العَتَبَةُ العَبَّاسِیَّةُ المُقَدَّسَة
قِسمُ الشُّؤُونِ الفِكرِيَّةِ وَالثَّقَافِیَّةِ
دُرُوسُ تَمهِیدِیَّةُ
في عقائد الشيعة الإمامِيَّة
لجنة تأليف المناهج
مَعْهَدُ تَرَاث ِالأنبياءِ علیهم السلام لِلدَّرَاسَاتِ الحوْزَويَّة الألِكترونيّة
الكتاب: دُرُوْسٌ تَمهِيْدِيَّةٌ فِي عَقَائِدِ الشَّيْعَةِ الإِمَامِيَّةِ.
تأليف: لجنة تأليف المناهج.
الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية.
تحت اشراف وتدقيق: اللجنة العلمية لمعهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية
الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.
المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.
الطبعة: الأولى.
عدد النسخ : 1000.
ربيع الأول 1444ه- تشرين الأول 2022م
ص: 1
قسم الشؤون الفكرية والثقافية
www.alkafeel.net
info@alkafeel.net
nashra@alkafeel.net
مَعَهَدُ تَرَاثِ الأنبياء عليهم السلام للدراسات الحوزَويّة الالكترونية
الكتاب: دُرُوْسٌ تَمهِيْدِيَّةٌ فِي عَقَائِدِ الشَّيْعَةِ الإِمَامِيَّةِ.
تأليف: لجنة تأليف المناهج.
الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية.
تحت اشراف وتدقيق: اللجنة العلمية لمعهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية
الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.
المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.
الطبعة: الأولى.
عدد النسخ : 1000.
ربيع الأول 1444ه- تشرين الأول 2022م
ص: 2
معهد تراث الأنبياء، مؤسسة علمية حوزوية تُدرِّس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
الدراسة فيه عن طريق الانترنيت و ليست مباشرة.
يساهم المعهد في نشر و ترويج المعارف الإسلامية و علوم آل البيت علیهم السلام و وصولها إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، و ذلك من خلال توفير المواقع و التطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة و تصميم المواقع الإلكترونية و التطبيقات على أجهزة الحاسوب و الهواتف الذكيَّة.
و بالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد على عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتم إنشاء جامعة أمّ البنين عليها السلام الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع و ملء الفراغ في الساحة الإسلامية لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات على إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية و الفقهية و القرآنية.
على أن المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلى إنشاء مركز القمر
ص: 3
للإعلام الرقمي، الذي يعمل على تقوية المحتوى الإيجابي على شبكة الانترنيت و وسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت عليهم السلام و توجيهات المرجعية الدينية العليا إلى نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة و بأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي و بأساليب خطابية تناسب المتلقي العصري.
و المعهد يقوم بطباعة و نشر الإنتاج الفكري و العلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات في مختلف العناوين العقائدية و الفقهية و الأخلاقية، التي تهدف إلى ترسيخ العقيدة و الفكر و الأخلاق، بأسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عليهم السلام الموروثة.
و قد أخذ المعهد على عاتقه أن يكتب مناهج دراسية خاصة لطلبته و طالباته، و ابتدأ ذلك بكتابة بعض الدروس لمختلف المراحل الدراسية، و منها هذا الكتاب الذي بين يديك، الذي ألف بطريقة مبسطة قدر الإمكان، ليكون الكتاب العقائدي الخاص بالمرحلة التمهيدية للدراسة في المعهد.
نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا في عينه، و أن يتقبله بقبوله الحسن، إنَّه
سميع مجیب.
إدارة المعهد
ص: 4
في رحاب مكة المكرمة أكتب هذه الكلمات...
و بقرب شعابها التي شهدت ما شهدت من لوعات و آهات...
وجدت أن أهدي كلماتي المتواضعة إلى:
من كان والداً للرسول الأكرم صلي الله عليه و آله تربية و رعاية و حماية كفالة...
إلى من كانت أماً له صلي الله عليه و آله بعد أمه ...
إلى من أسندته بوجودها فضلاً عن مالها ...
إليكم، يا سادتي، يا أبا طالب، يا شيخ البطحاء، و يا فاطمة بنت أسد الهاشمية، يا والدي أمير المؤمنين عليه السلام... و إليكِ أنت يا سيدتي، يا خديجة الكبرى، يا من لك عند الله تعالى بيت من ذهب، لا نصب فيه و لا تعب...
اقبلوا كلمات عبدكم الرق...
و اسأل الله تعالى أن يقبلها بقبوله الحسن...
ص: 5
ص: 6
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لا شكّ أنَّ لكُلِّ علم منهجية خاصةً، يكونُ اتباعها شرطا أساسيا في الوصول إلى الغاية منه، و لا شكّ أنَّ العلوم تختلفُ في منهجياتها عمومًا، فضلا عن اختلافها في موضوعاتها و الغايات منها.
الأدلة المستعملة في العلوم، هي الأخرى مختلفة من علم إلى آخر، فبينا تجد علما يعتمد القضايا المشهورة، و إن لم تكن صادقةً و فق المقياس العلمي و العقلي، تجد علما آخر لا يقبل من الأدلة إلّا ما دلّ العقل على صدقه بالقطع الذي لا شكّ معه و لا ريب، و بينهما علوم مُتكثّرة تدرّجت في أدلتها.
علمُ الكلام، يعتمدُ في بداياته و أساسياته على الأدلة العقلية، و يكونُ استعمال الأدلة النقلية مُضرا و غير منهجي، و مصادرةً و دورًا لا وزنَ علميًا له في الحسابات العلمية، و من ذلك إثبات أصل وجود الخالق.
إلا أنه في مسائل فرعية كثيرة، يعتمدُ الأدلة النقلية أساسًا على الإثبات، ليأتي العقل بعدها مؤيّدًا لها، كما قيل في تفاصيل المعاد مثلاً.
هذا وفق المقاييس العلميةِ المنهجية.
ص: 7
من جهة أخرى، فإنَّ علم الكلام يعتمد على العديدِ من العلوم العقلية التي لا بد من ضبطها قبل الولوج في دهاليزه الطويلة و مساراته المتعددة، أهمُّها علما المنطق و الفلسفة، الأمر الذي يعني أنَّ الطالب سيواجه الكثير من المصطلحات المنطقية و الفلسفية، التي قد تستغرقُ منه وقتا طويلا قبل أنْ يعرف ما تدلّ عليه من معانٍ عميقة، فواجب الوجود، و القديم الذاتي و الزماني، و الدور و التسلسل، و الإمكانُ الذاتي و الآخر الاستعدادي، و الحادثُ و المتغيّر و المتحرّك، طلسماتٌ مُغلقة على غيرِ الدارس لعلوم المنطق و الفلسفة، و فهمها يحتاجُ إلى ردح من الزمن و قسط وافر من الجهد.
و الإنصافُ أنَّ هذه العلوم حصّنتْ علم الكلام عن أن يُخترق أو يُبطل، إلا أنها في الوقت نفسه أوجدت عقبةً كؤودًا أمامَ المراهقين في هذا العلم، فضلًا عن فئة الشباب الذين لم يطلعوا على أساسيات العلوم العقلية فضلا عن تفاصيلها، الأمر الذي قد يجعلهم يبتعدون عن الخوض فيه، و الاكتفاء بإيمانهم التقليدي الذي ورثوه عن آبائهم، و إنْ كانَ يتهزهز عند أدنى ريح.
من هنا، جاءتِ الفكرةُ بكتابة أهم مسائل علم الكلام، بطريقةٍ مُبسَّطَةٍ سهلة، بعيدة عن استعمالِ أي مُصطلح منطقي أو فلسفي، يتمكَّنُ الشاب و الشابة من فهم أغلب مضامينه بشيء من التركيز و التدقيق؛ ليخرج بحصيلة علمية مهمةٍ، تنفعه في تقوية عقيدته و معرفة أساسياتها، ضمن أربعين درسًا، خُتِمَ كُلُّ درس منها بخُلاصة و مجموعة من الأسئلة الإثرائية.
ص: 8
1/ كُتِبَتْ بطريقة التلقين للعقيدة الحقة، مع شيء من الاستدلالِ الواضح و القريب من الفطري و الارتكازي.
2/ تمّ تجاوزُ إشكالية (الدور ) و (التسلسل) من جهة الاستدلال بالنقل فيما يكون النقل فيه دليلًا إرشاديًا لا تأسيسيًا، و لم تخل من مسحة الاستدلال العقلي بصيغة واضحة.
3/ تصلح هذه الدروس للفئة العمرية من (14) سنة فما فوق، و لمن لم يدرس المنطق أو الفلسفة.
4/ تمّ التركيز على معنى المطلب، و العقيدة، من دون الاستعانة بالمصطلحات العلمية المنطقية و الفلسفية، خصوصًا و أنّ الفرضَ أنّها مرحلة تمهيدية، و الطالب فيها لا يعرفُ بطلان التسلسل، و لا معنى وجوب الوجود، و لا برهان الوجوب و الإمكان، و .....
هذا، و قد سبقت هذه الدروس بكتابين في علم الكلام، أولهما: (دروس منهجية في شرح عقائدِ الإمامية)، و هو منهج المقدمات في المعهد، و ثانيهما: (بحوث معرفيةٌ في علم الكلام) و هو منهج علم الكلام في جامعة أم البنين الإلكترونية، و لله الفضل و المنّة .
أسألُ اللهَ (تعالى) أنْ يمُنَّ علينا بالقبولِ و الرضوان، و أن يجعله بعينه و رعايته.
ص: 9
و أسألُ اللهَ (تعالى) أنْ يكونَ بعين مولانا صاحب العصر و الزمان، و موضع قبوله و رعايته.
و أنْ يجعله خطوةً جادّةً في سبيل نشر معارفِ أهل البيتِ عليهم السلام.
مكة المكرمة
عصر الأربعاء (29 ذو القعدة 1443ه-)
(29حزيران 2022م )
ص: 10
قال (تعالى): «وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (1)
عند التأمُّل في حياة الإنسان، نجد أنه يبدأ حياته متصفّا بعدة أوصاف، منها:
الوصف الأول: الضعف المطلق: فالطفل لا يستطع أن يدفع عن أنفه ذبابة، و لا يستطيع أن يتحرك من مكانه، و قد تقتله خرقة قماش تقع على وجهه فتخنقه.
الوصف الثاني: الجهل: فهو لا يعرف ما يضره مما ينفعه، و ليست لديه أبسط المعلومات التي نعدها - أنا و أنت - من أوضح الواضحات.
الوصف الثالث: إمكانية النمو البدني: إذ إنه بمرور الأيام، و بالاستفادة من الغذاء، تنمو أعضاؤه، حاله في ذلك حال بقية الكائنات الحية.
الوصف الرابع: تجهيزه بأدوات مادية: كاليد و ما فيها من أصابع مقسمة بدقة، و الرجل و تركيبتها القوية التي ستكون فيما بعد قادرةً على حمل بدنه،
ص: 11
و كالعظم القوي ( الجمجمة) الذي يحمي دماغه الطري، و كالعين التي يرى فيها الأشياء، و لولاها لأصبح الإنسان صندوقا مغلقا على نفسه، و كالأذن التي يسمع بها الأصوات و يستطيع أن يفهم من خلالها ما يريده الآخر، و كاللسان، و الأنف، و غيرها الكثير مما سيبني حياته عليها، و سيكون لها أعظم الأثر في استمرارها.
الوصف الخامس: تجهيزه بأدوات المعرفة: فالإنسان الذي ولد جاهلًا، «وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا» لن يبقى جاهلاً على الدوام، و إنما هو يبدأ بالتعلم شيئاً فشيئاً.
و بهذه الأدوات استطاع الإنسان أن يطوّر حياته، و يتجاوز أقرانه الأرضيين من الحيوانات فضلاً عن النباتات و الجمادات.
و هو يبدأ بالتعلم من خلال ما جُهّز به من أدوات معرفية «وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ»، و هو يعرف أنه لم يُجهّز نفسه بها، فإنه كان أضعف من أن يدفع عن نفسه أي ضرر، و لا يجلب لها أي نفع، و إنّما هو - و الجميع كذلك- يشعر بوجدانه أنّ هناك موجودًا عظيمًا قويًا جهزه بها، من دون أن يكون له سابق حق عليه، و إنّما ذلك الموجود تفضّل عليه و امتن عليه بها، و حينها يقف الإنسان بكلّ وجوده ليستشعر ضرورة أن يردّ هذا الجميل لذلك الموجود «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
ص: 12
و بالتأمل في الآية الكريمة، و بالواقع الذي نشعر به بوجداننا، نجد أنّ معارفنا تأتي من خلال منافذ عديدة:
توفّر الحواس للإنسان المعرفة الحسية، و هي معرفة تنال الموجودات المادية المرئية فقط في هذا العالم.
و تُعدُّ هذه المعرفة أولى خطوات الإنسان في طريق تعرفه على الواقع الخارجي.
و الحواس الخمسة معروفة، و كُلّ واحدة منها توفر للإنسان معلوماتٍ و معارف مرتبطةً بها، تتجمع هذه المعارف لدى الإنسان و تتراكم شيئًا فشيئًا، و هكذا يبدأ الإنسان رحلته المعرفية.
و عندما يفقد الإنسان حاسة منها، فإنّه في العادة يفقد المعارف المرتبطة
بها، فمن يفقد حاسة البصر، يفقد رؤية ألوان الأشياء، و من يفقد حاسة السمع، يفقد المعارف المرتبطة بالأصوات، و هكذا، و لذا قالوا: من فقَدَ حسًا
فقد فقَدَ علمًا.
إنّ القرآن الكريم أشار إلى السمع و البصر فقط، و ذلك لأجل أنهما
أهم حاستين لدى الإنسان، و هو قد يتمكن من الاستغناء عن حاسة الشم أو
الذوق أو اللمس، و قد تستمر حياته من دون معوّقات كبيرة، و لكنّه لو فقد
ص: 13
بصره و سمعه، فإنّه لا يعدو حينها صندوقًا مظلمًا مغلقًا على نفسه، فلا يُمكن أن تسير الحياة من دون هاتين الحاستين.
إذًا، الحواس تزوّد الإنسان بالمعرفة الحسية بالموجودات المادية المرئية.
و لكننا نشعر بوجداننا، أن موجودات هذا العالم لا تنحصر بالماديات المرئية فقط، بل إنَّ هناك موجودات غير مادية، و هذه الموجودات لا تتمكّن الحواس من إدراكها و لا نيلها؛ لأنّ مداها هو الموجودات المرئية فقط، فهل من منفذ آخر يتمكّن من خلاله الإنسان إدراك تلك الموجودات غير المادية (المجردة)؟
ص: 14
السؤال الأول: عند التأمل في حياة الإنسان، نجد أنه يبدأ حياته متصفا بعدة أوصاف، اذكرها؟
السؤال الثاني: جُهَّزَ الإنسان بأدوات معرفية، عددها، مستدلا بآية مباركة ؟
السؤال الثالث: قيل: من فقَدَ حسًا فقد فقَدَ علما، سلّط الضوء على هذا القول بالشرح و التوضيح؟
السؤال الرابع: للحواس أهمية فائقة في المعرفة الإنسانية؛ و لذا قيل: من فقَدَ حسًا فقدْ فقَدَ علمًا، وعليه فمن كان سليم الحواس فقد ملك جميع مفاتيح المعرفة و استغنى بها عن سواها. ناقش هذه العبارة.
ص: 15
ص: 16
العقل قوةٌ تُميّز الإنسانَ عن بقية الحيوانات، و به امتاز عنها، و به صارَ الإنسان إنسانًا، و لولاه لكان هو و بقية الحيوانات سواء، و لذلك وصف القرآن الكريم من يستعمل عقله في الطريق الخطأ بأنه كالأنعام، بل إنَّ الأنعام أفضل منه؛ إذ لا عقل لها، فلو أخطأت في شيء ما فلا يلومها عاقل، و لكن الإنسان صاحب العقل ملوم لو فعل شيئًاغير صحيح، قال(تعالی): «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا». (1)
و على هذا الأساس كلف الله (تعالى) البشر، فلولا العقل لسقطت عنهم التكاليف الشرعية، ففي الحديث عن الإمام الباقر علیه السلام: قَالَ «لَمَّا خَلَقَ اللهُ اَلْعَقْلَ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ فَقَالَ: وَ عِزَّتِی وَ جَلاَلِی، مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْکَ، إِیَّاکَ آمُرُ وَ إِیَّاکَ أَنْهَی، وَ إِیَّاکَ أُثِیبُ وَ إِیَّاکَ أُعَاقِبُ». (2).
إنَّ العقل «مركز الشعور و الإدراك، و وظيفته إدراك الحسن و القبح في
ص: 17
الأفعال و تركيب المفاهيم التي تنتقل إليه عن طريق الحواس، و تجربتها، و انتزاعها، و تعميمها، و تعميقها، و التصديق، و الاستنتاج». (1)
يقوم العقل بوظيفتين مهمتين في المعرفة، هما:
ولو من خلال إدراك أثره، فالحواس لا ترى الكهرباء مثلًا، و لكنها عندما ترى المصباح يُضيء، يدخل العقل على الخط ليقول كلمته، فيحكم بوجود الكهرباء التي هي علة إضاءة المصباح.
و في ذلك روي عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أنه قال: «اَلْعَقْلُ نُورٌ خَلَقَهُ اللهُ لِلْإِنْسَانِ، وَ جَعَلَهُ یُضِیءُ عَلَی الْقَلْبِ، لِیَعْرِفَ بِهِ اَلْفَرْقَ بَیْنَ الْمُشَاهَدَاتِ مِنَ الْمَغِیبَاتِ»(2)
منه نعلم: أنّه لا يصح طلب دليل حسي على وجود شيء مجرد، فليس من الصحيح أنْ يُطالبنا أحدهم أن نريَه الله (تعالى) بعينيه؛ لأن العين لا تنال إلا ما هو مادي مرئي، و الله عزّ و جل ليس ماديًا، ولذا غضب الله (تعالى) على قوم النبي موسى عليه السلام عندما طلبوا منه أن يُريهم الله (سبحانه) جهرة، قال(تعالی): «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ». (3)
ص: 18
و قال (تعالى) مشيرًا إلى عدم إمكان رؤيته بالعين المجردة: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ».(1)
وإلى هذا المعنى أيضًا يُشير ما روي في مُناظَرَةِ الإِمامِ الصّادِقِ عليه السلام مَعَ أبي شاكِرِ الدَّيصاني، قال أبو شاكر: ... قَدْ عَلِمْتَ أَنَّا لاَ نَقْبَلُ إِلاَّ مَا أَدْرَکْنَاهُ بِأَبْصَارِنَا، أَوْ سَمِعْنَاهُ بِآذَانِنَا، أَوْ ذُقْنَاهُ بِأَفْوَاهِنَا، أَوْ شَمَمْنَاهُ بِأُنُوفِنَا، أَوْ لَمَسْنَاهُ بِبَشَرَتِنَا،
فَقَالَ أبو عبدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «ذَکَرْتَ اَلْحَوَاسَّ الْخَمْسَ، وَ هِیَ لاَ تَنْفَعُ فِی اَلاِسْتِنْبَاطِ إِلاَّ بِدَلِیلٍ، کَمَا لاَ یُقْطَعُ الظُّلْمَةُ إِلاَّ بِمِصْبَاحٍ». (2)
عندما تورد الحواسُّ إلى ذهن الإنسان صورًا كثيرة، يقوم العقل بأرشفتها، و تنظيمها، يدمج بينها، و يحللها، ليستخرج منها علوما لم تكن موجودةً فيما سبق.
مثال ذلك: العين تنقل صورة الدخان إلى النفس الإنسانية، فتخزنها، فيأتي العقل و يقول: الدخان لا يوجد إلا بوجودِ نار أحدثته؛ لأنّ الدخان أثرٌ (معلول)، والأثر لا بد له من مؤثر (علة)، وعلّةُ الدخان هي النار، إذًا،
ص: 19
النار موجودة.
ومن خلال هاتين الوظيفتين تبين أنّ المعرفة الحسية تُعدُّ الخطوة الأولى
والمنطلق للكثير من المعارف العقلية.
و إلى هذا المعنى يشير ما روي عن الإمام علي عليه السلام: «القَلبُ يَنبوعُ الحِكمَةِ،والاُذُنُ مَغيضُها»(1)
و عنه علیه السلام: «إنَّ مَحَلَّ الإِيمانِ الجَنانُ،و سَبيلَهُ الاُذُنانِ». (2)
و عنه علیه السلام: «العُيونُ طَلائِعُ القُلوبِ». (3)
و هناك معارفُ عقليةٌ أخرى لا علاقة لها بالحواس، كحكم العقل أنَّ النقيضين لا يمكن أن يجتمعا، فلا يمكن أن يكونَ شيء واحد هو موجودًا و لا موجودًا في آن واحد.
ولكن هل تتوقف منافذ المعرفة الإنسانية عند هذا الحد؟
الجواب: يأتي في الدرس اللاحق.
ص: 20
السؤال الأول: كلّف الله (تعالى) الإنسان على أساس ما، ما ذلك
الأساس؟
السؤال الثاني: ما العقل ؟ و ما وظيفته؟
السؤال الثالث: روي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: «العَقلُ نورٌ خَلَقَهُ اللهُ لِلإِنسانِ، و جَعَلَهُ یُضیءُ عَلَی القَلبِ، لِیَعرِفَ بِهِ الفَرقَ بَینَ المُشاهَداتِ مِنَ المُغَیَّباتِ»، تناول قوله صلي الله عليه و آله و سلم بالإيضاح الموجز، مع التمثيل له بمثال من الواقع؟
السؤال الرابع: «المعرفة الحسية تعدُّ الخطوة الأولى و المنطلق للكثير من المعارفالعقلية»، ناقش العبارة موضّحًا لِمَ كانت المعرفة الحسية منطلقا للكثير من المعارف العقلية لا جميعها ؟
السؤال الرابع: ملحدٌ طلب منك أن تثبت له وجود الله (تعالى) عبر القوى الحسية، بمَ تُجيبه؟
السؤال الخامس: يعتقد أحدهم أن لا سبيل للمعرفة القلبية و من ثم الإيمان إلا الحواس، مستدلا بقول الإمام علي عليه السلام: «العُيونُ طَلائِعُ القُلوبِ».
ما رأيك باعتقاده؟
ص: 21
ص: 22
لا شكّ أنّ الحواس محدودة جدا في معرفتها، و لا شك أن أخطاءها كانت
و ما زالت رغم تطوّر علومِ الآلات المتعلقة بها.
و عقل الإنسانِ رغم سعته بالقياس إلى الحواس، إلا أنه ما زال محدودًا هو الآخر، إذ إنّه وحده لم يستطع أن يرسم طريق السعادة للبشرية، و الحروب الكثيرة التي أحرقتِ الأخضر و اليابس خير شاهد، بل إنّه قد يتحوّل إلى أداة للخراب و الظلم و الجور، فالظَلَمَةُ لم يكونوا مجانين، و إنّما كانوا يملكون عقولًا استخدموها بطريقة خاطئة، بحيث صارت ترسم الطريق تلو الطريق لظلم الناس واستعبادهم.
و في ذلك روي أنه قيل لأبي عبد الله عليه السلام: ما العقل؟ قال: «ماعُبِدَ بِهِ الرَّحْمنُ وَ اکْتُسِبَ بِهِ الْجَنانُ»، فقيل: فالذي كان في معاوية؟ فقال عليه السلام: «تِلْكَ النَّكْرَاءُ تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ، وَ هِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ، وَ لَيْسَتْ بِالْعَقْلِ» (1)
فالعقل رغم إمكانيته العملاقة، إلا أنه محدود في ذاته، و من ثَمّ فهو لا يستطيع أنْ يُدرك ما في العوالم العلوية و البعيدة عن مساحته.
ص: 23
و هناك العديد من النصوص التي أشارت إلى محدودية العقل عن إدراكِ بعض المعارف، و منها معرفة كنه و حقيقة الخالق عزّ و جل، قال (تعالى): «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما». (1)
و هذا ما بيَّنه أمير المؤمنين عليه السلام لذعلب اليماني، حیثُ سَأَلَهُ ذِعْلِبٌ الْیَمَانِیُّ فَقَالَ: هَلْ رَأَیْتَ رَبَّکَ یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ؟ فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «أَفَأَعْبُدُ مَا لاَ أَرَی» فَقَالَ: وَ کَیْفَ تَرَاهُ؟ فَقَالَ علیه السلام: «لاَ تُدْرِکُهُ الْعُیُونُ بِمُشَاهَدَهِ الْعِیَانِ، وَ لَکِنْ تُدْرِکُهُ اَلْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِیمَانِ...».(2)
فالإله الخالق موجود رفيع جدًا، لا يستطيع العقل أن يُدرك حقيقته، و لا أن يعرف ما يريده منا مباشرة، لذا احتاجَ الإِنسانُ إلى وسيلة أخرى و منفذ معرفي آخر يعرفُ من خلاله ما يُريده الخالق عزّ و جل، كي يطيعه، و يتجنب غضبه، و يحصل على رضاه، و ذلك الطريق هو:
الوحي وسيلة غيبية، خاصة بالأنبياء، ليست حسية، و لا عقلية، إنّما هي معرفة راقية، ينكشف من خلالها للموحى إليه (النبي) معارف لا يُمكن للعقل أن يصل إليها، فضلا عن الحس.
العقل يستطيع أن يعرف أن العدل حسن، و أن الظلم قبيح، و لكنه لا يستطيع أن يعرف أنَّ صلاة الصبح ركعتين مثلا، و لا أنَّ الحج واجب على
ص: 24
المستطيع، و لا يستطيع أن يغوص في الماضي ليعرف كيفية بداية الخلق، و لا أن يستشرف المستقبل ليعرف الأحداث التي تقع للإنسان بعد موته، و لا أنْ يعرف ما هو يوم القيامة و لا ما يجري فيها...
هذه المعارفُ و أمثالها لا بُدَّ لها من مصدر آخر، و ذلك المصدر هو الوحي.
أولا: أنَّ الإنسان مُجهز بأدوات معرفية، بها تطوّرت حياته، و هو في ذلك ممتن لمن وهبه إياها و جهزه بها.
ثانيًا: أنَّ مصادر المعرفة لدى الإنسان هي: الحس، و العقل، و الوحي.
ثالثًا: المعرفة الحسية خاصة بالموجودات المادية المرئية، و لا تنال ما عداها،
و هي في ذلك قد تقع في الخطأ كثيرًا.
رابعًا: المعرفة العقلية طوّرت حياة الإنسان كثيرًا، إذ للعقل القدرة على الاستفادة من الصور الحسية لاستنتاج علوم جديدة، فضلًا عن أنه قادر على تنظيم علوم خاصة به.
خامسًا: الوحي مصدر معرفي مُهم، في ما لا يُدركه العقل فضلًا عن الحس.
سادساً: لا بُدَّ للأثرِ (المعلول) من مؤثر (علة).
سابعاً: «اقتضت حكمة الله (تعالى) وسُنّته أنْ يتم تنفيذ أيّ فعلٍ بواسطةٍ
ص: 25
أو سبب، فوسائطُ العلم مثلا هي العين و الأذن، و القلب». (1)
ثامنًا: أنَّ عالمنا لا ينحصر بالموجودات المادية المرئية، و إنما هناك موجودات أخرى لا نُدركها بحواسنا، و لكنَّنا نحسُّ بآثارها، و العقل يدلّنا عليها، و هي الموجودات المجردة.
ص: 26
السؤال الأول: «لا شكّ أنّ الحواس محدودةٌ جدًا في معرفتها، و لا شكّ أنّ أخطاءها كانت و ما زالت رغم تطوّر علوم الآلات المتعلقة بها؛ ولذا احتاجَ الإنسانُ إلى العقل وهو كافٍ في رسم طريق السعادة للإنسان؛ لقوله علیه السلام عندما سئل عن العقل: ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان». ناقش العبارة.
السؤال الثاني: علِّل: «العقل محدود؛ و لذا احتاجَ الإنسان إلى وسيلة أخرى و منفذ معرفي آخر يعرفُ من خلاله ما يُريده الخالق عزّ و جل؛ كي يُطيعه، و يتجنب غضبه، و يحصل على رضاه» ؟
السؤال الثالث: ما العقل ؟ وهل هو محدود؟ اعضد أجوبتك بأدلة نقلية.
السؤال الرابع: «العقل وحده كافٍ في معرفة سبيل سعادة الدارين و نجاة الإنسان من الشقاء فيهما». بِمَ تجيب من يعتقد بذلك؟
السؤال الخامس: ما الوحي؟ و لِمَ احتاج الإنسانُ إليه ؟
السؤال السادس: أنَّ عالمنا لا ينحصر بالموجودات المادية المرئية، و إنّما هناك موجوداتٌ أخرى لا نُدركها بحواسنا، و لكننا نحسُّ بآثارها، و العقل يدلّنا عليها، و هي ....
السؤال السابع : أنّ مصادر المعرفة لدى الإنسان هي: 1....2....3....
السؤال الثامن: وضّح العبارة الآتية: «المعرفة العقلية طوّرت حياة الإنسان كثيرًا»؟
ص: 27
ص: 28
هل نتعرَّفُ عليه بطريقة و بمرتبة واحدة، أو إن له مراتب؟
الجواب:
عندما يكون عندك إناء يسع خمسة لتراتٍ من الماء، و يطلب منك أحدهم أنّ تضع فيه ستة لتراتٍ من الماء، من دون أنْ يُراق منه شيء، عندها ستقول له: هذا غيرُ مُمكن إنّه مستحيل.
لماذا ؟
لأنّ الإناءَ لا بُدّ أنْ يكونَ أكبر مما يوضع فيه، أو قل: إِنَّ الظرف لا بُدّ أنْ يكونَ أوسع من المظروف، و لو سألك أحدهم عن الدليل على لزوم هذا الشیء، لقلت له: إنّ المسألة واضحة جلية، لا تحتاج إلى دليل، و لا يختلف فيها عاقلان.
و لو رأيت سيارةً مصنوعةً بدقة، و بتناسق، و قيل لك: إنها صَنَعت نفسها بنفسها، لقلت: هذا غير ممكن، و هو أمر مستحيل؛ لأنك تُدرك أن السيارة لا يُمكنُ أنْ تصنع نفسها، بل لا بد لها من صانع، و ليس أي صانع، و إنّما لا بُدّ
ص: 29
أنْ يكون صانعا ذا خبرة و معرفة في تنسيق الأجزاء، و جعلها تعمل بطريقة الفريق الواحد، بحيث لا يكون بينها أي تقاطُعٍ و لا تضاد.
وإِنْ سُئلت عن الدليل على ذلك، لقلت: إنّها مسألة واضحةٌ جلية، و لا تحتاج إلى أي دليل، و يكفي أن تشاهد السيارة المتناسقة لتحكم بضرورة وجودِ من صَنَعَها، و بعلمه و بمعرفته في مجال صناعة السيارات.
نفس الكلام ستقوله لو رأيت ساعةً دقيقة الصنع، أو رأيت كتابًا في تفسير القرآن مثلا، و هكذا.
مثل هذه المسائل الواضحة الجليّة التي لا تحتاج فيها إلى دليل،تُسمى بالبديهيات.
و هذه البديهيات رغم وضوحها، لكن قد تحصل عند الإنسان شبهة فيها، فيقع في الخطأ فيها، و مثله يحتاج إلى تنبيه، و إرشاد، و لفتِ نظر، فالبديهي لا يحتاج إلى دليل، و لكنّه قد يحتاج إلى تنبيه و إرشاد، كما حصل للبعض، حيث ادعوا أنه لا وجود لأي شيء خارج خيالاتنا، و ما نراه أو نحس به إنما هو خيال و وهم.
يقول أمير المؤمنين علیه السلام:«وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ، وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى، وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلالُ، وَ دَلِيلُهُمُ الْعَمَى»(1)
ص: 30
هذه هي المرتبة الأولى لمعرفة الواقع، إنّها مرتبةُ البديهيات.
ثم لو قيل لك: إنَّ مجموع زوايا المثلث هي مائة و ثمانون درجة، لجاز لك أن تقول: ما الدليل على ذلك؟
إن هذه النتيجة ليست كرؤيتك لذلك الكتاب الذي انتقل ذهنك منه مباشرةً إلى وجود كاتب عالمٍ كتبَه، و إنّما هي مسألة يحتاج الذهن فيها إلى دليلٍ، و نظرٍ، و تفكرٍ، و تأملٍ، حتى يصل إلى الحق فيها، و لذا فإنَّ علماء الرياضيات أقاموا مبرهناتٍ لإثباتِ هذه النتيجة، بحيث إنَّ النتيجة تكون صادقةً و مطابقةً لواقع زوايا المثلث بعد الاستدلال، و ليس قبله.
نعم، بعد أن ثبت هذا الأمر بالدليل القطعي، و اشتهرت هذه المسألة بين الناس، و كُلّ من درس الرياضيات - ولو في مبادئها الأولى- يعرف صدق هذه النتيجة، حينئذ قد تتحوَّلُ هذه المسألة (النظرية) إلى أشبه بالبديهية، بحيث إننا اليوم لا نحتاج إلى طلب الدليل على صحتها.
نفس الكلام عندما يُقال لك: إنَّ مساحة المربع تكون حاصل ضرب طوله في عرضه.
مثل هذه المسائل «و ضربنا أمثلة من علم الرياضيات لتقريب الفكرة»
تُسمى بالنظريات.
وهذه هي المرتبة الثانية لمعرفة الواقع، إنّها مرتبة النظريات.
فالنظريات: هي المسائل التي تحتاج في إثباتها إلى دليل، و من دونه لا
ص: 31
يُمكن الحكم عليها بالصحة (المطابقة للواقع) أو الكذب (عدم المطابقة للواقع)، بل يُحتمل فيها الأمران.
و هناك نوع من المعرفة، هي في حقيقتها ليست معرفة، وإنّما يحسبها
الإنسان معرفة؛ لأنها غير مطابقة للواقع، وهو ما يُسمّى بالخطأ.
بمعنى أنه خطأً يُمكن أن نتعقله، يُمكن أن يقع الإنسان فيه، من قبيل
ما لو جاء شخص و نظر إلى شيء من بعيد، و قال: إنّه غزال، و لكنّه عندما اقترب منه وجد أنه حصان، فهذا الخطأ بسبب عدم قدرة العين على الرؤية بوضوح من مكانٍ بعيدٍ مثلا، أو لأجل الظلام و ما شابه.
الوقوع في الخطأ الممكن ممكن جدًا لنا؛ لأننا غير معصومين، خصوصًا أنَّنا نبدأ حياتنا من الجهل كما تقدم، على أن الخطأ - في الكثير من الأحيان- يكون منطلقًا للمعرفة الحقة، و لذا قيل: مِنْ جهلنا نُخطئ، و من خطأنا نتعلم.
بمعنى أنه خطأً لا يقعُ فيه عاقل، فهو في نفسه مستحيل، و لا يمكن أن نتعقله، و لا يحكم إنسانٌ بأنه أمرٌ صحيحٌ و واقع، إلا إذا كانَ مُعاندًا أو مجنونا، كما لو أراد منك شخص أن ترسم له شكل (المربع الدائرة)، فإنَّ مثل هذا الشكل يستحيل أن يكون، و إذا قال شخص: إنه ممكن، لقلنا له: إن هذا خطأ
ص: 32
فادح، و كيف يمكن أن تقول به!
اللهم إلا إذا كانَ الشخصُ مُعاندًا، أي إنه يعرفُ الحق، و يعرف أنَّ إنكاره باطل، و مع ذلك يُعاند، كما حصل مع الذين علموا أنّ الحقّ مع النبي الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم، و لكنهم عنادًا جحدوا به، قال (تعالى):« «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ»(1)
و هذا ينبهنا إلى أن العلم وحده لا ينفع الإنسان ما لم يقرنه بالتقوى،
و بالسير على مقتضاه، و إلّا فإنّه قد يكون وبالًا على الإنسان.
و من الخطأ المستحيل أيضًا: هو الاعتقاد بوجود شريك لخالق الوجود،
شريك لله (تعالى)، و قد عبّر القرآن الكريم عن استحالة ذلك بعدة تعبيرات، و منها قوله (تعالى): «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ»(2)
فتحصل:
1- أنَّ هناك معارف بديهيةً، لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها، و فيها
ینكشف الواقع للإنسان بما هو هو، من دون أيّ خطأ.
2- يُمكن أن يقع الاشتباه في البديهيات، فتحتاج إلى تنبيهات لبيان الحق فيها.
ص: 33
3- أنَّ هناك معارف نظريةً، تحتاج إلى إقامة الدليل عليها، و من دونه لا يُمكن الحكم عليها بالصحة، أو الصدق، أو المطابقة للواقع، بل تبقى في حيّزالإمكان، فقد تكون صادقة، و قد تكون كاذبة.
4- النظريات قد تتحوّل إلى أشبه بالبديهيات بعد شهرتها و كثرة إقامة الأدلة عليها، و شيوعها بين الناس.
5 - الخطأ ليس معرفة، و إنما قد يتصوّر الإنسان أنّه معرفة.
6- يُمكن أن يقع الإنسان في الخطأ، و يكون معذورًا لو وقع في خطأ ممكن، و أما الأخطاء المستحيلة فلا يُعذر فيها إلا المجنون، و أما العاقل فلا يقع فيها إلا إذا كان معاندًا.
7- أنّ العلم خيرُ دليل للإنسان إذا سار على مقتضاه، و إذا قرنه بالتقوى، و أما العناد، فإنّه مركب يسير بالإنسان نحو الهاوية حتى و لو كان يعرف الكثير من المعلومات التي يخزنها في ذهنه.
ص: 34
السؤال الأول: عرِّف البديهيات، موضِّحًا معناها بمثالٍ واقعي.
السؤال الثاني: «البديهيات رغم وضوحها، لكن قد تحصل عند الإنسان
شبهة فيها». اشرح العبارة.
السؤال الثالث: عرف النظريات، موضِّحًا معناها بمثالٍ واقعي.
السؤال الرابع: قارن بين البديهيات و النظريات؟
السؤال الخامس: يكفي التنبيه والإرشاد في زوال الشبهة في البديهيات،
علِّل ذلك.
السؤال السادس: «العلم وحده لا ينفع الإنسان ما لم يقرنه بالتقوى، و بالسير على مقتضاه، و إلا فإنّه قد يكون وِبالًا على الإنسان». تناول العبارة
بالشرح والإيضاح مع التمثيل.
السؤال السابع: ما الخطأ؟ و هل هو من المعرفة؟ و لماذا؟ و متى يكون
المخطئ معذورًا و متى لا يكون كذلك ؟
السؤال الثامن: هل يمكن ان تتحول النظريات إلى البديهيات؟ و كيف
يكون ذلك ؟ مع التمثيل.
ص: 35
ص: 36
قال (تعالى): «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ». (1)
و قال (تعالى): «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهَ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ». (2)
عندما ننظر إلى عقائدِ الناس، نجد أنها مختلفة فيما بينها جدًا، و قد يصل الاختلافُ إلى حد التناقض، فبين من يقول بوجودِ إلهٍ حيٍّ عالم قادرٍ حكيم،
إلى الجاحد المادي، إلى من يعبد البقر، و من يعبد بشرًا مثله .
هذا واقع لا يُنكر.
و أَمامَ هذا الواقع، هل علينا التمسُّكُ بما وجدنا عليه آباءنا من عقائد؟
أم لا بد من البحث عن العقيدة الحقة، عن الإله الذي خلقنا؟
هل البحث عن العقيدة لازم أو لا؟
الجواب:
ص: 37
تأمّلوا معي:
لو أصاب أحدَهم مرضٌ خطير، فوجب عليه أن يذهب إلى من يُعالجه، هل تراه يذهب إلى أيّ طبيب، أو إنّه سيبحث عن طبيبٍ حاذق أمين لينقذحياته؟
هل تراه يذهب لأي شخص ادّعى الطبّ، أو إنَّه سيبحثُ عن طبيبٍ يعرفه أهل الاختصاص الطبي ويثقون به و يعترفون بحذاقته في علاج الأمراض؟
دعنا من المرض.
القائد الذي يحتمل وجود عدوٍ يترصّده هذه الليلة؛ ليهجم عليه و يقتله، هل تراه ينام مطمئنًّا قبل أن يحشّد جنوده ، و يزرع الرصد و العيون لمراقبة حركة العدو؟
بالتأكيد أنَّ عقله سيدفعه إلى أخذ الحيطة و الحذر، و اتخاذ كافة الإجراءاتِ
اللازمة لدفع العدوّ لو هجم عليهم على حين غرة منهم.
وماذا لو كانَ لديك أموالٌ كثيرةٌ جدًا، و علمتَ بوجود لصوصٍ يبحثون عن أيّ غنيٍ ليسرقوا أمواله، هل كنت تتركُ أموالك في حديقةِ المنزل مكشوفةً لهم؟ أم تُغلقُ عليها بأشدِّ الأقفال، و تتأكد من عدم وصول أيدي السُرّاق إليها ؟
ثم ماذا لو كُنتَ موظفًا في دائرةٍ معينة، وأردتَ أنْ تتغيّبَ يومًا، و اتصل
ص: 38
بك أحدهم و أخبرك بأنَّ المدير قرّر أن يفصل من يتغیَّبُ اليوم فصلا نهائيًا.
لنفترض أن الذي اتصل بك ليس ثقة، و تحتمل أنه يكذب، هل كنت ستجرؤ على الغياب، و أنت تعلم أنَّ العاقبةَ قد تكون هي الفصل النهائي؟! لا شكّ أنَّ العاقل سيُقرِّر أحد قرارين: إما أن يقطع الشك باليقين،
فيتصل بثقة ليتأكد من صحة الخبر، أو إنّه يحتاط بالحضور و يُقلع عن فكرة
الغياب.
و حينها حتى لو وجد الخبر كاذبًا، فقد ضمن بقاءه في الوظيفة و ارتاح قلبه من القلق الذي سيعيشه لو لم يحضر إلى الدوام.
ما الجامع المشترك بين هذه الأمثلة ؟
الجامع المشترك هو: أنَّ الإنسان يحكم بعقله بلزوم دفع الضرر عن نفسه حتى لو كان احتمال هذا الضرر ضئيلاً، إذا كان الضرر المُحتملُ كبيرًا جدًا، فإنَّ (الموت) بسبب المرض أو العدو، و (سرقة الأموال) و (الفصل من الوظيفة) أضرارٌ كبيرةٌ على الإنسان، و عقله يحكم عليه بلزوم الاحتياط و دفع أيّ ضررٍ مُحتمَلٍ يأتي بسبب تصرُّفٍ منه، كالنوم أو الغياب أو عدم السؤال أو عدم التحرُّز.
هذه حقيقةٌ واقعيةٌ لا يُشكك فيها عاقل.
الآن تعالَ معي لنقرأ النصوص التالية:
قال (تعالى): «قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. و َلَقَدْ أُوحِيَ
ص: 39
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَ وُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ و َالشُّهَدَاءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ.وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ». (1)
هل يُمكن لعاقلٍ يُنكر وجود الله (تعالى) واليوم الآخر أن يستمع لمثل
هذه الآيات ثم يتوقّف عن البحث عن الحق في المسألة؟
وكيف إذا كان هناك مائةٌ و أربعةٌ و عشرون ألف رجلٍ معروفٍ بالصدق و الأمانة و عدم الكذب، كلهم جاؤوا و أخبروا الناس بأنَّ للكون خالقًا، و أنَّ الإيمانَ به واجبٌ، و أنَّ من لا يؤمن به فإنّ الخالق (تعالى) سيعاقبه في نار جهنم؟!
أضف إليهم نفس العدد - على الأقل - من الأوصياء و العلماء و الصالحين،
ص: 40
كُلّهم أناس معروفون بالصلاح والصدق، و كُلُّهم حذروا الناسَ من الكفر و الإلحاد.
ألا يحكم العقل بضرورة البحث عن دعوى هؤلاء الناس الكثيرين، ليعرف أين الحق؟
ثم لو كان الفردُ مسلمًا، و لكنّه لا يؤمن بولاية أهل البيت عليهم السلام، و استمع إلى الأحاديث التي تحذّر من عدم الإيمان بهم، و أن الله (تعالى) يوم القيامة لا يقبل العمل إلا ممّن يوالي أهل البيت علیهم السلام، هل يُعقلُ أنه يبقى جاحدا بولايتهم عليهم السلام؟
ماذا لو قرأ ما روي عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِذَا کَانَ یَوْمُ الْقِیَامَةِ نَادَی مُنَادٍ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله فَلْیَدْخُلِ الْجَنَّةَ. قَالَ: قُلْتُ فَعَلی مَ تخَاصم النَّاسِ إِذَا کَانَ مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا کَانَ یَوْمُ اَلْقِیَامَهِ نَسُوهَا. (1)
و ما روي عَنْ أَبِی عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ قَالَ: یَا أَبَانُ إِذَا قَدِمْتَ الْکُوفَة فَارْوِ هَذَا الْحَدِیثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ یَأْتِینِی مِنْ کُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ أَفَأَرْوِی لَهُمْ هَذَا الْحَدِیثَ؟ قَالَ: نَعَمْ یَا أَبَانُ، انَّه إِذَا کَانَ یَوْمُ الْقِیَامَةِ وَ جَمَعَ الله الْأَوَّلِینَ وَ اَلْآخِرِینَ فَتُسْلَبُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله) مِنهُم، إِلاَّ مَنْ کَانَ عَلَی هَذَا اَلْأَمْرِ. (2)
ص: 41
لا شكّ أنَّ العاقل لا يطمئن على حاله إلا بعد البحث والتنقيب عن
الدليل القطعي الدال على الحق.
1- أنَّ الاختلاف في الاعتقادات أمرٌ واقعٌ لا يشكُّ فيه عاقل، و هذا الاختلافُ وصل إلى حدّ التناقض في كثيرٍ من الأحيان.
2- أنَّ هناك الكثير من الرجال الموثوقين، ادعوا أنهم رسلٌ من الخالقِ إلى الناس، وأخبروا بضرورة الإيمان بالإله الخالق العالم الحكيم، و أنّ من لا يؤمن به فإنّه سيواجه ضررًا كبيرًا جدًا، و ليس هو ضررًا مؤقتًا، و إنما هو الخلود في نار قاسيةٍ جدًا، لا يتمكنُ الإنسانُ من تحمُّلها أبدًا.
3- أنَّ العقل يحكم على الإنسان بلزوم دفع الضرر عن نفسه، حتى لو كان احتمال الضرر قليلا، ما دام الضررُ المحتملُ كبيرًا جدًا، و هذا الدليلُ هو ما يُطلق عليه: دليل دفع الضرر، أو دليل دفع الضرر المحتمل.
ص: 42
السؤال الأول: وضِّح دليل دفع الضرر المُحتمل.
السؤال الثاني: متى يحكم الإنسانُ بعقله بلزومِ دفعِ الضرر عن نفسه،
حتى لو كان احتمال هذا الضرر ضئيلا؟
السؤال الثالث: هل يجد الجاحد بولاية أهل البيت عليهم السلام في تمسكه بما وجد عليه آباءه من عقيدةٍ فاسدةٍ منجاةً من العذاب؟
ص: 43
ص: 44
قال (تعالى):«قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (1)
هل يُمكن أن نتصوّر وجود هذا العالم - بما فيه من سماءٍ و أرضٍ و جبالٍ و أنهارٍ و نباتٍ و حيوانٍ و إنسانٍ و غيرها الكثير - من دونِ أنْ يخلقه خالق ؟
دعونا نتصوّر الاحتمالات في هذا المجال:
هل يُمكن لعاقل أن يصدّق بهذا الاحتمال ؟!
انظر لنفسك مثلا، هل أنت من خلقتَ نفسك؟ هل آنت من جعلتَ القلبَ مسؤولا عن ضخِّ الدمِ في جسمك؟ و هل أنت من جعلت كُرياتِ الدم الحمراء مسؤولةً عن نقل الغذاء و الأوكسجين لخلايا جسمك؟ و هل أنت من اخترتَ لونَ بشرتك؟ و هل أنت من اخترت طولك و طبيعة شعرك و ...؟
لا عاقل يُجيبُ عن هذه الأسئلة بنعم.
ص: 45
فإذا كنتَ لا تتخيَّلُ أنَّك خلقتَ نفسك، فقس عليه عالمَ الوجود كُلّه، فإنَّ العقلَ يمنعُ أنْ يكونَ العالمُ هو من خلقَ نفسَه و نظِّمها بهذا الشكل الدقيق جدًا.
تعالَ معي لنستمع إلى الشيخ ابن ميثم البحراني كيف حاججَ الملحد:
فقد نُقِلَ عن الشيخ أبي الحسن علي بن ميثم البحراني أنَّه دخلَ على الحسن بن سهل و إلى جانبه ملحدٌ قد عظَّمه و الناس حوله، فقال: لقد رأيتُ ببابك عجبًا، قال: و ما هو ؟ قال: رأيتُ سفينةً تعبرُ بالناسِ من جانبٍ إلى جانبٍ، بلا ملّاح و لا ماصر، قال : فقال له صاحبه الملحدُ و كان بحضرته: إنّ هذا - أصلحك الله - لمجنون، قال: فقلت: و كيف ذاك؟ قال: خشبٌ جمادٌ لا حيلة له و لا قوّةَ و لا حياة فيه و لا عمل، كيف يعبرُ بالناس؟ قال: فقال أبو الحسن: فأيّهما أعجب: هذا، أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرضِ يمنةً و يسرةً، بلا روحٍ و لا حيلةٍ و لا قوى، و هذا النباتُ الذي يخرجُ من الأرض، و المطرُ الذي ينزلُ من السماء، تزعمُ أنت أنّه لا مُدبِّرَ لهذا كُلِّه، و تنكر أنْ تكونَ سفينةٌ تُحرّكُ بلا مُدبِّر و تعبرُ بالناس! قال: فبهتَ الملحد. (1)
أنْ نحتمل أنَّ هناك موجودًا خلقَ العالم، ولكن هذا الموجودُ لا يتصفُ بصفاتِ العقل والعلمِ والقدرة والحياة، وإنما هو موجود غيرُ عاقل.
من هو؟
ص: 46
لتَكُنْ ما تُسمّى بالعناصر الأربعة الماء، والهواء، والتراب، والنار.
أو لتكُن هي خلايا أولية عاشت على شاطئ البحر، ثم تطوّرت فخلقتِ العالم.
أو لتكن هي بقرةً خلقت العالم!
أعرفُ أنَّك تضحكُ في داخلك على من يتحدِّثُ بمثل هذا الكلام، إذ كيف لعناصرَ ميتةٍ أنْ تُعطي الحياة لغيرها، والحالُ أنّ العقل يقول: فاقد الشيء لا يُعطيه.
وكيف لخلايا بدائية - لا قدرة لها-، أن تخلقَ هذه الجبالَ الرواسي، وهذا النظامَ الدقيقَ في جسم الإنسان، وهذه الطيورَ ذات الألوانِ الجميلةِ التي تأخذُ بالعينِ وتأسرُ القلب؟
وكيفَ لبقرةٍ أو فأرةٍ أن تخلقَ إنسانًا بهذا العقل الجبَّار الذي اخترقَ الأرضَ نزولًا، و رقى إلى السماءِ صعودًا، وصنع أدقَّ الأجهزةِ وأحدثَ التكنلوجيا ؟!
أو ليس كان حريًّا بتلك البقرةِ أنْ تُطوّر نفسَها وتُصبحَ هي سيدةَ الكون؟!
فهذا الاحتمالُ لا يقبله عاقلٌ بوجدانه.
فتبيّن: أنَّ بطلان الاحتمالِ الأول والثاني هو أمرٌ بديهيٌ لا يحتاج إلى دليل،
وإنّما فقط يحتاجُ إلى لفتِ نظر .
ص: 47
أن نفترضَ أنَّ خالقَ العالمِ موجودٌ حيٌ، ليس بميت، و عالمٌ، ليس بجاهل، و قادرٌ، ليس بعاجز، وهو أعظمُ من كُلِّ هذا الكون، خلَقَه بعلمه و قدرته، وأعطى الحياةَ للموجوداتِ الحيَّةِ لأنّه حي، فيُمكنُه أن يُعطيها الحياة،و أعطاها القدرة؛ لأنّه قادر، فيستطيعُ أنْ يُعطيها القدرة، و أعطاها العلم؛ لأنه عالم، فيُمكنه أن يُعطيها العلم.
والعقلُ يقول: لا بُدَّ أن يكونَ هذا الاحتمالُ هو الصحيح، و لا يُمكنُ أن نتصوَّرَ غيره.
أو قُلْ: إنَّ العقلَ يحكم بضرورةِ و بداهةِ هذا الاحتمال؛ لأنّه عندما ينظرُ
إلى الكونِ بما فيه من موجوداتٍ مختلفة، يجدُ أنّها موجوداتٌ مصنوعةٌ بطريقةٍ دقيقةٍ جدًا، و وفقَ نظامٍ جميلٍ جدًا.
انظر إلى أيّ موجودٍ من الموجودات، وليكن الإنسانُ مثلًا، و اذهب إلى علمِ الطبِّ، و اطلب منه أنْ يوضِّحَ لك تكوينَ الخلية الواحدة منه، سترى العجبَ العجابَ من الدِّقةِ المتناهية في صنعها، و من تنظيمها وفقَ قياساتٍ غايةً في الدقة، عندها سيقولُ عقلك: من المستحيلِ أن تكون أنتَ من خلقتَ الخلية، أو تكونَ الخليةُ هي من خلقت نفسها، أو يكون موجود غير عاقل هو من خلقها.
تذكّر: عندما رأينا ساعةً دقيقةَ الصنع قلنا: لا بُدّ أنْ يكونَ الذي صنعها عالمًا بكيفيةِ تنظيمِ قطعِها بدقة، بحيث تعطيك حسابًا دقيقًا للثواني والدقائق.
ص: 48
هكذا العقلُ يحكمُ بضرورةِ أنْ يكونَ خالقُ هذا العالم المنظَّمِ هو خالقاً حيّاً عالماً قادرًا.
و هذا الخالقُ هو من نُسمّيه - نحنُ الموحدين -: الله عزّ و جل.
و لذلك فإنّ القرآنَ الكريمَ يعد وجودَ الله (تعالى) أمرًا بديهيًا، و يستنكرُ من يُشكِّك في وجوده عزّ و جل، قال (تعالى): «قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (1)
فكأنَّ الآيةَ تقول: إنَّ كُلَّ من فكَّرَ بعقله بطريقة محايدة، بعيدًا عن التعصُّبِ الأعمى، و بعيدًا عن العناد، و نظر إلى السمواتِ والأرض، فإنّه بلاشك يتيقنُ بوجودِ خالقٍ لها، وهو الله عزّ و جل .
و هذا الدليلُ هو ما يُسمّى في علم الكلام بدليل النظام.
يُقال: كان هناك فيلسوفٌ، لديه ألفُ دليلٍ على نفي وجودِ الله (تعالى)،
وأخذ على عاتقه أنْ يذهبَ ويناقشَ أحد العلماء، وفي الطريقِ مرّ على فلّاح، فسأله: «أينَ بيتُ العالم (فلان)»؟ قال الفلّاح: «ما تريدُ منه؟» أجاب الفيلسوف: «لديّ ألفُ دليلٍ على عدم وجودِ الله».
فردَّ عليه الفلّاح قائلا: « لا داعي لأن تذهبَ إلى العالم، فأنا أجيبك: عندي دليل واحد على وجودِ الله (تعالى) ينسفُ أدلتك الألف! أرضي الزراعيةُ هذه، فأنا أفتح الماءَ هنا و أقطعه هناك، فإن أهملتها ساعةً واحدةً
(1)
ص: 49
مات الزرع، فأرضُ بمقدار دونم واحد إذا لم يكن لها ربٌّ ربما تموت، وهذا العالمُ بأسره تنتظمُ أمورُه بلا ربّ؟! إنّه المستحيلُ بعينه !
و قد أشارَ القرآنُ الكريمُ كثيرًا إلى هذا الدليلِ في آياتِه الكريمة، و منها قوله تعالى: «وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ. وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَ طَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ».(1)
و قوله (تعالى): «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».(2)
و هكذا الرواياتُ الشريفة، فقد روي أنّه سُئِلَ أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ عَنْ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، فَقَالَ: الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَی اَلْبَعِیرِ، وَ الرَّوْثَةُ تَدُلُّ عَلَی الْحَمِیرِ وَ آثَارُ الْقَدَمِ
(1)
(2)
ص: 50
تَدُلُّ عَلَی الْمَسِیرِ، فَهَیْکَلٌ علوِیٌّ بِهَذِهِ اللَّطَافَةِ، وَ مَرْکَزٌ سُفْلِیٌّ بِهَذِهِ الْکَثَافَةِ، کَیْفَ لاَ یَدُلاَّنِ عَلَی اللَّطِیفِ الْخَبِیرِ؟ (1)
1- أنَّ العقلَ يحكمُ بضرورةِ وجودِ خالقٍ لهذا الكون، بما فيه الإنسان.
2- لا يقبلُ العقلُ بالبداهة أن يكونَ العالَمُ هو من خلَقَ نفسه.
3- ولا يقبلُ بالبداهة - أيضًا - أن يكونَ الخالقُ موجودًا ماديًّا أو ميتا أو
لا عقل له.
4- و يحكمُ العقلُ بالبداهة أنَّ الخالقَ لا بُدَّ أن يكون حيًّا عالمًا قادرًا.
5- أنَّ النظامَ الموجودَ في مفردات الكون - بدءًا من الذرة إلى مجرة - يدلُّ
بكُلِّ وضوح على وجودِ خالقٍ خلَقه، مُتصفٍ بالحياةِ والعلمِ والقدرة.
6- و هذا الخالقُ هو من نُسمّيه: اللهُ عزّ و جل.
ص: 51
السؤال الأول: بِمَ تردُّ على من يدّعي أنَّ الطبيعةَ أوجدت نفسها ؟
السؤال الثاني: كيف یمكنك أن تثبت لمُلحدٍ أنَّ الله (تعالى) هو من خلق
العالم؟
السؤال الثالث: أثبت وجود الله (تعالى) بدليل النظام؟
ص: 52
قال الله (تعالى): «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ».(1)
هل الخالق للكون واحدٌ أو أكثر؟
هل يقبلُ العقلُ أنْ يكونَ الخالقُ للكون و ربُّ العالمين أكثرَ من واحد؟
الجواب:
أنه خالقٌ واحد.
لو كان هناك أكثرُ من إلهٍ و خالقٍ لهذا الكون، فلا بُدّ أنْ تظهرَ آثارُ كُلِّ واحدٍ منهم ، و لكن لم تظهر هناك آثارٌ إلّا لخالقٍ واحد، فجميعُ الأنبياءِ الذين جاؤوا، و عددهم مائة و أربعة و عشرون ألف نبيٍ، كلهم كانوا يقولون: إنّهم مرسلون من خالقٍ واحدٍ هو الله عزّ و جل، فأينَ هو الإله الثاني ؟ أين رسله و أنبياؤه؟
و لذلك يقولُ أميرُ المؤمنين علیه السلام في وصيته لولده الإمام الحسن علیه السلام:
(1)
ص: 53
«وَاعْلَمْ یَا بُنَیَّ، أَنَّهُ لَوْ کَانَ لِرَبِّکَ شَرِیکٌ لَأَتَتْکَ رُسُلُهُ، وَلَرَأَیْتَ آثَارَ مُلْکِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهِ، وَلَکِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ کَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لَا یُضَادُّهُ فِی مُلْکِهِ أَحَدٌ، وَلَا یَزُولُ أَبَداً وَلَمْ یَزَلْ». (1)
والحاصل: أنّنا سمعنا الكلمةَ التي تقول: نحنُ مع الدليل، أينما مال نمیل.
و نحنُ لحدِّ الآن عرفنا أنَّ هناك خالقًا لهذا الكون، و هو خالقٌ واحدٌ، و لا
دليلَ على وجود خالقٍ ثانٍ، و إلا لرأينا آثار فعله و صنعه.
الضرورةِ تدل على وجودِ خالقٍ لهذا العالم، و لكنّ الاختلاف من البعض في أنَّه واحدٌ أو اثنان، و هذا يعني: أنَّنا نقطعُ بوجودِ خالقٍ واحدٍ للكون، و نشكُّ في وجودِ خالقٍ ثانٍ له، والعقلُ يحكم في مثلِ هذه الحالةِ بأن نبني على القطع، و نترك الشك.
فنحن نؤمن بخالقٍ واحدٍ لا غير، و من يدَّع وجود خالقٍ ثانٍ، عليه أنْ يأتي بالدليل عليه، و لا دليل.
وإلى هذا المعنى يُشير قوله (تعالى): «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ». (2)
ص: 54
فالشخصُ الذي يدّعي وجود خالقٍ له غير الله تعالى، عليه أن يأتي بالبرهان الدليل) عليه، و إذا ادّعى ذلك من دونِ دليلٍ فإنّ الخالقَ سيحاسبه، و هو من الكافرين الذين لا يُفلحون.
و على نفس المنوال روي: أنَّ رجلا سأل الإمام الرِّضَا عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «إِنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ اِثْنَانِ، فَمَا الدَّلِیلُ عَلَی أَنَّهُ وَاحِدٌ؟ قَالَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ: قَوْلُکَ (اِنَّهُ اِثْنَانِ) دَلِیلٌ عَلَی أَنَّهُ وَاحِدٌ، لِأَنَّکَ لَمْ تَدَّعِ الثَّانِیَ إِلاَّ بَعْدَ إِثْبَاتِکَ الْوَاحِدَ، فَالْوَاحِدُ مُجْمَعٌ عَلَیْهِ، وَ أَکْثَرُ مِنْ واحِد مُخْتَلَفٌ فِیهِ».(1)
«مراده علیه السلام: أنَّ على مدّعي التعدُّدِ أنْ يأتي بالبرهان عليه، ولا برهان له، فالواحد مقطوع، والزائد لا يُصارُ إليه حتى يُبرهن عليه». (2)
بعد أن ثبت أنَّ خالقَ الكون وربَّ العالمين هو واحدٌ، نُشير هنا إلى أنَّ
التوحيدَ المطلوبَ من المخلوقين تجاه الخالق، له مراتبُ مُتعدِّدة، وهي:
بمعنى أننا نعتقدُ بأنّ الخالقَ هو واحدٌ لا أكثر، فليس هناك خالقٌ إلا الله
(تعالى)، وقد تبيّنَ هذا المعنى مما سبق. (3)
ص: 55
سنتعرَّفُ قريبًا إن شاء الله (تعالى) على أنَّ للخالق صفاتٍ كماليةً كثيرة،
كالعلم و القدرة و الحياة و الإرادة و غيرها.
و التوحيدُ في الصفات يعني: الاعتقاد بأنَّ الخالقَ و صفاته موجودٌ واحد، و ليس هناك موجوداتٌ متكثرة، بأن يكون وجودٌ للخالق، و وجودٌ ثانٍ لصفة العلم، مستقلةٌ في وجودها عن وجود الخالق، تأتي لتلتصق بالخالق، و صفةٌ ثالثةٌ لها وجودٌ مستقلٌ هي صفة القدرة، و رابعٌ لصفةِ الحياة، و هكذا.
و بعبارةٍ أخرى: الخالقُ و صفاتُه وجودٌ واحد، و ليس وجوداتٍ متعددة، فالله (تعالى) هو العالمُ و القادرُ و الحي، لا أنّه خالقٌ و يعلمُ بعلمٍ غير ذاته، و يقدر بقدرةٍ غير ذاته، كلا، بل هو موجودٌ واحدٌ هو الخالقُ، و هو العالمُ، و هو القادرُ، و هو الحيُّ.
المسألةُ من هذه الناحية شبيهةٌ بصفاتِنا أنا و انت، فأنتَ و علمُك و حياتُك و قدرتُك شيءٌ واحد، لا أنَّك موجودٌ، و هناك موجودٌ آخر اسمه العلم، تلبسه كما تلبس ثوبك مثلًا، و موجودٌ ثالثُ اسمه القدرة تلبسه كما تلبس ثوبك، كلا.
و هذا المعنى من التوحيدِ یُشِیرُ هو مذهبُ أهلِ البيت عليهم السلام.
و إلى هذا المعنى من التوحيدِ يُشيرُ ما رويَ عن أبان بن عثمان الأحمر قال: قُلتُ لِلصَّادِقِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّد علیهما السلام: أَخبِرني عَنِ اللهِ عزّ و جل لَم يَزَل سَمِيعًا بَصِيرًا عَليمًا قادِرًا؟
ص: 56
قَالَ علیه السلام: نَعَمْ.
قُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً یَنْتَحِلُ مُوَالاَتَکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ، یَقُولُ: إِنَّ اَللهَ عزّ و جل لَمْ یَزَلْ سَمِیعاً بِسَمْعٍ، وَ بَصِیراً بِبَصَرٍ، وَ عَلِیماً بِعِلْمٍ،وَ قَادِراً بِقُدْرَةٍ.
فَغَضِبَ عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَ دَانَ بِهِ فَهُوَ مُشْرِکٌ، وَ لَیْسَ مِنْ وَلاَیَتِنَا عَلَی شَیْءٍ، إِنَّ اللهَ تَبَارَکَ وَ تَعَالَی ذَاتٌ عَلاَّمَةٌ سَمِیعَةٌ بَصِیرَةٌ قَادِرَةٌ.(1)
1- أنَّ العقل يحكمُ بضرورةِ أن يكون الخالقُ لهذا الكون والإله فيه واحداً لا غير.
2- لو كانَ هناك خالقٌ ثانٍ لرأينا آثاره، و لكنَّنا لم نرَ إلّا آثارَ خالقٍ واحد،
فالخالق إذاٌ واحدٌ لا غير.
3- أنَّ الخالقَ الأول ثابتٌ بالبداهة، و أما الخالقُ الثاني (و كذا الثالث
و ...) فمشكوك، و العقلُ يُقدِّمُ القطع واليقين على الشك.
4 - أنَّ للخالق صفاتٍ كماليةً كثيرة، و هو و صفاته وجودٌ واحدٌ لا مُتكثِّر.
ص: 57
السؤال الأول: هل الخالق للكون واحدٌ أو أكثر؟ ما الدليل على ذلك؟
السؤال الثاني: لِمَ كان على من يدّعي وجود خالقٍ ثانٍ أنْ يأتي بالدليل
عليه؟
السؤال الثالث: ما معنى التوحيد في الذات؟
السؤال الرابع: متى يكون المسلمُ موحدًا الله (تعالى) توحيدًا صفاتيًا ؟
ص: 58
قال الله (تعالى): «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».(1)
المرتبة الثالثة: التوحيد في الأفعال (التوحيد الأفعالي).
المقصود من هذه المرتبة من التوحيد: أنَّ كُلَّ ما يحدث في هذا العالم، من أفعالٍ كولادة الأحياء، و إنبات و نمو النبات، و هطول المطر، و شروق الشمس، و كُلّ شيءٍ يحصل في الكون، هو داخلٌ تحت قدرة الله (تعالى)، و تحت سلطنته، و ليس هناك موجودٌ في هذا الكون يستطيع أنْ يمنع الله (سبحانه) من فعلٍ إذا أراد أن يفعله، بل إنه (تعالى) يفعل ما يشاء و كيف يشاء، قال (عزّ من قائل: «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(2)
ص: 59
و قال (تعالى):«إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». (1)
تعالَ معي لنضرب مثالين على هذا المعنى:
المثال الأول: هل يُمكن أن يولد إنسانٌ ما لم يكن هناك رجل و امرأة؟
الجواب: كلا، و لكن هذه ال-(كلا) بيننا نحن المخلوقات، أما عند الله عزّ و جل، فلا توجد هذه ال-(كلا)، و لذلك فإنّه خلق النبي آدم علیه السلام من تراب، و خلق النبي عيسى علیه السلام من امرأة من دونِ أن تتزوج.
قال (تعالى): «قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(2)
و قال (تعالى):«إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(3)
المثال الثاني: هل يُمكن أن تضع يدك في النار و لا تحترق ؟
كلا، لأنّ النار تُحرق أيّ شيءٍ يقع فيها، فكيف بالإنسانِ صاحب الجلد الرقيق، و لكنَّه (تعالى) أمر النار أن تكونَ بردًا و سلامًا على النبي إبراهيم علیه السلام عندما رماه النمرود في النار!
قال (تعالى): «قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. قُلْنَا يَا نَارُ
ص: 60
كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ». (1)
هذا يعني أنّ الأشياء المستحيلة لدينا هي غير مستحيلة عند الله (تعالى).
بمعنى أن نؤمنَ بأنَّ الخالق لهذا الكون و ما فيه هو الله (تعالى) فقط،
قال (تعالى):«قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».(2)
و روي عنه صلي الله عليه و آله و سلم: قالَ اللهُ عزَّ و جل:«و مَن أَظلَمُ مِمَّن ذَهَبَ یَخلُقُ کَخَلقی! فَلیَخلُقوا ذَرَّهً،(3) أَو لِیَخلُقوا حَبَّهً أَو شَعیرَهً».(4)
الربُّ بمعنى المُدبِّر للأمور التي يحتاجها الإنسان و الكون عموما، فالإنسانُ مثلًا يحتاج إلى الهواء، و إلى الشمس، يحتاج إلى الغذاء، و يحتاج إلى أشياء كثيرةٍ هي خارج إرادته، و لا يستطيع هو أن يوفّرها لنفسه، بل يحتاج إلى غيره في أن يوفّرها له، فالذي يوفرها و يدبّرها له هو الله (تعالى) فقط.
الكون فيه الكثير من الكواكب و النيازك و الأجرام السماوية، و هي تسبح في الفضاء، فلو لم يكن هناك إلهٌ يُدبرها، و يحفظها، لأمكن أن تصطدم بعضها
ص: 61
ببعض، و لأمكن أن يأتي نيزكٌ ضخمٌ، أو كوكبٌ كبيرٌ، فيضرب الأرض و يهلك من فيها .
إنّ الذي ينظمُ كُلَّ هذه الأمور و يوفر الأمن للبشرية، و يوفر للكائنات ما
تحتاجُ إليه، هو الربّ (تعالى)، و هو ربٌ واحدٌ لا غير.
و لو كان هناك أكثر من ربٍّ و مُدبّر لأمكن أن يحدث الهلاك و الفساد في هذا الكون؛ لأنّ كُلَّ إلهٍ يُريدُ أنْ يُدبِّرَ الكون كما يريد هو، فإذا أراد الإله الأول أنْ تُمطر السماء، فالإلهُ الثاني لعله يريد أن لا تمطر، فتحدث نزاعاتٍ بينهما، و قد تنتهي بهلاك الكون.
قال (تعالى):«أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ. لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ». (1)
و قال تعالى:«مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ».(2)
قال الشيخ علي بن إبراهيم القمي في تفسير الآية الأخيرة: «لَو كانَ إِلهَيْنِ كَما زَعَمْتُم لَكانا يَختَلِفانِ، فَيَخلُقُ هذا و لا يَخلُقُ هذا، و يُريدُ هذا و لا يُريدُ هذا، و يطلبُ كُلُّ واحِد مِنْهُمَا الغَلَبَةَ، و إذا أَرادَ أَحَدُهُما خَلَقَ إنسان أَرادَ الآخَرُ خَلَقَ بَهِيمَة، فَيَكُونُ إنسانًا و بَهيمَةً في حالَة واحِدَة، و هذا غَيرُ مَوجود، فَلَمّا بَطَلَ هذا، ثَبَتَ التَّدبیرُ وَ الصُّنعُ لِواحِد، و دَلَّ أَيضًا التَّدبيرُ و ثَباتُهُ و قِوامُ
ص: 62
َبعضِهِ بِبَعض عَلى أَنَّ الصَّانِعَ واحِدٌ...» (1) (1)
حيث إنَّ الخالقَ واحدٌ، وهو خالقُ كُلِّ شيء، وهو مُدبِّرُ الأمور و ربها، فإذن، لا تجوز الطاعة إلا لهذا الخالق الواحد المدبر للأمور، ولا تجوز طاعة غيره، سواء أكانَ هذا الغير هو هوى النفس، أم الشيطان، أم إنسانًا غير منصوبٍ من قبل الله (تعالى).
فالطاعة لا تكون إلا للخالق.
نعم إذا أمرنا الخالق بأن نطيعَ موجودًا معينًا، فيجب علينا ذلك من باب
أنَّ الخالقَ نفسه أمرنا بذلك، و لذلك فنحن يجب علينا أن نطيع الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علیه السلام، لأنّ الله (تعالى) هو من أمرنا بذلك.
قال(تعالى):«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا».(2)
وقال (تعالى):«مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا». (3)
ويجب الالتفات إلى أنَّ الطاعة يجب أن تكونَ كاملةً و بلا أيّ اعتراضٍ و لو الاعتراض القلبي، فقد روي عن أبی عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ
ص: 63
وَحْدَهُ لاَ شَرِیکَ لَهُ، وَ أَقَامُوا الصَّلاَةَ، وَ آتَوُا الزَّکَاةَ، وَ حَجُّوا الْبَیْتَ، وَ صَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَیْءٍ صَنَعَهُ اللهُ (تعالی) أَوْ صَنَعَهُ النبیُّ صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ: أَلاَ صَنَعَ خِلاَفَ الَّذِی صَنَعَ؟ أَوْ وَجَدُوا ذَلِکَ فِی قُلُوبِهِمْ،لَکَانُوا بِذَلِکَ مُشْرِکِینَ»، ثم تلا هذه الآیة: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»،(1) ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ:«و عَلَیْکُمْ بِالتَّسْلِیمِ».(2)
1- أنَّ الخالق الوحيد في هذا العالم، والذي لا يحتاج إلى غيره في خلقه،
هو الله عزّ و جل.
2- أنه (تعالى) قادرٌ على خلق أيّ شيءٍ ممكن، من دونِ حاجةٍ إلى أنْ يساعده غيره، و حتى الأمور التي نعتبرها مستحيلة، هو (تعالى) قادر عليها، كخلق الإنسان من دون أب، و جعل النار غير محرقة.
3- أنَّ الذي يُدبِّر أمور الكون و ينظّمها و يجعلها تمشي وفق نظام واحد،لا يؤدي إلى الهلاك، هو الله عزّ و جل.
4 - يجب علينا أن نطيع خالقنا عزّ و جل، و لا يجوز أن نطيع غيره، إلا إذا أمرنا هو عزّ و جل بطاعته، كما في وجوب طاعة الرسول صلی الله علیه و آله و أهل البيت عليهم السلام، وكما في طاعة الأب، والمعلم، وهكذا.
ص: 64
السؤال الأول: ماذا يُقصد بالتوحيد في الأفعال (التوحيد الأفعالي)؟
السؤال الثاني: اذكر تطبيقات عن التوحيد الأفعالي؟
السؤال الثالث: ما معنى الربوبية؟
السؤال الرابع: الطاعة لا تكون إلا للخالق، وعليه فطاعتك للأئمة الاثني عشر مجانبة للصواب والتوحيد في طاعة الله (تعالى).
إذا وجّه إليك أحدهم هذه العبارة، فيمَ تُجيبه؟
ص: 65
ص: 66
قال الله (تعالى): «وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ».(1)
هل يجوز أن نعبد غير الله (تعالى)؟
و أصلا: ما معنى العبادة؟
لا شك أنه لا يجوز لنا أن نعبد غير الله تعالى؛ لأنه (سبحانه) هو الخالق الوحيد لهذا الكون وما فيه، وهو مدبر أموره، فلا يجوز أن نعبد غيره، وقد أمرنا (تعالى) بعبادته وحده لا شريك له، قال الله عزّ و جل: «فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ». (2)
وهذا لا خلاف فيه بين الموحدين.
إنّما السؤال المهم هنا أن نفهم معنى العبادة، حتى نعرف بعض التصرفات والأفعال التي تصدر من شيعة أهل البيت علیهم السلام مثلا، وأنّها عبادةٌ لله (تعالى)
ص: 67
أو شركٌ به (سبحانه).
العبادة باختصار: هي معنى مركب من أمرين:
الأمر الأول: الخضوع
أي أنْ يُظهر العبدُ خضوعه وتذلله واحترامه للمعبود، فمثلًا يسجد له،
فالسجود مظهر من مظاهر الخضوع والتذلل للمعبود.
ولكن هذا المعنى وحده لا يُسمى عبادة، وإنما لا بُدَّ من الأمر الثاني، وهو:
الأمر الثاني الاعتقاد بربوية المخضوع له.
بمعنى: أنَّ العبدَ عندما يسجد لله (تعالى)، فإنّه يعتقدُ في قلبه ونفسه أنَّ
اللهَ (تعالى) هو خالقه، و ربّه، ومدبر أموره، لا إله له غيره.
فإذا اجتمع هذان الأمران، تحققت العبادة.
وهذا المعنى لا يجوز إلا لِلهِ، ومن يخضع لشيءٍ آخر غيرِ اللهِ (تعالى)
وهو يعتقدُ بأنّه ربٌّ له، فهو مُشركٌ وكافر .
أما مُجرَّدُ الخضوع من دونِ اعتقادِ الربوبيةِ و الألوهية، فهذه لا تُسمّى عبادة، و إنّما هي مُجرّدُ احترامٍ، و تقديرٍ، و إجلالٍ، و هذه المعاني ليست مُحرَّمةً على الإنسان، بل إنَّ الدين هو من أمرَ باحترامِ و تقديرِ عِدّةِ أصنافٍ من المخلوقات، من قبيل:
ص: 68
أولاً: الخضوع للنبي وللإمام علیهم السلام و طاعتهما طاعةً مطلقة.
قال (تعالى): «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». (1)
ثانيًا: احترام الأبِ والأمِ وتقديرهما، بحيث لا يجوزُ لك أن تقولَ لهما: (أُفّ)، وأمر الأولاد بأن يخضعوا للوالدين كثيرًا، قال (تعالى): «وَ قَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا».(2)
إذا اتضح هذا، يتبيّن: أنَّ ما يقومُ به شيعةُ أهلِ البيتِ علیهم السلام من زيارةِ قبورِ أئمتهم علیهم السلام، و دعاءٍ لله (تعالى) عند أضرحتهم علیهم السلام، والتوسُّل بهم إلى الله (تعالى) في قضاءِ حوائجهم، وغيرها، ليست من العبادة؛ لأنَّ الشيعةَ وإن كانوا يخضعون لأئمتِهم ويتذلّلون لهم، ولكنهم لا يفعلون ذلك بقصدِ أنهم علیهم السلام آلهة، كلا والعياذُ بالله، وإنّما هو من باب أنَّ اللهَ (تعالى) و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم أمر انا بطاعتهم ولزومِ تقديرِهم وتبجيلهم، كما أمرنا الدينُ أَنْ نُقدِّرَ ونُبجِّلَ الوالدين مثلًا.
إنَّ أعلى مراتب العبادة هو أنْ يُطيع الإنسانُ ربَّه عزّ و جل بإخلاص، لا يُريدُ من
ص: 69
عبادته شيئًا غير وجه الله (تعالى)، وغير كسب رضاه.
هناك مراتبُ أخرى للعبادة أقلُّ من هذه المرتبة، وهي أيضًا مقبولة،
ولكن ينبغي على المؤمنِ أن يسعى لأعلى مراتبِ العبادةِ ليتقرّبَ إلى الله عزّ و جل أکثر.
وفي بيان مراتب العبادة، روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال: «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَهً، فَتِلْکَ عِبَادَةُ اَلتُّجَّارِ وَ انَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَهً، فَتِلْکَ عِبَادَةُ الْعَبِیدِ، وَ اِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُکْراً، فَتِلْکَ عِبَادَةُ اَلْأَحْرَارِ». (1)
و رويَ عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: « إِنَّ النَّاسَ یَعْبُدُونَ اللهَ عَزَّ وَ جَل عَلَی ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: فَطَبَقَةٌ یَعْبُدُونَهُ رَغْبَةً فِی ثَوَابِهِ، فَتِلْکَ عِبَادَةُ اَلْحُرَصَاءِ، وَ هُوَ الطَّمَعُ، وَ آخَرُونَ یَعْبُدُونَهُ فَرِقاً مِنَ النّارِ، فَتِلْکَ عِبَادَةُ الْعَبِیدِ، وَ هِیَ الرَّهْبَةُ، وَ لَکِنِّی أَعْبُدُهُ حُبّاً لَهُ عَزَّ وَ جَل فَتِلْکَ عِبَادَهُ الْکِرَامِ، وَ هُوَ الْأَمْنُ».(2)
ومهما اختلفت درجاتُ العبادة ومراتبُها، إلا أنَّ الشرطَ الأساسي فيها، والذي لا يُقبلُ العملُ إلا به، هو شرطُ الإخلاص، وأنَّ العمل الذي فيه رياء، فهو غير مقبول عند الله، فقد رويَ عن شدّاد بن أَوس: قالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم:«إِذا جَمَعَ اللهُ الأَوَّلینَ وَالآخِرینَ بِبَقیعٍ (3) واحِدٍ یَنفُذُهُمُ البَصَرُ ویُسمِعُهُمُ
ص: 70
الدَّاعی، قالَ: أَنَا خَیرُ شَریکٍ، کُلُّ عَمَلٍ کانَ عُمِلَ لی فی دارِ الدُّنیا کانَ لی فیهِ شَریکٌ فَأَنَا أَدَعُهُ الیَومَ، و لا أَقبَلُ الیَوم إِلاّ خالِصًا. ثُمَّ قَرَأَ: «إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِینَ» (1) «مَن کَانَ یَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَلِحًا وَ لاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا».(2)
و عن رَسُولِ اللهِ صَلَّی اَللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ: «إِنَّ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلله) کَلِمَةٌ عَظِیمَةٌ کَرِیمَةٌ عَلَی اللهِ (تعالی)، مَنْ قَالَهَا مُخْلِصاً اِسْتَوْجَبَ الْجَنَّةَ، وَ مَنْ قَالَهَا کَاذِباً عَصَمَتْ مَالَهُ وَ دَمَهُ، وَ کَانَ مَصِیرُهُ إِلَی اَلنَّارِ».(3)
أنَّ الإخلاص يعنى فيهما يعنيه: أنْ يُحِبَّ المؤمنُ أهلَ البيت علیهم السلام، وأنَّ العبادةَ من دونِ حُبِّهم لا تنفعُ الإنسانَ يوم القيامة، فقد رويَ عن جابر بن عبد اللهِ الأنصاری، قال: جاءَ أعرابِیٌّ إلَی النَّبِیِّ صلی الله علیه و آله، فَقالَ: یا رَسولَ اللهِ، هَل لِلجَنَّةِ مِن ثَمَنٍ؟ قالَ صلی الله علیه و آله و سلم: «نَعَم». قالَ: ما ثَمَنُها؟ قالَ صلی الله علیه و آله و سلم: «(لا إلهَ إلَا الله) یَقولُهَا العَبدُ الصالِحُ مُخلِصا بِها». قالَ: و ما إخلاصُها؟ قالَ صلی الله علیه و آله و سلم: «العَمَلُ بِما بُعِثتُ بِهِ فی حَقِّهِ، وحُبُّ أهلِ بَیتی». قالَ: وحُبُّ أهلِ بَیتِکِ لَمِن حَقِّها؟ قالَ صلی الله علیه و آله و سلم: أجَل، إنَّ حُبَّهُم لَأَعظَمُ حَقِّها».(4)
ص: 71
1- أنَّ العبادةَ لا تكونُ إلا لله (تعالى).
2- أنَّ العبادةَ لا تعني الخضوعَ والتقديرَ فقط، وإنما تعني الخضوعَ مع
الاعتقادِ بأنَّ المخضوعَ له هو ربٌّ و إلهٌ و خالق.
3- أنَّ التوسُّلَ بأهلِ البيت علیهم السلام و زيارةَ قبورِهم و ما يشابه، ليس عبادةً لأهلِ البيت علیهم السلام؛ لأنها مُجرَّدُ خضوعٍ وتقديرٍ وتبجيلٍ من دونِ الاعتقادِ بربوبيتهم عليهم السلام.
4- أنّ للعبادةِ مراتب مُتعدِّدة، و أعلاها عبادةُ الله (تعالى) لا طمعًا في
الجنة، و لا خوفًا من النار.
5- أنَّ على المؤمنِ أن يسعى لِأعلى درجات العبادة.
6- أنَّ الإخلاص في العبادةِ شرطٌ أساسيٌ، لا تُقبَلُ من دونه.
7- أنَّ حُبَّ أهلِ البيت علیهم السلام و مودتهم و طاعتهم هو من الإخلاص في
العبادة.
ص: 72
السؤال الأول: ما معنى العبادة؟
السؤال الثاني: بِمَ تتحقَّقُ العبادة؟
السؤال الثالث: وجّه لك ناصبيٌّ إشكالًا مفاده: أنتم الشيعة تعبدون
أئمتكم؛ لأنكم تخضعون لهم وتتذللون.
فِيمَ تجيبه ؟
السؤال الرابع: ما مراتب العبادة، و ما أعلاها مرتبةً؟
السؤال الخامس: ما الشرط الأساسي في العبادة، والذي لا يُقبلُ العملُ
الصالحُ إلا به ؟
السؤال السادس: هل ثمّة تعارض بين الإخلاص في عبادة الله (تعالى)
وبين حب أهل البيت علیهم السلام؟ وضِّح ذلك.
ص: 73
ص: 74
قال (تعالى):«تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».(1)
عندما ينظر أحدُنا إلى نفسه يجد أنّ هناك نحوين من الصفات المتعلقة به:
النحو الأول : أنّ هناك صفاتٍ ينبغي له أن يتصف بها.
وهي ما تشيرُ إلى وجود صفةٍ حسنةٍ في ذاته، أو في فعله، فالعلم صفةٌ حسنةٌ لذات الإنسان، ولذا، فإنّه يُحِبُّ أنْ يكون عالمًا، ولا يحبُّ أنْ يكونَ جاهلًا.
والفعل الحكيم «أي ما يكونُ في محلِّه من دونِ عبثٍ و لا لغو» فعلٌ محبوب، و أما الفعلُ العبثي، و غيرُ الهادف، فإنّه فعلٌ مذموم.
الآن، دعونا نُسمّي مثل هذه الصفات بالصفاتِ الكمالية؛ لأنها تشيرُ إلى
كمالٍ في الذاتِ أو الفعل.
النحو الثاني : أنَّ هناك صفاتٍ ينبغي أن يبتعدَ عنها ولا يتصف بها.
ص: 75
وهي ما تشيرُ إلى وجودِ نقصٍ في الذات أو في الفعل، كالجهل، و العجز، فإنّها صفاتُ نقصٍ في الذات، و كالعبث، و اللغو، فإنّها صفاتُ نقصٍ في الفعل.
دعونا نسمّي هذه الصفاتِ بالصفات السلبية، بمعنى أنها تشيرُ إلى معنى
سلبي، إلى نقصٍ في الذات، أو في الفعل.
هذا ما نجده في أنفسنا.
ونفسُ الكلام نجده في الخالقِ لهذا الكون، فإنّه بلا شك مُتصفٌ بصفاتٍ
كمالية، و غير متصفٍ بالصفاتِ السلبية.
و معه، يمكنُ القول: إنَّ صفاتِ الله (تعالى) على قسمين:
وهذه على نحوين:
يعني الصفات المتعلقة بذات الخالق (جل وعلا)، وهي: العلم، و القدرة و الحیاة.
وفي الحقيقة، فإنّ صفاتِه الكمالية أكثرُ من أنْ تُعدّ أو تحصى، ولكنّنا نذكر
هذه الصفات الثلاثة لأهميتها، ولأنّها تحوي في داخلها الكثير من الصفات الكمالية الأخرى.
ص: 76
يعني الصفات المتعلقة بفعله (تعالى)، مثل: العدل، و الحكمة.
وهي على نحوين أيضًا:
وهي الصفاتُ التي لا بُدّ أنْ نسلبها وننفيها عن ذات الله (تعالى)؛ لأنّها
تشير إلى نقصٍ فيمن يتصف بها.
وهي عديدة منها الحاجة، والتركب، والجسمية.
وهي الصفاتُ التي يجبُ أن ننفيها عن فعلِ الله (تعالى)، كالظلم،
والجور، والعبث واللعب.
مع التنبيه على أنّنا يجبُ أن ننفيَ كُلَّ صفةِ نقصٍ في ذاتِ أو فعل الله
(تعالى)، لا خصوص ما ذكرناه من الصفات هنا.
وسنأتي على بيان هذه الأنحاءِ بالتدريج إن شاء الله (تعالى).
علمًا: أنّه يُطلق على الصفات الكمالية: صفات الإكرام، وعلى الصفات السلبية: صفات الجلال (1) و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله (تعالى):
ص: 77
«تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ».(1)﴾
1- أنَّ الإنسانَ يجد في نفسه صفاتٍ حسنة، وأخرى سيئة، والأولى يُحِبُّ أن يتصفَ بها؛ لأنها تُشير إلى کمالٍ في الذات أو في الفعل، والأخرى يكره أن يتصف بها؛ لأنّها تُشير إلى نقصٍ في الذات أو في الفعل.
2- أنَّ اللهَ (تعالى) مُتصفٌ بجميعِ الصفاتِ الحسنةِ الكمالية، وغيرُ مُتصفٍ بجمیعِ
الصفات السلبية الناقصة، في ذاته، و في فعله.
3- أنَّ الصفاتِ الكماليةَ أكثر من أن تُحصى، ولكن العلماء ركّزوا على صفاتِ العلم والقدرة والحياة.
4- أنَّ كُلَّ الصفاتِ السلبية منفيةٌ عنه (تعالى)، ومنها الحاجة والتركيب
والجسمية.
5- أنَّ الصفاتِ الكماليةَ تُسمّى بصفاتِ الإكرام، والصفات السلبية
تُسمى بصفات الجلال.
ص: 78
السؤال الأول: قال (تعالى): «تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ».
تلقي هذه الآية المباركة الظلال على نوعين من الصفات، تناولها
بالتوضيح.
السؤال الثاني: كم يبلغ عدد الصفات الكمالية ؟
السؤال الثالث: أنسب الصفات الآتية إلى أقسامها:
العدل، الحاجة، العلم، التركب، العبث، القدرة، الظلم، الحكمة، الحياة،
الجور، الجسمية.
ص: 79
ص: 80
(العلم).
قال تعالى: «اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ». (1)
بعد أن تعرّفنا إجمالًا على صفات الخالق عزّ وَ جَل، نتعرّض لمعرفة شيء منها:
يعني الصفات المتعلقة بذات الخالق عزّ وَ جَل، وهي: العلم، والقدرة، والحياة.
لا شكَّ أنَّ صفةَ العلم من الصفات الكمالية؛ فنحن نرى أنَّ الإنسانَ العالمَ أفضل وأكمل من الإنسان الجاهل، والله (تعالى)، لأنّه الخالق، والذي أوجد هذا العالم بهذا النظام الدقيق، فلا بُدَّ أن يكون عالماً.
للعلم الإلهي مُميزاتٌ عديدةٌ تميزه عن علومنا نحن البشر، لا بُدَّ أن نلتفت
ص: 81
إليها، و منها:
أولًا: أنَّه ليس مثل علومنا، حيث نحصلُ عليها من خلال الدراسة والأخذ من المعلّمين، وإنّما هو علمٌ ذاتي، بمعنى أنَّه (تعالى) عالمٌ بذاته، لا يحتاج في علمه إلى أحدٍ يُعلمه، و لا يدرس عند أحد.
وهذه مسألةٌ واضحةٌ؛ لأنّه (تعالى) هو الخالق لكُلِّ الموجودات غيره، فلا
يوجد مخلوقٌ أكثرُ علمًا منه ليتعلم منه .
فكُلُ موجودٍ غير الله (تعالى)، إنّما يكونُ أولاً جاهلًا، ثم يتعلم، أمّا الله (تعالى)، فإنّه عالمٌ، من دون أن يكونَ جاهلًا سابقًا، وإليه يُشيرُ ما رويَ عن أمير المؤمنين علیه السلام: « وَکُلُّ عَالِمٍ فَمِنْ بَعْدِ جَهْلٍ تَعَلَّمَ، وَاللهُ لَمْ یَجْهَلْ وَلَمْ یَتَعَلَّمْ أَحَاطَ بِالْأَشْیَاءِ عِلْماً قَبْلَ کَوْنِهَا....».(1)
ثانيًا: أنَّه ليس مثل علومنا، من جهة أنَّنا يُمكن أن نقع في الخطأ العلمي، والواقعُ خيرُ شاهدٍ، فإنّنا نرى الكثير من النظرياتِ العلميةِ التي كانت ثابتة، و لكنّ العلمَ عند ما تطور، كشف خطأها، فالعلماءُ سابقًا كانوا يعتقدون أنّ
الأرض ثابتةٌ والشمس تدور حولها، ولكنّ العلم أثبتَ عكس ذلك كما هو
واضح.
أما علمُ الله (تعالى)، فإنّه علمٌ مصيبٌ للواقع دائمًا، فلا يُمكِنُ أنْ نتصوَّرَ
الخطأ في علمه أبدًا؛ لأنّه (تعالى) مطّلعٌ على كل ما في الكون بكُلِّ جزئياته
ص: 82
اطلاعاً تاماًّ ، فلا يُمكِنُ أنْ يكونَ في علمِه خطأ.
ثالثًا: أنّه ليس مثل علومنا، من جهة أنَّ علومَنا محدودةٌ بظروفِ الزمان والمكان، فنحنُ لا نعلمُ بالمستقبل، ولا نستطيعُ أن نعلم بالشيء البعيد عنّا، كالأشياءِ الموجودة في السموات مثلًا، لأنّنا محدودون بحدود الزمان والمكان.
أمّا علمُ الله (تعالى)، فهو شاملٌ للماضي والحاضر والمستقبل على حدٍّ سواء، ولا يتحدَّدُ بالمكان؛ لأنّه (تعالى) أوسعُ من كُلِّ الزمان، ومحيطٌ بكُلِّ مكان، فلا يغيبُ عنه شيءٌ من الأشياء في أيّ زمنٍ وفي أيّ مكان.
وإلى هذا المعنى أشار قوله (تعالى): «وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».(1)
و قال أمير المؤمنين علیه السلام:«عِلْمُهُ بِالْأَمْوَاتِ الْمَاضِینَ کَعِلْمِهِ بِالْأَحْیَاءِ الْبَاقِینَ، وَ عِلْمُهُ بِمَا فِی السَّمَاوَاتِ الْعُلَی کَعِلْمِهِ بِمَا فِی الْأَرَضِینَ السُّفْلَی مِنها». (2)
رابعًا: أنّه ليس مثل علومنا، من جهةِ أنّ علومَنا لا تتجاوزُ الظاهر، فأنا
لا أعلمُ ما في داخلك، و لا أعلمُ ما تُضمره في قلبك، ولكن الله (تعالى) يعلمُ
بالظاهر والباطن على حدٍّ سواء، لأنَّه هو من خلق الإنسان، ويعلم كُلَّ شيء
عنه .
قال تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ
ص: 83
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ». (1)
وعن الإمام الصادق علیه السلام لمّا سُئِلَ عَن قَولِ الله عزّ و جَل: «(یَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفی) (السِّرُّ ) مَا کَتَمْتَهُ فِی نَفْسِکَ، (وَ أَخْفَی) مَا خَطَرَ بِبَالِکَ ثُمَّ أُنْسِیتَهُ» (2)
خامسًا: أنَّه ليس مثل علومنا، من جهة أنَّ علومَنا تحتاج إلى آلاتٍ مادية، فنحن نتعلَّمُ من خلال النظر بالعين، والسماع بالأذن، ونحتاج إلى القلم والكتاب، وغيرها من الأدوات المادية.
أما علم الله (تعالى)، فلا يحتاج فيه إلى هذه الأدوات المادية؛ لأنّه (تعالى) ليس جسمًا، ومن ثَمّ لا تكون له عينٌ مادية، ولا أذنٌ مادية، ولا يكتب بقلم، وإنّما علمه مباشرٌ بالأشياء، من دون أدوات.
مع الانتباه إلى أنّنا لا نعلم حقيقةَ العلم الإلهي؛ لأننا لا نُحيطُ بعلمِ الله (تعالى)، فإنّنا موجوداتٌ محدودة، ونحن لا نعلم الكثير من الأمور في حياتنا اليومية، والجهل يُحيطُ بنا من جميع جهاتنا، فكيفَ نُحيطُ بعلم الله (تعالى)، فهو (تعالى) يعلم بنا ويُحيطُ علمه بنا، ونحنُ لا نحيطُ علمًا به، قال (تعالى): «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا».(3)
و قال (تعالى):«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ
ص: 84
عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ».(1)
1- أنَّ من أهمِّ الصفاتِ الكمالية الذاتية لله (تعالى) هي صفة العلم.
2- أنَّ علمه (تعالى) يختلف كثيرًا عن علومنا، ومن جهات عديدة، فعلمه (تعالى) من دون معلِّم، وغير مسبوقٍ بالجهل، ولا خطأ فيه أبدًا،
وليس محدودًا بحدود الزمان والمكان، ولا محدودًا بالظاهر دون الباطل، بل هو شاملٌ للجميع ، ولا يحتاج فيه إلى آلاتٍ مادية.
3- مهما ازداد علمنا، فنحن نبقى محدودين، فلا يُمكن أنْ نُحيطَ بالله (تعالى) ولا بعلمه، وعلينا أن لا نغترَّ بعلومنا؛ لأنّه: « وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ».(2)
ص: 85
السؤال الأول: ما المقصود بالصفات الكمالية الذاتية ؟
السؤال الثاني: بِمَ يتميّز العلم الإلهي على العلم البشري؟
السؤال الثالث: لا يمكننا أن نعلمَ حقيقةَ العلم الإلهي. علِّل ذلك.
ص: 86
(القدرة) (الحياة).
قال (تعالى): «إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». (1)
و قال (تعالى): ««اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ». (2)
هذه السموات و الأرض، و هذه المخلوقات التي نراها و التي لا نراها كُلُّها خلَقَها الله عزّ و جل، و لا يُمكِنُ أن يكونَ قد خلقها وهو عاجزٌ غير قادر، فالله
(تعالى) إِذًا مُتَّصفٌ بصفة القدرة.
وتتميّزُ قدرةُ الله (تعالى) عن قدرتنا بالعديد من المُميّزات، و منها:
أولًا: أنّها ليست كقدرتنا، من حيث إنَّ قدرتنا محدودةٌ جدًا، فنحن لا نستطيع أن نحملَ كُلَّ ثقل، و لا نستطيعُ أن نخلقَ ذبابة، ولا نستطيعُ أن نرى في الظلام، و هكذا، و لكنّ قدرةَ الله (تعالى) واسعةٌ وعظيمةٌ جدًا، بحيث إنّك لا تجد شيئًا يعجزُ عنه الله (تعالى)، ولذلك فإنّه (تعالى) جعل النار المحرقة
ص: 87
بردًا و سلامًا على النبي إبراهيم علیه السلام، و رفع السموات بغير عمدٍ تُرى، و خلقَ الإنسان من طين، وغيرها كثير كثير مما لا يستطيع الإنسان أن يفعلَ عشر
معشاره، و لكنّه (تعالى) فعله.
قال تعالى:«وَ مَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا».(1)
ثانيًا: إِنَّ الإنسانَ إذا كان قادرًا قويًا، فإنّه يُمكن أن يصدرَ منه الظلم، ولو غفلةً أو نسيانًا، أما الله (تعالى)، فإنّه رغم قدرته غير المتناهية، ولكنه (تعالى) لا يظلم أحدًا أبدًا، قال (تعالى): «وَ وُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا». (2)
ثالثًا: إِنَّ الإنسانَ القادرَ يستعجلُ عادةً بحاجته؛ لأنّه يخاف أن تفوته الفرصة أو تهرب منه، فتجده يستعجلُ في الحصول على وظيفةٍ معينة، وإذا ظفرَ بعدوِّه فإنّه يستعجلُ عقوبته أو مُحاربته، ولا يُعطيه فرصة؛ إذ لعلّ العدو يجمعُ قواه ويتغلّب عليه.
أما الله عزّ و جل، فإنّه لا يخافُ شيئًا يهربُ منه أو فرصةً تفوته فهو (تعالى) قادرٌ على كُلِّ شيء، و لذلك فإنّه يُمهِلُ الظالمين؛ لأنّه لا يخاف أن يهربوا منه، فأينما يذهبوا فهم تحتَ قدرته (تعالى)، و لذا يقول (تعالى):«أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ
ص: 88
بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».(1)
فالله (تعالى) يُمهلُ الظالمين، و لكنّه لا يُهملهم.
رابعًا: إِنَّ الإنسان قد يكون قادرًا، ولكنّه ليس حكيمًا، فتجده يستعملُ قدرته في إهلاك الناس والإضرار بهم، كما يفعل الظالمون أمس واليوم، ولكنّ الله (تعالى) رغم قدرته العظيمة جدًا، فإنّه لا يستعملها إلا وفقَ الحكمة، فهو لا يستعملُها إلا في موضعها المناسب، وفي الزمان المناسب، فالله (تعالى) لا يعبثُ ولا يلغو، وهو غنىٌّ عن ظلم الناس.
قال تعالى:«وَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». (2)
نعتقدُ أنَّ اللهَ (تعالى) موجودٌ حيٌ، وهذه مسألةٌ بديهيةٌ، فإنّ من كانَ عالمًا، و قادرًا، لا يُمكنُ أنْ يكون ميتًا، و لا حياة له، قال تعالى: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».(3)
و لحياته عزّ و جل مميزاتٌ أيضًا تُميزها عن حياتنا، و منها:
أولا: أنَّ حياتنا مسبوقةٌ بالموت، و بالعدم، و ملحوقةٌ بالموت، قال (تعالى): «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ و َكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
ص: 89
تُرْجَعُونَ».(1)
أما حياةُ الله (تعالى)، فإنّها حياةٌ أزليةٌ أبدية، أي هو حيٌّ منذ الأزل، وحيٌّ إلى الأبد، و لا يعرضُ عليه الموت أبدًا، ففي دعاء الإمام زين العابدين علیه السلام: «یا حَیُّ قَبلَ کُلِّ حَیٍّ، یا حَیُّ بَعدَ کُلِّ حَیٍّ، یا حَیُّ مَعَ کُلِّ حَیٍّ ، یا حَیُّ حینَ لا حَیّ ، یا حَیُّ یَبقی ویَفنی کُلُّ حَیٍّ ، یا حَیُّ لا إِلهَ إِلاّ أَنتَ، یا حَیُّ یا کَریمُ ، یا مُحیِی المَوتی». . (2)
ثانيًا : أنَّ حياتَنا ليست ذاتيةً لنا، بمعنى أنّنا كُنّا عدمًا ثم صرنا أحياءً؛ لأنّ الله عزّ و جَل وهبنا الحياة، ومن دون عطائه لنا فنحن عدمٌ وأمواتٌ، وأما حياةُ الله (تعالى) فإنّها حياةٌ ذاتيةٌ له عزّ و جل، فليس هناك موجودٌ أعطاه الحياة، وإنّما هو حیٌ بذاته.
ثالثًا: أنَّه (تعالى) واهبُ الحياة لغيره، فكُلُّ حياةٍ موجودةٍ في الكون هي منه عزّ و جل، فقد رويَ عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: «... وهُوَ حَیاةُ کُلِّ شَیءٍ، ونورُ کُلِّ شَیءٍ، سُبحانَهُ وتَعالی عَمّا یَقولونَ عُلُوّا کَبیرا.. وبِحَیاتِهِ حَیِیَت قُلوبُهُم، وبِنورِهِ اهتَدَوا إِلی مَعرِفَتِهِ».(3)
رابعًا: و لأنَّ الحياةَ منه عزّ و جَل، فإنَّ الموتَ منه أيضًا، فكما أنّه هو المُحيي، كذلك هو المُميتُ، و على من يُريدُ الحياةَ أنْ يطلبَها منه فقط .
ص: 90
فإذا شاء اللهُ (تعالى) أعطى الحياة لغيره من الموجودات فتُصبح موجوداتٍ
حيةً، وإذا شاء عزّ و جَل، أماتَ أيّ موجودٍ غيره؛ لأنّ الحياةَ لغيره ليست ذاتية، وإنّما هي هبة منه (تعالى).
فمن أراد الحياةَ - سواء كانتِ الحياة الدنيوية أو الأخروية، المادية أو
المعنوية - فلن يحصل عليها إلا من الحي المطلق عزّ و جل.
وفي ذلك روي أنَّ أميرَ المؤمنين علیه السلام قال لولده الإمام الحسن المجتبى علیه السلام:«و اعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ، وأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، و أَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ». (1)
1/ أنَّ من صفاتِ الله (تعالى) الكمالية هي صفة القدرة، فلأنّه خالقُ كُلِّ
شيءٍ، فهو قادرٌ على كُلِّ شيء.
2/ أنَّ قدرته (تعالى) تختلفُ عن قدرتنا في كونها غير محدودة، و ليس
معها ظلمٌ، و لا عجلة، و هو (تعالى) مع كونِه قادرًا، هو حكيم.
3/ وأنَّ من صفاتِ الله (تعالى) الكمالية هي صفةُ الحياة، فلأنّه (تعالى)
عالمٌ قادرٌ، إذًا لا بُدَّ أن يكونَ حيًا.
5/ وأنَّ حياته (تعالى) تختلفُ عن حياتنا في كونها غيرِ مسبوقةٍ ولا ملحوقةٍ بالعدم، فهى حياةٌ ذاتيةٌ له عزّ و جَل، وهو (تعالى) واهبُ الحياة لغيره، فمن أرادَ الحياةَ فعليه أنْ يطلبَها منه عزّ و جل.
ص: 91
السؤال الأول: ما معنى قدرة الله (تعالى)؟ و كيف تثبتها؟
السؤال الثاني: تتميّز قدرةُ الله (تعالى) عن قدرتنا بالعديدِ من المُميّزات،
اذكرها.
السؤال الثالث: قال شخصٌ: إن الله (تعالى) قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، قادرٌ
على الخلق على الإماتة على الإحياء، وعلى إدخال المؤمنين النار والكافرين
الجنة.
ما مدى صحة قوله؟ صوِّبه فيما إذا تضمّن خطأً.
السؤال الرابع: كيف تستدل على حياة الله (سبحانه وتعالى)؟
السؤال الخامس: لحياته عزّ و جل مُميِّزاتٌ تُميزها عن حياتنا، اذكرها.
السؤال السادس: «إلهِی إنْ رَفَعْتَنِی فَمَنْ ذَا الَّذِی یَضَعُنِیْ، وَ إنْ وَضَعْتَنِی فَمَنْ ذَا الَّذِی یَرْفَعُنِی، وَ إنْ أَکْرَمْتَنِی فَمَنْ ذَا الَّذِی یُهِینُنِی، وَ إنْ أَهَنْتَنِی فَمَنْ ذَا الَّذِی یُکْرِمُنِی، وَإنْ عَذَّبْتَنِی فَمَنْ ذَا الَّذِی یَرْحَمُنِی، وَ إنْ أَهْلَکْتَنِی فَمَنْ ذَا الَّذِی یَعْرِضُ لَکَ فِی عَبْدِکَ أَوْ یَسْأَلُکَ عَنْ أَمْرِهِ، وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَیْسَ فِی حُکْمِکَ ظُلْمٌ، وَلَا فِی نِقْمَتِکَ عَجَلَةٌ، وَإنَّمَا یَعْجَلُ مَنْ یَخَافُ الْفَوْتَ، وَإنَّمَا یَحْتَاجُ إلَی الظُّلْمِ الضَّعِیفُ، وَقَدْ تَعَالَیْتَ یَا إلهِی عَنْ ذلِکَ عُلُوّاً کَبِیراً.»
تأمّل في الفقرة المذكورة آنفًا من دعاء الإمام السجاد علیه السلام الثامن والأربعين من الصحيفة السجادية، محاولًا تطبيق ما فهمته من الدرس عليها.
ص: 92
تعني الحكمة: أنّه (تعالى) عندما يفعل فعلًا معينًا، كالخلق مثلا، فإنَّ
فعلَه هذا حكيم، يعني: أنّه يضعه في موضعه المناسب، وفي زمانه المناسب، فالله (تعالى) عندما خلق الإنسان بعينين، لا بعينٍ واحدةٍ وبثلاثة أعينٍ، فهذا الفعل حكيم، و عند ما يجعله عقيمًا مثلًا، فهذا الفعل حكيم، وهكذا عندما يرزقه رزقاً معيناً، فهذا الفعل حكيم.
ففعله (تعالى) حكيمٌ، ولا عبثَ فيه و لا لغو و لا لعب.
ولأنّه (تعالى) حكيم، ولا يفعل إلا الشيءَ الصحيح، ولا يضعُ الشيءَ إلا في موضعه المناسب، وفي زمانه المناسب، فينبغي للمؤمن أن يكونَ مطمئنًا بما يفعله الله (تعالى) له، فليكُنْ على علمٍ ويقينٍ بأنَّ كُلَّ شيءٍ يفعله الله (تعالى) فهو في صالحه، وهو وفقَ الحكمة، حتى وإنْ كانَ لا يعلمُ وجه الحكمة فيه، فما دامَ اللهُ (تعالى) قادرًا حكيمًا، فهو يفعلُ الشيء المناسب للإنسان،ولذلك فليسَ من الصحيح أن نسأله (تعالى): لِمَ فعلتَ الشيء الفلاني؟ لأنّه ما دامَ
ص: 93
حكيمًا، فهو لا يفعلُ إلا الشيءَ الصحيح.
و لذلك فإنَّ الإمامَ الباقر علیه السلام لمّا قيلَ لَهُ: کَیْفَ لاَ یُسْأَلُ عَمَّا یَفْعَلُ؟ قَالَ علیه السلام: «لِأَنَّهُ لاَ یَفْعَلُ إِلاَّ مَا کَانَ حِکْمَهً وَ صَوَاباً».(1)
وقال الإمام الصادق علیه السلام: «إِنَّ اللهَ عزّ و جل لا یَفعَلُ لِعبِادِهِ إِلاّ الأَصلَحَ لَهُم، ولا یَظلِمُ النّاسَ شَیئًا، ولکِنَّ النّاسَ أَنفُسَهُم یَظلِمونَ».(2)
تُعدُّ صفةُ العدل من أهمِّ الصفاتِ الكمالية الفعلية؛ لأنَّ هناك الكثيرَ من البحوثِ والثمراتِ التي تترتب عليها، وعلى نحو الإجمال، نذكر النقاط
التالية:
عندما نصفُ الله عز و جل بأنّه عادل، فإنّ المقصود هو أنّه (تعالى) يُعطي كُلَّ موجودٍ ما يكونُ مُتلائمًا مع وجوده، ومنسجمًا مع حاجاته، فلا يُعطيه أكثر من حاجته، ولا يأخذ منه ما يحتاج إليه.
وهذا المعنى لا يتحقَّقُ إلا إذا كانَ العطاءُ وفقَ الحكمة، فالعدلُ الإلهي يعني أنّ الله (تعالى) يُعطي الموجوداتِ ما يلائم وجودها، وما يُساعدها في طريقِ تكاملها، وفقَ الحكمة.
ص: 94
وليسَ معنى العدل هو الإعطاءَ بالسوية؛ لأنَّ هذا المعنى يكونُ ظلمًا في
كثيرٍ من الأحيان، فالعقلُ مثلًا يحكم بأنَّ العاملَ الذي يُقدِّمُ خدمةً أكثر من غيره، يستحقُّ أجورًا أكثر، وليس من العدلِ أنْ نساويَ بينه وبين العامل الكسول.
كذلك العدل الإلهي يقتضي أن يُعطيَ كُلَّ موجودٍ ما هو مُتناسبٌ مع وجوده، وما هو مُتناسبٌ مع ما يُقدِّمُه من عملٍ يُرضي به الله (تعالى)، فليس من العدلِ أنْ يتساوى المؤمنُ والكافر بالعطاء، قال (تعالى):«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ». (1)
خلق الله (تعالى) الإنسان، وجعله موجودًا مختارًا، أيّ يُقدِمُ على الفعل ويقوم به بإرادته، فعندما أمرنا الله تعالى بالصلاة مثلاً، لم يجبرنا على الصلاة،
وإنما ترك لنا الخيار، وقال لنا من يرد الجنة فليصلِّ.
فالله عزّ و جل من عدله وحكمته، لم يجبرِ الإنسانَ على أفعاله، وإنما ترك له الخيار في أنْ يفعل أو لا يفعل، فمن يأتمر بأمره (تعالى)، فإنّه عزّ و جَل يُعطيه الثواب على عمله الصالح، ومن يعصِ الله (تعالى)، فإنّه (تعالى) يُعاقبه لأجل عمله السيّئ والعقل في هذه الحالة يحكمُ بأنَّ هذا الفعل (إثابة المطيع وعقوبة العاصي) أمرٌ حسن، ولا ظلم فيه.
فالاختيارُ الإنساني إذًا مظهرٌ من مظاهر العدل الإلهي.
ص: 95
وقد يسألُ البعضُ: ما الدّليل على أنّنا مُختارون ولسنا مُجبَرين على أفعالنا ؟ والجواب: أنَّ هذه المسألةَ،بديهية، فكُلُّ واحدٍ منّا يُحسُّ بوجدانِه أنه هو
الذي يأكل، وهو الذي يشرب، وهو الذي يختارُ الطعامَ الفُلاني دونَ غيره.
وهكذا لو صلّى أحدُنا، فإنّه يشعرُ بأنّه قام للصلاة بإرادته واختياره، ولو عصی أحدٌ منّا، فإنّه يعلم في قرارة نفسه بأنّه هو الذي فعَل المعصية باختياره. فالمسألةُ من هذه الناحية بديهية، وكُلُّ واحدٍ منا يشعر بأنّه مُحتارٌ كما يشعر
بجوعه، أو عطشه، أو خوفه، أو فرحه.
قال تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».(1)
و قال (تعالى): «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى.«ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى».(2)
وقال (تعالى):«كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ».(3)
عندما ننظر إلى أنفسنا، نجد أنَّ الظلم لا يصدر منها إلا لأحد الأسباب التالية:
ص: 96
السبب الأول: أنْ نكونَ مُحتاجين إلى الظلم.
السبب الثاني: أن لا نكونَ مُحتاجين، ولكنَّ أحدًا ما يُجبِرُنا على أن نظلم
غيرنا، كما لو أمرَ الظالمُ بأن يضربَ الجنديُّ أحد المساكين.
السبب الثالث: أنْ لا نكونَ مُحتاجين للظلم، ولا مُجبرين عليه، ولكنّنا
نظلمُ؛ لأجل اللعب والعبث واللهو.
السبب الرابع: أنْ لا نكونَ مُحتاجين ولا مُجبرين ولا لاهين، ولكننا نظلمُ
غيرنا خطأً واشتباهًا وغلفةً.
وكُلُّ هذه الأسبابِ غيرُ موجودةٍ في الله (تعالى)؛ فلا يُمكِنُ أنْ يظلمَ أيَّ أحد، فهو لا يحتاجُ إلى أن يظلمَ غيره، ولا يوجدُ موجودٌ يُجبِرُه على أنْ يظلمَ غيره، ولا أنّه يظلمُ غيرَه عبثًا ولعبًا، ولا أنّه يغفلُ أو ينسى أو يشتبه، فكُلُّ
أسبابِ الظلمِ مُنتفيةٌ عنه (تعالى)، فلا يظلمُ ربَّك أحدًا.
1/ أنَّ اللهَ (تعالى) يتصفُ بالحكمة، والتي تعني أنَّه يفعلُ الشيءَ المناسب
في الوقتِ والمكان المناسبين.
2/ أنّه (تعالى) لا يُسألُ عمّا يفعل، ليس لأنّه ظالمٌ، وإنّما لأنَّه حكيم.
3/ أنّه (تعالى) يتصفُ بالعدل، بمعنى أنّه يُعطي كُلَّ موجودٍ ما يتلاءم
وينسجم مع وجوده.
4/ و أنَّ من عدله عزّ و جل أن جعلَ الإنسانَ مُختارًا، ليأخذَ كُلُّ إنسانٍ جزاءه
ص: 97
بحسب مقدار عمله.
5/ أنّنا مُختارون، والدليل هو الوجدان، فكونُنا مُحتارين هو أمرٌ بديهي.
7/ وأنّه (تعالى) لا يظلم؛ لانتفاءِ كُلِّ أسبابِ الظلم عنه.
ص: 98
السؤال الأول: ماذا نقصدُ بحكمة الله (تعالى)؟
السؤال الثاني: ينبغي للمؤمن أن يكونَ مطمئناً بما يفعله الله (تعالى) له.
علِّل ذلك..
السؤال الثالث: لِمَ كانتْ صفةُ العدل من أهمِّ الصفات الكمالية الفعلية؟
السؤال الرابع: ناقش هذه العبارة:
لإعطاء المرأة حقوقها وتحقيق العدل بينها وبين الرجل؛ ينبغي أنْ تُشرَّع
لها تشريعاتٍ تساوي بينها وبينه في جميع الحقوق والواجبات.
السؤال الخامس: هل الإنسان مختارٌ؟ وما الدليل على ذلك؟
السؤال السادس: الاختيار الإنساني مظهرٌ من مظاهر العدل الإلهي.
علِّل ذلك ..
ص: 99
ص: 100
وهي الصفاتُ التي لا بُدَّ أنْ نسلبَها وننفيها عن ذات الله (تعالى)؛ لأنّها تُشيرُ إلى نقصٍ في ذات من يتصِفُ بها، وهي عديدة، منها:
نعتقد أنّ اللهَ (تعالى) غنيٌّ مطلق، فلا يحتاجُ إلى أيّ مخلوقٍ من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في وجوده، و لا في فعله.
أما نحنُ المخلوقاتُ، فإنّنا نحتاجُ إلى الله (تعالى) في كُلِّ شيء، ففي وجودنا نحنُ نحتاجُ إليه (تعالى) ليوجدنا، وفي فعلنا نحن محتاجون إليه (تعالى)؛ ليُعطينا القوة على الفعل، فلو شاءَ اللهُ (تعالى) لسلبنا أيَّ قدرةٍ على أيّ فعل، فنتحوّل إلى أشبهِ شيءٍ بالأحجار ، وهذا هو معنى «لا حول ولا قوّةَ إلا بالله».
قال (تعالى): «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
ص: 101
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ».(1)
و قال أميرُ المؤمنين علیه السلام في وصف الله (تعالى): «كُلُّ شيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، غِنَى كُلِّ فَقِیرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ».(2)
المقصودُ من هذه الصفة هو أنّ اللهَ (تعالى) ليس مُركبًا من أجزاء، كتركُّبِ أجسادنا من أعضاءٍ وأجزاءٍ وخلايا؛ فإنّ المركَّبَ مُحتاجٌ إلى أجزائه، فنحن محتاجون إلى آلةِ العين، وآلةِ اللسان، ونحن محتاجون إلى اليد والرجل، وهكذا، فالمُركّبُ مُحتاجٌ إلى أجزائه، وأيُّ جزءٍ يذهبُ منه، فإنّه يُسبَّبُ خللًا في المركب كُلّه.
الله عزّ و جل ليس مركبًا من أجزاء، وإلا لكانَ مُحتاجًا إلى أجزائه، والمُحتاجُ لا يكون إلهًا، وقد تقدّمَ في الصفةِ الأولى أنّه (تعالى) ليس مُحتاجًا، وإنّما هو غنيٌّ مطلق.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أنَّ هذا المعنى يُطلَقُ عليه بالتوحيد الأحدي، وهناك توحيدٌ واحدي، وهو يعني أنّه (تعالى) لا شريك له ولا ثاني له، وقد تقدّمَ الحديثُ عنه في دروس التوحيد.
ص: 102
قال (تعالى) : «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ». (1)
وقال أمير المؤمنين علیه السلام: «و لا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَلَا بِالْجَوَارِحِ و الأَعْضَاءِ». (2)
نعتقد أنَّ الله (تعالى) ليس جسمًا؛ لأنّ الجسمَ مُركَّبٌ من أجزاء، وهو مُحتاجٌ إلى أجزائه، فيكون فقيرًا لا غنيًا، وحيث إنّ اللهَ (تعالى) غنىٌّ مطلق، فلا يحتاجُ إلى أيّ شيء، فليس هو مركبًا، ولا جسمًا.
أضف إليه: لو كانَ الخالقُ جسمًا، لكان موجودًا في مكانٍ دون مكان، كما هو حال أيِّ جسم والله (تعالى) موجودٌ في كُلِّ مكان، وهو يعلمُ بكُلِّ المخلوقات أينما كانت.
قال (تعالى):«هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (3)
و قال (تعالى): «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَ لَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ
ص: 103
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». (1)
وهي الصفاتُ التي يجبُ أن ننفيها عن فعل الله (تعالى)، كالظلم والجور، والعبث واللعب.
وحيثُ ثبت أنّ اللهَ (تعالى) عادلٌ، فهو لا يظلمُ أحدًا، ولا يجورُ على أحد، وحيثُ إنّه (تعالى) حكيمٌ، فهو (تعالى) لا يلعب، ولا يعبث.
1- أنَّ كُلَّ صفاتِ النقصِ منفيةٌ عنه (تعالى).
2- أنّه (تعالى) غيرُ محتاجٍ إلى أيّ شيءٍ خارجَ ذاتِه المقدسة، فهو غنيٌّ مطلق، وهو ليس مركبًا من أجزاء، وإلا لكانَ مُحتاجًا إلى أجزائه، فلا يكونُ غنيًا، ولذلك فإنّه ليس جسمًا؛ لأنّ الجسمَ مركبٌ، والله (تعالى) غير مركب.
3- للتوحيدِ معنيان: التوحيدُ الواحدي: وهو بمعنى نفي الشريكِ عنه (تعالى)، فلا شريكَ له ولا مثيل، والتوحيد الأحدي: وهو بمعنى أنه (تعالى) غيرُ مركبٍ من أجزاء، ويُطلق على غير المركب (البسيط) في علم الفلسفة والكلام.
4- أنَّ فعل الله (تعالى) منفيٌ عنه كُلّ صفاتِ النقص، فلا جورَ و لا لهو في فعله، ولا عبث ولا لغو أيضًا؛ لأنه قد ثبتَ أنه (سبحانه) عادلٌ حكيم.
ص: 104
السؤال الأول: هل يجب سلب الصفات السلبية عن الله (تعالى)، ولماذا ؟
السؤال الثاني: ما معنى التركيب؟ وهل يصحُّ أن نصفَ اللهَ (تعالى) به، ولماذا ؟
السؤال الثالث: ما الفرق بين الصفات السلبية الذاتية والصفات السلبية الفعلية؟
السؤال الرابع: كيف تردُّ - ردًا مستدلًّا - على من يدّعى أنَّ الله (تعالى) جسمٌ؟
السؤال الخامس: ماذا نطلقُ على التوحيد الوارد في كُلِّ من:
*قوله (تعالى): «هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ».
*قوله (تعالى): «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ».
وما الفرق بينهما ؟
ص: 105
ص: 106
«وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ».(1)
تقدّمَ أنَّ العقلَ يحكمُ ببداهةِ وجود خالقٍ خلَقَنا، وأنَّ هذا الخالقَ أنعم علينا بمختلف النعم المادية والمعنوية، و أنّه أوجدنا على هذه الأرض، و وفّر لنا كُلَّ ما نحتاج إليه، و هُنا يحكم العقلُ أيضًا بلزوم أن نشكرَ الخالق على هذه النعم، و أن نتقرَّبَ إليه لنُرضيَه عنا.
المسألةُ من هذه الناحيةِ واضحةٌ جدًا.
تصوّر لو أن شخصًا فقيرًا جدًا، و مريضًا جدًا، طُرِق عليه الباب، و إذا بحقيبةٍ مملوءةٍ بالمال وُضِعتْ أمامَ باب بيته، و فيها ورقة: اِستعِن بهذه الأموال لتحسينِ وضعك المعاشي، ولعلاجِ مرضك ، هل ترى هذا المريض يأخذها ويُنهي الأمر ؟ أو تراه يُحاوِلُ أنْ يجدَ الشخصَ الذي أرسلَ له المال؛ ليشكره وليحاولَ أن يردّ له الجميل، وليس بأيةِ طريقة، وإنما بالطريقةِ التي يُحبُّها ذلك الشخصُ الذي أرسلَ الأموال؟!
ص: 107
فالمسألةُ إذًا بديهيةٌ، فما دام الخالقُ عزّ و جل أوجدنا، و وفّرَ لنا كُلَّ ما نحتاج إليه في هذه الحياة، فلا بُدَّ أن نشكرَه بالطريقةِ التي يُريدُها الخالق عز وجل.
فما هيَ الطريقة للتواصل مع ذلك الخالق؟
وكيف نعرف ما يُرضي الخالق لنعمل على التزامه؟
أن نعملَ ما يحلو لنا من أعمال، من دون أن نعرفَ الخالقَ و لا ما يُرضيه، وإنّما كُلُّ فردٍ يعملُ ما يحلو له؟
هذا الاحتمالُ غيرُ صحيحٍ بلا شك؛ لأنّه:
أولاً: قد نعملُ أعمالًا نحسبُ أنّها تُرضي الخالق، ولكنّها تُغضبه.
ومثالٌ على ذلك: لو كانَ أبي مريضًا، يضرُّه استعمالُ السكر، وأنا لم أكن أعلمُ بذلك، فأتيتُ له بالحلوى، فأكلَها فازدادَ مرضه؟!
أليسَ هذا الأمرُ قبيحًا.
المثال يُقرِّبُ من جهة، ويُبعِّدُ من جهات، والمقصودُ أنّنا قد نفعلُ فعلًا نتوهَّمُ أنّه يُرضي الخالق، وإذا به يُغضِبُه، كما كانَ يفعلُ المشركون الذين كانوا يعبدون غيرَ الله (تعالى) ليتقرَّبوا له!
قال (تعالى): «أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
ص: 108
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» (1).
العقلُ يحكمُ بلزومِ معرفةِ ما عند المُنعمِ لنشكره كما يُريد هو.
من هُنا وردَ عن الإمام الصادق علیه السلام ما يدلُّ على أنَّ إبليسَ أرادَ أَنْ يقترحَ طريقةً معينةً للعبادة على الله (تعالى)، ولكنّها كانت طريقةً تؤدي إلى الغضب الإلهي، فقد رويَ أنَّه علیه السلام قال في رواية: «...ثُمَّ قَالَ اللهُ عزَّ و جَل لِلْمَلاَئِکَهِ: اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَأَخْرَجَ إِبْلِیسُ مَا کَانَ فِی قَلْبِهِ مِنَ الْحَسَدِ، فَأَبَی أَنْ یَسْجُدَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «ما مَنَعَکَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ»، فَقَالَ: «أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ»،(2) قَالَ الصَّادِقُ عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «فَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِیسُ وَ اسْتَکْبَرَ، وَ الاِسْتِکْبَارُ هُوَ أَوَّلُ مَعْصِیَةٍ عُصِیَ اللهُ بِهَا»، قَالَ: «فَقَالَ إِبْلِیسُ: یَا رَبِّ أَعْفِنِی مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ وَ أَنَا أَعْبُدُکَ عِبَادَهً لَمْ یَعْبُدْکَهَا مَلَکٌ مُقَرَّبٌ وَ لاَ نَبِیٌّ مُرْسَلٌ، فقَالَ الله: لاَ حَاجَةَ لِی إِلَی عِبَادَتِکَ، إِنَّمَا أُرِیدُ أَنْ أُعْبَدَ مِنْ حَیْثُ أُرِیدُ لاَ مِنْ حَیْثُ تُرِیدُ، فَأَبَی أَنْ یَسْجُدَ، فَقَالَ الله تَعَالَی« فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّکَ رَجِیمٌ. وَ إِنَّ عَلَیْکَ اللَّعنَةَ إِلی یَوْمِ الدِّینِ». (3) (4)
ثانيًا: أنَّ الواقعَ يشهدُ على أنَّ الناسَ حينما لم يرجعوا إلى الدين، فإنهم لم يتفقوا على طريقةٍ معينةٍ للعبادة، و لذا فالبعضُ عبَد البقر، والبعضُ عبَد
ص: 109
الشجر، والبعضُ عبَد صنمًا صنَعه من خشبةٍ أو من حجرٍ أو من تمرةٍ، والبعضُ عبَدَ الله (تعالى) على سبعين حرفًا، والبعضُ عبَد الله (تعالى) وأشرك به دونه، وهكذا.
وهذا يعني أنّ الناسَ بعقولِهم لا يستطيعون الوصولَ إلى الرضا الإلهي، أو بتعبيرِ بعض الروايات: أنَّ عقولَ البشر وحدَها لا يُمكنها أن تصلَ إلى الدين الذي يرتضيه الباري عزّ و جل.
ومن هُنا وردَ عن الإمامِ عَلِیُّ بْنُ الْحُسَیْنِ علیهما السلام: «إِنَّ دِینَ اللهِ عزّ و جَل لَا یُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَایِیسِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا یُصَابُ إِلَّا بِالتَّسْلِیمِ، فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ، وَ مَنِ اقتَدَی بِنَا هُدِیَ، وَمَنْ کَانَ یَعملُ بِالْقِیَاسِ وَالرَّأْیِ هَلَکَ، وَ مَنْ وَجَدَ فِی نَفْسِهِ شَیْئاً مِمَّا نَقُولُهُ أَوْ نَقْضِی بِهِ حَرَجاً کَفَرَ بِالَّذِی أَنْزَلَ السَّبْعَ الْمَثَانِی وَالْقُرْآنَ الْعَظِیمَ وَهُوَ لَا یَعْلَمُ.» (1)
أن نفترضَ: أنَّ اللهَ (تعالى) يتخذ من جميع الناس _ صغيرهم و كبيرهم، حرهم وعبدهم، ذكرهم وأنثاهم، عالمهم وجاهلهم..._ أنبياء، فيوحي للجميع ، والجميعُ يتصلون مُباشرةً بالوحي الإلهي.
هذا الاحتمالُ مُمكنٌ في حد نفسه، أيّ إنَّ اللهَ (تعالى) يستطيعُ أن يتخذَ الجميعَ أنبياء، ولكنّه يواجه إشكالاتٍ عديدة، منها:
ص: 110
أولًا: أنَّ هذا الأمرَ - على كُلِّ حال - لم يقع، فلسنا أنبياءً، ولم يوحِ اللهُ (تعالى) لجميعِ الناس، ومن ثَمّ فهذا مجرَّدُ احتمالٍ لا واقعَ له، ولا ينفعُ في الإجابةِ عن سؤالِ البحث.
ثانيًا: أنّ المعروفَ من طريقةِ الله (تعالى) في اتخاذِ الأنبياءِ أنْ تكونَ وفقَ حكمةٍ بالغة، و هي تقتضي اتصافَ الأنبياءِ بصفاتٍ عظيمة، ومنها العصمة والصبر والإيمان الراسخ والعلم اللدني وغيرها، و إلى بعض تلك الصفات يُشيرُ قولُه (تعالى): «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ». (1)
فالله عزّ و جل لم يجعلِ الجميعَ أئمةً وأنبياءً، وإنّما اختارهم وفقَ مواصفاتٍ
خاصة، من قبيل الصبر، واليقين.
وهكذا ما وردَ في النبي إبراهيم علیه السلام، حيثُ إنّه مرّ بالكثيرِ من الاختباراتِ حتى وصلَ إلى مرحلةِ الاصطفاء والإمامة، وكانَ من ضمنِ اختباراته أمرُه بذبحِ ولده، قال (تعالى): «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ». (2)
و هذه المواصفاتُ غيرُ متوفرةٍ لدى الجميع كما هو واضح، قال (تعالى):
ص: 111
«وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ». (1) (1)
إذن هذا الاحتمال أيضًا غير نافع.
وهذا هو الاحتمالُ الصحيحُ، وهو الواقعُ؛ إذ إنَّ اللهَ (تعالى) أوحى إلى بعضِ الرجال، ممّن يتصفون بصفاتٍ عظيمة، أشرنا إلى بعضها، وهؤلاءِ الأنبياءُ قاموا بتبليغِ الناسِ أوامرَ الله (تعالى)، والناسُ إنّما عرفوا دينَ الله (تعالى) من خلال هؤلاء الأنبياء.
وهذا ما يفتح ملفًا جديدًا للعقائد، وهو ملف: النبوة.
1- أنَّ على الإنسانِ أنْ يُرضيَ خالقه، وهذا يقتضي أن نعرفَ الطريقةَ المناسبةَ للوصول إلى معرفةِ ما يُرضيه (تعالى).
2- ليسَ من الصحيحِ أن تكونَ الطريقةُ للعبادةِ هي الرأيَ الشخصي؛ لأنَّ الإنسانَ ليست له علاقةٌ مباشرةٌ مع الله (تعالى)، ليعرفَ ما يُريده منه، بالإضافةِ إلى أنَّ البشرَ مُختلفون فيما بينهم في أمورِهم، ومنها الأمورُ الدينية.
3- كما أنّه ليس من الصحيح أن نفترضَ أنَّ الطريقةَ الصحيحةَ لمعرفةِ ما يُرضي اللهَ (تعالى) هو أن يكونَ الجميعُ أنبياء؛ لأنَّه أمرٌ لا واقعَ له، بالإضافةِ إلى أنَّ أكثرَ الناس غيرُ مؤهّلين ليكونوا أنبياء.
ص: 112
4- فالطريقُ الصحيحُ إذن هو الإيحاءُ إلى بعض الرجال بمواصفاتٍ خاصةٍ، وهم الأنبياء، وهم بدورهم يقومون بتبليغِ الناسِ دينَهم، وعلى الناس أنْ يُطيعوهم.
ص: 113
السؤال الأول: لِمَ لزمَ علينا أن نشكرَ الخالق؟
السؤال الثاني: العقلُ كافٍ في اختيار الطريقة المناسبة لعبادة الله (تعالى)
وشكره على نعمه التي انعم بها علينا ..
كلامٌ ينتشر في أوساط المراهقين والشباب اليوم، ما مدى صحته؟ ناقش ذلك.
السؤال الثالث: إذا كان الإيحاءُ إلى جميع الناس كفيلاً بتبليغهم رسالة الله (تعالى) من جهة، وكان الله (تعالى) رحيماً بعبيده رؤوفًا بهم جميعًا ولا بخل في ساحته من جهةٍ أخرى، لِمَ لم يتخذِ (سبحانه) جميع الناس أنبياءً؟
السؤال الرابع: ما الطريق الذي اتخذه الله (تعالى) لتبليغ عباده رسالته؟
ص: 114
قال (تعالى): «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ». (1)
النبوة تعني: أنَّ اللهَ (تعالى) يتخذُ من بعضِ عبيده وسائطَ بينه وبين الناس؛ ليُعلَّموهم أمورَ دينهم، ويُبيّنوا لهم شريعته، ويقضوا بينهم بالقضاءِ الحقّ عند حدوثِ مُنازعاتٍ بينهم، ويسنّوا لهم القوانين التي تنفعهم في الدُّنيا، وتؤدّي بهم إلى الفلاح في الآخرة.
النبوةُ تعني أنَّ اللهَ (تعالى) يُبيِّنُ للناسِ ما يُريده منهم، وما يُنجيهم في الدنيا والآخرة، من خلال الأنبياء، فهي أشبهُ شيءٍ بالمصباح الذي يُضيء لنا الطريقَ ويكشف الظلام، ولذا، فمهمةُ الأنبياءِ هي بيان الدين للناس، وتبليغهم الشريعة.
و لا تعني النبوَّةُ أنّ الله (تعالى) يسلبُ إرادةَ الإنسانِ، و يُجبرُه على فعلِ
ص: 115
الطاعة وترك المعصية، بحيث يتحوّلُ الإنسانُ إلى ما يشبهُ الآلةَ التي لا تتحرّكُ بإرادتِها ولا باختيارها، كلا، وإنّما هي تعني بيانَ الطريق، وتركَ الاختيارِ للناس في أن يتبعوا الأنبياءَ فيفوزوا في الدنيا والآخرة، وبين أن يخالفوهم فيخسروا الدنيا والآخرة، فهذا هو الاختبارُ الذي تُرِكَ أمره للإنسان في أنْ يختارَ أحدَ الطريقين.
وهذا المعنى هو ما بيّنته النصوصُ من خلال طريقين:
الطريق الأول: بيانُ أنَّ مهمّةَ الأنبياءِ هي البلاغ والبيان، لا الإجبار. قال (تعالى): «مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ». (1)
و قال (تعالى): «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ». (2)
وقال (تعالى):« وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ».(3)
فإذا خالفَ الناسُ الأنبياءَ، فهم يتحمّلون مسؤوليةَ المُخالفة، قال (تعالى): «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ... ».(4)
الطريق الثاني: بيانُ أنَّ مهمةَ الناس هي الاتباع، وأنّهم مُختارون في أنْ ينتخبوا الطريقَ الذي يرغبون به، سواء أكانَ طريق الحق أم طريق الباطل.
ص: 116
قال (تعالى):«وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى». (1) فهذه الآياتُ واضحةٌ في أنّ الإنسانَ هو الذي يسعى ويعمل، وأنّه سوف يُجزى على أساسِ ما عمله هو .
و قال (تعالى): «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ». (2) وهذه الآيةُ واضحةٌ في أنَّ الإنسانَ مرهونٌ بعمله الذي كسبه هو.
و قال (تعالى):«إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا».(3) الآيةُ تُبيِّنُ أنَّ اللهَ (تعالى) يهدي الإنسان السبيل، أي يُبيّن له طريقَ الحق، ويكشف له عن الباطل، ولكن الإنسان هو الذي يختار أن يكون شاكرًا، أو كفورًا.
ليس هناك من طريقةٍ للحصولِ على منصبِ النبوة إلا من خلالِ التعيينِ الإلهي، فليستِ النبوةُ منصبًا دنيويًا يحصل عليه الإنسان مثلًا بالمال، أو بالدراسة، أو بانتخاب الناس له، فلا يحقّ لأيّ أحدٍ أنْ يُنصَّبَ نفسَه نبيًا، أو يُنصَّبَ غيره نبيًا، وإنّما هو منصبٌ إلهي حصرًا.
قال (تعالى): «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ». (4) فالجعلُ والتنصيبُ إنّما هو من الله (تعالى)، لا من غيره.
ص: 117
وقال (تعالى): «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ...». (1)
إِنَّ اختيارَ النبي ليست مسألةً سهلة، ولا متاحةً للناس؛ لأنَّ الناسَ لا يعلمون بواطن الإنسان، فقد يختارون شخصًا لهذا المنصب، ولكن يتبيَّنُ فيما بعد أنّه إنسانٌ غيرُ مؤهَّلٍ لهذا المنصب، فيتخذ منه وسيلةً لإشباعِ رغباته الدنيوية، وقد يتسلّطُ على رقابِ الناس فيظلمهم فيما بعد، كما يحصلُ في بعض رؤساء الدول، حيثُ إنّهم يخدعون الناس بشعاراتهم البراقة، وما أنْ يصلوا إلى دفةِ الحكم حتى يظلموهم.
أما الله (تعالى)، فحيث إنّه العالمُ بدواخل الإنسان كما هو عالمٌ بظواهره، وحيثُ إِنَّ الحكيمَ الذي لا يفعل إلا الشيء الصحيح، وحيثُ إنّه القادرُ على كُلِّ شيء، فلا يستطيع شخصٌ أن يخدعه، أو يخرجَ عن سلطانه، فإذن، هو الموجود الوحيد الذي يُمكنُه أن يختارَ الشخصَ المناسبَ للنبوة .
ولذلك لم نجد أي نبيٍّ يدعو الناسَ إلى عبادةِ غيرِ الله (تعالى) مثلًا، أو يظلم الناس، أو يستغل منصبه لمصالحه الشخصية.
قال (تعالى): «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ».(2)
ص: 118
وقال (تعالی):«وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». (1)
أن يوحي اللهُ (تعالى) إلينا ويُعرّفنا بأنَّ هذا الشخص هو نبی.
وهذا الطريقُ مُمكنٌ، ولكنّه يعني أنّنا سنكونُ كُلّنا أنبياء، وقد تقدّمَ أَنَّ هذا الطريقَ ليس واقعًا .
أن نعرفَه من خلال الأحلام مثلًا.
و هذا الطريقُ ليس بصحيحٍ؛ لأنّه غيرُ مُنضبط أولًا، و لأنّه ليس عامًا لجميعِ الناس ثانيًا، و لأنّه يُمكنُ الكذب فيه ثالثًا، فينفتحُ البابُ لكُلِّ من هبّ و دبّ أنْ يدّعيَ النبوة، و سوف يجد أنصارًا له يدّعون أنّهم رأوه في أحلامهم
ص: 119
أنه نبي، وهكذا تضيع الحقيقة.
بأنْ يأتيَ المُدّعي للنبوةِ بشيءٍ خارقٍ للعادة، لا يستطيعُ البشرُ ولو اجتمعوا أن يأتوا بمثل ما أتى به، فالعقلُ حينها يقولُ: إنَّ هذا الشخصَ لا بُدَّ أنْ يكونَ مؤيدًا من الخالق؛ لأنّه جاء بأمورٍ لا يستطيعُ البشرُ العاديون أن يأتوا بمثلها، فلا بُدّ أنْ يكونَ على صلةٍ مع الخالق القادر، وذلك الخالق القادر هو من أعطاه المعجزة في ذلك.
وهذا الطريقُ الثالثُ هو الذي كان عند الأنبياء، وهو الذي كانَ يطلبُه الناسُ من الأنبياء عندما يدّعون النبوة، فهذا فرعون، رغم أنّه ادّعى الألوهية، ولكنّه طلبَ من النبي موسى علیه السلام أن يأتيه بمعجزة تدلُّ على صدقه، قال (تعالى): «وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ». (1)
وهكذا قومُ النبي صالح علیه السلام طلبوا منه أنْ يأتيَهم بآيةٍ تدلُّ على صدقه، فجاءهم بالناقة، قال (تعالى): «مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ». (2)
ص: 120
1/ أنَّ النبوَّةَ تعني الوساطةَ بينَ الله (تعالى) وبينَ البشرِ لمعرفة الدين.
2/ أنَّ مهمةَ النبي هي البلاغ، لا سلب إرادة الناس وإجبارهم على الطاعة.
3/ أنَّ النبوةَ منصبٌ إلهي حصرًا، فالطريقُ الوحيدُ للحصول عليها هو التنصيبُ الإلهي.
4/ أنَّ الطريقَ لمعرفةِ صدقِ مُدّعي النبوة هو أنْ يأتيَ بالمعجزة التي يعجزُ جميعُ الناس عن الإتيانِ بمثلها.
ص: 121
السؤال الأول: عرِّفِ النبوة؟
السؤال الثاني: بيّنتِ النصوص مهمة الأنبياء من خلال طريقين . اذكرهما.
السؤال الثالث: إِنَّ اختيارَ النبي ليس مُتاحاً للناس. علِّل ذلك.
السؤال الرابع: كيف نعرفُ النبي ؟
السؤال الخامس: لِمَ يحكم العقل بضرورة طلب المعجزة ممّن يدّعى النبوة؟
ص: 122
قال (تعالى): «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ». (1)
هل يجبُ أن يكونَ الأنبياءُ معصومين؟
لمعرفةِ الجواب نذكر ثلاثة أمور:
أ- لا شكّ أنّ هناك أمورًا يحكمُ العقلُ بكونها حسنة، كالعدل، والإحسان على اليتيم، و مساعدة المحتاج، و إغاثة الملهوف.
و أنَّ هناك أمورًا يحكمُ العقلُ بقُبحها، كالظلم، وأكل مال الغير بلا حق، و السرقة، و ما شابه.
و أنَّ الدينَ أمرَ بالواجبات، كالصلاة والصوم، و برِّ الوالدين، و نهى عن المحرمات، كالغيبة، و أكل مال اليتيم ظلما، و عقوق الوالدين، و غيرها.
ص: 123
ب - و أنَّ هناكَ أمورًا هي ليست قبيحةً في حد نفسها، و لا مُحرَّمة، و لكنّها لا تليقُ ببعضِ الأشخاص، كما لو رأينا رجلًا كبيرَ السن، يأكلُ ماشيًا، والأكلُ يتساقطُ من یدیه و فمه، أو کما لو رأینا امرأةً تضحكُ بصوتٍ مسموعٍ فی الشارع، و ما شابه من الأمورِ التي نعدّها لا تليقُ بالإنسانِ الوجيه، والمحترم، أو مثلما يُطلق عليها: أنّها أمورٌ تخالفُ المروءة.
ج - هناك ذنوبٌ تُسمّى بالكبائر، و هناك ذنوبٌ تُسمّى بالصغائر، والإنسانُ قد يمتنعُ عن فعل الكبائر، ولكنّه قد يفعل الصغائر بين الفينة والأخرى.
د- قد يفعلُ الإنسانُ بعضَ الأخطاء، ولكنّه لا يفعلها عن عمد، وإنّما قد يشتبه، أو ينسى، أو يغفل، أو قد يكونُ جاهلًا بأنّ هذا الفعلَ خاطئٌ أو مُحرّمٌ أو مُخالفٌ للمروءة.
إذا تبينت هذه الأمورُ نقول:
إنَّ معنى العصمة: هو أنَّ المعصومَ لا يفعلُ الذنبَ -سواء كان صغيرًا أم كبيرًا - ، ولا الخطأ، ولا ما يُخالفُ المروءة، لا عمدًا، ولا سهوًا، وخطأً، ولا نسيانًا، ولا جهلًا، ولا غفلة.
المعصومُ هو من يكونُ مُلتزمًا بأحكامِ العقل، وأحكامِ الشرع، ويكونُ ذا أخلاقٍ مُستقيمة .
المعصومُ مَنْ إذا رأيتَه رأيتَ الدين، و الأخلاقَ، و المروءةَ، مُتجسِّدةً فيه.
ص: 124
فالعصمةُ إذن، «هي التنزُّهُ عن الذنوبِ والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان... بل يجبُ أنْ يكونَ مُنزّهًا حتى عمّا يُنافي المروة، كالتبذُّلِ بين الناسِ، من أكلٍ في الطريق، أو ضحكٍ عالٍ، وكُلِّ عملٍ يُستهجَنُ فعلُه عند العرف العام». (1)
إذا كانَ الإنسانُ معصومًا، فهل معنى هذا: أنّه لا يستطيعُ أنْ يفعلَ المعصية، كما لا يستطيعُ أحدُنا أنْ يطيرَ بلا جناحين؟
الجواب:
لا، العصمةُ لا تجبرُ المعصومُ على تركِ الذنوب والأخطاء، وإنّما هو من يتركُها بإرادته واختياره، فالمعصومُ يتمكَّنُ من فعلِ المعصيةِ متى أراد، ولكنّه لا يفعلها أبدًا، بإرادته، وباختياره؛ لأنّه يخافُ اللهَ (تعالى) حقَّ مخافته، ويعلمُ أنَّ الذنوبَ عبارةٌ عن جيفةٍ نتنة، والعاقلُ يترفّعُ عن أن يلمسَ الجيفة.
ومن هُنا، كانَ أميرُ المؤمنين علیه السلام يستطيعُ أن يكون ماكرًا وداهيةً كما كانَ
معاوية وعمرو بن العاص، ولكنّه بإرادته - لأنّه معصوم - لم يفعل ذلك.
قال علیه السلام:«هَيْهَاتَ لَوْلاَ التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ...». (2)
و عنه علیه السلام: «وَ الله مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهى مِنِّى، و َلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ، و َلَوْلا
(1)
(2)
ص: 125
كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَ لَكِنْ كُلُّ غَدْرَةٍ فَجْرَةٌ، وَ كُلِّ فَجْرَةٍ كَفْرَةٌ، وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَ الله مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ، وَ لاأُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ. [ أي لا يستضعفني شديد القوَّة] (1)
يمكننا معرفةُ الجواب عبر ما يأتي:
أ- إنَّ اللهَ (تعالى) عندما أرسلَ الأنبياءَ، أمرَ الناسَ بأنْ يُطيعوهم طاعةً مطلقةً في كُلِّ ما يقولون لهم، قال (تعالى): «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله».(2)
ومن ثمّ، فمن يعصِ الأنبياء، يكُنْ قد عصى الله (تعالى)، قال (تعالی): «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا».(3)
ب- لو لم يكُنِ النبيُّ معصومًا ، لأمكنَ أن يصدر منه الخطأ، والمعصية، من قبيل: أنْ يأمرَنا بشيء، على أنّه أمرٌ واجب، ولكنّه في الواقع و في علمِ اللهِ (تعالى) يكونُ معصية.
فما دامَ النبيُّ -حسب الفرض - ليس معصومًا، إذًا، يُمكِنُ أنْ يأمرَنا بمعصية، أو ينهانا عن واجب.
أمامَ هذا الواقع، نحنُ بين أمرين:
ص: 126
إمّا أَنْ نُطيعَ النبيَّ - غير المعصوم حسب الفرض - في أمره ونهيه، و إمّا أن لا نُطيعَه.
ونحنُ على كُلِّ حالٍ سنقعُ في المعصية !
لأنّنا إذا أطعناه، فقد عصينا الله (تعالى)؛ لأنّ النبيَّ أمرنا بشيءٍ هو في واقعه معصيةٌ لله (تعالى)، فإذا أطعناه، كُنّا قد عصينا اللهَ (تعالى).
وإن لم نُطِعْه، فإنّنا وإن لم نعصِ الله (تعالى) في هذا الأمر، ولكنّنا عصينا الله (سبحانه) في أمرٍ آخر، وهو الأمر بطاعةِ الأنبياءِ في كُلِّ ما أمروا به!
فلو لم يكُنِ النبيُّ معصومًا، لأدّى ذلك إلى أنْ يقعَ الناسُ في المعصيةِ على كُلِّ حال.
وإنما يقعُ الناسُ في المعصية على كُلِّ حالٍ؛ لأنَّ اللهَ (تعالى) أمرنا أنْ نُطيعَ
النبيَّ مُطلقًا.
وإيقاعُ الناس في المعصية، ثم معاقبتهم عليها، أمرٌ قبيحٌ عقلًا واللهُ (تعالى) لا يفعلُ القبيحَ؛ لأنَّه حكيمٌ كما تقدّم.
ليس هذا فحسب، بل إنَّ إمكانَ صدورِ المعصيةِ من النبي، يوجِبُ أَنَّ الناسَ سيفقدون الثقةَ في كُلِّ ما يقوله أو يأمر به؛ لأنَّ كُلَّ أمرٍ يأمرُ به سنحتمّلُ فيه أنّه خطأ، فلا نتبعه، فتذهب فائدةُ البعثة، وتكونُ عبثًا ولغوًا.
ولذلك، فإنَّ اللهَ (تعالى) عندما جعلَ النبيَّ إبراهيم علیه السلام إمامًا، فإنّه علیه السلام طَلَبها لذريته، فقال الله (تعالى) له: إنَّ العهدَ الإلهي (الإمامة) لا ينالُ أيَّ
ص: 127
ظالمٍ، سو اءَ أكانَ ظالمًا لنفسه بالكفر والشرك، أم ظالمًا لغيره بالظلم والاعتداء وما شابه، مما يعني أن العهد الإلهي (أي النبوة والإمامة) لا تكون إلا لمن لم يقع في ظلمِ نفسه، ولا ظلم الآخرين أبدًا، وهو معنى المعصوم.
وهو قوله (تعالى): «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ». (1)
1/ أنَّ العصمةَ هي الامتناعُ عن المعاصي مطلقًا.
2/ أنَّ المعصومَ يتمكَّنُ من فعلِ المعصية، ولكنّه يتركها باختياره.
3/ أنَّ اللهَ (تعالى) أمرنا أنْ نُطيعَ الأنبياءَ مطلقًا، وهذا لا يصحُّ عقلًا إلا مع افتراضِ أنَّ الأنبياءَ معصومين.
4/ لو لم يكن الأنبياء معصومين لوقَعنا في المعصية على كل حال، وهذا قبيح عقلاً.
5/ لو لم يكُنِ الأنبياءُ معصومين، لفقدنا الثقةَ في كُلِّ ما يقولونه، ولكانتْ بعثُهم لغوًا وعبثاً.
ص: 128
السؤال الأول: ما العصمة؟ و من المعصوم؟
السؤال الثاني: هل العصمةُ تجبرُ المعصوم على تركِ الذنب؟
السؤال الثالث: ماذا نستفيد من قول أمير المؤمنين: «هَيْهَاتَ، لَوْ لَا التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى العَرَب...؟؟
السؤال الرابع: لماذا يجبُ أن يكونَ الأنبياءُ معصومين؟
السؤال الخامس: لولا عصمة الأنبياء عليهم السلام لكانت بعثتهم عبثًا ولغوًا. ناقش العبارة.
السؤال السادس: ماذا تفهم من قوله (تعالى): «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله» ؟
السؤال السابع: يعتقدُ البعضُ أنَّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم معصومٌ في التبليغ، ولكن لا تُشترطُ عصمته عن الخطأ.
ما رأيك باعتقاده؟ صوِّبه فيما إذا كان مخطئًا فيه.
ص: 129
ص: 130
يُمكِنُ أَنْ نُثبتَ نبوَّةَ نبيّنا صلی الله علیه و آله و سلم من خلالِ طُرُقٍ عديدة:
فالنبيُّ عيسى علیه السلام مثلًا كانَ يُبشِّر قومَه بالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، قال (تعالى): «وَ إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ». (2)
القرآنُ الكريم هو كتابُ الله (تعالى)، و هو كتابٌ معجزةٌ -كما سنُبيِّنُ ذلك قريبًا إن شاء الله (تعالى) - و هو قد أخبرَ بأنّ محمدًا صلی الله علیه و آله و سلم هو رسولُ الله،
ص: 131
فتثبتُ نبوته صلى الله عليه و آله و سلم.
قال (تعالى): «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...». (1)
و قال (تعالى): «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا». (2)
و قال (تعالى):«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ آمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُم». (3)
و قال (تعالى):«مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله...».(4)
تقدَّمَ أَنَّ اللهَ (تعالى) يؤيّد أنبياءه بالمعجزات، حتى يكتشفَ الناس صدقَ مُدّعي النبوة، وقد ثبتَ أنَّ نبيّنا الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد جاءَ بمعجزة، وهي القرآن الكريم، فيُثبت أنّه صلی الله علیه و آله و سلم نبي و رسول من الله (تعالى).
إنَّ إعجازَ القرآن الكريم كانَ من جهاتٍ عديدة، أهمُّها البلاغة، وقد كانَ العربُ سابقًا قومًا بلغاء، وكانوا يُميزون الكلامَ البليغ عن غيره، وكانوا يحترمون الشعراء الذين يأتونَ بشعرٍ لا يستطيعُ غيرُهم أنْ يأتيَ بمثله، ولذا كانوا يُعلِّقون المُعلّقاتِ السبعةَ على جُدران الكعبة.
ص: 132
وعندما سمعوا آياتِ القرآن الكريم عرفوا أنّها من النوع الذي لا يُمكِنُ لبشرٍ أنْ يأتيَ بها، وقد عجزوا عن مُجاراة القرآن أو الإتيان بمثله، بل إنّهم عرفوا أنّ فيه من البلاغةِ ما يكونُ كلامُهم معه ساذجًا ولا قيمةَ بلاغية له، حتى أنَّ قريشَ أنزلوا المُعلَّقاتِ التي كانتْ مُعلّقةًً على أستارِ الكعبةِ استحياءً من سذاجتها بالمقارنةِ بالقرآن الكريم؛ لأنّهم وجدوا في القرآنِ من البلاغةِ ما لا تُقاسُ به المعلقات. (1)
إنَّ القرآنَ الكريمَ قد تحدّاهم بأن يأتوا بعشر سورٍ، ولكنّهم عجزوا، قال (تعالى):«أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». (2)
ثم تحداهم أن يأتوا بسورةٍ واحدة ، قال (تعالى):«وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». (3)
وقال (تعالى):«أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». (4)
فعجزُهم - و هم أهلُ البلاغة و الفصاحة- يكشفُ عن أنَّ القرآنَ الكريم
ص: 133
ليس كلامًا من البشر، و إنّما هو من خالقِ البشر، وقد أتى به النبيُّ الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم،فيثبتُ أنّه صلی الله علیه و آله و سلم نبي.
وقد ذكر التاريخُ الكثيرَ من الشواهدِ والرواياتِ على أنَّ المشركين كانوا يعرفون أنَّ القرآنَ الكريمَ فيه من البلاغةِ ما يفوقُ قُدُراتِ البشر، ولكنّهم كانوا يُظهرون عدمَ الإيمان به من بابِ العناد وحُبِّ الدنيا وحُبِّ المناصب.
ومن ذلك ما رويَ من أنَّ كبارَ قريش كانوا يأتون ليلًا ليستمعوا القرآن الكريم؛ لأنَّ بلاغته كانتْ تأسرُ قلوبهم، فقد رويَ أنَّ أبا جهل، و أبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلةً ليستمعوا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذَ كُلُّ رجلٍ منهم مجلسًا ليستمع فيه، وكلٌ لا يعلم بمكانِ صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلعَ الفجر تفرّقوا، فجمعتهم الطريق، فتلاوموا ، وقال بعضُهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعضُ سُفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا.
ثم انصرفوا، حتى إذا كانتِ الليلة الثانية عادَ كُلُّ رجلٍ منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلَع الفجر تفرّقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة.
ثم انصرفوا، فلمّا كانت الليلة الثالثة، أخذ كُلُّ رجلٍ منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلعَ الفجر تفرّقوا، فجمعتهم الطريق، فقالوا: لا نبرحُ حتى نتعاهدَ لا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.
ص: 134
فلما أصبحَ الأخنس بن شريق، أخذَ عصاه، ثم خرج، حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة، عن رأيك فيما سمعتَ من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياءَ أعرفُها، وأعرفُ ما يُرادُ بها. فقال الأخنس: وأنا والذي حلفتُ به.
ثم خرجَ من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخلَ عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيكَ فيما سمعتَ من محمد؟ فقال: ماذا سمعت! تنازعنا نحنُ وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكُنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى نُدرِكُ هذه؟! واللهِ لا نؤمنُ به أبدًا، ولا نُصدِّقُه، فقامَ عنه الأخنسُ بن شريق. (1)
ومن ذلك أيضًا ما رواه هشامُ بن الحكم، قال: اجتمعَ ابنُ أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفَّع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤون بالحاجِّ ويطعنون بالقرآن.
فقال ابنُ أبي العوجاء: تعالوا ننقضُ كُلُّ واحدٍ منّا ربعَ القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمعُ فيه وقد نقضنا القرآنَ كُلَّه، فإنَّ في نقض القرآنِ إبطالَ نبوَّةِ محمّد، وفي إبطالِ نبوَّته إبطالُ الإسلام، وإثباتُ ما نحنُ فيه، فاتَّفقوا على ذلك وافترقوا.
فلمَّا كان من قابلٍ اجتمعوا عندَ بيتِ الله الحرام، فقال ابنُ أبي العوجاء: أمَّا
ص: 135
أنا فمُفکِّرٌ مُنذُ افترقنا في هذه الآية: «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا»،(1) فما أقدرُ أنْ أضمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئًا، فشغلتني هذه الآية عن التفكُّر في ما سواها.
فقال عبد الملك: وأنا مُنذُ فارقتكم مُفكِّرٌ في هذه الآية: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»،(2) ولم أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال أبو شاكر: وأنا مُنذُ فارقتكم مُفكِّرٌ في هذه الآية: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا»،(3) لم أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال ابنُ المُقفَّع: يا قوم، إنَّ هذا القرآنَ ليس من جنسِ كلام البشر، وأنا مُنذُ فارقتكم مُفكِّرٌ في هذه الآية: «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (4) ، لم أبلغ غايةَ المعرفةِ بها، ولم أقدر على الإتيانِ بمثلها.
قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرَّ بهم جعفر بن محمّد الصادق علیهما السلام، فقال: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
ص: 136
هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا». (1)
فنظرَ القومُ بعضُهم إلى بعض وقالوا: لئن كانَ للإسلامِ حقيقةٌ لما انتهت امرُ وصيَّةِ محمّدٍ إلّا إلى جعفر بن محمّد، واللهِ ما رأيناه قطُّ إِلَّا هِبناه واقشعرّت جلودُنا لهيبته، ثم تفرَّقوا مُقرّين بالعجز. (2)
ويمكن إثبات الإعجاز القرآني عقلًا أيضًا؛ إذ لو لم يُشكلِ القرآن الكريم معجزةً أعجزت المشركين عن أن يأتوا بمثله أو بعشر سورٍ من مثله أو بسورةٍ واحدةٍ حتى، لاختاروه سبيلًا لمواجهة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم، ولتجنّبوا مواجهته بالسبيل الأصعب سبيل الحروب وما يترتبُ عليها من عواقب وخيمة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي معًا. فاختيارهم مواجهة النبي صلی الله علیه و آله و سلم مواجهةً عسكريةً دليلٌ قاطعٌ على أنَّ القرآن الكريم معجزةٌ.
إنَّ لدى العقلِ قُدرةً في بعضِ الأحيان على اكتشافِ صدقِ المُدّعي من كذبه، وذلك عندما يقرأ سيرته، وتصرفاته، وأهدافه من الحركة، ووضعه السابق بين أهله، وما شابه هذه الأمور، لينتهي فيما بعدُ إلى أنّه صادقٌ أو كاذب.
ففي روايةِ دحيةِ الكلبي: قال: بعثنِی رسولُ الله صلّی الله علیه و آله بکتابٍ إلی قیصر، فأَرسلَ إلی الاسقفِ فأَخبره بمُحمَّدٍ صلّی الله علیه و آله و کتابه. فقال: هذا النبیُّ الّذی کُنَّا
ص: 137
ننتظرُه بَشَّرنا به عیسَی ابْنُ مریَم .
فقال الاسقُف: أمَّا أنا فمُصدِّقُه و مُتَّبِعُهُ. فقال قیصر: أمَّا أنَا إن فعلتَ ذلك ذهب مُلکِی. ثُمَّ قَالَ قَیْصَر: التَمسُوا لِی من قومِه هَاهُنَا أحداً أسأَلُه عنه.
و کان أَبو سفیانَ و جماعَةٌ مِنْ قُریشٍ دخلُوا الشَّامَ تجارًا فأحضرَهم قال: لِیَدنُ منّی أقربُکم نَسباً به. فأتاه أبو سفیان فقال: أنَا سائِلٌ عن هذا الرَّجُلِ الّذِی یقول: إنَّه نبیٌّ. ثمَّ قال لأصحَابه: إن كذَب فكذِّبوه.
قال أبو سفیان: لو لا الحیاءُ أن یأثرَ أصحابی عنّی الكذِب لَأَخبَرتُه بخلافِ ما هو علیه.
فقال: كیفَ نَسبُه فیكُم؟ قلتُ: ذو نسبٍ.
قال: فهَل قال هذا القولَ منكم أحدٌ؟ قلتُ: لا.
قال: فهل كُنتم تتَّهِمونه بالكَذِبِ قبل؟ قلت: لا.
قال: فأشرَافُ النَّاس اتَّبعوه أو ضعفاؤُهُم؟ قلتُ: ضعفاؤُهم.
قال: فهل یزیدون أو ینقُصون؟ قلتُ: یَزِیدونَ.
قال: یرتدُّ أحدٌ منهم سخطاً لدینه؟ قلت: لا.
قال: فهل یغدرُ؟ قلتُ: لا.
قال: فهل قاتلکم؟
قلت: نعم.
ص: 138
قال: فكیفَ حرْبُكم و حربه؟ قلت: ذو سجالٍ، مرَّةً له، و مرَّةً علیه.
قال: هذه آیةُ النُّبوَّةِ. قال: فما یأْمرُکم؟ قلت: یَأْمرُنا أن نعبدَ الله وحده، لا نشرکُ به شیئاً، و ینهَانَا عمَّا کان یعبدُ آباؤنا، و یأْمرُنا بالصَّلاةِ و الصَّومِ و العفافِ و الصّدق و أداءِ الْأمانةِ و الوفاءِ بالعهد.
قال: هذه صفةُ نبیٍّ، و قد کُنتُ أعلمَ أنّه یخرجُ و لم أظنّ أنّه منکم، فإنّه یوشکُ أن یملکَ ما تحتَ قدمَی هَاتَیْنِ، و لو أرجو أن أُخلصَ إلیه لتجشَّمتُ لُقیاه، و لو کنتُ عنده لغسلتُ قدمَیه.
و إنَّ النَّصاری اجتمعوا علی الاسْقُف لیقتلوه فقال: اذهبْ إلی صاحبكَ فاقرأ علیه سلامی، و أخبِرْهُ أنِّی أشهدُ أَنْ لا إله إلاّ الله، و أنَّ محمَّداً رسولُ الله، و أنَّ النَّصاری أنکروا ذلكَ علیَّ. ثمَّ خرجَ إلیْهمْ فقتلوه .(1)
كما وقعت الكثيرُ من الحوادثِ بين الأئمةِ وأعدائهم ممن ينكرون فضلهم فضلًا عن إمامتهم، ولكن ما إن يروا دماثةَ خلقهم حتى يحكموا بإمامتهم، منها ما رويَ أنَّه قالَ نَصرانِیٌّ للأِمامِ الباقِرِ علیه السلام: «أنتَ بَقَرٌ! قَالَ علیه السلام: أنَا بَاقِرٌ. قالَ: أنتَ ابنُ الطَّبَّاخَةِ! قَالَ علیه السلام: ذاكَ حِرْفَتُها. قال: أنتَ ابنُ السَّودَاءِ الزِّنْجِیَّةِ الْبَذِیَّةِ! قالَ علیه السلام: إِنْ کُنْتَ صَدَقْتَ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَ إِنْ کُنْتَ کَذَبْتَ غَفَرَ اللهُ لَکَ. قالَ: فَأَسلَمَ النَّصْرَانِیُّ». (2)
و الفرقُ بينَ هذا الطريق و بين طريق المعجزة: أنَّ المعجزةَ طريقٌ عامٌ
ص: 139
لجميعِ الناس، فكُلُّ من يرى المُعجزةَ يعرفُ صدقَ المُدّعي، أما هذا الطريقُ فهو خاصٌ ببعضِ الناسِ الذين يملكون من القدرةِ العقليةِ ما يستطيعون معها تمييزَ الصادقِ من الكاذب.
1/ أنَّ نبوَّةَ نبينا الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم ثابتةٌ بطُرُقٍ عديدةٍ، منها: إخبار الأنبياء السابقين، وإثبات القرآن النبوة له، وإتيانه بالمعجزة، وأنَّ العقلَ يتمكّنُ من إثباتِ نبوّته أيضًا من خلالِ مُتابعةِ صفاتِه الشخصية وحياته اليومية وما يتمتّعُ به من خصائصَ وأخلاق.
2/ إِنَّ أهمَّ جهاتِ إعجازِ القرآنِ الكريم هي جهة البلاغة، وقد تحدّى القرآنُ الكريم بلغاءَ العرب وفصحاءهم أن يأتوا ولو بسورةٍ واحدةٍ مثله، فعجزوا .
3/ أنَّ العنادَ وحُبَّ الدُّنيا والمناصب هو ما كانَ وراء عدمِ إيمان المشركين بالقرآنِ رغم معرفتهم بأنّه من الله (تعالى)، قال (تعالى): «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ». (1)
4/ أنَّ أهمَّ طرقِ إثباتِ نبوةِ النبي هي المعجزة؛ لأنّها طريقٌ عامٌ لجميعِ
الناس، خصوصًا أهلِ الفن الذي تأتي المعجزة على طبقه.
ص: 140
السؤال الأول: كيف يُمكننا إثبات نبوّةِ نبينا الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ؟
السؤال الثاني: يمكن إثبات الإعجاز القرآني نقلًا وعقلًا. اشرح العبارة.
السؤال الثالث: هل بإمكانك أن تثبت نبوة النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم لمنكر نبوته بالاحتجاج بالقرآن الكريم نفسه؟
السؤال الرابع: إن كان المشركين والكفار على يقين بإعجاز القرآن، ومن ثَمّ هم على يقين بنبوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فما الذي حال بينهم وبين تصديقه واتباعه؟
وما الدرس الأخلاقي الذي يمكننا الاستفادة منه؟
السؤال الخامس: لِمَ كانتِ المعجزة أهم طرق إثباتِ النبوة؟
ص: 141
ص: 142
قال (تعالى): «وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى. وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى». (1)
تقدَّمَ أنَّ من أهمِّ الصفاتِ التي يجبُ أنْ يتصفَ بها الأنبياءُ هی صفة العصمة، وتقدَّمَ الدليلُ عليها، وهنا نذكرُ بعضَ الأدلة التي يُستفادُ منها عصمةُ النبي الأكرم محمد صلی الله علیه و آله و سلم:
تؤكِّدُ الآياتُ الأولى من سورةِ النجم أنَّ ما ينطقُ به النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ليس هو من الهوى، ولا من الضلال ولا من الغواية، وإنّما هو وحي.
وما دامَ وحيًا، فهو مُطابِقٌ للواقع تمامًا، ولا خطأ فيه ولا اشتباه ولا نسیان.
فيثبتُ أنَّ ما يقوله النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو حقٌّ دائمًا، وهذا معناه أنَّه صلى الله عليه و آله و سلم معصوم.
وقد استفادَ العلماءُ أنَّ هذا المعنى لا يختصُّ بما يقوله صلى الله عليه و آله و سلم من ألفاظ، و إنّما
ص: 143
هو يشملُ كُلَّ ما يأتي به من أقوالٍ وأفعال، فكُلُّ ما يأتي به هو وحي، فيكون معصومًا في كُلِّ مُفردات حياته.
فائدة: نزول الآية في إثبات ولاية أمير المؤمنين علیه السلام.
إنَّ موردَ نزولِ هذه الآية - كما وردَ في الروايات- هي حادثةٌ مُعينة، وهي أنَّ النبيَّ الأكرمَ صلى الله عليه و آله و سلم أخبرَ الناسَ أنَّه في ليلةٍ معينةٍ سينزلُ نجمٌ من السماء في بيتِ من يكون خليفته، فنزل النجمُ في بيتِ أميرِ المؤمنين علیه السلام. (1)
هناك آياتٌ أمرت الناسَ بأنْ يُطيعوا الرسولَ صلى الله عليه و آله و سلم، طاعةً مطلقة، وأنْ نأخذَ ما يأمرنا به النبي صلى الله عليه و آله و سلم وننتهي عمّا ينهانا عنه بصورةٍ مطلقة، بمعنى أنَّ الآياتِ لم تقُل: أطيعوه في القرآن فقط، أو أطيعوه في الصلاة فقط، وإنّما أمرتنا بأنْ نُطيعه من دون قيدٍ أو شرط، فالطاعةُ الواجبةُ علينا هی طاعةٌ مُطلقةٌ تمامًا.
ص: 144
والآياتُ التي ذكرت هذا المعنى عديدةٌ، منها:
قوله (تعالى): «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». (1)
وقوله (تعالى): «وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ». (2)
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ».(3)
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ».(4)
«وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ». (5)
هذا أولًا.
وثانيًا: إِنَّ افتراضَ لزومِ الطاعةِ المُطلقةِ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، لا يصحُّ إلا مع افتراض عصمته صلى الله عليه و آله و سلم، و إلا - أي لو لم يكُن معصومًا - لاحتملنا أنّه في أمرٍ ما يُخطئ، أو يشتبه، أو ينسى، و من ثم، فإمّا أنْ نَطيعه، فنقع في معصيةِ الله
ص: 145
(تعالى)، أو لا نُطيعه، فنقع في معصيته (تعالى) أيضًا؛ لأنّنا سنُخالف الأمرَ بلزومِ طاعةِ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مُطلقًا .
فينتج: أنّه حتى يصحَّ الأمرُ بالطاعةِ المُطلقة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، لا بُدَّ أنْ يكونَ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم معصومًا، وإلا لوقعنا في المعصيةِ على كُلِّ حال.
هناك بعضُ الآياتِ التي أمرت بطاعةِ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم طاعةً مطلقة، ونفسها أمرت بطاعةِ أولي الأمر الذين هم أهل البيت عليهم السلام طاعةً مطلقة، وهذا لا يصحُّ إلا مع افتراض عصمةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، فتذكّر هذا في مُستقبلِ الدروسِ إن شاء الله (تعالى).
ومن ذلك قوله (تعالى): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا». (1)
وفي هذه الآية رويَ عن جابِرِ بن يزيد الجعفي أنّه قال: سمعتُ جابر بن عبد الله الأنصاري، يقول: «لمّا أنزل اللهُ عزّ و جلّ على نبيّه محمد صلّى الله عليه و آله و سلم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»،(2) قلت: يا رسول الله عرفنا الله و رسوله، فمن أولوا الأمر الذين قرنَ اللهُ طاعتَهم بطاعتك؟ فقال صلّى الله عليه و اله و سلم: هُمْ خُلَفَائِی یَا جَابِرُ، وَ أَئِمَّةُ اَلْمُسْلِمِینَ مِنْ بَعْدِی؛ أَوَّلُهُمْ عَلِیُّ بْنُ أَبِی
ص: 146
طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ وَ الْحُسَیْنُ،ثُمَّ عَلِیُّ بْنُ الْحُسَیْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیٍّ اَلْمَعْرُوفُ فِی التَّوْرَاهِ بِالْبَاقِرِ، وَ سَتُدْرِکُهُ یَا جَابِرُ، فَإِذَا لَقِیتَهُ فَاقْرَأْهُ مِنِّی السَّلاَمَ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ مُوسَی بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِیُّ بْنُ مُوسَی، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیٍّ، ثُمَّ عَلِیُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِیٍّ، ثُمَّ سَمِیِّی وَ کَنِیِّی حُجَّةَ اللهِ فِی أَرْضِهِ، وَ بَقِیَّتُهُ فِی عِبَادِهِ اِبْنُ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِیٍّ، ذاك الَّذِی یَفْتَحُ اللهُ (تعالی) ذکره عَلَی یَدِهِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا...». (1)
من قبيل ما رويَ عنه صلى الله عليه و آله و سلم من أنَّ كُلَّ ما ينطقُ به فهو حق، فقد رويَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: کُنْتُ أکْتُبُ کلَّ شَیْءٍ أسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَ آله و سَلَّمَ اُرِیدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِی قُرَیْشٌ، وَقَالُوا: أتَکْتُبُ کُلَّ شَیْ ءٍ تَسْمَعُهُ وَ رَسُولُ الله صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَ آله و سَلَّمَ بَشَرٌ یَتَکَلَّمُ فِی الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأمْسَکْتُ عَنِ الْکِتَابِ، فَذَکَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آله و سَلَّمَ فَأومَأ صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آله و سَلَّمَ بِأصْبُعِهِ إلی فِیهِ، فَقَالَ صلی الله علیه و آله و سلم: «اکْتُبْ فَوَالّذی نَفْسِی بِیَدِهِ مَا یَخْرُجُ مِنْهُ إلّا حَقٌّ». (2)
فهذه الروايةُ واضحةٌ في أنَّ كُلَّ ما ينطقُ به صلّى اللّه عليه و آله و سلم هو حق، أيّ إنّه معصوم، وفي نفسِ الوقتِ يظهرُ منها أنَّ هناك مجموعةً من قريش وفي حياته صلّى الله عليه و آله و سلم يُشكِّكون بعصمته صلّى الله عليه و آله و سلم، وأنّه لا ينبغي أن يؤخذَ منه كُلُّ ما يقولُ ويفعل؛ لأنّه بشرٌ عادي، وقد ردّ عليهم صلّى الله عليه و آله و سلم بأنّه لا يخرجُ من فمِه إلا الحقّ.
ص: 147
و رويَ عن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في وصفه لِرسول الله صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ: «وَ لَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ مِنْ لَدُنْ أَن کَانَ فَطِیماً أَعْظَمَ مَلَکٍ مِنْ مَلاَئِکَتِهِ، یَسْلُکُ بِهِ طَرِیقَ الْمَکَارِمِ، وَ مَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ لَیْلَهُ وَ نَهَارَهُ...» (1)
فهنا يُبيّنُ أميرُ المؤمنين علیه السلام أنَّ اللهَ (تعالى) قرنَ بالنبي الأكرم صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ ملكًا معه مُنذُ صغره، وهي إشارةٌ إلى عصمته صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ مُنذُ أنْ كانَ فطيمًا، وهو رأي مذهبِ أهل البيت علیهم السلام في أنّه صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ و سلَّم معصومٌ في جميعِ حياتِه مُنذُ أن كانَ طفلًا، وإلى أنِ التحقَ بربِّه في الرفيق الأعلى.
1- أنَّ هناك العديدَ من الآياتِ التي دلّتْ على عصمتِه صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم، ومنها آياتُ سورةِ النجم، وآياتُ لزومِ الطاعةِ المُطلقة له صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم، والنصوص الروائية الدالة على ذلك أيضًا.
2- أنَّ الآياتِ التي أمرت بطاعته صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم مطلقًا، لا يستقيمُ معناها إلا مع افتراضِ عصمتِه صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم، وإلا لوقعنا في المعصيةِ على كُلِّ حال.
3- أنَّ الآياتِ الدالّةَ على لزومِ طاعته صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم، والتي أُستفيدَ منها عصمته صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم، هي نفسها تدلُّ على عصمةِ أهلِ البيت عليهم السلام.
4- أنّنا نؤمنُ بعصمةِ النبي الأكرم صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم مُنذُ أن كانَ فطيمًا، وإلى أن توفّاه الله عزّ و جل.
ص: 148
السؤال الأول: ما الأدلة التي يُستفادُ منها عصمةُ النبي الأكرم محمد صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم؟
السؤال الثاني: بأيّ جهةٍ علينا أن نطيعَ رسولَ الله صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم؟ وما الدليل على ذلك؟
السؤال الثالث: إِنَّ افتراضَ لزومِ الطاعةِ المُطلقةِ للنبي صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم، لا يصحُّ إلا مع افتراضِ عصمته صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم. بيِّن هذه العبارة.
السؤال الرابع: لا بُدّ أنْ يكونَ النبيُّ معصومًا، وإلا لوقعنا في المعصيةِ
على كُلِّ حال. علِّل ذلك.
السؤال الخامس: قال اللهُ عزّ و جل:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ». من هم أولو الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم؟ اعضد جوابك بدليل ؟
السؤال السادس: ما رأي مدرسة أهل البيت علیهم السلام في عصمة النبي صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم؟ اذكر دليلًا على ذلك.
ص: 149
ص: 150
«وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم». (1)
بمراجعة النصوص الواردة في حقِّ النبي الأكرم صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم، نجد أنه تميّزَ بالعديد من الخصائص والمواصفات التي لا يُشاركه فيها أحد، والتي لو شاركه فيها أحدٌ، فإنّه صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم يبقى الأصلَ فيها والأفضلَ والمنبعَ لها، وسنذكر بعضًا قليلًا منها ضمن الآتي:
فقد روي عن جابر، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِی، فَفَتَقَ مِنْهُ نُورَ عَلِیٍّ، ثُمَّ خَلَقَ اَلْعَرْشَ، وَ اللَّوْحَ، وَ اَلشَّمْسَ، وَ ضَوْءَ النَّهَارِ، وَ نُورَ الْأَبْصَارِ، وَ الْعَقْلَ، وَ الْمَعْرِفَةَ.(2)
وَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ الله صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم: أَوَّلُ شَیْءٍ خَلَقَ الله (تَعَالَی) مَا هُوَ؟
ص: 151
فَقَالَ صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم: نُورُ نَبِیِّکَ یَا جَابِرُ، خَلَقَهُ الله (تعالی) ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ کُلَّ خَیْرٍ...(1)
فقد روي عنه صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم أنّه قال: «خَلَقَ اللهُ عزّ و جَل مِائَةَ أَلْف نَبِیٍّ وَ أَرْبَعَةً وَ عِشْرِینَ أَلْفَ نَبِیٍّ، وَ أَنَا أَکْرَمُهُمْ عَلَی الله وَ لاَ فَخْرَ».(2)
و روی عنه صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم: «أَنَا سَیِّدُ وُلْدِ آدَمَ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَ لاَ فَخْرَ، وَ أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَ لاَ فَخْرَ، وَ أَوَّلُ شَافِعٍ وَ مُشَفَّعٍ، لِواءُ الحَمْدِ بیدی یومَ القیامةِ، تَحتی آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ».(3)
و فی حدِیث الْمِعْرَاجِ قال صلّی اللهُ علیه و آله و سلَّم: «...وَ اِنَّهُ لَمَّا عُرِجَ بِی إِلَی السَّمَاءِ، أَذَّنَ جَبْرَئِیلُ مَثْنَی مَثْنَی، وَ أَقَامَ مَثْنَی مَثْنَی، ثُمَّ قَالَ لِی: تَقَدَّمْ یَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ لَهُ: یَا جَبْرَئِیلُ، أَتَقَدَّمُ عَلَیكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ اللهَ عزّ وَ جَل فَضَّلَ أَنْبِیَاءَهُ عَلَی مَلاَئِکَتِهِ أَجْمَعِینَ، وَ فَضَّلَكَ خَاصَّهً، فَتَقَدَّمْتُ فَصَلَّیْتُ بِهِمْ وَ لاَ فَخْرَ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى حُجُبِ النُّورِ قَالَ لِي جَبْرَئِيلُ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ، وتَخَلَّفَ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُفَارِقُنِي؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ انْتِهَاءَ حَدِّيَ الَّذِي وَضَعَنِي اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، فَإِنْ تَجَاوَزْتُهُ احْتَرَقَتْ أَجْنِحَتِي بِتَعَدِّي حُدُودَ رَبِّي عزّ وَ جَل، فَزُجَّ بِي فِي النُّورِ زَجَّةً حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى حَيْثُ مَا شَاءَ الله مِنْ عُلُوِّ مُلْكِهِ....». (4)
ص: 152
وغيرها من الأحاديث الكثيرة.
قال (تعالى):«النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ». (1)
ومعنى ذلك يتّضح من خلال الآتي:
أ- أنَّ الإنسانَ مُسلَّطٌ على أمواله، فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ يتصرّفَ بها من دون رضاه، فلي الحقُّ في التصرُّفِ بأموالي كيفَ أشاء، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يمنعني، ما دُمتُ أتصرَّفُ بالحلال.
ب - والإنسانُ حُرٌّ، بمعنى أنّه لا يجوزُ لأحدٍ أن يتصرّفَ في نفسِه من دون رضاه، فأنا لي الحقُّ في أنْ أنامَ أو أتزوّجَ أو أسافر، ولا أحدَ له الحقُّ في منعي من ذلك.
ج- لي الحقُّ في أن أحافظَ على نفسي، فلا أُعرّضها للقتل أو الإهانة مثلًا، حتى لو كان ذلك يؤدّي إلى إهانةِ غيري أو قتله، فلو تعرَّضَ شخصٌ ما إلى الإهانة أو القتل، فلا يجب عليّ أنْ أعرِّضَ نفسي للإهانةِ أو القتل دونه.
هذه هي حقوق الإنسان الأولية.
إلا أنَّ الآيةَ تقول: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم أولى بالمؤمنِ من نفسه في كُلِّ هذه الأمور، فهو أولى بأموالي منّي؛ فله صلى الله عليه و آله و سلم أن يتصرّفَ بها كيفما يشاء، وهو أولى بنفسي منّي؛ فله الحقُّ في أنْ يأمرَني بالزواجِ مثلاً، أو بطلاقِ زوجتي مثلًا، أو بالسفرِ
ص: 153
إلى المكانِ الفلاني، و هكذا،بل إنَّ نفسَه المُقدّسة صلى الله عليه و آله و سلم مُقدَّمةٌ على نفسي، فلو تعرَّضَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم للقتل، فيجبُ عليّ أن أبذلَ نفسي دونه، وأنْ أُقتلَ دونه، ولو تعرّض لي الله عليه و آله و سلم للإهانةِ والعياذُ بالله، فيجب علىّ أنْ أُكرمَه، وأتحمّلَها دونه،
وهكذا.
رابعًا: أنَّ له صلى الله عليه و آله مميزات وخصائص اختص بها دون غيره: (1)
وهي كثيرة، منها :
1- عَنْ إِسْمَاعِیلَ الْجُعْفِیِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَیْهِ السَّلاَمُ یَقُولُ: قَالَ رَسُولُ االلهِ صلي الله عليه و آله و سلم: «أُعْطِیتُ خَمْساً لَمْ یُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلِی: جُعِلَتْ لِیَ الْأَرْضُ مَسْجِداً وَ طَهُوراً، وَ أُحِلَّ لِیَ الْمَغْنَمُ، وَ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَ أُعْطِیتُ جَوَامِعَ الْکَلام، وَ أُعْطِیتُ الشَّفَاعَةَ». (2)
2 - تحريمُ زوجاته على غيره؛ فإنّهن أُمّهاتٌ للمؤمنين من جهةِ حُرمةِ
ص: 154
الزواج بهن من بعده، قال (تعالى): «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ». (1)
وقال (تعالى): «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا». (2)
3- نادى الله (تعالى) الأنبياء، وحكى عنهم بأسمائهم، فقال (تعالى): «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا»، «أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ»، «يَا نُوحُ»، و ميَّز نبينا صلی الله علیه و اله و سلم بالنداء بألقابه الشريفة فقال (تعالى): «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ»، «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ»، «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ»، «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ»،ولم يذكر اسمه في القرآن إلا في أربعةِ مواضع شهِدَ له فيها بالرسالة؛ لافتقارِ الشهادةِ إلى ذكرِ اسمه، فقال:«مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله»، «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ»، «بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».
4 - كان أولادُ بناته يُنسَبون إليه، وأولادُ بناتِ غيرِه لا يُنسبون إليه؛
لقوله صلی الله علیه و آله و سلم: كُلُّ سببٍ ونسبٍ ينقطعُ يومَ القيامة إلا سببي ونسبي. (3)
ويكفي في ذلك أنَّ اللهَ (تعالى) شهدَ له بأنّه على خلقٍ عظيم، قال (تعالى):
ص: 155
«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ». (1)
إنَّ رسولَ الله صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ و سلَّم هو قدوةٌ لنا ولجميع طبقاتِ المُجتمعاتِ الإنسانية، وعلى اختلافِ مستوياتها، وفي جميعِ جوانبِ الحياة، وأحاديثُه وأفعالُه زاخرةٌ بالقوانين الأخلاقية.
فمن جانبِ العبادةِ كانَ أعبدَ الناسِ، فقد رويَ عن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قَالَ: «کَانَ رَسُولُ الله صلي الله عليه و آله و سلم عِنْدَ عَائِشَةٍ لَیْلَتَهَا، فقَالَتْ: یَا رَسُولَ الله وَ لِمَ تُتْعِبُ نَفْسَکَ وَ قَد غفرَ اللهُ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَ ما تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: یَا عَائِشَةُ أَلاَ أَکُونُ عَبْداً شَکُوراً؟»
قَالَ: «وَ کَانَ رَسُولُ الله صلي الله عليه و آله و سلم یَقُومُ عَلَی أطرافِ أَصَابِعِ رِجْلَیْهِ، فَأَنْزَلَ الله (سبحانه و تَعَالَی):«طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى». (2) (3)
ومع هذا لم يكُن ليترك الدُنيا مطلقًا، بل كانَ يأكلُ ويشربُ ويُحِبُّ الطيبَ ويُقارِبُ النساء، والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ مشهورة، وكان صلي الله عليه و آله و سلم أَشَدَّ النَّاسِ حَیَاءً، فقد كانَ أحيى مِن العَذراءِ فی خِدرِها، وكان صلي الله عليه و آله و سلم لَا يُسْأَلُ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ، وكانَ صلي الله عليه و آله و سلم متواضعًا بحيث کَانَ یَأْکُلُ أَکْلَ الْعَبْدِ، وَ یَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وكانَ يَأْكُلُ عَلَى الْحَضِيضِ، وَ يَنَامُ عَلَى الْحَضِيضِ، وكانَ صلي الله عليه و آله و سلم يحلبُ المعز بيده ويلبسُ الصوف، ويُسلِّمُ على الصبيان؛ (لتكون سُنّة من بعده)، وكان
ص: 156
إلى جانب ذلك أشجعَ الناس، قال أمير المؤمنين علیهِ السّلام: «لَقَدْ رَأَیْتُنِی یَوْمَ بَدْرٍ، وَ نَحْنُ نَلُوذُ بِالنَّبِیِّ صلي الله عليه و آله و سلم، وَ هُوَ أَقْرَبُنَا إِلَی الْعَدُوِّ، وَ کَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ یَوْمَئِذٍ بَأْساً» (1)، و قال علیه السلام: «کُنَّا إِذَا اِحْمَرَّ الْبَأْسُ وَ لَقِیَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اِتَّقَیْنَا بِرَسُولِ االلهِ، فَمَا یَکُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَی الْعَدُوِّ مِنْهُ صلی الله علیه و آله و سلم». (2)
وكان صلي الله عليه و آله و سلم خير الناس بأهله، وأرحمَهم بهم.
عن أبي عبد الله علیه السلام يقول: مرّت برسولِ الله صلى الله عليه و آله و سلم امرأةٌ بذيةٌ وهو جالسٌ يأكل، فقالت: يا محمد إنّك لتأكل أكلَ العبدِ وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله صلی لله علیه و آله و سلم: ويحك! وأيُّ عبدٍ أعبدُ منّي، فقالت: أما لي فناولني لقمةً من طعامكَ فناولها رسولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم لقمةً من طعامه فقالت: لا واللهِ إلا التي في فيك قال: فأخرجَ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لقمة من فيه فناولها فأكلتها. قال أبو عبد الله علیه السلام: فما أصابت بداء حتى فارقت الدنيا.
عن أنس بن مالك قال: خدمتُ النبي صلی الله علیه و آله و سلم تسعَ سنين فما أعلمه قالَ لي قط: هلّا فعلتَ كذا وكذا، ولا عابَ عليَّ شيئًا قط.
عن أنس بن مالك قال: صحبتُ رسولَ الله صلی الله علیه و اله و سلم عشرَ سنين وشممتُ العطرَ كُلَّه فلم أشم نكهةً أطيب من نكهته، وكان إذا لقيه أحدٌ من أصحابه قامَ معه فلم ينصرف حتى يكون الرجلُ هو الذي ينصرفُ عنه، وإذا لقيه أحدٌ من أصحابه فتناولَ بيده ناولَها إيّاه فلم ينزع عنه حتى يكونَ الرجلُ هو
ص: 157
الذی ينزع، وما أخرجَ ركبتيه بين يدي جليسٍ له قط، وما قعدَ إلى رسولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم رجلٌ قط فقامَ حتى يقوم.
عن أنس بن مالك قال: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم أدركَه أعرابيٌ فأخذَ بردائه فجبذه جبذةً شديدةً حتى نظرت إلى صفحةِ عنقِ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وقد أثرت بها حاشيةُ الرداء من شِدَّةِ جبذته، ثم قال له: يا محمد، مُرْ لي من مالِ اللهِ الذي عندك، فالتفتَ إليه رسولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم فضحكَ وأمَر له بعطاء.
عن أبي سعيد الخدري يقول: كانَ رسولُ الله حييًا، لا يُسأل شيئًا إلا
أعطاه.
وعنه قال: كانَ رسولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم أشدَّ حياءً من العذراءِ في خدرها، وكان إذا كرهَ شيئًا عرفناه في وجهه.(1)
1- أنَّ للنبيّ الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم خصائصَ ومميزاتٍ، انفردَ بها دون غيره.
2- أنّه صلی الله علیه و آله و سلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهذا لا يؤدّي إلى القلق؛ لأنّه معصومٌ، والمعصومُ لا يفعل إلا الحقّ.
3- أنّه قدوةٌ للمؤمنين في كُلِّ أقواله وسلوكياته؛ لأنّه كانَ على قِمَّةِ هرمِ الأخلاق، قال (تعالى):«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا». (2)
ص: 158
السؤال الأول: تميّزَ الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالعديد من الخصائص والمواصفات التي لا يُشاركه فيها أحد، والتى لو شاركه فيها أحدٌ، فإنّه صلی الله علیه و آله و سلم يبقى الأصلَ فيها والأفضلَ والمنبعَ لها، اذكر بعضاً منها.
السؤال الثاني: الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
ما مستند ذلك؟
ألايدعو ذلك إلى القلق ؟
السؤال الثالث: قال (تعالى):«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا».
لِمَ اختار اللهُ (تعالى) رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أسوةً للمؤمنين؟
ص: 159
ص: 160
قال (تعالى): «مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ». (1)
توجدُ عواملُ عديدةٌ تدعونا إلى أن نتساءلَ هذا السؤال، وأهم تلك
العوامل هي:
العامل الأول: أنَّ اللهَ (تعالى) لم يكتبِ الخلود للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، قال (تعالى):«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ». (2)
العامل الثاني: أنَّ النبيَّ الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم هو آخرُ الأنبياء وخاتمهم، فلا نبيّ بعده، قال (تعالى):«مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا».(3)
ص: 161
العامل الثالث: أنَّ الدينَ الإسلامي لم يكن دينًا خاصًا بزمنِ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم، وإنّما هو دينٌ كُتِبَ له أنْ يكونَ إلى آخرِ الدنيا، ولا دين آخر مقبولاً عندَ الله (تعالى)، قال (تعالى):«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ»، (1) و قال تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ». (2)
إزاء هذه العوامل، يحقُّ لنا أن نتساءل: إذا كانَ النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم غيرَ خالدٍ في هذه الدنيا، ولا يوجدُ نبيٌّ آخر بعده، والدِّينُ يستمرُّ إلى يوم القيامة، فما الموقفُ بعدَ موته صلی الله علیه و آله و سلم ؟
وبعبارةٍ أوضح: ما مصيرُ الأُمَّةِ بعده صلی الله علیه و آله و سلم ؟ من الذي يقودُها؟ ومن الذی يقومُ ببيانِ الأحكامِ الشرعية؟ خصوصًا أنَّ الفترةَ التي عاشها النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم كانت قصيرةً جدًا (23) سنة فقط) بالقياسِ إلى عمرِ الإسلام المُفترض (إلى يوم القيامة).
ما الطريقة التي من خلالها يتمُّ تعيينُ القائد والإمامِ والحاكمِ والعالمِ بالأحكامِ الشرعيةِ بعده صلی الله علیه و آله و سلم ؟
وهل قامَ النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم بشيءٍ إزاء هذا الأمر؟
أن يتركَ النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم الأمة بعده من دونِ تعيينِ أيّ قائدٍ أو
ص: 162
حاكمٍ بعده.
وهذه الحالةُ غيرُ صحيحة؛ لأنها :
1- خلافُ الحكمة:
فنحن نرى أنَّ الأبَ مثلا عندما يُسافرُ فإنّه يوكِلُ أمرَ بيتِه وأهلِه إلى ابنه الأكبر مثلًا، أو إلى أخيه، أو إلى شخصٍ يثِقُ به، فكيفَ بالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أن يتركَ الأُمَّةَ بعده من دون راعٍ؟!
وانظر إلى مديرِ شركةٍ مثلًا، هل تراه يُسافِرُ من دونِ أنْ يوكلَ إدارةَ الشركةِ إلى شخصٍ يثِقُ به؟!
فالحكمةُ تقتضي أن يُعيِّنَ القائدُ خلَفًا عنه عندما يخرج عن بلده، فكيفَ
إذا عرف أنّه سيموت!
ولذا وجدنا أنّ النبيَّ الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كانَ عندما يخرجُ من المدينةِ مثلًا إلى معركةٍ ما، فإنّه يوكلُ إدارتها إلى خليفةٍ من بعده، كما حصلَ في معركة تبوك، عندما خرج، وتركَ عليًا خليفةً له على المدينة، وقال له يومها:«أنتَ مِنِّي بمنزلةِ هارون من موسى، إلا أنّه لا نبي بعدي».
فقد رويَ عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِیَةُ بْنُ أَبِی سُفْیَانَ سَعْداً فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ؟ قَالَ: أَمَا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثاً قَالَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلی اللّٰه علیه و آله فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِی وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلی اللّٰه علیه و آله یَقُولُ لعلي وَ قَدْ خَلَّفَهُ فِی بَعْضِ مَغَازِیهِ؟ فَقَالَ له
ص: 163
عَلِیٌّ: یَا رَسُولَ اللهِ تُخَلِّفُنِی مَعَ النِّسَاءِ وَ الصِّبْیَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلی اللّٰه علیه و آله: أَ مَا تَرْضَی أَنْ تَكُونَ مِنِّی بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَی إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعدی. و سَمِعتُهُ یَقولُ یَومَ خَیبَرَ: لَاُعطِیَنَّ الرّایَةَ رَجُلاً یُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ، ویُحِبُّهُ اللهُ ورَسولُهُ.
قالَ: فَتَطاوَلنا لَها فَقالَ اُدعوا لی عَلِیّا، قال فأَتَاهُ وَ بِهِ رمَد فَبَصَقَ فی عَینِهِ فَدَفَعَ الرّایَةَ إلَیهِ فَفَتَحَ اللهُ عَلَیهِ. و اَنزَلَت هذِهِ الآیَة: «نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَکُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَائَکُم» الآیة دَعا رَسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله عَلِیّا وفاطِمَهَ وحَسَناً وحُسَیناً. فَقالَ: اللّهُمَّ هؤُلاءِ أهلی».(1)
2- خصوصًا إذا عرفنا أنَّ الإسلامَ كانَ فتيًا، وأنَّ الأُمَّةَ الإسلاميةَ آنذاك كانتْ مهدَّدةَ بعدَّةِ أخطارٍ ومن عديدة محاور، كخطرِ اليهود، والروم، والمنافقين، وغيرهم، فإذا بقيتِ الأمة بلا قائد، فإِنَّ الخطرَ سيُداهمها بلا شك، وستكونُ أشبهَ بالسفينةِ بلا ربّان في بحرٍ هائج.
أن يوكلَ النبيُّ صلي الله عليه و آله و سلم الأمرَ إلى الناسِ أن يختاروا هم قائدًا لهم.
وهذه الحالةُ غيرُ صحيحةٍ؛ لأنّها :
1- خلافُ الحكمةِ مثلما تقدم.
2- أنَّ هذه الحالة توجبُ العديدَ من المحذورات، من قبيل:
أ- التصادُم والتنافُس و وقوع المشاكلِ التي لها أولُ وليس لها آخر، والشاهدُ على ذلك ما نراه اليومَ من اختلافِ المسلمين على مذاهبَ شتّى،
ص: 164
وصلَ الحالُ ببعضهم أن يُكفِّرَ المذاهبَ الأخرى، وما ذاك إلا لأنّهم تركوا الأمرَ الإلهي - الذي سيتبيَّنُ في الحالة الثالثة - وحاولوا هم أن يضعوا قائدًا لهم.
ب - احتمال أن يغلبَ على الناس القوي، فيظلمهم، بدعوى أنّه خليفةُ
الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، كما فعلَ بنو أمية وبنو العباس، حيث ظلموا الناس واستعبدوهم في الوقت الذي كانوا يدّعون أنهم خلفاء الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، وكلنا سمعَ بظلمِ الحجاج مثلًا، ومعاوية، وهارون العباسي، والمتوكل، وغيرهم.
ج - أنَّ الاختلافاتِ لن تتوقَّفَ عند حدّ، فإِنَّ كُلَّ مجموعةٍ ترغبُ أَنْ یكونَ القائدُ والحاكمُ منها، كما حصل بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، عندما أراد أصحابُ السقيفة أن يُعيّنوا أبا بكر للخلافة، قامَ الأنصارُ و قالوا منا أميرٌ ومنكم أمير. (1)
أن يُعيّن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم خليفةً له قبل رحيله.
وهذه الحالةُ هي مُقتضى الحكمة، وهي ما يحكمُ بها أیُّ عاقل.
ومن لطيفِ ما رويَ في بيان أنَّ العقلَ يحكمُ بضرورةِ أن لا يتركَ اللهُ (تعالى) ورسوله صلي الله عليه و آله و سلم الناسَ من دونِ أنْ يُعيَّنَ لهم إمامًا، ما رويَ عَنْ يُونُسَ بن يَعْقُوبَ قَالَ:
كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه مِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ
ص: 165
بنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: يَا هِشَامُ، ألَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلْتَه؟ فَقَالَ: هِشَامٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أُجِلُّكَ وَأَسْتَحْيِيكَ وَلاَ يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ. (1)
فقال أَبُو عَبدِ الله عليه السلام: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا.(2)
قال هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَجُلُوسُهُ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ. (3)
فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ وَدَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ، وَشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا،وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ (4) عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ:
أَيُّهَا الْعَالِمُ، إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ؟
فَقَالَ لي: نَعَمْ. فَقُلتُ: لَه أَ لَكَ عَيْنٌ؟ فقال: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وَشَيْءٌ تَرَاهُ كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْهُ ؟! فقُلتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي. فقال: يَا بُنَيَّ
ص: 166
سَلْ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ! قُلتُ: أَجِبْنِي فِيهَا. قال لي: سَلْ. قُلْتُ: أَلَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَرَى بِهَا الْأَلْوَانَ وَالْأَشْخَاصَ.
قُلْتُ: فَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَشَمُّ بِهِ الرَّائِحَةَ.
قُلْتُ: أَلَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَذُوقُ بِهِ الطَّعْمَ.
قُلْتُ: فَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.
قُلْتُ: أَلَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِهِ كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْحَوَاسِّ.
قُلْتُ: أَوَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ: لا. قُلتُ: وکَیفَ ذلِکَ وهِیَ صَحیحَةُ سَلیمَةُ؟ قالَ: یا بُنَیَّ، إنَّ الجَوارِحَ إذا شَکَّت فی شَیءٍ شَمَّتهُ أو رَأَتهُ أو ذاقَتهُ أو سَمِعَتهُ، رَدَّتهُ إلَی القَلبِ؛ فَیَستَیقِنُ الیَقینَ ویُبطِلُ الشَّکَّ. (1)
قالَ هِشامٌ: فَقُلتُ لَهُ: فَإِنَّما أقامَ اللهُ القَلبَ لِشَکِّ الجَوارِحِ ؟ قالَ: نَعَم.
قُلتُ: لابُدّ مِنَ القَلبِ وإلّا لَم تَستَیقِنِ الجَوارِحُ؟ (2)
قالَ: نَعَم.
فَقُلتُ لَهُ: یا أَبا مَروانَ، فَاللهُ تَبارَکَ وتَعالی لَم یَترُک جَوارِحَکَ حَتّی جَعَلَ
ص: 167
لَها إمامًا یُصَحِّحُ لَها الصَّحیحَ ویَتَیَقَّنُ بِهِ ما شَکَّ فیهِ ، ویَترُکُ هذَا الخَلقَ کُلَّهُم فی حَیرَتِهِم وشَکِّهِم وَاختِلافِهِم لا یُقیمُ لَهُم إمَامًا یَرُدّونَ إلَیهِ شَکَّهُم وحَیرَتَهُم، ویُقیمُ لَکَ إمَامًا لِجَوارِحِکَ تَرُدُّ إلَیهِ حَیرَتَکَ وَشَکَّکَ ؟!
قالَ: فَسَکَتَ و لَم یَقُل لی شَیئا، ثُمَّ التَفَتَ إلَیَّ فَقالَ لی: أنتَ هِشامُ بنُ الحَکَمِ؟ فَقُلتُ: لا. قالَ: أمِن جُلَسائِهِ ؟ قُلتُ: لا. قالَ: فَمِن أینَ أنتَ ؟ قالَ: قُلتُ: مِن أهلِ الکوفَةِ. قال: فَأَنتَ إذاً هُوَ، ثُمَّ ضَمَّنی إلَیهِ، و أَقعَدَنی فی مَجلِسِهِ و زالَ عَن مَجلِسِهِ، وما نَطَق حَتّی قُمتُ.
قالَ: فَضَحِکَ أبو عَبدِ اللّهِ علیه السلام و قالَ: یا هِشامُ، مَن عَلَّمَکَ هذا ؟ قُلتُ : شَیءٌ أخَذتُهُ مِنکَ وَألَّفتُهُ. (1)
فَقَالَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: هَذَا والله مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى.(2)
فهذه الحالة هي المتعينة، وهي مسألةٌ واضحةٌ لا تحتاجُ إلى تفكيرٍ وتأمُّلٍ كثير.
نعم، لنا أن نسألَ سؤالًا آخر :
كيفَ يُعيّنُ النبيُّ صلي الله عليه و آله و سلم الخليفةَ من بعده؟
ما الطريقة التي يتبعُها صلي الله عليه و آله و سلم في تعيين الخليفة من بعده؟
ص: 168
سنعرفُ ذلك في الدرس اللاحق إن شاء الله (تعالى).
1- أنَّ خاتميةَ النبي صلي الله عليه و آله و سلم والدِّين الإسلامي، وكون الإسلامِ هو الدینَ الخالدَ إلى يوم القيامة، يفتحُ السؤالَ عن مصيرِ قيادةِ الأُمَّةِ بعدَ رحيل النبي صلي الله عليه و آله و سلم.
2 - أنَّ الحكمة تقتضي أن لا يتركَ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أُمّته بلا راعٍ، ولا أنْ يتركَ أمرَ تعيينِ الخليفةِ لهم، للزومه العديدَ من المحذورات، أهمُّها تسلّطُ القوي الظالم واستمرار الخلافات، وتهديد الكيان الإسلامي من قبل الأعداء المحيطين به.
3- أنَّ العقلَ يحكم بضرورةِ أن يُعيِّنَ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم خليفةً من بعده، يقودُ الأُمّة، ويُبيّن لها الدين بصورة صحيحة.
ص: 169
السؤال الأول: ما العوامل التي تدعونا إلى التساؤل عن كيفية تركِ
النبيّ صلي الله عليه و آله و سلم أمَّتَه بعده ؟
السؤال الثاني: ما الطريقة التي من خلالها يتمُّ تعيينُ القائد والإمامِ والحاكمِ والعالمِ بالأحكامِ الشرعيةِ بعده صلي الله عليه و آله و سلم ؟
السؤال الثالث: ما الذي يحكم بضرورةِ أن يُعيّنَ الرسول صلي الله عليه و آله و سلم خليفةً من بعده؟ وضِّح ذلك.
ص: 170
قال (تعالى): «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا». (1)
عرفنا أنَّ الحكمةَ تقتضي أنْ يُعيَّنَ النبيُّ الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم خليفةً من بعده، للأسباب المتقدمة، وأما عن طريقة تعيينه صلي الله عليه و آله و سلم للإمامِ والخليفةِ من بعده، فيُمكِنُ أنْ نتصوّرَ فيها حالتين:
الحالة الأولى: أنْ يكونَ التعيينُ من الله (تعالى)، والنبيّ صلي الله عليه و آله و سلم يُبلّغ هذا التعيين.
وهذه الحالةُ لا كلامَ فيها، فالجميعُ متفقٌ على أنَّ الله (تعالى) لو عيّنَ خليفةً للناس، فإنّه يلزمُ على العبيدِ أنْ يمتثلوا لأمره عزّ و جل.
الحالة الثانية: أنْ يقومَ هو صلي الله عليه و آله و سلم بتعيينِ الخليفةِ من عنده.
وهذه الحالةُ صحيحةٌ في حدِّ نفسِها، لأجلِ أسبابٍ عديدة، منها:
ص: 171
1- أَنَّ اللهَ (تعالى) أمرنا أن نتبعَ النبي صلي الله عليه و آله و سلم في كُلِّ ما يقومُ به، فإذا عيّنَ خليفةً له، فيجبُ علينا أن نمتثلَ لأمره.
قال (تعالى): «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». (1)
2- أنَّ اللهَ (تعالى) جعله أولى بنا من أنفسنا - بالبيان المتقدم -، فإذا عيّنَ
خليفةً علينا، وجبَ علينا قبوله، ولم يجُز لنا الاعتراضُ عليه.
قال (تعالى): «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ». (2)
3- أنَّ اللهَ (تعالى) لم يأمرنا بامتثال أوامره صلي الله عليه و آله و سلم فحسب، وإنما أمَرنا بالتسليمِ لأوامره، بحيث لا يتمُّ الاعتراضُ عليها ولو قلبًا، فإذا عيّنَ إمامًا علينا، لزمَ علينا قبوله والتسليم لأمره.
قال (تعالى): «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا». (3)
4- فضلًا عن كُلِّ ما تقدّم، فإنَّ النبيَّ صلي الله عليه و آله و سلم معصومٌ ، والمعصومُ عندما يأمرُ بشيءٍ فإنَّ من المستحيل أن يكونَ خطأ أو ضلالًا أو انحرافًا عن الحق.
قال (تعالى): «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى».(4)
ص: 172
فتبيّنَ: أنَّ النبيَّ صلي الله عليه و آله و سلم إذا عیّنَ إمامًا بعده، فهو تعيينٌ صحيح، ويجبُ علينا أن نمتثلَ أمره.
وإلى ضرورة امتثال امر الله تعالى، وأمر رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، أشارَ قوله (تعالى): «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا». (1)
رغم أنَّه يحقُّ للنبي صلي الله عليه و آله و سلم أنْ يُعيّنَ الإمامَ من بعده - مثلما تبيّن-، إلا أنّه صلي الله عليه و آله و سلم لم يفعل ذلك.
ولعلَّ السببَ في ذلك: أنَّ هناك الكثيرَ من المنافقين، سيتهمون النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم لو عيّنَ شخصًا ما ، خصوصًا إذا عيّنَ أميرَ المؤمنين علیه السلام الذي كانَ شابًا آنذاك، وهو ابنُ عمّه، وزوجُ ابنته، فالمنافقون سيتهمون النبيَّ صلي الله عليه و آله و سلم بأنَّه عيّنَ ابنَ عمه من بابِ جلبِ المصلحة لنفسه، وسيُصدِّقُهم بعضُ الناس - على الأقل- فتحدث النزاعاتُ والخلافات.
بل إنَّ المُنافقين - مثلما هو واضح - اعترضوا على النبيّ صلي الله عليه و آله و سلم واتهموه حتى بعد أن بلّغهم بأنّه لم يُعيّن أحدًا من تلقاءِ نفسه، بل إنّه تعيينٌ من الله (تعالى)!
وعلى كُلِّ حال، فإنَّ الذي حصل ، هو أنَّ اللهَ (تعالى) عيّنَ الإمامَ من بعدِ الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم بلّغَ الأمرَ الإلهي، ومن أهمِّ ما يدلُّ على
ص: 173
ذلك هي آيةُ التبليغِ وإتمام النعمة...
فإنّه وبعد جهادٍ مريرٍ خاضه النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة، من الدعوةِ والصبرِ والجهادِ والغربة و... نجد القرآنَ الكريمَ يُخاطِبُ النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم بأمرٍ مهم جدًا، فيقول عزّ و جل:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ». (1)
فَأَخَذَ رَسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله بِیَدِ عِلِیٍّ علیه السلام فَقالَ: أیُّهَا النّاسُ، إنَّهُ لَم یَکُن نَبِیٌّ مِنَ الأَنبِیاءِ مِمَّن کانَ قَبلی إلّا وقَد عَمَّرَهُ اللّهُ، ثُمَ دَعاهُ فَأَجابَهُ، فَاَوشَکَ أن اُدعی فَاُجیبَ، وأنَا مَسؤولٌ وأنتُم مَسؤولونَ، فَماذا أنتُم قائِلونَ»؟
فَقالوا: نَشهَدُ اَنَّکَ قَد بَلَّغتَ ونَصَحتَ ، وأدَّیتَ ما عَلَیکَ، فَجَزاکَ اللّهُ أفضَلَ جَزاءِ المُرسَلینَ .
فَقالَ صلي الله عليه و آله و سلم: اللّهُمَّ اشهَد _ ثَلاثَ مراتٍ _ ثُمَّ قالَ: یا معَشَرَ المُسلِمینَ، هذا وَلِیُّکُم مِن بَعدی، فَلیُبَلِّغِ الشّاهِدُ مِنکُمُ الغائِبَ».(2)
و بعد أن بلَّغ النبيُّ الأكرم رسالة ربِّه هذه، نزل عليه الخطابُ الإلهي صادحًا: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
ص: 174
الْإِسْلَامَ دِينًا». (1)
ورغم ذلك، فإنَّ البعضَ اعترضَ على هذا الأمر، فقد رويَ عن الإمامِ الصادق علیه السلام أنّه قال: لَمَّا کَانَ رَسُولُ اَلله صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بِغَدِیرِ خُمٍّ، فَنَادَی النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا، فَأَخَذَ بِیَدِ عَلِیٍّ عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ فقَالَ: مَنْ کُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِیٌّ مَوْلاَهُ، فَشَاعَ ذَلِکَ وَ طَارَ فِی البِلَادِ، فبلغَ ذلك الحارثَ بن النعمان الفهري، فأتى رسولَ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وهو في مَلأٍ من أصحابه، على ناقة، حتى أتى المدينةَ فنزلَ عن ناقته فأناخَها وعقلها، وأتى النبيَّ صلي الله عليه و آله و سلم، فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهدَ أَنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّك رسولُ الله فقبلناه منك، وأمرتنا أنْ نُصليَ خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصومَ شهرَ رمضان فقبلنا، وأمرتنا أنْ نحجَّ البيتَ فقبلنا، ثمَّ لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضُبعي ابن عمِّك ففضَّلْته علينا ؟ و قلت: من كُنتُ مولاه فعليٌ مولاه، وهذا شيءٌ منك أم من الله؟
فقال صلی الله علیه و آله و سلم: والذي لا إلهَ إلا هو، أنّه من أمر الله.
فولّى الحارثُ بن النعمان يُريدُ راحلته وهو يقولُ: اللهم إن كانَ ما يقولُ محمدٌ حقًا فأمطرَ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم، فما وصلَ إليها حتی رماه اللهُ بحجرٍ فسقط على هامته فخرجَ من دبره فقتله، وأنزلَ اللهُ (تعالی): «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. «لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ». (2) (3)
ص: 175
1- كانَ يُمكِنُ للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم أن يُعيّنَ الإمامَ من بعده، ولو فعلَ لوجب علينا إطاعتُه وامتثالُ أمره، ولكنّه لم يفعل ذلك، لعلّه لأجلِ أن لا يُتَّهَم، و لعلّه لأجل أنَّ الإمامةَ أمرٌ إلهي خاص كالنبوة.
2- أنَّ اللهَ (تعالى) هو الذي عيّنَ الإمامَ والخليفةَ بعد رسولِ الله صلي الله عليه و آله و سلم، والنبي عیّنَ الإمامَ امتثالًا لأمره (جل وعلا).
3- أنَّ المنافقين اعترضوا على تعيينِ الإمامِ من بعد رسولِ الله صلي الله عليه و آله و سلم رغمَ أنّه صلي الله عليه و آله و سلم أخبرهم بأنَّه تعيينٌ من الله (تعالى).
4 - أنَّ حادثةَ الغدير أهمُّ ما يدلُّ على تعيين أميرِ المؤمنين علیه السلام إمامًا بعد رسولِ اللهِ صلي الله عليه و آله و سلم، حيث قال صلي الله عليه و آله و سلم: من كُنتُ مولاه، فعلىٌّ مولاه.
ص: 176
السؤال الأول: أن يقومَ النبي صلي الله عليه و آله و سلم بتعيينِ الخليفةِ من عنده ..
أ- طريقٌ سليمٌ يتسم بالمشروعية، لأسبابٍ.. اذكرها.
ب - إلا أنّه صلي الله عليه و آله و سلم لم يسلكه، لماذا ؟
السؤال الثاني: كيفَ عيّنَ النبيُّ صلى الله عليه و اله و سلم الإمامَ من بعده؟
السؤال الثالث: اذكر مستندًا على أنّ اللهَ (تعالى) هو الذي عيّنَ الإمامَ من بعدِ الرسولِ الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، وأنَّ النبيَّ صلي الله عليه و آله و سلم بلَّغَ الأمرَ الإلهي.
ص: 177
ص: 178
قال (تعالى): «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ». (1)
هناك صفاتٌ عديدةٌ لا بُدّ من توفُّرِها في الإنسانِ ليكون إمامًا في عقيدتنا،
وخلاصتها التالي:
تبيّنَ مما تقدّمَ أنَّ من أهمِّ صفاتِ الإمامِ هو أنّه مُعيَّنٌ من السماء، فاللهُ (تعالى) هو وحده من يُعيّن الإمامَ الذي تجبُ علينا طاعتُه بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلّم، فلا الانتخابات، ولا اختيار وجهاء المنطقة، ولا كبار السن، ولا الشورى، ولا الغلبة بالسيف، ولا الوراثة، هي أسبابٌ مشروعةٌ لتعيينِ الإمامِ بعد الرسول صلي الله عليه و آله و سلّم.
وهذه الصفةُ لم تتوفّر إلا في أهلِ البيت علیهم السلام، وقد تقدمتِ الإشارةُ إلى بعضِ أدلةِ تنصيبِ أميرِ المؤمنين علیه السلام.
علمًا أنَّ الفاصلَ الرئيسي و المُميزَ الواضح بيننا و بينَ أهلِ السنة، هو في
ص: 179
هذه الصفة، فنحنُ نقول: إنّ الإمام لايكونُ إلا بتنصيبٍ من الله (تعالى) وهم يقولون: يُمكِنُ للبشرِ أن يُعيّنوا الإمامَ بالانتخابِ أو غيرِه من الطُرُقِ البشرية.
أولًا: أنّها تقطعُ الطريقَ أمامَ الذين تُسَوِّلُ لهم أنفسُهم أنْ يدّعوا الإمامةَ زورًا؛ لأنّها ما دامت بتعيينِ الله (تعالى)، فلا طريقَ لنا لمعرفتِها إلا من خلالِ بيانِ النبي الأعظم صلي الله عليه و آله و سلّم، فمن نصّ النبيُّ صلي الله عليه و آله و سلّم أنّه الإمامُ بعده، وجبت علينا طاعته.
صحيحٌ أنَّ هناك مَنْ خالفَ هذا المعنى، ولكنّه على كُلِّ حالٍ لو عملَ به
المُسلمون كما ينبغي، لانقطعَ دابرُ المُدّعين للإمامةِ زورًا.
وبعبارةٍ ثانية: لو كانَ الناسُ،مؤمنين، وعرفوا أنَّ مسألةَ الإمامةِ تعيينٌ إلهي، فالمفروضُ بهم أنْ لا يمدّوا أعناقهم لها من دونِ أنْ يأتيَ الأمرُ الإلهي بها، وهذا يوجِبُ وصولَ الإمامةِ للمؤهَّلِ والمُعیَّنِ من قِبلِ الله (تعالى) من دون أيةِ مشاكل ولا عقبات.
ثانيًا: أنّها تجعلنا في راحةٍ من مسألةِ الاختلافِ في اختيارِ الإمام، بمعنى أنّنا كما كُنّا في راحةٍ من تعيينِ النبي؛ لأنّه خاصٌّ بالله (تعالى)، فكذلك الإمام، و نحنُ ما علينا إلا الطاعةُ لأمرِ الله (تعالى)، فلا نحتاجُ إلى البحثِ عن طُرُقٍ لتعيينِ الإمام، و من ثمّ لا نقعُ في الاختلافِ في تلك الطرق، الأمرُ الذي قد
ص: 180
يؤدّي إلى الكثيرِ من المشاكل، ممّا وقعَ فيه من خالفَ مذهبَ أهلِ البيت عليهم السلام.
لا بُدّ أن يكونَ الإمامُ معصومًا، لنفس الأدلة التي دلّت على ضرورةِ أن
يكونَ النبي معصومًا.
وفي الحقيقة، أنّنا إذا عجزنا عن تعيين المعصوم، يكفينا أن نعرفَ أنّ هذا الإمامَ هو معيِّن من الله (تعالى)، فتعيينُ الله (تعالى) له يكشفُ لنا عن أنّه معصوم، ولهذا روي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين علیه السلام قَالَ: اَلْإِمَامُ مِنَّا لاَ یَکُونُ إِلاَّ مَعْصُوماً، وَ لَیْسَتِ الْعِصْمَةُ فِی ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ فَیُعْرَفَ بِهَا، وَ لِذَلِكَ لاَ یَکُونُ إِلاَّ مَنْصُوصاً. فَقِیلَ له: یَا بْنَ رَسُولِ الله، فَمَا مَعْنَی الْمَعْصُومِ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمُعْتَصِمُ بِحَبْلِ الله، وَ حَبْلُ الله هُوَ اَلْقُرْآنُ لا یفترقان الی یوم القیامة، و الامام یهدی الی القرآن، و القرآن یهدی الی الامام، وَ ذَلِكَ قَوْلُ الله عَزَّ وَ جَلَّ: «إِنَّ هذَا القُرآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ».(1) (2)
1- أنّها توجبُ اطمئنانَ الناس بأهليّة الإمام،للإمامة، وبأنّه لا يظلم الناس، ولا يستغلُ منصبه لمآربه الشخصية، إذ إنّ اللهَ (تعالى) لا يختارُ إلا من هو أهلٌ لهذا المنصب وفق علمه وحكمته (جل و علا).
ولذلك حفظ لنا التاريخُ أنَّ الظالمين عندما ادّعوا ما ليس لهم من المناصب
ص: 181
في الإسلام، فإنّهم عملوا على استغلالها لمصالحهم الشخصية، ومن ذلك ما روي من أنّ سعيد بن أبي العاص قال في الكوفة: إنّما السوادُ بُستانٌ لقريش، تأخذُ منه ما شاءت وتترك ... (1)
و أما أهلُ البيت علیهم السلام، فإنّهم لم يستغلوا هذا المنصب لأيّ مأربٍ شخصي من مآربهم، بل إنّهم كانوا يُضحّون بمصالحهم الشخصية من أجلِ مصلحةِ الإسلام، وهو ما عبّرَ عنه أميرُ المؤمنين علیه السلام من خُطبةٍ له علیه السلام لما عزموا على بيعة عثمان فقال: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَ وَالله لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، التماسًا لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْدًا فِيهَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِه وزبرِجِه».(2)
2- أنّها توجِبُ الاطمئنانَ بعدمِ اشتباهِ أو خطأ الإمامِ عند بيانِ الدين أو إعطاءِ الحكم الشرعي، إذ إنَّ من أهمِّ أدوارِ الإمام هو بيان الدين والأحكام الشرعية للناس، ولو لم يكن معصومًا، لأمكن أن يشتبهَ في إعطاءِ الحكم، فلا نطمئن لأقواله و بياناته الشرعية، وهذا قد يؤدّي إلى إعطاءِ أحكامٍ قد تصلُ إلى حدِّ سفكِ الدِّماء في بعض الأحيان، و قد رويَ أنَّ رجلًا تزوَّج امرأة من جهينة، فولدت له غلامًا لستَّة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان، فأمر برجمها، فبلغ ذلك عليًّا ، فأتاه فقال: «ما تصنع ؟»، قال: ولدت غلامًا لستّة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال علىٌّ: «أما سمعتَ اللهَ (تعالى) يقول: «وَحَمْلُهُ
ص: 182
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا»،(1) و قال: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» ؟ (2) فكم تجدُ بقيَ إلّا ستَّة أشهر؟»، فقال عثمان: والله ما فطنتُ لهذا، عليَّ بالمرأة، فوجدوها قد فُرغَ منها، وكانَ من قولها لأُختِها: يَا أُخيَّة، لا تحزني، فوَ الله، ما كشفَ فرجي أحدٌ قطُّ غيرُه. قال: فشبَّ الغلامُ بعد فاعترفَ به الرجل، وكانَ أشبه الناس به ... (3).
ولكنّه إذا كانَ معصومًا ، فهو لا يُخطئ، ولا يشتبه، فنطمئن لأقواله و بياناته الشرعية.
1- أنَّ أهمَّ صفةٍ في الإمام أنْ يكونَ مُعيّناً من الله (تعالى)؛ لأنّ هذا ما
يوجِبُ الاطمئنان بأهليته لهذا المنصب.
2 - أنَّ أهمَّ ما يُميّزُ مذهبَ أهل البيت علیهم السلام عن بقيةِ المذاهب الإسلامية هو قولُهُم بأنَّ تعيينَ الإمامِ إنّما هو حصرًا من الله (تعالى).
3 - أنَّ العصمةَ شرطٌ أساسي في الإمام، حتى يطمئن الناس إليه في ما يتعلق بدينهم ودنياهم وأخراهم، و حتى نضمنَ مطابقةَ ما يأتي به لما يريده الله عزّ و جل.
ص: 183
السؤال الأول: لِمَ اشترط الإمامية في الإمام أن يكونَ معيّناً من السماء ؟
السؤال الثاني: ما الثمرات المترتبة على اشتراط أن يكون الإمام معينًا من
السماء ؟
السؤال الثالث: لِمَ اشترط الإمامية أن يكونَ الإمامُ معصومًا؟
السؤال الرابع: ما الثمرات المترتبة على اشتراط العصمة في الإمام؟
ص: 184
قال (تعالى): «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ». (1)
يمكِنُ توضيح المراد منه عبر النقاط الآتية:
بمعنى أن لا يكونَ الإمامُ قد أخذَ علمَه من المدارس والمُعلّمين، كما نحن - أنا و أنت- نحصلُ عليه، وإنّما لا بُدّ أنْ يكونَ علمُه إمّا من النبي والإمام الذي قبله، أو بتعليمٍ من الله (تعالى) مُباشرة، وهو ما يُسمّى بالعلم اللدنِّي، نسبةً إلى قوله (تعالى):«وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا». (2)
رويَ عن الإمام الحسين علیه السلام قال: «لما أنزلت هذه الآيةُ على رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ »(3) قامَ أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسولَ الله، هو التوراة؟ قال: لا. قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا. قالا: فهو
ص: 185
القرآن؟ قال: لا. قال: فأقبلَ أميرُ المؤمنين علي علیه السلام فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم: هو هذا، إنّه الإمامُ الذي أحصى الله عزّ و جَل فيه علمَ كُلِّ شيء». (1) (1)
فلاحظ كيفَ أنَّ النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم أوضحَ أنَّ أميرَ المؤمنين علیه السلام هو الإمام الذي حوى علمَ كُلِّ شيءٍ، وهذا لا يكونُ إلا بعلمٍ لدنيٍ خاص.
فليسَ من الصحيح أنْ يكونَ الإنسانُ إمامًا في الدين، وهو لا يعرفُ بعضَ أمورِ الدين.
وقد نقل التاريخُ الكثيرَ من المسائلِ الدينية التي عجزَ عنها غير الأئمة عليهم السلام مما يكشفُ عن أنّهم لم يكونوا أئمة، إذ إنَّهم اعترفوا بعجزهم
عن حلِّ مسائلَ دينية، ولكن أهل البيتِ علیهم السلام استطاعوا حلّها بكُلِّ يسر .
فكم من مرةٍ قال عمر بن الخطاب: «لولا عليٌ لهلك عمر» (2)، و قال عنه عثمان: «لولا عليٌّ لهلك عثمان» (3) ، و قال عنه عمر: «لا أبقاني اللهُ لمُعضلةٍ ليس
ص: 186
لها أبو الحسن...». (1)
وهو أمرٌ ثابت، وعلى من يُشكِّكُ فيه مُراجعةُ كتبِ العامة، كما أنَّ أبا بكر
عندما استولى على الخلافة كان أول أقواله: لست بخيركم. (2) (2)
بمعنى أن يكونَ عنده بعضُ العلومِ والمعرفةِ بالأمور المُستقبلية؛ لأنّ اللهَ
(تعالى) يُعطيه ذلك العلم، وقد رويَ أنَّ أميرَ المؤمنين علیه السلام أخبرَ ببعضِ الأمورِ المُستقبلية، «فقال له بعضُ أصحابه: لقد أَعطيتَ يا أميرَ المؤمنين علمَ الغيب؟ فضحك علیهم السلام، و قال للرجل - وكان كلبيًا: يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمٍ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ ...». (3)
وروي عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الغَيْبَ؟ فَقَالَ عليه السلام: لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ . (4)
ص: 187
لا شكَّ انَّ الإمامَ يتعرَّضُ للكثيرِ من المشاكلِ والصعوباتِ في حياتِه، ولا شكَّ أنّه يحتاجُ إلى اتخاذِ قراراتٍ مصيريةٍ في بعضِ الأحيان، وهُنا يحتاجُ إلى العلمِ والحكمةِ في إدارةِ مثل هذه الأمور، حتى يخرج هو وأتباعه من المشاكلِ بسلام.
وهذا ما وجدناه واضحًا عند أئمتنا عليهم السلام، فمثلا رويَ أنَّ أبا مسلم
الخراساني، قائدَ الجيوش العباسية، وصاحبَ اليدِ الطولى في تشييدِ الدولةِ العباسية، كتبَ إلى الإمامِ الصادق علیه السلام كتابًا جاءَ فيه: إنّي دعوتُ الناسَ إلى موالاةِ أهلِ البيت، فإن رغبتَ فيه فأنا أبايعك.
فردّ عليه الإمام علیه السلام: ما أنتَ من رجالي، ولا الزمان زماني. (1)
وواضحٌ أنَّ ردَّ الإمامِ هذا كانَ مُناسباً لأبي مسلم، باعتبار أنّ أبا مسلم كانَ من أنصار العباسيين، وعلى يديه بُنيت دولتهم، وسفَكَ في سبيلِ ذلك الدماءَ البريئة، حتى أنَّه كانَ في بني العباس كالحجاج في بني أمية. و ردُّ الإمامِ هذا كشفَ عن عدم صدقِ دعاوى أبي مسلم بقوله علیه السلام: «ما أنتَ من رجالي» بالإضافةِ إلى عدمِ وجودِ الظروفِ المناسبة للقيامِ بثورةٍ و ذلك لعدمِ توفُّرِ القوةِ الكافية «و لا الرجال رجالي».
والذي يؤيّدُ صحةَ تصرُّ ّفِ الإمامِ علیه السلام وحكمته في هذا الموقف، هو أنَّ الروايةَ أكملت فقالت: ثم جاءَ أبو مسلم الكوفة، وبايع السفّاح وقلده
ص: 188
الخلافة.
و هكذا أبو سلمة الخلال، وهو أحدُ نُقباءِ الدولةِ العباسية والعضو الفعّالُ في قيادةِ الثورة العباسية، إذ بعثَ كتابًا إلى الإمامِ الصادق علیه السلام یُعلِنُ فيه استعدادَه للدّعوةِ إليه والتخلّي عن بني العباس، فكانَ جواب الإمام: «ما أنا و أبو سلمة، و أبو سلمة شيعة لغيري» فقالَ رسولُ أبي سلمة: إنّي رسول، فتقرأ كتابَه وتجيبه. فدعا الإمامُ الصادقُ علیه السلام بسراجٍ ثم أخذَ كتابَ أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق، وقال للرسول: «عرِّف صاحبك بما رأيت».(1)
إنَّ هذا العلمَ الخاصَ لدى المعصوم ، يوفِّرُ له قُدُراتٍ خارقة، بحيث
ص: 189
يتمكّنُ من صنعِ المُعجزات، و ما يعجزُ عنه البشر، والدليلُ على ذلك أنَّ آصفَ بن برخيا، كانَ عندَه جزءٌ من علمِ الكتاب، وقد استطاعَ بهذا الجُزءِ أنْ يأتيَ بعرشِ بلقيس من اليمنِ إلى فلسطين في أقلّ من رمشةِ عين، فكيفَ بمن كانَ عندَه علمُ الكتاب كله ؟!
قال تعالى:«قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ». (1)
والرواياتُ تُفسِّرُ من عنده علمُ الكتاب بأهلِ البيت عليهم السلام عمومًا وأميرِالمؤمنين عليه السلام خصوصًا.
رويَ عن عبد الله بن بُکَیر عن أَبی عبد الله علیه السَّلام قال: کُنْتُ عِنْدَهُ فَذَکَرُوا سُلَیْمَانَ وَ مَا أُعْطِیَ مِنَ الْعِلْمِ، وَ مَا أُوتِیَ مِنَ الْمُلْکِ، فَقَالَ لِی: «وَ مَا أُعْطِیَ سُلَیْمَانُ بْنُ دَاوُدَ! إِنَّمَا کَانَ عِنْدَهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنَ اَلاِسْمِ اَلْأَعْظَمِ، وَ صَاحِبُکُمُ اَلَّذِی قَالَ الله: «قُلْ کَفی بِاللّهِ شَهِیداً بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْکِتابِ» وَ کَانَ وَ الله عِنْدَ عَلِیٍّ عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ عِلْمُ اَلْکِتَابِ».
فقلتُ: صَدَقْتَ وَ الله جُعِلْتُ فِدَاکَ. (2)
ص: 190
وعن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قَالَ الَّذِی عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْکِتَابِ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَن یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ»؟ قَالَ: فَفَرَّجَ أَبُو عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ بَیْنَ أَصَابِعِهِ فَوَضَعَهَا عَلَی صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَ الله عِنْدَنَا عِلْمُ اَلْکِتَابِ کُلُّهُ». (1)
1/ أنَّ من الصفاتِ المُهمةِ التي يجبُ أن تتوفّرَ في الإمامِ هي: صفة العلم.
2/ المقصودُ هو علمٌ خاصٌّ إلهي، من دون تعليمٍ من البشر.
3/ وهو علمٌ يجعلُ الإمامُ مُطلعًا على كُلِّ أحكامِ الدين، بحيث لا يُخطِئُ و لا يشتبهُ في بيان حكمٍ شرعي.
4/ و لأنّه علمٌ خاصٌّ، فهو يوفِّرُ للإمامِ الاطلاعَ على المُستقبل، بتعليمٍ من الله (تعالى)، وهو ما يُسمّى بعلم الغيبِ للإمام.
5/ و لأنّه علمٌ إلهيٌّ خاص، فإنّه يجعلُ الإمامَ يتصرَّفُ بحكمةٍ في الأمورِ المصيرية والإدارية.
6/ وهو علمٌ يورِثُ القدرةَ الخارقةَ لدى الإمام.
ص: 191
السؤال الأول: ما العلم اللدنّي؟ ولماذا سُمّيَ بهذا الاسم؟
السؤال الثاني: ما مواصفات العلم الخاص الذي يجب أن يتصف به الإمام؟
السؤال الثالث: ما الدليل على أنَّ للإمام قدراتٍ خاصةً؟
ص: 192
قال تعالى:«وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا». (1)
يُقصد من هذه الصفة:
أولا: أنْ يكونَ الإمامُ متصفًا بفضائلِ الأخلاق، كالصدق والغيرة والشجاعة والمروءة والصبر والحلم وأمثالها.
ثانيا: أنْ يكونَ قولُه مُطابقًا لفعله.
ثالثًا: أنْ يكونَ سلوكُه بحيث لا يُمكِنُ أَنْ يُفسّرَ تفسيرًا سيئًا، أي إنّه لا يضعُ نفسَه مواضع التهمة مثلًا، ولا يفعل فعلًا يُمكِنُ أنْ يُفسّر بأنّه غير أخلاقي أو غير فاضل، وهكذا.
والثمراتُ المرجوَّةُ من هذه الأخلاق الفاضلة عديدةٌ، منها:
أولًا: توفيرُ القدوةِ الحسنةِ للأتباع، فإنَّ الإمامَ هو قدوةُ الناس، فإذا
ص: 193
كانتْ أخلاقُه فاضلة، عمل الأتباعُ على أن يتصفوا بها، ليقتربوا منه.
ولذلك يُصرِّحُ أميرُ المؤمنين علیه السلام بأنَّ إمامتَه للناس - ومن ثمّ لزوم اتباعه - لا تنحصرُ بكونه قائدًا لهم، وإنّما هو إمامٌ لهم فيما يتعلّقُ بالزهد، وعدم التعلُّق بالدنيا وزبرجها، وأنّه قد أخذَ على نفسه أنْ يتمثّلَ بأقلِّ المؤمنين حالًا،و أنَّ على منْ يكونُ نائبًا عنه أن يعملَ على الاقترابِ من هذه الحيثيةِ فيه علیه السلام، و ذلك ضمنَ كتابه علیه السلام الذي أرسله إلى واليه على البصرةِ عثمان بن حنيف، حيث جاء فيه: «أَلَا وَ إِنَّ لِکُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً یَقْتَدِی بِهِ، وَیَسْتَضِیءُ بِنُورِ عِلْمِهِ؛ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَکُمْ قَدِ اکْتَفَی مِنْ دُنْیَاهُ بِطِمْرَیْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَیْهِ، أَلَا وَإِنَّکُمْ لَاتَقْدِرُونَ عَلَی ذَلِکَ، وَلَکِنْ أَعِینُونِی بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّهٍ وَسَدَادٍ...». (1)
ثانيًا: الاطمئنان والركون إلى الإمام، فلا يدخلُ الشكُّ في قلوبِ الأتباع بأنّه يخدعهم، أو يُظهر لهم خلافَ ما يُبطن، أو أنّه بتصرُّفه هذه يجرُّ النار لقرصه، خصوصًا إذا رأوا منه الزهد، وتقديم المصلحة العامة للإسلام والمسلمين على مصالحه الشخصية.
ثالثًا: أنّ الأخلاقَ الحسنة هي أقوى مؤثِّر في الآخر لجذبه نحو الدين والإسلام، وهو ما كانَ يصنعه أهلُ البيت عليهم السلام.
ولإتمام الفائدة نذكر نماذج قليلة جدًا من الروايات الواردة في أخلاق أهل البيت عليهم السلام.
ص: 194
عندما هاجرَ المسلمون الأوائلُ إلى الحبشة، ولحقهم بعضُ المشركين ليردّوهم إلى مكة، أبى ملكُ الحبشة ذلك، وأمَّنَهم في الحبشة، والقصة معروفة.
وتذكرُ بعضُ الروايات أنَّ أميرَ المؤمنين عليه السلام وجدَ ابنَ ملك الحبشة عند تاجرٍ من تجار العبيدِ في مكة، فاشتراه أميرُ المؤمنين عليه السلام وأعتقه إكرامًا لما فعلَ أبوه مع المسلمين، وأنَّ هذا الولد بقيَ مع أمير المؤمنين عليه السلام ولم يُفارقه، حتى لما جاءه أهله من الحبشة، وطلبوا منه أن يكونَ ملكًا عليهم، رفضَ وبقيَ على الإسلام، مع أميرِ المؤمنين عليه السلام. (1)
لقد أثّرت أخلاقُ أميرِ المؤمنين عليه السلام في هذا الملك الشاب، إذ جعلته يتركُ مُلكَ الدنيا ويكتفي بالانتسابِ إلى الإسلام والبقاء إلى جنبِ أميرِ المؤمنين عليه السلام.
ورويَ عن المُبرَّد وابن عائشة :اَنَّ شامِیّاً رَأی الحَسَنَ بن علیٍّ علیهما السلام راکِباً
ص: 195
فَجَعَلَ یَلعَنُهُ ! وَالحَسَنُ لا یَرُدُّ. فَلَمّا فَرَغَ،أقبَلَ الحَسَنُ علیه السلام فَسَلَّمَ عَلَیهِ وضَحِكَ، فَقالَ علیه السلام: أیُّهَا الشَّیخُ،أظُنُّكَ غَریباً،و لَعَلَّكَ شَبَّهتَ؛فَلَوِ استَعتَبتَنا أعتَبناكَ، و لَو سَأَلتَنا أعطَیناكَ،ولَوِ استَرشَدتَنا أرشَدناكَ،ولَوِ استَحمَلتَنا أحمَلناكَ، وإن کُنتَ جائِعاً أشبَعناكَ،وإن کنُتَ عُریاناً کَسَوناك،وإن کُنتَ مُحتاجاً أغنَیناك،وإن کُنتَ طَریداً آوَیناك،وإن کانَ لَك حاجَهٌ قَضَیناها لَك،فَلَو حَرَّکتَ رَحلَك إلَینا وکُنتَ ضَیفَنا إلی وَقتِ ارتِحالِك، کانَ أعوَدَ عَلَیك؛لِأَنَّ لَنا مَوضِعاً رَحباً وجاهاً عَریضاً ومالاً کَثیراً».
فَلَمّا سَمِعَ الرَّجُلُ کَلامَهُ، بَکی ثُمَّ قالَ: أشهَدُ أنَّك خَلیفَةُ اللهِ فی أرضِهِ ، اللهُ أعلَمُ حَیثُ یَجعَلُ رِسالته، وکُنتَ أنتَ وأَبوك أبغَضَ خَلقِ اللهِ إلَیَّ ، وَالآنَ أنتَ أحَبُّ خَلقِ اللهِ إلَیَّ. وحَوَّلَ رَحلَهُ إلَیهِ، وکانَ ضَیفَهُ إلی أنِ ارتَحَلَ، وصارَ مُعتَقِدا لِمَحَبَّتِهِم. (1)
فلاحظ كيفَ أنَّ أخلاقَ الإمامِ الحسن علیه السلام جعلتُ ذلك الرجلَ يُغيّرُ نظرتَه عنه، بل و آمنَ به واعتقدَ بحبه.
روى الحسن البصري: کانَ الحُسَینُ بنُ عَلِیٍّ علیهما السلام سَیِّدًا زاهِدًا وَرِعًا صالِحًا ناصِحًا حَسَنَ الخُلُقِ،فَذَهَبَ ذاتَ یَومٍ مَعَ أصحابِهِ إلی بُستانِهِ،و کانَ فی ذلِكَ البُستانِ غُلامٌ لَهُ اسمُهُ: صافی،فَلَمّا قَرُبَ مِنَ البُستانِ رأی الغُلامَ قاعِدا یَأکُلُ خُبزًا،فَنَظَرَ الحُسَینُ علیه السلام إلَیهِ،و جَلَسَ عِندَ نَخلَةٍ مُستَتِرا لا یَراهُ،
ص: 196
فَکانَ یَرفَعُ الرَّغیفَ فَیَرمی بِنِصفِهِ إلَی الکَلبِ و یَأکُلُ نِصفَهُ الآخَرَ. فَتَعَجَّبَ الحُسَینُ علیه السلام مِن فِعلِ الغُلامِ،فَلَمّا فَرَغَ مِن أکلِهِ قالَ: الحَمدُ لله ِ رَبِّ العالَمینَ،الّلهُمَّ اغفِر لی،وَ اغفِر لِسَیِّدی، و بارِك لَهُ کَما بارَکتَ عَلی أبَوَیهِ،بِرَحمَتِكَ یا أرحَمَ الرّاحِمینَ.
فَقامَ الحُسَینُ علیه السلام و قالَ:یا صافی، فَقامَ الغُلامُ فَزِعًا،و قالَ:یا سَیِّدی و سَیِّدَ المُؤمِنینَ،إنّی ما رَأَیتُكَ فَاعفُ عَنّی. فَقالَ الحُسَینُ علیه السلام: اِجعَلنی فی حِلٍّ یا صافی، لِأَنّی دَخَلتُ بُستانَك بِغَیرِ إذنِكَ. فَقالَ صافی: بِفَضلِك یا سَیِّدی وکَرَمِكَ وسُؤدَدِكَ تَقولُ هذا . فَقالَ الحُسَینُ علیه السلام: رَأَیتُك تَرمی بِنِصفِ الرَّغیفِ لِلکَلبِ وتَأکُلُ النِّصفَ الآخَرَ، فَما مَعنی ذلِك ؟ فَقالَ الغُلامُ : إنَّ هذَا الکَلبَ یَنظُرُ إلَیَّ حینَ آکُلُ . فَأَستَحی مِنهُ یا سَیِّدی لِنَظَرِهِ إلَیَّ، وهذا کَلبُكَ یَحرُسُ بُستانَكَ مِنَ الأَعداءِ، فَأَنَا عَبدُكَ وهذا کَلبُكَ، فَأَکَلنا رِزقَكَ مَعا .
فَبَکَی الحُسَینُ علیه السلام و قالَ: أنتَ عَتیقٌ لله، وقَد وَهَبتُ لَكَ ألفَی دینارٍ بِطیبَةٍ مِن قَلبی. فَقالَ الغُلامُ: إن أعتَقتَنی فَأَنَا اُریدُ القِیامَ بِبُستانِك. فَقالَ الحُسَینُ عَلَیهِ السَّلام: إنَّ الرَّجُلَ إذا تَکَلَّمَ بِکَلامٍ فَیَنبَغی أن یُصَدِّقَهُ بِالفِعلِ، فَأَنَا قَد قُلتُ: دَخَلتُ بُستانَكَ بِغَیرِ إذنِكَ، فَصَدَّقتُ قَولی، و وَهَبتُ البُستانَ وما فیهِ لَكَ، غَیرَ أنَّ أصحابی هؤُلاءِ جاؤوا لِأکلِ الِّثمارِ وَالرُّطَبِ فَاجعَلهُم أضیافا لَكَ وأکرِمهُم مِن أجلی، أکرَمَكَ الله یَومَ القِیامَةِ وبارَكَ لَكَ فی حُسنِ خُلقِكَ وأدَبِكَ. فَقالَ الغُلامُ: إن وَهَبتَ لی بُستانَكَ فَأَنَا قَد سَبَّلتُهُ لِأَصحابِكَ وشیعَتِكَ...(1)
ص: 197
لاحظوا أخلاقَ الإمامِ الحسين علیه السلام، ولاحظوا كيفَ تأثَّرَ به غلامه، وكيفَ أنّه اقتدى بمولاه الحسين علیه السلام وأباحَ البستانَ ليس فقط للإمامِ الحسين علیه السلام، وإنّما لجميعِ شيعته.
عن حریز بن عبد الله أو غیره، قال: نَزَلَ عَلی أبی عَبدِ الله الصَّادِقِ علیه السلام قَومٌ مِن جُهَینَةٍ فَأَضافَهُم، فَلَمّا أرادُوا الرِّحلَةَ زَوَّدَهُم ووَصَلَهُم وأعطاهُم، ثُمَّ قالَ لِغِلمانِهِ: تَنَحَّوا لا تُعینوهُم . فَلَمّا فَرَغوا جاؤوا لِیُوَدِّعوهُ، فَقالوا لَهُ: یَابنَ رَسولِ الله، لَقَد أضَفتَ فَأَحسَنتَ الضِّیافَةَ، وأعطَیتَ فَأَجزَلتَ العَطِیَّةَ، ثُمَّ أمَرتَ غِلمانَكَ أن لا یُعینونا عَلَی الرِّحلَةِ ؟! فَقالَ علیه السلام: إنّا أهلُ بَیتٍ لا نُعینُ أضیافَنا عَلَی الرِّحلَةِ مِن عِندِنا. (1)
قَالَ أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِیُّ: شَکَوْتُ إِلی أَبِی مُحَمَّدٍ علیه السلام ضِیقَ الْحَبْسِ وَ کَتَلَ الْقَیْدِ، فَکَتَبَ إِلَیَّ: أَنْتَ تُصَلِّی الْیَوْمَ الظُّهْرَ فِی مَنْزِلِكَ.
فَأُخْرِجْتُ فِی وَقْتِ الظُّهْرِ، فَصَلَّیْتُ فِی مَنْزِلِی کَمَا قَالَ علیه السلام، وَ کُنْتُ مُضَیَّقاً، فَأَرَدْتُ أَنْ أَطْلُبَ مِنْهُ دَنَانِیرَ فِی الْکِتَابِ، فَاسْتَحْیَیْتُ، فَلَمَّا صِرْتُ إِلی مَنْزِلِی وَجَّهَ إِلَیَّ بِمِائَةِ دِینَارٍ، وَ کَتَبَ إِلَیَّ: إِذَا کَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ ، فَلَا تَسْتَحْیِ وَ لَا تَحْتَشِمْ،
ص: 198
وَ اطْلُبْهَا؛ فَإِنَّكَ تَری مَا تُحِبُّ إِنْ شَاءَ الله (تعالی).(1)
إنَّ الرواياتِ الواردةَ في مكارمِ أخلاقهم علیهم السلام أکثرُ من أن تُکتبَ في كتاب واحد، بل إنَّ حياتَهم كلها كانت عبارة عن أخلاقٍ تتجسّدُ على الأرض في أقوالِهم وأعمالهم، نسأل اللهَ (تعالى) أن يجعلنا من شيعتهم، و أنْ يحشرنا معهم يوم القيامة.
1/ أنَّ من الصفاتِ التي يلزمُ توفُّرُها في الإمامِ هي: الأخلاقَ الفاضلة، و أن يكونَ قولُه مُطابقًا لفعله، وأن لا يضعَ نفسه في مواضعَ لا تليقُ به.
2/ حيث إنَّ الإمامَ هو قدوةُ المؤمنين، فلا بُدّ أنْ يكونَ ذا أخلاقٍ فاضلة، حتى يتمكّن من التأثير فيهم.
3/ أنَّ من أهمِّ ما يورِثُ الاطمئنانَ بالإمامِ هو أخلاقَه الفاضلة، وتطبيقَه
لما يقوله، وسلوكَه الإيجابي المستقيم.
4/ لقد اتصفَ أئمتُنا عليهم السلام بالأخلاقِ الفاضلة بأعلى مُستوياتها، والرواياتُ كثيرةٌ جدًا في ذلك، ويكفي في الإشارة إلى ذلك قول محمدٍ بن إدريس إمامُ الشافعية في حقِّ الإمامِ علي علیه السلام: عجبتُ لرجلٍ كتمَ أعداؤه فضائلَه حسدًا، وكتمها مُحِبّوه خوفًا، وخرجَ ما بينَ ذين ما طبق الخافقين. (2)
ص: 199
السؤال الأول: ما المقصود بالأخلاق الفاضلة التي يجب أن يتحلّى بها الإمام علیه السلام، و ما الثمرات المترتبة على ذلك؟
السؤال الثاني: اذكر نموذجًا من الأخلاق الفاضلة للأئمة عليهم السلام .
السؤال الثالث: ما الدليل على وجوب اتصاف الإمام علیه السلام بالأخلاق
الفاضلة؟
ص: 200
قال (تعالى): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ». (1)
عرفنا أنَّ على المسلمين أن يؤمنوا بإمامةِ أهلِ البيت علیهم السلام؛ لأنَّ الله
(تعالى) جعلهم أئمةً عليهم، فما مصيرُ من لم يؤمن بهم بعد علمه بالحقيقة؟
الجواب:
من المعلومِ في الدين الإسلامي أنَّ هناك أوامرَ يجبُ على المسلمين تنفيذها، ونواهي يجبُ عليهم الابتعادُ عنها، وأنَّ كُلَّ تركٍ لأمرٍ واجبٍ أو فعلٍ لأمرٍ منهيٍ عنه يستلزمُ آثارًا معينة، وأهمّها عدمُ التوفيق في الدُّنيا، والعقوبة يوم القيامة.
والإيمانُ بأهلِ البيت عليهم السلام أمرٌ إلهي، فمن لا يمتثل له، يترتبُ عليه
مُخالفةُ الأمر الإلهي، وهو يستلزمُ جميعَ آثار ذلك.
ص: 201
لقد أمرَ اللهُ (تعالى) نبیَّه الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم أن يُبلّغَ الناسَ ولايةَ أميرِ المؤمنين علیه السلام، وهو صلي الله عليه و آله و سلم بلّغها في الكثيرِ من المناسبات، أهمّها يومَ غدير خم، وتذكرُ الرواياتُ أنَّ أبا بكر و عمر دخلا على أمير المؤمنين علیه السلام - فيمن دخل - يوم الغدير، و قال عمر عند البيعة: بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحتَ مولاي ومولى كُلِّ مؤمنٍ ومؤمنة.(1)
والنصوصُ أيضًا بيّنت هذا الأمرَ الإلهي، فقد رويَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام: قَالَ:
«بُنِیَ الاسْلامُ عَلی خَمْسٍ: عَلَی الصَّلوةِ وَ الزَّکاةِ وَ الصَّومِ وَالْحَجِّ وَ الْولایةِ وَ لَمْ یُنادَ بِشَی ءٍ کما نُودِیَ بِالولایةِ
«بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ والصَّوْمِ والحَجِّ والوَلَايَةِ، ولَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالوَلَايَةِ». (2)
وعَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ»؟ قَالَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: نَزَلَتْ فِي وَلَايَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.(3)
ومنه يتضح أنَّ عدمَ الإيمان بأهلِ البيت علیهم السلام مع العلم بأنَّ اللهَ (تعالى) افترضَ طاعتَهم وإمامتَهم، هو ذنبٌ عظيمٌ، بل هو خروجٌ عن العبوديّة التي يلزمنا أن نمتثلها مع أوامرِ الله (تعالى) جملةً وتفصيلًا.
يؤكِّدُ القرآنُ الكريمُ على أنَّ أجرَ النبيّ الأعظم صلي الله علیه و اله و سلم إزاء أدائه الرسالةَ
ص: 202
الإلهيةَ التي تحمّلُ من أجلِها أصعبَ الظروف والشدائد، هي مودة أهلِ البيت علیهم السلام، وفي الحقيقة أنَّ هذا الأجر أيضًا يرجعُ إلى الأمَّة بالخير والنفع؛ لأن مودّتهم عليهم السلام تنعكسُ إيجابًا على العبدِ في التوفيق في الدُنيا والجنة في الآخرة، فالنبيُّ صلي الله علیه و اله و سلم لم يطلب أجرًا خاصًا لنفسه، وإنما طلبه لأجل أمته أيضًا.
وقد بيّنت بعضُ الرواياتِ هذا المعنى، فقد روي عن جابر قال:جاءَ أعرابیٌّ إلَی النَّبِیِّ صلی الله علیه و آله و سلم فَقالَ: یا مُحَمَّدُ، اِعرِض عَلَیَّ الإِسلامَ، فَقالَ: تَشهَدُ أن لا إلهَ إلَا الله وَحدَهُ لا شَریکَ لَهُ، وأنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ. قالَ: تَسأَلُنی عَلَیهِ أجرا؟ قالَ: لا، إلَا المَوَدَّةَ فِی القُربی، قالَ: قُربایَ أو قُرباکَ ؟ قالَ: قُربایَ، قالَ: هاتِ اُبایِعکَ، فَعَلی مَن لا یُحِبُّکَ ولا یُحِبُّ قُرباکَ لَعنَةُ الله، قالَ صلی الله علیه و آله: آمینَ . (1)
لقد أكّدتِ النصوصُ الكثيرةُ على أنَّ من لا يعرفُ أهلَ البيت علیهم السلام، ولا يعرف إمامَ زمانه، فإنّه يموتُ كأنّه كافرٌ، أيّ إنّه ضالٌّ كضلالِ الكفّار الذين لم يؤمنوا بالحقِّ رغمَ معرفتهم به.
روي عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أنَّه قال: «مَن ماتَ ولَیسَ لَهُ إمامٌ ماتَ میتَهً جاهِلِیَّهً». (2)
و عنِ الإمامِ أبي جعفر علیه السلام أنَّه قال: مَن ماتَ لا یَعرِفُ إمامَهُ، ماتَ میتَهً
ص: 203
جاهِلِیَّةَ کُفرٍ ونِفاقٍ وضَلالٍ». (1)
وعَن ابْنِ أَبي يَعْفُورٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ قَوْلِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم: مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَه إِمَامٌ فَمِیتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، قُلْتُ: مِيتَةُ كُفْرٍ؟ قَالَ عَلَیهِ السّلام: مِيتَةُ ضَلَالٍ. قُلْتُ: فَمَنْ مَاتَ اليَوْمَ ولَيْسَ لَه إمَامٌ فَمِيتَتُه مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ؟ فَقَالَ علیه السلام: نَعَم. (2)
في يومِ القيامة، سيكونُ الحسابُ دقيقًا جدًا، ولن تكونَ هناك فرصةٌ للهرب أو التنصُّل أو إخفاءِ الحقائق، و آنذاك، أكّدتِ النصوصُ على أنَّ النَّاسَ يقعون في زلازلَ نفسيةٍ وخوفٍ عجيب، ولا ينجو من ذلك الخوفِ والرعبِ إلّا من كانَ مؤمناً بأهلِ البيت علیهم السلام.
والنصوصُ في ذلك كثيرةٌ، منها:
ما جاءَ في صحيحةِ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله علیه السلام قال: إذا كانَ يومُ القيامةِ نادى منادٍ: مَنْ شهدَ أَنْ لا إله إلا الله فليدخلِ الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تَخاصم الناسُ إذا كانَ من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنّه إذا كانَ يوم القيامة نسوها. (3)
وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ:یَا أَبَانُ إِذَا قَدِمْتَ الْکُوفَةَ
ص: 204
فَارْوِ هَذَا الْحَدِیثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ إِنَّهُ یَأْتِینِی مِنْ کُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ، أَفَأَرْوِی لَهُمْ هَذَا الْحَدِیثَ؟ قَالَ: نَعَمْ یَا أَبَانُ، إِنَّهُ إِذَا کَانَ یَوْمُ الْقِیَامَةِ وَ جَمَعَ الله الاَوَّلِینَ وَ الْآخِرِینَ فَتُسْلَبُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلله) مِنهُم، إِلّا مَنْ کَانَ عَلَی هَذَا الأمر. (1)
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلي الله علیه و آله و سلم: إذا فرغَ اللهُ (تعالى) من الحسابِ للعبادِ يأمرُ الملكين فيقفانِ على الصراط، فلا يجوزُ الصراطَ أحدٌ إلا ببراءةٍ بولايةٍ من علي، فمن لم يكن معه أكبّه اللهُ على وجهه في النار. (2)
هذا كُلُّه مصيرُ مَنْ لم يؤمن بهم علیهم السلام في الدنيا، وهو يعلمُ أنَّ الحقَّ فيهم، من دونِ أَنْ يُعاديَهم.
أما مصيرُ من عادى أهلَ البيت علیهم السلام وأبغضهم وحاربهم، فهي النارُ لا محالة، والكفرُ الصريح، ومُعاداةُ رسولِ الله صلي الله عليه و آله و سلم، ومعاداةُ الله عزّ و جل.
رويَ عن جابر عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم:إنَّ اللهَ (تَعالی) جَعَلَ عَلِیًّا قائِدَ المُسلِمینَ إلَی الجَنَّةِ؛ بِهِ یَدخُلونَ الجَنَّةَ، و بِهِ یَدخُلونَ النّارَ، و بِهِ یُعَذَّبونَ یَومَ القِیامَةِ. قُلنا: وکَیفَ ذلِكَ یا رَسولَ الله ؟ قالَ: بِحُبِّهِ یَدخُلونَ الجَنَّةَ، وبُبغضِهِ یَدخُلونَ النّارَ و یُعَذّبون.(3)
ص: 205
و رويَ عن ابنِ عباس أنَّه مرَّبمجلسٍ من مجالسِ قريش وهم يسبّون علي بن أبي طالب علیه السلام، فقال لقائده: ما يقولُ هؤلاء؟ قال: يسبّون عليًّا. قال: قرّبني إليهم، فلمّا أنْ أوقفَ عليهم، قال: أيُّكم السابُّ الله؟ قالوا: سُبحان الله ! من يسبّ اللهَ فقد أشرك بالله. قال: فأيُّكم السابُّ رسولَ الله صلي الله عليه و آله و سلم ؟ قالوا: من يسبّ رسولَ الله فقد كفر. قال: فأيُّكم السابُّ علي بن أبي طالب؟ قالوا: قد كانَ ذلك . قال: فأشهدُ بالله وأشهدُ لله، لقد سمعتُ رسولَ الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول:
«من سبَّ عليًّا فقد سبَّني، ومن سبّني فقد سب الله (تعالى)»، ثم مضى...(1)
وعن محمد بن منصور: كُنّا عند أحمد بن حنبل، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الله ، ما تقولُ في هذا الحديث الذي يُروى أنّ عليًّا قال: أنا قسيم النار؟ فقال: وما تنكرون مِن ذا ؟! أليسَ روينا أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال لعلىٍّ: «لا يُحِبُّك إلا مؤمنٌ ولا يُبغِضُك إلا منافق»؟ قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنة. قال: وأين المنافق؟ قلنا : في النار . قال: فعليٌّ قسيم النار.(2)
وعن أبان بن تغلب عن الإمام الباقر عن آبائه علیهم السلام عن رسولِ الله صلي الله عليه و آله و سلم أنّه قالَ للمهاجرين والأنصار: أحِبّوا عليًّا لحُبّي، وأكرِموه لكرامتي، والله ما قلتُ لكم هذا من قِبلي، ولكنّ الله (تعالى) أمرني بذلك، و يا معشر العرب، من أبغضَ عليًّا من بعدي حشره اللهُ يومَ القيامةِ أعمى ليس له حجّة. (3)
ص: 206
1/ أنَّ مخالفةَ الأمرِ الإلهي مع العلمِ والعمدِ توجب السخطَ الإلهي و الطردَ من الرحمةِ الإلهية.
2/ أنَّ ولايةَ أهلِ البيت علیهم السلام أمرٌ إلهيٌّ واضح، فعدمُ الإيمانِ بهم علیهم السلام مُخالفةٌ صريحةٌ للأمر الإلهي.
3/ أنَّ أجرَ النبي الأعظم صلي الله عليه و أله و سلم هو مودةُ أهلِ البيت علیهم السلام بأمر اللهِ (تعالى)، وهو أجرٌ ترجعُ فائدتُه إلى الأمة.
4 / أنَّ الحفاظَ على الإيمان، والخروجَ من الكفرِ والضلال، متوقِّفٌ على الإيمانِ بأهلِ البيت علیهم السلام.
5/ أنَّ من يطلب الأمانَ يومَ القيامة، عليه أن يؤمنَ بأهلِ البيت علیهم السلام.
6/ أنَّ من يُعادي أهلَ البيت عليهم السلام فمصيرُه النارُ لا محالة.
ص: 207
السؤال الأول: هل يجب على المؤمنين الإيمانُ بأهل البيت علیهم السلام ؟ ولماذا؟
وما الآثار المترتبة على عدم الإيمان بهم؟
السؤال الثاني: ما عواقب معاداة أهل البيت عليهم السلام ؟
السؤال الثالث: ما أجر تبليغ النبي صلي الله عليه و آله و سلم رسالته للناس؟ وما الدليل على ذلك؟
ص: 208
قال (تعالی):«قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». (1)
تقدّمَ أنَّ عدمَ الإيمانِ بأهلِ البيت عليهم السلام - فضلًا عن معاداتهم- تترتبُ عليه العديدُ من الآثارِ السلبية على مستقبل الإنسان الأخروي، و يؤدّي إلى سلبِ التوفيقِ عنه في الدنيا.
و من هُنا، لسائلٍ أن يسأل كيفَ لي أن أكونَ مؤمناً بأهلِ البيت عليهم السلام لأضمنَ التوفيقَ الدُنيوي والسعادةَ الأخروية؟
كيفَ لي أن أكونَ من شيعتِهم، ومواليهم، وممن ركب سفينة نجاتهم؟
الجواب:
هناك مُفرداتٌ عديدة لا بُدّ من الالتزامِ بها ليكونَ العبدُ مؤمنًا بأهلِ البيتِ عليهم السلام، مُستفادةٌ من أحاديثِهم عليهم السلام، وسنكتفي في هذا المجال بمُتابعةِ حديثٍ واحدٍ وردَ في هذا المعنى.
ص: 209
فقد رويَ عن أَبِی الجَارُودِ: قُلتُ لِأَبی جَعفَرٍ علیه السلام:یَا بنَ رَسولِ الله، هَل تَعرِفُ مَوَدَّتی لَکُم و انقِطاعی إلَیکُم و مُوالاتی إیّاکُم؟ قال: فَقالَ علیه السلام:نَعَم. قَالَ: فَقُلتُ: فَإِنّی أسأَلُکَ مَسأَلَهً تُجیبُنی فیها،فَإِنّی مَکفوفُ البَصَرِ، قَلیلُ المَشیِ،ولا أستَطیعُ زِیارَتَکُم کُلَّ حینٍ. قالَ علیه السلام: هاتِ حاجَتَکَ. قُلتُ:أخبِرنی بِدینِکَ الَّذی تَدینُ اللهَ عز و جل بِهِ أنتَ وأهلُ بَیتِکَ، لَأَدِینَ اللهَ عز و جل بِهِ؟ قالَ علیه السلام:إن کُنتَ أقصَرتَ الخُطبَةَ فَقَد أعظَمتَ المَسأَلَةَ،وَالله لَاُعطِیَنَّكَ دینی ودینَ آبائِیَ الَّذی نَدینُ الله عز و جل بِهِ: شَهادَةَ أن لا إلهَ إلَّاالله،و أنَّ مُحَمَّداً رَسولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم، وَالإِقرارُ بِما جاءَ بِهِ مِن عِندِ الله، وَالوَلایَةَ لِوَلِیِّنا،وَالبَراءَةَ مِن عَدُوِّنا،وَالتَّسلیمَ لِأَمرِنا،وَانتِظارَ قائِمِنا،وَالاِجتِهادَ وَالوَرَعَ. (1)
لقد أشارَ هذا الحديثُ إلى مُفرداتٍ عديدة تُمُثِّلَ ركائزَ و دعائمَ الدين الحق، وتُمثِّلَ أساسات وشروطَ الانتماءِ لأهلِ البيت علیهم السلام، ومحاور الإيمان بهم بحقّ، وهي على نحو الإجمال:
هذه هي الخطوةُ الأولى للدخول في الإسلام، ولا يختلفُ اثنانِ في ضرورتِها ليخرج العبد من الكفرِ إلى الإسلام، وإذا لم يُقرّ العبدُ بالشهادتين فهو يخرجُ عن أصلِ الإسلام، لا عن التشيُّع فحسب.
ص: 210
«الشهادةُ هي الاعترافُ بالشيء وإن لم توطَّن النفسُ على الانقيادِ والإذعان، وأما الإقرارُ فهو التكلُّمُ بالحقِّ اللازمِ على النفس مع توطينِ النفسِ على الانقياد والإذعان، ويشهدُ له قوله (تعالى) «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (1) ». (2)
فكُلُّ من الشهادةِ والإقرار يشتركانِ في القطعِ بما يشهدُ ويُقِرُّ به ، ولكنّهما يفترقان في أنَّ الإقرارَ يزيدُ على الشهادةِ بأنَّ فيه توطينًا للنفس على الإذعانِ والانقيادِ لمن تقرّ له أو تقرّ به.
وهذا يعني أنَّ المطلوبَ من المسلم ليس مُجرّدَ لَقلَقةِ اللسانِ بالشهادتين، وإنّما لا بُدّ معه من الإقرارِ والاعتقادِ القلبي بمضمونِ الشهادتين، وما يترتبُ عليه من لزومِ العملِ وفقَ ما تقضيه الشهادتان من امتثالِ أوامرِ اللهِ (تعالى) التي بلّغَ بها النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم.
هناك مرتبتانِ للإيمانِ بالله (تعالى) وبالرسولِ الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم:
المرتبة الأولى مرتبةُ الإسلامِ الظاهري.
المرتبة الثانية مرتبةُ الإسلامِ الباطني أو الواقعي.
والفرقُ بينهما يتضحُ من خلالِ مطالعةِ الروايات التالية:
ص: 211
الرواية الأولى:
عَنِ الْقَاسِمِ اَلصَّیْرَفِیِّ شَرِیکِ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ یَقُولُ: «اَلْإِسْلاَمُ یُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ، وَ تُؤَدَّی بِهِ الْأَمَانَةُ، وَ تُسْتَحَلُّ بِهِ الْفُرُوجُ، وَ اَلثَّوَابُ عَلَی اَلْإِیمَانِ». (1)
الرواية الثانية: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام قَالَ: «الإِیمانُ إقرارٌ، وعَمَلٌ،وَالإِسلامُ إقرارٌ بِلا عَمَلٍ». (2)
الرواية الثالثة: عَنْ سُفْیَانَ بْنِ السِّمْطِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ عَنِ الاِسْلاَمِ وَ اَلْإِیمَانِ مَا الْفَرْقُ بَیْنَهُمَا؟ فَلَمْ یُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ یُجِبْهُ، ثُمَّ الْتَقَیَا فِی الطَّرِیقِ وَ قَدْ أَزِفَ (ای قرب) مِنَ الرَّجُلِ الرَّحِیلُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «کَأَنَّهُ قَدْ أَزِفَ مِنْکَ رَحِیلٌ»؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: «فَالْقَنِی فِی اَلْبَیْتِ»، فَلَقِیَهُ فَسَأَلَهُ عَنِ اَلْإِسْلاَمِ وَ اَلْإِیمَانِ مَا اَلْفَرْقُ بَیْنَهُمَا؟
فَقَالَ علیه السلام: اَلْإِسْلاَمُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِی عَلَیْهِ النَّاسُ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحدَهُ لَا شَرِیكَ لَهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَ رَسُولُهُ، وَ إِقَامُ اَلصَّلاَةِ وَ إِیتَاءُ اَلزَّکَاةِ وَ حِجُّ اَلْبَیْتِ وَ صِیَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهَذَا اَلْإِسْلاَمُ.
وَ قَالَ: اَلْإِیمَانُ مَعْرِفَةُ هَذَا الْأَمْرِ مَعَ هَذَا، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا وَ لَمْ یَعْرِفْ هَذَا الْأَمْرَ کَانَ مُسْلِماً وَ کَانَ ضَالاًّ». (3)
ص: 212
والخُلاصةُ المُستفادةُ من هذهِ الرواياتِ الثلاثةِ: أنَّ الفرق بينهما:
أنَّ الإسلامَ عبارةٌ عن حصانةٍ دبلوماسية إذا صحَّ التعبير، يحقنُ الشخصُ بها دمَه وعرضَه ومالَه، ويكونُ له ما للمُسلمين، وعليه ما على المُسلمين،يُصلّي عليه المُسلمون إذا مات، ويُدفَنُ في مقابرِ المسلمين، ويجوزُ تزويجُه والزواجُ منه، إلى آخرِ هذهِ الأحكامِ الظاهرية.
وأنَّ هذه المرتبةَ من الإسلامِ يُمكنُ أن تجتمعَ مع النفاق؛ لأنّها مُجردُ إظهارٍ للإسلام بمُجرَّدِ لقلقةِ لسان، ومن هُنا كانَ الثوابُ على الإيمان (الاعتقاد الباطني)، وهذا ما عبّرت عنه الروايةُ الأولى.
وهو نفسُ المعنى المُراد في الروايةِ الثانية من أنَّ الإسلامَ إقرارٌ بلا عمل، فإذا اقترنَ بالعملِ كانَ إيمانًا.
أما الروايةُ الثالثةُ فقد ذكرتِ الرُّكنَ الأساسي في الإيمان وهي: الولاية لأهلِ البيت علیهم السلام، وهي أسّ الإسلام.
فالفرقُ الأساسى بينَ الإسلامِ والإيمانِ هو أنَّ الإسلامَ مُتعلِّقٌ بالظاهر، وأما الإيمانُ فمُتعلِّقٌ بالباطن، وهو عقدُ القلبِ بما تلفظُ به بلسانك.
وهو ما يُشيرُ إليه قوله (تعالى): «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». (1)
ص: 213
إذا ادّعى العبدُ أنّه مؤمنٌ بالله (تعالى)، وبرسوله صلي الله عليه و آله و سلّم، فإنّه يترشّحُ عن هذه الشهادةِ والإقرارِ بها أمورٌ عديدة، لا بُدّ من التزامه بها، ليُحقِّقَ الإقرارَ بها تطبيقًا، لا مُجرّد لقلقةِ لسان، وأهمها التالي:
1- تصديقُ النبي الأكرم صلي الله عليه و آله و سلّم فيما أخبرَ به من أمورٍ ماضيةٍ أو مستقبليةٍ، ممّا يتعلّقُ بأمرِ الدُنيا أو الآخرة، وما له علاقةٌ بالأحكامِ الشرعية أو غيرها.
2- إطاعةُ النبي الأكرم صلي الله عليه و آله و سلّم فيما أمر، واجتنابُ ما نهى عنه وزجر، وإن كانَ على خلافِ الطبعِ أو التقاليد، فالمطلوبُ هي الطاعةُ العمياءُ له صلی الله علیه و آله و سلم لأنّه «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »، (1) ولأنَّ اللهَ (تعالى) قال: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ ».(2)
3 - أخذُ طريقةِ العبادةِ المناسبةِ والصحيحةِ من تعليماته هو صلي الله عليه و آله و سلّم لا غير، فلا أعرفَ منه هو في بيان تلك الطرق، اللهم إلا إذا أمرَ هو باتباع شخص ما في تشخيصِ طريقةِ العبادة، أو كانَ الشخصُ ينقلُ عنه صلي الله عليه و آله و سلّم إذا كانَ ذلك الشخصُ مأمونًا في النقلِ، ورعًا عن الكذب.
1/ أنّ الإيمانَ بأهلِ البيت عليهم السلام هو طريقُ النجاةِ الوحيد في هذه الحياة،
ص: 214
وأنّه ليس مُجرَّدَ لقلقةِ لسان، وإنّما هو منظومةٌ متكاملةٌ من الاعتقاداتِ والعملِ المُتوافقِ مع تلك الاعتقادات.
2/ أنَّ أولَ خطوةٍ للدخولِ في ربقةِ المؤمنين هو الإقرارُ بالشهادتين، وليس مُجرّدَ التلفُّظِ اللساني بهما.
3/ أنَّ للإيمانِ بالله (تعالى) مرتبتين: ظاهرية، وواقعية، والمطلوبُ أن لا يتوقّفَ العبدُ عند الإسلامِ الظاهري، بل لا بُدَّ له من التكامُلِ والوصولِ إلى مرتبةِ الإيمانِ الحقيقي الواقعي، والذي يتحقّقُ بالإيمانِ بأهلِ البيت عليهم السلام.
4/ أنَّ الإقرارَ بالشهادتين، يوجِبُ على العبدِ أن يتَّبعَ أوامرَ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في كُلِّ ما أمرَ و ما نهى، وتصديقه في كُلِّ ما جاءَ به من خبرِ الأرضِ وخبرِ السماء، وأخذ الشريعةِ منه، أو ممّن عيّنَه، أو ممّن ينقلُ عنه إنْ كانَ ثقةً مأمونًا على الدين.
ص: 215
السؤال الأول: كيفَ للمسلم أن يكونَ من شيعةِ أهل البيت علیهم السلام؟
السؤال الثاني: ما الفرق بين الإسلام الظاهري والإسلام الباطني؟
السؤال الثالث: لتحقيق الإقرار التطبيقي بالشهادتين، هناك أمورٌ عديدة لا بُدَّ من الالتزام بها، اذكرها.
ص: 216
قال (تعالى): «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». (1)
في هذه الركيزة أمورٌ ثلاثة، الثاني والثالث تمَّ التصريحُ بهما في الحديث، والأمرُ الأولُ مُستبطَنٌ فيهما، وهما متفرّعانِ عنه، والأمورُ الثلاثةُ هي:
أي الاعتراف والإقرار بأنهم عليهم السلام أوصياءُ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، الأمرُ الذي يلزم منه وجوبُ طاعتِهم وموالاة وليهم ومعاداة عدوهم؛ لأنّ موالاتهم ترجعُ بالتالي إلى موالاةِ رسولِ الله صلى الله عليه و آله و سلم، ومعاداتهم كذلك.
إنَّ قضيةَ الاعترافِ بإمامةِ أهلِ البيتِ علیهم السلام وأنّهم أوصياءُ الرسولِ
ص: 217
الأکرم صلى الله عليه و آله و سلم وخلفاؤه بلا فصل، هي من مُقتضياتِ الشهادةِ بالرسالة أي إنّ لازمَ الاعترافِ بنبوةِ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو الاعترافُ بإمامةِ أهلِ البيت عليهم السلام، إذ الإمامةُ صنو النبوة، ولا يُمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ النبيَّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم تركَ أمّته في مهبِ الريحِ، وعواصفِ الروم، ومخاطرِ الفرس من دونِ أنْ يُعيّنَ لهم الإمامَ من بعده، كيف، وقد أُمرَ رسولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم بتبليغِ ذلك لأمتهِ في حُجّةِ الوداع في منطقةِ غدير خُمّ عندما نزلت عليه آيةُ التبليغ.
وكيفَ، وهو الذي ما تركَ شيئًا يهمُّ المسلمين إلا وقد بيّنه لهم، فقد رويَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله و سلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «یا أَیُّهَا النّاسُ، وَالله ما مِنْ شَیْءٍ یُقَرِّبُکُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَیُباعِدُکُمْ مِنَ النّارِ إِلاّ وَقَدْ أَمَرْتُکُمْ بِهِ، وَما مِنْ شَیْءٍ یُقَرِّبُکُمْ مِنَ النّارِ وَیُباعِدُکُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاّ وَقَدْ نَهَیْتُکُمْ عَنْهُ». (1)
ولذلك، وبعدَ أن بيّنَ الإمامُ الباقرُ علیه السلام ضرورةَ الإقرارِ بما جاء به النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، لم يحتج إلى ذكرِ ضرورةِ الاعترافِ بإمامةِ أهلِ البيت علیهم السلام، لأنّها من مقتضياتِ الإقرارِ بما جاءَ به النبيُّ الأكرمُ صلى الله عليه و آله و سلم.
وقد تقدَّمتْ بعضُ الأدلةِ على تنصيبِ أهلِ البيت علیهم السلام أئمةً بعد رسولِ الله صلى الله عليه و آله و سلم مباشرة .
علمًا أنَّ المقصودَ هو الإيمانُ باثني عشر إمامًا كلهم، وأنَّ عدمَ الإيمانِ بأيّ واحدٍ منهم عليهم السلام يعني عدمَ الإيمانِ بهم كلهم، ولذا رويَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: قَالَ الله (تعالى): «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ص: 218
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ».
قَالَ عَلَیهِ السّلَام: «اَلَّذِینَ آمَنُوا» النَّبِیُّ صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ و سلم وَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ عَلَیهِ السّلَام، وَ ذُرِّیَّتُهُ اَلْأَئِمَّةُ وَ الْأَوْصِیَاءُ (صلوات الله عَلَیْهِم)، أَلْحَقْنَا بِهِمْ وَ لَمْ نَنْقُصْ ذُرِّیَّتُهُمْ الْحُجَّةَ الَّتِی جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ (صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ) فِی عَلِیٍّ عَلَیهِ السّلَام، وَ حُجَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَ طَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ. (1)
أى الموالاةُ القلبيةُ والمودةُ والمحبةُ لأهلِ البيتِ علیهم السلام، التي لا بُدَّ أن يظهرَ أثرُها على الفردِ في جميع مستويات حياته، فلا يتزوّجُ إلا من تودُّ أهلَ البيت عليهم السلام، ولا يُسمّي أولاده إلا بأسماء يُحِبُّها أهلُ البيت عليهم السلام، ولا يعملُ إلا الأعمال التي يرضاها أهلُ البيت علیهم السلام، وشعارُه مع أهل البيت عليهم السلام هو: أنَّ الحقَّ ما رضيتموه، والباطلَ ما أنكرتموه.
بمعنى أنَّ على من يُحِبُّ أهلَ البيت عليهم السلام، أنْ لا يُحِبَّ أعداءهم ولا يواليهم، ولا يعملَ الأعمالَ التي يُحِبُّها أعداءُ أهل البيت علیهم السلام، وإلا فحُبُّهم علیهم السلام مع حُبِّ أعدائهم هو من المُضحِكاتِ المُبكيات.
وخُلاصةُ هذين الأمرين هي قولك: «إنّي سلمٌ لمن سالمكم، وحربٌ لمن حاربكم، و وليٌ لمن والاكم، وعدوٌ لمن عاداكم».
ص: 219
هل من ضرورةٍ لمُعاداةِ أعداء أهلِ البيت عليهم السلام ؟
هناك نصوصٌ عديدةٌ تُجيبُ عن هذا السؤال، وتؤكِّدُ ضرورةَ التبرّي في اكتمالِ مفهوم التولي، هذه بعضها :
عن أمير المؤمنين علیه السلام: «...إِنَّ عَبْداً لَنْ یُقَصِّرَ فِی حُبِّنَا لِخَیْرٍ جَعَلَهُ اللهُ فِی قَلْبِهِ، وَ لَنْ یُحِبَّنَا مَنْ یُحِبُّ مُبْغِضَنَا، إِنَّ ذَلِكَ لاَ یَجْتَمِعُ فِی قَلْبٍ وَاحِدٍ وَ «ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ»،(1) یُحِبُّ بِهَذَا قَوْماً، وَ یُحِبُّ بِالْآخَرِ عَدُوَّهُمْ، وَ الَّذِی یُحِبُّنَا فَهُوَ یُخْلِصُ حُبَّنَا کَمَا یُخْلِصُ الذَّهَبَ لاَ غِشَّ فِیهِ، نَحْنُ النُّجَبَاءُ، وَ أَفرَاطُنَا أَفرَاطُ اَلْأَنْبِیَاءِ، وَ أَنَا وَصِیُّ الأوصياء، وَ أَنَا حِزْبُ الله وَ رَسُولِهِ علیه السلام، وَ الْفِئَةُ الْبَاغِیَةُ حِزْبُ الشَّیْطَانِ؛ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ یَعْلَمَ حَالَهُ فِی حُبِّنَا فَلْیَمْتَحِنْ قَلْبَهُ، فَإِنْ وَجَدَ فِیهِ حُبّ من أَلَّبَ علَینا، فَلْیَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَدُوُّهُ، وَ جِبْرئیلَ وَ مِیکَائیلَ وَ االلهُ عَدُوٌّ لِلْکَافِرِینَ». (2)
فالروايةُ واضحةٌ في أَنَّ حُبَّ أهلِ البيت عليهم السلام لا يكتملُ مفهومُه ولا يصدقُ إلا بضمِّ البراءةِ من عدوِّهم وبغضهم.
و رويَ عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّیْطَانِ الرَّجِیمِ، فَإِنَّ مَنْ تَعَوَّذَ بِاللهِ مِنهُ أَعَاذَهُ الله، (وَ تَعَوَّذُوا) مِنْ هَمَزَاتِهِ وَ نَفَخَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ، أَ تَدْرُونَ مَا هِیَ ؟ أَمَّا هَمَزَاتُهُ، فَمَا یُلْقِیهِ فِی قُلُوبِکُمْ مِنْ بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَیْتِ.
قَالُوا: یَا رَسُولَ اللهِ! وَ کَیْفَ نُبْغِضُکُمْ بَعْدَ مَا عَرَفْنَا مَحَلَّکُمْ مِنَ الله
ص: 220
وَ مَنْزِلَتَکُمْ؟
قَالَ صلى الله عليه و آله و سلم: بِأَنْ تُبْغِضُوا أَوْلِیَاءَنَا، وَ تُحِبُّوا أَعْدَاءَنَا، فَاسْتَعِیذُوا بِاللهِ مِنْ مَحَبَّةِ أَعْدَائِنَا، وَ عَدَاوَةِ أَوْلِیَائِنَا، فَتَعَاذُوا مِنْ بُغْضِنَا وَ عَدَاوَتِنَا، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ أَعْدَاءَنَا فَقَدْ عَادَانَا وَ نَحْنُ مِنْهُ بِرَاءٌ، وَ الله عَزَّ وَ جَلَّ مِنْهُ بَرِیءٌ».(1)
و روي عن الإمام الصادق علیه السلام: «مَنْ شَکَّ فِی کُفْرِ أَعْدَائِنَا وَ اَلظَّالِمِینَ لَنَا فَهُوَ کَافِرٌ». (2)
وَ رُوِیَ أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ عَلَی أَمِیرِ اَلْمُؤْمِنِینَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ: یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ، أَنَا أُحِبُّکَ وَ أُحِبُّ فُلاَناً وَ سَمَّی بَعْضَ أَعْدَائِهِ، فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ: أَمَّا اَلْآنَ فَأَنْتَ أَعْوَرُ، فَإِمَّا أَنْ تَعْمَی، وَ إِمَّا أَنْ تُبْصِرَ. (3)
وَ قِیلَ للإمام الِصَّادِقِ عَلَیْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ فُلاَناً یُوَالِیکُمْ، إِلاَّ أَنَّهُ یَضْعُفُ عَنِ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَدُوِّکُمْ، فَقَالَ: هَیْهَاتَ، کَذَبَ مَنِ اِدَّعَی مَحَبَّتَنَا وَ لَمْ یَتَبَرَّأْ مِنْ عَدُوِّنَا.(4)
و على كُلِّ حال، فإنَّ القرآنَ الكريمَ يؤكِّدُ أنَّ محبةَ الله (تعالى) و أوليائه لا تجتمعُ مع حُبِّ الكافرين والظالمين، فمن يُحِبّ اللهَ (تعالى) و رسوله و أولياءه، عليه أن يُعاديَ أعداءهم، ليكونَ حبُّه صادقًا، وموالاته خالصة.
قال (تعالى): «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
ص: 221
وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ». (1)
و قال (تعالی): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِالله رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ». (2)
إذا ثبتَ أنَّ أهلَ البيت عليهم السلام هم الأئمةُ بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مباشرة، فهذا يعني لزومَ طاعتِهم عليهم السلام، ويعني أنَّ الدينَ إِنّما يؤخَذُ منهم حصرًا، لا من غيرهم؛ لأنّهم الواسطةُ بيننا وبين الرسول صلي الله عليه و آله و سلم في إيصالِ الدينِ إلينا، فضلاَ عن كونهم عليهم السلام مُخبرين معصومين عن الواقع، وهو ما تُشيرُ له العديدُ من النصوص من قبيل ما روى جابر، قال: قلتُ لأبي جعفر محمدٍ بن عليٍّ الباقر عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «إِذَا حَدَّثْتَنِی بِحَدِیثٍ فَأَسْنِدْهُ لِی، فَقَالَ: «حَدَّثَنِی أَبِی، عَنْ جَدِّی، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ، عَنْ جَبْرَئِیلَ علیه السلام، عَنِ الله (تَعَالَی)، وَ کُلُّ مَا
ص: 222
أُحَدِّثُکَ بِهَذَا اَلْإِسْنَادِ»، وَ قَالَ علیه السلام: «یا جابر، لَحَدِیثٌ وَاحِدٌ تَأْخُذُهُ عَنْ صَادِقٍ خَیْرٌ لَکَ مِنَ اَلدُّنْیَا وَ مَا فِیهَا».(1)
و روى حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِیِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ: نَسْمَعُ الْحَدِیثَ مِنْكَ، فَلاَ أَدْرِی مِنْك سَمَاعُهُ أَم مِنْ أَبِیكَ؟ فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلاَمُ: مَا سَمِعْتَهُ مِنِّی فَارْوِهِ عَنْ أَبِی، وَ مَا سَمِعْتَهُ مِنِّی فَارْوِهِ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ و سلم». (2)
بل وَرَدَ عَن هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وَ غَیْرِهِ قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ یَقُولُ: حَدِیثِی حَدِیثُ أَبِی، وَ حَدِیثُ أَبِی حَدِیثُ جَدِّی، وَ حَدِیثُ جَدِّی حَدِیثُ الْحُسَیْنِ، وَ حَدِیثُ اَلْحُسَیْنِ حَدِیثُ الْحَسَنِ، وَ حَدِیثُ الْحَسَنِ حَدِیثُ أَمِیرِ اَلْمُؤْمِنِینَ علیهم السلام، وَ حَدِیثُ أَمِیرِ اَلْمُؤْمِنِینَ حَدِیثُ رَسُولِ الله صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ وَ حَدِیثُ رَسُولِ الله قَوْلُ الله عَزَّ وَ جَلَّ.(3)
1/ أنَّ منْ يؤمنُ برسالةِ النبي الأكرم صلّی الله علَیهِ وَ آلهِ و سلم و مقتضياتِها التي تقدّمت في الدرسِ السابق، عليه أن يؤمنَ بإمامةِ أهلِ البيت عليهم السلام بعد مباشرة، لأنّه صلّی الله علَیهِ وَ آلهِ و سلم بلّغَ عن اللهِ (تعالى) أنَّ الأئمةَ من بعدِه هم أهلُ البيتِ الطاهرون علیهم السلام
2/ أنَّ من يؤمنُ بإمامةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام علیه أنْ يُحِبّهم، ويعملَ الأعمالَ
ص: 223
التي يُحبونها.
3/ و عليه أيضًا أنْ يُعاديَ أعداءهم، ولا يُمكنُ أنْ يجتمعَ حُبُّهم مع حُبِّ أعدائهم في قلبٍ واحد.
4/ و منه يُعلم: أن من أهم مقتضيات موالاة أهل البيت عليهم السلام و معاداة أعدائهم هو: أخذ الدين عن طريقهم حصرًا، لأنّهم الطريقُ المُنحصرُ الذي يوصلنا إلى رسولِ الله صلي الله عليه و آله و سلّم.
ص: 224
السؤال الأول: لموالاةِ أهلِ البيت علیهم السلام ومعاداة عدوهم ركائز، اذكرها.
السؤال الثاني: هل من ضرورةٍ لمُعاداةِ أعداءِ أهلِ البيت علیهم السلام ؟
السؤال الثالث: لماذا وجب أخذ الدين حصرًا عن طريقِ أهلِ البيت عليهم السلام ؟
ص: 225
ص: 226
قال (تعالى):«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا». (1)
حتى تتضح هذه الركيزة نذكر الأمور التالية:
لا شكّ أنَّ استسلامَ إنسانٍ لإنسانٍ مثله يُعدُّ من الصفاتِ الرذيلة، والأمور التي يُحاولُ أن يبتعدَ عنها المرءُ مهما أوتي إلى ذلك سبيلًا، وأنَّ الاستقلالَ في الرأي أو العمل هو من مُقوّماتِ النجاحِ في الحياة، وهو إذا لم يستسلم لضغطٍ أو قوةٍ أو ظروفٍ فإنّه سيكونُ موضعَ تقديرٍ وإكبار، هذا فضلاً عن الاستسلام في كيفيةِ طريقةِ الحياةِ والفكر والعمل، فإنَّ الإنسانَ الآخر هو بالتالي إنسان، وليس هو أعلمَ بمصالح غيره منه، وقد يجرُّالنارَ لقرصه، وغيرها من الاعتبارات...
أمّا إذا وصلتِ المسألةُ إلى الله عزّ و جل، وإلى رسوله صلي الله علیه و آله و سلم وأهل البيت عليهم السلام
ص: 227
فإنَّ المسألةَ ستنعكس،و سيكونُ من الفخرِ أنْ يستسلمَ المؤمن لأمرهم، ومن العقل أن يتبعهم بلا نقاش، وكلما زاد استسلامه (أو قُلْ تسليمه) لهم، زادت درجتُه الكماليةُ في الوجودِ عمومًا، والدّين خصوصًا؛ لأنّ اللهَ (تعالى) و رسولَه صلي الله علیه و آله و سلم و أهلَ البيت عليهم السلام هم أعلمُ بمصالح الفردِ من نفسه، وليس عندهم مصلحةٌ شخصيةٌ ليُقدّموها على مصلحته، فيكونُ اتباعُهم والتسليمُ لأمر هم موضعَ اطمئنانٍ ووثوق.
فحتى تكتملَ صورةُ الإيمان وتقوى قاعدته، لا بُدّ من أمرٍ آخر يُضافُ إلى الاعترافِ والإقرارِ بإمامةِ أهلِ البيت عليهم السلام والموالاة لهم والبراءة من عدوهم - مما تقدّم في الركيزة الثانية - ، ذلك الأمر هو (التسليم القلبي)
لأمرهم.
هي حالةُ الانصياعِ القلبي، والطاعةِ الداخليةِ، والرضا الباطني عن كُلِّ
ما يصدرُ عن الله (تعالى) ورسوله الكريم صلي الله عليه و آله و سلم وأهلِ البيت المعصومين عليهم السلام من قضاءٍ، أو حكَمٍ، أو تشريعٍ، أو أي شيءٍ آخر.
ومن الطبيعي أن يترتبَ على هذه الحالةِ الالتزام ُالتامُّ الكاملُ بجمیعِ مفرداتِ الشريعة، من واجباتٍ - بل ومستحبات - والابتعاد التامّ الكامل عن جميعِ نواهيها، من مُحرَّماتٍ إن لم نقُل: والمكروهات.
ص: 228
في الحقيقة، أنَّ التسليمَ القلبي والرضا النفسي أمرٌ مطلوبٌ في الدين
عمومًا ، فهو مطلوبٌ في قضاءِ الله (تعالى)، وفي قضاءِ رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، وفي أمرِ أهلِ البيت علیهم السلام، وهذا الأمرُ ضروريٌ جدًا لكي يكتملَ الإيمانُ بالدِّينِ عمومًا.
وقد بيّنَ أهميّته الإمامُ الصادق علیه السلام؛ إذ رويَ عنه أنّه قال: «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجُّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيءٍ صنعَه اللهُ (تعالىٰ) أو صنعه النبيُّ صلّى الله عليه وَ آله وَ سلّم: ألَا صنعَ خلافَ الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا هذه الآية: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما»، (1) ثمّ قال أبو عبد الله علَيه السّلام: «وعليكم بالتسليم».(2)
وفي سببِ نزولِ هذه الآيةِ روي أنَّ منازعةً كانت بين الإمام علي علیه السلام وعثمان، في أرضٍ اشتراها من علي علیه السلام، فخرجتْ فيها أحجار، وأرادَ ردَّها بالعيب، فلم يأخذها، فقالَ الإمام علي علیه السلام: بيني وبينك رسولُ الله صلّى الله عليه وَ آله وَ سلّم. فقال الحكمُ بن أبي العاص: إن حاكمتَه إلى ابنِ عمِّه يحكم له، فلا تُحاكَمهُ إليه! فنزلت الآيات. (3)
ص: 229
فالتسليمُ من صميمِ الدين وعمقِ الإيمان، وفي بيان هذه الحقيقةِ رويَ عَنْ یَحْیَی بْنِ زَکَرِیَّا الْأَنْصَارِیِّ ، عَنْ أَبِی عَبْدِ الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَمِعْتُهُ یَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ یَسْتَکْمِلَ الْإِیمَانَ کُلَّهُ، فَلْیَقُلِ: اَلْقَوْلُ مِنِّی فِی جَمِیعِ الْأَشْیَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ، فِیمَا أَسَرُّوا وَ مَا أَعْلَنُوا، وَ فِیمَا بَلَغَنِی عَنْهُمْ، وَ فِیمَا لَمْ یَبْلُغْنِی». (1)
عندَ مُطالعةِ التاريخِ، نجدُ هناك صفحاتٍ مشرقةً لأناسٍ آمنوا بربِّهم إلى الحدِّ الذي سلّموا فيه أمرَهم إليه ولم يُناقشوه في أمر، وما كانَ لهم سوى السمع والطاعة العمياء، فحفظهم لنا القرآنُ الكريم والتاريخُ ، وأطّرهم بالإجلالِ والإكبار، وجعلهم قدوةً يُقتدى بها، وأسوةً يُتأسّى بها.
عن مأمون الرقّي، قال: كُنتُ عند سيّدي الصادق عليه السلام إذ دخلَ سهل بن حسن الخراساني، فسلَّمَ عليه، ثمّ جلس، فقال له: يا ابن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهلُ بيتِ الإمامة، ما الذي يمنعُك أنْ يكونَ لك حقٌّ تقعدُ عنه وأنت تجدُ من شيعتك مائةَ ألفٍ يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له عليه السلام: «اجلس یا خراساني، رعى الله حقَّك»، ثمّ قال: «يا حنيفة أسجري التنّور»، فسجرته حتَّى صارَ كالجمرة وابيضَّ علوُّه، ثم قال: «يا خُراساني، قُمْ فاجلس في التنور»، فقال الخُراساني: يا سيدي يا ابنَ رسول
ص: 230
الله، لا تُعذِّبني بالنار، أقِلني أقالك الله، قال: «قد أقلتك»، فبينما نحنُ كذلك
إذ أقبل هارونُ المكّي ونعلُه في سبّابته، فقال: السلامُ عليك يا ابنَ رسولِ الله، فقال له الصادق عليه السلام: «ألقِ النعلَ من يديك واجلس في التنّور»، فألقی النعلَ من سبّابته، ثم جلسَ في التنّور، وأقبلَ الإمامُ يُحدِّثُ الخراساني حديثَ خراسان حتَّى كأَنَّه شاهد لها، ثمّ قال: «قُمْ يا خُراساني وانظر ما في التنّور»، قال: فقُمتُ إليه، فرأيتُه مُتربِّعًا، فخرجَ إلينا وسلَّمَ علينا، فقال الإمامُ عليه السلام: «كمْ تجدُ في خُراسان مثلَ هذا؟»، فقلت: والله ولا واحد، فقال عليه السلام: «لا والله ولا واحد، أمَا إنّا لا نخرجُ في زمانٍ لا نجد خمسةً مُعاضدين لنا، نحنُ أعلمُ بالوقت». (1) (1).
عن عبد الله بن أبی یعفور، قال: قلتُ لأبی عبدِ الله علیه السلام: وَ الله، لَوْ فَلَقْتَ رُمَّانَةً بِنِصْفَیْنِ، فَقُلْتَ: هَذَا حَرَامٌ، وَ هَذَا حَلاَلٌ، لَشَهِدْتُ أَنَّ اَلَّذِی قُلْتَ حَلاَلٌ حَلاَلٌ، وَ أَنَّ اَلَّذِی قُلْتَ حَرَامٌ حَرَامٌ، فَقَالَ: «رَحِمَکَ الله رَحِمَکَ الله».(2)
عن محمّد بن الحسن بن عمّار، قال:کنتُ عن علی ِّ بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدینة - و كنتُ أَقَمتُ عِنْدَهُ سَنَتَیْنِ، أَكْتُبُ عَنْهُ مَا سَمِعَ مِنْ أَخِیهِ یَعْنِی أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام -، إِذْ دَخَلَ عَلَیْهِ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیٍّ الرِّضَا عَلیه السلام
ص: 231
الْمَسْجِدَ - مَسْجِدَ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله - فَوَثَبَ عَلِیُّ بْنُ جَعْفَرٍ بِلَا حِذَاءٍ وَ لَا رِدَاءٍ، فَقَبَّلَ یَدَهُ وَ عَظَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «یَا عَمِّ، اجْلِسْ رَحِمَكَ الله»، فَقَالَ: یَا سَیِّدِی، كَیْفَ أَجْلِسُ وَ أَنْتَ قَائِمٌ؟! فَلَمَّا رَجَعَ عَلِیُّ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَی مَجْلِسِهِ جَعَلَ أَصْحَابُهُ یُوَبِّخُونَهُ وَ یَقُولُونَ: أَنْتَ عَمُّ أَبِیهِ وَ أَنْتَ تَفْعَلُ بِهِ هَذَا الْفِعْلَ؟! فَقَالَ: اسْكُتُوا إِذَا كَانَ الله عَزَّ وَ جَلَّ - وقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِه - لَمْ يُؤَهِّلْ هَذِه الشَّيْبَة وأَهَّلَ هَذَا الفَتَى ووَضَعَه حَيْثُ وَضَعَه أُنْكِرُ فَضْلَه؟!
نَعُوذُ بِالله مِمَّا تَقُولُونَ! بَلْ أَنَا لَهُ عَبْدٌ. (1)
1/ أنَّ التسليمَ لأهلِ البيتِ علیهم السلام كمالٌ من الكمالاتِ التي يلزمُ على المؤمن أن يحصلَ عليها، ولا خوف فيه؛ لأنَّ أهلَ البيت علیهم السلام معصومون، فلا يأتي منهم إلا ما هو خير لشيعتهم.
2/ أنَّ النصوصَ الدينيةَ تؤكِّدُ على أهميةِ التسليمِ في الدين، وأنَّ العبدَ من
دونه لا يُسمّى مؤمناً بحق.
3/ أنَّ التسليمَ يعنى الطاعةَ المُطلقةَ للمعصوم، وعدمَ الاعتراضِ - ولو قلبًا - على أيّ شيءٍ يصدرُ منه، ولو كانَ على خلافِ المصلحةِ الشخصية، ولو كانَ على خلافِ ما يُدركه العقل.
4/ أنَّ هناك الكثيرَ من النماذجِ الراقيةِ للتسليم، ينبغي للمؤمن أن يُتابعَ
سيرتَهم، ويقتديَ بهم في ذلك.
ص: 232
السؤال الأول: ما معنى التسليم ؟ وما أهميّته في الدين؟
السؤال الثاني: هل يتعارضُ التسليمُ لأهلِ البيت عليهم السلام مع الدین؟ و لماذا ؟
السؤال الثالث: لو أنَّك تشرّفتَ برؤيةِ الإمام المهدي عجّل اللهُ تعالی فرجَه الشریف، وطلب منك أن تتجرّد عن زوجك وأولادك وأموالك، أو إحداها، فما يكون جوابك عقلًا ؟ وقلبًا؟ وجوارحَ؟ ولماذا؟
السؤال الرابع: كما أنَّ للإمام الحسين علیه السلام أصحاباً ثبتوا معه وسلّموا لأمره، بل ولم يتركوه حتى بعد أن جعلهم في حِلٍّ من بيعته، فإنَّ للإمام المهدي عجّل اللهُ تعالی فرجَه الشریف أصحابًا أيضًا، هل ترى نفسك أهلًا لأن تكونَ منهم؟ ولماذا؟ سلِّط الضوء على مفردة التسليم.
ص: 233
ص: 234
«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ». (1)
حتى تتضحَ هذه الركيزةُ لا بُدَّ أن نعرفَ من هو القائم، وماذا يعني انتظار القائم، فهُنا أمران:
1/ القائمُ هو الإمامُ الثاني عشر من أئمةِ أهلِ البيت عليهم السلام، وهو الإمامُ محمدٌ بن الحسن عجل الله تعالی فرجه الشریف.
له أسماءٌ وألقابٌ عديدةٌ منها: أحمد، و المهدي، و القائم، و المنتظر، و صاحب الزمان و المؤمل، و المُرتجى، و عين الحياة، و الطالب بدم المقتول بكربلاء، و الخلف الصالح، و الشريد، و الطريد، و الغريم، و خاتم الأئمة، و خاتم الأوصياء، و خليفة الله، و الداعي، والغائب، والمنصور، وبقية الله، و غيرها كثير.
ص: 235
236
ويُكنّى بأبي القاسم، على كُنيةِ النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم.
وكُلُّ اسمٍ ولقبٍ منها يُشير إلى معنى من المعاني الكمالية فيه.
2/ وُلِدَ في الليلة الخامسة عشرة من شهر شعبان سنة (255) للهجرة، وكانتِ السلطةُ العباسيةُ آنذاك تتتبعُ أخبارَ ولادته، ليقبضوا عليه، وليقتلوه؛ لأنّهم يعلمون أنّه الإمامُ العادلُ الذي وعدَ به رسولُ الله صلى الله عليه وآله و سلم، والذي يملأُ الأرضَ قسطًا وعدلًا، كما ملئت ظلمًا وجورًا، وأنَّ اللهَ (تعالى) سينصره علی جمیعِ أعدائه، لأنّه (تعالى) وعدَ بذلك في القرآن الكريم، والله لا يُخلف الميعاد، قال (تعالى): «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ». (1)
وفي تفسير «عِبادِيَ الصَّالِحُونَ»رويَ عنِ الإمامِ الباقر عليه السلام أنّه قال: القائمُ عليه السلام و أصحابه. (2)
وقال (تعالى): «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».(3)
وفي هذه الآية ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ (صلوات
الله عليهم) یَبْعَثُ اللهُ مَهْدِیَّهُمْ بَعْدَ جَهْدِهِمْ فَیُعِزُّهُمْ وَ یُذِلُّ عَدُوَّهُمْ».(4)
ص: 236
و قال تعالى: «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (1).
و وردَ عنِ الإمامِ الصادق عليه السلام في سببِ نزول هذه الآية قال: «نزلت في
القائمِ وأصحابه». (2)
3/ إِنَّ الإيمانَ بالإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف أمرٌ لا بُدَّ منه، وعدمُ الإيمانِ به هو تكذيبٌ للقرآنِ الكريم الذي أخبر به، وتكذيبٌ للرسولِ الأعظم صلي الله عليه واله و سلم الذي أكَّدَ في رواياتٍ كثيرةٍ على أنّه لا بُدَّ أن يظهر، فقد رويَ عن عبدِ الله بن عباس قال: «قالَ رسولُ الله صلي الله عليه واله و سلم: إنَّ خُلَفائی وأَوصِیائی، وحُجَجَ الله عَلَی الخَلقِ بَعدِی اثنا عَشَرَ: أوَّلُهُم أخی وآخِرُهُم وَلَدی.
قیلَ:یا رَسولَ الله و مَن أخوکَ؟ قالَ صلي الله عليه واله و سلم: عَلِیُّ بنُ أبی طالِبٍ، قیلَ:فَمَن وَلَدُکَ؟ قالَ صلي الله عليه واله و سلم:المَهدِیُّ الَّذی یَملَأُها قِسطاً وعَدلاً کَما مُلِئَت جَوراً وظُلماً،وَالَّذی بَعَثَنی بِالحَقِّ نَبِیّاً،لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ، لَطَوَّلَ اللهُ ذَلكَ الْيَوْمَ، حَتَّی یَخرُجَ فیهِ وَلَدِیَ المَهدِیُّ، فَیَنزِلُ روحُ الله عیسَی بنُ مَریَمَ فَیُصَلّی خَلَفَهُ، وتُشرِقُ الأَرضُ بِنورِهِ، ویَبلُغُ سُلطانُهُ المَشرِقَ وَالَمغرِبَ». (3)
ولا يُمكِنُ أَنْ يُسمّي الشخصُ نفسَه شيعيًا اثني عشريًا ما لم يؤمن
ص: 237
بالأئمةِ عليه السلام من أولِهم إلى مهديِّهم، وقد رويَ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ قَالَ: سَأَلْتُ
الشَّيْخَ [يعني الإمامَ الكاظمَ عليه السلام] عَن الأَئِمَّةِ عليهم السلام؟ قَالَ علیه السلام: «مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الْأَمْوَاتَ». (1)
4/ للإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، غيبتان، الأولى تُسمّى القصيرة أو الصغرى، والثانية: الطويلة، أو الكبرى.
وقد أخبرَ بهما الأئمةُ عليهم السلام حتى قبلَ ولادةِ الإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، فقد رويَ عن أبي بصير، عن أبي عبدِ الله عليه السلام، قال : قلتُ له : كانَ أبو جعفر عليه السلام يقول: «لِقَائِمِ آلِ مُحَمَّدٍ علیه السلام غَیْبَتَانِ، وَاحِدَهٌ طَوِیلَةٌ وَ اَلْأُخْرَی قَصِیرَةٌ»، قَالَ: فَقَالَ عليه السلام لِی: «نَعَمْ یَا أَبَا بَصِیرٍ، إِحْدَاهُمَا أَطْوَلُ مِنَ اَلْأُخْرَی».(2)
وقد استمرّتِ الصُغرى ما يُقاربُ تسعًا وستين سنة وعدة أشهر، وكانَ الإمامُ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف خلالها يتواصل مع شيعتِه من خلالِ سفرائه الخاصّين
الأربعة، وهم:
أ- عثمان بن سعيد العمري الأسدي السمان.
ب - ابنه محمد بن عثمان العمري الأسدي.
ج - الشيخ الحسين بن روح النوبختي.
د الشيخ علي بن محمد السمري.
ص: 238
وكُلُّهم مدفونون في بغداد.
وأما في الغيبةِ الكُبرى، فإنَّ الإمامَ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف نصّبَ الفقهاءَ ليكونوا مراجعَ في الإفتاءِ وتعليمِ الأحكامِ الشرعية، فقد جاءَ في توقيعِ الإمامِ الحجَّة عجل الله تعالی فرجه الشریف: «وَاَمَّا الحَوادِثُ اَلوَاقِعَةُ فَارجِعُوا فِيهَا اِلَى رُوَاةِ حَديثِنَا، فَانَّهُم حُجَّتِّى عَلَيكُم وَ اَنَا حُجَّةُ الله عَلَيهِم». (1)
ومن قبلهِ رويَ عن الإمام العسكري علیه السلام أنَّه قال: «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ...».(2)
و رويَ عن الإمام علي بن محمد الهادي علیه السلام أنَّه قال علیه السلام: «لَولا مَنْ يَبْقى بَعْدَ غَيْبَةِ قائِمِكُمْ علیه السلام مِنَ العُلَماءِ الدّاعينَ إلَيهِ، و الدالِّينَ عَلَيهِ، و الذابّينَ عَن دينِهِ بِحُجَجِ الله، و المُنقِذينَ لِضُعَفاءِ عِبادِ الله ِ مِن شِباكِ إبليسَ و مَرَدَتِهِ، و مِن فِخاخِ النَّواصِبِ، لَما بَقِيَ أحَدٌ إلاّ ارتَدَّ عَن دينِ اللهِ، وَ لَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ أَزِمَّةَ قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الشِّيعَةِ،کَما یُمسِکُ صاحِبُ السَّفینَةِ سُکّانَها، اُولئِکَ هُمُ الاَفضَلُونَ عِندَ الله عَزَّ و جَل».(3)
5/ لقد غيّبَ اللهُ (تعالى) الإمامَ المهديَ عجل الله تعالی فرجه الشریف لعدّةِ أسباب، أهمّها حفظه من الأعداء إلى أن يحينَ موعدُ ظهورِه المُبارك، حسب ما تقتضيه الحكمةُ الإلهية،
ص: 239
ولم يُتَح لنا أن نعرفَ وقتَ الظهورِ بالضبط، ولذا وردَ النَّهيُ عن التوقيت، أي عن أن يقولَ شخصٌ: إِنَّ الإمامَ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيظهرُ في اليومِ الفُلاني، أو الشهر الفُلاني، أو السنة الفلانية، بل وردَ الأمرُ بتكذيبِ كُلِّ من يدّعي التوقيت.
عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ کَثِیرٍ قَالَ: «کُنتُ عِندَ أبی عَبدِ الله علیه السلام،إذ دَخَلَ عَلَیهِ مِهزَمٌ،فَقالَ لَهُ:جُعِلتُ فِداکَ،أخبِرنی عَن هذَا الأَمرِ الَّذی نَنتَظِرُ مَتی هُوَ؟ فقالَ: «یا مِهزَمُ،کَذَبَ الوَقّاتونَ،و هَلَکَ المُستَعجِلونَ،ونَجَا المُسَلِّمونَ». (1)
وعن محمدٍ بن مسلم، قال: «قال أبو عبد الله علیه السلام: یا مُحَمَّدُ، مَن أخبَرَکَ عَنّا تَوقیتاً،فَلا تَهابَنَّ أن تُکَذِّبَهُ،فَإِنّا لا نُوَقِّتُ لِأَحَدٍ وَقتاً». (2)
6/ نعم، وردَ عنهم علیهم السلام أنَّ هناك علاماتٍ تقعُ قبلَ أنْ يظهرَ الإمامُ
المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وإذا وقعت، سيكونُ الظهورُ قريبًا بعدها.
رويَ عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: قلتُ له: جُعِلتُ فداك، متَى خروجُ القائم علیه السلام؟ فقال: «يا أبا محمّد، إِنَّا أَهْلُ بَیْتٍ لاَ نُوَقِّتُ، و قَد قالَ مُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله:کَذَبَ الوَقّاتونَ. یا أبا مُحَمَّدٍ،إنَّ قُدّامَ هذَا الأَمرِ خَمسَ عَلاماتٍ:اُولاهُنَّ النِّداءُ فی شَهرِ رَمَضانَ، و خُروجُ السُّفیانِیِّ،و خُروجُ الخُراسانِیِّ،و قَتلُ النَّفسِ الزَّکِیَّهِ، و خَسفٌ بِالبَیداءِ». (3)
ص: 240
وعن أبي عبد الله علیه السلام: «قَبْلَ قِیَامِ الْقَائِمِ خَمْسُ عَلاَمَاتٍ مَحْتُومَاتٍ: اَلْیَمَانِیُّ، وَ السُّفْیَانِیُّ، وَ الصَّیْحَةُ، وَ قَتْلُ النَّفْسِ اَلزَّکِیَّةِ، وَ اَلْخَسْفُ بِالْبَیْدَاءِ».(1)
في شهرِ رجب، يقومُ ثلاثةُ رجالٍ في يوم واحد: السفياني، وهو من أعداءِ الإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، يقومُ في الشام، فيُسيطرُ على مُدُنِ الشام، مثل سوريا والأردن وفلسطين.
ويقومُ اليماني في اليمن والخُراساني في خراسان، وهذانِ من أنصارِ الإمامِ
المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وسيعملانِ على مُقاومةِ السُفياني والتقليل من نفوذه.
والصيحةُ تقعُ في شهرِ رمضان المُبارك، ليلة الجمعةِ في الثالث والعشرين منه، وسيُنادي جبرئيل بصوتٍ يسمعُه جميعُ الناسِ على الأرض، أنَّ الحقّ مع الإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وأولادِ أميرِ المؤمنين علیه السلام، وسيعملُ الشيطانُ على تضليلِ الناسِ؛ لأنّه يُنادي في اليومِ الثاني عصرًا بنداءِ أَنَّ الحَقِّ مع أعداء أميرِ المؤمنين علیه السلام.
وسيعلمُ السفياني بوجودِ الإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في المدينةِ المنورة، فيرسل قسمًا من جيشه خلفه ليقتلوه، فيخرج الإمامُ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف من المدينةِ إلى مكة المكرمة، فيلحقه الجيشُ، وفي منطقةِ البيداء، يأمرُ اللهُ (تعالى) جبرئيل بالخسفِ في هذا الجيشِ كله، فيموتون، ولا يبقى منهم إلا رجلان: أحدُهما يذهبُ إلى الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف، يُبشره بموتِ جيشِ السفياني، والآخر يذهبُ إلى السُّفياني يُنذِرُه
ص: 241
بما وقع بجيشه.
و قبلَ ظهورِ الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف، بخمسَ عشرة ليلة، يُرْسِلُ أحدَ أتباعه المخلصين، وهو النفس الزكية، إلى أهلِ مكة، يدعوهم لنُصرته عجّل الله تعالی فرجه الشریف، ولكن أهل مكة يقتلونه في المسجد الحرام، عند الكعبةِ المشرفة، و بعدها بخمسة عشر يومًا يُعلِنُ الإمامُ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف عن ظهوره الرسمي في مكة المكرمة، عند الكعبة المشرفة، وينطلقُ منها لتخليصِ الأرضِ والناسِ من الظلم والظالمين.
1/ أنَّ الإمامَ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف هو الإمامُ الثاني عشر من أئمةِ أهلِ البيتِ علیهم السلام، الذي جعلهم اللهُ (تعالى) أئمةً وسادةً وقادة علينا.
2/ وُلِدَ الإمامُ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف سنة 255 للهجرة، وما زالَ حيًا ، إلى أن يُظهِرَه اللهُ (تعالى)، و هذا أمرٌ ليس مستحيلًا على قدرةِ الله (تعالى).
3/ إنَّ القرآنَ الكريمَ أكّدَ على قضيةِ الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف في آياتٍ كثيرة، والنصوصُ الروائيةُ كثيرةٌ جدًا فيها، ممّا يعني ضرورةَ الإيمانِ به عجّل الله تعالی فرجه الشریف، وأنَّ عدمَ الإيمانِ به يُعدُّ تكذيبا لله (تعالى) ولرسوله الكريم صلی الله علیه و آله و سلم.
4/ لقد غابَ الإمامُ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف غيبتين: صُغرى، وقد انتهت بوفاة السفيرِ الرابع، وكُبرى، ونحنُ نعيشُ أيامها.
5/ للغيبةِ أسبابٌ عديدةٌ، منها حفظُ الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف من الأعداءِ إلى أن يحينَ الوقتُ المُناسبُ للظهور.
ص: 242
6/ نحنُ مأمورون بالرجوعِ إلى الفقهاءِ في زمنِ الغيبةِ الكُبرى لمعرفةِ أحكامِ دينِنا؛ لأنّهم المُتخصِّصون في معرفةِ ذلك، كما نرجعُ إلى الطبيبِ - مثلًا - في اختصاصه.
7/ لا يحقُّ لأحدٍ أنْ يُعيَّنَ وقت ظهورٍ للإمامِ المهدي (عجّل الله تعالی فرجه الشریف) ، ومن يفعل ذلك فعلينا أن نُكَذِّبه.
8/ هناك علاماتٌ حتميةٌ تقعُ قبل الظهور، وهي أشبهُ بالمُنبِّهات على أنَّ الظهورَ قد اقترب، ليزيد المؤمنون من استعدادِهم لنُصرةِ مولاهم الحُجة (عجّل الله تعالی فرجه الشریف) .
ص: 243
السؤال الأول: من هو القائم؟
السؤال الثاني: تحدّث عن علامات الظهور ؟
السؤال الثالث: للإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف غيبتان، تحدّث عنهما، وعن كيفيةِ تواصله علیه السلام مع شيعته خلالهما؟
السؤال الرابع: من هم السفراء الأربعة؟ وما كانت مهمتهم؟
ص: 244
قال تعالى: « إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ». (1)
أولًا:عندما نقرأُ الرواياتِ الشريفةَ الواردة فيما يتعلَّقُ بقضية الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف، نجدُها تؤكِّدُ على مفهومٍ معينٍ، أسمته: مفهوم انتظار الفرج.
فقد روي عن موسى بن بكر الواسطي، عن أبي الحسن، عن آبائه عليهم السلام أَنَّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِی اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ»(2)
وعن أمير المؤمنين علیه السلام في حديث الأربعمائة: «اِنْتَظِرُوا اَلْفَرَجَ، وَ لا تَیْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَی اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ اِنْتِظَارُ الْفَرَجِ مَا دَامَ عَلَیْهِ العبدُ الْمُؤْمِنُ...» (3).
ثانيًا: وقد ذكرتِ الرواياتُ الشريفةُ أيضًا، أنَّ الانتظارَ للفرجِ يُثمِرُ
ص: 245
ثمراتٍ عديدة، من قبيل:
1/ أنَّ المنتظِرَ له ثوابُ من جاهد بين يدي الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف، فقد رويَ عنِ العلاء بن سيابة، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «مَنْ مَاتَ مِنْکُمْ عَلَی هَذَا الْأَمْرِ مُنْتَظِراً لَهُ کَانَ کَمَنْ کَانَ فِی فُسْطَاطِ الْقَائِمِ عَلَیْهِ السَّلاَمُ» (1)
وعن أبي بصير و محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن أمير
المؤمنين عليهم السلام، قال:«الْمُنْتَظَرُ لِأَمْرِنَا،کَالْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ الله »(2)
2/ أنَّ الله (تعالى) يُعطي المنتظرين الفهمَ والإدراكَ بحيث يتعاملون مع الغيبةِ معاملةَ الظهور، فقد روي عن أبي خالد الكابلي، عن علي بن الحسين عليهم السلام، قال: «ثُمَّ تَمْتَدُّ الغَيْبَةُ بِوَلِيِّ اللهِ عزّ وَ جَل اَلثَّانِي عَشَرَ مِنْ أَوْصِيَاءِ رَسُولِ اللهِ صلّي الله عليه و آله و سلّم وَالأَئِمَّةِ بَعْدَهُ. یَا أَبَا خَالِد، إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَیْبَتِهِ، الْقَائِلُونَ بِإِمَامَتِهِ، و الْمُنْتَظِرینَ لِظُهُورِهِ، أَفْضَلُ مِن أَهْلِ کُلِّ زَمَانٍ؛ لِأَنَّ اللهَ عزّ وَ جل أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَ الْأَفْهَامِ وَ الْمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَیْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَ جَعَلَهُمْ فِی ذَلِكَ الزَّمَانِ بِمَنْزِلَهِ الْمُجَاهِدِینَ بَیْنَ یَدَیْ رَسُولِ الله لي الله عليه و آله و سلم بِالسَّیْفِ، أُولَئِك الْمُخْلَصُونَ حَقّاً، وَشيعَتُنا صِدْقاً، والدُّعاةُ اِلى دينِ الله عزّ و جَل سِرّاً وَجَهْراً...» (3).
3/ أنَّ اللهَ (تعالى) سيُسهِّلُ أمورَ المنتظِر، ويُدبّرها عنه، فقد روي عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهم السلام، قال: قلتُ له:
ص: 246
أصْلَحَكَ اللهُ لَقَدْ تَرَكْنَا أسْوَاقَنَا انْتِظَاراً لِهَذَا الأمْر، فَقَالَ عليه السلام: «يَا عَبْدَ الْحَمِيدِ، أتَرَى مَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى اللهِ عزّ و جل لاَ يَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً؟، بَلَى وَاللهِ لَيَجْعَلَنَّ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً، رَحِمَ اللهُ عَبْداً حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَيْنَا، رَحِمَ اللهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا»، قَالَ: قُلْتُ: فَإنْ مِتُّ قَبْلَ أنْ اُدْركَ الْقَائِمَ؟ قَالَ: «الْقَائِلُ مِنْكُمْ إِنْ لو أدْرَكْتُ قَائِمَ مِنْ آل مُحَمَّدٍ نَصَرْتُهُ، کَانَ كَالْمُقَارعِ بَینَ یَدَیهِ بِسَيْفِهِ، لا بَل کَالشَّهِيدُ مَعَهُ» (1).
4/ لو ماتَ المؤمنُ المُنتظِرُ قبلَ أنْ يظهرَ الإمامُ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف، و ظهر الإمامُ علیه السلام بعد موته، فإنَّ الله (تعالى) يُعطيه الفرصةَ والخيارَ في أنْ يرجعَ لیجاهد بين يدي الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف، ليحصل على ثوابه و أجره.
وهذا ما أشارت إليه الرواياتُ الشريفة، فقد رويَ عن الإمام الصادق علیه السلام - وهو يتحدَّثُ عن زمن الظهور المبارك - : «...وَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ مَيِّتٌ إِلَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الفَرْحَةُ فِي قَبْرِهِ، وَ ذَلِكَ حَيْثُ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيَتَبَاشَرُونَ بِقِيَامِ القَائِمِ عليه السلام.»(2)
و عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَر، قَالَ: ذَکَرنَا الْقَائِمَ علیه السلام وَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِنَا یَنْتَظِرُهُ، فَقَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: إِذَا قَامَ أُتِیَ الْمُؤْمِنُ فِی قَبْرِهِ فَیُقَالُ لَهُ: یَا هَذَا، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ صَاحِبُكَ، فَإِنْ تَشَأْ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ فَالْحَقْ، وَ إِنْ تَشَأْ أَنْ تُقِیمَ فِی کَرَامَةِ رَبِّکَ فَأَقِم» (3).
ص: 247
وفي نفسِ السياق جاءَ عن الإمامِ الباقر علیه السلام: «... ، وأنَّ لِأهلِ الحَقِّ دَولَهً إذا جاءَتْ وَلاَّها اللهُ لِمَن یَشاءُ مِنَّا أهلِ البَیتِ، فَمَن أدرَکَها مِنکُم کانَ عِندَنا فی السَّنامِ الأَعلَی، وإنْ قَبَضَه اللهُ قَبلَ ذلِكَ خارَ لَهُ...» (1).
فقوله علیه السلام: «خار له» يُرادُ منه ما أشارت له الروايةُ السابقةُ من التخييرِ بين البقاءِ أو الرجوع، والله العالم.
وهذا الأجرُ يحصلُ في (الرجعة)، والتي سنتعرَّفُ على معناها في درسٍ لاحقٍ إنْ شاءَ اللهُ (تعالى).
يظهرُ من الرواياتِ الشريفةِ التي ذكرت زمنَ الغيبة الكبرى، وضرورةَ انتظارِ الحجةِ بن الحسن عجّل الله تعالی فرجه الشریف، أنّها لا تقصدُ الانتظارَ بمعنى السكونِ وعدمِ
التحرُّك لنشرِ الدين، وعدمِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحجةِ أنَّ كُلَّ هذه الأمورِ يقومُ بها المؤمنُ إذا ظهرَ الإمام، وهذا المعنى قريبٌ من معنى انتظارِ دورِك عند الطبيبِ أو في الطابور وما شابه، إنّه حالةٌ من السكونِ والخمول وعدمِ الفعل ولا الانفعالِ في المحيط.
ليسَ هناك شكٌّ في أنَّ هذا المعنى التخديري - إن صحَّ التعبير - ليس هو معنى الانتظار المطلوب، ولا شكَّ أيضًا أنَّ هذا المعنى هو ما اتخذه المُغرضون ذريعةً للنيلِ من الدين، و أنّه أفيونُ الشعوب، ولا شكَّ أنَّ هذا المعنى هو ما
ص: 248
يُريدُه الظالمون، كي لا يقومَ ضدّهم أحدٌ، وكي يفعلوا في الناسِ ما يحلو لهم.
وفي الحقيقةِ، أنَّ تسميةَ هذه الحالةِ بالانتظارِ ليس بالأمرِ الصحيح، وإن أسماه البعضُ بالانتظارِ السلبي، إذ ليس عندنا انتظارٌ إيجابي وآخر سلبي، بل ليس هناك إلا الانتظار، وذلك المعنى ليس من الانتظارِ في شيء، بل هو مُجرّدُ تلفيقاتٍ وادَّعاءاتٍ على نفسِ الانتظار.
إِنَّ الانتظارَ في حقيقتِه هو حركةٌ، وجهدٌ، وتغييرٌ، وسلوكٌ عملي، و إجراءاتٌ ميدانية، وتفكيرٌ، ونقدٌ، وتحفيزٌ، وتطويرٌ، وتنميةٌ، وبناء...
إنّه في الحقيقةِ حالةٌ من رفضِ الوضعِ الفاسدِ والمُحيطِ المُلوّث، وعملٌ لتغييرِ ذلك الواقع.
إنّه فُسحةُ أملٍ للعمل، وليس عُذرًا لقعود.
1 - الالتزام بالدين الحق، من خلالِ التزامِ مذهبِ أهلِ البيت عليهم السلام في أصولِ الدين، وهو معنى ما رويَ عن عمرو بن ثابت، قال: قال عليٌ بن الحسين سيد العابدين عليهم السلام: «مَنْ ثَبَتَ عَلَی مُوَالاَتِنَا فِی غَیْبَةِ قَائِمِنَا أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَجْرَ أَلْفِ شَهِیدٍ مِن شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَ أُحُد» (1).
2- الالتزام الكامل بالأمورِ الفقهية، من صلاةٍ وصومٍ وحجٍ وزكاةٍ وصدقةٍ واجبةٍ أو مستحبةٍ وغيرها، ولا يتصورنَّ أحدٌ أنَّ هذا أمرٌ سهل، بل
ص: 249
هو صعبٌ في زمنٍ كثُرت فيه فرصُ المعصية و تشعّبت طرقُ تحصيلِ الحرام.
روي عَنْ یَمَانٍ التَّمَّارِ قَالَ: «کُنَّا عِندَ أَبِی عَبدِ اللهِ علیه السلام جُلُوسًا، فَقَالَ علیه السلام لَنَا: إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ غَیْبَةً، الْمُتَمَسِّكُ فِیهَا بِدِینِهِ كَالْخَارِطِ لِلْقَتَادِ، - ثُمَّ قَالَ هَكَذَابِیَدِهِ (1) - فَأَیُّكُمْ یُمسِكُ شَوْكَ الْقَتَادِ بِیَدِهِ، ثُمَّ أَطْرَقَ مَلِیّاً ثُمَّ قَالَ علیه السلام: إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ غَیْبَةً، فَلْیَتَّقِ اللهَ عَبْدٌ وَ لْیَتَمَسَّكْ بِدِینِهِ».(2)
3 – الجهاد، أو قُل: العمل على تغييرِ الواقعِ الفاسد، وهو المُستفادُ من تأكيدِ الرواياتِ المتعددةِ على جعلِ ثوابِ المُنتظِر هو كثوابِ المجاهدِ والمتشحط بدمه.... وإلا فلماذا لم يُجعل ثوابُه كثوابِ الصلاة أو الحج....؟
لا شكَّ أنَّ في ذلك إشارةً إلى الدور التأثيري للانتظارِ والمُنتظرين في الواقعِ المُعاش، وإشارةً إلى ضرورةِ الحركةِ وعدمِ السكون في عمليةِ الانتظار.
روي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام، أنَّه قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ یَکُونَ مِنْ اَصْحابِ اْلقائِم فَلْیَنْتَظِرْ وَلْیَعْمَلْ بِالْوَرَعِ وَمَحاسِنِ اْلاَخْلاقِ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ، فَإِنْ ماتَ وَقامَ اْلقائِمُ بَعْدَهُ، کانَ لَهُ منَ اْلاَجْر مثْلَ اَجْر مَنْ اَدْرَکَهُ، فَجِدُّوا وَانْتَظِروُا، هَنیئاً لَکُمْ أَیّتهَا اْلعصابَةُ اْلمَرْحُومَةُ» (3)
و عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قال الرضا علیه السلام: « مَا أَحْسَنَ الصَّبْرَ
ص: 250
وَ اِنْتِظَارَ اَلْفَرَجِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الله عزّ و جل: «وَ ارْتَقِبُوا إِنِّی مَعَکُمْ رَقِیبٌ» (1)، «فَانْتَظِرُوا إِنِّی مَعَکُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِینَ» (2)، فَعَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا یَجِی ءُ الْفَرَجُ عَلَی الْیَأْسِ، فَقَدْ کَانَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ أَصْبَرَ مِنْکُمْ».(3)
4 - التهيئة النفسية والمادية والتمهيد العملي ليوم الظهور، ممّا يعني ضرورةَ توقُّع الظهورِ في أيةِ لحظة، ولا شك أنَّ في ذلك دافعا قويًا جدًا للعملِ على التزامِ المنهجِ الذي يُرضي الإمام علیه السلام والعملِ على الحصولِ على شرفِ الرضا المهدوي والدخولِ تحت لواءِ العاملين بين يديه.
فقد روي عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: « لِیَعُدَّنَّ أحَدُکُم لِخُرُوجِ القائِمِ ولَو سَهمَاً فَاِن اللهَ (تعالی) اِذَا عَلِمَ ذلِكَ مِن نِیّتِهِ رَجَوتُ لِاَن یُنْسَأَ فی عُمرِهِ حَتّی یُدْرِکَهُ، وَ یکوُنَ مِن اَعوانِهِ وَ اَنصارِهِ»(4)
1/ أنَّ الرواياتِ الشريفةَ أكّدت على مفهومِ الانتظار، وأنّه يُمثَّلُ الفرجَ للمُنتظرين، وأنّه تترتبُ عليه العديدُ من الثمراتِ على مُستوى الفكر والعمل، وعلى مُستوى الدُّنيا والآخرة.
2/ أنَّ من ثمراتِ انتظارِ الفرج هو الترشيحُ للرجعةِ زمنَ ظهورِ الإمامِ
ص: 251
المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف)
3/ليس هناك ما يُسمّى بالانتظارِ السلبي، وإنّما الانتظارُ عملٌ وفكرٌ وجهادٌ وتهيئة.
4/ أنَّ انتظارَ الفرجِ هو أفضلُ الأعمال؛ لأنّه يشملُ الأعمالَ الدينيةَ كُلَّها، فهو يعني تقويةَ العقيدةِ والالتزامَ بمضمونها، والالتزامَ التَّامَّ بفروعِ الدين، والتمسُّكَ بمحاسنِ الأخلاق، والتهيئةَ العمليةَ للظهور المقدس.
ص: 252
السؤال الأول: ما معنى الانتظار ؟
السؤال الثاني: ما ثمرات الانتظار ؟
السؤال الثالث: ماذا يعني الانتظار في الروايات؟
ص: 253
ص: 254
قال (تعالى): «وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ».(1)
كثيرٌ من الرواياتِ التي وردت عن أهلِ البيت عليهم السلام أكدت على أنَّ من
أهمِّ ما يجبُ أن يلتزمَ به شيعتُهم، هما صفتا: الورع، والاجتهاد.
فقد رويَ عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال لي: «يَا جَابِرُ، أَيَكْتَفِي مَنْ يَنْتَحِلُ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلِ الْبَيْتِ؟ فَوَ الله مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَ أَطَاعَهُ، وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، وَالتَّخَشُّعِ، وَالْأَمَانَةِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ الله، وَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، وَالتَّعَهُّدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَ أَهْلِ الْمَسْكنَةِ، وَ الْغَارِمِينَ، وَ الْأَيْتَامِ، وَ صِدْقِ الْحَدِيثِ، وَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَ كَفِّ الْأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ، إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وَ كَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ».
قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ يَا ابْنَ رَسُولِ الله مَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَداً بِهَذِه الصِّفَةِ!
فَقَال َعليه السلام: «يَا جَابِرُ، لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ، حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: أُحِبُّ عَلِيّاً وأَتَوَلَّاه، ثُمَّ لَا يَكُون مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً؟ فَلَوْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ
ص: 255
الله صلی الله علیه و آله و سلم، فَرَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ علیه السلام ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَه ولَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِه مَا نَفَعَه حُبُّه إِيَّاه شَيْئاً، فَاتَّقُوا اللهَ واعْمَلُوا لِما عِندَ الله، لَیسَ بَینَ اللهِ وبَینَ أحَدٍ قَرابَةٌ،أحَبُّ العِبادِ إلَی الله عز و جل (وأکرَمُهُم عَلَیهِ) أتقاهُم وأعمَلُهُم بِطاعَتِهِ.
یا جابِرُ،فوَالله ما یُتَقَرَّبُ إلَی الله عزّ و جَل إلّا بالطّاعَةِ،وما مَعَنا بَراءَهٌ مِنَ النَّارِ، ولا عَلَی اللهِ لِأَحَدٍ مِن حُجَّةٍ، مَن کانَ لله مُطیعاً فَهُوَ لَنا وَلِیٌّ، و مَن کانَ للهِ عاصِیاً فَهُوَ لَناعَدُوٌّ،وما تُنالُ وَلایَتُنا إلّابِالعَمَلِ وَالوَرَعِ».(1)
هما تفصيلٌ لأجمالِ كلمةِ (التقوى)، فالتقوى هي عبارةٌ عن الاجتهادِ زائدًا الورع.
والاجتهادُ هو بذلُ الجهدِ في التزامِ أوامرِ الدين، أي التزامِ الواجباتِ الشرعية.
والورعُ هو بذلُ الجهدِ في تركِ الأمورِ التي نهى عنها الدين، أي الابتعاد عن المُحرّمات.
يقولُ أميرُ المؤمنين عليه السلام: «وَلَكِنْ أَعِینُونِی بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ،وَعِفَّهٍ وَسَدَادٍ».(2)
ص: 256
ربما يعتقدُ البعضُ أَنَّ اللهَ (تعالى) قد كلّفَ الناسَ بمقدارِ جهدهم تماماً، وأنَّ التكاليفَ الشرعيةَ المفروضةَ هي الحدُّ الأقصى لقُدرةِ الإنسان، وقد يفهمُ البعضُ هذا المعنى من بعضِ الآياتِ الشريفة، كقوله (تعالى): «لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا».(1)، وكقوله (تعالى): «لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا». (2)
ولكن الحقيقةَ أنَّ اللهَ (تعالى) قد كلِّفَ الناسَ بأقلِّ من وسعِهم بكثير، وأنَّ وِسْعَ الإنسانِ هو أكثرُ بكثيرٍ ممّا كُلّفَ به، وهذا له شواهدُ عديدة، فإنَّ هناك أناسًا مثلنا، قد بنوا حياتَهم العباديةَ على التزامِ مستحباتٍ لم يفتروا عنها أبدًا، فكانتْ عندهم بمنزلة الواجبات، وهذا يعني أنَّ في وسع الإنسانِ أنْ يتحمَّلَ جعلَ كثيرٍ من المُستحباتِ الشرعية واجباتٍ عليه، وإذ لم يكلَّف بها، نستكشفُ أنَّ اللهَ (تعالى) قد كلّفَ بأقلِّ من الوسعِ وأضعفِ من الطاقة
صحيحٌ أنَّ اللهَ (تعالى) وعدَ المطيعَ والملتزمَ بالواجبات أن يُدخلَه الجنةَ، ولكن ينبغي أن نلتفتَ إلى حقيقةٍ خطرة، وهي أنَّ الأعمالَ الصالحةَ مهدَّدةٌ بعدةِ مخاطر ربما تهدمها، وحينئذٍ سوف لا تنفعُ الإنسانَ، وتلك المخاطرُ هي ما يُعبَّرُ عنها بمُحيِطاتِ العمل، والإحباطُ عبارةٌ عن ذنوبٍ وأعمالٍ،
ص: 257
يؤدّي الإتيانُ بها إلى ذهابِ حسناتِ الإنسانِ وعباداتِه، وعلى سبيلِ المثالِ فإنَّ تكبُّرَ الشيطانِ وحسدَه كانَ سببًا في إحباطِ أعماله التي أدّاها خلال ستة آلاف سنة،(1) يقولُ أميرُ المؤمنين عليه السلام: «فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الله بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَه الطَّوِيلَ وجَهْدَه الْجَهِيدَ، وكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِيِّ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِيِّ الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى الله بِمِثْلِ مَعْصِيَتِه، كَلَّا مَا كَانَ الله سُبْحَانَه لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِه مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَه فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ».(2).
وعن أبي الجارود عن أَبِی جَعفرٍ علیه السلام قال: قالَ رسولُ الله صلي الله عليه و آله: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله، غَرَسَ اللهُ لَهُ بِهَا شَجَرَهً فِی الْجَنَّةِ، وَ مَنْ قَالَ: اَلْحَمْدُ لِله غَرَسَ الله لَهُ بِهَا شَجَرَهً فِی الْجَنَّةِ، وَ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، غَرَسَ اللهُ لَهُ بِهَا شَجَرَهً فِی الْجَنَّةِ، وَ مَنْ قَالَ: اَللَّهُ أَکْبَرُ، غَرَسَ الله لَهُ بِهَا شَجَرَهً فِی الْجَنَّةِ،
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَیْشٍ: یَا رَسُولَ الله إِنَّ شَجَرَنَا فِی الجنّةِ لَکَثِیرٌ؟ قَالَ صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ و سلّم: نَعَمْ، وَ لَکِنْ إِیَّاکُمْ أَنْ تُرْسِلُوا عَلَیْهَا نِیرَاناً فَتُحْرِقُوهَا وَ ذَلِکَ أَنَّ الله عَزَّ وَ جَلَّ یَقُولُ: (3) «یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اَللّهَ وَ أَطِیعُوا اَلرَّسُولَ وَ لا تُبطِلُوا اَعمَالَکُم».(4)
ص: 258
إِنَّ الذنبَ يعبرُ عن حالةٍ مرضيةٍ ونقصٍ نفسي، والمرءُ العاقلُ بطبيعتِه يسعى للحصولِ على الكمالِ دائمًا، ممّا يعني:
أنَّ مُعاقرةَ الذنبِ هي حالةٌ على خلافِ طبعِ الإنسانِ العاقل..
أو أنّها جاءت من تصوُّرٍ خاطئ ظنَّ معه العاصي أنَّ الذنبَ من طرقِ الكمال، كمن يُرابي أو يسرق ليُكملَ نفسَه ماليًا، أو يقتلُ ليحصلَ على منصبٍ أو كرسي...
فالعاقلُ إذن، لو فكَّر جيدًا، لوجدَ أنَّ المعصيةَ عبارةٌ عن جيفة وهل يقبلُ العاقلُ أن يضعَ يدَه في جيفة!
رويَ عن أمير المؤمنين علیه السلام، أنّه قال: «لَوْ کُنَّا لا نَرْجُو جَنَّةً، وَ لا نَخْشی ناراً، وَ لا ثَواباً، وَ لا عِقاباً، لَکانَ یَنْبَغِی لَنا أَنْ نَطْلُبَ مَکارِمَ الْأَخْلاقِ، فَإِنَّها مِمَّا تَدُلُّ عَلی سَبِیلِ النَّجاحِ...». (1)
و یقول علیه السلام: «لَوْ لَمْ یَنْهَ اللهُ (سُبْحَانَهُ) عَنْ مَحَارِمِهِ لَوَجَبَ أَنْ یَجْتَنِبَهَا الْعَاقِلُ».(2)
إِنَّ اللهَ (تعالى) قد أتاحَ الفُرصةَ للعاصي في أنْ يُصحِّحََ مسارَه ويتخلَّصَ
ص: 259
من الذنب،من خلالِ طريقين:
طبعًا بشرطِ أن تكونَ خالصةً ونصوحةً، وأهمُّ مقوّمات ذلك:
1 - تركُ الذنب تمامًا.
2 - الندمُ على فعله.
3 - تصحيحُ الخطأ، فيقضي ما فاته من صلاةٍ وصومٍ وحجٍ وما شابه ممّا يتعلّق بالواجباتِ الفائتة مع الله (تعالى)، وأهمُّ من ذلك إرجاعُ الحقوقِ إلى أهلها، من مالٍ أخذ، أو حقٍّ سُلب، وما شابه، ومصالحةُ الأشخاصِ الذين تُعُدّي عليهم بسبٍّ أو غيبةٍ أو ما شابه، ويكفي فيه طلبُ براءةِ الذمةِ منهم.
4 - الاستقامةُ في تلك التوبة، بمعنى عدمِ الرجوعِ إلى ذنبٍ قد أقلعَ المُذنِبُ عنه، فإنَّ المُستغفرَ من الذنب وهو يفعلُه هو كالمُستهزئ بنفسه، فينبغي قطعُ أيّ خطِّ رجعةٍ من الذنب والشيطان.
5 - التزامُ الدعاءِ بالتوفيق للحفاظِ على التوبة، فإنَّ المزالقَ في الطريقِ كثيرة.
وهذا هو المُستفادُ ممّا رويَ عن أميرِ المؤمنين عليه السلام أنّه قال لِقَائِلِ قَالَ
بحَضْرَتِه: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ»:
«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ، اَلاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ
ص: 260
أَبَداً، وَالثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى المَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ، حَتَّى تَلْقَى اللهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ، ضَیَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ، فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الجِلْدَ بِالْعَظْم، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحمٌ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ، كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِیَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ الله».(1)
ولا بُدّ من تمهيدِ الطريقِ في الدُنيا للحصولِ عليها في الآخرة، وهو ما يُعبَّرُ عنه بشروطِ الشفاعة، وهذا يعني: أنَّ على الفردِ أنْ يتوفّرَ على الشروطِ الخاصةِ بالشفاعة، ليكونَ مؤهلًا لنيلها، وتلك الشروطُ لو اطلعنا عليها لوجدناها تشترطُ أمور عديدة لها، وخُلاصتُها: (2)
- عدمُ الإشراكِ بالله (تعالى).
- الإخلاصُ في الشهادةِ بالتوحيد، قالَ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: « شَفَاعَتِيْ لِمَنْ شَهِدَ اَنْ لا اِلهَ اِلاَّ اللهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ لِسَانُه قَلْبَه».(3)
- عدم كونه ناصبيًّا، قال الإمامُ الصادق عليه السلام: « إِنَّ اَلْمُؤْمِنَ لَیَشْفَعُ لِحَمِیمِهِ إِلاَّ أَنْ یَکُونَ نَاصِباً، وَ لَوْ أَنَّ نَاصِباً شَفَعَ لَهُ کُلُّ نَبِیٍّ مُرْسَلٍ وَ مَلَکٍ مُقَرَّبٍ مَا
ص: 261
شُفِّعُوا».(1)
- عدمُ الاستخفافِ بالصلاة، فقد رويَ عن أبی بصیر قال: قال أبُو الحسن الْأوَّل علیه السَّلام: «أِنَّهُ لَمَّا حَضَرَ أَبِیَ الْوَفَاةُ قَالَ لِی: یَا بُنَیَّ، إِنَّهُ لاَ یَنَالُ شَفَاعَتَنَا مَنِ اِسْتَخَفَّ بِالصَّلاَةِ».(2)
- عدمُ التكذيبِ بشفاعةِ النّبيِّ صلي الله عليه و آله و سلم، فقد رويَ عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «قالَ أميرُ المؤمنين عليه السلام: مَنْ كذبَ بِشَفَاعَةِ رَسُولِ الله لَمْ تَنَلْه». (3)
إنَّ الالتزامَ بهذه الشروطِ يتنافى مع كونِ الشفاعةِ تدفعُ إلى الجُرأةِ على الذنوب، بل على العكس، هي تدفعُ الفردَ إلى أنْ يلتزمَ بالأحكامِ الشرعيةِ بشروطِها التي ذكرتها هذه النصوص.
1/ أنَّ من أهمِّ صفاتِ شيعةِ أهلِ البيت علیهم السلام هو الورعُ والاجتهادُ، والاجتهادُ هو فعلُ الواجباتِ والأوامر ، والورعُ هو تركُ المُحرَّماتِ وعدمُ ارتكابِ النواهي.
2/ أنَّ اللهَ (تعالى) كلّفَ الناسَ بأقلِّ ممّا يُطيقون، رحمةً بهم.
3/ على المؤمنِ أن لا يطمئنَّ لعملِه الصالح، وأنْ يحذرَ من مُبطلاتِ و مُحبطاتِ الأعمالِ الصالحة.
ص: 262
4/ الذنبُ في حقيقتِه نقصٌ، والعاقلُ يُدركُ أَنَّ عليه أنْ يبتعدَ عن النقصِ في حياتِه كُلِّها.
5/ على المؤمنِ أن يبتعدَ عن فعلِ الذنوب، ولو أذنب، فعليه أن يتوب، و أنْ يأملَ رحمةَ الله (تعالى) بشموله بشفاعةِ الرسولِ الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، وأهلِ بيته الطاهرين عليهم السلام.
ص: 263
السؤال الأول: هل إنَّ الورع والاجتهاد لهما نفس المعنى أو ماذا؟ وضِّح ذلك
السؤال الثاني: قد يَفهَم البعض أنَّ الله (تعالى) ما كلّف العباد إلا بمقدار وسعهم .
ما الذي حدا بهذا البعض إلى هذا الفهم؟ وهل هو صحيحٌ؟ بيِّن ذلك.
السؤال الثالث ما الإحباط ؟ وما أثره على الأعمال؟
السؤال الرابع: ما حقيقة الذنوب؟ وكيف يمكن للمرء التخلص من تبعاتها ؟
ص: 264
قال (تعالى): «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ». (1)
عندما يظهرُ الإمامُ المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف، فإنَّ الله (تعالى) سيُحيي بعضَ الأموات، ليرجعوا من قبورهم، ويُكمِلوا حياةً جديدة، يموتون بعدها، ثم يُحيون في يومِ القيامة.
فللرجعةِ مُميِّزاتٌ عديدةٌ تُميِّزُها عن يومِ القيامة، منها:
1/ أنَّها إحياءُ بعضِ الأمواتِ قبلَ يومِ القيامة، وليس إحياءَ جميعِ الأموات، فهذا سيحصلُ في يومِ القيامة.
2/ أنّها رجوعٌ إلى عالمِ الدنيا، وليست بعثًا إلى يومِ القيامة.
3/ أنَّ الراجعين فيها ليسوا خالدين، وإنما سيموتون مرةً أخرى، وأمّا
ص: 265
في يومِ القيامة، فإنَّ من يُحيى سيكونُ خالدًا بإذنِ اللهِ (تعالى)، إمّا في الجنة ، وإمّا في النار و العياذ بالله.
قد يستغربُ البعضُ من إحياءِ بعضِ الأمواتِ وإرجاعهم إلى الدنيا، فيتساءلون: كيفَ سيتحقّقُ ذلك، والحالُ أنَّ الترابَ قد أكلَ أبدانهم، وربما لو فتحنا قبرَ أحدِهم لما وجدنا شيئًا من بدنه ؟
ولكنَّ الجوابَ واضحٌ جدًا؛ لأنَّ إرجاعَ الأمواتِ ليس بأصعب من خلقِ الإنسانِ من اللا شيء، فاللهُ (تعالى) أوجدَنا من العدم، فلا يصعُبُ عليه أنْ يُرجعَنا بعد موتِنا، حتى ولو تحلّلت أبدانُنا وتحوّلت إلى تراب.
في الحقيقةِ، أنَّ من يُنكرُ الرجعةَ، فهو لا يخلو :
إما أن يكونَ مُنكرًا لقدرةِ الله (تعالى)، وهذا كافر.
وإمّا أنَّ شبهةً حصلت عنده، فاشتبهَ الحالُ لديه، وهذا يحتاجُ إلى أنْ نُذكّره بقدرةِ الله (تعالى)، وأنَّ إرجاعَ الأمواتِ ليس أمرًا مُستحيلًا في حدِّ نفسِه. نعم هو مستحيلٌ بالنسبةِ لنا نحنُ المخلوقات العاجزة، أمّا على الله (تعالى)، فليس صعبًا أصلًا.
وإمَّا أنْ يكونَ مُعاندًا، والمُعاندُ لا ينفعُ معه النقاش؛ لأنّه لا يُريدُ أنْ يصلَ إلى الهدايةِ والحقّ.
ليس هذا فحسب.
ص: 266
بل إنَّ القرآن الكريم يذكرُ في آياتٍ عديدة، أنَّ إرجاعَ بعضِ الأموات إلى الحياةِ هو أمرٌ مُمكِنٌ حتى لبعضِ البشر، بشرطِ أن يأذنَ اللهُ (تعالى) له في ذلك، ويُعطيه القدرةَ على ذلك، فهذا نبيُّ اللهِ عيسى علیه السلام كانَ يُحيي الموتى بإذنِ اللهِ (تعالى).
قال (تعالى) في حقِّ النبي عيسى علیه السلام: «وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». (1)
بل إنَّ القرآن المجيد ذكرَ حديثَ بعضِ الراجعين إلى الدُنيا، وأنّهم يطلبون من الله (تعالى) في يومِ القيامةِ أنْ يُخرجَهم من النار ليؤمنوا وليعملوا صالحًا، قال (تعالى): «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ».(2)
هؤلاء يقولون: ربّنا إنّك أجريتَ الموتَ علينا مرّتين، والحياةَ مرّتين: فالحياةُ الأولى هي عندما خرجوا من بطونِ أُمّهاتِهم إلى الدنيا، وعندما ماتوا، فهذه هي الموتةُ الأولى، ثم أرجعهم اللهُ (تعالى) إلى الدنيا، فهذه الحياةُ الثانية، ثم أماتهم، فهذه هى الموتةُ الثانية.
ص: 267
صرّحت بعضُ الرواياتِ الشريفةِ أنَّ الرجعةَ ليست عامةً لجميعِ البشر، وإنّما هي خاصةٌ لبعضٍ منهم، فقد رويَ عن أبي عبد الله الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ عَنْهُ وَ یَرْجِعُ إِلَی الدُّنْیَا اَلْحُسَیْنُ بْنُ عَلِیٍّ عَلَیْهِما السَّلاَمُ، وَ إِنَّ الرَّجْعَةَ لَیْسَتْ بِعَامَّةٍ، وَ هِیَ خَاصَّهٌ، لاَ یَرْجِعُ إِلاَّ مَنْ مَحَضَ اَلْإِیمَانَ مَحْضاً، أَوْ مَحَضَ الشِّرْکَ مَحْضاً.
وقد ذكرتْ بعضُ النصوصِ أسماءَ بعضِ الراجعين، من قبيل:
ما رويَ عن الإمامِ الصَّادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ یَکُرُّ فِی الرَّجْعَةِ اَلْحُسَیْنُ بْنُ عَلِیٍّ عَلَیْهِ السَّلاَمُ، وَ یَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ أَرْبَعِینَ سَنَةً حَتَّی یَسْقُطَ حَاجِبَاهُ عَلَی عَیْنَیْهِ».(1)
و عن الإمامِ الباقرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال - لبكير بن أعين -:«إنَّ رسولَ اللهِ صلي الله عليه و آله و سلم وعليًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ سيرجعان». (2)
وعن الإمام الصادق عليه السلام: «کَأَنِّی بِحُمْرَانَ بْنِ أَعْیَنَ وَ مُیَسِّرِ بْنِ عَبْدِ اَلْعَزِیزِ یَخْبِطَانِ النَّاسَ بِأَسْیَافِهِمَا بَیْنَ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةِ».(3)
وعن الإمام علي عليه السلام: «... وَ لَیَبْعَثَنَّهُمُ اللهُ أَحْیَاءً مِنْ آدَمَ إِلَی مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم کُلَّ نَبِیٍّ مُرْسَلٍ، یَضْرِبُونَ بَیْنَ یَدَیَّ بِالسَّیْفِ هَامَ الْأَمْوَاتِ وَ الْأَحْیَاءِ وَ الثَّقَلَیْنِ جَمِیعاً... وَ إِنَّ لِي الْكَرَّةَ بَعْدَ الْكَرَّةِ، وَالرَّجْعَةَ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَأنَا صَاحِبُ
ص: 268
الرَّجَعَاتِ وَالْكَرَّاتِ وَصَاحِبُ الصَّوْلاَتِ وَالنَّقِمَاتِ».(1)
وعن الإمام الباقر عليه السلام: «کَأَنِّی بِعَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِیکٍ الْعَامِرِیِّ عَلَیْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَ ذُؤَابَتَاهَا بَیْنَ کَتِفَیْهِ مُصْعِداً فِی لِحْفِ الْجَبَلِ بَیْنَ یَدَیْ قَائِمِنَا أَهْلَ الْبَیْتِ فِی أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُکَبِّرُونَ، وَ مُکِرُّونَ». (2)
وعن الإمام الصادق عليه السلام: «إِنِّي سَألتُ اللهَ فِي إِسْمَاعِيلَ أَنْ يُبْقِيَهُ بَعْدِي، فَأَبَى، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَعْطَانِي فِيهِ مَنْزِلَةً أُخْرَى، إِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ مَنْشُورٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَرِيكٍ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَائِهِ».(3)
وفي روايةِ الإرشادِ عن الإمامِ الصادق عليه السلام: «يُخْرِجُ القَائِمُ (عليه السلام) مِنْ ظَهْرِ الكُوفَةِ سَبْعةَ وَعِشْرِینَ رَجُلاً، خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى (عليه السلام) اَلَّذِينَ كَانُوا يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَسَبْعَةٌ مِنْ أَهْلِ الكَهْفِ، وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَسَلْمَانُ، وَأَبَا دُجَانَةَ الأَنْصَارِيُّ، وَالمِقْدَادُ، وَمَالِكا الأَشْتَرُ، فَيَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْصَاراً وَحُكَّاماً».(4)
ذكر العلماءُ العديدَ من النكاتِ والحِكَمِ للرجعةِ في الدُنيا، نذكرُ منها :
1- هي دليلٌ آخرُ على إمكانِ وقوعِ البعثِ يومَ القيامة.
ص: 269
2- هي فرصةٌ لتكامُلِ المؤمنين الذي حالتِ الظروفُ دونَ وصولِهم إلى كمالِهم الذي كانَ من المُمكنِ أنْ يصلوا إليه.
3- هي انتقامٌ مُعجَّلٌ لأولئك الظلمة الذين ماتوا من دونِ أنْ يؤخَذَ الحقُّ منهم.
4 - إِنَّ كثيرًا ممّن يرجعون ستكونُ لهم أدوارٌ مُهمةٌ في دولةِ الإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف - كما قرأنا في الرواياتِ قبلَ قليل -، و لذلك نجدُ الترابُطَ واضحًا
بين الرجعةِ ودولةِ الإمامِ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.
1/ أنَّ الرجعةَ هي رجوعُ بعضِ الأمواتِ إلى عالمِ الدنيا، ليعيشوا فترةً من الزمن، ثم يموتون إلى يوم القيامة.
2/ أنَّ الرِّجعةَ مُمكنةٌ، وليست مُستحيلةً على قُدرةِ الله (تعالى)، ومُنكِرها إمّا كافرٌ أو مُشتبهٌ أو مُعاند.
3/ أنَّ الرجعةَ خاصةٌ وليست عامةً، يرجعُ من محضَ الإيمانَ محضًا، ومن محضَ الكُفْرَ محضًا.
4/ أنَّ الرجعةَ دليلٌ على إمكانِ يوم القيامة.
5/ أنَّ الإمامَ الحسينَ علیه السلام سيرجعُ ليحكمَ الأرضَ بعد الإمام المهدي عجَّل الله تعالی فرجه الشَّریف.
6/ أنَّ الراجعين سيكونُ لهم دورٌ في دولةِ الإمامِ المهدي عجَّل الله تعالی فرجه الشَّریف إن كانوا مؤمنين، وستتمُّ مُحاكمتُهم مُحاكمةً أوليةً في الدُنيا قبلَ الآخرة إن كانوا غير مؤمنين.
ص: 270
السؤال الأول: ما معنى الرجعة؟ وهل هي ممكنة؟
السؤال الثاني: ما الذي يميّزُ الرجعة عن يوم القيامة؟
السؤال الثالث: من هم الذين يرجعون؟
السؤال الرابع: ما الفلسفة من الرجعة؟
ص: 271
ص: 272
قال (تعالى): «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ». (1)
يمرُّ الإنسانُ في وجودِه بعدَ عدمِه في عوالم عديدة، هي باختصار:
في ذلك العالم، سألَ اللهُ (تعالى) كُلَّ البشر: من ربّكم؟ فقالوا: أنت ربُّنا،
و إلهُنا، فكُلُّ الموحِدين في عالمِ الدُنيا كانوا قد اعترفوا بربوبيةِ الله (تعالى) في
ذلك العالم، ولكنَّنا نسينا ذلك الموقف.
قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ».(2)
ص: 273
ويُسمّى هذا العالمُ في بعض الكلماتِ ب_ (عالم الأرواح) حيثُ كانتِ الأرواحُ دونَ هذه الأبدان كما يُسمّى ب_ ( عالم الأظلة) أيّ الأرواح، ويُسمّى أيضًا ب_ (عالم الأشباح)؛ لأنَّ الروحَ ليست ماديةً، فهي أشبهُ ما تكونُ بالشبح.
روي أنّ رجلاً جاءَ إلى أميرِ المؤمنين علیه السلام فقال له: يا أميرَ المؤمنين إنّي
أُحِبُّك، فقال له علیه السلام: «لم أرَك تُحِبُّني في الميثاقِ الأول».
و يُفسِّرُ قولَ أميرِ المؤمنين علیه السلام على معنى أنَّ الأرواحَ في ذلك العالمِ تلاقتْ
وتعارفت، فما كانَ منها مؤتلفًا ائتلف، وما كانَ مُتخالفًا اختلف.
إذ وردَ أَنَّ رجلاً جاء إلى عليٍّ علیه السلام و كلَّمه فقالَ في عرضِ الحديث: إنّي أُحِبُّك، فقالَ لَهُ عَلِیٌّ علیه السلام: «کَذَبتَ»، قالَ: لِمَ یا أمیرَ المؤمنینَ؟ قالَ علیه السلام: «لأنّی لا أری قَلبِی یُحِبُّكَ، قالَ النبیُّ صلی الله علیه و آله: إنّ الأرواحَ کانَت تَلاقَی فی الهَواءِ فَتَشامُّ، ما تَعارَفَ مِنها ائتَلَفَ، وما تَناکَرَ مِنها اختَلَفَ»،فلَمّا کانَ من أمرِ عَلِیٍّ علیه السلام ما کانَ ، کانَ مِمَّن خَرَجَ علَیهِ.(1)
وعن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي، قال: سألتُ أبا جعفر محمد بن عليٍّ
الباقر علیه السلام...، فقلت: يا بنَ رسول الله، فلَسْتُمْ کُلُّکُمْ قَائِمِینَ بِالْحَقِّ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ سُمِّیَ الْقَائِمُ قَائِماً؟ قَالَ: «لَمَّا قُتِلَ جَدِّیَ الْحُسَیْنُ علیه السلام ضَجَّتْ عَلَیْهِ الْمَلَائِکَةُ إِلَى اللهِ (تَعَالَى) بِالْبُکَاءِ وَ النَّحِیبِ، وَ قَالُوا: إِلَهَنَا وَ سَیِّدَنَا،أَتَغْفَلُ عَمَّنْ قَتَلَ صَفْوَتَکَ وَابْنَ صَفْوَتِکَ وَخِیرَتَکَ مِنْ خَلْقِکَ؟ فَأَوْحَی اللهُ (تعالی) إِلَیهِمْ: قَرُّوا مَلَائِکَتِی فَوَ عِزَّتِی وَجَلَالِی لَأَنْتَقِمَنَّ مِنْهُمْ وَلَوْ بَعْدَ حِین. ثُمَّ
ص: 274
کَشَفَ اللهُ (تعالی) عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِ الْحُسَینِ علیه السلام لِلْمَلَائِکَةِ، فَسَرَّتِ الْمَلَائِکَةُ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَحَدُهُمْ قَائِمٌ یصَلِّی، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «بِذَلِکَ الْقَائِمِ أَنْتَقِمُ مِنْهُمْ».(1)
وعلى كُلِّ حالٍ، فالقرآنُ الكريمُ حيثُ أشارَ إلى هذا العالم، فنحنُ نؤمنُ به، فإن عرفنا معناه فبها، وإلا فلا يؤثرُ شيئًا علينا.
كُلُّ بني آدم كانوا في أصلابِ آبائهم قبلَ أن ينتقلوا إلى أرحامِ أُمّهاتِهم.
وهذا العالمُ مجهولُ الحقيقة، ليس لدينا عنه من معلوماتٍ إلا القليل، فقد شاءتْ حكمةُ الله تعالى أن يجعلَ بدايةَ أعظمِ مخلوقٍ من ماءٍ مهين، قال عزّ و جل: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ.خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ». (2)
يدعونا اللهُ (سبحانه) في هذه الآيةِ المُباركةِ لننظرَ نظرةَ تدبُّرٍ وتفكّرٍ في بدايةِ خلقتنا والمادة التي تكوّنتْ منها أجسامُنا، وهو الماء المهين القذر.
وفي الحقيقةِ هو ماءان: أحدُهما يخرجُ من صُلبِ الرجل، أي (فقراتِ ظهره)، والآخرُ من بينِ (ترائب المرأة) أي عظامِ صدرِها العلوية.(3)
ص: 275
وإليه الإشارةُ بقوله (تعالى): «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ». (1)
تبدأُ رحلةُ الإنسانِ الوجوديةُ من عالمِ الذرّ، ثم ينتقلُ إلى أصلابِ الآباء حيثُ يكونُ نطفةً في عالمِ الأصلاب، فتنتقل تلك النطفةُ لتستقر في رحمِ الأمّ، ذلك القرار الآمن الذي عبّرَ عنه القرآنُ الكريمُ ب_ ( القرار المكين). وبعدَ أن تنتقلَ النطفةُ إلى رحمِ المرأةِ تمرُّ بمراحلَ خمسةٍ متتاليةٍ أشارت إليها الآية المتقدمة، إلى أن يحينَ الوقتُ المُناسبُ للجنينِ ليخرج إلى العالمِ الرابع.
في هذا العالمِ يتحدّدُ مصيرُ الإنسانِ الدائمي؛ لأنَّه العالمُ الوحيدُ الذي يُفعِّلُ الإنسانُ اختياره بتمامِ إرادته، ففي عالمي الأصلابِ والأرحامِ ليس للإنسانِ أنْ يختارَ والديه، على حين يُمكِنُه في عالمِ الدنيا أنْ يصنعَ مصيرَه بيده؛ ولذا كانَ تكليفُ الإنسانِ بالأحكامِ العقائدية والفقهيةِ والسلوكيةِ في هذا العالمِ دون سواه من العوالم، فيحاسبُ الإنسانُ على ما اكتسبَه في هذا العالم، ومصيرُه يُحدِّدُه عملُه الاختياري في هذه الدنيا؛ لذا رويَ عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لاَ تَسُبُّوا الدُّنْیَا، فَنِعْمَتْ مَطِیَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَعَلَیْهَا یَبْلُغُ الْخَیْرُ وَ بِهَا یَنْجُو مِنَ الشَّرِّ،
ص: 276
إِنَّهُ إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَعَنَ اللهُ الدُّنْیَا، قَالَتِ الدُّنْیَا: لَعَنَ اللهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ».(1)
ويسمى أيضًا ب_ ( عالم الموت)، وهو العالم ما بين عالم الدنيا وعالم الآخرة (المعاد).
يبدأ هذا العالم بالاحتضار، وهو أول المنازل التي يمرُّ بها الإنسان عند الموت، وتعبر عنه الروايات بأنه آخر يومٍ من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، وتشير إليه بعض الآيات القرآنية منها قوله عزّ و جَل: «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ».(2)
مرورًا بالموت، والذي هو في حقيقته عمليةُ انفصال الروح عن البدن المادي، ذلك البدن الذي ارتبطت به الروح طيلة تواجدها في هذه الحياة الدنيا، ومن ثَمّ فليس الموت فناءً ولا نهاية، بل هو كما في تعبير الروايات الشريفة: قنطرةٌ، كما عبّر عنه الإمام الحسين عليه السلام: «فَمَا المَوْتُ إِلَّا قَنْطَرَةٌ تَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ الْبُؤْسِ وَاَلضَّرَّاءِ إِلَىٰ الْجِنَانِ الْوَاسِعَةِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ، فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إِلَىٰ قَصْر، وَمَا هُوَ لِأَعْدَائِكُمْ إِلَّا كَمَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ قَصْرٍ إِلَىٰ سِجْنٍ وَعَذَابٍ».(3)
لذلك لمّا سُئل الإمام السجاد علي بن الحسين عليه السلام: ما الموت؟ قال عليه السلام:
ص: 277
«لِلْمُؤْمِنِ کَنَزْعِ ثِیَابٍ وَسِخَةٍ قَمِلَةٍ،(1) وَ فَکِّ قُیُودٍ وَ أَغْلاَلٍ ثَقِیلَةٍ، وَ الاِسْتِبْدَالِ بِأَفْخَرِ الثِّیَابِ وَ أَطْیَبِهَا رَوَائِحَ وَ أَوْطَأِ الْمَرَاکِبِ، وَ آنَسِ الْمَنَازِلِ. وَ لِلْکَافِرِ کَخَلْعِ ثِیَابٍ فَاخِرَةٍ، وَ النَّقْلِ عَنْ مَنَازِلَ أَنِیسَةٍ، وَ الاِسْتِبْدَالِ بِأَوْسَخِ الثِّیَابِ وَ أَخْشَنِهَا، وَ أَوْحَشِ الْمَنَازِلِ وَ أَعْظَمِ الْعَذَابِ».(2)
ويبقى الإنسان ميِّتًا بنظرنا، حيًا في عالم البرزخ والقبر، إلى أن يبعثه الله (تعالى) في العالم الأخير، وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه سُئل عن الموت فقال عليه السلام: « هُوَ النَّوْمُ الَّذِی یَأْتِیکُمْ کُلَّ لَیْلَةٍ، إِلاَّ أَنَّهُ طَوِیلٌ مُدَّتُهُ، لاَ یُنْتَبَهُ مِنْهُ إِلاَّ یَوْمَ الْقِیَامَةِ، فَمَنْ رَأَی فِی نَوْمِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْفَرَحِ مَا لاَ یُقَادِرُ قَدْرَهُ، وَ مِنْ أَصْنَافِ الْأَهْوَالِ مَا لاَ یُقَادِرُ قَدْرَهُ؟ فَکَیْفَ حَالُ فَرَحٍ فِی النَّوْمِ وَ وَجَلٍ فِیهِ؟ هَذَا هُوَ الْمَوْتُ فَاسْتَعِدُّوا لَهُ». (3)
وهو «عود أرواح الناس إلى أبدانهم بعد الموت،حيث يقومُ الناسُ لله ربِّ العالمين، ويُجازون على أعمالهم الحسنةِ والسيئة، في اليومِ الموعود، وسيكون المصيرُ إلى الجنةِ أو النار». (4)
وفي اعتقادِنا - نحنُ الإلهيين - أنَّ يومَ القيامة يتصفُ بأنّه يومُ مصيرِ الناسِ
ص: 278
ومرجعهم النهائي، و أنّه اليومُ الذي سيتمُّ فيه الحسابُ، وأنّه سيكونُ مهولًا مخوفًا على الظالمين والكافرين، لما سيجدونه من المصيرِ السيئ في الوقتِ الذي يكونُ يومَ سرورٍ وفرحٍ للمؤمنين، لما يرونه من مصيرٍ جميلٍ وحسن.
1/ إنَّ الإنسانَ يمرُّ بعوالمِ ستة من بدايةِ وجوده في عالم الذر، ثم عالمِ الأصلاب، فالأرحام، فالدنيا، فالبرزخ، وانتهاءً بعالم الآخرة، وهو المُسمّى بالمعاد.
2/ إذا استطعنا أن نفهمَ معنى عالم الذرّ والأصلابِ والأرحامِ فبها، ،وإلا، فلا مشكلة؛ لأنّنا غيرُ مُكلَّفين بمعرفتها، ولا يترتبُ على الجهلِ بها إثمٌ أو مخالفةٌ لحكمٍ شرعي، فيكفينا الإيمانُ التعبُّدي بها كما وردَ في الرواياتِ الشريفة، أو بما يكشفُه العلمُ عن عالمي الأصلابِ والأرحام.
3/ أنَّ الإنسانَ إنّما يكونُ مُكلفًا في عالمِ الدنيا، وأداؤه للتكليف فيه - أو
عدم أدائه - هو ما يُحدِّدُ مصيرَه النهائي .
4/ أنَّ الموتَ ليس عدمًا، و إنّما هو مرحلةٌ انتقاليةٌ بين الدنيا و الآخرة، كما کُنَّا في عالمِ الأرحامِ مثلًا في مرحلةٍ انتقاليةٍ بينَ الأصلابِ والدُّنيا، والقبرُ إمّا روضةٌ من رياضِ الجنة، أو حفرةٌ من حفرِ النيران.
5/ أنَّ رحلةَ الإنسانِ الوجوديةَ تنتهي بعالمِ الآخرة، وهو عالمُ الخلود، إمّا في الجنة، أو في النار.
ص: 279
السؤال الأول: تحدّث عن العوالم الوجودية التي يمرُّ بها الإنسان؟
السؤال الثاني: ما عالم الذر؟ وما أسماؤه؟ ولِمَ سُمّي بها؟ وهل علينا الإيمانُ بجميع تفاصيله؟
السؤال الثالث: ما حقيقة الموت؟
السؤال الرابع: لِمَ كانَ تكليفُ الإنسانِ بالأحكامِ العقائدية والفقهيةِ والسلوكيةِ في عالمِ الدنيا دون سواه من العوالم ؟
السؤال الخامس: تحدّث عن عالم البرزخ.
ص: 280
قال (تعالى):«إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا». (1)
ما الداعي للمعاد ولعالم الآخرة؟
ألا يكفي أن نعيشَ الدنيا، ونموتَ، وينتهي الأمر؟
لا شكَّ أنَّ اللهَ عزّ و جل قادرٌ حكيم، ولا شكَّ أنّه (تعالى) يعلمُ بما يجري من البشر، وهو (تعالى) لا يرضى بالظلم والاعتداء وأخذ حقوقِ الآخرين عدوانًا، وهو (تعالى)، - لعدله، و قدرته و حكمته -، يستطيعُ أن يأخذَ الحقَّ من الظالم، وأن يُعاقبَه، وأن ينصرَ عبادَه في الدُنيا، بحيث لا يتركُ مجالًا للظالمين أن يعتدوا على غيرهم.
ولكنّه (تعالى) لم يفعل ذلك، فنحنُ نرى الظالمين ما زالوا يطغون في الأرض، ونرى الكثيرَ من أصحابِ الحقوقِ لا يحصلون على حقوقِهم إلى
ص: 281
أن يموتوا، ونرى الظالمين يموتون من دونِ أنْ يحصلوا على عقابِ أعمالهم.
وإذا سأل أحدُهم: لماذا لا يُعاقبُ اللهُ (تعالى) الظالمين مباشرة؟
فالجواب:
لأنّه (تعالى) - باختصار - يُمهلُ ولا يُهمل، فإنّه قد يُمهِلُ الظالمَ فيؤخِّرُ عقوبته، وربما يؤخرها إلى يومِ القيامةِ، ولكنَّه لا يهملُ عقابَه قط، فيُعاقبُه لاحقًا في الدُنيا، وإلا ففي يومِ القيامة، حيثُ العذاب الأليم، وربما المقيم، قال (تعالى): «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا». (1)
وفي آيةٍ أخرى: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا». (2)
كما وردَ في الرواياتِ أنّ على الصراط عقبةً تُسمّى المرصاد لا يجوزُها عبدٌ بمظلمةٍ، فقد رويَ عن أبي عَبْدِ الله علیه السلام في قَوْلِ الله (تعالى): «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(3) قَالَ: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّراطِ لاَ يُجَوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ». (4)
فما دامَ هناك يومُ القيامة، وما دامَ الظالمُ لا يستطيعُ أن يُفلتَ من قدرةِ اللهِ
ص: 282
(تعالى)، فحتى لو لم يُحاسِبه في الدنيا، فإنّه تعالى سيُحاسِبُه في الآخرة.
خصوصًا إذا تذكّرنا أنَّ عالمَ الدنيا هو عالمُ الاختبارِ والامتحان، وأنَّ الجزاءَ هو في الآخرة، وقد قالَ رسولُ الله الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم: «... فَإِنَّکُمُ الیَومَ فی دارِ عَمَلٍ ولا حِسابَ، وأنتُم غَدا فی دارِ حِسابٍ ولا عَمَلَ». (1)
وهذا يعني: أنَّ على المؤمنِ أن يعيشَ في الحياةِ بحسبِ القانونِ الإلهي، وإذا ظلمَه أحدُهم، فلا يعني هذا أنّه لا يأخذُ حقَّه، بل له أنْ يأخذَ حقَّه بالطريقِ الذي يرضاه الله (تعالى)، ولكن لو عجزَ عن أخذِ حقِّه، إما لعدمِ معرفةِ مَنْ أخذَ حقَّه - كالسارق المجهول، أو لأنَّ الظالمَ أقوى من المؤمن، فإنّ المؤمنَ لن يیأسَ من رحمة اللهِ (تعالى)، ولن يُصيبَه الإحباط؛ لأنَّه يعرفُ أَنَّ اللهَ (تعالى) سيأخذ له حقَّه يومَ القيامة، ويُجازيه أفضلَ الجزاء.
فالمعادُ إذًا مما يجعلُ المؤمنَ مُطمئنًا بعدمِ ضياعِ حقوقِه لو لم يستطع ان
يأخذَها بالطريقِ الحق.
وفي نفسِ الوقتِ، فإنَّ المؤمنَ إذا علِمَ بيومِ القيامة، وأنَّ اللهَ (تعالى) لن يتركَ عملًا من دون حساب، فإنّه سيلتزمُ بالحق، ولا يميلُ إلى الباطل، خوفًا من العقابِ الإلهي الذي لا يستطيعُ الإنسانُ الضعيفُ أنْ يتحمَّلَ جزءًا يسيرًا جدًا منه .
يقولُ أميرُ المؤمنين علیه السلام: «وَاعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَىٰ
ص: 283
النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيه، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ؟ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَىٰ النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه؟....».(1)
إنَّ الله (تعالى) قد وعدَ في القرآنِ الكريم، بأنّه لا بُدَّ من عالمِ الآخرة، ليُجازيَ المؤمنَ وغيره كلًا حسب عمله، فلو متنا ولم نجد عالمَ الآخرة، لكانّ هذا خلفًا بالوعدِ من الله (تعالى)، واللهُ (تعالى) لا يُخلِفُ وعدَه أبدًا؛ لأنَّ خلفَ الوعدِ قبيحٌ، واللهُ (تعالى) لا يفعلُ القبيح.
والآياتُ التي ذكرت هذا المعنى كثيرةٌ، منها قوله (تعالى): «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ. أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ.الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ. «أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ. قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا
ص: 284
تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ».(1)
وقال (تعالى):«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ».(2)
وقال (تعالى): «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ». (3)
1/ أنَّ يومَ القيامةِ أمرٌ ضروري؛ لأنَّ الحكمةَ تقتضيه؛ لأنّ اللهَ (تعالى) عادلٌ حكيمٌ قادر ، فلا بُدَّ أنْ يُحاسبَ الظالمَ على ظلمه، ويُثيبَ المؤمنَ على التزامه بالدين، واللهُ (تعالى) لا يُساوي بين الكافرِ والمؤمن.
2/ أنَّ اللهَ (تعالى) يُمهل ولا يُهمل؛ لأنّه (تعالى) لا يخافُ أن يهرف: یهرب منه عبده.
3/ أنَّ اللهَ (تعالى) وعدَ بوجودِ يومِ القيامةِ، واللهُ (تعالى) لا يُخلِفُ الميعاد.
4/ أن الإيمان بالمعاد، يوجب التزام المؤمن بالنظام الديني، ويحافظ على الناس من حدوث الفوضى العقائدية أو السلوكية، فمن يعرف أن وراءه
ص: 285
حساب، يخف من العقاب،كما لو دخل السارق إلى مكان ليسرقه فرأي كاميرا تسجل حركته، فإن الخوف لا شك سيدبّ إلى قلبه، وربما ترك السرقة و هرب.
ص: 286
السؤال الأول: ما الداعي للمعاد ولعالم الآخرة؟
السؤال الثاني: (المعادُ ممّا يجعلُ المؤمنَ مُطمئنًا بعدمِ ضياعِ حقوقِه لو لم يستطع ان يأخذَها بالطريقِ الحق). وضّح العبارة.
السؤال الثالث: لماذا لا يُعاقبُ اللهُ (تعالى) الظالمين مباشرة؟
السؤال الرابع: كيف يمكنُ للمسلم أن يلتزم جادةَ الصواب عن طريقِ الاعتقاد بيوم الحساب؟
ص: 287
ص: 288
قال (تعالى):«يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ». (1)
في البدايةِ لا بُدَّ أن يكونَ واضحًا أنَّ علمَ الإنسانِ محدود جدًا، كما تقدّمَ الحديث عن ذلك في الدروس الأولى، خصوصًا فيما يتعلق بالأمور الغيبية والمستقبلية، والتي لا يُدركها بحواسه، هذا أولًا.
وثانيًا: هناك الكثير من الأمور التي يشهدُ الواقعُ على أن ليس للإنسان فيها علمٌ قطعي، فهو لا يستطيعُ أنْ يُدركَها إلا إذا وقعت أمامه، أو أخبرَه بها من عنده اطلاعٌ على الغيبِ، وهو الله عزّ و جل، فيما أخبرَ به في كتابِه المجيد، أو أخبرَ به المعصومون علیهم السلام، لأنَّ علمَهم من علم الله (تعالى).
ص: 289
فلا أحدَ منّا - نحنُ غير المعصومين - يعلمُ بلحظةِ وفاته، وكم رأينا أناسًا مرضى، توقعنا لهم الموت، ولكنّ عمرَهم يطولُ أكثر ممّا نتوقع.
سواء أكانَ من نوعِ الطعام أم الأموال، أم حتى الذُرِّية، فنحنُ لا نعلمُ
كُلَّ هذه الأمور إلا إذا وقعت.
فلا احدَ منّا يعرفُ متى تقعُ القيامةُ وعالمُ الآخرة، بل هذا أمرٌ لا يعلمُه
إلا اللهُ عزّ و جل.
وإلى هذه المفرداتِ الثلاثةِ أشارَ قولُه (تعالى):«إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ».(1)
فإنَّ الرواياتِ تؤكِّدُ أنَّ لحظةَ الظهورِ لا يعلمُ بها إلا اللُه عزّ و جل، ولذلك وردَ النَّهيُ عن التوقيتِ كما تقدّم، لأنَّه قولٌ بلا علم.
فقد رويَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم قيل له: يا رسولَ الله، متى يخرجُ القائمُ من ذُريتك ؟ قال: مثله مثل الساعة « لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ
ص: 290
وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً».(1)
فتبيّنَ: أنَّ ساعةَ قيامِ القيامة أمرٌ لا يعلمُه إلا اللهُ عزّ و جل.
نعم، رغم أنّنا لا نعلمُ بساعةِ القيامة، إلا أنَّ بعضَ الرواياتِ ذكرتُ أنَّ هناك أشراطاً وعلاماتٍ تكونُ قبلها، فما هي تلك العلامات؟
إنَّ الرواياتِ ذكرت بعضَ الأمور، سمّتها بأشراطِ الساعة، وهي علاماتٌ تدلُّ على قُربِ القيامة، مع الالتفاتِ إلى أنَّ المقصودَ بالقُربِ ليس أنَّ القيامةَ تقعُ بعد تلك العلاماتِ مباشرة، وإنّما المقصودُ أَنَّ الزمانَ هو آخرُ الزمان، وأنَّ القيامةَ صارت قريبةً بالنسبةِ إلى عمر الوجود.
ما أشراطُ و علاماتُ الساعة ؟
أشراطٌ جمعُ (شَرَط) بالفتح وهي العلامة، فأشراطُ الساعة يعني علاماتها .
جاءَ في العديدِ من الرواياتِ لدى الفريقين أنَّ للساعةِ - أيّ يوم القيامة -أشراطًا وعلاماتٍ لا بدَّ أن تقع قبل قيامها.
يُمكنُ تفسيرُ ذلك بتفسيرين:
التفسير الأول: أنَّ الشَّمس تخرجُ من غربِ الأرضِ لا من شرقها، وهذه يُمكنُ أن تكونَ بقدرةِ اللهِ (تعالى)؛ لأنَّ اللهَ (تعالى) قادرٌ على كُلِّ شيء.
التفسير الثاني: أنَّ المقصودَ هو ظهورُ الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف من غيبته، فهو الشمس، والمغرب بمعنى الغيبة؛ لأنَّه الوقتُ الذي تغيبُ فيه الشمس، فيكونُ تعبيرُ ( خروج الشمس من مغربها) كنايةً عن ظهورِ الإمامِ المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف من غيبته.
روي عن النزال بن سبرة ، عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديثٍ يذكرُ فيه أمرَ الدجّال ويقول في آخره: «لاَ تَسْأَلُونِی عَمَّا یَکُونُ بَعْدَ هَذَا، فَإِنَّهُ عَهِدَ إِلَیَّ حَبِیبِی صَلَّی الله عَلَیْهِ وَ آلِهِ أَنْ لاَ أُخْبِرَ بِهِ غَیْرَ عِتْرَتِی». قَالَ النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَة فَقُلْتُ لِصَعْصَعَة بْنِ صُوحَانَ مَا عَنَی أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ بِهَذَا الْقَوْلِ؟
فَقَالَ صَعْصَعَة: یَا اِبْنَ سَبْرَة إِنَّ الَّذِی یُصَلِّی عِیسَی اِبْنُ مَرْیَمَ خَلْفَهُ هُوَ الثَّانِی عَشَرَ مِنَ الْعِتْرَةِ، اَلتَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ الْحُسَیْنِ بْنِ عَلِیٍّ عَلَیْهِ السَّلاَمُ، وَ هُوَ اَلشَّمْسُ الطَّالِعَةُ مِنْ مَغْرِبِهَا، یَظْهَرُ عِنْدَ الرُّکْنِ وَ الْمَقَامِ، فَیُطَهِّرُ اَلْأَرْضَ وَ یَضَعُ اَلْمِیزَانَ بِالْقِسْطِ فَلاَ یَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً...(1)
ص: 292
حركةٌ شيطانيةٌ، تسعى إلى إضلالِ الناس، و غوايتهم، و إبعادِهم عن الحق، وقد ذكرتِ الرواياتُ أنّه أعور ، و أنّه يدّعي الربوبية، ولكنّه لا يستطيع أنْ يُضلَّ المؤمنين؛ لأنّهم يعرفون أنّه باطلٌ من خلالِ تصرفاته وأفعاله.
ويمكن القول: إنَّ قوى الكفر والضلالِ يُمكِنُ أَنْ تَكونَ هي الدجال، فهو ليس كالسفياني، في كونه رجلًا حقيقيًا -كما تقدّم-، وإنّما هو تعبيرٌ عن حركةٍ شيطانيةٍ تستعملُ مُختلفَ الأساليبِ لإضلالِ الناس.
وتذكرُ الرواياتُ أنَّ النبيَّ عيسى علیه السلام بعدَ أن ينزلَ فإنّه يقتلُ الدجال.
الدابةُ هي ما يدبُّ على الأرض، وهي بهذا المعنى تشملُ الإنسانَ
والحيوانَ مما يمشى على الأرض.
وإليها الإشارةُ بقوله (تعالى): «وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ».(1)
وقد نصَّتِ الرواياتُ الشريفةُ على أنَّ المقصودَ من دابةِ الأرضِ هو أميرُ المؤمنين عليه السلام يخرجُ في الرجعةِ في آخرِ الزمان، ويعملُ على قتلِ الكافرين والمُشركين والمنافقين، وستكونُ عنده قدرة يُميّزُ بها بينَ المؤمن والمنافق.
رويَ عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: « وَ أَنَا دَابَّةُ الْأَرْضِ، وَ أَنَا قَسِیمُ النَّارِ وَ أَنَا
ص: 293
خَازِنُ الْجِنَانِ وَ صَاحِبُ الْأَعْرَافِ».(1)
وفي روايةِ أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: يا علي إِذَا کَانَ آخِرُ اَلزَّمَانِ أَخْرَجَکَ اللهُ فِی أَحْسَنِ صُورَةٍ وَ مَعَکَ مِیسَمٌ تَسِمُ بِهِ أَعْدَاءَکَ...» (2)
تؤكِّدُ الرواياتُ أنَّ النبيَّ عيسي عليه السلام سينزلُ من السماءِ في آخرِ الزمان، وسيُصلّي خلفَ الإمامِ المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف، وسيكونُ لذلك أثرٌ مهمٌ في هدايةِ الكثيرِ من الناس، خصوصًا المؤمنين به عليه السلام .
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: «انَّ عِیسَی یَنْزِلُ قَبْلَ یَوْمِ الْقِیَامَةِ إِلَی اَلدُّنْیَا، فَلاَ یَبْقَی أَهْلُ مِلَّةٍ یَهُودِیٌّ وَ لاَ نَصرَانِیٌّ إِلاَّ آمَنَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَ یُصَلِّی خَلْفَ الْمَهْدِیِّ».(3)
1/ أنَّ الإنسانَ لا يعلمُ الكثيرَ من الأمور، ومنها: أنّه لا يعلمُ ساعةَ وفاته، و لا رزقه و لاظهور المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف، ولا يوم القيامة.
2/ كما كانت هناك علاماتٌ لظهورِ الإمامِ المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف، تدلُّ على قُربِ ظهوره، كذلك كانت هناك علاماتٌ ليومِ القيامة.
ص: 294
3/ أنَّ علاماتِ القيامة تُسمّى بأشراط الساعة، وهي عشرةٌ، و منها: ظهورُ الشمس من مغربها، وهو ما يُمكِنُ أن يُفسَّرَ بظهورِ الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف بعد غيبته، كما دلّت على ذلك بعضُ الروايات.
4/ أنَّ النبيَّ عيسى ينزلُ آخرَ الزمان، و يُصلّي خلفَ الإمامِ المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف، وهو الذي يقتلُ الدجّال، الذي هو حركةٌ منحرفةٌ، تُريدُ إضلالَ الناس.
5/ أنَّ أميرَ المؤمنين علیه السلام يرجعُ في آخرِ الزمان، وهو الذي سمّاه القرآنُ الكريمُ بدابّة الأرض.
ص: 295
السؤال الأول: ما المقصود بأشراط وعلامات الساعة ؟ اذكر بعضاً منها مع التوضيح الموجز.
السؤال الثاني: بِمَ فُسِّرَ طلوع الشمس من المغرب؟
السؤال الثالث: هناك مفرداتٌ اقتضت حكمةُ الله (تعالى) إخفاءها عن الإنسان، ما هي ؟ وما الثمرةُ التربوية المترتبة على كُلِّ منها ؟
ص: 296
قال (تعالى): «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ». (1)
من خلال تتبُّع الآياتِ والروايات، يُمكِنُ أن نقول: إِنَّ قيامَ القيامةِ يكونُ _ على نحوِ الإجمال _ كالتالي:
تؤكِّدُالكثيرُ من الرواياتِ الشريفةِ على أنَّ وجودَ الحُجَّةِ، أي الإمامَ المنصوبَ من الله (تعالى) على الأرض، هو أمانٌ لأهلِ الأرض، و أنّه لولا وجوده لانتهتِ الحياة، فقد وردَ عن أحمد بن عمر، قال: قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: هل يُبقي الأرضَ بغير إمام، فإنّا نُروى عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لاَ یُبْقَی الْأَرْضَ إِلاَّ أَنْ یَسْخَطَ اللهُ عَلَی الْعِبَادِ»؟ قَالَ عليه السلام: «لاَ تَبْقَی، إِذاً لَسَاخَتْ» (2)
و في روايةٍ أُخرى: «لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ رُفِعَ مِنَ اَلْأَرْضِ سَاعَةً لَسَاخَتْ بِأَهْلِها
ص: 297
کَمَا یَمُوجُ الْبَحْرُ بِأَهْلِهِ». (1)
ومن هُنا وردَ أَنَّ القيامةَ تقومُ بعدَ أنْ يرفعَ اللهُ (تعالى) الحُجَّةَ من الأَرضِ بأربعين يومًا فقط.
فقد رويَ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «مَا زَالَتِ الأَرْضُ وَللهِ فِيهَا حُجَّةٌ يَعْرِفُ الحَلَالَ وَالحَرَامَ، وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِ اللهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الحُجَّةُ مِنَ الأَرْضِ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْماً قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَإِذَا رُفِعَتِ الحُجَّةُ أُغْلِقَ بَابُ التَّوْبَةِ، وَ لَمْ يَنْفَعْ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُرْفَعَ الحُجَّةُ، وَأُولَئِكَ شِرَارُ مَنْ خَلَقَ اللهُ، وَ هُمُ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ القِيَامَةُ». (2)
ونذكرُ منها الأحداثَ التالية. (3)
لقد وردَ هذا الموضوعُ في آياتٍ مُتعدِّدةٍ من القرآنِ الكريمِ، و ذُكِرت له مراحلُ عديدةٌ ومختلفةٌ، ويُمكِنُ تقسيمُها وتلخيصُها في سبعةِ مراحل هي:
المرحلة الأولى: اهتزازُ الجبال: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ». (4)
ص: 298
المرحلة الثانية: قلعُها: «وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ». (1)
المرحلة الثالثة: تسييرُها: «وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا». (2)
المرحلة الرابعة: الدكُّ والهدمُ:«فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ».(3)
وفي هذه المرحلةِ تصبحُ الجبالُ كالكثبانِ المُتراكمة: «وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا». (4)
المرحلة الخامسة: تصبحُ فيها الجبالُ كالغُبارِ المُتفرِّق:«وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا». (5)
المرحلة السادسة: تكونُ الجبالُ فيها كالعِهنِ المنفوشِ، أيّ كالصوفِ المندوفِ المُتطاير في الريحِ الشديدةِ ولا يرى في السماء إلّا لونَها: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ». (6)
المرحلة السابعة تلاشي الجبالِ ولا يبقى منها إلا شبحٌ كشبحِ سرابٍ في صحراء قفر: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». (7)
وهكذا سوف تزولُ الجبالُ تمامًا ولا يبقى منها أيُّ أثرٍ وتبدُّلٍ إلى أرضٍ
ص: 299
مستويةٍ لا نرى فيها عوجًا و لا أمتًا:«فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا». (1)
من العلاماتِ الأخرى لنهايةِ هذا العالم وقُربِ قيامِ الساعة، انفجارُ البحارِ، ونقرأ في هذا الصددِ قولَه (تعالى):«وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ»، (2) و قال (تعالى) في موضع آخر: «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ». (3)
... لقد أصبحت هذه الحالةُ اليومَ مفهومةً نظرًا لأنّ الماءَ يتكونُ من عنصرين، الأول هو الأوكسجين والثاني هو الهيدروجين، وهذان العنصران قابلان للاحتراق أو: إن أولهما يساعد على الاحتراق، والثاني قابل للاحتراق، فلو كان هناك عاملٌ یُسبِّبُ في تجزئةِ الماءِ لتبدَّلتِ البحار إلى كتلةٍ عظيمةٍ من نيرانٍ مُحرقة، وتكفي قدحةٌ صغيرةٌ لإحراقِ العالمِ بأسره.
ويحتملُ أن تكونَ الزلزلةُ الشديدةُ التي تقعُ قبيلَ القيامةِ هي السببُ في تشقُّقِ الأرضِ واتصالِ البحار مع بعضِها البعض، وعلى أثر ذلك سوفَ تتصلُ جميعُ البحارِ والبحيرات الموجودة على الأرض، وهذا أيضًا أحدُ الأقوالِ التي ذُكِرَتْ في تفسيرِ هذه الآية.
وهناك تفسيرٌ ثالثٌ يقول: عندما تتلاشى الجبالُ يسقطُ غبارُها في البحارِ فتمتلئ ويطغى الماءُ على اليابسةِ فتصيرُ كُلّها بحرًا واحدًا.
ص: 300
من العلاماتِ الأخرى لنهايةِ هذا العالم وقُربِ قيام الساعة حدوثُ زلزلةٍ عظيمةٍ ليس لها نظيرٌ بحيث تهزُّ جميعَ أنحاءِ الكُرةِ الأرضيةِ فتُدمِّرُ كُلَّ شيء ويُدفَنُ جميعُ الناس في لحظات.
يقول القرآن:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ». (1) ثم يقول عز من قائل: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ».(2)
من العلاماتِ الأخرى لقُرب الساعةِ انطفاءُ قرصِ الشمسِ واختفاء ضوء الكواكب كما ذكرت الآية: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ»، (3) فيذهبُ ضوءُ الشمسِ بالتدريجِ وتعمُّ الظلمة.
لقد بيّنَ القرآنُ الكريمُ أنّ النفخَ في الصور يكونُ على مرحلتين:
الأولى: قبلَ يومِ البعثِ والحساب، حيثُ يموتُ بها كُلُّ الأحياء إلا من شاءَ اللهُ (تعالى) . قال (تعالى):«وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
ص: 301
وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ».(1)
والثانية: نفخةُ الإحياءِ حيثُ يقومُ الجميعُ لربِّ العالمين، يُبعثون إلى ساحةِ المحشر ليتمَّ حسابهم.
وقد أشارَ لهما القرآنُ الكريمُ بقوله: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ». (2)
بعدَ أنْ يُنفخَ في الصورِ النفخة الثانية، ويُحيى جميعُ المخلوقات، يؤخَذون إلى الحشر.
والحشرُ هو الجمع، وفي يومِ القيامةِ سيتمُّ حشرُ و جمعُ جميعِ الناس، بل سيتمُّ حشرُ المخلوقاتِ جميعًا، قال (تعالى):«وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا».(3)
هذه الآيةُ واضحةٌ فى «أنَّ الحشرَ سيكونُ بنحوِ الجماعاتِ لا الأفراد، وبالقهرِ، فلا يتخلَّفُ عنه فردٌ أو جماعة». (4)
فالحشرُ هو «حشرُ الأمواتِ بعد إحيائهم بأبدانهم، وعودةُ أرواحِهم
ص: 302
إليها، وبعثُهم للحسابِ والجزاءِ بإرادة الله تعالى وقدرته». (1)
1/ أنَّ الساعةَ وإن كانتْ تقومُ فجأةً وبغتةً، إلا أنَّ هناك أحداثًا تقعُ تكونُ بمنزلة المنَبِّهاتِ والنواقيسِ لقُرب وقوعها.
2/ أنَّ وجودَ الحُجَّةِ المنصوبِ من اللهِ (تعالى) على الأرضِ هو أمانٌ لها، و لذا لا تخلو من الأرض منه و لو ساعة، فإذا أرادَ اللهُ (تعالى) إنهاءَ الحياةِ عليها، رفعَ الحُجّةَ منها.
3/ أنَّ هناك العديدَ من الأحداثِ الكونيةِ التي تقعُ لتؤدّي إلى نهايةِ هذا العالم، تبدأبتلاشي الجبال، ثم تسجير البحار، ثم يقعُ زلزالٌ عظيمٌ يعمُّ الأرضَ كُلَّها، ثم تحلّ الظلمةُ على الأرضِ بعدَ تكويرِ الشمس، وتنتهي الحياةُ بالنفخةِ الأولى في الصور.
4/ النفخُ في الصورِ مرةً يكونُ لإماتةِ الموجوداتِ، وهي النفخة الأولى، و الثانية لإحياءِ جميع الموجودات، وهي النَّفخَةُ الثانية.
ص: 303
السؤال الأول: كيف تقوم القيامة؟
السؤال الثاني: تسبق قيام القيامة وقوع أحداث كونية متعدّدة. عدِّدها.
السؤال الثالث: تحدّث عن النفخ في الصور؟
ص: 304
قال (تعالى): «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا». (1)
من خلالِ تتبُّعِ الآياتِ الكريمةِ والرواياتِ الشريفةِ، نجدُ أنَّ هناك أحداثًا عديدةً تقعُ يومَ القيامة، فإنّه وبعدَ أنْ يُنْفَخَ في الصور النفخةُ الثانية، ويُحشَرُ الناسُ في أرضِ المحشر، تقع أحداث، ومنها:
تتحدَّثُ الآياتُ الكريمةُ عن أنَّ كُلَّ واحدٍ من بني البشر سيستلمُ صحيفةَ أعماله، تلك الصحيفة التي كانَ الملائكةُ يُملونها عليه في حياتِه الدُنيا، تأتيه يومَ القيامة، ويستلمُها بيمينه أو بشماله، حسبَ أعماله.
قال (تعالى): «وَ وُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا».(2)
ص: 305
وقال (تعالى): «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا». (1)
و قال (تعالى): «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ»... «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ». (2)
و قال (تعالى): «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا. وَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا. وَ يَصْلَى سَعِيرًا». (3)
وتتحدَّثُ الآياتُ أيضًا، عن أنَّ أعمالنا التي عملناها في الدنيا تأتي يومَ القيامة، و نراها، ولا نستطيعُ أن نُنكرها، «أي إنّ عملَ كُلِّ شخص يُعرَضُ أمامه في ذلك اليومِ، خيرًا كان أو شرًا، ويكونُ موجباً لسروره وسعادته، أو عذابه و معاناته، موجبًا للفخرِ والكرامة، أو للفضيحة والعار» .(4)
قال تعالى:«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». (5)
ص: 306
و قال (تعالى):«وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا». (1)
و قال (تعالى):«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا». (2)
في هذه المحكمة، سيحضرُ الشهودُ الذين يشهدون للإنسان، أو يشهدون عليه، ولن يستطيعَ الواحدُ منّا أنْ يُنكر؛ لأنّ الشهودَ ممّن لا يَكذبون ولا يُكذِّبون.
تبدأ هذه المحكمة بإحضارِ الجميعِ بين يدي الله (تعالى): «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ». (3)
وسيكونُ الحاكمُ والقاضي هو الباري عزّ و جل، «اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ». (4)
و قد يوكلُ اللهُ (تعالى) حسابَ بعضِ البشر و مُحاكمتهم لبعضِ عبيده، كما في إيكالِ حسابِ الشيعةِ لأهلِ البيت علیهم السلام، فقد رويَ عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إِذَا کَانَ یَوْمُ اَلْقِیَامَةِ وَکَّلَنَا اللهُ بِحِسَابِ شِیعَتِنَا، فَمَا کَانَ لِلهِ، سَأَلْنَا اللهَ أَنْ یَهَبَهُ لَنَا فَهُوَ لَهُمْ، وَ مَا کَانَ لَنَا فَهُوَ لَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عَبْدِ
ص: 307
الله عَلَیْهِ السَّلاَمُ: «إِنَّ إِلَیْنا إِیابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا حِسابَهُمْ» (1)».(2)
ثمّ يؤتى بالشهودِ على كُلِّ مجموعةٍ من الناس، فكُلُّ أُمَّةٍ عليها شهيدٌ منها، كأن يكونُ الشهيدُ نبيَّهم، أو إمامَهم، قال (تعالى):«فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ». (3)
ليس هذا فحسب، بل سيؤتي بشهودٍ خاصّين على الإنسانِ نفسه، فكُلُّ واحدٍ عليه شهودٌ من نفسه، فضلًا عن شاهدِ الأمةِ عليه، قال (تعالى): «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ».(4)
و قال (تعالى): «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ». (5)
من مُجمل الآياتِ والروايات، يُمكنُ تصوُّرُ ساحةِ المحشرِ والجنة والنار بالتالي:
ص: 308
يُجمعُ الناسُ كُلُّهم في ساحةٍ واحدة، وتكونُ الجنةُ في الجانب الآخر، وكُلُّ من يُريدُ أنْ يصلَ إلى الجنة، فعليه أن يعبرَ على جسرِ الصراط (1)، و هذا الجسرُ يكونُ فوق جهنم، فمن لا يتمكّنُ من عبوره، فإنّه يقعُ في جهنم والعياذ بالله .
و هذا يعني: أنَّ كُلَّ الناسِ سيرون جهنم، ولكنَّ البعضَ يراها ولا يقعُ فيها، وهم المؤمنون، والبعضُ يراها ويقعُ فيها، وهم غيرُ المؤمنين.
قال (تعالى): «فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا. ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا. وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا». (2)
و على الصراطِ تكونُ هناك نقاطُ تفتيش، كُلُّ نقطةٍ يُسألُ الإنسانُ فيها عن عملٍ مُعيَّنٍ، فإنْ كانَ قد أدّاه بصورةٍ صحيحةٍ في الدُنيا، و شهدَ له كتابُه بصحةِ كلامه، عبرها، وهكذا إلى أن يصلَ إلى الجنةِ بفضلِ الله (تعالى) و لطفه.
و في بيان ذلك رويَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ علیه السلام قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم:أَخْبَرَنِی الرُّوحُ الْأَمِینُ أَنَّ اللهَ لاَ إِلَهَ غَیْرُهُ، إِذَا وَقَفَ الخَلَائِقَ وَ جَمَعَ الْأَوَّلِینَ وَ الْآخِرِینَ، أُتِیَ بِجَهَنَّمَ تُقَادُ بِأَلْفِ زِمَامٍ، أَخَذَ بِکُلِّ زِمَامٍ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ مِنَ الْغِلاَظِ الشِّدَادِ، وَ لَهَا هَدَّةٌ وَ تَحَطُّمٌ(3)،
وَ زَفِیرٌ و شَهِیقٌ، وَ إِنَّهَا لَتَزْفِرُ الزَّفْرَةَ، فَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ (تعالی)
ص: 309
أَخَّرَهَا إِلَی الْحِسَابِ لَأَهْلَکَتِ الْجَمِیعَ، ثُمَّ یَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ یُحِیطُ بِالْخَلاَئِقِ الْبَرِّ مِنْهُمْ وَ الْفَاجِرِ، فَمَا خَلَقَ اللهُ عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ مَلَكٍ وَ لاَ نَبِیٍّ إِلاَّ و یُنَادِی: یَارَبِّ، نَفْسِی نَفْسِی، وَ أَنْتَ تَقُولُ: یَا رَبِّ أُمَّتِی أُمَّتِی.
ثُمَّ یُوضَعُ عَلَیْهَا صِرَاطٌ أَدَقُّ مِنَ الشَعرِ و اَحَدُّ مِنْ السَّیْفِ، عَلَیْهِ ثَلاَثُ قَنَاطِرَ: الأُولُی عَلَیْهَا الْأَمَانَةُ وَ الرَّحمَةُ، وَ الثَّانِیَةُ، عَلَیْهَا الصَّلاَةُ، وَ الثَّالِثَةُ عَلَیْهَا رَبُّ الْعَالَمِینَ لاَ إِلَهَ غَیْرُهُ، فَیُکَلَّفُونَ الْمَمَرَّ عَلَیهَا، فَتَحْبِسُهُمُ الرَّحمَةُ وَ الْأَمَانَةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا حَبَسَتْهُمُ الصَّلاَةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا کَانَ الْمُنْتَهَی اِلَی رَبِّ الْعَالَمِینَ جَلَّ ذِکرُهُ، وَ هُوَ قَوْلُ اللهِ عزَّ و جل:«إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ»(1) وَ النَّاسُ عَلَی الصِّرَاطِ ، فَمُتَعَلِّقٌ تَزِلُّ قَدَمُهُ و تَثبُتُ قَدَمُهُ، وَ الْمَلاَئِکَةُ حَوْلَهَا یُنَادُونَ: یَا کَرِیمُ یَا حَلِیمُ اِعفُ وَ اصْفَحْ وَ عُدْ بِفَضْلِكَ وَ سَلِّمْ. وَ النَّاسُ یَتَهَافَتُونَ (2) فِیهَا کَالْفَرَاشِ، فَإِذَا نَجَا نَاجٍ بِرَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، نَظَرَ إِلَیْهَا فَقَالَ: اَلْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی نَجَّانِی مِنْكِ بَعْدَ یَأسٍ بِفَضْلِهِ و مَنِّهِ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَکُورٌ». (3)
ومن أهمِّ ما يُسألُ عنه المرءُ يوم القيامةِ هي ولايةُ أميرِ المؤمنين علیه السلام، ولذا وردَ عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم، قال: «إِذَا کَانَ یَوْمُ الْقِیَامَةِ وَ نُصِبَ الصِّرَاطُ عَلَی جَهَنَّمَ لَمْ یَجُزْ عَلَیْهِ إِلاَّ مَنْ مَعَهُ جَوَازٌ فِیهِ وَلاَیَةُ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ، وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعَالَي):
ص: 310
«وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ»(1) یَعْنِی عَنْ وَلاَیَةِ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ عَلَیْهِ السَّلاَمُ».(2)
وهنا نقطةُ تفتيشٍ (عقبة) على الصراط تُسمّى بالمرصاد، و في هذه العَقَبةِ يُحاسَبُ الناسُ عن المظالمِ التي صدرت منهم في الدُّنيا، فقد رويَ عن أبي عبدالله علیه السلام في قولِ اللهِ عزّ و جل: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»،(3) قال: قنطرةٌ على الصراطِ لا يجوزُها عبدٌ بمَظلمة». (4)
1/ أَنَّ كُلَّ إنسانٍ سيستلمُ صحيفةَ أعمالِه التي عملها في الدنيا، وهذه الصحيفةُ لا تتركُ أيَّ فعلٍ أو قولٍ أو حتى نية، إلا و تحفظها فيها.
2/ إنَّ الإنسانَ عندما يرى أعمالَه أمامه، فإنّه يستطيعُ أَنْ يُحاسِبَ نفسه، ويعرف أنَّه من أهلِ الجنةِ أو النار، و مع ذلك فإنَّ اللهَ (تعالى) يأتي بالشهودِ عليه ليشهدوا بالحقّ، ولن يستطيعَ الإنسانُ إنكارَ الشهود؛ لأنّهم من النوعِ الذي تُقبلُ شهادتُه مُباشرة، كالنبي، والإمام، والجلود، و غيرهم.
3/ هناك محكمةٌ إلهيةٌ عُظمى تقومُ في يوم القيامة، القاضي والحاكم فيها اللهُ (تعالى)، وسيوكِلُ اللهُ (تعالى) حسابَ الشيعةِ إلى أئمتِهم علیهم السلام.
4/ لا بُدَّ لنا أن نعبرَ الصراطَ لنصلَ إلى الجنة، والصراطُ عبارةٌ عما يشبهُ
ص: 311
الطريقَ الذي توجدُ فيه نقاطُ تفتيشٍ تُحاسبُنا على أعمالنا، وسيكونُ الحسابُ على ولايةِ أميرِ المؤمنين علیه السلام ضروريًا، ولذا، لن يستطيعَ من يُبغِضُه عبورَ الصراط.
ص: 312
السؤال الأول: بعد المحشر، تقعُ أحداثٌ عديدةٌ. تحدّث عنها.
السؤال الثاني: قد يفلت الظالم من الحساب والعقاب في الدنيا، وقد يموت المظلوم وهو يئنُّ من ظلمٍ أقضّ مضجعه. فأين العدالة الإلهية؟ وضِّح ذلك.
السؤال الثالث: ما أهمِّ ما يُسألُ عنه المرءُ يوم القيامة؟
ص: 313
ص: 314
قال (تعالى): «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (1)
بعدَ أن يتمَّ الحسابُ، ويعبرَ المؤمنون الصراط، يدخلون إلى الجنة، وفي الجنةِ أمورٌ عديدةٌ، نتعرّفُ على بعضٍ منها:
للجنَّةِ مواصفاتٌ عديدةٌ ذكرتها الآياتُ والروايات، منها:
فالجنةُ مكانُ واسعُ جدًا، ولا يُمكِنُ أن نتصوَّرَ حقيقةَ سعتها، إلا أنَّ بعضَ الآياتِ والرواياتِ جعلت سعتَها كسعةِ الأرض والسماوات، ولك أنْ تتصوَّرَ سعتَها عندما تسألُ علمَ الفلك عن سعةِ السماواتِ غير المتناهية بالنسبة لنا.
قال (تعالى): «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
ص: 315
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».(1)
«وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ». (2)
ورويَ عنه صلي الله عليه و آله و سلم: «: إِنَّ أَدنَی أَهلِ الجَنَّةِ مَنزِلَةً الَّذِی یَرکَبُ فِی أَلفِ أَلفٍ مِن خَدَمَةٍ مِن الوِلدانِ المُخَلَّدِینَ، عَلی خَیلٍ مِن یاقُوتٍ أَحمَرَ لَها أَجنِحَةٌ مِن ذَهَبٍ «وَ إِذَا رَأَیْتَ ثَمَّ رَأَیْتَ نَعِیمًا وَ مُلْکًا کَبِیرًا». (3)
وفي وصفها رويَ عن الإمامِ الباقر عليه السلام: «أَرْضُ الْجَنَّةِ رُخَامُهَا(4) فِضَّةٌ، وَ تُرَابُهَا اَلْوَرْسُ(5) وَ الزَّعْفَرَانُ، وَ کَنْسُهَا الْمِسْکُ، وَ رَضْرَاضُها (6) اَلدُّرُّ وَ الْیَاقُوتُ». (7)
صرّحت بعضُ الآياتِ بأنَّ للجنةِ ثمانيةَ أبواب، كما أنَّ للنار سبعةَ أبواب.
ص: 316
قال (تعالى):«جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ». (1) أي إنَّ هناك أبوابًا للجنة.
وفي آية أخرى قال تعالى:«وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ». (2)
ورويَ عنه صلي الله عليه و آله و سلم: « إِنَّ الجَنَّةَ لَها ثَمانِیَةُ أَبوابٍ، ما مِنهُنَّ بابانِ إِلَا وَبَینَهُما مَسِیرَةٌ الراکِبِ سَبعِینَ عامًا». (3)
قال (تعالى): «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ». (4)
ص: 317
ليستِ الجنةُ بمرتبةٍ واحدةٍ و درجةٍ واحدة، وإنّما لها درجاتٌ ومراتبُ، يحصلُ الإنسانُ على كُلِّ مرتبةٍ منها بأعمالِه الصالحة، فكُلَّما زادت أعمالُه الصالحة، حصلَ على مرتبةٍ أعظم ودرجةٍ أرقى.
فقد رويَ عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أنَّه قال لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ،الدَّرَجَةُ فی الجَنَّةِ کما بینَ السَّماءِ والأرضِ وأَنَّ العَبدَ لَیَرفَعُ بَصرَهُ فیَلْمَعُ لَهُ نورٌ یَکادُ یَخطَفُ بَصرَهُ، فیَفزَعِ فیقولُ:ما هذا؟ فیُقالُ: هذا نورُ أخیكَ المؤمنِ، فیقولُ: هذا أخی فُلانٌ، کُنّا نَعمَلُ جَمیعا فی الدُّنیا، وقد فُضِّلَ علَیَّ هکَذا؟! فیُقالُ:إنَّهُ کانَ أفْضَلَ مِنکَ عَمَلاً، ثُمَّ یُجعَلُ فی قَلْبِهِ الرِّضی حتّی یَرْضی».(1)
وهي عديدةٌ، منها:
فالدُنيا هي دارُ التكليف، وأمّا الآخرةُ، فهي دارُ الأجرِ والثواب، فلا تكليفَ، ولا إلزامات و لا واجبات بل كُلُّ شيءٍ مباحٌ للمؤمنين فيها.
قالَ رسولُ الله الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم: «.... فَإِنَّکُمُ الیَومَ فی دارِ عَمَلٍ ولا حِسابٍ، و أنتُم غَدًا فی دارِ حِسابٍ و لا عَمَلٍ». (2)
ص: 318
ففي الجنةِ قِمَّةُ النشاط، وقمّةُ الراحة، قال تعالى):«الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ». (1)
وعن رسولِ الله صلي الله عليه و آله و سلم:« یَمحُو اللهُ عز و جل مِن قُلُوبِ أَهلِ الجَنَّةِ ذِکرَ الآباءِ وَالأُمَّهاتِ وَالإِخوانِ وَالمَعارِفِ مِمَّنِ استَوجَبَ النّارَ، فَلا یَذکُرُونَهُم أَبَدا».(2)
قال (تعالى): «أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ». (3)
وقال (تعالى):«لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ». (4)
و رويَ عن الإمامِ الباقر عليه السلام في قوله عزّ و جل: «الحَزَنُ: ما أَصابَهُم فِي الدُّنيا مِنَ الخَوفِ وَالشِّدَّةِ». (5)
قال (تعالى): «وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ
ص: 319
وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». (1)
«وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ».(2)
و عن رسولِ الله صلي الله عليه و آله و سلم: « يُحبَسُ أَهلُ الجَنَّةِ بَعدَما يَجوزونَ الصِّراطَ حَتّى يُؤخَذَ لِبَعضِهِم مِن بَعضٍ ظُلاماتُهُم فِي الدُّنيا، ويَدخُلونَ الجَنَّةَ ولَيسَ في قُلوبِ بَعضِهِم عَلى بَعضِهِم غِلٌّ».(3)
عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: يُنادي مُنادٍ: إِنَّ لَكُم أَن تَحيَوا فَلا تَموتوا أبَدا، وإِنَّ لَكُم أن تَصِحّوا فَلا تَسقَمُوا أبَدا، وَإنَّ لَكُم أن تَشِبّوا فَلا تَهرَموا أبَدا، وَإِنَّ لَكُم أَن تَنعَموا فَلا تَبأَسوا أبَدا، فَذلِكَ قَولُهُ تَعالى: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (4)». (5)
علينا أن نُقرَّ أولًا أنَّنا لا نتمكن من دخولِ الجنةِ إلا برحمةِ اللهِ (تعالى)
ص: 320
و عفوِه و كرمِه و جودِه،و إلا، فبأعمالنا لا نستطيعُ أنْ نُعطيَ حقَّ نعمةٍ واحدةٍ من نِعَمِ الله (تعالى)، قال (تعالى):«وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ». (1)
لكن مع ذلك، فقد ذكرتِ النصوصُ الدينيةُ أهمَّ ما يجعلنا في معرضِ اللُطفِ والجودِ والكرمِ الإلهي لدخولِ الجنة، وهي أمورٌ كثيرةٌ، نذكرُ منها:
1/ رحمةَ الله (تعالى) التي وسعتْ كُلَّ شيء، قال (تعالى): «وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ». (2)
و رويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يَدخُلُ الْجَنّةَ رَجُلٌ إِلَّا بِرَحمَةِ اللهِ». (3)
2/ العقل: أي أنْ يتحكَّمَ الإنسانُ في جوارحِه بعقله، فلا يدعها تتصرّف تصرُّفاتٍ حمقاء أو غير مسؤولة، بل يجعلُ كُلَّ تصرُّفاته تحتَ نظرِ عقله، وقد رويَ عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّ رجلًا سأله: ما العقل؟ قال: «مَا عُبِدَ بِهِ الْرَحْمَنَ وَ اکْتُسِبَ بِهِ الْجَنَانَ»، فقال: فالذی کان فی معاویة ؟ قال: تلكَ النَّکْراءُ، وتلكَ الشَّیطنةُ؛ وهی شبیهةٌ بالعقلِ، ولیست بعقل». (4)
3/ كلمة التوحيد: فقد رويَ عن يَعْقُوبَ القُمِّيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام،
ص: 321
قال: «ثَمَنُ الجَنَّةِ: لا إِلهَ إِلّا اللهُ وَاللهُ أَکبَرُ». (1)
ولكن علينا أن نتذکَّرَ أنَّ التوحيدَ الحقيقي هو ما كانَ فيه ولايةُ أميرِ المؤمنين عليه السلام، فقد رويَ عن عبدِ الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ و جل: « فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» قال: التوحيد، و محمد صلي الله عليه و آله و سلم رسول الله، وعلي أمير المؤمنين. (2)
وعن الْهَیْثَمُ بْنُ عَبْدِ الله الرُّمَّانِیُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِیُّ بْنُ مُوسَی الرِّضَا عَلَیْهِ السَّلاَمُ عَنْ أَبِیهِ عَنْ جَدِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِیِّ بْنِ اَلْحُسَیْنِ عَلَیْهِمَا السَّلاَمُ فِی قَوْلِهِ «فِطْرَةَ الله الَّتِی فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَیْها» قَالَ: «هُوَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، عَلِیٌّ أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ وَلِیُّ الله، إِلَی هَاهُنَا التَّوْحِیدُ». (3)
1/ أنَّ مصيرَ المؤمنين سيكونُ إلى الجنةِ برحمةِ الله (تعالى) وبفضله.
2/ أنَّ الجنةَ تتصفُ بمواصفاتٍ كثيرة، كُلّها تدلُّ على الراحةِ، والطمأنينةِ، والرفاهية، فكُلُّ ما فيه راحةٌ للمؤمن سيكونُ موجودًا فيها.
3/ لا تكليفَ في الجنة، بل هي دارُ الأجرِ والثواب والراحة الأبدية للمؤمن.
4/ في الجنةِ لا توجدُ مُنغِّصاتٌ للبال، ولا توجدُ أمراضٌ روحيةٌ ولا
ص: 322
بدنية.
5/ أنَّ الجنَّةَ لا تُنالُ إلا برحمةِ اللهِ (تعالى)، وبتوحيده، وبولايةِ أميرِ المؤمنين عليه السلام.
ص: 323
السؤال الأول: للجنَّةِ مواصفاتٌ عديدةٌ ذكرتها الآياتُ والروايات. عدِّدها مع الشرح الموجز
السؤال الثاني: هناك أمورٌ غيرُ موجودةٍ في الجنة. اذكرها.
السؤال الثالث: كيف ندخل الجنة ؟
ص: 324
قال تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ». (1)
في هذه النقطة نذكر أمرين:
قد يتساءلُ البعضُ: أليس اللهُ (تعالى) رحيمًا كريمًا ؟!
أليس اللهُ عزّ و جل لا يحتاجُ أن يُعذِّبنا؟
أليسَ اللهُ (تعالى) قادرًا على أنْ يعفوَ عنّا؟
فلماذا إذن يُعذِّبُ الكافرين والمُنافقين وأشباههم، وهم عبيده ومخلوقاته؟
أو لم يكنِ الأفضلُ أن يعفوَ عن الجميع ؟!
والجواب:
لا شكَّ أنَّ رحمةَ اللهِ (تعالى) أوسعُ ممّا نتخيّل، فقد رويَ عن الإمامِ
ص: 325
الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: «اذا کانَ یَومُ القِیامة نَشَر اللهُ عزّ و جَل رَحمَتَهُ حَتّی یَطمَعَ ابْلیسُ فی رَحمَتِهِ». (1)
إلا أنَّ هذا لا يعني أنْ لا يُعاقِبَ اللهُ (تعالى) المذنبين والمخالفين، وذلك لأجل الآتي:
أولاً: أنَّ العقوبةَ ضروريةٌ لردع المُنحرفين عن اقترافِ المخالفات، وهذا أمرٌ وجداني، فإنَّ أيَّ إنسانٍ يأمنُ العقوبة، يُمكِنُ أنْ يُخالفَ القانون، ولكنّه لو علمَ بأنَّ العقوبةَ حتمية، فإنّه عادةً ما يبتعدُ عن المخالفة.
وتصوّروا: لو أنَّ اللهَ (تعالى) أنزلَ آيةً تقول: إنَّ المُصلّين وغير المُصلّين سيدخلون الجنة، هل نبقى نلتزمُ بالصلاةِ رغمَ أنّها تتعارضُ مع بعضِ أمورِ حياتنا، أو إنّها تتعارضُ مع راحتنا ؟
ثانيًا: لو لم يُعاقِبِ اللهُ (تعالى) المذنبين، فمعناه أنه سيُدخلهم الجنة، وحينها سيشعرُ المؤمنون أنّ تعبَهم والتزامَهم في الدنيا ذهبَ هباءً منثورًا، خصوصًا أنّهم أتعبوا أنفسهم بالصومِ في أيامِ الحر مثلًا، أو إنّهم لم يأخذوا من الدنيا أي مُحرَّمٍ من أموالٍ وبيوتٍ وكنوز، وربما يتمنّون أنّهم لو لم يؤمنوا أصلًا، ولم يحرموا أنفسهم من ملذَّاتِ الدنيا .
ثالثًا: إنَّ المساواة بين المُذنب والمُلتزم، بينَ المُنحرف والمؤمن، بينَ المُجرمِ، والمستقيم، هو أمرٌ خلافُ الحكمة، ومن الأمورِ العبثية، وهو أمرٌ وجداني،
ص: 326
فهل ترانا نرضى لو رأينا معلمًا في مدرسةٍ أعطى هديةً للتلميذِ الراسب مساويةً أو أفضلَ ممّا يُعطي للتلميذ الناجح؟!
قطعًا نقول: إنَّ هذا التصرُّفَ خلافُ الحكمة، وعبثٌ، فكيفَ نُريد من الله (تعالى) أن يُساوي بين المؤمن والمنحرف!
قال (تعالی): «كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ». (1)
وقال (تعالى): «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ».(2)
وقال (تعالى): «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ».(3)
ربما يتصوّرُ البعضُ أنَّ نارَ جهنم مثل نار الآخرةِ في درجةِ الحرارة، ومن ثَمَّ قد يستطيعُ أن يتحمّلَ الدخولَ فيها لفترةٍ وجيزةٍ أو طويلةٍ، وربما يتعوّد عليها.
فهل هذا صحيح؟
الجواب بالآتي:
ص: 327
ليس من الصحيحِ أن نقيسَ نارَ جهنم على نار الدنيا، ونتصور أن درجة حرارتهما واحدة، بل إن بعض النصوص صرّحت بأن نار الدنيا هي نار مخففة جدًا من نار جهنم، فقد روي أمير المؤمنين علیه السلام قال: «قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: « إنَّ نارَکُم هذِه لَجُزءٌ مِن سَبعینَ جُزءا مِن نارِ جَهَنَّمَ، ولَقَد أُطفِئَت سَبعینَ مَرَّهً بِالماءِ، ثُمَّ التَهَبَت، ولَولا ذلِكَ لَمَا استَطاعَ آدَمِیٌّ أن یطیقها (یُطفِأها) إذَا التَهَبَت، وإنَّهُ لَیُؤتی بِها یَومَ القِیامَةِ، حَتّی توضَعَ عَلَی النَّارِ فَتَصرُخُ صَرخَةً، لا یَبقی مَلَکُ مُقَرَّبٌ ولا نَبِیٌّ مُرسَلٌ إلّا جَثا عَلَی رُکبَتَیهِ، فَزَعًا مِن صَرخَتِها». (1)
إنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ أن يتحمّلَ حرارةَ لهيبِ الشمسِ، فضلًا عن نارِ الدُنيا، فحتى لو فرضنا أنَّ نارَ الأخرةِ هي بنفسِ درجةِ حرارةِ نارِ الدنيا، فهذا ليس مُبرِّرًا للتهاونِ بها، وعدمِ الحذرِ منها، وفي ذلك يقولُ أميرُ المؤمنين علیه السلام: «وَاعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَىٰ النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيه، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ؟ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَىٰ النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه؟...».(2)
ص: 328
ولو فرضنا أنَّ نارَ جهنم هي نفسُ نار الدُنيا من حيث الحرارة، ولكن مع ذلك لا يُمكِنُ أنْ يعتادَ الداخلُ في جهنم عليها؛ لأنّ عذابَها مُتجدِّدٌ، وليس على حالةٍ واحدة، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيما».(1)
و رويَ عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلتُ له: یَابنَ رَسولِ الله خَوِّفنی؛ فَإِنَّ قَلبی قَد قَسا، فَقالَ: یا أبا مُحَمَّد، استَعِدَّ لِلحَیاهِ الطَّویلَةِ؛ فَإِنَّ جَبرَئیلَ جاءَ إلی النبیِّ صلی الله علیه و آله وهُوَ قاطِبٌ، و قَد کانَ قَبلَ ذلِك، یَجیءُ وهُوَ مُبتَسِمٌ، فَقالَ رَسولُ الله صلی الله علیه و آله: یا جَبرَئیلَ، جِئتَنِی الیَومَ قاطِباً!؟ فَقالَ: یا مُحَمَّدُ، قَد وُضِعَت مَنافِخُ النَّارِ! فَقَالَ: وَمَا مَنَافِخُ النَّارِ يَا جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالنَّارِ فَنُفِخَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَ نُفِخَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ نُفِخَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الضَّرِيعِ قَطَرَتْ فِي شَرَابِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَمَاتَ أَهْلُهَا مِنْ نَتْنِهَا، وَلَوْ أَنَّ حَلْقَةً وَاحِدَةً مِنَ السِّلْسِلَةِ الَّتِي طُولُهَا سَبْعُونَ ذِراعاً وُضِعَتْ عَلَى الدُّنْيَا لَذَابَتِ الدُّنْيَا مِنْ حَرِّهَا، وَلَوْ أَنَّ سِرْبَالاً مِنْ سَرَابِيلِ أَهْلِ النَّارِ عُلِّقَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمَاتَ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنْ رِيحِهِ وَوَهَجِهِ».
قال: «فَبَكَى رَسُولُ الله صلى الله عليه و آله وَبَكَى جَبْرَئِيلُ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمَا مَلَكاً، فَقَالَ
ص: 329
لَهُمَا: إنَّ ربَّكما يُقرؤكما السلامَ ويقول: قد آمنتكما أنْ تُذنبا ذنبًا أُعذِّ بكما عليه». (1)
ولا أعتقدُ أنَّ أحدًا منّا حصلَ على (صكّ الغفران) و (براءة من النار) - كما حصل عليها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم- ليطمئنَّ ولا يحذر من النار، فحريٌّ بنا أن نخافَ جهنم، وأن نعملَ للحصول على رضا الله (سبحانه وتعالى)، ولا يكون ذلك إلا بالالتزامِ التامِّ بمُفرداتِ الدِّين القويم.
1/ أنَّ خلقَ جهنم، و وعيدَ الله (تعالى) الكافرين والمنافقين وأمثالهم بالتعذيب بها، هو من الحكمةِ البالغة، وهو تطبيقٌ للعدلِ الإلهي، بإثابةِ المؤمنين بالجنة، وتعذيبِ المُخالفين بجهنم.
2/ أنَّ رحمةَ الله (تعالى) عظيمةٌ بحدٍّ يطمعُ فيها حتى إبليس، لكنّها لا تعني أنْ لا يُميّزَ اللهُ (تعالى) بين المؤمنين والمنحرفين، فالرحمةُ لا تعني الجورَ ولا اللهوَ ولا العبثية، وإنّما هي تكونُ حيثُ تكونُ الحكمة الإلهية.
3/ نحن لا نستطيعُ تحمُّلَ نارِ الدنيا الخفيفة، فكيف بنا بنارِ جهنم التي هي أشدُّ من نارنا هذه بسبعين مرة أو أكثر ؟!
4 / ما دُمنا غير معصومين، ولم نحصل على أمانٍ من النار، فعلينا بالحذرِ الدائم من نارِ جهنم، وعلينا أنْ نُحصِّنَ أنفسَنا من ورودِها والمكثِ فيها بالعملِ الصالح، والإيمان، وبولاية أهلِ البيت علیهم السلام.
ص: 330
نسألُ اللهَ (تعالى) أن يجعلَ عاقبتنا إلى خير، وأنْ يجعل خيرَ منازلنا هي قبورنا، وأفضلَ مآلنا في الآخرة، وأن يعصمَنا من الزلل، إنّه وليُّ التوفيق.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين . (1)
ص: 331
السؤال الأول: لماذا خلق الله (تعالى) النار ؟
السؤال الثاني: إنَّ الله (تعالى) غنيٌ عن عبادة المخلوقين، ولا يضره ظلم الظالمين، وهو أرحم الراحمين، فلِمَ يُعذِّبُ الكافرين والظالمين؟
السؤال الثالث: يتصوّرُ البعضُ أنَّ نارَ جهنم مثل نار الدنيا في درجةِ الحرارة، ومن ثمّ قد يستطيعُ أن يتحمّلَ الدخولَ فيها لفترةٍ وجيزةٍ أو طويلةٍ، وربما يتعوّد عليها .
ناقش هذا التصوّر.
ص: 332
بعد كتاب الله المجيد: القرآن الكريم.
1- الاحتجاج: الطبرسي / ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه_.
2 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ه_/ دار المفيد/ بيروت.
3- اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه_.
4- الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 2 / 1414ه_/ دار المفيد / بيروت.
5- الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ ت عصام عبد السيّد/ ط2 / 1414ه_/ دار المفيد/ بيروت.
6- إعلام الورى: الطبرسي/ ط 1/ 1417ه_/ مط ستارة/ مؤسسة آل البيت/ قم.
7- الإلهيات: محاضرات الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني/ الطبعة الرابعة/ مطبعة اعتماد قم/ سنة 1417ه_.
8 - الأمالي: السيّد المرتضى/ ت النعساني الحلبي/ ط 1/ 1325ه_/ مكتبة المرعشي/ قم.
9- الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ه_/ مؤسسة البعثة.
10- الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه_/ دار الثقافة/ قم.
11- الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، علي أكبر الغفّاري/ ط2/ 1414ه_/ دار
ص: 333
المفيد/ بيروت.
12- الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة: السيد حسن الشيرازي/ الناشر: رشيد/ الطبعة الأولى 1426/ المطبعة: شريعت.
13- الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404ه_/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.
14- أمثال القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
15- أنساب الأشراف البلاذري/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1394ه_ / مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
16- بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي / ط 2 المصحِّحة/ 1403ه_ / مؤسسة الوفاء/ بيروت.
17- بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفار/ ت كوجه باغي/ 1404ه_/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.
18- البلد الأمين: الكفعمي / 1383ه_/ مكتبة الصدوق/ طهران.
19 - تاریخ مدينة دمشق: ابن عساكر /ت علي شيري/ 1415ه_ / دار الفكر/ بيروت.
20- تفسير الإمام العسكري: المنسوب إلى الإمام العسكري / ط 1 محقِّقة / 1409ه_/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.
21 - تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3 / 1404ه_/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.
22 - تفسير النور للشيخ محسن قراءتي.
23 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1 / 1415ه_/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
24- التوحيد: الشيخ الصدوق/ ت هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرسين/ قم.
ص: 334
25 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمد مهدي الخرسان/ ط2/ 1368ش/ مط أمير /منشورات الشريف الرضي/ قم.
26 - الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية: للشيخ فاضل الصفار - دار المحجة البيضاء- الطبعة الأولى - 1436ه_ / 2015م.
27- الحكمة المتعالية: صدر المتألهين/ ط3 /1981م/ دار إحياء التراث العربي / بيروت.
28 - الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط 1 كاملة محقِّقة/ 1409ه_/ مؤسسة
الإمام المهدي/ قم.
29- الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1403ه_/ جماعة المدرسين/ قم.
30 الدرّ المنثور: السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.
31- دلائل النبوَّة: البيهقي / ط 1 / 1405ه_/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
32- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي (الأول)/ الوفاة:1070/ تحقيق: نمقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه «السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الاشتهاردي»/ الناشر: بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسين کوشانپور.
33- الروضة في فضائل أمير المؤمنين: شاذان بن جبرئيل القمي/ ط1/ 1423ه_.
34- سبل الهدى والرشاد: الصالحي الشامي/ ط 1/ 1414ه_/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
35- سنن أبي داود: ابن الأَشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط1 / 1410ه_/ دار الفكر/ بيروت.
ص: 335
36- سنن الترمذي: الترمذي / ت عبد الوهاب عبد اللطيف / ط2 / 1403ه_ / دار الفكر/ بيروت.
37- سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهاب عبد اللطيف / ط 2/ 1403ه_/ دار الفكر/ بيروت.
38- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد / ت محمد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378ه_/ دار إحياء الكتب العربية / بيروت.
39- شواهد التنزيل: الحاكم الحسكاني/ ت محمّد باقر المحمودي / ط 1/ 1411ه_/ مجمع إحياء الثقافة.
40- صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه_ / دار الفكر / بيروت.
41 - صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
42- طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلي / دار المعرفة/ بيروت - لبنان /دار المعرفة للطباعة والتوزيع.
43 - عقائد الإمامية: محمد رضا المظفّر / انتشارات أنصاريان/ قم.
44 - علل الدارقطني: الدارقطني/ ت محفوظ الرحمن زين الله السلفي/ ط1 /1405ه_/ دار طيبة/ الرياض.
45 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه_ / منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها / النجف الأشرف.
46-عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبى العراقي/ ط1/ 1403ه_ / مط سيّد الشهداء قم.
47 - عيون أخبار الرضا الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي / 1404ه_/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
ص: 336
48- عيون الحكم والمواعظ: علي الليثي الواسطي/ ت حسين البير جندي/ ط1 / دار الحديث.
49- الغدير: الشيخ الأميني/ ط4 / 1397ه_/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
50- الغيبة: الشيخ الطوسي / ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط 1/ 1411ه_/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلامية/ قم.
51- الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط 1 / 1422ه_/ مط مهر / أنوار الهدى.
52- فتح الباري: ابن حجر / ط 2/ دار المعرفة/ بيروت.
53 - الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري/ ط1/ 1412ه_/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
54 - الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط 2 / 1414ه_ / دار المفيد / بيروت.
55 _ فضائل الخمسة من الصحاح الستة: السيد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي/ الوفاة: 1410 / الطبعة: الثالثة / سنة الطبع : 1393 - 1973 م/ الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
56 - الفضائل: شاذان بن جبرئيل القمى/ 1381ه_/ منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها/ النجف الأشرف.
57 - الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 5 / 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
58 - أهل البيت في الكتاب والسنة / محمد الريشهري / التحقيق: دار الحديث/ الناشر: دار الحديث/ المطبعة: دار الحديث/ الطبعة الثانية مع التصحيح والإضافات.
59 - كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (الخصائص الكبرى): جلال الدين
ص: 337
السيوطي/ الوفاة: 911 / سنة الطبع : 1320 / المطبعة: طبع في حيدرآباد الدكن - الهند/ الناشر: دار الكتاب العرب.
60- تأويل الآيات: شرف الدين الحسيني/ ط 1 / 1407ه_/ مط أمير/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.
61- كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ه_ / مط العلمية/ قم.
62- كتاب سليم بن قيس: سليم بن قيس الهلالي/ ت محمّد باقر الأنصاري.
63- كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري / 1405ه_/ مؤسسة النشر
الإسلامي/ قم.
64- كنز العمال: المتقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه_ / مؤسسة الرسالة/ بيروت.
65- المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدّث/ 1370ه_/ دار الكتب الإسلامية/ طهران.
66- مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370ه_ / منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
67 - مروج الذهب: المسعودي / ط2 / 1404ه_/ منشورات دار الهجرة/ قم.
68- مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط 1/ المحقَّقة / 1408ه_/ مؤسسة آل البيت/ بيروت.
69- المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
70- مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2 / 1411ه_/ مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين/ قم .
71- مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر / بيروت.
ص: 338
72- المصباح المنير: أحمد بن محمّد المقري الفيومي/ دار الفكر/ بيروت.
73- معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه_/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
74 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه_/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
75-معجم البلدان: الحموي / 1399ه_/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
76- المعجم الكبير: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.
77 - المعجم الكبير: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط2 مزيَّدة و منقَّحة/دار إحياء التراث العربي.
78 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392ه_ / منشورات الشريف الرضي/ قم.
79- مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه_/
المكتبة الحيدرية/ النجف.
80 _ مهج الدعوات ومنهج العبادات: ابن طاووس/ کتابخانه سنائي.
81- موسوعة العقائد الإسلامية: للشيخ الريشهري / الطبعة الثالثة/ 1386 / مركز بحوث دار الحديث.
82- نفحات القرآن: سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ الطبعة الأولى 1384ش/ 1426ه_/ المطلعة: سليمانزاده/ الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام/ إيران/ قم / شهدا / فرع 22 .
83- نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط 1/ 1412ه_/ مط النهضة/
ص: 339
دار الذخائر/ قم.
84- نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387 ه_/ بيروت.
85- وسائل الشيعة: الحرّ العاملي/ط 2 / 1414ه_/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.
86 - ينابيع المودَّة: القندوزي/ ت علي جمال أشرف الحسيني/ ط1/ 1416ه_/ دار الأسوة.
ص: 340
مقدمة المعهد...3
الاهداء...5
المقدمة...7
هذه الدروس:...9
الدرس الأول مصادرُ المعرفة الإنسانية (1) ...11
منافذ المعرفة:...13
المنفذ الأول: الحواس:..13
الدرس الثاني مصادر المعرفة الإنسانية (2)...17
المنفذ الثاني: العقل....17
مهامُ العقل:...18
الوظيفة الأولى: إدراك ما لا تناله الحواس المادية: 18
الوظيفة الثانية: استنتاج معارف جديدة:...19
الدرس الثالث مصادر المعرفة الإنسانية (3)...23
المنفذ الثالث: الوحي:...24
الدرس الرابع مراتب المعرفة ...29
كيف نتعرَّفُ على الواقع؟ ...29
النحو الأول الخطأ الممكن ...32
النحو الثاني الخطأ المستحيل...32
ص: 341
الدرس الخامس وجوب النظر والمعرفة...37
الدرس السادس إثبات وجود الخالق للكون وما فيه...45
الاحتمال الأول: أنَّ العالَمَ هو من خَلَق نفسه... 45
الاحتمال الثاني: أنَّ الخالقَ للعالمِ هو موجودٌ غيرُ عاقل...46
الاحتمالُ الثالث: أنَّ الخالقَ حيٌّ عالمٌ قادر...48
الدرس السابع التوحيد (1)...53
الدليل الأول: أنّ الآثارَ هي لخالقٍ واحدٍ لا أكثر...53
الدليل الثاني: الخالق الثاني مشكوك لا متيقن...54
مراتبُ التوحيد:...55
المرتبة الأولى: التوحيد في الذات:...55
المرتبة الثانية : التوحيد في الصفات...56
الدرس الثامن التوحيد (2)...59
التوحيد الأفعالي...59
المرتبة الثالثة: التوحيد في الأفعال (التوحيد الأفعالي)...59
تطبيقاتٌ للتوحيد الأفعالي:...61
التطبيق الأول: التوحيد في الخالقية...61
التطبيق الثاني: التوحيد في الربوبية:...61
التطبيق الثالث: التوحيد في الطاعة:...63
الدرس التاسع التوحيد (3)...67
التطبيق الرابع: التوحيد في العبادة:...67
ص: 342
معنى العبادة...68
الأمر الأول: الخضوع:...68
الأمر الثاني: الاعتقاد بربوية المخضوع له...68
أعلى مراتب العبادة:...69
الإخلاص شرطٌ أساسي في العبادة...70
الدرس العاشر: صفات الخالق (1)...75
القسم الأول: الصفات الكمالية:..76
النحو الأول: الصفات الكمالية الذاتية:...76
النحو الثاني: الصفات الكمالية الفعلية...77
القسم الثاني: الصفات السلبية:...77
النحو الأول: الصفات السلبية الذاتية:...77
النحو الثاني: الصفات السلبية الفعلية:...77
الدرس الحادي عشر: صفات الخالق (2) / الصفات الكمالية (1)...81
(العلم)...81
أولاً: الصفات الكمالية الذاتية:...81
الصفة الأولى: العلم...81
مُميزات العلم الإلهي:...81
الدرس الثاني عشر: صفات الخالق (3) / الصفات الكمالية (2)...87
(القدرة) (الحياة)...87
الصفة الثانية: القدرة...87
ص: 343
الصفة الثالثة: الحياة...89
الدرس الثالث عشر: صفات الخالق ( 4 ) / الصفات الكمالية (3)...93
ثانيًا: الصفاتُ الكمالية الفعلية...93
الصفة الأولى: الحكمة...93
الصفة الثانية: العدل...94
النقطة الأولى: معنى العدل...94
النقطة الثانية: الاختيارُ الإنساني مظهرٌ من مظاهر العدل الإلهي...95
النقطة الثالثة: لماذا لا يظلمُ اللهُ (تعالى) أيَّ أحد؟...96
فتحصلَ:...97
الدرس الرابع عشر: صفاتُ الخالق (5)...101
الصفات السلبیة...101
أولاً : الصفات السلبية الذاتية...101
الصفة الأولى: الاحتياج...101
الصفة الثانية: التركيب...102
الصفة الثالثة: الجسمية...103
ثانيًا: الصفات السلبية الفعلية...104
الدرس الخامس عشر كيف نعرف ما يُريده الخالق لتُرضيه ؟...107
الدرس السادس عشر النبوة (1)...115
النقطة الأولى: معنى النبوة:...115
النقطة الثانية: كيف يصير الإنسانُ نبيًا؟...117
ص: 344
النقطة الثالثة: كيفَ نعرفُ النبي؟...119
الدرس السابع عشر النبوة (2)...123
النقطة الرابعة: عصمة الأنبياء...123
الأمر الأول: ما معنى العصمة؟...123
الأمر الثاني: هل العصمةُ تجبرُ المعصوم على تركِ الذنب؟...125
الدرس الثامن عشر النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله (1)...131
النقطة الأولى: إثباتُ نبوّةِ نبينا الأكرم صلي الله علیه و آله و سلم...131
الطريق الأول: إخبارُ الأنبياءِ السابقين بنبوته...131
الطريق الثاني: إخبارُ القرآن بذلك...131
الطريق الثالث: أنه جاء بالمعجزة...132
الطريق الرابع: متابعة سيرة وخصائص النبي الأكرم صلي الله علیه و آله و سلم...137
الدرس التاسع عشر النبي الأعظم محمد صلي الله عليه وآله (2)...143
النقطة الثانية: عصمة النبي الأكرم صلي الله عليه وآله:143
الدليل الأول: أنَّ كُلَّ ما يأتي به صلي الله علیه و آله و سلم هو وحي...143
الدليل الثاني: وجوب الطاعة المطلقة للنبي الأعظم صلي الله علیه و آله و سلم...144
فائدة: عصمة أهل البيت عليهم السلام: ...146
الدليل الثالث: بعض الروايات:...147
الدرس العشرون النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله (3)...151
النقطة الثالثة: بعض صفات ومميزات وخصائص......151
أولاً: أنَّه صلي الله علیه و آله و سلم أول ما خلق الله (تعالى)...151
ص: 345
ثانيًا: أنّه أفضلُ ما خلقَ الله (تعالى)...152
ثالثًا: أنّه صلي الله علیه و آله و سلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم...153
رابعًا: أنَّ له صلي الله علیه و آله و سلم مُميزاتٍ وخصائصَ اختصَّ بها دون غيره...154
خامسًا: أخلاقُه الرفيعة مضربٌ للمثل...155
الدرس الحادي والعشرون ماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله لأجل......161
كيفَ تركَ النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم أُمّتَهُ بعده؟...161
الدرس الثاني والعشرون كيف يُعيِّنُ النبي صلى الله عليه وآله ...171
تعيينُ النبيّ صلي الله علیه و آله و سلم للخليفةِ من بعدِه...171
كيفَ عيّنَ النبيُّ صلي الله علیه و آله و سلم الإمامَ من بعده؟...173
الدرس الثالث والعشرون صفات الإمام (1)...179
الصفة الأولى: التعيين من السماء:...179
الصفة الثانية: العصمة...181
الدرس الرابع والعشرون صفات الإمام (2)...185
الصفة الثالثة: العلمُ الخاص...185
الأمر الأول: أنْ يكونَ علمُه خاصًا...185
الأمر الثاني: أنْ يكونَ عالمًا بكُلِّ ما يحتاجُ إليه الدين...186
الأمر الثالث: تعليم الله (تعالى) لهم بعض علم الغيب...187
الأمر الرابع: الحكمة في إدارة الأمور:...188
ملحوظة: العلم الخاص والقدرة الخارقة...189
ص: 346
الدرس الخامس والعشرون صفات الإمام (3)...193
الصفة الرابعة: الأخلاق الفاضلة...193
نماذجُ من أخلاقِ أهلِ البيت عليهم السلام...194
النموذج الأول: أمير المؤمنين علیه السلام و ابن ملك الحبشة...195
النموذج الثاني: الإمام الحسن عليه السلام والرجل الشامي...195
النموذج الثالث: الإمام الحسين عليه السلام وغلامه صافي...196
النموذج الرابع: الإمام الصادق عليه السلام وإعانة ضيوفه...198
النموذج الخامس: الإمام العسكري عليه السلام وأبو......198
الدرس السادس والعشرون مصيرُ مَنْ لم يؤمِن بأهلِ البيتِ عليهم السلام...201
الأثر الأول: مخالفة الأمر الإلهي...201
الأثر الثاني: عدم أداء أجر الرسالة المحمدية...202
الأثر الثالث: الموت ميتةَ جاهليةٍ وضلالٍ...203
الأثر الرابع: افتقادُ عنصر الأمان والاطمئنان يوم القيامة...204
مصير من عادى أهل البيت علیهم السلام...205
الدرس السابع والعشرون كيف يصيرُ العبدُ مؤمنًا بأهل البيت......209
الركيزة الأولى: الإقرار بالشهادتين...210
الأمر الأول: عدم كفاية الشهادة، بل لا بد من الإقرار...211
الأمر الثاني: مرتبتا الإقرار بالشهادتين:...211
الأمر الثالث: مقتضيات الشهادة بالرسالة للنبي الأكرم صلي الله علیه و آله و سلم ...214
ص: 347
الدرس الثامن والعشرون كيفَ َيصيرُ العبدُ مؤمنًا بأهل البيت......217
الركيزة الثانية: موالاة أهل البيت عليهم السلام ومعاداة عدوهم...217
الأمر الأول: الإقرارُ بإمامةِ أهلِ البيت عليهم السلام:...217
الأمر الثاني: موالاة أهل البيت عليهم السلام:...219
الأمر الثالث: معاداة أعداء أهل البيت عليهم السلام:...219
هل من ضرورةٍ لِمُعاداةِ أعداءِ أهلِ البيت علیهم السلام؟...220
أخذ الدين حصرًا عن طريقِ أهل البيت علیهم السلام:...222
الدرس التاسع والعشرون كيفَ يصيرُ العبدُ مؤمنًا بأهلِ البيت......227
الركيزة الثالثة: التسليمُ لأمرِ أهلِ البيت عليهم السلام...227
الأمر الأول: أنَّ التسليمَ للمعصوم كمال...227
الأمر الثاني: معنى التسليم:...228
الأمر الثالث: أهميةُ التسليم في الدين...229
الأمر الرابع: نماذج راقية من التسليم:...230
النموذج الأول: هارون المكي:...230
النموذج الثاني: عبد الله بن أبي يعفور:...231
النموذج الثالث: عليُّ بن جعفر:...231
الدرس الثلاثون كيفَ يصيرُ العبدُ مؤمنًا بأهلِ البيتِ عليهم السلام؟ (4)...235
الركيزة الرابعة: انتظار القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف...235
الأمر الأول: من هو القائم؟...235
وخُلاصةُ العلامات:...241
ص: 348
الدرس الحادي والثلاثون كيفَ يصيرُ العبدُ مؤمنًا بأهلِ البيت......245
تكملة الركيزة الرابعة: انتظار القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف...245
الأمر الثاني: ما معنى انتظار القائم؟...245
الدرس الثاني والثلاثون كيف يصيرُ العبدُ مؤمنًا بأهلِ البيت......255
الركيزة الخامسة: الاجتهاد والورع...255
الملحوظة الأولى:...257
الملحوظة الثانية:...257
الملحوظة الثالثة: الذنب مرض و نقص:...259
الطريق الأول: دنيوي: وهو طريق التوبة...260
الطريق الثاني: أخروي: وهو طريق الشفاعة...261
الدرس الثالث والثلاثون الرجعة...265
النقطة الأولى: معنى الرجعة:...265
النقطة الثانية: هل الرجعة ممكنة ؟...266
النقطة الثالثة: من هم الذين يرجعون؟...268
النقطة الرابعة : فلسفة الرجعة...269
الدرس الرابع والثلاثون المعاد (1)...273
النقطة الأولى: عوالمُ وجودِ الإنسان:...273
العالم الأول: عالم الذر:...273
العالم الثاني: عالم الأصلاب...275
العالم الثالث: عالم الأرحام:...276
ص: 349
العالم الرابع: عالم الدنيا:...276
العالم الخامس: عالم البرزخ (القبر)...277
العالم السادس: عالم الآخرة/ المعاد/ الخلود:...278
الدرس الخامس والثلاثون المعاد (2)...281
النقطة الثانية: ضرورةُ المعاد...281
الداعي الأول: أنَّ الحكمةَ تقتضي وجود عالمٍ آخر...281
الداعي الثاني: أنَّ القرآنَ وعَدَ بيومِ القيامة...284
الدرس السادس والثلاثون المعاد (3)...289
النقطة الثالثة: متى تقع القيامة؟...289
المفردة الأولى: لحظة الموت...290
المفردة الثانية: الرزق المستقبلي:...290
المفردة الثالثة:یوم القيامة...290
المفردة الرابعة: ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف:...290
النقطة الرابعة : أشرط الساعة:...291
الأول: طلوع الشمس من مغربها:...292
الثاني: اَلدَّجَّالَ:...293
الثالث: دَابَّةَ الْأَرْضِ...293
الرابع: خُرُوجُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ علیه السلام...294
الدرس السابع والثلاثون المعاد (4)...297
النقطة الخامسة: كيف تقوم القيامة؟...297
ص: 350
أولا: أنَّ الحُجَّةَ يُرفَعُ من الأرض...297
ثانيًا: وقوع أحداثٍ كونيةٍ مُتعدِّدة:...298
الحدث الأول: تلاشي الجبال:...298
الحدث الثاني: انفجار البحار:...300
الحدث الثالث: الزلزالُ العظيم المدمِّر:...301
الحدث الرابع: ذهابُ ضوءُ الشمس والقمر والكواكب...301
ثالثا: النفخ في الصور:...301
رابعا: الحشر:...302
الدرس الثامن والثلاثون المعاد (5)...305
النقطة السادسة: أحداث يوم القيامة...305
الحدث الأول: استلام صحيفة الأعمال:...305
الحدث الثاني: تجسُّم الأعمال وحضورها لدى فاعلها:...306
الحدث الثالث: قيامُ محكمة الآخرة:...307
الحدث الرابع: الصراط:...308
الدرس التاسع والثلاثون المعاد (6)...315
النقطة السابعة: الجنة...315
الأمر الأول: من مواصفات الجنة:...315
الصفة الأولى: سعة الجنة:...315
الصفة الثانية: أرض الجنة:...316
الصفة الثالثة : أبواب الجنة:...316
ص: 351
الصفة الرابعة : أنهار الجنة:...317
الصفة الخامسة: درجات الجنة:...318
الأمر الثاني: أمور غير موجودة في الجنة:...318
أولًا: لا تكليف في الجنة:...318
ثانيًا: لا تعب ولا نصب في الجنة:...319
ثالثًا: لا خوف ولا حزن في الجنة:...319
رابعًا: لا حسدَ ولا غِلَّ ولا أيَّ مرضٍ روحيٍّ في الجنة:...319
خامسًا: لا أمراض بدنية في الجنة:...320
الامر الثالث: كيف ندخل الجنة ؟...320
الدرس الأربعون المعاد (7)...325
النقطة الثامنة: النار...325
الأمر الأول: لماذا خلق الله (تعالى) النار؟ ...325
الأمر الثاني: شدة نار جهنم:...327
أولًا: تخفيف نار الدنيا:...328
ثانيًا: نحن لا نتحمّلُ النارَ الخفيفة، فكيف بالمركَّزة:...328
ثالثًا: الاعتيادُ مُمتنعٌ في نار جهنم:...329
المصادر...333
ص: 352