، ولا نتمنّى عند الموت ما هم فيه

وباع عتبة بن عبدالله بن مسعود أرضاً بثمانين ألفاً، فتصدّق بها، فقيل له: لو جعلت هذا المال أو بعضه ذخراً لأولادك قال: بل أجعله ذخراً لي وأجعل الله تعالى ذخراً لولدي.

وقيل لزاهد: ما أصبرك على الوحدة! قال: كلّا أنا أُجالسُ ربّي، إذا شئتُ أنْ يناجيني قرأت كتابه، وإن شئتُ أنْ أناجيَه صلّيت.

ص: 45

وقال الرشيد للفضل بن عياض: ما أزهدك! قال: أنتَ يا هارون أزهد منّي، لأنّي زهدتُ في دنيا فانية، وزهدت في آخرة باقية.

وقيل لحاتم الأصمّ: علام بنيت أمرك؟ قال: على أربع خصال: علمتُ أنّ رزقي لا يأكله غيري فلم أهتمّ به، وعلمت أنّ عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أنّ الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره وعلمت أنّي بعين الله في كل حال، فاستحييت منه.

* * *

«16» من الخطبة 32 الصفحة 99، في جور الزمان.

قوله علیه السلام: [أيّها الناس! إنّا قد أصبحنا في دهرٍ عنود، وزمن كنود].

العنود: الجائر، أي جار عن الطريق وعدل.

والكنود: الكفور، ويروى: «وزمن شديد» أي بخيل. واستشهد الشارح بالآية: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ 8) (1)، أي أنّ الإنسان لأجل حبّه للمال بخيل.

* * *

«17» من الخطبة 34 الصفحة 105، في استنفار الناس إلى أهل الشام.

قوله علیه السلام: [إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت في غمرة].

دوران الأعين: اضطرابها من الجزع. ومن الموت في غمره: أي .

ص: 46


1- سورة العاديات، الآية: 8.

شدّة، يُشير علیه السلام إلى قوله تعالى، واستشهد الشارح بالآية: ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ (1).

وكانت هذه الخطبة لأمير المؤمنين بعد رجوعه من حرب الخوارج، بعد أن طلب منهم التوجّه من فورهم إلى عدوّهم معاوية، فتقاعسوا وتقاعدوا واحتجّوا عليه بكثرة الجراح مرةً، وبالبرد مرة أخرى فلم ينفروا، فخطبهم بهذه الخطبة وأولها [أفِّ لكم! لقد سئمت عتابكم ...] إلى آخر كلامه علیه السلام، ولما كان من تلكّؤ أصحابه في المسير إلى الشام، وتحجّجهم بسائر الحجج الواهية، من شدّة البرد، وكثرة الجراح، وأخذ الاستعداد، وغيره. روى علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني، أنّ طائفة من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام مشَوْا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعْطِ هذه الأموال وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه وفراره. وإنّما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال ويستميل ضعاف النفوس وطلّاب الدنيا. فقال لهم: أتأمرونني أنْ أطلب النّصر بالجور! لا والله لا أفعلُ ما طلعت شمس، وما لاح في السماء نجم، والله لو كان المال لي لواسيت بينهم، فكيف وإنّما هي أموالهم! وسكت طويلاً واجماً، ثم قال: الأمرُ أسرعُ من ذلك، قالها ثلاثاً. ذاك أمير المؤمنين علیه السلام، لم يكن يذهب في خلافته مذهب الملوك والسلاطين الّذين يُصانعون بالأموال ويصرفونها في مصالحٍ ملكهم وملاذّ أنفسهم، فهو ليس من أهل الدنيا، وإنّما كان رجلاً متألّهاً صاحب حقّ، لا يُريد بالله رسوله بدلاً.

* * *

ص: 47


1- سورة محمد، الآية: 20.

«18» من كلام له رقم 65 الصفحة 140، قال لأصحابه في بعض أيّام صفّين.

يشجعهم على قتال عدوّهم ويحذّرهم التقاعس عن الجهاد، ومن بعض ما قاله علیه السلام: [فإنّ الشيطان كامنٌ في كِسره قد قدَّم للوثبة يداً، وأخَّر للنكوص رجلاً، فصمداً صمداً، حتّى ينجلي لكم عمود الحقّ] وذكر الآية المباركة: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ 35﴾ (1).

كِسره: شقّه الأسفل، وهو كناية عن الجوانب التي يفرُّ إليها المنهزمون. فالشيطان الكامن في الكسر مصدر الأوامر بالهجوم والرجوع، فإنّ جبنتم مدّ يده للوثبة وإنْ شجعتم أخّر للنكوص والهزيمة رجله، وهذا من باب المجاز، أي إنّ أنتم صدقتم عدوّكم القتال فرّ عنكم إبليس بفرار عدوّكم، وإنْ تخاذلتم وتواكلتم طمع فيكم وأقدم عليكم، ويُحتمل معنّى آخر بالشيطان، وهو الأظهر ذلك أنّه يعني به معاوية، للقرينة التي تؤيّده، وهي قوله: قد قدّم للوثبة يداً، وأخّر للنكوص رجلاً، أي إنْ جبنتم وثب، وإنْ شجعتم نكص، أي تأخّر وفرّ.

والصمد: القصد، أي فاثبتوا على قصدكم.

لن يتركم: لن ينقصكم شيئاً من جزائها.

وفي كثير من الروايات إنّ هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين علیه السلام في اليوم الذي كانت عشيّته ليلة الهرير بصفّين. وفي رواية نصر بن مزاحم، أنّه خطب به أوّل أيّام اللقاء بحرب صفّين، وذلك في صفر من سنة سبع وثلاثين ه (2)..

ص: 48


1- سورة محمد الآية: 35
2- كتاب وقعة صفين، ص 258.

ومن بعض أحوال صفّين، قال نصر بن مزاحم: حدثني يحيى بن يعلى، قال: حدثني صباح المزني عن الحارث بن حصن، عن زيد بن أبي رجاء، عن أسماء بن حكيم الفزاري قال كنّا بصفّين مع عليّ علیه السلام، تحت راية عمار بن ياسر رضي الله عنه، ارتفاع الضحى، إذ أقبل رجل يستقري الصفّ حتى انتهى إلينا، فقال: أيّكم عمّار بن ياسر؟ فقال عمّار: أنا عمّار، قال أبو اليقظان؟ قال: نعم، قال إنّ لي إليك حاجة أفأنطق بها سرّاً أو علانية؟ قال: اختر لنفسك، أيّهما شئت، قال: لا بل علانية، قال: فانطق قال: إنّي خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن عليه ولا أشكّ في ضلالة هؤلاء القوم، وأنّهم على الباطل، فلم أزل على ذلك، حتّى ليلتي هذه فإنّي رأيتُ في منامي منادياً تقدّم فأذّن وشهد أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول صلی الله علیه و آله و سلم، ونادى بالصلاة ونادى مناديهم مثل ذلك، ثمّ أقيمت الصلاة، فصلّينا صلاة واحدة، وتلوْنا كتاباً واحداً، ودعوْنا دعوةً واحدة، فأدركني الشكّ في ليلتي هذه، فبتُّ بليلة لا يعلمها إلّا الله تعالى، حتّى أصبحت فأتيتُ أمير المؤمنين، فذكرت ذلك له، فقال: هل لقيت عمّار بن ياسر؟ قلت: لا، قال: فالقه، فانظر ماذا يقول لك عمّار فاتّبعه فجئْتك لذلك، فقال عمّار: تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي! فإنّها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثلاث مرّات وهذه الرابعة فما هي بخيرهنّ، ولا أبرّهن، بل هي شرّهن وأفجرهن. أَشَهدْتَ بدراً وأُحداً ويوم حنين، أو شهدها أبٌ لك فيخبرك عنها؟ قال: لا، قال: فإنّ مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم بدر ويوم يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وأنّ مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب، فهل ترى هذا العسكر ومَنْ فيه! والله لوددتُ أنّ جميع مَنْ فيه ممّن أقبل مع معاوية يريد قتالنا مفارقاً للذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً، فقطّعته وذبحته. والله

ص: 49

لدماؤهم جميعاً أحلُّ من دم عصفور، أترى دم عصفور حراماً؟ قال: لا بل حلال، قال فإنّهم حلال كذلك، أتراني بيّنت لك؟ قال: قد بيّنتَ لي، قال: فاختر أيّ ذلك أحببت.

فانصرف الرجل، فدعاه عمّار ثمّ قال: أما إنّهم سيضربونكم بأسيافهم حتّى يرتاب المبطلون منكم، فيقولون: لو لم يكونوا على حقّ ما أظهروا علينا والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتّى يبلغونا سَعَفات هَجر لعلمنا أنّا على حقّ وأنّهم على باطل.

وأبلغ جواب لمن شكّ بكفر من حارب أمير المؤمنين بصفّين قول أمير المؤمنين علیه السلام لرجل قال له: هؤلاء القوم الذين نقاتلهم الدعوة واحدة، والرسول واحد والصلاة واحدة والحجُّ واحد، فماذا نُسمّيهم؟ فقال له علیه السلام: سمّهم بما سمّاهم الله بكتابه، أما سمعت الله تعالى يقول: (تتِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) - إلى قوله - : ( ... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) (1)، فلمّا وقع الاختلاف، كنّا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبي وبالحقّ، فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا، وشاء الله قتالهم فقاتلهم بمشيئة الله وإرادته.

* * *

«19» من الخطبة 70 الصفحة 145، في أهل العراق.

قوله علیه السلام: [ولقد بلغني أنّكم تقولون: عليّ ٌيكذب! قاتلكم الله! ... من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أوّلُ من آمن به. أم على نبيه؟ فأنا أوّلُ .

ص: 50


1- سورة البقرة الآية: 253.

من صدّقه كلّا والله لهجةٌ غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها ويلُمّه كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء، ولتعلمُنَّ نبأَهُ بعد حين].

سيأتي الكلام عن هذا المقطع من الخطبة في باب الملاحم والفتن، ولكن ما يهمّنا في التعرض إليه هنا هو ذكر الآية: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعْدَ حِينٍۭ 88) (1)، دون أن توضع بين سهمين قرآنيين للدلالة على أنّها آية قرآنيّة، وليست من كلام الإمام علیه السلام. وواضحٌ أنّه علیه السلام استشهد بها في آخر كلامه، وجاءت مسترسلة مع الخطبة، ولم يُشر إليها أنّها آية قرآنيّة، فأحببنا التنويه عنها، لاعتمادنا ذكر جميع الآيات القرآنية، إنْ كان في الأصل في الشرح، أو في تعقيبات الشريف الرضي، بحسب سياسة الكتاب.

«20» من الخطبة 71 الصفحة 148، في بيان صفات الله وصفات النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

قوله في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبيعتك بالحقّ، ورسولك إلى الخلق].

العلم المخزون: ما اختص الله به من شاء من عباده، ممّا لا يتعلق بالأحكام الشرعيّة، كالملاحم وأحكام الآخرة وغير ذلك، فالأمور الشرعيّة لا يجوز أنْ تُحجز عن المكلّفين، لاحتياجهم إليها.

شهيدك: شاهدك على الناس كما قال تعالى، واسشهد الشارح بالآية الكريمة: ﴿ فَکَیْفَ إِذا جِئْنا مِنْ کُلِّ أُمَّة بِشَهید وَ جِئْنا بِکَ عَلى هؤُلاءِ شَهیداً 41) (2)

* * *

ص: 51


1- سورة ص،:الآية: 88.
2- سيرة النساء، الآية: 41.

«21» من خطبة له رقم 75 الصفحة 152، في اتّعاظ الناس.

يقول علیه السلام: [ رحم الله امراً سمع حكماً فوعى، ودُعيَ إلى رشادٍ فدنا ].

الحكم هنا: الحكمة قال تعالى: ﴿وَ ءَاتَيْنَ_هُ الْحُكْمَ صَبِيًّا 12) (1) وهي الآية التي استشهد بها الشارح.

ووعى: حفظ وفهم المراد، واعتبر بما سمع وعمل عليه.

دنا: قرب من الرشاد الذي دُعي إليه.

* * *

«22» من خطبة له رقم 82 الصفحتان 164 و 165 وهي من الخطب العجيبة، وتُسمّى الغرّاء.

منها قوله: [ عبادٌ مخلوقون اقتداراً، ومربوبون اقتساراً، ومقبوضون احتضاراً، ومضمَّنون أجداثاً، وكائنون رفاتاً، ومبعوثون أفراداً، ومدينون جزاءً، ومميّزون حساباً].

مربوبون مملوكون، والاقتسار، الغلبة والقهر، يعني أنّهم كما خلقوا باقتدار الله سبحانه، فهم مملوكون له بسطوة عزّه.

واحتضر: أي حضرته الملائكة تقبض روحه. وكانت العرب تقول لبن محتضر: أي فاسد، يعنون أنّ الجنّ حضرته، يُقال: «اللبن محتضر فغطّ إناءك». والأجداث: جمع جدث وهو القبر. ومضمّنون، مجعولون في ضمنها والرفات: الحطام. ومبعوثون أفراداً: أي كلٌّ يسأل عن نفسه لا يلتفت لغيره.

ص: 52


1- سورة مريم، الآية: 12.

ومدينون: مجزيّون والدين: الجزاء، واستشهد الشارح بالآية المباركة: (مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ 4) (1).

مميّزون حساباً: كلٌّ يحاسب على عمله هو منفصلاً عمّن سواه، واستشهد الشارح بالآية: ﴿وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (2)

* * *

«23» من الخطبة 84 الصفحة 177، في المواعظ.

قوله علیه السلام: [ وانقطعت منكم علائق الأمنيَّة، ودهمتكم مُفظعات الأمور والسّياقة إلى الورد المورود، و(كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ 21)(3).

مفظعات الأمور: شدائدها، ويُقال أفظع الرجل للمجهول إذا نزلت به الشدّة. الورد المورود: المراد به الموت أو المحشر. واستشهد علیه السلام بالآية المباركة المذكورة ولم توضع بين قوسين قرآنيين وقد فسَّرها بقوله: سائقٌ يسوقها إلى محشرها، وشاهدٌ يشهد عليها بعملها.

وجاء في أوّل هذه الخطبة ما يرجح ذكره هنا لاحتوائه - على قصره - ثماني مسائل من مسائل التوحيد.

يقول علیه السلام: [ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأوّلُ لا شيءَ قبلهُ، والآخرُ لا غايةَ له، لا تقع الأوهام له على صفة. ولا تُعقدُ القلوبُ منه على كيفيَّةٍ، ولا تنالُهُ التّجزئةُ والتَّبعيض ولا تحيطُ به الانتصار والقلوب]. 1.

ص: 53


1- سورة الفاتحة الآية 4.
2- سورة فاطر، الآية: 18.
3- سورة ق، الآية: 21.

ومسائل التوحيد الثماني في هذا المقطع هي، وكما يذكرها ابن أبي الحديد:

الأولى: أنّه لا ثاني له سبحانه في الإلهية. والثانية: أنّه قديمٌ لا أوّل له. فإن قلت: ليس يدلُّ كلامه على القدم، لأنّه قال: «الأوّل لا شيء قبله» فيوهم كونه غير قديم بأنْ يكون محدثاً وليس قبله شيء، لأنه محدّث عن عدم والعدم ليس بشيء! قلت: إذا كان محدَثاً كان له محدِث، فكان ذلك المحدث قبله، فثبت أنه متى صدق أنّه ليس شيءٌ قبله صدق كونه قديماً. والثالثة: أنّه أبديٌّ لا انتهاء ولا انقضاء لذاته. والرابعة: نفى الصفات عنه أي المعانى. و أي المعاني. والخامسة: نفي كونه مكيّفاً، لأنّ كيف إنّما يُسألُ بها عن ذوي الهيئات والأشكال وهو منزّه عنها. والسادسة: أنّه غير متبعّض لأنّه ليس بجسمٍ ولا عَرَض. والسابعة: أنّه لا يُرى ولا يُدرك. والثامنة أنّ ماهيَّته غير معلومة، وهو مذهب الحكماء وكثير من المتكلّمين (1).

واعلم أنّ التوحيد والعدل والمباحث الإلهيّة الشريفة، ما عرفت إلّا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وأنّ كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمّن شيئاً من ذلك أصلاً، ولا كانوا يتصورونه، ولو تصوّروه لذكروه. وهذه الفضيلة من أعظم وأشرف الفضائل.

* * *

«24» من الخطبة 85 الصفحة 178، في عِظَة الناس وأمرهم بالتقوى.

ص: 54


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي،الحديد الجزء السادس ص379، 380.

يقول علیه السلام: [فإنّ الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سُدًى، ولم يدعكم في جهالةٍ ولا عمًى. قد سمّى آثاركم، وعلِمَ أعمالكم، وكَتَبَ آجالكم، وأَنزل عليكم (الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) ] يذكر علیه السلام الآية المباركة في سورة النحل 89. وإنْ لم توضع بين قوسين قرآنيين في النسخة.

سمّى آثاركم: بيّن لكم أعمالكم خيرها وشرّها.

وورد بمعنًى آخر: أي قد أعلى مآثركم، أي رفع منازلكم إنْ أطعتم.

ولمّا كان الغرض استحصال ما يمكن استحصاله من الدرر وفوائد كلامه علیه السلام، نذكر بعض ما جاء في هذه الخطبة عن الكذب، ففي الصفحة 179 يقول علیه السلام: [جانبوا الكذب فإنّه مجانبٌ للإيمان. الصّادق على شُرَفِ منجاةٍ وكرامةٍ والكاذب على شفا مَهْواةٍ ومَهانةٍ].

والشّرف: المكان العالي. والمهواة: موضع السقوط. والمهانة: الحقارة.

جاء في ذمّ الكذب: عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل، من نتن ما جاء به (1).

وعنه علیه السلام: إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار وإنّ الرجل ليكذب ويتحرّى الكذب، فيُكتب عند الله كاذباً، وعليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ ليهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق ويتحرّى الصدق، فيُكتب عند الله صادقاً (2)..

ص: 55


1- أخرجه الترمذي في كتاب «البر والصلة»، باب الصدق والكذب.
2- أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب التشديد في الكذب.

وكان يُقال: أمران لا يكاد أحدهما ينفك عن الكذب. كثرة المواعيد وشدّة الاعتذار.

ومن الحِكَم القديمة: إنّما فضْل الناطق على الأخرس بالنطق، وزيْن المنطق الصدق، فالكاذبُ شرِّ من الأخرس.

وقيل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (1)، هي في الكذّابين، فالويل لكلّ كاذب.

ومن كلام بعض الصالحين: لو لم أترك الكذب تأثُّماً لتركته تكرماً.

وقيل لكاذب: أصدقت مرّة؟ قال: لولا خوفي أن أصدق لقلت لا!

وقال بعض الصالحين: لو صحبني رجل، وقال لي: اشترط عليَّ خصلة واحدة لقلت: لا تكذب.

وكان يُقال: خصلتان لا تجتمعان الكذب والمروة.

وقال بعض الشعراء:

لا يكذبُ المرءُ إلّا من مهانته *** أو عادة السُّوء أو من قلّة الأدبِ

وكان يُقال: من شرف الصدق أنّ صاحبه يُصدَّق على عدوّه، ومن دناءة الكذب أنَّ صاحبه يُكذِّبُ وإنْ كان صادقاً.

ومثله قولهم: من عُرف بالصدق جاز كذبه، ومن عُرف بالكذب لم يُجز صدقه.

وقد أحببنا ذكر هذه النكت النافعة، وحيث ما يرد من هذا القبيل نورده لجني الفائدة، وأخذ العبرة.

* * *

ص: 56


1- سورة الأنبياء، الآية: 18.

(25) من الخطبة 89 الصفحة 187، وهي في بعض صفات الخالق.

قوله علیه السلام: [من توكّل عليه كفاه ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه].

جعل تقديم العمل الصالح بمنزلة القرض، والثواب عليه بمنزلة قضاء الدَّين، إظهاراً لتحقّق الجزاء على العمل، واستشهد الشارح بالآية الکریمة: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (1).

* * *

«26» من الخطبة رقم 90 الصفحة 191، وتُعرف بخطبة الأشباح، وهي من جلائل خطبه.

قوله علیه السلام: [ وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أنْ يُقيمها بمساك قدرته، ما دلَّنا باضطرار قيام الحجَّة له على معرفته].

المساك: ما به يُمسك الشيء، كالملاك ما به يُملك. واستشهد الشارح بالآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللهَ یُمْسِکُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (2).

وقد جعل الحاجة الظاهرة من المخلوقات إلى إقامة وجودها بما يمسكها من قوته بمنزلة الناطق بذلك المعترف به.

وفي نفس الخطبة في الصفحتين 191 و 192.

ص: 57


1- سورة البقرة، الآية: 245.
2- سورة فاطر، الآية: 41.

قوله علیه السلام: [ وأشهد أنّ مَنْ شبَّهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حِقاقِ مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندَّ لك، وكأنّه لم يسمع تبرُّؤ التّابعين من المتبوعين إذ يقولون] واستشهد علیه السلام بقوله تعالى: ﴿تتَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 97 إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ 98) (1).

الحِقاق: جمع حُق وهو رأس العظم عند المفصل، واحتجاب المفاصل: استتارها باللحم والجلد، ما يقوّيها على تأدية وظائفها التي هي الغاية من وضعها - في تدبير حكمة الله - في خلقة الأبدان.

وغيب الضمير: أي لم يحكم بيقينه في معرفة الله سبحانه بما هو أهلٌ له.

والمعنى: أنّ من شبّه الله بالمخلوقين ذوي الأعضاء المتباينة، والمفاصل المتلاحمة، لم يعرفه ولم يباشر قلبه اليقين، فإنّه لا ندّ له ولا مثيل. وقد أكّد ذلك بالآيات من القرآن الكريم، والتي حكى سبحانه حكاية قول الكفار في النار، وهم التّابعون للمتبوعين: لقد كنا ضالين إذ سويناكم بالله وجعلناكم مثله، وهي حكاية منكر على منْ زعم ذلك.

وفي نفس الخطبة (في صفة السماء) الصفحتان 194 و 195.

يذكر الشارح الآية مستشهداً بها: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) (2).

لقوله علیه السلام: [ونَظَمَ بلا تعليق رهَواتِ فُرجِها، ولاحَمَ صدوع انفراجها، ووشَّج بينها وبين أزواجها].

ص: 58


1- سورة الشعراء، الآيتان: 97 و 98.
2- سورة الأنبياء، الآية: 30.

رهوات: جمع رهوة وهو المكان المرتفع ويُقال للمنخفض أيضاً وهو من الأضداد. والفرج: جمع فرجة، وهي المكان الخالي. لاحم: ألصق. والصَّدع: الشق. وشَّح بالتشديد: شبّك. تقول بيننا رحم واشجة، أي مشتبكة.

والمعنى: أنّه سبحانه لاحم ما كان في الجرم من صدع وأصلحه وسوّاه، وذلك كما كان في بدء خلقة الأرض وانفصالها عن الأجرام السماويّة وانفراج الأجرام عنها، وذكر الآية المباركة.

ومن الخطبة نفسها (في صفة الملائكة علیهم السلام) الصفحة 196.

قوله علیه السلام: [أولي أجنحةٍ تُسبّحُ جلال عزّته، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه ولا يدّعون أنَّهم يخلقون شيئاً معه ممّا انفرد به بل عبادٌ مكرمون] ويُتمُّ القول بذكر الآية المباركة: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (1).

وفي نسخ أخرى من النهج، وضعت (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ 26) داخل القوس القرآني، فأصبحت آيتين هما 26 و 27 من سورة الأنبياء، وهو الصحيح.

أولي أجنحة: من الألفاظ القرآنية. لا ينتحلون وما بعده: لا يدّعون لأنفسهم الإلهيّة، أو يدّعون خلق شيءٍ ممّا انفرد به وأمّا الآيات: تعني أنّهم يتّبعون قوله فلا يسبق قولهم قوله، وكما أنّ قولهم تابع لقوله، كذلك عملهم فرعٌ على أمره سبحانه. فهم لا يعملون عملاً ما لم يُؤمروا به.

* * *

ص: 59


1- سورة الأنبياء، الآية: 27.

«27» في الخطبة رقم 102 الصفحة 226، في التزهّد في الدنيا.

قوله علیه السلام: «إنّ الله قد أعاذكم من أنْ يجور عليكم، ولم يعذكم من أنْ يبتليَكم، وقد قال جلَّ من قائل وذكر الآية الكريمة: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (1).

أخبر علیه السلام: أنّ الله سبحانه لا يظلم،عباده فهو عادل، لكنّه يبتلي ويختبر، وتلا الآية الشريفة والمراد أنّ الله تعالى يترك العبد واختياره امتحاناً له، فمن أحسن أُثيب، ومن أساء أخذ جزاء إساءته. ليتبيّن الصادق من الكاذب، والمخلص من المريب فتكون لله الحجّة البالغة على خلقه.

وإنْ كنّا قد أخذنا من الخطبة الغرض في استنباطه علیه السلام بالآية القرآنيّة آنفة الذكر، إلّا أنّ فيها أي الخطبة نكتاً ومعانٍ جديرة بالأخذ والتتبّع، تهمّ التواضع، وكذلك إفشاء السّر.

يقول علیه السلام: [ وذلك زمانٌ لا ينجو فيه إلّا كلُّ مؤمنٍ نُوَمَةٍ، إِنْ شهد لم يُعرف وإنْ غاب لم يُفتقد أولئك مصابيح الهدى وأعلام السرى ليسوا بالمسابيح، ولا المذابيع البُذُر، أولئك يفتح الله لهم أبواب رحمته، ويكشف عنهم ضرّاءَ نقمته ].

يقول الرضي: أراد بالنومة. الخامل الذكر القليل الشرّ. والمسابيح: جمع مسياح، وهو الذي يسيح بين الناس بالفساد والنّمائم. والمذاييع: جمع مذياع، وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشةٍ أذاعها ونوَّه بها و البُذُر: جمع بذور وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه.

ص: 60


1- سورة المؤمنون، الآية: 30.

ويقول ابن أبي الحديد: البذر: جمع بذور مثل صَبور وصُبُر، وهو الذي يُذيع الأسرار وليس كما قال الرضي رحمه الله، فقد يكون الإنسان بَذوراً وإنْ لم يكثُر سفهه ولم يلغَ منطقه.

وممّا جاء في التواضع:

الحديث المرفوع: مَنْ تواضع لله رفعه الله، ومن تكبّر على الله وضعه (1).

ويُقال: إنّ الله تعالى قال لموسى علیه السلام: إنّما كلّمتك لأنّ في أخلاقك خُلُقاً أحبّه، وهو التواضع.

ورأى محمد بن واسع ابنه يمشي الخُيلاء، فناداه ويلك! أتمشي هذه المشية وأبوك أبوك وأمّك أمّك! أمّا أمّك فأمة ابتعتها بمائة درهم وأمّا أبوك فلا كثّر الله في الناس مثله.

وقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤْبَهُ به لو أقسم على الله لأبرَّ قسمه (2).

وقال الأحنف: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبّر!

وقال عمر لابنه عبدالله: التمس الرفعة بالتواضع، والشرف بالدّين والعفو من الله بالعفو عن الناس، وإيّاك والخُيلاء فتضع من نفسك. ولا تحقرنَّ أحداً فإنّك لا تدري لعلّ من تزدريه عيناك أقربُ إلى الله وسيلةً منك.

ص: 61


1- أخرجه أحمد في مسنده 2724.
2- الهيثمي في «مجمع الزوائد» 265/10.

وجاء عن إفشاء السرِّ وإذاعته:

قوله سبحانه: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ 10 هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ 11) (1).

وفي الحديث المرفوع: من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله مثلها من نار جهنّم. وهو أنْ يسعى بأخيه، ويجرُّ نفعاً بسعايته.

وعن الجنيد قوله: سَتْر ما عاينتَ سنُ من إشاعة ما ظننت وكان يُقال: من نمَّ إليك نمَّ عليك.

وقالوا في السعاة: يكفيك أنّ الصدق محمود إلّا منهم، وإنّ أصدَقَهم أخبثُهُم.

وشى واشٍ برجل إلى الاسكندر، فقال له: أتحبُّ أنْ أقبل منك ما قلت فيه، على أنْ أقبل منه ما قال فيك؟ قال: لا، قال: فكفَّ عن الشرّ يكفّ عنك.

قال مصعب بن الزبير للأحنف في وشاية بلغته عنه، وأنكرها الأحنف: أخبرني بذلك الثقة، فقال الأحنف: كلّا إنّ الثقة لا ينُمّ.

الصالح بن عبدالقدوس:

من يخبّرك بشتمٍ عن أخٍ *** فهو الشاتمُ، لا منْ شتمكْ

ذاك شيءٌ لم يواجهْك به *** إنّما اللَّوْمُ على من أعلمكْ

كيف لم ينصرك إنْ كان أخاً *** ذا حفاظٍ عند من قد ظَلَمكْ! .

ص: 62


1- سورة القلم، الآيتان: 10، 11.

«28» من الخطبة 110 الصفحتان 243 و 244، في التحذير من الدنيا.

قوله علیه السلام: [فإنّي أحذرّكم الدنيا فإنّها حلوةٌ خضرةٌ حُفَّت بالشهوات، وتحبّبت بالعاجلة ... غرّارة ضرّارة حائلة زائلة نافدة بائدة أكّالة غوّالة، لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنيَّة أهل الرّغبة فيها والرّضاء بها - أنْ تكون كما قال الله تعالى ...] واستشهد بالآية الشريفة: (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا 45) (1)

خضرة: ناضرة. وحفّت بالشهوات، كأنّ الشهوات مستديرة حولها. تحبّبت بالعاجلة: كونها لذّة عاجلة. وراقت بالقليل: أعجبت أهلها بقليل ليس دائم. وتحلّت: تزيّنت. والحبرة: السرور. حائلة: متغيّرة. ونافدة:

فانية. بائدة: هالكة. أكّالة: قتّالة. وغوّالة: مهلكة.

ثمّ قال: إنّها إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرغبة فيها لا تتجاوز أنْ تكون كما وصفها الله تعالى في قوله كماءٍ ... إلخ.

وفي الصفحة 246 من نفس الخطبة:

قوله علیه السلام: [فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنّكم تاركوها وظاعنون عنها، واتَّعظو فيها بالّذين قالوا ...] واستشهد علیه السلام بالآية: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) (2). وهو واضح المعنى.

وفي الصفحة 247 بذات الخطبة. 5.

ص: 63


1- سورة الكهف، الآية: 45.
2- سورة فصلت الآية: 15.

قوله علیه السلام: [فجاؤوها كما فارقوها، حفاةً عراةٌ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة والدار الباقية، كما قال سبحانه]، واستشهد بالآية الشريفة: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ 104) (1).

والمعنى: جاؤوا إلى الأرض بعدما فارقوها بداية خلقتهم، فهم خلقوا منها كما قال تعالى: واستشهد الشارح بالآية: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ(2). إلى بطنها عند الموت.

وظعنوا عنها: إشارة إلى أنّ الخلق بعد الموت تذهب أرواحهم إمّا إلى نعيم أو إلى شقاء. أو يأتي بمعنى الظعن عنها وهو البعث يوم القيامة ومفارقة الأرض، والذهاب إمّا إلى جنّة أو نار كما يُرشد الاستشهاد بالآية الكريمة.

ومما قاله الشعراء عن القبور والموت.

قول البحتري يُخاطب الأرض:

بنا أنتِ من مجفوّة لم تؤنّبِ *** ومهجورةٍ في هجرها لم تُعتَّبِ

ونازحةٍ والدار منها قريبةٌ *** وما قُرب ثاوٍ في التراب مغيَّبِ

وقول الرضي رحمه االه في مرثيّة له:

أعْزِزُ عليَّ بأنْ نزلتَ بمنزلٍ *** متشابه الأمجادِ والأوغادِ

في عصبةٍ جُنبوا إلى آجالهم *** والدهرُ يُعجلُهم عن الإرْوادِ

ضربوا بمدْرَجة الفناء قبابَهم *** من غير أطناب ولا أوتادِ 5.

ص: 64


1- سورة الأنبياء، الآية: 104.
2- سورة طه، الآية: 55.

ركبٌ أناخوا لا يُرجّى منهُمُ *** قصدٌ لاتهامٍ ولا إنجادِ

كرهوا النزولَ فأنزلتهم وقعةٌ *** للدهر نازلة بكلِّ مَقادِ

فتهافتوا عن رحل كلّ مذلَّلٍ *** وتطاوحوا عن سَرجِ كلّ جوادِ

بادون في صور الجميع وإنّهم *** متفرّدون تفرّد الآحادِ

وله أيضاً:

متوسّدين على الخدود كأنّما *** كرعوا على ظمإٍ من الصَّهباءِ

صورٌ ضننتُ على العيون بحُسنها *** أمسيت أوقرُها من البوغاءِ (1)

ونواظرٍ كَحَلَ الترابُ جفونها *** قد كنتُ أحرسها من الأقذاءِ

قرُبت ضرائحهم على زوّارها *** ونأوا عن الطلّابِ أيّ تناءِ (2)

وبذات المعنى قول بعض الأعراب

لكلِّ أناسٍ مقبرٌ في ديارهم *** فهم ينقصون والقبور تزيدُ

فكأنْ ترى من دار حيِّ أخربت *** وقبرٍ بأكناف التراب جديدُ

همُ جيرة الأحياء، أمّا مزارهم *** فدانٍ، وأما الملتقى فبعيدُ

ومن قول ابن نُباتة وحيداً على كثرة الجيران، بعيداً على قرب المكان.

* * *

«29» من الخطبة رقم 113 الصفحة 252، في مواعظ الناس. د.

ص: 65


1- البوغاء: التربة الرخوة.
2- الضرائح: جمع ضريح وهو القبر ونأوا بعدوا والتنائي: التباعد.

يوصي بالتقوى وترك المحارم والعمل للآخرة، ويحثُّ على المبادرة للعمل والخوف من بغتة الأجل، وغيرها من المواعظ البليغة.

ويستشهد في آخر كلامه بالآية المباركة: ( ... اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 102) (1).

ومن المواعظ في هذه الخطبة قوله: [ ومن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن].

وقد أحذ الشاعر هذا المعنى، فقال:

أموالنا لذوي الميراث نجمعها *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وقال آخر:

ألم تر حوْشباً أمسى يُبنّي *** بناء نفعُهُ لبني بُقيلَهْ

يومّلُ أن يُعمّر عمر نوحٍ *** وأمر الله بطَرْقٍ كلّ ليلَه

وقوله علیه السلام: [لا جاءٍ يُردُّ، ولا ماض يرتدُّ]. الجائي: يريد به الموت. ويُرد: يُسترد ويرجع وهو العمر. وأخذه أبو العتاهية فقال:

فلا أنا راجعٌ ما قد مضى لي *** ولا أنا دافعٌ ما سوف يأتي

وقوله علیه السلام: [ما أقرب الحىّ من الميّت للحاقه به، وما أبعد الميّت من الحيّ لانقطاعه عنه ].

إليه قال الشاعر:

يا بعيداً عنّي وليس بعيداً *** من لحاقي به سميعٌ قريبُ

صرتُ بين الورى غريباً كما أنّ_ *** _ك تحت الثرى وحيدٌ غريبُ .

ص: 66


1- سورة آل عمران الآية 102.

ومن قوله: [ليس شيء بشرِّ من الشرّ إلّا عقابُهُ، وليس شيء بخيرٍ من الخير إلّا ثوابه].

أخذه الشاعر فقال:

خيرُ البضائع للإنسان مكرُمةٌ *** تنمي وتزكو إذا بارت بضائعهُ

فالخيرُ خيرٌ وخيرٌ منه فاعله *** والشرُّ شرٌّ وشرٌّ منه صانعهُ

وإلى قوله علیه السلام: [ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة، خيرٌ ممّا نقص من الآخرة وزاد في الدنيا].

نظر أبو الطيب فقال، وإن أخرجه في مخرج آخر:

بلادٌ ما اشتهيتَ رأيتَ فيها *** فليس يفوتها إلّا كرامُ

فهلّا كان نقصُ الأهل فيها *** وكان لأهلها منها التَّمامُ

ومن قوله علیه السلام: [الرجاء مع الجاني، واليأس مع الماضي].

كلام يجري مجرى المثل، وجعل الجائي مرجوّاً لأنه لا يُعلم غيبه، ومنه قال الشاعر:

ما مضى فاتَ والمقدَّرُ غيبٌ *** ولك الساعةُ التي أنتَ فيها

* * *

«30» ومن كلام له رقم 123 الصفحة 270 في التحكيم.

قوله علیه السلام: [إنّا لم نحكّم الرجال وإنّما حكَّمنا القرآن، وهذا القرآنُ إنّما هو خطٌّ مستورٌ بين الدَّفّتين لا ينطق بلسانٍ، ولا بدَّ له من تَرجُمان، وإنّما ينطق عنه الرجال. ولمّا دعانا القومُ إلى أنْ نحكِّم بيننا القرآنَ لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله تعالى وقد قال الله سبحانه ...]

ص: 67

واستشهد علیه السلام بالآية المباركة: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1).

وفسّر ذلك بقوله علیه السلام: [فردُّه إلى الله أنْ نحكم بكتابه، وردُّه إلى الرسول أنْ نأخذ بسنّته، فإذا حُكم بالصّدق فى كتاب الله، فنحن أحقُّ الناس به، وإنْ حُكم بسنّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فنحن أولاهم به].

دفتا المصحف: جانباه اللذان يكنفانه وكان الناس قديماً يعملون ذلك من الخشب، ثمّ عُمل من الجلد.

وقول الخوارج إنّه حكّم الرجال قولٌ باطل، وإنّما حكّم القرآن، والقرآن لا ينطق بنفسه، فلا بدَّ له من تَرجُمان ينطق به.

ولمّا دُعينا لتحكيم الكتاب لم نكن الفريق المتولّي والمعرض عنه. بل أجبنا ذلك، وعملنا بقول الله تعالى وذكر الآية الكريمة مستشهداً بها.

* * *

«31» من كلام له رقم 126 الصفحة 275، يُخبر عن الملاحم. وقد قال له بعضُ أصحابه: لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحك علیه السلام، وقال للرجل وكان كلبيّاً: [يا أخا كَلْبٍ ليس هو بعلم غيب. وإنّما هو تعلُّمٌ من ذي علم، وإنّما علم الغيب علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله ...] واستشهد بالآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (2).

ص: 68


1- سورة النساء الآية: 59.
2- سورة لقمان، الآية: 34.

وقد قسَّم علیه السلام الأمور المستقبلة على قسمين:

أحدهما: ما تفرّد الله به وبعلمه سبحانه، ولم يُطلع عليه أحد من خلقه، وهي الأمور الخمسة المعدودة في الآية الكريمة المذكورة. والقسم

الثاني: ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى وهو غير هذه الخمسة، منها إخباراته ببعض الملاحم.

وروي أنّ أحدهم قال لموسى بن جعفر علیه السلام: إنّي رأيت الليلة في منامي أنّي سألتك: كم بقي من عمري؟ فرفعت يدك اليمنى، وفتحت أصابعها في وجهي مشيراً إليّ، فلم أفهم خمس سنين، أم خمسة أشهر، أو خمسة أيام! فقال الإمام: ولا واحدة منهنّ، بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ... الآية.

ورُبَّ سائل يسأل: فلِمَ ضحك علیه السلام عندما قال له الرجل: «لقد أوتيت علم الغيب؟» وهل هذا من الزهو والعجب؟

وأجاب على ذلك ابن أبي الحديد في شرحه:

قد روي أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ضحك في ما يناسب هذا الحال، لمّا استسقى فسُقي وأشرف درور المطر، فقام إليه الناس، فسألوه أن يسأل الله ليحبسه عنهم، فدعا وأشار بيده إلى السحاب، فانجابت حول المدينة كالإكليل، وهو صلی الله علیه و آله و سلم يخطب على المنبر فضحك حتّى بدت نواجذه، وقال: أشهد أنّي رسول الله، وسِرُّ هذا الأمر، أن النبيّ أو الوليّ إذا تحدثُ عنده نعمة الله تعالى، أو عرف الناس وجاهته عند الله، فلا بد أنْ يسرّ بذلك. وقد يضحك من السرور.

ص: 69

وليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيْه والعُجب، وكان محض السرور والابتهاج، وقد قال تعالى: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (1).

* * *

«32» من الخطبة 141 الصفحة 290 وهي في الاستسقاء.

قوله: [وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق، فقال سبحانه ...] واستشهد علیه السلام بالآيات الشريفة: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا 10 يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا 11 وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) (2)

إنّ الله سبحانه جعل الاستغفار سبباً لدرور الرزق، وحصول البركة وشمول الناس بالرحمة أمّا كون الاستغفار سبباً لنزول المطر ودرور الرزق، فإنّ الآية بصريحها ناطقة به، لأنّها أمرٌ وجواب ذلك الأمر. استغفروا ربكم، وجوابه: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا).

خرج عمر يستسقي، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح السّماء التي يُستنزلُ بها المطر.

وشكا رجلٌ الجدب إلى الحسن فقال: استغفر الله وشكا آخر إليه الفقر، وآخر قلّة النسل، وآخر قلّة عطاء أرضه، فنصحهم كلّهم بالاستغفار. فقال له الربيع بن صبيح: رجالٌ أتوك يشكون أبواباً وأنواعاً فأمرتهم كلّهم بالاستغفار، فتلا له الآية الكريمة السابقة التي استشهد بها أمير المؤمنين علیه السلام.

* * *

ص: 70


1- سورة آل عمران الآية: 170.
2- سورة نوح، الآيات: 10 و 11 و 12.

«33» في الخطبة 151 الصفحة 307، فى صفة الضال.

قوله علیه السلام: وما قدّمتَ اليومَ تَقْدَمُ عليه غداً، فأمْهَدْ لقدمكَ، وقدِّم ليومكَ، فالحذر الحذر أيّها المستمع والجدَّ الجدَّ أيُّها الغافل] واستشهد بالآية الكريمة: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ 14) (1).

أمهد لنفسك: أي سوّ ووطّىء، من مهد: أي بسط والآية: أي لا يُخبرك بالأمور أحد على حقائقها كالعارف بها العالم بكنهها.

* * *

«34» من كلام له رقم 154 الصفحة 313 خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.

وقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عنها؟ فقال له علیه السلام:

[لمّا أنزل الله سبحانه قوله: - وذكر الآيتين - (الم 1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 2) (2)، علمتُ أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين أظهرنا. فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟ فقال: يا علي إنّ أمتي سيُفتنون من بعدي، فقلت: يا رسول الله! أو ليس قد قلت لي يوم أُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ...] إلى آخر قوله علیه السلام.

ومن كلامه علیه السلام نعلم أنّ الآيتين اللتين ذكرهما أُنزلتا بعد أُحد، وهذا خلاف قول أهل التفسير، لأنّ هاتين الآيتين هي أوّل سورة .

ص: 71


1- سورة فاطر، الآية: 14.
2- سورة العنكبوت، الآيتان: 1 و 2.

العنكبوت وهي عندهم بالإجماع مكيّة، ويوم أُحد بالمدينة. عندها ينبغي القول الآيتين 1 و 2 من العنكبوت أُنزلت بالمدينة خاصة، وأُضيفت إلى السورة فغلب عليها نسب المكيّ لأنّ الأكثر كان في مكّة. وفي القرآن الكثير مثل هذا. فسورة النّحل مكيّة بالإجماع، وآخرها ثلاث آياتٍ أُنزلت بالمدينة بعد أحد.

وأمّا علّة قوله أنّ الفتنة لا تنزل ورسول الله بين أظهرهم. ذلك لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (1). كما يقول ابن أبي الحديد في شرحه.

روى الكثير من المحدّثين عن أمير المؤمنين علیه السلام، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال له: إنّ الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب عليَّ جهاد المشركين. قال: فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي كتب عليَّ فيها الجهاد؟ قال: قومٌ يشهدون أنْ لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله، وهم مخالفون للسنّة. فقلت يا رسول الله فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد؟ قال: على الإحداث في الدّين ومخالفة الأمر، فقلت: يا رسول الله، إنّك كنت وعدتني الشهادة، فاسأل الله أنْ يُعجّلها لي بين يديك. قال: فمن يُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين! أما أنّي وعدتك الشهادة وستستشهد تُضربُ على هذه فتُخضبُ هذه فكيف صبرك إذاً! فقلت: ليس ذا بموطن صبرٍ، ولكن هذا موطن شكر، قال: أجل، أصبت، فأعدّ للخصومة فإنّك مُخاصم. فقلت: يا رسول الله، لو بيّنت لي قليلاً! قال: إنّ أمتي ستُفتن من بعدي، فتتأوّل القرآن وتعمل بالرأي، وتستحلُّ الخمر بالنبيذ، والسحت بالهديّة، والرّبا بالبيع وتُحرّف الكتاب عن مواضعه، وتغلبُ كلمةُ الضلال، فكن جليس بيتك حتى تُقلَّدَها، فإذا قُلّدتها جاشت 3.

ص: 72


1- سورة الأنفال، الآية: 33.

عليك الصدور، وقُلبت لك الأمور، تُقاتل حينئذٍ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى. فقلت: بأيّ المنازل أُنزل هؤلاء المفتونين من بعدك؟ أبمنزلة فتنة أمْ بمنزلة ردّة؟ فقال صلی الله علیه و آله و سلم: بمنزلة فتنةٍ يعمهون فيها إلى أنْ يدركهم العدل. فقلت: يا رسول الله أيدركهم العدلُ منّا أمْ من غيرنا؟ قال: بل منّا، بنا فتح ربُّنا وبنا يختم وبنا ألّف الله بين القلوب بعد الشّرك، وبنا يؤلّف بين القلوب بعد الفتنة. فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله.

وآخر كلامه صلی الله علیه و آله و سلم، إشارةٌ واضحة للمهدي (عج) الذي بظهوره الشريف المبارك يختم للناس بالنّصر والعدل الذي وعد به الله ورسوله عباده الصالحين.

وقول أمير المؤمنين علیه السلام: ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن الشكر، كلامٌ عالٍ جداً يدلُّ على يقينٍ عظيم، وعرفانٍ تام، ونحوه قوله - وقد ضربه ابن ملجم - : فُزتُ وربّ الكعبة.

* * *

«35» الخطبة 158 الصفحة 320، في عظمة الله.

قوله علیه السلام: [ولقد كان في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كافٍ لك في الأسوة، ودليلٌ لك على ذمّ الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، ووطّئت لغيره أكنافها، وفُطم عن رضاعها، وزوي عن زخرفها. وإن شئتَ ثنّيتُ بموسى كليم الله علیه السلام إذ يقول ...] واستشهد علیه السلام بالآية الكريمة: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24) (1)..

ص: 73


1- سورة القصص الآية: 24.

[ والله ما سأله إلّا خبزاً يأكله لأنّه كان يأكل بقْلة الأرض، ولقد كانت خُضرةُ البقل تُرى من شفيف صِفاق بطنه، لهزاله وتشدّب لحمه ].

الأسوة القدوة. والأكناف: الجوانب. زوي: قبض. الصفاق: الجلد الأسفل تحت الجلد الخارجي الذي عليه الشعر. والتشذّب: التفرّق.

والتواضع من أوضح صفات الأنبياء والأوصياء والمتّقين وأكثرها التصاقاً بهم، فيتأسّى بهم الناس، وحتى لا يجد التكبّر إلى نفوسهم طريقاً.

جاء في الخبر عنه صلی الله علیه و آله و سلم قال: إنّما أنا عبدٌ آكلُ أكلَ العبد، وأجلس جلسة العبد (1)، وكان يأكلُ على الأرض، ويجلس على الأرض، يضع قصبتي ساقيه على الأرض ويعتمد عليهما بباطن فخذيه ويركب الحمار العاري، ويُردفُ خلفه، دلالة على التواضع وهضم النفس، ولم يضع حجراً على حجر.

وجاء في أخبار أمير المؤمنين علیه السلام ما لا يُحصى عن تواضعه وزهده وعفّة نفسه.

قيل له: يا أمير المؤمنين، لم ترقّعُ قميصك؟ قال: ليخشعَ القلب، ويقتدي بي المؤمنون.

وروى أحمد رحمه الله: أنّ علياً علیه السلام كان يطوفُ الأسواق مؤتزراً بإزار مرتدياً بُرداً، ومعه الدرّة كأنّه أعرابيٌّ بدويّ فطاف مرّة حتّى بلغ سوق الكرابيس فقال لواحد: بعني قميصاً تكون قيمته ثلاثة دراهم، فلمّا عرفه .

ص: 74


1- أخرجه البيهقي في «الشعب» 5780.

الشيخ لم يشترِ منه، وأتى آخر، فلمّا عرفه لم يشترِ منه، فأتى غلاماً حدثاً، فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم، ولما جاء أبو الغلام، أخبره فأخذ درهماً وجاء إلى علي علیه السلام ليدفعه إليه، فقال له: ما هذا؟ فقال: يا مولاي، إنّ القميص الذي باعك ابني يساوي در همين، فلم يأخذ الدرهم وقال: باعني رضاي وأخذ رضاه.

وروى أحمد رحمه الله عن أبي النوار بائع الخام في الكوفة، قال: جاءني علي بن أبي طالب إلى السوق، ومعه غلام له وهو خليفة، فاشترى منّي قميصين، وقال لغلامه: اختر أيّهما شئت، فأخذ أحدهما، وأخذ عليٌّ الآخر، ثمّ لبسه ومدّ يده، فوجد كُمَّهُ فاضلة، فقال: اقطع الفاضل، فقطعته، ثمّ كفّه وذهب.

وروى أحمد رحمه الله عن الصمال بن عمير قال: رأيتُ قميص عليّ علیه السلام الذي أُصيب فيه، وهو كرابيس سبيلاني، ورأيتُ دمه قد سال عليه كالدّرديّ.

وروي أنّه علیه السلام قال: لقد رقّعت مدرعتي حتى استحييتُ من راقعها. وقال مخاطباً أهل الكوفة: جئتكم بقميصي هذا وإنْ خرجت منكم بغيره فأنا خائن.

والأخبار في هذا المعنى كثيرة جداً، ولا تُحصى.

* * *

«36» من كلام له رقم 160 الصفحتان 326 و 327 لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقُّ به؟ فقال علیه السلام: [ يا أخا بني أسد! إنّك لقلقُ الوضين، تُرسلُ في غير سَدَدٍ، ولك بعدُ ذمامةُ الصّهر وحقٌّ المسألة، وقد استعلمت فاعلم: أمّا الاستبدادُ علينا بهذا

ص: 75

المقام ونحنُ الأعلون نسباً، والأشدّون برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نَوْطاً، فإنَّها كانت أثَرَةٌ شحَّت عليها نفوسُ قومٍ، وسخت عنها نفوسُ آخرين، والحَكَمُ الله، والمعودُ إليه يوم القيامة ... حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسدّ فوّاره من ينبوعه وجَدَحوا بيني وبينهم شِرْباً وبيئاً، فإنْ ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحقّ على محضِهِ، وإنْ تكن الأخرى (ففَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ 8) (1) ].

والآية الكريمة التي استشهد بها أمير المؤمنين علیه السلام واضحة المعنى. والوضين: بطان يُشدُّ به الرحل على البعير وهو كالحزام للسرج، فإذا قلق اضطرب الرحل، فكثر تململ الجمل. وترسل في غير سدد: تتكلّم في غير قصد ولا صواب.

والذمامة: الحماية والصهر: الصلة بين أقارب الزوجة وأقارب الزوج وحماية الصهر بالنسبة للأسدي السائل، أنّ زينب بنت جحش زوجة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كانت أسدية.

وفي هذا المقطع من كلام أمير المؤمنين نكتاً وأخباراً مهمّة ارتأينا الأخذ بها هنا وذكرها:

هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبِرة بن مرّة بن كثير ابن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة. وأمّها أميّة بنت عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف فهي بنت عمّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والمصاهرة المشار إليها هي هذه.

ويردّ ابن أبي الحديد في شرحه على القطب الراونديّ ما قاله في شرحه أيضاً: «إنّ أمير المؤمنين علیه السلام تزوّج في بني أسد»، ومن هنا جعل 8.

ص: 76


1- سورة فاطر، الآية: 8.

المصاهرة مع الأسدي. إنّما أمير المؤمنين لم يتزوج في بني أسد البتّة. ويذكر أولاده علیه السلام ونسبة أمّهاتهم زوجات أمير المؤمنين علیه السلام ويقول: أمّا الحسن والحسين وزينب الكبرى وأمّ كلثوم علیهم السلام، فأمّهم فاطمة الزهراء البتول سلام الله عليها بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. وأما محمد فأمّه خولة بنت إياس بن جعفر، من بني حنيفة، وأمّا أبو بكر وعبدالله، فأمّهما ليلى بنت مسعود النَّهشليّة من تميم وأمّا عمر ورقيّة فأمّهما سبيّة من بني تغلب يُقال لها الصَّهباء، سُبيت في خلافة أبي بكر. وأمّا يحيى وعون فأمّهما أسماء بنت عُميس الخثعميّة. وأمّا جعفر والعباس وعبدالله وعبدالرحمن فأمّهم أمُّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد من بني كلاب. وأمّا رملة وأمّ الحسن فأمّهما أمُّ سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفيّ، وأمّا أمّ كلثوم الصغرى وزينب الصغرى وجُمانة وميمونة وخديجة وفاطمة وأمّ الكرام ونفيسة وأمّ سلَمة وأمّ أبيها وأُمامة فهنّ لأمهاتِ أولادٍ شتّى، فهؤلاء أولاده، وليس فيهم أحدٌ من أسديّة.

وحقّ المسألة: فللسائل على المسؤول حقّاً حيث أهّله لأنْ يستفيد منه. والنوط: التعلّق والالتصاق. والإثرة: الاختصاص بالشيء دون مستحقّه. شحَّت: بخلت. وسَخَت: جادت. ويعني بالنفوس التي سخت: نفسه الشريفة، والنفوس التي شحّت: نفوس أهل السقيفة.

والفوّارة من الينبوع: الثقب الذي يفور الماء منه بشدّة. جَدحوا: خلطوا. والشِّرب النصيب من الماء. والوبيءُ: يريد به الفتنة التي يريدونها نزاعاً له في حقّه شبّهها بماءٍ خُلط بالسمّ القاتل محضه: خالصه.

وقوله إنْ تكن الأخرى: إنْ لا يزالوا مفتونين، فلا تمت نفسك غمّاً عليهم، وهو ما جاء بالآية الكريمة التي استشهد بها علیه السلام.

ص: 77

وفي هذا البحث محاورةٌ جرت بين ابن أبي الحديد، وأبا جعفر يحيى بن محمد العلويّ نقيب البصرة، أحببنا ذكره هنا لمناسبته موضوع كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وأهميته التاريخية في توضيح مسألة الخلافة والوصيّة.

يقول ابن أبي الحديد: فقلت له: يعني أبا جعفر نقيب البصرة - : من يعني علیه السلام بقوله: كانت أثرة شحَّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين؟ ومن القوم الذين عناهم الأسديّ بقوله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقُّ به؟

هل المراد يوم السقيفة أم يوم الشورى؟ فقال: السقيفة. فقلت: إنّ نفسي لا تسامحني أنْ أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ودفع النص. فقال: وأنا فلا تسامحني أيضاً نفسي أنْ أنسب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إهمال أمر الإمامة، وأنْ يترك الناس فوضى سُدّى مهمَلين، وقد كان لا يغيبُ عن المدينة إلّا ويؤمّر عليها أميراً وهو حىّ ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمّر وهو ميّت لا يقدر على استدراك ما يحدث.

ثم قال: ليس يشكُّ أحدٌ من الناس أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان عاقلاً كامل العقل، أمّا المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم، وأمّا اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنّه حكيمٌ تامّ الحكمة، سديد الرأي، أقام ملّةٌ وشرّع شريعة، فاستجدّ ملكاً عظيماً بعقله وتدبيره وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثّارات والدُّخول، ولو بعد الأزمنة المتطاولة. ويقتلُ الرجل من القبيلة رجلاً من بيتٍ آخر، فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلّبون القاتل ليقتلوه حتّى يدركوا ثأرهم منه، فإنْ لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله فإنْ لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحداً أو جماعة من تلك القبيلة به وإنْ لم يكونوا رهطه الأدنين.

ص: 78

والإسلام لم يُحِلْ طباعهم، ولا غيّر هذه السَّجيّة المركوزة في أخلاقهم، والغرائز بحالها، فكيف توهّم لبيب أنّ هذا العاقل الكامل وَتَر العرب، وخصوصاً قريش وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلّد الضغائن ابن عمّه الأدنى وصهره وهو يعلم أنّه سيموت كما يموت الناس، ويتركه بعده وعنده ابنته وله منها ابنان يجريان عنده مجری ابنین من ظهره حنوّاً عليهما، ومحبّةً لهما، ويعدل عنه في الأمر بعده، ولا ينصُّ عليه ولا يستخلفه، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه! وأنّه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقَةً ورعيّة، فقد عرّض دماءهم للإراقة بعده.

وبعد كلام يصبُّ بنفس المعنى والغرض، قال له ابن أبي الحديد: إلّا أنّ قول الإمام علیه السلام لا يدلُّ على النصّ فيه، ألا تراه يقول: «ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون بالرسول نَوطاً». فجعل الاحتجاج بالنسب وشدّة القرب، ولو كان عليه نصّ، لقال عوض ذلك: وأنا المنصوص عليّ، المخطوب باسمي.

أجاب رحمه الله: إنّما أتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل، ألا ترى أنّه سأله، فقال: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام، وأنتم أحقّ به؟ فهو إنّما سأل عن دفعهم عنه، وهم أحقّ به من جهة اللّحمة والعِتّرة ولم يكن الأسدي يتصوّر النّصّ ولا يعتقده ولا يخطر بباله، لأنّه لو كان هذا في نفسه، لقال له: لِمَ دفَعك الناس عن هذا المقام، وقد نصّ عليك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ وإنّما قال كلاماً عامّاً لبني هاشم كافّة أي باعتبار الهاشميّة والقربى. فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلّق به الأسدي بعينه، تمهيداً للجواب، فقال إنّما فعلوا ذلك مع أنّا أقربُ إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من غيرها، لأنّهم استأثروا علينا، ولو قال له: أنا المنصوص عليَّ،، والمخطوب باسمي لما كان قد أجابه، لأنّه ما سأله: هل أنت منصوصٌ

ص: 79

عليك أمْ لا؟ ولا هل نصّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالخلافة على أحد أمْ لا؟ وإنّما قال: لِمَ دفعكم ... فأجابه جواباً ينطبق على السؤال ويُلائمه، فلو صرّح له بالنصّ وعرّفه تفاصيله لنَفَر منه، واتّهمه ولم يقبل قوله ولم ينجذب إلى تصديقه، فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس أنْ يُجيب بما لا نُفرة منه ولا مطعن عليه فيه.

* * *

(37) الخطبة 170 الصفحتان 347 و 348 منها في ذكر أصحاب الجمل.

قوله علیه السلام: [دع ما أنَّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم].

أي أنّه لو كان المقتولُ واحداً لحلَّ بي قتلهم كلّهم، فكيف وقد قتلوا من المسلمين عدّةً مثل عدّتهم التي دخلوا بها البصرة!

وما في «ما أنّهم» زائدة أو مساعدة على سبك الجملة، ومثلها في قوله تعالى، واستشهد الشارح بالآية: (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ 23) (1).

وصدق علیه السلام فقد قتلوا من أصحابه وخزّان بيت المال في البصرة ومن أوليائه خلقاً كثيراً، بعضهم غدراً، وبعضهم صبراً.

* * *

«38» من الخطبة 174 الصفحتان 354 و 355، في النهي عن البدعة. 3.

ص: 80


1- سورة الذاريات، الآية: 23.

قوله علیه السلام: [ألا وإنّ القدر السّابق قد وقع والقضاء الماضي قد تورّد، وإنّي متكلّمٌ بعِدَةِ الله وحجّته، قال الله تعالى ...] واستشهد علیه السلام بالآية المباركة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ 30) (1).

تورّد: أي ورد شيئاً بعد شيء. وعِدَة الله: وعده. والمراد من القضاء الماضي: ما قدّر على الخليفة الثالث وما تبعها من حوادث. والقدر السابق: يشير به إلى خلافته علیه السلام.

وهذه الخطبة من أوائل خطبه أيّام بيعته، وفيها إشارة إلى أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أخبره أنّ الأمر سيُفضي إليه منتهى عمره، ثمّ أخبرهم أنّه سيتكلّم بوعد الله ومحجّته على عباده في قوله تعالى: وذكر الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ... (2)، ومعنى الآية، أنّه تعالى وعد الّذين أقرّوا بالربوبيّة ولم يقتصروا على الإقرار بل عقبوا ذلك بالاستقامة، أنْ يُنزّل عليهم الملائكة عند موتهم بالبشرى بالجنة.

روی سفیان بن عبدالله الثّقفي، قال: قلت يا رسول الله، أخبرني بأمرٍ أعتصم به، فقال: «قل لا إله إلّا الله، ثمّ استقم»، فقلت ما أخوف ما تخافه على؟ فقال: هذا وأخذ بلسان نفسه صلی الله علیه و آله و سلم (3).

وفي الصفحة 357 من نفس الخطبة، قوله: علیه السلام: [ألا وإنّ الظُّلمَ ثلاثةُ: فظلمٌ لا يُغفر، وظلمٌ لا يُترك، وظلمٌ مغفورٌ لا يُطلب. فأمّا الظلم الذي لا يُغفر فالشّرك بالله ] واستشهد علیه السلام بالآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (4)..

ص: 81


1- سورة فصّلت الآية: 30.
2- سورة فصلت الآية: 30.
3- أخرجه الترمذي في «الزهد» باب حفظ اللسان 2410.
4- سورة النساء الآية: 48.

ويُفسر علیه السلام نوعي الظلم: الظلم الذي يُغفر، فهو ظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، أي الشيء اليسير والمراد به صغائر الذنوب. وظلمٌ لا يُترك، هو ظلم العباد بعضهم بعضاً. ففيه حقوق الناس وفيه القصاص.

«39» من الخطبة 181 الصفحة 372، في قدرة الله وفضل القرآن.

قوله علیه السلام: [فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرَّجعةَ من كان قبلكم]. يقول الشارح الشيخ محمد عبده: أي أنّكم في حالة يمكنكم فيها العمل لآخرتكم وهي الحالة التي ندم المهملون على فواتها وسألوا الرجعة للدنيا، كما حكى الله عنهم، واستشهد بالآية: ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (1).

وفي الصفحة 373 من نفس الخطبة.

قوله علیه السلام: [أسهروا عيونكم وأضمروا بطونكم واستعملوا أقدامكم، وأنفقوا أموالكم، وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم ولا تبخلوا بها عنها فقد قال الله سبحانه ... ] واستشهد علیه السلام بقوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ 7) (2). وقوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ 11﴾ (3)

خذوا من أجسادكم: أتعبوها بالعبادة حتّى تنحل.

يوضّح علیه السلام أنّ الله سبحانه لم يستنصركم من ذلّ، ولم يستقرضكم 1.

ص: 82


1- سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.
2- سورة محمد الآية: 7.
3- سورة الحديد الآية: 11.

من قُلّ، أي من قلّة فله جنود السماوات والأرض، وخزائن السماوات والأرض، وإنّما أراد أنْ يختبركم أيّكم أحسنّ عملاً.

ويقول علیه السلام: [فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره، رافق بهم رسُلَهُ، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أنْ تسمع حسيس نارٍ أبداً، وصان أجسادهم أنْ تلقى لُغُوباً ونَصَباً]، واستشهد علیه السلام بالآية المباركة: (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21﴾ (1).

والحسيس: الصوت الخفي، ويُطلق على صوت النار.

واللغوب: شدّة الإعياء. والنصب التعب.

* * *

«40» الخطبة 184 الصفحة 381، في التوحيد، وهي تجمع من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة.

يقول علیه السلام: [ يقولُ ولا يلفظ، ويحفظُ ولا يتحفَّظ]، أي لا يتكلّف الحفظ سبحانه، واستشهد الشارح بالآية: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ 21) (2)

وقوله علیه السلام: [يقول لمن أراد كونه كُنْ فيكون، لا بصوتٍ يَقرع ولا بنداءٍ يُسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعلٌ منه أنشأه، ومثَّلهُ لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً].

كلامه تعالى: الألفاظ والحروف التي يُطلق عليها كلام الله، أو المراد بالكلام هنا - يقول محمد عبده - ما أريد في قوله تعالى واستشهد .

ص: 83


1- سورة الحديد، الآية: 21.
2- سورة البقرة، الآية: 255.

بالآية الكريمة: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) (1). وهو على ما قال بعض المفسرين أعيان الموجودات.

* * *

«41» من الخطبة 188 الصفحة 389، في الأمر بالتقوى.

يصف علیه السلام أهل التقوى، وسوقهم إلى الجنّة جماعات، فيذكر بداية كلامه الآية الكريمة: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ (2). قد زحزحوا عن النار، وأمنوا العذاب، واطمأنّت بهم الدار. وسوقهم وفتح أبواب الجنّة قبل مجيئهم تكرمة لهم، عكس أهل النار، فسوقهم وفتح أبواب جهنّم عند مجيئهم إهانة لهم.

* * *

«42» من الخطبة 189 الصفحة 391، في وصيّته بالزهد.

قوله علیه السلام: [فإنّ التقوى في اليوم، الحرزُ والجنّة، وفى غدٍ الطريقُ إلى الجنّة ... فما أقلَّ من قبلها وحملها حقَّ حملها أولئك الأقلّون عدداً، وهم أهلُ صفة الله سبحانه إذ يقول ...]، وذكر الآية: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ 13) (3).

وفي قوله علیه السلام: [أوصيكم بتقوى الله فإنّها حقُّ الله عليكم، والموجبة على الله حقكم].

ص: 84


1- سورة الكهف، الآية 109.
2- سورة الزمر، الآية: 73.
3- سورة سبأ، الآية: 13.

يقول الشارح: جرى في الكلام على نحو قوله تعالى، وذكر الآية المباركة: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ 47) (1).

وفي نفس الخطبة الصفحة 394، في وصف الندم على التفريط، وفوات الأوان لمن لم يستغلّ الفرصة الممنوحة له في الدنيا لبلوغ المراد في الآخرة، ويستشهد علیه السلام بالآية القرآنية: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ 29) (2)

منظرين: مؤخّرين للتوبة.

* * *

«43» الخطبة 190 الصفحتان 394 و 395، وتُسمّى القاصعة في من ذمّ الكبر، وتتضمّن ذمّ إبليس على استكباره، وتركه السجود لآدم علیه السلام، وأنّه أوّل من أظهر العصبيّة، وتبع الحميّة، وتحذير الناس من سلوك طريقته.

يقول علیه السلام: [الحمدُ لله الذي لبس العزَّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمّى وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمَّ اختبر بذلك ملائكته المقرَّبين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب ... ].

وذكر قوله تعالى: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ 71 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ 72 فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 73 إِلَّا إِبْلِيسَ) (3).4.

ص: 85


1- سورة الروم، الآية: 47.
2- سورة الدخان الآية 29.
3- سورة ص، الآيات: 71 - 74.

والحمى: ما حميته من الغير.

وفي الصفحة 396 من نفس الخطبة، يحذّر من غواية إبليس واستفزازه وجلبه بخيله ورجله، لإيقاع الناس بحبائله ويستشهد بالآية الكريمة: ﴿َرَبِّ مَا أَغْوَيْنَنِي لَأُزَيْنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَمِينَ 29﴾ (1).

وفي الصفحة 400 بذات الخطبة، يُحذّر علیه السلام من اعتبار كثرة الأولاد، ووفرة الأموال، دليلاً على رضاء الله سبحانه والنقص فيهما دليلاً على سخطه، فقد يكون الأوّل، استدراجاً، والثاني ابتلاءً. ويستشهد بقوله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ 55 نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ 56) (2).

وفي الصفحة 405 من الخطبة نفسها، يذكر الآية الشريفة: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35﴾ (3) عن لسان حال الأغنياء من مترفة الأمم، وتعصّبهم لآثار مواقع النّعم. فيقول علیه السلام: [فإنْ كان لا بدَّ من العصبية فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء].

وآثار مواقع النعم: ما ينشأ عن الترف والنعم من التعالي والتكبّر. ومنها جاءت العصبيّة عند الأمم المترفة، ومقاتلة بعضها بعضاً.

* * *

«44» من الخطبة 192 الصفحة 420، في وصف المنافقين. 5.

ص: 86


1- سورة الحجر الآية 39.
2- سورة المؤمنون، الآيتان: 55 و 56.
3- سورة سبأ، الآية: 35.

قوله علیه السلام: [ يقولون فيُشبِّهون، ويصفون فيموّهون، قد هوَّنوا الطَّريق، وأضلعوا المضيق فهم لمَّةُ الشَّيطان، وحُمَةُ النيران] وذكر قوله تعالى: (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ 19) (1).

فيشبهون: يشبهون الحقّ بالباطل ويوقعون الشُّبَه في القلوب. يموّهون: من التمويه وهو التّزيين.

وهوّنوا الطريق: يهوّنون على الناس طرق السّير معهم على أهوائهم الفاسدة، ثمّ يضلعوا على المضايق: يجعلونها معوّجة يصعب تجاوزها فيهلكوا. واللّمة: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة. ويُراد هنا مطلق الجماعة. والحمّة بالتخفيف: الإبرة تلسع العقرب بها ونحوها والمراد بحمة النيران: لهيبها.

* * *

«45» من كلام له رقم 197 الصفحة 430، يوصي به أصحابه.

ويحثُّ على معاهدة الصلاة والحفاظ عليها والاستكثار منها، والتقرّب بها إلى الله، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً. ويستشهد علیه السلام بكتاب الله حكاية عن سؤال أهل النار وجوابهم، فيقول: [ ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سُئلوا ...] ويذكر قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ 42 قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ 43) (2).

وبالصفحة 431 من نفس كلامه علیه السلام، يقول في الصلاة: [وقد عرف.

ص: 87


1- سورة المجادلة، الآية: 19.
2- سورة المدثر، الآيتان: 42 و 43.

حقَّها رجالٌ من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينةُ متاع، ولا قُرَّةُ عینٍ من ولدٍ ولا مال]، وذكر قوله تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) (1).

ويذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعلاقته بالصلاة فيقول: [ وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نَصِباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّة لقوله سبحانه] وذكر الآية: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (2) فكان يأمر أهله بها ويصبر عليها نفسهُ صلی الله علیه و آله و سلم.

والنصب: التعب.

وفي الصفحة 432 لذات الكلام. يذكر علیه السلام عن أداء الأمانة، وأنّها عُرضت على السماوات والأرضين والجبال فامتنعن من حملها وأشفقن من العقوبة، وحملها من هو أضعف منهُنَّ وهو الإنسان، وذكر قوله سبحانهُ: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا 72﴾ (3)

وفي فضل الصلاة وأهميّتها الكثير ممّا جاء في الكتاب العزيز يوصي بها ويؤكّد على المحافظة عليها وكذلك ما جاء عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فمنه أنّه قال: الصلاة عمود الدين، فمن تركها فقد هدم الدين (4).

وقال علیه السلام أيضاً: علَمُ الإيمان الصلاة فمن فرّغ لها قلبه، وقام بحدودها، فهو المؤمن.

وقالت أم سلمة: كان النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم يُحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه.

ص: 88


1- سورة النور، الآية: 37.
2- سورة طه، الآية: 132.
3- سورة الأحزاب، الآية: 72.
4- المروزي في تعظيم الصلاة 194.

وقال عليُّ علیه السلام: لا يزال الشيطانُ ذعِراً من المؤمن ما حافظ على الخمس، فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه، وأوقعه في العظائم صلّى أعرابيّ في المسجد صلاة خفيفة، وعمر بن الخطاب يراه فلمّا قضاها قال: اللهم زوّجني الحور العين. فقال عمر: يا هذا لقد أسأتَ النَّقد، وأعظمتَ الخطبة!

وجاء في الخبر أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان إذا حزبهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة.

وقال هشام بن عروة: كان أبي يُطيل المكتوبة ويقول: هي رأس المال.

قال ابن مسعود: الصلاة مكيال، فمن وَفّى وُفّي له، ومن طفَّف، فويل للمطفّفين.

قال رجل لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا رسول الله، ادع لي أن يرزقني الله مرافقتك في الجنة فقال: أعنّي على إجابة الدعوة بكثرة السجود (1).

* * *

«46» من كلام له رقم 199 الصفحة 433، في الوعظ.

ويحذّر علیه السلام من السكوت على المنكر، والتّوقّف في ردّه ومقابلته، فيقول: [إنّما يجمع الناس الرّضاءُ والسُّخطُ، وإنّما عَقَرَ ناقة ثمودَ رجلٌ واحدٌ فعمَّهُمُ الله بالعذاب لمّا عموه بالرِّضا فقال سبحانه ...] وذكر الآية: (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ 157) (2).

يجمع الناس ...: أي يجمعهم في استحقاق العقاب، فإنّ الراضي بالمنكر كفاعله، ومن لم ينع عنه فهو راضٍ به.

ص: 89


1- ذكره النسائي في كتاب التطبيق، باب فضل السجود 1138.
2- سورة الشعراء، الآية: 157.

قال النبيُّ الله صلی الله علیه و آله و سلم لعليَّ علیه السلام: أتدري من أشقى الأولين؟ قال: نعم، عاقر ناقة صالح. قال: أفتدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: من يضربك على هذه حتّى تخضب هذه (1). وأشار إلى رأسه ولحيته صلی الله علیه و آله و سلم.

* * *

«47» من الخطبة 209 الصفحة 444، في عجيب صنعة الكون.

يستشهد بالآية المباركة: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى 26) (2)، جاء ذكر الآية بعد وصفه لعجائب صنع الكون، وعظمة خلق الله تبارك وتعالى.

* * *

«48» من كلام له علیه السلام رقم 218 الصفحة 456، وقد تلا قول الله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ 1 حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ 2) (3). ثمّ قال: [يا له مراماً ما أبعده، وزَوْراً ما أغفله وخطراً ما أفظعه].

ألهاه: صرفه والمرام الطلب. والزَّو: الزائرون.

وقد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين، فقسمٌ قال: أي أنّكم قطعتم أيّام عمركم بالتكاثر بالأولاد حتّى جاءكم الموت، فكنّى عن حلول الموت بهم بزيارتهم للمقابر.

ص: 90


1- ذكرها الطبراني في «الكبير» 7311، والهيثمي في «مجمع الزوائد» 136/9.
2- سورة النازعات، الآية: 36.
3- سورة التكاثر، الآيتان: 1 و 2.

وقسمٌ فسَّر أنّهم كانوا يتفاخرون بأنفسهم وبأسلافهم ممّن ماتوا فقالوا منّا فلان وفلان تفاخراً، وهو التفسير الذي يُناسب كلام أمير المؤمنين علیه السلام، أي أنّه لا فخر بذلك، وطلب الفخر بذكر الأموات بعيد وإنّما الفخر بطاعة الله وبالتقوى.

* * *

(49) من كلام له رقم 219 الصفحة 462.

قاله عند تلاوة قوله تعالى: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (1) قوله: [ إنّ الله سبحانه جعل الذّكر جلاء القلوب، تسمعُ به بعد الوقرة، وتُبصرُ به بعد العشوة، وتنقادُ به بعد المعاندة].

الذكر: استحضار الصفات الإلهيّة. وجلاء القلوب: تقول جلوت السيف والقلب جِلاء بالكسر والوقرة: ثقلٌ في السمع والعشوة: ضعف البصر.

* * *

«50» من كلام له رقم 220 الصفحة 464.

قاله عند تلاوته قول الله تعالى: (ييَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (2)

[ يا أيها الإنسان! ما جرَّاك على ذنبك، وما غرَّك بربّك، وما أنَّسك بهلكة نفسك؟ أما من دائك بُلولٌ! أم ليس من نومتك يقظة!] إلى آخر كلامه علیه السلام.

ص: 91


1- سورة النور، الآية: 37.
2- سورة الانفطار الآية: 6.

أنَّسك بالتشديد واستأنست بمعنى واحد، أي كيف لم تستوحش من الأمور التي تؤدّي بنفسك للهلكة. وبُلول بلّ مرضه، أي حسنت حاله بعد هزال. والمعنى واضح في هذا الفصل.

* * *

«51» من دعاءٍ له رقم 222 الصفحة 469.

يقول: [اللّهمّ صُنْ وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار فأسترزق طالبي رزقك، وأستعطف شرار خلقك، وأُبتلى بحمد من أعطاني، وأُفتتن بذمّ من منعني وأنت من وراء ذلك كله وليُّ الإعطاء والمنع]، وذكر قوله تعالى: (إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 26) (1).

صن وجهي: احفظه من التعرّض للسؤال. وبذل الجاه: إسقاط المنزلة من القلوب. واليسار الغنى. والإقتار: الفقر. وقوله أسترزق ترتيبٌ على البذل،بالإقتار فإنّه لو افتقر لطلب الرزق من طلّاب رزق الله وهم الناس.

وقوله وأنت من وراء ذلك كلّه: القادر عليه والقاهر له.

* * *

«52» الخطبة 223 الصفحة 471، في التنفير من الدنيا.

قوله: [فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور، ويُعثرت القبور]، وذكر قول الله تبارك وتعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَتهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ 30) (2).

ص: 92


1- سورة آل عمران الآية: 26، سورة التحريم الآية: 8.
2- سورة يونس، الآية: 30.

تناهت بكم الأمور: وصلت إلى غايتها. والمراد انتهاء مدّة البرزخ، وبُعثرت القبور: قُلب ثراها وأُخرج موتاها.

تبلو: تخبر وتعلم جزاء أعمالها، وضلّ عنهم: بطل عنهم ما كانوا يدعون ويكذبون بأنّهم شفعاء.

ومن جيّد شعر أبي نؤاس بهذا المعنى قوله:

يا بني النَّقصِ والغِيَرْ *** وبني الضَّعف والخَوَرْ

وبني البعْدِ في الطّبا *** ع على القُربِ في الصُّوَرْ

والشكول التتي تبا *** ينُ في الطّول والقِصَرْ

أينَ من كانَ قَبلکمْ *** من ذوي البأسِ والخَطرْ

سائِلوا عنهم المدا *** ئِنَ واستبحثوا الخبر

سبقونا إلى الرحي_ *** _ل وإنّا لبلأثر

من مضى عِبرةٌ لنا *** وغداً نحنُ معتبر

إنّ للموت أخذةٌ *** تسبق اللَّمْح بالبَصر

* * *

«53» من كتاب له رقم 241 الصفحتان 492، 493، كتبه لشريح ابن الحارث، وكان قاضياً له.

بلغ أمير المؤمنين علیه السلام أنّ شريحاً اشترى داراً ثمينة، فاستدعاه وسأله عنها، فأقرَّ شريح بذلك، فقال له علیه السلام: [أما إنّك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت، لكتبت لك كتاباً على هذه النسخة، فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهمٍ فما فوق. والنسخة هذه: هذا ما اشترى عبدٌ ذليلٌ من عبدٍ قد أُزعج للرحيل ...] في كلام طويل من المواعظ والحكم

ص: 93

والوصايا المحذّرة من الدنيا وأطماعها المرغّبة بالآخرة وثوابها، وختم كتابه مستشهداً بالآية القرآنية: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (1).

وكان كتابه علیه السلام الذي كتبه لقاضيه شريح درساً في الزهد بالدنيا واستكثار القليل منها، والابتعاد عن الإسراف، وخوفه أنْ يكون ابتاع الدار بمالٍ حرام وهو يشغل منصب القاضي لديه.

* * *

«54» ومن كلامٍ له رقم 253 الصفحة 504، كان يقوله إذا لقي العدو محارباً.

[ اللهم إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا وكثرة عدوّنا وتشتّت أهوائنا]، ويذكر الآية: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ 89﴾ (2)

* * *

(55) من كلام له رقم 261 الصفحة 510، قاله قُبيل موته على سبيل الوصية، لمّا ضربه ابن مُلْجم لعنه الله.

[أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عِبرةٌ لكم، وغداً مُفارقكم، إنْ أبقَ فأنا وليُّ،دمي، وإنْ أفنَ فالفناءُ ميعادي وإنْ أعفُ فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا]، وتلا الآية: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (3).

وقال: [ والله ما فجئني من الموت واردٌ كرهتُهُ، ولا طالعٌ أنكرتُهُ، 2

ص: 94


1- سورة غافر، الآية: 78.
2- سورة الأعراف الآية 89.
3- سورة النور، الآية: 22

وما كنتُ إلّا كقاربٍ وردَ، وطالبٍ وَجَد] وتلا قوله تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ 198) (1).

قسَّم سلام الله عليه، أيّامه ثلاثة أقسام: أنا بالأمس صاحبكم أي كنتُ أُرجى وأُخاف، واليوم عِبرةٌ لكم: عِظة تعتبرون بها، وغداً مفارقكم: أكون في دارٍ أخرى غير داركم.

وذكر علیه السلام أنّه إنْ سلم منها فهو وليُّ دمه، إنْ شاء عفا أو شاء اقتصّ. وإنْ لم ينج، فولاية دمه للورثة، وأوماً إلى أنّ العفو منهم أحسن، بقوله: «وهو لكم حسنة». بل أمرهم صراحةً بالعفو عندما تلا الآية: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)، وينبغي أنْ يكون أمره بالعفو هنا محمولاً على الندب.

وفجئني: أتاني بغتة. والقارب: طالب الماء ليلاً، يريد علیه السلام أنّه مستعدٌّ للموت راغبٌ للقاء الله، لا يكره ما يقبل عليه منه.

* * *

«56» من كتاب له رقم 266 الصفحة 521، إلى معاوية، وهو من محاسن الكتب.

في هذا الكتاب الذي أرسله علیه السلام جواباً لكتاب أرسله معاوية له، مباحث مهمّة أوردناها في باب الاحتجاج، ولكن هنا نأخذ ما يتّصل بهذا البب، وهو الآيات البينات التي استشهد بها أمير المؤمنين علیه السلام، في معرض کلامه.

قوله علیه السلام: [و كتاب الله يجمع لنا ما شذَّ عنّا وهو قوله سبحانه ... ].

ص: 95


1- سورة آل عمران الآية: 198.

وذكر الآية: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (1)، وقول تعالى: ﴿إإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (2).

وهو علیه السلام وآل البيت أولى بالقرابة مرةً وأخرى أولى بالطّاعة.

وفي الصفحة 523 من نفس الكتاب، استشهد علیه السلام بالآية المباركة: (ققَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا 18﴾ (3)، معرضاً بتقاعس معاوية وتراخيه في نصرة الخليفة عثمان في أزمته التي قضى بها. والمعوّقون: المانعون من النصرة.

وفي الصفحة 524 لنفس الكتاب، يحذّر معاية ويتوعّده إنْ هو لجّ المعاندة والمنابذة ومجانبة الحقّ.

فيقول: [ وأنا مُرقلٌ نحوك في جحفلٍ من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، شديدٍ زحامهم، ساطعٍ قَتامُهُمْ، متسربلين سرابيل الموت، أحبُّ اللّقاء إليهم لقاءُ ربّهم، قد صحِبتْهم ذريّةٌ بدريّة، وسيوفٌ هاشميّة، قد عَرفتَ مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك] ثمّ ذكر قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ 83) (4).

مرقل: مسرع. والجحفل: الجيش العظيم. الساطع: المنتشر. والقتام: الغبار. متسربلين: لابسين لباس الموت كأنّهم في أكفانهم. والذريّة البدريّة: من أولاد أهل بدر. 3.

ص: 96


1- سورة الأنفال، الآية 75 وسورة الأحزاب، الآية: 6.
2- سورة آل عمران الآية: 68.
3- سورة الأحزاب، الآية: 18.
4- سورة هود، الآية: 83.

أما أخوه: فهو حنظلة وخاله: الوليد بن عتبة وجده: عتبة بن ربيعة، أبُ هند زوجة أبي سفيان وجميعهم قتلوا يوم بدر بسيف عليّ علیه السلام، أو شارك عمّه خمزة وعمّه عبيدة في قتلهم. وأهله: منهم شيبة ابن عتبة وغيره من بني أمية ممّن قتلهم عليٌّ وهم مشركون.

* * *

«57» من كتابٍ له رقم 283 الصفحة 564، إلى عثمان بن حُنيف الأنصاريّ، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قومٍ من أهلها فمضى إليها.

ذكر فيه الكثير من المواعظ والإرشادات والتحذير من التهافت على ملاذ الدنيا، ويعلّمه ترويض النّفس بالتقوى مخافة الانغماس بالدنيا، لتأتي النفس آمنةً يوم الفزع الأكبر، وتثبت في مداحض الزلل. وبآخر كتابه علیه السلام، يذكر أهل الزهد والتقوى ويستشهد بالآية المباركة: (أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 22) (1)، موجّهاً خطابه لابن حُنيف: [فاتّق الله يا بن حُنيف، ولتكفُف أقراصُك، ليكون من النّار خلاصُك ].

واشتداده علیه السلام في ذات الله، وتحذيره لعمّاله وتعويدهم على ترويض النّفس، والقناعة والاقتصاد بهذه الصورة الشديدة إنّما هو درسٌ

تربويٌّ مهمٌّ لحكّام هذا الزمن، لیتّقوا الله في مال الناس، وحقوقهم، وليبتعدوا عن الترف والمبالغة في السرف والبذخ والبذل على حساب أقوات الجوعى والمحرومين من عامّة منْ يحكمونهم، ما يدفع الناس للتّذمّر من حكّامهم، واليأس من عدلهم واللجأ للمخالفة والمنابذة 2.

ص: 97


1- سورة المجادلة، الآية: 22.

والمشاغبة عليهم. والنصح مؤثّرٌ ومفيد، إذا كان صاحب الأمر والناصح أوّل الملتزمين لما يطرحه وينصح به، فقد كان أمير المؤمنين علیه السلام، بأعلى وأسمى درجات رياضة النفس، وهو مَنْ قنع من دنياه بطمريه ومن طعمه بقُرصيه، وما كنز تبراً، ولا ادّخر وفراً، ولا حاز من أرضها شبراً، ولا أعدّ لبالي ثوبه طمراً. وللدنيا في عينه أوهى من عفصةٍ مقرةٍ فإنْ كان قدوة الناس وحاكمهم يتأسّى به الفقير والمعوز، وكان مثلاً رائعاً كاملاً لعفّة النفس، وكرامة الروح، وجلال الخُلق، وعظيم القناعة وبالغ الرضا، فلا يتبيّغ فقير بفقره في دولته، ولا يخاف مظلومٌ من ضياع حقّه، ولا يتجرّأ ظالمٌ فيأخذ ما ليس له ولا يتجاوز عاملٌ لأكثر ممّا خُصّص إليه، بل العدل والإنصاف دستوره، وخلقُ القرآن سنّته.

* * *

«58» عهده للأشتر 291 الصفحة 581، كتبه له لمّا ولّاه على مصر

وأعمالها، وهو أطول عهدٍ كتبه وأجمعه للمحاسن.

ومن جملته قوله علیه السلام: [ واردد إلى الله ورسوله ما يُضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال تعالى لقوم أحبَّ إرشادهم ...] واستشهد بالآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1). ويُفسّر الآية بقوله علیه السلام: [فالردُّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والردُّ إلى الرسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة].

ما يضلعك المراد ما يُشكل عليك من أمور ومحكم كتابه نصّه .

ص: 98


1- سورة النساء، الآية: 59.

الصريح وسنّته الجامعة: فسنّة رسول الله كلّها جامعة ولكن رويت عنه صلی الله علیه و آله و سلم سنن افترقت بها الآراء، فإذا أَخذْت فخُذ بما أُجمع عليه ممّا لا يختلف في نسبته إليه.

وفي نفس العهد الصفحة 594، يوصي علیه السلام بالوفاء عند الوعد وعدم الخُلف، فالخلف يوجب المقت عند الله والناس، وذكر الآية المباركة:

(كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ 3﴾ (1).

وقد مدح الله نبيّاً من الأنبياء هو إسماعيل بن إبراهيم علیه السلام بصدق الوعد. وكان يُقال: وعد الكريم نقدٌ وتعجيل، ووعدُ اللّئيم مطلٌ وتعطيل.

كتب أحدهم: حقّ لمن أزهرَ بقولٍ أنْ يُثمر بفعل. قال أبو مقاتل الضَّرير، قلتُ لأعرابيّ: قد أكثر الناس في المواعيد، فما قولك فيها؟ قال: بئس الشيء! الوعد مشغلةٌ للقلب الفارغ، متعبةٌ للبدن الخافض، خيرهُ غائب، وشرّه حاضر.

وفي الحديث المرفوع: عِدَة المؤمن كأخذٍ باليد.

* * *

«59» من كتاب له رقم 293 الصفحة 598، إلى معاوية.

وهو من جملة الكتب التي كان يترسل بها مع معاوية، مرّة لتنبيهه وإعلامه خطورة ما يسعى إليه من بثّ الفتن وتفريق شمل المسلمين، وأخرى يردُّ بها على رسائل كان يبعث بها لأمير المؤمنين علیه السلام، وثالثة يفنّد ويسفّه آراءه وما يستدرج به عامة الناس وبسطاءهم من أقاويل واتهامات يُرسلها كيف يشاء، تحقيقاً لأغراضه الخبيثة كاتّهام الإمام علیه السلام بدم عثمان 3.

ص: 99


1- سورة الصّف، الآية: 3.

واتخاذ هذه التّهمة الباطلة ذريعة لتحقيق مبتغاه وطمعه في طلب ما ليس له به حق.

وهذا أحد كتبه علیه السلام إلى معاوية بيّن بطلان ادعائه في قضيّة مقتل عثمان، ومنه قوله علیه السلام: [فعدوتَ على طلب الدنيا بتأويل القرآن، فطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني وعصبته أنت وأهل الشام بي]. غدوت: وثبت.

يقول الشيخ محمد عبده: وتأويل القرآن: صرف قوله تعالی، واستشهد بالآية المباركة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ... 178 وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ... 179) (1). وتحويله إلى غير معناه، حيث أقنع أهل الشام أنّ هذا النص يخوّل معاوية الحقّ في الطلب بدم عثمان منه.

وعصبته: ربطته أي أنّك وأهل الشام ربطتم دم عثمان بي وألزمتموني ثأره، كما تلزم العصابة الرأس.

وفي نفس الكتاب الصفحتان 598 و 599، يقول علیه السلام مخاطباً معاوية: [لئن جمعتني وإيّاك جوامعُ الأقدار لا أزالُ بباحتك] ويذكر الآية: (حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ 87) (2).

والباحة: الساحة.

* * *

«60» من كتاب له الرقم 305 الصفحة 614، إلى عامله على مكّة قُثَمْ بن العباس. 7.

ص: 100


1- سورة البقرة، الآيتان: 178 - 179.
2- سورة الأعراف الآية: 87.

يقول: [وَمُرْ أهل مكة أنْ لا يأخذوا من ساكنٍ أجراً، فإنّ الله سبحانه يقول ...]، وجاء بالآية الشريفة: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (1)

ويفسّر ذلك بقوله: [فالعاكف: المقيم به، والبادي: الذي يحجُّ إليه من غير أهله].

* * *

«61» في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 78 الصفحة 642، وكان أحدهم سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟

ذكر في كتاب «الغُرر» الشيخ أبو الحسين رحمه الله ما رواه عن الأصبغ بن نُباتة من سؤال السائل وجواب الإمام علیه السلام له: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً إلّا بقضاء الله وقدره، فقال السائل: عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال الإمام: مه، لقد عظّم الله أجركم في مسيركم ومنصرفكم، ولم تكونوا في شيءٍ من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرّين فقال الشيخ السائل: وكيف القضاء والقدر ساقانا؟ فقال: ويحك! لعلّك ظننتَ قضاءً لازماً، وقدراً حتماً! لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنّهي، ولم تأتي لائمةٌ من الله لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ... إنّ الله سبحانه أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مُكرهاً، ولم يُرسل الرسل إلى خلقه عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً. واستشهد علیه السلام بالآية: ﴿ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ 27) (2) فقال الشيخ: فما القضاء والقدر 7.

ص: 101


1- سورة الحج، الآية: 25.
2- سورة ص، الآية: 27.

اللّذان ما سرنا إلّا بهما؟ قال: هو الأمرُ من الله والحُكم، وتلا قوله سبحانه: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (1)

فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** يوم النّشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان مُلتبساً *** جزاك ربُّك عنّا فيه إحسانا

والقضاء والقدر: من الألفاظ المشتركة، قد يكون بمعنى الحُكم والأمر.

يقول الشيخ محمد عبده: القضاء علم الله السابق بحصول الأشياء على أحوالها وفي أوضاعها والقدر: إيجاده لها عند وجود أسبابها، ولا شيء منها يضطرّ العبد لفعلٍ من أفعاله، فالعبد وما يجد من نفسه من باعثٍ على الخير والشر، واختيار الشخص هو دافعه إلى ما يعمل، والله يعلمه فاعلاً باختياره إمّا شقيّاً به وإمّا سعيداً، والدليل ما ذكره الإمام علیه السلام.

* * *

«62» في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 88 الصفحة 644، وروى عنه أبو جعفر محمد بن علي الباقر علیه السلام أنّه قال: [كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدُهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به. أمّا الأمان الأوّل الذي رُفع: فهو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأمّا الأمان الباقي فالاستغفارُ] واستشهد بالآية: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا3.

ص: 102


1- سورة الإسراء، الآية: 23.

كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33) (1).

يقول الرضي: وهذا من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط.

* * *

«63» ومن الحكم رقم 93 الصفحة 645، قوله: [لا يقولنَّ أحدكم «اللهمّ إنّي أعوذُ بك من الفتنة» لأنّه ليس أحدٌ إلّا وهو مشتملٌ على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن، فإنّ الله سبحانه يقول ...] واستشهد بالآية الكريمة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (2).

يقول الرضي: وهذا من غريب ما سُمع منه علیه السلام في التفسير. ويكمل علیه السلام توضيح الآية والمقصود من كلامه فيقول: [ومعنى ذلك أنّه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد ليتبيّن السّاخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإنْ كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحقُّ الثّواب والعقاب، لأنّ بعضهم يُحبُّ الذكور ويكره الإناث، وبعضهم يُحبُّ تثمير المال، ويكره انثلام الحال].

تثمير المال: إنماؤه بالربح. والثلام الحال نقصه.

والفتنة: لفظ مشترك، فتارة تطلق على البليّة التي تصيب الإنسان، وتارة تُطلق على الاختبار والامتحان، وأخرى تُطلق على الإحراق كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ 13) أي يُحرقون، وتارة تُطلق على الضّلال كقوله تعالى: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ 162) أي مضلّين. هذه 8.

ص: 103


1- سورة الأنفال، الآية 33.
2- سورة الأنفال، الآية: 28.

إطلاقات لفظ الفتنة، فمن استعاذ منها وأراد: البليّة أو الإحراق أو الضلال فلا بأس بذلك، وإنْ أراد الاختبار والامتحان فغير جائز، فالله أعلم بالمصلحة، وله أنْ يختبر عباده ولا ليعلم حالهم، فهو عالم بكلّ حال، بل ليعلم بعضُ عباده حال بعض.

* * *

«64» في باب الحكم رقم 96 الصفحة 646.

قوله علیه السلام: [إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به] ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿إإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (1)

وقال: [إِنَّ وليَّ محمّد منْ أطاع الله، وإنْ بعُدت لُحمته، وإنّ عدوّ محمّد منْ عصى الله وإنْ قرُبت قرابتُهُ].

لُحمتُه: نسبه.

يقول ابن أبي الحديد: هكذا في الرواية «أعلمهم» والصحيح «أعملهم»، لأنّ استدلاله بالآية يقتضي ذلك، وكذا قوله: «إنّ وليَّ محمد من أطاع الله ...»، فلم يذكر العلم، وإنّما ذكر العمل.

* * *

«65» في باب الحكم رقم 99 الصفحة 646.

سمع رجلاً يقول: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ 156) (2). فقال علیه السلام: [ إنّ .

ص: 104


1- سورة آل عمران الآية: 68.
2- سورة البقرة الآية: 156.

قولنا: «إنّا لله» إقرارٌ على أنفسنا بالمُلك، وقولنا: «وإنّا إليه راجعون» إقرارٌ على أنفسنا بالهُلك ].

فقولنا: «إنّا لله»: اعتراف بأنّا مملوكون لله وعبيدٌ له، فاللام لام التمليك، كما تقول: الدار لزيد.

وإنّا إليه راجعون: إقرار بالنّشور والقيامة، فهو معنى الرجوع إليه سبحانه. وذكر علیه السلام الهُلك، لأنّ هُلكنا مفضٍ إلى رجوعنا يوم القيامة إليه، فعبّر بمقدّمة الشيء عن الشيء، كما تقول: الفقر الموت، ونحو ذلك.

* * *

«66» في باب الحكم رقم 131 الصفحة 655، عند رجوعه من صفّين، وقد أشرف على القبور بظاهر الكوفة، خاطب أهل القبور، وهذا بعضٌ منه: [أمّا الدور فقد سُكنت، وأمّا الأزواج فقد نُكحت وأمّا الأموال فقد قُسّمت هذا خبرُ ما عندنا، فما خبرُ ما عندكم؟] ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: [أما لو أُذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ «خير الزاد التقوى»] وتلا: (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ) (1).

وفي وصيّة النبي صلی الله علیه و آله و سلم لأبي ذر رحمه الله: «زر القبور تذكر بها الآخرة، ولا تزرها ليلاً، وغسِّل الموتى يتحرّك قلبك، فإنّ الجسد الخاوي عِظةٌ بليغة، وصلِّ على الموتى فإنّ ذلك يُحزنك، فإنّ الحزين في ظلّ الله (2).

وقال الحسن السبط علیه السلام: مات صديقٌ لنا صالح فدفنّاه ومددنا على القبر ثوباً، فجاء صِلة بن أُشيم، فرفع طرف الثوب ونادى يا فلان:9.

ص: 105


1- سورة البقرة، الآية: 197.
2- أخرجه الحاكم في «المستدرك» 139.

إنْ تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمةٍ *** وإلّا فإنّي لا إخالُكَ ناجيا

وفي الحديث المرفوع: أنّه علیه السلام كان إذا تبع الجنازة أكثر الصُّمات، ورُئيَ عليه كآبة ظاهرة، وأكثر حديث النفس.

وسمع الحسن علیه السلام امرأة تبكي خلف جنازة وتقول: يا أبتاه، مثل يومك لم أرَه! فقال: بل أبوك مثل يومه لم يَرَه.

وجاء في الحديث: ما رأيتُ منظراً إلّا والقبر أفظع منه (1).

وأيضاً: القبر أوّل منزل من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر، ومنْ لم ينج منه فما بعده شرٌّ منه (2).

* * *

«67» في باب الحكم رقم 136 الصفحة 657.

قال علیه السلام: [من أُعطيَ أربعاً لم يُحرم أربعاً: من أُعطيَ الدُّعاء لم يُحرم الإجابة، ومن أُعطيَ التّوبة لم يُحرم القبول، ومن أُعطيَ الاستغفار لم يُحرم المغفرة، ومن أُعطيَ الشكرُ لم يُحرم الزيادة].

قال الرضي: وتصديقُ ذلك كتاب الله تعالى: واستشهد بالآيات البيّنات لكلّ حالة:

ففي الدعاء قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (3)، وفي الاستغفار قوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا.

ص: 106


1- في كتاب «الزهد» للترمذي، باب ما جاء في ذكر الموت 2308.
2- نفس المصدر السابق.
3- سورة غافر، الآية: 60.

رَحِيمًا) (1) وقال في الشكر: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (2)، وقال في التوبة: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (3).

وفي بعض الروايات إنّ ما نسب إلى الرضيّ من استنباط هذه المعاني من القرآن الكريم من متن كلام أمير المؤمنين علیه السلام.

المراد بالدعاء: ما كان مقروناً بالاستعداد للعمل لنيل المطلوب، والتوبة والاستغفار: ما كانا ندماً على الذنب، مع عدم العود إليه، والشكر: تصريف النعم في وجوهها المشروعة.

* * *

«68» في باب الحكم رقم 205 الصفحة 671.

قوله علیه السلام: [لا يُزَهِّدنَّك فى المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من لا يستمتعُ بشيءٍ منه، وقد تُدركُ من شكر الشاكر أكثر ممّا أضاعَ الكافر، ] وذكر الآية: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 134) جاء في آل عمران 134 و 138 والمائدة 93.

وأخذ ابن أبي الحديد هذا المعنى وقال:

لا تُسديَنَّ إلى ذي اللّؤم مكرمةً *** فإنّه سَبَخٌ لا يُنبتُ الشجرا

فإنْ زرعتَ فمحفوظٌ بمضيَعةٍ *** وأكلُ زرعكَ شكرُ الغير إنْ كفرا

* * *

ص: 107


1- سورة النساء، الآية: 110.
2- سورة إبراهيم، الآية: 7.
3- سورة النساء، الآية: 17.

«69» في باب الحكم رقم 210 الصفحة 671.

قوله علیه السلام: [لتعطفنَّ الدنيا علينا بعد شِماسِها عطف الضَّروس على وَلَدِها]، وتلا قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5) (1)

الشماس: امتناع ظهر الفرس من الركوب. الضَّروس: الناقة سيّئة الخلق، تعضُّ حالبها. ومعنى القول: أنّ الدنيا ستنقاد لنا بعد جموحها، وتلين بعد خشونتها، كانعطاف الناقة على ولدها وإن امتنعت عن حالبها.

وهو عند الإمامية: إخبار المهدي (عج)، الذي يملأُ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

وبعض المذاهب تقول هو إشارة لملك السفّاح والمنصور وابني المنصور بعده، فهم أزالوا ملك بني أميّة وهذا لا يلزم لأنّه لم يكونوا بالممدوحين عند الناس ولا المرضيّين، وهو علیه السلام استشهد بالآية التي تجعلهم الوارثين والأئمّة. وتقول الزيديّة: إنّه لا بدّ من أنْ يملك الأرض فاطميٌّ يتلوه جماعة من الفاطميّين على مذهب زيد، وإنْ لم يكن أحد

منهم الآن موجوداً.

والقول الأوّل يرجّحه ما صحّ عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قوله: لو لم يكنْ من الدنيا إلّا يومٌ واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يظهر مهديُّنا فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وجاء الحديث بألفاظ شتى، ولكنّها بمعنًى واحد وغاية واحدة.

* * *

ص: 108


1- سورة القصص الآية: 5.

«70» في باب الحكم رقم 236 الصفحة 676.

سئل علیه السلام عن قوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (1)، فقال: هي القناعة.

لا ريب أنّ الحياة الطيّبة هي حياة الغنى، والغنيُّ: هو القنوع، وإذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلّهم حاجةً إلى الناس.

قيل لحكيم: لم لا تغتمّ؟ قال: لأنّي لم أتّخذ ما يغمَّني فقده. وقال شاعر:

فمن سرَّه ألّا يرى ما يسوءُه *** فلا يتَّخذ شيئاً يخافُ له فقدا

وقال آخر:

غنى النّفس ما يكفيك من سدِّ حاجةٍ *** فإنْ زاد شيئاً عادَ ذاك الغنا فقرا

وقول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم خير الكلام: ليس الغنى بكثرة العَرَض، إنّما الغنى غنى النفس.

* * *

«71» في باب الحكم رقم 233 الصفحة 676.

قال علیه السلام في الآية الكريمة: (إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (2). العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضُّل.

ص: 109


1- سورة النحل، الآية: 97.
2- سورة النحل، الآية: 90.

«72» في باب الحكم رقم 319 الصفحة 698.

قال له بعضُ اليهود: ما دفتتُم نبيَّكم حتّى اختلفتم فيه. فقال علیه السلام إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفَّت أرجلكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم]، وذكر الآية المباركة: (واجْعَل لَّنَا إِلَهَا كَمَا لَهُمْ وَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمُ تَجْهَلُونَ 138) (1).

وقوله: اختلفنا عنه لا فيه: إنّ الاختلاف لم يكن في التوحيد والنّبوّة، بل في الفروع، نحو الزكاة والميراث. واليهود اختلفوا في التوحيد الذي هو الأصل. وما أحسنه استنتاج، واستشهاد بالآية الكريمة.

وغاية جهل اليهود في تصرّفهم مع نبيّهم موسى علیه السلام، فبعد مشاهدتهم الآيات والأعلام، وخلاصهم من رقّ العبوديّة، وعبورهم البحر بانشقاقه، ومشاهدة غرق فرعون وأتباعه وجنده، طلبوا من موسى علیه السلام أنْ يجعل لهم إلهاً كعبّاد الأصنام، فاتّخذوا العجل لذلك.

* * *

«73» في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 343 الصفحة 703.

قوله علیه السلام: [ الأقاويلُ محفوظةٌ، والسرائرُ مبلوَّةٌ] وذكر قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38) (2).

والسرائر: ما أُسرَّ في القلوب من النّيّات والعقائد.

مبلوّة: بلاها: اختبرها وعلمها، فظاهر الأعمال وخفيّها معلوم لله .

ص: 110


1- سورة الأعراف الآية: 138.
2- سورة المدّثر الآية: 38.

سبحانه. والآية تعني: الأنفس مرهونة بأعمالها، فإنْ كانت خيراً خلّصتها، وإنْ كانت شرّاً حبستها.

قال عمر بن عبدالعزيز للأحوص لمّا قال:

ستَبلى لها في مُضمر القلب والحشا *** سريرةُ حبٍّ يوم تُبلى السّرائرُ

إنّك يومئذٍ عنها لمشغول.

وقال علیه السلام: [اتقوا الله فكم من مؤمِّلٍ ما لا يبلُغُهُ، وبانٍ ما لا يسكُنُهُ، وجامعٍ ما سوف يترُكُهُ، ولعلّه من باطلٍ جمعه ومن حقٌّ منعه أصابه حراماً، واحتمل به آثاماً فباءَ بوزره وقدم على ربِّه آسفاً لاهفاً قد ...] واستشهد بالآية: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ 11) (1).

وأمّا الآمال التي لا تُبلغ، فأكثر من أنْ تُحصى، ولا نهاية لها.

وما أحسن قول الشاعر:

واحسرتا ماتَ حظّي من وصالكُمُ *** وللحظوظ كما للناس أجالُ

إنْ متَّ شوقاً ولم أبلغ مدى أملي *** كم تحت هذي القبور الخرس آمالُ؟

* * *

«74» في باب الحكم رقم 370 الصفحة 710.

يستشهد علیه السلام بقول الله تعالى: (فبي حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران)، وهو حديثٌ قدسي فإنّ هذا القول الذي وضع بين قوسين قرآنيين لم يكن موجوداً في القرآن الكريم.

* * *

ص: 111


1- سورة الحج، الآية: 11.

«75» في باب الحكم وقصار / المكلمات رقم 376 الصفحة 712، قوله علیه السلام: [لا تأمننَّ على خير هذه الأمّة عذاب الله لقوله تعالى ...] وذكر الآية: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ 99) (1)

وقوله علیه السلام: [ولا تيْأسنَّ لشرِّ هذه الأمّة من رَوحِ الله لقوله تعالى ...] وذكر الآية: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ 87) (2)

و رَوح الله: رحمته.

وتفسير كلامه علیه السلام: أنّه لا يجوز القول: فلان نجا ووجبت له الجنّة، ولا فلان هلك ووجبت له النّار. وهذا القول، حقّ، لأنّ الأعمال الصالحة لا يُحكم لصاحبها بالجنة إلّا بسلامة العاقبة، والأعمال السيئة لا يُحكم لصاحبها بالنّار إلّا إنْ مات عليها.

* * *

«76» في باب الحكم رقم 433 الصفحة 724.

قوله علیه السلام: [الزهدُ كلّهُ بين كلمتين من القرآن ...] واستشهد بقوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (3).

ويُكمل علیه السلام: [ومن لم يأس على الماضي، ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه]. 3.

ص: 112


1- سورة الأعراف الآية 99.
2- سورة يوسف، الآية: 87.
3- سورة الحديد، الآية: 23.

من لم يأس على الماضي: لم يحزن على ما نفذ به القضاء. وقد ورد ذكر الزهد فيما مضى.

* * *

«77» باب الحكم رقم 461 الصفحتان 729 و 730.

قوله علیه السلام: [يأتي على الناس زمانٌ عَضوضٌ، يعضُّ الموسر فيه على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك] وذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (1).

[ينهدُ فيه الأشرار، ويُستذلُّ الأخيار، ويُبايعُ المضطرّون، وقد نهى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، عن بيع المضطرّين].

العضوض: الشديد: أي كلبٌ على الناس كأنّه يعضّهم. ينهد فيه الأشرار: ينهضون إلى الولايات والرّياسات، وترتفع أقدارهم، ويُستذلُّ أهل الدّين وأهل الخير.

ويكون فيه بيعٌ على وجه الاضطرار، كمن باع ضيعته وهو ضعيفٌ إلى صاحب ضيعةٍ قويّ، ذي ثروة وعزّ وجاه فيمنعه الماء ويستذلّه حتّى يُجبره على بيعه ضيعته، وذلك منهيٌّ عنه، لأنّه حرام محض.

* * *

وفي الصفحة 729 كانت آخر الآيات القرآنية المجيدة التي استشهد بها أمير المؤمنين أثناء خطبه ورسائله وكتبه وحكمه، وما وجدنا من لطائف الاستخراج ومحاسن الاستنباط الاستنباط من الآيات. 7.

ص: 113


1- سورة البقرة، الآية: 237.

فلا بدّ للقرآن من ترجمان وهو علیه السلام ترجمان القرآن، و ربيب رسول مُنزل القرآن وخليفته، وتلميذه الذي أخذ عنه العلوم التي وهبها ربّهُ إليه. ولطالما كان المسلمون بعد رحيل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، يلجؤون إليه في استخراج الأحكام الشرعية، وفي الفتوى والحدود. وهناك من الأمور والقضايا التي لم يُبتل بها أحد في زمن النبيّ، فلم تُبيّن تفاصيل تشريعاتها وحدودها التي أمر بها الله سبحانه.

فقد سُئل عن حدّ الخمر، فقال: ثمانون جلدة، ولمّا طلبوا منه البرهان، ذكر الآية التي فيها حدّ الافتراء ورمي المحصنات بالباطل (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (1)، وبيّن أنّ شارب الخمر يفقد عقله ويفتري لذلك.

وسُئل عن القديم وزمنه، فاستدلَّ بالآية الكريمة: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ 39) (2)، فحدّد القديم بستة أشهر، ذلك أنّ العرجون: وهو عود عذق النّخلة بين الشمراخ إلى منبته، إذا عتق تدقُّ ويتقوّس ويصفر، وذلك يحدث بستة أشهر، وقد أطلق القرآن عليه بالقديم.

وعندما أرادوا إقامة الحدّ على امرأة ولدت لستّة أشهر من الحمل، منعهم، واستدلّ بالقرآن على براءتها وطهارة،رحمها، فذكر الآية: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) (3)، والآية: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) (4)، فإذا كان الحمل والفصال وهو الفطام ثلاثين شهراً، والفصال عامين وهما 24 4.

ص: 114


1- سورة النور، الآية: 4.
2- سورة يس الآية: 39.
3- سورة الأحقاف، الآية: 15.
4- سورة لقمان الآية: 14.

شهراً فيكون أقصر مدّة الحمل ستّة أشهر بعد طرح الأربعة وعشرين شهراً من الثلاثين.

وغير هذا ما لا يُحصى من استدلالاته علیه السلام و لطائف استخراجاته ومحاسن استنباطه من كتاب الله، ما لم نجده لغيره من الصحابة، حتّى أخذوا عنه، وتعلّموا منه، ووضعوا مناهج مذاهبهم من طروحاته صلوات الله عليه.

وقد قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ (1). أحصيناه: ضبطناه. والإمام المبين: كتابٌ بيّن هو اللوح المحفوظ أو القرآن وكان علیه السلام ترجمان كلام الله، والمحصي علوم القرآن وعلوم النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

* * *

ص: 115


1- سورة يس الآية: 12.

ص: 116

الباب الثاني

الملاحمُ و الفتن

المدخل: الملاحم: جمع ملحمة، وهي الوقعة العظيمة في الحرب.

ورد في خطب الإمام علیه السلام ورسائله وكتبه الكثير من الإخبار بالملاحم والفتن، وكانت ردود الأفعال من الناس حول ذلك متفاوتٌ حسب تفاوت الاستعداد عند الأشخاص.

فالنخبة المميّزة من الذين امتحن الله قلوبهم وعُرفوا بالمنازل العالية من الإيمان والتقوى والعرفان كانوا يعتبرون كلام أمير المؤمنين من المسلّم به، ويأخذونه بالتصديق والتسليم لعلمهم بمنزلة ومكانة ومعرفة قائله، وإيمانهم به أنّه لا يقولُ إلّا حقّاً ولا ينطق إلّا صدقاً. وآخرون لم يكن استعدادهم المعرفي والثقافي يؤهّل عقولهم وأفكارهم لتقبّل ما يُصرّح به أمير المؤمنين علیه السلام من أخبار وملاحم ويعتبرونها إمّا من الخوارق، أو ممّا لا يُصدّق. وطائفة من الحاسدين والمبغضين والمخالفين للإمام لم يكونوا ليتحمّلوا كلّ هذه المناقب والفضائل، التي جبل عليها وعُرف بها، فتفضَّل على غيره لما يحمل من علم وعرفانٍ ومواهب.

والإمام علیه السلام في معرفته وإخباره بالملاحم ليس بدعاً، ولا منفرداً

ص: 117

فيه، ففي قصص القرآن الكريم الكثير من الملاحم والأخبار التي جرت على لسان بعض الأنبياء والأولياء والصلحاء.

فهذا العبد الصالح الذي اتّبعه نبيُّ الله موسى علیه السلام على أنْ يعلّمه ممّا عُلّم رُشداً، والذي يقول عنه القرآن: (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا 65)، وجاء في التفاسير أنّه الخضر علیه السلام، وقال بعضهم إنّه نبيّ، وآخرون قالوا إنّه ولي وعليه أكثر العلماء.

فاشترط الخضر على موسى أنْ لا يسأله عن شيءٍ يفعله حتّى يُحدث له منه ذكراً، ويبيّنه إليه، وما كان من السفينة التي خرمتها وهي في عرض البحر والغلام الذي قتله، والجدار الذي أقامه وعلّة ما فعله الخضر. واعتراض موسى علیه السلام على الأمور الثلاثة التي فعلها الخضر، حتّى بيّن له علّتها، وأنّه ( ... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (1) وإنّما آتاه الله سبحانه رحمةً منه، وعلّمه من لدنه علماً. فكانت معرفته بالملك الذي يأخذ كلَّ سفينةٍ غصباً، وبالغلام الذي لو عاش لأرهق أبويه الصالحين طغياناً. وما تحت الجدار من كنزٍ ليتيمين، حتّى يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما، فهو إذاً تعلُّمٌ من ذي علم.

وما حكى القرآن الكريم عن عيسى علیه السلام في الآية: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (2).

وإخبار الناس عن مدخراتهم وما يأكلون من الغيبيّات التي لا يقدر عليها أحد، إلا أنْ تُعرف وتُعلم من مصدر كل علمٍ وهو الله سبحانه.

وفي القرآن الكثير من هذا، ونكتفي بما ذُكر لتجنّب الإطالة. إنّ في 9.

ص: 118


1- سورة الكهف، الآية: 82.
2- سورة آل عمران الآية: 49.

جواب أمير المؤمنين علیه السلام لأحد أصحابه حين سمعه يذكر بعض الملاحم فقال: لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، دليلٌ على أنّ إخباره بأيّ معلومةٍ أو خبرٍ من أخبار الأمم والجماعات وغيرها، إنّما هو تعلّمٌ من ذي علم، قال: [يا أخا كَلْبٍ - وكان القائل كلبيّاً - ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذي علم، وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدّده الله سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (1) ... فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحدٌ غير الله وما سوى ذلك فعلمٌ علّمه الله نبيه فعلّمنيه ] (2)، وهكذا حدّدت الآية المباركة خمسة من العلوم الغيبيّة التي اختصّ بها الله تبارك وتعالى، ولم يُشرك بها أحدٌ من عباده، وما عداها فقد أكرم بعض أنبيائه وأوليائه بعلمها ومعرفتها، ليُظهر منازلهم ويبيّن كراماتهم، فيكونون أقرب للتصديق، ولثقة الناس فيهم.

وبعد فإنّ أمير المؤمنين علیه السلام، كان أمامَ تيّارٍ إعلاميِّ مناهض من بني أميّة، ومن اليهود والمنافقين وغيرهم من أعداء الدين وأعدائه، وهم يتربّصون للنّيل منه علیه السلام، وإذا ما عرفنا أنّ الكثير من أخباره بالملاحم كانت تمسُّ بني أميّة، وتُنبىءُ بتاريخهم الأسود، وظلمهم، وما يكونون عليه من الضلال وسوء العاقبة فكان الإعلام الأموي الخبيث لا يهدأ ولا يتوانى في شنّ الحرب على أمير المؤمنين واستغلال كلّ شيء لإيذائه. وفي مجال ملاحمه علیه السلام بالذات فقد جنّدوا إعلامهم للتشويش وقلب الحقائق وإرسال الأقاويل، والاعتراض عليه والتشكيك بأقواله، ليؤثّروا في ثقة الجمهور بإمامهم، وحتّى يعيبوا مصداقيته عندهم.

ص: 119


1- سورة لقمان الآية: 34.
2- نهج البلاغة الخطبة رقم 126 الصفحة 275.

وكان لهم الأتباع والمروّجين لإعلامهم المغرض من المنتفعين والمنافقين الذين ما أحبّوا أمير المؤمنين ولا رغبوا فيه لنفاقهم وخبث سرائرهم وسوء عواقبهم.

فنری عند قوله علیه السلام كلمته المشهورة: «سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن فئةٍ تضلُّ مائة أو تهدي مائة، إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها، ولو شئت لأخبرتُ كلّ واحدٍ منكم بمخرجه ومدخله وجميع شأنه».

فاعترضه تمیم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي قائلاً: فكم في رأسي طاقة شعر؟ فقال له: أما والله إنّي لأعلم ذلك، ولكن أين برهانه لو أخبرتك به! ولقد أُخبرت بقيامك ومقالك، وقيل لي إنّ على كلّ شعرة من شعر رأسك مَلَكاً يلعنُك، وشيطاناً يستفزّك، وآيةُ ذلك أنّ في بيتك سخلاً يقتلُ ابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ويحضُّ على قتله (1).

وكان ابنه «حصين» آنذاك طفلاً، ثمّ كبر وصار على شرطة عبيدالله ابن زیاد وخرج مع عمر بن سعد لحرب الحسين علیه السلام، فكان الأمر بموجب ما أخبر به علیه السلام.

وإنْ كان المعترض على أمير المؤمنين ليس أمويّاً بالنسب إلّا أنّه كان كذلك بالرأي والاعتقاد والهوى، حتّى أنّ أثر إرهاصات الأمويين، وبهتانهم نراه جليّاً في تأريخنا الإسلامي، الذي كُتب الكثير من فصوله بأيدٍ أمويةٍ، وبأقلام إعلاميين مرتزقة كانوا يكتبون بأجر ويؤرّخون بمال. وإنّ الأثر هذا لا زال قائماً حتى اليوم، فنرى من يعترض على كلام نهج البلاغة، ويدّعي أنّه من وضع الشريف الرضي وليس من كلام الإمام علیه السلام، فما أنْ وجدوا كلاماً في تأريخ أجدادهم، ومثالبهم حتّى .

ص: 120


1- ذكره ابن أبي الحديد في شرحه للنهج، الجزء 10 الصفحة 211.

قالوا ذلك ليس من قوله ليحرموا كلّ متذوّق من أن يستفيد من هذا الكنز، ويتعلّم ويأخذ من هذه المعارف. وليدفعوا مخازيَ آبائهم ومساوىء تأريخهم، لعلمهم أنّ قولاً مثل قول عليٍّ علیه السلام، جديرٌ بالمسلمين الوثوق والاعتقاد به، فدواءُ ذلك عندهم دفعه بأكمله ليخلّصوا أنفسهم من حساب من هذا التأريخ.

ونحن هنا لسنا في معرض الردّ على من زعم بأنّ نهج البلاغة منحول، فقد اجتهد لذلك الكثير من أصحاب الضمائر وأبطلوا هذا الزعم السخيف.

وقد وردت كلمة «سلوني قبل أن تفقدوني»، وبألفاظٍ مختلفة في

النهج بالخطبة 92 الصفحة 210 ومن كلامه رقم 187 الصفحة 387. ويحقّ لنا أنّ نسأل هنا: ألا يودُّ أصحاب الألباب أن يُقيّض الله لهم في زمانهم من يقول مثل هذا القول «سلوني قبل أن تفقدوني» فيستثمروا ذلك أعظم استثمار، ويستفيدوا به أجلّ فائدة؟

أهو مبلغُ وعيهم، وغايةُ إدراكهم؟

أم سوء حظّنا نحن الذين جئنا في زمنٍ ليس فيه مثل علي بن أبي طالب؟

يقول أمير المؤمنين علیه السلام: لقد علّمني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من العلم ألف باب يُفتح لي من كل باب ألفُ باب. وملاحمه علیه السلام إحدى هذه الأبواب التي تعلّمها من خاتم الرسل وسيّد الكائنات الذي قال فيه: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابُها.

* * *

ص: 121

ص: 122

الملاحم في نهج البلاغة

(1) عن البصرة ومسجدها

من كلامه رقم 13 الصفحتان 66 و 67، ذمّ فيه أهل البصرة، وقال: [كأني بمسجدكم كجؤجُؤِ سفينة، قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها].

وفي رواية: [وايمُ الله لتغرقنَّ بلدتُكم حتّى كأنّي أنظرُ إلى مسجدها كجؤجؤِ سفينةٍ، أو نعامةٍ جاثمة].

وقول آخر: [كجؤجؤِ طيرٍ في لجَّة بحر].

وفي رواية أخرى: [بلادكم أنتن بلاد الله تربة، أقربها من الماء، وأبعدها من السّماء، وبها تسعةُ أعشار الشرِّ. المحتبس فيها بذنبه، والخارجُ بعفو الله. كأنّي أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماءُ، حتّى ما يُرى منها إلّا شُرَفُ المسجد، كأنّهُ جؤجؤُ طيرٍ في لُجَّة بحر].

الجؤجؤ: الصدر. جاثمة: من جَثَمَ: أي وقع على صدره أو تلبّد بالأرض.

وقد قع ما أوعد به أمير المؤمنين فالبصرة غرقت مرتين في أيام القادر بالله مرّة، وأخرى في أيّام القائم بأمر الله غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلّا مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الوضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ومن جهة

ص: 123

الجبل المعروف بجبل السّنام، وخربت دورها وغرق كا ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروف عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم.

ومعنى قوله: أبعدها من السّماء، أنّها في أرضٍ منخفضةٍ والمنخفض عادةً أبعد عن السماء من المرتفع بمقدار انخفاضه.

* * *

(2) في بليّة الفرقة ومحنة الشتات

من كلامه رقم 16 الصفحتان 68، 69.

قوله علیه السلام: [ألا وإنَّ بليَّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم والذي بعثه بالحقِّ لتُبلبَلُنَّ بلبلة، ولتُغربلُنَّ غربلة، ولتُساطُنَّ سوط القِدر، حتّى يعودَ أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقنَّ سابقون كانوا قصَّروا، وليقصِّرنَّ سبّاقون كانوا سبَقوا].

لتبلبلن: لتخلطن. لتغربلن: لتقطّعَنّ من غربلة اللحم: أي قطّعته ويجوز أنْ يكون من الغربال الذي يغربل به الدقيق. لتساطنّ: من السوط، وهو أنْ تجعل شيئين في القدر وتضرب بعضهما ببعض حتّى يختلطا.

وقوله: سوط القدر، أي كما تختلط المواد الموضوعة فيه عند غليانه، فينقلب أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وذلك حكاية عمّا يؤولون إليه من الاختلاف، وتقطّع الأرحام، وفساد النظام.

ويمكن تفسير تنبئه علیه السلام بوصول معاوية إلى مقام الخلافة، وقد كان في قصوره عن ذلك المقام بحيث لا يظنُّ وصوله إليه. وقصّر آل البيت علیهم السلام عن بلوغه وقد كانوا أسبق الناس إليه.

ص: 124

أما بليّة العرب التي كانت محيطة بهم، يوم بُعث النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، هي بليّة الفرقة ومحنة الشتات حيث كانوا متباغضين متنافرين، يدعو كلٌّ لعصبّيته، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وتلك هي مهلكة الأمم. وقد صاروا إليها بعد مقتل عثمان، فبُعثت العداوات التي قتلها الدّين، وجاشت روح الشحناء من الأمويين لاستئصال شأفة الإسلام والانقضاض عليه.

* * *

(3) في أهل النهروان

من الخطبة رقم 36 الصفحة 109.

قوله علیه السلام: [فأنا نذيرٌ لكم أنْ تُصبحوا صرعى بأثناءِ هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، على غير بيّنةٍ من ربّكم ولا سلطانٍ مُبينٍ معكم].

النهروان: اسمٌ لأسفل نهرٍ بين الخافيق وطرفاء على مقربة من الكوفة، بطرف صحراء حروراء. وأعلاه يُقال له تامر.

أمّا الخوارج، فالذين خرجوا على أمير المؤمنين وخطّأوه في التحكيم، وقد جهروا بعداوته ونقضوا بيعته وصاروا له حرباً. وهؤلاء يلقّبون بالحروريّة لاجتماعهم في حروراء. ورئيس هذ الفئة الضّالّة «حرقوس بن زهير السعدي» ويُلقّب «بذي الثدية»، تصغير ثدي.

والأهضام: جمع هضم، وهو المطئنُّ من الوادي.

والغائط: المراد به المنخفضات وما سفل من الأرض.

وهم أوّل المجيبين لأهل الشام عند رفع المصاحف، وقد نهاهم أمير المؤمنين علیه السلام عن إجابتهم وقال: إنّهم ما رفعوا المصاحف ليرجعوا إلى حكمها، وإنّهم يعرفونها ولا يعملون بها ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحقُّ

ص: 125

مقطعه ولم يبق إلّا أنْ يُقطع دابر الذين ظلموا. فخالفوا واختلفوا، فوقفت الحرب. وتكلّم الناس في الصلح والتحكيم، فاختار معاوية عمرو بن العاص، واختار أصحاب أمير المؤمنين أبا موسى الأشعري، ولم يقبل به الإمام واختار عبدالله بن عباس، لكنّهم لم يرضوا به، واختار الأشتر ولم

يُطيعوا، وأصرّوا على أبي موسى الأشعري، فوافقهم مُكرهاً. وانتهى التحكيم بانخداع الأشعري لعمرو بن العاص، وخلعه أمير المؤمنين ومعاوية، ثمّ صعود ابن العاص وإثباته معاوية وخلعه أمير المؤمنين، بطريق الغشّ والخديعة لا بتحكيم القرآن والتزام أمر الله.

وقد تحقّق ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام، فقد سقطوا في معركة النهروان صرعى بأثناء النهر ومنخفض الوادي، ولم ينج منهم إلّا دون العشرة. صرعوا على غير بيّنة ولا سلطان.

ذُكر في الصّحاح: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بينا هو يقسم قسماً جاء رجل من بني تميم، يُدعى «ذو الخويْصرة» فقال: اعدل يا محمد فقال الرسول: قد عدلت فقال له ثانية: اعدل يا محمد فإنّك لم تعدل فقال صلی الله علیه و آله و سلم: ومن يعدل إذا لم أعدل! فقام عمر فقال: يا رسول الله، ائذن لي أضرب عُنُقه، فقال: دعه فسيخرج من ضِئْضيء هذا قومٌ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، ... يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقِيَهم. آيتهم رجلٌ أسود - أو قال: أدعج مخدَج اليد، إحدى يديه كأنّه ثدي امرأة، أو بضعةٌ تدرْدر (1)0 «الضئضيء: الأصل والمعدن. الأدعج: المظلم الأسود. مخدَج اليد: ناقص اليد. البضعة: القطعة».

وفي بعض الصّحاح أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لأبي بكر، وقد غاب .

ص: 126


1- أخرجه مسلم كتاب «الزكاة» باب ذكر الخوارج 1064.

الرجل عن عينه: قم إلى هذا فاقتله، فقام ثمّ عاد وقال: وجدته يصلّي فقال لعمر مثل ذلك، فعاد وقال: وجدته يصلّي، فقال لعليّ علیه السلام مثل ذلك، فعاد وقال: لم أجده، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لو قُتل هذا لكان أوّل فتنة وآخرها، وذكر الحديث (1). وفي بعض الصّحاح أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قال: يقتلهم أولى الفريقين بالحقّ.

وفي مسند أحمد عن مسروق قال: قالت لي عائشة: إنّك من ولدي ومن أحبّهم إليَّ،، فهل عندك علم من المخدَج؟ فقلت: نعم، قتله علي بن أبي طالب على نهرٍ يُقال لأعلاه تامرّا ولأسفله النهروان، بين الخافيق وطرفاء، قالت: ابغني على ذلك بيّنة، فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلك، قال: فقلتُ لها: سألتك بصاحب القبر، ما الذي سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيهم؟ فقالت: نعم سمعتُه يقول: إنّهم شرُّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة (2). وعن مسروق أيضاً في «كتاب صفّين» للمدائني، أنّ عائشة رضي الله عنها قالت له لما عرفت أن عليّاً علیه السلام قتل ذو الثَّدَيّة: لعن الله عمرو بن العاص: فإنّه كتب إليّ يُخبرني أنّه قتله بالإسكندريّة، إلا أنّه ليس يمنعني من نفسي أنْ أقول ما سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: يقتله خير أمّتي من بعدي.

* * *

(4) في ذكر الكوفة

من كلام له رقم 47 الصفحتان 120 و 121، قوله علیه السلام: [كأنّي بكِ يا كوفةٌ تُمدّينَ مدَّ الأديم العكاظيِّ، تُعركين بالنوازل، وتركبين بالزّلازل .

ص: 127


1- تخريج الحديث السابق.
2- أخرجه مسلم كتاب «الزكاة» باب شرّ الخلق والخليقة 1067.

وإنّي لأعلمُ أَنَّهُ ما أراد بكِ جبّارٌ سوءاً إلّا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل].

العكاظيّ: نسبة إلى عكاظ، وهو سوقٌ كانت تقيمه العرب بناحية مکّة في صحراء بين «نخلة والطائف» يجتمعون إليه بداية شهر ذي القعدة ليتعاكظوا، أي يتفاخروا كلٌّ بما لديه من فضيلة وأدب، ويتبايعوا فيه أيضاً، وأكثر ما يُباع فيه الأديم، وهو الجلد المدبوغ، فنُسب إليهما.

قال أبو ذؤَيب:

إذا بُنيَ القبابُ على عُكاظٍ *** وقامَ البيعُ واجتمع الألوفُ

وعندما جاء الإسلام هَدَمَ ذلك.

تُعركين: من عركتهم الحرب إذا أتعبتهم. والنوازل: الشدائد. والزلازل: المزعجات من الخطوب.

وقوله تُمدّين: تصويرٌ لما ينالها من العسف والخبط.

قال أمير المؤمنين علیه السلام في فضل الكوفة: يُحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً، وجوههم على صورة القمر. وقوله: هذه مدينتنا ومحلّتنا، ومقرُّ شيعتنا. وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام: اللّهم ارْمِ من رماها وعادِ من عاداها.

وقوله: تربةٌ تحُبُّنا ونُحبُّها.

وقد تحقّق ما قاله علیه السلام عن الكوفة، فقد نالها من العسف والظلم والعدوان الشيء العظيم، على يد ابن زياد والحجاج وغيرهما من الظالمين صنائع بني أميّة وأتباعهم.

أمّا ما همّ به الجبابرة وأرباب السلطان لها من سوء، ودفاع الله عنها فكثير ومنه:

ص: 128

قال المنصور العباسي لجعفر الصادق علیه السلام: لقد هممتُ أنْ أبعث إلى الكوفة من ينقصُ منازلها، ويُجمِّرُ نخلها، ويستصفي أموالها، ويقتل أهل الريبة منها، فأشر عليَّ. فقال الصادق علیه السلام: إنّ المرء ليقتدي بسلفه، ولك أسلاف ثلاثة: سليمان أُعطيَ فشكر، وأيّوب ابتُليَ فصبر ويوسفُ قَدَرَ فغفر، فاقتدِ بأيّهم شئت. فصمت المنصور قليلاً، ثمّ قال: قد غفرت.

وروى ابن الجوزي في «المنتظم»، أنّ زياداً لما حَصَبَهُ أهلُ الكوفة وهو يخطبُ على المنبر، هم أن يُخرّب دورهم، ويُجمِّر نخلهم، فجمعهم في المسجد، وعرض عليهم البراءة من عليّ علیه السلام، وهو يعلم أنّهم سيمتنعون، فيحتجّ بذلك على استئصالهم، قال ابن السائب الأنصاري: فإنّي مع نفرٍ من قومي، والناس يومئذٍ في أمرٍ عظيم، إذْ غفوت فرأيتُ شيئاً أقبل طويل العنق أهدر أهدل فقلت: ما أنت؟ فقال: أنا النَّقَادُ ذو الرقبة، بُعثتُ إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت مرعوباً، وقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا، فأخبرتُهم، وخرج علينا من القصر مَنْ يقول: انصرفوا، فإنّ الأمير يقول لكم: إنّي عنكم اليوم مشغول، فإذا بالطاعون قد ضرب ابن زياد فكان يقول: أجدُ في نصف جسدي مثل حرّ النار حتّى هلك. فقال ابن السائب:

ما كانَ منتهياً عمّا أراد بنا *** حتّى تناوله الرَّقّادُ ذو الرَّقبة

فأثبت الشِّقَّ منهُ ضربةٌ عظُمتْ *** كما تناول ظلماً صاحبُ الرحبة

* * *

(5) في من يأمر بسبّه

من كلام له علیه السلام رقم 57 الصفحة 130، يقول: [أما إِنَّهُ سيظهرُ

ص: 129

عليكم بعدي، رجلٌ رحبُ البُلعوم، مُندحِقُ البطن، يأكلُ ما يجد، ويطلبُ ما لا يجد فاقتلوه ولن تقتلوه، ألا وإنَّه سيأمركم بسبِّي والبراءةِ منّي. فأما السَّبُّ فسبّوني، فإنّه لي زكاةٌ ولكم نجاة، وأمّا البراءةُ فلا تتبرّؤوا منّي فإنّي ولدتُ على الفطرةِ، وسَبَقْتُ إلى الإيمان والهجرة].

مندحق البطن: بارز البطن والدحوق في النوق إذا خرج رحمها عند الولادة. رحب البلعوم: واسعه.

وقد ذهب البعض إلى أنّه علیه السلام عنى به زياد ابن أبيه والبعض قال: عنى به الحجاج وقال آخرون: إنّه عنى المغيرة بن شعبة، والظاهر أن جميع هؤلاء فيهم مواصفات سعة البلعوم وبروز البطن، والنّهم في الأكل، وكلّهم في إمرته وحكمه مارس سبّ أمير المؤمنين وأمر به لسنّةٍ سنّها معاوية. لذا ذهب البعض إلى الاعتقاد بأنّ الإمام علیه السلام عناهم بقوله. والأكثر دقّةً أنّه عنى معاوية بذلك، فهو الذي أمر بسبّه علیه السلام، وسبّ آخرین من رموز أهل البيت صلوات الله عليهم، وجرى على ذلك طيلة حكم الأمويين، حتّى منعه عمر بن عبدالعزيز.

وقد حدث ما قاله علیه السلام فيمن يأمر بسبّه، وذكر أوصافه كاملة.

أمّا قوله: فاقتلوه ولن تقتلوه، فلا تنافٍ بين الأمر بالشيء والإخبار به أنّه لا يقع، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (1)، ثم قال: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ (2).

وفي مسألة السبِّ والبراءة، وكيف أجاز لهم السبّ لخلاص الأنفس، ومنع من التبرّؤ، والاثنان غير جائز! 5.

ص: 130


1- سورة البقرة، الآية: 94.
2- سورة البقرة الآية: 95.

يقول ابن أبي الحديد: عند أصحابنا لا فرق بين سبّه والتبرّؤ منه، فى أنّهما حرامٌ وفسقٌ كبير، وأنّ المكره عليهما يجوز له فعلُهما عند خوفه

على حياته، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف. ويجوز ألّا يفعلهما وإن قُتل، إذا قَصَدَ بذلك إعزاز الدّين، كما يجوز له أنْ يُسلّم نفسه للقتل ولا يُظهر كلمة الكفر إعزازاً للدّين. وإنّما استفحش البراءة لأنّ هذه اللفظة ما وردت في القرآن إلّا عن المشركين، ألا ترى قوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 1) (1)، وقوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ) (2)، فصارت في العرف الشرعيّ مطلقة على المشركين خاصّة، فيُحمل هذا النهي على ترجيح تحريم لفظ البراءة على لفظ السب، وإنْ كان حكمهما واحد. وتقول الإماميّة: إنّ حكم البراءة من الله تعالى ومن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ومنه علیه السلام ومن أحد الأئمّة الأطهار علیهم السلام حكمٌ واحد.

أما كيف علّل علیه السلام نهيه البراءة منه بقوله: فإنّي ولدتُ على الفطرة، فهذا ما لا يختصّ به وحده فإنّ كلّ واحدٍ ولد على الفطرة، وقد قال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة، وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه (3). فإنّه علیه السلام، أراد بالفطرة العصمة، وأنّه منذُ ولد لم يواقع قبيحاً، ولا كان كافراً طرفة عين قط، ولا مخطئاً ولا غالطاً في شيءٍ من الأشياء، وهذا ما تقوله الإماميّة.

أمّا ابن أبي الحديد فيقول: ذلك لعدّة أمور وعلل: منها أنّه ولد على الفطرة، وسبق إلى الإيمان والهجرة، ولم يُعلّل بواحدة فقط، وأنّ .

ص: 131


1- سورة التوبة، الآية: 1.
2- سورة التوبة، الآية: 3.
3- أخرجه مسلم، كتاب «القدر» 2658.

مراده بالولادة على الفطرة: لم يولد في الجاهليّة، لأنّه ولد لثلاثين عاماً مضت من عام الفيل، والنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أُرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل، وقد جاء في صحيح الأخبار أنّه صلی الله علیه و آله و سلم مكث قبل الرسالة عشر سنين يسمع الصوت ويرى الضوء، ولا يخاطبه أحد، فحكمُ تلك السنين العشر حكم أيّام رسالته صلی الله علیه و آله و سلم، والمولود فيها إذا كا فى حجره وهو مَنْ يتولّى تربيته، مولودٌ في أيّامٍ كأيّام النبوّة، وقد ورد أنّ السنة التي ولد فيها عليٌّ صلی الله علیه و آله و سلم وهي السنة التي بدأ فيها برسالة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، فكان يسمع الهتاف من الأحجار والأشجار، وكُشف عن بصره، فشاهد أنواراً، وهي السنة التي بدأ بها بالتّبتُّل والانقطاع والعزلة في حراء.

وكان صلی الله علیه و آله و سلم يتيمّن بتلك السنة وبولادة عليِّ علیه السلام فيها، ويُسمّيها سنة الخير والبركة. وقال لأهله ليلة ولادته علیه السلام في الكعبة، وفيها شاهد ما شاهد من القدرة الإلهيّة والكرامات، ولم يكن قبلها شاهد من ذلك شيئاً: «لقد ولد لنا الليلة مولود يفتحُ الله علينا به أبواباً كثيرة من النّعمة والرحمة». وكان كما قال، فإنّ أمير المؤمنين علیه السلام كان ناصره والمحامي عنه وكاشف الغمّاء عن وجهه، وبسيفه ثبت دينُ الله، ورست دعائمه وتمهّدت قواعده.

وفي تفسير آخر: أي على الفطرة التي لم تتغيّر ولم تُحلْ، فلم يصدّ عن مقتضاها مانع، لا من جانب الأبوين ولا من جهة غيرهما، وغيره ولد على الفطرة، ولكنّه حال عن مقتضاها، وزال عن موجبها.

* * *

(6) في مصير الخوارج ومالهم

من كلام له رقم 58 الصفحة 131 خاطب به الخوارج عندما

ص: 132

خطّأوا الإمام في التحكيم، ونقضوا بيعته وشرطوا في العودة إلى طاعته، أنْ يعترف أنّه كان كفر ثمّ آمن.

يقول علیه السلام: [أصابكم حاصب، ولا بقيَ منكم آبرٌ! أبعد إيماني بالله وجهادي مع رسول الله، أشهدُ على نفسي بالكفر؟ لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين. فأُوبُوا شرَّ مآبٍ وارجعوا على أثر الأعقاب. أما إنّكم ستلقَون بعدي ذُلّاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وأثَرَةً يَتَّخذُها الظّالمون فيكم سنّة ].

الحاصب: ريحٌ شديدة تحمل الحصباء، والمراد دعاء عليهم بالهلاك.

آبر: يقول الرضي: من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يُصلحه. ويُروى آثر وهو الذي يأثر الحديث أي يرويه ويحكيه، وهو أصح الوجوه، كأنّه علیه السلام يقول: لا يبقى منكم مُخبر. ويُروى آبز بالزاي وهو الواثب، والهالك يُقال له ابز أيضاً.

والخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علیه السلام، كانوا قبل التحكيم أصحابه وأنصاره في الجمل وصفّين وهذا الدعاء والمخاطبة وإخبارهم عن مستقبل حالهم موجّهٌ إليهم. وقد وقع ذلك، فإنّ الله سلّط على الخوارج بعده الذلّ الشامل والسيف القاطع، والأثرة من السلطان، وما زالت حالهم تضمحل، حتّى أفناهم الله وأفنى جمهورهم وكان لهم من سيف المهلّب بن أبي صفرة وبنيه الحتف القاضي، والموت الزؤام.

* * *

(7) بعض الملاحم في الخوارج

من قوله رقم 59 الصفحة 132، ورقم 60 نفس الصفحة.

ص: 133

عند عزمه حرب الخوارج، فقيل له: إنّهم عبروا جسر النّهروان فقال: [مصارعهم دون النُّطفة، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة ].

ولما قُتل الخوارج قيل له: هلك القوم بأجمعهم، فقال: [كلّا والله إنّهم نُطفٌ في أصلاب الرّجال وقرارات النّساء، كلّما نَجَمَ منهم قَرنٌ قُطع حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلّابين].

قال الرضي: يعني بالنُّطفة ماء النهر، وهي أفصح كناية عن الماء، وإنّ كان كثيراً جمّاً.

وهذا الخبر من معجزاته علیه السلام وأخباره المفصّلة عن الغيوب، فقد تحقق عدم عبورهم النهر، وأنّهم صرعوا بأجمعهم إلّا ثمانية نَجوْا منهم، ومصارعهم دون النّطفة كما قال تماماً، ولم يُقتل من أصحابه إلّا دون العشرة. ومثل هذا الخبر لا يُحتمل التلبيس لتقييده بعددٍ معين من الخوارج ومن أصحابه، ووقوعه دون زيادة أو نقصان، وذلك أمرٌ إلهيٌّ عرفه من جهة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والرسول عرفه من جهة الله تعالى، وقابليّة البشر تعجز عن إدراك مثل هذا الأمر، وقد كان له علیه السلام من هذا الباب ما لم يكن لغيره، لاختصاصه برسول الله وبعلومه صلی الله علیه و آله و سلم.

قرارات النساء: كناية لطيفة عن الأرحام.

وكلّما نَجم منهم قَرْن: أي كلّما ظهر وطلع منهم رئيس قُتل، حتّى ينتهي أمرهم إلى أنْ يكونوا لصوصاً سلّابين، لا يقومون بملك ولا ينتصرون إلى مذهب ولا يدعون إلى عقيدة، شأنهم شأن الصعاليك الجهلة.

وقد صحَّ إخباره علیه السلام عنهم، فإنّهم لم يهلكوا بأجمعهم في حرب

ص: 134

النهروان ودعوتهم دعا بها أقوام لم يُخلقوا في زمانه بعد، حتّى أفضى الأمر أن صار خَلَفَهم قطّاع طرق، متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض.

* * *

(8) في ذمّ أهل العراق

من الخطبة 70 الصفحة 145.

قوله علیه السلام: [ ولقد بلغني أنّكم تقولون «عليٌّ يكذب»! قاتلكم الله! فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أوّلُ من آمن به! أم على نبيّه؟ فأنا أوّلُ من صدّقه. كلّا والله ولكنّها لهجةٌ غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها. ويْلُمِّهِ كيلاً بغير ثمن، لو كان له وعاء، ولتعلمُنَّ نبأهُ بعد حين!].

كان علیه السلام كثيراً ما يخبرهم عن الملاحم، ويُعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، فيقول المنافقون من أصحابه: «إنّه يكذب» كما كانوا يقولون لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والإمام يردُّ عليهم، أنّه أوّل من آمن بالله ورسوله فكيف يجترىء الكذب على الله أو على رسوله صلی الله علیه و آله و سلم مع عظيم إيمانه، وكمال يقينه. وما دام الأمر متعلق بالملاحم والإخبارات الغيبيّة التي كان المنافقون يكذّبونها، أدرجنا هذا الحديث في هذا الباب لإتمام الفائدة.

لهجة غبتم عنها ضربٌ من الكلام أنتم في غيبةٍ عنه، أي بعيدين منْ معناه فلا تفهمونه، لذلك تكذّبونه.

ويْلُمِّه: كلمةٌ للتعجّب والاستعظام، تُقال في مقام المدح وإنْ كان اللفظ موضوعاً لضدّه. ومثل ذلك معروف في لسان العرب. وأصل الكلمة «ويل أمّه».

ص: 135

وقوله كيلاً: أي أنا أكيل لكم العلم والحكمة بلا ثمن لو أجد حاملاً لهذا العلم، وهذا مثل قوله علیه السلام: «ها إنّ بين جنبي علماً جمّاً لو أجدُ له حَمَلة».

وعنه علیه السلام قوله: «إنّ أمرنا صعبٌ مستصعب، لا يحمله إلّا ملكٌ مقرّب، أو نبيٌّ مرسل، أو عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان» (1). وهذا كلام عارف عالم بأنّ في الناس من لا يصدّقه، وهذا أمرٌ مركوز في الجبلّة البشريّة، وهو استبعاد الأمور الغريبة وتكذيب الإخبار بها. ولو تأمّلنا أحوال أمير المؤمنين علیه السلام، في خلافته كلّها لوجدناها شبيهة تماماً بأحوال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حياته، في حربه وسلمه، وكأنّها نسخة منها، وكذلك في سيرته وأخلاقه، وشكايته من المنافقين من أصحابه، والمخالفين له.

* * *

(9) في مروان بن الحكم

من كلام له رقم 72 الصفحة 150

أُسر مروان في حرب الجمل، واستشفع الحسنان علیه السلام إلى أمير المؤمنين، فخلى سبيله، فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين. فقال: [أوَلم يبايعني بعد قتل عثمان؟! لا حاجة لي في بيعته، إنّها كفٌّ يهوديّة! لو بايعني بكفّه لغدر بسَبْتِهِ. أما إنّ له إمرةً كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمّة منه ومن ولده يوماً أحمر].

كفٌّ يهوديّة: أي غادرة ماكرة. سبته: إسته، وكنّى به عن الغدر .

ص: 136


1- من كلام له رقم 187 الصفحة،387، من نهج البلاغة طبعة الأعلمي.

الخفيّ، واختاره لتحقير الغادر، أو هو إشارة لما كانت تفعله سفهاء العرب عند الغدر بالعهد أو العقد، فكانوا يحبقون عند ذكره استهزاءٌ.

لعقة الكلب أنفه: كناية عن قصر المدة، وكانت إمرة مروان تسعة أشهر. والكبش: رئيس القوم. وقيل إنّ الأكباش الأربعة هم أبناءُ عبدالملك بن مروان: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، جميعهم تولّوا الخلافة، وقيل لم يتولّ الخلافة أربعة إخوة سواهم. وقيل هم، أولاده الأربعة، عبدالملك وتولّى الخلافة، وعبدالعزيز وقد ولي مصر، ومحمد الجزيرة وبشر العراق، وهؤلاء بنو مروان الصلبه.

واليوم الأحمر: اليوم الشديد، أو هو كناية عن سفك الدماء الكثيرة التي حصلت في ملكهم.

وجميع ما أخبر أمير المؤمنين علیه السلام في كلامه هذا وقع كما أخبر به تماماً فكانت إمرة مروان قصيرة لمدة تسعة أشهر كما ذكرنا، وكان له أكباش أربعة، حكموا وتلقّت الأمّة منهم ومن أبيهم أياماً حمراء.

وعنه علیه السلام أنّه قال: يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صُدغاه وهو يعني به مروان بن الحكم، فقد ولي الخلافة وهو ابن خمسة وستّين، والحَكَم أبوه هو عمّ عثمان بن عفّان، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نفاه وطرده من المدينة، وسيّره للطائف، ولم يرجع إلى المدينة إلّا في خلافة عثمان. وهو وابنه ملعونان على لسان النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

قال صاحب «الاستيعاب»: نظر علي علیه السلام يوماً إلى مروان، وقال له: ويلٌ لك وويلٌ لأمّة محمد منك ومن بنيكَ إذا شاب صُدغاك! وكان مروان يُدعى خيط باطل، قيل لأنّه كان طويلاً مضطرباً.

* * *

ص: 137

(10) في بني أمية

من الخطبة رقم 86 الصفحة 183.

قال علیه السلام: [حتّى يظُنَّ الظَّانُ أنّ الدنيا معقولةٌ على بني أميَّة، تمنحُهُم درَّها وتوردُهُم صفوها، ولا يُرفعُ عن هذه الأمّة سوطها ولا سيفها، وكذب الظَّانُّ لذلك، بل هي مُجَّةٌ من لذيذ العيش، يتطعّمونها بُرهة، ثمَّ يلفظونها جملة ].

معقولة: محبوسة، كأنّهم شدّوها بعقال، كالناقة تمنحهم درّها، أي لبنها. ومُجّة من لذيذ لعيش: مصدر مجَّ الشراب من فيه، أي قذفه ورماه. يذوقونها زماناً ثمّ يقذفونها، فلا يبقى شيءٌ معهم

وهو إخبارُ منه علیه السلام عن حكم بني أميّة وما تنعّموا به من لذة، حتّى يظنّ الناس أنّها دائمةٌ لهم، وإذا هم يتطعّمونها برهة والبرهة: مدة من الزمن فيها بعض الطول، ثمَّ يلفظونها جملة، وهو ما حصل لهم، وزوال ملكهم، فلم يبق منه ومنهم أثر يُذكر إلّا سوء الذكر وسوء العاقبة.

* * *

(11) دعوني والتمسوا غيري

من الخطبة رقم 91 الصفحة 209، لمّا أُريد على البيعة بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.

قوله علیه السلام: [دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإنَّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكَّرت].

لا تقوم: لا تصبر. أغامت الآفاق: غطّاها الغيم.

ص: 138

والمحجّة الطريق. تنكّرت: جُهلت فلم تُعرف.

يقول الشارح: إنّ الأطماع تنبّهت في كثير من الناس على عهد عثمان، بما نالوا من التفضيل بالعطاء، فلا يسهل بعد ذلك أنْ يكونوا في مساواةٍ مع غيرهم، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه، وطلبوا طائشة الفتنة، وهم أغلب الرؤساء في القوم، فإذا أقرّهم الإمام علیه السلام على امتيازاتهم التي كانوا عليها، فقد أتى ظلماً، وخالف شرعاً، ومن نقم على عثمان يطالبون بالنّصفة، فإنْ لما ينالوها تحرّشوا للفتنة. فكيف يتجه للحقِّ على أمنٍ من الفتن؟ وقد كان بعد بيعته ما تفرّس به قبلها.

ومن يحمل كلامه علیه السلام على أنّه إخبار عن غيبٍ يعلمه هو ويجهلونه هم، وهو الإنذار بحرب المسلمين بعضهم لبعض، واختلاف الكلمة وظهور الفتنة.

ومن حمله محمل التضجّر منهم والتبرّم بهم، والتسخّط لأفعالهم، لعدولهم عنه من قبل، وهناك آراءٌ أخرى في هذا الفصل من قوله علیه السلام، ليس هنا مجال ذكرها. وعلى كلّ حال فإنّ الأوصاف التي ذكرها أمير المؤمنين لقادم الأيّام بعد مقتل الخليفة عثمان، حصل كما قال ومثل ما وصفه.

(12) فاسألوني قبل أنْ تفقدوني

من الخطبة 92 الصفحة 210 يقول علیه السلام: [ فاسألوني قبل أنْ تفقدوني، فوالذي نفسي بيده، لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئةٍ تهدي مائة وتُضلُّ مائة إلّا أنبأتكم بناعقها، وقائدها وسائقها، ومُناخ ركابها ومحطِّ رحالها، ومن يُقتلُ من أهلها قتلاً، ومن يموتُ منهم موتاً].

ص: 139

الفئة: الطائفة. ناعقها: الداعي إليها. الركاب: الإبل. روى ابن عبدالبر في «الاستيعاب» عن جماعة من المحدّثين قالوا: لم يقل أحدٌ من الصحابة «سلوني» إلّا علي بن أبي طالب.

وقال أبو جعفر الإسكافي في كتاب «نقض الثمانيّة» عن علي بن الجعد عن ابن شُبرمة قال: ليس لأحدٍ من الناس أن يقول على المنبر «سلوني» إلّا علي بن أبي طالب علیه السلام.

وفي كلام أمير المؤمنين علیه السلام قَسَم، بقوله: «فوالذي نفسي بيده» أنّهم لا يسألونه عن أمرٍ يحدث بينهم وبين القيامة إلّا أخبرهم به، وليس هذا ادّعاءٌ بالربوبيّة أو النّبوّة، وإنّما كان يقول إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أخبره بذلك.

ويقول ابن أبي الحديد: ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.

ويُسرد ابن أبي الحديد أمثلة كثيرة من إخباراته والتي حدثت وصدقت بأجمعها، وهي مذكورة في النهج، أو في كتب السير التي اشتملت عليها.

ولاقتضاء الحال هنا، فنحن نورد بعض الأمثلة التي أوردها ابن أبي الحديد من إخباراته علیه السلام: كإخباره عن الضربة يُضربُ بها في رأسه فتخضب لحيته، وإخباره عن قتل ولده الحسين علیه السلام، وما قاله عن كربلاء عند مروره بها وملك معاوية من بعده وخبر الحجاج، ويوسف بن عمر، وما أخبر من أمر الخوارج بالنهروان، وما قاله لأصحابه وقتل من يُقتل منهم وصلب من يُصلب وقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وهم أهل الجمل وصفّين والنهروان وإخباره عن عدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص إلى البصرة لحرب الجمل، وقوله عن عبدالله بن

ص: 140

الزبير: «خبّ ضبّ يروم أمراً ولا يُدركه ينصب حبالة الدّين لاصطياد الدنيا، وهو بعدُ مصلوب قريش»، وإخباره عن هلاك البصرة بالغرق، وهلاكها بالزنج تارة أخرى، وعن ظهور الرايات السود من خراسان، وذكره قومٌ من أهلها بالأسماء، كآل أهلها بالأسماء، كآل مصعب الّذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسيّة، وإخباره عن الأئمّة الّذين ظهروا من ولده بطبرستان، كالناصر والداعي وغيرهما، في قوله: «وإنّ لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيُظهره الله إذا شاء فيدعو إلى دين الله». وكإخباره عن مقتل النفس الزكيّة بالمدينة، وقوله: «إنّه يُقتل عند أحجار الزيت»، ومقتل أخيه إبراهيم بباب حمزة: «يُقتل بعد أنْ يظهر ويُقهر بعد أنْ يقهر»، وإخباره عن قتلى وَجّ، وقوله فيهم: «هم خیر أهل الأرض». وإخباره عن المملكة العلوية في المغرب، وإخباره عن بني بويه، وقوله فيهم: «ويخرج من دَيْلمان بنو الصيّاد إشارة إليهم، وكان أبوهم صيّاد سمك، فأخرج الله تعالى منْ صلبه ملوكاً ثلاثة، ونشر ذريّتهم حتى ضُربت الأمثال بملكهم، وقوله فيهم: «ثمّ يستشري أمرهم حتّى يملكوا الزوراء، ويخلعوا الخلفاء»، وذكر مدتهم فقال: «مائة أو تزيد قليلاً».

وإخباره عبدالله بن العباس عن انتقال الأمر إلى أولاده. وغيرها الكثير من الإخبارات الغيبيّة التي تحقّقت بالكامل، وبأجمعها موجودة في كتب السير مفصّلة.

أمّا عن سبب تقيده بالعدد مائة، بقوله: فئة تهدي مائة ...، ذلك لأنّ ما دون المائة حقير تافه لا يُعتدّ به ليُذكر ويخبر عنه، فكأنّه قال: مائة فما فوق.

ص: 141

وفي الصفحة 211 من نفس الخطبة، يقول علیه السلام في ذكر فتنة بني أميّة: [ألا إنّ أخْوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة، فإنّها فتنةٌ عمياء مظلمة عمَّت خطّتها، وخصَّت بليّتها، ... ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا كانتصار العبد من ربّه والصاحبُ من مستصحبه].

وقوله: عمّت خطّتها، وخصّت بليتها: أي أنّها عمّت الناس كافّة من حيث كانت رياسة شاملة لكلّ أحد، ولكنّ حظّ أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم من بليّتها أعظم، ونصيبهم فيها أوفر.

وصدق صلوات الله عليه، فإنّ بني أميّة ساموهم العذاب قتلاً وصلباً وحبساً وتشريداً. وقال: حتّى يكون انتصار أحدكم، وما بعده، أي لا انتصار لكم منهم. والصاحب من مستصحبه: أي التابع من متبوعه.

وفي الصفحة 212 من نفس الخطبة، قوله علیه السلام: [ثمَّ يُفرِّجها الله عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفاً، ويسوقهم عُنْفاً، ويسقيهم بكأسٍ مُصبَّرة].

تفريج الأديم: أي سلخ الجلد عن اللحم. يسومهم خسفاً: يُلزمهم ذُلّاً. وكأسٍ مصبّرة: مملوءة إلى رأسها.

وهذا الكلام عن ظهور المسودّة، وانقراض ملك بني أميّة. وقد وقع بموجب إخباره علیه السلام.

وهناك أخبارٌ مستفيضة في مسألة زوال ملك بني أميّة، وحوادث جرت كان أمير المؤمنين علیه السلام قد أخبر بها، فوقعت كما أخبر بالضبط، وقد أشرنا إليها من بعيد ودون تفصيل للاختصار، وفسح المجال للحوادث الأخرى.

ص: 142

(13) في ظهور أهل الشام

من كلام له رقم 96 الصفحتان 215 و 216.

[أما والذي نفسي بيده ليظهرنَّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقّي].

ومن كلامه رقم 97 الصفحة 218 في ظلم بني أميّة، وما يؤول إليه مصير الناس في فترة حكمهم السوداء المقيتة، فيقول: [والله لا يزالون حتّى لا يَدَعوا لله محرّماً إلّا استحلّوه، ولا عقداً إلّاحلّوه وحتّى لا يبقى بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلّا دخله ظلمهم، ونَبا به سوءُ رَعْيهم].

ففي كلامه الأوّل يُقسم علیه السلام، أنّ أهل الشام لا بدَّ أن يظهروا على أهل العراق، وذلك ليس لأنّهم على الحقّ وأهل العراق على الباطل، بل لأنّهم أطوع لأميرهم ومدار النّصر في الحروب إنّما هو على انتظام أمر الجيش وطاعته لقيادته، وليس على اعتقاد الحقّ فقط، فذلك لا يغني الجيش إذا اختلف بالآراء، ولم يُطع من يدبّر أمره.

وإنْ كان قَسَمه علیه السلام بظهور أهل الشام على أهل العراق، استنتاجاً لما وصل إليه الحال من إبطاء أهل العراق عن حقّ أمير المؤمنين وتقاعسهم عن الجهاد وإسراع أهل الشام إلى معاوية واستجابتهم لباطله، فهو عند أكثر المحدّثين والرواة من إخباراته بالملاحم ومعرفته من طرف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بذلك، وقد تحقّق الأمر على ما قاله به وأخبر به صلوات الله عليه.

وفي الجزء الثاني من كلامه علیه السلام في ظلم بني أميّة:

بيوت المدر: المبنيّة من طوب وحجر ونحوها. وبيوت الوبر: الخيام وهو كناية عن أنّ ظلم بني أميّة عامٌّ شامل لكلّ خلق الله.

ص: 143

نَبا به سوء رعيهم: أصله من نبا به المنزل، إذا لم يو المنزل، إذا لم يوافقه فارتحل عنه، والقصد سوء سياستهم وإمرتهم، حتّى يخسر العمران، فلا تتبوّاً الحكومة الظالمة إلّا خراباً تنعق فيه فلا يُجيبها إلّا صدى نعيقها. وروي «سوء رِعَتهم» أي سوء ورعهم أي سوء تقواهم.

وقد أخبرنا التأريخ عن ظلم بني أميّة وسوء حكمهم وخبث إمارتهم ما ليس عليه زيادة وجديرٌ أن تُقرأ مثل هذه الأخبار الواردة في بني أميّة، ولا يُلتفت لما تروّجه بعض الأقلام الداعية إلى تصحيح سيرة هذا البيت الموصوف بالقرآن «بالشجرة الخبيثة»، وحتّى لا تشوّه الحقائق، وتُستغفل العقول، وتكثر الأباطيل، ولكي تتعرّف الأجيال على تاريخها السليم الصحيح، غير المشوّه، وغير المسيس، ليعرفوا ويتعرّفوا على قدواتهم فتصلح سيرتهم في مجتمعهم، لا أنْ يكونوا صوراً قاتمة من ذلك التاريخ القاتم لمثل آل أميّة، فيعمَّ الفساد ويُظلمُ العباد مرّة أخرى، كما ظلموا على يد الأمويين في غابر الأيّام.

وقد جرى هذا الكلام منه علیه السلام، بعد التحكيم، ولطالما كان يذكّر أصحابه بخطر وصول الأمويين لدفّة الحكم، لما يعلمه من خُبث نواياهم وبغضهم للإسلام ولنبيّ الإسلام وله علیه السلام، ولجميع من آمن بالله الواحد ودعوتهم للجاهليّة وسعيهم لضرب كيان المجتمع الإسلامي، وأخذ ثارات آبائهم المشركين الذين سقطوا صرعى بسيوف الحقّ على يد عليٍّ والصحابة الأبرار في حروب الإسلام.

وهو يعلم أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ما رئي باسماً بعد أنْ شاهدهم في منامه ينزون على منبره نزو القردة، وإن كانت القردة لتستنكف أنْ تُمثّل بهؤلاء، وهي عند العقلاء أقلُّ ضرراً من بني أميّة وليس لها ذنوب كذنوب الأمويين.

ص: 144

(14) عن المهدي (عجل الله تعالی فرجه)

من الخطبة 99 الصفحة،221 قوله علیه السلام: [ حتّى يُطلعَ الله لكم من يجمعكم ويضُمُّ نشركم، فلا تطمعوا في غير مُقْبلٍ، ولا تيأسوا من مدبر، فإنّ المدبر عسى أنْ تزلَّ به إحدى قائمتيه، وتثبت الأخرى فترجعا حتى تثبتا جميعاً. ألا إنّ مَثَلَ آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم كمثل نجوم السّماء، إذا خوى نجمٌ طلع نجم، فكأنّكم قد تكاملت من الله فيكم الصّنائع، وأراكم ما كنتم تأملون].

يضمّ نشركم: يصل متفرّقكم. قائمتيه: رجليه. خوى: غاب.

وهذا الكلام فسّره الكثير على أنّه يعني به «الإمام المهدي المنتظر» روحي فداه وعجل الله تعالى فرجه وظهوره الشريف.

وقبل هذا الكلام، كان أمير المؤمنين يتحدّث عن نفسه الشريفة.

قال: [ فإذا أنتم ألنتم له رقابكم، وأشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموتُ فذهب به، فلبثتم بعده ما شاء الله].

ويقصد نفسه، أي أطعتموه وأجللتموه، ثمّ أخبرهم بموته، وأنّهم يلبثون بعده ولم يحدّد ذلك بوقت و قال: ما شاء الله، ثمّ يُطلع الله منْ يجمعهم ويضمّهم، وهو إشارةً واضحة للإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه).

وقوله: فلا تطمعوا في غير مقبل، ولا تيأسوا من مدبر: أنّه نهاهم أنْ يطمعوا في صلاح أمورهم على يد رئيس غير مستأنف الرئاسة، وهو معنى مقبل، أي قادم، فكلّ الرئاسات التي تشاهدونها لا تطمعوا في صلاح أموركم على يدها، إنّما ذلك يكون على يد هذا المقبل الموعود، الذي هو المهدي (عجل الله تعالی فرجه).

ولا تيأسوا من مدبر: أراد أنّ منّا إذا تضطرب أو تزل إحدى رجليه

ص: 145

ثبتت الأخرى فثبتت الأولى وتنتظم أموره، فلا تحاربوا أحداً منّا، ولا تيأسوا من إقبال من يدبر أمره منّا. ثمّ ذكر أنّهم أي أهل البيت علیهم السلام کنجوم السّماء، كلّما خوى نجمٌ طلع نجم. وقد وعد علیه السلام بقرب الفرج، وأنّ ما تأملون به أمرٌ قد قرب وقته، وهذا على نمط المواعيد الإلهيّة بقيام الساعة، فكلّ الكتب المنزلة صرّحت بقرب وقوعها، وإنْ كانت عندنا بعيدة، فالبعيد في معلوم الله قريب، وقد قال سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا 6 وَنَرَاهُ قَرِيبًا 7) (1).

وفي جزءي الحديث الذي ذكرناه لأمير المؤمنين علیه السلام، فيه إخبارٌ منه بالملاحم: الأوّل عن المهدي وظهوره وصفته والثاني، إعلامهم أنّهم سيفارقونه ويفقدونه بعد اجتماعهم عليه، وطاعتهم له. وهكذا وقع الأمر، فقد نُقل أنَّ أهل العراق لم يكونوا أشدَّ اجتماعاً عليه وطاعةً له (عجل الله تعالی فرجه) من الشهر الذي قُتل فيه. وجاء في الأخبار أنّه عقد للحسن علیه السلام ولأبي أيّوب الأنصاري وسعد بن قيس وغيرهم حتّى اجتمع له مائة ألف سيف، وتهيّاً للخروج إلى الشام، فضربه اللعين ابن ملجم، فكان من أمره ما كان، وانفضَّ من حوله جمعهم، وكأنّهم غنمٌ فقدت راعيها.

روي عن أمير المؤمنين علیه السلام قوله عن المهدي (عجل الله تعالی فرجه): إنّه من من ولد الحسين، - وذكر حليته - فقال: أجلى الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أزيل الفخذين، أبلج الثنايا، بفخذه اليمنى شامة. ذكر هذا الحديث عبدالله بن قتيبة في كتاب «غريب الحديث».

* * *

ص: 146


1- سورة المعارج، الآيتان: 6، 7.

(15) إخباره عن الضلّيل

من الخطبة 100 الصفحتان 222 و 223، وهي من الخطب المشتملة على الملاحم.

كان أمير المؤمنين علیه السلام، في بعض خطبه، يُخبر بالملاحم، ويذكر الأخبار التي ذكرها له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولم يكن جميع من يستمع إليه من أصحاب اليقين والإيمان، أو من العارفين بمنزلة الإمام، ومكانته العلميّة السامية التي تؤهله لحمل مثل هذه العلوم. فكان منهم من يُنكر عليه ما يقوله، أو يتّهمه بادعاء الغيب من نفسه، ومنهم من لم يصرّح بذلك، فينظر بعضهم لبعضٍ تغامزاً بالإنكار لما يقول، وغير ذلك. لهذا فإنّه علیه السلام طالما كان يذكّرهم أنّه لا يقول إلّا عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، ومنه قوله: [فوالّذي فلق الحبّة وبرأ النَّسَمَةَ إِنّ الذي أُنبّئكم به عن النبيّ الأميّ صلی الله علیه و آله و سلم. ما كَذَبَ المبَلَّغ، ولا جهل السّامع].

فلق الحبّة: أي شقها وأخرج منها الورق الأخضر، قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ) (1).

برأ النسمة: أي خلق الإنسان. يقول ابن أبي الحديد: وهذا القَسَم، أي: «فلق الحبّة وبرأ النَّسَمَةَ»، هو من مبتكرات أمير المؤمنين ومبتدعاته، وكان دائماً يُقسم به.

والمبلّغ والسامع هو نفسه علیه السلام، أي: ما كذبتُ على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تعمّداً، ولا جهلتُ ما قاله فأنقل عنه خطاً.

ثمّ يقول: [ ولكأنّي أنظر إلى ضلّيلٍ قد نعق بالشام، وفحص براياته 5.

ص: 147


1- سورة الأنعام، الآية: 95.

في ضواحي كوفان، فإذا فغرت فاغرتُهُ، واشتدّت شكيمته، وثقُلت في الأرض وطأتُهُ، عضَّت الفتنةُ أبناءها بأنيابها وماجت الحرب بأمواجها، وبدا من الأيام كلوحها، ومن الليالي كدوحها. فإذا أينع زرعه، وقام على ينْعِهِ، وهَدرتْ شقاشِقُهُ، وبَرقتْ بوارقه، عُقدت راياتُ الفتن المعضلة، وأقبلْن كالليل المظلم، والبحر الملْتطم، هذا وكم يخرقُ الكوفة من قاصف ويمرُّ عليها من عاصف، وعن قليل تلتفُّ القرون بالقرون، ويُحْصَدُ القائمُ، ويُحطمُ المحصود]

ضلّيل: شديد الضلال مبالغٌ فيه. النعيق: صوت الراعي بغنمه. فحص براياته: يُريد أنّه نصب له رايات بحثت لها في الأرض مركزاً. كوفان: هي الكوفة، والكوفة في الأصل: اسم الرملة الحمراء، وبها سُمّيت الكوفة. فغرت فاغرته: فتح فاه. كناية عن الافتراس، كما يفتح الأسد فاه عند الافتراس.

الشكيمة: شديد المراس، شديد النفس، و الشكيمة في الأصل: حديدة معترضة في اللّجام في فم الدابّة. كلوح: عبوس. والكدوح: آثار الجراحات، واحدها كدح وهو الخدش.

وقصد بقوله: «من الأيّام» ثمّ قال: «من اللّيالي»، أي أنّ هذه الفتنة مستمرّة، لأنّ الزمان ليس إلّا النهار والليل.

أينع زرعه: حان قطافه. وقام على ينعه حالة نُضجه. هدرت شقاشقه: الشِقشقة: مثل الرئة يُخرجه البعير من فيه إذا هاج. وبرقت بوارقه: سيوفه ورماحه. يخرق الكوفة: يقطعها. والقاصف: الريح القويّة تكسر كلّ شيءٍ تمرُّ عليه.

وهذا كلّه كناية عن عبدالملك بن مروان فهذه الصفات التي ذكرها

ص: 148

هي فيه أتم منها في غيره. فقد قام بالشام عندما دعا لنفسه، وهذا معنى نعيقه. فحصت رایانه: تارة حين شخص إلى الكوفة وقتل مصعباً، وتارة عندما استخلف الأمراء عليها. واشتداد وطأته، بإمارة الحجّاج على الكوفة. وتفاقم الفتن مع الخوارج، وعبدالرحمن بن الأشعث. وعندما كمل أمر عبدالملك، وهو معنى قوله: «أينع زرعه» هلك، وهاجت الفتن بعده، كحروب أولاده مع بني المهلّب ومع زيد بن علي علیه السلام، والفتن القائمة بالكوفة أيّام يوسف بن عمر، وخالد القسري، وغيرهم. وما جرى من استئصال الأموال وذهاب الأنفس.

وقال بعضهم، إنّه علیه السلام كنّى عن معاوية بن أبي سفيان وما حدث في زمانه من فتنٍ وأحداث يزيد وعبيد الله بن زياد، وما كان من واقعة قتل الحسين علیه السلام، وغيرها.

والأوّل: أرجح لأنّ معاوية في أيّام أمير المؤمنين علیه السلام، كان قد نعق في الشام، ودعاهم إلى نفسه، وكلام الإمام يدلُّ على أنّ الناعق يأتي بعده.

ثمّ وعد علیه السلام بظهور دولة أخرى، فقال: وعن قليل تلتفّ القرون بالقرون، وهو كناية عن دولة بني العباس وظهورها على دولة الأمويين. والقرون: واحدها قرن وهو الأجيال من الناس.

ويحصد القائم، ويحطم المحصود: إخبار منه علیه السلام عن قتل الأمراء من بني أميّة في الحرب وقتل المأسورين منهم صبراً.

فحصد القائم: قتل المحاربة منهم. وحطم الحصيد: القتل صبراً، وهكذا وقعت الحال مع عبدالله بن عليّ، وأبي العباس السفّاح.

* * *

ص: 149

(16) فتنْ كقطع اللّيل المظلم

من كلام له رقم 101 الصفحتان،223، 224، يُنذرُ فيه صلوات الله عليه بظهور الفتن الشديدة فيقول: [فتنٌ كقطع الليل المظلم لا تقوم لها قائمة، ولا تُردُّ لها راية، تأتيكم مزمومة، مرحولة، يحفزُها قائدها و يُجهدُها راكبها، أهلها قومٌ شديدٌ كَلَبُهُمْ، قليلٌ سَلَبُهُم يُجاهدهم في سبيل الله قومٌ أذلَّةٌ عند المتكبّرين، في الأرض مجهولون، وفي السّماء معروفون، فويلٌ لك يا بصرةُ عند ذلك من جيشٍ من نقم الله، لا رهج له ولا حَسَّ وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر].

لا تقوم لها قائمة: لا تثبت لمعارضتها قائمة خيل، أي لا سبيل إلى قتال أهلها. مزمومة مرحولة: تامّة الأدوات وكاملة الآلات كالناقة التي عليها رحلها و زمامها. يحفزها: يدفعها.

يجهدها: يحمل عليها فوق طاقتها. و الكلب: الشدّة. السلب: ما يأخذه القاتل من المقتول، من سلاح وغيره، والمراد أنّ همّهم القتل لا السلب أي ليسوا من أهل الثروة.

الرهج: تحرّك الغبار. والحَسّ: الجلبة والأصوات.

الموت الأحمر: كناية عن الجوع والوباء. الأغبر: كناية عن المحل ووصف الجوع بالأغبر، لأنّ الجائع يرى الآفاق مغيّرة.

واختلفت الآراء في تفسير هذا الفصل فقومٌ قالوا إنّه أشار إلى الملائكة بقوله: «مجهولون في الأرض، معروفون في السماء»، ولكن لفظ «أذلّة عند المتكبّرين» يُبعد هذا الوصف.

وفسّره قومٌ بأصحاب الزنج، وفتنة صاحبهم وهو علي بن محمد بن

ص: 150

عبد الرحيم من بني عبدالقيس، ادّعى أنّه علوي ومن أبناء محمد ابن أحمد ابن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين والتفّ حوله الزنوج الذين كانوا في السّباخ المحيطة بالبصرة، وخرج بهم على المهتدي العباسي سنة 255 ه، وكثر أصحابه واستفحل أمره وملك «أبله» وفتك بأهلها، واستولى على «عبادان» و «الأهواز» وسمّى عاصمته «المختارة»، وقد قتله الموفّق أخو المعتمد بعد معارك شديدة وحصار طويل. وقد فرح الناس بقتله أشدّ الفرح، لانكشاف رزئه عنهم. وقال البعض إنّ هذا بعيد لأنّ أصحاب صاحب الزنج كانوا شديدي السلب والنهب ولأنّ الإمام علیه السلام أنذر أهل البصرة بهذا الجيش عند حدوث الفتن، ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتنٌ شديدة على ما وصفه أمير المؤمنين علیه السلام.

وسيأتي ذكر صاحب الزنج في ملاحم أخرى ذكرها الإمام علیه السلام، وربّما هذا إنذار بملحمة تجري في آخر الزمان تخصُّ البصرة أكثر من سواها، والله أعلم.

* * *

(17) وصف آخر الزمان

من الخطبة رقم 102 الصفحة 226، يُزهّدُ في الدنيا، ويصف الناس وأخلاقهم في بعض الأزمان، فيقول: [ وذلك زمانٌ لا ينجو فيه إلّا كلُّ مؤمن نُوَمَةٍ، إنْ شهد لم يُعرف، وإنْ غاب لم يُفتقد، ... سيأتي عليكم زمانٌ يُكفأُ فيه الإسلام كما يُكفأُ الإناءُ بما فيه].

نومة كثير النوم، وقصد به البعيد عن الأشرار ومشاركتهم في شرورهم. ثمَّ ذكر أنّه سيأتي على الناس زمانٌ تنقلبُ فيه الأمور الدينيّة إلى أضدادها ونقائضها، وقد شهدنا ذلك عياناً.

ص: 151

ولأمير المؤمنين علیه السلام، الكثير من قبيل هذه الأوصاف للأزمنة التي تلته علیه السلام، وقد تحقّق ما قاله

وبموجب ما وصفه.

* * *

(18) نهاية الأمويين

من الخطبة رقم 104 الصفحة 229، قوله علیه السلام: [فأقسمُ بالله يا بني أميّة عمّا قليل لتعرفنَّها في أيدي غيركم وفي دار عدوّكم].

في هذا القسم خاطب بني أميّة وصرّح لهم بأنّ ملكهم سيزول ويصير بيد عدوّهم، ووقع الأمر بموجب ما أخبر علیه السلام فبعد أنْ بقي الأمر في أيدي بني أميّة تسعين عاماً، عاد إلى البيت الهاشمي، وانتقم الله منهم على يد أعدائهم شرَّ انتقام.

وكان آخر خلفاء بني أميّة «مروان بن محمد» الملقّب بالحمار، وقد سار إليه عبد الله بن علي بن عبدالله بن العباس في جيش عظيم والتقيا بالزاب من أرض الموصل، وهُزم مروان، واستولى عبدالله على عسكره وقتل من أصحاب مروان خلقاً كثيراً.

وفرّ مروان هارباً إلى الشام وعبدالله يتبعه، حتى صار إلى صعيد مصر، فتبعه عبدالله وقتله هناك، وقتل خواصّه وأتباعه وبطانته وكان عبدالله قد قتل على نهر أبي فُطرس من بلاد فلسطين قريباً من ثمانين رجلاً، وكذلك أخوه داود بن علي قتل في الحجاز من بني أميّة قريبٌ من هذا العدد.

ومما يُروى عن مهلكة بني أميّة على أيدي بني العباس ما جاء في «الكامل»: دخل شبل بن عبدالله مولى بني هاشم على عبدالله بن علي، وقد أجلس ثمانين من بني أميّة على سمط الطعام، فأنشد:

ص: 152

أصبح الملكُ ثابتَ الأساسِ *** بالبهاليل من بني العباسِ

طَلَبوا وتر هاشمٍ وشَفَوْها *** بعد مَيْلٍ من الزَّمانِ وياسِ

لا تُقيلنَّ عبد شمسٍ عِثاراً *** واقطعَنْ كلَّ رَقْلةٍ وأواسي

واذكروا مصرع الحسين وزيدٍ *** وقتلاً بجانب المهراسِ

نعم شبلُ الهراش مولاكَ شبلٌ *** لونجا من حبائل الإفلاس

فأمر عبدالله فشدخوا بالعَمَد، ووضعت البُسطُ عليهم، وجلسوا فوقهم، ودعا بالطعام، وإنّه ليسمع أنينهم حتّى هلكوا بأجمعهم. ويُروى هذا الشعر وحادثته إلى سُدَيف مولى آل أبي لهب، قاله في حضرة أبي العباس السفاح، يروي ذلك أبو الفرج.

أما رواية المبرّد في «الكامل»، أنّ سُديفاً لم يقم هذا المقام ولكن كان له مقام آخر: دخل على أبي العباس السّفاح وعنده سليمان بن هشام ابن عبد الملك، فأنشد:

لا يَغُرَّنْكَ ما ترى من رجالٍ *** إِنَّ تحت الضُّلوعِ داءً دویّا

فضع السّيف وارفع السوط حتّى *** لا ترى فوق ظهرِها أمويّا فقال:سليمان ما لي ولك أيّها الشيخ! قتلتني قتلك الله! فقام أبو العباس، فدخل وإذا الحبل قد أُلقىَ فى عُنق سليمان، ثمّ جروه وقتلوه.

وجاء في الخطبة رقم 105 الصفحة 233، ما يتصل بزوال ملك بني أميّة، قوله علیه السلام: [وايم الله لو فرَّقوكم تحت كل كوكب، لجمعكم الله لشرِّ يومٍ لهم ].

يقسم علیه السلام بالله: إنّ أهل الشام لو فرّقوكم تحت كل كوكب فإنّ الله سيجمعكم لشر يومٍ لهم: أي لبني أميّة، وكنّى بذلك عن ظهور المسوّدة

ص: 153

وانتقامهم من أهل الشام والأمويين، والمسوّدة المنتقمة منهم عراقيّة وخراسانيّة.

وحصل ذلك بموجب إخباره علیه السلام كما ذكر.

* * *

(19) ظهور السّفياني

الخطبة 107 الصفحة 235 وما بعدها وهي من خطب الملاحم.

منها يقول علیه السلام: [رايةُ ضلالٍ قد قامت على قُطبها، وتفرّقت بشعبها، تكيلكم بصاعها، وتخبطكم بباعها، قائدُها خارجٌ من الملَّة، قائمٌ على الضِّلَّة، فلا يبقى يومئذٍ منكم إلا ثُفالةٌ كثفالة القِدْرِ، أو نُفاضةٌ كنفاضة العِكْمِ تعرككم عرك الأديم، وتدوسكم دَوْسَ الحصيد].

قامت على قطبها: انتظم أمرها، واستحكمت قوّتها، أو المعني بالقطب: الرئيس الذي يدور عليه الأمر.

شُعَبها: جمع شعبة، أي انتشرت بفروعها. تكيلكم: تأخذكم للهلاك جملة، كأخذ الكيّال للحبّ الذي يوزنه. تخبطكم: من خبط الشجر، أي ضربه ليتناثر ورقه، أو من خبط البعير بيده الأرض. وعبّر بالباع: كناية عن الاستطاعة والاستطالة والقدرة على تناولها للقريب والبعيد. الثّفالة: ما استقرّ من كدر، وثفالة القدر: ما بقي في قعره من عكارة، والمراد: الأرذال والسّفلة.

النفاضة: ما يسقط بالنفض. والعِكم: العِدل. تعرككم: من عركت

الشيء، أي دلكته بشدّة. الأديم: الجلد. والحصيد: الزرع المحصود. يذكر علیه السلام هنا ما يحدث في آخر الزمان من الفتن كظهور السفياني

ص: 154

وغيره وعلى ما روت الأخبار عن السفياني وفتنته، مقاربٌ لما ذكره أمير المؤمنين في هذا المقطع من خطبة الملاحم.

وقد أشار ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الخطبة على ظهور السفياني، وربطه بقول: «راية ضلال»، ولم يتوسّع بذكر أخبار عن السفياني، وهي مذكورة يمكن للراغب أنْ يأخذها من مظانِّها.

ويمكن عطف لفظ راية «ضلال على» كلّ راية من رايات الضلال التي ظهرت في مجتمع الإسلام، وأخذت باثباج الناس، وموّهت عليهم الحقائق، وأفسدت الأمور، وأبعدتهم عن طاعة الله، واستغلّت ذلك كلّه لمنافع وأغراض دنيويّة، وأطماعٍ دنيّةٍ.

* * *

(20) غُلامُ ثقيف

في الخطبة رقم 115 الصفحة 257، قوله علیه السلام:

[ أما والله ليُسلّطنَّ عليكم غلامُ ثقيفٍ الذّيّالُ الميّال يأكل خَضِرتكم، ويُذيبُ شحمتكم. إيهٍ أبا وَذَحَةَ!].

غلام ثقيف: هو الحجّاج بن يوسف «لعنه الله». الذّيّال: الطويل القدّ، الطويل الذيل، وأصله: التائه من ذال أي تبختر، والميّال الظالم.

يأكل خضرتكم: يستأصل أموالكم. يُذيب شحمتكم: مثل سابقتها وكلتا اللفظتين استعارة.

وقوله: إيهِ أبا وَذَحَة؛ إيهٍ: كلمة يُستزاد بها من الفعل، تقديره: زِد وهات ما عندك، وضدّها إيهاً، أي كُفَّ وأمسك.

قال الرضيّ: والوذحة: الخنفساء.

ص: 155

وقال المفسرون في قصّة الخنفساء وجوهاً منها: أنّ الحجّاج رأى خنفساء تدبُّ بقربه فطردها وعادت ثانية، ثمّ طردها وعادت، فتناولها بیده فقرصته وورمت يده منها، حتّى كان حتفه من ذلك. فقتله الله تعالى بأهون مخلوقاته، كما قتل نمرود بالبقّة التي دخلت أنفه.

ومنها أنّه إذا رأى خنفساء تدبُّ قريبة منه، أمر غلمانه أن يبعدوها، ويقول: هذه وذحة من وذح الشيطان، تشبيهاً لها بالبقرة.

ومنها أنّ الحجّاج رأى خنفساوات مجتمعات فقال: عجباً لمن يقول إنّ الله خالق هذه! فقيل له: ومن خلقها إذاً؟ قال: الشيطان، فإنّ ربّكم أعظم شأناً أنْ يخلق هذه الوذح. وقد كفّره الفقهاء في عصره.

ومنها أنّ الحجاج كان مثفاراً - وهو نعت سوء - وكان يُمسك الخنفساء وهي حيّة ليشفي بحركتها في الموضع حكاكه. قالوا: ولا يكون صاحب هذا الداء إلّا شائناً مبغضاً لأهل البيت علیه السلام.

سُئل جعفر بن محمد علیه السلام عن هذا الصنف من الناس، فقال: رحمٌ منكوسة، يُؤتى ولا يأتي وما كانت هذه الخصلة في وليّ لله تعالى قط، ولا تكون أبداً، وإنّما تكون في الكفّار والفسّاق والناصبين للأطهار. وكان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي منهم، وهو أشدّ الناس عداوة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر: يا مُصفّر أسْته.

يقول ابن أبي الحديد في شرحه: إنّ أمير المؤمنين بقوله: «إيهٍ أبا وذحة»، على شيئاً آخر، هو أنّ العرب من عادتهم إذا أرادوا تعظيم إنسانٍ كنّوه بما هو مظنّة التعظيم، كقولهم: أبو الهول، وأبو المقدام وأبو المغوار، وإذا أرادوا تحقيره والنقص فيه، كنّوه بما يُستهان به، كقولهم في كنية يزيد بن معاوية: أبو زنّة يعنون القرد وفي كنية سعيد بن حفص

ص: 156

البخاري المحدث: أبو الفار، ولعبد الملك: أبو الذّبّان لبَخَره، ومثل قول ابن بسّام لبعض الرؤساء:

فأنتَ لعمري أبو جعفرٍ *** ولكنّنا نُحذف الفاء منهُ

وقال أيضاً:

لئيم درنُ الثوب *** نظيفُ القعب والقِدْرِ

أبو النَّتْنِ أبو الذَّفْرِ *** أبو البعْرِ أبو الجَعْرِ

فلمّا كان أمير المؤمنين علیه السلام يعلم من حال الحجّاج نجاسته بالمعاصي والذنوب والآثام، التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمثابة البعر الملتصق بشعر الشاة، كنّاه «أبو وذحة»، ويمكن أيضاً لدمامته وحقارة منظره، وتشوّه خلقته، فقد كان قصيراً دميماً نحيفاً، أخفش العينين معوّج الساقين، قصير الساعدين، مجدور الوجه فكنّاه بأحقر الأشياء، وهو البعر.

وروى قومّ هذه اللفظة بصيغ أخرى، منها: «إيهٍ أبا ودجة» مفرد أوداج، كنّاه بها لأنّه كان ذبّاحاً قتّالًاً يقطع الأوداج بالسيف. ومنها: «أبا وحرة» وهي دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر، فشبّهه بها.

ولقد روى التاريخ من قصص الظلم والجور وسفك الدماء والإسراف في زهق الأرواح والفساد من قبل الحجّاج ما تشمئزُّ منه النفوس، وتحار فيه العقول، وكتب السير فيها الشيء الوفير من هذه القصص، ما لا يُحصى من روايات جرائمه وعسفه و فساده في الأرض، وفي عباد الله الذين أكل خضرتهم و أذاب شحمتهم، كما وصف أمير المؤمنين سلطان هذا السفّاح.

ص: 157

(21) فتنة صاحب الزنج

من كلامه رقم 126 الصفحة 274، يُخبر فيه عن ملاحم في البصرة، يقول: [كأنّي به وقد سار بالجيش الّذي لا يكون له غبارٌ ولا لجبٌ، ولا قعقةُ لُجُم، ولا حمحمة خيل، يُثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدامُ النَّعام ويلٌ لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النّسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يُندبُ قتيلهم، ولا يُفتقد غائبهم].

اللجب: الصوت، أو الصياح. اللجم: جمع لجام. وقعقعتها: ما يُسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل.

الحمحمة: صوت البرذون. السكك: جمع سكّة، وهو الطريق المستوي، وهذا إخبار عمّا يصيب تلك السكك من تخريب على يد صاحب الزنج. أجنحة الدور: رواشنها، وفي تعبير هذا الزمان ما يطلق على «البالكون». خراطيمها: ميازيبها.

وقوله: لا يُندب قتيلهم: ذلك لأنّ أكثر الزنج كانوا من العبيد، وكانوا عزّاباً فلا نادية لهم. وقوله: لا يُفتقد غائبهم: يُريد كثرتهم، وأنّهم

كلّما قُتل منهم أحد، سدّ مكانه آخر، فلا يظهر أثر فقده.

هذا وإنّ خبر صاحب الزنج ورد في حديث سبق، ونذكر هنا لمحاً من أخباره: فقد ظهر سنة 255 ه في البصرة، وهو من عبد قيس، واسمه عليّ بن محمد بن عبدالرحيم، وأمّه أسديّة من أسد بن خزيمة، جدّها محمد بن حكيم الأسدي من أهل الكوفة. كان مع زيد بن علي، ولمّا قُتل زید، هرب ولحق بالرّيّ وجاء إلى القرية التي يُقال لها ورزنين، وبهذه القرية ولد عليّ بن محمد، وبها منشؤه.

ص: 158

وصاحب الزنج هذا كان متّصلاً بجماعة من حاشية السلطان يعلّم أولادهم النحو والخط والنجوم وكان حسن الشعر، فصيح اللهجة، بعيد الهمّة، تسمو نفسه إلى المعالي، ولا يجد إليها سبيلاً. وكان ظاهر حاله يذهب إلى مذهب الأزارقة، في قتل النساء والأطفال والشيوخ والمرضى. ومن الناس من يطعن في دينه ويرميه بالزندقة والإلحاد، وهذا هو الظاهر من أمره، كما ذكر المسعودي في «مروج الذهب»، وأنّه في بدايته كان متشاغلاً بالسحر والتنجيم. وقد زعم أنّه «عليّ بن محمد بن أحمد بن عیسى بن علي بن الحسين علیه السلام، فتبعه الزّنج الذين كانوا يكسحون السّباخ في البصرة. وكانت له وقعات معروفة مع أهل البصرة يُهزم فيها تارة، وينتصر أخرى، حتّى كان يوم يُدعى بيوم «الشّذا» (1) المذكور في أشعار لناس، وقد عظّموا ما فيه من القتل، فقد قُتل فيه جمعاً كثيراً من أهل البصرة، وأقام مع أصحابه في السّباخ، وهو يُغير مرّة ويكمن مرّة، حتّى حاز على الأبلّة في شهر رجب من سنة 256 ه، وأحرقها و قتل من أهلها خلقاً كثيراً، وانتهب الأموال، واستسلم أهل عبّادان بعدها لصاحب الزنج. ثمّ بعد عبّادان دخل الزنج الأهواز، وفعلوا فيها كعادتهم مثل ما فعلوا في «إيلّة» من حرق ونهب وسلب وقتل.

ثمّ كان بين الزنج وأصحاب السلطان بالأهواز وقعات كثيرة، كان الظفر فيها لصاحب الزنج. وتوالت حروبهم وفسادهم في الأرض مدّة طويلة من الزمن، ضجّ الناس فيها من ظلمهم وإسرافهم في القتل والنّهب حتّى دخلت سنة سبعين ومائتين في زمن المعتمد، وكان قد أرسل إلى حرب الزنج أخاه الموفق «أبو أحمد» طلحة بن المتوكَّل، وكان عارفاً بالحرب وقيادة الجيوش مؤيّداً منصوراً، وهو الذي أخذ بغداد للمعتز، .

ص: 159


1- الشذا: واحدتها شذاة وهي لفظة ليست بعربية وهي ضربٌ من السفن.

وكسر جيوش المستعين، وخلعه من الخلافة، وعقد له المعتمد على ديار مضر وقنّسرين والعواصم وشخص نحو البصرة سنة سبع وخمسين ومائتين.

ودارت بين «أبو أحمد» وصاحب الزنج وقائع ومعارك ومنازلات كان الأمر فيها سجالاً بينهما، حتّى سنة سبعين ومائتان وقد كثرت إمدادات الموفّق بالجيوش والعتاد والمؤن حتّى تحقّق له النصر على صاحب الزنج وأتباعه، وقُتل هو ومن كان معه من قوّاده وخواصّه، وحُمل رأس صاحب الزنج إلى الخليفة وبذلك انتهت حركتهم وخفيَ أمرهم، وولّت فتنتهم.

وفي نفس كلامه ذي الرقم 126 الصفحة 275 يومىء به إلى وصف الأتراك.

يقول علیه السلام: [كأنّي أراهم قوماً كأنَّ وجوههم المجانُّ المطرَّقة، يلبسون السَّرَق والدّيباج ويعتقبون الخيل العتاق، ويكونُ هنالك استمرارُ قتلٍ حتّى يمشي المجروحُ على المقتول، ويكونُ المفلت أقلَّ من المأسور].

المجان: جمع مجنّ وهو الترس. المطرّقة: أي يُطرق بعضها على

بعض كالنعل المطرقة أو المخصوفة، والمراد مظاهرة الشيء بعضه بعضاً. السَّرق: الحرير. يعتقبون: يحتسبون كرائم الخيل ويمنعونها غيرهم. استمرار القتل: اشتداده.

وهذا الغيب الذي أخبر به علیه السلام، تحقق بخروج التّتار من أقاصي المشرق، حتّى وردت خيلهم العراق والشام.

يقول ابن أبي الحديد في تعرضه لهذا المقطع من كلام أمير

ص: 160

المؤمنين علیه السلام: «القد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناسُ ينتظرونه من أوّل الإسلام»، ويُعقّب بحديثه عن أفعالهم وما لاقته بلاد المشرق بأكملها وسواها من فتكهم فيقول: «وفعلوا بملوك الخطا - صنفٌ أصناف الأتراك - وقفجاق، وبلاد ما وراء النهر وخراسان وما والاهما من بلاد العجم، ما لم نحدّث التواريخ منذ خلق آدم إلى عصرنا هذا - عصره هو، أي ابن أبي الحديد - على مثله، فإنّ بابك الخُرَّميّ لم تكن نكايته وإنْ طالت مدّته نحو عشرين سنة إلّا في إقليم واحد وهو أذربيجان، وهؤلاء دَوّخُوا المشرق كلّه، وتعدّت نكايتهم إلى بلاد إرمينيّة وإلى الشام، ووردت خيلهم إلى العراق. وبُختَ نصّر الذي قتل اليهود إنّما أخربَ بيت المقدس، وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل. وأيّ نسبة بين مَنْ كان في بيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء، وإلى الناس الّذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم.

* * *

(22) الفئةُ الباغية

من كلام له رقم 135 الصفحة 285، قوله: [وإنّها للفئةُ الباغية فيها الحَمّأُ والحُمَّةُ، والشُّبهةُ المغدقةُ].

الحماً: مطلق القريب والنسيب، وهو كناية عن الزبير بن العوّام، فإنّه من قرابة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ابن عمّته. قالوا وكان النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم قد أخبر عليّاً علیه السلام أنّه ستبغي عليه فئة فيها بعض أحمائه وإحدى زوجاته، وهي المقصودة «بالحمة»، وأصلها الأبرة اللاسعة من الهوام، أو سمّ العقرب.

الشبهة المغدقة: الشبهة الساترة أي أنّ شبهة الطلب بدم عثمان شبهة ساترة للحقّ. يقول ابن أبي الحديد:

ص: 161

وقوله علیه السلام: وإنّها للفئةُ الباغية، لام التعريف في «الفئة» تُشعر بأنّ نصّاً قد كان عنده أنّه ستخرج عليه فئة باغية، ولم يُعيَّن له وقتها ولا كلّ صفاتها، بل بعض علاماتها، فلمّا خرج أصحاب الجمل ورأى تلك العلامات موجودة فيهم، قال: وإنّها للفئة الباغية أي وإنّ هذه الفئة، الفئة التي وّعدت بخروجها عليّ.

ولولا هذا لقال: «وإنّها لفئةٌ باغية» على التنكير. ثمّ ذكر بعض العلامات، فقال: إنّ الأمر لواضح، كلّ هذا يؤكّد به عند نفسه وعند غيره أنّ هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها، وقد زاح الباطلُ عن نصابه، وخرس لسانه بعد شعبه.

وهذا استنتاج جيد وتحليل صائب لقوله علیه السلام: «وإنّها للفئة الباغية».

وقد وردت أحاديث عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، منها قوله: يا علي ستقاتل من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين وغير ذلك، وقد عنى بالناكثين هنا هم أهل الجمل «الفئة الباغية».

* * *

(23) الإمام الموعود

من خطبة له رقم 136 الصفحة 286، قوله:

(يعطفُ الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطفُ الرأيَ على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي].

هذه إشارة واضحة إلى إمامٍ يُظهره الله تعالى في آخر الزمان، وهو الموعود به في الأخبار والآثار هكذا يُفسرها ابن أبي الحديد ولكنّه يقول بدل يُظهره الله يخلقه الله، لأنّه من المعتزلة، والمعتزلة يعتقدون

ص: 162

بكلّ ما جاء عن المهدي (عجل الله تعالی فرجه)، ويقرّون جميع أحاديث التبشير به، إلّا أنّهم لا يقولون بوجوده الآن ولكن سوف يخلقه الله في آخر الزمان.

ومعنى يعطف الهوى: يُقهره ويُثنيه ويعمل بالهدى، فيجعله قاهراً

له، ومنتصراً عليه.

ويعطف الرأي على القرآن: يُقهر حكم الرأي والقياس ويعمل عمل القرآن.

وفي نفس الخطبة في الصفحة 287، يذكر علیه السلام الأخبار المعنيّة بظهور عبدالملك بن مروان في الشام وملكه العراق، وما قتل من العرب فيها أيّام عبدالرحمن بن الأشعث، وأيّام مصعب بن الزبير. وما يكون من ظلمه وظلم أولاده حتّى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها ويقوموا بالأمر، ويزيلوا تلك الدولة التي كرهها الله تعالى، وأذن في انتقالها. وقد جرى مثل هذا القول وهذه الأخبار في أحاديث سابقة تتعلق بمروان ودولته ودولة الأكبش الأربعة.

قوله علیه السلام: [كأنّي به قد نعق بالشّام وفحص براياته في ضواحي كوفان فعطف عليها عطف الضّروس، وفرش الأرض بالرؤوس، قد فغرت فاغرته، وثقُلت فى الأرض وطأته].

فحص: بحث. الضّروس: الناقة السيئة الخُلق تعضُّ حالبها. وفرش الأرض بالرؤوس: أي غطّاها كما تُغطّى الأرض بالفراش، وهو كناية عن شدّة بطشه وعظيم جرمه، وسفكه للدماء، هو وأولاده، وولاته أمثال: الحجّاج سيّىء الصيت.

* * *

ص: 163

(24) ما بعد الإمام علیه السلام

من الخطبة 145 الصفحتان 295 و 296 يصف الزمان الذي يأتي من بعده فيقول: [وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمانٌ ليس فيه شيءٌ أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعةٌ أبوَرُ من الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوته ولا أنفقُ منه إذا حُرّف عن مواضعه ولا في البلاد شيءٌ أنكرُ من المعروف، ولا أعرفُ من المنكر].

أبْوَر: أفسد، من بار الشيء، أي هلك. أنفق منه: أروجَ منه.

والوصف الذي ذكره أمير المؤمنين علیه السلام هو ما كان عليه زمن الأمويين والعباسيين وما تلا من ولايات الظالمين، وحكومات المستبدّين، وتأثير ذلك في نفوس الناس وابتعادهم عن الحقّ، وكثرة الكذب في الحديث، وهجر القرآن وأحكامه، وترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وغيرها من الأمور التي ذكرها سلام الله عليه.

يقول ابن أبي الحديد: وقد رأيناه ورآه من كان قبلنا أيضاً، أي الزمان الذي وصفه علیه السلام.

* * *

(25) السراج المنير

من الخطبة رقم 148 الصفحتان 299 و 300، وفيها ذكرٌ للملاحم. ففي أوّلها يومىء إلى فرق الضلال الذين ضلّوا عن الطريق الوسطى التي هي منهاج الكتاب والسنة.

ونهى عن استعجال ما هو معدّ، فلا بدّ من كونه وحدوثه، وأن لا

ص: 164

يستبطئوا ما يجيء في الغد القريب. ويُصرّح بظهور الفتن قبل قيام يوم القيامة الذي دنا وقته كما يذكر علیه السلام: [هذا إبّانُ ورود كلّ موعود ودنوٌّ من طلعة ما لا تعرفون] وإبّان الشيء: وقته وزمانه. والدنو: القرب، وهو إشارة لدنو يوم القيامة الموعود من الله تعالى.

ثمّ ذكر مهدي آل محمد (عجل الله تعالی فرجه) بقوله: [ألا ومن أدركها منا يَسْري فيها بسراجٍ منير، ويحذو فيها على مثال الصّالحين، ليحلَّ فيها رِبقاً، ويُعتق رِقّاً، وَيَصْدعَ شَعْباً، ويشعب صدعاً، في سترةٍ عن الناس لا يُبصرُ القائفُ أثره، ولو تابع نظره، ثمّ ليُشْحذنَّ فيها قومٌ شحذَ القَيْن النَّصْلَ، تُجلى بالتَّنزيل أبصارُهُم ويُرمى بالتفسير في مسامعهم، ويُغبَقون كأس الحكمة بعد الصَّبُوح].

الربق: عرى الحبل يحلّ، ويعتق، ويصدع، ويشعب: أي يُفرّق جمع الضلال ويجمع متفرّق الحقّ. القائف:الذي يعرف الآثار ويتبعها.

يشحذ: يحدّ. القين: الحدّاد. والنّصل: حديدة السيف والسّكين وما يشبهها.

تجلى بالتنزيل: يعودون إلى القرآن وتدبّره، فينكشف الغطاء عن أبصارهم فينهضون إلى الحقّ كما نهض أهل القرآن عند نزوله، ويعني بهم أصحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه) الذين يأتونه بأمر الله ومعجزته لينصروه ويؤيّدوه في إقامة دولة الحقّ والعدل والمساواة التي ينتظرها البشر فى كلّ أرجاء المعمورة، وهو تحقيق قول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: «فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»، ويأخذُ من الظالم حقّ المظلوم، وتنعم البشريّة بحكمه وتحت رايته بالخير والنّماء والبركة. يُغبقون: يُسقون كأس الحكمة صباحاً ومساءً، والمراد أنّهم تُفاض عليهم الحكمة الإلهيّة في جميع حركاتهم وسكناتهم وسرّهم وإعلانهم، وهي إشارة أيضاً لأصحابه الغرّ

ص: 165

الميامين وهم العارفون الذين جمعوا بين الزهد والحكمة والشجاعة وحقيقُ بمثلهم أنْ يكونوا أنصار وليّ الله وحجّته الذي اجتباه الله وجعله أماناً لأهل الأرض فيُظهره آخر الزمان ليكون خاتمةُ أوليائه، والذي يلقي عصا التكليف عنده.

ويعود علیه السلام في الصفحة 301 إلى ذكر أصحاب المهدي (عجل الله تعالی فرجه) بقوله: [ولم يَمُنّوا على الله بالصّبر ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحقّ، حتّى إذا وافق واردُ القضاء انقطاع مدّة البلاء، حَمَلوا بصائرهم على أسيافهم ودانوا لربّهم بأمر واعظهم].

حين يُنهضُ الله تعالى هؤلاء العارفين الشجعان الذين خصَّهم بحكمته، وأطلعهم على أسرار ملكوته، فنهضوا ولم يمنُّوا على الله بصبرهم، ولم يستعظموا أنْ يبذلوا أنفسهم في سبيله، فعندما يوافق قضاء الله وقدره بانتهاء مدّة الفتنة وارتفاع ما شمل الخلق من بلائها ومحنتها وقضاء الله وقدره أيضاً بنهوض هؤلاء العارفين مع إمامهم، حمل العارفون بصائرهم على أسيافهم بمعنى أنّهم أظهروا بصائرهم وعقائدهم وقلوبهم للناس، وكشفوها وجرّدوها من أجفانها كأنّها شيءٌ محمولٌ على السيوف يُبصره من يبصر السيوف، وفسّر أبصارهم: جمع بصرة وهو الدم كأنّه أراد طلبهم للثأر والدماء التي سفكها أهلُ الفتنة، وكأنّ تلك الدّماء المطلوبة محمولة على أسيافهم التي جرّدوها للحرب. وتأتي البصيرة أيضاً بمعنى: الترس أو الدرع.

* * *

(26) بلايا الفتن

في الخطبة رقم 149 الصفحتان 302، 303، يذكر أمير

ص: 166

المؤمنين علیه السلام ظهور الفتن وبلاياها التي تصيب الناس. واختلاف الأهواء، والتباس الآراء، حيث تغيضُ فيها الحكمة، وتنطق فيها الظّلمة.

يقول علیه السلام: [ثمَّ إنّكم معشرَ العرب أغراضُ بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النّعمة، واحذروا بوائق النّقمة، وتثبّتوا في قَتام العشوة واعوجاج الفتنة ... ثمَّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف، والقاصمة الزحوف، ... تهربُ منها الأكياس، ويُدبّرها الأرجاس].

أغراض: أهداف. البوائق: الدواهي. القَتام: الغبار.

العشوة: ركوب الأمر على غير بيان. اعوجاج الفتنة: عدولها عن المنهج. الرجوف: كناية عن الشدّة. والقاصمة الزحوف: الكاسرة، وسمّاها زحوفاً، تشبيهاً لمشيها قدماً بمشي الدّبي الذي يُهلك الزرع ويبیده.

يذكر علیه السلام الفتنة، وأنّها تبدو في أوّل أمرها وأربابها يمرحون ويشبّون

كما يشبُّ الغلام ويمرح، ثمّ تكبر وتكبر وتنتشر، ويتوارثها قومٌ من قوم، وكلّهم ظالم، أوّلهم يقود آخرهم، وآخرهم يقتدي بأوّلهم، فهو يحذو حذوه في الانغماس بالفتنة وإثارتها. ثمّ يأتي طالع الفتنة الرجوف: أي مقدّمتها وأوائلها، والرجوف: كناية عن شدّة الاضطراب فيها. يبتعد عنها أي عن الفتنة ويهرب منها الحاذق العاقل، ويديرها ويدبّرها الأشرار، وكنّى عنهم بالأرجاس.

وكم رأى الناس مثل هذه الفتن ومدبّريها والمروّجين لها، وحاملي راياتها في سائر الأزمان، وكما وصفها صلوات الله عليه وبموجب إخباراته عنها حتّى أنّها لا تنقضي حسب روايات أهل البيت علیهم السلام وروايات أهل العلم والمعرفة والحديث إلى أنْ يُظهر الله تعالى من يقصم

ص: 167

ظهر الفتن ويزيل الظلم والجور عن أهل الأرض، ويُشمل بعدله وقسطه كلّ البشر، وتعود حكومة الحقّ والإنصاف التي وعد الله بها عباده المخلصين الذين يرثون الأرض بأمره تعالى

* * *

(27) أخبرنا عن الفتنة

من كلام له رقم 154 الصفحة 313 قاله بعد أن سأله رجل: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عنها؟ فقال علیه السلام: [لمّا أنزل الله سبحانه (الم 1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 2) (1) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين أظهرنا ] إلى آخر كلامه عن إخبار النبيّ له عن الفتن وأهلها.

وقد ذكرنا هذا الحديث وتفصيلاته في الباب الأول من هذا الكتاب وتحت الرقم (33)، ولكن أحببت أن أضيف هنا رأي الشيخ محمد عبده رحمه الله في معرض شرحه لهذا المقطع، وتحقيقه عن إشكال الشارحين يكون الآية التي ذكرها علیه السلام مكيّة، والسؤال الذي سأله لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن الفتنة التي أخبره الله بها في الآية الكريمة، كان بعد أحد، ووقعتها كانت بعد الهجرة، وصعب عليهم التوفيق بين كلام الإمام وبين ما أجمع عليه المفسرون من كون «العنكبوت» مكيّة بجميع آیاتها، يقول محمد عبده في ذلك: والذي أراه أنّ علمه يكون الفتنة لا تنزل والنبيّ بين أظهرهم كان عند نزول الآية في مكّة، ثمّ شغله عن استخبار الغيب اشتداد المشركين على الموحّدين، واهتمام هؤلاء بردّ كيد أولئك ثمّ بعد ما .

ص: 168


1- سورة العنكبوت، الآيتان: 1، 2.

خفّت الوطأة، وصفا الوقت لاستكمال العلم، سأل هذا السؤال، فالفاء في «فقلت لرسول الله ... إلخ» لترتيب السؤال على العلم والعلم كان ممتدّاً إلى يوم السؤال، فهي لتعقيب قوله لعلمه والتعقيب يصدق بأن يكون ما بعد الفاء غير منقطع عمّا قبلها، وإنْ امتد زمن ما قبلها سنين، وهذا الاستنتاج يقابله رأيٌ آخر لابن أبي الحديد في هذه المسألة، بقوله: إنّ الآيتين 1، 2 من العنكبوت أُنزلت بالمدينة خاصّة، وأُضيفت إلى السورة فغلب عليها نسب المكيّ لأنّ الأكثر كان في مكّة، ومثل هذا في القرآن الحكيم كثير. وذكر أمثالاً لذلك.

وأمّا مغزى قوله علیه السلام في هذه الخطبة، كان يدور حول الملاحم، وإخباره عن الفتن التي ستُصيبُ الناس من بعده، وقد حدث منها الكثير وبموجب ما أُخبر به صلوات الله عليه وبالأوصاف والدلالات التي ذكرها عن تلك الفتن.

* * *

(28) ظلم بني أميّة، وزوال ملكهم

في الخطبة رقم 156 الصفحتان 317، 318، منها، يقول علیه السلام: [فعند ذلك لا يبقى بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلّا وأدخلهُ الظّلمةُ ترْحةً، وأولجوا فيه نِقْمةً، فيومئذٍ لا يبقى لكم في السّماء عاذرٌ، ولا في الأرض ناصر ... ثمّ يقول: فأقسمُ ثمَّ أُقسمُ، لتتْخمنَّها أميّة من بعدي كما تُلفظُ النُّخامةُ، ثمَّ لا تذوقُها ولا تنطعَّمُ بطعمها أبداً، ما كرّ الجديدان].

وهذا إخبارٌ عن ملك بني أميّة من بعده، وزوال ذلك الملك بعدما يتفاقم فسادهم، ويعمُّ ظلمهم، وتكثر بواثقهم.

والنّخامة: ما يدفعه الصدر أو الدماغ من المخاط.

ص: 169

والجديدان: الليل والنهار.

جاء في كتب المحدّثين أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أخبر أنّ بني أمیّة تملك الخلافة من بعده، وقد ذمّهم وذمّ ملكهم ذاك. فقد روي عنه صلی الله علیه و آله و سلم في تفسيره للآية المباركة: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) (1)، أنّه رأى بني أميّة ينزون على منبره نَزْوَ القردة، فساءه ذلك، ثمّ قال: الشجرة الملعونة: بنو أميّة وبنو المغيرة. وقيل إنّه صلی الله علیه و آله و سلم بعد هذه الرؤيا لم يُشاهد باسماً إلى أن مات صلی الله علیه و آله و سلم.

ونحو ذلك قوله صلی الله علیه و آله و سلم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دُوَلاً وعباده خوَلاً (2)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم في تفسير (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ 3﴾ (3). قال: ألف شهر يملك فيها بنو أميّة.

وروي عن النبيّ في ذم بني أميّة الكثير منه قوله: أبغض الأسماء إلى الله الحَكَم وهشام والوليد. وقوله: اسمان يبغضهما الله: مروان والمغيرة، وقوله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّ الله يُبغضُ بني أميّة ويُحِبُّ بني عبدالمطّلب. وفي قول أمير المؤمنين علیه السلام: ثمَّ لا تذوقها أبداً، وقد ملكوا بعد قيام الدولة الهاشميّة بالمغرب مدّة من الزمن.

يقول ابن أبي الحديد في ذلك: والاعتبار في الملك بملك العراق، والحجاز، وما عداهما من الأقاليم لا اعتداد به. ألا وإنّهم ملكوا وظلموا وجاروا وأفسدوا، ولو لم يكن من ظلمهم إلّا قتل سيّد شباب أهل الجنّة، .

ص: 170


1- سورة الإسراء، الآية: 60.
2- أخرجه الحاكم في (المستدرك) 8478، وأبو يعلى 6523.
3- سورة القدر، الآية: 3.

وابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الحسين الشهيد صلوات الله عليه، لكفى في تفرّدهم بالظلم والجور والكفر ومحاربة الله ورسوله، ثمّ إنّهم مضوا وانمحى ملكهم وعاف أثرهم، وخاب وخسر سعيهم، ولم يُخلفوا وراءهم غير الذمّ واللعن، والخسران. ومن ورائهم عذاب الله وانتقامه الذي توعّد به الظالمين.

* * *

(29) الإمام المقتول

من كلامه علیه السلام الرقم 162 الصفحتان 331 و 332 كلّم به عثمان لمّا شكاهُ الناس وسألوه مخاطبته عنهم، واستعتابه لهم، من جملته: [وإنّي أُنشدك الله أنْ لا تكونَ إمامَ هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يُقال: يُقتلُ في هذه الأمّة إمامٌ يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويَلبِسُ أمورها عليها، ويبُثُّ الفتن فيها، فلا يُبصرون الحقَّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مَرْجاً].

المرج: الخلط.

وقد خوّفه أنْ يكون الإمام المقتول الذي يفتح الفتن بقتله، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال كلاماً مثل هذا القول عن الإمام المقتول.

* * *

(30) هلاك بني أميّة

من الخطبة 164 الصفحة 340، فيها ذكرٌ للملاحم.

في قوله علیه السلام: [افترقوا بعد أُلفتهم، وتشتَّتوا عن أصلهم، فمنهم

ص: 171

آخذٌ بغصنٍ أينما مال مال معه. على أنَّ الله تعالى سيجعهم لشرِّ يومٍ لبني أميّة، كما تجتمع قَزَعُ الخريف، يؤلّف الله بينهم، ثمّ يجعلهم ركاماً كركام السّحاب، ثمَّ يفتح لهم أبواباً يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين ].

القزع: القطع المتفرّقة من السّحاب. الركام: السحاب المتراكم. وسيل الجنّتين: و الذي سمّاه الله «سيل العرم» الذي عاقب به سبأ لمّا بطروا النّعمة، فدمّر جنّتهم.

يذكر علیه السلام حال أصحابه وشيعته من بعده، وتفرّقهم بعد اجتماعهم عده. ثم يقول علیه السلام: إنّ الله سبحانه لا بدّ أنْ يجمعهم لشرّ يومٍ لبني أميّة، وهكذا كان، فإنّ الشيعة الهاشميّة اجتمعت على إزالة ملك بني مروان.

ويقول علیه السلام: [وايم الله ليذوبنَّ ما في أيديهم، بعد العلو والتّمكين، كما تذوب الأَلْيةُ على النّار].

في أيديهم: الضمير لبني أميّة، والألية: الشحمة.

وقد ذهب ملكهم بعد ذلك العلو والتمكين والاستعلاء في الأرض و الطغيان وذاب كما تذوب الشّحمة في النّار.

في الصحيحين، صحيح البخاري ومسلم أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «يُهلك أمّتي هذا الحيُّ من قريش» قالوا: يا رسول لله، فما تأمرنا؟ قال: «لو أنّ الناس اعتزلوهم»(1) ويعني بهم «أميّة».7.

ص: 172


1- أخرجه البخاري في «المناقب» 3604، ومسلم في الفتن 2917.

(31) بعض العلامات

من الخطبة رقم 185 الصفحة 384، وهي في ذكر الملاحم. يُخبر علیه السلام عن أولياء الله وأصفيائه، فيقول: [ألا بأبي وأمّي هم من عدَّةٍ أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة] وهنا لا يمكن العطف على الأسماء بالأئمّة الأحد عشر من ولده علیه السلام، لأنّ الأئمة الأطهار أسماؤهم معلومةٌ لأهل الأرض وليست مجهولة كما ذكر صلوات الله عليه، والأرجح أنّه عنى الأبدال الذين هم أولياء الله في الأرض، والذين ادّخرهم الله سبحانه، ليؤازروا إمام آخر الزمان الذي يُظهره الله رحمةً للعالمين. فيملأُ الأرض قسطاً و عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وفي ذلك ما لا يُحصى من الأحاديث المرويّة عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم، وعن أمير المؤمنين علیه السلام وباقي الأئمة الأطهار.

فأسماؤهم معروفةٌ لأهل السماء أي تعرفها الملائكة، وقد أعلمهم الله بها وهي أسماء مجهولة لأهل الأرض، والمقصود عند أكثر أهل الأرض مجهولة لاستيلاء الضلال على أكثر البشر. وإلا فإنّه لا يمنع أن يكون من أهل الأرض، ولو كانوا قلّة قليلة، يعرفون هذه الأسماء، وبلدانهم وسيرتهم. ثمّ يُخاطب أصحابه ويبيّن لهم الملاحم والفتن في آخر زمان الدنيا، وعلامات ظهور أصحاب هذه الأسماء مع إمامهم الموعود.

يقول علیه السلام: [فتوقّعوا ما يكون من إدبار أموركم، وانقطاع وصَلِكُم، واستعمال صغاركم]. وهذه من علامات الساعة.

ويُعقّب علیه السلام: [ذاك حيثُ تكون ضربة السّيف على المؤمن أهونُ من الدرهم في حلّه! ذاك حيثُ يكون المُعطى أعظمُ أجراً من المُعطي، ذاك حيثُ تسكرون من غير شراب، بل من النّعمة والنّعيم، وتحلقون من غير

ص: 173

اضطرار، وتكذبون من غير إحراج، ذاك إذا عضّكم البلاء كما يعضُّ القَتَبُ غارب البعير. ما أطول هذا العناء! وأبعد هذا الرجاء!].

وهذه بعض تلك العلامات التي يعاينها الناس في آخر الزمان ونحن ومن سبقنا قد وجدنا وشاهدنا هذه العلامات وغيرها. ومما ذكره علیه السلام عن أهل آخر الزمان أنّ المكاسب تكون قد فسدت واختلطت، وغلب حرامها وحلالها. والمتصدّق فيه يكون ماله حراماً، فلا أجر له بالتصدّق، وأنّ أكثرهم يقصد الرياء والسمعة بالصدقة، أو لهوى نفسه. ذلك حيث تسكرون ... إلخ: يعني بها غضارة العيش، وقد قيل في المثل: سُكر الهوى أشدّ من سُكر الخمر.

وتحلفون من غير اضطرار: التهاون باليمين وبذكر الله عزّ وجل.

وتكذبون من غير إحراج: يصبح الكذب عادة، وروي: من غير إحواج بالواو، أي من غير أنْ يحوجكم إلى الكذب أحد.

القتب: الأكاف. والغارب: ما بين العنق والسنام.

وقوله: ما أطول هذا العناء، وما أبعده: حكاية عن لسان شيعته وأصحابه وأهل التقوى، عند معاينتهم هذه العلامات.

* * *

(32) علم الإمام علیه السلام

فى الخطبة رقم 187 الصفحة 387، قوله علیه السلام: [سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السَّماءِ أعلمُ منّي بطرق الأرض، قبل أنْ تشغر برجلها فتنةٌ تطأُ في خطامها، وتذهب بأحلام قومها].

شغر برجله: رفعها. والجملة كناية عن كثرة مداخل الفساد فيها.

ص: 174

وتطأ في خطامها: تتعثّر فيه، كناية عن طيشها وعدم قائد لها. فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض: ما اختصّ به من العلم بمستقبل الأمور، وخاصّة في الملاحم والدول، وقد صدق هذا القول منه ما تواتر عنه من الإخبار بالغيوب، ولمرّات كثيرة جداً، ممّا يُزيل الشكّ في أنه يُخبر علیه السلام عن علم ومعرفة، علّمه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد ذكر هو ذلك أكثر من مرّة بقوله: «علمٌ من ذي علم»: أي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعلم رسول الله من الله تبارك وتعالى. وإنّ هذا الإخبار بالغيبيّات ليس على طريق الاتّفاق، فلو كان كذلك لكان الاتّفاق لمرّات معدودة وليس لمئات المرّات التي ذكرها وأخبر عنها. وقد أوّل البعض قوله علیه السلام: فلأنا بطرق السماء، وما بعدها، قالوا: أراد به الأحكام الشرعيّة والفتاوى الفقهيّة وعبّر عنها بطرق السماء، لأنّها أحكام إلهيّة. وعبّر عن الأمور الدنيويّة بطرق الأرض، لأنّها من الأمور الأرضيّة. والأوّل أظهر لأنّ فحوى الكلام، وذكره للملاحم والفتن والأخبار في أوّله يدلّ على أنّه هو المراد.

وقد ورد مثل هذا الكلام «اسلوني قبل أن تفقدوني» سابقاً وفي هذا الباب تحت الرقم (12).

* * *

(33) أصحاب القليب

من الخطبة رقم 190 الصفحة 412، وتُسمّى القاصعة، وهي في ذمّ الكبر.

يذكر علیه السلام في بعض ما جاء بهذه الخطبة عن لسان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهو يُخاطب طواغيت قريش: [وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير وإنَّ فيكم من يُطرحُ في القليب، ومن يُحزِّب الأحزاب].

ص: 175

القليب: البئر، والمراد به قليب بدر. الأحزاب: متفرّقة من القبائل اجتمعوا على حرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في وقعة الخندق.

وهذا من إخبارات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، عن الذين طرحوا في قليب بدر من المشركين، وقد قتلوا في المعركة التي سمّيت باسم ذلك القليب أي «بدر» وكانوا نيفاً وعشرين من أكابر قريش، منهم عتبة وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس، وعمرو بن هشام بن المغيرة، المكنّى بأبي جهل، والوليد بن عتبة، وغيرهم. ومن يُحزّب الأحزاب: أبو سفيان صخر بن حرب بن أميّة، جمع القبائل المتفرّقة من العرب وجاء بهم لحرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في معركة الخندق، أو ما تُسمى بالأحزاب، التي انتصر فيها المسلمون على جميع الأحزاب، بعد أنْ قتل علي بن أبي طالب علیه السلام عمر بن عبد ودّ العامري وجماعة عبروا الخندق، فتصدّى لهم أمير المؤمنين، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال.

* * *

(34) رفع المصاحف

من كتاب له رقم 248 الصفحة 500، إلى معاوية يقول فيه: [فكأنّي قد رأيتُك تضجُّ من الحرب إذا عضَّتك ضجيج الجمال بالأثقال، وكأنّي بجماعتك تدعوني - جزعاً من الضَّرب المتتابع، والقضاء الواقع، ومصارع بعد مصارع، - إلى كتاب الله، وهي كافرةً جاحدةٌ، أو مبايعة حائدة].

تضجُّ: تصوّت. الجاحدة: المنكرة. الحائدة: العادلة عن البيعة بعد الدخول فيها، أو العادلة عن الحقّ عموماً.

وعن قوله علیه السلام: «كأنّي بجماعتك تدعوني جزعاً ... إلى كتاب الله»، يقول ابن أبي الحديد: إمّا أنْ يكون فراسةً نبويّةً صادقة، وهذا

ص: 176

عظيم، وإمّا أنْ يكون إخباراً عن غيبٍ مفصّل، وهو أعظم وأعجب، وعلى كلا الأمرين فهو غاية العجب. ويقول: وقد رأيتُ له ذكر هذا المعنى في كتاب غير هذا، وهو: «أمّا بعد، فما أعجب ما يأتيني منك، وما أعلمني بمنزلتك التي أنت إليها صائر، ونحوها سائر، وليس إبطائي عنك إلّا لوقتٍ أنا به مصدّق، وأنت به مكذّب، وكأنّي أراك وأنت تضجُّ من الحرب، وإخوانك يدعونني خوفاً من السيف، إلى كتابٍ هم به کافرون، وله جاحدون».

فعلاً إنّ ذكر مثل هذه الحادثة المعروفة والمقصود بها رفع المصاحف يوم صفّين، وبهذه الطريقة المفصّلة لشيءٌ عجيب، وأيُّ شيءٍ لعلي بن أبي طالب علیه السلام لم يكن بالعجيب؟ والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وقد تحقّق ذلك في صفّين، بعد أنْ أحكم مالك الأشتر رضي الله عنه الخناق على معاوية وضرب بسيفه أطناب مخيّمه، وكان قاب قوسين أو أدنى من النصر المؤزّر في إزالة جرثومة معاوية من الوجود، وإزاحته عن مسير الحقّ، ورسالة التوحيد، وأصبح لمعاوية رِجلٌ في الأرض وأخرى في الركاب يتهيأ للفرار والهزيمة من طعنات الأشتر وضربات سيفه، حتّى ظهرت مكيدة عمرو بن العاص برفع المصاحف، وهو أبعد خلق الله عن كتاب الله. ومتى كان ابن شانئ رسول الله، ومَنْ لعنه الله ورسوله عارفاً بالكتاب ومكانته وقدسيّته، حتّى يطلبه للتحكيم؟ بل هي كما قال أمير المؤمنين: «كلمة حقٍّ أُريد بها باطل»، فانطلت الحيلة وتعدّت المكيدة على أصحاب العقول الواهية، والقليلي الإدراك من أصحاب أمير المؤمنين، فطلبوا منه إيقاف الحرب، والاستجابة لهذه الدعوة الخبيثة التي ما وراءها إلّا ذلّ الإسلام والمسلمين، وقد حذّرهم الإمام علیه السلام أشدّ تحذيرٍ، ودعاهم إلى الصبر والقتال لاستئصال شأفة النفاق والكفر بالقضاء

ص: 177

على هذه الفئة القاسطة الباغية، فئة معاوية وابن العاص وأمثالهم من العتاد المردة، الذين أذلّوا المسلمين، وحاربوا الله ورسوله في شركهم وفي نفاقهم، وادعائهم دخول الإسلام، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم.

وما آلت إليه الأمور بعد رفع المصاحف من وقف القتال، والتحكيم وآثاره وتبعاته.

* * *

(35) يأتي على الناس زمان

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 102 الصفحة 647، يقول علیه السلام: [ يأني على الناس زمانٌ لا يُقرَّبُ فيه إلّا الماحل، ولا يُظرَّف فيه إلّا الفاجر، ولا يُضعَّف فيه إلّا المنصف، يعدّون الصدقة فيه غُرماً، وصلة الرحم منًّا، والعبادة استطالة على الناس، فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النّساء، وإمارة الصبيان، وتدبير الخصيان].

الماحل: الساعي في الناس بالوشاية عند السلطان، والمحل: المكر والكيد. لا يُظرّف فيه إلّا الفاجر: لا يُعدُّ الإنسان ظريفاً إلا إذا كان ماجناً خليعاً. ولا يُضعّف فيه إلّا المنصف: يحسبون صاحب الورع والإنصاف ضعيفاً، والظالم عندهم شهماً غُرماً: خسارةً. وهي من الإخبار عن الغيوب، ومن آياته، والمعجزات التي اختصّ بها دون غيره علیه السلام.

فقد وصف بهذا الوصف الزمان الذي يأتي على الناس، حتّى يكون السلطان بمشورة النّساء وإمارة الصبيان، وتدبير الخصبان. وقد جرت هذه الأمور بحذافيرها وبالأوصاف التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام في عصور وحكومات دولة الإسلام وفي مراحل وأوقاتٍ متعددة.

* * *

ص: 178

(36) ونجعلهم الوارثين

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 210 الصفحة 671، قوله علیه السلام: [لتعطفنَّ الدُّنيا علينا بعد شِماسِها عطفَ الضّروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5)] (1).

الشماس: امتناع ظهر الفرس من الركوب. والضّروس: الناقة سيّئة الخلق تعضُّ حالبها. أي أنّ الدنيا ستنقاد لنا بعد جموحها وتلين بعد خشونتها.

وهي إحدى إخباراته علیه السلام بالإمام الموعود، المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه). الذي يُظهره الله آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وقد جاءت إخباراته علیه السلام عن هذا الأمر، مرّات عديدة، وبمناسبات مختلفة، تأكيداً منه لحدوثه، وإيعازاً وتحفيزاً للمؤمنين على انتظاره، والدعاء له بتعجيل الفرج، وأنّ مجرّد الانتظار، فيه أجرٌ عظيم و ثوابٌ كبير، جعلنا الله من أنصاره وأعوانه والمهتدين به والمستشهدين بين يديه.

وقال البعض: إنّه إشارة إلى ملك السفّاح والمنصور وابني المنصور بعده. فهم الذين أزالوا ملك بني أميّة، وهم من هاشم، وبذلك عطفت الدني على بني عبدالمطلب عطف الضّروس. والأوّل هو الأصح، لأنّه علیه السلام ذكر عقيب حديثه الآية الكريمة: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)، وبني العباس ليسوا مستضعفين حينها، ولا هم ممّن يرثون الأرض، لأنّ الوراثة المقصودة هنا وراثة أئمّة الصلاح، لا أئمّة الفساد، وما جرى على أيدي خلفاء بني العباس لا يدلُّ على كونهم من .

ص: 179


1- سورة القصص الآية: 5.

الصالحين، بل كانوا أسوأ حالاً من بني أميّة وخلّفوا تاريخاً دموياً لا يقلّ فظاعة عن دمويّة الأمويين إذا ما زاد عليهم بأضعاف.

ثمّ إنّ الإمام علیه السلام يقول: لتعطفنّ الدنيا علينا، وهذا بيانٌ واضحٌ أنّه يعني نفسه الشريفة ومن بعده أولاده الأئمّة المعصومين الأطهار، وخاتمهم مهديُّ آل محمد، القائم المنتظر عجل الله تعالى ظهوره الشريف، ليملأ الأرض بالقسط والعدل والخير والحقّ والنّماء ويثأر من الظالمين، للدماء التي سفكوها بغير حق.

وأخيراً فإنّ أمير المؤمنين علیه السلام، له أحاديث كثيرة وإخبارات للملاحم عديدة، ذكر فيها حكم بني العباس، ووصولهم للخلافة بعد إبادتهم الأمويين، ولكنّه لم يصفهم بالأئمّة الذين يرثون الأرض من بعد الاستضعاف، وإنّما ذكر الكثير ممّا يجري على أيديهم من الظلم وسفك الدماء، أو على أيدي صنائعهم من أمراء السوء. وكان ذلك واضحاً جلياً فى أنّ الأئمّة الأطهار فى زمن خلفائهم قُتلوا على أيديهم وما من أحدٍ منهم إلّا مسموماً أو مقتولاً غدراً.

* * *

(37) يعسوب الدّين

من غريب كلامه المحتاج إلى تفسير رقم 1 الصفحة 682، يقول علیه السلام: [فإذا كان ذلك ضربَ يعسوبُ الدّين بذنبه فيجتمعون إليه كما يجتمعُ فَزَعُ الخريف].

اليعسوب: السّيّد العظيم، ويُدعى بذلك فحل النّحل وسيّدها. والقزع: قطع السحاب الرقيقة.

وهذا إخبارٌ آخر عن المهدي المنتظر الذي يظهر آخر الزمان، وهو

ص: 180

من ولد الحسين بن علي علیه السلام. ومعنى قوله: ضرب بذنبه: أقام وثبت بعد اضطرابه، ذلك أنّ يعسوب النّحل يكون أكثر زمانه طائرٌ بجناحيه، فإذا ضرب بذنبه الأرض فقد أقام وترك الطيران، وقد مثّل حال المهديّ (عجل الله تعالی فرجه) بهذا، فهو يعسوب الدّين، ينتقل في الأرض مستتراً خائفاً، فإذا أُذن له ظهر وثبت وأقام بدار ملکه، صلوات الله عليه.

* * *

(38) صفة أهل الضلال

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 370 الصفحة 710، يقولعلیه السلام: [يأتي على الناس زمانٌ لا يبقى فيه من القرآن إلّا رسمه، ومن الإسلام إلّا اسمه، مساجدهم يومئذٍ عامرةٌ من البناء، خرابٌ من الهدى، سُكّانها وعمّارها شرُّ أهل الأرض، منهم تخرجُ الفتنة، وإليهم تأوي الخطيئة، يردّون من شذّ عنها فيها، ويسوقون من تأخّر عنها إليها ].

هذه صفةُ حال أهل الضلال والفسق والرياء.

فقد وصف عمران المساجد بالبناء، وخرابها من الهدى، لأنّ أكثر سکّانها من أهل الضلال ومثيري الفتنة.

وفي زماننا نرى من هذا الوصف الكثير، فهنالك من يعتلون منابر المسلمين ويتصدّون للأمور الشرعيّة والدينيّة وهم من شرّ أهل الأرض، لما يزرعون من الفتن ويستبّبون في سفك الدّماء البريئة بسبب فتاواهم التفكيريّة، ليضلّوا بها كثيراً من الناس ويزرعوا الفرقة والكراهيّة والبغضاء بين المسلمين، والله أمرنا بالاتحاد ونبذ الخلاف، فكلّ هؤلاء أهل فتنة يردّون من خرج منها إليها، ويسوقون من لم يدخل فيها إليها أيضاً.

* * *

ص: 181

(39) اختلاف بني أميّة

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 457 الصفحة 728 يقول علیه السلام: [إنَّ لبني أميّة مُرْوَداً يجْرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثمَّ كادتهم الضّباع لغلبتهم ].

يقول الرضي: وهذا من أفصح الكلام وأغربه، فالمرود هنا: مفعل من الإرواد وهو الإمهال والإنظار، فكأنّه علیه السلام شبّه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية، فإذا بلغوا منقطعها انتفض نظامهم.

ويُفسّر ابن أبي الحديد هذا المقطع فيقول: هذا إخبارٌ عن غيب صريح، لأنّ بني أميّة لم يزل ملكهم منتظماً ما داموا لم يختلفوا، وإنّما كانت حروبهم مع غيرهم كحرب معاوية في صفّين، وحرب يزيد لأهل المدينة، وحرب مروان الضحّاك وحرب عبدالملك بن الزبير وحرب هشام زيد بن علي. فلمّا وليّ الوليد بن يزيد وخرج عليه ابن عمّه يزيد بن الوليد وقتله، اختلف بنو أميّة فيما بينهم، وجاء الوعد - وصدق من وعد به - فبعد قتل الوليد نهضت دعاة بني العباس في خراسان وأقبل مروان ابن محمد بن الجزيرة يطلب الخلافة، فخلع إبراهيم بن الوليد، وقتل من بني أميّة جماعة، فاضطرب الأمر على بني أمية وزال ملكهم.

* * *

(40) زمانْ عضوض

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 461 الصفحة 729، يقول علیه السلام: [يأتي على الناس زمانٌ عَضُوض، يعضّ الموسرُ فيه على ما فيه يديه ولم يُؤمر بذلك، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (1)7.

ص: 182


1- سورة البقرة الآية: 237.

ينهدُ فيه الأشرار ويُستذلُّ الأخيار، ويُبايع المضطرُّون، وقد نهى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن بيع المضطرّين].

الزمان العضوض: زمان شديدٌ كلِبٌ على الناس كأنه يعضّهم. ينهض فيه الأشرار إلى الولايات والرّياسات ويعلو شأنهم، وترتفع أقدارهم وبالمقابل يُستذلّ أهل الدين والتقوى. وهذه الأوصاف، والإخبارات التي صرّح بها أمير المؤمنين ظهرت جليّة واضحة في الأزمان السالفة، وفي زمننا هذا، وهو محصّلة ابتعاد الناس عن دينهم، والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم التزام منهج أهل البيت علیهم السلام، الذي هو منهج الحقّ والعدل المأمور باتباعه والسير على هداه والابتعاد عن المناهج الدخيلة والأفكار المستوردة الفارغة من روح العقيدة، والبعيدة عن فكر الإسلام الحنيف.

هذا ما وجدناه من أحاديث الملاحم في خطب ورسائل وكلام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة. وقد اعتمدنا الدقّة في استقصاء كلّ واردة وشاردة من كلامه فيما يختصّ بهذا الباب، من خلال القراءة الدقيقة والملاحظة الشاملة لكلّ فصل أو جزء من كتاب نهج البلاغة.

وعلّنا قد وفّقنا في إدراج جميع ما يختصّ بموضوع الملاحم وغيبيّات الأخبار، ولم نهمل منه شيئاً. وإنْ حدث ترکٌ لقسمٍ منها فذلك سهواً لا قصداً.

ومن المؤكّد أنّ ما ورد في هذا الباب من الملاحم والغيبيّات والذي وجدناه في نهج البلاغة ليس هو كلّ ما ذكره الإمام علیه السلام من الأخبار، فهنالك الكثير الذي لم يذكره الشريف الرضي رضي الله عنه، وهو قد اعتمد اختيار الكلام والتقاط أحسنه في ميادين متعدّدة كالفصاحة والبلاغة والبيان والأدب والأخلاق والسياسة وعلم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد وعلم

ص: 183

الفلك والعقائد والفقه والأحكام. ولم يختصّ ببابٍ من الأبواب حتّى يجمع كلّ ما يخصُّ ذلك الباب. إلّا أنّ هنالك ملاحم وأخبار ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام غير هذه كثيرة، وقد وضعها الباحثون في أوائل اهتماماتهم، وضمّنوها كتبهم ومجلّداتهم وبحوثهم، فيمكن للمتتّبع الحصول عليها من مظانها أيضاً.

إضافة إلى أنّ هنالك بعض الأخبار والملاحم المختصة بآخر الزمان وبالإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه) ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام والأئمة الأطهار لخاصّة أتباعهم، وخُلّص أصحابهم، ممّن عُرفوا بقوة اليقين وامتازوا بالتقوى والعرفان. ومن هذه الملاحم لا يعرفها إلّا هؤلاء، أو من أودعها لديهم.

وذلك كلّه ممّا اختصّ به أمير المؤمنين علیه السلام والأئمة من ولده سلام الله عليهم، دون غيرهم بكرامة من الله تبارك وتعالى. وتعلّمٍ من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، الذي أودع كلّ علمه وأسراره لديهم ليكونوا الهداة من بعده، وليحملوا أعباء الرسالة التي كلّف الله بها. حتّى يُتم الله نعمته عليهم، بأنْ جعلهم أئمّة وجعلهم الوارثين.

ص: 184

الباب الثالث

الاحتجاج في نهج البلاغة

المدخل: لم تخل خطب ورسائل وكتب أمير المؤمنين علیه السلام، من المناظرات والاحتجاجات التي كانت تدور بينه وبين خصومه، أو بينه وبين من يتعرّض له بالسؤال والاستفهام، وفي بعض الأوقات من أصحابه وأتباعه. فكان علیه السلام يرد على تلك الأسئلة أو الاعتراضات أو الإشكالات، بإقامة الحجج البالغة، وإيراد البراهين اللازمة، وتوضيح الأمور المشكلة، فيضع النقاط على الحروف، ليزيل عن الأذهان علائق الشبهات، ويُزيح عنها مواطن الشك، ويكشف مبهمات الأمور، فيُنير ظلام تلك الأفهام والعقول التي عاصرها أمير المؤمنين.

وهو علیه السلام بذلك مثال لما مرّ به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حياته مع من خالفه واعترض دعوته، ووضع العراقيل في طريقه، لتأخير المشروع الإلهي الذي كلّفته به السماء. وهكذا من قبل سائر الأنبياء والمصلحين، فهم في هذا الابتلاء سواء.

فالإنسان هو الإنسان، والعقل البشري هو نفسه وما جبل عليه من الخلاف والاعتراض ومشاكسة الأفضل ومزاحمته وحسده. (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (1) 4.

ص: 185


1- سورة الكهف، الآية: 54.

وفي كلّ الأحوال فإنّ الحقّ واضحٌ وبيّنٌ، والله سبحانه يُجريه على ألسن أوليائه، نصراً لإرادته، وإعزازاً لما بعثهم من أجله. وهو القائل جلّ وعلا: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (1).

لذا أمر الله سبحانه أنبياءه وأولياءه بمحاجّة ذوي العدوان وردّ شبهاتهم، كي لا يتأثّر عامّة النّاس بتلك الشبهات، ويوردهم ذلك موارد التهلكة والخسران ولتكون الحجّة لله على عباده، فقد قال عزّ من قائل: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (2)، وهل الجدال إلّا المحاججة وإقامة البرهان؟ وقل تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (3)، وهل طلبه عزّ وجلّ من اليهود والنصارى البرهان إلّا احتجاجٌ عليهم؟ وروي عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قوله: «نحن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبیّا»، وما قصد من الجدال إلّا الاحتجاج وإقامة البراهين صلی الله علیه و آله و سلم.

ولقد فضّل الله تبارك وتعالى الذابّين عن دين لله القويم وصراطه المستقيم، بالحجج والبراهين والآيات التي سلّحهم الله بها، وميّز عقولهم، وعزّزَ قابلياتهم، وأكرمهم بفضل العلم والمعرفة، ليقيموا حجج الله ويدحضوا ما عداها، فهم جنود الله في أرضه، يردّون كيد من يكيد، ويدفعون شرّ من يعتدي بتصدّيهم للشبهة ومحاجّتهم أعداء الله وجنود الشيطان.

وعندما يتعلّق الأمر بالفترة الزمنيّة ما بين بعثة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والفترة التي عاشها أمير المؤمنين علیه السلام لآخر حياته المجيدة، فلا بدَّ من القول إنّ 1.

ص: 186


1- سورة الأنعام، الآية: 83.
2- سورة النحل:الآية: 125،
3- سورة البقرة الآية: 111.

الفترة بين بعثته صلی الله علیه و آله و سلم ووفاته كانت قصيرة بحيث لا يمكن خلالها إزاحة شوائب الجاهليّة، وما كان عليه فكر إنسان الجزيرة العربيّة آنذاك من الجهل والتخلّف، والذي كان جليّاً في أسلوب حياته وممارساته من عبادة الأوثان والعبودية ووأد البنات وغيرها. لهذا فإنّ الإنسان الذي عاش قروناً في مثل هذه البيئة المظلمة، بحاجة إلى قوّة عقلية مستمرة بمثل عقلية رسول الله، بقدراتها وإمكاناتها ومؤهّلاتها وما تتمتع به من إمداد إلهيّ وتسديد ربّاني وتوفيق سماوي لغسل دون الشرك والتخلّف والعبوديّة عن تلك العقول، وإزاحة مخلّفات تلك المعتقدات الجاهلية المقيتة، وإنارتها بالفكر الإسلامي الجديد، وإرشادها للمناهج البديلة عن المناهج الفاسدة التي كانوا عليها، وما يرافق ذلك كلّه من معوّقات وردود أفعال أو رفض أو ممانعة أو اعتراض لأنّ الأمر يتطلب انقلاباً تاماً لكل مقوّمات الحياة وإعادة ترتيب لمستلزماتها،برمتها، وإقامة بناء المجتمع من أوّله.

وما كان ذلك ممكناً بالفترة الزمنيّة التي قضاها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم معهم، لذا فإنّ العناية الإلهيّة والكفالة السماويّة، قيّضت للبشريّة ولبنائها وتأسيسها بوفق المنهج الجديد والعهد الجديد، أئمّة الحقّ وورثة الأنبياء، وخزنة العلوم، وخلفاء الرسالة.

وقد قال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: «خلّفت فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي».

فكانت من جملة المهامّ التي أوكلها الله سبحانه للإمام علیه السلام ومن بعده أولاده الأئمّة المعصومين علیهم السلام، أنْ يأخذوا بأيدي الناس إلى برّ الأمان، ويكونوا أعلاماً يهتدون بها، ومصابيح يستضيئوا بنورها، ومناراً يلتزموه في أمور دينهم ودنياهم. فيوضّحوا لهم المبهمات من الأمور،

ص: 187

ويبيّنوا المعضلات من المسائل، ويُزيحوا عنهم الشبهات ليستمرّوا في حياتهم بيسرٍ ويتمتّعوا بها، ويستفيدوا من نعم الله التي أودعها لهم فيها، ويؤدّوا واجباتهم وينالوا حقوقهم، وقد كانوا جديدي العهد بما جاء به منهج الإسلام، وفكر الدعوة، وتشريعات الدين الجديد.

وإنْ تصوّر البعض أنّ الجهد الأكبر والمهمّة الأعظم التي اضطلع بها الإمام علي علیه السلام في إقامة دعائم دين الله، ونشر رسالة الإسلام، وتثبيت أركانه، هو السيف والحرب والجهاد، فإنّ هنالك مهامّ وواجبات أعظم وأكبرُ كانت على عاتقه صلوات الله عليه، أوكلها له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بتخليفه وإناطة الأمر إليه من بعده، وبأمر الله سبحانه وتعالى، لأنّه المهيأُ والقادر على مثل هذه المهام، وصاحب نجدتها. «فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه»، تعني الكثير: أوّلها أنّه صاحب الأمر من بعده، والقادر على تثبيت قوائم وأسس البناء الذي أقامه صلی الله علیه و آله و سلم.

وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى»، إشارة واضحة لتلك المنزلة الرفيعة التي أرادها الله له من بعد نبيّه الذي أرسله برسالة السماء.

و «عليٌّ مع الحقّ والحقُّ مع علي»، إنذارٌ منه صلی الله علیه و آله و سلم وتحذيرٌ من مخالفته، والتماس طريقٍ غير طريقه، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (1).

وغير هذا الذي ذكرناه ما يملأ المجلدات. فبقدر ما هو تبيانٌ لمنزلة أمير المؤمنين، وتوضيحٌ لشأنه، هو تكليفٌ له ومسؤوليّة أوْلاها النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وأولتها السماءُ إليه ليقوم بها من بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن الحياة، لديمومة الدعوة، وإبقاء شعلة الفكر الجديد متوقّدةً منيرةً تُضيءُ الطريق وتكشف الظلمات، وتُزيح الأدران عن العقول. 2.

ص: 188


1- سورة يونس الآية: 32.

فالإنسان في وضعه الجديد الذي أوجبته دعوة الإسلام التي جاء بها محمد صلی الله علیه و آله و سلم، هل يحتاج إلى تشريعاتٍ جديدةٍ، وتوضيحات واسعةٍ للأمور المتعلقة بحياته وآخرته، من حلال وحرامٍ وحدود وواجبات وحقوق، ومناهج ومسائل مرتبطة به من اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة ونفسيّة، وغيرها.

وبرأي العقلاء: مَنْ القادر على كلّ ذلك غير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبدعم من السماء، وتوجيهٍ وتسديدٍ إلهيٍّ، وما تمليه أوامر الوحي، فيطبّقه بكلِّ دقّة ومسؤوليّةٍ وإدراك؟ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ 4) (1). فكيف إذا ما ودّع الرسول صلی الله علیه و آله و سلم الحياة؟ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30) (2). هل تتوقّف المسيرة؟ أم أنّ الناس من بعده قد استوثق الإيمان فيهم، وتحرّروا من قيود الجاهليّة وأغلالها بأكملها، وأصبحوا بمفازةٍ من الفتن ورين الشبهات، وعرفوا جميع متعلقات أمور دينهم؟ وقد رأينا ما كان من الردّات التى حصلت هنا وهناك، لحداثة ما جاءهم من الفكر والمبادىء والمناهج، والتي لم يتعوّدوا عليها ولم يألفوها، بل كانوا يعايشون ويألفون نقائضها في جاهليّتهم. وهل كان من الممكن أنْ يأخذ بزمام الأمر، ويتصدّى لهذه الإشكالات، مَنْ كان هو غارقٌ فيها ومشتملٌ عليها، كعبادة الأصنام، ووأد البنات وغير ذلك من ممارسات الماضي؟

صحيحٌ أنّ الإسلام يجبُّ ما قبله وأنّ النفوس بإيمانها غسلت أدرانها وتخلّصت من ماضيها وتبعاته. ولكنّ الاستعداد والقابليّة هنا تختلف باختلاف أصحابها، فهل يستوي مثل هؤلاء مع من كرّم الله وجهه ولم يسجد لصنمٍ قط، ولم يرتكب خطيئة من خطايا الجاهليّة التي كانوا غارقين

ص: 189


1- سورة النجم، الآيتان: 3، 4.
2- سورة الزمر، الآية: 30.

فيها؟ ومن تربّى واستعدّ لمثل هذه المهام الجسيمة المحتاجة إلى مثل هذه المؤهلات فكان لذلك مستحقّاً للإمامة ومنزلتها، دون مَنْ ظَلَمَ نفسه بشركه وعبادته للأوثان، والله يقول: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13﴾ (1). وقال: ﴿وَلَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّلِمِينَ 124) (2).

ثمّ إنّ مثل هذه المهمّة العظيمة بحاجةٍ إلى مؤهلات عظيمة واستعداد عظيم، ولم تكن - كما ذكرنا - تلك المؤهلات موجودةٌ أو مهيّئةٌ عند أحدٍ دونه، في ظرفٍ كظرف أبناء الجزيرة آنذاك، وما تعوّدوا عليه - إضافة لشركهم وعبادتهم الأحجار - من عادات وممارسات جاهليّة تحطُّ من قيمة الإنسان ومنزلته. والله يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ ﴾ (3).

وعليُّ علیه السلام من ذلك المجتمع وعاش بظرفه، إلا أنّه من بيتٍ ما عرف الشرك ولا عبادة الأصنام، وإنّما كان بيته يتعبّد بدين جدّه إبراهيم حنيفاً، ويسير على منهجه، وبرحمة من الله وإرادته، ليُخرج من ذلك البيت ومن تلك الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة خاتمُ أنبيائه وأشرف رسله.

وبعد ذلك فإنّ الإمام علیه السلام ترعرع وتربّى في حجر مَنْ أرسله الله وكلّفه بختام الرسالات، فهو تلميذه وربيبه، وصاحب دربه، وخازن علمه، ومستودع سرّه، وهو القائل صلی الله علیه و آله و سلم: «أنا مدينةُ العلم وعليُّ بابُها». وعليٌّ يقول: «علّمني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من العلم ألفُ باب يُفتح لي من كلّ باب ألفُ باب».

ص: 190


1- سورة لقمان، الآية: 33.
2- سورة البقرة الآية: 124.
3- سورة الإسراء، الآية: 70.

وأبواب علم علي علیه السلام، يعرفها العارفون، وينهل منها الطالبون، ويستنير بها أولو الألباب.

وقد شهد الأعداء والأولياء بسبقه في العلوم كلّها، ورجاحته على غيره، وعلوّ شأنه وعظيم منزلته.

وعلمُ الاحتجاج الذي أفردنا له باباً في هذا الكتاب، يشتمل على ما ذكر في نهج البلاغة من مناظرات واحتجاجات أمير المؤمنين علیه السلام، مع خصومه أو مع من سأله، أو أورد إشكالاً من إشكالات الأمور المتعدّدة التي ظهرت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفي عهد الخلفاء قبله، وفي زمن حكمه وخلافته علیه السلام. والحجج والبراهين التي كان يوردها بمنطوقه القويم، وطرحه الراجح السليم، وفراسته التي لا تُجارى، وعلمه الغزير، فهو تلميذ القرآن، ومعلّمه الأوّل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

* * *

ص: 191

ص: 192

في ذكر محمد صلی الله علیه و آله و سلم وآله الميامين علیهم السلام

اشارة

قوله علیه السلام: [أرسله بالدّين المشهور، والعَلَم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحةً للشبهات واحتجاجاً بالبيّنات وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثّلات والنّاسُ في فتن انجذَم فيها حبلُ الدّين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النَّجرُ، وتشتَّتَ الأمرُ، وضاق المخرج، وعَمِيَ المصدرُ ] (1).

العَلَم المأثور: العلم: ما يُهتدى به، وهو هنا الشريعة الحقّة، والمأثور المنقول عنه. ويجوز أن يكون القرآن والمتكلّمون يسمّون المعجزاتُ أعلاماً. الصادع: الظاهر. المثلات: العقوبات: انجذم: انقطع. السّواري: الدعائم. النّجر: الأصل، والمراد هنا: اختلفت الأصول فكلٌّ يرجع إلى أصلٍ يظنّه حقّاً وما هو من الحقّ في شيء.

وقوله في آل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [هم موضع سرّه، ولَجَأُ أمره، وعَيبةُ علمه، وموئلُ حُكْمه، وكهوفُ كتبه، وجبالُ ديه بهم أقام انحناء ظهره، وأذهبَ ارتعاد فرائصه ] (2).

اللجأ: الملاذ و ما تعتصم به. المؤئل: ما ترجع إليه.

يقول: إنّ أمر النبي صلی الله علیه و آله و سلم أي شأنه ملتجىء إليهم، وعلمه مودعٌ .

ص: 193


1- من الخطبة 2 الصفحات 47، 48، 49 من نهج البلاغة.
2- من الخطبة 2 الصفحات 47، 48، 49 من نهج البلاغة.

عندهم. والعيبة: الوعاء «كالثوب يودّع العيْبة». وحكمه شرعه، فهو يرجع ويؤول إليهم. وهم حفّاظ كتبه، يحوونها كما تحوي الكهوف ما يكون فيها. والكتب: القرآن، وما أنزل سبحانه من كتب سماويّة سبقت القرآن. جبال دينه: أي لا يتحلحلون عن الدّين والدينُ ثابتٌ بوجودهم، كما إنّ الرواسي أي الجبال أوتاد الأرض، فهم أوتاد الدين الذي بهم يقوم ويستمر. وكنّى بانحناء الظهر عن الضعف، وبإقامته عن القوّة. وبهم الأمان من الخوف الذي ترتعد منه الفرائص.

والفريصة: لحمة بين الجنب والكتف ترعد منذ البداية.

في بعض ما يختصُّ به علیه السلام

يقول: [ والله لو شئتُ أنْ أخبر كلَّ رجلٍ منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخافُ أنْ تكفروا فيَّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. ألا وإنّي مفضيهِ إلى الخاصّةِ ممَّن يؤمَنُ ذلك منه ] (1).

وهذا كقول المسيح علیه السلام:(وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ (2). فقد أقسم علیه السلام أنه لو شاء لأخبر كلَّ واحدٍ منهم من أين خرج، وكيف خرج من منزله، وأين يدخل، وجميع شأنه من مأكله ومشربه وما أراد وعزم عليه وما ادّخره وغير ذلك من شؤون حياته.

إلّا أنّه خاف كفرهم فيه برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أي خاف الغلوُّ في أمره، أو تفضيله على رسول الله، أو ادّعاء الربوبيّة فيه كما ادّعت النصارى في عيسی علیه السلام، لمّا رأوا منه المعجزات. فعزم علیه السلام على أن يُفضي ذلك 9.

ص: 194


1- من الخطبة 173 الصفحة 351 من نهج البلاغة.
2- سورة آل عمران الآية 49.

لخواصّ أصحابه وثقاته الّذين آمن منهم الغلوّ، وعلم أنّهم لا يفضّلونه على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعلمهم أنّ ذلك من إعلام نبوّته، وبعض معجزاته صلی الله علیه و آله و سلم، وهو من خلاله بلغ هذه المنزلة الجليلة.

ويقول علیه السلام: [ والّذي بعثه بالحقّ واصطفاهُ على الخلق، ما أنطقُ إلّا صادقاً، وقد عهد إليَّ بذلك كلّه، وبمهلك من يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي إلّا أفرغه في أُذُني وأفضى به إليَّ] (1). وذلك قَسمٌ ثانٍ أنّه لا ينطق إلّا صدقاً، وأنّ النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم عهد إليه بكلّ ذلك، وأخبره بمن يهلك من أصحابه وغيرهم من الناس ومن ينجو ومآل الأمر، والخلافة وأمور الدولة. وأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما ترك شيئاً إلّا وعلّمه إيّاه، وأخبره بكلّ أسراره.

ثمّ يقول: [إنّي والله ما أحثُّكم على طاعةٍ إلّا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصيةٍ إلّا وأتناهى قبلكم عنها ] (2).

وليّ الله وحجّته

يقول علیه السلام: [أنا حجيجُ المارقين، وخصيمُ الناكثين المرتابين، وعلى كتاب الله تُعرضُ الأمثالُ، وبما في الصدور تُجازى العباد ] (3).

حجيج المارقين: خصيمهم، والمارقون: الخارجون عن الدّين. والمرتابين: الذين لا يقين لهم. وهو علیه السلام قارعهم وحاججهم بالبراهين الساطعة فغلبهم، وأكذب أُحدوثتهم.

ص: 195


1- من الخطبة 173 الصفحتان 351، 352، من نهج البلاغة.
2- من الخطبة 173 الصفحة 352 في نهج البلاغة.
3- من الخطبة رقم 74 الصفحة 153 في نهج البلاغة.

وإنْ كان هذا القول من جملة ردّه على بني أميّة واتّهامهم له بالمشاركة بدم عثمان، وهو علیه السلام كان أحسن الجماعة به قولاً وفعلاً، ولم يكن من المجلبين عليه كأصحاب الجمل. ولا من الذين خذلوه، كأصحاب صفّين، وأوّلهم معاوية، فإن قوله: أنا حجيج المارقين، وخصيمُ المرتابين يعني في حياته، حيثُ أقام الحجج والبراهين عليهم، وكما ستظهر من خلال البحث في فصول هذا الباب من الكتاب وهو باب الاحتجاج والمناظرات في نهج البلاغة. وهو أيضاً حجيجهم وخصيمهم يوم القيامة، وقد روي عنه علیه السلام أنّه قال: أنا أوّلُ من يجثّو للحكومة بين يدي الله تعالى (1).

قوله علیه السلام: [واعذروا من لا حُجَّةَ لكم عليه - وأنا هو - ألم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر، وأتركُ فيكم الثقل الأصغر؟] (2).

يقول علیه السلام: لم يبق لأحدٍ منكم حجَّةٌ يحتجُّ بها عليّ، وقد عدلت فيكم، وأحسنتُ السيرة، وأقمتكم على المحجّة البيضاء. فقد عملتُ فيكم بالثقل الأكبر، وهو الكتاب، وخلّفت فيكم الثقل الأصغر، وهما ولديه الحسن والحسين علیهما السلام.

وقد قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: «تركت فيكم الثّقلين»، وقد سمّى الكتاب والعترة بالثّقلين لأنّ النّقل في اللّغة يعني متاع المسافر وحشمه، فكأنّ النبيّ لمّا قرب لقاءه بربّه تعالى، جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من منزلٍ إلى منزل، وجعل الكتاب والعترة كمتاعه وحشمه، فهما أخصُّ الأشياء به صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 196


1- أخرجه البخاري ح: 3965.
2- من خطبة له رقم 86 الصفحة 182 في نهج البلاغة.

وقوله علیه السلام: [أنا شاهدٌ لكم وحجيجٌ يوم القيامة عنكم] (1).

والحجيج: إذا أقنع الآخرين بحجّته، والإمام صلوات الله عليه بعلو منزلته عند الله يشهدُ للمحسنين، ويقوم بالحجّة عن المخلصين، وهو إشارة لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) (2).

وإنّما سمّى نفسه علیه السلام حجيجاً عنهم، وإنْ لم يكن ذلك الموقف موقف مخاصمة، لأنّه إذا شهد لهم، فكأنّه أثبت لهم الحجّة، فصار محاجّاً عنهم.

* * *

ص: 197


1- من الخطبة رقم 174 الصفحة 354 في نهج البلاغة.
2- سورة الإسراء، الآية: 71.

ص: 198

احتجاجات ومناظرات أمير المؤمنين علیه السلام

(1) محلّ القطب من الرَّحى

في الخطبة رقم 3 الصفحة 51 وما تلاها، وهي الخطبة المعروفة «بالشِّقشقيّة» نسبةً لقوله علیه السلام إلى عبد الله بن عباس: «هيهات تلك شِقشِقةٌ هدرت ثمّ قرّت»، وكا ابن عباس طلب منه إكمال خطبته بعد أن توقّف فيها حين اعترضه رجلٌ من أهل العراق يحمل له كتاباً. والشقشقة: شيءٌ كالرئة يُخرجه البعير من فيه إذا هاج، والبعير عند إخراجه هذا الشيء من فيه يهدر. وقد نسب البعض هذه الخطبة للرضيّ، وقالوا إنّها منحولة.

قال مصدّق بن شبيب الواسطي: سألت الشيخ أبي محمد عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشاب، إنّ كثيراً من الناس يقولون إنّها من كلام الرضي، فقال: أنّى للرضيّ ولغير الرضيّ هذا النفس وهذا الأسلوب، ثمّ قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنّفت قبل أن يُخلق الرضي بمائتي عام، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.

ويقول ابن أبي الحديد: وجدتها في تصانيف البلخي إمام المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخَلق الرضي بمدّة طويلة. ووجدت كثيراً

ص: 199

منها في كتاب «الإنصاف» لأبي جعفر بن قبّة وقد مات في عصر المقتدر، قبل أن يكون الرضيّ موجوداً.

وفي كلام أمير المؤمنين علیه السلام في هذه الخطبة، جملة من البراهين والحجج، أوردها فيما يخصُّ أحقّيته بالخلافة، وولاية أمر المسلمين بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. وما لحقه من الغُبْن في صرفه عن حقّه الذي قرّره له القرآن بقوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1)، وعهد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بقوله في غدير خم: «من كنت مولاه فعلیٌّ مولاه»، وما انطوت عليه نفسه الشريفة من إمكانات ومؤهلاتٍ تجعله الأكفأ للخلافة، دون منازع.

ولم يُهمل أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته هذه، ثابتة من هذه الثوابت، التي تؤدّي بالنتيجة إلى مبدأ أحقيّته لهذا الأمر، وأنّه انتُزع منه وأُخذ بغير مسوّغٍ، ولا وجه حقٍّ، ولا حجّة.

فقوله علیه السلام: [أنّ محلّى منها محلّ القطب من الرّحى].

فكما أنّ الرحى لا تدور إلّا على القُطب، وإنْ دارت بغيره فلا فائدة ولا ثمرة لدورانها، كذلك نسبته إلى الخلافة، فهي لا تقوم إلّا به، ولا يدور أمرها إلّا عليه علیه السلام.

وقوله علیه السلام: [ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير].

أراد التذكير بعلو منزلته، ورفعة قدره، وأنّ أيٍّ من الصحابة لم يصل لبعض تلك المنزلة، حتّى يسوّغ لأي أحدٍ التفكير بالخلافة أو الأمل بها، وأنّ هذا الأمر لا يتمُّ إلّا بشروطه، ومن بعض هذه الشروط: الأفضليّة والتهيّؤ والقابليّات. 5.

ص: 200


1- سورة المائدة الآية: 55.

وقوله علیه السلام: [أرى تُراثي نهباً ].

وما يعني التراثَ عند أمير المؤمنين، غير الواجب الإلهي الملقى على عاتقه، وإمامة الناس بخلافته رسول الله، لإتمام المهمّة التي بدأها النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وتحقيق إرادة الله سبحانه بإقامة حكم العدل والإنصاف في الأرض، وتبليغ رسالة السماء.

وقوله: [فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ].

وعنى الخليفة الأوّل والثاني في هذا الكلام.

وكان أبو بكر قال: «أقيلوني فلست بخيركم»، والأهم أنّه عقد أمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب، وهنا وجه الاحتجاج عند أمير المؤمنين علیه السلام، ومن بابين: الباب الأوّل، أنّ من لا يرى بنفسه الأفضليّة ويطلب الإقالة، لا يجوز أنْ يعهدها لآخر بمفرد رأيه، وبأمرٍ منه. والباب الثاني: إذا كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، صاحب الحقّ الأوّل في التصرّف بهذا الأمر لم يُخلفُ حسب رأيهم، ولم يعقدها لأحدٍ من بعده، فمن جوّز لهم فعل ما أنكروه على رسول الله في تسميّة خليفته؟ ويقول علیه السلام: [فيا لله وللشورى]. [فصغى رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره].

فالصيغة التي وضعت بها تركيبة الشورى، تُهيئ من الوهلة الأولى، عثمان بن عفان للخلافة وبكلّ سهولة.

فأصحاب الشورى «ستّة»: هم عثمان وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة والزبير وعلي. وقد حُدّدوا بثلاثة أيام فقط للاتفاق وإلّا يُقتلوا، ثمّ رُجّح الفريق الذي فيه عبدالرحمن، وهو تفضيلٌ لا يتناسب ومبدأ الشورى، الذي يقتضي استواء الجميع وعدم

ص: 201

التمايز فهم مرشّحون لمنصب واحد وبدرجة واحدة. فالأمر من بدايته محسومٌ لصالح عثمان، لأنّ عبدالرحمن كان صهراً لعثمان، لزواجه من بنت عقبة بن أبي معيط «أمّ كلثوم» وهي أخت عثمان لأمّه، وعبدالرحمن وسعد كلاهما من بني زهرة، وفي نفس سعدٍ موجدةٌ من عليٍّ صلی الله علیه و آله و سلم من قبل أخواله فأمّه حمنة بنت سفيان بن أميّة بن عبد شمس، ولعليٍّ في قتل صنادیدهم ما لا يخفى. وكان طلحة ميّال لعثمان وانحرافه عن عليٍّ علیه السلام، فهو تيميٌّ، وبين تيم وبني هاشم موجدة لموقع الخلافة. هؤلاء أربعة من ستّة، ولم يبق غير الزبير، فما يُغني شيئاً لو أعطى صوته لعلي علیه السلام.

مع الأخذ بالاعتبار حال الميل للقبليّة وموافقة الرأي مع الأقرب على حساب المصلحة العامّة، والنفوس لم تتخلّص بالكليّة من رواسب الماضي، وأمراض العصبيّة والثأر، والمفاخرة وما إلى ذلك.

صغى لضغنه: مال لضغينته، ويعني به سعد.

ومال الصهره: يعني به عبدالرحمن وميله لعثمان ومصاهرته. وبعد هذا المخاض العسير، تعود الخلافة إليه، بعد أنْ صيّروها في حوزة خشناء، يغلظُ كلمُها، ويخشن مسُّها.

ويُقسم علیه السلام: أنّه لولا حضور الحاضر، أي من حضر بيعته ولزوم ذمّة الإمام لذلك. وقيام الحجّة بوجود الناصر، وهو الجيش الذي يصول به. وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، وهو استئثار الظالم بالحقوق، وهضم المظلومين تلك الحقوق.

أي: لولا وجود الناصر لي، لا كما كانت الحال بُعيد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلم أجد ناصراً لي مع كوني مكلّفاً ألّا أُمكّن الظالم من ظلمه،

ص: 202

لتركت الخلافة، ولوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز، كناية عن صغر الدنيا بعينه، وهوانها عنده، وزهده بها صلوات الله عليه.

* * *

(2) بنا اهتديتم

من الخطبة رقم 4 الصفحتان 58 و 59، وهي بعد حرب الجمل، وقتل طلحة والزبير، خاطب بها بقيّتهم مبيّناً لهم أنّه كان يترقّب غدرهم ويتفرّس فيهم الغرور والغفلة، وأنّهم لا يميّزون بين الحقّ والباطل، لهذا فهم يجهلون قدره ويتركوه إلى من ليس له من الحقّ على مثل حاله علیه السلام.

يقول: [بنا اهتديتم في الظّلماء، وتسنّمتم العلياء، وبنا انفجرتُم عن السَّرار].

التسنّم: الارتقاء. والسّرار: الليلة والليلتان يستتر فيها القمر آخر الشهر ولا يظهر. انفجرتم، ورويت أفجرتم: دخلتم في الفجر، ومراده: أنّكم كنتم في ظلام الشرك والجاهليّة فأصبحتم بهدايتنا وإرشادنا لكم، في ضياءٍ ساطع، وهو ضياء الحقّ والإسلام. وبنا: أي بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم وآله الطاهرين والإمام أخوه ونصيره ووارثُ علمه.

وقوله علیه السلام: [أقمتُ لكم على سَنَنِ الحقّ في جوادّ المضلّة]. أي قمتُ بإرشادكم، وبالغت لكم بالنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعيّنتُ لكم جادة الحقّ، ووقفت لكم على منهج العدل، وأنتم تائهون لا دليل لكم، وطرق الضلال كثيرةٌ ومختلفة من سائر جهاتي، فالذي يرشدكم ويهديكم السبل الراشدة، والمناهج الحقّة، لا ينبغي مخالفته وشنّ الحرب عليه واستعمال الغدر والعدوان والنكث معه.

ص: 203

وبرهانه عليهم، وحجّته قبالهم، أنّهم غدروا واغترّوا واعتدوا، مع ما كان منه من النصيحة، وحسن السيرة، والعدل فيهم، والهداية لهم.

* * *

(3) في أصحاب الجمل

من كلام له الرقم 6 الصفحة 62، وقد أُشير عليه أن لا يتبع طلحة والزبير، ولا يعدُّ لقتالهما، وقد نقضا بيعته، وخرجا مع سواهما يؤلّبان الناس عليه، ويُحرّضان ضدّه.

وقد اتّخذ هؤلاء، ومعاوية، وغيرهم دم عثمان ذريعةً لهم في عصيانهم، وهم منْ ألّب على عثمان وخذله، وساهم في قتله.

يقول عبدالله العلايلي: «ومن تهكّمات القدر أنْ يُحرّض عمرو بن العاص على قتل عثمان، وتجبّهه عائشة علانية، ويتخلّى عنه وعن نجدته معاوية، ويُعين عليه طلحة والزبير، ثمّ ينفر هؤلاء أنفسهم هنا وهناك، ويُطالبون بدمه عليّ بن أبي طالب، الذي أخلص له النصيحة، وحذّره من هذا المصير».

يقول علیه السلام: لمن طلب منه ترك الناكثين وشأنهم: [والله لا أكونُ كالضّبُع تنامُ على طول اللّدم، حتّى يصل إليها طالبُها ويختلها راصدُها، ولكنّي أضربُ بالمقبل إلى الحقّ المدير عنه، وبالسّامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتّى يأتي عليَّ يومي، فوالله ما زلتُ مدفوعاً عن حقّي مُستأثراً عليَّ منذُ قبضَ الله نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم حتّى يوم الناس هذا ].

اللدم الضرب. يختلها: يخدعها.

وضرب علیه السلام مثلاً بحال الضبُع: يأتي الصائد ويضرب بعقبه عند باب

ص: 204

مغارها ضرباً خفيفاً، ويقول: «خامري أمُّ عامر»، مراراً، فتنام على ذلك، فيجعل الحبل في عرقوبها ويجرّها.

ويقول: إنّي لا أقعد وأنتصر لديني ونفسي وللخلافة المأمور بالحفاظ عليها، فيكونُ حالي مع هؤلاء مثل حال الضبُع مع صائدها، فأكون كالعاجز الذي يُسلّم نفسه للخارجين عن الوحدة، والناكثين البيعة. بل أحارب من عصى بمن أطاع حتّى يتحقّق وعدُ الله بالنصر أو الشهادة.

و عقّب علیه السلام بقوله: إنّ الاستئثار عليه والممالأة له، ودفعه عن حقّه، ليس بالجديد، وإنّما كان ذلك منذ قُبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وحتّى يومه الذي هو فيه.

* * *

(4) بيعة الزبير

من كلام له علیه السلام رقم 8 الصفحة 63.

بلغ أمير المؤمنين قول الزبير: بايعتُ بيدي لا بقلبي، ويدّعي تارةً أنّه استخدم التورية في البيعة، ونوى دخيلة. وتارةً أنّه أُكره عليها.

فقال أمير المؤمنين كلاماً ردّ به عليه وحاججه بما يُدحضُ دعوته تلك، وهو قوله: [يزعمُ أنّه قد بايع بيده ولم يُبايع بقلبه، فقد أقرَّ بالبيعة، وادَّعى الوليجة، فليأتِ عليها بأمرٍ يُعرفُ، وإلّا فليدخل فيما خرج منه].

الوليجة البطانة، أو أمرٍ ما تسرّه وتكتمه.

وكان أمير المؤمنين علیه السلام ساعة بايعه الزبير وطلحة يردّد قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ﴾ (1).

ص: 205


1- سورة الفتح، الآية: 10.

ويحتجُّ علیه السلام على قول الزبير بأنّه إقرارٌ منه بالبيعة وادعاءٌ لأمرٍ آخر لم يُقم عليه الحجّة والدليل، ولم ينصب به برهاناً، فإمّا أن يُقيم الدليل على فساد البيعة الظاهرة، وأنّها غير لازمة له، وإمّا أن يعود ويدخل في البيعة التي خرج منها.

وكان أمير المؤمنين علیه السلام، لمّا بايعه الناس تلك البيعة الجماهيريّة الشاملة، وهي الأولى في تأريخ الخلافة الإسلاميّة والأخيرة. كتب إلى معاوية يقول: أمّا بعد فإنّ الناس قتلوا عثمان عن غير مشورةٍ منّي، وبايعوني عن مشورةٍ منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوْفد إليَّ أشراف أهل الشام قِبَلك.

وعندما قرأ معاوية كتاب أمير المؤمنين، كتب إلى الزبير ما يلي: «لعبدالله الزبير أمير المؤمنين، من معاوية: سلامٌ عليك، أمّا بعد فإنّي قد بایعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين. وقد بايعت لطلحة من بعدك، فأظهر الطّلب بدم عثمان، وادعوَا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجدُّ والتشمير». فلمّا وصل الكتاب إلى الزبير، سُرَّ به وقرأه على طلحة، ولم يشكّا في النّصح لهما من معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي علیه السلام.

إنّ قراءةً بسيطة لكتاب معاوية الذي أرسله إلى الزبير يُخاطبه فيه بإمرة المؤمنين، ويُعطي هذا المنصب لطلحة من بعده، وأنّه اعتمد بذلك على بيعة أهل الشام مُدّعياً أنّه أخذها للزبير ولطلحة، ودفعه لهما بالمطالبة بدم عثمان، وهما لا يمتّان بأيّ صلة قرابة معه تُبيح لهما بحساب شريعة العصبيّة القبليّة والفكر الجاهلي، المطالبة بهذا الثأر.

وحثّه وصاحبه للذهاب إلى الكوفة والبصرة، ودعوة الناس والجدّ

ص: 206

والتشمير لإثارة الفتنة وزعزعت دولة الإسلام، إنّ من يقرأ كلّ ذلك ليعجب: كيف انطلت مثل هذه المكيدة، التي لا تمرُّ على أبسط الناس، واتّخذها مثل الزبير ومثل طلحة مأخذ النُّصح من معاوية، ولم ينتبها لمكره ودفعهما ومن معهما ليكونوا حطباً لنار الفتنة التي أشعلها. فيُضعف أو يُلهي بها جيوش المسلمين ومقرُّ الخلافة، وينتهز هو الفرصة ثمَّ ينقضَّ على الأمر كلّه، ويُعيدها جاهليّة بعد أن يقضي على الإسلام ودولته بإثارة الفتن وشنّ النزاعات، ويأخذ بثأر أشياخه الذين سقطوا صرعى بسيف عليٍّ وأسياف المؤمنين المجاهدين في حروب الإسلام مع الشرك والوثنيّة.

* * *

(5) ردُّ القطائع

من كلام له رقم 15 الصفحة 67، فيما ردّه من قطائع عثمان إلى بيت مال المسلمين، حال استلامه مهام الخلافة.

قال علیه السلام: [والله لو وجدته قد تُزُوِّج به النّساءُ، ومُلك به الإماءُ، لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدلُ فالجور عليه أضيق].

القطائع: الممنوح من الأراضي، وكان عثمان في خلافته قد أقطع بني أميّة وغيرهم من أتباعه، قطائع من أرض الخراج. من ضاق عليه ... إلخ: أي أنّ الذي يعجز عن تدبير أمره بالعدل، فهو بالجور أشدّ عجزاً، فإنّ الجور مظنة أنْ يُقاوم ويصدُّ عنه. كان أمير المؤمنين علیه السلام، في إحقاق الحقّ، ومقارعة الباطل، لا تأخذه لومة لائم، وهو بذلك يردُّ ويحتجُّ على من عاب سياسته، أو انتقد طريقة معالجته الأمور، وعدم مهادنة الباطل على حساب الحقّ، أو مناصرة الظالم على حساب المظلوم، وإنْ كان في ذلك خسارته تأييد البعض ممّن ضُربت مصالحهم، واستُرجع منهم ما

ص: 207

كانوا أخذوه دون وجه حقّ. فهو علیه السلام لا يطلب النصر بالجور، وحسبه إقامة العدل، وردّ المظالم، والمساواة بين الناس.

* * *

(6) ردّ التّهمة

من الخطبة رقم 22 الصفحة 80، وقد اتُّهم بقتل عثمان، والذي اتّهمه، هو من سفك دم عثمان، أو ألّب عليه، أو خذله. والإمام علیه السلام، أكثر الناس نصيحةً له، ودفاعاً عنه.

يقول علیه السلام: [وإنّهم ليطلبون حقاً هم تركوه، ودماً هم سفكوه، فلئن كنتُ شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه، ولئن كانوا ولّوه دوني فما التّبعة إلّا عندهم، وإنّ أعظم حجَّتهم لعلى أنفسهم].

والدم المسفوك: دم عثمان. والذين سفكوا هذا الدم: هم مَنْ طالب أمير المؤمنين علیه السلام به، متّخذين ذلك ذريعةً لنقض العهود ونكث البيعة، والخروج على وليّ الأمر، وإثارة الفتن.

روى أبو جعفر في التاريخ: أنّ علياً علیه السلام كان في حاله بخيبر لما حُصر عثمان، فقدم المدينة والناس مجتمعون على طلحة، وكان لطلحة في حصار عثمان أثر، فجاء عليٌّ ودخل دار طلحة وهي مملوءة من الناس، فقال له: يا طلحة، ما هذا الأمر الذي صنعتَ بعثمان؟ فقال: يا أبا الحسن، أبعد أنْ مسَّ الحزام الطّيبين! فانصرف علي علیه السلام حتّى أتى بيت المال، وكسر الباب وفرّق ما فيه على الناس، فانصرف جمعهم من عند طلحة، وبقي وحده، وسُرَّ عثمان بذلك، وجاء طلحة فدخل على عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي أردتُ أمراً فحال الله بيني وبينه، وقد جئتك تائباً، فقال: والله ما جئت تائباً ولكن جئت مغلوباً، الله حسبك يا طلحة.

ص: 208

وروى أبوجعفر، قال: كان عمرو بن العاص ممّن يُحرّض على عثمان ويُغري به، وكان يقول: والله إنْ كنتُ لألقى الراعي فأحرّضه على عثمان، فضلاً عن الرؤساء والوجوه. وكان ابن العاص في فلسطين مع ولديه، إذ مرّ بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان، فقال: قُتل، فقال عمرو: أنا أبو عبدالله، إذا نكأتُ قُرحةً أدميتُها.

وقال ابن أبي الحديد: لقد غلب على معاوية ظنّه قتلُ عثمان، ورأى أنّ الشام بيده، وأنّ أهلها يطيعونه، وأنّ له حجّة يحجُّ بها عليهم، ويجعلها ذريعةً إلى غرضه، وهي قتل عثمان إذا قُتل، وأنّه ليس في أمراء عثمان أقوى منه ولا أقدر على تدبير الجيوش، واستمالة العرب، فبنى أمره من هذا على الطّمع في الخلافة. وهو القائل لصعصعة من قبل: إنّه ليس أحدٌ أقوى منّي على الإمارة، وإنّ عمراً استعملني ورضي سيرتي، وقوله لجمعٍ من المهاجرين: إنْ شرعتم في أخذها بالتغالب، وملتم على هذا الشيخ، أخرجها الله منكم إلى غيركم وهو على الاستبدال قادر، وإنّما كان يعني نفسه، وهو يُكنّي عنها، ولهذا تربّض بنصرة عثمان لمّا استنصره، ولم يبعث إليه أحد.

أمّا من يعترض على قول ابن أبي الحديد بعدم إرسال معاوية الجند والمدد للخليفة لمّا استنصره، ويُعزي ذلك أنّ معاوية كان قد عرض على عثمان إرسال جندٍ له إلى المدينة أو نقله إلى الشام حفاظاً على حياته لوجود الناصر. فتلك إحدى مناورات معاوية وخبثه، فهو يعلم يقيناً أنّ الخليفة لا يرضى التضييق على أهل المدينة وأصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بجيوش معاوية وهو بعد ذلك لا يأمن الغدر من معاوية نفسه، حين التمكّن ووجود الجيش، وهذا ليس بالبعيد عنه، ولا صعب المنال. ومعاوية يعلم أيضاً أن عثمان لا يترك المدينة ولا يُبدلها ببلاد الأرض

ص: 209

جميعاً، ولكنّها دعوةٌ ظاهريّة منه، لينال ثقة عثمان ويحظى برضائه، ويُبيّتُ لما هو قادم.

أمّا ما كان من أمّ المؤمنين عائشة تجاه عثمان، ورأيها فيه، فلا يختلف عن رأي هؤلاء من غضبها عليه ونفورها منه وتأليبها الناس على قتله.

غير ما كان من مواقف باقي الصحابة، وأهل الأمصار وغضبهم الذي تحوّل إلى معارضة ثمّ ثورةٍ، ثم جزع وقتل، والإمام علیه السلام من كلّ هذا، الناصحُ والمشير، والدافع للخطر، والمدافع عن الخليفة. ومواقفه معروفة في ردّ أهل مصر والثائرين معهم، وإرسال ولديه الحسن والحسين إلى دار الخليفة يدافعان عنه بأنفسهما، وخروجه هو بنفسه، وإيصال الماء إليه بعد أن قطعوه عنه.

فالحقّ أنّ تبعة قتل عثمان كانت عندهم، فهم من تولّى ذلك وأنّ أعظم الحجّة لعلى أنفسهم هم.

ولا يمكن استبعاد مروان بن الحكم، من كلّ ما جرى، فهو مع قربه من عثمان، وولائه له، إلّا أنّه كان السبب الرئيسي والمباشر للنتيجة المحزنة التي وصلت إليها نهاية عثمان ونشوب الفتنة وسفك الدماء. فقد أساء مروان في استخدام صلاحيّاته الواسعة التي كانت بحوزته في خلافة عثمان، وما جبل عليه مروان من خبث السريرة وسوء الخلق والطمع وكره الناس له.

وفي كلام أمير المؤمنين علیه السلام رقم 30 في الصفحة 98، ما يتّصل بهذا الموضوع، وهو قوله علیه السلام: [لو أَمرت به لكنتُ قاتلاً، أو نَهيتُ عنه لكنتُ ناصراً، غير أنّ من نصره، لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خيرٌ

ص: 210

منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خيرٌ منّي وأنا جامعٌ لكم أمره: استأثر فأساء الأثَرَةَ، وجزعتم فأسأتُم الجزع، ولله حكمٌ واقعٌ في المستأثر والجازع].

أي أنّه علیه السلام بريءٌ من دمه ولم يأمر بقتله، ولم يدافع عنه بسيفه وإنّما بلسانه، وهو الذي أمر ولداه الحسن والحسين أنْ يذبّا الناس عنه. ومن نصره ليس بأفضل ممّن خذله، لذا فناصره لا يستطيع أنْ يقول إنّي خير من خاذله، فقد اتفق أنّ ناصريه لم يكونوا في شيءٍ من الخير الذي يفضلون به علی خاذليه، و ممّن نصره مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن أبي معيط ومعاوية وغيرهم، وهم كانوا السبب والدافع لثورة الناس عليه.

* * *

(7) وصيّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

من كلام له بالرقم 37 الصفحة 112، يجري مجرى الخطبة. وفيه أربعة فصول مختلفة في القصد والمعنى، وما يهمّنا منها في ما نحن فيه الفصل الرابع، وهو قوله: [فنظرتُ في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا الميثاقُ في عنقي لغيري].

وهو ردّ وبرهان حاجج به من أشكل عليه عدم مطالبته لحقّه بشتّى الوسائل، وقبوله بالأمر، وسكوته على ذهاب الخلافة لغيره. فيقول علیه السلام: فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أي وجوب طاعتي، قد سبقت بيعتي للقوم. فوجوبُ طاعة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليُّ، ووجوب امتثالي أمره سابقٌ على بيعتي للقوم وأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أخذ عليّ الميثاق بترك المطالبة والمنازعة، فلم يحلّ لي أنْ اتعدّى أمره، أو أُخالف نهيه. والرسول صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 211

أخبره أنّ الإمامة حقّه، وأنّه أولى بها من جميع الناس، ولم يُخرجه تقدّم من تقدّم من كونه الأولى والأحق. وميثاق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم معه أنْ يُمسك عن طلبها ويُغضي عنها، لو ذهبت لغيره، للمصلحة العامة، وحفاظاً على حوزة الدين، ووحدة المسلمين، وهذا ما كان منه علیه السلام، امتثالاً لما أمره به النبيُّ من الرفق، وإيفاءَ بما أخذ عليه من ميثاق.

* * *

(8) كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطل

من كلام له رقم 40 الصفحة 114، وقد سمع قول الخوارج: لا حكم إلا الله.

فقال علیه السلام: [كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطل. نعم إنّه لا حكم إلّا لله، ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة إلّا لله، وإنّه لا بُدَّ للناس من أميرٍ برٍّ أو فاجر. يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويُبلّغ الله فيها الأجل، ويُجمع به الفيء، ويُقاتل به العدو، وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي].

عندما نادى منادي الخوارج بهذا الشعار قال علیه السلام: كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطل، وقدّم الحجج والبراهين على بطلان زعمهم أنّه لا إمرة إلّا لله. والبداهة قاضية أنْ لا بدّ للناس من إمام برّ أو فاجر، يؤدّي فيها المؤمن واجباته ويحرز أمور دينه، ويعيش حياته، وكذلك يستمتع الكافر بها، حتّى حلول الأجل. ولا بدّ أنْ تجري سائر المصالح التي ذكرها الإمام علیه السلام، من جمع الفيء، ومقاتلة العدو، وتأمين السُّبل وغيرها.

ص: 212

(9) أنباءُ السقيفة

من كلام له رقم 66 الصفحة 141، عندما انتهت إلى أمير المؤمنين علیه السلام الأنباء السقيفة قال: [ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت منّا أمير و منكم أمير. قال علیه السلام: فهلّا احتججتُم عليهم بأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وصّى بأنْ يُحسن إلى محسنهم، ويُتجاوز عن مسيئهم. قالوا: وما في هذا من الحجّة عليهم؟ فقال علیه السلام: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيّة بهم. ثمّ قال: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجّت بأنّها شجرةُ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم. فقال علیه السلام: احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ].

السقيفة: لبني ساعدة اجتمع فيها بعض الصحابة، بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، لاختيار من يخلفه.

والاحتجاج الذي قدّمه أمير المؤمنين علیه السلام، يُدحض حجّة الأنصار وحجّة قريش معاً. فالأنصار دعوا إلى أنْ يكون منهم أمير ومن قريش أمير، فاحتجَّ علیه السلام بأنّ رسول الله أوصى بأنْ يُحسن لمحسنهم ويُتجاوز عن مسيئهم، وهذا يدلُّ على أنّ الإمامة ليست فيهم، وإلّا لما كان النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم أوصى بهم، بل لكان أوصى إليهم. والخبر الوارد في الوصيّة بالأنصار، خبرٌ صحيح، أخرجه البخاري ومسلم في مسنديهما، ذلك أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم. قال في مرضه الذي توفي فيه: أوصيكم بالأنصار، فإنّهم كرشي، وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم (1).

وأمّا احتجاجه علیه السلام، على المهاجرين بقوله: احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ذلك أنّ المقصود بالثمرة أهل البيت علیه السلام، وهو نفسه .

ص: 213


1- أخرجه البخاري ج: 3799 ومسلم ح: 2510. والترمذي ح: 3904.

كان كبير ذلك البيت بعد رسول الله، وصاحب الأمر فيه، وقد تكرّر منه أمثال هذا القول، نحو: «إذا احتجّ عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و كانت الحجّة لنا على المهاجرين بذلك قائمة، فإنْ فَلَجَتْ حجّتهم كانت لنا دونهم وإلّا فالأنصار على دعوتهم».

ونحو ذلك قول العباس عمّ النبي لأبي بكر: وأمّا قولك: نحن شجرةُ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فإنّكم جيرانُها، ونحن أغصانُها.

* * *

(10) ردُّ التهمة مرة أخرى

من كلام له رقم 74 الصفحتان 152 و 153، وقد بلغه اتّهام بني أميّة له بالمشاركة في دم عثمان.

قوله علیه السلام: [أوَلم ينه أميّة علمها بي عن قرفي؟ أوَ ما وزع الجهّال سابقتي عن تهمتي؟ ولما وَعَظَهم الله به أبلغ من لساني. أنا حجيج المارقين، وخصيم الناكثين المرتابين، وعلى الله تُعرض الأمثالُ، وبما في الصدور تُجازى العباد].

قرفه: عابه أي ألم يكن في علم بني أميّة مكانتي في الدين، والتحرّج من سفك الدّماء بغير حقّ، ما ينهاهم عن أنْ يعيبوني، في اتّهامي بالاشتراك بدم عثمان، وقد علموا أنّي كنت له لا عليه، ومن أحسن الناس قولاً فيه؟ ثمّ ذكر أنّ الله تعالى وَعَظَهم في الغيبة بأنّها في منزلة أكل لحم الأخ ميتاً.

وهو علیه السلام حجيج المارقين، أي خصيمهم، وخصيم المرتابين الذين لا يقين لهم، وقد قارعهم بالبرهان فغلبهم.

ص: 214

والأمثال: متشابهات الأعمال والحوادث تُعرض على القرآن، فما وافقه فهو الحقّ، وما خالفه الباطل. والإمام علیه السلام قد جرى على حكم القرآن فى كلّ عمل عمله، فليس للغامز عليه أنْ يُشير بأيّ مطعن ما دام ملتزماً الكتاب وأحكامه.

وأخيراً قوله علیه السلام: وبما في الصدور تُجازي العباد، فإنّ الله سبحانه سيُجازي بالعقوبة والعذاب من اتّهمني بالباطل ونسب إليّ ما لم أفعله.

وهذه الحجج والبراهين، مع ما ذكرها في خطب سابقة من ردّ التّهم المنسوبة له، في موضوع دم عثمان، من الذين كانت لهم اليد الطولى، والسبب المباشر في ما وصل إليه الخليفة عثمان، ولكنّها المصالح، وحبّ الدنيا، وعدم مخافة الله وعدم التقوى: ما يدفع هؤلاء إلى إيراد الأكاذيب والدعاوى الباطلة، التي كان أمير المؤمنين يردّها في الحال، وببراهين لا تقبل الردّ، ولا تقف حيالها حجّة، وهو من قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «عليٌّ مع الحقّ والحق مع علي، يدور حيثما دار».

* * *

(11) رأيه في التنجيم

من كلام له علیه السلام رقم 78 الصفحة 156، قاله لبعض أصحابه، لمّا عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له يا أمير المؤمنين إنْ سرتَ في هذا الوقت خشيت أنْ لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فقال علیه السلام: [ أتزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي منْ سار فيها صُرف عنه السوء؟ وتخوّف من الساعة التي منْ سار فيها حاق به الضرُّ؟ فمن صدّقكَ بهذا، فقد كذَّب القرآن واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب، ودفع المكروه، وتبتغي في قولكَ للعامل بأمرك أنْ يوليك الحمد دون ربّه، لأنّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النّفع وأمن الضُّرَّا].

ص: 215

هو برهانٌ على خطأ رأي المنجّمين، وتسفيه رأيهم، ودعوة لتعلّم علم الهيئة الفلكية وسير النجوم وحركاتها للاهتداء بها، وبطلان ما يُسمّى (علم التنجيم) وهو العلم المبني على الاعتقاد بروحانيّة الكواكب، وأنّ لتلك الروحانية سلطاناً معنوياً على العوالم العنصريّة، وأنّ من يتّصل بأرواحها، بنوع من الاستعداد والرياضة، تُكشف له ما غاب من أسرار الحال والاستقبال. وهذا ما نهى عنه علیه السلام.

وردّ على من طلب منه عدم المسير بوقتٍ معيّن خشية أن لا يظفر بما يطلب، في أنّ ذلك يقتضي للعامل بما تقول أنْ يوليك الحمد دون الله، لأنّك هديته إلى ساعة النفع ودفعته عن ساعة الضرر. وهذا كفر محض.

ثمّ قال علیه السلام: [أيّها الناس! إيَّاكم وتعلّم النّجوم إلّا ما يُهتدى به في برِّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، والمنجّم كالكاهن، والكاهن کالساحر، والسّاحر كالكافر، والكافر في النّار].

الكاهن: من يدّعي كشف الغيب، وكلام أمير المؤمنين علیه السلام حجّة حاسمة لخيالات المعتقدين بالرمل والجفر والتنجيم وما شاكلها، ودليل على عدم صحّتها ومنافاتها للأصول الشرعيّة والعقليّة.

* * *

(12) عجباً لابن النابغة

من الخطبة رقم 83 الصفحتان 175 و 176 في عمرو بن العاص.

يقول علیه السلام: [عجباً لابن النابغة، يزعم لأهل الشام، أنَّ فيَّ دُعابة، وأنّي امرؤٌ تلعابة، لقد قال باطلاً، ونطق آثماً. ألا وشرُّ القول الكذب،

ص: 216

إنّه ليقولُ فيكذب، ويعدُ فيُخلف، ويَسأل فيُلحف، ويُسأل فيَبخل، ويخون العهد، ويقطع الإلَّ. فإذا كان عند الحرب، فأيُّ زاجرٍ وآمرٍ هو مالم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك، كان أكبر مكيدته أنْ يمنح القرم سُبَّتَهُ. أما والله إنّي ليمنعني من اللّعب ذكرُ الموت، وإنّه ليمنعه من قول الحقِّ نسيانُ الآخرة].

النابغة: المشهورة في ما لا يليق بالنّساء، وهو لقب أم عمرو بن العاص. الدعابة: المزاح. تلعابة كثير اللعب. يُلحف: يلح. الإلّ: القرابة، ويقطع الإلّ أي يقطع الرحم. السبَّةَ: الإست، وأكبرُ مكيدةٍ لعمرو بن العاص، فِعْلته عندما نازل أمير المؤمنين في صفّين، وصرعه الإمام وكاد أن يضرب عنقه، فكشف عورته، فالتفت عنه وتركه.

والإمام علیه السلام، في كلامه عن ابن العاص، يوضّح بقول الحقّ مثالب هذا الرجل، الذي حاول هو وغيره إيجاد مثلبة واحدة لأمير المؤمنين فعجزوا، حتّى ألصق ابن العاص من بنات أفكاره ومن خياله المريض تهمة الدّعابة والتلعابة بمقام أبي الحسن، وهو قبل غيره يعرف من هو أبو حسن.

وقد أوردنا ذكر ابن النابغة في هذا الباب، ليتبيّن نوع الأشخاص الذين خالفوا أمير المؤمنين، ووقفوا بالصفّ المعادي له، ذلك أنّهم لا يمكن لهم أنْ يكونوا بصفّه، وهم والدين والخلق والحقّ والعدل على خلاف.

ومن أخبار ابن العاص: هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي. أبوه العاص بن وائل، الذي أنزل الله سبحانه فيه: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ 3) (1) ذلك أنّه كان يقول: سيموت محمد غداً فينقطع ذكره، .

ص: 217


1- سورة الكوثر، الآية: 3.

ودعاه الأبتر. وهو أحد المستهزئين برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفيه وفي أصحابه نزل أيضاً: ﴿إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ 95) (1). وكان عمرو يؤذي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمكّة ويشتمه ويضع في طريقه الأحجار والأشواك، وهو أحد الأشخاص، الذين روّعوا زينب ابنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لمّا خرجت مهاجرة إلى المدينة حتّى أجهضت جنينها، وقد آلم ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وشقَّ عليه مشقّة شديدة. وقد هجا عمرو بن العاص رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان يُعلّم الصبيان هجاءه ليُنشدونه بوجه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إذا مرّ بهم، وقد دعا عليه النبيّ وهو يصلّي: اللهم إنّ عمرو بن العاص هجاني، ولستُ بشاعر، فالعنه بعدد ما هجاني.

ويوماً كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ساجداً بفناء الكعبة، فأخذ العاص ومعه عقبة بن أبي معيط، والنّضر بن الحارث سلى جَملٍ ووضعه على رأسه، فسال عليه، فصبر ولم يرفع رأسه، حتّى جارت فاطمة علیها السلام فرفعت ذلك السلى عن رأسه وألقته، وقد دعا عليهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولشدّة عداوة عمرو لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أرسلته قريش إلى الحبشة، ليقتل جعفر بن أبي طالب، إنْ أمكنه، أو يُعيده هو ومهاجرة الحبشة إلى سادات مكّة، وليزهّد ملك الحبشة بالدين الإسلامي. وليس خافياً ما قام به ابن النابغة، من إشعال الفتن، والتأليب على عثمان، وبثّ الفرقة بين المسلمين، وما قام به من مؤازرةٍ لمعاوية ومساعدته على غيّه، واستعمال المكائد في صفّين، من رفع المصاحف، وبعدها في التحكيم، وما خالف به أحكام الله، واتباعه الهوى، وبيع الدّين بالدنيا، إنْ كان له دين، حتّى كان من رؤوس القاسطين الذين أوعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بهم، وقال لعلي علیه السلام:5.

ص: 218


1- سورة الحجر، الآية: 95.

ستُحارب الناكثين والمارقين والقاسطين والله يقول: ﴿وَأَمَا الْقَسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا 15) (1).

أمّا النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب «ربيع الأبرار» قال: كانت النابغة أمّ عمرو بن العاص، أمةٌ لرجل من عنزة، فسُبيت، فاشتراها عبدالله ابن جدعان، فكانت بغياً، ثمّ أعتقها، فوقع عليها أبو لهب، وأميّة بن خلف، وهشام بن المغيرة، وأبو سفيان، والعاص بن وائل السّهمي، في طُهرٍ واحد، فولدت عمراً، فادّعاه كلّهم، فحكّمت أمّه فيه، فقالت: هو من العاص بن وائل، وذاك لأنّ العاص كان يُنفقُ عليها كثيراً.

قالوا: وكان أشبه بأبي سفيان، وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب:

أبوك أبو سفيان لا شكّ قد بَدَتْ لنا فيك منه بيّنات الدلائلِ واسمها سلمى بنت حرملة من بني جلّان بن عنزة بن أسد، وتلقّبت بالنابغة.

وجرى حديث في مجلس معاوية، حضره أشخاص من جملتهم عمرو بن العاص، تحدّث به الإمام المجتبى الحسن بن علي علیه السلام، وهو يردُّ على هؤلاء، بعد أن تحزّبوا ضد الإمام الحسن، وشتموا أمير المؤمنين علیه السلام أمامه وبحضور معاوية.

وممّا قاله بخصوص ابن العاص مواجهةٌ: أمّا أنت يابن العاص، فإنّ أمرك مشترك، وضعتك أُمّك مجهولاً، من عُهر وسفاح، خاصم فيك أربعة من قريش، فغلب عليك جزّارُها، الأمهم حسباً، وأخبثهم منصباً، ثمّ قام أبوك فقال: أنا شانيء محمّد الأبتر، فأنزل الله فيه ما أنزل. وقاتلت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في جميع المشاهد، وهجوته، وآذيته بمكّة وكدته 5.

ص: 219


1- سورة الجن الآية: 15.

كيدك كلّه، وكنت من أشدّ الناس كه تكذيباً وعداوةً. ثمّ خرجت تُريد النجاشيّ مع أصحاب السفينة، لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكّة، فلمّا أخطأك ما رجوت ورجعَك الله خائباً، وأكذبك واشياً، جعلت حدّك على صاحبك عُمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي، حسداً لما ارتكب مع حليلتك، ففضحك الله وفضحَ صاحبك. فأنت عدوّ بني هاشم في الجاهليّة والإسلام.

وإنّك هجوت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بسبعين بيتاً من الشعر، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: اللهم إنّي لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكلّ حرفٍ ألف لعنة، فعليك إذاً من الله ما لا يُحصى من اللعن.

وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعّرت عليه الدنيا ناراً، ثمّ

لحقت بفلسطين، فلمّا أتاك قتله قلت: أنا أبو عبد الله إذا نكأتُ قرحة أدميتُها، ثمّ حبست نفسك إلى معاوية، وبعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بُغض، ولا نعاتبك على ودّ وبالله ما نصرت عثمان حيّاً ولا غضبت له مقتولا، فهذا جوابك، هل سمعته؟

ولابن النابغة نصيبٌ من عبدالله بن جعفر شبه هذا الكلام ونحوه، فى مجلس معاوية أيضاً. وكذلك من عبدالله بن عباس، وقد دعاه معاوية لمجلسه، وأحضر أصحابه، ومن جملتهم عمرو بن العاص، وقد طلب منهم معاوية أن يُحرّكوه على الكلام، ويتحرّشوا به، فنالهم ونال ابن النابغة ما يستحق، وما هو حقٌّ فيه من المثالب والمخازي التي كتبها تأريخه الأسود.

ومن قول ابن عباس:

«فلمّا رأيت الكواشر من الموت، أعددت حيلة السلامة قبل لقائه،

ص: 220

والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه، فمنحته - رجاء النجاة - عوْرتك، وكشفت له - خوف بأسه - سؤأتك، حذراً أنْ يصطلمك بسوطته، ويلتهمك بحملته». معرضاً بكشف عورته عند النزّال. وفي ذلك يقول الشاعر:

لا خير في ردّ الردى بمذلَّةٍ *** كما ردّها يوماً بسوءته عمرُو

* * *

(13) هذا جزاءُ من ترك العُقدة

من كلام له رقم 120 الصفحة 261، وقد قام إليه رجلٌ فقال: نهيتنا عن الحكومة ثمَّ أمرتنا بها، فما ندري أيُّ الأمرين أرشد؟ فصفق علیه السلام إحدى يديه على الأخرى ثمّ قال: [هذا جزاءُ من ترك العقدة! أما والله لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً، فإن استقمتم هَديتكم وإن اعوججتم قوّمتكم، وإنْ أبيتم تداركتكم لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من؟]

والكلام الذي قاله الرجل لأمير المؤمنين علیه السلام، شبهة من شبهات الخوارج، وقول الإمام علیه السلام: هذا جزاء من ترك العُقدة، هو ما حصل عليه التعاقد من حرب الخارجين عن البيعة، حتّى يكون الظفر أو الهزيمة. وما كان يدعوهم ويحملهم على حرب أهل صفّين، وترك الالتفات إلى مكيدة رفع المصاحف، وقوله: إنّها كلمة حقٍّ أُريد بها باطل، وإنْ كان ذلك مكروهاً لديهم، لطول زمن الحرب، وذهاب الأنفس، فإنّ الله سبحانه كان يجعل فيه خيراً لهم، من النصر، والتخلّص من شرور معاوية. كما قال سبحانه: (فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا 19) (1) 9.

ص: 221


1- سورة النساء، الآية: 19.

فلو استقاموا وقبلوا رأيه، وتركوا دعوة وقف القتال، لاهتدوا، وإنْ لم يستقيموا، وكان منهم الفتور وعدم الجدّ في القتال، قوّمهم بالتأديب أو الإرشاد والوعظ والتحريض والتشجيع.

وإنْ كان منهم الامتناع الكامل عن الحرب تداركهم باستنجاد قبائل العرب وأهل خراسان والحجاز، فهم جميعاً كانوا من القائلين بإمامته، والمبايعين له. ويقول علیه السلام: لو فلت ذلك لكانت الوثقى، أي الرأي الأصوب والأحزم. ولكن بمن كنتُ أستعين وأعمل بذلك، فأمّا الحاضرون من شيعتي فأنتم وحالكم معلومة في الشقاق والعصيان، وأمّا الغائبون منهم كأهل البلاد النائية، فإلى أنْ يصلوا يكون العدوّ قد نال غرضه منّي.

وكان الأشعث بن قيس، حينما سمع قول الإمام علیه السلام: هذا جزاء من ترك العقدة، اعترضه وقال: يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك، فخفض أمير المؤمنين إليه بصره ثمّ قال: وما يُدريك ما عليَّ ممّا لي! عليك لعنةُ الله ولعنةُ اللّاعنين.

والأشعث لم يفهم مراد الإمام بقوله فظنّ أنّه قصد: هذا جزائي حيثُ تركتُ الرأي والحزم وحكّمت. إنّما كان مراده علیه السلام: هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي والحزم.

والأشعث هذا كان أبداً أشعث الرأس فسمّي به، وغلب عليه حتى نُسي اسمه. واسمه: معدي كرب، وأبوه قيس الأشجّ وكان الأشعث من المنافقين، وهو في أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، كما كان عبدالله بن أبيّ ابن سلُول في أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. كلُّ واحدٍ منهما رأس النفاق في زمانه. وكانت نساءُ قومه تدعوه: عُرفَ النّار، وهو اسمٌ للغادر عندهم، حيث دلَّ على قومه، حين حاصرهم زياد بن لبيد عامل أبي بكر على

ص: 222

حضرموت، وطلب الأشعث الأمان له ولعشرة من أهله، ثمّ قُتل الباقون بأجمعهم، وكانوا ثمانمائة.

ومن كلام له رقم 121 الصفحة 263، ما يتّصل بنفس موضوع الحكومة، قاله للخوارج، وهم مقيمون على إنكارها.

فكلّمهم علیه السلام بكلام طويل منه: [ألم تقولوا، عند رفعهم المصاحف حيلةً وغيلة، ومكراً وخديعة: إخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأيُ القبول منهم والتّنفيس عنهم. فقلت لكم: هذا أمرٌ ظاهره إيمانٌ وباطنه عدوان، وأوّله رحمةٌ وآخره ندامة فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعَضُّوا على الجهاد بنواجذكم، ولا تلتفتوا إلى ناعقٍ نعق، إنْ أُجيبَ أَضَلَّ، وإنْ تُركَ ذلَّ، وقد كانت هذه الفعلةُ، وقد رأيتكم أعطيتموها، والله لئن أبيتُها ما وجبت عليَّ فريضتها، ولا حمّلني الله ذنبها ].

ومن كلام له أيضاً في التحكيم، رقم 123 الصفحة 270، قاله للخوارج لمّا أنّكروا عليه تحكيم الرجال: [إنا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن، وهذا القرآنُ إنّما هو خطٌّ مستورٌ بي الدّفّتين لا ينطقُ بلسان ولا بدَّ له من تَرجُمان، وإنّما ينطقُ عنه الرجال. ولمّا دعانا القوم إلى أنْ نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله تعالى.

وقد قال سبحانه: ﴿ففَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) فردّه إلى الله أنْ نحكم بكتابه، وردُّه إلى الرسول أنْ نأخذ بسنّته، ... وأمّا قولكم: لم جعلتَ بينك وبينهم أجلاً في التحكيم، فإنّما فعلتُ ذلك ليتبيّن الجاهل، ويتثبّت العالم، ولعلَّ الله أن يُصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمّة ].

ص: 223

يقول علیه السلام: إنّ قول الخوارج أنّي حكّمتُ الرجال، دعوى غير صحيحة، وإنّما حكّمت القرآن والقرآن لا بدّ له من يُترجم عنه، فهو لا يتكلّمُ بنفسه. ثمّ إنّنا لمّا دُعينا إلى كتاب الله، لم نكن الفئة المعرضة، بل أجبنا إلى ذلك، وعملنا بقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وهذا يعني: الحكم بالكتاب والسنّة، فإن عُمل بالحقّ، لا بالهوى والعصبيّة، كنّا أحقُّ بولاية أمر الأمّة.

أمّا ضرب الأجل في التحكيم، فهو من التثبّت والأناة، فيعلم الجاهل ما جهله، والعالم يثبت على ما علمه، ورجاء الإصلاح لأمر هذه الأمّة.

وفى ما تقدّم من مناظرات واحتجاجات بين أمير المؤمنين، وبين الخوارج ومن اعترض عليه التحكيم والأجل في التحكيم، وغيرها من أمور حدثت بعد صفّين، هي براهين وحجج ساقها إليهم، ليزيل الشبهة، ويعيدهم إلى سواء السبيل، ويُنقذهم من الضلال الذي أدخلوا أنفسهم فيه.

وقد رجع الكثير منهم إلى رشدهم، وعادوا إلى يقينهم، بعد أنْ تبيّنت لهم الحقيقة، وأُزيلت عن عينهم الغشاوة، واستمعوا كلام أمير المؤمنين ووعوه، وتركوا العصبيّة ونزغات الشيطان. ومن تمادى منهم، وركب رأسه وغيّه انخرط في صفوف الخوارج، ومرق من الدّين مع من مرق. وكانت نتيجتهم أُسوأُ نتيجةٍ، ومصيرهم أظلمُ مصير.

* * *

(14) المالُ مالُ الله

من كلام له رقم 124 الصفحتان 271، 272، وقد عاتبه البعض على التسوية في العطاء.

ص: 224

قال: [ أتأمروني أنْ أطلب النصر بالجور فيمن وُلِّيتُ عليه، والله ما أطورُ به ما سَمَر سَميرٌ، وما أَمَّ نجمٌ فى السّماء نجماً. لو كان المالُ لي لسوّيتُ بينهم، فكيف وإنّما المالُ مالُ الله! ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذيرٌ وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرّمه في الناس، ويُهينُهُ عند الله، ولم يضع امرؤٌ ماله في غير حقّه ولا عند غير أهله إلّا حرمه الله،شكرهم وكان لغيره ودّهم، فإنْ زلّت به النَّعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشرُّ خدين، وألأمُ خليل].

لا أطور: أي ما أمرُّ به ولا أُقاربه، مبالغةً في الابتعاد عن العمل

بما يقولون. سمر سمير: أي ما قام الدهر.

وما أمّ نجمٌ: أي قصد وتقدّم. والخدين: الصديق.

والإمام علیه السلام هنا يردُّ على من عاتبه على التسوية في العطاء، وعدم التفرقة بين الناس، وقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأبو بكر لا يفرّقان في العطاء، حتّى جاءت خلافة عمر، وفضّل بعض الناس على بعض، ففضّل السابقين على غيرهم، والمهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضّل المهاجرين كافّة على الأنصار، والعرب على العجم، والصريح على المولى، وبين زوجات النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بعضهنّ على بعض. ومن بعده عثمان، فقد سار في العطاء بسيرة عمر في التفضيل، وزاد عليه بتمييز بني أميّة، وتفضيلهم، ومنحهم القطائع والأموال، حتّى طال الأمد، وتعوّد الناس على ذلك.

والإمام يقول: كيف تأمرونني أنْ أطلب النصر من الله بأن أجور على قومٍ ولّيت عليهم، ولهذا الكلام قصدٌ آخر: أي أنني لا أطلب النصر والانتصار بمن أهبهم الأموال بغير حقّها، وأحرمها أصحابها. ثمّ يقول: لو كان المال لي وأنا صاحبه لسوّيت في العطاء، فكيف والمال مالُ الله،

ص: 225

وأنا وكيلٌ عليه، أمرت أنْ أعطيه أصحابه، ولا أفرّق في تقسيمه ولا أجور في توزيعه.

ثمَّ ذكر أنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذيرٌ وإسرافٌ، وقد نهى الله عن الإسراف. وإنْ كان إعطاء المال بغير حقّه يرفع صاحبه عند الناس، فإنّ ذلك يضعه عند الله، وهو محاسبٌ عليه. وإنّه لم يسلك أحدٌ هذا المسلك إلّا حرمه الله ودّ الذين يتحبّب إليهم بإعطائهم المال، ولو احتاج إليهم يوماً عند عثرةٍ يعثرها فلن يجدهم.

* * *

(15) احتجاجه على الخوارج

من كلام له رقم 125 الصفحتان 272، 273، قاله علیه السلام لما رأى من الخوارج استعراض العامّة وقتل الأطفال والنساء، وحتّى البهائم، وقد كان منهم قومٌ فعلوا ذلك. ولهم وقائعُ فظيعة في الناس يذكرها التأريخ، وكانوا يقولون: إنّ الدار دار كفر لا يجوز الكفّ عن أحدٍ من أهلها، فهؤلاء هم الذين وجّه إليهم خطابه وإنكاره.

والخوارج كلّهم يذهبون إلى تكفير أهل الكبائر. واحتجاج أمير المؤمنين الذي احتجّ به عليهم لازمٌ وصحيح، لأنّه لو كان صاحب الكبيرة كافر لما صلّى عليه رسول الله، ولا ورّثه من المسلم، ولا أباح له نكاح المسلمات، ولا أعطاه من الفيء ولأخرجه من لفظ الإسلام.

قال علیه السلام للخوارج: [فإنْ أبيتم إلّا أنْ تزعموا أنّي أخطأتُ وضللتُ، فلِمَ تُضلّلون عامّة أمّة محمد صلی الله علیه و آله و سلم بضلالي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفّرونهم بذنوبي. سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البُرء والسُّقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يُذنبْ، وقد علمتم أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجَمَ الزاني

ص: 226

المحصن، ثمَّ صلَّى عليه، ثمّ ورّثه أهله. وقَتَلَ القاتل وورَّثَ ميراثه أهله، وقطع يد السّارق، وجلد الزّاني غير المحصن، ثمَّ قَسَم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات فأخذهم بذنوبهم، وأقام حقَّ الله فيهم].

وبهذا احتجّ أمير المؤمنين علیه السلام، وبيّن فساد رأيهم، وبطلان معتقدهم وزعمهم أنّ من أخطأ أو أذنب فقد كفر، وأقام الحجّة عليهم فيما رواه عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

* * *

(16) في شأن طلحة والزبير

من كلام له رقم 135 الصفحتان 284، 285.

قوله علیه السلام: [ والله ما أنكروا عليَّ منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً، وإنّهم ليطلبون حقّاً هم تركوه ودماً هم سفكوه، فإنْ كنتُ شريكهم فيه فإنَّ لهم نصيبهم منه، وإن كانوا وَلُوه دوني فما الطّلِبَةُ إلّا قبلهم].

وقد ورد مثل هذا الكلام في الخطبة رقم 22 الصفحة 80، وقد أدرجناها في «ردّ التهمة» بالرقم «6» من هذا الباب، ونُضيف هنا بعض الأخبار المعنيّة بنفس الموضوع: عن ابن أبي الحديد، روي أنّ عثمان قال: ويلي على ابن الحضرميّة - يعني طلحة - أعطيته كذا وكذا بُهاراً ذهباً، وهو يروم دمي يُحرّض على نفسي، اللّهم لا تمتعه به ولقِّه عواقب بغيه.

وروى الناس الذين صنّفوا في واقعة الدار أنّ طلحة كان يوم قُتل عثمان مقنّعاً بثوب قد استتر به، يرمي الدار بالسّهام، ورووا أنّه لمّا امتنع على الّذين حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة إلى دارٍ لبعض الأنصار، فأصعدهم إلى سطحها، وتسوّروا منها على دار عثمان وقتلوه.

ص: 227

ورووا أيضاً أنّ الزبير كان يقول: اقتلوا عثمان فقد بدّل دينكم، فقالوا: إنّ ابنك يُحامي عنه بالباب، فقال: ما أكره أن يُقتل عثمان ولو بُدىءَ يا بني. «وأضاف الزبير كلاماً لا يليق ذكره عن عثمان، ولا هو حقٌّ فيه».

وكان مروان يقول: والله لا أترك ثأري وأنا أراه، ولأقتلنّ طلحة بعثمان، فإنّه قتله. ثمّ رماه بسهم فأصابه في مأُبضه، فنزف الدم حتّى مات، وذلك يوم الجمل.

ومن جملة احتجاجات أمير المؤمنين علیه السلام، والبراهين التي ذكرها في براءته ممّا نسبوه إليه من أمر عثمان، قوله علیه السلام: والله ما أنكروا عليَّ أمراً هو منكر في الحقيقة، وإنّما أنكروا ما الحجّة عليهم فيه لا لهم، وأنّ الذي حملهم على ذلك، الحسد وحبّ الاستئثار والتفضيل بالعطاء، وغير ذلك ممّا لا يُجيزه أمير المؤمنين لخلافه الشرع والعدل. وهم لم يجعلوا بيني وبينهم وسيطاً يحكم ويُنصف، بل خرجوا عن طاعتي، وذهبوا إلى البصرة يظهرون أنّهم يطلبون الحقّ، وقد تركوه في المدينة. وأنّ أوّل العدل أنْ يحكموا على أنفسهم، وإنْ كان دم عثمان قبلهم، فالواجب أنْ ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم.

* * *

(17) معاقبة القاتل

من كلام له رقم 166 الصفحة 342

بعدما بويع بالخلافة، وقد قال له قومٌ من الصحابة: لو عاقبت من أجلب على عثمان، فقال علیه السلام: [ إنّي لستُ أجهلُ ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوّةٍ، والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم، يملكوننا ولا نملكهم؟ وها

ص: 228

هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفّت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا. إنّ هذا الأمر أمرُ جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادة. إنّ الناس من هذا الأمر - إذا حُرّك - على أمور: فرقةٌ ترى ما ترون، وفرقةٌ ترى ما لا ترون، وفرقةٌ لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتى يهدأ الناس ... ].

على حدّ شوكتهم: أي لم تنكسر سورتُهم. والعبدان: جمع عبد.

وخلالكم: أي بينكم. مادة: عون وقوّة.

واضحٌ من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، أنّه يرى محاسبة منْ حاصر عثمان والاقتصاصُ من قاتليه، ولذا قال: إنّي لستُ أجهل ما تعلمون. ولكن أوضح لهم تعذّر القيام بذلك في الحال، وبيّن أسبابه، وذكر جملة من المعوقات منها: أنّ الثائرين على عثمان والمحاصرين له، هم أكثر أهل المدينة ومنْ حضر من أهل مصر والكوفة، ومن انضمّ إليهم من أعراب البادية، لا يزالون في شدّة سورتهم، وحدّة هيجانهم وهم ليسوا بالقليل وعندهم العدّة والسلاح والعدد ويُقيمون بينكم يفعلون ما يشاؤون. والأمر أمر جاهليّة، إذا حُرّك فلا تُؤْمن عواقبه والناس مختلفون فيه: فمنهم من يؤيّد رأي المعاقبة، ومنهم من لا يؤيد ذلك، وقسمٌ ثالث لا يرى هذا ولا ذاك، فيحدث الاختلاف واحتمال قيام فتنة جديدة. فكان الأصوب الانتظار لحين سكون الفتنة، وتفرّق الناس وعودة القادمين كلٌّ إلى بلده، ثمّ يُنظر في ذلك الأمر وتؤخذ الحقوق بيسر. وهذا عين الحقّ ومحض الصواب.

يقول ابن أبي الحديد وكان علیه السلام يؤمل أن يُطيعه معاوية وغيره، وأنْ يحضر بنو عثمان عنده يُطالبون بدم أبيهم، ويعيّنون قوماً بأعينهم، بعضهم للقتل، وبعضهم للحصار وبعضهم للتسوّر، كما جرت عادة المتظلّمين إلى الإمام والقاضي، فحينئذٍ يتمكّن من العمل بحكم الله

ص: 229

تعالى. فلم يقع الأمر بموجب ذلك، فعصى معاوية وأهل الشام، والتجأ ورثة عثمان إليه، وفارقوا حوزة أمير المؤمنين علیه السلام، ولم يطلبوا القصاص طلباً شرعيّاً، وإنّما طلبوه مغالبة، وجعلها معاوية عصبيّة الجاهليّة، ولم يأتِ أحدٌ الأمر من بابه. وقبل ذلك ما كان من أمر طلحة والزبير. ونقضهما البيعة، ونهبهما أموال المسلمين بالبصرة وقتلهما الصالحين من أهلها، وجرت أمور كلّها تمنع الإمام من التّصدّي للقصاص، واعتماد ما يجب اعتماده، لو كان الأمر وقع على القاعدة الصحيحة، من المطالبة بذلك على وجه السكون والحكومة، وقد قال علیه السلام لمعاوية: فأمّا طلبك قتلة عثمان، فادخل في الطاعة، وحاكم القوم إليّ، أحملك وإيّاهم على كتاب الله وسنّة رسوله.

وفي حقيقة الأمر إنّ مَنْ طالب بالثأر لدم عثمان، كمعاوية وطلحة والزبير، لم يطلبوا ذلك انتصاراً لقمان، فهم مَنْ شارك وساعد وساهم - کلٌّ حسب طاقته - بسفك دمه، ولكنّهم استخدموا هذه الذريعة ليمرروا خروجهم على الإمام ونقض بيعته، والسعي لإفساد الأمر عليه، وإشعال الفتن، لتحقيق أطماعهم، فكلُّ واحدٍ منهم اشرأبّت عنقه للخلافة، وطمع فيها. ثمَّ إنّ عصيان معاوية، ومن قبله خروج طلحة والزبير، ومن ساندهم، منع الإمام من إقامة الحدود على من اتّهموا بحصار عثمان وقتله، بتتبع هؤلاء واستخدام طرق الاغتيال والقتل من دون الرجوع إلى الإمام أو إلى القضاء. ومن المؤكد أنّ إيقاد الفتنة، وجعل جذوة حادثة الدار مشتعلة، وفورتها قائمة، من أهم أهداف معاوية وابن العاص وأتباعهما من الأمويين، وأعداء الإمام. ليبقى مسلسل سفك الدماء مستمراً، ولخلق الأجواء المشحونة، وتعكير أجواء الخلافة، وتهييج الرأي العام وإثارة النّعرات ومن بعدها تكون الأجواء مناسبةً لمعاوية فينقضَّ على الخلافة، ويفعل ما يُريد. وهذا هو الذي حصل وآلت إليه الأمور،

ص: 230

بعد أن تهيّأت لمعاوية كل الظروف، وساعده على إدراك أطماعه وإتمام جريمته بالدرجة الأولى طلحة والزبير وأصحاب الجمل، بإشغالهم الإمام وإضعاف الروح القتاليّة عند أصحابه، ثم الخوارج الّذين مرقوا من الدّين، وأشغلوه بحرب أخرى هي النهروان.

* * *

(18) مساقط الغيث

من كلام له رقم 168 الصفحتان 344 و 345، کلّم به بعض العرب، وقد أرسله قومٌ من أهل البصرة لمّا قرب علیه السلام منها، ليعلم لهم حقيقة حاله مع أصحاب الجمل، لتزول الشبهة من نفوسهم، فبيّن له علیه السلام من أمره معهم ما علم به أنّه على الحقّ، ثمّ قال له الإمام: بايع، فقال: إنّي رسول قومٍ ولا أُحدثُ حدثاً حتّى أرجع إليهم.

فقال علیه السلام: أرأيت لو أنّ الّذين وراءَكَ بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم، وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجاذب، ما كنت صانعاً؟

قال: كنتُ تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء. فقال علیه السلام: فامدد إذاً يدك. فقال الرجل: فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليَّ، فبايعته].

وقد أعطاه الإمام اه الإمام البرهان الواضح بهذا المثال اللطيف الذي ساقه إليه، وأقام الحجّة عليه فبايعه، ولم ينتظر حتّى يعود لقومه بعد أن عرف الحقّ واقتنع بقول الإمام، فما الحاجة لرأي الآخرين؟

* * *

ص: 231

(19) المقارعة بالحجّة

من الخطبة رقم 170 الصفحة 346، في من رماه بالحرص، قوله علیه السلام: [وقال قائلٌ: إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلتُ: بل أنتم والله لأحرص وأبعد، وأنا أخصُّ وأقرب، وإنّما طلبتُ حقاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه. فلمّا قرعتُهُ بالحجّة في الملأ الحاضرين، هبَّ كأنّه بُهت لا يدري ما يُجيبني به].

يقول البعض إنّ القائل هو سعد بن أبي وقّاص، وذلك يوم الشورى، وبعضٌ قال: هو أبو عبيدة بن الجراح في يوم السقيفة، فإنْ كان القائل سعد، فذلك غريبٌ منه، مع روايته في أمير المؤمنين علیه السلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

وقرعته بالحجّة: صدمته بها والحجّة ما ذكره علیه السلام من حقه الذي طالب به، وهم الّذين حالوا بينه وبين أنْ يصل إليه. والثابت عندهم قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم له يوم غدير خم: من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، وغيره من الأحاديث التي تبيّن وتثبتُ ذلك الحقّ الذي طالب به، وهم يدفعونه عنه، ويطلبون نفس الأمر، ولكن من دون حجّة أو برهان. فمن يكون الأحرص في الطلب إذاً؟

وهبّ لا يدري ما يجيبني: كما تقول استيقظ وانتبه، بعد أنْ كان غافلاً عن الحجّة، فلمّا سمعها بانت له الحقيقة وانتبه. وفي الصفحة 347 يقول علیه السلام: [ثمّ قالوا ألا إنّ في الحقّ أنّ تأخذه وفي الحقّ أنْ تتركه].

وتلك حجّة أخرى، باعترافهم أنّه صاحب الحقّ، وإقرارهم لفضله، وأنّه أجدرهم في القيام بالأمر. ولمّا اختير في الشورى غيره، قالوا للإمام: في الحقّ أنْ تتركه، وهذا تناقضٌ واضحٌ في الحكم، فلا يكون الحقّ في الأخذ إلّا لمن توفّرت فيه شروطه.

ص: 232

وفي نفس الخطبة، ونفس الصفحة 347، في ذكر أصحاب الجمل، قوله علیه السلام: [ فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلاً واحداً، معتمدين لقتله بلا جرمٍ جرَّهُ، لحلّ لي قتلُ الجيش كلّه، إذْ حضروه فلم يُنكروا، ولم يدفعوا عنه بلسانٍ ولا يد دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثلُ العدّة التي دخلوا بها عليهم].

قال القطب الراوندي: يريد أنّهم داخلون في عموم قوله تعالى: (إإِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) (1).

فلو كان المقتول واحداً لحلّ قتلهم بأجمعهم، لحضورهم وعدم الدفاع بلسانٍ ولا بيد، واعتقادهم إباحة ما حرّم الله من سفك الدم الحرام. فكيف وقد قتلوا من المسلمين الكثير، بعضهم غدراً، وبعضهم صبراً.

* * *

(20) في معنى طلحة

من كلام له رقم 172 الصفحة 350، يقول:

[والله ما استعجل متجرّداً للطّلب بدم عثمان إلّا خوفاً من أنْ يُطالَب بدمه، لأنّه مظنّته ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يُغالط بما أجلب فيه ليُلبس الأمر، ويقع الشَّك.

والله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالماً - كما يزعم - لقد كان ينبغي له أنْ يؤازر قاتليه، وأنْ يُنابد ناصريه.

ص: 233


1- سورة المائدة، الآية: 33

ولئن كان مظلوماً لقد كان في شكٍّ من الخصلتين، لقد كان ينبغي له أنْ يعتزله، ويركد جانباً، ويدع الناس معه، فما فعل واحدةً من الثلاث، وجاء بأمرٍ لم يُعرف بابه، ولم تَسلم معاذيره].

لقد تكرر ذكر طلحة، وموقفه من عثمان، وحرصه على سفك دمه، وهنا يبرهن الإمام بكلامٍ آخر عن حقيقة موقف طلحة، وأنّه استبق الآخرين وتجرّد للطلب بدم عثمان، خوفاً أنْ يُتّهم به، لأنّه مظنّته، فحاول بهذه المطالبة أنْ يشبّه الأمر على الناس ويقع الشَّكُّ فيه، ليُبعد التهمة عنه. وقد كان طلحة أجهد نفسه في أمر عثمان والإجلاب عليه، والإغراء به.

ثمَّ حاجج طلحة بقوله: إنّ أمره لا يخلو إمّا أنْ يكون معتقداً حلّ دم عثمان، أو حرمته، أو يكون شاكّاً في الأمرين: فإنْ كان الأوّل، لم يجز له أنْ ينقض بيعة الإمام لنصرة إنسانٍ حلال الدم. وإنْ كان الثاني، كان يجب عليه أنْ يُدافع عنه وينصره ويمنع عنه الناس. وإنْ كان شاكّاً في الحالتين، كان يجب عليه الاعتزال.

وهو لم يفعل، وإنما صَلي بنار الفتنة، وأصلاها غيره. وبهذا أثبت أمير المؤمنين بالبرهان خطأ موقف طلحة وشطط رأيه.

* * *

(21) في معنى الحكمين

من كلام له رقم 175 الصفحة 358، قوله علیه السلام:

[فأجمع رأيُ ملئكم على أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أنْ

يُجعجعا عند القرآن، ولا يُجاوزاه وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما تبعه،

ص: 234

فتاها عنه، وتركا الحقّ وهما يُبصرانه، وكان الجور هواهما، والاعوجاج دأبهما، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل، والعمل بالحقّ، سوء رأيهما، وجور حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا، حين خالفا سبيل الحقّ، وأتيا بما لا يُعرفُ من معكوس الحكم].

يُجعجعا: يُقيما عند القرآن، من جعجع البعير، إذا برك ولزم الجعجاع أي الأرض. تاها ضلّا.

يقول علیه السلام: إنني أخذت على الحكمين العهد والميثاق أنْ يعملا بما في القرآن ولا يُجاوزاه، فضلًا عنه وحكّما أهواءهما وتركا الحقّ وهما يعلمانه. ونحن على ثقةٍ من أمرنا، ولا يضرّنا ما فعلاه، فإنّهما خالفا الحقّ وعدلا عنه وعن الشرط، وعكسا الحكم.

فالحجّة والبرهان مع أمير المؤمنين في بطلان الحكم الذي توصّل إليه الحكمان المعيّنان بعد رفع المصاحف في صفّين، وتوقّف القتال، لعدم تحقّق الشرط الذي أُخذ عليهما، والعهد والميثاق الذي أقسما أنْ يعملا بهما.

والحكمان هما أبو موسى الأشعري عن أهل العراق، وقد اختاره الذين انخدعوا برفع المصاحف، وطلب منهم أمير المؤمنين تركه واعتماد عبدالله بن عباس، فرفضوا وأصرّوا على الأشعري، وكان من المخالفين، وممّن ثبّط عزائم الناس في حرب الجمل وقعد عن النصرة والنجدة وبعد ذلك فهو ممّن يوصف بالضعف وقلّة الحيلة. والثاني عمرو بن العاص عن أهل الشام والمعدود من دهاة العرب، والمعروف بعدم التحرّج في دينٍ أو خلق. والأهمّ من ذلك، بغضه للإمام علیه السلام ولبيت الرسالة، وعدائه للإسلام، وتاريخه معروفٌ ومشهورٌ بكلّ ما هو سیئٌ وسلبيّ نجاه رسول

ص: 235

الله وتجاه دعوته ورسالته، ومن قبله أبوه شانىءُ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والمحارب له. ثمّ اتّباعه لمعاوية واشتراطه عليه ملك مصر خالصة له، مقابل معاونته على إدراك ما يطمع إليه.

ذكر ابن أبي الحديد في شرحه للنهج: أنّ معاوية كتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر، وقد قبضها بالشرط الذي اشترط على معاوية: أمّا بعد، فإنّ سؤال أهل الحجاز وزوّار أهل العراق كثُروا عليّ، وليس عندي فضل من أعطيات الحجاز، فأعنّي بخراج مصر هذه السنة.

فكتب عمرو إليه:

معاويَ إنْ تدركْكَ نفسٌ شحيحةٌ *** فما مصرٌ إلّا كالهباءَة في التّربِ

وما نلتُها عفواً ولكنْ شرطتُها *** وقد دارت الحرب العوان على قُطبِ

ولولا دفاعي الأشعري ورهطه *** لألفيتَها ترغُو كراغية السّقبِ

السقب: ولد الناقة، أو ساعة يولد.

فلما بلغ الجواب معاوية لم يعاوده في شيء من أمر مصر بعدها.

* * *

(22) نقضه آراء طلحة والزبير

من كلام له علیه السلام رقم 203 الصفحتان 436 و 437، كلّم به طلحة والزبير، وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما، وطلبا إشراكهما في أمور الحكم.

قوله علیه السلام: [فلمّا أفضت إليّ نظرتُ إلى كتاب الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتّبعته، وما استنّ النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم فاقتديته. فلم أحتج إلى رأيكما، ولا رأي غير كما، ولا وقع حكمٌ جهلته فأستشيركما وإخواني من

ص: 236

المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة، فإنّ ذلك أمرٌ لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا ولينه هوًى منّي، بل وجدتُ أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد فُرغَ منه، فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ الله من قسْمِه، وأمضى فيه حكمه ].

يقول الإمام علیه السلام: إنّه لم يستأثر في قسم، ولم يدفع عنهما من الحقّ شيء كان لهما، ولم يجهل حكماً من أحكام الشريعة، فيحتاج للرأي منهما أو من غيرهما، ولو حصل ذلك فلنْ يستنكف أنْ يسأل عنه، ولا جري عنده حكمٌ وأخطأ بابه.

وأمّا ما عتبا عليه لمساواته في العطاء، فيقول لهما: إنّي عملتُ بسنّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في ذلك، فإنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم ساوى في العطاء بين الناس، وهو ما سار عليه أبو بكر أيضاً.

وكان طلحة والزبير قد طلبا توليتهما البصرة والكوفة، فامتنع عن ذلك، لعلمه ما يضمرانه له من الغدر والعداوة ونكث البيعة. فلمّا شاهدا صلابته في الدّين، وقوّته في العزم، وهجره الإدهان والمراقبة، ورفضه المدالسة والمواربة، وسلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب والسنّة، تنكّرا له، ونقما عليه ونقضا بيعته، وخرجا يؤلّبان ومن معهما الناس ضدّه حتّى وردا البصرة وانتهى مصيرهما في حرب الجمل إلى ما هو معروف.

* * *

(23) في الحكمين أيضاً

من كلامه علیه السلام رقم 235 الصفحتان 482 و 483، قوله علیه السلام:

[ألا وإنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا يُحبّون، وإنّكم

ص: 237

اخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون، وإنّما عهدكم بعبدالله بن قيس بالأمس يقول: «إنّها فتنة فقطّعوا أوتاركم، وشيموا سيوفكم». فإنْ كان صادقاً فقد أخطأ بمسيره غير مستكره، وإنْ كان كاذباً فقد لزمته التّهمة، مادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن عباس].

ذكر أمر الحكمان في أكثر من موقع، وهنا يبرهن صلوات الله عليه، خطأ من اختار عبدالله بن قيس، وهو اسم أبو موسى الأشعري، مقابل عمرو بن العاص، فيقول: إنّ أهل الشام اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا يُحبّونه، وهو ابن العاص، والذي يُحبّه أهل الشام هو الانتصار على أهل العراق، وكان ابن العاص أقربهم إلى بلوغ ذلك، بمكره وحيلته وخداعه، وبغضه أمير المؤمنين علیه السلام. وأمّا أنتم فاخترتم أقرب الناس ممّا تكرهون وهو أبو موسى، والذي يكرهه أهل العراق يُحبّه أهل الشام، وكان الأشعري أقرب الناس إلى وقوع ما تكرهونه وما يُحبّه أهل الشام، لغفلته وبلهه وفساد رأيه، وخلافه أمير المؤمنين من قبل.

ثمّ يحتجّ على الأشعري، ويقول: هو بالأمس في وقعة الجمل كان يقول للناس: إنّها فتنةٌ، فقطّعوا أوتاركم، واغمدوا سيوفكم. فإذا كان صادقاً فلماذا سار معنا وحضر الحرب في صفّين - وإن لم يُحارب - ولم يُكرهه أحدٌ على الدخول فيما نحن فيه، فقد أخطأ بمسيره وكان عمله خلاف عقيدته، ومن كان شأنه ذلك لا يصلح للحكم. وإنْ كان كاذباً في ما يقول، فقد كان عارفاً بالحقّ، ونطق بالباطل، فهو منهم، ويُخشى أنْ يكون منه مثل ذلك في الحكم، لذا فهو لا يصلح له أيضاً.

وإنّما طلب أمير المؤمنين علیه السلام، أنْ يُقذف بابن عباس علی ابن العاص، لأنّه ذكيٌّ وحريص ولا يُخافُ جانبه، من خيانةٍ أو خروجٍ عن نهج القرآن، وأنّه القادر على ردّ مكائد ابن العاص والتربّص لخبثه،

ص: 238

ووقوفه على وجوه الحيل التي يُمارسها عمرو بن العاص. وعدم قدرة الأخير في مجاراة ذكاء ابن عباس وسرعة بديهته، وحرصه على الحقّ وإتمام العدل.

* * *

(24) في مقتل عثمان

من كتاب له رقم 239 الصفحة 490، وقد أرسله إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة.

يقول علیه السلام: [فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعه كعيانه، إنّ الناس طعنوا عليه، فكنتُ رجلاً من المهاجرين أكثرُ استعتابه وأُقلُّ عتابه، وكان طلحة والزبير أهونُ سيرهما فيه الوجيف، وأرفقُ حِدائهما العنيف، وكان من عائشة فيه فلتةُ غضب، فأُتيح له قومٌ فقتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين، ولا مجبرين، بل طائعين مخيَّرين].

استعتابه: استرضاؤه. الوجيف: ضربٌ من سير الخيل والإبل

سریع. الحداء: سوق الإبل.

يقول علیه السلام: إنّ الناس طعنوا على عثمان أموراً من أهمّها تقريبه بني أميّة، ومنحهم القطائع واستعمالهم على رقاب الناس وكان منهم الفاسق، كالوليد بن عقبة بن أبي معيط، ولّاه الكوفة وحدّه أمير المؤمنين لشربه الخمر، ومنهم الطريد كمروان بن الحكم، وما كان عليه من الفساد وسوء استخدام السلطة، وما جرّه على الخليفة من ويلات، وغيرهم كثير. ويقول علیه السلام: إنّي كنت كثيراً ما أسترضيه وقليلاً ما أعاتبه، إلّا في موضع النصح والمشورة، ومساندته حين طلبه للمساعدة.

ص: 239

أمّا طلحة والزبير، فقد سارعا لإثارة الفتنة عليه، وتحريض الناس ضدّه، والمشاركة في حصاره، والدفع إلى قتله وسفك دمه. وأمّا أمّ المؤمنين عائشة فإنّها غضبت عليه، وسارت في طريق إظهار مثالبه للناس والعيب فيه.

قيل إنّها أخرجت نعلي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و قميصه من تحت ستارها، وعثمان على المنبر، وقالت: هذان نعلا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و قميصه لم نبل، وقد بدّلت من دينه، وغيّرت من سنّته، وجرى بينهما كلام المخاشنة، فقالت: اقتلوا نعثلاً، تشبّهه برجل معروف. فأُتيحَ وقدّر له قومٌ فقتلوه.

أمّا بيعة الإمام علیه السلام، فقد حصلت باختيار الناس وبدون إجبار أو إكراه، بل كانت بيعة شعبية عامّة، حضرها أهل الحل والعقد، وعامّة المسلمين، ولزمت من غاب عنها ولم يحضرها. وللتأريخ: فإنّ بيعة أمير المؤمنين هي الوحيدة في الخلافة الإسلامية، كانت بإرادةٍ شعبيّة وموافقة من الناس، بعد أن تُركوا وحرّيتهم في الاختيار، فاختاروا الأصلح لهم، لولا مواقف الطامعين والمرجفين، والحاسدين، وأهل الغايات المعادية لفكر الإسلام وعقيدة الإيمان وأهل الجاهليّة الّذين ورثوا الحقد والكراهيّة والثأر من آبائهم المقتولين بسيف أمير المؤمنين، وسيوف الحقّ، في حروب الإسلام.

* * *

(25) مراسلات

لقد كان بين أمير المؤمنين ومعاوية مراسلات عديدة، وكتب جوابيّة استمرت منذ عصيان معاوية في الشام، ورفضه الدخول فيما دخل فيه المسلمون من بيعة الإمام علیه السلام، ولحين وقوع الحرب بينهم في صفّين.

ص: 240

وفي تلك الكتب والرسائل كان أمير المؤمنين مرّةً ينصحه ويدعوه لنبذ الخلاف والابتعاد عن إثارة الفتن وشقّ صفوف المسلمين، وأخرى يردّ عليه ادعاءاته وأكاذيبه وافتراءاته، أو تفاخره الكاذب، وآرائه الباطلة بما انطوت عليه نفسه من خبثٍ، وما أضمره للإسلام وأهله من شرِّ، وما كان يجري في دمه من نزعة جاهليّة، وأخلاقٍ عدوانيّة ورثها من البيت الأموي الذي وصفه القرآن بالشجرة الخبيثة، الملعونة على لسان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأكثر من موقع. وما حمّل هو وأشياخه من بني أميّة، أمير المؤمنين علیه السلام مسؤوليّة كلّ الدماء المشركة التي سالت وأهرقت بسيف الحقّ وساعد عليٍّ دفاعاً عن الدين، وردّاً لعدوان المشركين. ثمّ اتخاذه قميص عثمان وأصابع نائلة، شعاراً لإثارة الفتن وزعزعة كيان الدولة الإسلاميّة، وهو يعلم قبل غيره أين يقع ثارُ دم عثمان، وأنّ الإمام عليًّا علیه السلام أبعد الناس عنه، بل عكس الأمر تماماً، فلم يكن أمير المؤمنين لعثمان إلّا ناصحاً ومدافعاً، وقد نهى أهل مصر وغيرهم من قتله مراراً، ونابذهم بيده ولسانه، وبأولاده فلم يغن شيئاً، ومعاوية أعرف الناس بذلك، ولكنّها شريعة «الغاية تبرر الوسيلة»، ليصل إلى الشيء الذي خطّط له منذ نيله ولاية الشام.

* فمن كتاب له رقم 244 الصفحتان 494، 495 أرسله إلى معاوية، يقول: [إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر، وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أنْ يختار ولا للغائب أن يردّ ولئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ النّاس من دم عثمان ].

فإمامته علیه السلام لا يقدح فيها امتناع معاوية من البيعة، فالبيعةُ فيما مضى عليه المسلمون تكون ملزمةٌ حال قيامها من أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار على من حضرها ومن غاب عنها، ثم يدعوه إلى

ص: 241

النظر بعقله لا بهواه في أمردم عثمان واتّهامه له، فلو فعل لعرف أنّ الإمام أبرأ الناس منه.

* ومن كتاب له إلى معاوية أيضاً رقم 245 الصفحة 496، وهو جواب على كتاب أرسله له.

يقول: [لأنّها بيعةٌ واحدةٌ لا يُثنّى فيها النّظر، ولا يُستأنفُ فيها الخيار، الخارج منها طاعنٌ والمروّي فيها مداهن].

أي أنّها بيعة لا يُعاود فيها النظر ولا يُراجع ثانية، وليس بعد عقدها خيارٌ لمن عقدها ولا لغيرهم لأنّها تُلزم غير العاقدين، كما تُلزمُ العاقدين. الخارج منها طاعنٌ على الأمّة، لأنّهم أجمعوا على أنّ الاختيار طريق الإمامة، ومن يُبطىء عن الطاعة ويفكّر فهو مداهنٌ، والمداهن: المنافق.

وجديرٌ بالذكر أنّ الإمام، حين يُخاطب ويُحاجج في موضوع الإجماع على أنّ الاختيار طريق الإمامة، فإنّ ذلك بما ألفوا عليه بعد السقيفة والشورى، وإلّا فالإمام منصوصٌ عليه بالإمامة من الله ومن الرسول، وهو صاحب الأمر الذي عيّنه النبيّ في غدير خم، إضافة إلى أحاديث لا تُحصى في هذا الشأن من الرسول في حقّ عليّ. ولكنّه يعلم أنّ القوم خالفوا هذا المبدأ، ونازعوا فيه أشدّ النزاع، وحتّى في حياة رسول الله، وما رزيّة يوم الخميس التي تحدّث عنها ابن عباس وغيره إلّا إثباتٌ لذلك.

فأيُّ احتجاج من الإمام بهذا الأمر ومن يُصغي إليه، بعد كل هذه الأزمان والسنون التي مرّت عليه؟

* ومن كتاب له رقم 247 الصفحة 498، إلى معاوية أيضاً. وهو

ص: 242

في الظاهر إجابة لكتابٍ من معاوية إليه. فالإمام علیه السلام يذكر مواقف قريش وحربها للنبيّ، وأهل بيته، وما كابده هو وجميع بني هاشمٍ من المخاطر، والمصاعب، وخوضه لهوات الحروب دفاعاً عن حوزة الدّين ضد المشركين، والذي كان معاوية منهم.

ثمّ يقول له مرة أخرى فيما يخصّ عثمان ومطالبة معاوية له دفع قتلته إليه: [فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك] أي لم أر أنّه يحلّ لي دفعهم إليك، لخروجك عن طاعة الإمام وارتيادك درب الفاسقين، الذين يعيثون في الأرض فساداً. فإنّما يجب إيقاع الحدّ عليك أوّلاً.

وقد ذكر سابقاً ما احتجّ به أمير المؤمنين على معاوية وطلحة والزبير وغيرهم في موضوع القصاص من قتلة عثمان رحمة الله. وإنّما تأتي الإعادة لنفس الموضوع، ذلك أنّنا عزمنا ذكر جميع ما ورد في خطبه وكلامه علیه السلام من احتجاج، ومن مناظرات.

* ومن كتاب له رقم 248 الصفحة 499 وما بعدها، إلى معاوية أيضاً. يحذّره من عواقب غيّه، وغفلته من نفسه، وانقياده للشيطان، حتّى جرى منه مجرى الروح والدم.

ويقول: [ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعيّة، وولاة أمر الأمّة بغير قَدَمٍ سابق، ولا شرفٍ باسقٍ]. وهل يجوز للطلقاء وأبناء الطلقاء ولاية هذا الأمر؟

ويرد عليه دعوته للحرب فيقول: [فدع الناس جانباً، واخرج إليَّ، واعف الفريقين من القتال، لتعلم أيّنا المرين على قلبه، والمغطّى على بصره]. المرين على قلبه: غلب عليه ذنبه فغطّى بصره.

وأنّا لمعاوية وغير معاوية، الوقوف إزاء علي في الحرب؟ وقد جرّب

ص: 243

من قبله صاحبه ابن العاص، فردّ الموت بإظهار عورته، ونجا والمذلّة تلاحقه ليوم الدين.

لا خير في ردّ الردى بمذلّةٍ *** كما ردّها يوماً بسوءته عمرو

ثم يقول له: [وزعمت أنّك جئت ثائراً بدم عثمان! ولقد علمتَ حيث وقع دم عثمان، فاطلبه من هناك إنْ كنت طالباً]. وقد تكرر ذكر هذا الموضوع كثيراً فيما مضى.

* ومن كتاب له برقم 255 الصفحة 505، وهو إلى معاوية أيضاً يُجيبه فيه على كتاب منه إليه.

فقد كتب معاوية إلى أمير المؤمنين علیه السلام، يطلب منه أنْ يترك له الشام، ويدعوه للشفقة على العرب، فقد أكلتهم الحرب، ولم يبق منهم إلّا حشاشات أنفس، ويهدّد بالحرب، ويفتخر.

فقال علیه السلام: [فأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس]. وكان البعض قد أشار على أمير المؤمنين أن يُقيم معاوية على إمارة الشام، دفعاً لضرره، فرفض الإمام ذلك، لأنّه معتقدٌ بفسق معاوية، فلا يمكن استعماله على أمور المسلمين ويتحمّل وزره، وهو القائل: والله لا أطلب النّصر بالجور. فرفض طلب معاوية إبقاءه على ولايته. ثمّ يقول: [ألا ومن أكله الحقُّ فإلى الجنّة، ومن أكله الباطل فإلى النار].

ذلك عند قول معاوية: إنّ الحرب أكلت العرب.

ثم يبيّن له الفرق بينهما، فأميّة ليس كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، وأبو سفيان ومعاوية كانا من الطلقاء يوم الفتح. ولا الصريحُ كاللّصيق، فالصريح، هو من أسلم اعتقاداً وإخلاصاً واللصيق، من أسلم تحت السيف أو لأجل الدنيا.

ص: 244

ولا المحقُّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل. والمدغل: المفسد. ولبئس الخلف خلفٌ يتبع سلفاً هوى في نار جهنّم: فمعاوية كان يتبع في الاعتقاد ما كان عليه أسلافه من الشرك والجاهليّة، ومحاربة الله ورسوله، وهم من هوى في نار جهنّم.

* ومن كتاب له رقم 266 الصفحة 518 وما بعدها جواباً إلى معاوية، وهو من محاسن الكتب. وفيه احتجاجات وجوابات لما طرحه معاوية في كتابه وهي متعددة تأخذها بالتسلسل:

قوله: [وزعمت أنّ أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلان، فذكرت أمراً إنْ تمَّ اعتزلك كلّه، وإنْ نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حنَّ قدحٌ ليس منها].

يقول له: إنْ صحّ ما ادّعيت من فضل أبي بكر وعمر، لم يكن لك حظٌّ منه، فأنت بمعزل عنه. وأيُّ حقيقة لك معهم، وأنت من الطلقاء، وهم من المهاجرين. وضرب له مثلاً يُقال لمن يفتخر بقومٍ وهو ليس منهم، ذلك إذا كان سهمٌ يُخالف السهام كان له صوتٌ يُخالف أصوات تلك السهام عند الرمي.

والحال أنّ معاوية كان يحاول استحصال كلمة من الإمام فيها تعريض بالخلفاء الذين سبقوه، فيجعل ذلك حجّة عليه عند أهل الشام، ويضيفه إلى ما ذكره لهم من تهمته بقتل عثمان، وقتل طلحة والزبير وأسر عائشة في حرب الجمل وغير ذلك ممّا عُرف به معاوية من أساليب الخبث.

ص: 245

ثمّ يقول له: [وإنّك لذهاب في التَّيْه، روّاغُ عن القصد فدع عنك من مالت به الرميّة، فإنّا صنائع ربّنا، والناس بعد صنائع لنا، ... منّا النبيّ، ومنكم المكذّب، ومنّا أسدُ الله، ومنكم أسدُ الأحلاف ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبيةُ النار، ومنّا خيرُ نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب في كثير ممّا لنا وعليكم].

فأنت يا معاوية كثير الضلال، ميّالٌ عن الاعتدال. فدع عنك من مالت به الرميّة: وهو مثل يُضرب لمن اعوجّ غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه، وقوله: فإنا صنائع ربّنا، وما بعده: فهذا كلامٌ عظيم - يقول ابن أبي الحديد - عالٍ على الكلام، ومعناه عالٍ على المعاني، أي: ليس لأحدٍ من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فلا واسطة بيننا وبينه، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل جعله الله لهم.

ثمّ يذكر: كيف يكون شرفكم كشرفنا؟ ومنّا النبيُّ المختار ومنكم المكذّب يعني أبو سفيان بن حرب، كان عدوّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والمجلب عليه. ومنّا أسدُ الله، وهو حمزة بن عبدالمطلب، ومنكم أسدُ الأحلاف، يعني عقبة بن ربيعة، وهو أبو هند أمُّ معاوية، قتله حمزة في بدر.

ومنّا سيّد شباب أهل الجنّة، يعني الحسن والحسين علیه السلام، ومنكم صبية النار، وهي الكلمة التي قالها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى عقبة بن أبي معيط حين قُتل صبراً يوم بدر، وقد قال عقبة كالمستضعف: مَنْ للصبية يا محمد؟ قال: النار (1) وعقبة من بني عبدشمس. وخير نساء العالمين، يعني فاطمة صلوات الله عليها، وقد نصّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على ذلك، ولا خلاف .

ص: 246


1- أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» 2686.

فيه ومنكم حمّالة الحطب هي أمّ جميل بنت حرب بن أميّة زوجة أبي لهب، وقد ورد نصٌّ في القرآن بذلك.

في كثير ممّا لنا وعليكم: أي أنا قادر على أنْ أذكر من هذا الكثير ولكن أكتفي بما ذكرت.

وقوله علیه السلام: [ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقُ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم].

وقد ذُكر هذا الاحتجاج في حديث السقيفة، فلا حاجة لتكراره.

وقوله علیه السلام: [ وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدتُ، وعلى كلّهم بغيت، فإنْ يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك]، وأين أنت والخلفاء، ومن أباح لك التحدّث عنهم؟

وقوله علیه السلام: [ وقلتَ: إني كنتُ أقادُ كما يُقادُ الجمل المخشوش حتّى أُبايع، ولعمر الله، لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أنْ يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها].

الغضاضة: النقص. وحقّاً ذلك ما يفضح معاوية، ويردُّ السهم الذي رماه إلى نحره والإمام علیه السلام إذا أراد الاحتجاج على حقّه فلغير معاوية، لأنّ معاوية منقطعٌ عن جرثومة الأمر كلّه فلا حاجة للاحتجاج عليه. وأجابه علیه السلام عن أمر عثمان: [ فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله؟ أمَنْ بذل له نصرته فاستقعده واستكفَّهُ، أمَّن استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون، إليه حتّى أتى قدره عليه؟] مَنْ بذل النصرة، هو الإمام علیه السلام، واستقعده عثمان، أي طلب قعوده ولم يقبل نصره. ومن تراخى عنه وبثّ المنون إليه: هم معاوية ومروان وطلحة والزبير لا أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 247

* ومن كتاب له برقم 270 الصفحتان 543 و 544 أرسله إلى معاوية أيضاً، يقول فيه: [ وأرديت جيلاً من الناس كثيراً خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظّلمات]. أي أهلكت كثيراً من الناس بإضلالك لهم.

* ومن كتاب له برقم 275 الصفحة 549 إلى معاوية أيضاً. يقول علیه السلام: [فإنّك إنّما نصرت عثمان حيثُ كان النصرُ لك، وخذلته حيث كان النّصر له].

أي إنّك حينما تُطالب بدم عثمان، وتصوّر للناس أنّك تنتصر له، فذلك لانتفاعك وفائدتك به، لاتخاذه ذريعة وجمع الناس حولك وتحقيق غرضك منه. أمّا عندما طلب عثمان النصر منك خذلته وتخلّيت عنه، وأبطأت وتذرّعت بالأعذار، حتى أسلمته لمصيره. وهذا ما حصل لعثمان، فلو سارع معاوية بإرسال المدد من الشام، لكان ممكناً إيقاف ما حدث للخليفة وإنقاذه.

*ومن كتاب له رقم 286 الصفحتان 566، 567، يقول علیه السلام: [وقد علمت أنّك غير مدرك ما قُضي فواته].

هو دم عثمان والانتصار له، ومعاوية يعلم أنّه لا يدركه لانقضاء الأمر بموت عثمان. وأنّ منْ سبقوا معاوية، وفتحوا باب الفتنة بالطلب زوراً بدم عثمان وهم أصحاب الجمل، تطاولوا على أحكام الله بالتأويل، فأكذبهم الله، وأخزاهم، فلك أنْ تحذر يا معاوية من أنْ تمكِّن الشيطان منك، فيستحوذ عليك، ولا تستطيع مجاذبته فيرديك الهلكة.

وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله، ولسنا إيّاك أجبنا

ولكنّا أجبنا القرآن في حكمه].

وقد ورد شبه هذا القول، وذُكر احتجاج الإمام فيه سابقاً.

ص: 248

(26) طلحة والزبير مرّة أخرى

من كتاب له رقم 292 الصفحة 597، إلى طلحة والزبير، يقول علیه السلام: [ وقد زعمتما أنّي قتلتُ عثمان فبيني وبينكما منْ تخلّف عنّي وعنكما منْ أهل المدينة، ثمّ يُلزَمُ كلُّ امرىءٍ بقدر ما احتمل].

يقول: وقد زعمتما أنّ الشبهة التي دخلت عليكما في أمري أنّي قتلتُ عثمان فلنجعل بيننا حكماً، ممّن تخلّف عنّى وعنكما من أهل المدينة. أي الجماعة التي لم تبايع عليّاً، ولم تلحق بطلحة والزبير، أمثال محمد بن مسلمة، وعبدالله بن عمر وأسامة بن زيد، فإذا حكموا لزم كلّ امرىء منّا بقدر ما تقتضيه الشهادات. ولا شبهة أنّهم لو حكموا بما شاهدوا من صورة الحال، لقالوا ببراءة أمير المؤمنين علیه السلام، من دم عثمان، وأنّ طلحة كان هو الجملة والتفصيل في أمر حصر عثمان وقتله والزبير كان مساعداً على ذلك.

* * *

(27) بعضّ من صفين

من كتاب له رقم 296 الصفحتان 600 و 601، كتبه إلى أهل الأمصار يقصُّ فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين.

[ فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت، ... أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دَعوا وسارعناهم إلى ما طلبوا، حتّی استبانت عليهم الحجّة، وانقطعت منهم المعذرة].

يقول علیه السلام: إنّنا قلنا لهم: تعالوا فلنطفىء هذه النائرة الآن بوضع الحرب، ثمّ أتمكن من قتلة عثمان بأعيانهم فأقتصّ منهم، فأبوا إلّا

ص: 249

المكابرة والمغالبة بالحرب. فلمّا ضرستنا الحرب وإيّاهم عادوا إلى ما كنّا سألناهم ابتداءً، ورفعوا المصاحف يسألون النزول على حكم الكتاب، فأجبناهم، حتّى ظهرت عليهم الحجّة وانقطعت منهم المعذرة، وخالفوا حكم القرآن، ولجّوا وتمادوا، ومن لجّ وتمادى فهو الراكس الذي ران على قلبه، وصارت دائرة السّوء على رأسه.

* * *

(28) تناقض الأشعريّ

من كتاب له رقم 301 الصفحة 607، إلى أبي موسى الأشعري، وهو عامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لمّا نديهم لحرب أصحاب الجمل.

يقول علیه السلام: [فقد بلغني عنك قولٌ هو لك وعليك، فإذا قدم عليك رسولي فارفع ذيلك واشدد مئزرك، واخرج من جحرك واندب منْ معك، فإنْ حقّقت فانفذ، وإنْ تفشّلت فابعد].

ذلك إنّ أبا موسى كان يقول لأهل الكوفة: إنّ عليّاً إمامُ هدّى، وبيعته صحيحة، إلّا أنّه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة، وهذا القول بعضه حقّ وبعضه باطل، لذا قال له: هو لك وعليك. ثمّ قال له: إنّ أمرك مبنيٌّ على الشك، وكلامك متناقض، فإنْ حقّقت لزوم طاعتي لك فسر حتّى تقدم إليّ وتشارك في حرب أهل النكث.

وإنْ أقمت على الشكّ فاعتزل العمل.

ص: 250

(29) إلى معاوية جواباً

من كتاب له رقم 302 الصفحتان 608، 609.

أجاب أمير المؤمنين علیه السلام معاوية على كتاب كان بعثه إليه، منه قوله: [إنّا آمنّا وكفرتم، واليوم إنّا استقمنا وفُتنتُم، وما أسلم مسلمكم إلّا كرهاً].

فأبو سفيان وأولاده يزيد ومعاوية وغيرهم من عبد شمس، لم يسلموا إيماناً واعتقاداً، بل كُرهاً ونفاقاً بعد فتح مكّة، وخوفهم من السيف، فكانوا من الطلقاء.

ثمّ يقول: [ وذكرت أنّي قتلت طلحة والزبير، وشرّدت بعائشة، ونزلت بين المصرين، وذلك أمرٌ غبتَ عنه، فلا عليك ولا العذرُ فيه إليك ].

فليس عليك كان العدوان الذي تزعم، ولا العذر إليك لو وجب عليّ العذرُ منه.

وقوله علیه السلام: [وذكرتَ أنّك زائري في المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أُسر أخوك ].

تكذيب لمعاوية، فليس معه من المهاجرين ولا الأنصار من أحد، وإنّما أكثر من معه هم من الطلقاء، ومنْ أسلم بعد الفتح والنبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: لا هجرة بعد الفتح وأخوه الذي أُسر، هو يزيد بن أبي سفيان، أُسر يوم الفتح في باب الخندمة، وكان خرج في نفرٍ من قريش يُحاربون المسلمين يوم الفتح، فقتل منهم جماعة وأُسر يزيد.

وقوله علیه السلام: [وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل في ما دخل فيه الناس، ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله تعالى، وأمّا تلك التي تُريد فإنّها خدعة الصبيّ عن اللّبن في أوّل الفصال].

ص: 251

أي بايع، فإنّ الإمام يجب أن يُطاع، ثمّ يُتحاكم إليه أولياء الدم والمتهمون، فإن حكم بالحقّ استديمت بيعته، وإلّا بطلت. ثمّ كرّر أمير المؤمنين رفضه طلب معاوية فى إقراره على ولاية الشام، وقال: إنّ ذلك كمخادعة الصبيّ في أوّل فطامه عن اللّبن.

* ومن كتاب له رقم 303 الصفحات 610 - 612 إليه أيضاً.

يقول علیه السلام: [ وبانتحالك ما قد علا عنك] أي أنت دون الخلافة، ولست من أهلها. [وجحوداً لما هو ألزم لك]، يعني فرض طاعة أمير المؤمنين علیه السلام، لأنّه وعاها سمعه، إنْ كان بالنصّ في أيّام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقد حضر معاوية حجّة الوداع، وسمع قوله لعلي: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه». وكان حاضراً أيضاً يوم تبوك وسمع قول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى (1) وغير ذلك، أو بالبيعة فقد اتّصل به خبرها، وتواتر عنده وقوعها، فصار وقوعُها عنده معلوماً بالضرورة كعلمه بأنّ في الدنيا بلداً اسمها مصر، ولو لم يرها.

ويقول له: [ فاحذر الشّبهة واشتمالها على لُبْسَها، فإنّ الفتنة طالما أغدقت جلابيبها ... وحاشا لله أنْ تلي للمسلمين بعدي صَدَراً أو ورْداً].

فالإمام علیه السلام يجد في معاوية كلّ ما يمنع من تولّيه أي منصبٍ أو مسؤوليّةٍ أو ولاية، لفسقه وعدم تحرّجه في المحارم، وما يضمره من العداء للإسلام وأهله، فما آمن ولكن دخل الإسلام كرهاً، هو وأهله، وكانوا من الطلقاء.

* * *

ص: 252


1- أخرجه البخاري في كتاب المناقب «3706».

(30) احتجاجه على الخوارج

من وصيّة له علیه السلام رقم 315 الصفحتان 622، 623، لعبدالله بن عباس، لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج.

يقول علیه السلام: [لا تُخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّالٌ ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً ].

يقول ابن أبي الحديد في شرحه النهج: هذا كلامٌ لا نظير له في شرفه وعلوّ معناه، وذلك أنّ القرآن كثير الاشتباه، فيه مواضعُ يُظنُّ في الظاهر أنّها متناقضة، متنافية، نحو قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (1) وقوله:(إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 23) (2). وقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ) (3). ونحو ذلك، وهو كثير.

أما السنّة فليست كذلك، وذلك لأنّ الصحابة كانت تسألُ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وتستوضح منه الأحكام في الوقائع، وما يشتبه عليهم، يراجعونه فيه، ولم يكونوا يراجعونه في القرآن إلّا فيما قلّ، بل كانوا يأخذنه منه تلقّفاً، وأكثرهم لا يفهم معناه، لا لأنّه غير مفهوم، بل لأنّهم لم يكونوا يتعاطون فهمه، إمّا إجلالاً له أو لرسول الله أنْ يسألوه عنه، أو يُجرونه مجرى الأسماء الشريفة التي إنّما يُراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها، فلذلك كثر الاختلاف في القرآن.

وأيضاً فإنّ ناسخه ومنسوخه أكثر من ناسخ السنّة ومنسوخها، وكان الأمير المؤمنين علیه السلام في ذلك غرض صحيح، فأراد أنْ يقول لهم قال رسول 7.

ص: 253


1- سورة الأنعام، الآية: 103
2- سورة القيامة، الآية: 23.
3- سورة فصلت الآية: 17.

الله صلی الله علیه و آله و سلم: عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار (1)، وقوله: اللّهم والِ من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. ونحو ذلك من الأخبار التي كانت الصحابة قد سمعتها من فم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد بقي ممّن سمعها جماعة تقوم الحجّة وتثبت بنقلهم، ولو احتجّ بها على الخوارج في أنّه لا يحلّ مخالفته والعدول عنه بحالٍ لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجّتهم.

* * *

(31) واعجباه

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 190 الصفحة 668، قوله علیه السلام: [ واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة].

قال الرضيّ: وروي له شعرٌ في هذا المعنى:

فإنْ كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غُيّبُ

وإن كنت بالقربی حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبيّ وأقربُ

وفي بعض النسخ، قوله: «واعجباً أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة».

في حديثه علیه السلام، نثرٌ و نظم، والنثر قسمان، فعلى القسم الثاني، وهو قوله: واعجباً أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة، موجّهٌ إلى عمر رضي الله عنه، لأنّ أبا بكر لمّا قال لعمر يوم السقيفة: امدد يدك. قال عمر: أنت صاحب رسول الله في المواطن كلّها شدّتها ورخائها، .

ص: 254


1- ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد»، والخطيب في تاريخ بغداد.

قامدد أنت يدك، فقال علیه السلام: إذا كان استحقاقه للأمر بصحبته، فهلّا استحقّها من شاركه في ذلك وزاد عليه بالقرابة!

وأمّا النظم فموجّه إلى أبي بكر، لأنّه حاجّ الأنصار، بقوله نحن عترة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بيضته، فلمّا بويع احتجّ على الناس بالبيعة وأنّها صدرت عن أهل الحلّ والعقد، فقال علیه السلام: أمّا احتجاجك أنّك من بيضة رسول الله فغيرك أقرب نسباً منك إليه، وأمّا احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة، فقد كان قومٌ من جملة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت!

أمّا النثر الأوّل وهو قوله: واعجباً أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة، فهو إشارة واضحة أنّ عقد الخلافة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا بالصحابة ولا بالقرابة، وإنّما هو عقدٌ إلهيٌّ وعهد سماوي لا يناله إلّا من يستحقه، ومن نصّت عليه الآيات، وذكره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بيعة الغدير: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. وتلك حجّة لا تواجهها حجّة.

* * *

(32) ضلالة أصحاب الجمل

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 264 الصفحتان 686، 687، وكان الحارث بن حوط قال: أتُراني أظنُّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة. فقال علیه السلام: [يا حارث! إنّك نظرتَ تحتك ولم تنظر فوقك فحرت. إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه].

فقال الحارث: فإنّي أعتزل مع سعيد بن مالك، وعبدالله بن عمر. فقال علیه السلام: [إِنَّ سعيداً وعبدالله بن عمر لم ينصُرا الحقّ، ولم يخذلا الباطل].

ص: 255

يقول له: إنّ فكرك أصاب ادنى الرأي ولم يُصب أعلاه. وكان أمير المؤمنين قال: أولئك قومٌ خذلوا الحقِّ ولم ينصروا الباطل. أي أنّهم خذلوا أمير المؤمنين، ولم ينصروا معاوية أو أصحاب الجمل. وأمّا لفظة: لم يخذلا الباطل، أراد أنّ ابن عمر وسعداً لم يؤثّرا في محق الباطل وإزالته، ولم يُعلموا الناس باطل معاوية وأصحاب الجمل، ولم يكشفا اللّبس والشبهة الداخلة على الناس في حرب هذين الفريقين، ولم يُعلنا وجوب طاعة الإمام، فيمتنع الناس عن اتّباع أصحاب الجمل وأهل الشام، وبذلك تضعف شوكة الباطل.

* * *

(33) حُلْيُ الكعبة

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 272 الصفحتان 688، 689.

ذُكر عند عمر بن الخطاب أيّام خلافته، حليُ الكعبة وكثرته، فقال قومٌ: لو أخذته وجهّزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟ فهمّ عمر و بذلك، وسأل عنه أمير المؤمنين علیه السلام، فقال: [إنّ القرآن أُنزل على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم والأموال أربعة: أموالُ المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض، والفى فقسّمه على مستحقّيه، والخُمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيثُ جعلها. وكان حلي الكعبة فيها يومئذٍ، فتركه الله على حاله، ولم يتركه نسياناً، ولم يخف عليه مكاناً، فأَقِرَّهُ حيثُ أقرَّه الله ورسوله].

فقال له عمر: لولاك لافتضحنا، وترك الحلي بحاله. واحتجاج أمير المؤمنين، واستدلاله في موضوع حلي الكعبة، يجب أن يؤخذ على أنّه علیه السلام جعله مالاً مختصّاً بالكعبة، وهو جارٍ مجرى باب الكعبة وستورها، فكما لا يجوز التصرّف بهذه الأمور، كذلك الحلي، ولا يُحمل

ص: 256

على ظاهره، لأنّه ربّما قائلٌ يقول: إنّ الأموال الأربعة التي احتجَّ بها، أموال متكررة بتكرر الأوقات وهي أموالٌ كثيرة، وحلي الكعبة مالٌ واحدٌ وهو يسير. فالاهتمام بوجوه تصريف الأموال الأربعة أشدّ لأنّ الحاجة إليها أشدّ، وليس الأمر كذلك بالنسبة للحلي.

* * *

(34) حساب الخلق

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 302 الصفحة 695.

سُئل علیه السلام كيف يُحاسبُ الله الخلق على كثرتهم؟ فقال: [كما يرزقهم على كثرتهم]. فقيل له: كيف يُحاسبهم ولا يرونه؟ قال: [كما يرزقهم ولا یرونه ].

لأنّ الله تعالى لا يرزق العباد على الترتيب، واحداً بعد واحد، وإنّما يرزقهم جميعهم وبوقتٍ واحد. كذلك تكون محاسبتهم يوم القيامة. وما دام الخلق لا يرونه وهو يرزقهم، فقد صحّ أنْ يُحاسبهم ولا يرونه.

* * *

(35) احتجاجه مع اليهود

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 319 الصفحة 698.

قال له بعض اليهود: ما دفنتم نبيّكم حتّى اختلفتم فيه! فقال علیه السلام: [إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قلتُم لنبيّكم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138) (1).8.

ص: 257


1- سورة الأعراف الآية: 138.

قوله علیه السلام: اختلفنا عنه لا فيه، أي لم نختلف في الأصول كالتوحيد والنبوّة، وإنّما حدث اختلافٌ بالفروع كالميراث والخمس وغيرها، واليهود كان اختلافهم في التوحيد الذي هو الأصل، بعبادتهم العجل بعد أنْ رأوا المعجزات والآيات مثل عبورهم البحر ومشاهدتهم غرق فرعون. وهذا غاية الجهل.

* * *

(36) في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 355 الصفحتان 705، 706.

قيل له علیه السلام: لو سُدَّ على رجلٍ باب بيته وتُرك فيه من أين كان يأتيه رزقه؟ فقال علیه السلام: [من حيث يأتيه أجله].

فإذا كان في حياته لطف لبعض المكلّفين فإنّه يُديم حياته، كما يشاء سبحانه. إمّا بغذاء يُقيم به حياته، أو يُديمها بغير سبب، وهو الوجه الذي يأتيه أجله منه.

وقد قال الشاعر:

جری قلم القضاء بما يكونُ *** فسيّان التحرّكُ والسكونُ

جنونٌ منك أن تسعى لرزقٍ *** ويُرزقُ في غشاوته الجنينُ

* * *

(37) العدل والجود

وفي باب الحكم رقم 431، الصفحة 723.

سُئل علیه السلام: أيّهما أفضل العدلُ أو الجود.

قال علیه السلام: [العدلُ يضع الأمور مواضعها، والجودُ يُخرجها من

ص: 258

جهتها، والعدل سانسٌ عامٌّ، والجود عارضٌ خاصٌ، فالعدل أشرفها وأفضلُها ].

يقول ابن أبي الحديد: هذا كلامٌ شريفٌ جليل القدر، فضّل علیه السلام العدل بأمرين: أوّلها أنّ العدل وضع الأمور مواضعها، وهكذا العدالة في الإصلاح الحكمي، والجود يُخرج الأمر من موضعه، والمراد هنا بالجود: الجود العُرفي، وهو بذل المقتنيات للغير، لا الجود الحقيقي، لأنّ الجود الحقيقي ليس يُخرج الأمر من جهته، نحو جود الباري تعالى.

والأمر الثاني: إنّ العدل سائسٌ عام في جميع الأمور الدينيّة والدنيويّة، وبه نظام العالم، وقوام الوجود. أمّا الجود فأمرٌ عارضٌ خاص، ليس عموم نفعه كعموم نفع العدل.

* * *

يتعيّنُ إلى من قال فيه رسولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم: «عليٌّ مع الحقّ والحقُّ مع علي يدور معه حيثما دار» أنْ يكون كلّ ما ينطق به محض الحقّ. وهذا ما يعتقده مَنْ يواليه، أمّا ما عداهم، فقد شهد عدوّه قبل من اعتزله أنّه علیه السلام لا يُجارى في الاحتجاج، ولا يُقام أمامه دليل أو برهان، ولا يثبتُ له أبرع الناس وأكثرهم مراساً في المناظرة وعلم الكلام.

وهذا ما كان واضحاً فيما تقدّم من احتجاجاته، أو إجاباته لسؤالٍ، أو توضيح أمرٍ تعثّر فهمه، أو سوقه البراهين والأدلّة في قضيّة ما.

ونجد فيما قرأناه في خطب ورسائل وكتب أمير المؤمنين علیه السلام من احتجاج، فداحة الظلم والجور والعدوان الذي حصل على الإمام بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعظيم الابتلاءات التي أصابته، ونوعيّة بعض العقول التي عاصرت تأريخه، والغُبن الذي ناله من أصحاب تلك العقول

ص: 259

التي لم تفهمه ولم تعرف قدره، أو عرفته ولم تُنصفه، فخسر أصحابها كثيراً، وخسَّروا الناس معهم، بوقوفهم في الصف المعادي لأمير المؤمنين علیه السلام، والعمل على خذلان أهل الحقّ، ونصرة أهل الباطل، حتّى قامت دولة الأمويين، وما بعدها من دول الضلال، وحرمان مجتمع الإسلام من المنهج النّبويّ الذي وضعه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وأمرهم الالتزام به، بعد أنْ خلّف فيهم الثقلان وطلب منهم التمسّك بهما كي لا يضلّوا من بعده أبداً.

* * *

ص: 260

الباب الرابع

اشارة

الشعر والأمثال في نهج البلاغة

المدخل:

كلّ ناطقٍ باللغة العربية تجد في نفسه مكاناً للشعر، وتلمس أوتار حروف الشعر في ذوقه، وتحسُّ بالكلمات تتراقص على لسانه إذا نطق بها، فيُشعرك بتذوّقه للمعاني واستيعابه لها، ويُنبئك بتأثّره وانشغاله فيها، وإقباله إليها.

والشعر عند العرب قديماً، محرّك الحياة ووقودها، وشيءٌ أساسيٌّ في وجود الإنسان، حتى أصبح أحد أسباب رسم تأريخه.

والشاعر يرسمُ بأبيات قصائده، فصول الحياة، ويُفرضُ تأثيره ويترك آثاره، فهو في شعره يؤرّخ ويفتخر ويمدح ويهجو ويقاتل بالكلام بدل السيف في حروب قومه، ويُحبُّ ويتغزَّل ويعتاش ويتسوّل وربّما يُقتل الشاعر بشعره.

وكم من ذليلٍ وضيعٍ عزَّ ورُفع ببيت شعر.

وكم عزيز رفيعٍ ذُلَّ وضاع قدره ببيت شعر أيضاً.

وكم حربٍ اشتعل أوارها، وأكلت نفوس أهلها، كان أوّل فتيلها

ص: 261

قولُ شاعر. وكم أسماء مجُدت وعُرف ذكرها بسبب بيتِ شعرٍ من أحد مشاهير الشعراء.

وكم من شاعرٍ تشرّد طول عمره وافتقر وربّما قُتل بسبب قولٍ منه. وكم من صراع حُدّد مصيره أو حربٍ حَسمت نتائجها تحفيزُ الشعراء، وتهييجهم للعواطف والمشاعر، فتتحوّل تلك المشاعر إلى سيوف تقاتل مع المحاربين.

وقد يقول الشاعر بيتاً من الشعر فيذهب مثلاً تتناقله الأفواه، أو يكونُ الشعر حجّة لغويّة، يستشهدون به على لغزٍ لغويّ أو قاعدة نحويّة، ويستدلّون به صحّة الكلام وخطئه.

ومع انعدام أسباب التدوين والكتابة تقريباً عند العرب قديماً، إلّا أنّ القدرة الفائقة للحفظ عند العرب، ساعد بشكل كبير على التدوين الذهني للقصائد الشعريّة، والحفاظ عليها، ووصولها إلينا بهذا الإتقان، من غير تشويهٍ للكلمات، أو إخلالٍ بالقواعد الشعريّة، ما يؤكّد القدرة اللغويّة العفويّة عند الإنسان العربي في ذلك الوقت، وحبّ وانسجام الناس مع الشعر، واقتدارهم فيه.

وفي المدخل لهذا الباب، كان لا بدّ من ذكر المختصر، وعدم التوسّع، والإحجام عن ذكر الأبيات الشعرية والاستشهاد بها هنا، لأنّ ذلك يتطلّب مجهود كتاب مستقل، ويقضي خروجاً عن الغاية التي نحن فيها.

وهذا منطبقٌ أيضاً على الأمثال التي عكفنا على إيرادها في هذا

الباب إلى جنب الشعر.

وما يهمُّ: الانتباهُ إلى أنّ أمير المؤمنين علیه السلام مع تلك القدرة

ص: 262

الفائقة والقابلية المعجزة، والبلاغة المبهرة، حتّى قيل عن كلامه: إنّه أفضل وأشرف وأبلغ الكلام بعد القرآن وبعد كلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فكلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين. نجده صلوات الله عليه، لمعرفته التامّة، وإحاطته الكليّة، وتقييمه المصيب للشعر والشعراء وعموم الكلمةُ، يأخذُ ولأكثر من مرّة ومناسبة قول شاعرٍ من الشعراء، يستشهد به، أو يُتمّ به الكلام، أو يُضيفه دليلاً إلى أدلّته، وكذلك بالنسبة للأمثال.

وقد نُسب لأمير المؤمنين علیه السلام شعراً قيل إنّه من نظمه، إلّا أنّ

الغالب على كلامه، هو ما وصل إلينا من خُطبٍ ورسائل وكتب وحكم، وقصار كلمات، كان البعض منها نهجاً للبلاغة، ومنهجاً للعلوم، وموئلاً وملاذاً ومرجعاً للأدباء والشعراء والعلماء، وأصحاب الكلام.

يقول أحد أدباء العصر: وعندي أنّه علیه السلام كان ينظمُ الشعر، ويُحسن النظر فيه، وكان نقده للشعراء نقد عليمٍ بصير.

وقد سُئل يوماً: مَنْ أشعر الشعراء؟ فقال: «إنّ القوم لم يجروا في حلبةٍ تُعرف الغاية عند قصبتها، فإنْ كان ولا بدّ فالملك الضّلّيل». يُريد امرأَ القيس.

وهو بذلك يقول: لو رُفعت للقوم غاية وجروا إليها، لعرفنا من السابق. وكانوا ينصبون العَلَم، فيطلبه المتسابق فيأخذه ليُعلم من السابق، وكانوا يجعلونه من القصب، أي لم يكن كلامهم في مقصدٍ واحد، فمنهم يذهب مذهب الترغيب وآخر مذهب الترهيب، وثالث مذهب الغزل والتشبيب.

وقوله علیه السلام: الملك الضّليل، إنّما سُمّي امرؤ القيس ضلّيلاً، لما يُعلن به في شعره من الفسق. والضلّيل: الكثير الضلال.

ص: 263

ومن كلامه علیه السلام وأقواله، ما ذهبت أمثالاً تتناقل إلى الآن على ألسن الناس، أو كلامٌ لم يسبقه أحدٌ قبله في قوله، ومن حكم وروائع صارت مناراً يهتدي بها الحكماء. أو كلامٌ عرفانيّ اتّخذه العرفانيّون دليلاً ومنهجاً، أو رأي فقهيّ أو تشريع صار حجّة ودستوراً يسير عليه العلماء.

وقد استشهد أمير المؤمنين علیه السلام بالأمثال إضافة لاستشهاده بالشعر. ونحن هنا نذكر جميع ما تطرّق إليه كتاب نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، من شعر وأمثالٍ ذكرها الإمام علیه السلام، أو جامع الكتاب، الشريف الرضي رضي الله عنه، أو ما ذكره الشارح (رحمه الله)، مع الأخذ بنظر الاعتبار إيضاح المعنى، ومناسبة قول الشعر أو المثل، والقائل إنْ عُثر عليه. وعمدنا أنْ لا نهمل شيئاً من ذلك، وهذه هي سياسة كتابنا والمنهج الذي اعتمدناه فيه.

* * *

ص: 264

الشعر والأمثال في نهج البلاغة

(1) خلق آدم علیه السلام

من الخطبة رقم 1 الصفحة 40، في صفة خلق آدم علیه السلام.

قوله علیه السلام: [ثمَّ جمع سبحانه من حَزْنِ الأرض وسهلها، وعذبها و سَبَخِها، تُربةً سنَّها بالماء حتى خَلَصَتْ].

يقول الشارح: سنّ الماء: صبّه، والمراد صبّ عليها أو سنّها هنا بمعنى ملسها كما قال الشاعر:

ثمَّ خاصَرتُها إلى القُبَّةِ الخض_ *** _راءِ تمشي في مرمرٍ مسنونِ والبيتُ قاله عبدالرحمن بن حسان، متغزّلاً برملة ابنة معاوية، وأوّله قوله:

وهي بيضاء مثلُ لؤلؤة الغ_ *** _وا صيغت من لؤلؤٍ مكنونِ

وإذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناءٍ من المكارم دونِ

* * *

(2) الشِّقشِقيّة

من الخطبة رقم 3 الصفحة 52، وهي المعروفة الشِّقشِقيّة تمثّل بقول الأعشى:

ص: 265

شتّانَ ما يومي على كُورِها *** ويومُ حيّانَ أخي جابرِ

الكور: الرحل، أو هو وأداته، والضمير راجع إلى الناقة المذكورة في أبيات قصيدته، والتي منها:

وقد أُسلّي الهمَّ إذْ يعتري *** بجسرةٍ دَوْسرةٍ عاقرِ

والجسر: العظيم من الإبل. والدوسرة: الناقة الضخمة.

وأوّلُ القصيدة:

عَلْقمُ ما أنتَ إلى عامرِ *** الناقضِ الأوتار والواترِ

ويتلو هذا البيت أبياتٌ منها:

في مجدلٍ شُيِّدَبُنيانُه *** يُزِلُّ عنه ظُفُرُ الطّائرِ

ما يجعل الجدُّ الظَّنونُ الذي *** جُنّبَ صوبَ اللّجبِ الماطرِ

مثلَ الفراتيّ إذا ما طما *** يقْذفُ بالبوصيّ والماهرِ

المجدل: القصر. الجُد: البئر القليلة الماء. والظنون: البئر لا یدرى أفيها ماء أم لا. اللجب: المراد به السحاب لاضطرابه وتحركه. والفراتي: الفرات، والياء للمبالغة. والبوصي: ضربٌ من السفن، معرّب بوزي. الماهر: السابح المجيد.

والقصيدة للأعشى الكبير، أعشى قيس، وهو: أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل.

كان الأعشى ينادم حيّان. وحيّان كان سيّداً في بني حنيفة مطاعاً فيهم، وذو حظوة عند ملوك فارس. وكان مرفّهاً وصاحب نعمة وافرة. وجابرُ أخو حيّان الأصغر.

ص: 266

ومعنى البيت الذي استشهد به أمير المؤمنين علیه السلام: أنّ هناك فرقاً كبيراً بين يومي وأنا في الهاجرة والرمضاء، أسيرُ على رحل هذه الناقة، ويوم حيّان أخي وهو في سكرة الشراب، ناعم البال مرفّه من المشاق.

أي: شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقص عليّ من الأمر ومنيت به من اضطراب أركان الخلافة، وبين يوم عمر، حيثُ وليها على قاعدة ممهّدة وأركان ثابتة، وسكون شامل، فانتظم أمره، وسكنت أيّامه.

* * *

(2) بعد اللَّتَيّا والَّتى

من الخطبة رقم 5 الصفحتان 60 و 61، لمّا قُبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

قوله علیه السلام: [فإنْ أقُلْ يقولوا حَرَصَ على الملك، وإنْ أسكُتْ يقولوا جزعَ من الموت. هيهاتَ بعدَ اللَّتيّا والّتي]. هيهات، استبعاداً لظنّهم فيه الجزع، أبعد اللّتيّا والّتي أجزع؟ أي أبعد أنْ قاسيت الأهوال كبيرها وصغيرها، ومنيت بكلّ داهية عظيمة وصغيرة، أجزع من الموت؟

واللتيّا للصغيرة، والّتى للكبيرة.

والمثل الذي استشهد به أمير المؤمنين علیه السلام، أصله: أنّ رجلاً تزوّج بامرأة قصيرة سيئة الخُلق، فشقي معها، فطلّقا، ثمّ تزوّج بأخرى طويلة فكان شقاؤه بها أعظم، فطلّقا وقال: لا أتزوّج بعد اللّتيا والّتي يُشير باللّتيّا إلى الصغيرة والّتي إلى الكبيرة، فصارت مثلاً يُضرب في الشدائد والمصاعب صغيرها وكبيرها.

* * *

ص: 267

(3) قلّما أدبر شيءً فأقبل

من كلام له رقم 16 الصفحتان 69، 70، لمّا بويع في المدينة.

قوله علیه السلام: [حقٌّ وباطل، ولكلٍّ أهلٌ، فلئنْ أمِرَ الباطلُ لقديماً فعل، ولئنْ قلَّ الحقُّ فلربّما ولعل، ولقلّما أدبر شيءٌ فأقبل].

يقول علیه السلام: إنّ ما يمكن أنْ يكون عليه الإنسان ينحصر في أمرين: إمّا الحقّ وإمّا الباطل، والعالم لا يخلو منهما. وإنّ للحقّ أهل وللباطل أهل. ولئن كثر الباطل بكثرة أعوانه، فقد كان منه قديماً، لأنّ البصائر الزائغة عن الحقيقة أكثر من الثابتة عليها. ولئن كان الحقُّ قليلاً بقلّة أنصاره، فلربّما غلبت قلّته كثرة الباطل، فينتصر عليه ويمحقه.

ولقلّما أدبر شيءٌ فأقبل: وهي كلمة تضجّر يستبعد بها أن تعود دولة لقوم بعد زوالها عنهم.

ويقول الشارح: ومن هذا المعنى قولُ الشاعر:

وقالوا يعودُ الماءُ في النّهر بعدما *** ذَوى نبتُ جنبيه وجَفَّ المشارعُ

فقلتُ إلى أن يرجع النهرُ جارياً *** ويُعشبُ جنباهُ تموتُ الضفادع

* * *

(4) النهي عن الحسد

من الخطبة رقم 23 الصفحة 81.

يقول علیه السلام: [فإنّ المرء المسلم البريء من الخيانة، ما لم يغْشَ دناءَةً تظهر فيخشعُ لها إذا ذُكرت ويُغري بها لئامُ النّاس، كان كالفالج الياسر الذي ينتظر أوّل فورةٍ من قداحه].

الفالج: الظافر. والياسر: الذي يلعب بقداح الميسر. أي المقامر. ويأتي الشارح بالمثل: «من يأتي الحكم وحده يفلُج».

ص: 268

أي كلاعب القداح المحظوظ منها.

يُريد أنّ المسلم ما لم يأتِ بعملٍ دنيءٍ يخجل منه، ويبعث لئام الناس على التكلّم به، فقد فاز بشرف الدنيا وسعادة الآخرة، فهو شبيه بالمقامر الذي يفوز بلعبه، لا ينتظر إلّا فوزاً. كذلك المسلم إذا برىء من الدناءات لا ينتظر إلّا إحدى الحسنيين: نعيم الآخرة، أو نعيم الدنيا والآخرة، وهو يعلم أنّ الأرزاق بتقدير رازقها، فهو أرفع من أن يحسد أحداً على رزقٍ ساقه الله إليه.

* * *

(5) تثاقلّ عن الجهاد

من الخطبة رقم 25 الصفحة 84 وما بعدها.

لمّا غلب بسر بن أرطأة على اليمن، قام علیه السلام إلى المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي، فقال: [ما هي إلّا الكوفة أقبضها وأبسطها، إنْ لم تكوني إلّا أنتِ تهبُّ أعاصيركِ، فقبّحكِ الله]، وتمثّل بقول الشاعر:

العمرُ أبيكَ الخيرِ يا عمرو إنَّني *** على وَضَرٍ مِنْ ذا الإناءِ قليلِ

أقبضها وأبسطها: أي أتصرّف فيها كما يتصرّف صاحب الثوب بثوبه يقبضه أو يبسطه. أعاصير: جمع إعصار، وهي الريح، والعصار: الغبار الكثير. وقد شبّه الخلاف والشقاق بالأعاصير، لأنّها تُثير التراب وتُفسد الأرض. ويقول: إنْ كان لي مُلك الكوفة، على ما فيها من الفتن واختلاف الآراء، فأبعدها الله. والوضر: بقيّة الدسم في الإناء.

روي أنّ معاوية سيّر بسر بن أرطأة إلى المدينة بجيشٍ كثيف فأراق

ص: 269

دماء أهلها وفرّ من بين يديه والي المدينة أبو أيوب الأنصاري، ثمَّ توجّه إلى اليمن وكان عليها عبيدالله بن عباس، وفرّ أيضاً ناجياً بنفسه تاركاً ولديه لبسر فذبحهما. ويذكر الشارح شعراً قالته أمّ الولدين زوجة عبيد الله:

يا منْ أحس يا بنيّ اللّذين هما *** كالدرّتين تشظّى عنهما الصدفُ

يا من أحس يا بنيّ اللذين هما *** قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختلفُ

من دَلَّ والهة حيرى مدلهة *** على صبّيين ذلّا إذ غدا السلفُ

خبرت بسراً وما صدّقت ما زعموا *** من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا

أنحى على ودجي ابنيّ مرهفةً *** مشحوذة وكذاك الإثمُ يُقترفُ

وتروى هذه الأبيات بروايات شتّى فيها تغيير وزيادة ونقص.

وفي نفس الخطبة الصفحة 87، يقول علیه السلام: [اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شرّاً منّي، أما والله لوددتُّ أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم]. واستشهد بقول الشاعر:

هنالك لو دعوت أتاك منهم *** فوارسُ مثلُ أرمية الحميم

قال هذا الكلام لتضجّره من تقاعس أصحابه وتثاقلهم عن الجهاد، والبلاد تُغزى من كلّ صوب بمن يُرسلهم معاوية، لينتفض الأمر من حوله، فتمنّى أنْ يُبدلهم الله شرّاً، ويبدله خيراً منهم، مع أنّهم لا خير فيهم، ولا شرَّ فيه علیه السلام.

وهذا بمنزلة قوله تعالى: (قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) (1)، ويُحتمل أنْ يكون الذي طلبه علیه السلام، إبداله خيراً منهم بقومٍ صالحين ينصرونه 5.

ص: 270


1- سورة الفرقان الآية: 15.

ويوفَّقون لطاعته. ويُحتمل أنْ يُريد ما بعد الموت، بإبداله مرافقة النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

أما البيت الذي تمثّل به علیه السلام لأبي جُندب الهذلي وأوّل الأبيات:

ألا يا أمَّ زِنباعٍ أقيمي *** صدورَ العيسِ نو بني تميمِ

والأرمية: جمع رميّ، وهو السحاب. والحميم: ههنا وقت الصيف. وإنّما خصّ الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنّه أسرع لكونه لا ماء فيه، وقد وصفهم الشاعر بالسرعة إذا دعوا، والإغاثة إذا استُغيثوا.

وبنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة حي مشهورٌ بالشجاعة. ومنهم (جذل الطعان) وهو علقمة بن فراس، ومنهم ربيعة بن مكدم، حامي الظعن حيّاً وميّتاً، ولم يحمِ الحريم أحد وهو ميّت غيره، قيل اعترضه فرسان من سُليم، وكان معه نساء من أهله حماهنّ وحده، فضُرب بسهم في قلبه، فركز رمحه إلى الأرض وتوكأ عليها، حتّى يظنُّ الرائي أنّه حي، وأشار للنساء أنْ يذهبْن إلى الحيّ، حتّى رموا فرسه بسهم وسقط عنها، فعُرف أنّه ميّت، ولكنْ بعد خلاص الظعن وإدراك الحيّ.

* * *

(6) لا رأي لمن لا يُطاع

من الخطبة رقم 27 الصفحة 92، في الحثّ على الجهاد، وذم القاعدين عنه.

يقول علیه السلام: [حتّى لقد قالت قريشٌ: إنّ ابن أبي طالب رجلٌ شجاعٌ ولكنْ لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مراساً وأقدمُ فيها مقاماً مني؟

ص: 271

لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين، وها أناذا قد ذرّفتُ على الستّين، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع].

وقوله: لا رأي لمن لا يُطاع، مثلٌ ضربه علیه السلام للحالة التي ذكرها، وردّاً على ما قالته قريش، فليس الأمر كما يقولون، من أنّه لا علم له بالحرب، ولو رجعوا إلى الحروب التي خاضها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأجمعها لوجدوا أنّ أمير المؤمنين علیه السلام، هو قطب رحاها، وعلى يديه يتحقّق النصر، وما فارقته راية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في موقع من المواقع. وإنْ قال قائل: إنّ ذلك صحيح وهو دليل على شجاعته الفائقة التي لا يُنكرها أحدٌ ولا يُنافسه فيها أحد، إلّا أنّ القائل من قريش عنا خطط الحرب وطرق النصر فيها، لقلنا: ومن حقّق ذلك ودحر اليهود في خيبر، بعد أنْ رجعت راية المسلمين أكثر من مرّة لم يصنع أصحابها شيئاً، حتّى قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لأُعطين رايتي غداً رجل يُحبُّ الله ورسوله ويُحبُّه الله ورسولُه، كرّار غير فرّار، يكون النصر على يديه. فتناولها علىٌّ علیه السلام من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وما أسرع أنْ قلع حصنهم، وحطّم أسوارهم وجاء بهم أسرى، ومن سبقوه إلى ذلك ينظرون.

ويوم حنين حين أعجتهم كثرتهم فلن تُغن عنهم شيئاً وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثمّ ولّوا مدبرين، حتّى أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها، نعم ولكنّ النصر لا يعطيه الله سبحانه إلّا بأسبابه، وبثبات المؤمنين وإخلاصهم في القتال، فكان أمير المؤمنين علیه السلام، كعهده، وما أخذه على نفسه الشريفة من عهد الدفاع والفداء والتضحية لله ورسوله وللإسلام، وكان النصر على يديه، كما في كلّ مرّةٍ وفي كل جولة، وجاء بالأسرى من هوازن يقودهم إلى خيمة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 272

وقبلها في أُحد، عند حصوة الهزيمة بالتفاف خالد بن الوليد وجماعته حول الجبل، بعد أنْ تركه الرماة، وثبت عليُّ وقلّة معه، يردّون بصدورهم ونحورهم هجمة المشركين المباغتة، حتّى هيؤوا السلامة لرسول الله والمسلمين وأتمّ عليٌّ لهم الانسحاب إلى الجبل وحال دون فناء الجميع.

أمّا نصر الله ونصر رسوله في الخندق، فذلك ما لم يُشاركه فيه أحدٌ من المقاتلين، وإذْ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وزلزلوا زلزالاً شديداً. وقد كاد المسلمون عمرو بن عبد ودّ بوره الخندق واستطال بشجاعته وجرأته على المسلمين، حتّى برز إليه أبو الحسن، فأطفأ فورته وأخمدَ جرأته وأذلَّ شجاعته بضربة علويّةٍ كفى الله بها المؤمنون القتال. هذه أمثالٌ من حروبه مع الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وأمّا حروبه التي فُرضت عليه في خلافته، فهذه الجمل، وما صنع عليُّ بالجمل وأيُّ نصرٍ مؤزّرٍ تحقّق بذلك الصنيع، وتلك النهروان، وقد أُبيد جيش الخوارج بخطفة يمينه، وخطّته الحربية التي اعتمدها في الحرب. وفي صفّين، وقد أخذت الهزائم والويلات بأهل الشام وسيّدهم معاوية مأخذاً عظيماً، حتّى كان الفارس منهم لا ينجو بنفسه إلّا بإظهار سوءته، وحتّى وصلت سيوف أهل العراق إلى خيمة معاوية ومزّقتها رماحهم، لولا مكيدة رفع المصاحف، الّتي انطلت على البعض وصارت سبباً لوقف القتال. فهل كان صاحب هذه المحافل الجليلة، والبطولات الخالدات، والمواجهات المشهودة، ممّن يُقال له: لا علم له بالحرب إنّه والله جورٌ في الحكم، بل تجنِّ على الحقائق، بل هو الحسد.

لهذا فالوضع الذي كان عليه أمير المؤمنين علیه السلام مع أصحابه في ذلك الوقت، وتقاعد الناس عن الجهاد، وظهور الخلاف وعدم

الطاعة،

ص: 273

واستغلال خُلُق الإمام والمنهج الذي هو عليه، جعل الأمر يصل إلى نتائجه، فلا رأي لمن لا يُطاع، كما قال صلوات الله عليه.

* * *

(7) إذا جاء القتال

من الخطبة رقم 29 الصفحة 96، في ذمّ المتخاذلين.

يقول علیه السلام: [ تقولون في المجالس كَيْتَ وكَيْتَ، فإذا جاء القتالُ قُلتم: حِيْدي حياد].

أي أنّهم يقولون في مجالسهم سنفعل بالأعداء ونفعل، فإذا حلّ القتال فرّوا وتقاعدرا.

وحيدي حياد: كلمة يقولها الهارب من القتال والحرب، كأنّه يسأل الحرب أن تتنحّى عنه، من الحيدان، وهو الميل والانحراف. وقد أوردناها مع الأمثال، حيث جاء بها أمير المؤمنين واصفاً حال أصحابه، وما كانوا يقولون من الكلام ما يفتّ الحجر بشدّته وقوته، ثمّ يكون فعلهم من الضعف والاختلال، بحيث يطمع فيهم العدو.

* * *

(8) فما عدا ممّا بدا

من كلام له رقم 31 الصفحة 799 لابن عباس لمّا أرسله إلى الزبير يستفيتُهُ إلى طاعته قبل حرب الجمل.

قال علیه السلام: [فقل له يقول لك ابنُ خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عَدا ممّا بَدا!].

ص: 274

يقول الشريف الرضي: هو أوّل من سُمعت منه هذه الكلمة أعني «فما عدا ممّا بدا».

عدا: بمعنى صَرَفَ، وقد أراد علیه السلام: ما الذي صدّك عنْ طاعتي بعد إظهارك لها!.

وروى الصادق علیه السلام، عن أبيه عن جدّه علیه السلام قال: سألت ابن عباس عن هذا الأمر، فقال: إنّي أتيت الزبير وأبلغته مقالة أمير المؤمنين علیه السلام، فقال: قل له: إنّي أُريد ما تريد - كأنّه يقول (المُلك) - لم يزدني على ذلك، فرجعت إلى عليٍّ علیه السلام وأخبرته.

وروى محمد بن إسحاق والكبيّ، عن ابن عباس أيضاً، قال: قُلت كلمة أمير المؤمنين علیه السلام للزبير فلم يزدني على أنْ قال: قُلْ له: «إنّا مع الخوفِ الشديد لَنطمعُ». قال: وسُئل ابن عباس عمّا يعني قوله هذا، فقال: يقول إنّا على الخوف لنطمع أنْ نليَ من الأمر ما ولّيتم.

وفسره آخرون وقالوا: أراد: إنّا مع الخوف من الله لنطمع أن يُغفر لنا هذا الذنب.

وقال ابن أبي الحديد: وعلى كلا التفسيرين لم يحصل جواب المسألة، يعني أنّ الزبير لم يُجب أمير المؤمنين علیه السلام ويعود إلى طاعته.

أمّا قوله علیه السلام: «قل له يقول لك ابن خالك»، لطيف جداً، وهو من باب الاستمالة والتذكير بالرحم، وشبيهه قول هارون علیه السلام إلى أخيه موسی علیه السلام لمّا ألقى موسى الألواح وأخذ برأس هارون يجرّه إليه: ابن أمّ، فأَذْكره حقُّ الأخوّة، وهذا أدعى إلى عطفه عليه فيما لو قال له: يا موسى، أو يا نبيَّ الله.

* * *

ص: 275

(9) ما لي ولقريش

من الخطبة رقم 33 الصفحة 104، عند خروجه لحرب أهل الجمل.

يقول علیه السلام: [ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأُقاتلنَّهم مفتونين، وإنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم، والله ما تنقم منّا قريشٌ إلّا أنّ الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيّزنا]، فكانوا كما قال الأول:

أدَمْتَ لعمري شُربَكَ المحضَ صابحاً *** وأكلكَ بالزُّبْدِ المقشَّرةَ البُجْرا

ونحنُ وهبناكَ العلاءَ ولم تكنْ *** عليّاً وحُطْنا حولكَ الجُردَ والسُّمْرا

قتاله قريشاً كافرين: فى حروب الإسلام التي كان فيها صلوات الله عليه، حامل راية النصر والمجاهد الأكبر بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بدر وأُحد الخندق وحنين، وجميع المواقع. وقتاله علیه السلام وهم مفتونون، لأنّ الباغي على الإمام مفتونٌ فاسق، وقد وردت هنا بمعنى الضلال. مفتونين: أي ضالّين.

ولم يرد اسم قائل البيتين اللذين ذكرهما الإمام علیه السلام.

المحض: بمعنى اللّبن الخالص الذي لم يُخالطه الماء.

الزبد: هنا يُطلق الزبد على ما يُستخرج من الحليب.

مقشّرة: وهي الثمرة بعد أن تُنزع نواتُها.

البجر: وردت بمعنى النّهمُ في الأكل. الجرد: الخيول الصغيرة قليلة الشعر. السُّمرا: من السامر، وتُقال لمن يقضي الليل صاحياً لسهرة أو حراسة، أو شبيه ذلك.

ومعنى البيتين واضح ومراد أمير المؤمنين منهما بيّن.

* * *

ص: 276

(10) لو كان يُطاعُ لقصيرٍ أمر

من الخطبة رقم 35 الصفحة 107، وهي بعد التحكيم.

قوله علیه السلام: [ وقد كنتُ أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلتُ لكم مخزون رأيي، لو كان يُطاعُ لقصيرٍ أمر].

الحكومة: حكومة الحكمين أبو موسى الأشعري، و عمرو بن العاص بعد رفع المصاحف في صفّين وكان معاوية قد رأى أنّ الدبرة عليه في الحرب، فعمد هو وابن العاص إلى مكيدة رفع المصاحف على الرماح مدّعين طلبهم ردّ الحكم إلى كتاب الله، فانخدع بها القرّاء، وتبعهم من جيش أمير المؤمنين جماعة، وقالوا: دُعينا إلى حكم الكتاب ونحن أحقُّ باتباعه.

فقال أميرُ المؤمنين علیه السلام: هي كلمة حقٍّ يُرادُ بها باطل. إنّهم ما رفعوها ليرجعوا إلى حكمها، وإنّهم يعرفونها ولا يعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة. أعيروني جماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحقُّ مقطعه، ولم يبق إلّا أنْ يُقطع دابر الذين ظلموا. فخالفوا واختلفوا، فوضعت الحرب أوزارها، ونجا معاوية من مصيره المحتوم، وهي الغاية التي سعى إليها برفع المصاحف، وحقّقها له من انطلت عليه المكيدة. ثمّ تكلّم الناس في الصلح وتحكيم حكمين يحكمان بما في كتاب الله، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، واختار أصحاب الإمام أبا موسى الأشعري، ولم يرضَ أمير المؤمنين به، واختار عبدالله بن عباس فرفضوه، ثمّ اختار الأشتر، فلم يقبلوا، فوافقهم على أبي موسى مُكرهاً بعد أنْ أعذر في النصيحة. «فقد نخل لهم»: أي أخلص رأيه في الحكومة أوّلاً وآخراً. ثمّ انتهى أمر الحكومة بانخداع أبي موسى لعمرو، وخلعه أمير

ص: 277

المؤمنين ومعاوية، ثمّ صعود ابن العاص بعده فأثبت صاحبه وخلع أمير المؤمنين. وما أعقب ذلك من الوهن الذي أصاب أصحابه.

وأمّا المثل الذي جاء به أمير المؤمنين علیه السلام فقصّته:

إنّ قصيراً كان مولى جذيمة المعروف بالأبرش، وكان حاذقاً. وكان قد أشار على سيّده جذيمة أنْ لا يأمن «للزباء» ملكة الجزيرة، فخالفه وقصدها إجابة لدعوتها إلى زواجه فقتلته، فقال قصير: «لا يُطاعُ لقصيرٍ أمر»، فذهب مثلاً.

وفي نفس الخطبة الصفحة 108 وفي معرض نصحه لهم ومخالفتهم، يقول علیه السلام: [ فكنتُ وإيّاكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمُنعرجِ اللِّوى *** فلمْ تستبينوا النُّصحَ إِلَّا ضُحى الغدِ]

وأخو هوازن صاحب الشعر، هو دريد بن الصّمة، والأبيات مذكورة الحماسة.

ومنعرج اللّوى: اسم مكان، ومنعرجه: منعطفه يمنة ويسرة، يقول الشارح: وفي هذه القصيدة:

فلمّا عصوني كنت منهم وقد أرى *** غوايتهم أو أنني غير مهتدي

وما أنا إلّا من غزيّةَ إِنْ غَوَتْ *** غويتُ وإنْ ترشُد غزيّة أرشُدِ

* * *

(11) استقصاء الأمر

من كلام له رقم 43 الصفحة 117، في الاستعداد لحرب معاوية. قوله علیه السلام: [ ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه وقلّبت ظهره وبطنه، فلم أرَ فيه إلّا القتال أو الكفر].

ص: 278

يقول الشارح: قوله علیه السلام: «ضربت أنف هذا الأمر وعينه»: مثلٌ تقوله العرب في الاستقصاء في البحث والتأمّل والفكر. وإنّما خصَّ الأنف والعين، لأنّهما أظهر شيءٍ في صورة الوجه، وهما مستلفت النظر.

أمّا مراده من الكفر، فلأنّ النّهي عن المنكر واجب على الإمام ولا يجوز له الإقرار عليه، فإنْ تَرَكه فَسَق، ووجب عزله. وهو منْ باب المبالغة، فسمّى الفسق كفراً تغليظاً وتشديداً في الزجر عنه.

* * *

(12) في بيان صفات النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم

من الخطبة رقم 71 الصفحة 147.

قوله علیه السلام: [كما حُمّل فاضطلع قائماً بأمرك ].

يقول الشارح: أراد صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قمع الباطل وقهر الضلال كما حمل تلك الأعمال الجليلة بتحميله أعباء الرسالة - يعني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - فنهض بها قويّاً. والضلاعة: القوّة. وقد تكون «الكاف» في «كما حمّل» للتعليل واستشهد بالبيت:

فقلتُ له أبا الملحاة خُذها *** كما أوسعتنا بغياً وعدوا

أي هذه الضربة لبغيك علينا، وتعدّيك.

وفي شرح ابن أبي الحديد، ذُكرت «أبا الملحاء»

* * *

(13) حال الدنيا

من الخطبة رقم 82 الصفحة 162 وهي من الخطب العجيبة، وتُسمّى الغرّاء.

ص: 279

قوله علیه السلام، في ذكر حال الدنيا: [ حتّى إذا أنِسَ نافرُها، واطمأن ناكرُها قَمَصَتْ بأرجلها، وقنَصَتْ بأحبلها، وأقْصَدَتْ بأسهمها].

يقول الشارح: قمصت بأرجلها: قمص الفرس يقمص: أي استنّ وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معاً، وذكر المثل المضروب لضعيفٍ لا حراك به، وعزيز ذلّ: «ما بالعير من قماص».

وقوله أرجل وليس للدابة إلّا رجلان، لأنّه نزل اليدين منزلة الأرجل فالمشي على جميعها. وجاءت: بأرحلها - بالحاء - أي جمع رحل الناقة. و قنصت بأحبلها: أي اصطادت وأوقعت من اغترَّ بها في حبالها وشباكها. وأقصدت بأسهمها: قتلت، وأسهمها: جمع سهام، أراد: قتلت مكانها من غير تأخير.

وفي الصفحة 164 من نفس الخطبة.

ذكر الشارح المثل القائل: «اللبن محتضر فغطِ إناءك»، تقول لبن محتضر: أي فاسد، بعنوان أنّ الجنّ حضرته، هكذا كانوا يظنّون. أمّا سبب ذكره المثل، فذلك عند تعرّضه لشرح قوله علیه السلام: [ومقبوضون احتضاراً]، المذكورة بنفس الصفحة. واحتضر فلان: حضرته الملائكة تقبض روحه.

* * *

(14) ما أكثر العبر وأقل الاعتبار

من الخطبة رقم 87 الصفحة 183.

ذكر الشارح المثل: «ما في هذا الأمر رتبة ولا عتبة» أي شدّة وذلك في شرحه قول الإمام علیه السلام: [ وفي دون ما استقبلتم من عَتْبٍ وما استدبرتم من خطبٍ، معتبرٌ].

ص: 280

والعتب: المشقّة، أي أنّكم لجديرون أنْ تعتبروا بأقلّ من الشدّة المقبلة عليكم بعد ضعف أمركم، وأقلّ من الخطب العظيم الذي مرَّ بكم، فكيف بمثل هذه الأمور الجسام فأنتم أجدر أنْ تعتبروا بها. وروي: «من عَتَب» بفتح التاء جمع عتَبة، يُقال: حُمل فلان على عتبة أي أمر كريه من البلاء.

وروي أيضاً: «من عَنَتٍ» وهو الأمر الشاق.

واستدبرتم من خَطْب: أي الحروب والوقائع التي قضوها واستدبروها.

* * *

(15) أيادي سبا

من كلام له رقم 96 الصفحة 216 في توبيخ أصحابه على التباطؤ على نصرة الحق.

قوله علیه السلام: [ وأحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبأ ].

وأيادي سبأ: مثل تضربه العرب للمتفرّقين، وأصله قول الله تعالى عن أهل سبأ: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (1) وسبأ هو أبو عرب اليمن، ابن يشخب بن يعرب بن قحطان، كان له عشرة أولاد، جعل ستة يميناً وأربعة شمالاً تشبيهاً لهم باليدين، ثمّ تفرّق أولئك الإخوة أشدّ تفرّق لذا يُقال: ذهبوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، أي ذهبوا متفرّقين. 9.

ص: 281


1- سورة سبأ، الآية: 19.

والإمام علیه السلام جاء بهذا المثل في قوله، تشبيهاً لأصحابه في تفرّقهم عنه.

* * *

(16) لا يكذب الرائد أهله

من الخطبة رقم 107 الصفحة 236، وهي من خطب الملاحم. يقول علیه السلام: [فاستمعوا من ربّانيِّكم، وأحضروا قلوبكم، واستيقظُوا إنْ هَتَفَ بكم، وليصدُقْ رائدٌ أهله، وليجمع شمله، وليُحضر ذهنه].

الربّاني: المتألّه العارف بالله سبحانه. إنّما يعني به نفسه الشريفة علیه السلام، وفي وصف الحسن لأمير المؤمنين علیه السلام: «كان والله ربّانيّ هذه الأمّة، وذا فضلها، وذا سابقتها». أمرهم بالاستماع منه علیه السلام.

وأحضروا قلوبكم: أي لا ترضوا بحضور أجسادكم وغيبة قلوبكم، عند الاستماع إليه، فإنكم لا تنتفعون بذلك.

هتف بكم، صاح بكم. والرائد يتقدّم قومه لينظر لهم مواضع الكلأ، ويتعرّف سهولة الوصول إليها من صعوبته، وهو شبيه المثل الذي جاء به الشارح وهو: «لا يكذب الرائد أهله»، أو يُقال: «الرائد لا يكذب أهله».

فهو علیه السلام يأمر الهداة والدعاة الذين يتلقّون عنه، ويوصيهم بالنصيحة. وليجمع شمله: يجمع أفكاره وعزائمه.

* * *

ص: 282

(17) دعاء الاستسقاء

من الخطبة رقم 114 الصفحة 253 وما بعدها.

قوله علیه السلام: [ اللّهمّ خرجنا إليك حين اعتركت علينا حدابير السّنين، وأخلفتنا مخايل الجود].

يقول الشريف الرضي: حدابير السّنين: جمع حدبار، وهي الناقة التي أنضاها السّير، مشبّه بها السّنة التي فشا فيها الجدب. وتمثّل بقول ذي الرّمّة:

حدابيرُ ما تنفكُّ إِلّا مُناخَةً *** على الخسفِ أو ترمي بها بلداً قفرا

ومخايل: جمع مخيلة، وهي السحابة تظهر كأنّها ماطرة ثمّ لا تمطر. والجود: المطر.

* * *

(18) ودع عنكَ نهباً صيح في حَجَراته

من كلام له رقم 160 الصفحة 326، لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقُّ به؟ فقال علیه السلام للسائل وكان أسديّاً [يا أخا بني أسد، أمّا الاستبدادُ علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نوطاً، فإنّها كانت أثَرَةٌ شحّت عليها نفوسُ قومٍ، وسَخَتْ عنها نفوسُ آخرين، والحَكَمُ الله، والمعود إليه القيامة.

ثمَّ قال: «ودع عنك نهباً صيح في حجراته»].

النّوط: التعلّق. والأثرة: الاختصاص بالشيء دون مستحقه.

شحَّت: بخلت. وسَخت: جادت، وأراد بالنفوس التي سخت نفسه

ص: 283

الشريفة، والنفوس التي شحّت: على قول: أهل السقيفة وعلى قولٍ آخر: أهل الشورى.

يقول الشيخ محمد عبده: البيت لامرىء القيس، وتتمّته:

«وهاتِ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ».

وقصّة شعر امرىء القيس: لمّا تنقّل في أحياء العرب بعد مقتل أبيه «حُجْر الكندي»، نزل على خالد بن سدوس النّبهانيّ، فأغارت بنو جَديلة على امرىء القيس، وهو في جوار خالد، فذهبوا بإبله، فذكر ذلك لجاره خالد، فقال له: أعطني رواحلك ألحق عليها القوم، وأردّ إبلك، فأعطاه امرؤ القيس رواحله، وركب خالد في إثر القوم حتّى أدركهم، فقال: يا بني جديلة، أغرتم على إبل جاري، قالوا: ما هو لك بجار، فقال: بلى وهذه رواحله، فاستعلموا أنها رواحل امرىء القيس، فأخذوها منه، وذهبوا بها مع الإبل.

وقيل: بل انطوى خالدٌ على الإبل فذهب بها، فقال امرؤ القيس ذلك الشعر.

والنّهب: الغنيمة. حَجراته: نواحيه، الواحدة حَجْرة.

وصيح في حجراته: صباح الغارة. والرواحل: جمع راحلة، وهي الناقة التي تصلح أن يُشدُّ الرحل على ظهرها، ويُقال للبعير راحلة.

والإمام علیه السلام في ذكره صدر البيت، كأنّه قال: دع عنكَ ما مضى، وهلمّ ما نحن الآن فيه من أمر معاوية.

وجعل «هلمّ ما نحن فيه من أمر معاوية» مقام قول امرىء القيس وهاتِ حديثاً ما حديث الرواحل.

وجاء أيضاً: «ولكن حديثاً» بدل «وهاتِ حديثاً».

* * *

ص: 284

(19) محاسن الكتب

من كتاب له رقم 266 الصفحتان 518 و 519، أرسله جواباً إلى معاوية، وهو من محاسن الكتب.

قوله علیه السلام: [ فلقد خبّأَ لنا الدّهر منك عجباً، إذْ طفقتَ تُخبرنا ببلاءِ الله عندنا، ونعمته علينا في نبيّنا، فكنتَ في ذلك كناقل التمر إلى هَجَرْ، أو داعي مسدّده إلى النّضال].

وهجر: مدينة في البحرين كثيرة النخيل، يُحمل منها التمر إلى غيرها وأصل المثل: «كمستَبْضع تمرٍ إلى هَجَر».

ومثله قول الشاعر:

أُهدي له طُرف الكلام كما *** يُهدَى لوالي البصرة التّمرُ

وقوله: داعي مسدّده إلى النّضال: أي كمن يدعر أستاذه الذي علّمه فن الرماية إلى المناضلة، ومثله قول الشاعر:

أُعلّمه الرماية كلَّ يومٍ *** ولمّا اشتدَّ ساعده رماني

وهما مثلان لناقل الشيء إلى معدنه، والمتعالم على معلّمه. وفي الصفحة 519 لنفس الكتاب، قوله علیه السلام: [هيهاتُ لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها ].

وهو مثلٌ يُضربُ لمن يُدخل نفسه بين قومٍ ليس منهم، ولا له أنْ يدخل بينهم، وأصله: القِداح من عودٍ واحدٍ يُجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب فيصوّت بينها إذ أرادها المفيض، وذلك الصوت، هو حنينه. وفسره آخرون: هو سهم يُخالف السهام، كان له صوتٌ عند الرمي يُخالف أصواتها.

ص: 285

وقيل: إنّ أصل المثل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له عقبة بن أبي معيط: أأُقتلُ من بين قريش؟ فأجابه: «حنَّ قدحٌ ليس منها».

وفي نفس الكتاب، الصفحة 520، قوله: [فدع عنك من مالت به الرّميَّةُ].

الرميّة: الصيد، يرميه الصائد. ومالت به: خالفت قصده فاتبعها، وهو مثل يُضربُ لمن اعوجّ غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه.

وفي نفس الكتاب الصفحتان 521 و 522 قوله علیه السلام: [ وزعمتَ أنّي لكلّ الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت، فإنْ يكنْ ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك، وتمثّل بشطر البيت: «وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها»].

شكاة: نقيصة، وأصلها المرض.

وأوّل البيت: وعيّرها الواشون أنّي أحبُّها.

وهو لأبي ذؤيب.

وفي الصفحة 523 من نفس الكتاب، قوله علیه السلام: [وما كنتُ لأعتذر من أنّي كنتُ أنقمُ عليه أحداثاً، فإنْ كان الذنبُ إليه إرشادي وهدايتي له، فربَّ ملوم لا ذنب له، وتمثّل بشطر البيت: «وقد يستفيد الظَّنَّةَ المتنصّحُ].

ويعني عثمان وما كان من أمره معه.

الظنّة: التهمة. المتنصّح: المبالغ في النصح، أي ربّما تنشأ التهمة من إخلاص النصيحة عند من لا يقبلها. وصدر البيت: «وكم سقتُ في آثاركم من نصيحةٍ».

ص: 286

وفي نفس الصفحة من نفس الكتاب، قوله علیه السلام: [وذكرتَ أنّه ليس لي ولأصحابي إلّا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار. متى ألفيت بني عبدالمطّلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوّفين، وتمثّل بالقول:

«لبّث قليلاً يلحق الهيجا حَمَلْ»].

الاستعبار: البكاء. ألفيت: وجدت. ناكلين: متأخّرين. لبّث: مكّث، يُريد أمهل. والهيجاء: الحرب.

وحَمَلْ: هو ابن بدر رجل من قُشير أُغير على إبله في الجاهليّة فاستنقذها وقال:

لبّث قليلاً يلحق الهيجا حَمَلْ *** لا بأس بالموت إذا الموت نزلْ

فصار مثلاً يُضرب للتهديد بالحرب.

* * *

(20) صبورٌ على ريب الزمان

من كتاب له رقم 274 الصفحة 547 وما بعدها إلى عقيل بن أبي طالب، جواباً لكتاب عقيل.

قوله علیه السلام: [فاقتتلوا شيئاً كلا ولا، فما كان إلّا كموقف ساعة حتّى، نجا جريضاً بعدما أُخذ منه بالمخنَّق، ولم يبق منه غير الرمق، فلأياً بلأيٍ ما نجا، فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشّقاق، وجماحهم في التّيه، فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فَجَزَتْ قريشاً عنّي الجوازي].

قوله كلا ولا: كناية عن السرعة التامّة، فإنّ حرفين ثانيهما حرفٌ ليّن سريعا الانقضاء عند السمع. واستشهد الشارح بقول أبي برهان المغربيّ:

ص: 287

وأسرعُ في العين من لحظةٍ *** وأقصرُ في السمع من لا ولا

وذكرها ابن أبي الحديد ب_ «لا، وذا» في بيت الشعر. وقال: والمعروف عند أهل اللّغة: كلا وذا، أي شيئاً قليلاً، وتقال لما يُستقصر وقته جداً. ومن الناس من يرويها: «كلا ولات».

ومن الرواة من يرويها: «كلا ولأي» ولأَي: فعل معناه أبطأ.

وقوله: نجا جريضاً: أي غصَّ بالريق من شدّة الجهد والكرب. ويجوز أن يريد: ذا جريض، والجريض: الغصّة نفسها، وفى المثل: حال الجريض دون القريض.

قال الشاعر:

كأنّ الفتى لم يغنّ في الناس ليلةً *** إذا اختلف اللّحيان عند الجريضِ

والحريض بالحاء: الساقط لا يستطيع النهوض.

ويُقال: أجرضه الله بريقه: أغصّه.

وقوله: فلأياً بلأيٍ ما نَجا، لأياً: معناه الشدّة، أي عسرت نجاته عسراً شديداً. والفائدة في تكرير اللفظة، المبالغة في وصف العسرة التي نجا بها.

وقوله: فجزت قريشاً عنّي الجوازي: دعاء عليهم بالجزاء على أعمالهم. وهي كلمة تجري مجرى المثل، تقول لمن يُسيء إليك وتدعو عليه: جزتك عنّي الجوازي! يُقال: جزاه الله بما صنع كأنّه يقول: جزت قريشاً عنّي بما صنعت لي كلّ خصلة من نكبة أو شدّة أو مصيبة، أي جعل الله هذه الدّواهي كلّها جزاء قريش بما صنعت بي.

وحقّاً إنّ قريشاً اجتمعت على حرب أمير المؤمنين علیه السلام منذ يوم بويع

ص: 288

بغضاً له وحسداً وحقداً عليه، بما فعل بأشياخهم وصناديدهم في بدر وأُحد وحُنين والخندق، وغيرها من مواقع المسلمين مع المشركين، فأصفقوا كلّهم يداً واحدة على حربه، كما كانوا في بداية الإسلام من عدائهم لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وحربهم له، لم تخرم حاله من حاله أبداً.

وقوله علیه السلام: [ ولا تحسبنّ ابن أبيك - ولو أسلمه الناس - متضرّعاً متخشّعاً، ولا مقرّاً للضيم واهناً، ولا سلس الزّمام للقائد، ولا وطيء الظهر للرّاكب المتقعّد]، ولكنّه كما قال أخو بني سُليْم، وتمثّل بالبيتين:

فإنْ تسأليني كيفَ أنتَ فإنّني *** صبورٌ على ريب الزمان صليبُ

يعزُّ علي أنْ تُرى بي كآبةٌ *** فيشمتَ عادٍ أو يُساءَ حبيبُ

والشاعر هو: العباس بن مرداس السّلمي، ومعناه ظاهر.

وفي الأمثال الحكمية: لا تشكونّ حالك إلى مخلوقٍ مثلك، فإنّه إنْ كان صديقاً أحزنْته، وإنْ كان عدوّاً أشمتَه، ولا خير في واحدٍ من الأمرين.

والسلس: السهل. والوطيء: الليّن. والمتقعد: الذي يتّخذ الظهر قعوداً يستعمله للركوب في كل حاجاته كناية عن الهوان والضعف والقعود. والصليب: الشديد.

* * *

(21) أسوة الإمام علیه السلام

من كتاب له رقم 283 الصفحتان 560، 561 إلى عامله على البصرة عثمان بن حُنيف الأنصاري، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قومٍ من أهلها فمضى إليها.

ص: 289

قوله علیه السلام: [وإنّما هي نفسي أرّوضها بالتّقوى، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبتُ على جوانب المزلق، ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولبابِ هذا القمح، ونسائجِ هذا القَزِّ، ولكن هيهات أنْ يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة منْ لا طمع له في القُرص ولا عهد له بالشَّبَعِ، أو أبيت مِبْطاناً وحولى بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى؟ أو أكون كما قال القائل:

وحسبُكَ داءً أنْ تبيتَ ببطنةٍ *** وحولكَ أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ]

أروّضها: أذلّلها. جوانب المزلق: موضع الخشية من الزلّة، وهو الصراط. والقز: الحرير. الجشع شدّة الحرص. والقد: بعض الجلد غير مدبوغ، أي أنّها تطلب أكله ولا تجده.

البطنة الكظّة أي الامتلاء من الطعام امتلاءً شديداً.

والمبطان: عظيم البطن من كثرة الأكل، والمبطن: الضامر الباطن، والبطين: عظيم البطن لا من الأكل، والبطِن: الذي لا يهمّه إلّا بطنه، والمبطون: عليل البطن، وبطون غرثى: أي جائعة.

وكان يُقال: للإنسان أن يجعل وعاء بطنه أثلاثاً: فثلث للطعام، وثلث للشراب وثلث للنّفس.

ومن قول أمير المؤمنين علیه السلام: أقبل إلى الطعام وأنتَ تشتهيه وقم منه وأنت تشتهيه.

وبيتُ الشعر منسوبٌ إلى حاتم بن عبدالله الطائي الجواد، وأوّلها:

أيا ابنة عبدالله وابنةَ مالكٍ *** ويا ابنة ذي الجدّين والفرس الورْدِ

إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإنّي لستُ آكل وحدي

ص: 290

قصيّاً بعيداً أو قريباً فإنّني *** أخافُ مذمّات الأحاديث من بعدي

كفى بك عاراً أن تبيت ببطنةٍ *** وحولك أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ

وإنّي لعبدُ الضيف ما دام نازلاً *** وما من خلالي غيرها شيمة العبد

وقد جاء البيت المتمثّل به، على ألفاظ مختلفة، حسب ما نقل من المصادر.

وكذا هو أمير أمير المؤمنين علیه السلام جعل من نفسه - وهو الحاكم والمالك - أسوة للفقراء والمعوزين حتّى لا يتبيّغ الفقير بفقره، فما خُلق ليشغله أكل الطيبات، وتخيّر الأطعمة، واقتناء نسائج القزّ. فهو الأسوة لهم في جشوبة العيش والمشارك في مكاره الدهر. وهو القائل: إليك عنّي يا دنيا! فحبلك على غاربك، اعزبي عنّي، فوالله لا أذلُّ فتستذلّيي، ولا أسلسُ لك فتقوديني.

* * *

(22) تقريعه الأشعري

من كتاب له رقم 301 الصفحة 607، وقد بلغه عن الأشعري تثبيطه الناس عن الخروج لحرب أصحاب الجمل.

قوله علیه السلام: [فإنْ حققت فانفذ، وإنْ تفشّلت فابعد وايم الله! لتؤتينَّ منْ حيثُ أنت، ولا تُترك حتّى يُخلطَ زُبْدُكَ بخاثرك].

الخاثر اللبن الغليظ، والزبد: خلاصة اللبن وصفوته.

تقول للرجل إذا ضربته حتّى أثخنته: لقد ضربته حتّى خلطتُ زبده بخاثره. وهذا مثلٌ معناه لتفسدنّ حالك ولتخلطنّ وليضربنّ ما هو الآن مُنتظمٌ من أمرك.

ص: 291

وأصل المثل: «لا يدري أيخثر أم يذيب».

قالوا: إنّ المرأة تسلأ السمن فيختلط خاثره برقيقه، فتقع في حيرة من أمرها: إنْ أوقدت النار ليصفو احترق، وإنْ تركته بقى كدراً.

* * *

(23) للطالب غير حقّه

من كتاب له رقم 302 الصفحة 609، إلى معاوية جواباً.

قوله علیه السلام: [فإنّي إنْ أزرك فذلك جديرٌ أن يكون الله إنّما بعثني إليك للنّقمة منك]، وإنْ تزرني فكما قال أخو بني أسد:

مستقبلين رياح الصيف تضربهم *** بحاصبٍ بين أغوارٍ وجلمودِ

رياح حاصب: تحمل الحصباء، وهي صغار الحصى. والأغوار: ما سفل من الأرض. والجلمود: الصخر.

يقول ابن أبي الحديد: وكنت أسمع أنّ هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي، وقد تصفّحت شعره ولم أجده، ولم أعثر على قائله.

وفي نفس الصفحة من نفس الكتاب، قوله علیه السلام: [لأنّك نشدتَ غير ضالّتك]. الضالّة: ما فقد من مالٍ ونحوه، ونشد الضالّة طلبها ليردّها، يقول الشارح: وهو مثلٌ يُضربُ لطالب غير حقّه.

* * *

(24) لكيلا تأسوا على ما فاتكم

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 69 الصفحة 640.

قوله علیه السلام: [إذا لم يكن ما تُريد فلا تُبَل ما كنت].

ص: 292

جاء في شرح محمد عبده: إذا كان لك مرامٌ لم تنله فاذهب في طلبه كل مذهب ولا تُبال إنْ حقّروك أو عظّموك، فإنّ محط السير الغاية، وما دونها فداءً لها. وقد يكون المعنى: إذا عجزت عن مرادك ولم تصل إليه فارض بأيّ حال، واستشهد بالبيت:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه *** وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ

وجاء في شرح ابن أبي الحديد: «إذا لم يكن ما تُريد، فلا تُبَلْ كيف كنت». وقال: لقد أعجم تفسيره على كثير من الناس، وقالوا: المشهور في كلام الحكماء: «إذا لم يكن ما تُريدُ فأرِدْ ما يكون»، وجهلوا مراده علیه السلام من: «فلا تُبل كيف كنت».

ومراده علیه السلام: لا تكترث بفوت مرادك ولا تبتئس بالحرمان، ولو وقف على هذا لتمَّ الكلام وكمل المعنى، وصار مثل قوله: «فلا تُكثر على ما فاتك أسفاً»، ومثل قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ﴾ (1). لكنّه تمّم وأكّد فقال: «كيف كنت»، أي لا تحمل لذلك همّاً كيف كنت، من مرض أو فقر أو غيرها، والخلاصة: لا تُبالِ الدهر، ولا تكترث.

* * *

(25) أكلة منعت أكلات

في باب الحكم رقم 171 الصفحة 666.

قوله علیه السلام: [كم من أكلةٍ منعت أكلات].

إذا أكل الإنسان وأفرط في الأكل، فلربّما تمرض معدته ويُفسدها 3.

ص: 293


1- سورة الحديد، الآية: 23.

كثرة الطعام، فيمتنع اضطراراً عن الحلى أيّاماً، حتّى تشفى علّته ويُعاود الطعام.

وهو مثلٌ يُضربُ لمن يُكثر في الشيء بغير حاجته، فتحلّ المضرّة له منه. وهذا القول لأمير المؤمنين علیه السلام، لم يُسمع لقائل قاله قبله.

وأخذ هذا المعنى بلفظه «الحريريُّ» فقال في المقامات: «رُبَّ أكلةٍ هاضت الأكل، ومنعته مآكل».

وأخذه أبو العلّاف الشاعر فقال في سنّوره الذي يرثيه:

أردْتَ أنْ تأكلَ الفراخَ ولا *** يأكُلكَ الدهرُ أكلَ مضطهدِ

يا منْ لذيذُ الفراخِ أوقعَهُ *** ويْحكَ هلّا قنعتَ بالقِدَدِ!

کم أكلةٍ خامَرتْ حَشا شَرِهٍ *** فأخرجتْ روحهُ من الجسدِ

وفي المثل: «أكلةُ أبي خارجة»: قال أعرابي وهو يدعو في الكعبة: اللّهمّ ميتةً كميةٍ أبي خارجة، فسألوه، فقال: أكل أبو خارجة حملاً، وشرب وطباً من اللبن، ونام في الشمس فمات، فلقي الله تعالى شبعان ريّان دفيئاً. والعرب تُعيّر بكثرة الأكل، وتصفه بالنّهم والشّره.

ومن الموصوفين بكثرة الطعام: معاوية بن أبي سفيان، كان يأكل حتّى يستلقي ويقول: يا غلام، ارفع، فلانّى والله ما شبعت ولكن مللت. وكان عبيدالله بن زياد معروفٌ بنهمه وشرهه في الأكل، وكذلك سليمان بن عبدالملك، يوصف بالمصيبة العظمى في الأكل. وقد مات لإصابته بتخمة عظيمة من الأكل. وكان الحجّاج عظيم الأكل شديد الشره فيه.

قال مسلمة بن قتيبة: كنتُ في دار الحجّاج وأنا غلام، فأمر بتنّور فنُصب، وأمر رجلاً أنْ يخبز له ودعا بسمك، فجعل يأكل حتّى أكل ثمانين جاماً من السّمك بثمانين رغيفاً من الخبز.

ص: 294

ومن أقواله علیه السلام، في التجنّب عن الإفراط في الأكل ومضارّه: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء»، وروي هذا القول لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولا منافاة، فهو من نفس المعين، وذات الرواء.

* * *

(26) أولى بالنبيّ وأقربُ

في باب المختار من الحكم والمواعظ رقم 190 الصفحة 668.

قوله علیه السلام: [واعجباً أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة].

قال الرضي: ورُوي له شعرٌ في هذا المعنى:

فإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيَّبُ

وإن كنتَ بالقُربى حججتَ خصيمهم *** فغيركَ أولى بالنبيّ وأقربُ

أراد بالمشيرين: أصحاب الحل والعقد وأهل الرأي في الأمر، وهم علىٌّ علیه السلام وأصحابه من بني هاشم.

وأمّا البيت الثاني أراد به: احتجاج أبي بكر رضي الله عنه على الأنصار بأنّ المهاجرين شجرة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، والأولى والأقرب للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، هو وأهل البيت علیهم السلام.

وقد وردت هذه الكلمة في باب الاحتجاج، وكرّرت هنا لضرورة ذكر الشعر في غرضه الذي أُعدّ له.

ويمكن الإضافة: أنّه ورد في شرح ابن أبي الحديد قوله بصيغة أخرى وهي: «واعجباً أنْ تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكونُ بالصحابة والقرابة»، وقال: حديثه علیه السلام في النثر موجّهٌ إلى عمر لأنّ أبا بكر لمّا قال له: امدد يدك، قال عمر: أنت صاحبُ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في المواطن

ص: 295

كلّها شدّتها ورخائها فامدد أنت يدك. فقال عليٌّ:علیه السلام: إذا احتججت لاستحقاقه الخلافة بصحبته لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فهلّا سلّمتَ الأمر إلى من شاركه بذلك وزاد عليه بالقرابة!، وأمّا الشعر، فموجّهٌ إلى أبي بكر، لأنّ أبا بكر حاجّ الأنصار في السقيفة أنّ المهاجرين شجرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال عليٌّ علیه السلام: إذا كان ذلك فغيرك أقربُ نسباً منك إليه، وأمّا احتجاجك بالاختيار، فقد كان قومٌ من الصحابة وأهل الرأي غائبين ولم يحضروا العقد فكيف يثبت؟

وعلى القول الذي ذُكر أوّلاً: «أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة» فيه استغراب، وهو سؤال استنكار، يُستنتج منه أنَّ الخلافة لا بهذا ولا بذاك، وإنّما هي إمامةٌ تُعقد بأمر الله، وما أخذه على نفسه أن: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124) (1). وجميع الناس في ذلك الوقت ممّن «ظلم» بعبادته الأوثان، إلّا أمير المؤمنينن فقد كرّم الله وجهه ولم يسجد لصنم قط، وأنّ الله سبحانه ذكره بالولاية: ﴿إإِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ 55) (2)، وله لا غيره قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «من كنت مولاه فهذا علىٌّ مولاه»، و «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ من بعدي».

وسؤال أمير المؤمنين علیه السلام وتعجّبه: «أتكون بالصحابة والقرابة؟»، تفسره هذه الأحاديث والآيات التي كانت آمرةً به، ودالّةً عليه، صلوات الله عليه.

* * *

ص: 296


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- سورة المائدة، الآية: 55.

(27) الدَّيْنُ الظَّنون

وفي غريب كلامه المحتاج إلى تفسير رقم 6 الصفحة 684، حديثه علیه السلام: [ إنّ الرجل إذا كان له الدَّيْنُ الظَّنونُ يجبُ عليه أنْ يُزكّيَهُ لما مضى إذا قبضه].

قال الرضي: فالظّنون الذي لا يَعلمُ صاحبه أيقبضهُ من الذي هو عليه أم لا، فكأنّه الذي يُظنُّ به فمرّةً يرجوه ومرة لا يرجوه. وهذا من أفصح الكلام.

وكذلك كلُّ أمرٍ تطلبه ولا تدري على أيِّ شيءٍ أنت منه فهو ظنون. وعلى ذلك قول الأعشى:

ما يُجْعَلُ الجُدُّ الظَّنونُ الذي *** جُنِّبَ صوبَ اللَّجَبِ الماطِرِ

مثلَ الفراتيِّ إذا ما طَما *** يقذفُ بالبُوصيِّ والماهرِ

وقد تقدّم ذكر الأبيات وتفسيرها في الخطبة الشِّقشقيّة.

وإنّما ذكرناها مكرّرةً، لأنّ ذلك ما اعتمدناه في إيراد كلّ ما يتعلّق في كل بابٍ من أبواب الكتاب، حينما نجده في الخطبة أو الرسالة أو الحكمة، أي في كلّ كتاب نهج البلاغة.

ثمَّ نقتصر الإشارة عليه من دون الحاجة لإعادة التفسير أو الموضوع، إلّا ما كان في إضافته فائدة.

أمّا عن حديث أمير المؤمنين علیه السلام، فقد قال أبو عبيدة: إنّ فيه من الفقه، ذلك من كان له ديْنٌ على الناس فليس عليه أنْ يُزكّيَهُ حتى يقبضه، فإذا قبضه زكّاه لما مضى.

* * *

ص: 297

(28) ميمون النّقيبة

في غريب الكلام رقم 8 الصفحة 685.

قوله علیه السلام: [كالياسر الفالج ينتظر أوّل فوزةٍ من قداحه].

قال الرضي: الياسرون الذين يتضاربون بالقداح على الجزور - (الناقة المجزورة) - والفالجُ: القاهرُ والغالب، يُقال: قد فَلَجَ عليهم وفلجهم. واستشهد بقول الراجز:

«المّا رأيتُ فالجاً قد فَلَجا»

وقد تقدّم ذكر هذا الكلام في هذا الباب: «النهي عن الحسد» وأوّله: «فإنّ المرء المسلم البريء من الخيانة، ما لم يغش دناءَةً.

يقول ابن أبي الحديد: كالياسر الفالج ينتظر أوّل فوزةٍ من قداحه، أو داعي الله، فما عند الله خيرٌ للأبرار.

يقول: هو بين خيرتين: إمّا أنْ يصير إلى ما يُحبُّ من الدنيا، فهو بمنزلة صاحب القدْحِ المُعلّى، وهو أوفرها نصيباً، أو يموتُ فما عند الله خيرٌ وأبقى.

وليس يعني بقوله: الفالج: القامر الغالب كما فسّره الرضي

لأنّ الياسر الغالب القامر لا ينتظر أوّل فوزةٍ من قداحه، وكيف ينتظر وقد غلب! وأيّ حاجة له إلى الانتظار! ولكنّه يعني بالفالج الميمون النَّقيبة الذي له عادةٌ مطردةٌ أنْ يغلب، وقلَّ أنْ يكون مقهوراً.

* * *

ص: 298

وقد قال الشاعر:

وقافيةٍ مثل حدِّ السنا *** ن تبقى ويذهبُ من قالها

تخيّرتُها ثمَّ أرسلتُها *** ولم يُطق الناس إرسالها

وقال أمير المؤمنين علیه السلام، ما هو أبلغ من كل شعر:

رُبِّ قولٍ أنفذُ من صَوْلٍ.

وقد أدركنا ختام هذا الباب بحمد الله تعالى.

* * *

ص: 299

ص: 300

الباب الخامس

اشارة

المرأة في نهج البلاغة

المدخل:

في مدخل هذا الباب، وهو الأخير من الكتاب، والذي خُصص لذكر «المرأة في نهج البلاغة» لا يمكن أنْ نغفل آثار المرأة في حياة أمير المؤمنين علیه السلام، وأهمّ الأحداث والمواقف التي كان للمرأة فيها وجود وآثار. ورغم أنّ الموجود في النهج ما يتعلّق بالمرأة قليلٌ نسبةً للأحداث التي مرّت في حياة الإمام علیه السلام، ونسبةً لذلك الوجود وتلك الآثار، منذ أنْ جاءت به أمّه تحمله في أحشائها ودخلت بيت الله الحرام، وغايتها دعاء ربّ البيت: أنْ يُسهّل لها ولادتها ويرزقها ما تتمنّاه كلّ أمِّ في ولدها. وكانت تلك الأمُّ العظيمة - فاطمة بنت أسد - أوّل وآخر امرأة تدخل ذلك المكان المقدّس العظيم، وتلد فيه تلك الولادة التي لم تكن، لولا الرعاية الإلهيّة، والتي لم يحصل عليها غيرها من النّساء، ولم تتهيأ لمولودٍ سواه. فلم يذكر تاريخ البشريّة أنَّ امرأةً دخلت هذا المدخل سواها، أو أنّ أحداً غير عليٍّ وُلد في الكعبة المشرّفة ممّن سبقه أو ممن لحقه.

ثمّ ما كان من هذه المرأة العظيمة من الأثر الكبير في حياته، وما كانت عليه وأبوه أبو طالب رضي الله عنه، من كرم الأخلاق وعفّة النفس، وطهارة الروح، وشرف الأرومة، ومن إيمانٍ واعتقادٍ بالله وبالتوحيد ونبذ الشرك،

ص: 301

وما كان عليه قومهم من الجاهليّة، وما نشأ عليه ذلك البيت الطاهر من الاعتقاد بدين جدّهم إبراهيم علیه السلام حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين. وكان ذلك واضحٌ في دعاء الأمّ في بيت الله ومناجاتها لربّ البيت، وتشفّعها بجدّها إبراهيم علیه السلام، ليُسهّل الله لها ولادتها، ويرزقها بما تُحب.

فمع ما حباه الله سبحانه من كرامةٍ ووهبه من منزلةٍ أنْ جعل الإمامية فيه وفي ولده، وعصمه وأبناءه، وجعلهم الوارثين. كانت لتلك الظروف العائليّة المميّزة، الأثر الكبير في نشأته، وفي حياته العامرة، وفي وجوده علیه السلام.

وأثناء تهيّؤ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم لتلقّي أوامر ربّه، وتكليف السماء له بالدعوة إلى دين الله، كان عليٌّ علیه السلام يعيشُ في كنف الرسالة، وفي بيت النبوّة والوحي، يتلقّى ويأخذ علومه وتربيته وإعداده واستعداده، ويتغذّى بروح النبوّة والوحي، برعايةٍ إلهيّةٍ وتسديد نبويِّ مباشر، فكانت له مع امرأةٍ عظيمةٍ أخرى صلةٌ، هي أمٌّ ثانية تحنو عليه وترعاه، وتعامله وفق ما ترى من النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الاهتمام والحنوّ والتعهّد المباشر. تلك الفاضلة العظيمة خديجة، أمُّ المؤمنين وزوجة محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وأمُّ فاطمة، حيث جمعهم هي والنبيّ وعلي - بيتٌ واحد لم يكن على وجه الأرض من يعبد الله ويوحّده سواهم.

ويأتي الأمر الإلهي: أنْ يقترن النور بالنور، ليشعّ على العالم أنواراً باهرةً يبقى مصباحها وضياؤها بقاء الدنيا، يهدي البشريّة، ويُنير دروب الخلق، ليخرجهم من الظّلمات إلى النور. فكان زواجه بسيّدة نساء العالمين: فاطمة الزهراء البتول، التي أذهب الله عنها وعن أولادها الرجس وطهّرهم تطهيراً. والتي قال فيها أبوها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، في مقاماتٍ مختلفة، لا في مقامٍ واحد: إنّها سيّدة نساء العالمين، وإنّها عديلةُ

ص: 302

مريم بنت عمران (1). وإنّها إذا مرّت في الموقف نادى منادٍ من جهة العرش: يا أهل الموقف غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد (2). وإنّ إنكاحه عليّاً إيّاها ما كان إلّا بعد أنْ أنكحه الله تعالى إيَّاها في السماء بشهادة الملائكة.

وكم قال صلی الله علیه و آله و سلم: يُؤذيني ما يؤذيها، ويُغضبني ما يُغْضبها (3).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّها بضعة منّي يُريبُني ما رابها (4).

وغير هذا الكثير في حقّها وحقّ أولادها و زوجها، مع ما نزل فيها من آياتٍ محكماتٍ، كآية التطهير، والمباهلة، والمودّة، وهل أتى، وسواها. وقد سدّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم جميع الأبواب في مسجده إلّا باب فاطمة وعلي علیهم السلام، وكان يتعهّد ذلك الباب في كل يوم، ويُسلّم على أهلها، كما تُسلم عليها الملائكة وجبريل علیه السلام.

وبحكم قرب الإمام علیه السلام للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وملازمته له طيلة حياته، ووجوده المستمر والملاصق، واضطلاعه بأكثر المهامّ، وحضوره المباشر في جميع الأحداث التي مرّت بالرسالة والرسول، فقد كانت تحدث مواقف وتصدر آثار بسبب ذلك الواقع من زوجات النبيّ. وكانت تلك المواقف متفاوتة ومتغيّرة بتغيّر أوضاع زوجاته صلی الله علیه و آله و سلم، فمنها السلبيّة ومنها .

ص: 303


1- أخرج نحوه الترمذي في «المناقب»، 3873. وأحمد في كتاب: «باقي مسند المكثرين»، 11347.
2- أخرج نحوه الحاكم في «المستدرك»، 4728. والطبراني في الأوسط، 2386. والكبير 180.
3- أخرج نحوه البخاري في «المناقب»، 3714 ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة، 2449 والترمذي في «المناقب»، 3869، وأحمد في كتاب «أول مسند المدنيين»، 15691.
4- أخرجه البخاري «كتاب النكاح»، 5230. ومسلم في فضائل الصحابة، 2449.

الإيجابيّة، ومنها مو اقف تصل إلى حدّ العداء، وإظهار ذلك العداء وإعلانه في أحيان كثيرة. ووصل الأمر بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، إلى ما وصل إليه من خروج أمّ المؤمنين السيّدة عائشة رضي الله عنها إلى حربه مع طلحة والزبير في حرب الجمل، وما كان من أثر تلك الحرب وتبعاتها في مسيرة الخلافة، وفي حياة الأمّة بأجمعها.

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لنسائه: أيّتكنَّ صاحبة الجمل الأديب يُقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت (1).

قال أبو عمر بن عبدالبر: وهذا الحديثُ من أعلام نبوّته صلی الله علیه و آله و سلم.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروى جرين بن يزيد عن عامر الشعبي، وروى محمد بن إسحاق عن حبيب بن عمير، قالوا جميعاً: لمّا خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكّة إلى البصرة، طرقت ماء الحوأب - وهو ماء لبني عامر بن صعصعة - فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائلٌ منهم: لعن الله الحوأب، فما أكثر كلابها! فلمّا سمعت عائشة ذكر الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب؟ قالوا: نعم، فقالت: ردّوني ردّوني فسألوها ما شأنها وما بدا لها؟ قالت: إنّي سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: كأنّي بكلاب ماءٍ يُدعى الحوأب، قد نبحت بعض نسائي. ثمّ قال لي: إيّاك يا حميراء أن تكونيها (2).

فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله، فإنّا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأنّ هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟ فلفّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيّاً جعلا لهم .

ص: 304


1- أخرجه الهيثمي في «مجمع الزوائد»، 234/7. وابن أبي شيبة في «المصنّف»، 37785، وابن عبدالبر في الاستيعاب 4029.
2- ذكره ابن أبي الحديد في شرحه، ولم يذكر المصدر.

جُعلاً، فحلفوا لها وشهدوا أنّ هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانات هذه أوّل شهادة زورٍ في الإسلام.

وقال أبو مخنف: حدّثنا عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال يوماً لنسائه وهنَّ عنده جميعاً: ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأديب، تنبحها كلاب الحوأب، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثير، كلّهم في النار وتنجو بعدما كادت (1).

وكانت للإمام علیه السلام مواقف معروفة في أحداث مهمّة وحسّاسة تتعلّق بالنبيّ وزوجاته، وما كان المنافقون والمرجفون، وأعداء الله وأعداء الرسول يحيكونه ضدّ نبيّ الله ودعوته، فموقفه من ماريّة زوجة الرسول معروفة، عندما كشف الله على يده علیه السلام براءتها من التّهمة التي اتّهمت بها بهتاناً، وكان كشفاً مُحسّاً بالبصر، لا يتهيأُ للمنافقين ولا لغيرهم أنْ يقولوا فيه أبداً، وهي قصّة معروفة لا حاجة لتفصيلها.

عموماً فقد كانت زوجات النبيّ سوى عائشة وربّما حفصة في بعض المواقف، يُقدّرن أمير المؤمنين، ويعاملنه على أنّه صنو رسول الله وأخيه ونفسه وقد رأين وسمعن ووعين مئات الآيات المنزلات التي فسّرها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقرّر أنّها نزلت بحقّ علي علیه السلام، مع كثرة أحاديث الرسول وفي مواقف لا تُعدّ، يذكر فضائله علیه السلام، ويؤكّد على عظيم منزلته، وعلوّ شأنه، وكرامته عند الله سبحانه، وانتجابه له. ولو لم يكن إلّا ما سمعن من فضله على لسان النبي صلی الله علیه و آله و سلم في هذه الأقوال المنتقاة من كثير أحاديثه صلی الله علیه و آله و سلم، لكان كافياً أنْ يُقدّس ويُكرم حرمةً واحتراماً لقول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فيه..

ص: 305


1- أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 234. وابن أبي شيبة نحوه (37785) و ابن، عبد البر في الاستيعاب، 4029.

من قوله صلی الله علیه و آله و سلم، ما فيه من المعاني والغايات السامية: والذي نفسي بيده، لولا أنْ تقول طوائفٌ من أمّتي فيك ما قالت النّصارى في ابن مریم، لقلتُ اليوم فيك مقالاً: لا تمرُّ بملإٍ من المسلمين إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة (1).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم: من أراد أنْ ينظر إلى نوحٍ في عزمه وإلى آدم في علمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في فطنته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر علي بن أبي طالب (2).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّي قائلٌ لكم قولاً غير مُحابٍ فيه لقرابتي: إنّ السعيد كلّ السعيد حقّ السعيد، من أحبّ عليّاً حياته، وبعد مماته (3).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم: ادعوا لي سيّد العرب عليّاً، فقالت عائشة: ألستَ سيّد العرب! فقال: أنا سيّد ولد آدم، وعلي سيّد العرب، فلما جاء أرسل إلى الأنصر فأتوه، فقال لهم: ألا أدلّكم على ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هذا عليّ ٌفأحبّوه بحبّي، وأكرموه بكرامتي، فإنّ جبرائيل أمرني بالذي قُلتُ لكم عن الله عزّ وجلّ (4)

ومن هذه الأحاديث الكثير، ولن نسهب بذكرها، ولكن اقتضت الحاجة إليها هنا فذكرنا بعضها.

وفي حياة عليٍّ علیه السلام، من النساء «أمُّ البنين» رضي الله عنها، تزوّجها، فكانت له نعم الزوجة، ولأولاد فاطمة، أحنُّ أم. رعتهم وأحبّتهم، أكثر من

ص: 306


1- ذكره الطبراني في الكبير (951).
2- رواه العسقلاني في «السان الميزان» 24/6 والذهبي في «ميزان الاعتدال» 409/6.
3- رواه الطبراني في الكبير (951).
4- في حلية الأولياء لأبي نعيم 38/5.

أولادها الأربعة وهم العباس وإخوته، الذين قدمتهم بين يدي أبي عبدالله الحسين، في الطفّ، فدوْه بأرواحهم، وأقرّوا بذلك عين أمّهم «أم البنين» فاطمة بنت حزام الكلابيّة رضي الله عنها وأرضاها.

وفي حياته، بنتٌ، هي بعضٌ من فاطمة، ورثت منها: جلالها وعلمها وعظمتها ومن أبيها: شجاعته وإقدامه وجرأته وبلاغته حتّى أنّها مِنْ أسرها أزالت ملوكاً، وحطّمت عروشاً، وحققت النّصر الحسيني، بإكمالها طريق أخيها الحسين علیه السلام بإماطتها اللثام عن وجه الظلم وإزاحتها قوائم عرش البغي المتمثّل بالحكم الأموي البغيض.

لندخل هذا الباب ونقرأ ما اختاره الرضي من كلام أمير المؤمنين علیه السلام عن المرأة في نهج البلاغة. فنجد قولاً أخذه المشرّعون واعتمدوه في فقههم، أو حالةً مستعصية، ووجدوا الحلول لها أو كلاماً ذهب مثلاً ورسخ في أذهان علماء الكلام، وعرفاء الحكمة. وربّما يذكر المرأة وهو يعني حالة معيّنة، أو امرأة معيّنة، ولا يقصد بها جميع النساء، أو يستخدم الإشارة في القول، ومنها يُعرف مراده علیه السلام.

وسنعمد إلى ذكر بعض الأحداث أو الروايات، إذا تعلّق الأمر بامرأة معيّنة، وذلك بشكلٍ مختصر، ولمجرّد الإيضاح وإيصال الفكرة، بالاعتماد في ذلك على شرح ابن أبي الحديد، لأنّ لغالب على شرح الشيخ محمد عبده، الاختصار وعدم التوسّع في أحداث التاريخ.

* * *

ص: 307

ص: 308

المرأة في نهج البلاغة

(1) جُند المرأة

من كلامٍ له علیه السلام رقم 13 الصفحة 65، لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل، خاطب به أهل البصرة، يقول: [كنتم جُنْدَ المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم، وعُقِر فهربتم ].

والمقصود بالمرأة: عائشة رضي الله عنها. والبهيمة: الجمل واسمه عسكر وهو راية أهل البصرة في القتال، قُتلوا دونه كما تُقتل الرجال تحت راياتها. رغا: نسبة إلى صوت الجمل، كناية عن إجابتهم دعوة الحرب ضده علیه السلام.

ومجمل قصّة الجمل: أنّ طلحة والزبير بايعا عليّاً علیه السلام، ثمّ نكثا بيعته، وأتيا مكّة يُحرّضان الناس عليه، فلقيا عائشة زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسألت عن الأخبار، فأخبراها عن خروجهما، ودعوتهما الطلب بدم عثمان الذي ما سُفك لولا تحريضهما عليه، وإنكارهما كلّ شأنه، وعيبهما له في كلّ أمر، مع ما كان من عائشة وابن العاص، وغيرهما نحوه، وقد ذُكر ذلك فيما مضى.

فدعت للخروج إلى الشام، فقالوا لها: لا حاجة لكم في الشام فقد كفاكم أمرها معاوية بن أبي سفيان، وانتهى الرأيُ أن يأتوا البصرة فإنّ

ص: 309

لأهلها هوًى في طلحة، فتجّهزوا لذلك، وقد أعطى عائشة - يعلى بن منبه - جملاً اسمه عسكر وكان يعلى هذا والياً لعثمان في اليمن، وعزله أمير المؤمنين من عمله. ونادى منادٍ في الناس بطلب ثأر عثمان. واجتمع نحو ثلاثة آلاف مقاتل، سارت فيهم إلى البصرة، وبلغ الخبر عليّاً علیه السلام، فأوسع لهم النصيحة، وحذّرهم الفتنة، ودعاهم إلى لزوم الجماعة وعدم نكث البيعة. فلم ينجح النصح، ولم يرجعوا عمّا عزموا عليه. فتجهّز لهم أمير المؤمنين علیه السلام، وسار إلى البصرة، وحدث القتال بعد محاولات كثيرةٍ منه لمنعه وحقن الدّماء، ودفع الفتنة، ولن تنجح كلّ محاولاته وسعيه في ذلك. واشتدّ القتال، وكان الجمل يعسوب البصريين، قُتل دونه خلق كثير من الطرفين. وقد أخذ خطام الجمل «عسكر» سبعون قرشيّاً ما نجا منهم أحد.

والإمام يُنادي في الناس: اعقروا الجمل فإنّه شيطان! اعقروا الجمل وإلّا فنيت العرب. ولمّا عُقر الجمل توقّفت الحرب، وقد قتل طلحة والزبير، وكان أصحاب الجمل ثلاثين ألفاً، قُتل منهم سبعة عشر ألفاً، وقُتل من أصحاب الإمام علیه السلام، ألفٌ وسبعون.

وروي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لمّا رأى ما رأى من كثرة القتلى حول «الجمل عسكر» ولا أحد يستطيع أن يصل إليه ويعقره لكثرة من كانوا حوله، وأنّهم ألبسوه دروعاً، ولفّوا قوائمه بالجلود، حتّى أن السيف أو الرمح أو النبل لا تؤثّر فيه. تناول أمير المؤمنين علیه السلام الراية من ولده محمد بيد، وذو الفقار بالأخرى، ثمّ حمل فغاص في عسكر الجمل، ثمّ رجع وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته. فقال له بنوه والأشتر وعمّار وبعض أصحابه: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين. فلم يُجب أحداً منهم ولا ردَّ إليهم بصره، وتقدّم نحو الجمل وهو يزأرُ زئير الأسد، حتّى فَرِق من

ص: 310

حوله. وتبادروه وأنّه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة، لا يبصر مَنْ حوله، ولا يردُّ حواراً، وحمل حملة ثانية وحده فدخل وسطهم، فضربهم بالسيف قُدُماً قُدُماً، والرجال تفرُّ من بين يديه، وتنحاز عنه يمنة ويسرة، حتّى خضب الأرض بدمائهم، وقد انحنى سيفه فرجع، فاعصوصب به أصحابه، وناشدوه الله في نفسه المقدّسة والإسلام. ثمّ قال: والله ما أُريد بما ترون إلّا وجه الله والدار الآخرة.

ثمّ قال لمحمد ابنه: هكذا تصنع يابن الحنفيّة، فقال النّاس: من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين!

ويُذكر أنّه علیه السلام هو الذي عقر الجمل ضربه على رجله بالسيف فخرَّ إلى الأرض وله رغاء شديد، فلمّا برك الجمل كانت الهزيمة لأهل البصرة.

* * *

(2) اسماء بنت عميس

من كلام له رقم 67 الصفحة 142، لمّا قُتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه، قال: [ وقد أردتُ تولية مصر هاشم بن عتبة، ولو ولّيتُهُ إيّاها لما خلّى لهم العَرْصةَ ولا أنْهزهم الفُرصة، بلا ذمِّ لمحمّد بن أبي بكرٍ، فلقد كان إليَّ حبيباً، وكان لي ربيباً ].

العرصة: كلّ بقعة واسعة بين الدور، وأراد بها عرصة مصر. ومحمد أمّه أسماء بنت عُميس بن النعمان بن كعب بن مالك

بن قحافة بن قثعم، تزوّجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له عبدالله الجواد، ثمّ قُتل جعفر يوم مؤتة، فتزوّجها أبو بكر فأولدها محمد، ثمّ مات عنها، فخلف عليها أمير المؤمنين علیه السلام، وعاش

ص: 311

محمد بن أبي بكر في بيته، وكان ربيبه وخرّيجه، جارياً عنده مجرى أولاده، رضع الولاء والتشيّع منذ صباه، ونشأ عليه، فلم يكن يعرف له أباً غير عليّ علیه السلام، ولا يعتقد لأحدٍ فضيلة غيره، وقال عليٌّ عنه: محمد ابني من صُلب أبي بكر يُكنّى أبا القاسم، وقال البعض: كان يُكنّى أبا عبدالرحمن.

وروي أنّ أسماء أنّ أسماء بنت عُميس رأت في منامها، أنّ أبا بكر مخضّبٌ بالحنّاء رأسه ولحيته، وعليه ثيابٌ بيض، فحكت ذلك إلى عائشة، فقالت: إنْ صدقت رؤياك فقد قُتل أبو بكر، وكان في غزاةٍ حينها، وفسّرت الخضاب بالدم والثوب الأبيض بالكفن، وبكت. ثمّ جاء رسول الله وسألها عن سبب بكائها، فذكروا له رؤيا أسماء، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: ليس كما عبّرت الرؤيا، ولكن يرجع أبو بكر سالماً، فيلقى أسماء فتحمل منه بغلام فتسمّيه محمداً، يجعله الله غيضاً على الكافرين والمنافقين. فكان كما أخبر صلی الله علیه و آله و سلم.

وقد قُتل محمد بن أبي بكر في مصر، عندما دخلها عمرو بن العاص قتله معاوية بن حُديج. وقد ذكره إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي، في كتاب الغارات، وقال: كان ابن حُديج ملعوناً يسبُّ علي بن أبي طالب علیه السلام.

وقال: لقد حلفت عائشة بعد مقتل محمد أنّها لا تأكل شواءً، فلم تأكله حتّى لحقت بالله وما عثرت قطُّ إلّا قالت: تَعِس معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، ومعاوية بن حُديج. وقال إبراهيم أيضاً: إنّ أسماء بنت عُميس، لمّا جاءها نعي محمد ابنها، قامت إلى مسجدها، وكظمت غيظها حتّى تشخّبت دماً: أي انفجرت عروقها بالدم.

* * *

ص: 312

(3) في ذمّ النساء

من الخطبة رقم 79 الصفحة 157، بعد حرب الجمل، في ذكر النّساء، قال علیه السلام: [معاشر الناس! إنّ النّساءَ نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقصُ العقول].

فأمّا نقصان إيمانهنَّ فقعودُهُنَّ عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن. وأمّا نقصان حظوظهنَّ فمواريثهنَّ على الأنصاف من مواريث الرجال. وأمّا نقصان عقولهنَّ فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد. فاتّقوا شرار النّساء، وكونوا من خيارهنَّ على حذر ولا تطيعوهنَّ في المعروف، حتّى لا يطمعْنَ في المنكر.

وهذا الفصل كلّه رمزٌ إلى عائشة رضي الله عنها.

ويقول الشارح في تفسيره لهذا الكلام: خلق الله النّساء وحملهنّ على ثقل الولادة وتربية الأطفال إلى سنّ معين لا يكادُ ينتهي حتّى تستعدّ الحمل آخر وهكذا، فلا يكدْن يفرغْن من الولادة والتربية، فكأنّهنّ قد خُصّصن لتدبير أمر المنزل وملازمته، وهو دائرة محدودة يقوم عليهنّ فيها أزواجهنّ، فخلق لهنّ من العقول بقدر ما يحتجْن إليه في هذا، وجاء الشرع مطابقاً للفطرة، فكنّ في أحكامه غير لاحقات للرجال، لا في العبادة ولا الشهادة ولا الميراث.

وأراد علیه السلام في قوله: لا تُطيعوهنّ في المعروف: أنْ لا يكون فعل المعروف صادراً لمجرّد طاعتهنّ، وإنّما إذا أردت فعل المعروف فافعله لكونه معروفاً، ولا تفعله امتثالاً لأمر المرأة، ويقول الشارح: ولقد قال الإمام علیه السلام قولاً صدّقته التجارب في الأحقاب المتطاولة، ولا استثناء ممّا قال، إلّا بعضاً منهنَّ وُهبْن فطرة تفوق في سموّها ما استوت به الفطن، أو

ص: 313

تقاربت، أو أخذ سلطان من التربية طباعهنّ، على خلاف ما غرز فيها، وحوّلها إلى غير ما وجّهتها الجبلّة إليه.

وقد كان هذا الكلام بعد حرب الجمل، وانتصار الإمام على جيش البصرة الذي قاده طلحة والزبير، وكان شعار الجيش، الجمل عسكر، وقد أركبوا عليه أمّ المؤمنين عائشة زوجة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وتركوا حريمهم في بيوتهم، وجاؤوا بها إلى البصرة، بدعوى الطلب بدم عثمان.

وقد قال كلّ من صنَّف في السير والأخبار: إنّ عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان وهي أوّل من سمّته نعثلاً، وكانت تقول: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً!

روى المدائني في كتاب الجمل قال: بلغ عائشة قتل عثمان وهي بمكة، فلم تشكّ في أنّ طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بُعداً لنعثل وسحقاً! إيهٍ ذا الإصبع! إيهٍ أبا شبل! إيهٍ يا بن عمّ لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يُبايَع له، حثّوا الإبل ودعدعوها.

وقال أبو مخنف: لمّا علمت عائشة بمقتل عثمان وهي في مكّة، أقبلت مسرعة، فلقيها عبيد بن أبي سلمة الليثيّ، فقالت له ما عندك؟ قال: قُتل عثمان، قالت: ثمّ ماذا؟ قال: ثمَّ حارت بهم الأمور إلى خير محارٍ، بايعوا عليّاً، فقالت: لوددتُ أنّ السماء انطبقت على الأرض إنْ تمَّ هذا.

فقال لها: ما شأنك يا أمّ المؤمنين! والله ما أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها من عليِّ ولا أحقّ ولا أرى له نظيراً في جميع حالاته، فلماذا تكرهين ولايته؟ قال: فما ردّت عليه جواباً.

وروى الشعبي، عن مسلم بن أبي بكرة عن أبيه، قال: لمّا قدم

ص: 314

طلحة والزبير البصرة، تقلّدت سيفي و أنا أريد نصرهما، فدخلت على عائشة، وإذا هي تأمر وتنهى وإذا الأمر أمرها، فذكرتُ حديثاً كنتُ سمعته عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لن يفلح قومٌ تدبِّر أمرهم امرأة» (1). فانصرفت واعتزلنهم.

* * *

(4) زينة الحياة

من الخطبة رقم 151 الصفحة 307، قوله: [إنّ البهائم همّها بطونها وإنّ السباع همّها العدوان على غيرها، وإنّ النّساء همّهنّ زينة الحياة الدنيا والفساد فيها].

يقول ابن أبي الحديد: ثمّ أراد علیه السلام أنْ يومىء إلى ذكر النّساء للحال التي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بامرأة، فذكر قبل ذكر النّساء أنواعاً من الحيوان، تمهيداً لقاعدة ذكر النّساء، فقال: إنّ البهائم همّها بطونها كالبقر والإبل والغنم، وإنّ السباع همّها العدوان على غيرها، كالأسود والنّمور والصقور. ثمّ قال: وإنّ النّساء همهنّ زينة الحياة الدنيا والفساد فيها.

وممّا قاله بعض الحكماء في النّساء، يُقارب هذا الموضوع، قيل لسقراط: أيّ السباع أحسن؟ قال: المرأة.

ورأى بعضهم جارية تحمل ناراً، فقال: نارٌ على نار والحامل شرٌّ من المحمول.

ورأى حكيم امرأة تعلّم الكتابة، فقال: سهمٌ يسقى سمّاً ليرمي به يوماً ما.

ص: 315


1- أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» (425) والترمذي في كتاب الفتن» (2262). والنسائي في كتاب «آداب القضاة» (5388)، بلفظ: ولّوا بدل قوله تدبّر.

وتزوّج بعضهم امرأة نحيفة، فقيل له في ذلك، فقال: اخترت من الشرّ أقلّه.

وهذا لا يعني أنّه كلام عمومي، وإنّما يكون بعض الكلام عن حالة معيّنة، وباختصاص امرأة معينة أو بعض النّساء، وإلّا فإنّ فإنّ من النساء يُعرفن بالصلاح والتقوى، ومنهنّ من فاقت الرجل فيما يُمتدح منه.

* * *

(5) أمّ المؤمنين

من كلام له رقم 154 الصفحة 311 خاطب به أهل البصرة، قوله: [وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء، وضغنٌ غلا في صدرها كمرجل القَيْنِ، ولو دُعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ، لم تفعل، ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله تعالى].

وفلانة: إشارة إلى السيّدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، والكلام في حرب الجمل وخروجها مع طلحة والزبير لحربه وتأليب الناس عليه. والمرجل: القدر. والقين: الحدّاد، أي أنّ ضغينتها وحقدها عليّ دائمين. كقدر الحدّاد، فهو يغلي ما دام يصنع. ولو دعاها أحد لتُصيب من غيري غرضاً من الإساءة والعدوان مثل ما أتت عليّ وفعلت بي، لم تفعل، لأنّ حقدها كان عليَّ خاصة. وحرمتها: أنّها زوجة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

ومن المروي عن أمّ المؤمنين أنّها ندمت وقالت: لوددت أنّ لي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عشرة بنين، كلّهم ماتوا، ولم يكن يوم الجمل، مع أنّها رئيت عقيب يوم الجمل تبكي حتّى تبلّ خمارها، وأنّها كانت بعد استشهاد

ص: 316

أمير المؤمنين علیه السلام تُثني عليه وتنشر مناقبه، وتُحدّث بأقوال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حقّه.

* * *

(6) حرمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

من الخطبة رقم 170 الصفحة 347، في ذكر أصحاب الجمل، قوله علیه السلام: [فخرجوا يجّرون حرمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، كما تُجرُّ الأمة عند شرائها، متوجّهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لهما ولغيرهما ].

وحرمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، كناية عن الزوجة وأصله الأهل والحُرم، وكذلك حبيس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، كناية عنها، فأمّ المؤمنين كانت محبوسة الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولا يجوز لأحد أنْ يمسّها بعده وكأنّها في حياته.

والكلام عن أصحاب الجمل طلحة والزبير، وإخراجهما السيّدة أمّ المؤمنين، وهي حرمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وحبيسه إلى البصرة، وإشراكها في أمرٍ ليس من شأنها، ولو كان للنساء فيه شأنٌ فلم لمْ يُخرّجوا نساءهم أيضاً، بل حبسوا نساءهم، وأخرجوا من هي الأولى أن تُحبس.

روي أنّ الزبير أخذ سبعين رجلاً من «السُّبابجة»، وهم الشُّرط حرس بيت المال التابعين لعثمان بن حنيف والي البصرة من قبل أمير المؤمنين علیه السلام، فذبحهم الزبير كما يُذبح الغنم. وتولّى ذلك منهم عبدالله ابن الزبير ولده، وأخذ كذلك من حرّاس بيت المال خمسين أسيراً وقتلهم صبراً.

وقال أبو مخنف: حدثنا الصعقب بن زهير قال: كانت السُّبابجة

ص: 317

القتلى يومئذٍ «أربعمائة رجل»، قال: فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أوّل غدر كان في الإسلام، والسبابجة أوّل قوم ضُربت أعناقهم من المسلمين صبراً. وأُسر عثمان بن حنيف، وضُرب ضرب الموت، وتُتف حاجباه وأشفار عينيه، وكلّ شعرة في وجهه ورأسه، وأرادوا قتله، فصاح بوجه طلحة والزبير وعائشة قائلاً: إنّ أخي سهل بن حنيف خليفة عليِّ في المدينة، وأقسم بالله إنْ قتلتموني ليضعنّ السيف في بني أبيكم وأهلكم ورهطكم، فكفّوا عنه وتركوه (1).

وكان مع حكيم بن جبلة ثلاثمائة من عبد القيس، من أنصار عثمان ابن حنيف، جرت بينهم وبين طلحة والزبير معركة سمّيت «يوم الجمل الأصغر» لخروجهم إليه، وقد حملوا عائشة على جمل وقُتل حكيم وإخوته الثلاثة مع الثلاثمائة من عبد القيس والقليل من بكر بن وائل بأجمعهم.

عند ذكر هذه الأحداث، نتعرّف على فداحة الأعمال التي قام بها طلحة والزبير وأتباعهما، وكثرة من قُتل من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام وأتباعه في البصرة غدراً أو صبراً، ومع كلّ هذا دعاهم الإمام علیه السلام، إلى أنْ يتوبوا إلى رشدهم، ويدعوا الفتنة، ويعودوا لما كانوا عليه من عقدهم البيعة له، إلّا أنّهم أصرّوا على عدوانهم، وأقحموا حبيس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمّ المؤمنين عائشة في هذا الصراع، وما كان لها أن تقربه.

* * *

ص: 318


1- ذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة الجزء 9 الصفحة 196. طبعة الدار اللبنانية.

(7) أمّا حزني فسرمد

من كلام له علیه السلام رقم 200 الصفحة 434، عند دفن سيّدة النّساء

فاطمة علیها السلام. قاله كالمناجي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عند قبره: [السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النّازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، ورقَّ عنها تجلّدي، فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرّهينة أمّا حزني فسرمد وأمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستُنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال].

قوله علیه السلام: «عن صفّيتك»، من لطيف عباراته، ومحاسن كنايته. يقول علیه السلام: ضعف جلدي وصبري عن فراقها، لكنّي أتأسّى بفراقي لك، فكلّ عظيم بعد فراقك جلل، وكلّ خطبٍ بعد موتك يسير.

والوديعة والرهينة هي فاطمة علیها السلام. أمّا الرهينة، كأنها علیه السلام كانت عنده عوضاً من رؤية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، كما تكون الرهينة عوضاً عن الأمر الذي أخذت رهينة عليه. والوديعة، ذلك أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أودعها أمانة عند كل مسلم بعد رحيله. فكيف كانت وديعة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عندهم؟ وهل أدّوا حقّها كما يجب، وبما تستحقّه علیها السلام؟

ليلي مسهّد: أي ينقضي بالسهاد وهو السهر. والسرمد: الدائم. هضمها: ظلمها. وأحفها السؤال: الاستقصاء فيه.

أمّا قول الرضي رحمه الله: «عند دفن سيّدة النساء»، ذلك لتواتر الخبر عنه صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: فاطمة سيّدة نساء العالمين. إمّا هذا اللفظ بعينه، أو لفظ يؤدّي إلى هذا المعنى.

ص: 319

روي أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قال وقد رآها تبكي عند مرضه: ألا ترضيْن أنْ تكوني سيّدة نساء هذه الأمّة (1)؟

وروي أنّه قال: سادات نساء العالمين أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران (2).

وقد رآها تبكي في مرضه الذي مات فيه صلی الله علیه و آله و سلم، فأسرّ إليها: «أنتِ

أسرع أهلي لحوقاً بي»، فضحكت علیها السلام (3)

وقد ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد في كتابه «الكامل»، أنّ أمير المؤمنين علیه السلام تمثّل عند قبر فاطمة علیها السلام:

لكلّ اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ *** وكلّ الذي دون الفراق قليلُ

وإنّ افتقادي واحدً بعد واحدٍ *** دليلٌ على ألّا يدوم خليلُ

والناس يرونه: وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد.

* * *

(8) فلتة غضب

من كتاب له رقم 239 الصفحة 490، إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة، قوله: [وكان من عائشة فيه فلتة غضب، فأُتيح له قومٌ فقتلوه ].

ص: 320


1- أخرجه الحاكم في «مستدركه» 170/3. والبيهقي في «السنن الكبرى» 251/4. وذكره أبو نعيم في «الحلية» 40/2.
2- ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 201/9.
3- أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي صلی الله علیه و آله و سلم 2450 وابن ماجه في ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم 1621 وأحمد في مسنده 25874.

يُشير علیها السلام إلى ما كان منها في أمر عثمان، وغضبها عليه، حتّى أخرجت قميص رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ونعله وقولها: هذان نعلا رسول الله وقميصه لم تبل، وقد بدّل عثمان من دينه وغيّر من سنّته. وجرى بينهما كلام المخاشنة، حتّى قالت: «اقتلوا نعثلاً».

وقوله: فأتيح له قوم قتلوه: هو من لطيف الكلام، ولم يقل: أتاح الله له قوماً، وجعل الأمر مبهماً.

* * *

(8) وصيّته في النساء عند الحرب

من وصيّة له رقم 252 الصفحة 503، لعسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين. يقول: [ولا تهيجوا النّساء بأذّى، وإنْ شتمن أعراضكم، وسبين أُمراءكم، فإنّهنّ ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إنْ كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ، وإنّهنّ لمشركات، وإنْ كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهليّة بالفهْرِ، أو الهراوة، فيُعيّر بها وعقبه من بعده].

القهر: الحجر. والهراوة: العصا.

وهي من جملة وصايا أوصى به عسكره في صفّين، ذكرنا ما يخصّ النساء فقط، وأمره لهم بعدم التعرّض للنّساء بأذى، حتّى وإنْ شتمن أعراضكم أو أمراءكم، وهذا حكم الشريعة الإسلاميّة، لا ما يظنّه البعض أو ما يتوهّمه الجاهلون، في إباحة التعرّض لأعراض الأعداء، حتّى لو كانوا كفّاراً.

وقال: إنّ تناول المرأة بالحجر أو العصا، في الجاهليّة، يُجلبُ عاراً لفاعله هو وعقبه من بعده، فكيف والإسلام قد أوصى بعدم التعرّض

ص: 321

للشيخ أو الجريح أو المدبر أو أو النّساء بأي أذًى. وتلك من آداب الحرب والقتال عند المسلمين.

وقد ورد في هذا المعنى قول الشاعر:

إنّ من أعظم الكبائر عندي *** قتلُ بيضاءَ حرّة عُطبولِ (1)

كُتب القتل والقتالُ علينا *** وعلى المحصناتِ جرُّ الذّيولِ

وفي حديث حرب الجمل: إنّ أمير المؤمنين علیه السلام بعد ظفره، مرَّ بباب عبدالله بن خلف الخزاعي، فقالت امرأته: يا عليّ، يا قاتل الأحبّة، وشتمته، فلم يردّ عليها، ولكنّه وقف وأشار إلى ناحية من دارها، ففهمت إشارته، فسكتت وانصرفت. وكانت قد أخفت عندها مروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير، بعد فرارهما من المعركة، فأشار إلى الموضع الذي كانا فيه، أي لو شئتُ أخرجتهما.

ولكنّه علیه السلام لم يفعل وتركهما وترك المرأة، فهو الحليم الكريم الذي يتجاوز على من حاربه وأراد له الهلاك.

ومن وصايا عمر بن الخطاب إلى أمراء جنده: «ولا تقتلوا هرماً، ولا امرأةٌ، ولا وليداً، وتوقَّوا أنْ تطؤوا هؤلاء عند التقاء الزحفين، وعند حمة النَّهضات، وفي شنّ الغارات».

* * *

(9) خيرُ نساء العالمين

من كتاب له رقم 266 الصفحة 521، إلى معاوية جواباً، وهو من محاسن الكتب، قوله: [ومنّا خيرُ نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب].

ص: 322


1- العطبول: المرأة الجميلة الفتية، الطويلة العنق.

خير نساء العالمين: هي فاطمة علیها السلام، الزهراء، البتول، نص عليها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في ذلك، لا خلاف فيه. وقد أخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك (4733)، وابن حبان في صحيحه (6951)، والطبرانيّ في الكبير (1004). وفي مصادر أخرى كثيرة.

وقد سبق أن ذكرنا أحاديث كثيرة مستفيضة في حقّها صلوات الله عليها، نقلها الثقات، ورويت في الصحاح والمساند، وبلغ أكثرها حدّ التواتر، ولا حاجة لإعادتها.

وأمّا حمّالة الحطب: فهي أمّ جميل بنت حرب بن أميّة، زوجة أبي لهب التي ورد نصُّ القرآن فيها وفي زوجها بما ورد.

ومن نساء بني أميّة، أمُّ معاوية هند بنت عتبة بن ربيعة زوجة أبي سفيان، كانت تُشارك قومها حرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بقودها نساء قومها إلى ميدان القتال، تشجّع الرجال، وتحمّسهم على قتال النبيّ والمسلمين.

وفي أُحد لها موقف معروف، في قولها الشعر، تُحرّض به على القتال، كقولها: «الدم الدم، ويهاً بني عبدالدار، ويهاً حماة الأديار، ضرباً بكلّ بتّار. نحن بناتُ طارق نمشي على النّمارق، الدرُّ في المخانق، والمسكُ في المناطق، إنْ تُقبلوا نعانق ونفرش النّمارق أو تُدبروا نفارق فراق غير وامق». وعندما استشهد حمزة سيّد الشهداء، أمرت قاتله «وحشي» أنْ يُمزّق جسمه، واستخرجت كبده ولاكته في فمها، حتّى دُعيت بلقب «آكلة الأكباد». لعن الله القسوة ولعن أهلها.

* * *

ص: 323

(10) وصايا في النساء

من وصيّة له رقم 269 الصفحتان 542، 543، كتبها للحسن بن علي علیه السلام عند انصرافه من صفّين.

قوله: [وإيّاكَ ومشاورة النّساء فإنّ رأيهنَّ إلى أفَنٍ وعزمهنّ إلى وهّنٍ، واكفف عليهنّ من أبصارهنّ، بحجابك إيّاهنّ، فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهنّ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثقُ به عليهنّ، وإن استطعت أنْ لا يعرفُنَ غيرك فافعل، ولا تُملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإنّ المرأة ريحانةٌ وليست بقهرمانة، ولا تعدُ بكرامتها نفسها، ولا تُطمعها في أنْ تشفع لغيرها، وإيّاك والتّغاير في غير موضع غيرة، فإنّ ذلك يدعو الصحيحة إلى السَّقَمِ، والبريئة إلى الرَّيْبِ].

مجموعة وصايا تخصّ أمور النساء وطرق التعامل مع المرأة، وما يصلحها فيُعمل به، أو يُفسدها فيُتجنب عنه، وجميعها في أمور مهمّة وذات صلة بالحياة العامة وبناء المجتمع، وخلق الأسس السليمة لهذا البناء الذي من أهم أركانه المرأة. ونأخذ هذه الوصايا بالتتابع:

أمّا مشاورة النساء فإنّه من فعل عجزة الرجال والأَفَنُ: ضعف الرأي، تقول: أفن الرجل: أي ضعف رأيه، وتُقرأ أفْن بسكون الفاء، وهو النقص، والمتأفّن: المتنقّص، يُقال: فلان يتأفّن فلاناً، أي يتنقصه ويعيبه.

ثمّ ذكر فائدة الحجاب والتشدّد فيه، ممّا يُبقي على وجود المرأة ويُحافظ عليها. ونهاه أنْ يُدخل عليهنّ من لا يوثق به، وأنّ خروجهنّ أهون من ذلك، لأنّ الخلوة تتحقق لمن لا يوثق به أكثر منها في الطرقات. وقال: إنْ استطعت أنْ لا يعرفن غيرك فافعل. قيل: كان

ص: 324

لبعضهم بنت حسناء، فحجّ بها، وكان يعصب عينيها ويكشف للناس وجهها، فقيل له في ذلك، فقال: إنّما الحذر في رؤيتها الناس، لا من رؤية الناس لها.

ولا تملّك المرأة: لا تدخلها معك في تدبيرٍ أو مشورةٍ، إلّا ما كان متعلقاً بنفسها أو ما يُصلح شأنها.

والقهرمان: الذي يحكم في الأمور ويتصرّف فيها بأمره، والمرأة ليست كذلك، إنّما هي ريحانة.

ولا تُجاوز بإكرامها نفسها فتكرم غيرها بشفاعتها.

يقول الشارح: أين هذه الوصيّة من حال الّذين يصرفون النّساء في مصالح الأمّة، بل ومن يختصّ بخدمتهنّ كرامة لهن!

وأقول: أين هذه الوصيّة من الحال التي وصلنا إليها، فجعلنا من النساء متصرفات في شؤون الحكم والسياسة، واتخاذ القرار، الذي ربّما منْ شأنه تحديد مصير الأمّة، مستقبلها. حتّى أوردنا موارد الضعف والهوان وقلّة الحيلة. قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لن يفلح قومٌ تدبّر أمرهم امرأة» (1) ثمّ نهاه عن إظهار الغيرة على المرأة بسوء الظنّ في حالها من غير موجبٍ. أمّا غيرة الرجل على عرضه وشرفه فممّا يوصي به ويمتدحه، وله قولٌ في ذلك سيأتي في حينه يقول: غيرة المرأة كفر، وغيرة الرجل إيمان، ذلك أنّ غيرة المرأة قد تمنع من الزواج وهو ما حلل للرجل. أمّا غيرة الرجل فتحريمٌ لما حرّم الله وهو الزنى.

ومن الشعر الذي قيل في استقباح الغيرة في غير محلّها ما قاله مسكين الدارمي: .

ص: 325


1- البخاري في المغازي والترمذي في كتاب الفتن. والنسائي في آداب القضاة.

ما أحسنَ الغيرةَ في حينها *** وأقبح الغَيْرة في غير حينْ

من لم يزل متّهماً عِرسَه *** مناصباً فيها لرجم الظنونْ

يوشك أنْ يُغريَها بالّذي *** يخاف، أو ينصبها للعيون

حسبك من تحصينها ضمُّها *** منك إلى خِيم كريم ودينْ

لا تظهرنْ يوماً على عورةٍ *** فيتبع المقرون حَبلَ القرينْ

والبيت الثالث موافق ومأخوذٌ من قوله علیه السلام: فإنّ ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم، والبريئة إلى الرَّيْبِ.

وما أجمل قول الدارمي أيضاً:

وهبني امرؤ راعيتُ ما دمتُ شاهداً *** فكيفَ إذا ما سرتُ من بيتها شهرا

إذا هي لم تُحصن لما في فنائها *** فليس بمنجيها بنائي لها قصرا

* * *

(11) ابن أمّي

من كتاب له رقم 274 الصفحة 548، أرسله إلى أخيه عقيل، وهو جواب كتاب كتبه إليه قيل.

يقول: [فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أمّى ].

والجوازي: جمع جازية، وتعني المكافأة، وهذا دعاءٌ عليهم بالجزاء على أعمالهم.

وسلطان ابن أمّي: يعني به الخلافة. وما يعنينا هنا قوله: ابن أُمّي. وابن أمّه هو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فعلى قولٍ: لأنّهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن

ص: 326

عمران بن عائذ بن مخزوم أمّ عبدالله وأبي طالب، ولم يقل سلطان ابن أبي، لأنّ غير أبي طالب من الأعمام يشركه في النّسب إلى عبد المطّلب. وقولٍ آخر: إنّ فاطمة بنت أسد أمّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام، ربّت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في حجرها، فقال النبيّ في شأنها: فاطمة أمّي بعد أمّي.

* * *

(12) اللُّبْسَةُ واللَّسْبَة

باب الحكم وقصار الكلمات رقم 62 الصفحة 639.

قوله علیه السلام: [المرأةُ عقربٌ حلوةُ اللَّبْسَةِ].

وفي نسخ أخرى: «المرأة عقربٌ حلوةُ اللَّسْبَةِ».

فعلى القول الأوّل، اللَّبْسَةِ، بالكسر وتقديم الباء على السّين تعني: حالة من حالات اللبس، يُقال لبست فلانة، أي عاشرتها زمناً طويلاً. والعقرب لا تحلو لبستها، أمّا المرأة فمع الإيذاء، فهي حلوة اللِّبسة.

وأمّا القول الثاني: اللَّسبَةِ، تعني: اللّسعة.

لَسَبته العقرب، بالفتح: لسعته. و لَسبْت العسل: أي لعقته.

نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة، فقال: ليت كلّ شجرة تحمل مثل هذه الثمرة.

وكتب فيلسوفٌ على باب داره: ما دخل هذا المنزلُ شرٌّ قطّ، فقال له بعضهم: أكتب معه، إلّا المرأة.

ورأى بعضهم امرأة غريقة في الماء، فقال: زادت الكَدَرَ كدراً،

والشرُّ بالشرِّ يهلك.

ص: 327

وفي الحديث المرفوع: استعيذوا بالله من شرار النّساء، وكونوا من خيارهنّ على حذر (1).

وقال الحكماء: اعص هواك والنّساء وافعلْ ما شئت.

وفي الحديث المرفوع: إنّهنّ ناقصات عقلٍ ودين (2).

ومن كلام بعض الحكماء: ليس ينبغي للعاقل أن يمدح امرأةً إلّا بعد موتها.

وكان يُقالُ: ما نُهيت امرأةٌ عن أمرٍ إلّا أتته.

وفي هذا المعنى يقول طُفيل الغَنَويّ:

إنّ النّساء كأشجارٍ نبتْنَ معاً *** هُنَّ المرارُ وبعضُ المرّ مأكولُ

إنّ النساء متى يُنْهَيْنَ عن خُلقٍ *** فإنّه واجبٌ لا بدَّ مفعولُ

وجاء في الحديث: شاوروهنّ وخالفوهنّ (3).

وفي الحديث أيضاً: ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ من النّساء على الرجال (4).

وفي الحديث أيضاً: المرأة ضلع عوجاء إنْ داريتها استمتعت بها، وإِنْ رُمْتَ تقويمها كسرتها (5).8.

ص: 328


1- ذُكر في «كشف الخفاء» (2019)، ومن قول لقمان لابنه.
2- أخرجه البخاري، «كتاب الحيض» 304. ومسلم، كتاب الإيمان (80). وأبو داود كتاب «السنّة» (4679).
3- ذكره المناوي في «فيض القدير» 263/4، وقال: لا أصل له. والعجلاني في «كشف الخفاء» 1529.
4- أخرجه البخاري، كتاب النكاح 5096، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء 2740، وغيرهم.
5- أخرجه البخاري، كتاب «أحاديث الأنبياء» 3331، ومسلم، كتاب «الرضاع» 1468. والترمذي، كتاب «الكلاة واللعان» 1188.

وقال الشاعر في هذا المعنى:

هي الضِّلع العوجاء لستَ تُقيمها *** ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها

أيجمعن ضعفاً واقتداراً على الفتى *** أليس عجيباً ضَعفُها واقتدارها؟

* * *

(13) يأتي على الناس زمان

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 102 الصفحة 647.

قوله علیه السلام: [يأتي على الناس زمانٌ لا يُقرَّبُ فيه إلّا الماحل، ولا يُظرَّفُ فيه إلّا الفاجر، ولا يُضعَّفُ فيه إلّا المنصف، يعدّون الصدقة فيه غُرماً، وصلةُ الرحم منّاً، والعبادة استطالة على الناس، فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النّساء، وإمارة الصبيان، وتدبير الخصيان].

وقد سبق ذكر هذا الحديث، وتفسيره في باب الملاحم، فهو من باب الإخبار عن الغيوب وهي إحدى آياته، والمعجزات المختصّ بها دون الصحابة.

وقد ذكرت هنا لتعرضه لذكر النّساء، بقوله: يكون السلطان بمشورة النّساء. وهذا ما حصل في عصور الحكم العباسي وما بعده، فكان السلطان وإدارة الحكم بمشورة الإماء، والنساء.

* * *

(14) الغيرة

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 125 الصفحة 653.

قوله: [غَيْرَةُ المرأةِ كفرٌ، وغَيرةُ الرجل إيمان]. سمّاها كفراً،

ص: 329

لمشاركتها الكفر في القُبح، فأجرى عليها اسمه، ذلك أنّ المرأة أقلُّ إدراكاً وصبراً من الرجل، فتكون غيرتها على الوهم الباطل والخيال غير المحقّق، فكانت قبيحة لوقوعها غير موقعها.

أمّا الرجل، فلمّا كان إدراكه أكبر وتماسكه أشدّ، كانت غيرته في موضعها، وواجبة عليه، لأنّ النّهي عن المنكر من الواجبات، وفعل الواجب من الإيمان.

وقد تؤدّي غيرة المرأة إلى الكفر على الحقيقة، كالسحر، فقد ورد في الحديث المرفوع، أنّه كفر. أو أنّها بغيرتها تُحرّم على الرجل ما أحلّ الله له من زواج متعدّد. أمّا غيرة الرجل فتحرم لما حرّمه الله وهو الزنى.

* * *

(15) جهادُ المرأة

في باب الحكم رقم 137 الصفحة 658، قوله علیه السلام: [وجهاد المرأة حُسنُ التَّبعُّل].

معناه: حسن معاشرة بعلها، وحفظ ماله وعرضه، وإطاعته وترك الغيرة فإنّها باب الطلاق.

* * *

(16) خيار الخصال وشرارُها

في باب الحكم رقم 236 الصفحة 677، قوله علیه السلام: [ خیارُ خصال النّساء شرارُ خصال الرجال: الزَّهو والجبن والبُخل. فإذا كانت المرأة مزهوّةً لم تمكّن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كلّ شيءٍ يعرضُ لها ].

ص: 330

الزهو: الكبر. فرقت: فزعت.

وبالتجربة لمسنا أنّ هذه الخصال الثلاث، محبوبةٌ في النساء، منكرة في الرجال.

ففي حكمة أفلاطون: من أقوى الأسباب في محبّة الرجل لامرأته واتفاق ما بينهما أنْ يكون صوتُها دونَ صوته، وتميّزها دون تميّزه، وقلبُها أضعف من قلبه فإذا زاد من هذا عندها شيء على ما عند الرجل، تنافرا على مقداره.

وقد أخذ معنى قول الإمام علیه السلام، شاعر العجم الطُّغرائيُّ فقال:

الجودُ والإقدامُ في فتيانهم *** والبُخلُ في الفتياتِ والإشفاقُ

والطّعنُ في الأحداق دأبُ رُماتهم *** والراميات سهامُها الأحداقُ

وله:

قد زاد طيب أحاديث الكرام بها *** ما بالكرائم من جُبن ومن بَخَلِ

* * *

(17) لا بُدَّ منها

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 240 الصفحة 678.

قوله علیه السلام: [المرأةُ شرٌّ كلُّها، وشرُّ ما فيها، أَنَّهُ لا بُدَّ منها ]

حلف إنسان عند بعض الحكماء أنّه ما دخل بابي شرٌّ قطّ، فقال الحكيم: فمن أين دخلت امرأتُك؟

وكان يُقال: أسباب فتنة النّساء ثلاثة: عينٌ ناظرة وصورةٌ مستحسنة وشهوةٌ قادرة. وكان يُقال: من أتعبَ نفسه في الحلال من النساء، لم يَتُقْ إلى الحرام منهنّ، كالطَّليح مناهُ أنْ يستريح.

* * *

ص: 331

(18) نصُّ الحِقاق

في المختار من غريب كلامه علیه السلام المحتاج إلى التفسير، رقم 4

الصفحة 683.

قوله علیه السلام: [إذا بَلَغَ النّساءُ نَصَّ الحِقَاقِ فالعَصَبَةُ أولى].

قال الرضي: النصُّ: منتهى الأشياء، ومبلغُ أقصاها كالنصِّ في السير، لأنّه أقصى ما تقدر عليه الدّابّةُ، وتقول: نَصَصْتَ الرجل عن الأمر إذا استقصيتَ مسألته عنه لتستخرج ما عنده فيه. فنصُّ الحِقاق يُريد به الإدراك، لأنّه منتهى الصّغر، والوقت الذي يخرج منه الصّغير إلى حدِّ الكبير. وهو من أفصح الكنايات عن هذا الأمر وأغربها.

فإذا بلغ النّساء ذلك فالعَصَبةُ كالإخوة والأعمام، أولى بالمرأة من أُمّها، وبتزويجها إذا أرادوا ذلك.

والحقاق: محاقّة الأمّ للعصبة، وهو الخصام والجدال، وقولُ كلّ واحد للآخر أنا أولى وأحقُّ منك بهذا.

وهناك من رواه: «نصُّ الحقائق»، والحقائق: جمع حقاق والحقاق: جمع حِقّ، وهو ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين، قد دخل في الرابعة، فاستحقّ أن يُحمل عليه ويُنتفع به، وهنا الحقائق جمع الجمع.

فيكون المعنى: إذا بلغت المرأة الحدّ الذي يستطيع الإنسان فيه الخصومة والجدال فعَصَبَتُها أولى بها من أمّها والحدّ الذي تكتمل فيه المرأة والغلام للخصومة والجدل هو سنُّ البلوغ.

* * *

ص: 332

(19) ينصح المحارب

في غريب كلامه المحتاج إلى تفسير رقم 7 الصفحة 684.

قال عند تشييعه جيشاً: [أعذبوا عن النّساء ما استطعتم].

قال الرضي: ومعناه اصدفوا عن ذكر النّساء، وشغل القلب بهنّ، وامتنعوا من المقاربة لهنّ، لأنّ ذلك يفتُّ في عضد الحميّة، ويقدح في معاقد العزيمة، ويكسر عن العدو، ويلفت عن الإبعاد في الغزو.

وكلّ من امتنع من شيءٍ أعذب عنه.

اعذبوا، واصدفوا: أي أعرضوا واتركوا.

وفي بعض النسخ جاءت: «اعزُبوا عن النّساء ما استطعتم» وفسّرها بنفس المعنى.

* * *

(20) رنين النّساء

في باب الحكم وقصار الكلمات رقم 324 الصفحة 699.

روي أنّه علیه السلام لما ورد الكوفة قادماً من صفّين، مرَّ بالشّباميّين، فسمع بكاء نسائهم على قتلى صفّين.

فقال علیه السلام: [أتغلبكم نساؤكم على ما أسمع، ألا تنهونهُنّ عن هذا الرّنين!؟].

تغلبكم: يأتينه قهراً عنكم. على ما أسمع: أي بكاؤهنّ. والرّنين: صوتُ البكاء.

ص: 333

فيه إشارة لنهيه عن ندب الموتى والمبالغة في البكاء والعويل. لهذا طلب نهيهنَّ عن رفع الأصوات، وعبّر عنه بالرنين على قتلاهن في صفّين.

* * *

(21) النظر إلى المرأة

في باب الحكم رقم 415 الصفحة 720.

روي أنّه مرّت امرأة جميلة بقومٍ فرمقوها بأبصارهم، فقال علیه السلام:

[إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سبب هَبابِها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تُعجبه فليلامس أهله فإنّما هي امرأةٌ كامرأة]. وفي بعض النسخ: «كامرأته».

طوامح: جمع طامح، طمح البصر، إذا ارتفع، وطمح: أبعد في الطلب، وطموح الأبصار، هو سبب هبابها، أي هيجان هذه الفحول الملامسة الأنثى.

وعبّر عن الجماع بالملامسة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) (1)

* * *

وقد تمّ الفراغ منه بعون الله وتوفيقه ومنّه سبحانه، في الثامن عشر من جمادى الأول لسنة 1431 ه، الموافق للثاني من أيار سنة 2010م.

وأنا أقدّم هذا المجهود الذي وفّقني إليه ربّي محموداً مشكوراً، أعتذر عن كلّ زلّةٍ أو خطأٍ أو سهو، وأستغفر الله من كل ذنب، .

ص: 334


1- سورة النساء، الآية: 43.

وأستسمحه عن كلّ تقصير. وأستشفع إليه بمن أسهرُ عيني، وأعملتُ فكري في تنقيب كنوزه واستخراج لآلىء كلامه، واستقصاء روائع حكمه وبدائع خطبه وغرائب مقالاته، أنُ يجعل ذلك في صحيفة أعمالي، تنفعني في آخرتي ومآلي، ويُثبتها وسيلة للتقرّب إليه سبحانه، بولائي واعتقادي وخدمتي لمقامه الكريم. فيغفر ذنبي ويستر عيبي، ويكشف كربي، ويوفّقني للوفاء بعهدي الذي قطعته على نفسي: أنْ أستغرق جميع طاقتي، وأنصب جسدي، وأستوفي باقي عمري في خدمة أمير المؤمنين علیه السلام، وأستقصي ما أستطيعه من كلامه، وأتتبّع آثار خطاباته، وأُنقّب في كنوزه، عسى أنْ أستخرج من دُرر ولآلء تلك الكنوز، لننتفع بها، ونستفيد منها، كما أرادها لنا هو علیه السلام، وأنْ أكون من الّذين اهتمّوا وحافظوا على هذا الإرث العظيم، والتركة المباركة الغنيّة، إنّه سميع مجيب، وآخر دعواي أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقين رسول الله محمد وعلى آله وصحبه المنتجبين.

المؤلف

* * *

ص: 335

ص: 336

المحتويات

الإهداء ... 5

كلمة المؤلف ... 7

مقدمة ... 15

أبواب الكتاب

الباب الأوّل: لطائف الاستنباط من القرآن الكريم ... 25

الآيات القرآنية في نهج البلاغة: ... 30

الباب الثاني: الملاحمُ والفتن ... 117

الملاحم في نهج البلاغة ... 123

(1) عن البصرة ومسجدها ... 123

(2) في بليّة الفرقة ومحنة الشتات ... 124

(3) في أهل النهروان ... 125

(4) فى ذكر الكوفة ... 127

(5) في من يأمر بسبّه ... 129

(6) في مصير الخوارج ومآلهم ... 132

(7) بعض الملاحم في الخوارج ... 133

(8) في ذم أهل العراق ... 135

ص: 337

(9) في مروان بن الحكم ... 136

(10) في بني أميّة ... 138

(11) دعوني والتمسوا غيري ... 138

(12) فاسألوني قبل أن تفقدوني ... 139

(13) في ظهور أهل الشام ... 143

(14) عن المهدي (عجل الله تعالی فرجه) ... 145

(15) إخباره عن الضلّيل ... 147

(16) فتنٌ كقطع اللّيل المظلم ... 150

(17) وصف آخر الزمان ... 151

(18) نهاية الأمويين ... 152

(19) ظهور السّفياني ... 154

(20) غُلامُ ثقيف ... 155

(21) فتنة صاحب الزنج ... 158

(22) الفئةُ الباغية ... 161

(23) الإمام الموعود ... 162

(24) ما بعد الإمام علیه السلام ... 164

(25) السراج المنير ... 164

(26) بلايا الفتن ... 166

(27) أخبرنا عن الفتنة ... 168

(28) ظلم بني أمية، وزوال ملكهم ... 169

(29) الإمام المقتول ... 171

(30) هلاك بني أميّة ... 171

(31) بعض العلامات ... 173

ص: 338

(32) علم الإمام علیه السلام ... 174

(33) أصحاب القليب ... 175

(34) رفع المصاحف ... 176

(35) يأتي على الناس زمان ... 178

(36) ونجعلهم الوارثين ... 179

(37) يعسوب الدّين ... 180

(38) صفة أهل الضلال ... 181

(39) اختلاف بني أميّة ... 182

(40) زمانٌ عضوض ... 182

الباب الثالث: الاحتجاج في نهج البلاغة ... 185

في ذكر محمد صلی الله علیه و آله و سلم وآله الميامين علیه السلام ... 193

في بعض ما يختصُّ به علیه السلام ... 194

وليُّ الله وحجّته ... 195

احتجاجات ومناظرات أمير المؤمنين علیه السلام ... 199

(1) محلّ القطب من الرَّحى ... 199

(2) بنا اهتديتم ... 203

(3) في أصحاب الجمل ... 204

(4) بيعة الزبير ... 205

(5) ردُّ القطائع ... 207

(6) ردّ التهمة ... 208

(7) وصيّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... 211

(8) كلمةُ حقٌّ يُرادُ بها باطل ... 212

(9) أنباء السقيفة ... 213

ص: 339

(10) ردُّ التهمة مرة أخرى ... 214

(11) رأيه في التنجيم ... 215

(12) عجباً لابن النابغة ... 216

(13) هذا جزاء من ترك العُقدة ... 221

(14) المال مالُ الله ... 224

(15) احتجاجه على الخوارج ... 226

(16) في شأن طلحة والزبير ... 227

(17) معاقبة القاتل ... 228

(18) مساقط الغيث ... 231

(19) المقارعة بالحجّة ... 232

(20) في معنى طلحة ... 233

(21) في معنى الحكمين ... 234

(22) نقضه آراء طلحة والزبير ... 236

(23) في الحكمين أيضاً ... 237

(24) في مقتل عثمان ... 239

(25) مراسلات ... 240

(26) طلحة والزبير مرّة أخرى ... 249

(27) بعضٌ من صفين ... 249

(28) تناقض الأشعريّ ... 250

(29) إلى معاوية جواباً ... 251

(30) احتجاجه على الخوارج ... 253

(31) واعجباه ... 254

(32) ضلالة أصحاب الجمل ... 255

ص: 340

(33) حُلْيُ الكعبة ... 256

(34) حساب الخلق ... 257

(35) احتجاجه مع اليهود ... 257

(36) في باب الحكم وقصار الكلمات ... 258

(37) العدل والجود ... 258

الباب الرابع: الشعر والأمثال في نهج البلاغة ... 261

المدخل: ... 261

الشعر والأمثال في نهج البلاغة ... 265

(1) خلق آدم علیه السلام ... 265

(2) الشِّقشِقيّة ... 265

(2) بعد اللَّتَيّا والتَّي ... 267

(3) قلّما أدبر شيءٌ فأقبل ... 268

(4) النهي عن الحسد ... 268

(5) تثاقلٌ عن الجهاد ... 268

(6) لا رأي لمن لا يُطاع ... 271

(7) إذا جاء القتال ... 274

(8) فما عدا ممّا بدا ... 274

(9) ما لي ولقريش ... 276

(10) لو كان يُطاعُ لقصيرٍ أمر ... 277

(11) استقصاء الأمر ... 278

(12) في بيان صفات النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ... 279

(13) حال الدنيا ... 279

(14) ما أكثر العبر وأقل الاعتبار ... 280

ص: 341

(15) أيادي سبأ ... 281

(16) لا يكذب الرائد أهله ... 282

(17) دعاء الاستسقاء ... 283

(18) ودع عنكَ نهباً صيح في حَجَراته ... 283

(19) محاسن الكتب ... 285

(20) صبورٌ على ريب الزمان ... 287

(21) أسوة الإمام علیه السلام ... 289

(22) تقريعه الأشعري ... 291

(23) للطالب غير حقّه ... 292

(24) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ... 292

(25) أكلةٍ منعت أكلات ... 293

(26) أولى بالنبيّ وأقربُ ... 295

(27) الدَّيْنُ الظَّنون ... 297

(28) ميمون النّقيبة ... 298

الباب الخامس: المرأة في نهج البلاغة ... 301

المدخل: ... 301

المرأة في نهج البلاغة ... 309

(1) جُند المرأة ... 309

(2) أسماء بنت عميس ... 311

(3) في ذمّ النساء ... 313

(4) زينة الحياة ... 315

(5) أمّ المؤمنين ... 316

(6) حرمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... 317

ص: 342

(7) أمّا حزني فسرمد ... 319

(8) فلتة غضب ... 320

(8) وصيّته في النّساء عند الحرب ... 321

(9) خيرُ نساء العالمين ... 322

(10) وصايا في النساء ... 324

(11) ابن أمّى ... 326

(12) اللَّبْسَةُ واللَّسْبَة ... 327

(13) يأتي على الناس زمان ... 329

(14) الغيرة ... 329

(15) جهادُ المرأة ... 330

(16) خيار الخصال وشرارُها ... 330

(17) لا بُدَّ منها ... 331

(18) نصُّ الحِقاق ... 332

(19) ينصح المحارب ... 333

(20) رنين النّساء ... 333

(21) النظر إلى المرأة ... 334

المحتويات ... 337

ص: 343

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.