مطارح الأنظار

هوية الكتاب

المؤلف: الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

المحقق: مجمع الفكر الإسلامي

الناشر: مجمع الفكر الاسلامي

المطبعة: شريعت

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-5662-50-5

المكتبة الإسلامية

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الأوّل

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الأوّل

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 3

سرشناسه : كلانتری نوری ، ابوالقاسم بن محمد علی

محل نكهداری نسخه : قم

مركز نگهدارنده نسخه : كتابخانه زنجانی (آیة اللّه)

شماره بازیابی نسخه : 39

عنوان و نام پدیدآور : مطارح الانظار[نسخه خطی]

وضعیت استنساخ : رجب 1283

یادداشت كلی : آغاز كتاب: الحمدلله رب العالمین .. القول فی الاستصحاب و تحقیق المقصود فیه فی طی هدایات انجام كتاب: علی القول بالتصویب و یظهر من بعضهم بالتبعیض مطلقاً و لاوجه كما عرفت. مباحث ظن تاریخ تالیف:1246 ق. تدوین و گردآوری: موسسه فرهنگی پژوهشی الجواد

یادداشت مشخصات ظاهری : خط: شكسته نستعلیق

خصوصیات نسخه موجود : مقابله شده با نسخه اصل. با مهر كتابخانه حاج شیخ فضل اللّه نوری. در آغاز و انجام

منابع اثر، نمایه ها، چكیده ها : منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: الذریعة136/21 و369/4 و 513/28 منابع كتابشناسی: مرعشی9/9 و 184/28و 185/28 و 126/31 و 252/31 منابع كتابشناسی: مجلس424/25 منابع كتابشناسی: مشارعربی/875 منابع كتابشناسی: فهرست آستان قدس 81/6 و 404/16 و 436/16-438 منابع كتابشناسی: معجم المؤلفین 120/8 منابع كتابشناسی: بیروت، داراحیاء التراث العربی منابع كتابشناسی: الذریعة 136/21 منابع كتابشناسی: آیة اللّه زنجانی ص 203 منابع كتابشناسی: عكسی مركز احیاء میراث 213/5 و 351/5 منابع كتابشناسی: ذریعه 136/21 شماره 4305 منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: كتابخانه مدرسه آخوند ص 1361 منابع كتابشناسی: مجلس شورا 564/23 و425/16 و 667/23 و 114/26 و 424/25-426 منابع كتابشناسی: نامه دانشوران 472/1 منابع كتابشناسی: مكتبة امیرالمؤمنین 322/4 منابع كتابشناسی: شورا 150/24/2 منابع كتابشناسی: سید محمد باقر طباطبائی ص40و 41 منابع كتابشناسی: الذریعة: 107/6 منابع كتابشناسی: ریحانة الادب: 244/5 منابع كتابشناسی: آغاز نامه: 459/1. ماخذ: آشنائی با چند نسخه خطی

یادداشت باز تكثیر : بیروت، دار احیاء التراث العربی؛ مشار عربی 875 ؛ دارالخلافه طهران ، سنگی ، 1308 ، رحلی ، بدون شماره صفحه . و در تهران 1308و 1314 به همراه تقلید المیت و الاعلم حبیب اللّه رشتی چاپ سنگی شده و اخیرا به تحقیق علی قاضلی در قم 1386-1383 به چاپ رسیده.

معرفی نسخه : معرفی كتاب: تقریراتی است كه مرحوم كلانتر از درس اساتید خود تحریر نموده است . این تقریرات از دروس شیخ انصاری و میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر گردیده است . با عناوین <هدایة -هدایة> تنظیم شده و پس از مؤلف فرزندش <میرزا ابوالفضل كلانترتهرانی> آنها را جمع آوری و بدین نام موسوم گردانیده است . مطارح الانظار درتهران به صورت چاپ سنگی در307 صفحه رحلی درسال 1308 ق به چاپ رسیده ، ولی ناشر تصرفاتی در اصل كتاب داده ، و بخش قطع و ظن و برائت و استصحاب را به استناد آنكه نظرات شیخ انصاری دراین مسائل دركتاب رسائل بیان گردیده ، چاپ نكرده و از مسئله اجتهاد و تقلید بحث تقلید میت و اعلم راچاپ نموده است . نسخه حاضر پنج بخش از مطارح را شامل است . سه بخش اول همان است كه در مطارح الانظار چاپی به چاپ رسیده و از تقریرات درس شیخ انصاری است . اما بخش پنجم و چهارم چاپ نشده ومؤلف د رپایان بخش چهارم ، تصریح نموده كه این بخش از تقریرات درس میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر شده است . بخش پنجم نیز گویا از تقریرات درس رشتی است . ترتیب و عنوان بخشهای كتاب چنین است : 1- مسالة الاجزاء بسمله هدایة اختلفوا فی ان الاتیان بالمامور به علی وجهه 1-33 2- مقدمة الواجب : بسمله القول فی وجوب مقدمة الواجب وتحقیق الكلام 34-132 3- الضد ، بسمله القول فی ان الامر بالشی هل یقتضی النهی عن ضده اولا 132-158 4- الاجتهاد والتقلید ( تقریرات درس شیخ حبیب اللّه رشتی ) آغاز حمدله وبعد اختلف بعد اتفاقهم علی جواز التقلید عند تعذر العلم 163-215 5- الاستصحاب ، آغاز : حمدله القول فی الاستصحاب وتحقیق المقصود فیه فی طی هدایات 221-445

عنوان افزوده توسط فهرستنو یس : التقریرات attaqrīrāt

موضوع های كنترل نشده : اصول فقه

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

ص: 6

كلمة المجمع :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطاهرين.

لقد أطبقت كلمة المحقّقين في علم الاصول على أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره هو الرائد لأرقى مرحلة من مراحل تطوّر هذا العلم التي مرّ بها ، وهي مرحلة الرقيّ والكمال العلمي التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الاستاذ الوحيد البهبهاني.

فاستفاد الشيخ الأعظم من جميع الجهود التي بذلت قبله ، وقرأها ووعاها ثمّ استخدم مواهبه الفكرية ورؤيته الثاقبة في النقد والتجديد والبناء في المحتوى والمنهج ، فأصبحت مدرسته هي الممثّلة للفكر الاصولي منذ قرنين تقريبا حتى اليوم.

كما أنّ كتابه الفذّ « فرائد الاصول » أصبح محورا من المحاور المهمّة للتدريس في قسم الدراسات العليا في حوزاتنا العلمية.

ولكنّ مصنّفه هذا لم يحتو إلاّ على نصف المباحث الاصولية ، وهي مباحث الحجج والاصول العملية ، ويفتقد المباحث اللفظية التي تشكّل النصف الآخر لمباحث علم الاصول تقريبا.

ص: 7

وقد درّس الشيخ الأعظم رحمه اللّه تلكم المباحث المذكورة وتبلورت في تقريرات تلامذته ، وكان الأبرز في هذا المجال كتاب « مطارح الأنظار » لمقرّر بحثه الميرزا أبي القاسم الكلانتري رحمه اللّه. فكان هذا المصنّف تعبيرا واضحا وأمينا عن آراء الشيخ الأعظم في مباحث الألفاظ ، وكذا في مباحث الأدلة العقلية التي لم يتطرّق لها الشيخ في فرائده.

وقد بادرت لجنة إحياء تراث الشيخ الأعظم رحمه اللّه في مجمع الفكر الإسلامي إلى طبع تراث الشيخ قدس سره بما فيه كتاب « فرائد الاصول » طبعة محقّقة أنيقة والحمد لله ، ونظرا لضرورة عرض الفكر الاصولي للشيخ الأعظم الأنصاري في سائر مجالات علم الاصول ، قامت اللجنة بتحقيق كتاب « مطارح الأنظار » وإخراجه في ثوبه الجديد.

وها نحن نقدّم هذا السفر القيّم لعلمائنا الأعلام وحوزاتنا العلمية الكريمة ، راجين لهم من اللّه سبحانه التوفيق والسداد لخدمة الدين الحنيف.

مجمع الفكر الإسلامي

شوّال 1424 ه-

ص: 8

مقدّمة التحقيق :

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد سنتطرّق في هذه المقدّمة أوّلا إلى نبذة من حياة المؤلّف قدس سره ثمّ نبحث عن الكتاب ومسيرته التحقيقيّة إن شاء اللّه تعالى.

نبذة من حياة المؤلف

اشارة

هو الميرزا أبو القاسم بن محمد علي بن هادي النوري الكلانتري الطهراني.

لقّب ب- « النوري » نسبة إلى مدينة نور بمحافظة مازندران في شمال إيران ، حيث كانت موطن أجداده ؛ وب « الكلانتري » (1) نسبة إلى خاله محمود خان النوري الذي تولّى في طهران منصب كلانتر ، وهو رئيس الأصناف التجارية في عهد ناصر الدين شاه القاجاري.

ص: 9


1- كلانتر : كلمة فارسية تتكوّن من : « كلان » بمعنى كبير ، و « تر » علامة التفضيل. ولها معان ، منها : محافظ المدينة ورئيس نقابة التجّار ورئيس عشيرة ورئيس مخفر الشرطة. انظر فرهنگ معين ، ولغت نامه دهخدا ، والمعجم الفارسي الكبير : « كلانتر ».
ولادته :

ولد قدس سره بطهران في الثالث من ربيع الثاني سنة ( 1236 ه ) أيام الملك فتحعلي شاه القاجاري.

أسرته :

1 - جدّه الحاج هادي النوري ، وكان من التجار الأخيار المعروفين في مدينة نور بمازندران. هاجر منها مع أهله إلى طهران وسكن فيها.

2 - أبوه الحاج محمد علي النوري ، وكان مع ثلّة التجار المشتغلين بطلب العلم.

3 - أمّه ، وهي اخت الميرزا محمود خان النوري ، من بيت شرف وتقوى بطهران.

وقد خلّف أولادا لا نعرف منهم إلاّ :

4 - نجله الأكبر الميرزا محمد علي الطهراني ، وهو عالم فاضل عاش في طهران ، وتوفّي بعد أبيه بقليل ودفن بجواره في مرقد السيد عبد العظيم الحسني بالري.

5 - ولده الأصغر الميرزا أبو الفضل الطهراني ، وكان فقيها حكيما شاعرا وأديبا. ولد سنة ( 1273 ه ) بطهران. قرأ على والده وجماعة من الأعلام أمثال السيد المجدد الشيرازي والميرزا حبيب اللّه الرشتي والشيخ محمد رضا القمشئي والميرزا أبي الحسن جلوه الفقه والاصول وغيرها. له كتب كثيرة ، منها : « شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور » و « حاشية الأسفار » و « ديوانه » وقد احتوى على أبيات كثيرة في مدح المعصومين ومدح استاذه السيد محمد محسن الشيرازي ، و « صدح الحمامة في أحوال الوالد العلاّمة » كتب فيه حياة والده ، توفي بطهران سنة ( 1316 ه ) ودفن في مقبرة والده بجوار السيد عبد العظيم الحسني.

ص: 10

6 - حفيده الميرزا محمد بن أبي الفضل الثقفي الطهراني مؤلف تفسير « روان جاويد » ولد سنة ( 1313 ه ) بطهران ودرس على آقا ميرزا كوچك الساوجي وآقا شيخ بزرگ الساوجي ، ثم هاجر إلى قم المقدسة وتلمّذ في المعقول على السيد أبي الحسن الرفيعي القزويني وقرأ الفقه والاصول على جماعة ، منهم : الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ومنحه إجازة الاجتهاد. له تأليفات كثيرة ، منها : « غرر الفوائد في الحاشية على درر الفوائد » لاستاذه الشيخ عبد الكريم الحائري و « تقريرات مبحث النكاح » لاستاذه الحائري ، وغيرهما.

وفاته :

نظرا لكثرة مطالعته وتأليفه الكتب المتعدّدة لذا فقد لحقه مرض الرمد ، وعلى أثره اصيب بالعمى في أواخر عمره ، فلزم بيته طوال فترة حتى دنا أجله والتحق بالرفيق الأعلى ، وذلك في مدينة طهران في الثالث من ربيع الثاني سنة ( 1292 ه ) ، ودفن في مدينة الري بجوار مرقد السيد عبد العظيم الحسني بمقبرة أبي الفتوح الرازي بظهر مرقد حمزة بن موسى عليه السلام.

ومن الطريف أنّه توفّي في نفس التاريخ الذي ولد فيه ، وقد بلغ عمره الشريف (56) عاما دون زيادة أو نقصان.

وقد رثاه نجله الأديب الشاعر الميرزا أبو الفضل الطهراني بقصيدة يائية مطلعها :

دع العيش والآمال واطو الأمانيا *** فما أنت طول الدهر واللّه باقيا

إلى أن قال :

رمى الدهر من سهم النوائب ماجدا *** أغرّ كريما طاهر الأصل زاكيا

ص: 11

هماما من العلياء في عقر دارها *** أناخ ويوم الفخر فاق الأعاليا

وعلاّمة الدنيا وأوحد أهلها *** ومن كان عن سرب العلوم محاميا (1)

حياته العلمية :

تعلّم القراءة والكتابة وبعض مقدّمات العلوم الدينية لدى علماء مدينته. كان يمتاز بذكاء مفرط ونبوغ كبير في تلقّي الدروس العلمية ، والإحاطة بها.

سافر مع عمّه حدود سنة ( 1246 ه ) - وهو ابن عشر سنين - إلى حوزة أصفهان العلمية - وهي من المراكز العلمية المهمّة آنذاك - وبقي فيها ثلاث سنين ، وأتقن خلالها مقدمات العلوم ، ثم عاد إلى طهران فمكث فيها سنتين.

ثمّ هاجر إلى العراق في نحو سنة ( 1251 ه ) - وهو بسنّ الخامسة عشرة - لإكمال دراسته ، فمكث في العتبات المقدسة بعض سنين ، ولكن لمّا لم يتيسّر له المكوث هناك بسبب ضنك العيش رجع إلى طهران ثانية في سنة ( 1253 ه ) تقريبا. وحيث قد استوعب علوم الأدب التحق بمدرسة المروي وأخذ العلوم العقلية فيها عن الملاّ عبد اللّه الزنوزي ، والفقه والاصول عن عدد من أساتذتها ، منهم : الشيخ جعفر بن محمد الكرمانشاهي.

عرف بالفضل والعلم عند علماء زمانه فأشاروا عليه بالعودة إلى العراق ، فهاجر إليه سنة ( 1256 ه ) وهو آنذاك ابن عشرين سنة ، فقرأ في مدينة كربلاء على الفقيه الكبير السيد إبراهيم القزويني - المعروف بصاحب الضوابط - ولازمه في درسي الفقه والاصول.

ص: 12


1- وهذه القصيدة مطبوعة في ديوانه : 390 - 404 في (230) بيتا.

وقد حدثت في سنة ( 1258 ه ) واقعة هجوم محمد نجيب باشا العثماني على كربلاء وأدّت إلى قتل سكّانها ، فاضطرّ قدس سره إلى الخروج منها ، فهاجر إلى أصفهان حتى هدأت الفتنة ، فعاد بعدها إلى محلّ هجرته واستقرّ به المقام في النجف الأشرف ملتحقا بحوزتها العلمية التي كانت تعتبر أكبر الحوزات الشيعية.

فحضر درس خاتم المجتهدين الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره ما يقرب من عشرين سنة ، وأصبح يتعاظم منزلة يوما فيوما حتى ذاع صيته ونبغ في الوسط العلمي من بين أقرانه وصار أحد أركان حوزته ومعتمد استاذه ومقرّر أبحاثه ، وفي حينها صرّح استاذه باجتهاده في مواقع من مجالسه ، واشتهرت علميّته وفضله ، فكان بعد فراغ استاذه من الدرس يقرّر ما أخذه في الفقه والاصول لجماعة من أقرانه وجلسائه في حلقة الدرس.

عزم على الرجوع إلى طهران سنة ( 1277 ه ) ، فالتقى استاذه الشيخ الأنصاري فطلب منه الشيخ الأعظم القيام بوظيفته الشرعية أينما حلّ وارتحل ، وبذلك أصبح قدس سره من زعماء الدين الذين يشار إليهم بالبنان ، فعاد مرجعا في الفتيا والتدريس ونشر العلم وسائر أحكام الدين. وكان يحضر دروسه جمع غفير من العلماء والفضلاء ، فدرّس الفقه والاصول (7) سنوات في مدرسة المروي.

تلامذته :

1 - نجله الميرزا أبو الفضل الطهراني ( ت 1316 ه ). وقد روى عنه بطريقه.

2 - الشيخ محمد صادق الطهراني المعروف ب- « البلور » ، ( ت 1317 ه ).

3 - الملاّ علي بن فتح اللّه النهاوندي النجفي ( ت 1322 ه ).

4 - الشيخ علي أكبر بن محمد مهدي الحكمي ( ت 1322 ه ).

ص: 13

5 - الشيخ حسن علي الطهراني ( ت 1325 ه ).

6 - الشهيد الشيخ فضل اللّه النوري ( 1327 ه ).

7 - السيد حسين بن صدر الحفّاظ القمّي الطهراني ( ت ح 1335 ه ).

8 - الملاّ حبيب اللّه الشريف الكاشاني ( ت 1340 ه ) ، تلمذ عليه شطرا من اصول الفقه.

9 - الشيخ عبد النبي النبوي النوري ( ت 1344 ه ).

مؤلّفاته :
اشارة

إضافة إلى مهارته واضطلاعه في أغلب العلوم فإنّه رحمه اللّه يعتبر أحد جهابذة العلماء في الفقه والاصول ، وقد ترك أسفارا جمّة أغنى المكتبة الإسلامية بها ، وإليك عناوين ما وقفنا عليه من تراثه القيّم :

1 - التقريرات في الفقه :

أطلق عليه الشيخ الطهراني في الذريعة ( 16 : 282 ) اسم « الفقه الاستدلالي » ، وقد احتوى على محاضرات استاذه الشيخ الأنصاري في أبواب : الطهارة وصلاة المسافر والزكاة والغصب والوقف واللقطة والرهن والإجارة وإحياء الموات والقضاء والشهادات ، ولكن لم نعثر على مخطوطته إلاّ على بحث القضاء والشهادات منها في مكتبة كلّية الإلهيات بمدينة مشهد المقدسة برقم (893). ( راجع : فهرستها ، فهرست الكلية 2 / 58 ).

2 - التقريرات في اصول الفقه :

تضمن محاضرات استاذه الشيخ جعفر بن محمد الكرمانشاهي الطهراني التي ألقاها بطهران ، وهو جزءان ، ألّفه سنة ( 1266 ه ). رأى الشيخ آقا بزرك الطهراني

ص: 14

مخطوطته. ( راجع الذريعة 4 : 369 ).

3 - رسالة في بعض فروع الإرث :

وهي رسالة في الردّ على « الرسالة الإرثية » لمعاصره السيد إسماعيل البهبهاني ( ت 1295 ه ) من علماء طهران ، كان قد حكم فيها بإثبات وارثية رجل اسمه رجب ولد من جارية لرجل يقال له : عزيز اللّه بن أحمد الطهراني. ألّفها باللغة العربية سنة ( 1287 ه ) ، ثم ترجمها إلى الفارسية لاستفادة العموم ، مخطوطتها في مكتبة معهد الشهيد مطهّري العالي في طهران برقم (2426). ( فهرستها : فهرست مكتبة مدرسة الشهيد المطهري 1 : 418 ).

4 - رسالة في المشتقّ :

وهي بحث في تحرير محلّ نزاع الاصوليّين بشأن الامور السبعة للمشتقّ ، وذكر الأقوال في المسألة ، وفي خاتمتها تنبيهات أربعة وتذنيبان. أشار الشيخ الطهراني في الذريعة ( الذريعة 21 : 40 ) إلى أنّ مضامينها قد درجت في « مطارح الأنظار » لكن لم نجدها في المطبوع منه ، ولم يعثر على مخطوطتها. وقد طبعت الرسالة مرّتين : الاولى بطهران سنة ( 1305 ه ) ضمن مجموعة رسائل الشيخ الأنصاري ، والثانية بقم سنة ( 1404 ه ) ضمن « مجموعة رسائل فقهية واصولية ».

5 - مطارح الأنظار :

وهو هذا السفر الذي بين يديك ، وسيأتي الكلام عنه.

قالوا فيه :

ذكر أرباب المعاجم وأهل التراجم الرجالية آراءهم فيه ، وما قاله العلماء والأفاضل من أساتذته ومعاصريه وتلامذته من مدحهم وإطرائهم له وجزيل

ص: 15

الثناء عليه ، نسرد هنا بعضا ممّا جاء في إجلالهم وتكريمهم له :

1 - قال ابنه الفاضل الميرزا أبو الفضل رحمه اللّه في شأن أبيه :

« حكيم الفقهاء الربّانيين ، وفقيه الحكماء الإلهيّين ، وحيد عصره وزمانه ، وفريد دهره وأوانه ، علاّمة العلماء والمجتهدين ، وكشّاف حقائق العلوم بالبراهين » (1).

2 - قال فيه الخطيب الشهير الملاّ محمد باقر الواعظ وهو أحد معاصريه :

« علاّمة العلماء العاملين ، وفحل الفضلاء المحقّقين ، مقرّر الفروع والاصول ، جامع المعقول والمنقول ، الأديب الأريب ، المحقّق المدقّق الورع العالم ، واستاذ أساتيذ الأعاظم ، الحاج ميرزا أبو القاسم الرازي الطهراني ، أفاض اللّه عليه شآبيب الغفران ، وأسكنه في أعلى مساكن الجنان » (2).

3 - قال تلميذه الملاّ حبيب اللّه شريف الكاشاني :

« كان من أكابر تلامذة الشيخ المرتضى ، فاضلا كاملا ، ومجتهدا فقيها اصوليا ، حكيما عارفا ، ذا سليقة مستقيمة وفطانة قويمة ، وكان حاذقا ماهرا في الفقه والاصول ، مسلّما عند الفحول ... » (3).

4 - عبّر عنه معاصره الشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني ب- « بعض الأفاضل المقرّر لبحثه » أو « بعض الأجلّة » (4).

ص: 16


1- الكرام البررة 1 : 160 ، عن كتاب صدح الحمامة في أحوال الوالد العلاّمة لابن المترجم له.
2- مقدمة ديوان ابنه الميرزا أبي الفضل الطهراني.
3- لباب الألقاب : 111.
4- كفاية الاصول : 96 و 171.

5 - قال الميرزا محمد مهدي الكهنوئي الكشميري :

« كان من أعاظم المجتهدين ، وأكابر العلماء العاملين ، المقدّس المتورّع ، وصاحب المراتب الجليلة والمناقب الفخيمة ... » (1).

6 - قال عنه المحدّث الشيخ عباس القمّي رحمه اللّه : « عالم فاضل محقّق مدقّق فقيه اصولي » (2).

7 - قال بشأنه السيد محسن الأمين العاملي :

« كان المترجم له من عباد اللّه الصالحين ، وفي أيام قراءته على الشيخ مرتضى كان من وجوه تلاميذه ، وكان بعد فراغ استاذه من الدرس في علمي الاصول والفقه يعيده ويقرّره لجماعة من حاضري الدرس » (3).

8 - قال الشيخ آقا بزرك الطهراني فيه :

« من أعاظم علماء عصره ... كان من الصلحاء الأتقياء المتورّعين ، لم يأل جهدا في إعلاء كلمة الحقّ وتأييد المذهب والدين ... أصبح أحد أركان حوزة الأنصاري ومن عمد ذلك المعهد الشريف ، وصار معتمد أستاذه ومقرّر بحثه ... » (4).

9 - قال حفيده الشيخ محمد الثقفي الطهراني في وصف جدّه :

« كان جنابه معروفا بين أهل العلم بأنّ من تلمذ عنده بلغ رتبة الاجتهاد ، بل الإفتاء » (5).

ص: 17


1- تكملة نجوم السماء 1 : 469.
2- الكنى والألقاب 1 : 144.
3- أعيان الشيعة 2 : 414.
4- الكرام البررة 1 : 59 - 60.
5- مقدمة ديوان ابنه الميرزا أبي الفضل الطهراني.

مطارح الأنظار ومسيرة تحقيقه

اشارة

وهو تقريرات لمحاضرات استاذه الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري في علم اصول الفقه ، ألّفه بعناوين « هداية ... هداية » وضمّنه العناوين الآتية :

الصحيح والأعمّ ، اجتماع الأمر والنهي ، الإجزاء ، مقدمة الواجب ، مسألة الضدّ ، العام والخاصّ ، المجمل والمبيّن ، المطلق والمقيّد ، المفهوم والمنطوق ، المشتقّ ، الاستصحاب ، أصالة البراءة ، حجيّة القطع ، حجيّة الظنّ ، الحسن والقبح العقليين والشرعيين ، الاجتهاد والتقليد ، التعادل والتراجيح.

فكان الكتاب يحتوي على أغلب مباحث الاصول ، ولما تصدّى ابن المؤلف الميرزا أبو الفضل الطهراني لترتيب الكتاب وطبعه اكتفى بالمباحث التي لم يذكرها الشيخ الأنصاري في فرائده فاختار من تقريرات والده مباحث الألفاظ والأدلة العقلية والاجتهاد والتقليد وسمّاه ب- « مطارح الأنظار » ورتّبه كما يلي :

الصحيح والأعمّ ، الإجزاء ، مقدمة الواجب ، التجرّي ، مسألة الضدّ ، اجتماع الأمر والنهي ، اقتضاء النهي الفساد ، المفاهيم ، العام والخاصّ ، المطلق والمقيّد ، المجمل والمبيّن ، الأدلّة العقلية ، الاجتهاد والتقليد.

انتشر الكتاب انتشارا واسعا في الأوساط العلمية المختصّة ؛ لأنّه مثّل الحلقة المفقودة لآراء الشيخ الأنصاري في مباحث الألفاظ والأدلّة العقلية ؛ ولأنّ مقرّره يتمتّع بمنزلة علمية سامية زكّاها الشيخ الأنصاري نفسه وصرّح باجتهاده وفضله مرارا ، ولشخصية جامعه والمشرف على طباعته حيث عرف بفضله ودقّته ووفائه للعلم ولدور والده فيه.

ص: 18

واستقطب اهتمام العلماء وحرصهم على الاستفادة منه أو جعله محورا لبحوثهم أو تعليقاتهم ، فمثلا نقل عنه كثيرا الآخوند محمد كاظم الخراساني في كتابه المشهور « كفاية الاصول » وأشار إليه ب- « ما أفاده بعض الأفاضل المقرّر لبحثه » ، و « على ما في تقريرات بعض الأجلّة » ، و « تقريرات بحث شيخنا الاستاذ » (1) ، ويمكن أن يقال : إنّ كلّ ما ذكره في كتابه من آراء الشيخ الأنصاري في مباحث الألفاظ مأخوذ من « مطارح الأنظار » ، كما نقل عنه كثير من أعلام علم الاصول فيما يخصّ تلك المباحث.

وعلّق عليه كلّ من الشيخ مهدي الحكمي القمّي ( ت 1360 ه ) (2) ، والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي وسمّاه ب- « مسارح الأفكار في توضيح مطارح الأنظار » (3).

إضافة إلى ما حازه من تقاريظ وثناء الكتّاب عليه ، فذكره السيد محسن الأمين قائلا : « سمّي مطارح الأنظار ، ولاقى رواجا عظيما ؛ لأنّه من أحسن ما قرّر فيه مطالب الشيخ مرتضى » (4) ، وأطراه السيد مير جلال الدين الحسيني المعروف ب- « المحدث الارموي » بهذه الأسطر : « من أمعن النظر في كتابه مطارح الأنظار علم أنّ ما ذكره ابنه في حقّه ليس بجزاف ، فكيف لا وقد سمعت من بعض جهابذة فن الاصول يقول : لم يصنّف في اصول الفقه مثله. فهو شاهد صدق ودليل متين وبينة

ص: 19


1- كفاية الاصول : 96 ، 171 ، 219.
2- المسلسلات للسيد المرعشي 2 : 343.
3- المسلسلات للسيد المرعشي 1 : 29.
4- أعيان الشيعة 2 : 414.

واضحة على كونه في غالب العلوم ، ولا سيما فن الاصول ، في أعلى درجة الكمال » (1).

نسخ التحقيق :

استندنا في تحقيق كتاب « مطارح الأنظار » إلى النسخ الآتية :

1 - نسخة مؤسسة آل البيت عليهم السلام المطبوعة في قم سنة ( 1404 ه ) بالاوفست عن النسخة الحجرية التي جمعها نجل المؤلّف ورتّبها وأشرف على طبعها في طهران سنة ( 1308 ه ) بالقطع الرحلي وفي (307) صفحة ، ورمزنا لها بالحرف « ط ».

2 - نسخة مصوّرة عن مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران برقم (7613) ضمّت (216) صفحة ، وقد رمزنا لها بالحرف « م ».

3 - نسخة مصوّرة عن مخطوطة مكتبة المرعشي النجفي في قم برقم (3206) ، ضمّت (285) صفحة ، ورمزنا لها بالحرف « ع ».

مراحل التحقيق والمشاركون فيها :

مرّ هذا الكتاب بعدّة مراحل خلال تحقيقه نذكرها بالنحو الآتي :

أ - مقابلة النسخ ، تصدّى عدد من الإخوة إلى مقابلتها على النسخ المعتمدة وأثبتوا الاختلافات فيما بينها ، وهم :

1 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.

2 - الشيخ صادق الحسّون.

3 - الشيخ رعد المظفّر.

4 - الشيخ مضر فرج اللّه.

ص: 20


1- ديوان الميرزا أبي الفضل الطهراني ( المقدمة ).

ب - استخراج مصادر النصوص ، وعهد به إلى :

1 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.

2 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.

3 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.

4 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.

5 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.

6 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد حافظ موسى زاده الخلخالي.

7 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمد رضي الحسيني الاشكوري.

ج - تقويم النصّ ، وتولّى ذلك :

1 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ رحمة اللّه الرحمتي الأراكي.

2 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد علي الأنصاري.

3 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.

د - المراجعة العامة للكتاب ، وانبرى لها حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين الأحمدي الشاهرودي وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.

كما نشكر حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ أمر اللّه الشجاعي لإعداده مقدّمة الكتاب.

ولقد تظافرت جهود هذه المجموعة من العلماء والفضلاء أصحاب الخبرة لتحقيق الكتاب بدقّة علمية عالية ، ومع كلّ ذلك ننوّه إلى اعتزازنا بالملاحظات البنّاءة التي ترفع من مستوى هذا العمل. راجين من اللّه تعالى أن يتقبّله منّا بقبول حسن ، إنه سميع الدعاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لجنة التحقيق / مجمع الفكر الإسلامي شوال 1424 ه-

ص: 21

ص: 22

خطبة الكتاب

بسم اللّه الرحمن الرحيم

أحمدك اللّهمّ على ما طهّرتنا من دنس الإشراك ، وفضّلتنا بعبادتك على ملأ الأفلاك ، مسترشدا إليك عمّا أضلّت العقول ، ومستهديا منك في تفريع الاصول ، لنحتذي حذو ما أمرت ، وننتحي نحو ما أردت.

واصلّي واسلّم على من أحيا موات القلوب بحكمه (1) الشافية ، ونقّاها عن صفات العيوب بكلمة الوافية ، ورفع عن فطرتها الرذائل وألبسها العافية ، ودفع عن نيّتها الزلازل بوقايته الكافية ، فلم يزل صلى اللّه عليه وآله في تفجير صلودها ، ومبالغا في تخضير عودها ، حتّى اعشوشبت قفارها بالخشوع ، واحلولت ثمارها بالخضوع ، واستولت على أرجائها القنوع ، واشتكلت بهيئة الإيمان ، واشتملت على الحكمة والبرهان ، وامتثلت ما اقتضاه القرآن ، واختزل عن جنانها الشيطان ، وصار الملك يومئذ لله الواحد المنّان.

وعلى آله الذين أفصحوا عن مراده ، ودلّوا على صراطه ، خلفائه على الامّة ، وامنائه على الملّة والسنّة ، مناهج الحقّ ومسالك اليقين ، ومالكي الدين ، أئمّة

ص: 23


1- الكلمة غير مقروءة ، والظاهر ما أثبتناه.

الخلائق ، وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين ، صلاة كثيرة لا يحصيها العادّون ، ولا يبلغ غايتها المجتهدون ، ما اختلف الليل والنهار واعترف الربيع بالأزهار.

فإنّ العلم نور أشرقت له السماوات ، وانكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر المخلوقات. وهو المنهج الأشمّ ، والاسم الأعظم ، والترياق الأكبر ، والكبريت الأحمر ، والذروة العليا ، والجنّة المأوى ، والمدينة التي أنفت بالعلاء أركانها ، والحظيرة التي شرّفت بالسناء جدرانها ، وكلمة اللّه التي لو كان البحر مدادا لنفد البحر قبل ما يعتريها النفاد ، وحكمة اللّه التي أوتي خيرا كثيرا من اوتيها من العباد.

وهو السراج الوهّاج ، والماء الثجّاج ، وفضل اللّه ورحمته ، وصراط الحقّ وعصمته ، والمدّة في الحياة ، والعدّة بعد الممات ، والمنهاج الواضح المسالك ، والدليل إذا عميت المهالك ، وبه يقترب القاصي ، وينتدب العاصي ، وتملك النواصي ، وتستخلص الصياصي.

فلعمري إنّه الفضل الذي لا يجحد ، والشرف الذي لا يحدّ ، والرتبة التي لا ينالها إلاّ من اختاره اللّه وقدّمه ، أو الذي اصطفاه وولاّه وحكّمه.

أكرم به من أسماء علّمها آدم عليه السلام ، وأعظم به من أسرار جرت في ولده إلى خاتم ، خصّ بالتحيّة والإكرام.

فاستودعها صلى اللّه عليه وآله أطائب عترته ، واستأمن عليها أكارم أرومته ، تشييدا لقواعد الدين ، وتمهيدا لأساس اليقين ، وحفظا لحوزة المؤمنين ، وردعا لبادرة الكافرين.

فمن تداركه فضل من الرحمن اغترف من فضالتهم ، ومن أدركه عون من الديّان اقتبس جذوة من نبالتهم.

ص: 24

فإذن ، العلماء معادن الحكمة وتراجمة الأوحاء (1) وأسفاط الفضيلة ومستودع الأنباء ، احتجّ اللّه بهم على العباد في دار الدنيا ويوم التناد. فقاموا بما استحفظوا - كثّر اللّه أمثالهم - خير القيام ، وقعدوا في تدوينه - شكر اللّه سعيهم - عن طيب المأكل والمنام ، وصبروا في نشره على الأذى والآلام ، وحسروا عن ذراع الهمّة لتمكين الخلائق في الحلال والحرام ، فتناولوه يدا عن يد ، وتداولوه واحدا بعد أحد.

فلم يزل ذلك دأبهم من قديم الزمان وديدنهم في كلّ وقت وآن ، حتّى انتهى الفضل إلى خاتمة المجتهدين ، وانحصر العلم في رأس الملّة والدين ، مرجع العلماء المحقّقين ، وفخر الفقهاء المتبحّرين ، معقل الأنام وكهف المسلمين والإسلام ، الكاشف بسنا أنواره غياهب الظلام عن وجوه الأحكام ، طود التقى ، بحر النهى ، ملاذ الورى ، علم الهدى ، مرتضى المصطفى ، مصطفى المرتضى ، مولى العصابة وعبد الباري ، المهاجر إلى الحقّ مرتضى الأنصاري ، أجزل اللّه في الدارين مثوبته ، ورفع في العلّيين [ درجته ](2).

فارتقى في العلم مرتقى لم يسبقه الأوّلون ، واحتوى في الفضل رتبة ما أدركه الآخرون ، وفاز بمقام يغبطه العالمون ، فشخصت إليه الأبصار ، ورنت لديه الأنظار ، ومدّت نحوه الأعناق ، وألمت عنده الآفاق ، وانيخت بفنائه الركاب ، وأحدقوا به من كلّ باب ، روما للاغتراف من لجج بحاره ، وميلا للالتقاط من درر نثاره ، وطمعا في الاستنارة بتألّق أنواره ، وحرصا على اقتناء (3) آثاره ، فامتلى كلّ إناء قدر ما وعاه ، وحكى كلّ زجاجة ما حاذاه ، ربّيون كثير ما وهنوا عن تناوش جداه.

ص: 25


1- كذا ، فإنّ جمع « وحي » ، هو « وحيّ » بكسر الحاء وتشديد الياء ، لا « أوحاء » كما جاء في الخطبة.
2- الزيادة اقتضاها السياق.
3- في « ط » بدل « اقتناء » : « الثناء » ، والمناسب ما أثبتناه.

وحيث إنّ حكيم الفقهاء الربّانيّين ، وفقيه الحكماء الإلهيّين ، وحيد عصره وزمانه ، وفريد دهره وأوانه ، علاّمة العلماء والمجتهدين ، وكشّاف حقائق العلوم بالبراهين ، صاحب المفاخر والمكارم ، الحاج ميرزا أبو القاسم النوري الرازي - قدّس اللّه تربته وأعلى في الجنان رتبته - كان الذي اقتطفه من تلك الشجرة أحلاها ، وما التقطه من تلك الثمرة أزكاها ، وما استظهره من الحقائق أجلاها ، وما استنبطه من الدقائق أنقاها ، مشتملا على فوائد نفعها أعم ، ومحتويا لزوائد فيضها أتمّ ، تاقت نفوس الطالبين إلى مناله ، وراقت عيون المشتغلين رؤية مثاله ، فذهبت عليه نفسهم حسرات ، وطلبت نسخته من كلّ حاجز وآت.

فاعتنى لطبع هذا الكتاب المستطاب المسمّى ب- « مطارح الأنظار » - إعانة على البرّ واكتسابا للصواب - بعض من وفّقه اللّه لمراضيه ، وجعل مستقبل أيّامه خيرا من ماضيه ، عمدة الأخيار وزبدة التجّار ، المبرّأ من كلّ شين ، الآقا ميرزا محمّد حسين النوري ، أدام اللّه عزّه وإقباله.

فبحمد اللّه والمنّة خرج كتابا يسير في الأيدي مسير الصبا في الأمصار ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الأطهار (1) (2).

ص: 26


1- لم ترد الخطبة في غير « ط ».
2- جاء في الذريعة 21 : 136 : « وقد رتّب مباحثه [ مطارح الأنظار ] وسمّاه بهذا الاسم ، وطبعه ولده الفاضل الحاج ميرزا أبو الفضل المتوفى : 1316 » فلعلّ المقدمة منه أيضا.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

القول في الصحيح والأعم

اشارة

ص: 27

ص: 28

قد اختلف أنظار أهل النظر في أنّ ألفاظ العبادات هل هي أسام (1) للصحيح (2) أو الأعم منه ومن الفاسد؟ (3) على أقوال (4).

ثالثها : التفصيل بين الأجزاء والشرائط (5) ، بالمصير إلى الأوّل في الأوّل وإلى الثاني في الثاني.

وربما يعدّ من الأقوال في المقام ، ما أفاده الشهيد في قواعده بقوله : الماهيّات

ص: 29


1- في « ع » و « م » : « أسامي ».
2- ذهب إليه جماعة ، منهم : صاحب الفصول وأخوه الشيخ محمّد تقي ، انظر الفصول : 46 ، وهداية المسترشدين 1 : 442 وما بعدها ، وكذا الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 103.
3- ذهب إليه جماعة اخرى ، منهم : المحقّق القمّي في القوانين 1 : 44 ، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام : 27 ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 44 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 22.
4- انظر تفصيل الأقوال والقائلين في هداية المسترشدين 1 : 436 - 437 ، ومفاتيح الاصول : 44 ، ومناهج الأحكام : 27.
5- حكاه في الفصول : 52 عن بعض متأخّري المتأخّرين ، وفي مناهج الأحكام : 27 ، وهداية المسترشدين 1 : 437 عن بعض.

الجعليّة - كالصلاة والصوم وسائر العقود - لا يطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ (1) ... إلى آخر ما أفاده. وستعرف الكلام فيه إن شاء اللّه (2).

ثمّ إنّ تحقيق المقام على وجه يرتفع غواشي الأوهام في طيّ هدايات :

ص: 30


1- القواعد والفوائد 1 : 158.
2- انظر الصفحة 38.

هداية

لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وهل جريانه موقوف عليه فلا يجري على تقدير عدمه أو لا؟ قولان.

ظاهر بعض الأفاضل (1) هو الأوّل ، وهو المحكيّ عن بعض الأجلّة (2) ، تبعا لبعض أفاضل سادات المتأخّرين (3).

والحقّ - وفاقا لصريح جماعة من المحقّقين (4) - هو الثاني.

واستظهر الأوّل من ملاحظة العناوين ؛ فإنّ في التعبير ب- « الأسامي » تلويحا بل تصريحا بالوضع. ويؤيّده أدلّة الطرفين : من دعوى التبادر وغيره من خواصّ الحقيقة والمجاز ، مضافا إلى عدم تعقّل النزاع على تقدير عدم الوضع ؛ لأنّ القائل بالأعم حينئذ إن أراد صحّة استعمال اللفظ في الأعم أو وقوعه مجازا ، فهو ممّا لا سبيل لإنكاره ؛ فإنّ القائل بالصحيح يعترف في الجواب عن أدلّة الأعميّ بوقوعه وصحّته ، كما أنّه لا سبيل لإنكار استعمال اللفظ في الصحيح إذا (5) لم يدّع القائل به أنّه على وجه الحقيقة خاصّة.

ص: 31


1- كالفاضل النراقي في المناهج : 26.
2- انظر الفصول : 46.
3- وهو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 44.
4- منهم : المحقّق القمّي في القوانين 1 : 40 ، والشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين 1 : 434 - 435 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 21 ، والكلباسي في إشارات الاصول : الورقة 17.
5- في « ع » : « إذ ».

أقول : الوجه في اختصاص العنوان - بعد تسليم دلالة الاسم على الوضع - : أنّ عنوان النزاع إنّما هو من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وإنّما تبعهم في العنوان من لا يقول بها جريا على ما هو المعنون في كلامهم ، محافظة لما قد يتطرّق إليه من الاختلال (1).

ومنه يظهر الوجه في اختصاص الأدلّة ؛ فإنّها تابعة لما هو الواقع في العنوان ، ولم يظهر من النافي للحقيقة الشرعيّة - مع ذهابه في المقام إلى أحد الوجهين - التمسّك بما ينافي ما اختاره من العدم.

وأمّا ما ذكر (2) في الإضافة ، فلا ينافي جريان النزاع على تقدير العدم ؛ لجواز اختلاف مراتب المجازات ، فيمكن أن ينازع في أنّ المجاز الغالب في لسان الشارع هل هو الصحيح على وجه يحمل عليه اللفظ عند وجود الصارف عن المعنى الحقيقي أو الأعم؟

وأمّا ما قد يتخيّل : من أنّ الغلبة ممّا لا وجه لادّعائها على القول بالصحيح ؛ ضرورة كثرة الاستعمال في الأعم على وجه لا يكاد ينكر غلبته على الصحيح أو مساواته له ، فهو على تقدير صحّته ينهض حجّة للقول بالأعم أو القول بالتوقّف حينئذ ، ولا يمنع من جريان النزاع على تقدير العدم ، كما لا يخفى.

والأولى أن يقال في تصوير النزاع على تقدير العدم : إنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ الاستعمال في الفاسدة ليس مجازا غير اللازم من الاستعمال في الصحيحة ، بل إنّما الاستعمال في الفاسدة من وجوه الاستعمال في الصحيحة ، تنزيلا لها منزلتها بوجه من وجوه صحّة التنزيل ، من (3) تنزيل ما هو المعدوم من الأجزاء والشرائط

ص: 32


1- في « م » : « الاختلاف ».
2- في « ع » : « ما ذكره ».
3- في « ع » بدل « من » : « التي منها ».

منزلة الموجود ، والقائل بالأعم يدّعي مساواتهما في المجازيّة. وما ذكرنا ليس بذلك البعيد ، كما ستطّلع على تفصيله في توجيه (1) المختار (2) ، وهو المعهود في أنواع المركّبات الكمّية في العرف والعادة.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يتخيّل في المقام : من لزوم سبك المجاز عن مثله على تقدير جريان النزاع بناء على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، ولا ريب في كونه نادرا على تقدير صحّته ووقوعه ، فلا ينبغي حمل هذا النزاع المعروف على ما لم نجد له شاهدا في كلام العرب. وأمّا الملازمة ، فلأنّ استعمال اللفظ في الصحيحة حينئذ (3) إنّما هو لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، من علاقة الإطلاق والتقييد أو غيرها - كما في الحجّ على ما قيل (4) - واستعماله في الأعم لا بدّ وأن يكون بواسطة مشابهة ومشاكلة بينه وبين الصحيحة في الصورة ، فاستعماله فيه إنّما هو بواسطة علاقة بينه وبين المعنى المجازي ، وهو المراد باللازم.

وجه الفساد : هو ما عرفت ، من أنّ ذلك ليس مجازا لفظيّا آخر غير ما هو اللازم من الاستعمال في الصحيحة ، ولا نرى بعدا في وقوع مثل هذا التصرّف العقلي على تقدير المجازيّة ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يتّضح حال النزاع على تقدير ثبوت الحقيقة المتشرّعة (5) ، فإنّه جار عليها بوجه أولى ؛ فإنّ النقل فيها لا بدّ وأن يكون تعيّنيّا ، وهو مسبوق بكثرة الاستعمال على وجه الغلبة بل الأغلبيّة ، فالقائل بالصحيح يدّعي أنّ ما هو الآن

ص: 33


1- في « ع » بدل « توجيه » : « وجه ».
2- انظر الصفحة 56.
3- لم يرد « حينئذ » في « ع ».
4- انظر المعالم : 35 ، وستأتي الإشارة إليه في الصفحة 35.
5- كذا ، والمناسب : « المتشرّعيّة ».

حقيقة هو المستعمل فيه في عرف الشارع ؛ لأنّ عرف المتشرّعة ميزان لعرفه ومرآة له ، والقائل بالأعم يدّعي خلافه في عرف الشارع ، نظرا إلى ادّعائه خلافه في عرف المتشرّعة الكاشف عن عرفه.

وهل هو موقوف على ثبوت تصرّف من الشارع في المعنى ، فلا وجه للنزاع بناء على ما نسب إلى الباقلاني (1) ، أو لا ، فيجري على مقالته أيضا؟ الظاهر هو الأوّل.

وتوضيح الحال : أنّ المعنى إمّا أن يكون بسيطا غير مربوط بشيء شطرا أو شرطا ، وإمّا أن يكون مركّبا ولو بملاحظة تقييده بأمر خارج عنه.

والأوّل غير قابل لأن يحرّر فيه النزاع ؛ لعدم قابليّة اتّصافه بالصحّة والفساد ، فإنّ الفاسد إمّا أن يراد به الناقص جزءا أو شرطا ، أو ما لا يترتّب عليه الأثر المقصود منه. والأوّل خلاف المفروض من كونه بسيطا ، والثاني ممّا لا سبيل إليه ؛ إذ على تقدير وجوده واقعا فما هو المقصود منه واقعا لا يعقل عدم ترتّبه عليه ، وعلى تقدير عدمه لا يعقل ترتّبه عليه. فهو إمّا صحيح على الوجهين دائما وإمّا ليس بشيء.

والثاني إمّا أن يكون التركيب فيه بواسطة التقييد ويكون القيد خارجا ، وإمّا أن يكون القيد داخلا على وجه الجزئيّة كما في أنواع المركّبات ، وعلى التقديرين لا إشكال في صحّة إطلاق لفظ « الصحيح » ومقابله على ذلك المركّب ؛ فإنّ المعنى الملحوظ باعتبار دخول شيء فيه قابل لأن يتّصف بالصحّة والتماميّة التي يعبّر عنها ب- « درست » في الفارسيّة على تقدير وجوده مع ما اعتبر فيه ، وبالفساد على تقدير وجوده خاليا عمّا اعتبر فيه وإن اتّصف بالصحّة بالنسبة إلى نفسه ؛ إذ اتّصافه بالفساد من حيث التركيب لا ينافي صحّته من حيث نفسه.

ص: 34


1- انظر ما نسب إليه في نهاية الوصول ( مخطوط ) : 40 ، وشرح مختصر الاصول : 52 - 53 ، والفصول : 43 ، وحاشية سلطان العلماء على المعالم : 9.

وقد عرفت جريان النزاع على تقدير أن يكون المعنى مركّبا على القولين على الوجه الثاني ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون ذلك المعنى المركّب مباينا للمعنى اللغوي باعتبار مناسبة بينهما ، كما في لفظ « الحجّ » الموضوع لغة للقصد المنقول منه شرعا إلى المناسك المخصوصة - كما قيل (1) - أو يكون المعنى اللغوي جزءا من الأجزاء المعتبرة في ذلك المعنى ، كلفظ « الصلاة » الموضوعة لغة للدعاء ، المنقول إلى الأركان المخصوصة والماهيّة المعهودة.

وأمّا إذا كان الاختلاف بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي بالإطلاق والتقييد ، فإمّا أن نلتزم بالوضع والنقل - كما يدّعيه القائل بالحقيقة الشرعيّة - أو لا نلتزم ، فعلى الأوّل يجري النزاع دون الثاني.

أمّا الأوّل ، فلأنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ اللفظ إنّما هو منقول لخصوص المطلق الذي يحصل في ضمن القيد الخاصّ ، والقائل بالأعم يدّعي الوضع للمعنى الأعم من ذلك المطلق الذي هو فاسد شرعا ومن خصوص المقيّد ، فاستعمال اللفظ في خصوص المقيّد إنّما هو على وجه الحقيقة على القولين ، بخلاف ما إذا لم نقل بالحقيقة الشرعيّة ؛ فإنّ الاستعمال المذكور مجاز لابتنائه على إرادة الخصوصيّة من لفظ المطلق.

لا يقال : على القول بالأعم لا بدّ وأن يكون استعماله في خصوص المقيّد مجازا ؛ لأنّه يكون كسائر الألفاظ المطلقة - كما هو ظاهر - والقائل (2) بالأعم لا بدّ وأن لا يلتزم بالوضع في هذا القسم ؛ إذ المعنى المنقول إليه هو المعنى المنقول منه حينئذ بعينه ، كما لا يخفى.

ص: 35


1- انظر المعالم : 35.
2- في « ط » : « فالقائل ».

لأنّا نقول : الظاهر من القائل بالأعم عدم التزامه بأنّ الصحيحة ليست موضوعا لها اللفظ على وجه الخصوصيّة ، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص - كما سيظهر وجهه إن شاء اللّه (1) - وعلى التسليم فلا يمنع ذلك ما نحن بصدده من جريان النزاع ، غاية الأمر أنّ القائل حينئذ لا يلتزم بالوضع.

وأمّا الثاني ، فلأنّ القائل بالصحيح إمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للمعنى الملحوظ على وجه التقييد ، أو يقول : بأنّه المستعمل فيه على وجه المجازيّة. والأوّل خلاف الفرض ؛ لأنّ الوضع للمطلق هو المسلّم عندهم ، وهو بعينه القول بالصدق عند عدم القيد اللازم للأعم ، فلا يعقل التنازع. والثاني - على تقدير تسليم إثباته ؛ لكفاية التقييد عن استعمال المطلق في المقيّد (2) - لا يجدي ؛ فإنّ جواز استعمال المطلق في المقيّد على وجه المجاز ممّا لا سبيل إلى إنكاره لأحد ، فالفريقان فيه على شرع سواء.

ومن هنا يجوز لكلّ واحد منهما التمسّك بإطلاق اللفظ في دفع ما شكّ في اعتباره قيدا لتلك المطلقات ، وهو المصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين (3).

والوجه فيه : أنّ المجاز اللازم من التقييد لا ينافي التمسّك بالإطلاق ؛ لما هو المقرّر في محلّه : من أنّه بمنزلة التخصيص في العام المخصّص لو كان مجازا ، فإنّه لا ينافي ظهوره في الباقي ، بل الأمر في التقييد أظهر ، كما لا يخفى. وذلك بخلاف المجاز اللازم على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة مع تصرّف الشارع في المعنى ، كأن يكون المعنى اللغوي جزءا من المعنى الشرعي أو مباينا

ص: 36


1- انظر الصفحة 54 و 55.
2- العبارة في « ط » هكذا : « وكذا الثاني لكفاية التقييد عن استعمال المطلق في المقيّد وعلى تقدير التسليم ... ».
3- انظر الفصول : 49 ، وضوابط الاصول : 23 ، وهداية المسترشدين 1 : 485.

له ، فإنّه على القول بعدم (1) ثبوت الحقيقة الشرعيّة لا وجه للتمسّك بالإطلاق في هذا النحو من المجاز.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما زعمه بعضهم (2) : من أنّ مقالة الباقلاني لا ينبغي أن تعدّ ثالث الأقوال في تلك المسألة ؛ لأنّها بعينها مقالة النافين للحقيقة الشرعيّة ، سيّما على ما ذهب إليه المشهور من أنّ التقييد بالمنفصل يوجب المجاز.

وجه الفساد : ما عرفت من الفرق بين المجازين ؛ فإنّه على مقالة القاضي لا مانع من التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ علاقة الإطلاق والتقييد لا ينافي الإطلاق من جهة اخرى ، وعلى مقالة النافي علاقة الكلّ والجزء أو علاقة اخرى ، ولا يبقى ظهور للمطلق بعد القول بالمجازيّة على هذا الوجه حتّى يعوّل عليه عند الشكّ ، مضافا إلى إمكان منع المجازيّة على مقالة القاضي ؛ بناء على ما هو التحقيق : من أنّ التقييد لا يوجب مجازا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد تلخّص ممّا تقدّم : أنّ مدار النزاع على أحد أمرين ، إمّا التصرّف في المعنى على وجه يكون المعنى اللغوي مغايرا للمعنى الشرعي غير (3) المغايرة الحاصلة بين المطلق والمقيّد كما عرفت ، وإمّا التصرّف في اللفظ على وجه النقل من الكلّي والمطلق إلى الفرد والمقيّد ، كما تقدّم تفصيلا.

وهل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات - كما هو المأخوذ في العنوان - أو يعمّ ألفاظ المعاملات؟

ص: 37


1- في « ع » بدل « القول بعدم » : « تقدير عدم ».
2- لم نعثر عليه.
3- لم يرد « غير » في « ع » و « م ».

ظاهر جماعة (1) - منهم الشهيدان (2) - هو الثاني ، وارتضاه (3) بعض الأجلّة (4).

قال الشهيد في قواعده : الماهيّات الجعليّة - كالصلاة والصوم وسائر العقود - لا تطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ ؛ لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة ، وهو الدخول فيهما (5) ، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث. ويحتمل عدمه ؛ لأنّه لا يسمّى (6) صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. وأمّا لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع [ من الدخول ](7) لم يحنث (8) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وقوله : « لا يطلق » وإن كان ظاهرا في عدم الإطلاق مطلقا ، إلاّ أنّ بداهة إطلاقها على الفاسدة مانع عن الحمل المذكور ، فلا بدّ أن يقال : إنّه لا يطلق على وجه الحقيقة - كما أفاده بعض الأجلّة (9) - إلاّ أنّ الاستثناء المذكور في كلامه لا يلائم ذلك ؛ فإنّ التعليل بوجوب المضيّ فيه لا بدّ وأن يكون علّة للوضع حينئذ ، وهو ممّا لا يرتبط ، كما لا يخفى.

ص: 38


1- كصاحب الفصول في الفصول : 52 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 52.
2- القواعد والفوائد 1 : 158 - 159 ، والمسالك 11 : 263.
3- في « ع » و « م » بدل « وارتضاه » : « ولعلّه مختار ».
4- في « ع » و « م » زيادة : « على ما نقل » ، انظر مناهج الأحكام : 26 - 27.
5- كذا في المصدر ، وفي النسخ : « فيها » ، وكذا في ضمير « أفسدهما ».
6- في المصدر : « لأنّها لا تسمّى ».
7- من المصدر.
8- القواعد والفوائد 1 : 158 - 159.
9- وهو صاحب الفصول في الفصول : 52.

فالظاهر - بقرينة الاستثناء والتعليل - هو أنّ الفاسد في الشريعة غير مأمور به إلاّ في الحجّ ، فإنّ المضيّ في فاسده واجب ومأمور به ، كما يشير إليه المحقّق القمّي (1). (2)

ص: 39


1- القوانين 1 : 47.
2- في « ع » و « م » هنا زيادة ، كتب عليها في « ع » : « زائد » ، وهي كما يلي : واعترض عليه بعض الأجلّة : بأنّه إن أراد ب_ « الفاسدة » ما يكون فاسدا على تقدير عدم الأمر به ، فلا ريب أنّ جميع العبادات فاسدة بهذا المعنى ، وإن اعتبر الصحّة بحسب الواقع ، فلمانع أن يمنع لزوم تقدّمها على الأمر لجواز إنشائها به ، وإن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى أمر آخر ، فهذا _ مع بعده عن مساق كلامه _ لا يساعد عليه تفريع مسألة الحنث. وفيه : أنّ المراد ب_ « الفاسد » هو الناقص جزءا أو شرطا بالنسبة إلى ما هو المأمور به في الشريعة مع قطع النظر عن طروّ الفساد ، ولا بعد لذلك عن مساق كلامه. مع أنّ قوله : « فلمانع » ، فيه : أنّ الصحّة في وجه لا بدّ أن تكون متأخّرة عن الأمر وفي وجه لا بدّ أن تكون متقدّمة ؛ لأنّها إمّا عبارة عن الصفة المشرعة عن المأتيّ به باعتبار موافقته للمأمور به فهي موقوفة على الأمر ووجود المأمور به في الخارج أو ملاحظة وجودهما ، ولا معنى لإنشائها بالأمر ، وإمّا عبارة عن كمال الموضوع الذي يتعلّق به الأمر وتماميّته فهي من الصفات المشرعة عن متعلّق الأمر المتقدّم على الأمر قطعا فلا يعقل إنشاؤها بالأمر ، مع أنّها أيضا غير محتاجة إلى الإنشاء على الوجهين كما تقرّر في محلّه ، مع أنّ هذه الترديدات لو تمّت فإنّما هو إشكال في معنى « الصحّة » و « الفساد » ولا مدخل له بكلام الشهيد كما لا يخفى. ومن هنا يظهر فساد ما تنظّر في كلام الشهيد _ بعد النقض بفاسد الصوم _ بأنّه لا ملازمة بين وجوب الإمضاء والوضع. وجه الفساد : ما عرفت من أنّ كلام الشهيد يمكن حمله على الإطلاق في الأوامر الشرعيّة ، فلا وجه للإيراد بما ذكره المتنظّر فيه. وأمّا النقض بفاسد الصوم فيمكن دفعه : بأنّ الإمساك عن المفطرات واجب في شهر رمضان وإن لم يسمّ صوما. وأمّا تفريع مسألة الحنث في كلامه فلا نعرف وجهه إلاّ إذا كان مراد الحالف والناذر مجرّد الشروع في العمل لا نفس العمل ؛ إذ على الثاني لا يفرق بين الأمرين على المذهبين ، وعلى الأوّل فعلى القول بالصحيح اكتفي بمسمّى الصحّة ، ولو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ، وعلى القول بالأعم لو دخل في العبادة على وجه الفساد يحصل الحنث. نعم ، التفريع المذكور يلائم ما ذكره بعض الأجلّة في تفسير كلامه قدس سره. والإنصاف أنّه لم يظهر لنا من كلامه شيء يمكن التعويل عليه ، فتدبّر لعلّك تطّلع على أمر لم نقف عليه ، ومن هنا يمكن التأمّل في إسناد التفصيل المتقدّم في صدر المبحث إليه.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون مراده رحمه اللّه : أنّ إطلاق ألفاظ العبادات والمعاملات لا ينصرف إلى ما هو معلوم الفساد ، كما أفاده المحقّق في الشرائع بقوله : إطلاق العقد ينصرف إلى الصحيح (1) ، وعن العلاّمة في قواعده : المطلب الرابع في العقد ، وإطلاقه ينصرف إلى الصحيح (2). فلا دلالة في كلامه على الوضع وعدمه.

نعم يظهر من الشهيد الثاني في شرح ما عرفت من الشرائع ما هو صريح في إرادة الوضع ، حيث قال : إنّ عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم : فلان باع داره ، وغيره - ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه ، حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم تسمع إجماعا - وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّه ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد يقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة (3) ، انتهى.

أقول : دعوى وضع ألفاظ المعاملات لخصوص ما أمضاه الشارع والحكم

ص: 40


1- شرائع الإسلام 3 : 177.
2- قواعد الأحكام 3 : 275.
3- المسالك 11 : 263.

بترتيب الأثر المقصود منها عليها ينافي ما استقرّ عليه ديدن أهل العلم كافّة : من التمسّك بعموم ما دلّ على مشروعيّة المعاملة عند الشكّ فيها أو في اعتبار أمر لا دليل على اعتباره فيها ، حتّى أنّ الشهيد قد ملأ الأساطير من ذلك ، بل ولولاه لما دار رحى الفقه ، كما لا يكاد يخفى على المستأنس بكلامه ، وقد ادّعى الفاضل (1) الإجماع على جواز التمسّك بعموم قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (2).

وأمّا ما استند إليه من التبادر ، فربما يكون منشؤه - على تقدير التسليم - هو ما ذكره المحقّق والعلاّمة : من دعوى الانصراف ، فلا بدّ أن يكون مستندا إلى غير اللفظ ، إمّا بواسطة الارتكاز في أذهان المتشرّعة : من حمل الفعل الصادر عن الفاعل على الصحّة - كما لعلّه هو الوجه في بعض الموارد - أو غيره. ويشهد بما ذكرنا - من منع التبادر - أنّه لو نذر أن لا يبيع الخمر فباعه لا يعقل دعوى تبادر الصحيح منه مع حصول الحنث معه ، فتأمّل.

وقد تصدّى بعض المحقّقين (3) في تعليقاته على المعالم لدفع التنافي ، وأطال في بيانه ، وملخّصه : أنّ المراد من كون أسامي المعاملات موضوعة للصحيحة ، أنّ المعنى العرفي أيضا هو الصحيح ، لا أنّها أسام (4) للصحيح الشرعي الذي لازمه الإجمال ويكون موقوفا على بيان الشارع ، وإنّما يكون إطلاقها على الفاسدة من باب المشاكلة ونحوها (5) من المجاز ، فلا اختلاف بين الشرع والعرف في أصل المفهوم

ص: 41


1- لم نعثر عليه.
2- البقرة : 275.
3- هو الشيخ محمّد تقي الأصفهاني.
4- في « ع » و « م » : « أسامي ».
5- في « ط » و « م » بدل « ونحوها » : « ونحو ».

والمعنى ، غاية الأمر أنّ العرف ربما يزعمون صدق ذلك المعنى والمفهوم على أمر ليس ذلك مصداقا له في الواقع يكشف عنه الشارع ، فالاختلاف إنّما هو في المصداق الشرعي والعرفي بعد الاتّفاق على نفس المعنى والمفهوم. وحينئذ فإذا ورد من الشارع أمر بإمضاء معاملة من تلك المعاملات على وجه الإطلاق من دون ملاحظة قيد من القيود يحكم بالمشروعيّة عند الشكّ على وجه الإطلاق ، من دون حزازة ولا محذور (1).

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكره مخالف لصريح كلام الشهيد (2) ، كما لا يخفى على الناظر فيه.

وتوضيحه : أنّ الفاسد العرفي هو ما يصحّ عنه سلب الإسم حقيقة ، كبيع الهازل ، فإنّه ليس بيعا عندهم ، وإنّما إطلاقه عليه بنحو من المشابهة الصوريّة (3). وأمّا الفاسد الشرعي - كبيع الخمر وبيع المنابذة والحصاة - فهو بيع عند أهل العرف حقيقة. والفاسد في كلام الشهيد إنّما يراد به الفاسد الشرعي دون الفاسد العرفي ، وهو في غاية الظهور.

وثانيا : أنّ التوجيه المذكور لا ينهض بدفع الإشكال بوجه.

وبيانه : أنّ الوجه في الرجوع إلى متفاهم العرف عند إطلاق الألفاظ الواردة في المحاورات ، إمّا لتشخيص المفاهيم العرفيّة واللغويّة ؛ من حيث إنّ أنظارهم تكشف عن حقيقة المسمّى وواقع المعنى والمفهوم عند طروّ ما يوجب نحوا من الإجمال في المفهوم ، وإمّا لتشخيص موارد تلك المفاهيم ومصاديقها. والاشتباه في

ص: 42


1- هداية المسترشدين 1 : 491 - 492.
2- المتقدّم في الصفحة 38.
3- في « ط » و « م » زيادة : « مثلا ».

المصاديق قد يكون تابعا للاشتباه في المفهوم ، من حيث إنّ المفهوم قد عرضه نحو من الإجمال على وجه يمكن استعلامه بعد تلطيف النظر وتدقيقه ، وقد لا يكون كذلك - للعلم بحقائق تلك المفاهيم على ما هي عليها في الواقع - وإنّما المجهول وجود ذلك المفهوم المعلوم في المورد الخاصّ ، وذلك ينحصر فيما إذا اشتبه المورد بغيره بواسطة عروض حالة خاصّة ، كما إذا اشتبه الرجل بالمرأة لعارض الظلمة ونحوها ، ولا نعقل وجها آخر للاشتباه في المصاديق غير ذلك بعد العلم بالمفهوم على ما هو عليه في الواقع.

فالموجّه إمّا يعترف بعدم الإجمال في المفهوم بوجه من الوجوه ، أو يلتزم بالإجمال على وجه لا يرتفع إجماله بالرجوع إلى العرف.

فعلى الأوّل ، لا وجه لعدم الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق.

فإن قلت : إنّ الشارع إنّما يحكم بخطإ العرف في الحكم بوجود ذلك المفهوم المعلوم عندهم في ذلك المورد والمصداق.

قلت : ذلك يجدي فيما إذا تبدّل حكم العرف بعد كشف الشارع عن الخطأ ، مثل حكمه بخطإ العرف في اعتقادهم طهارة الكافر ونظافته ؛ لاحتمال أن يكون هناك قذارة معنويّة يطّلع عليها الشارع دون غيره. وأمّا إذا لم يتبدّل الاعتقاد وكان حكمهم بوجود المصداق بعد الكشف مثل حكمهم به قبل الكشف ، كما في البيع بالفارسيّة ؛ إذ لا فرق قطعا في صدق البيع بدون الشرائط المقرّرة بعد العلم بحكم الشارع باعتبارها وقبله ، وليس الفاقد الشرعي كبيع الهازل في نظر العرف قطعا ، فلا وجه لما ذكره ، بل لا بدّ من الالتزام بأنّ الفاقد للشرائط الشرعيّة من حقيقة البيع ، لكن وجوب الوفاء بالعقد يختصّ بواجدها ، فيكون ذلك خروجا حكميّا.

وعلى الثاني ، فلا وجه للرجوع إلى العرف أصلا ، بل المعنى حينئذ ملحق بالمفاهيم المجملة التي لا مسرح للعرف فيها ، وقد فرّ الموجّه منه.

ص: 43

سلّمنا إمكان وقوع الاشتباه في المصاديق بعد العلم بالمفهوم من غير الجهة التي فرضناها ، ومع ذلك فلا ينهض قول الموجّه دافعا للإشكال ؛ إذ بعد فرض اختلاف نظر الشارع والعرف في تشخيص المصداق ، لا وجه للتمسّك بالإطلاق ؛ إذ غاية ما هناك حكم العرف بوجود ذلك المفهوم في المورد المشكوك على ما وصل إليه أنظارهم ، وهو لا يجدي ، بل لا بدّ أن يكون ذلك مصداقا في نظر الشارع. ولا دليل على أنّ ما هو المصداق العرفي هو المصداق الشرعي كما هو المفروض ، فاللازم تحصيل معيار شرعيّ لا مدخل للعرف فيه لأجل التشخيص المذكور.

فإن قلت : إنّ الرجوع إلى الإطلاق إنّما هو لأجل تحصيل ما هو المصداق واقعا ، وحيث إنّه لا يمكن الوصول إلى الواقع من دون أن يكون اعتقاد المكلّف طريقا إليه - كما يظهر ذلك بملاحظة ما لو جعل الشارع أيضا معيارا لتشخيص المصداق ، فإنّ وجود ذلك المعيار الشرعي أيضا منوط بنظر العرف دفعا للتسلسل - فلا بدّ أن يكون لاعتقاده مدخل فيه ، فما لم يعلم من الشارع الحكم بخطإ العرف ، فهم يعتقدون أنّه هو المصداق الشرعي ، ويجب عليهم إجراء أحكامه عليه.

قلت : ذلك يتمّ فيما إذا اتّحد نظر العرف والشرع في التشخيص ، وأمّا إذا اختلفا فلا وجه لذلك ، كما هو المفروض. وأمّا لزوم التسلسل ، فهو إنّما يكون بواسطة التزام (1) اختلاف الأنظار العرفيّة والشرعيّة ، كما لا يخفى. وأمّا الحكم بالخطإ فقد عرفت أنّه لا يجدي فيما لا فرق في الصدق بعده وقبله.

وبالجملة : فلا نعلم وجها لتصحيح ما أفاده الشهيد رحمه اللّه ، ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ النزاع لا يجري في ألفاظ المعاملات ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل والموفّق.

ص: 44


1- في « ط » : « إلزام ».

هداية

قد تقدّم منّا (1) الإشارة إلى ما هو المراد بلفظ « الصحيح » ونزيد توضيحا في المقام ، فنقول :

ليس المراد به ما هو المنسوب إلى الفقهاء : من أنّ الصحيح ما أسقط القضاء (2) ، أو إلى المتكلّمين : من أنّه ما وافق الشريعة (3) ؛ إذ الصحّة على الوجهين من الصفات الاعتباريّة المنتزعة عن محالّها بعد تعلّق الأمر بها ، ولا يعقل أن يكون داخلا في الموضوع له.

بل المراد به الماهيّة الجعليّة الجامعة للأجزاء والشرائط التي لها مدخل في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها عليها ، ويعبّر عنه في الفارسية ب- « درست » وهو معناه لغة. وقد ذكرنا في محلّه أنّ الفقهاء والمتكلّمين أيضا لم يصطلحوا على إبداع معنى جديد غير ما هو المعهود منه في اللغة.

وعن الوحيد البهبهاني (4) : أنّه نسب إلى القوم أنّهم غير قائلين بدخول الشرائط ، فهم أعمّيون بالنسبة إلى الشرائط.

وهو غير ثابت ، مضافا إلى ما هو المعروف بينهم (5) من أنّ قوله : « لا صلاة

ص: 45


1- راجع الصفحة 33 - 34.
2- انظر نهاية الوصول : 2. وزبدة الاصول : 45 ، والقوانين 1 : 157.
3- انظر نهاية الوصول : 2. وزبدة الاصول : 45 ، والقوانين 1 : 157.
4- لم نعثر عليه ، انظر الفوائد الحائريّة : 103.
5- انظر ضوابط الاصول : 28.

إلاّ بطهور » (1) لا إجمال فيه على القول بالصحيح ؛ فإنّ الطهور من جملة الشرائط ، واعتباره جزءا يوجب سقوط التفصيل ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد من الأجزاء والشرائط هل هي الشخصيّة أو النوعيّة؟ يعني أنّ المراد منها ما هي ثابتة في حقّ القادر المختار العامد العالم ، أو ما هي واجبة على المكلّفين المختلفين حسب اختلاف الموضوعات : من الجهل والنسيان والاضطرار والاختيار والعلم والعمد ونحوها؟ وجهان غير خاليين عن محذور وإشكال.

إذ على الأوّل ، يلزم أن لا يكون غيره من الأفعال الواقعة من المكلّفين في هذه الموضوعات صلاة على وجه الحقيقة ، وتكون أبدالا عنها مسقطا لها ، والتزامه وإن كان لا يستلزم محالا إلاّ أنّه بعد في غاية الإشكال.

وعلى الثاني ، فإمّا أن يكون لفظ « الصلاة » مقولا بالاشتراك اللفظي على تلك الماهيّات المختلفة ، أو بالاشتراك المعنوي. والأوّل فساده ظاهر ، والثاني غير معقول في وجه ومستلزم لمحذور في وجه آخر.

بيان ذلك : أنّ القدر الجامع بين تلك الماهيّات لا بدّ وأن يكون بحيث يوجد في كلّ منها إذا وقعت صحيحة ومنتفية (2) إذا وقعت فاسدة ، وقد تكون الصحيحة من مكلّف بعينها فاسدة من آخر ، فصلاة المريض تصحّ بدون القيام وهي فاسدة من الصحيح ، وصلاة ناسي القراءة (3) كذلك ، كصلاة الغريق والمطاردة والمسايفة ونحوها.

فذلك القدر الجامع لا يعقل أن يكون أمرا مركّبا موجودا في تلك الماهيّات ؛ لما عرفت من أنّه كلّ ما يتصوّر جامعا فيحتمل أن يكون ذلك المركّب فاسدا

ص: 46


1- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.
2- كذا في النسخ ، والمناسب : « ومنتفيا ».
3- في « ع » و « م » بدل « القراءة » : « الفاتحة ».

وصحيحا بالنسبة إلى موضوعين ، فلا محالة لا بدّ من أن يكون ذلك القدر الجامع أمرا بسيطا يحصل في الواقع بواسطة تلك الأفعال المركّبة الخارجيّة (1) ، وتكون هذه المركّبات محقّقة له إذا وقعت صحيحة دون ما إذا وقعت فاسدة.

وهو إمّا أن يكون هو المطلوب أو ما هو في مرتبته ، وإمّا أن يكون ملزوما مساويا للطلب.

والأوّل غير معقول ؛ ضرورة توقّفه على الموضوع ، ولا يعقل أن يؤخذ في الموضوع ما هو موقوف عليه ، مضافا إلى استلزامه ترادف الصلاة والمطلوب ، وهو بديهيّ الفساد ، ومع كلّ (2) ذلك فيرد عليه ما ستعرفه.

والثاني مناف لذهاب المشهور القائلين بالوضع للصحيح (3) إلى جواز التمسّك بأصالة البراءة ، بل وقد ادّعي الإجماع على جوازه (4).

وتوضيحه : أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن لا يعلم عنوان المكلّف به بوجه.

الثاني : أن يكون العنوان معلوما ، وإنّما الشكّ في حصول ذلك العنوان في ضمن الأقلّ أو الأكثر.

فعلى الأوّل ، فالمشهور - كما هو التحقيق عندنا - على البراءة.

وعلى الثاني ، فاللازم هو الاحتياط ؛ للقطع بالمكلّف به مع الشكّ في حصوله في الخارج ، مضافا إلى أصالة عدم حصول ذلك المفهوم المعيّن بهذه الأفعال في

ص: 47


1- لم يرد « الخارجيّة » في « ع ».
2- « كلّ » من « ع ».
3- في « ع » و « م » بدل « بالوضع للصحيح » : « للصحيحي ».
4- انظر مناهج الأحكام : 28 ، وضوابط الاصول : 23 ، والقوانين 1 : 52 و 55.

الخارج ، كما في الطهارة على القول بعدم إجمالها ، فإنّه إذا شكّ في حصولها بالغسل مرّة أو مرّتين يجب الاحتياط في ذلك. ولعلّه لم نجد مخالفا فيه بعد تسليم الصغرى.

والعمدة في إثبات الأخذ بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة هو ملاحظة هذه المقدّمة ، فإنّ نظر القائل بالاشتغال إلى أنّ الصلاة إنّما هو عنوان للمكلّف به فيجب العلم بحصولها في الخارج ، ونظر القائل بالبراءة أنّ الصلاة إذا كانت مجملة - غير معلومة المعنى والمراد - ليست عنوانا ، بل إنّما الواجب هو امور خاصّة كالتكبير والركوع والقراءة ونحوها ، والتعبير عنها بالصلاة إنّما يجدي إذا كانت تلك الأجزاء هي الصلاة ، وبعد ما فرض عدم العلم بها وإجمالها ، إنّما يكون تعبيرا صوريّا ، كما أوضحنا سبيله في محلّه.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ الالتزام بوجود قدر مشترك بسيط بين تلك الماهيّات المختلفة - كالماهيّة المبرئة للذمّة ، أو التركيب الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر بالخاصّية ونحو ذلك - وقلنا : بأنّ الصلاة إنّما هي موضوعة له في الواقع ، يوجب المصير إلى الاشتغال عند الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة ؛ لأنّ مرجع الشكّ إلى أنّ تلك الأفعال الواقعة في الخارج هل أوجب حصول ذلك الأمر البسيط وسقوط الاشتغال أو لا؟ بعد القطع بوجوب تحصيل ذلك الأمر. وهذا هو بعينه مورد الاشتغال والاحتياط اللازم.

لا يقال : إنّ مجرّد العلم بوجود قدر مشترك بسيط لا يوجب ذلك ، بل لو كان معلوما على وجه التفصيل ، والمفروض إجمال اللفظ وعدم العلم بالموضوع له ، وكلّ ما يتصوّر من العناوين - كالمبرئ وغيره - فإنّما هو أمر يحتمل أن يكون هو الموضوع له ، لا أنّه هو.

لأنّا نقول : لا فرق في ذلك بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، فمتى علم بوجوب أمر واشتغال الذمّة به وجب تفريغ الذمّة عنه قطعا ، وهذا هو المراد بالمحذور.

ص: 48

فالوجه في المقام هو الالتزام بأنّ المراد من الأجزاء والشرائط الشخصيّة منها.

وأمّا ما عرفت من الإشكال على ذلك التقدير : من لزوم استعمال اللفظ في غير المركّب الجامع للشرائط الواقعيّة الاختياريّة مجازا ، فيمكن دفعه بأنّ المتشرّعة توسّعوا في تسميتهم إيّاها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع ، من حيث حصول ما هو المقصود من المركّب التام من غيره أيضا ، كما سمّوا كلّ ما هو مسكر خمرا وإن لم يكن مأخوذا من العنب ، مع أنّ الخمر هو المأخوذ منه ، وليس بذلك البعيد.

ونظير ذلك لفظ « الإجماع » فإنّه في مصطلح العامّة والخاصّة - على ما يظهر من تحديداتهم (1) - هو اتّفاق الكلّ ، ثمّ إنّهم لمّا وقفوا على حصول ما هو المقصود من اتّفاق الكلّ في اتّفاق البعض الكاشف ، توسّعوا في إطلاق « الإجماع » على مثل ذلك الاتّفاق ، وصار من موارد استعمال لفظه على وجه الحقيقة عندهم.

فكان مناط التسمية ب- « الصلاة » موجودا عندهم في غير ذلك المركّب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي.

فإن قلت : فعلى هذا إذا ورد كون شيء شرطا في الصلاة - كالطهارة مثلا - لا وجه لاشتراط غير ذلك الجامع بالشرط المذكور ؛ إذ المفروض أنّ الصلاة عند الشارع هو ذلك المركّب ، فثبوت ذلك الشرط لغيرها موقوف على دلالة دليل.

قلت : ولعلّ ثبوت الاشتراط لذلك الجامع كاف في ثبوته لغيره ؛ للإجماع على عدم اختلاف تلك الأبدال في جميع الامور المعتبرة في المبدل منه إلاّ ما تعذّر.

فإن قلت : الظاهر ثبوت الشرط بغيره بواسطة كونه صلاة ، ولا يلتفت إلى ذلك الإجماع (2) ، بل لو ثبت الإجماع فإنّما هو أيضا بواسطة كونه صلاة.

ص: 49


1- انظر فرائد الاصول 1 : 184 - 185.
2- في « ع » بدل « الإجماع » : « الجامع ».

قلت : ذلك ممنوع عند التأمّل كما لا يخفى. وما يتراءى في الأنظار من ثبوت ذلك بواسطة صدق اسم « الصلاة » ، فهو إنّما يكون من حيث عدم التأمّل وحسبان أنّ لفظ « الصلاة » كسائر الألفاظ المعلومة الغير المجملة.

والإنصاف : أنّ القول بأنّ الصلاة شرعا هو المركّب التام ، وباقي الأفعال إنّما سمّيت صلاة توسّعا في التسمية - كما عرفت نظيره في لفظ « الإجماع » - ليس بعيدا ، بل الظاهر والمظنون بالظنّ القوي أنّه كذلك في نفس الأمر. ولا يلزم ما تقدّم من المحذور ، وهو عدم جواز الرجوع إلى البراءة ؛ فإنّ الصلاة حينئذ تكون اسما لذلك المركّب الغير المعلومة الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر ، وحصول الإبراء أو النهي عن الفحشاء إنّما هو من لوازم المأمور به ، لا نفسه. وقد تحقّق في مورده جريان البراءة إذا كان نفس المكلّف به دائرا بين الأقلّ والأكثر ، لا ما به يتحقّق (1) المكلّف به ، كما عرفت إجمالا. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 50


1- في « ط » : « ما يتحقّق ».

هداية في بيان المراد من القول بالأعم

اشارة

فاعلم أنّ الظاهر من كلماتهم وجوه :

أحدها : ما يظهر من المحقّق القمّي (1) : كون ألفاظ العبادات أسماء للقدر المشترك بين أجزاء معلومة ، كالأركان الأربعة في الصلاة ، وبين ما هو أزيد من ذلك ، وإن لم يقع شيء من تلك الأركان أو ما هو زائد عليها صحيحة في الخارج ، فجميع هذه الأفراد - أعني الصحيحة المشتملة على الأركان والزائدة عليها والفاسدة المقتصرة عليها والزائدة عليها - من حقيقة الصلاة ، ويطلق (2) على جميعها لفظ « الصلاة » على وجه الاشتراك المعنوي.

ولعلّ نظره - بعد ما ذهب إليه من القول بالأعم - إلى الحكم بإجزاء الصلاة المشتملة على الأركان وإن لم يشتمل على جزء غيرها إذا وقعت سهوا أو نسيانا ، فجعل الأركان مدار صدق التسمية. ولازمه انتفاء الصدق بانتفاء أحد (3) الأركان وإن اشتملت على بقيّة الأجزاء ، والصدق مع وجودها وإن لم يشتمل على شيء من الأجزاء والشرائط.

ص: 51


1- القوانين 1 : 43.
2- في « ع » بدل « يطلق » : « يصدق ».
3- لم يرد « أحد » في « م ».

وهو ممّا ينبغي القطع بفساده ؛ لأنّه منقوض طردا وعكسا ، كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّ ذلك أمر غير معقول ؛ إذ لا يعقل القدر المشترك بين الزائد والناقص على وجه يكون الزائد أيضا من حقيقة ذلك القدر المشترك ولا يكون الزيادة من أجزاء الفرد.

وتوضيحه : أنّ القدر المشترك بين الزائد والناقص :

تارة : يراد به أن يكون الزيادة في الفرد الزائد داخلا في حقيقة الفرد خارجا عن حقيقة القدر المشترك ، ويكون الزيادة معتبرة بالنسبة إلى نفس القدر المشترك - لو قلنا بإمكان وجوده مع قطع النظر عن لحوق شيء مخصّص له من الفصول أو شيء آخر - وبالنسبة إلى الفرد الآخر الزائد على القدر المشترك أيضا ، لو قلنا بامتناع وجود القدر المشترك (1) من دون لحوق المخصّص.

وتارة : يراد به أن يكون الزيادة داخلة في حقيقة القدر المشترك ، فيكون ماهيّة واحدة تارة زائدة واخرى (2) ناقصة.

والأوّل - لو قلنا بإمكانه ومعقوليّته - فهو ممّا لا يلتزم به القائل المذكور ؛ لظهور كلماته طرّا في أنّ الصحيحة من حقيقة الصلاة كالفاسدة ، فإطلاق لفظ « الصلاة » على كلّ واحدة من الصحيحة والفاسدة ليس من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في الفرد ، ليكون حقيقة في وجه ومجازا في آخر.

والثاني غير معقول ؛ ضرورة امتناع اختلاف معنى واحد بالزيادة والنقصان.

فإن قلت : ما ذكرته مبنيّ على امتناع التشكيك في الذاتيّات ، ولم يثبت ذلك ، كيف! وقد ذهب جماعة من أرباب المعقول إلى إمكانه (3).

ص: 52


1- في « ط » زيادة : « أيضا ».
2- في « م » بدل « اخرى » : « تارة ».
3- انظر الأسفار الأربعة 1 : 432 - 433.

قلت : ما ذكرنا (1) باطل وإن قلنا بإمكان التشكيك ؛ ضرورة وجود الفرق بين المقامين ، فإنّ القائل بإمكانه إنّما يقول به فيما كان الزائد بعينه من جنس الناقص ، ويكون ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك ومن سنخه ، بخلاف المقام ؛ فإنّ الزائد مباين للناقص ، وهو مستحيل بالضرورة لا يحتاج إلى تجشّم الاستدلال وتطويل المقال.

فإن قلت : نحن لا نقول بأنّ تلك الأركان المخصوصة قدر مشترك بين الزائد والناقص ليلزم ما ذكر من المحذور ، بل نقول : إنّ لفظ « الصلاة » مثلا موضوعة للأركان المخصوصة ، وباقي الأجزاء خارجة عنها وعن المسمّى ، لكن مقارنتها لغيرها لا يمنع من صدق اللفظ على مسمّاه.

قلت : ذلك أيضا ممّا لا يلتزم به القائل المذكور ؛ إذ بناء على ذلك يصير استعمال اللفظ في الصحيحة المستجمعة للشرائط والأجزاء من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، وهو مجاز قطعا ، والظاهر من كلامه كونه حقيقة ، بل واستعماله في الفاسدة مع الزيادة على الأركان أيضا مجاز.

ولا وجه لما يتوهّم : من أنّه يمكن أن يكون الاستعمال المذكور حقيقة ، من قبيل استعمال الحيوان الموضوع للجزء في الإنسان ؛ لأنّ استعماله في الحيوان الناطق مجاز ولو بملاحظة علاقة الكلّي والفرد ، فكيف بملاحظة علاقة الكلّ والجزء ، وهو في غاية الظهور.

والحاصل : أنّ القائل بالأعم على هذا الوجه ، إمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للقدر الجامع بين الأقلّ والأكثر والناقص والزائد على وجه تكون الزيادة من حقيقة القدر المشترك ، وإمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للأجزاء المعيّنة

ص: 53


1- في « ع » : « ما ذكرت ».

والأركان المخصوصة. والأوّل غير معقول ، مضافا إلى استلزامه أن يكون إطلاق « الصلاة » على كلّ واحد من الناقص والزائد - صحيحة أو فاسدة - من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون به. والثاني يستلزم أن يكون إطلاقها على الصحيحة الزائدة والزائدة الفاسدة (1) إطلاقا مجازيّا ، وهو ممّا لا يلتزم به القائل المذكور قطعا ، كما يظهر بملاحظة كلامه.

الثاني : ما نسبه البعض (2) إلى جماعة من القائلين بالأعم - بل قيل (3) وهو المعروف بينهم - : أنّ لفظ « الصلاة » موضوعة لمعظم الأجزاء ، وهو ما يقوم به الماهيّة (4) العرفيّة ، ومعها لا يصحّ سلب الاسم عنها ، فكلّما حصل صدق الاسم عرفا يستكشف به عن وجود المسمّى فيه. فعلى هذا عكسه وطرده سليمان عن الانتقاض ؛ إذ متى ما تحقّق معظم الأجزاء صدق الاسم من دون نقص (5).

لكن يرد عليه : أنّه إن اريد أنّ اللفظ موضوع لمفهوم معظم الأجزاء الذي لا يختلف ذلك المفهوم باختلاف مصاديقه ، ففساده غنيّ عن البيان ؛ بداهة أنّ لفظ « الصلاة » لا ترادف لفظ « معظم الأجزاء » ، وإن اريد أنّه موضوع لمصداقه ، فلا ريب في اختلاف تلك المصاديق بواسطة تبادل الأجزاء وجودا وعدما.

وحينئذ فإمّا أن يقال : بأنّ اللفظ موضوع لمصداق واحد من تلك المصاديق المختلفة بالتبادل.

ص: 54


1- في « م » : « الفاسدة الزائدة ».
2- لم نعثر عليهما.
3- لم نعثر عليهما.
4- في « ط » بدل « الماهيّة » : « الهيئة ».
5- كذا ، وفي نسخة بدل « ط » بدل « نقص » : « نقيض » ، والمناسب : « نقض ».

وإمّا أن يقال : بوضعه للقدر المشترك بين تلك المصاديق.

وإمّا أن يقال : بأنّه موضوع لكلّ واحد منها على وجه الاشتراك اللفظي ، أو على الوضع العام والموضوع له الخاص.

والأوّل - بعد الإغماض عن سؤال تعيينه - يوجب أن لا يكون حقيقة في غيره ، صحيحة كانت أو فاسدة.

والثاني غير معقول ؛ ضرورة بطلان تبادل أجزاء ماهيّة واحدة بذهاب جزء وقيام آخر مقامه.

والثالث والرابع ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم ، مضافا إلى استلزامه أن يكون استعمال اللفظ فيما زاد عن معظم الأجزاء مجازا ، صحيحة كانت أو فاسدة. والقول بكونه حقيقة فيما زاد يلازم الاشتراك اللفظي ، وهو ممّا لا يلتزم به. والاشتراك المعنوي بين المعظم والتمام قد عرفت حاله.

الثالث : أن يكون اللفظ موضوعا للمركّب من جميع الأجزاء ، لكن لا من حيث هو ، بل من حيث كونه جامعا لجملة أجزاء هي ملاك التسمية ومناطها ، فإذا فقد بعض الأجزاء وصدق الاسم عرفا يعلم منه أنّ مناط التسمية باق ، نظير الأعلام الشخصيّة التي توضع للأشخاص ، فإنّ « زيدا » إذا سمّي بهذا الاسم في حال صغره كان الموضوع له هذه الهيئة الخاصّة ، لكن لا من حيث إنّها تلك الهيئة الخاصّة ، ولذا لا يفترق في التسمية مع طريان حالات عديدة وهيئات غير متناهية بين الرضاع والشيخوخيّة ، وليس ذلك بأوضاع جديدة ، بل تلك الاستعمالات في تلك المراتب من توابع وضع الأوّل.

ولا وجه لما قد يتخيّل : من أنّ الأعلام الشخصيّة ليست موضوعة للمركّبات ، بل إنّما هي موضوعة للنفوس الناطقة المتعلّقة بالأبدان ، فإنّ من المعلوم

ص: 55

كون زيد حيوانا ناطقا (1) ، ولازمه أن يكون جسما ، وليس زيد من المجرّدات ، كما لا يخفى. مضافا إلى أنّ الوضع في جميع المركّبات الكمّية الخارجيّة كذلك - كما في لفظ « السرير » و « البيت » و « المعاجين » - فالتزام ذلك في الأعلام الشخصيّة لا يجدي في دفع المحذور. مضافا إلى أنّه يكفي في المحذور مجرّد ارتباط بالبدن ، كما هو ظاهر ، فتدبّر. ولعلّه مراد من قال : بأنّ المسمّى شرعيّ والتسمية عرفيّة.

وفيه : أنّ القول بالوضع لمعنى - لكن لا من حيث إنّه ذلك المعنى ، بل من حيث كونه جامعا لملاك التسمية - راجع في الحقيقة إلى القول بكون المسمّى هو القدر المشترك بين الزائد والناقص ؛ إذ لا يعقل أن يكون شيء مورد الوضع ولا يكون هو الموضوع له بالخصوص على وجه لا يكون له شريك في ذلك من حيث تعلّق ذلك الوضع الخاصّ به. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّه من باب الوضع الخاص والموضوع له العام ، على عكس ما هو المعروف من الوضع في المبهمات ، إلاّ أنّ ذلك أيضا غير خارج عن الاشتراك المعنوي إذا كان الموضوع له هو نفس العام ، وعن الوضع العام والموضوع له الخاص إذا كان الموضوع له مصاديق ذلك العام. والأوّل - كما مرّ غير مرّة - غير معقول ، والثاني ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم ، ولا يساعده شيء من كلماتهم في الأدلّة والأجوبة ، كما لا يخفى.

وهناك وجه آخر في تصوير مذهب القائل بالأعم ، وهو أن يكون الموضوع له هو المركّب من جميع الأجزاء من حيث هو ، لكنّ العرف تسامحوا في إطلاق اللفظ على فاقد بعض الأجزاء ؛ لما هو المودع في سجاياهم والمركوز في طبائعهم : من عدم ملاحظتهم في إطلاق الألفاظ الموضوعة للمركّبات أن يكون المستعمل فيه جامعا لجميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، بل يطلقون على الناقص اسم الكامل مسامحة ، لكن لا على سبيل المجاز ، بل على سبيل الحقيقة بأحد من الوجهين :

ص: 56


1- لم يرد « ناطقا » في « ع ».

أحدهما : تنزيل ما هو المعدوم منزلة الموجود ، ثمّ إطلاق اسم الكامل على الناقص ، فإنّ ذلك لا يستلزم مجازا في اللفظ - كما في الاستعارة على ما يراه السكّاكي (1) - بل التصرّف إنّما هو في أمر عقلي.

وثانيهما : دعوى حصول الوضع للناقص على وجه التعيّن دون التعيين ، إلاّ أنّه ليس كسائر الأوضاع التي يتوقّف على كثرة الاستعمال وامتداد مدّة طويلة ، بل يكفي فيه عدّة استعمالات من حيث المشابهة الصوريّة والانس ، وذلك ممّا لا ينبغي أن يستبعد عند الملاحظ المتأمّل في طريقة المحاورات العرفيّة ، فإنّ من اخترع معجونا سمّاه « المفرّح الياقوتي » يتسامح في إطلاقه على الناقص جزءا (2) ، تنزيلا له منزلة الموجود ، بل ولا يبعد دعوى حصول الوضع له سيّما إذا كانت عمدة التأثير الحاصل بالمركّب التام حاصلا به أيضا ، كما أومأنا إليه في تصوير مذهب القائل بالصحيح. إلاّ أنّ الفرق بين القولين - بعد توافقهما في أنّ الصلاة بحسب الوضع الشرعيّ مخصوص بذلك المعجون التامّ - : أنّ القائل بالأعم يدّعي حصول الحقيقة في الأفراد الفاسدة أيضا ، والقائل بالصحيح يقصر في دعوى ذلك على الأفراد الصحيحة.

وهو أيضا مشكل ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ القائل بالأعم أيضا لا يتأتّى منه الأخذ بالإطلاق.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المفروض أنّ الناقص جزءا قد تكون صحيحة من أحد وفاسدة من آخر ، ولا يعقل كون اللفظ حقيقة في الناقص من حيث كونه صحيحا ومجازا من حيث كونه فاسدا. فتأمّل في المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

ص: 57


1- مفتاح العلوم : 164 - 165.
2- لم يرد « جزءا » في « م ».
تذنيب :

إذا كانت العبادة مشتملة على أجزاء مسنونة فهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون جزءا لأفضل أفراد العبادة ، بحيث يكون العبادة الجامعة لها مستحبّة ، ويكون هذا الجزء مقدّمة لحصولها. ولازمه استحباب الجزء على وجه الغيريّة ؛ لكونه مقدّمة للوصول إلى ذلك المستحبّ النفسي ، ولا ينافي ذلك وجوبه تخييرا ، كما قرّر في محلّه.

وثانيهما : أن يكون نفس الجزء مطلوبا نفسيّا في أثناء تلك العبادة ، فهو في الحقيقة خارج عنها ، وإنّما يتوصّل بالعبادة إليه لأنّه ممّا ينبغي إيجاده فيها ، فيترشّح منه إليها استحباب تبعيّ مقدّميّ على العكس من الأوّل.

وعليه يصير من جملة أفعال تلك العبادة كالصلاة - مثلا - فيجب تلبّسه بالشروط المقرّرة لأفعالها ، فلو خلا عنها فسدت الصلاة ، كأن يكون في الإتيان به مرائيا ، وعلى الثاني يفسد الجزء من دون سراية إلى تلك العبادة.

نعم ، لا فرق بين القسمين فيما إذا كانت الشروط شروطا لأكوان العبادة ، لكنّ الوجه فيه بطلان نفس العبادة بواسطة فقد الشرط ، ولا مدخل لفساد الجزء فيه ، كما لا يخفى.

وعلى الأوّل - أيضا - لو قلنا باستحباب التسليم ، فلو شكّ فيه (1) قبله وبعد التشهّد لم يكن شكّا بعد الفراغ ، وعلى الثاني يكون شكّا بعد الفراغ ، فإنّه حينئذ خارج عن الصلاة ، واستحبابه عقيب التشهّد إنّما هو من قبيل استحباب عمل مشروط بلحوقه بعمل آخر ، وذلك لا يقضي كونه محسوبا من أجزائه ليحكم عليه بأحكامها ، كما لا يخفى.

ص: 58


1- لم يرد ( فيه ) في « ط » و « م ».

قال العلاّمة رحمه اللّه في المنتهى : من عليه فائتة ، هل يستحبّ له الإتمام في مواطن التخيير؟ الأقرب نعم ؛ عملا بالعموم ، وكان والدي رحمه اللّه يمنع ذلك ؛ لعموم قوله عليه السلام : « من عليه فريضة لا يجوز له فعل النافلة » (1)(2).

أقول : إن كان الوجه فيه كون الركعتين الأخيرتين من النوافل - بناء على القول بعدم كون نيّة الإتمام ملزما ، ويكون المصلّي بعد التشهّد مخيّرا بين القصر والإتمام - فهو مبنيّ على المضايقة. وإن كان الوجه فيه كون الركعتين الأخيرتين من الأجزاء المستحبّة ومن عليه فائتة لا يجوز له الإتيان بها ، فلازمه منع القنوت والتكبيرات المستحبّة وغيرها ، ولم نقف على ملتزم به. واللّه الموفّق وهو الهادي.

ص: 59


1- انظر الوسائل 3 : 166 ، الباب 35 من أبواب المواقيت ، الحديث 7 ، 8 و 9.
2- منتهى المطلب 6 : 367.

ص: 60

هداية

اشارة

قد ذكر بعضهم (1) للنزاع المذكور (2) ثمرات ، عمدتها : البيان فيمكن التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار شيء في المسمّى شطرا أو شرطا على القول بالأعم ، والإجمال فلا إطلاق حتّى يتمسّك به على القول بالصحيح.

وتوضيحه : أنّ الشكّ المتعلّق بالأجزاء والشرائط قد يكون على وجه يشكّ معه في الصدق فلا إطلاق على القولين ، وقد يكون في اشتراط أمر خارج عمّا هو المسمّى عرفا : فعلى القول بالأعم يتوجّه في دفعه التمسّك بالإطلاق ، وعلى القول بالصحيح لا يكتفى بصدق المسمّى عرفا ، بل إنّما هو محمول عنده على أحد الوجوه التي قد عرفت بعضها وستعرف بعضا آخر ، فلا إطلاق عنده ، فيكون من موارد الرجوع إلى الاصول العمليّة ، كما هو قضيّة الإجمال ، فإمّا قولا بالبراءة كما هو المختار ، وإمّا قولا بالاحتياط كما عليه بعض الأواخر (3).

وقد يقال : إنّ الثمرة تظهر في إجراء الأصل ، فعلى القول بالصحيح لا تجري أصالة البراءة عند الشكّ في اعتبار شيء في العبادة جزءا أو شرطا ، وعلى القول بالأعم تجري.

ص: 61


1- انظر هداية المسترشدين : 113 ، والفصول : 49 ، ومفاتيح الاصول : 49.
2- لم يرد « المذكور » في « ط ».
3- كالشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين 1 : 486.

واورد عليه (1) : بأنّ المشهور على البراءة مع ذهابهم إلى القول بالصحيح ، فلا ملازمة بينهما.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّه تفريع على ما اختاره من لزوم الاحتياط عند الإجمال ، لا أنّه تفريع على الصحيحة (2)(3).

وفيه : أنّ الظاهر من حكاية كلامه دعوى الملازمة. ولعلّ الوجه فيه ما عرفت في تصوير القول المذكور : من أنّ الالتزام بوضع اللفظ لمعنى بسيط حاصل بذلك العمل المركّب ملازم للقول بالاشتغال ، فلعلّ القائل المذكور إنّما تخيّل القول على هذا الوجه. وقد عرفت القضيّة في النقل (4) عنه.

وربما يظهر من بعضهم (5) : أنّ الدليل إذا كان من مقولة اللفظ لا بدّ من الاحتياط وإن كان مجملا ، وجواز الرجوع إلى البراءة أيضا إنّما هو (6) فيما إذا كان الدليل لبّيا.

ولعلّ نظره إلى أنّ الدليل إذا كان لفظيّا فيستكشف منه وجوب إحراز مدلوله في الخارج ولا يعلم به إلاّ بعد الاحتياط.

وفيه : أنّ الدليل المجمل ملحق بالدليل اللبّي ، وصحّة انتزاع المدلول والمسمّى غير مفيد بعد كونه مجملا ؛ لأنّه غير مأمور به ، لإمكان انتزاع نحوه فيما إذا علم بالدليل اللبّي أمرا مردّدا بين الأقلّ والأكثر.

ص: 62


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم ادّعى في ضوابط الاصول : 23 الإجماع على ذلك.
2- انظر ضوابط الاصول : 28.
3- في « ع » زيادة : « فلا ملازمة بينهما ».
4- لم يرد « في النقل » في « ط » و « م ».
5- انظر ضوابط الاصول : 28.
6- لم يرد « إنّما هو » في « ع ».

ثمّ إنّه قد يعترض على ما ذكرنا من الثمرة بوجوه :

منها : أنّه لا وجه للقول بالإجمال على القول بالصحيح (1) ؛ إذ بعد تتبّع الأخبار الكافلة لبيان تلك الأفعال - مثل رواية حمّاد (2) - وتصفّح المدارك الشرعيّة من الإجماع المستفاد من فتاوى الأخيار ، يحكم بكون الصلاة هي الأجزاء المعهودة ، فإذا شكّ في اعتبار جزء فيها من غير دلالة تطمئنّ بها النفس ، دفعناه بالأصل. وأيضا العادة قاضية بأنّه لو كان للصلاة أجزاء أخر غير ما هو المتعارف المعهود منها لكانت معلومة ؛ لتوفّر الدواعي على نقلها وضبطها.

وفيه : أنّ الأخبار البيانيّة بأنفسها معدودة في عداد المجملات ، ولا يكاد يتبيّن منها شيء ؛ فإنّ قوله عليه السلام في خبر حمّاد : « هكذا صلّ » وفي رواية الوضوء : « هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاّ به » (3) لا يعلم المشار إليه باسم الإشارة فيهما ؛ لدورانه بين وجوه مختلفة من الامور التي يحتمل مدخليّتها فيه ، مثل الحالات المكتنفة بالإمام عليه السلام زمانا ومكانا وغيرهما.

ثمّ إنّه لو علمنا المشار إليه فيهما ، فنعلم إجمالا بأنّ تلك الصلاة كانت مشتملة على أجزاء مسنونة غير متميّزة عن الواجبة عندنا ، فإذا وقع الشكّ في وجوب تلك الأجزاء لا وجه لاستكشاف وجوبها بالرواية ، للعلم بكونها غير باقية على ظاهرها. سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ تلك الأخبار تجعل تلك الألفاظ مبيّنة على وجه يرجع إلى إطلاقها عند الشكّ في اعتبار شيء ؛ ولذا اعترف المعترض بالرجوع إلى

ص: 63


1- القوانين 1 : 56.
2- الوسائل 4 : 673 ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث الأوّل. وفي « ع » و « م » بدل « حمّاد » : « عمّار ».
3- الوسائل 1 : 308 ، الباب 31 من أبواب الوضوء ، الحديث 10.

الأصل عند عدم دلالة تطمئنّ بها النفس ، اللّهمّ إلاّ أن يريد به أصالة الإطلاق ، وهو كما ترى. وأمّا ظهور اختلاف كلمات العلماء في الأجزاء والشرائط فهو على وجه لا ينبغي إنكاره من المتتبّع. وأمّا توفّر الدواعي فلا نعرف له في المقام مزيّة اختصاص بالنسبة إلى غيره من الأحكام الشرعيّة.

ومنها : أنّه على القول بالأعم لا وجه للتمسّك بالإطلاق في استكشاف المطلوب (1) ؛ لأنّ المطلوب لا بدّ وأن يكون صحيحا ، لامتناع تعلّق طلب الشارع بالفاسد ، فكلّ واحد من المذهبين في حدّ واحد من عدم التمسّك بالإطلاق.

بل ربما قيل : بأنّه على القول بالأعم لا يعقل وجه صحّة لذلك ؛ لأنّ الصحّة إذا صارت قيدا للمأمور به فلا بدّ من تحصيل هذا القيد ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء فلا بدّ من الاحتياط ولا يجري البراءة ؛ إذ ليس هناك قدر متيقّن حينئذ ، بخلافه على القول بالصحيح ، فإنّ المكلّف به فيه نفس تلك الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر من دون عنوان ، فيصير الأقلّ قدرا متيقّنا في المكلّف به ، كما قرّر في محلّه (2).

وفيه : أنّه مغالطة ناشئة عن عدم تعقّل معنى الصحّة في المقام.

وتوضيحه : أنّ قول المعترض : « إنّ المطلوب لا بدّ وأن يكون صحيحا » إن أراد به الصحّة المنتزعة من الماهيّة التي تعلّق بها الطلب والأمر قبل تعلّق الطلب بها (3) فهذا ممّا يجب استكشافه بالإطلاق ، إذ لا سبيل إلى العلم بها بحسب الأسباب الظاهريّة إلاّ به. والسرّ في ذلك : أنّ المتكلّم إذا حاول طلب أمر على وجه من الوجوه فلا بدّ له من إظهار مقصوده على وجه مفيد لمقصوده ، فإذا أمر بعتق رقبة

ص: 64


1- انظر القوانين 1 : 56 - 57.
2- انظر فرائد الاصول 3 : 341 - 347.
3- لم يرد « بها » في « ط ».

على وجه الإطلاق وكان في مقام بيان تمام المراد من مطلوبه كان تمام مراده ومطلوبه هو المطلق ، وإلاّ كان عليه بيان مطلوبه على وجه التقييد ، وهذا أمر لا يكاد يختلف فيه من له دراية بأدنى المطالب النظريّة. فعلى هذا يكون المراد بالصحّة هو تماميّة الأجزاء وعدم اعتبار أمر آخر غير المطلق فيه ، واستكشاف ذلك من الإطلاق ممّا لا يدانيه شائبة الريب.

وإن أراد الصحّة المنتزعة من الماهيّة بعد تعلّق الطلب بها فهو محال أن يكون مأمورا به أو عنوانا له ؛ لأنّه من الامور الاعتباريّة المنتزعة من الفعل بواسطة مطابقته في الخارج لعنوان المأمور به.

وهذه المغالطة نظيرة لما غالط به بعض المحدّثين من أصحابنا (1) في التمسّك بعمومات البيع - من قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) : من أنّ المراد بالعقود هي الصحيحة ، فالتمسّك بالعموم موقوف على العلم بكون العقد صحيحا ، فإذا اريد استكشاف الصحّة من العموم لزم الدور.

ووجه الدفع : ما أشرنا إليه من أنّ العموم كاشف عن الصحّة بالمعنى المذكور ، بل لا سبيل إليها إلاّ به ظاهرا.

فإن قيل : الفاسد خارج عن العموم قطعا ، والفرد المشكوك يحتمل أن يكون فاسدا ويحتمل أن يكون صحيحا ، فلا وجه للتمسّك بالعام عند الشكّ في دخول الفرد في العنوان المخصّص أو في العام ، كما قرّر في محلّه.

قلنا : ليس الفاسد خارجا عن العموم ، بل ليس الخارج إلاّ فاسدا ، وبعبارة ظاهرة : الفساد ليس عنوانا للأفراد الخارجة ، وإنّما هو وصف اعتباريّ منتزع من

ص: 65


1- هو المحدّث البحراني في الحدائق 18 : 374.
2- المائدة : 1.

الأفراد بعد اتّصافها بالخروج ، فكونها فاسدة موقوف على خروجها ، والعموم حاكم بدخولها ، فلا يتّصف بالفساد ، بل يجب اتّصافها بالصحّة ، إذ لا معنى للصحّة إلاّ هذا. وقد قرّرنا في محلّه جواز الرجوع بل وجوبه إلى العموم فيما إذا امتنع الوصف جعله عنوانا للعام أو للمخصّص - كما في وصفي الصحّة والفساد - بل قد يستكشف بالعموم دخول ما يمكن أن يؤخذ عنوانا للمخصّص ، ولكنّه لم يؤخذ ، كما في قولك : « أضف جيراني » مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه بالعموم يستكشف أنّه في جيرانه ليس من هو عدوّه.

وأمّا ما زعمه المعترض : من تقييد المطلوب بالصحيحة فيحصل الشكّ في حصول المكلّف به في الخارج ، فيظهر النظر فيه ممّا ذكرنا.

وتوضيحه : أنّه ناش عن عدم الفرق بين كون الصفة مأخوذة في موضوع الحكم وبين أن يكون لازما مساويا للموضوع ، فعلى الأوّل يجب إحرازه ، وعلى الثاني فما هو الموضوع بحكم اللفظ يلازم وجوده وجود لازمه ، وما ذكرنا بمكان من الظهور.

ومنها : أنّه على القول بالأعم لا إطلاق حتّى يتمسّك به ، ويقرّر ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ الخطابات الواردة في الشريعة - كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) مثلا - غير معلومة المراد حتّى عند المخاطب بها ، ومجرّد علم المخاطب بعدم إرادة المعنى اللغوي لا يوجب البيان. لا يقال : ذلك خطاب بالمجمل. قلنا : لا ضير فيه بعد البيان في محلّ الحاجة. وتكرّر فعل الصلاة منهم في كلّ يوم لا يلازم رفع الإبهام والإجمال من نفس الخطاب ؛ إذ من المعلوم عدم اطّلاعهم على تلك الماهيّة المخترعة قبل الخطاب ، وأمّا بعده في مقام الحاجة إلى العمل فلا يسلّم حصول البيان بالنسبة إلى المفهوم ، فهذه الإطلاقات على القول بالأعم أيضا من المجملات.

ص: 66


1- البقرة : 43 و 110 ، والنور : 56 ، والمزّمّل : 20.

وفيه : أنّ ذلك في غاية السخافة ؛ فإنّه إمّا أن يقال بعدم البيان ولو في محلّ الحاجة ، أو به عندها ، والأوّل باطل ، والثاني يلازم المطلوب ؛ إذ في محلّ الحاجة لا بدّ وأن يعلم المراد من الخطاب المجمل قبل الخطاب. اللّهمّ إلاّ بالقول بالبيان مع عدم التفات المخاطب إلى أنّه بيان لذلك المجمل ، وهو كما ترى.

وبالجملة : فمن المستبعد جدّا - لو لم نقل باستحالته - إجمال جميع هذه الخطابات المتكثّرة الواردة في ألسنة امناء الشرع من لدن بعث النبيّ صلى اللّه عليه وآله إلى زمان الغيبة.

وثانيها : أنّ هذه الإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة - على وجه لا يشذّ منها إلاّ شاذّ - بين أمرين كلّ منهما مانع عن الأخذ بالإطلاق :

فإمّا أن تكون واردة في مقام الإهمال دون البيان.

وإمّا أن تكون واردة في مقام بيان الخواصّ المترتّبة على العبادة المدلول عليها بالإطلاق والآثار المنتهية إليها.

فمن الأوّل : قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (2) وقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (3) ونحوها ، فإنّ الظاهر عدم ذهاب وهم إلى جواز التمسّك بهذه الإطلاقات الواردة في مقام الإهمال ، كأوامر الطبيب بشرب الدواء الموقوف بيانه على حضور زمان الحاجة.

ص: 67


1- آل عمران : 97.
2- البقرة : 183.
3- البقرة : 43.

ومن الثاني : قوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ) (1) وقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) و « الصلاة خير موضوع » (3) فإنّ هذه الإطلاقات نظيرة لما يتلهّج به الوعّاظ في مقام الإيعاد على ترك العبادة وبيان ما يترتّب عليها من الثواب ، فيكون المراد بها ما هو المفروغ كونه تلك العبادة بعد تشخيص مفاهيمها وتعيين أجزائها وشرائطها ، وأين ذلك من ورود المطلق في مقام يمكن التعويل عليه في دفع الشك في جزئية شيء أو شرطيّته ، كما لا يخفى.

وقد يمنع من ذلك ، بل يعدّ دعوى ورود هذه الإطلاقات المتكثّرة في غير مقام البيان مكابرة.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ الاطمئنان بورودها في مقام البيان غير حاصل بعد العلم بعدم ورود جميعها في مقام البيان.

لا يقال : إنّ العلم بورود البعض في مقام البيان كاف في الأخذ بالإطلاق.

لأنّا نقول : لو سلّم ذلك فإنّما هو فيما إذا كان معلوما على وجه التفصيل ، وأمّا إذا علم إجمالا واختلف مفاد تلك الإطلاقات فلا بدّ من الاقتصار على ما هو المتيقّن منها.

ثالثها : أنّ كثرة التقييدات الواردة على تلك المطلقات إنّما أوجبت وهنا في الرجوع إليها عند الشك.

وفيه - بعد الإغماض عن اطّراده - : أنّ كثرة القيد لو كان كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان فهو راجع إلى الوجه الثاني ، وإن لم يكن كاشفا

ص: 68


1- البقرة : 238.
2- العنكبوت : 45.
3- مستدرك الوسائل 3 : 43 ، الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث 9.

عن ذلك فلا مانع من الرجوع إلى الإطلاق وإن بلغ التقييد ما بلغ. نعم ، ورود القيد كاشف عن عدم ورود المطلق في مقام البيان من جهة ذلك القيد خاصّة دفعا للتنافي ، ولا مدخل له بسائر الجهات التي يمكن الأخذ بإطلاق المطلق فيها ، كما لا يخفى.

ورابعها : أنّ هذه الإطلاقات إنّما تكون مقيّدة بالمجمل ، كما في قوله صلى اللّه عليه وآله : « صلّوا كما رأيتموني اصلّي » (1) وقوله : « خذوا عنّي مناسككم » (2).

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان التقييد بذلك الأمر المجمل معلوما ، وأمّا إذا شكّ في أنّه هل هو قيد له أولا؟ فأصالة الإطلاق مصونة عن المانع. وما نحن فيه من قبيل الثاني ؛ فإنّ قوله : « صلّوا » يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ليكون حكاية عن فعل الملائكة والأنبياء ليلة المعراج ، ويحتمل أن يكون أمرا ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون واجبا ، وأن يكون مستحبّا ، فعلى الأوّل والثالث لا مدخل له بذلك المطلق ، فلا نعلم بكونه مقيّدا حتّى يؤخذ بقاعدة إجمال المقيّد. وكذا قوله : « خذوا عنّي مناسككم » يحتمل الوجهين ، كما هو ظاهر.

لا يقال : إنّ ظاهر الأمر هو الوجوب كما هو قضيّة أصالة الحقيقة ، وبعد ذلك لا بدّ أن يكون مقيّدا ، فيتمّ المطلوب.

لأنّا نقول : إنّ ما ذكرنا إنّما هو على سبيل التنزّل والمماشاة ، وإلاّ فمن المعلوم وجوب حمل تلك الأوامر على الاستحباب ؛ ضرورة اشتمال صلاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله على الأجزاء المسنونة ، فيكون الأمر بها نظير الأمر بأفضل أفراد الواجب التخييري الموصوف بالاستحباب قطعا.

ص: 69


1- عوالي اللآلي 1 : 198 ، الحديث 8.
2- عوالي اللآلي 1 : 215 ، الحديث 73.

وقد يذكر للنزاع ثمرة أخرى (1) ، وهو برء النذر فيما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم وعدمه ، فعلى القول بالأعم لو شاهد مصلّيا وأعطاه درهما تبرأ ذمّته من غير حاجة إلى الفحص عن صحّة صلاته ، وعلى القول بالصحيح لا تبرأ ذمّته بدون الفحص.

وفيه : أنّه إن اريد أنّ مجرّد صدق اسم الصلاة يوجب البرء من دون إحراز الصحّة بوجه شرعي ، فهو مبنيّ على أن يكون مراد الناذر إيجاد صورة الصلاة صحيحة كانت أو فاسدة ، وعلى تقديره فلا فرق فيه بين المذهبين ، غاية الأمر أنّه على الصحيح يكون استعمال اللفظ من عموم المجاز - كما لا يخفى - ولا ضير فيه بعد ما فرض من أنّ مراد الناذر هو إيجاد الصورة.

وإن اريد أنّه مع الصدق لا بدّ من إحراز الصحّة بواسطة أصالة الصحّة المعمولة في الأفعال ، فلا فرق أيضا بين المذهبين ؛ فإنّ الصحيحي أيضا يحمل الأفعال المشكوك في صحّتها وفسادها على الصحيح الواقعي ، والقول بحملها على الصحّة عند الفاعل - بعد فساده في نفسه - ممّا لا يجدي في المقام.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ الصحيحي وإن كان يقول بلزوم الحمل على الصحّة ، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يكفي في البرء ، بل لا بدّ من صدق الصلاة أيضا ، والمفروض أنّ الصحّة الواقعيّة لا تلازم صدق العنوان بحسب الظاهر ، فإنّ حمل الكلام المردّد بين الشتم والسلام على الصحيح لا يوجب صدق عنوان السلام - كما قرّر في محلّه - إلاّ أنّ ذلك إنّما هو ناش من إجمال لفظ « الصلاة » على القول بالصحيح ، فلا بدّ أن يراد به الأعمال المعهودة التي يعلم وجودها ووجوبها في الخارج ، وإلاّ كان باطلا ، لعدم تعقّل (2) تعلّق النذر في قصد الناذر

ص: 70


1- ذكرها المحقّق القمّي في القوانين 1 : 43.
2- لم يرد « تعقّل » في « ع ».

إلى أمر مجمل غير معيّن. وإمكان الاحتياط لا يجدي في تصحيح إرادة الناذر ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر (1) فساد ثمرة اخرى للنزاع ، وهو : جواز الاقتداء بمن يراه يصلّي بعد العلم بعدالته من دون فحص عن الصحّة - حتّى أنّ بعض من لا خبرة له زعم مثل ذلك دليلا على القول بالأعم ، من حيث استقرار السيرة على عدم الفحص - وعدمه على القول بالصحيح.

تذنيب :

يختلف الأصل على حسب اختلاف وجوه القول بالصحيح والأعم في المسألة :

فعلى القول بكون المراد من الأعم كون الألفاظ موضوعة للقدر المشترك بين الصحيح والفاسد يدور الأمر بين الاشتراك المعنوي والحقيقة والمجاز ، فإن بني على ترجيح الأوّل تعويلا على الغلبة فهو ، وإلاّ فالواجب التوقّف ؛ لعدم ما يوجب التعيين من الاصول ، ولا متيقّن في البين ؛ لأنّ الصحيح كونه موردا للوضع بخصوصه أو من حيث كونه فردا للقدر المشترك محل تردّد ، فاللازم التوقّف.

وعلى القول بأنّ مورد الوضع هو الصحيح لكن مناط التسمية موجود في الباقي باعتبار الاشتمال على معظم الأجزاء أو دعوى المسامحة في الإطلاق على الفاسدة ، فالأصل يوافق القول بالصحيح ؛ إذ المعلوم حينئذ تعلّق الوضع بالصحيح. وأمّا كون المناط في التسمية هو أمر آخر غير معلوم منفيّ بالأصل ، كما أنّ ثبوت المسامحة موقوف على دليل ، وعند الشكّ فيه ينفى بالأصل. واللّه الهادي.

ص: 71


1- في « ع » زيادة : « وجه ».

ص: 72

هداية في ذكر احتجاج القول بالصحيح

وهو من وجوه :

أحدها - وهو المعتمد - : قضاء الوجدان الخالي عن شوائب الريب بذلك ؛ فإنّا إذا راجعنا وجداننا بعد تتبّع أوضاع المركّبات العرفيّة والعاديّة واستقرائها ، وفرضنا أنفسنا واضعين اللفظ لمعنى مخترع مركّب ، نجد من أنفسنا في مقام الوضع عدم التخطّي عن الوضع لما هو المركّب التام ، فإنّه هو الذي يقتضي حكمة الوضع - وهي مساس الحاجة إلى التعبير عنها كثيرا والحكم عليها بما هو من لوازمه وآثاره - أن يكون موضوعا له.

وأمّا استعماله في الناقص فلا نجده إلاّ مسامحة ، تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود ، فإنّ الحاجة ماسّة إلى التعبير عن المراتب الناقصة أيضا أحيانا ، وليس من دأبهم أن يضعوا لها بأجمعها أسماء مخصوصة - كما هو المتعارف في الأوضاع - فتوسّعوا في إطلاق اللفظ الموضوع للتمام على تلك المراتب الناقصة من باب المسامحة والتنزيل ، فليس هناك إلاّ مجاز في أمر عقليّ.

ويرشدك إلى ما ذكرنا ملاحظة استعمال لفظ « الإجماع » في الاصطلاح على الاتّفاق الكاشف عن قول الحجّة ، مع إطباقهم على أنّ المعنى المصطلح عليه عند الخاصّة والعامّة هو اتّفاق جميع الامّة من أرباب الحلّ والعقد ، وهو ظاهر.

ثمّ إنّ الناقص الذي يستعمل فيه اللفظ بعد المسامحة على وجهين :

ص: 73

الأوّل : أن يكون الباقي ممّا يترتّب عليه ما يترتّب على التام ، ويوجد فيه الخاصيّة بدون الجزء الفاقد أيضا ، كما عرفت في لفظ « الإجماع » ، فإنّ خاصّية اتّفاق الكلّ موجودة في اتّفاق البعض الكاشف عن قول الحجّة.

والثاني : أن لا يكون كذلك ، بل يزول الخاصّية بزوال الجزء الفاقد ، كما هو قضيّة الجزئيّة غالبا.

فالأوّل في نظر العرف صار عين الموضوع له حقيقة ، بحيث لا يلتفتون إلى التسامح في إطلاقه عليه ، فلا حاجة إلى ملاحظة القرينة الصارفة في الاستعمال ؛ ولهذا يتراءى في الأنظار أنّ اللفظ موضوع للقدر المشترك بين القليل والكثير مع أنّه غير معقول ، أو الاشتراك اللفظي - كما عرفت مرارا (1) - حتّى أنّه لو شكّ في تعيين مراد المتكلّم إذا دار الأمر بين المعنى الأوّل والثاني لا وجه لتعيينه بالأصل. بخلاف القسم الثاني ؛ فإنّ استعمال اللفظ الموضوع للتمام في الناقص لا يكون إلاّ بواسطة التسامح والالتفات إليه ، فهو مجاز عقلي.

فإن قلت : إنّ ما ذكر على تقدير التسليم لا يقضي بأن يكون وضع الشارع لتلك الأسماء مطابقا لما تجده من نفسك في أوضاعك.

قلت : أمّا المنع المستفاد من أوّل الكلام فدفعه موكول إلى الرجوع إلى الوجدان ، وأمّا ما ذكره أخيرا فهو مدفوع بأنّا نقطع بأنّ الشارع لم يسلك في أوضاعه - على تقدير ثبوته - مسلكا آخر غير ما هو المعهود من أنفسنا في أوضاعنا.

وما ذكرنا ليس استدلالا بالاستحسان في إثبات اللغات - كما ربما يتبادر إليه بعض الأوهام - بل المحصّل هو : أنّا نجد أنفسنا مقتصرين عند إرادة الوضع لهذه

ص: 74


1- راجع الصفحة 46 و 55.

المعاني المختلفة المركّبة على ما هو التمام ، وليس فيه شائبة استحسان ، كما هو ظاهر لمن تدرّب. كما نجد من أنفسنا أنّ العلاقة المصحّحة لاستعمال اللفظ في الناقص هو التنزيل والمسامحة ، دون سائر الروابط والعلائق المجوّزة للتجوّز.

وهذه هي الطريقة المألوفة في استعمال الألفاظ الموضوعة للمقادير والأوزان في مرتبة خاصّة على ما هو زائد عليها أو ناقص عنها بضرب من التنزيل والمسامحة.

الثاني : دعوى تبادر خصوص الصحيحة عند الإطلاق بلا قرينة.

واعترض عليه : بأنّ التمسّك بأمثال ذلك من الأمارات ليس من وظيفة الصحيحي ؛ من جهة ما تقرّر عندهم وقد صرّحوا به : من أنّها امور توقيفيّة متلقّاة من صاحب الشريعة ، لا يصحّ الرجوع فيها إلى عرف ولا عادة (1).

وأجاب عنه بعضهم (2) : بأنّ قضيّة القول بالصحيح هو التوقّف في تعيين الأجزاء والشرائط تفصيلا ، وأمّا تشخيص مفهوم الصلاة إجمالا وبوجه ما - كأن يقال : ليس المراد المعنى اللغوي بل المعنى الشرعي ، أو أنّ المراد منه ما جمع الأجزاء والشرائط - فلا غبار عليه.

وزاد بعضهم (3) : بأنّه على المذهبين يصحّ الرجوع إلى العرف ، نظرا إلى أنّ عرف الشارع يستكشف من عرف المتشرّعة ؛ لأنّ الحاصل من عرفهم هو الموروث من الشارع المحفوظ في أيدي تابعيه الواصل من كلّ مرتبة سابقة إلى لاحقتها ، وهذا هو المراد بقولهم : إنّ عرف المتشرّعة ميزان لعرفه عليه السلام إن صحيحا فصحيحا وإن فاسدا ففاسدا. واختلاف عرف المتشرّعة لا يوجب رفع اليد عنه وعدم الاعتداد به ، لجريانه في العرف العام بعينه ، كما ترى من الاستشكال في حقيقة الغسل (4) ، فقيل

ص: 75


1- لم نظفر بها.
2- لم نظفر بها.
3- لم نظفر بها.
4- انظر مفتاح الكرامة 1 : 171 - 176.

بدخول العصر فيما يحتاج إليه كالثياب ، وقيل بدخول الخروج من الماء ، وقيل باشتراط الصبّ ، إلى غير ذلك من موارد اختلاف العرف بحسب اختلاف أنظار المحصّلين.

أقول : لا إشكال في أنّ لفظ « الصلاة » وأمثالها عند القائل بالصحيح تعدّ في عداد الألفاظ المجملة التي لا مسرح للعرف فيها ولو كان عرف المتشرّعة ، فإنّ ذلك ينافي الإجمال المتّفق عليه عند القائلين بالصحيح. ولا ينافي ذلك العلم بنقله من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي ؛ فإنّ مجرّد ذلك لا يوجب رفع الإجمال.

وأمّا القول بأنّ المتبادر هو تمام الأجزاء فهو في غاية الفساد ؛ فإنّه إن اريد أنّ المتبادر من لفظ « الصلاة » هو هذا المفهوم - أعني مفهوم تمام الأجزاء وما يقاربه - ففيه ما عرفت فيما تقدّم من محذور لزوم الاشتغال ، مضافا إلى لزوم مرادفة لفظ « الصلاة » مع لفظ « تمام الأجزاء » ، ووجوه فساده غير خفيّة. وإن اريد أنّ المتبادر من لفظ « الصلاة » هو مصداق تمام الأجزاء ، فهو يلازم رفع الإجمال من اللفظ ، كما هو قضيّة دعوى التبادر من اللفظ.

ودعوى العلم بكون الموضوع له للفظ « الصلاة » لا بدّ وأن يكون هو المركّب التامّ الأجزاء بواسطة البرهان ، لا يرتبط بتصوّر ذلك المركّب التام بواسطة اللفظ كما هو قضيّة التبادر ، على ما يظهر لمن تدبّر. ومن هنا تقدر على دفع الجواب عن الاعتراض.

وأمّا ما ذكر في الزيادة فواضح الفساد ؛ لما عرفت من أنّ عرف المتشرّعة في لفظ « الصلاة » ممّا لا يجدي عند القائل بالصحيح ، لأنّه من الألفاظ المجملة عندهم. والفرق بين موارد اختلاف العرف في تشخيص المفهوم - كما في لفظ « الغسل » ونحوه - وبين موارد الإجمال ظاهر على الأنظار المستقيمة ؛ فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

ص: 76

بل قد تقدّم الإشكال في رجوع القائل بالأعم أيضا إلى عرف المتشرّعة ؛ حيث إنّ غير النبي صلى اللّه عليه وآله ومن هو بمنزلته غير عارفين بالماهيّة المخترعة المباينة عن الماهيّة اللغويّة ، فالخطاب المشتمل على وجوب الصلاة إنّما يكون مجملا بالنسبة إليهم. وتكرّر الفعل منهم إنّما يوجب البيان لهم دفعا لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأمّا البيان لنا فهو موقوف على عدم ثبوت تغيير فيه ، والمظنون بل المقطوع ثبوته ، وإلاّ لم يعقل الإجمال على القول بالصحيح ، كما هو المتّفق عليه عندهم.

ثمّ إنّه قد يجاب عن التبادر (1) : بأنّه لا دليل فيه على الوضع ؛ لأنّه ناش عن الغلبة. ويستكشف ذلك من عدم صحّة السلب عن الفاسدة ؛ لجواز تكذيب من أخبر : « بأنّ زيدا لا يصلّي » إذا كانت صلاته فاسدة ، وذلك نظير تبادر الصحيح من المعاملات ، ومن أنّ المتبادر (2) إنّما هو الفرد الكامل من الصلاة المشتملة على جميع الآداب والمسنونات.

وأنت بعد الإحاطة بما قرّرنا تعرف وجوه الفساد في هذه الكلمات ؛ فإنّ أكثرها غير واقعة (3) في محلّها ، مضافا إلى أنّ تسليم التبادر - و (4) لو لم يكن ناشئا عن الوضع - يوجب هدم ما أسّسه القائل بالأعم من التمسّك بالإطلاقات ، إذ على تقدير الانصراف لا إطلاق في البين.

وقد يجاب عن دعوى التبادر (5) : بأنّه لو كان المتبادر من لفظ « الصلاة » العمل الصحيح لما جاز لأحد أن يخبر بأنّ « فلانا قد صلّى » إلاّ بعد علمه باستجماعه

ص: 77


1- هذا الجواب من هداية المسترشدين 1 : 442 - 443.
2- عطف على « من عدم صحّة السلب ».
3- في « ع » بدل « واقعة » : « واردة ».
4- لم يرد « و» في « ع ».
5- هذا الجواب وما يليه من الجواب والاعتراض من السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 45.

جميع الامور المعتبرة فيها ، كما لا يجوز أن يخبر بأنّ « هذا زيد » إلاّ بعد العلم بكونه زيدا ، والتالي باطل ؛ للاتّفاق على جواز الإخبار ولو مع عدم العلم بالصحّة.

واجيب عنه : بأنّ صحّة الإخبار في المفروض إنّما هو بواسطة إحراز الصحّة بطريق شرعي ، وهو : أصالة الصحّة المعمولة في جميع موارد اشتباه الصحيح بالفاسد.

واعترض عليه : بأنّ التعويل على الأصل المزبور يوجب صحّة الإخبار بأنّ « صلاة زيد صحيحة » وهي ممنوعة ، مضافا إلى أنّ الإخبار - بناء على ظاهر الحال - مبنيّ على التجوّز ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، لا لما يعتقده المتكلّم (1).

وفيه : أنّ المنع المزبور - بعد تسليم الأصل - راجع إلى منع المقدّمة المفروض ثبوتها ؛ إذ لا يراد بالصحيحة المخبر عنها إلاّ ما هي حاصلة بواسطة الأصل المذكور المفروض ثبوته بالأدلّة المقرّرة في محلّها ، كما يصحّ الإخبار بطهارة ثوب محكوم بالطهارة بواسطة الاستصحاب. نعم ، قد عرفت أنّ الأصل المذكور لا يجدي في إطلاق لفظ « الصلاة » بواسطة إجمال لا دخل للأصل في ارتفاعه ، كما لا يخفى.

وأمّا ما زعمه من لزوم التجوّز لو كان بناء الإخبار على ظاهر الحال :

فإن أراد منه أنّ الصحّة المعتبرة في المحمول إنّما هي صحّة اعتقاديّة لا واقعيّة ، بمعنى أن يكون لاعتقاد الفاعل أو الحامل مدخل في معنى الصحّة - كما هو ظاهر التعليل بقوله : لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ... إلى آخره - فعدم استقامته ممّا لا يكاد يخفى ؛ إذ لم نقف على ملازمة بين دخول الاعتقاد في مفهوم الصحّة وبين حملها على الظاهريّة.

وإن أراد منه أنّ لفظ « الصحيح » موضوع لما هو صحيح واقعا ، فاستعماله فيما هو صحيح شرعا - كما هو مفاد الأصل المذكور - مجاز ، كما أنّ لفظ « الماء » موضوع

ص: 78


1- انتهى كلام السيّد المجاهد قدس سره.

للجسم السيّال الرطب واقعا مثلا ، فلو شكّ في انقلابه حجرا يحكم بكونه ماء شرعا. لكن استعمال لفظ « الماء » فيما شكّ في كونه ماء حقيقة - وإن وجب إجراء أحكام الماء عليه بحسب الشرع - لا يخلو عن التجوّز ؛ فإنّ جريان أحكام الماء شرعا على أمر لا يوجب إطلاق لفظ « الماء » عليه على وجه الحقيقة.

ففيه أوّلا : منع (1) كون هذه الاستعمالات مجازيّة ، أمّا في صورة الحمل فظاهر ؛ لاحتمال أن يكون التصرّف في النسبة ، كقولك : هذا أسد. وأمّا في صورة الاستعمال - كقولك : رأيت طاهرا ورأيت ماء ، إذا كان مستصحب الطهارة والمائيّة - فباعتبار الحمل الضمني الملحوظ بين ذات الشيء والوصف العنواني له. نعم ، في قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (2) لا يبعد دعوى المجازيّة لو قلنا بأنّ الطهارة من الموضوعات الواقعيّة من دون ثبوت حقيقة شرعيّة فيها.

وثانيا : أنّه لا وجه للتعليل المذكور في كلامه.

وثالثا : لو سلّمنا المجازيّة ، لكنّه لا ريب في أنّ المخبر عنه في قولك : « صلاة زيد صحيحة » ليس إلاّ هذا المعنى المجازي ، نظير إطلاق « الطهارة » على ما حكم بطهارته شرعا. والتزام التجوّز ممّا لا بدّ منه بعد العلم بعدم صلاحيّة إرادة المعنى الحقيقي ، كما هو ظاهر في المقام لمن تأمّل فيه.

الثالث : صحّة سلب الاسم عن الفاسدة ، كما يشهد به - بعد مساعدة العرف والاعتبار - طائفة من الأخبار ، كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (3) و « لا صلاة

ص: 79


1- في « ط » و « م » إمكان منع.
2- مستدرك الوسائل 2 : 583 ، الباب 30 من أبواب النجاسات والأواني ، الحديث 4.
3- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.

إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) وغير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ؛ لما تقرّر في محلّه : من ظهور هذه التراكيب في نفي الحقيقة والماهيّة ، فالخبر (2) المحذوف هو الوجود ، بل ربما نسب إلى المحقّقين (3) : أنّ « لا » غير محتاجة إلى الخبر ، فيكون العدم المستفاد منه عدما محموليّا (4) ، وهو أقرب لتسميته بنفي الجنس ؛ حيث إنّ المنفي هو نفس الجنس لا وجوده وإن صحّ الثاني أيضا ، وأولى من حيث الدلالة على المطلوب.

ولا يرد فيه ما أوردنا على التبادر ؛ فإنّ الإجمال لا ينافي العلم بعدم صدقه على بعض الموارد ، فيعلم بذلك أنّ المورد المسلوب عنه الاسم ليس من حقيقة ذلك المسمّى ، وذلك لا يلازم تعيّنه المنافي لإجماله المفروض عند القائل بالصحيح.

وبما ذكرنا يظهر اندفاع ما اورد على الاحتجاج (5) : بأنّ هذه التراكيب ظاهرة (6) في نفي الكمال والصفات ، إمّا بدعوى الوضع الثانوي ، وإمّا بملاحظة النظائر والاستقراء في أخوات هذا التركيب ، وإمّا بلزوم الدور - فإنّ الحمل على نفي الذات موقوف على كون الصلاة اسما للصحيحة ، فإذا أردنا إثبات كونها اسما للصحيحة بالحمل على نفي الذات بمقتضى الحقيقة القديمة يلزم الدور - وإمّا بلزوم التخصيص في أغلب الموارد.

ووجه الاندفاع : حكم العرف بظهور التركيب في نفي الحقيقة ، فلا يصغى إلى دعوى الوضع الثانوي ، ولا إلى ملاحظة النظائر ؛ إذ بعد تسليم أنّ الحكم في النظائر

ص: 80


1- مستدرك الوسائل 4 : 158 ، الباب الأوّل من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث 5.
2- في « ع » : « والخبر ».
3- انظر البهجة المرضيّة 1 : 133 - 134.
4- في « م » زيادة : « لا رابطيّا ».
5- انظر القوانين 1 : 44 - 47.
6- في « ع » بدل « ظاهرة » : « منحصرة ».

كما زعمه ، لا وجه للتعدية إلى ما ليس نظيرا له بحكم العرف ، فإنّ المجاز مع القرينة لا يوجب رفع اليد عن أصالة الحقيقة عند عدمها. وبعد ظهور التركيب في نفي الذات عرفا يصير دليلا على الصحيح من دون توقّف ، فلا دور. والتخصيص ممّا لا ينكر في العمومات ونحوها ، فلا وجه لرفع اليد عنها بواسطة لزوم التخصيص ، مع أنّ التخصيص لازم على كلّ حال (1).

الرابع : ظواهر جملة من الأخبار والآيات الواردة في مقام بيان خواصّ العبادات وآثارها ، كقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) وقوله عليه السلام : « الصلاة خير موضوع » (3) ونحو ذلك ؛ فإنّ هذه - بحكم عكس النقيض - تدلّ على أنّ ما لا تنهى ليس بصلاة.

وفيه : أنّ ذلك مبنيّ على أن يكون تلك الخطابات واردة في مقام بيان أحكام تلك العبادات على وجه الإطلاق ، وذلك وإن لم يكن منافيا للإجمال المفروض فيها عند المستدل ؛ إذ لا ينافي الإجمال مع كون الحكم ساريا في جميع أفراد المجمل ، إلاّ أنّه غير معلوم ، بل قد عرفت فيما تقدّم أنّها غير واردة في هذا المقام.

وقد يستكشف ورود قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ ) (4) في مقام البيان عن كونه تعليلا لقوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) ولا وجه لذلك ؛ لاحتمال عدم وروده أيضا في مقام البيان ، فينطبق التعليل على مورده ، كما لا يخفى.

ص: 81


1- في « ط » بدل « حال » : « تقدير ».
2- العنكبوت : 45.
3- مستدرك الوسائل 3 : 43 ، الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث 9.
4- العنكبوت : 45.

الخامس : أنّه قد تقرّر في محلّه : أنّه إذا علم اختلاف أمرين في حكم - كأن يكون ثابتا لأحدهما دون الآخر - وشككنا في أنّ الفرد الذي انتفى عنه الحكم ، هل هو من أفراد الأمر الذي ثبت له الحكم ، ليكون ذلك تقييدا لإطلاقه أو تخصيصا لعمومه؟ أو أنّه خارج عنه مباين له ليس من أفراده ، لئلاّ يكون ذلك تقييدا؟ فبأصالة عدم التقييد يستكشف كونه مباينا له وخارجا عنه.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الأمر دائر بين أن يكون الفاسدة من حقيقة الصلاة ، ليكون عدم جريان حكم الصلاة عليها من الوجوب وغيرها تقييدا للإطلاق - كما أنّ عدم جريان حكم البيع على البيع بالفارسيّة تقييد لإطلاقه - وبين أن لا تكون من حقيقة الصلاة وتكون مباينة لها خارجة عنها ، ولذلك لم نشاركها في الحكم ، فبأصالة عدم التقييد يستكشف أنّ الصلاة ليست مطلقة شاملة للفاسدة الخارجة ولو لم يكن بهذا العنوان ؛ لما مرّ من أنّ الفاسدة ليست عنوانا للمقيّد. وفيه تأمّل.

السادس : أنّ هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للصحيحة كان لها وجه ضبط في المعنى الموضوع له ك- « الصحيحة » و « المبرئة للذمّة » و « المطلوبة للشارع » ونحو ذلك من المعاني التي يمكن تعقّلها والوضع بإزائها ، بخلافه على القول بالأعم ؛ لعدم انضباط الموضوع له على وجه يمكن تعقّله ثمّ وضع اللفظ.

وفيه : أنّ المحذور إن كان مجرّد عدم الانضباط ، فيمكن دفعه على القول بالأعم : بأنّ المفاهيم العرفيّة ممّا لا يمكن ضبطها في الأغلب ، والأمر فيها محال إلى العرف. وإن كان مع عدم المعقوليّة فما جعله وجه الضبط على القول بالصحيح أولى بعدم التعقّل ؛ لأنّ الصحّة وما يشابهها لا يعقل أن يكون داخلا في الموضوع له ، ومع ذلك فالأمر أيضا غير منضبط ؛ لاختلاف الصحّة باختلاف الموضوعات الطارئة على المكلّفين ، كما تقدّم في تصوير القول بالصحيح.

ص: 82

اللّهمّ إلاّ أن يقال (1) : بأنّ الموضوع له هو مصداق هذا المفهوم ، وهو المركّب المستجمع للأجزاء والشرائط ، وهذا أمر يعقل أن يكون موضوعا له ، بخلاف القول بالأعم ، إذ الموضوع له فيه غير معقول ؛ ضرورة بطلان القدر المشترك بين الناقص والزائد ، وهو المراد من قولهم : بأنّه على الأعمّي يلزم بقاء الكلّ مع انتفاء الجزء.

ولا وجه لما يقال في دفعه : من أنّ الجزء تارة يكون جزءا في حالتي الوجود والعدم ، واخرى يكون جزءا ما دام موجودا ، فإنّ قضيّة ارتفاع الكل بارتفاع الجزء ضروريّة لا يعقل فيها الفرق بين الحالتين ، كما لا يخفى على المتدبّر المتدرّب.

السابع : أنّه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للأعم لكان الرجوع إلى عرف المتشرّعة كافيا في معرفة تفاصيل هذه المعاني المقرّرة في الشريعة ، مع أنّه ليس كذلك ، بل لا يعرف تلك التفاصيل إلاّ بالرجوع إلى الأدلّة التفصيليّة المقرّرة في الكتب الاستدلاليّة ، وهذا هو المراد من كون العبادات توقيفيّة موقوفة على بيان الشارع ، وبهذا يفرق مع المعاملات المحالة إلى العرف. ومجرّد الرجوع في المعاملات إلى العرف العام وفي العبادات إلى عرف المتشرّعة لا يصلح فارقا ؛ لما عرفت من عدم الكفاية ، للاحتياج إلى مراجعة الأدلّة بعد الرجوع إليهم أيضا.

والسرّ في ذلك : أنّ تشخيص الموضوع في العبادات راجع في الحقيقة إلى تشخيص الأحكام التي لا مسرح للعرف فيها ، فإنّ (2) معنى جزئيّة السورة ليس إلاّ وجوب قراءتها والإتيان بها في عداد الأفعال المقرّرة في الأوقات

ص: 83


1- في « ط » و « ع » بدل « يقال » : « يقول ».
2- في « ط » زيادة : « المحصّل من ».

الخاصّة ، بناء على ما قرّرنا في محلّه (1) : من أنّ الجزئية واشباهها أحكام انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة.

واجيب عنه (2) تارة بالنقض : بأنّ رجوع الصحيحي إلى العرف والتمسّك بالتبادر أيضا ينافي التوقيفيّة.

وثانية : بأنّ المراد من التوقيفيّة هو أنّ المرجع فيها ليس العرف العام ، ولا ينافي ذلك استعلام الموضوع له من عرف المتشرّعة ، وهو يوجب الانتهاء إلى الأخذ من الشارع ولو بواسطة عرفهم.

وممّا ذكرنا يظهر (3) اندفاع الجواب :

أمّا الأوّل ، فلأنّ الحقّ - كما عرفت - أنّه لا وجه للتمسّك بالتبادر ، مع إمكان الفرق أيضا - كما تكلّفه بعض المحقّقين (4) - من الإجمال الحاصل بالعرف ، والتفصيل الحاصل بالرجوع إلى الأدلّة ، وقد مرّ ما فيه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ انتهاء الرجوع إلى عرف المتشرّعة إلى الأخذ من الشارع لا يجدي في رفع المحذور ، وهو : لزوم عدم الاحتياج إلى الكتاب والسنّة وإعمال القوة النظريّة في استخراج الأجزاء والشرائط من الأدلّة. ولعلّ ما ذكرنا يظهر بأدنى التفات.

فإن قلت : إنّ غاية ما يتصوّر على القول بالأعم أن يتحصّل له من الرجوع إلى العرف إطلاق ، ومن المقرّر عندهم عدم جواز الرجوع إلى الإطلاق إلاّ بعد

ص: 84


1- راجع فرائد الاصول 3 : 126.
2- انظر هداية المسترشدين 1 : 455.
3- في « ط » و « ع » زيادة : « وجه ».
4- انظر هداية المسترشدين 1 : 445 - 456.

الفحص عن مقيّداته ، وذلك يوجب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، ولأجل ذلك لا يخرج العبادات عن التوقيفيّة.

قلت : المفروض عند الأعمّي دخول القيد في مفهوم الصلاة أيضا ، والمفروض إمكان استكشاف المفهوم من عرف المتشرّعة ، فلا وجه للرجوع إلى الكتاب والسنّة. نعم ، لو لم يكن القيد داخلا في المفهوم بعد العلم الإجمالي بطروّ التقييد للإطلاق لا بدّ من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، ومع ذلك لا يكون ذلك المطلق من التوقيفيّات ، كما أنّ الحال في المعاملات كذلك ، وليست منها.

الثامن : أنّ العبادة مطلوبة للشارع ، ولا شيء من مطلوبه بفاسدة ، فلا شيء من العبادة بفاسدة ، فلا شيء من الصلاة بفاسدة ، لأنّها عبادة.

وفيه : أنّ الأعمّي لا يسلّم أنّ مسمّى الصلاة على وجه الإطلاق عبادة ، بل المسلّم عنده أنّ من الصلاة ما هي عبادة وهي ليست بفاسدة قطعا ، مع إمكان استكشاف كون مطلق الصلاة عبادة من إطلاق قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) إلاّ ما خرج بالدليل ؛ إذ لا يراد بالعبادة إلاّ الفعل المأمور به مع النيّة ، والإطلاق على تقدير سلامته عن الموانع دليل على ذلك ، إلاّ أنّ الكلام في السلامة ، كما عرفت. فليتدبّر في المقام ، لكي يهتدى إلى المرام ، واللّه الهادي.

ص: 85

ص: 86

هداية في ذكر احتجاج القائلين بالأعم

وهو وجوه :

أحدها : دعوى وجود الأمارات الدالّة على الوضع للأعم : من التبادر ، وعدم صحّة السلب عن الفاسدة ، وصحّة التقسيم إليها وإلى الصحيحة الظاهرة في أنّ لفظ المقسم حقيقة فيه.

وقد بالغ في تقرير هذه الأدلّة بعض أرباب هذه المقالة (1) ، ولا حاجة إليه ، فلعلّه يبالغ في تعقّل المراد من الأعم ، وقد عرفت فيما تقدّم (2) أنّه لم يعقل ذلك القول بوجه (3) حتّى يدّعى عليه التبادر ، والوجه المعقول منه - وهو الوجه الرابع - مشارك مع القول بالصحيح في عدم صحّة التعويل على التبادر ، كما يظهر بالرجوع إليه.

وبالجملة : فالإطلاق على الفاسدة في العرف وكلمات الشارع والعلماء ممّا لا ينبغي إنكاره ، إلاّ أنّ تعقّل المراد منه بعد لم يثبت (4) ، فيا ليتنا كنّا نعقل المراد منه.

والوجه في هذه الإطلاقات - على ما هو المظنون عندنا - هو ما عرفت مرارا : من أنّها مبنية على المسامحة والتنزيل. وأمّا التزام حصول الوضع فيما يترتّب

ص: 87


1- كالقزويني في ضوابط الاصول : 22 - 23.
2- راجع الصفحة 51 - 56.
3- في « ط » بدل « ذلك القول بوجه » : « لذلك القول وجه ».
4- لم ترد عبارة « إلاّ أنّ تعقّل المراد منه بعد لم يثبت » في « ط ».

عليه الأثر بعد التنزيل المذكور وعدمه فيما لا يترتّب عليه الأثر فبعيد جدا ؛ لاستلزام كونه حقيقة من جهة ومجازا من جهة اخرى - كما عرفت - وإن تقدّم منّا احتمال حصول الوضع في المركّبات الخارجيّة الكمّية - من المعاجين ونحوها - بل قد لا يصحّ ذلك في استعمال واحد للفظ « الصلاة » فيما هو كذلك مع قطع النظر عن ملاحظة حال الموضوع الذي يترتّب عليه الأثر والموضوع الذي لا يترتّب عليه الأثر ، كما لا يخفى على من أمعن النظر فيما ذكرنا سابقا.

الثاني : أنّه يلزم على القول بالصحيح ألف ماهيّة للصلاة مثلا ، باعتبار الاختلافات المعهودة في الصلاة بواسطة الحالات الطارئة على المكلّف ، من الحضر والسفر والصحّة والمرض والأمن والخوف ونحوها ؛ لعدم القدر المشترك بين تلك الماهيّات المختلفة ، فلا بدّ من الالتزام بالاشتراك اللفظي ، وهو ممّا لم يلتزم به أحد فيما نعلم (1). وأمّا على القول بالأعم فلا يلزم ذلك ؛ لأنّها أحكام مختلفة تعتور على ماهيّة واحدة لوجود الجامع القريب بينها ، وهو ما يطلق عليه لفظ « الصلاة » ، فإنّ هذا المعنى موجود في الكل.

والجواب عن ذلك هو ما عرفت مفصّلا : من أنّ ذلك مشترك الورود ؛ إذ لا يعقل وجود القدر المشترك بين الزائد والناقص ، ولا يعقل تبادل أجزاء ماهيّة واحدة. والاستناد في دفع ذلك إلى العرف وبعض الأمثلة المتشابهة - كالأعلام الشخصيّة ونحوها - ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها بعد ضرورة بطلان ذلك بالعقل.

ولا معنى لما قد يتوهّم : من أنّ العرف يغاير حكمه حكم العقل ؛ بل العرف هم العقلاء من حيث انسهم بالأوضاع اللغويّة واستفادة المعاني بواسطتها ، فما يستحيله العقل يستحيل عند العرف أيضا.

ص: 88


1- في « ط » بدل « لم يلتزم به أحد فيما نعلم » : « لم يظهر من أحد التزامه ».

نعم ، قد عرفت أنّ العرف ربما يتسامحون في إطلاق اسم الكلّ على البعض - على ما ذكرنا في وجه المسامحة بعد الاعتراف بعدم تحقّق المسمّى - إلاّ أنّ ذلك لا يحتاج إلى التفات تفصيلي ، بل الوجه في استعمالهم في الناقص إنّما هو مركوز في أذهانهم ، كما هو كذلك في الأغلب ، ولا ضير فيه ولا غائلة.

الثالث : إطلاق لفظ « الصلاة » وغيرها من العبادات في جملة من الأخبار على الأعم ، كقوله عليه السلام : « بني الإسلام على الخمس : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه (1) ، فلو أنّ أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية ، لم يقبل له صوم ولا صلاة » (2)فإنّ قوله عليه السلام : « فأخذ الناس بالأربع » ظاهر في الأربعة المتقدّمة ، ولا شكّ أنّ عبادة هؤلاء فاسدة ، فلا بدّ أن يراد منها الأعم من الصحيحة والفاسدة ؛ إذ لو كان المراد هو الصحيحة لم يكن التارك للولاية آخذا بالأربع.

والجواب : أنّ هذا مجرّد استعمال ، ولا دليل فيه على المطلوب ؛ إذ لا وجه لإنكار الاستعمال في الأعم ، كما أنّه لا نفع في إثباته.

مع أنّ المستعمل فيه في الفقرة الاولى لا بدّ وأن يكون هو الصحيح ؛ إذ الإسلام غير مبنيّ على الفاسدة قطعا. وأمّا الفقرة الثانية ، فالمراد من الأخذ بالأربع إن كان هو الاعتقاد بها - بقرينة الولاية - فلا دلالة فيها على مطلب الخصم ؛ فإنّ إطلاق « الأربع » على ما اعتقدوه صلاة وزكاة وصوما وحجّا إطلاق على ما هو

ص: 89


1- الكافي 2 : 18 ، باب دعائم الإسلام ، الحديث 3.
2- لم نعثر على هذه العبارة في المصادر الحديثيّة ، وإن ورد بمعناها أحاديث كثيرة ، انظر البحار 27 : 166 - 202 ، باب أنّه لا تقبل الأعمال إلاّ بالولاية.

الصحيح منها باعتقادهم وإن كان غير مطابق للواقع. وإن كان المراد تلك الأفعال فإطلاق الأربع عليها يكون إطلاقا من الإمام عليه السلام على الفاسدة ، ولا دليل فيه على الوضع ، كما عرفت.

ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله عليه السلام : « دعي الصلاة أيام أقرائك » (1) فإنّه لا بدّ وأن يكون المراد بها الفاسدة ؛ إذ لو كان المراد بها الصحيحة لزم الأمر بترك ما لا يقدر عليه المكلّف ، لعدم تمكّنه من الصلاة المشروطة بالطهارة التي يمتنع حصولها بأقسامها في زمان حصول نقيضها ، وهو الحيض.

وتوضيح الجواب : أنّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، مع احتمال أن يقال : إنّ المستعمل فيه في الرواية هو خصوص الصحيحة ويكون النهي إرشادا إلى عدم وقوع العبادة المعهودة في أيّام الحيض ، وهل هذا إلاّ مثل قولك : السورة جزء للصلاة ، أو التكفير مانع عنها ، ونحو ذلك؟ ولا ريب أنّ المراد بها في هذه العبارة هي الصحيحة ، فكذا فيما نحن فيه من غير فرق ، إلاّ أنّ التعبير عن ذلك المطلب إنّما وقع بعبارة النهي المفيد للإرشاد ، كما عرفت.

الرابع : ما اعتمد عليه بعض الأفاضل في مناهجه ، حيث قال - بعد ذهابه إلى القول بالأعم - : لنا الاستقراء المفيد للعلم. بيانه : أنّا نرى أنّ كلّ من اخترع شيئا مركّبا من أجزاء أو مشروطا بشرائط ، ويضع له اسما ، لا يضعه [ له ](2) بجميع أجزائه وشرائطه ، بل نرى الناس أنّهم يطلقون الاسم عليه ولو انتفى بعض شرائطه أو نقص بعض أجزائه إطلاقا حقيقيّا غير مقترن بقرينة ؛ كما أنّ من وضع معجونا

ص: 90


1- عوالي اللآلي 2 : 207 ، الحديث 124.
2- من المصدر.

مركّبا من أجزاء معيّنة بأوزان مقرّرة وسمّاه « أيارج » (1) ولو نقص وزن جزء أو زاد أو نقص جزء منه يطلق الاسم عليه عرفا (2) ، ولا يجوز السلب عنه في العرف. وكذا من صنّف كتابا وسمّاه باسم ونقص عنه ورقة أو ورقتان ، أو بنى بلدة أو دارا أو بستانا أو حفر قناة وسمّاه باسم ، أو وضع اسما لعبد ، ثمّ نقص عنها دار أو بيت أو شجر أو بئر أو إصبع أو أزيد ، فلا يشك أحد في صحّة الإطلاق الحقيقي للاسم على الناقص وعدم صحّة السلب ، بل لا يشكّ في الوضع للأعم مع عدم مشاهدته للواضع ولا علمه بكيفيّة الوضع ، وهذه عادة الناس سلفا وخلفا. ولو بقيت لك شبهة ، فتأمّل في أنّك لو سمعت وضعا لأحد المذكورات من غير مشاهدتك للواضع ولا إسماعك بكيفيّة الوضع ، تقطع بالوضع للأعم من غير تشكيك ، حتّى لو سلب أحد الاسم عن بعضها بنقص شيء يسير منه يستهزئ عليه ؛ فمن أيّ طريق حصل لك العلم بذلك فهو جار في المتنازع فيه ، من دون تفاوت (3) ، انتهى كلامه.

ثمّ أكّد ذلك بالاستعمالات الكثيرة الغير المحصورة التي يعلم بالتتبّع في الأخبار وكلمات علمائنا الأخيار في أبواب مبطلات الصلاة وخللها وأبواب العبادات والمحاورات العرفيّة.

أقول : إنّ ما ادّعاه أوّلا : من أنّ المخترع للمركّب لا يضع الاسم لجميع الأجزاء ، الظاهر أنّ مراده أنّ جميع الأجزاء لا يكون مورد الوضع بخصوصه على وجه يكون الاستعمال في غيره مجازا ، وإلاّ فاللازم أن يكون استعمال اللفظ في جميع الأجزاء مجازا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك.

ص: 91


1- « الأيارج » باللغة اليونانية دواء ، الفوائد الحائريّة : 480.
2- في « ط » و « ع » زيادة : « حقيقة ».
3- مناهج الأحكام : 27.

وحينئذ فنقول : إنّ الموضوع له إمّا خصوص المراتب المتفاوتة بالزيادة والنقصان ، أو القدر المشترك بين المراتب.

فعلى الأوّل ، يلزم الاشتراك اللفظي لو كان الأوضاع متعدّدة أو بمنزلتها (1) ، والوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لو كان الوضع واحدا ، وكلّ منهما قطعيّ الفساد لمن أنصف ؛ يكفيك شاهدا ملاحظة الوجدان في أوضاعك لما تخترعه من المركّبات.

وعلى الثاني ، يلزم أن يكون الموضوع له هو القدر المشترك بين المراتب ؛ ونحن إلى الآن لم نقف على وجه يمكن معه التصوير للقدر المشترك بين الزائد والناقص على وجه تكون الزيادة داخلة في حقيقة المسمّى.

ومنه يظهر أنّ عدم صحّة السلب في تلك المراتب إنّما هو مبنيّ على ضرب من التأويل ونوع من التسامح ، وما ذكر من الاستهزاء إنّما هو في الامور التي مبناها على المسامحة على وجه لو استعمل فيه الدقّة من أيّ أنواعها يصير المستعمل للدقّة موردا للاستهزاء عندهم. وعليه يتفرّع ما ذكره : من التأييد والتأكيد والتشديد في الاستعمالات العرفيّة وكلمات الفقهاء.

وبالجملة : فنحن في ضيق من تصوير القول بالأعم ، فيا ليت هذا المستدلّ يبيّن المراد منه ، وما بالغ في بيان الحجّة ممّا لا حاجة إليه بعد بيان المراد ، كما لا يخفى على من أنصف.

الخامس : أنّها لو كانت أسامي للصحيحة لزم فيما إذا حلف أن لا يصلّي في مكان مكروه أو مباح ، من وجود الشيء عدمه ، وبطلان التالي قاض ببطلان المقدّم.

بيان الملازمة : أنّه على القول بالصحيح يكون متعلّق الحلف في كلام الحالف

ص: 92


1- لم يرد « أو بمنزلتها » في « م ».

هو الصحيح ، فيصير منهيّا عنه لحصول الحنث بفعله ، والنهي يقتضي الفساد ، فيكون متعلّق الحلف فاسدا ، وذلك يوجب عدم تعلّق الحلف به ، فلزم من تعلّق الحلف به عدم تعلّق الحلف به.

وبوجه آخر : أنّ ثبوت اليمين - كما هو المفروض - يقتضي النهي ؛ لعدم جواز الحنث ، والنهي يقتضي الفساد ، والفساد يقتضي عدم تعلّق اليمين ؛ لأنّ المفروض تعلّقه في كلام الحالف بالصحيح ، وهو يقتضي الصحّة لعدم تعلّق الحلف به ، وهو يقتضي الفساد ؛ لما تقدّم.

والجواب عنه أوّلا : أنّ الفساد إنّما يقتضي عدم تعلّق الحلف به فيما إذا كان متعلّقه مع قطع النظر عن تعلّق الحلف به فاسدا ، كما إذا كان المحلوف على تركه فعل الصلاة بدون الركوع مثلا ، وأمّا الفساد الذي جاء بواسطة تعلّق الحلف بتركه فهو لا يقتضي عدم تعلّق الحلف به ، بل هو من آثار تعلّق الحلف به ، فهو لا ينافي تعلّقه به بل يؤكّده ، كما لا يخفى على من أمعن النظر.

فإن قلت : فهل يحصل الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان أو لا؟ فلو قيل بالأوّل يلزم عدم اقتضاء النهي الفساد ؛ لأنّ الحنث لا يحصل إلاّ بفعل المحلوف على تركه - والمفروض أنّه الصحيح - ووقوع الصلاة صحيحة يقضي بعدم اقتضاء النهي الناشئ من حرمة الحنث الفساد. ولو قيل بالثاني يلزم عدم إمكان الحنث ، مع أنّ الفريقين لا يقولان به ، فلا بدّ من التزام إرادة الأعم ، ليحصل الحنث بفعله.

قلت : لا نسلّم أنّ القائل بالصحيح يلتزم بإمكان الحنث ، ولو سلّم فلا ينافي إرادة الصحيح ؛ لأنّ متعلّق الحلف لا يراد بصحّته إلاّ كونه تامّ الأجزاء والشرائط بحيث لو تعلّق به الأمر وقع صحيحا ، غاية الأمر أنّ قبل تعلّق الحلف به كان متعلّقا للأمر ، وبعد تعلّق الحلف ارتفع الأمر ؛ لورود نقيضه وهو النهي عليه ، فاقتضى الفساد ووقوع الحنث لو وقع تامّ الأجزاء والشرائط كما كان متعلّقا للأمر قبل تعلّق النهي به.

ص: 93

نعم ، لو فرض أنّ متعلّق الحلف هو الصحيح بمعنى ما يكون متعلّقا للأمر بالفعل ، كان الوجه عدم إمكان الحنث. وهو ممنوع ، بل قد مرّ فساده بما لا مزيد عليه.

نعم ، يشكل ذلك بناء على ما تقرّر عندهم : من أنّ نيّة القربة إمّا جزء للصلاة أو شرط فيها ، وإن كان دخول غاية الشيء في الشيء شرطا أو شطرا أيضا ممّا لا يعقل ، فتدبّر.

وثانيا : أنّ ذلك لا يجدي نفعا في إثبات المطلوب ؛ إذ لا يزيد على مجرّد الاستعمال بعد الغضّ عمّا ذكرنا ، مع إمكان المعارضة بما لو صرّح الحالف بوصف الصحّة في متعلّق الحلف ، كما لا يخفى ، فتدبّر.

السادس : أنّ قضية وضع اللفظ للصحيح أن يكون المراد منه في موارد النهي هو الصحيح الجامع لجميع الأجزاء المعتبرة والشرائط المقرّرة ، ولا شكّ أنّ الإتيان بالماهيّة الجامعة للأجزاء والشرائط كاف في انتزاع وصف الصحّة ، فيلزم أن يكون المنهي عنها صحيحة ، وهو بعينه ما ذهب إليه أبو حنيفة (1) : من اقتضاء النهي للصحّة.

والجواب : أنّه إن اريد من الصحّة المنتزعة استجماع الماهيّة للأجزاء والشرائط من دون أن يكون موافقة للأمر ، فالملازمة مسلّمة ، وبطلان اللازم ممنوع بحسب القواعد اللفظيّة. وإن اريد من الصحّة موافقة الأمر فلا نسلّم أنّ الإتيان بالماهيّة الجامعة للأجزاء والشرائط كاف في انتزاع الصحّة بهذا المعنى ، بل هو موقوف على الأمر المضادّ للنهي المرفوع بواسطة ورود الضدّ على المحلّ القابل لهما.

فإن قلت : إنّ الماهيّة الواحدة من دون اختلاف فيها يمتنع أن يكون مأمورا بها تارة ومنهيّا عنها اخرى ، فالمأمور بها لا بدّ وأن يكون مغايرا للمنهيّ عنها ، إمّا

ص: 94


1- انظر الإحكام للآمدي 2 : 214 ، ونهاية الوصول : 122 ، والقوانين 1 : 163.

باعتبار زيادة جزء أو نقص شرط ونحوه ، فالمنهيّ عنها لا يعقل أن تكون صحيحة بمعنى استجماع الأجزاء والشرائط. وأمّا ما تقرّر عندهم : من صحّة الصلاة في الدار المغصوبة إذا وقعت في حالة النسيان (1) ، فلا دليل فيه على تعلّق الأمر والنهي بطبيعة واحدة ، بل المنهي عنه يغاير المأمور به ، غاية الأمر أنّ الذي أوجب بطلان الصلاة - وهو الغصب - إنّما يرتفع في حال النسيان ؛ لاختصاص وجوده واقعا بحالة الذكر ، كما لا يخفى. ولذا لا يرتفع الكراهة بمعنى قلّة الثواب في الصلاة في الحمّام إذا وقعت حال النسيان (2) ، كما يشعر بذلك تصريح بعضهم بثبوت الكراهة في التوضّؤ بالماء المشمّس إذا كان منحصرا (3).

قلت : قولك أمر يجب الالتزام به بواسطة دليل عقليّ خارج عن مفاد اللفظ بحسب الأوضاع اللغويّة ، وأمّا بملاحظة القواعد اللغويّة يجب المصير إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بالمعنى الذي ذكرنا ، كما ذهب إليه فخر الدين ، ونبّهنا عليه في مبحث اقتضاء النهي للفساد (4). نعم ، ذلك ليس من مقتضيات النهي - كما زعمه أبو حنيفة - بل بواسطة وضع اللفظ للمعنى الجامع للأجزاء والشرائط. هذا بحسب القواعد اللفظيّة ، وأمّا بحسب الدليل العقلي فلا بدّ من الالتزام بأنّ المستعمل فيه هو الأعم ، ولا دليل فيه على الوضع لكونه أعم.

السابع : أنّها لو لم تكن موضوعة للأعم لزم أن لا يكون فرق بين الجزء والشرط ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ص: 95


1- انظر الشرائع 1 : 71 ، والمدارك 3 : 219 ، والجواهر 8 : 293.
2- لم ترد عبارة « لاختصاص وجوده - إلى - حال النسيان » في « ع ».
3- صرّح به الشهيد الثاني في الروض 1 : 430.
4- راجع مطارح الأنظار 763 - 764.

أمّا الملازمة ، فلأنّ معنى الوضع للصحيحة هو اعتبار الأجزاء والشرائط في الماهيّة على حدّ سواء.

والجواب أوّلا : أنّ ذلك المحذور على تقدير لزومه وكونه محذورا ممّا لا دخل للوضع فيه ، بل لو فرض عدم اللفظ والوضع كان اللازم من اعتبار الشروط في الماهيّة عدم الفرق بينها وبين الأجزاء.

وثانيا : أنّ ذلك غير لازم ؛ إذ وجه اعتبار الشرط في الماهيّة ليس وجه اعتبار الجزء فيها ؛ فإنّ المعتبر من الجزء نفسه ومن الشرط تقييده.

وثالثا : أنّ ذلك لا نسلّم كونه محذورا ، بل التحقيق أنّ الفرق بين الشرط والجزء اعتباريّ ، يمكن أخذه جزءا أو شرطا في الواقع بحسب ما بأيدينا من الموارد ، وأمّا بحسب الأدلّة فالتميّز موكول إلى الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة وعناوينها ، كما لا يخفى.

الثامن : أنّه لو كانت للصحيحة لزم تكرار الطلب في الأوامر المتعلّقة بها ؛ لرجوع الأمر إلى طلب المطلوب ، بل هو دور صريحا ، كما لا يخفى.

والجواب : ما تقدّم مرارا من المراد من الصحّة المعتبرة في المقام ، وعليه فلا تكرار ولا دور. نعم ، يرد ذلك فيما إذا كان المراد من الصحّة هنا موافقة الأمر ، كما لا يخفى.

وأجاب عنه بعضهم (1) : بعدم لزوم التكرار ؛ نظرا إلى استفادة خصوص الوجوب أو الاستحباب من الأوامر ، واستفادة مطلق المطلوبيّة من الوضع.

ص: 96


1- الجواب وما يليه من الإيراد عليه هو من الشيخ محمّد تقي ، انظر هداية المسترشدين 1 : 476.

واورد عليه : بأنّ الأمر حقيقة في الطلب المطلق فيلزم التكرار.

وكلّ واحد من الجواب والإيراد وهم في خلط ، كما لا يخفى على من تدبّر.

التاسع : ما ادّعاه بعض سادات مشايخنا (1) - طاب ثراه - من إطباق الفقهاء جلاّ على التمسّك بالإطلاقات الواردة في العبادات ، على حسب اختلاف المطالب المتعلّقة بها في إثبات مشروعيّتها أو رفع توهّم اعتبار شيء فيها شطرا أو شرطا ، وذلك دليل على اتّفاقهم على الوضع للأعم بحسب العمل وإن كانوا لا يعتقدون ذلك بحسب القول ، فالصحيحيّون أعمّيون من حيث لا يشعرون.

والجواب عن ذلك : أنّ هذه الدعوى محتاجة إلى بيّنة عادلة من كلمات أرباب القول بالصحيح ، وإلاّ فبمجّرد الدعوى لا يتمّ المطلب (2) ، ونحن لم نقف إلى الآن على تمسّك أرباب القول بالصحيح بالإطلاق وإن لم يكن من أرباب التتبّع ، فلا بدّ من الرجوع إلى كلماتهم في تشخيص ذلك.

وبعد تسليم ذلك فالمسألة ليست ممّا ينفع فيه الإجماع على تقدير تحقّقه ؛ إذ لا بدّ للمدّعي أوّلا من تصوير القول بالأعم وإمكانه ، ثمّ دعوى الإجماع والاستدلال عليه.

فإن قلت : إنّ المركّبات الخارجية - كالسرير والبيت والطبيخ والمعاجين ونحوها - إنّما حقائقها مركّبة من أجناس وفصول لا نعرفها ، وهذه الأجزاء الخارجيّة ليست بأجزاء لتلك المركّبات ، بل إنّما هي أجزاء لما يحصل في ضمنها ذلك الجنس والفصل ، على وجه يكون ذلك الجنس والفصل محفوظا (3) في تلك

ص: 97


1- لم نعثر عليه.
2- في « م » بدل « فبمجرّد الدعوى لا يتمّ المطلب » : « فمجرّد الدعوى لا يثبت المدّعى ».
3- في « ع » بدل « محفوظا » : « ملحوظا ».

الاختلافات الحاصلة بواسطة ارتفاع الأجزاء وتبادلها ، فالباب على هذا لا يكون جزءا لماهيّة الدار ، كما أنّ الأخشاب ليست أجزاء لماهيّة السرير المحفوظة في أنواع التقلّبات الحادثة عليه ، فالقائل بالأعم يدّعي أنّ لفظ « الصلاة » أيضا - كأحد ألفاظ هذه المركّبات - موضوعة لماهيّة صادقة مع الكثير والقليل من الأجزاء. ولا يلزم من ذلك اختلاف الماهيّة ؛ إذ لزومه موقوف على أن يكون الماهيّة هي تلك الأجزاء الخارجيّة ، وهو غير مسلّم.

قلت : ذلك على تقدير صحّته في ما ذكره من المركّبات الخارجيّة ؛ إذ نجد من أنفسنا الوضع لتلك الأجزاء الخارجيّة (1) بعينها ، فهو ممّا لا ينبغي القطع بفساده في خصوص لفظ « الصلاة » وما شاكلها من العبادات ؛ حيث إنّهم مطبقون على أنّ السورة - مثلا - من أجزاء الصلاة ومقوّمات ماهيّتها ، وليست من مقوّمات الفرد ، من غير فرق في ذلك بين القائل بالصحيح والقائل بالأعم. وقد تقدّم فساد ذلك بما لا مزيد عليه.

وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا ، فعليك بالتتبّع في كلمات الأعميّين ، حيث تراهم مطبقين بحسب ظواهر كلماتهم على أنّ الأجزاء الزائدة في الصلاة الجامعة لجميعها من حقيقة الصلاة.

العاشر : أنّ الفقهاء قد أطبقوا على بطلان الصلاة بزيادة أحد أركانها عمدا أو سهوا كالركوع مثلا ، ولا ريب في كونه منهيّا عنه ، مع أنّهم يعدّونه ركوعا ويطلقون عليه اسم الركوع ، وهو لا يتمّ إلاّ بكون الركوع حقيقة في الأعم ؛ إذ لا معنى لزيادته على القول بالصحيح ؛ لعدم تحقّقه من أصله.

لا يقال : إنّ مرادهم من الركوع صورته.

ص: 98


1- لم ترد عبارة « إذ نجد من أنفسنا الوضع لتلك الأجزاء الخارجيّة » في « ع » و « م ».

لأنّا نقول : إنّ زيادة صورة الركوع لا توجب بطلان الصلاة ؛ ألا ترى أنّهم جوّزوا الانحناء لأخذ شيء من الأرض أو (1) لقتل العقرب وإن كان بقدر المكث في الركوع ، بل ولو احتاج إلى وضع اليدين على الركبتين على وجه يظنّ كونه راكعا.

والجواب أوّلا : أنّ لفظ « الركوع » لم يثبت تصرّف من الشارع فيه لفظا أو معنى (2) ، وقد عرفت عدم جريان النزاع على تقدير إمضاء أحد التقديرين.

وثانيا : أنّ المراد من الركوع صورته لكن بقصد أنّه ركوع (3) ، وبذلك يفترق مع الانحناء لأجل قتل العقرب أو لأخذ شيء من الأرض ، فعلى تقدير جريان النزاع فيه لا يثبت منه إلاّ الاستعمال ، وهو أعمّ من الوضع.

ثمّ إنّ بعض هذه الوجوه المتقدّمة - على تقدير تماميّتها - لا يجدي في إثبات المطلوب على وجه الكلّية ، ولا سبيل إلى دعوى الإجماع المركّب في هذه المسائل ، كما لا يخفى على من أمعن النظر. وهو الهادي.

ص: 99


1- لم يرد « أو » في « ع » و « م ».
2- في « ط » بدل « فيه لفظا أو معنى » : « في لفظه أو معناه ».
3- في « م » بدل « أنّه ركوع » : « الركوع ».

ص: 100

هداية

اشارة

قد عرفت في ما تقدّم (1) ذهاب بعضهم إلى التفصيل (2) بين الأجزاء والشرائط. ولعلّ الوجه فيه : أنّ ملاحظة المركّبات الخارجيّة على اختلاف أقسامها يعطي الظنّ بأنّ الشروط خارجة عن المسمّى ، وإلاّ لم يفرق بين الأجزاء والشرائط ؛ لدخول كلّ منهما في الماهيّة. والتزام الدخول - بعد الفرق بأنّ الداخل من الجزء هو نفسه ومن الشرط تقييده (3) - ممّا لا يرتضيه المنصف.

وبالجملة : فبعد ملاحظة ما تقدّم (4) - من الوجدان الذي هو العمدة في أدلّة القول بالصحيح - مضافا إلى ما ذكرنا في المقام ، يظهر الوجه في التفصيل المذكور ، وأنّه ليس ساقطا عن أصله ، بل يظهر من شيخنا - دام علاه - الميل إليه أو التوقّف فيه.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا وجه له ، ولا مجال للتوقّف فيه :

أمّا على ما يراه الأعمّي في الأجزاء - على وجه يكون الشرط تارة معتبرا في الصدق (5) واخرى لا يكون - ففساده قد ظهر بما لا مزيد عليه.

ص: 101


1- راجع الصفحة 29.
2- في « ع » و « م » بدل « ذهاب بعضهم إلى التفصيل » : « في نقل الأقوال أنّ من جملتها القول بالتفصيل ».
3- في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».
4- راجع الصفحة 73.
5- في « ع » بدل « الصدق » : « المصداق ».

وأمّا على غيره ، كأن يقال إنّ الشرط خارج عن الماهيّة في جميع المركّبات : فإن اريد أنّ ذات الشرط خارج (1) فهو حقّ لا مناص عنه ، لكنّه لا يجديه ؛ لكفاية دخول تقييده (2) في الماهيّة. وإن اريد أنّ تقييده (3) أيضا خارج ، فهو ممنوع ، بل هو مقطوع العدم ؛ نظرا إلى ما تقدّم من الوجدان وسائر الوجوه المتقدّمة ، بل بعض ما تقدّم من الأدلّة - كقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (4) - نصّ في دخول الشرط في المسمّى ، كما لا يخفى.

نعم ، الشرط يكون على وجهين :

أحدهما : أن يكون شرطا لوجود الماهيّة وتحقّقها مثلا ، ويلازمه توقّف الآثار المطلوبة من الماهيّة عليه أيضا ، كالكيفيّات الخاصّة المعتبرة في المعاجين من الأوزان المخصوصة وملاحظة الفصول الزمانيّة ونحوها.

الثاني : ما يتوقّف عليه فعليّة التأثير وظهور الآثار ، مثل خلاء المعدة لظهور الآثار المطلوبة من المعاجين من الإسهال والتفريح (5) ونحوهما مثلا.

فالأوّل ، ممّا لا ينبغي الإشكال في دخوله في الماهيّة بملاحظة تقييده ، ولا غرو في افتراقه الجزء بدخول نفسه في الماهيّة ودخول تقييده فيها ، كما تقدّم. ولا ينافيه الاتّصاف.

وأمّا الثاني ، فإن قلنا : بأنّ اسم الكل إنّما هو بملاحظة التأثير الفعلي على وجه لو لم يكن مؤثّرا بالفعل لم يكن المسمّى موجودا ، وجب الحكم بدخوله

ص: 102


1- في « م » زيادة : « عنها ».
2- في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».
3- في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».
4- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.
5- في « ط » بدل « التفريح » : « التقريح ».

في المسمّى أيضا. لكنّه بعيد جدّا ، بل قطعيّ الفساد. وإن لم نقل بذلك - كما هو الحقّ - فالظاهر خروج الشرط عن المسمّى.

وأمّا ما يظهر من بعض الأدلّة الشرعيّة : من خروج الشرط بأقسامه عن المسمّى ، كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. ) .. الآية (1) ، وقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (2) وقوله : « لا تصلّ في النجس » (3) فغايته الاستعمال ، نظير الاستعمالات المتقدّمة بالنسبة إلى الأجزاء في أدلّة الأعمّي. وقد عرفت الجواب عنها.

فائدتان :

الاولى : يتوقّف تمييز الأجزاء عن الشرائط على مراجعة الأدلّة الشرعيّة.

وقد يقال : إنّ الشرط هو كلّ ما يتوقّف عليه تأثير العمل ، مثل الطهارة التي استفيد من قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (4) توقّف تأثير الصلاة عليها ، والجزء إنّما هو مطلوب في الفعل.

وظنّي أنّه غير مطّرد ولا منعكس - كما لا يخفى - بل المدار على استفادة اعتبار ذات الشيء في شيء فيكون جزءا ، أو تقييده فيكون شرطا.

وقد يشكل الأمر في موارد لتشابه الأدلّة وعدم وضوح المراد منها ، كما في دليل الفاتحة ودليل الوضوء.

ص: 103


1- الإسراء : 78.
2- المائدة : 6.
3- ورد هذا المضمون في أحاديث كثيرة ، انظر الوسائل 2 : 1059 - 1068 ، الباب 40 - 46 من أبواب النجاسات.
4- تقدّم تخريجه آنفا.

فمن موارد الإشكال : النيّة ، حيث إنّهم اختلفوا في كونها جزءا أو شرطا (1) ؛ لإمكان استفادة كلّ منهما من قوله : « لا عمل إلاّ بنيّة » (2). والظاهر أنّها شرط على تقدير كونها « الإخطار ». وعلى ما هو التحقيق من أنّها « الداعي » ، فلا يعقل كونها شرطا أو جزءا من العمل المنوي ؛ فإنّ غاية الشيء غير معتبرة فيه بوجه ، كما لا يخفى.

ومنها : الطمأنينة ، إلاّ أنّ الظاهر كونها جزءا ، لا شرطا ؛ إذ لو كانت شرطا ، فإمّا أن يكون شرطا للأجزاء السابقة أو اللاحقة ، ولا سبيل إليهما :

أمّا الأوّل ، فلانعدامها بالدخول في اللاحقة ، اللّهمّ إلاّ أن يكون الشرط تعقّب الأجزاء السابقة بها ، وهو خلاف الظاهر من اعتبار الطمأنينة بنفسها.

وأمّا الثاني ، فلعدم تحقّقها قبل الإيجاد ، وحديث التعقّب كما عرفته.

ومنها : الوضوء إلاّ أنّه لا إشكال في خروج أفعاله من الصلاة ، وأمّا الحالة الحاصلة منها فهي معتبرة في الصلاة على وجه الشرطيّة ، كما هو الظاهر من دليله.

الثانية : قد ذكروا للجزء والشرط ثمرات (3) :

منها : أنّ الشروط كلّها امور توصّلية ، لا يجب قصد التقرّب فيها والرياء لا يفسدها ، بخلاف الأجزاء ؛ فإنّ تعبّدية الكل كافية في كونها تعبّدية ، فلو دخلها الرياء تفسد. وفيه نظر.

ومنها : أنّ الأجزاء يجب تحصيلها بخلاف الشروط ، فإنّه يكفي حصولها ؛ ولعلّ الوجه فيها الثمرة الاولى.

ص: 104


1- انظر مفتاح الكرامة 2 : 319 ، والمدارك 3 : 308.
2- الوسائل 4 : 711 ، الباب الأوّل من أبواب النيّة ، الحديث 1 و 4.
3- انظر مفاتيح الاصول : 532 ، وضوابط الاصول : 333.

ومنها : جريان حكم الشكّ بعد تجاوز المحلّ في الأجزاء دون الشرائط ؛ إذ للأوّل محلّ مقرّر ، ولا محلّ للثاني ؛ لاعتباره في جميع الأجزاء.

وفيه : أنّ الشرط أيضا يمكن فرض محلّ له فيما إذا كان حاصلا بواسطة الأفعال الخارجة عن نفس الشرط ، كالوضوء ، فإنّ محلّه قبل الصلاة.

تذنيب

تذنيب (1)

قد عرفت فيما تقدّم خروج ألفاظ المعاملات التي لم يثبت فيها حقيقة شرعيّة عن النزاع المذكور. فالحقّ أنّها باقية على معانيها اللغويّة من دون تصرّف في نفس المعنى ، على وجه يصدق المعنى مع القيود المعتبرة شرعا في ترتّب الأثر في نظر الشارع عليها وبدونها أيضا.

وبهذا الوجه يمكن أن يقال : إنّها للأعم ، يعني أنّها صادقة مع القيد وبدونه.

وحيث إنّ ذات المعنى ممّا لا يختلف ، ويكون جميع ما هو معتبر في صدق مفهومها موجودا فيه ، يمكن أن يقال : إنّها موضوعة للصحيح ، كما في سائر الألفاظ العرفيّة والمعاني اللغويّة ، كما لا يخفى على من له خبرة بها.

هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه المسألة الشريفة المنيفة ، المشتملة على ما أفاده الاستاذ المحقّق والعالم المدقّق ، أنار اللّه برهانه ، متّعنا اللّه ببقائه ، بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، وسلّم تسليما كثيرا (2).

ص: 105


1- في « م » بدل « تذنيب » : « هداية ».
2- في « م » زيادة : قد فرغت من تسويد هذه النسخة الشريفة في شهر ذي الحجّة ويوم الأحد ، وأنا العبد المذنب محمّد بن حسين الخوئيني ، في سنة 1296 من الهجرة النبويّة ، عليه آلاف التحيّة.

ص: 106

الكلام في الإجزاء

اشارة

ص: 107

ص: 108

اختلفوا في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أولا؟ على قولين (1) ، ستعرف الحقّ منهما.

وقبل الخوض في المطلب ينبغي رسم امور :

الأوّل : الظاهر أنّ البحث هذا إنّما هو في اقتضاء الإتيان بالمأمور به عقلا الإجزاء ، فليس البحث من الأبحاث اللغويّة التي يطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعا أو انصرافا (2) ، فيعمّ البحث ما إذا كان الأمر مستفادا من الإجماع ونحوه من الأدلّة الغير اللفظيّة ، ويشهد لذلك ملاحظة أدلّة الطرفين.

قلت : ويمكن توجيه البحث على وجه يرجع إلى الأبحاث اللفظيّة ، كأن يقال : إنّ الماهيّات التي تقع موردا للأمر على قسمين : فتارة يكون الوجه الذي يدعو إلى طلبها والأمر بها على وجه لا يسقط بالإتيان بها دفعة واحدة ، واخرى على وجه يسقط عند الإتيان بها مرّة واحدة ، فيمكن أن يكون النزاع في أنّ هيئة الأمر هل هي موضوعة للطلب المتعلّق بالقسم الأوّل أو القسم الثاني؟

ويؤيّد ذلك ما قد تمسّك للقول بعدم الإجزاء بمثل الأمر بالزيارة والأمر بالصلاة بعد معلوميّة أنّ حسن الزيارة والصلاة ممّا لا يسقط بالإتيان بها مرّة ، ولكنّه مناف لظاهر لفظ « القضاء » أو « الإعادة » ونحوهما ممّا هو متداول في ألسنة أرباب القول بعدم الإجزاء ، كما حكي عن أبي هاشم وعبد الجبّار (3) ، على ما ستعرفه.

ص: 109


1- انظر تفصيل ذلك في مفاتيح الاصول : 126.
2- في « ط » بدل « انصرافا » : « غيره ».
3- حكاه عنهما العلاّمة في نهاية الوصول : 107.

وبالجملة : فما ذكرنا هو المناسب لبعض عناوينهم أيضا ؛ حيث إنّ بعضهم عنون البحث بأنّ الأمر هل يفيد الإجزاء أو لا؟ ولو كان البحث في الاقتضاء العقلي كان الوجه هو التعبير بما عرفته في العنوان ؛ فإنّ الإتيان بالمأمور به هو الذي يصلح لأن ينازع فيه أنّه يقتضي الإجزاء أو لا ، دون الأمر ؛ إذ لا شكّ في أنّ مجرّد الأمر لا يقتضي ذلك. ومع ذلك كلّه ، فالأقوى أنّ النزاع إنّما هو في الاقتضاء العقلي ، كما يظهر من الرجوع إلى الأدلّة (1).

الثاني : الإجزاء - لغة - معناه الكفاية (2) ، وفسّروه في المقام بوجهين :

أحدهما : كون الفعل المأتيّ به مسقطا للتعبّد به (3) مع قطع النظر عن إسقاط الإعادة والقضاء ، كما يؤيّده ما نقل من الاتّفاق على اقتضاء الإتيان بالمأمور به الإجزاء بهذا المعنى (4).

وثانيهما : إسقاط القضاء (5). والمراد من القضاء - على ما قيل (6) - هو مطلق التدارك أعم من الإعادة والقضاء ؛ إذ لو كان باقيا على ظاهره من فعل المأمور به

ص: 110


1- لم ترد عبارة « قلت : ويمكن - إلى - الرجوع إلى الأدلّة » في « ط ».
2- انظر مجمع البحرين 1 : 85 ، مادة « جزأ ».
3- فسّره به المحقّق في المعارج : 72 ، والعلاّمة في نهاية الوصول : 11 و 107 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 129.
4- انظر القوانين 1 : 130 ، وضوابط الاصول : 163 ، ومناهج الأحكام : 64.
5- فسّره به الفاضل النراقي في المناهج : 64 ، وحكاه المحقّق في المعارج : 72 عن القاضي ، وانظر الفصول : 116.
6- قاله في ضوابط الاصول : 163 ، وانظر القوانين 1 : 130 ، ومناهج الأحكام : 64.

خارج الوقت ، يكون عدم الإجزاء عبارة عمّا لا يسقط القضاء وإن أسقط الإعادة ، وهو باطل ؛ لأنّ ما لا يسقط القضاء لا يسقط الإعادة بطريق أولى.

ويمكن التأمّل فيما ذكر ؛ بعدم الملازمة - كما هو ظاهر - وإن لم يبعد دعواه بالنسبة إلى إرادة مطلق التدارك من القضاء في المقام.

والنسبة بين المعنيين عموم مطلق ؛ لأنّ ما يسقط القضاء يسقط التعبّد أيضا ، ولا عكس ، كما في الصلاة بالطهارة الاستصحابيّة ؛ فإنّ الإتيان بها موجب للامتثال - لأنّ الاستصحاب من الأدلّة الشرعيّة الظاهريّة - ولا يوجب سقوط القضاء ، على ما هو التحقيق عندنا ، كما ستعرف.

وقد يتوهّم : أنّ النسبة بين المعنيين عموم من وجه ؛ لأنّ ما يقع في الخارج فاسدا قد يصدق معه سقوط القضاء ولو بواسطة عدم مشروعيّة القضاء له في الشرع ، فليس كلّ ما يسقط القضاء يسقط التعبّد به (1).

إلاّ أنّه ظاهر الفساد ؛ ضرورة عدم استناد سقوط القضاء حينئذ إلى الإتيان بالفعل الفاسد ، بل استناده إنّما هو إلى عدم الجعل له (2) ، كما هو ظاهر لا سترة عليه ، سيّما بعد ملاحظة السقوط فيما لو ترك الواجب من أصل. نعم ، لو اريد من إسقاط القضاء إسقاط الإتيان بمثل الفعل المأتيّ به في الزمن الثاني على نحو التدارك ، كان إسقاط القضاء لازما مساويا لسقوط التعبّد ؛ ضرورة أنّ الإتيان بالصلاة مع الطهارة الاستصحابيّة يقتضي سقوط الإتيان بصلاة اخرى مع الطهارة المستصحبة ، وإن لم يقتض سقوط الإتيان بها مع الطهارة المائيّة.

ص: 111


1- « به » من « ع ».
2- لم يرد « له » في « ع ».

ثمّ إنّ المراد بالإجزاء في المقام (1) - كما ستعرف - هو المعنى الثاني. وعلى تقديره لا اختلاف بينهما إلاّ بحسب القيود المعتبرة في المعنى الاصطلاحي ، فيكون المعنى : أنّ الإتيان بالفعل المأمور به على وجهه هل يقتضي الكفاية عن الإتيان به ثانيا؟ ولا يفرق في ذلك بين كون المأتيّ به مماثلا للمأتي به أوّلا أو مغايرا له بزيادة شيء عليه ؛ لعدم اختلاف معنى الكفاية بذلك.

فما قد يتوهّم : من أنّ العلاقة في المماثلة هي الفرديّة وفي الثاني هي المشابهة ممّا لا وجه له ؛ إذ على ما عرفت لا يكون هناك مجاز في استعمال الإجزاء أصلا ، غاية ما في الباب اختلاف متعلّق لفظ « الإجزاء » على الوجهين ، ولا مدخل لاختلافه فيه.

فالظاهر أنّه لم يثبت لأهل الاصول في لفظ « الإجزاء » اصطلاح جديد ؛ وتفسيرهم له بإسقاط القضاء إنّما هو من باب بيان محصّل المراد ، لا أنّه يراد من لفظ « الإجزاء » خصوص إسقاط القضاء المترتّب عليه كون العلاقة المشابهة أو الفرديّة ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في عدم حاجة إرادة معنى آخر غير الكفاية من لفظ « الإجزاء » بالنسبة إلى المعنى الأوّل أيضا ؛ إذ المعنيّ من العنوان على ذلك التقدير ، هو أنّ الإتيان بالمأمور به هل يوجب الكفاية عن التعبّد به أم لا؟ فلا حاجة إلى اعتبار علاقة السببيّة بالنسبة إلى المعنى الأوّل (2) ؛ نظرا إلى أنّ إسقاط التعبّد به ليس هو الكفاية ، بل هو مسبّب عن الكفاية.

واعلم : أنّ المراد ب- « الوجه » في العنوان هو الإتيان بالمأمور به مشتملا على جميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا.

ص: 112


1- في « ع » بدل « في المقام » : « هنا ».
2- لم ترد عبارة « أيضا إذ المعنيّ - إلى - المعنى الأوّل » في « ع ».

وقد يتوهّم : أنّ المراد به هو « وجه الأمر » الموجود في ألسنة المتكلّمين : من نيّة الوجوب أو الندب.

ويزيّفه دخول كلمة « على » عليه ؛ إذ المناسب على ذلك التقدير هو دخول اللام.

وقد يتعسّف في دفع ذلك بالتزام تضمين الاشتمال في لفظ « الإتيان ».

وهو - مع ركاكته - لا يلائم عنوان بعضهم (1) : من أنّ الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي امر به هل يقتضي الإجزاء أو لا؟ إذ الظاهر رجوع الضمير المجرور في قولهم « به » إلى المأمور به. ومع ذلك كلّه فلا وجه لتخصيص ذلك بالذكر من بين الشرائط والأجزاء المعتبرة في المأمور به ، كما لا يخفى.

الثالث : قد يستشكل في الفرق بين ما عرفت من العنوان وبين إفادة الأمر التكرار أو المرّة ، ثمّ بينه وبين النزاع المعروف : من تبعيّة القضاء للأداء.

ووجه الإشكال في المقامين ، هو : أنّ القول بعدم الإجزاء عين القول بالتكرار ، وعين القول بتبعيّة القضاء للأداء.

والظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في الفرق بعد كمال وضوحه ؛ حيث إنّ الكلام في مسألة المرّة والتكرار إنّما هو في تشخيص مدلول الأمر : من الدلالة على المرّة أو التكرار أو عدم الدلالة على شيء منهما ، والكلام في المقام إنّما هو في أنّ الإتيان بمدلول الأمر على القول بالمرّة أو التكرار أو الماهيّة ، هل يقتضي الكفاية والإجزاء عن الإتيان به على الوجوه ثانيا (2) ، أو لا؟ فلا ربط بين المسألتين مفهوما ، وأمّا

ص: 113


1- كالشيخ الطوسي في العدّة 1 : 213.
2- ثانيا من « ط ».

مصداقا فقد يكون القول بعدم الإجزاء ملازما للقول بالتكرار فيما إذا قيل بأنّ عدم اقتضاء الأمر للإجزاء يقتضي الإتيان بالفعل مرّة بعد مرّة.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده في القوانين في الفرق بين القول بالتكرار والقول بعدم الإجزاء (1).

وأمّا ما أفاده في الفرق بين القول بالإجزاء والقول بالمرّة : من أنّ عدم الإتيان ثانيا على الأوّل مستند إلى عدم الدليل ، وعلى الثاني مستند إلى دلالة اللفظ ، فلا ينهض فرقا بين القول بالإجزاء والقول بالماهيّة ؛ إذ عدم الإتيان فيه أيضا بواسطة عدم الدليل.

وأمّا الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء فلا يكاد يخفى ؛ إذ من المعلوم أنّ المراد بالقضاء في المقام هو الإتيان بالفعل ثانيا سواء كان في الوقت أو في خارجه بعد الإتيان به أوّلا في الوقت ، والمراد منه في تلك المسألة هو الإتيان بالفعل الفائت في الوقت ، فما أبعد إحدى المسألتين من الاخرى.

الرابع : قد أشرنا إلى أنّ الإجزاء بمعنى سقوط التعبّد به ليس من محلّ الخلاف في شيء. وصرّح بذلك جماعة ، على ما قيل (2). وينبغي أن يكون كذلك ؛ إذ لا يعقل عدم سقوطه بعد الإتيان بالفعل مستجمعا لجميع ما هو معتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، فالقول بعدم سقوطه ملحق بأقوال أصحاب السوداء.

وأمّا الإجزاء بالمعنى الثاني : فإن اريد من القضاء (3) ما هو المعروف منه - كما

ص: 114


1- القوانين 1 : 131.
2- قاله صاحب الفصول في الفصول : 116.
3- في « ع » زيادة : « فيه ».

عرفت في الفرق المذكور آنفا - فلا ينبغي التأمّل في فساده وسقوطه ؛ فإنّ عنوان التدارك يستحيل حصوله بعد فرض وجود المتدارك على ما هو عليه في الواقع ، فلا يصحّ قيام الدليل على وجوب التدارك.

وإن اريد منه الإتيان بالفعل بعد الإتيان به مرّة اخرى ، فهذا يتصوّر على وجهين :

فتارة يكون المأتيّ به ثانيا عين المأتيّ به في المرّة الاولى (1).

وتارة يكون المأتيّ به ثانيا أكمل من المأتيّ به في المرّة الاولى.

وعلى التقديرين لا يستحيل أن يقع فيه النزاع (2).

وما يظهر من ملاحظة أدلّة القول بالإجزاء أنّ النزاع إنّما هو في القضاء بالمعنى الأوّل ؛ إذ لولاه لم يلزم من القول بعدم الإجزاء تحصيل الحاصل ، إذ لا استحالة في الإتيان بالفعل ثانيا على وجه العينيّة أو الأكمليّة.

وما يظهر من أدلّة النافين - من قضاء الصلاة مع الطهارة الاستصحابيّة - أنّ النزاع إنّما هو في الإتيان بالفرد الأكمل ؛ إذ لا شكّ أنّ الصلاة مع الطهارة المعلومة أكمل ، بل الظاهر من استدلالهم بوجوب قضاء الحجّ الفاسد مع الأمر بإتمامه هو وجود النزاع في الإتيان بالمثل أيضا.

وبالجملة : فلا يكاد يظهر وجه تطمئن به النفس في تشخيص محلّ الخلاف في المسألة ، وإن استظهر بعضهم (3) كون النزاع في القضاء بالمعنى الأوّل ، لكنّه قد عرفت عدم تحقّق عنوان القضاء بالمعنى المصطلح بعد فرض الإتيان بالمأمور به على وجهه.

ص: 115


1- في « م » زيادة : « فهذا لا يستحيل لو قام الدليل على وجوبه ».
2- لم ترد عبارة « وعلى التقديرين لا يستحيل أن يقع فيه النزاع » في « ع » و « م ».
3- هو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 131.

وأفسد من ذلك ما لو اريد التدارك على وجه يعمّ القضاء في خارج الوقت والإعادة فيه ؛ إذ الإعادة بالمعنى المعروف من لوازم نفس الأمر الأوّل ووجوده ، بخلاف القضاء ؛ إذ يحتمل ثبوته بالأمر الجديد دون الأمر الأوّل ، فالمفسدة اللازمة على القول بوجوب الإعادة من - خلاف الفرض - آكد منها على القول بوجوب القضاء.

والأولى صرف عنان البحث إلى ما هو أهمّ : من تحقيق مطلب النافين ، فنقول :

إنّ الأمر إمّا أن يكون واقعيّا أو ظاهريّا.

وعلى الأوّل : إمّا أن يكون ثابتا في حالة الاختيار أو واقعا في حالة الاضطرار.

وعلى الثاني : إمّا أن يكون عقليّا أو شرعيّا.

فهذه أقسام أربعة ، في بعضها يجب أن يكون الإتيان بالمأمور به مقتضيا للإجزاء ويمتنع عدمه ، وفي بعض آخر يمتنع اقتضاؤه الإجزاء ويجب عدمه ، وفي بعضها يمكن الاقتضاء وعدمه ، فتارة مع وقوع ذلك بواسطة قيام دليل على الإجزاء ، واخرى مع عدمه.

أمّا القسم الذي يجب اقتضاؤه الإجزاء ، فهو الأمر الواقعي الاختياري ، كالأمر بالصلاة في حالة الاختيار مع الطهارة المائيّة مستجمعا لجميع ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط ، فإنّه يجب اقتضاؤه الإجزاء ؛ إذ لو لم يقتض ، فإمّا أن يكون بواسطة خلل في المأتيّ به والمفروض خلافه ، أو بواسطة أمر آخر يقتضي الإتيان بالفعل ولو لم يكن بعنوان التدارك - إذ اقتضاء الأمر الأوّل لذلك ظاهر البطلان - وهو أيضا مفقود لا يصغى لمدّعيه لا عقلا ولا نقلا ، وعلى تقديره فليس من محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّه وجوب الإتيان به ثانيا ، كما نبّهنا عليه.

ص: 116

قلت : هذا بناء على ما حرّروه في المقام ، وأمّا بناء على ما احتملته من أنّ النزاع في مدلول الأمر ، فلا يتّجه ذلك ، بل لا بدّ من القول : بأنّ هيئة الأمر لا دليل على كونها موضوعة للطلب المتعلّق بماهيّة لا ينقطع حسنها بالإتيان بها مرّة ، وعند عدم الدليل يكتفى بالإتيان مرّة ؛ لعدم الدليل على الزائد ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في ما يجب فيه الإجزاء ؛ ولنقرّر الكلام في الأقسام الأخر في طيّ هدايات ، وهو الهادي.

ص: 117

ص: 118

هداية

قد عرفت حال الأمر الواقعي الاختياري.

وأمّا الأمر الواقعي الاضطراري - مثل الصلاة مع الطهارة الترابيّة ، أو الوضوء مع المسح على الخفّين عند الضرورة ، ونحو ذلك - فالحقّ فيه الإجزاء مع إمكان عدمه ، بمعنى : أنّ مقتضى القواعد الشرعيّة هو كفاية المأتيّ به في حال الضرورة عن الأمر الواقعي الاختياري بعد زوال الضرورة ، إلاّ أنّه لا دليل على امتناع طلب المأمور به ثانيا في حال الاختيار بعد ما زالت الضرورة ، تداركا للفعل الواقع أوّلا.

لا يقال : فعلى ذلك يمتنع اقتضاؤه الإجزاء ، كما هو ظاهر ، بعد ملاحظة تحقّق التدارك.

لأنّا نقول : لا إشكال في أنّ المأتيّ به في حال الضرورة أنقص منه في حال الاختيار ، والمدّعى هو كفاية الناقص عن الكامل ، ولا ضير في الأمر بالفعل ثانيا إحرازا للكامل ، ويصدق على الفرد الكامل لفظ « التدارك » من دون غائلة.

فلنا في المقام دعويان :

إحداهما : كفاية الناقص عن الكامل ، وإجزاء الفعل الواقع في حالة الاضطرار عنه في حالة الاختيار.

وثانيتهما : إمكان عدم الإجزاء.

أمّا الاولى منهما ، فنقول : لا إشكال في كفاية الأمر الاضطراري عند الإتيان بالمأمور به على وجهه عن نفس المأمور به في حال الاضطرار ، بمعنى

ص: 119

أنّه لا يجب الإتيان به ثانيا لعين ما تقدّم في الأمر الاختياري ، بل وذلك جار في القسمين الأخيرين أيضا ، كما ستعرف.

وأمّا كفايته عن الواقعي ، فتارة يقع الكلام بالنسبة إلى الإعادة ، واخرى بالنسبة إلى القضاء ؛ لعدم الملازمة بين حكمهما ، فإنّ الثاني يدور مدار الفوت.

وربما يتوهّم صدق الفوت في المقام ولو بالنسبة إلى الأمر الواقعي (1) ، إلاّ أن يدّعى الإجماع المركّب بين سقوط الإعادة وسقوط القضاء ، أو يدّعى الأولويّة بالنسبة إلى القضاء.

وكيف كان ، فيتّضح البحث في مقامين :

المقام الأوّل : في أنّ قضيّة القواعد الشرعيّة عدم وجوب الإعادة في الوقت ؛ لأنّ الواجب الموسّع هو القدر المشترك بين الأفعال الواقعة عن المكلّفين بحسب اختلاف تكاليفهم في موضوعات مختلفة ، فقوله : « أقيموا الصلاة » هو الواجب ، ويتخصّص للحاضر في ضمن أربع ركعات ، وللمسافر في ضمن ركعتين ، وللواجد للماء في ضمن الصلاة مع الطهارة المائيّة ، وللفاقد له في ضمنها مع الطهارة الترابيّة ، فيكون الأمر الواقعي الاضطراري أحد أفراد الواجب الموسّع ، ولا إشكال في أنّ الإتيان بفرد من الماهيّة يوجب سقوط الطلب بالنسبة إليها ، وبعد سقوط الطلب لا وجه لوجوب الإعادة.

وتوضيح ذلك : أنّ فاقد الماء - مثلا - إمّا أن يجوز له المسابقة إلى الصلاة مع رجاء الماء ، أو لا يجوز. لا كلام على الثاني وإن كان بطلانه يظهر من المقام أيضا. وعلى الأوّل ، فالمفروض بقاء الواجب الموسّع على توسعته ، ومقتضى ذلك هو الإذن في إيقاع الفعل في أيّ جزء من أجزاء الزمان ،

ص: 120


1- في « م » بدل « الأمر الواقعي » : « الواقع ».

فعند عدم الماء يكون التكليف بالنسبة إليه هو الصلاة مع الطهارة الترابيّة ، كما أنّ المسافر تكليفه القصر ، وبعد وقوع الفعل المكلّف به في الخارج لا وجه لطلبه ؛ لسقوط الطلب بوجود المطلوب.

وببيان آخر : أنّ ما دلّ على جواز الصلاة مع السعة ورجاء الماء منضمّا إلى دليل وجوب الصلاة مع وجدان الماء ، يدلّ على أنّ المكلّف مخيّر بين إيجاد مطلق الصلاة التي هي واجبة على نحو الاتّساع في ضمن الفردين ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بأحد أفراد الواجب المخيّر مسقط عن الإتيان بالفرد الآخر.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا يعقل الأمر بالإعادة لمجرّد الأمر بالصلاة ؛ لاستلزامه طلب الحاصل.

وبالجملة : فالنظر في الأوامر الشرعيّة الواردة في أنواع الصلاة بحسب اختلاف أحوال المكلّفين يعطي أنّ إيجاد نوع من تلك الأنواع يكفي عن التكليف المتعلّق بكلّي تلك الأنواع ، مضافا إلى الاصول العمليّة ؛ فإنّ قضيّة الاصول أيضا ذلك ، فإنّ بعد زوال العذر يرجع الشكّ إلى ثبوت التكليف ، والأصل براءة الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ما لم يقم دليل شرعيّ عليها.

ولا يصحّ الاستناد في مقام إثبات التكليف بإطلاق الأوامر وعموم الأدلّة ، كأن يقال : إنّ إطلاق ما دلّ على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة قاض بتحصيله في كلّ صلاة ، خرج من العموم - بواسطة دليل الضرورة - حالة الضرورة ، وإذا زالت لا بدّ من الرجوع إلى العموم والأخذ بأصالة عدم التخصيص ؛ لأنّ المقام من موارد استصحاب حكم المخصّص ؛ إذ ليس في المقام عموم زمانيّ على وجه يؤخذ كلّ زمان فردا للعامّ الزماني ، حتّى لو قيل بالتخصيص الزماني لزم عدم الأخذ بأصالة الحقيقة في العام.

ثمّ إنّ ما تقدّم من اعتبار القدر المشترك ، إنّما يلائم قول الأعمّي والصحيحي

ص: 121

في بعض الوجوه. وأمّا على المختار من وجوهه فلا بدّ في تقرير الدليل المذكور من تمحّل لا يخفى على الفطن (1).

المقام الثاني : في أنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي الاضطراري هل يجزي عن الإتيان به قضاء أولا؟

قد يقال : إنّ مقتضى عموم دليل القضاء هو عدم الإجزاء ؛ فإنّ ما يقضي بالقضاء ليس هو الأمر الأوّل ، بل قوله : « اقض ما فات » ونحوه من الأدلّة التي اقيمت عليه في مقامه ممّا يتوقّف صدقه على صدق الفوت ، وهو معلوم في المقام ؛ ضرورة عدم وصول المكلّف إلى المنفعة الحاصلة من الأمر الاختياري ، وفوات المصلحة المترتّبة على المأمور به الواقعي الأوّلي.

فإن قلت : إنّ فوت المصلحة إنّما هو فرع لأن يكون المكلّف في معرض الوصول إليه ، ومع عدم توجّه الخطاب الواقعي الاختياري إلى المكلّف ليس في معرض الوصول إليه ، فلا يصدق الفوت بالنسبة إليه.

قلت : لا نسلّم كونه تابعا للخطاب الفعلي ، بل يكفي فيه وجود المصلحة في الفعل مع كونه ممّن يصلح لأن يخاطب بإيجاده ؛ كما يشهد به ملاحظة ما عدّوه من أسباب القضاء : من الجنون والحيض والتعمّد والنوم والإغماء ، فإنّ أغلب تلك الأسباب ممّا لا يصلح (2) معها وجود الخطاب الفعلي ، فما هو الملاك في الأمر بالقضاء في تلك الأسباب موجود في المقام أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ مراتب الفوت متفاوتة مختلفة :

فتارة : يكون بسبب الترك العمدي بعد وجود الطلب الفعلي.

ص: 122


1- لم ترد عبارة « ثمّ إنّ ما تقدّم - إلى - على الفطن » في « ع » و « م ».
2- في « ع » بدل « يصلح » : « يصحّ ».

وثانيتها : أن يكون بواسطة وجود مانع عن إدراك تلك المصلحة ، كما في ذوي الأعذار الشرعيّة أو العقليّة ، كالإغماء والجنون والنوم ونحوها من السهو والنسيان.

وثالثتها : أن يكون بواسطة كون المكلّف أهلا لأن يتحصّل منه الفعل المشتمل على المصلحة ، كما في الحيض ، فإنّ المرأة أهل - ولو بحسب نوعها - لأن يوجد منها الصلاة - مثلا - أو الصوم.

لا إشكال في صدق الفوت على الاوليين.

وأمّا الثالث ، فالظاهر ذلك فيها أيضا ؛ كما يشهد به ما ورد في حقّ النساء :

من أنّهن « ناقصات العقول والحظّ والأديان » (1) وعلّل الأخير : بأنّها تمكث شطرا من دهرها لا تصلّي (2)(3).

وبالجملة : فالظاهر صدق الفوت في المقام ، بل يظهر من العلماء صدق الفوت مع عدم اجتماع شرائط التكليف وعدم الشأنيّة ؛ حيث إنّهم عدّوا عدم البلوغ والعقل من أسباب الفوت (4) ، فمقتضى عموم دليل القضاء وجوب القضاء وعدم الإجزاء بالنسبة إليه.

وعلى هذا فيمكن القول بعدم الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ؛ للإجماع المركّب بين وجوب القضاء ووجوب الإعادة ، بل وبالأولويّة القطعيّة.

ص: 123


1- نهج البلاغة : 105 - 106 ، الخطبة 80. وفيه : « إنّ النساء نواقص الإيمان ، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول ... ».
2- في « ط » : « ولا تصلّي ».
3- نهج البلاغة : 106 ، وفيه : « فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ ».
4- انظر المبسوط 1 : 125 ، والشرائع 1 : 120 ، وإرشاد الأذهان 1 : 270.

ولا يمكن القلب بأن يقال : إنّ قضيّة ما ذكرناه هو الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ، والإجماع المركّب منضمّا إلى الأولويّة يوجب الإجزاء بالنسبة إلى القضاء ؛ لأنّ ما يوجب القضاء - وهو عموم دليله - أقوى من دليل عدم (1) وجوب الإعادة.

هذا غاية ما يمكن الانتصار به للقول بوجوب القضاء.

لكنّك خبير بما فيه ؛ لعدم صدق الفوت بعد إحراز المصلحة المترتّبة على الفعل الاضطراري على وجه يوجب قضاء ذلك الفعل. وكونها أكمل من المصلحة المترتّبة على الاضطراري لا يوجب ذلك ؛ لعدم عموم في دليل القضاء ، فإنّ الموجود في كتب الرواية - على ما أفاده الاستاذ - ليس ما هو المشهور في الألسنة ، من قولهم (2) : « اقض ما فات كما فات » بل الموجود فيها قوله عليه السلام : « ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك » (3) ، ومن المعلوم عدم صدقه في المقام ، سيّما بعد ملاحظة وروده (4) في مقام بيان الكيفيّة. نعم ، يصدق الفوت بالنسبة إلى الزيادة المترتّبة على الفعل الاختياري ، ولا دلالة في الرواية على وجوب تدارك كلّ فائتة ، والمقدار المذكور ليس من الفرائض كما لا يخفى.

فظهر من جميع ما ذكرنا : أنّ قضيّة القواعد الشرعيّة هو الإجزاء. وهذه هي الدعوى الاولى.

ص: 124


1- في « ع » بدل « من دليل عدم » : « من عدم دليل ».
2- لم يرد « من قولهم » في « م ».
3- لم نعثر عليه بلفظه في المصادر الحديثيّة من الخاصّة والعامّة ، نعم ورد ما يقرب منه ، انظر عوالي اللآلي 3 : 107 ، الحديث 150 ، والوسائل 5 : 359 ، الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث الأوّل.
4- في « م » بدل « وروده » : « ما ورد ».

وأمّا الثانية - أعني إمكان عدم الإجزاء بواسطة ورود دليل على وجوب الإعادة - فلأنّه لا استحالة عقلا وشرعا وعرفا في أن يقول الآمر للفاقد للماء : متى قدرت على الماء فتطهّر ؛ إذ المفروض أكمليّة المصلحة الموجودة في الطهارة المائيّة ، فيصحّ الأمر بها إحرازا لها.

ودعوى عدم صدق الإعادة على مثل المفروض بعد كونه ممّا لا فائدة يتعلّق بإثباتها أو نفيها (1) - لظهور المراد بها في المقام - دعوى فاسدة ؛ إذ لا يراد من الإعادة إلاّ ما يكون تداركا وتلافيا للفعل الواقع أوّلا وإن لم يكن مستفادا من الأمر الأوّل ، وإن كان الظاهر من عنوان الإعادة ذلك ؛ ولذلك قلنا : بأنّ القول بوجوب الإعادة في الأمر الاختياري أفسد من القول بوجوب القضاء ، ولكنّه قد تستعمل في عرفهم في مجرّد التدارك ولو بأمر آخر (2) ، كما ترى في أمر الشارع بإعادة الصلاة مع الجماعة مع وقوعها فرادى (3) ، وغير ذلك من موارد الإعادة (4) ، كما هو ظاهر.

ص: 125


1- لم يرد « أو نفيها » في « م ».
2- في « ط » و « ع » زيادة : « أيضا ».
3- راجع الوسائل 5 : 455 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة.
4- راجع الوسائل 5 : 153 ، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف.

ص: 126

هداية

في أنّ الأمر الظاهري العقلي لا يقتضي الإجزاء ، بل يمتنع ذلك فيه.

وبيانه إجمالا : أنّ الإجزاء فرع الأمر والإتيان بالمأمور به بعد ذلك على ما يعتبر فيه من الامور الداخليّة والخارجيّة ، ومع انتفاء الأمر - كما في محلّ الكلام - يمتنع الإتيان بالمأمور به على أنّه مأمور به ، فلا يتحقّق الامتثال ، فيمتنع حصول الإجزاء والكفاية عن الإعادة والقضاء.

وتوضيح ذلك على وجه التفصيل : أنّ ما هو مسلّم من الأمر العقلي الظاهري ، كحكم العقل بوجوب الاحتياط ، أو حكمه بوجوب دفع الضرر الموهوم أو المظنون ، لا يعقل أن يكون محلاّ للكلام ؛ إذ البحث في الإجزاء وعدمه إنّما يعقل فيما إذا انكشف الخلاف ، وحكم العقل بوجوب الاحتياط أو دفع الضرر لا معنى لكشف الخلاف فيه ؛ فإنّ ذلك هو مجرّد إحراز الواقع ، فلا يتصوّر فيه المخالفة على تقدير وجود الأمر الواقعي ، وعلى تقدير عدمه فلا واقع حتّى ينكشف عدم مطابقة الاحتياط أو دفع الضرر له ، وذلك ظاهر جدّا.

بل الكلام في ذلك إنّما هو فيما لو قيل بالأمر الظاهري فيه ، كالعمل بالقطع عند عدم المطابقة ، والعمل عند السهو والنسيان ، وكالعمل بالظنّ - عند انسداد باب العلم - الحاصل من غير الطرق الشرعيّة.

والحقّ أنّه لا أمر في هذه الموارد :

أمّا الأوّل ، فلأنّ الحامل للقاطع على الإتيان بما تخيّله الواقع هو الأمر الواقعي بحسب معتقده ؛ إذ بعد قطعه بوجود الأمر الواقعي يحكم العقل بوجوب الخروج عن

ص: 127

عهدته وامتثاله. ولا فرق في ذلك بين مطابقة اعتقاده للواقع ومخالفته ، فإنّ ذلك أمر خارج عن إدراك المدرك. وكما أنّه ليس عند المطابقة أمر آخر غير الأمر الواقعي الذي يدعو إلى وجود المأمور به ، فكذا عند المخالفة ليس شيئا آخر ؛ والمفروض عدم الأمر واقعا ، فلا أمر عند المخالفة.

والسرّ في ذلك هو ما حقّقناه - في بحث حجّية القطع - : من أنّ القطع ليس إلاّ مرآة للواقع كاشفا عنه ، فلا يعقل تأثيره في ترتّب الأحكام المترتّبة على المعلوم (1) ، ولا مدخل له في متعلّقه ؛ فإنّه أمر يتفرّع وجوده (2) على وجوده ، فكيف يعقل تأثيره في متعلّقه! فلو كان موجودا كان العلم به واقعا ، وإلاّ (3) فالعلم لا يصير علّة لوجوده ، وذلك ظاهر.

فعند الجهل المركّب لا يكون إلاّ اعتقاد الأمر الغير المؤثّر في وجود الأمر ، ومن الواضح الجليّ عدم كون اعتقاد الأمر أمرا ، فلا وجه لتوهّم الإجزاء ؛ ضرورة توقّفه على وجود الأمر ، والمفروض عدمه في المقام.

وما يتوهّم : من حصول امتثال أوامر الإطاعة حينئذ ؛ حيث إنّه اعتقد كونه مأمورا به فامتثل أوامر الإطاعة ، مضافا إلى وجود حكم العقل بلزوم الإتيان بما اعتقده مأمورا به ، فممّا لا يجدي شيئا ؛ إذ المقصود بالإجزاء في المقام هو كفاية المأتيّ به حال المخالفة للمأمور به واقعا ، وامتثال أوامر الإطاعة ممّا لا مدخل له في سقوط ذلك الأمر الواقعي الذي لم يحم حوله المكلّف أبدا. وكذلك حكم العقل ؛ فإنّ حكمه موافق لأدلّة الإطاعة ، على أنّ الإطاعة الواقعيّة غير حاصلة قطعا ؛ إذ من

ص: 128


1- انظر فرائد الاصول 1 : 30.
2- لم يرد « وجوده » في « م ».
3- في « م » زيادة : « فلا ».

المعلوم في محلّه أنّ وجود موضوع الإطاعة وتحقّق ماهيّتها في الواقع موقوف على تحقّق الأمر ، وحيث إنّه لا أمر في الواقع فلا إطاعة في الواقع (1) ، غاية الأمر تخيّل المكلّف بحسب (2) معتقده وجود الإطاعة ، واعتقاده لو كان مؤثّرا في وجودها لكان الأمر المعتقد أيضا موجودا.

وبوجه آخر : أنّ من المعلوم توقّف الإجزاء على الأمر ، وقد عرفت أنّ الأمر إمّا واقعيّ أو ظاهري ، وعلى التقديرين إمّا عقليّ أو شرعي ، ولا خامس لهذه الأقسام الأربعة ، وشيء منها لا يوجد في مقام تخلّف الاعتقاد عن الواقع.

أمّا الأمر الواقعي الشرعي فلأنّ المفروض عدمه ، كالواقعيّ العقلي.

وأمّا الظاهري الشرعي فغير موجود ؛ إذ لا يعقل تكليف القاطع من حيث كونه جاهلا بالواقع على العمل بمعتقده ؛ لعدم احتماله خلاف الواقع ، فلا يمكن توجيه (3) هذا الخطاب إليه ، والخصم أيضا لا يقول به.

وأمّا الظاهري العقلي فلعدم تعقّل حكم العقل بكونه مكلّفا بالعمل بقطعه من حيث كونه جاهلا بالواقع ؛ إذ بعد قطعه بخلاف الواقع لا احتمال للواقع عنده ، فكيف يقال في حقّه ذلك. نعم ، العقلاء المطّلعون على حاله وعلى الواقع يحكمون بكونه جاهلا بالواقع ومعذوريّته بالنسبة إلى الواقع للزوم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا أوامر الإطاعة والنهي عن المعصية فتحقّقها موقوف على الأوامر الواقعيّة ، والمفروض (4) انتفاؤها.

ص: 129


1- في « ع » و « م » زيادة : « أيضا ».
2- في « م » بدل « بحسب » : « بسبب ».
3- في « م » : « توجّه ».
4- في « ع » زيادة : « في المقام ».

نعم يبقى في المقام عنوان « التجرّي » و « الانقياد » وهو أيضا لا يجدي شيئا ؛ إذ بعد تسليم وجوب الانقياد وحرمة التجرّي ، فهذا الفعل الذي ارتكبه الجاهل يصير حسنا أو قبيحا باعتبار كونه انقيادا أو تجرّيا مع قطع النظر عن الأوامر الواقعيّة ؛ فإنّ موضوع التجرّي والانقياد ممّا لا يتحقّق إلاّ بعد تخلّف الواقع - كما هو ظاهر - فإيجاد فعل يكون منشأ لانتزاع عنوان « الانقياد » ممّا لا يجدي في عنوان المأمور به الواقعي الذي لم يحم حوله المكلّف أبدا ، فالأمر به بعد العلم به باق بحاله ، والعقل الحامل على وجوب امتثال أوامر اللّه ورسوله (1) موجود ، فيحكم بوجوبه ، ولا مخلص عنه إلاّ بالامتثال. ولو قام دليل على عدم التكليف بعد الكشف لا بدّ من طرحه ؛ إذ ليس الكلام في الخارج عن الوقت. وأمّا في الوقت (2) فلا بدّ أن يحمل على النسخ أو حصول البداء أو غير ذلك من وجوه سقوط التكليف ، والكلّ باطل ؛ ولذلك قلنا بامتناع الإجزاء في المقام.

وأمّا الثاني (3) - يعني صورة النسيان - كما إذا نسى شيئا من أجزاء المركّب وأتى ببعض أجزائه ، فقضيّة القاعدة عدم الإجزاء فيما إذا كان الجزء من الأجزاء الواقعيّة لذلك المركّب.

وأمّا إذا كان التكليف بالإتيان بذلك الجزء مختصّا بحالة الذكر ، على وجه يكون المكلّف به هو المشترك بين حالة الذكر والذهول ، فمرجعه إلى الواقعيّ الاضطراري ، وهو - كما عرفت - يفيد الإجزاء ، ففيما إذا كان الجزء واقعيّا

ص: 130


1- في « ع » و « م » بدل « أوامر اللّه ورسوله » : « الأوامر الإلهيّة والنبويّة ».
2- في « م » : « وأمّا ما في الوقت ».
3- عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة 127.

والشرط كذلك وأتى المكلّف بالفعل من دون إتيانه ذلك يمتنع الإجزاء ؛ إذ لا أمر هناك أيضا لا واقعا ولا ظاهرا :

أمّا الأمر الواقعي فمعلوم العدم ؛ إذ المفروض تعلّقه بمركّب مشتمل على الجزء المنسي ، فليس ما عداه مأمورا به واقعا.

وأمّا الأمر الظاهري فلأنّ مرجعه - كما ستعرف - إلى بيان حكم لموضوع من حيث هو جاهل بالواقع ، كما في الأحكام المجعولة في موارد الاصول العمليّة - كالبراءة والاستصحاب - فإنّ المكلّف من حيث هو شاك بالواقع حكمه الأخذ بالحالة السابقة مثلا ، ومن المعلوم أنّ حكم موضوع من الموضوعات غير متوجّه إلى أحد إلاّ على تقدير التفاته بأنّه داخل في ذلك الموضوع ، فالغافل والناسي والساهي لو كان لها أحكام ظاهريّة من حيث عدم الوصول إلى الواقع ، لا تتوجّه تلك الأحكام إلى المكلّف إلاّ على تقدير التفاته - في حال السهو والنسيان والغفلة - بكونه ساهيا غافلا ناسيا ، ومن المعلوم بالضرورة فساد ذلك ؛ إذ على تقدير التفاته بالسهو والنسيان والغفلة يلتفت إلى الواقع (1) ، فإن علم به لا بدّ من الإتيان به ، وإلاّ فعليه الفحص ، ويخرج بذلك عن موضوع الساهي والناسي والغافل ، وذلك ظاهر جدّا. على أنّ العمل الصادر من المكلّف حال النسيان إنّما يعتقد فيه أنّه الواقع ، فعلى تقدير وجود الحكم الظاهري لذلك الموضوع وتعلّقه بالنسبة إليه ليس العمل الذي ارتكبه صادرا منه بذلك الاعتبار ، وهو واضح.

وأمّا الثالث (2) ، أعني صورة حصول الظنّ من الأمارات الغير المجعولة شرعا عند انسداد باب العلم - نظرا إلى استقلال العقل بكون الظنّ المطلق طريقا إلى الواقع

ص: 131


1- في « ع » و « م » زيادة : « أيضا ».
2- عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة 127.

منجعلا من دون حاجة إلى الجعل كما في العلم - فلأنّ الداعي إلى إيجاد الفعل والعمل في الخارج ليس إلاّ الأمر الواقعي الذي استكشفه العامل بالظنّ الذي ليس فيه شائبة (1) الموضوعيّة ، بل اعتباره حينئذ بمجرّد كشفه الظنّي عن الواقع ، وبعد كشف الخلاف يظهر أنّه كان لاغيا في العمل ، وإنّما كان متخيّلا لوجود الأمر ، والمفروض عدم تأثير تخيّله في وجود الأمر واقعا ، فلا أمر في الواقع ، فلا إجزاء ؛ ضرورة تفرّعه على الأمر. وذلك ظاهر بعد ما عرفت القول في ذلك عند القطع مع عدم المطابقة. وعنوان « التجرّي » و « الانقياد » قد عرفت عدم اتّجاه الاستناد إليه ، فتدبّر. واللّه الهادي.

ص: 132


1- في « ع » و « م » بدل « شائبة » : « شأنيّة ».

هداية في الأمر الظاهريّ الشرعي

وينبغي تمهيد مقدّمة في بيان المراد من الحكم الظاهري ، فنقول :

قد يطلق الحكم الظاهري في قبال الأحكام المستفادة من الأدلّة الاجتهاديّة ، كأخبار الآحاد ونحوها من الأمارات الكاشفة عن الأحكام الواقعيّة التي لا مدخل للعلم والجهل فيها ، وإن كان لغيرهما من الصفات واللواحق والطوارئ مدخل فيه ، كالصحّة والمرض والسفر والحضر وأمثالها. فتكون الأحكام الظاهرية مختصّة بموارد الاصول العمليّة : من البراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها.

وقد يطلق ويراد بها الأحكام المستفادة من الأمارات التي يحتاج في اعتبارها إلى جعل ، فيعمّ الأمارات الاجتهادية وغيرها من الاصول العمليّة.

فالمراد من الحكم الظاهري هو الوجوب المستفاد من الأدلّة التي يجب الأخذ به بواسطة ما دلّ على اعتبار ما دلّ على ذلك الوجوب ، من الخبر والأصل ونحوهما ، وإن كان ذلك الخبر مثلا ناظرا إلى الواقع ومبيّنا لما نزل به جبرئيل عليه السلام ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن ذلك البيان والكشف علميّا احتاج إلى دليل آخر يفيد اعتباره.

فلمثل هذه الأخبار جهتان : إحداهما : كونها ناظرة إلى الواقع ، والثانية : احتياجها إلى دليل الاعتبار ، فمن حيث إنّها كواشف عن الواقع يقيّد بالأحكام الواقعيّة الاجتهاديّة ، ومن حيث احتياجها إلى دليل الاعتبار يطلق على ما يستفاد منها : الأحكام الظاهريّة ، وهذا إنّما هو في مثل الأخبار.

ص: 133

وأمّا الاصول فلها جهة واحدة ؛ إذ لا كشف فيها جدّا ، وهو الوجه في تقديم الأدلّة الاجتهاديّة عليها مع اشتراكهما في كون الأحكام المستفادة منهما أحكاما ظاهريّة ، وليس المقام محلّ توضيحه.

وكيف كان ، فالمراد من الأحكام الظاهريّة في المقام ، هي : المحمولات الثابتة للموضوعات الواقعيّة باعتبار قيام أمارة عليها التي دلّت الأدلّة القطعيّة على وجوب العمل بها وترتّب الأثر عليها ، سواء كانت تلك الأمارة دليلا اجتهاديّا حكميّا كأخبار الآحاد ، أو موضوعيّا كالبيّنة ونحوها ، أم أصلا من الاصول ، سواء كان من الاصول المعمولة في الأحكام الكلّية الإلهيّة كالبراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها ، أم من الاصول (1) المعمولة في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الجزئيّة كأصالة الصحّة ، واليد ، والسوق ونحوها.

وإذ قد عرفت المراد من الحكم الظاهري في المقام ، فنقول :

الحقّ أنّ بعد كشف الخلاف في الأحكام الظاهريّة مع الإتيان بالمأمور به الظاهري لا إجزاء واقعا وإن أمكن الإجزاء ؛ فلنا في المقام دعويان ، يظهر وجه الثانية في ضمن بيان الاولى.

وتوضيحها يحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّ من المقرّر في مقامه (2) أنّ جعل الطرق المفيدة للأحكام الظاهريّة باعتبار وجوب العمل بمفادها مع إمكان التخلّف عن الواقع - بل وقوع التخلّف كثيرا - قبيح ما لم يشتمل سلوك ذلك الطريق على مصلحة زائدة أو مساوية لمصلحة الواقع ؛ لئلاّ يلزم تفويت المصلحة الواقعيّة ونقض الغرض في جعل الأحكام الواقعيّة.

ص: 134


1- في « م » زيادة : « الفقهيّة ».
2- انظر فرائد الاصول 1 : 108 - 124.

ووجه اللزوم لولاه ظاهر ، ونزيده توضيحا بملاحظة جواز الرجوع إلى البيّنة في تشخيص الوقت مع إمكان تحصيل العلم به بالإحساس وغيره من أسباب العلم ، فقضيّة اللطف الواجب على اللطيف الحكيم اشتمال ذلك الطريق على مصلحة متداركة لما هو الفائت - على تقدير التخلّف - كما أوضحنا ذلك في الردّ على « ابن قبة » (1) حين أنكر جواز العمل بالخبر (2).

وتلك المصلحة يمكن أن تكون على وجهين :

أحدهما : أن يكون تلك المصلحة في الموارد التي دلّ على حكمها تلك الطرق لا من حيث ذواتها ، بل من حيث قيام تلك الطرق عليها واستفادة أحكامها منها ، فيكون قيام تلك الأمارة ودلالتها على حكم موردها موجبا لحدوث مصلحة في ذلك المورد ، عدا ما فيه من المصلحة المقتضية لجعل الحكم الواقعي على طبقه ، وتلك المصلحة هي الداعية لجعل الشارع تلك الأمارة حجّة (3) في قبال مصلحة الواقع.

مثلا إذا دلّ الدليل على حرمة العصير العنبي ، فهذا الموضوع له مصلحتان : إحداهما : ما هي مكنونة فيه مع قطع النظر عن كونه مدلولا للأمارة التي اقتضت جعل الحكم الواقعي على طبقها من الحلية وجواز الأكل ونحوهما ، والثانية : ما يعتريه ويعرضه باعتبار كونه من موارد الأمارة الفلانيّة ، من مصلحة الحرمة وعدم جواز الأكل منه. ولازم ذلك تقييد الأدلّة الواقعيّة وتنويع ذلك الموضوع به ، فإنّه لا بدّ من القول بأنّ حلّية العصير فيما لم يكن أخبر العدل بحرمته ، فالعصير

ص: 135


1- هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي ، من متكلّمي الإماميّة ، وكان معتزليّا ، ثمّ تبصّر ، انظر رجال النجاشي : 375.
2- راجع فرائد الاصول 1 : 105 - 111.
3- في « ع » و « م » زيادة : « حينئذ ».

فيما إذا طرأ له كونه ممّا أخبر العدل بحرمته يغايره فيما إذا لم يخبر العدل بحرمته ، فهو إذن نوعان ، فالحكمان إنّما هما واردان على موضوعين ، كالحاضر والمسافر والصحيح والمريض.

وتسمية مثل ذلك حكما ظاهريّا إنّما هو من مجرّد الاصطلاح الذي لا مشاحّة فيه ، وإلاّ فهو حكم واقعيّ في موضوعه ؛ إذ لا حكم في الواقع لذلك الموضوع إلاّ ذلك ، فيلزم التصويب على ذلك التقدير (1) ، ووجه اللزوم ظاهر.

والثاني : أن يكون ذلك الطريق على وجه لا يوجب وجود مصلحة متداركة لمصلحة الواقع - على تقدير التخلّف - في مورده ومتعلّقه ، ولا يصير منشأ لحدوث (2) المصلحة في مدلوله من حيث دلالته عليه ، فلا بدّ من أن يكون المصلحة في جعله طريقا ، من غير أن تسري تلك المصلحة إلى الموارد التي دلّت تلك الطرق عليها ، وإلاّ لزم تحليل الحرام وتحريم الحلال من دون ما يقضي بذلك ، وهو قبيح ، كما عليه المانع من العمل بالطريق الظنّي.

وتوضيح الفرق بين الوجهين ، هو : أنّ المصلحة على الأوّل إنّما هي في الموضوعات التي يدلّ عليها الطرق الظنّية ، وعلى الثاني إنّما هي في جعلها طرقا إلى الواقع ووجوب الأخذ بمداليلها على أنّها هي الواقع ، فليس فيها إلغاء الواقع ، بل هو عين مراعاة الواقع بجعل الطريق إليه. ففيما إذا لم يخالف تلك الطرق عن الواقع فلا إشكال ، وعند التخلّف يكون مداليلها واقعيّا جعليّا ، لا لوجود المصلحة في نفس المدلول حتّى يكون من هذه الجهة في عرض الواقع وإن كان من جهة اخرى مرتّبا عليه - كما لا يخفى - بل لاقتضاء الحكمة والمصلحة نفس (3) الجعل والتنزيل الذي

ص: 136


1- لم يرد « التقدير » في « م ».
2- في « ع » زيادة : « تلك ».
3- في « ع » و « م » بدل « والمصلحة نفس » : « وجود المصلحة في نفس ».

يقضي بوجوب الأخذ به في مقام الظاهر وترتيب الآثار الواقعيّة على مداليلها ، كما هو ظاهر. ولازم ذلك هو بقاء الأحكام الواقعيّة وعدم تقييدها ، فهي إذن بالنسبة إلى العالم والجاهل سواء. ولا يفرق وجود الأمارة وعدمها في الأحكام الواقعيّة المتعلّقة بالموضوعات الواقعيّة (1) من غير تقييد فيها. نعم ، ما يدلّ على ذلك الجعل - من أدلّة حجّية تلك الأمارات - حاكمة على أدلّة (2) الواقع ، بمعنى تنزيل مداليل تلك الطرق منزلة الواقع ، ووجوب الأخذ بها على أنّها الواقع ، ولزوم ترتيب آثار الواقع عليها.

وإذ قد عرفت هذين الوجهين والفرق بينهما ، فاعلم أنّ لازم الوجه الأوّل هو الإجزاء وعدم لزوم الإعادة فيما لو انكشف الخلاف في الوقت - نظير ما مرّ القول فيه (3) في الواقعي الاضطراري - لما عرفت : من أنّ لازمه تقييد أدلّة الواقع وتنويع موضوعاتها - كالمسافر والحاضر - فيكون المكلّف به هو أحد الأمرين ؛ لما قرّر في محلّه : من أنّه لو تساوى شيئان في المصلحة فلا وجه للتكليف بأحدهما على وجه التعيين.

ولا معنى لبقاء التكليف بعد الإتيان بأحد الأبدال في الواجبات التخييريّة - كالخصال (4) - بل ومن المعلوم أولويّة المقام من الأمر الاضطراري ؛ لما مرّ : من أنّ المصلحة المترتّبة على الناقص ربما يكون غير مساوية للمصلحة المترتّبة على الكامل ، فلا مانع من أن يأمر به الحكيم تحصيلا للمصلحة الكاملة بعد زوال العذر

ص: 137


1- لم يرد « المتعلّقة بالموضوعات الواقعيّة » في « م ».
2- لم يرد « أدلّة » في « ع ».
3- في « ع » بدل « مرّ القول فيه » : « هو القول ».
4- لم يرد « كالخصال » في « ط ».

والاضطرار ، والمفروض في المقام هو مساواة المصلحة المترتّبة على الفعل من جهة ملاحظة نفسه ومن حيث (1) قيام الأمارة عليه ، وبعد فرض التساوي لا وجه للأمر ؛ لامتناع طلب الحاصل.

وبالجملة : بعد ملاحظة ما دلّ على كون العالم مكلّفا بالواقع ، والجاهل بما أدّى إليه الطريق كما هو المفروض ، مع كون الوقت موسّعا ، كما هو مفروض المقام - لعدم تعقّل الإعادة على تقدير عدم التوسعة - مع ملاحظة ما دلّ على الترخيص في إيجاد الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت الموسّع ، يفهم منه أنّ المكلّف به هو القدر المشترك بين مؤدّى الطريق والواقع ، وأنّ المكلّف مخيّر بينهما على حسب أجزاء الزمان ، وعلى حسب ما يطرأ له من حالاته علما وجهلا وحضرا وسفرا إلى غير ذلك. وقد عرفت مرارا أنّ الإتيان بالفرد مسقط عن التكليف بالقدر المشترك ، فلا وجه للقول بالإعادة على ذلك التقدير ، إلاّ أنّ الكلام في نفس التقدير ، كما سيجيء.

ولازم الوجه الثاني هو وجوب الإعادة وعدم الإجزاء عند كشف الخلاف ؛ إذ المفروض عدم تقييد الواقع وبقاء الأحكام الواقعيّة بحالها وعدم اختلافها بالعلم والجهل وعدم تغيّرها بوجود الأمارة المتخلّفة وعدمها ، فقضيّة ما دلّ على وجوب الخروج عن عهدة التكاليف الواقعيّة - بعد العلم بها من العقل والنقل - هو لزوم الإتيان بالواقع ووجوب امتثال أوامره ونواهيه.

فإن قلت : إنّ وجود الأمارة وإن لم يوجب حدوث المصلحة في موردها - على ما مرّ في الوجه الأوّل - إلاّ أنّه لا بدّ من أن يكون جعلها حجّة وأمارة مشتملا على مصلحة مساوية لمصلحة الواقع عند التخلّف عنه ، وإلاّ لزم تفويت المصلحة الواقعيّة من غير تدارك لها. وبعد الأخذ بالأمارة والعمل بمدلولها قد حاز المكلّف ما يساوي مصلحة الواقع ، فيكون ذلك الأخذ في مرتبة العمل بالواقع ، وقد قرّر في

ص: 138


1- في « ع » بدل « حيث » : « جهة ».

مقامه أنّ العمل بما يشتمل على مصلحة شيء مجز عن ذلك الشيء ، فلا بدّ أن يكون الأخذ بالأمارة مجزيا عن الواقع.

قلت : إنّ ما ذكرنا إنّما يجدي فيما لم ينكشف الخلاف ، وأمّا بعد انكشافه في الوقت ، فلا ينبغي الإشكال في عدم اشتمال الأمارة على مصلحة الفعل ؛ إذ بعد العلم بوجوب الواقع واشتماله على المصلحة ، لا يلزم تفويت المصلحة منه تعالى ، وذلك ظاهر. نعم ، لو فرض ترتّب فائدة على وقوع الفعل في الزمان الذي وقع فيه على حسب دلالة الأمر - مثل المسارعة في العمل - فمقتضى الحكمة واللطف هو ترتّب تلك الفائدة على الأخذ بالأمارة ؛ فإنّ تفويت تلك الفائدة مستند إلى اللّه حيث جعل تلك الأمارة حجّة.

وينبغي أن يعلم أنّ ما ذكرنا لا يجري فيما لو كان هناك حكم مترتّب على العلم ؛ فإنّه لا بدّ من القول بالإجزاء فيه ، لأنّ موضوع ذلك الحكم واقع في الواقع ، فلا وجه لعدم ترتّبه عليه.

فلو دلّ الخبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة ، وامتثلها المكلّف ، ثمّ أتى بالنافلة المبتدأة اتّكالا على فراغ ذمّته عن الواجب - بمقتضى الخبر - فانكشف الخلاف ، بأنّ الواجب عليه في الواقع هو الظهر دون الجمعة ، فهنا امور : أحدها : وجوب إعادة الصلاة ظهرا ، وثانيها : لزوم ترتّب فائدة التعجيل والمسارعة - التي لم يبق محلّها بعد الكشف - على العمل بالأمارة ، وثالثها : صحّة النافلة المبتدأة فيما لو قلنا بأنّ صحّتها متفرّعة على العلم بعدم اشتغال الذمّة بالفريضة ، كما قد يستظهر ذلك من كلمة « الاستعلاء » في قوله : « لا تطوّع لمن عليه الفريضة » (1) وأمّا لو قلنا بأنّ صحّتها موقوفة على عدم اشتغال الذمّة واقعا بالفريضة ، فلا وجه للقول بالصحّة حينئذ.

ص: 139


1- المستدرك 3 : 144 ، الباب 28 من أبواب المواقيت ، الحديث 2.

ونظير ذلك : إذا صلّى الإمام في الثوب النجس تعويلا على أصالة الطهارة ، فصحّة صلاة المأموم يحتمل تفرّعها على علم الإمام بصحّة صلاته ، ويحتمل تفرّعها على صحّتها في الواقع ، فعلى الأوّل لا وجه للإعادة مطلقا ؛ لحصول ما هو الوجه في الصحّة واقعا ، وعلى الثاني لا بدّ من القول بالإعادة إذا لم نقل بأنّ الصلاة في الثوب النجس تعويلا على استصحاب الطهارة صحيحة في الواقع بحيث لا يجب إعادتها لو انكشف نجاسته في الوقت ، وأمّا إذا قلنا بذلك فتصحّ صلاة المأموم قطعا ؛ لأنّ شرط صحّة الاقتداء صحّة صلاة الإمام واقعا ، وهي حاصلة على هذا. ولذا فرّع العلاّمة صحّة صلاة المأموم في الفرض على ذلك (1).

وبالجملة : فكلّ ما كان من آثار العلم بالواقع فهو مترتّب على العمل بالأمارة ، وكلّ ما هو من آثار الواقع فلا وجه لترتّبه على العمل بعد الكشف.

وهذا هو المراد من القول بإمكان الإجزاء في صورة التخلّف في الأحكام الظاهريّة الشرعيّة ، إلاّ أنّ ذلك غير خال عن المسامحة.

وأمّا تمييز ذلك ومعرفة أنّ الحكم من الأحكام المتفرّعة على العلم أو من الآثار المترتّبة على الواقع ، فلا بدّ في ذلك من الرجوع إلى ما يفيد ذلك الحكم من الأدلّة ، فإن استظهرنا من الدليل تفرّعه على العلم فيحكم بالإجزاء ، وإن استكشفنا منه ترتّبه على الواقع فلا وجه للقول بالإجزاء. وذلك كلّه ظاهر.

إنّما الإشكال في أنّ جعل الطرق الظاهريّة ، على أيّ وجه من الوجهين المعلومين؟ فنقول : إنّ الظاهر هو الوجه الثاني ؛ فإنّ مقتضى الأدلّة الدالّة على حجّية تلك الطرق هو مراعاة الواقع ، فلا تكون هذه الأمارات في عرض الواقع ، بل المستفاد منها أنّها طرق إليه عند الجهل ، إمّا مطلقا من دون تقييدها بالفحص

ص: 140


1- انظر قواعد الأحكام 1 : 318.

وعدمه ، كما في الأمارات المعمولة في الموضوعات - مثل الاستصحاب واليد والسوق ونحوها - وإمّا مع الفحص ، كما في الأمارات المعمولة في الأحكام ؛ كما يرشدك إلى ذلك ملاحظة أدلّة الاصول العمليّة ، كقوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام ... إلى آخره » (1) وغير ذلك ، فإنّ المستفاد منها هو وجود الحرام الواقعي مع قطع النظر عن العلم والجهل ، وأنّ الشارع جعل في موارد الاصول أحكاما كلّية في مقام العلاج.

ويظهر ذلك - غاية الظهور - من ملاحظة الأخبار الواردة في حجّية الأخبار الموثوق بها (2) ، وملاحظة الأخبار الواردة في مقام علاج الأخبار المتعارضة (3) ، وملاحظة كلمات العلماء في الأبواب الفقهيّة والقوانين الاصوليّة وغيرها.

ويكفيك شاهدا في المقام الإجماع على حسن الاحتياط في الموارد التي قامت فيها الطرق الشرعيّة والأخبار الآمرة على وجه الإرشاد بالأخذ بما هو الحائط (4) ، والنهي عن ارتكاب الشبهات (5) ، والاجتناب عمّا لم يعلم (6).

ص: 141


1- الوسائل 12 : 60 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.
2- انظر الوسائل 18 : الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 27 ، 33 و 40 ، والكافي 1 : 330 ، الحديث الأوّل.
3- انظر الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، والمستدرك 17 : 303 ، الحديث 2.
4- الوسائل 18 : 111 ، الحديث 1 و 54 و 58.
5- الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، والصفحة 111 ، الباب 12 من الأبواب ، الحديث 2 ، 15 ، 43 و 50.
6- الوسائل 18 : 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20 و 27 ، والباب 4 من الأبواب ، الحديث 14.

والوجه في ذلك كلّه ظاهر ؛ إذ لو لا أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة عند الجهل والعلم ، لوجب أن يكون بدل قوله : « حتّى تعرف الحرام » ، « حتّى يصير حراما بالمعرفة » ومن هنا قلنا : بأنّ مقتضى تلك الأخبار هو وجوب الاجتناب عن الحرام المعلوم إجمالا في أطراف الشبهة المحصورة.

وأظهر من ذلك قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (1) فإنّ القذارة أمر لا مدخل للعلم والجهل فيها وتكون ثابتة على التقديرين ، غاية الأمر جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك من حيث هو مشكوك الطهارة ، لا أنّ موارد الشكّ طاهرة في الواقع بواسطة الاصول المعمولة فيها.

وما ذكرنا غير خفيّ على المتتبّع الماهر ، سيّما بعد ملاحظة وجوب الفحص والسؤال عن الأحكام الواقعيّة ؛ إذ المكلّف يمتنع خلوّه عن موارد الاصول العمليّة ، وعلى أيّ تقدير يصل إليه ما يساوي الأحكام الواقعيّة المجعولة على طبق الصفات الكامنة (2) من جهة المصلحة ، ومن المعلوم أنّ وصول ما يساوي لمصلحة الشيء يوجب سقوط ذلك الشيء ، وقضيّة ذلك عدم وجوب الفحص والسؤال - كما قلنا - مع أنّه مأمور به في جملة من الروايات (3) ، بل وهو ممّا اتّفقت عليه كلمة أصحاب التخطئة (4).

ص: 142


1- الوسائل 2 : 1054 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 4 ، وفيه : « كلّ شيء نظيف ... ».
2- في « ع » بدل « الكامنة » : « الكائنة ».
3- انظر الكافي 1 : 40 ، باب سؤال العالم ، الحديث 2 و 5 ، والوسائل 2 : 967 ، الباب 5 من أبواب التيمّم ، الحديث 1 و 6 ، وانظر فرائد الاصول 2 : 412 - 413.
4- لم ترد عبارة : « بل وهو ممّا اتّفقت عليه كلمات أصحاب التخطئة » في « ع » و « م ».

وبما ذكرنا يظهر اندفاع ما عسى أن (1) يتوهّم : من أنّ وجود المصلحة في موارد الطرق لا ينافي وجوب الفحص عن الأحكام الواقعيّة ؛ لإمكان اشتراط وجودها بالفحص.

ووجه الاندفاع : أنّه لا وجه لذلك الاشتراط بعد عدم الاعتناء بالواقع ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد عرفت فيما تقدّم : أنّ لازم الطريقيّة هو عدم الإجزاء ، ولازم الموضوعيّة هو الإجزاء.

وقد ظهر بذلك وجه القول المختار : من عدم الإجزاء في الأوامر الظاهريّة الشرعيّة عند التخلّف عن الواقع فيما إذا كان الوقت باقيا ؛ لبقاء الأوامر الواقعيّة بحالها ، والطريق بعد تخلّفه عن الواقع وانكشاف ذلك في الوقت ممّا لا دليل على اشتماله على مصلحة متداركة ، فإنّ قضيّة اللطف ونقض الغرض في التكاليف الواقعيّة لا تزيد على التزام وجود المصلحة في جعل الأمارة حجّة فيما إذا لم ينكشف الخلاف مع عدم المطابقة واقعا ، وأمّا مع انكشاف الخلاف فلا دليل على وجود المصلحة في الطريق ؛ إذ المفروض بقاء الوقت ، ولا حاجة إلى تكليف جديد ، فيكفي في تحصيل المصلحة وجود الأمر الواقعي المعلوم - كما هو المفروض - فلا يلزم تفويت منه ، كما أنّه لا دليل على ذلك مع المطابقة.

هذا كلّه مع إمكان الوصول إلى الواقع.

وأمّا مع تعذّره - كما في صورة الانسداد - فجعل الطريق لا دليل على اشتماله على المصلحة ؛ إذ يكفي في جعل الطريق وكونه حسنا كونه مطابقا للواقع في الأغلب ، فعند التخلّف عن الواقع من دون الكشف أيضا لا دليل على وجود المصلحة في العمل بالطريق ؛ لعدم استناد التفويت إليه تعالى ، فلا يلزم خلاف اللطف.

ص: 143


1- لم يرد « عسى أن » في « ع » و « م ».

ومن هنا ذكرنا في مباحث الظنّ : أنّ كلام المانع من العمل بالخبر (1) الظنّي لو اختصّ بصورة الانفتاح فله وجه (2) ، ولا بدّ في دفعه من التزام وجود المصلحة في الطريق على وجه يساوي مصلحة الواقع عند التخلّف - كما عرفت في الوجهين السابقين - وإنّ عمّ كلامه صورة الانسداد فلا وجه له ؛ إذ المفروض عدم إمكان الوصول إلى الواقع ، فيكفي في الجعل كون المجعول غالب المطابقة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإعادة ، فإنّ قضيّة القواعد عدم الإجزاء عنها ، ولا بدّ من الإعادة عند الكشف القطعي ، مضافا إلى دعوى الإجماع في ذلك عن كاشف الغطاء (3) ، ولعلّه الظاهر.

وأمّا القضاء ، فإن قلنا بأنّه تابع للأمر الأوّل من دون حاجة إلى بيان زائد عليه ، فلا إشكال في وجوبه أيضا ؛ لأنّه حينئذ كالإعادة ، غاية الأمر أنّ المكلّف بواسطة التأخير آثم عند العلم ، وبدونه لا بدّ من التدارك عند الانفتاح - كما عرفت - ولكنّه لم يسقط عنه الواجب.

وكذا لو قلنا بأنّ أدلّة « القضاء » قرينة عامّة على بقاء الأمر الأوّل (4) بعد الوقت ، كما أنّ أدلّة « الميسور » حاكمة على أدلّة المركّبات الشرعيّة ؛ إذ لا ينبغي الإشكال حينئذ في وجوب القضاء ، إذ على تقدير بقاء الأمر الأوّل لا يلزم التفويت منه تعالى ، إلاّ أنّه يلزم التدارك فيما لا يصل إليه المكلّف من إيقاع الفعل في الوقت تعويلا على الطريق واتّكالا على الأمارة.

ص: 144


1- في « ع » زيادة : « الواحد ».
2- راجع فرائد الاصول 1 : 108 - 110.
3- لم نعثر عليه حسب تتبّعنا.
4- لم يرد « الأوّل » في « ع » و « م ».

وأمّا لو قلنا بأنّ أدلّة « القضاء » إنشاء أمر جديد من دون أن تكون حاكمة على أدلّة الواجبات الموقّتة - كما هو الظاهر من لفظ « الفوت » المأخوذ في تلك الأدلّة - :

فيحتمل القول بالإجزاء ؛ إذ الفوت إنّما يصدق مع عدم وصول المصلحة والمنفعة إلى المكلّف ، وحيث إنّ ترك الواقع في المقام مستند إلى الاعتماد على الأمارة والركون إليها ، فيجب التدارك منه تعالى وإيصال المصلحة إلى العبد ، ومع ذلك فلا فوت.

ويحتمل القول بعدم الإجزاء ؛ فإنّ وجوب القضاء مستند إلى أمر جديد دائر مدار ترك المأمور به واقعا ، وذلك معلوم فيما نحن بصدده. وأمّا حديث إيصال المصلحة إلى العبد - فبعد صدق الترك الموجب لوجوب القضاء لأجل (1) تدارك المتروك - فلا دليل عليه.

وممّا ذكرنا يتّضح فساد القول بالإجزاء في الأوامر الظاهريّة الشرعيّة.

وأوضح فسادا من ذلك ما قد يتراءى (2) من البعض في المباحث الفقهيّة (3) من الاحتجاج على ذلك :

تارة : بأصالة البراءة عن حكم آخر.

واخرى : باستصحاب عدم وجوب الإعادة ، مضافا إلى المنع من شمول أدلّة الأحكام الواقعيّة للجاهل العامل بالطرق الشرعيّة ، مستندا في ذلك إلى اختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين ، والإجماع على الاشتراك - بعد وجود الخلاف في الإجزاء وعدمه - غير موجود.

ص: 145


1- كذا صحّحنا ، وفي « ط » بدل « لأجل » : « لأصل » ، وفي « م » : « لا قصد ».
2- في « ع » و « م » بدل « يتراءى » : « ترى ».
3- لم يرد « المباحث الفقهيّة » في « م ».

وتارة اخرى : بدعوى بدليّة الأحكام الظاهريّة عن الأحكام الواقعيّة.

والكلّ ممّا لا ينبغي الركون إليه :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه بعد الانكشاف ووجود الأمر الواقعي لا وجه لأصالة البراءة.

وأمّا الاستصحاب ، فلا مجرى له في المقام ؛ لأنّ الشكّ في وجوب الإعادة بعد الكشف ممّا لا يقين له أوّلا ، والمتيقّن من جهة الأمر الظاهري متيقّن بعد الكشف ، إذ لا إشكال في عدم (1) وجوب الإعادة بالنسبة إلى الأمر الظاهري. وأمّا المنع المذكور فممّا لا يصغى إليه ؛ إذ قد قامت البراهين القطعيّة على ثبوت التكاليف الواقعيّة من غير تعليق على العلم والجهل ، غاية الأمر عدم العقاب مع المعذوريّة ، إذ ليس العقاب من آثار نفس التكاليف الواقعيّة ، بل هو من لوازم المخالفة التي لا يتحقّق موضوعها بدون العلم ، فالمقدّمة الممنوعة ممّا قد استدلّ عليها فلا يتوجّه إليها المنع ، فلا بدّ من دعوى المسقط كما في الدعوى الأخيرة : من بدليّة الأحكام الظاهريّة.

وبعد ما عرفت : من أنّ النظر فيما يفيد اعتبار تلك الطرق ، يعطي كونها طرقا إلى الواقع من دون مداخلة (2) لها فيه ، فلا وجه لتلك الدعوى أيضا.

ومن هنا يتطرّق النظر في ما أفاده المحقّق القمّي (3) : من بناء المسألة على كون الحكم الظاهري بدلا عن الواقعي (4) على وجه الإطلاق أو ما لم ينكشف الخلاف ؛ إذ لا وجه للقول بالبدليّة ، وعلى تقديره فلا معنى للترديد في كونه بدلا على وجه

ص: 146


1- لم يرد « عدم » في « م ».
2- في « ع » و « م » بدل « مداخلة » : « مدخليّة ».
3- انظر القوانين 1 : 130.
4- في « ط » بدل « الواقعي » : « الواقع ».

الإطلاق ، فإنّ قضيّة البدليّة - كما عرفت في الواقعي الاضطراري - هو السقوط ؛ لرجوعه إلى فعل أحد الأبدال ، كما في الواجب التخييري. كما أنّه لا ينبغي الترديد (1) في عدم السقوط على القول بعدم البدليّة وكون الأمارات طرقا صرفة (2) من دون شائبة (3) الموضوعيّة على تقدير الكشف.

هذا كلّه بالنسبة إلى مسألة الإجزاء في الأمر الظاهري وعدمه ، إلاّ أنّ القول باشتمال جعل الطريق للمصلحة المساوية للمصلحة الكامنة يستلزم محذورا بحسب الظاهر ، وهو محذور التصويب وتعدّد الأحكام الواقعيّة.

وبيان ذلك : أنّا لمّا قلنا بأنّ الواجب على الحكيم بواسطة العدل والحكمة إيصال المصلحة الواقعيّة إلى العبد عند تخلّف ما جعله طريقا إلى الواقع عنه ، فيكون الأخذ بالطريق والعمل به عند عدم المطابقة وعدم (4) ظهور الخلاف في الوقت أو مطلقا - بناء على لزوم القضاء إذا انكشف في خارج الوقت أيضا على ما عرفت - مشتملا على مصلحة الواقع ، فيكون أحد الأبدال للواجب الواقعي ؛ لما أرسله المتكلّمون : من أنّ كلّ فعل يشتمل على مثل مصلحة الواجب يكون أيضا واجبا.

ويستتبع ذلك عدم حسن الاحتياط فيما إذا قامت الأمارات الشرعيّة ، إذ بعد اشتمال الأخذ بالطريق على مثل مصلحة الواقع لا حسن في الاحتياط ، وذلك ظاهر.

إلاّ أن يقال : إنّ حسن الاحتياط لا يزول بواسطة اشتمال الطريق على مصلحة الواقع ؛ فإنّ ذلك غير معلوم ، إذ يحتمل انكشاف الخلاف في الوقت أو في

ص: 147


1- في « م » : « لا معنى للترديد ».
2- لم يرد « صرفة » في « م ».
3- في « م » : « شأنيّة ».
4- لم يرد « عدم » في « ع ».

غيره فيجب الإعادة والقضاء. نعم ، لو قطع بعدم اختلاف حاله لم يحسن منه الاحتياط في اعتقاده ، وإن كان قد يؤثّر في الواقع لو ظهر له خطأ في اعتقاده.

وكيف كان ، فمحذور التصويب لازم في الأحكام ، بل وفي الموضوعات أيضا. ولا يراد بذلك لزوم اختلاف الموضوعات الواقعيّة باختلاف الأمارات القائمة فيها ، كأن يكون قيام البيّنة أو وجود الحالة السابقة مؤثّرا في موت زيد وحياته ؛ فإنّ ذلك غير معقول ، بل المراد التصويب في الأحكام الجزئيّة المتعلّقة بها ، كما التزم به صاحب الحدائق في خصوص الطهارة والنجاسة (1) ، حيث زعم أنّهما ليستا من الامور الواقعيّة (2) التي يتعلّق بها الأحكام الشرعيّة ، بل ليست النجاسة إلاّ حكم الشارع بعد العلم بوجود الخمر بالاجتناب عنه ، كنفس الحرمة المتعلّقة به. وليست الطهارة إلاّ حكم الشارع بعدم الاجتناب عن مشكوك الخمريّة أو المعلوم عدم الخمريّة ، مستندا في ذلك إلى روايات ، منها قوله : « ما ابالي أبول وقع عليّ أم ماء إذا لم أدر » (3).

وكما التزم به بعض من تأخّر عنه (4) في جملة من الأحكام المتعلّقة بالموضوعات الجزئيّة نظرا إلى سيرة الأئمة ، حيث إنّهم كانوا يخالطون الناس ومعاشرين لهم مع ما يرى في هذه المخالطة والمعاشرة من المفاسد المترتّبة عليها من ارتكاب المحرّمات الواقعيّة ؛ لعدم مبالاة أكثر الناس فيما يتعاطونه في معاشهم وعدم

ص: 148


1- الحدائق 1 : 134 - 136 ، و 5 : 248 - 258.
2- لم يرد « الواقعيّة » في « م ».
3- الوسائل 2 : 1054 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 5 ، وفيه : « ما ابالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم ».
4- لم نعثر عليه.

احترازهم عن النجاسات في المياه الموجودة عندهم والأطعمة واللحوم وغير ذلك ، فإنّه لو كانت تلك الامور - من النجاسة والحلّية والحرمة - امورا واقعيّة لا مدخل للعلم والجهل فيها لزم فساد عباداتهم في الواقع من جهة عدم اجتماع الشرائط الواقعيّة فيها.

ولكنّ الإنصاف : أنّ التزام مثل ذلك بعيد في الغاية ، كيف! وجلّ الأدلّة بل كلّها ممّا ينافي ذلك ، كما هو غير خفيّ على المتتبّع العارف بموارد الكلام ، كما أومأنا إليه فيما تقدّم (1). والأدلّة القائمة في المشكوكات صريحة على ثبوت الواقع عند الشكّ.

وأمّا الاستناد إلى سيرة الأئمّة ، فلا يجدي شيئا في المقام ؛ فإنّ المعلوم من ذلك هو ابتلاؤهم بالموضوعات المشكوكة عندنا ، ولا دليل على ارتكابهم عليهم السلام للمحرّمات الواقعيّة حتّى يدفع بما ذكر : من أنّ الأحكام المذكورة مترتّبة على العلم بها من وجه خاص ، وإلاّ فلو قيل بأنّها من أحكام مطلق العلم أيضا لم يكن لما ذكر وجه على تقدير القول بإحاطة علمهم عليهم السلام فعلا لجميع الموضوعات وأحكامها. فعلى هذا يحتمل عدم وقوعهم في المحرّمات الواقعيّة إمّا بدعوى العلم بها ، وإمّا بواسطة أنّهم عليهم السلام مؤيّدون بالتأييدات الإلهيّة ومسدّدون بالتسديدات الربّانيّة محفوظين عن الوقوع في الامور الدنيّة ، فما يرتكبونه وإن كان في أنظارنا من الموارد المشتبهة إلاّ أنّه في الواقع من الموضوعات التي يجوز ارتكابها.

وأمّا قول الأمير عليه السلام (2) ، فدلالته على ثبوت النجاسة الواقعيّة عند عدم العلم أظهر من دلالته على انتفائها عند عدم العلم. نعم ، يظهر منه ما يفيد النجاسة للصلاة عند العلم ، وأين ذلك من ارتفاع موضوعها عند عدم العلم؟ ويؤيّد ما ذكر بعض

ص: 149


1- راجع الصفحة 140 وما بعدها.
2- المراد قوله عليه السلام : « ما ابالي أبول وقع عليّ أم ماء إذا لم أدر ».

الأخبار ، كما عن الإمام الهمام علي بن الحسين عليه السلام : من أمره بإهراق ماء أحضره عبده فتبيّن وقوع الفأرة فيه (1).

وبالجملة : فلا وجه للالتزام بأنّ الأحكام المتعلّقة بالموضوعات (2) مختصّة بصورة العلم ومع عدمه لا حكم لها في الواقع ؛ فإنّ التصويب في ذلك يسري إلى التصويب في الأحكام الكلّية الإلهيّة ، إذ الأحكام الجزئيّة من شعب الأحكام الكلّية ، فلو لم يلتزم بالتصويب فيها لم يجز الالتزام به فيما ينشعب منها.

والأولى أن يقال : إنّ الأحكام الواقعيّة ممّا لا يختلف بواسطة وجود الأمارات الشرعيّة وعدمها ونهوضها على موضوع وعدمه ، إلاّ أنّ عند عدم المطابقة واختفاء ذلك لا ضير في التزام اشتمال الأخذ بالأمارة على المصلحة المساوية لمصلحة الواقع ، وهو وإن كان نوعا من التصويب إلاّ أن الإجماع على بطلانه ممنوع ، كيف (3)! ووجوب اللطف عند الإماميّة مما لا سبيل إلى إنكاره ، وقضيّة ذلك اشتمال الأخذ بالطريق على المصلحة التي تفوت بواسطة الجعل عن العبد - كما عرفت - والأخبار المتواترة في انتفاء التصويب (4) إنّما هي مسوقة لنفي التصويب على وجه لا يكون في الواقع أحكام واقعيّة ، وأمّا التصويب على الوجه المذكور فلا دليل على امتناعه لا عقلا ولا نقلا.

ص: 150


1- الوسائل 1 : 116 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 15 ، والمأمور هو ابنه وليس عبده.
2- في « ط » و « م » : « بتلك الموضوعات ».
3- لم يرد « كيف » في « م ».
4- أشار إلى هذه الأخبار في الفصول : 406 - 407 ، وراجع الكافي 1 : 40 باب سؤال العالم وتذاكره ، والصفحة 58 الحديث 19 ، والصفحة 59 الحديث 12 ، والصفحة 199 الحديث الأوّل ، والبحار 1 : 178 ، الباب الأوّل من أبواب العقل والجهل الحديث 58 ، وكنز العمّال 6 : 7 الحديث 14597.

هذا إذا قلنا بأنّ جعل الطريق إنّما هو في حال الانفتاح.

وأما في حال الانسداد فالأمر فيه أوضح ؛ إذ الوجه في الانسداد هو عدم موافقة العباد للحجّة عليه السلام كما قرّر في محلّه (1) فلا يجب على الحكيم إيصالهم إلى المصالح الواقعيّة ، فإنّهم هم السبب في امتناع ذلك في حقّهم ، فقضية اللطف لا مجرى لها في حال الانسداد. ويكفي حينئذ في مصلحة الجعل كون الطريق مطابقا لما هو الطريق إليه في الأغلب أو في الغالب ، فلا يكون الأخذ بالطريق مشتملا على المصلحة الزائدة على مصلحة الواقع ، فلا محذور.

وقد يجاب عن محذور التصويب في المقام : بأنّ الشارع الحكيم لمّا كان عالما بأنّ اقتصار المكلّفين على الأحكام الواقعيّة - بأن لا يجوز لهم تناول اللحم إلاّ بعد العلم بكونه حلالا واقعيا لا يدانيه ريبة الحرمة - مما يوجب مفاسد شتّى ولو بواسطة ضيق يشاهد في دار التكليف وعدم اتّساع عالم المكلّفين لذلك ووقوعهم في محاذير أخر من جهات اخرى ، فلا ضير في جعل الأمارات التي قد تتخلّف عن الأحكام الواقعيّة نظرا إلى إدراك (2) تلك المصالح عند جعل تلك الأمارات. وهذا هو المراد مما عسى أن يقال في المقام ، من أنّ التسهيل في أمر العباد يقتضي جعل تلك الطرق.

وقد يقال : إنّ الشارع قد منّ على عباده بجعل تلك الطرق وعفى عن الواقع ولم يوجب عليهم تحصيله.

وكلا الوجهين ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه :

أمّا الأوّل ، فلأنّ التسهيل لو كان من الوجوه التي يختلف بها الأحكام الواقعيّة ويقتضي جعل حكم على طبقه ، فالأولى أن يكون وجها لإسقاط الواقع ؛ فإنّ مجرّد المصلحة في وجود الشيء لا يقضي بالأمر به ، بل لا بدّ مع ذلك من عدم

ص: 151


1- انظر كشف المراد : 361 - 362 ، والقوانين 1 : 353.
2- في « م » بدل « إدراك » : « تدارك ».

معارضة شيء آخر لها ، والمفروض في المقام هو أنّ الاقتصار على المصالح الواقعيّة يوجب مفاسد اخرى من جهات أخر ، فمع ذلك لا وجه لجعل الأحكام الواقعيّة.

هذا إذا اريد من التسهيل ما ذكرنا من أنّ الاقتصار على الواقع يوجب رفع (1) مصلحة واقعيّة اخرى عن المكلّف في مورد آخر ، من غير أن يكون مصلحة التسهيل في العمل بالطريق.

وإن اريد من التسهيل : أنّ العمل بالطريق فيه تسهيل على العباد من دون أن يكون موجبا لإحراز مصلحة اخرى في مورد آخر ، فعدم اتّجاهه في المقام أظهر ؛ إذ تلك المصلحة : إما أن تزيد على مصلحة الواقع ، أو تكون مساوية لها ، أو تنقص عنها ، لا سبيل إلى الأخير ؛ لمنافاته قضية اللطف ، ومن هنا تعرف فساد ما قد يتخيّل في دفع ما ذكرنا - من أنّ اللازم حينئذ عدم حسن الاحتياط - بأنّ الوجوب التخييري بين الواقع ومفاد الطريق لا يوجب رفع حسن الاحتياط ؛ إذ يمكن أن يكون الواقع أفضل فردي الواجب التخييري. والأوّلان لا يدفعان الخصم ؛ فإنّ ذلك هو التصويب جدّا ؛ إذ المفروض وجود المصلحة في نفس الطريق. ولعلّ ذلك ظاهر.

وأمّا الثاني ، ففساده أجلى من أن يذكر ؛ فإنّه إن اريد أنّ الامتنان إنّما هو في رفع الأحكام الواقعيّة عند العمل بالطريق المخالف ، فذلك - على تقدير صحّته - لا يقضي بعدم اشتمال الطريق على المصلحة ، ومعه - كما هو قضيّة اللطف - يلزم المحذور.

وإن اريد أنّ الامتنان في عدم اشتمال الطريق للمصلحة ، فهو مما لا سبيل إلى تعقّله فضلا عن التصديق به.

فالأولى ما ذكرنا من الالتزام ومنع ما يدلّ على خلاف ذلك. هذا كلّه مع انكشاف الخلاف على وجه القطع. واللّه الهادي.

ص: 152


1- في « م » : « دفع ».

هداية

في أنّ الأمر الظاهري الشرعي هل يقتضي الإجزاء فيما لو انكشف الخلاف بواسطة قيام أمارة ظنّية اخرى؟

واعلم أولا : أنّ ذلك تارة يتحقّق في الموضوعات ، كما إذا بنى المصلّي على طهارة ثوبه بواسطة الاستصحاب أو غير ذلك من الاصول المقرّرة لتميّز الموضوعات التي لا تشترط بالفحص ، ثمّ قامت عنده بيّنة شرعيّة على نجاسة ذلك الثوب.

واخرى يتحقق في الأحكام : فتارة بالنسبة إلى المجتهد ، واخرى بالنسبة إلى المقلّد.

أمّا بالنسبة إلى المجتهد ، فكما إذا حكم بعدم وجوب السورة في الصلاة بواسطة أمارة ظاهريّة : من آية أو رواية أو أصل ونحوها ، ثمّ ظهرت (1) أمارة اخرى حاكمة بوجوبها فيها. ولا بدّ أن يكون العمل بالأمارة الاولى مقرونا بما يعتبر فيه من الشروط واقعا ، كأن يكون المجتهد متفحّصا عن المعارض للأمارة الاولى على وجه يعتبر في الفحص ؛ إذ بدون ذلك لا يكون هناك أمر ظاهريّ شرعي ، بل هو ملحق بالظاهريّ العقلي ، كما إذا توهّم اقترانها بالشرائط أو تخيّل دلالة الرواية على شيء فبدا له خطؤه أو إلى العمل (2) بالأمارة مع اعتقاد فساده.

ص: 153


1- في « ع » و « م » بدل « ظهرت » : « ظهر له ».
2- كذا في النسخ ، والمناسب : « أو العمل ».

وأمّا بالنسبة إلى المقلّد ، فكما إذا رجع عن تقليد المجتهد في موارد وجوبه - كفسقه أو موته أو زوال ملكته أو حصول ملكة الاجتهاد له - أو موارد جوازه على القول به ، مع المنافاة بين ما يأخذ به في الحال من رأي مجتهد آخر أو رأيه وبين ما عمل به أوّلا.

فمن فروع هذه الهداية ما قد يعنون في مباحث الاجتهاد والتقليد من تجدّد رأي المجتهد.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ بعد قيام الأمارة اللاحقة في الموارد المتقدّمة وأشباهها لا إشكال في وجوب الأخذ بها في الوقائع اللاحقة الغير المرتبطة بالوقائع السابقة ، فإنّ ذلك هو مقتضى اعتبار تلك الأمارة ، فبعد قيام البيّنة على نجاسة الثوب المستصحب الطهارة لا بدّ من ترتيب آثار النجاسة عليه من عدم جواز الصلاة معه ونحوه. وكذا فيما إذا ظهر خطأ المجتهد له فيما أفتى به من طهارة الغسالة مثلا ، وكذا فيما إذا رجع المقلّد عن تقليد المفتي بالطهارة إلى فتوى القائل بالنجاسة مثلا. ولا ينبغي أن يكون ذلك مطرحا للأنظار.

كما أنّه لا إشكال في مضيّ الوقائع السابقة التي لا يترتب (1) عليها في الزمان اللاحق حكم ، كما إذا كان المبادرة والتعجيل واجبا فبادر إليه المكلّف ثمّ تبيّن خطؤه فيما بادر إليه ، فإنّ قضية اللطف - كما مرّ (2) - إيصال مصلحة التعجيل إلى المكلّف ، ولا يعقل القول بعدم مضيّ مثل تلك الواقعة.

ص: 154


1- في « ع » و « م » بدل « يترتّب » : « يطرأ ».
2- راجع الصفحة 139.

وإنّما الإشكال في الوقائع اللاحقة (1) المرتبطة بالوقائع السابقة ، مثل عدم اشتغال المكلّف في الوقت بإعادة ما عمل به بمقتضى الأمارة السابقة ، أو معاملة الطهارة مع ما لاقى شيئا مستصحب الطهارة بعد قيام البيّنة على نجاسته ، أو معاملة الزوجيّة مع الزوجة المعقودة بالفارسيّة بعد اعتقاد فساد العقد بها ، إلى غير ذلك من الأمثلة في الموارد المختلفة ، كما هو ظاهر.

فذهب جماعة من متأخّري المتأخّرين - ممّن عاصرناهم أو يقارب عصرهم عصرنا - إلى الإجزاء وعدم لزوم الإعادة (2) ، حتّى أنّ بعض الأفاضل (3) قد نسبه إلى ظاهر المذهب في تعليقاته على المعالم.

وقضيّة ما زعموا : أن يكون قيام الأمارة اللاحقة بمنزلة النسخ للآثار المترتّبة على الأمارة السابقة ، ففي الوقائع المتجدّدة الغير المرتبطة يؤخذ بالناسخ ، فلا يجوز إيقاع المعاطاة بعد ذلك ، ولكنّه يؤخذ بالمنسوخ في الآثار المرتبطة ، فلا يحكم بعدم ملكيّة المبيع المعاطاتي. وقد صرّح بذلك بعض الأجلّة (4) أيضا.

والحقّ الحقيق بالتصديق هو عدم الإجزاء ، فلا بدّ من الإعادة وعدم ترتيب (5) الأحكام المترتّبة على الأمارة (6) السابقة ، وفاقا للنهاية (7) والتهذيب (8)

ص: 155


1- لم يرد « اللاحقة » في « ع » و « م ».
2- كالمحقّق القمّي في القوانين : 399 ، وصاحب الفصول في الفصول : 409.
3- وهو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 3 : 711.
4- وهو صاحب الفصول في الفصول : 409.
5- في « ع » و « م » : « ترتّب ».
6- في « م » بدل « الأمارة » : « الآثار ».
7- نهاية الوصول : 440.
8- تهذيب الوصول : 102.

والمختصر (1) وشرحه (2) وشرح المنهاج (3) - على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم (4) - بل وفي محكيّ النهاية الإجماع عليه (5).

وادّعى (6) العميدي قدس سره الاتّفاق على ذلك ، قال - في مسألة نكاح امرأة خالعها زوجها في المرّة الثالثة معتقدا أنّ الخلع فسخ لا طلاق ثمّ تبدّل اجتهاده واعتقد كونه طلاقا - ما هذا لفظه : « فإن كان قد حكم بصحّة ذلك النكاح حاكم قبل تغيّر اجتهاده بقي النكاح على حاله ، وإن لم يحكم به حاكم لزمه مفارقتها اتّفاقا » (7).

وفي المقام وجوه من التفصيل يطّلع عليها إن شاء اللّه.

لنا على ما اخترناه في المقام : أنّ المقتضي للإعادة وعدم ترتيب (8) الآثار على الأمارة السابقة موجود ، والمانع عن ذلك غير موجود ، فلا بدّ من القول به.

أما الأوّل ، فلما تقدّم في الهداية السابقة : أنّ الطرق المجعولة الشرعيّة إنّما جعلت طرقا إلى الواقع ، من دون أن يكون تلك الطرق مخصّصة للأحكام الواقعيّة المتوجّهة (9) إلى المكلّفين - على ما هو المتّفق عليه عند أرباب التخطئة ، كما هو الصواب - ففيما إذا انكشف فساد الأمارة القائمة على الواقع لا بدّ من الأخذ بما هو

ص: 156


1- انظر المختصر وشرحه للعضدي في شرح مختصر الاصول : 473.
2- في النسخ : « شروحه » ، وفي المفاتيح : « شرحه للعضدي ».
3- لم نعثر عليه.
4- مفاتيح الاصول : 581.
5- حكاه عنه في مفاتيح الاصول : 582.
6- في « ط » : وبل ادّعى.
7- منية اللبيب : 364.
8- في « ع » و « م » : « ترتّب ».
9- في « م » : « الموجّهة ».

الواقع ؛ فإنّ ما يدلّ على وجوب امتثال الأوامر الواقعيّة - من العقل والنقل - موجود في المقام ، فإن كان معلوما فلا كلام - كما تقدّم - وإلاّ فيجب الأخذ بما جعله الشارع طريقا إليه ، وهي الأمارة اللاحقة. ولازم الأخذ بها هو فساد الأمارة الاولى وبقاء التكاليف الواقعيّة.

فإنّ الخبر الدال على جزئيّة السورة ، مفاده أنّ السورة في الواقع جزء للصلاة الواقعيّة ، ولا يفرق في ذلك بين من عمل بالأمارة الاولى ومن لم يعمل بها ، كما إذا كان الشخص تاركا للصلاة مثلا ، وقضيّة ذلك عدم تحقّق الصلاة بدون ذلك الجزء ، فيترتّب على ذلك - بحكم الأدلّة الدالّة على إطاعة الأوامر الواقعيّة وامتثال أوامر اللّه تعالى - إيجاد الصلاة ثانيا وعدم الاتّكال بما فعله في المرّة الاولى مطابقا للأمارة التي انكشف فسادها.

ولعمري أنّ بعد هاتين المقدّمتين - اللتين إحداهما : أنّ الأمارة التي أخذ بها سابقا ليست مغيّرة للواقع ، والثانية : أنّ مفاد الأمارة الثانية هو جزئيّة السورة مثلا للصلاة في الواقع ، من غير فرق بين العامل بالأمارة الاولى وتاركها - كان الحكم بعدم الإجزاء وعدم ترتّب الآثار على منار ، بحيث لا يعدّ منكره إلاّ مكابر ، أو غير ملتفت إلى حقيقة المقدّمتين.

والحاصل : أنّ فساد الأمارة الاولى يوجب حصول صغرى عند العامل ، مفادها : فساد العبادة أو المعاملة التي وقعت على طبقها ، ويتلوها كبرى شرعيّة ثابتة بالقطع : من لزوم إعادة الواجب الواقعيّ الثابت بمقتضى الأمارة الثانية التي يجب العمل بها بالفرض.

فإن قلت : لا دليل على وجوب العمل بالأمارة بالنسبة إلى الوقائع السابقة ، بل المأتيّ به أوّلا إنّما كان تكليفه في ذلك الزمان ، وتكليفه بعد الوصول إلى الأمارة الثانية إنّما هو العمل بها.

ص: 157

قلت : ما ذكر إنّما يلائم (1) القول بأنّ الطرق الشرعيّة موضوعات لما يستفاد منها ، فيكون مفادها في عرض الواقع وقد فرغنا عن إبطال ذلك فيما مرّ (2) ؛ فإنّ لازمه التصويب الباطل ، مضافا إلى ظواهر الأدلّة الدالّة على حجيّة الطرق الشرعيّة ، فإنّها تنادي بأعلى صوتها على بقاء الواقع وعدم تخصيصه بواسطة تلك الطرق. وأمّا وجوب الإعادة والقضاء فهو من الوقائع اللاحقة ، فإنّ التعويل على الأمارة السابقة وعدم الاشتغال بإعادة ما قد امر به في الوقت أو في خارجه من الامور الطارئة للمكلّف في اللاحق ، غاية الأمر أنّ منشأ وجوب ذلك هو فساد المأتيّ به بمقتضى الأمارة الاولى ؛ ولذا قلنا : بأنّ الإعادة والقضاء من الوقائع اللاحقة (3) المرتبطة بالوقائع السابقة ، وذلك أمر ظاهر.

فإن قلت : سلّمنا أنّ الإعادة والقضاء من الوقائع اللاحقة ، لكن لا نسلّم وجوب الأخذ بالأمارة بالنسبة إلى (4) الوقائع الغير المرتبطة بالسابقة. وذلك وإن كان تبعيضا بالنسبة إلى مدلول الأمارة ، لكن التبعيض في الشرعيّات كثير ، أمّا بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة على الاصول فممّا لا حصر له ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها فكثير أيضا ، كما إذا ورد خبر واحد يدلّ على نجاسة من فوّض أمر الخلق والرزق إليهم عليهم السلام ، فإنّ ذلك لا يصير مستندا في المسألة الاعتقاديّة ، لكنّه يؤخذ به بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة. وكما إذا حصل الظنّ بالقبلة المستلزم لحصول الظنّ بالوقت ، فإنّه يتبعّض بالنسبة إليهما ، فيؤخذ بالظنّ في الأوّل دون الثاني. وكما إذا

ص: 158


1- في « م » بدل « يلائم » : « يلزم ».
2- راجع الصفحة 140 - 141.
3- لم يرد « اللاحقة » في « ع ».
4- في « ع » و « م » زيادة : « غير ».

قيل بعدم اعتبار الخبر الظنّي في اللغات ، مع ورود رواية دالّة على ثبوت موضوع من الموضوعات اللغويّة مع استلزامه حكما شرعيّا ، فإنّه يؤخذ به في الثاني دون الأوّل ، كما في رواية زرارة عن الإمام عليه السلام في تفسير آية « المسح » حيث استدلّ الإمام عليه السلام بورود « الباء » للتبعيض مثلا (1) ، إلى غير ذلك ، فلا ضير في الأخذ بالأمارة في بعض الوقائع دون بعض ، ونحن ندّعي أنّ الأدلّة الدالّة على حجيّة الأمارات لا تدلّ على اعتبارها إلاّ في الوقائع اللاحقة الغير المرتبطة بالوقائع السابقة.

قلت : وهذه الدعوى دون إثباتها خرط القتاد بعد ملاحظة الأدلّة الدالّة على حجيّة تلك الأمارات ، ومتى يمكن إثباتها! فإنّ أخبار الاستصحاب (2) والروايات الدالّة على حجيّة الأخبار الظنيّة (3) وغير ذلك ممّا لا مجال لأن يتوهّم فيها التقييد ببعض الآثار ، وذلك أمر ظاهر لمن راجعها وانصف ، وإن كان قد يمكن أن يناقش في أمارة دلّ على اعتبارها بعض الوجوه اللبيّة ، مثل الإجماع ونحوه. ولكنّ الإنصاف أنّ مثل هذه التعسّفات لا ينبغي أن يرتكب فيها أيضا.

وأما الثاني (4) - وهو بيان فقدان المانع عمّا ذكرناه - فذلك (5) موقوف على إيراد ما يمكن أن يكون مستندا للخصم في المقام ، وبيان عدم صلاحيّته للمنع.

ص: 159


1- الوسائل 1 : 290 ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.
2- راجع فرائد الاصول 3 : 55 - 82.
3- راجع فرائد الاصول 1 : 297 - 310.
4- عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة 156.
5- كذا في « ق » ، وفي غيرها : « وذلك ».

فنقول : إنّ من بعض القائلين بالإجزاء يظهر دعوى تطبيقه على القواعد (1) ، ويظهر من بعض آخر وجود الدليل عليه المخرج عن القاعدة القاضية بعدم الإجزاء (2).

أمّا ما يمكن أن يكون وجها للأوّل فامور :

أحدها : ما مرّ ذكره سابقا وأشرنا إليه آنفا (3) ، من أنّ مفاد الأمارات الظاهريّة إنّما يكون في عرض الواقع ، فيختلف الأحكام الواقعيّة على حسب اختلاف الأمارات (4) فيكون الآتي بما دلّ عليه وجه من الوجوه الظنيّة آتيا بما هو المأمور به في الواقع ، على نحو ما عرفت فيما تقدّم.

وقد فرغنا عن إبطال هذا التوهّم في الطرق الشرعيّة (5) ، فهو سخيف جدّا لا يكاد يلتفت إليه العاقل فضلا عن الفاضل ، مضافا إلى أنّ القول بذلك يوجب سقوط الإعادة والقضاء فيما لو ظهر فساد الأمارة الاولى على وجه قطعي - كما مرّ - والكلام في المقام إنّما هو بعد التسليم على أنّ الكشف القطعي يوجب الإعادة ، وذلك ظاهر.

ثمّ إنّ الطريقية في الأمارات الظاهريّة لا أظنّ أن يشكّ فيها أحد من أصحابنا ، كما يعاضده طريقة العرف والعقلاء ، إلاّ أنّه مع الشك في كون الأمارات طرقا إلى الواقع فالأصل يقضي بالبناء على الطريقيّة أيضا ، إذ البدليّة والتخصيص

ص: 160


1- كصاحب الفصول في الفصول : 409.
2- لم نعثر عليه.
3- راجع الصفحة 135.
4- في « ع » ومصحّحة « ط » زيادة : « والموضوعات ».
5- راجع الصفحة 139 - 140.

- كما هو مقتضى الموضوعيّة - يحتاج إلى دليل ، وعند عدمه - كما هو ظاهر - فالأصل عدم سقوط الواقع بعد الإتيان بما هو أجنبيّ عنه ، فإنّ الصلاة بدون السورة - بعد فرض وجوبها معها - ممّا لا ربط لها بالواقع ، فيشكّ في كونها مجزية عنها ، والأصل بقاء الواجب وعدم سقوطه بذلك.

وبالجملة : فالقول بالسقوط ملازم للتصويب ، ولذا فرّع في تمهيد القواعد وجوب الإعادة والقضاء على مسألة التخطئة والتصويب (1).

الثاني : ما قد قيل : من أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين (2) ، ولعلّ المراد به منع الدليل الدال على وجوب اتّباع الأمارة الثانية في الواقعة المجتهد فيها ، وإلاّ فهو بظاهره ممّا لا يكاد يعقل. وقد عرفت فيما تقدّم فساده بما لا مزيد عليه (3).

الثالث : أن يقال - بعد تسليم عدم الموضوعيّة ، والقول بكون الأمارات الظاهريّة طرقا إلى الواقع ، ودلالة الدليل على لزوم اتّباع الآخذ بها في جميع ما يستفاد منها - : إنّه يكفي في صحّة الأعمال الواقعة على حسب الأمارة الاولى - سواء كانت عبادة أو معاملة ، كالصلاة بدون السورة والعقد على المرضعة عشر رضعات - وقوعها عند العامل حال صدور العمل على الوجه الصحيح وإن اعتقد بعد ذلك فساده ، فالزوجيّة وسقوط القضاء من آثار النكاح الصحيح والصلاة الصحيحة ، والمفروض وقوع الصلاة الصحيحة والنكاح الصحيح حال وقوعهما لدى العامل ، فلا يجب عليه الإعادة (4) ولا على وليّه القضاء بعد موته وإن كان الولي ممن يرى فساد الصلاة بلا سورة بحسب اجتهاده أو تقليده.

ص: 161


1- تمهيد القواعد : 323.
2- قاله صاحب الفصول في الفصول : 409.
3- راجع الصفحة 156 - 159.
4- لم يرد « الإعادة » في « ع ».

وربما يؤيّد ذلك بما أفاده الفخر في الإيضاح (1) ، حيث استدلّ على صحة نكاح الكفّار حال كفرهم ، بقوله تعالى : ( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ ) (2) وقوله : ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (3) فإنّ التعبير عنهما على وجه الإضافة كاشف عن تحقّق نسبة الزوجيّة الواقعيّة بينهما وبين بعليهما. ولكنّه بعيد جدّا ؛ لإمكان كون الإضافة على وجه المناسبة ، وذلك ظاهر (4).

وكيف كان ، فهذا الوجه أيضا أضعف من سابقيه (5) ؛ إذ بعد ما هو المفروض : من أنّ الطرق الظاهريّة من قبيل المرايا للواقع ولا يعقل فيها اعتبار الموضوعيّة ، لا معنى للقول بأنّه يكفي في ترتيب الآثار وجود الفعل عند العامل صحيحا حين صدور العمل ، فلا يجوز لمن يرى خلافه بمرآة معتبرة عنده ترتيب الآثار المرتّبة عليه ، سواء في ذلك العامل وغيره ، فإنّ العلقة الواقعيّة والرابطة الحقيقيّة بين المرء وزوجه لا تتحقّق في الواقع إلاّ فيما لم يتحقّق بينهما الرضاع المحرّم ، ولا مدخل لاعتقاد الزوج والزوجة في ذلك ، فإنّ تأثير العلم في الواقعيّات التي يتعلّق بها غير معقول ؛ لكونه دورا ظاهرا ، غاية الأمر رفع العقاب عن الجاهل بعد عدم التقصير ؛ لعدم تحقّق مقتضيه ، وهي المخالفة التي لا واقع لها إلاّ بعد العلم.

فالاجتهاد والتقليد وغيرهما طرق إلى الواقع ، ولا يترتّب على الطريق شيء بعد كشف فساده على وجه منزّل منزلة العلم ، وهي الأمارة الثانية - كما هو المفروض - مضافا إلى أنّ ذلك يقتضي القول بالإجزاء على تقدير كشف الفساد على

ص: 162


1- إيضاح الفوائد 3 : 102.
2- القصص : 9.
3- المسد : 4.
4- لم يرد « وذلك ظاهر » في « م » و « ع ».
5- في « ع » و « م » : « سابقه ».

وجه القطع ، ولا فارق بينهما. ولعلّه لا ينبغي الالتزام به ، وإن كان ممّن يقول بالإجزاء في مثل المقام على مقتضى القاعدة ليس بذلك البعيد.

وليت شعري! كيف يعقل أن يقال : إنّ العصير العنبي الموجود بين أيدينا إنّما كان طاهرا قبل قيام الأمارة الثانية على نجاسته ، فيحكم بطهارة ملاقيه قبل ذلك ، ولكنّه نجس بعد قيام الأمارة فيجب الاجتناب (1) عنه وعن ملاقيه؟!

الرابع : استصحاب الآثار المترتّبة على ما قامت عليه الأمارة الثانية ، من الطهارة والنجاسة وجواز الأكل والبيع والوطء ، فإنّ قبل قيامها كانت تلك الأحكام ثابتة ، ولا يعلم تميّز بينهما بعد قيام الأمارة ، فيجب (2) الحكم بالاستصحاب بعده.

وفساده ممّا لا يكاد يخفى على أوائل (3) العقول ؛ إذ من المعلوم عدم ترتّب تلك الآثار بنفسها ، بل إنّما كان ذلك (4) بواسطة قيام الأمارة الاولى ، والمفروض ظهور فسادها بما هو منزّل منزلة العلم ، فلا وجه للاستصحاب ، وذلك ظاهر في الغاية.

الخامس : أنّ الأخذ بالأمارة الثانية في الوقائع المترتّبة على الوقائع السابقة دون الأمارة الاولى ترجيح بلا مرجّح وتخصيص بدون ما يقضي به ؛ فإنّ المفروض أنّ الأمارتين كلتاهما ظنّيتان ، فلا يعلم بمطابقة إحداهما دون الاخرى للواقع ، ولا وجه للأخذ بإحداهما دون الاخرى.

قال الشيخ الأجل كاشف الغطاء عن وجوه التحقيقات - بعد كلام له في المقام - ما لفظه : على أنّه لا رجحان للظنّ على الظنّ السابق حين ثبوته ، انتهى (5).

ص: 163


1- في « م » بدل « الاجتناب » : « الاحتياط ».
2- في « ع » بدل « فيجب » : « فينسحب ».
3- في « ع » و « م » بدل « أوائل » : « أهل ».
4- لم يرد « ذلك » في « م ».
5- كشف الغطاء 1 : 217.

قلت : وفساد هذا الوجه ممّا لا يكاد يخفى :

أمّا أوّلا : فلأنّ المفروض قيام الدليل على اعتبار الظنّ الثاني ، ومعنى اعتباره - على ما هو ظاهر تنزيله منزلة العلم - أنّه يجب الأخذ به على حسب كشفه عن الواقع ، ومن المعلوم عدم سقوط الواقع بمقتضى كشف الظنّ الثاني عن الواقع ، فيجب الإتيان بما هو مسقط عنه عقلا ونقلا. فإن اريد من عدم الترجيح عدم دلالة الأمارة الثانية على فساد العمل الواقع أوّلا على حسب الأمارة الاولى فهو في غاية السقوط ؛ فإنّ ذلك أمر قهريّ لازم من الظنّ بجزئيّة السورة. وإن اريد عدم دلالة دليل على اعتبار الظنّ بالنسبة إلى غير الواقعة الغير المرتبطة بسابقتها فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه بعد فرض عدم الترجيح لأحد الظنّين على الآخر لا وجه للأخذ بالأمارة الاولى فيها أيضا.

لا يقال : إنّ ذلك طريق جمع بينهما.

لأنّا نقول : كلاّ ، بل ذلك طرح للأمارة الثانية ، ولا قاضي بالجمع بعد كشف فساد الاولى بالثانية.

وبالجملة : فمطالبة الترجيح ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ فإنّ ذلك إنّما يستقيم عند التعارض ، ولا يعقل التعارض في المقام ، سواء قلنا بأن الأمارات المعمولة في الأحكام مغيّرة للواقع أم لا نقول به. أمّا على الأوّل فهو ظاهر ؛ إذ لا يعارض (1) بعد اختصاص كلّ منهما بموضوع لا يرتبط بموضوع الآخر. وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ قضيّة اعتبار الثاني فساد الأوّل ، ولا تعارض بين الدليل وما ليس بدليل.

وأمّا ما يمكن أن يكون وجها لخروج ما نحن بصدده عن القاعدة المقرّرة ، فوجوه :

ص: 164


1- كذا ، والمناسب : « لا تعارض ».

أحدها : وهو عمدة ما يتمسّك به في عدم جواز الأخذ بالأمارة الثانية ، من أنّ ذلك يوجب حرجا عظيما ويورث عسرا شديدا ، وهو منفيّ في الشريعة السمحة السهلة.

وبيان اللزوم : أنّ من رأى طهارة الغسالة وجواز العقد بالفارسيّة وعدم وجوب السورة وعدم نشر الحرمة بعشر رضعات في أوائل بلوغه بواسطة تقليد أو اجتهاد ، وعمل بتلك الوقائع في مدّة مديدة ، فلم يجتنب عن الغسالة وصاحب مع ذلك جمعا كثيرا وجمّا غفيرا ، واشترى عقارا كثيرا بالعقود الفارسيّة ، وصلّى جميع دهره بلا سورة ، وعقد على المرتضعة المذكورة أو مرضعتها ، ثمّ بدا له - باجتهاد أو تقليد - نجاسة الغسالة وفساد العقود الفارسيّة ووجوب السورة ونشر الحرمة ، إلى غير ذلك من الأحكام في الموارد المختلفة ، لو وجب عليه النقض بالنسبة إلى تلك الآثار ، كأن يجب عليه قضاء الصلاة التي صلّى مع عدم الاجتناب عن الغسالة ، وتطهير ثيابه وغيرها من عقاره ومنقوله ، ويكون أملاكه معزولة عنه ، والمرأة بائنة عنه من دون طلاق ، إلى غير ذلك ، كان ذلك عسرا شديدا وحرجا أكيدا يقطع بنفيه في هذه الشريعة.

والجواب عن ذلك - بعد النقض بصورة العلم بالخلاف فإنّه يجب حينئذ نقض الآثار السابقة قطعا ، وما (1) لو وقع الأعمال السابقة منه على وجه النسيان فإنّ بعد التذكّر لا ينبغي الإشكال في وجوب الأخذ بما يراه طريقا ، ولزوم نقض الأحكام التي رتّبها على المنسيّ فيه حال النسيان ، كما لو نسي نجاسة الشيء الفلاني أو أوجد عقدا فارسيّا بواسطة نسيانه فساده ، فإنّه يجب الأخذ بأحكام النجاسة وعدم الملك ونحو ذلك - : بأنّ الحرج قد يكون شخصيّا فيدور سقوط التكليف مدار ثبوته ، وقد

ص: 165


1- في « ع » و « ط » بدل « وما » : « بما ».

يكون نوعيّا ، كأن يكون تشريع الحكم عسرا في الغالب على الغالب ، فلا يكون سقوطه دائرا مدار ثبوته في شخص الواقعة.

فإن اريد من لزوم الحرج لزومه في شخص بعض الوقائع لبعض الأشخاص ، فذلك لا يقضي بالقول بالإجزاء وعدم النقض على وجه الاطّراد ؛ فإنّ بعض الوقائع - لو لم نقل بأكثرها - ممّا لا يوجب ذلك ، كما إذا عمل بالأمارة وقت الفريضة فصلّى بلا سورة ثمّ اطّلع في الوقت على أمارة اخرى دالّة على وجوبها ، فإنّه لا ريب في عدم الحرج في إعادة صلاة واحدة.

وإن اريد منه الحرج الغالبي :

فلا نسلّم ثبوته أوّلا.

ولا دليل على اعتبار الحرج الغالبي في نفي الأحكام ثانيا.

أمّا بيان الثاني فتفصيله موكول إلى غير المقام - كما أومأنا إليه في الشبهة المحصورة - وملخّصه هنا : أنّ الأدلّة الدالّة على رفع العسر والحرج يستفاد من ظاهر ما هي العمدة منها إناطة الرفع بوجود العسر والحرج وجودا وعدما ، فيكون العسر من قبيل العلّة دون الحكمة ، وإن كان قد يستأنس لكونه من قبيل الحكمة ببعض الآثار الواردة فيه التي مضمونها : أنّ التكاليف وضعت على حسب أقلّ الناس طاقة (1) ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا وجه لجعل مثل هذه الآثار حاكمة على الأدلّة الواقعيّة في غير مورد العسر والحرج.

وأما بيان الأوّل ففي غاية الظهور ؛ إذ لا إشكال في أنّ القول بالنقض لا يوجب العسر على الغالب.

وتوضيحه : أنّ موارد الرجوع وظهور الخلاف على قسمين : فتارة

ص: 166


1- في « ع » بدل « طاقة » : « طاعة ».

يكون الرجوع من الأحوط إلى غيره ، كما إذا رجع المفتي بنجاسة الغسالة إلى الإفتاء بطهارتها.

واخرى يكون الرجوع من غير الأحوط إلى الأحوط ، كما إذا رجع القائل بالطهارة إلى النجاسة.

والقسم الثاني أيضا على قسمين : فتارة يكون العمل مطابقا للاحتياط ، واخرى يكون مخالفا للاحتياط. والقسم الثاني أيضا ينقسم إلى قسمين ؛ إذ العمل به إمّا أن يكون على وجه الاجتهاد أو التقليد.

لا ينبغي التأمّل في عدم لزوم الحرج فيما إذا رجع عن الاحتياط إلى غيره ، وفيما إذا رجع عن غيره إليه مع العمل بالاحتياط ، وفيما إذا عمل بغير الاحتياط على وجه التقليد مع إمكان العمل بقول من يطابق رأيه رأي المفتي بخلاف الاحتياط ، فينحصر فيما إذا رجع عن غير الاحتياط إلى الاحتياط مع العمل بخلافه مع كونه مجتهدا ، أو (1) انحصار المجتهد في القائل بالنجاسة بالنسبة إلى المقلّد.

وهذا أيضا على قسمين ؛ لأنّ العمل به قد يكون في زمان قليل وقد يكون في مدّة طويلة ، والقول بالنقض في الأوّل لا يوجب عسرا وحرجا جدّا ، وفي الثاني على تقدير استلزامه فهو قليل في الغاية ، وهو لا يستلزم رفع الحكم عن جميع الموارد التي لا يوجب الحرج ؛ كيف! ولو لا ذلك لكان أكثر الأحكام الثابتة في الشريعة منفيّة ؛ إذ ما من حكم منها إلاّ ويمكن فرض استلزامه في بعض الصور والفروض عسرا ، كما يلاحظ في الوضوء والصلاة والحجّ والزكاة ونحوها.

وبالجملة : فالقول بأنّ عدم الإجزاء والنقض يلازم الحرج الغالبي على غالب الناس ، فيه منع قوي ، بل التحقيق أنّ التعويل على عموم نفي

ص: 167


1- في « ط » بدل « أو » : « إذ ».

الحرج في الموارد التي يتحقّق فيها الحرج شخصا (1) من دون أن يكون موردا لعمل الأصحاب في غاية الإشكال.

الثاني من الوجوه : جريان السيرة على عدم النقض.

ومخالفته للواقع يظهر ممّا مرّ : من ندرة الوقوع ، فإنّ ما هو المعلوم بحسب السيرة هو الأخذ بالوقائع السابقة وعدم ترتّب آثار خلافها ، وهو أعمّ من المدّعى من وجوه شتّى ، فإنّ ذلك ربّما يكون بواسطة عدم الرجوع ، وعلى تقديره فربّما لا يكون من موارد النقض ، وعلى تقديره فربّما لا يكون العمل مطابقا للمنقوض ، وعلى تقديره فربّما ينتقل من تقليده إلى تقليد موافق للأوّل. وفي مورد الانحصار أو رجوع المجتهد لا نسلّم جري السيرة على عدم النقض ، بل الظاهر جريانها على النقض.

هذا ، مضافا إلى ندرة تحقّق الرجوع لا سيّما بالنسبة إلى أرباب الأنظار الصائبة التي تعسر اجتهادهم ، فإنّ العلاّمة - رحمه اللّه - مع اشتهاره باختلاف الفتاوى في كتبه ممّا لا سبيل إلى اثبات الرجوع في فتاويه المختلفة على الوجه المذكور.

الثالث : أنّ ذلك يوجب رفع الوثوق والهرج والمرج.

وفيه : أنّه إن اريد بذلك ما يكون رجوعه إلى قاعدة اللطف الواجب على الحكيم في مقام التشريع ، فهو يوجب القول بالعصمة. وإن اريد ما هو أهون من ذلك ، فهو وجه استحسانيّ لا نقول به مطلقا ، ولا سيّما في قبال الأدلّة الواقعيّة القاضية بالإعادة والقضاء.

ومنه يظهر الوجه في فساد ما قد يوجد في كلمات الشيخ الأجل كاشف الغطاء (2) : من خلوّ الخطب والمواعظ عن ذلك ؛ فإنّ ذلك لا يرجع إلى دليل.

ص: 168


1- في « م » : « شخصيّا ».
2- كشف الغطاء 1 : 217.

الرابع : ما يظهر من البعض (1) ، من دعوى كونه ظاهر المذهب ، بل قد ادّعى بعض من لا تحقيق له (2) الإجماع بل الضرورة.

وفيه - مع كونه معارضا بدعوى الإجماع من العميدي (3) والعلاّمة (4) على خلافه - : أنّ ذلك ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المتتبّع الماهر في مطاوي كلماتهم يظهر له بطلان الدعوى المذكورة ؛ إذ لم نجد فيما وصلنا من كلمات المتقدّمين والمتأخّرين ما يلوح منه الحكم بعدم النقض ، بل يظهر من جملة من الفتاوى في نظير المقام خلاف ذلك ، كما ستطّلع عليه (5) ، مثل ما إذا اقتدى القائل بوجوب السورة بمن لا يرى ذلك مع غلبة (6) تركها منه ، إلى غير ذلك.

وبالجملة : فعلى تقدير كون الطرق الظاهريّة طرقا إلى الواقع لا وجه للقول بالإجزاء إلاّ بواسطة دليل خارج ، وقد عرفت انتفاء ما يصلح لذلك.

وفي المقام وجوه من التفصيل لا بأس بإيرادها :

فمنها : ما زعمه بعض الأجلّة في الفصول ، قال :

« إن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق ، فيترتّب عليه لوازمها بعد الرجوع ؛ إذ الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين ؛ لعدم دليل عليه ؛ ولئلاّ يفضي إلى العسر والحرج المنفيّين عن الشريعة السمحة ، لعدم وقوف المجتهد غالبا

ص: 169


1- هداية المسترشدين 3 : 711.
2- في « م » بدل « من لا تحقيق له » : « المحقّقين عليه ».
3- منية اللبيب : 364.
4- نهاية الوصول : 440.
5- انظر الصفحة 189 - 190.
6- في « ط » بدل « غلبة » : « علمه ».

على رأي واحد ، فيؤدّي إلى الاختلاف (1) فيما يبني فيه عليها (2) من الأعمال ؛ ولئلاّ يرتفع الوثوق في العمل ، من حيث إنّ الرجوع في حقّه محتمل ، وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد.

ولا يعارض ذلك بصورة القطع ؛ لندرته وشذوذه ؛ ولأصالة بقاء آثار الواقعة ، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد ولا قطع بارتفاعها بعده ؛ إذ لا دليل على تأثير الاجتهاد المتأخّر فيها ، فإنّ القدر الثابت من أدلّته جواز الاعتماد عليه بالنسبة إلى غير ذلك ، فيستصحب.

وأمّا عدم جريان الأصل بالنسبة إلى نفس الحكم - حيث لا يستصحب بالنسبة إلى الموارد المتأخّرة عن زمن الرجوع - فلمصادمة الإجماع ، مع اختصاص مورد الاستصحاب - على ما حقّقناه - بما يكون قضيّته البقاء على تقدير عدم طروّ المانع ، وليس بقاؤه بعد الرجوع منه ؛ لأنّ الشكّ فيه في تحقّق المقتضي ، فإنّ العلّة في الثبوت الظن ، فأصالة بقاء الحكم يعارضه أصالة عدم علّة اخرى ، والقول بأنّ العلّة في المقام إعداديّة وربّما يستغنى عن العلل الإعدادية في البقاء ، غير مجد ؛ لأنّ الأصل بقاء الحاجة. ولا يتوجّه مثله في استصحاب بقاء الآثار ؛ فإنّ المقتضي لبقائها حينئذ متحقّق ، وهو وقوع الواقعة على الوجه الذي ثبت كونه مقتضيا لاستتباع آثارها ، وإنّما الشكّ في مانعيّة الرجوع.

وبالجملة : فحكم رجوع المجتهد من الفتوى حكم النسخ من حيث بقاء آثار موارده المتقدّمة ، فلو بنى على عدم جزئيّة شيء للعبادة وعدم شرطيّته ، فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثمّ رجع ، بنى على صحّة ما أتى به ، حتّى أنّها لو كانت صلاة وبنى فيها على عدم وجوب السورة ثمّ رجع بعد تجاوز المحل بنى على صحّتها

ص: 170


1- في المصدر : « الاختلال ».
2- في « م » : « عليه ».

من جهة ذلك ، أو بنى على صحّتها في شعر الأرانب ثمّ رجع ولو في الأثناء إذا نزعها (1) قبل الرجوع ، وكذا لو بنى على طهارة شيء ثمّ صلّى في ملاقيه (2) ورجع ولو الأثناء ، فلا يلزمه الاستئناف.

وكذلك الأمر في بقيّة مباحث العبادات وسائر مسائل العقود ، فلو عقد بصيغة يرى صحّتها ثمّ رجع بنى على صحّتها واستصحاب أحكامها ، من بقاء الملكيّة والزوجيّة والبينونة والحريّة وغير ذلك.

ومن هذا الباب حكم الحاكم ، فالظاهر أنّ عدم انتقاضه موضع وفاق.

ولا فرق بين بقاء حكم فتواه التي فرّع عليه الحكم وعدمه.

فمن الأوّل : ما لو ترافع إليه المتعاقدان بالفارسيّة في النكاح فحكم بالزوجيّة ، أو في البيع فحكم بالنقل والملكيّة ، فإنّ حكم فتواه التي يتفرّع عليها الحكم - وهي صحّة هذا العقد - يبقى بعد الرجوع.

ومن الثاني : ما لو اشترى أحد المتعاقدين لحم حيوان بقول الحاكم بحلّيته ، فترافعا إليه فحكم بصحّة العقد وانتقال المثمن إلى المشتري ، ثمّ رجع إلى القول بالتحريم ، فإنّ الحكم بصحة العقد وانتقال الثمن إلى البائع يبقى بحاله ، ولا يبقى الحكم بحلّيته في حق المشتري بحاله ، وهكذا.

وقد يتخيّل : أنّ الحاكم إذا حكم بطهارة (3) ماء قليل لاقاه النجاسة - أو ما أشبه ذلك من الأحكام - ثمّ رجع ، لم ينتقض حكمه بالطهارة بالنسبة إلى ذلك الماء ؛ للإجماع على أن الحكم لا ينتقض بالرجوع.

ص: 171


1- في « ع » و « م » بدل « إذا نزعها » : « أو انتزعها ».
2- كذا في « ق » ، وفي سائر النسخ والمصدر : « ملاقيها » ، وهو سهو لرجوع الضمير إلى « شيء ».
3- كذا في المصدر ، وفي النسخ : « بنجاسة » وهو سهو.

وهو غير جيّد ؛ لأنّ المراد بالحكم هناك ما يتعلّق بالدعاوى والمرافعات ، ولهذا لا يلزم متابعته في الحكم بالطهارة.

ولو كانت الواقعة ممّا لا يتعيّن (1) أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد ؛ كما لو بنى على حلّية حيوان فذكّاه ثمّ رجع ، بنى على تحريم المذكّى منه وغيره (2). أو على طهارة شيء - كعرق الجنب من الحرام - فلاقاه ثمّ رجع ، بنى على نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده. أو على عدم تحريم الرضعات العشر فتزوّج من أرضعته ذلك ثمّ رجع ، بنى على تحريمها ؛ لأنّ ذلك كلّه رجوع عن حكم الموضوع ، وهو لا يثبت بالاجتهاد على الإطلاق ، بل ما دام باقيا على اجتهاده ، فإذا رجع ارتفع ، كما يظهر من تنظير ذلك بالنسخ.

وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد (3) ، فهي في الحقيقة إمّا من مشخّصات عنوان الموضوع - كالملاقاة - أو من المتفرّعات على حكم الموضوع - كالتذكية والعقد - فلا أثر فيها (4) في بقاء حكم الموضوع » (5).

ثمّ أطال في دفع ما استدلّ به على عدم النقض في القسم الأوّل بجملة من الإيرادات المذكورة فيما سبق.

ولعمري ، إنّ التفصيل المذكور ممّا لا يرجع إلى معنى معقول ؛ فإنّا وإن بالغنا في التأمّل في كلامه لم نجد له معنى محصّلا على وجه ينطبق عليه الأمثلة المذكورة في الموردين.

ص: 172


1- كذا في المصدر ، وفي النسخ بدل « لا يتعيّن » : « لا ينتقض ».
2- في « م » : أو غيره.
3- في المصدر زيادة : « السابق ».
4- في المصدر بدل « فيها » : « لها ».
5- الفصول : 409 - 410.

ولعلّ مراده رحمه اللّه على ما يظهر من تفسير (1) القسمين مع قطع النظر عن الأمثلة - أنّ الوقائع على قسمين :

قسم : يتعيّن فيه الأخذ بمقتضى الاجتهاد والتقليد على وجه لو وقع من العامل التارك للطريقين لا يقع صحيحا ، سواء كان العمل مطابقا للواقع أم لا.

وقسم : يعتبر فيه مطابقة الواقع ولا يلاحظ فيه الاجتهاد والتقليد على وجه لو صدر من الجاهل نقول بصحّته فيما لو طابق الواقع.

ففي القسم الأوّل لا نقض ؛ إذ المقتضي للصحّة - وهو وقوع الواقعة على طبق الاجتهاد والتقليد - واقع ، ولا مدخل للواقع في ذلك ، فيكون من قبيل النسخ من حيث ارتفاع حكم المنسوخ عن الموارد المتأخّرة دون المتقدّمة.

وأمّا في القسم الثاني فلمّا كان المدار على الواقع (2) وإنّما يكون الاجتهاد طريقا إليه - لو وقع الفعل على طبق الاجتهاد - كان الحكم بالنقض في محلّه.

ولو فرض أنّ مراده هو ما ذكرناه ، ففيه أنّه :

إن اريد من اعتبار وقوع الواقعة على وجه الاجتهاد أن يكون الاجتهاد موضوعا لثبوت الأحكام المترتّبة عليه ، من صحّة الصلاة والزوجيّة والبينونة والحرّية والرقّية والملكيّة ونحوها - كما كنّا نقول به فيمن علم بنجاسة ثوبه بين الصلاة بالنسبة إلى العلم - فهو القول بالتصويب ؛ إذ لا واقع في البين حينئذ.

وإن اريد من اعتبار وقوع الواقعة بمقتضى الفتوى أن يكون وقوعها صحيحة في الخارج متوقّفا على الأخذ بالاجتهاد والفتوى - ولازمه وجود الواقع إلاّ أنّ

ص: 173


1- في « ط » ، « ق » و « م » بدل « تفسير » : « نفس ».
2- في « ع » زيادة : « دائما ».

الطريق إليه لا بدّ وأن يكون الاجتهاد - فهذا خلاف الإجماع على ما حكي أوّلا بالنسبة إلى بعض الأحكام ، كما في المعاملات ، فإنّها من قبيل الأسباب التي لا مدخل للاجتهاد والتقليد في صحّتها ، فلو أوقع المكلّف بيعا مشتملا على جميع ما يعتبر فيه من دون اجتهاد أو تقليد ، فالحقّ هو الصحّة.

ولعلّ المفصّل المذكور - أيضا - مذعن بالصحّة في غير المقام.

بل التحقيق - على ما بسطنا فيه الكلام في محلّه - : أنّ المدار في جميع الأحكام هو وقوعها مطابقة للواقع - سواء كانت عبادة أو معاملة - ولا مدخل للاجتهاد والتقليد فيها بعد إحراز مطابقتها للواقع.

سلّمنا أنّ الاجتهاد ممّا يؤثّر في صحة العمل ، ولكنّه ما الفرق بين القسمين ، حتى أنّه التزم بعدم النقض في الأوّل وبه في الثاني؟ إذ لا مائز بينهما في الواقع.

سلّمنا وجود المائز بينهما ، ولكن اشتراط صحّة العمل بوقوعه على طبق الاجتهاد لا يلازمه عدم النقض ؛ إذ المفروض عدم كون الاجتهاد موضوعا صرفا ، على وجه يكون الواقع غير ملحوظ فيما وقع على طبق الاجتهاد. نعم ، غاية ما يلزم من ذلك فساد العمل على تقدير المخالفة وإن طابق الواقع ، وأين ذلك من الحكم بالصحّة وعدم النقض بعد الكشف بفساد الاجتهاد على وجه معتبر؟

ثمّ إنّ ما استند إليه في القول بعدم النقض في القسم الأوّل من الوجوه المذكورة ، قد عرفت أنّها لا ينبغي أن يعوّل عليها في قبال ما ذكرنا من القاعدة القاضية بالنقض.

وأمّا ما (1) فصّله بين استصحاب الحكم واستصحاب الآثار المترتّبة على الاجتهاد الأوّل ، فزعم عدم جريانه في الأوّل وجريانه في الثاني ، فهو ممّا لا يقضي

ص: 174


1- لم يرد « ما » في « ط » و « م ».

به فاضل ؛ فإنّ جواز التصرّف في المثمن بواسطة وقوع العقد الفارسي أو جواز وطي المعقودة أو جواز بيع المملوك - ونحوها من الأحكام التي يتفرّع على موضوعاتها - بواسطة الظنّ المعتبر عند العامل القائم على وجود تلك الموضوعات المستتبعة لتلك الآثار ؛ إذ لا ريب في أنّها أحكام ظاهريّة من حيث وقوع الظنّ واسطة فيها ، وبعد انتفاء الواسطة لا معنى لاستصحاب تلك الأحكام ، كما اعترف به في نفس الحكم.

وأمّا ما زعمه : من أنّ تلك الآثار من مقتضيات وقوع الواقعة على الوجه الذي ثبت كونه مقتضيا لاستتباع آثارها ، فلم نعرف له وجها ؛ فإنّ ذلك الوقوع من مقتضيات الظن ، وبعد ارتفاعه لا وجه لاستصحاب مقتضاه ؛ من جهة ارتفاع الموضوع ، لا من جهة الشك في المقتضي.

واحتمال وجود موضوع آخر لتلك الآثار - بعد كونه غير معقول أصلا ؛ إذ ليس ذلك من الاستصحاب في شيء أصلا - مدفوع بأصالة العدم ، مع أنّه جار في نفس الحكم أيضا ، كما تفطّن إليه ودفعه بمثل ما ذكرنا.

وأمّا ما أفاده إجمالا بقوله : « وبالجملة فحكم رجوع المجتهد حكم النسخ » ففيه : أنّه من سخيف القول ؛ إذ الناسخ إنّما يكشف عن فساد الحكم من حينه ، ولو فرض مدلول الناسخ مثل ما نحن فيه - من كشفه عن فساد العمل على الوجه (1) الواقع قبل حدوث النسخ - كان الوجه في النسخ أيضا لزوم (2) النقض. اللّهم إلاّ بالقول بعدم اعتبار تلك الأمارة بالنسبة إلى الوقائع المتقدّمة ، وقد عرفت دفعه بما لا مزيد عليه.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يتوهّم : من أنّه إذا أثّر السبب في إيجاد المسبّب فلا وجه لتعطيل الأحكام المترتّبة على المسبّب بعد ارتفاع حكم السبب ، نظرا إلى أنّ

ص: 175


1- في « ع » بدل « على الوجه » : « في ».
2- لم يرد « لزوم » في « ع ».

ذلك إنّما يقضي بعدم تأثيره في إيجاد مسبّب آخر ، ولا مدخل فيه بالنسبة إلى آثار المسبّب الأوّل ، نظير ما (1) لو صار الوكيل معزولا ، فإنّ تصرفاته قبل العزل ماضية وإن لم يجز له التصرّف بعد العزل.

وجه الفساد : أنّ ذلك يتمّ في الأسباب الواقعيّة الموجودة حقيقة على وجه صحيح ، كما في مثال الوكالة. وأمّا لو فرض فساد الوكالة عن أصلها ، فلا يعقل القول بإمضاء تصرّفاته. وما نحن بصدده من هذا القبيل ، كما هو ظاهر على من ألقى السمع وهو شهيد.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ الوجه المذكور لو تمّ ، لكان مقتضاه عدم النقض في صورة القطع بالخلاف ؛ فإنّ المقتضي للصحّة - وهو وقوع الواقعة بمقتضى الفتوى - موجود فيه. ونحن لا نجد فارقا بين القطع بالخلاف والظنّ المعتبر القائم على خلاف العمل الواقع أوّلا.

وأمّا اعتذاره عن ذلك بندرة وقوعه فهو لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ لأنّ ندرة الوقوع لا ينافي جواز استصحاب الأحكام الثابتة للحكم السابق ، غاية ما في الباب أنّ التعليل المذكور إنّما يدفع عدم الوثوق ، وأمّا الحرج فهو أيضا ممّا لا مدخل لندرة الوقوع وكثرته فيه ، كما لا يخفى.

ويحتمل قريبا - بقرينة قوله أخيرا : « وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد » وغير ذلك ممّا يومي إليه - أن يكون مراده رحمه اللّه هو التفصيل الذي ذكره بعض آخر (2) ، حيث جعل المسائل الاجتهاديّة - معامليّا كانت أو عباديّا - على قسمين :

ص: 176


1- كذا في نسخة بدل « ط » ، وفي سائر النسخ بدل « نظير ما » : « كما يظهر بما » ، وفي « ع » : « كما يظهر ممّا ».
2- لم نقف عليه.

أحدهما : ما هو من قبيل الإنشاءات التي لم يتصرّف فيها الشارع إلاّ بالأمر بإمضائها وترتيب الآثار المطلوبة من متعلّقاتها عليها بعد صدورها وحدوثها ، أو النهي عن ذلك فلا يترتّب عليها ما هو المقصود منها ، كالعقود والإيقاعات : من البيع والنكاح والطلاق وغيرها ، فإنّ الشارع إنّما أمضى في تلك الأسباب ما هو المعهود بين العرف من آثارها.

وثانيهما : ما لا يكون كذلك ، كسائر الامور ما عدا الآثار الحاصلة من العقود والإيقاعات ، فإنّه من قبيل الأحكام المجعولة من الشارع المقدّس في موضوعات خاصة ومتعلّقات مخصوصة ، كالطهارة المعلّقة على الموضوعات الطاهرة ، والنجاسة الثابتة للأعيان النجسة ، وحلّية الأكل في الذبيحة ونحوها.

ولا ريب أنّ الأحكام المتعلّقة بتلك الموضوعات - وضعية أو تكليفية - إنّما هي أحكام جعليّة شرعيّة قرّرها الشارع لتلك الموضوعات ، فتكون منوطة بالاجتهاد الذي هو الطريق إليها ، فإذا رأى طهارة العصير العنبي بالاجتهاد فلا بدّ من إجراء حكمها عليه ، وإذا بدا له نجاسته فيجب إجراء حكمها عليه في الوقائع السابقة أيضا ، وكذا لو بنى على كفاية قطع الحلقوم في التذكية وعمل بها ثمّ بدا له حرمة الذبيحة المعهودة فلا بدّ من البناء على الحرمة والنجاسة من أوّل الأمر.

وذلك بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه يؤخذ فيه بالنسبة إلى موارد وجود تلك الأسباب فيها بمقتضيات تلك الأسباب فيها ، فلو عقد على المرضعة عشر رضعات بناء على اجتهاده أو تقليده ، ثمّ عدل عن ذلك وظنّ حرمتها ، لم يجز له العقد على مثلها وإن لم يؤثّر في العقد السابق وصحّ نكاحها (1).

والوجه في هذا التفصيل - الراجع حقيقة إلى التفصيل بين الإنشائيّات

ص: 177


1- انتهى التفصيل.

وغيرها - هو : أنّ الأثر الحاصل منها ممّا يكفي في الحكم بوجوده وقوعها على وجه الإمضاء الشرعي ، والمفروض هو الوقوع بحسب الاجتهاد الأوّل ، فلا يؤثّر في ارتفاعها إلاّ ما قرّره الشارع رافعا لها ، كالفسخ في البيع والطلاق في النكاح. وليس من الرافع تبدّل الاجتهاد ، فالأصل قاض ببقاء الآثار المترتّبة عليها ، كما في البيع الصادر من الوكيل بعد انعزاله.

وأمّا النقض في غير الإنشائيّات ، فلأنّه ليس هناك آثار حاصلة كما في البيع ونحوه ، بل إنّما هي أحكام شرعيّة تابعة في مواردها للاجتهاد والتقليد وغيرهما من الطرق الشرعيّة ، فتبقى ببقائها وترتفع بارتفاعها.

فحاصل التفصيل : أنّ الامور الراجعة إلى إمضاء الشارع ، من الأسباب الواقعيّة المعمولة عندهم (1) ، لا وجه للنقض فيها ؛ فإنّ تلك الأسباب غير محتاجة في التأثير إلى حكم ، وإنّما يكفيها مجرّد إمضاء الشارع ولو في وقت ما. وأمّا غيرها ممّا هو راجع إلى جعل الأحكام لموضوعات خاصّة خارجيّة - كحلّية الذبيحة وطهارة الغسالة ونجاسة الثوب المتنجّس بالبول المغسول مرّة بالكرّ ونحوها - فالوجه فيه النقض.

وهذا التفصيل - على تقدير انطباقه بكلامه أيضا - ممّا لا وجه له ، مع أنّ الأمثلة التي أوردها في القسمين ممّا لا يلائم ذلك.

وبالجملة : فلا نزاع لنا في ما وافقنا من الحكم بالنقض وإن لم يظهر لنا وجه ذلك منه.

وأمّا فيما زعم عدم النقض فيه ، فيرد عليه : أنّ الأحكام الشرعية بأسرها - سواء كانت من قبيل الإنشائيّات التي تعلّقت بموضوعات خاصّة ، كما في الأحكام التكليفيّة ، كوجوب الإتيان بالصلاة ، وحرمة شرب العصير ، ووجوب الوفاء بالنذر

ص: 178


1- لم يرد « عندهم » في « ع ».

والعقد والشرط ، ووجوب ردّ العوضين عند تحقّق ما يوجب حلّ العقد ، ونحوها ممّا لا حصر لها ، أو كانت من الإخبار بوقوع امور واقعية ، على مسامحة في إطلاق الحكم الشرعي على هذه الأخبار على الوجه المصطلح كما فصّلناه في محلّه ، كنجاسة الملاقي للنجاسة ، وكخباثة (1) المنبعثة من الجنابة ، ومثل تحقّق ملك الخيار غير الاشتراط وملك الثمن والمثمن عند جريان العقد ، ونحوها - امور واقعية لا سبيل لنا إليها إلاّ بواسطة الإدراكات التي منها الاجتهاد والتقليد. ولا يعقل تأثير تلك الواسطة فيما توصّلنا إليه. وعلى تقديره فلا فرق بين المطالب التي تجعل تلك الإدراكات واسطة في نيل المدرك إليها. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل المذكور.

وأمّا ما زعمه : من الفرق بين الأسباب الواقعيّة (2) التي لا يلحقها إلاّ إمضاء الشارع وبين غيرها ، فممّا لا يجدي شيئا ؛ فإنّ الكلام إنما هو في إمضاء الشارع ولو آناً ما ، فإنّ المفروض انكشاف فساد الأمارة الاولى بالأمارة الثانية. نعم ، لو قيل بأنّ اعتقاد الإمضاء إنّما يقوم مقام الإمضاء حقيقة ، في الحكم بوجود المعتقد ، كان ذلك هو الوجه ، إلاّ أنّه كما ترى!

وربّما يفصّل بين مطلق الأسباب - سواء كانت عرفيّة كما في الإنشاءات أو شرعيّة كالغسل والتذكية والطهارة (3) والحلّية - وبين غيرها ، مثل الأحكام التكليفيّة الصرفة ، فيقال بعدم النقض في الأوّل وبه في الثاني.

ويفارق التفصيل المتقدّم بأنّ موارد النقض في الأوّل أكثر منه ، حيث إنّ عدمه كان مختصّا بالأسباب العرفيّة فقط بخلافه ، فإنّه يشمل الأسباب الشرعيّة أيضا.

ص: 179


1- كذا ، والمناسب : « كالخباثة ».
2- لم يرد « الواقعيّة » في « ع ».
3- في « ط » و « ع » بدل « والطهارة » : « للطهارة ».

وكيف كان ، فالدليل عليه : أنّ كلّ ما تعلّق الاجتهاد على سببيّة شيء - كالبيع للملك ، أو الغسلة الواحدة للطهارة ، أو الذبح للتذكية ، أو غير ذلك - ثمّ أوجد المكلّف ذلك السبب في الخارج على حسب الاجتهاد أو أحد الطرق الشرعيّة ، فقد وقع ذلك السبب في الخارج من أهله في محلّه ، ولا وجه لارتفاع أثره إلاّ بما جعله الشارع رافعا له ، من الإقالة والفسخ وحدوث النجاسة ونحوها ، وليس تبدّل الاجتهاد منه. بخلاف الأحكام التكليفيّة الصرفة ، فإنّها منوطة بالاجتهاد والتقليد ، ويختلف باختلافهما.

وملخّص الفرق ، هو : أنّ مرجع النقض في القسم الأوّل إلى نقض الآثار الحاصلة في الخارج بواسطة وجود السبب القاضي بوجودها على حسب الاجتهاد الأوّل ، ومرجع النقض في القسم الثاني إلى رفع الأحكام الثابتة بالاجتهاد والتقليد.

ومن هنا يمكن أن يقال : إنّه ليس بنقض في الحقيقة ؛ إذ ليس في المقام ما من شأنه البقاء ، مثل الآثار الحاصلة من الأسباب العرفيّة أو الشرعيّة ؛ وإنّما يسمى نقضا إذا لوحظ كلّي (1) الواقعة ، لاختلاف أحكام أفرادها في زمانين ، ولا ريب أنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن العصير بواسطة الاجتهاد في زمان لا يناقض الحكم بطهارته في زمان آخر. وقد عرفت ما لا حاجة معه إلى إطالة الكلام في النقض والإبرام.

ومن أجود (2) طرق التفصيل ما سلكه بعض أفاضل المتأخّرين في مناهجه ، حيث قال : « اعلم أنّ جميع العقود والإيقاعات بل كلّ ما جعله الشارع المقدّس سببا أو شرطا أو مانعا - ممّا وقع فيه الخلاف - لها حقائق نفس أمريّة واقعيّة هي ما

ص: 180


1- لم يرد « كلّي » في « ع ».
2- لم يرد « أجود » في « ع » و « م ».

قرّره الشارع أوّلا ، وحقائق ظاهريّة وهي ما يظنّه المجتهد أنّه ما وضعه الشارع ، وهي قد تطابق الواقعيّة وقد تخالفها ، ولمّا لم يكن لنا سبيل إلى الحقائق الواقعيّة ، ولا تكليف فوق الوسع ، فالسبب والشرط والمانع وأمثالها لنا هي هذه الحقائق الظاهريّة.

ومن البديهيّات التي انعقد عليها الإجماع بل الضرورة : أنّ ترتّب الآثار على هذه الحقائق الظاهريّة يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ، فقد يترتّب الأثر بالنسبة إلى شخص ولا يترتّب عليه بالنسبة إلى آخر ، كما أنّ ملاقات النجاسة سبب لنجاسة الماء القليل عند القائل بها ، وليست سببا عند آخر ، ولا شكّ أنّ القليل الملاقي نجس للأوّل وطاهر للثاني. وكذا قطع الحلقوم فقط سبب لحلّية الذبيحة بالنسبة إلى مجتهد دون آخر. وكذا إيقاع العقد بالفارسيّة - مثلا - سبب للانتقال عند مجتهد دون آخر.

ولم يقل أحد بأنّ كلّ ما هو سبب عند مجتهد وفي نظره أو شرط يجب أن يكون كذلك عند كلّ الناس ، بل مقتضى الأصل أيضا العدم ، فلا يترتّب الأثر إلاّ فيما دلّ الدليل عليه ، وهو في حقّ من ظنّه كذلك خاصّة.

ومن هذا يظهر : أنّ ترتّب الآثار على العقود الظاهريّة وأمثالها ليس من اللوازم الواقعيّة التي لا يتخلّف عنها البتّة.

نعم ، القدر الثابت أنّها من اللوازم بالنسبة إلى مجتهد يعلمها كذلك أو مقلّده ، ولذا يبنى على الصحّة في حقّهما ويترتّب عليهما الآثار بالنسبة إليهما ، بل بالنسبة إلى مجتهد آخر إذا وقع عن المجتهد الأوّل ومقلّده وكان أثرا مترتّبا على ترتّب الآثار بالنسبة إلى المجتهد الأوّل ومقلّده ، كما مرّ مفصّلا.

وأما ترتيب الآثار بالنسبة إلى كلّ مجتهد ومقلّده فكلاّ ؛ إذ لم يقل أحد بأنّ المجتهد الذي لا يكتفي بالفارسيّة إذا أتى بها يترتّب عليه الأثر بالنسبة إليه (1).

ص: 181


1- مناهج الأحكام : 309.

وما ذكرنا من نقل كلامه هذا إنّما هو توطئة لنقل كلام آخر له في تحقيق المقام ، حيث قال : « فنقول - ومنه جلّ شأنه التوفيق - : إذا استقرّ رأي المجتهد في زمان على فتوى وعمل نفسه ومقلّده (1) ، ثم تجدّد رأيه ، فنقض الاولى في الزمان الثاني يتصوّر على وجوه :

الأوّل : إبطالها من رأس والحكم بعدم (2) حكم اللّه فيما مضى ، والحاصل جعلها لاغية بالمرّة حتّى في الزمان المتقدّم ، مثلا إذا أفتى أوّلا بكون استتار القرص مبدأ الليل ، ثمّ استقرّ رأيه بأنّه زوال الحمرة ، يحكم بقضاء الصوم الذي أفطر قبل الزوال.

الثاني : إبطال الآثار المتقدّمة في هذا الزمان الثاني ، يعني أن لا يعمل بالاولى في الثاني ، ويبني أعماله المتجدّدة على الثانية (3).

الثالث : إبطال الآثار المترتّبة على عمل صادر في الزمان الأوّل بفتواه الاولى التي لو لا تغيّر الرأي لقطع بترتّب هذه الآثار على ذلك العمل ، مثل أن ينكح بالفتوى الاولى باكرة بغير إذن الولي ، فإنّه يترتّب على ذلك النكاح آثار لو لا تجدد الرأي لقطع بترتّبها عليه.

أمّا الأوّل ، فلا خلاف في عدم جواز النقض بهذا المعنى ، والإجماع بل الضرورة ولزوم الحرج واستصحاب عدم شغل ذمته وعدم البطلان يدلّ عليه ، ولولاه لزم على كلّ أحد قضاء عباداته المبنيّة على رأي مجتهد تبدّل رأيه ، وردّ ما اشتراه واسترداد ما باعه ؛ وكذا في الزكاة المخرجة ، وغير ذلك ، وهو ممّا لم يقل به أحد.

ص: 182


1- في المصدر : « أو مقلّده بها ».
2- في المصدر زيادة : « كونها ».
3- كذا في المصدر ، وفي النسخ : « الثاني ».

وأمّا الثاني ، فلا خلاف في جواز النقض بهذا المعنى بل وجوبه ؛ فإنّه لازم تغيّر الرأي وتعبّد كلّ باجتهاده واجتهاد مجتهده ، وهو ضروريّ أيضا.

وأمّا الثالث ، فيظهر عدم جوازه من عدم جواز النقض بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ العمل الصادر في الزمان الأوّل كان صحيحا مستتبعا للأثر وقد صدر في الأوّل ، وبعد تجدّد الرأي لا يجوز الحكم بكون هذا العمل باطلا في الزمان الأوّل وليس حينئذ موجودا ، حتّى يصير موردا للفتوى الثانية ؛ فما وقع لم يرد عليه البطلان ، فلم لا يترتّب عليه أثره؟!

والحاصل : أنّ المفروض أنّ العمل المذكور مستتبع لأثره ما لم يطرأ عليه الفساد ، ولم يطرأ عليه ؛ أمّا في السابق فظاهر ، وأمّا في اللاحق فلعدم وجوده. وأيضا لم يحدث في اللاحق إلاّ استقرار الرأي بأنّ هذا العمل لو وقع في هذا الزمان لم يترتّب عليه الأثر ، ولا تأثير لذلك في ارتفاع أثر العمل السابق (1).

ثم إنّه رحمه اللّه فرّع على هذا بقاء نكاح البكر بحاله بعد التغيّر ، ثمّ استدلّ عليه باستصحاب استتباع الآثار ، واستصحاب نفس الأثر - كالزوجيّة - وبعمل السلف والخلف ، ثمّ أورد على الاستصحاب بأنّه شكّ في استعداد تلك الآثار للبقاء ، وأجاب بأنه شكّ في تحقّق المبطل.

ثمّ قال بعد ذلك كلّه : والتوضيح أنّ الأفعال الجزئيّة المتحقّقة حال الرأي الأوّل ، من الأسباب والشروط والموانع على قسمين :

أحدهما : ما يكون تأثيره وعدم تأثيره بالنسبة إلى شخص خاص أو أشخاص معيّنين من غير تجاوز منه - كالأمثلة الاولى - فإنّ العقد الجزئي الواقع على مرأة ، إنّما يصير سببا لحلّيتها على الزوج المعيّن من غير مدخليّة غيره أصلا ، وإذا كان باطلا يكون غير مؤثّر في حقّه كذلك.

ص: 183


1- مناهج الأحكام : 287.

وثانيهما : ما ليس كذلك ، كغسل الثوب المعيّن من البول ، فإنّه يصير سببا لطهارة هذا الثوب لكلّ من يرى الاكتفاء بالمرّة ، وغير مؤثّر في حقّ كلّ من لا يراه كذلك. وكذلك قطع الحلقوم في التذكية إذا قطعه ، فإنّه يصير المذبوح المعيّن حلالا على كلّ من يكتفي في التذكية بقطع الحلقوم وعلى مقلّديه ، ويكون حراما على كلّ من لا يكتفي فيها به.

فإن كان من الأوّل فلا يجوز النقض فيه ، وما مرّ من الإجماع وسائر الأدلّة يدلّ عليه.

وأمّا ما كان من الثاني فإنّه ينتقض بعد التغيّر ، فيقال : إنّ من يرى غسل المرّة فيه غير كاف إذا غسل الثوب مرّة يكون نجسا ما دام على ذلك الرأي ، وإذا تبدّل رأيه ورأى كفاية المرّة يطهر له هذا الثوب ؛ وذلك لأنّ هذا الغسل الجزئي لذلك الثوب المعيّن - مثلا - حال ظنّ عدم كفايته كان غير مؤثّر في حقّه ، لأجل أنّ هذا الشخص مندرج تحت عنوان « من يظنّ عدم كفايته » ولذا كان نجسا لكلّ من يظنّ كذلك ، وهذا الغسل بعينه لهذا الثوب بعينه في هذا الحال سبب للطهارة في حقّ كلّ من يرى الكفاية بالإجماع والضرورة ، ولأنّه لا يشترط في طهارة الثوب كون الغسل صادرا عمّن يرى كفاية المرّة ، ولا كون الثوب ملكا له ، فإذا تغيّر رأي الشخص الأوّل واندرج تحت العنوان الثاني ، لا بدّ أن يكون الثوب طاهرا في حقّه. ولا يشترط أن يكون أيضا صادرا حال تغيّر الرأي ؛ لأنّ ظنّه حينئذ حجة في حقّه ، ومظنونه الحاصل بسبب الأدلّة الشرعيّة : أنّ الغسل مرة سبب للتطهير مطلقا ، وليس مقيّدا بأنّ الغسل المتحقّق حال هذا الظن كذلك ، إذ لا تقييد في شيء من الأدلّة الظنّية بذلك أصلا.

ولذا ترى المجتهدين إذا حدثت الوقائع قبل اجتهادهم فيها واستفتي منهم ، يتأمّلون في حكم المسألة بعد حدوثها ، ويحكمون على الحادثة السابقة بما استقرّ

ص: 184

رأيهم بعد الاجتهاد. وليس المراد أنّ الغسل السابق صار سببا حينئذ ، بل سببيّته تحقّقت أوّلا ، ولكن لم يكن هذا الشخص داخلا في عنوان « من تحقّقت في حقّه السببيّة » ، ودخل فيه حينئذ ، كما أنّ من وقف شيئا على ضيفه فصار شخص بعد مدّة ضيفا له ، فإنّ الوقفيّة عليه لا تتحقّق حينئذ ، بل الدخول في العنوان تحقّق في هذه الحالة. وعلى هذا فلا أثر للاستصحاب المذكور ؛ لثبوت السببيّة في حقّ من دخل في هذا العنوان ، ولأنّ عدم السببيّة أوّلا كان لمن دخل في عنوان آخر ، فقد تغيّر الموضوع.

وأمّا الإجماع المذكور فاختصاصه بالأوّل ظاهر ، بل يمكن دعوى الإجماع على النقض في الثاني. وكذا الحال في غير هذا المثال (1) ، انتهى ما أفاده في توضيح المقام.

وأنت بعد ما عرفت من مبنى النقض وعدمه تعرف مواضع الفساد في هذه الكلمات. ولا بأس بالإشارة إلى بعض وجوه النظر فيه :

فنقول : أمّا ما أفاده أوّلا : « من أنّ الأسباب الشرعيّة وشرائطها وموانعها لها حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة » فهو ممّا لا يطابق الواقع ؛ إذ ليس الطرق الشرعيّة إلاّ مثل الطرق التي يستعملونها العقلاء والعرف في استكشاف مقاصدهم واستظهار مطالبهم ؛ فكما أنّ المسترشد من الطريق الموصل إلى بلد ، لو اتّكل في سلوك سبيله إلى قول من يورث له الظنّ بالطريقيّة والوصول إلى ذلك البلد ، لا يعقل له القول بأنّ ما يوصل إلى ذلك البلد له حقيقة واقعيّة وحقيقة ظاهريّة ، فكذلك في الطرق الموصلة إلى الأحكام الشرعيّة ، فإنّ كلّها يكشف عن تلك الأسباب الواقعيّة والأحكام الموجودة في نفس الأمر المخزونة عند أهلها.

ص: 185


1- مناهج الأحكام : 288.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الأحكام الوضعيّة كالشرعيّة التكليفيّة التي يتحقّق بواسطة الإنشاء والجعل المساوق له ، وبين القول بانتزاعها من الامور التكليفيّة ، أو كونها امورا واقعيّة كما هو مقتضى مذاق التحقيق - على ما قرّر في محلّه (1) - ولا (2) يعقل أن يكون للطريق مدخل فيما هو طريق إليه ، فليس عندنا إلاّ الأسباب الواقعيّة التي يستكشف عن وجودها وتحقّقها في محالّها تارة بالعلم واخرى بالظن ، غاية الأمر أنّ العلم غير محتاج في الأخذ بما يترتّب على كشفه عن الواقع إلى دليل ، بخلاف الظن ، فإنّ ترتيب الآثار الواقعيّة على المظنون بواسطة الكشف الظنّي يحتاج إلى دليل. وهذا الفارق ليس قاضيا بما زعمه : من اختلاف الماهيّات على وجه الظاهريّة والواقعيّة.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الوجه في عدم جواز الأخذ بالأسباب الظاهريّة لكلّ أحد ، ليس لما زعمه : من أنّ تلك الماهيّة إنّما تكون سببا بالنسبة إلى شخص دون آخر ، بل الوجه هو وجود الدليل على جواز الاعتماد على ذلك الكشف الظنّي وعدمه (3).

وأمّا ما أفاده في التقسيم إلى الأقسام الثلاثة فكلامه فيه متهافت ؛ فإنّه صرّح في القسم الثاني بالنقض ، وقضيّة ذلك النقض بالنسبة إلى الوقائع الحادثة في القسم الثالث أيضا ، فإنّ جواز الوطي في البكر المعقود عليها بغير إذن الولي بعد تغيّر الرأي لا وجه لإلحاقه بالقسم الأوّل مع إمكان إلحاقه بالقسم الثاني ،

ص: 186


1- راجع فرائد الاصول 3 : 125 - 130.
2- في « م » : إذ لا.
3- لم يرد « وعدمه » في « ع » و « م ».

فإنّ ذلك هو لازم تغيّر الرأي بعد القول بوجود الواقع أوّلا (1) ، فلا وجه للنقض في القسم الثاني (2) أيضا.

وأمّا ما ذكره في التعليل - من أنّ العمل المذكور مستتبع لأثره ما لم يطرأ عليه الفساد ، ولم يطرأ عليه ؛ أما في السابق فظاهر ، وأما في اللاحق فلعدم وجوده - فهو بمكان من الوهن والضعف ؛ فإنّه لو فرض فساد العقد الواقع أوّلا ولو بمقتضى الاجتهاد الأوّل ، فيجري فيه الكلام المذكور ، فإنّه غير موجود ، وما نحن فيه إنّما يظهر فساده من أوّل الأمر.

وأما ما استدلّ به على عدم النقض فقد عرفت فيما تقدّم عدم الملازمة في بعض منها ، وعدم الدليل على بطلان اللازم في الآخر ، وعدم تحقّق بعض آخر ، كما مرّ مفصّلا.

وأمّا ما أورد في السؤال والجواب عن الاستصحاب فكلاهما ضعيفان ؛ فإنّه ليس شكّا في مقدار الاستعداد ، ولا شكّا في حدوث المبطل ، بل الواقع أنّه ظهور فساد بدليل معتبر ، فيكون من الشكوك السارية ، كما هو ظاهر.

وأمّا ما أورده في التوضيح ، فملخّصه يرجع إلى التفصيل بين الامور التي لا مدخل لها (3) إلاّ لشخص معيّن أو أشخاص معينين فلا يحكم فيها بالنقض ، وبين غيرها فيحكم فيها به. وليت شعري! ما الفرق بينهما بعد الغضّ عمّا فيه من حيث الموضوع؟ فإنّ ما زعمه من القسم الأوّل كالنكاح ليس من الامور المختصّة ؛ فإنّ أحكام زوجيّة هند لزيد - مثلا - لا تختصّ بزيد فقط أو بهند كذلك ، بل من جملة أحكامها حرمتها على غير زيد ، وهو يعمّ جميع الآحاد.

ص: 187


1- لم يرد « أوّلا » في « م ».
2- في « م » : « بالقسم الثاني ».
3- في « ط » و « ع » بدل « لها » : « فيها ».

وكيف كان ، فالمطّلع على وجوه النظر واختلاف الأنظار في الصحّة والسقم لا ينبغي له الإصغاء إلى هذه الوجوه.

وأضعف من الكلّ ما قد نسب إلى بعض أجلّة السادات (1) : من التفصيل بين المجتهد فحكم بالنسبة إليه بالنقض ، والمقلّد فحكم فيه بعدمه. واستدلّ على العدم بالاستصحاب والحرج. وعلى تقدير التماميّة لا يعقل الفرق بين المجتهد وغيره. واللّه الهادي.

ص: 188


1- انظر مفاتيح الاصول : 582.

هداية

قد أشبعنا الكلام في الإجزاء وعدمه وترتيب الآثار وعدمه بالنسبة إلى من ظهر له فساد العمل السابق بأمارة ظنّية معتبرة ، ولنذكر طرفا منه بالنسبة إلى فعل الغير ، كما إذا اعتقد المجتهد أو المقلّد خلاف ما يراه المجتهد الآخر أو المقلّد الآخر ، فنقول : إنّ قضيّة ما قرّرنا في الهداية السابقة - من أنّ الطرق الشرعيّة إنّما هي طرق إلى الواقع من دون تصرّف لها فيه - هو عدم ترتيب آثار الواقع على فعل الغير المخالف في الاعتقاد له ، فلا يجوز الأكل من الدبس المشترى بالبيع معاطاة لمن لم يجوّز ذلك ، ولا يجوز الاقتداء بمن لا يعتقد وجوب السورة مع العلم بمطابقة عمله لاعتقاده. وأمّا عند عدم العلم فيحتمل جواز الاقتداء ؛ نظرا إلى أصالة الصحّة في فعله ولو لم يكن الصحّة معتبرة في اعتقاده ، كما قرّر في محلّه.

والمسألة في غاية الإشكال نظرا إلى بعض اللوازم ؛ إذ على تقديره يجوز العقد على المعقودة بالفارسيّة لمن لم يجوّز ذلك وأمثاله ، كما لا يخفى.

إلاّ أنّه لم نجد مصرّحا بالخلاف أيضا ، بل يظهر ممّا في تمهيد القواعد كونها مفروغا عنها بعد القول بالتخطئة ، حيث ذكر في ثمرات التخطئة لزوم إعادة الصلاة إلى القبلة الاجتهاديّة إذا انكشف كونها خطأ ، وعدم جواز الاقتداء عند مخالفة الإمام والمأموم في الأجزاء والشرائط (1) بل المحكي عن العلاّمة في التذكرة (2)

ص: 189


1- تمهيد القواعد : 322 - 323.
2- التذكرة 4 : 283.

والتحرير (1) ونهاية الإحكام (2) ، وعن الشهيد في الدروس (3) والذكرى (4) والبيان (5) ، وعن الصيمري (6) وابي العباس (7) : أنّ المخالف في الفروع لا يجوز الاقتداء به (8) إذا فعل ما يقتضي فساد الصلاة عند المأموم ، كترك السورة ، والصلاة في المغسول مرّة ، ولبس السنجاب ، ونحوها.

وهذا الحكم وإن كان بعيدا عن مذاق المعاصرين - على ما استكشفناه منهم (9) - فإنّ منهم من يصرّح بعدم النقض في بعض الأمثلة (10) ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّ ذلك ناش عن عدم التعمّق فيما يوجب ذلك من المدارك ، بل إنّما هو قول منهم بمجرّد الاستبعاد ، وإن كانوا هم غافلين عن ذلك ومتخيّلين أنّ ذلك منهم إنّما هو بواسطة دليل دلّهم على ذلك ، وأنّى لهم بذلك بعد ما عرفت من القاعدة التي لا مخرج عنها؟

والذي يسهّل الخطب عدم وقوع أمثال تلك الوقائع (11) في الخارج إلاّ نادرا ، وعلى تقديره فلا يعلم به ، فلا يكون من موارد الابتلاء والتكليف ، ولا يجب الفحص عن أمثال ذلك.

ص: 190


1- انظر التحرير 1 : 52.
2- نهاية الإحكام 2 : 140 - 141.
3- الدروس 1 : 218.
4- الذكرى 4 : 393.
5- البيان : 229.
6- غاية المرام 1 : 218.
7- الموجز ( الرسائل العشر ) : 111.
8- « به » من « ق ».
9- لم ترد « منهم » في « م ».
10- انظر الجواهر 13 : 393.
11- في « ط » و « م » زيادة : « أوّلا ».

ثمّ إنّ بعض التفاصيل المتقدّمة أيضا يجري فيما نحن بصدده ، كما صرّح به في المناهج عند الاعتراض على ما زعمه المحقّق القمّي رحمه اللّه ، بعد (1) ما نفى الشكّ من مزاحمة مجتهد لمجتهد آخر ومزاحمة مقلّده ، فإنّه أطلق القول بالبناء على الآثار المترتّبة على الاجتهاد (2) ، حيث قال : والظاهر جواز بنائه على صحّة ما حصل بفعلهما (3).

فاعترض عليه في المناهج : « انّ عدم المزاحمة حقّ ؛ وأمّا البناء على صحّة ما حصل بفعلهما ، فإن أراد أنّه يجوز له أن يحكم بترتيب جميع الآثار عليه - حتّى ما يتعلّق بهذا المخالف وفي حقّه - فليس بإطلاقه ، بل الأثر المترتّب عليه إمّا في حقّ الفاعل أو هذا المخالف ، فما كان من الأوّل فيحكم بترتّبه ، وما كان من الثاني فإن كان مترتّبا على صحّته في حقّ الفاعل فكذا ، وإن كان مترتّبا على نفس الفعل فلا » (4). ثمّ أخذ في بيان الأمثلة لما ذكره.

وذلك التفصيل وإن كان مخالفا في التحرير لما فصّله في الهداية السابقة ، لكنّه يؤول إليه عند التحقيق والاستظهار.

وأنت خبير بأنّ المبنى في الكلّ واحد ، وبعد الاعتراف بأحد الوجهين في كيفيّة الطرق الكاشفة للواقع لا وجه للأخذ بما ينافيه.

ثمّ إنّه يظهر من بعض من ذهب إلى جواز ترتيب الأثر على فعل الغير عند المخالفة ، طور آخر من الاستدلال (5) ، حيث استند في ذلك إلى عدم الدليل على

ص: 191


1- في « ط » و « م » : وبعد.
2- في « ق » زيادة : « الأوّل ».
3- القوانين 2 : 400.
4- مناهج الأحكام : 289.
5- لم نقف عليه.

اشتراط الصحّة الواقعيّة في ترتيب الآثار ، مثل الاقتداء في الصلاة مع تخالف الإمام والمأموم ، وجواز الأكل من الخبز المشترى بالمعاطاة ، ونحو ذلك ، بل زعم كفاية الصحّة في الجملة ولو في نظر الشخص ، وكون الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة لا يقضي بالصحّة الواقعيّة - بعد التسليم - فإنّ ذلك فرع كوننا مخاطبين بالخطابات المزبورة ، وهو خلاف التحقيق ؛ لما حقّق في محلّه : من أنّ الخطابات مختصّة بالمشافهين ، واشتراكنا معهم إنّما هو في الأحكام الثابتة بالنسبة إليهم ، لا في العمل بظواهر الخطابات ، وقاعدة الاشتراك في التكاليف الواقعيّة وإن كانت قاضية بالفساد ؛ ضرورة تعلّق تكاليفهم بالامور الواقعيّة ، إلاّ أنّ العمدة في إثبات تلك القاعدة هو الإجماع ، وفقده في محلّ الكلام غنيّ عن البيّنة.

وفيه - بعد الغضّ عن جميع ما في تفاصيل كلامه - : أنّ الاجماع ثابت على الاشتراك ، وهذه قاعدة لا بدّ من الخروج عنها إلى دليل ، وليس يكفي في ذلك مجرّد وجود الخلاف ، بل لا بدّ من دليل قاض بذلك ، وهو ظاهر في الغاية ، كما يوضّحه ملاحظة القواعد الإجماعيّة في مواردها ، كموارد الاشتغال ، فإنّ وجود الخلاف في مورد لا يقضي بعدم الاستناد إلى تلك القاعدة ، بل لا بدّ من إقامة الدليل على المخالفة.

ص: 192

تذنيب

قد ذكر غير واحد منهم في باب الحجّ (1) : أنّه لو أحرم بغير غسل الإحرام أو صلاتها عامدا أو جاهلا أو ناسيا أو ذاكرا يستحبّ له التدارك لما تركه من الغسل والصلاة وإعادة الإحرام (2).

والوجه فيه ما ورد في الصحيح (3) ، بعد السؤال عما تقدّم من لزوم الإعادة ، فإنّه محمول على الاستحباب عند المشهور ، ومنهم الشيخ (4).

وأورد عليه ابن ادريس - كما هو المحكيّ عنه (5) - : بأنّه إن أراد أنّه نوى الإحرام وأحرم ولبّى من دون صلاة وغسل فقد انعقد إحرامه ، وأيّ إعادة تكون عليه؟ وكيف يتقدّر عليه؟ وإن أراد أنّه أحرم بالكيفيّة الظاهرة من دون النيّة والتلبية فيصحّ ذلك ويكون لقوله وجه (6) ، انتهى.

أقول : إنّ بعد ما عرفت فيما تقدّم : من أنّه يمكن الأمر بإعادة الفعل المأتيّ به على وجه الصحّة الواقعيّة استيفاء لما هو الأكمل من الفعل المأتيّ به ، لا وجه لما

ص: 193


1- كالشيخ في المبسوط 1 : 315 ، والعلاّمة في المنتهى ( الطبعة الحجرية ) 2 : 673 ، والشهيد الثاني في المسالك 2 : 229 - 230.
2- لم يرد « وإعادة الإحرام » في « م ».
3- الوسائل 9 : 28 ، الباب 20 من أبواب الإحرام ، الحديث الأوّل.
4- المبسوط 1 : 315.
5- حكاه عنه في المختلف 4 : 49.
6- السرائر 1 : 532.

أورده الحلّي على الشيخ ؛ فإنّ انعقاده لا ينافي استحبابه (1) ثانيا ؛ لما في الفرد الثاني من الكمال ما ليس في الأوّل.

على أنّ ما ذكره أخيرا - على تقدير الإحرام الظاهري بدون النيّة - غير موجّه ؛ إذ على تقديره فيجب الإعادة ، إذ لم ينعقد إحرامه بمجرّده ، وذلك نظير استحباب الإعادة في الصلاة التي لم يؤذّن فيها بعد انعقاد إحرام الصلاة. ولا ينافي ذلك كون إحرام الحج بعد انعقاده ممّا لا ينقطع إلاّ بمثل الصدّ والإحصار ونحوه ؛ لورود النصّ بذلك أيضا في خصوص المقام (2).

ومن هنا قد التزم سيد الرياض بوجوبه (3) ، إلاّ أنّ ذلك منه في غير محلّه ؛ فإنّ إفادة الأمر (4) الاختياري للإجزاء أمر لا يقبل أن ينازع فيه ، والوجوب ثانيا ينافي ذلك. نعم ، استحبابه غير مناف لذلك ، كما لا يخفى على المتدبّر فيما ذكرنا.

وقد يقال : بإمكان الأمر الوجوبي بالفرد الكامل ، كما في الواقعي الاضطراري.

وليس بشيء ؛ لأنّ المنشأ لو كان ترك الواجب في حالة الإجزاء صحّ ذلك ، بخلاف ترك الأجزاء المستحبّة.

هذا آخر ما أفاده الاستاذ المحقّق في هذه المسألة الشريفة المذكورة ، أعني مسألة الإجزاء.

ولعمري ، إنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل ، وتكلّم الاستاد فيها من أعظم الكلمات. خذها واغتنم ، فلله الحمد ، إنّه خير موفّق.

ص: 194


1- عبارة « فإنّ انعقاده لا ينافي استحبابه » من « ط » ، وفي « ع » و « م » ذكرت العبارة بعد قوله « إحرام الصلاة » الآتي بعد سطور.
2- لم نعثر عليه.
3- انظر الرياض 6 : 228 - 229 ، وفيه : « وكيف كان فلا ريب في الاستحباب ».
4- في « ع » زيادة : « الواقعي »

القول في وجوب مقدّمة الواجب

اشارة

ص: 195

ص: 196

وتحقيق الكلام على وجه يرتفع به غواشي الأوهام في طيّ هدايات.

هداية

اعلم : أنّ من الامور التي ينبغي مراعاتها في التعاليم هو معرفة المسألة التي يقع البحث فيها قبل الخوض في الاستدلال نفيا أو إثباتا ، من حيث دخولها في أيّ فنّ من الفنون المدوّنة ، ثمّ في لحوقها بأيّ باب من أبواب ذلك الفنّ ، ليكون الطالب على بصيرة من ذلك من حيث ملاحظة أخواتها في الحكم ومقايستها عليها. وذلك وإن لم يكن من الامور اللازمة ، إلاّ أنّ فيها جدوى كثيرة.

فنقول : ربّما يتوهّم دخول المسألة في المسائل الفرعيّة ، لرجوع البحث فيها إلى البحث عن العوارض اللاحقة لفعل المكلّف من حيث الاقتضاء والتخيير - كما في البحث عن وجوب الصلاة والزكاة ونحوهما - فيكون من المسائل الفرعيّة.

ولكنّه ليس على ما يتوهّم ؛ إذ مرجع البحث فيها إلى أنّ العقل هل يحكم بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها أو لا؟ فيرجع البحث فيها إلى البحث عن تحقّق (1) الملازمة بين الإرادة الجازمة المتعلّقة بشيء وبين إرادة مقدّماته. وذلك كما ترى ليس بحثا عن فعل المكلّف ، بل هو بحث عن اقتضاء نفس التكليف والطلب وإن استلزم العلم بها العلم بكيفيّة عمل المكلّف من حيث وجوب الإتيان به وإباحته ، كما هو الشأن في جميع المسائل الاصوليّة ، فإنّها مهّدت لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعيّة منها.

ص: 197


1- في ( م ) ، ( ع ) بدل « تحقّق » : نفس.

ومن ذلك يظهر شمول الحدّ المذكور للاصول لها أيضا. ويتّضح ما ذكرنا غاية الاتّضاح عند ملاحظة أنّ علم المقلّد بهذه المسألة ممّا لا يجديه في شيء من أعماله وأفعاله. وذلك ظاهر لا سترة عليه بعد ملاحظة أنّ تشخيص موضوعها موقوف على الاجتهاد الذي ليس للمقلّد فيه حظّ ولا نصيب ؛ مضافا إلى ما يشاهد من درجها في مسائل الاصول في كتب مهرة الفنّ وأساطين الصناعة ؛ وبذلك يكفي شاهدا ودليلا.

ثمّ إنّ من هنا ينقدح لك القول بأنّ الترتيب الطبيعي يقضي بأن تكون ملحقة بالمسائل المذكورة في المبادئ الأحكامية - كما صنعه العضدي تبعا للحاجبي (1) - فإنّ من المناسب عند تحقيق الحكم الشرعي وتقسيمه إلى الوضعي والتكليفي وتنويعه إلى الأنواع الخمسة المعروفة تحقيق لوازم تلك الأحكام ، من حيث إنّ الوجوب المتعلّق بشيء يستلزم وجوب مقدّماته أو لا. أو مذكورة (2) في مباحث الأدلّة العقليّة - كما صنعه آخرون (3) - من حيث ثبوت حكم العقل (4) في هذه المسألة ، كما في مسألة ثبوت حكمه في أصالة الإباحة ؛ إذ لا اختصاص لها بما يتفرّع على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ولا بما يستقلّ العقل باستفادة حكمه ولو من غير توسيط للخطاب الشرعي ، بل قد عدّت (5) في عدّة مواضع من كلمات المحقّقين الملازمات العقليّة في عداد أدلّتها (6).

ص: 198


1- راجع مختصر الاصول وشرحه للعضدي : 3 و 90 ، حيث جعل علم الاصول في امور أربعة أوّلها في المبادئ ، وأورد البحث عن مقدّمة الواجب في الأمر الأوّل.
2- عطف على قوله : ملحقة.
3- كالفاضل التوني في الوافية : 291 ، وانظر هداية المسترشدين 2 : 84 ، وضوابط الاصول : 83.
4- في ( ع ) و ( م ) : الحكم للعقل.
5- في « م » بدل « عدّت » : حقّق.
6- راجع الفصول : 336 - 337 ، وهداية المسترشدين 3 : 496.

وأمّا ذكرها في مباحث الألفاظ - كما صنعه صاحب المعالم (1) وتبعه في ذلك جماعة (2) - فليس على ما ينبغي ؛ إذ غاية ما يمكن أن يقال فيه هو : أنّ الوجوب لمّا كان من مداليل الألفاظ صحّ ذكرها في مباحثها.

وذلك ظاهر الفساد ، إذ فيه - بعد الغضّ عن أنّ الوجوب كما قد يكون الدليل عليه هو اللفظ فكذلك قد يكشف عنه العقل أو الإجماع أو الضرورة ونحوها ممّا ليس بلفظ ، والنزاع المذكور كما يتأتّى فيما يدلّ عليه اللفظ يجري في غيره أيضا من غير اختصاص بأحدهما ، كما أشار إليه المدقّق الشيرواني (3) - أنّه لا يعقل أن يكون البحث في المقام بحثا لغويّا ونزاعا لفظيّا.

وتحقيقه : أنّ المتعارف في الأبحاث اللغويّة هو تسليم المتخاصمين لوجود المعنى المتنازع في وضع اللفظ له وعدمه ، وإنّما التشاجر بينهم في ثبوت العلقة الجعليّة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى على وجه يصحّ أن يكون اللفظ مرآة وكاشفا عن ذلك المعنى الثابت في محلّ ثبوته.

وذلك كما في نزاعهم في أنّ الأمر للوجوب أو لا؟ فإنّ المعقول من هذا النزاع هو أنّ هيئة الأمر على نحو وضع الهيئات هل هي موضوعة لمعنى يلزمه الوجوب أو لا؟ مع اعتراف المتخاصمين بتحقّق هذا المعنى في الواقع وتسليمهما لاختلاف مراتب الطلب والإرادة ، فتارة يتأكّد الطلب فيصير

ص: 199


1- المعالم : 60.
2- كالمحقّق القمّي في القوانين 1 : 99 ، وصاحب الفصول في الفصول : 82 ، والفاضل النراقي في المناهج : 48.
3- في حاشيته على المعالم المطبوعة مع المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 60 ، ذيل قول المصنّف : لنا.

في تلك المرتبة منشأ لانتزاع الوجوب من الفعل ، وتارة لا يصل إلى تلك المرتبة فلا يصحّ انتزاع الوجوب من الفعل الذي تعلّق الطلب به. وبالجملة : فلا اختلاف بينهم في اختلاف مراتب الطلب ، كما لا خلاف في تحقّق المرتبة الملزومة للوجوب وثبوتها ، وإنّما النزاع في أنّ هيئة الأمر هل هي موضوعة لأيّ مرتبة منه؟

وكذلك القول في المفاهيم ، فإنّ العلقة بين التالي والمقدّم تارة تلاحظ على وجه يتفرّع وجود أحدهما على الآخر ، وتارة ملحوظة على وجه يلازم عدم أحدهما عدم الآخر أيضا ، فمع قطع النظر عن النزاع في مفهوم الشرط لا كلام في تحقّق هذين المعنيين ؛ وإنّما النزاع في أنّ لفظة « إذا » مثلا هل هي موضوعة للعلقة المذكورة على وجه يلاحظ أحدهما معلّقا على الآخر وجودا فقط أو وجودا وعدما؟

والنزاع في المقام ليس بهذه المثابة ؛ إذ الكلام في ثبوت أصل الملازمة العقليّة وتحقّقها بين الإرادة المتعلّقة بشيء وبين إرادة مقدّماته ، فالقائل بالوجوب يدّعى ثبوتها ، والقائل بالعدم ينفيها. وليس الوجوب في الواقع تارة على وجه يحكم العقل بثبوت الملازمة وتارة على وجه لا يحكم العقل بها ، فيكون النزاع في أنّ اللفظ موضوع لأيّ الوجوبين ، كما لا يخفى.

فظهر : أنّ البحث عن الملازمة المذكورة لا يشبه الأبحاث اللغويّة والنزاعات الراجعة إلى تشخيص مسمّى اللفظ. نعم ، على القول بتحقّقها يكون من المداليل الالتزامية للّفظ الدالّ على وجوب ذيها فيما إذا قلنا بأنّها من اللوازم التي لا يحتاج التصديق بها إلى وسط في الإثبات ، ومجرّد ذلك لا ينهض وجها لدخولها في مباحث الألفاظ.

ص: 200

ومن هنا يظهر لك الوجه في فساد ما استدلّ به صاحب المعالم على النفي : من انتفاء الدلالات (1) ، وفساد ما اعترض عليه بعض المحقّقين (2) : من أنّ عدم الدلالة بواسطة القرينة ممّا لا ينافي ثبوت الوضع ، إلى غير ذلك من هذه الوجوه المنبئة عن كون البحث في المقام بحثا لفظيّا ونزاعا لغويّا ، فتدبّر.

ص: 201


1- المعالم : 62.
2- وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 60 ، ذيل كلام الماتن : لنا.

ص: 202

هداية

اشارة

المقدّمة لغة : اسم فاعل من « قدّم » ، أو اسم مفعول منه ، فعلى الأوّل لا بدّ من تمحّل ، إمّا بالقول بأنّها من كثرة ارتباطها إنّما قدّمت نفسها فيكون « قدّم » - على ما هو المعهود من استعماله - متعدّيا ، وإمّا بالقول بأنّ « قدّم » بمعنى « تقدّم » فيكون التفعيل للتكثير ، كما في قوله تعالى ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) (1) وقولهم : « موّتت الإبل » وقولهم : « فرّح » بمعنى « تفرّح ». وعلى الثاني فلا إشكال ؛ لأنّها مأخوذة من مقدّمة الجيش ، وهي على الظاهر طائفة من الجيش تقدّم في المسير ليكون عيونا لهم من الأعداء ، فيكون التفعيل للتعدية ، لأنّهم قدّموهم على أنفسهم.

ومن هنا يظهر : أنّ التاء فيها للتأنيث من حيث اعتمادها على موصوف مؤنّث ، كما في قولهم : « باقية » و « سارية » و « باغية » و « طاغية » ، لاعتمادها على « النفس » المحذوفة لفظا. وليست للنقل - كما توهّم - لعدم ثبوت النقل أوّلا ، وعدم ثبوتها ثانيا. أمّا الأوّل : فلأنّ المنساق منها عرفا واصطلاحا وإن كان مختلفا ، فإنّ المراد منها اصطلاحا أخصّ ممّا هو المراد منها عرفا ؛ إذ لا يلاحظ الارتباط بين المقدّم والمؤخّر في العرف ، وفي الاصطلاح لا بدّ من ملاحظة الارتباط والتوقّف بينهما ، فوجود زيد وإن كان سابقا على وجود عمرو ، لا يكون مقدّمة لوجود عمرو اصطلاحا إذا لم يتوقّف وجوده عليه ، ويكون مقدّما عليه لغة وعرفا ، إلاّ أنّ مجرّد الاختلاف لا يقضى بالنقل. وأمّا الثاني : فلما قرّر في محلّه.

ص: 203


1- يوسف : 23.

وبالجملة : فالمقدمة بحسب مصطلح الاصوليّين عبارة عمّا يتوقّف عليه الشيء ، والمناسبة بين المعنيين ظاهرة.

وكيف كان ، فلها تقسيمات مختلفة باعتبارات متفاوتة :

منها : تقسيمها إلى الداخليّة والخارجيّة.

فالمراد بالأوّل : ما كان داخلا في ذيها ، كأجزاء الماهيّة المركّبة ، فإنّها ممّا يتوقّف عليها ، ضرورة احتياج الكلّ إلى الأجزاء (1) مع دخولها في حقيقته وماهيّته.

والمراد بالثاني : ما كان خارجا عنها فيما إذا كان ممّا يتوقّف عليه وجود ذيها. وهذا القسم في الواقع يقع على أنحاء : فتارة يكون على وجه يمتنع تخلّف ذيها عنها ، وتارة يكون على وجه لو لم يكن ما يمنع منه لكان مترتّبا عليه ، وتارة يكون ممّا يستند إليه بعد حصول الشرائط المعتبرة في تأثيره أو في تأثّر المحلّ منه ، وتارة يكون على وجه له مدخل ، في وجود ذي المقدّمة ، فتارة : بوجوده (2) فقط ، واخرى : بعدمه فقط ، ومرّة : بهما معا.

وقد جرى اصطلاح أرباب النظر على تسمية القسم الأوّل بالعلّة التامّة - كما يظهر من مطاوي كلماتهم - والقسم الثاني بالمقتضي ، ويدلّ على ذلك ملاحظة موارد استدلالاتهم في المقامات المختلفة من وجود المقتضي وارتفاع المانع ، فلولا أنّ المقتضي هو مجموع ما يتوقّف عليه الشيء ما عدا المانع لم يكن الاستدلال موجّها ؛ لاحتمال انتفاء (3) شرط من شروط التأثير.

ويظهر من بعضهم : أنّ السبب في مصطلح الفقهاء هو المقتضي. وليس كذلك ، بل الظاهر أنّ السبب في مصطلحهم هو القسم الثالث.

ص: 204


1- في ( م ) و ( ع ) : افتقار الكلّ إلى أجزائه.
2- في ( م ) و ( ع ) : « لوجوده » ، وهكذا فيما يأتي : لعدمه ، لهما.
3- في ( م ) و ( ع ) بدل « انتفاء » : « فقد ».

وعلى تسمية القسم الرابع (1) بالشرط ، والخامس بالمانع ، والسادس بالمعدّ.

ولا يخفى : أنّ ما ذكرنا - من انحصار المقدّمات في الامور الستّة - إنّما هو بملاحظة أوّلية ، وإلاّ فلا حصر في ذلك ؛ فإنّ جزء المقتضي أو السبب أو الشرط فيما إذا كان مركّبا لا يكون شيئا من الامور المذكورة ، مع أنّه من الامور التي يتوقّف عليها المعلول ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ المقصود من هذا التقسيم في المقام تشخيص ما هو مراد المفصّل بين السبب وغيره ؛ إلاّ أنّه لمّا كان منوطا بذكر الحدود التي هي مذكورة في كتب القوم لهذه الأنواع من المقدّمات ، فلا بأس بإيرادها وملاحظة ما يرد عليها ، ثمّ نذكر ما هو الظاهر من مراد المفصّل.

فنقول : قد عرّفوا السبب بأنّه : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته ، وإنّما قيّد بقولهم : « لذاته » لئلاّ ينتقض عكس الحدّ بالسبب الذي لم يستلزم وجوده وجود المسبّب بواسطة وجود المانع أو عدمه العدم لقيام سبب آخر مقامه ، فإنّ السبب المجامع للمانع أو لعدم الشرط لا يوجب وجودا ، كما أنّ عدمه مع قيام مثله محلّه لا يورث عدما.

وهذا هو الذي اختاره المحقّق القمّي (2) في المقام ، واعترض عليه بعض الأجلّة (3) - بعد أنّ المعنى المذكور بعيد عن مراد المفصّل (4) في المقام على ما ستعرف الوجه فيه - بأنّه : إن اريد بالاستلزام دوامه لم يتناول السبب الناقص ، وكذا إن أراد

ص: 205


1- عطف على قوله : على تسمية القسم الأوّل.
2- القوانين 1 : 10.
3- وهو صاحب الفصول في الفصول : 84.
4- كالسيّد المرتضى في الذريعة 1 : 83.

الاستلزام بحسب الذات - كما هو الظاهر من لفظ الحدّ - لامتناع تخلّف ما بالذات عنها. وإن أراد الاستلزام في الجملة دخل الشرط أيضا ، لأنّه قد يستلزم ذلك إذا اخذت بشرط المقارنة لغيرها.

وفيه : أنّ المراد بالاستلزام هو ما يقتضيه المقتضي لوجود الشيء الذي يجامع وجود المانع من غير اعتبار شيء زائد في المقتضي ، فلا يرتبط المقام بما زعمه من امتناع تخلّف ما بالذات ، فإنّ قولنا : « لذاته » ، تارة يعتبر على وجه يراد منه ملاحظة نفس الشيء وذاته من غير اعتبار شيء آخر فيه أو معه من وجود شيء آخر أو عدمه أو غير ذلك. وتارة يلاحظ على وجه يستفاد منه استناد الحكم المذكور في الكلام إلى ذات الشيء وحقيقته وهويّته. والمعترض إنّما خلط بين الوجهين ؛ فإنّ قولهم : « لذاته » في التعريف المذكور من قبيل الأوّل ، والمعترض إنّما حمله على الوجه الثاني ، فاعترض عليه بامتناع تخلّف ما بالذات ، كما لا يخفى.

واعترض أيضا بأنّ قوله : « ويلزم من عدمه العدم » مستدرك ، إذ ما يقيّد وجود الشيء به لا محالة يرتفع ذلك الشيء بارتفاعه ، فلا حاجة إلى ذكره.

فإن قلت : فلعلّ ذكره بواسطة إخراج المانع.

قلنا : ذلك واه جدّا ؛ لأنّه صرّح بخروج المانع من الجملة الاولى. هذا ما ذكره بعد التوضيح.

وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الجملة الثانية بمنزلة الجنس لماهيّة السبب وحقيقته ، واستيفاء ذاتيّات المعرّف أو ما هو بمنزلتها من الامور العامّة في صناعة التعريف. ثمّ ذكر الخواصّ المميّزة له عن مشاركات تلك الامور العامّة ليس بأمر عجيب ولا بشيء مرغوب عنه ، بل من الامور المستحسنة بل اللازمة. نعم ، يبقى في المقام بيان وجه تقديم ما هو بمنزلة الفصل على ما هو بمنزلة الجنس ، فإنّ الترتيب الطبيعي في

ص: 206

التعاريف هو ذكر الجنس أوّلا ثمّ الفصل - كما هو ظاهر - فلعلّ الوجه في تقديم ذلك في المقام هو التنبيه على أنّ المقصود الأصلي من السبب هو الوجود أو غير ذلك من النكات. وبالجملة : فأمثال ذلك لا يعدّ من المستدرك. نعم ، لو كان ما هو بمنزلة الجنس ممّا يغني عمّا هو بمنزلة الفصل كان الإيراد بالاستدراك موجّها.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما زعمه في توجيه كلامه في غاية السخافة ؛ إذ لا ينبغي لذي مسكة أن يتوهّم أنّ ذكر الجملة الثانية لإخراج المانع ؛ إذ هو ممّا يلزم من وجوده العدم ، فكيف يراد خروجه من قوله : « يلزم من عدمه العدم » وذلك أمر ظاهر.

نعم ، يرد على التعريف المذكور : أنّ السبب المجامع لعدم الشرط لو خلّي وطبعه لا يقتضي الوجود ؛ للفرق الظاهر بين عدم الشرط والمانع ، فإنّ المقتضي تامّ الاقتضاء مع وجود المانع. فيمكن القول بأنّ السبب لو خلّي وطبعه يلزم من وجوده الوجود ، بخلاف السبب المقارن لعدم الشرط ، فإنّ الشرط له مدخل في الوجود إمّا لكونه جزءا مؤثّرا - كما توهّم - أو لكونه شرطا في اقتضاء ما هو بعد احتفافه بالشرائط يكون مقتضيا - كما هو ظاهر - فلا وجه لإلحاق أحدهما بالآخر.

وأمّا ما ذكره : من إخراج الأسباب المتعدّدة من القيد المذكور في جانب العدم ، فيمكن أن يناقش فيه : بأنّ بعد ما هو المقرّر من امتناع ورود الأسباب المتعدّدة على مسبّب واحد ، ففي الموارد التي يتراءى تعدّده فيها ، إمّا أن يقال : بأنّ كلّ واحد من تلك الأسباب إنّما يؤثّر في وجود مسبّب خاصّ على وجه لا يترتّب عليه غيره ، أو يقال : بأنّ السبب هو القدر المشترك بين الامور المتعدّدة. وعلى التقديرين لا وجه للقيد المذكور ، أمّا على الأوّل : فلأنّ قيام سبب آخر لا يجدي في ترتّب ذلك المسبّب الّذي فرض عدم سببه. وأمّا على الثاني : فلأنّ السبب لم يرتفع ؛ لأنّ ارتفاع الكلّي وانعدامه إنّما هو بانعدام جميع ما يصدق عليه ، وارتفاع الخاصّ لا يدلّ على ارتفاع العامّ ؛ وذلك أيضا أمر ظاهر.

ص: 207

وعرّف الشرط في كلام المحقّق المذكور (1) : بأنّه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده.

واعترض عليه المعترض المزبور (2) أيضا : بأنّه منقوض طردا بالمقتضي المجامع لعدم الشرط أو لوجود المانع ، وبأجزاء المقتضي والمشروط إن كان مركّبا. وعكسا بالشرط المتأخّر عن المقتضي ، كالإجازة في الفضولي على القول بحصول الانتقال حين الإجازة.

وفيه أوّلا : أنّ المقتضي عبارة عن العلّة المفيدة لوجود المعلول ما عدا المانع ، فلا وجه لإطلاق المقتضي على المجامع عدم الشرط.

وثانيا : أنّ من المقرّر في محلّه أنّ عدم المعلول مستند إلى عدم الجزء السابق من الأجزاء المعدومة للعلّة التامّة ، ومع فرض انتفاء الشرط أو وجود المانع ، فعدم المعلول مستند إلى عدم الشرط ووجود المانع ، ولا يلزم من عدم المقتضي حينئذ عدم المعلول ، إذ لا يعقل اللزوم فيما هو حاصل.

وأمّا النقض بأجزاء المشروط والمقتضي ففي محلّه ؛ ولذلك يجب أن يحافظ عليه - كما عرفت من تقسيم المقدّمة الخارجيّة إلى الأقسام المذكورة ، دون الداخليّة - ومع ذلك فالنقض بأجزاء المقتضي باق بحاله.

وأمّا ما أورده على عكسه : من خروج الشرط المتأخّر (3) - كما في إجازة الفضولي - فكلامه غير محرّر فيه. والظاهر أنّه أراد به النقض بالشرط فيما إذا وقع جزءا أخيرا للعلّة التامّة ، فإنّه يصدق عليه أنّه يلزم من عدمه العدم ويلزم

ص: 208


1- أي المحقّق القمي ، انظر القوانين 1 : 100.
2- أي صاحب الفصول ، انظر الفصول : 83.
3- الفصول : 83.

من وجوده الوجود. وهو فاسد جدّا ، لأنّ لفظة « من » في الحدّ نشويّة ، والوجود حقيقة ناش من العلّة التامّة الحاصلة بوجود الجزء الأخير.

نعم ، يصحّ استناد المعلول إليه تسامحا ، والحدّ غير مبنيّ عليه.

وبذلك يظهر فساد ما قد يورد على تعريف السبب بالجزء الأخير وبما هو في مرتبة المعلول وعرضه في الاستناد إلى العلّة ؛ من حيث إنّ وجودها ملازم لوجود المعلول ، بل مقتضى التضايف أنّه كلّما وجد أحد المتضايفين يجب وجود الآخر ، فيلزم من وجود المعلول وجود العلّة ومن عدمه عدمها ، فينتقض التعريف بالمسبّب أيضا.

وجه الفساد : هو ما عرفت من أنّ الظاهر من لفظة « من » أن يكون المسبّب ناشئا منه (1) ، وليس الأمر كذلك فيهما.

لا يقال : فعلى ما ذكر من معنى لفظة « من » يكون التعريف دوريّا ، فإنّ العلم بالنشوء المذكور في مرتبة العلم بالسبب.

لأنّا نقول : هذه الحدود حدود لفظيّة لا يراد منها حصول معرفة جديدة غير حاصلة في الغريزة ، بل المقصود بها التنبيه على ما هو مسمّى تلك الألفاظ بين المعاني المرتسمة في الذهن ، وإلاّ فالواقع هو ما نبّهنا عليه من اختلاف مراتب التوقّف بحسب نفس الأمر والواقع ، وإنّما حاولوا بذلك التنبيه على تلك المراتب المختلفة.

هذا خلاصة الكلام في تحقيق معنى السبب والشرط ، ومنه يعرف الكلام في حدود ساير أنواع المقدّمة : من المعدّ والمانع.

ولنرجع إلى ما هو المقصود ، فنقول : إنّ النظر في موارد كلماتهم يعطي عدم إرادة العلّة التامّة - كما قد يراد منه العلّة في مصطلح أرباب المعقول - ويدلّك على

ص: 209


1- في ( ع ) و ( م ) : أن يكون نشويّة.

هذا ملاحظة الحدود المذكورة في كلماتهم للسبب : من اعتبار القيد المذكور وتقسيم المقدّمة إلى السببيّة والشرطيّة ؛ مضافا إلى أنّ العلّة التامّة لأفعال المكلّفين لا محالة مشتملة على الامور الخارجة عن قدرة المكلّف واختياره ، ولا أقلّ من وجود الفاعل ، فإنّه من جملة ما يتوقّف عليه وجود الفعل قطعا ، وليس ممّا يحتمل أن يكون واجبا لكونه من أجزاء العلّة التامّة.

وظاهر كلام السيّد رحمه اللّه حيث حكم بامتناع أن يكون المقدّمة السببيّة شرطا للوجوب لاستلزامه إيجاب الشيء على تقدير وجوبه وطلب الحاصل (1) ، هو أنّ المراد بالسبب العلّة التامّة ، إذ الملازمة المذكورة متحقّقة بينها وبين المعلول دون بعض أجزائها ، وقد عرفت أنّ العلّة التامّة في وجود الأفعال الاختياريّة يمتنع أن يكون فعلا اختياريّا ؛ فلا وجه لأن يكون المراد بالسبب هو العلّة التامّة.

وأمّا كلام السيّد رحمه اللّه فغير محصّل المراد ؛ مع أنّ المذكور في « المعالم » (2) من كلامه ما يمنع من أن يكون المراد به العلّة التامّة ، وهو قوله : « ما لم يمنع منه مانع » ؛ فإنّ فرض المانع ينافي العليّة التامّة ، اللّهم إلاّ على تأويل بعيد ، كما ارتكبه بعض المدقّقين في كلامه ، قال : لعلّه يرى السبب من الملزومات العاديّة كضرب السيف لجزّ الرقبة ، فإنّه ملزوم له عادة ، لكن قد يمنع منه بطريق خرق العادة (3).

وزعم بعضهم (4) : أنّ المراد بالسبب هو الجزء الأخير من الأفعال الاختياريّة التي هي من جملة العلّة التامّة.

ص: 210


1- الذريعة 1 : 85.
2- المعالم : 61.
3- وهو المحقق الشيرواني في حاشيته المطبوعة في هامش المعالم ( الطبعة الحجرية ) : 58 ، ذيل كلام الماتن : إلاّ أن يمنع مانع.
4- وهو صاحب الفصول ، انظر الفصول : 84.

والأولى أن يقال : إنّ المراد بالسبب هو ما يستند إليه الأثر في الأفعال الاختياريّة وإن كان بعد اجتماع الشرائط ورفع الموانع.

وقد يقال : إنّ المراد مجموع الأفعال الاختياريّة الّتي يترتّب عليها الفعل.

وعلى هذا فلا فائدة في التفصيل المذكور ؛ إذ لعلّه لا نزاع في وجوب أجزاء الواجب ، وبعد القول بوجوب الكلّ يلزم وجوب الأجزاء ؛ ومن هنا حكم بعضهم (1) بخروج المقدّمة الداخليّة من النزاع.

وتحقيق ذلك أن يقال : إنّ الجزء له اعتباران : أحدهما : اعتباره لا بشرط ، وهو بهذا الاعتبار عين الكلّ ومتّحد معه ؛ إذ لا ينافي ذلك انضمام سائر الأجزاء إليه ، فيصير مركّبا منها ، ويكون هو الكلّ. وثانيهما : اعتباره بشرط لا ، وهو بهذا الاعتبار يغاير الكلّ.

ويمكن أن يكون النزاع متوجّها إليه في أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ هل يلازم وجوب الجزء أو لا؟ وحيث إنّ ذات الجزء لا يختلف بالاعتبارين - وإن كان نفس الاعتبارين مختلفين - فلا محالة يتّصف الجزء بالوجوب على الوجه الأوّل ، ضرورة وجوب الكلّ بالفرض ، فلا ثمرة في النزاع ؛ لأنّ الوجوب على ذلك الوجه قطعيّ ، وهو يغني عن النزاع في وجوبه على الوجه الثاني.

وربّما يتوهّم : أنّ وجوب الكلّ مركّب من وجوبات متعلّقة بأجزائه. وهو فاسد جدّا ؛ ضرورة أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ أمر بسيط ، وهي الحالة الطلبيّة

ص: 211


1- لم نعثر على هذا البعض ، نعم نسب إلى السيّد نعمة اللّه وسلطان العلماء ، انظر توضيح القوانين المطبوع في هامش القوانين 1 : 108 ، وقال المحقّق القمّي في نفس الموضع من القوانين : « وربّما نفى الخلاف عن الوجوب في الجزء ... » ، وجاء في ضوابط الاصول : 82 « ثمّ اعلم أنّ بعضهم ادّعى الإجماع على كون المقدمات الداخليّة واجبة ، وقال : إنّ النزاع في المقدّمات الخارجيّة ».

والإرادة الفعليّة ؛ ولا يعقل التركيب فيها. نعم ، المراد مركّب تعلّق به الطلب من حيث إنّه مركّب وأمر وحداني.

وبالجملة ، فقد يظهر من بعضهم - على ما عرفت - اختصاص النزاع بالمقدّمات الخارجيّة. فإن أراد بذلك ما قلنا : من أنّ ثبوت الوجوب للمقدّمات الداخليّة باعتبار ممّا يغني عن النزاع عنه باعتبار آخر ، فهو سديد. وإن أراد بذلك أنّ النزاع فيها غير معقول ، فهو ممّا لا يصغى إليه ؛ إذ قد عرفت أنّ اعتبار الجزء بشرط لا اعتبار ظاهر ، وعلى تقديره يتّجه النزاع في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها.

ومن جميع ما ذكرنا

يظهر ما في كلام المحقّق القمّي في الثمرة المتعلّقة بدخول الجزء في محلّ النزاع وعدمه ، حيث حكى (1) عن العلاّمة جواز الصلاة في الدار المغصوبة على القول بعدم الوجوب ؛ من جهة أن الكون الذي هو جزء للصلاة غير واجب فلا ضير في كونه حراما ، وعدم صحّتها فيها على القول به بواسطة اجتماع الأمر والنهي. وذلك لأنّ الثمرة المذكورة ممّا لا يفرق على القولين.

دفع (2) وهم وتنبيه :

لعلّك تقول : إنّه على القول بوجوب المقدّمة يلزم تكرار الطلب بالنسبة إلى الأجزاء ؛ إذ المفروض أنّ ذات الجزء يكون موردا للطلب حينئذ بالاعتبارين. بل ويمكن القول بذلك في المقدّمات الخارجيّة ؛ إذ الموصوف بالمطلوبيّة هو عنوان المقدّميّة ، ومن المعلوم تعدّد مراتب ذلك العنوان بواسطة اختلاف ما يمكن انتزاع

ص: 212


1- انظر القوانين 1 : 108 ، ولكنّ المحكي في القوانين يخالف المحكيّ هنا ، وراجع تهذيب الوصول : 28.
2- لم يرد « دفع » في ( م ) و ( ط ).

تلك الصفة منه ، فإنّ العلّة التامّة مقدّمة مثلا ، وبعد انتزاع ذلك العنوان منه يتّصف بالمطلوبيّة عند العقل ويتعلّق به الطلب ، وكذا أجزاء العلّة التامّة ، فإنّ كلّ واحد منها منفردا أو ملحوظا مع غيره ممّا يصح انتزاع وصف المقدّميّة منه ، فيصير موردا للطلب. وكذا الكلام في السبب وأجزائه وشرائطه وفي المقتضي والشرط أيضا.

وحلّ ذلك : أنّه لا مانع من تكرار الطلب على الوجه المذكور ؛ إذ ليس ذلك انشاء جديدا متعلّقا بالمقدّمة في جميع مراتب اختلافها ليلزم التكرار على وجه يغني وجوده في مرتبة منها عنه في ساير المراتب ، بل التحقيق : أنّ العقل بعد إدراك وجوب شيء يحكم حكما إجماليّا بثبوت الملازمة بين وجوب ذلك الشيء وبين وجوب ما يتوقّف عليه وجود ذلك الشيء من المقدّمات ؛ فكما أنّ اتّصاف تلك الامور بعنوان المقدّميّة مكرّرا ممّا لا ضير فيه ، فكذلك اتّصافها بالمطلوبيّة.

والسرّ في ذلك : أنّ المطلوبيّة المقدّميّة كنفس المقدّميّة ونحوها ، عنوانات انتزاعيّة اعتباريّة يعتبرها العقل في تلك الامور بملاحظة توقّف شيء عليها أو غيرها ، فكلّما لاحظ العقل أمرا يتوقّف عليه المطلوب ينتزع منه المطلوبيّة الّتي حكم بها بواسطة توقّف المطلوب عليه ، فتارة يلاحظ أمرا واحدا ، وتارة مشاركا مع غيره على وجوه اختلاف صور المشاركة ، فليس هناك طلب آخر غير ما تعلّق بذي المقدّمة ، بل إنّما تعلّقه به صار واسطة لانتزاع العقل تلك الأوصاف المتعدّدة بحسب الاعتبارات المتّحدة بحسب الذات من محالّها بحسب اعتبارات عقليّة متعدّدة.

ونظير ذلك ما إذا قيل باستفادة العموم الجمعي من الجمع المحلّى باللام ، فإنّ الجماعات المتصوّرة في ذلك الجمع متكرّرة بواسطة اختلاف اعتبار آحادها ، فإذا قيل : « أكرم الناس » ولاحظنا زيدا مع بكر وخالد يجب إكرامهم مثلا ، وإذا لاحظناه مع خالد وعمرو أيضا يجب إكرامهم ، مع أنّه لا يتكرّر الطلب بالنسبة إلى زيد. والوجه في ذلك أيضا ما عرفت : من أنّ المنشأ لذلك أمر واحد ، واختلاف العنوانات والاعتبارات ممّا لا يوجب اختلاف ذلك المنشأ.

ص: 213

وإن كان بين المقامين فرق آخر من جهة اخرى ، هي أنّ الإكرام يتعدّد في الجماعات ، ولكن الإتيان لا يتعدّد في المقدّمات ، فالحركة الخاصّة المقدّميّة لا يجب إيجادها تارة لذاتها ، واخرى من حيث توقّف العلّة التامّة عليها. والخبير بمواقع الكلام يقدر أن يتنبّه ممّا ذكرنا بكيفيّة وجوب المقدّمة ، فتدبّر.

ومنها : تقسيم المقدّمة إلى العقليّة والشرعيّة والعاديّة :

فالعقليّة : هي ما يتوقّف وجود الشيء عقلا عليه ، كالعلوم النظريّة ، فإنّ حصولها على وجه النظر موقوف على العلم بالمقدّمات ، ضرورة امتناع حصول المعلول بدون العلّة المقتضية لذلك.

والعاديّة : هي ما يتوقّف وجود الشيء عادة عليه ، كنصب السلّم للصعود على السطح ، فإنّ العقل لا يستحيل عنده الصعود عليه بدون ذلك ، كأن يطير مثلا ، إلاّ أنّه خرق للعادة.

والشرعيّة : هي ما يتوقّف عليه الشيء شرعا ، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، فإنّها موقوفة عليها شرعا ؛ إذ لا توقّف للحركات المخصوصة وجودا ولا عدما على الطهارة ، كذا يقال.

والتحقيق : أنّ المقدّمة الشرعيّة مرجعها إلى المقدّمة العقليّة ، بيان ذلك : أنّه لا يخلو الأمر من وجهين :

أحدهما : أن يكون المقدّمة المذكورة من القيود المعتبرة في المأمور به شرطا ، أو غير ذلك ، كأن يكون المأمور به في قوله : « صلّ » هي الصلاة المأخوذة مع الطهارة.

الثاني : أن لا يكون من القيود المأخوذة فيه.

وعلى التقديرين : فالمقدّمة الشرعيّة مقدّمة عقليّة ؛ أمّا على الأوّل : فلظهور امتناع حصول المقيّد بدون القيد ، فإيجاد القيد ممّا يتوقّف عليه إيجاد المقيّد. وأمّا

ص: 214

على الثاني : فلأنّ الفعل الصادر من الفاعل وإن كان بحسب الذات هي الحركة الخاصّة ، إلاّ أنّ من المعلوم اختلاف وجوهها ، ومن الممكن أن يكون وقوع الخاصّة على وجه خاصّ ممّا يتوقّف على وجود الطهارة ، فلو كان المأمور به هو الفعل على ذلك الوجه الخاصّ يمتنع حصول الفعل في الخارج على الوجه المذكور بدون الطهارة.

وإذ قد عرفت ما قلنا ، فاعلم : أنّ من المحقّق في مقامه (1) أنّ الأحكام الوضعيّة ممّا لا تقبل الجعل ، فإنّها امور واقعيّة قد كشف عنها المطّلع عليها ، فمرجع اشتراط الصلاة بالطهارة إلى أنّ الشارع قد كشف عن توقّف وجود الصلاة بحسب الواقع على الطهارة ، فالصلاة الواقعيّة ممّا يمتنع حصولها بدون حصول الشرائط ، فمرجع المقدّمة الشرعيّة إذا لم يكن على وجه التقييد (2) أيضا إلى المقدّمة العقليّة ؛ وذلك أمر ظاهر بعد الاطّلاع على ما هو المحقّق في محله.

ولا خفاء في دخول الأقسام الثلاثة كلّها في النزاع.

ومنها : تقسيمها إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم ومقدّمة الوجود.

والتحقيق رجوع الثلاثة الاول إلى الأخيرة ، فإنّ وجود الصحّة والوجوب والعلم موقوف على مقدّماتها ، إلاّ أنّهم لاحظوا الموصوف بهذه الأوصاف فاعتبروا تقسيم المقدّمة بالنسبة إليه ملاحظا فيه حال تلك الأوصاف ، فما يتوقّف عليه وجود ذلك الموصوف هي مقدّمة الوجود ، وما يتوقّف عليه الأمر به هي مقدّمة الوجوب ، وما يتوقّف عليه صحّته هي مقدّمة الصحّة ، وما يتوقّف عليه العلم بوجوده وتحقّقه هي مقدّمة العلم. والأمثلة ظاهرة ، كنصب السلّم ، والاستطاعة ، والطهارة ، وإيقاع الصلاة في أربع جهات عند اشتباه القبلة.

ص: 215


1- انظر فرائد الاصول 3 : 126 - 130.
2- في ( ع ) : التقيّد.

ثمّ إنّه لا شكّ في دخول مقدّمة الوجود في النزاع وخروج مقدّمة الوجوب ؛ إذ لا يعقل أن يكون مقدّمة الوجوب واجبة ، لأنّ وجوب ذيها متفرّع على وجودها ، فما لم يوجد لم يتحقّق وجوب ، وعلى تقدير وجوده لا يعقل وجوبه ؛ لامتناع طلب الحاصل. ولا فرق في ذلك بين أن يكون مقدّمة الوجوب فقط أو كانت مع ذلك مقدّمة للوجود أيضا. ولا كلام في دخول مقدّمة الصحّة أيضا.

وهل المقدّمة العلميّة داخلة في حريم الخلاف مطلقا؟ أو فيما إذا كانت خارجة عن حقيقة الواجب ولم يحتمل أن يكون هو الواجب ، كمسح جزء من الكعبين وغسل جزء من الرأس وما فوق المرفق للعلم بحصول الواجب منها؟ وأمّا إذا كانت المقدّمة العلميّة ممّا يحتمل مدخليّتها في حقيقة الواجب شرطا أو شطرا ومن جهة احتمال كونها نفس الواجب فلا خلاف فيها ، لأنّها من موارد القاعدة الّتي قد أجمع الكلّ عليها : من أنّ الشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، أو تكون خارجة عن النزاع مطلقا لقطع العقل بوجوبها مطلقا؟ وجوه بل وأقوال.

والتحقيق أن يقال : إنّه لا ينبغي النزاع في المقدّمة العلميّة مطلقا ، بل ينبغي أن يكون وجوبها مفروغا عنه على تقدير وعدم وجوبها كذلك على تقدير آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجوب المتنازع فيه في المقام إن كان المراد به ما يترتّب على فعل الواجب المتّصف به الثواب وعلى تركه العقاب - كما زعمه بعضهم (1) - فينبغي أن لا يكون المقدّمة العلميّة محلاّ للنزاع في عدم وجوبها. وإن كان المراد به الطلب الحتمي الّذي يكشف عنه العقل - على وجه يكفي في حامل التكليف نفس حكم العقل من دون مدخليّة لما يترتّب عليه من الثواب والعقاب - فالمقدّمة العلميّة ممّا لا ينبغي النزاع في وجوبها.

ص: 216


1- الفصول : 87 ، وراجع تفصيله في ضوابط الاصول : 83.

بيان الأوّل يحتاج إلى تمهيد ، فنقول : إنّ الطلب يقع على وجهين :

أحدهما : ما ينقدح في نفس الطالب والآمر ، من الإرادة المتعلّقة بالفعل على وجه المولويّة والآمريّة وإن كان الداعي إلى ذلك الطلب والأمر هو ما يترتّب على نفس الفعل المطلوب ، بناء على ما ذهب إليه العدليّة من الملازمة (1).

الثاني : ما يوجده الطالب على جهة الإرشاد إلى ما هو كامن في المأمور به ، لكن لا على وجه الآمريّة والمولويّة ، كما في أوامر الطبيب بالنسبة إلى المريض ، فإنّها طلب حقيقيّ إلزامي لا يرضى بترك ما تعلّق به أصلا. ووقوع الطلب على هذين الوجهين ممّا لا ينبغي أن ينازع فيه.

ومن لوازم الأوّل : ترتّب الذمّ والعقاب عند المخالفة فيما إذا كان الأمر ممّن له أهليّة ذلك ، والمدح والثواب عند الإطاعة.

ومن لوازم الثاني : ترتّب ما هو مترتّب على نفس الفعل المطلوب من المنافع والمضارّ ؛ فقول الطبيب : « برّد » مثلا ينحلّ إلى جزء مادّيّ - وهو التبريد - وجزء صوريّ يفيد تعلّق إرادة الطبيب بوجود التبريد من المريض ، لما فيه من المنافع الملاءمة لطبيعة المريض ، ومخالفة قوله لا يترتّب عليها شيء عدا ما يترتّب على نفس ترك التبريد ، فالهيئة في الأمر لا يترتّب على مخالفتها شيء. وقول المولى للعبد : « اضرب زيدا » يترتّب على مخالفة الضرب ما هو من لوازم عدمه من المفاسد ، ويترتّب على نفس مخالفة المولى وترك ما هو مراده الذمّ والعقاب ، فالهيئة الأمرية الكاشفة عن الإرادة الحتميّة الطلبيّة لا يترتّب على مخالفتها شيء آخر سوى ما يترتّب على عدم (2) نفس المادّة وانتفائه (3) من المفاسد.

ص: 217


1- انظر كشف المراد : 319.
2- لم يرد « عدم » في ( ط ).
3- كذا ، والظاهر : انتفائها.

وإذ قد تقرّر ذلك ، فاعلم : أنّ الإتيان بالمقدّمة العلميّة في مورد الاحتياط اللازم إنّما هو بواسطة تحصيل العلم بوجود ما هو المأمور به في الواقع ؛ والعلم بالامتثال وإن كان من الامور الواجبة التي يستقلّ بها العقل ، إلاّ أنّ ذلك الوجوب وجوب عقليّ إرشادي لا يترتّب على امتثاله مصلحة زائدة على مصلحة المأمور به ، ولا على مخالفته عقاب آخر غير العقاب اللازم على تقدير ترك المأمور به ، وإذا كان حال ذي المقدّمة على هذه المثابة فكيف يعقل أن يكون المقدّمة ممّا يترتّب على تركه العقاب أو على فعله الثواب ، فإنّ ذلك في الحقيقة راجع إلى وجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

ومن الامور التي ينبغي أن لا يخفى على أوائل العقول : أنّ الأمر بالإطاعة ولو كان أمرا شرعيّا يمتنع أن يكون أمرا تكليفيّا ، إذ الأمر الأوّل إمّا أن يكون كافيا في حمل المكلّف على التكليف أو لا يكون. فعلى الثاني : لا يكون الأمر الثاني أيضا كافيا لاستوائهما في الطلب ؛ واختلافهما في المادّة ممّا لا يفيد شيئا ، إذ الحامل على التكليف هو الكاشف عن الطلب ولا دخل للمادّة فيه. وعلى الأوّل : لا حاجة إليه ، ولا يعقل أن يكون تأكيدا للأوّل ؛ لأنّ المؤكّد إنّما يكون في مرتبة المؤكّد ، والأمر بالإطاعة إنّما هو متفرّع على الأوّل ، إذ الإطاعة عبارة عن الإتيان بالمأمور به ، فلا يتحقّق لها مصداق إلاّ بعد تحقّق مصداق الأمر ، فكيف يكون اللفظ الدالّ على طلب الإطاعة مطابقا في المدلول للأمر الأوّل؟ كما في قولك : « اضرب ، اضرب » مثلا. نعم ، المطلوب منه في لبّ المعنى هو المطلوب في الأمر الأوّل ، وذلك هو معنى الإرشاد في هذه الأوامر.

ص: 218

وبالجملة ، فقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) لا يترتّب على مخالفته بترك الإطاعة سوى ما يترتّب على عدم مادّة الإطاعة التي هي عبارة عن موافقة الأمر الأوّل : من الذمّ المترتّب على ترك المأمور به والمفاسد المترتّبة على ترك نفس الفعل المأمور به في الأمر الأوّل ؛ ولا يترتّب على مخالفة الهيئة في هذا الأمر شيء آخر.

وحيث إنّ المرجع في وجوب الإتيان بالمقدّمة العلميّة إلى وجوب الإطاعة - كما عرفت - فلا وجه للقول بوجوبها على وجه لو تركها المكلّف يترتّب عليها العقاب بخصوصها بناء على أنّ النزاع في مثل هذا الوجوب ، إلاّ أنّ ذلك ضعيف ، كما ستقف عليه.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ربما يتخيّل : من انحصار الأوامر الإرشادية في الاستحباب ؛ فإنّ تحقّقها في الواجبات معلوم عقلا - كما عرفت في وجوب الإطاعة - وعرفا كما في أوامر الطبيب ، إذ لا نعني بالوجوب إلاّ بلوغ الطلب حدّا لا يرضى الطالب بترك الفعل المطلوب ، وذلك ضروريّ الوجود في موارده. وكذلك يظهر فساد ما قد زعمه بعضهم : من أنّ وجوب الإطاعة شرعيّ (2) ، إذ على ذلك التقدير لا ينتهي الأمر إلى حدّ ؛ وذلك ظاهر (3).

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا : من أنّ وجوب الاحتياط عقليّ ، إنّما هو بناء على التحقيق عندنا : من أنّ الأخبار الواردة في مقام وجوب الاحتياط لا يزيد على ما هو مفاد حكم العقل. وأمّا على القول بأنّ الاحتياط في موارده واجب شرعيّ - كأن يكون الصلاة في أربع جهات مأمورا بها حال الاشتباه مع قطع النظر عن أنّ الواقع

ص: 219


1- الأنفال : 20.
2- لم نعثر عليه.
3- في ( ع ) و ( م ) : باطل.

في ضمنها ، أو قلنا بأنّ قضيّة الاستصحاب هو ذلك - فالعقاب لازم على ترك المقدّمة ؛ وذلك أمر ظاهر لا سترة عليه.

وبيان الثاني أيضا يحتاج إلى تمهيد. وهو : أنّ الشيء الواحد قد يكون مصداقا لامور متعدّدة باعتبارات مختلفة ومحكيّا عنه بحكايات متكثّرة بوجوه متفاوتة. وهذه الامور ينتزع من ذلك الشيء تارة على وجه لا ترتيب في انتزاع واحد منها عنه ، بل كلّ واحد منها في عرض الآخر ، وتارة على وجه لا ينتزع منه عنوان إلاّ بعد اعتبار عنوان آخر فيه وانتزاعه منه ، فيكون أحد العنوانين موقوفا على عنوان آخر ؛ فلو فرضنا أنّ الآمر تصوّر العنوان المترتّب على ذلك العنوان وأراد وقوعه من المأمور في الخارج ، فلا بدّ من أن يطلبه على ذلك الوجه ، والمكلّف لو أراد امتثال هذا الأمر لا بدّ له من إيجاد العنوان المأمور به ، وحيث إنّ المفروض توقّف العنوان المأمور به على العنوان الآخر فلا بدّ أوّلا من قصد ذلك العنوان وإيجاده ، وحيث إنّ ذات المعنون واحد فيهما بحسب الوجود الخارجي يلزم وجود العنوان المأمور به أيضا ، لأنّ وجوده عين وجوده في الواقع.

فالترتيب إنّما هو في لحاظ العقل ؛ وأمّا في الخارج فلا ترتيب ، بل الموجود منهما هو شيء واحد ، وذلك كما في الإلقاء في النار والإحراق ، فإنّ الموجود منهما هو الفعل الخاصّ والحركة الخاصّة ، مع أنّ عنوان الإحراق ممّا ينتزع عن الفعل الموجود في الخارج بعد اعتبار العنوان الأوّل ، وهو الإلقاء.

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ النزاع في وجوب المقدّمة وعدمه ينبغي أن يكون في المقدّمات التي تباين ذيها في الوجود الخارجي والتحصّل الأصلي ، كما في مقدّمات الصلاة والصعود إلى السطح. وأمّا المقدّمات التي متّحدة مع ذيها وجودا وإن اختلفتا عنوانا وحكاية ، فلا ينبغي لعاقل الارتياب في وجوب هذه المقدّمات ، فإنّ الأمر بالإحراق لا يعقل أن لا يكون ملازما لوجوب الإلقاء في النار ، بعد أنّ ذات الإلقاء عين ذات الإحراق ؛ والمقدمة العلميّة من قبيل الثاني ، لا الأوّل.

ص: 220

بيان ذلك : أنّ الواجب هو تحصيل العلم بالامتثال بالنسبة إلى الأمر المعلوم بالإجمال المردّد بين الامور المتعدّدة ، والمقدّمة هي الصلاة بجهة خاصّة ثمّ بجهة اخرى ؛ وهما وإن كانا متعدّدين بحسب المفهوم ، إلاّ أنّ مجرّد التعدّد المفهومي الراجع إلى تعدّد الاعتبار لا يجدي بعد الاتّحاد في الحقيقة والذات ، فإنّ إيقاع الصلاة في الجهات هو عين تحصيل العلم في الخارج ؛ إذ المريد لتحصيل العلم بفراغ ذمّته ليس له بدّ من ذلك ، فإنّه عين مطلوبه.

لا يقال : إنّ الواجب هو العلم ومغايرته لهذه المقدّمات ضروريّة ، فكيف يتأتّى القول باتّحاد المقدّمة وذيها في الوجود.

لأنّا نقول : إنّ من المعلوم في محلّه أنّ من شرائط التكليف كون المكلّف به فعلا اختياريّا ، ولا يعقل أن يكون نفس العلم من الامور التي يتعلّق بها التكليف ، فالمكلّف به هو تحصيل العلم ، ولا مصداق لذلك المفهوم إلاّ إيقاع الصلاة بالجهات الأربع الذي هو ذات المقدّمة. نعم ، الحركات الخاصّة التي يعبّر عنها تارة بالصلاة واخرى بتحصيل العلم ملحوظة عند العقل بلحاظين ، يترتّب أحدهما في الملاحظة على الآخر ، فيمكن أن يقال : إنّ الداعي لإيجاد هذه الحركة الخاصّة ليس هو العنوان الملحوظ أوّلا - على تقدير عدم القول بوجوب المقدّمة - بل الداعي لذلك الفعل هو العنوان الملحوظ ثانيا والمنتزع أخيرا ؛ بخلاف ما إذا قيل بوجوب المقدّمة ، فإنّ الداعي له ذلك العنوان. وهذا وإن كان النزاع فيه أمرا معقولا ، إلاّ أنّه بعيد من أنظار العلماء - كما قد عرفت نظيره في حديث خروج المقدّمات الداخليّة عن حريم الخلاف - فلا ينبغي أن يكون هذه الامور محلاّ للخلاف.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد تجشّمه بعض الأعاظم (1) : من منع وجوب

ص: 221


1- وهو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 108.

المقدّمة في استدلال المشهور بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، بعد تسليمه أصل الوجوب. وليت شعري! ما ذا يقول المانع فيما لو أراد دفع الضرر المحتمل في أطراف الشبهة من نفسه ، فهل له بدّ من الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي في الأطراف ، من إيجادها أو تركها جميعا؟ والمكابر في ذلك مباهت.

ومن جميع ما ذكرنا يهتدي الخبير بمواقع الكلام إلى تقسيم آخر للمقدّمة إلى قسمين : أحدهما ما يتّحد مع ذيها وجودا. والآخر ما يباينه. وما ينبغي أن يكون محلاّ للنزاع هو الثاني ، لا الأوّل - كما قد عرفت تفصيله - وباللّه التوفيق ومنه الهداية.

ص: 222

هداية

اشارة

قد عرفت تحقيق القول في تقسيمات المقدّمة وما هو ينبغي أن يكون محلاّ للخلاف من تلك الأقسام ، فليعرف الآن محلّ الخلاف من « الواجب » الذي اضيف إليه لفظ « المقدمة ».

فنقول : إنّ الواجب باعتبارات عديدة له أقسام متعدّدة ، وليس المقصود في المقام إحصاء جميع أقسامه : من الكفائي والتخييري والعيني والموسّع والمضيّق والمحدود وغير المحدود مثلا ، بل اللازم في المقام هو بيان ما له دخل في تحقيق المسألة التي نحن بصددها ، أو ما يرتبط به ولو بنحو من العناية والتنوير ، حرصا على تكثير الفائدة.

فمن جملة التقسيمات للواجب تقسيمه إلى :

المطلق والمشروط

فالأوّل على ما عرّفه به عميد الدين في شرح التهذيب (1) ، هو : ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف : من العقل والعلم والبلوغ والقدرة. والمشروط : ما كان وجوبه موقوفا على أمر آخر أيضا. وعرّفه التفتازاني (2) والمحقّق الشريف (3) : بأنّه ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه

ص: 223


1- منية اللبيب : 121.
2- انظر حاشية التفتازاني والسيّد الشريف المطبوعتين ضمن شرح المختصر 1 :2. 245 ، طبع مكتبة الكلّيات الأزهرية ، سنة (1393).
3- انظر حاشية التفتازاني والسيّد الشريف المطبوعتين ضمن شرح المختصر 1 :2. 245 ، طبع مكتبة الكلّيات الأزهرية ، سنة (1393).

وجوده ، والمشروط : بما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده. وزاد بعضهم قيد « الحيثيّة » في الحدّين (1).

وملاك الحدّ الأوّل للمطلق والمشروط على ملاحظة مطلق التقييد والإطلاق ، سواء كان القيد من المقدّمات الوجوديّة أو لا ، فالواجب بالنظر إلى ملاحظة الامور التي لا دخل لها في تحقّق الواجب مطلق ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى طيران الغراب والنظر إلى السماء مطلق. وملاك الحدّ الثاني على ملاحظة الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى ما له دخل في وجود الواجب ، فيتحقّق الواسطة على التعريف الثاني بين القسمين ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى النظر إلى السماء لا تعدّ من الواجب المطلق ولا من المشروط.

ومن لوازم الأوّل : امتناع اجتماع وصفي الإطلاق والتقييد في الواجب ؛ لأنّ المأخوذ في الحدّ عدم التوقّف على شيء بعد الامور الأربعة ؛ ومفاد ذلك سالبة كلّية ، وهي تناقض الموجبة الجزئيّة ؛ وهو التوقّف في مورد خاصّ.

ومن لوازم الثاني : إمكان اجتماعهما في الواجب ؛ لأنّ المقدّمة الوجوديّة التي لا مدخل لها في الوجوب يوجب انتزاع وصف الإطلاق على تحديدهم عن الواجب ، ولا يضرّ في ذلك توقّف وجوبه على شيء آخر الذي هو يوجب انتزاع وصف التقيّد منه ؛ إذ لا تناقض بين الموجبة الجزئيّة وسالبتها.

ومن هنا يمكن أن يناقش في التحديد الأوّل : بأنّه لم يظهر منهم إطلاق الواجب المطلق بالنسبة إلى غير الامور التي لها مدخل في وجود الواجب ، فإنّ ذلك غير معهود منهم ، كما لا يخفى. إلاّ أنّ ذلك مدفوع : بأنّه لم يثبت في ذلك للقوم

ص: 224


1- انظر شرح المعالم للمولى صالح المازندراني : 77 ، ومناهج الأحكام : 48 ، وضوابط الاصول : 73.

اصطلاح جديد ، بل المراد بالمطلق والمقيّد هو المراد بهما في غير المقام ؛ فإنّ لفظ « الواجب » مثل لفظ « الرجل » فكما أنّ إطلاقه لا يلاحظ بالنسبة إلى شيء دون آخر بل المطلق منه ما هو مطلق كذلك ، فكذلك لفظ « الواجب » المطلق منه ما هو كذلك مطلقا.

وأما التقييد بالامور الأربعة : فبملاحظة مفروغيّة التقييد (1) بالنسبة إليها ، فممّا لا يضرّ في إطلاق المطلق على الواجب ، بل قد يقال : بأنّ بعضا منها ممّا لا يمكن توجيه الخطاب بدونه إلى المكلّف ، فلا مفرّ من التقييد المذكور.

فظهر : أنّ الأقرب هو ما عرّفه السيّد رحمه اللّه (2) ؛ لكونه ملائما لما هو المعهود منه في غير المقام. وذلك ظاهر جدّا (3).

مضافا إلى أنّه يرد على التحديد الثاني للمطلق والمشروط انتقاضهما - منعا في أحدهما وجمعا في الآخر - بدخول الحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة الشرعيّة في تعريف المطلق ؛ إذ ليس مقدّمة الوجوب فيه هو مقدّمة الوجود - لإمكان وجود الحجّ بدون ما هو وجوبه مشروط به - وخروجه عن تعريف المشروط.

وقد يذبّ عن ذلك : بأنّ المراد هو ما يتوقّف عليه وجود الواجب من حيث إنّه واجب ، فإنّ تحقّقه بعنوان الوجوب يتوقّف على الاستطاعة الشرعيّة ، فإنّ الوصف المعنون به ذات الفعل هو الواجب ، فلا بدّ أن يكون تحقّقها بهذا العنوان موقوفا على المقدّمة المفروضة.

وذلك ركيك في الغاية! فإنّ الظاهر هو تقسيم الواجب بالنسبة إلى المقدّمات التي يتوقّف عليها وجود ذات الواجب ؛ ولا مدخل للعنوان فيه ، إذ على تقديره

ص: 225


1- في ( ع ) و ( م ) : التقيّد.
2- تقدّم كلامه في الصفحة 223.
3- لم ترد عبارة « وذلك ظاهر جدّا » في ( ع ) و ( م ).

يكون المراد بالحدّ في الواجب المشروط هو ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده أو وجوبه ؛ وذلك مع أنّه تفكيك - إذ المراد بلفظ « الوجود » الواقع في الحدّين لعلّه واحد كما هو الظاهر - ممّا لا يرجع إلى محصّل.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده المحقّق القمّي في الحدّ ، من اعتبار قوله : « وإن كان في العادة أو في نظر الآمر » (1).

قلت : يمكن توجيهه بما مرّ من رجوع المقدّمة الشرعيّة إلى المقدّمة العقليّة. ولا ينافيه استحباب الحجّ بدون الاستطاعة ؛ إذ لعلّ وجود ما هو حجّة الإسلام في الواقع موقوف على الاستطاعة الشرعيّة ، كما قرّرنا. ومن ذلك القبيل اشتراط وجوب العبادات بالبلوغ على تقدير القول بشرعيّة عبادات الصبيّ ، فتدبّر.

ثمّ إنّ « الحيثيّة » التي زادها بعضهم في الحدّين (2) ، فالظاهر أنّه أراد بذلك بيان أنّ الإطلاق والتقييد في الواجب من الامور الإضافيّة التي تختلف باختلاف أطراف الإضافة ، كما في الفوقيّة ، فإنّها تقاس بالنسبة إلى ما هو تحتها وإن كان بالقياس إلى شيء آخر تحتا ، إلى غير ذلك من الأعراض الإضافيّة. وكأنّه حاول بذلك دفع ما قد نبّهنا عليه ممّا هو لازم حدّ المشهور : من اجتماع الوصفين في شيء واحد ؛ ومع ذلك فلا وجه لذكرها في الحدّ ، لأنّ الغالب في القيود التي تذكر في الحدود من الحيثيات إنّما هو تعلّقها بالفعل المذكور فيها على وجه يقيّد ذلك الفعل بها ، وليس يصحّ تعلّق الحيثيّة المذكورة على الفعل المذكور في الحدّ وهو قولهم : « يتوقّف » ؛ لأنّ التوقّف غير متحيّث بتلك الحيثيّة ، إذ لا تعدّد في التوقّف. والمتعارف في ذكر القيود في الحدود من الحيثيّات هو صدق الحدّ بتمامه على فرد صادق عليه حدّ آخر ، يراد بتلك الحيثيّة تميّزه عنه ، وليس المقام من هذا القبيل.

ص: 226


1- القوانين 1 : 100.
2- تقدّم في الصفحة 224.

نعم ، الحيثيّة المذكورة مثمرة في صدق ماهيّة المحدود ومفهومه على أفراده ومصاديقه ؛ لما عرفت : من أنّ الإطلاق والتقييد من الامور الإضافيّة. فالوجه في ذلك ذكرها بعد تمام ماهيّة المحدود وتميّزها عمّا عداها عند ما يراد تشخيص الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى مقدّمة مخصوصة ، كأن يقال مثلا : الصلاة من حيث إنّها لا يتوقّف وجوبها على الطهارة التي يتوقّف وجودها عليها من الواجبات المطلقة ، ومن حيث إنّها يتوقّف وجوبها على كذا من الواجبات المقيّدة.

وعرّف بعض الأجلّة (1) الواجب المطلق - بعد ما ذكر تعريف السيّد المذكور على اختلاف يسير - : بأنّه ما لا يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على أمر غير حاصل ، سواء توقّف على غير ما مرّ من الامور العامّة وحصل كالحجّ بعد الاستطاعة ، أو لم يتوقّف كالمعرفة. ثمّ قال : ويقابله المشروط ، وهو ما يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل. والنسبة بين كلّ من المطلقين مع مشروطه تباين ، وبين كلّ منهما وكلّ من الآخرين عموم من وجه.

وبيّن بيان النسبة بتمامها فيما علّقه على المقام ، قال : النسبة بين المطلقين عموم من وجه ، لاجتماعهما في المعرفة في واجد الشرط ، وافتراق الأوّل عن الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ، وافتراق الثاني عن الأوّل في المعرفة قبل البلوغ. وكذلك النسبة بين المشروطين ؛ فإنّه يصدق الأوّل بدون الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ، ويصدق الثاني بدون الأوّل في المعرفة قبل البلوغ ، ويتصادقان في الحجّ قبل الاستطاعة. وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الأوّل والمشروط بالمعنى الثاني ؛ لتصادقهما في المعرفة قبل استكمال الشروط ، وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط ، وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة. وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الثاني والمشروط بالمعنى الأوّل ؛ لتصادقهما في الحجّ بعد الاستطاعة ،

ص: 227


1- وهو صاحب الفصول ، انظر الفصول : 79.

وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط ، وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة (1) ، انتهى.

وظنّي أنّ ما دعاه إلى التحديد المذكور هو ملاحظة أنّ الحجّ بعد الاستطاعة ممّا يبعد أن يكون واجبا مشروطا (2) لزعمه أنّ وصفي الإطلاق والتقييد إنّما يعتبران في الواجب بالنسبة إلى ما تنجّز تعلّقه على المكلّف ، وبعد حصول الشرط فالواجب منجّز على المكلّف ، فيجب أن يكون مطلقا. إلاّ أنّه زعم في غير محلّه ؛ لأنّ الملحوظ في الإطلاق والتقييد هو الأوامر الواردة في أصل الشرع ، وإلاّ فما الذي حمله على جعل المعرفة قبل البلوغ من الواجب المطلق مع أنّه لا تعلّق لها على المكلّف؟ وحيث إنّ الخطاب بها مشروط (3) بالبلوغ في الشريعة صحّ إطلاق الواجب عليها بتلك الملاحظة.

وبالجملة : فالظاهر أنّ ما ذكره ممّا لا وجه له ، فلا فرق بين الحدّين. إلاّ أنّ المعتبر في تحديد العميدي (4) هو اعتبار التوقّف وعدمه بعد الامور العامّة ، والمعتبر فيما ذكره مطلق الامور ، فيكون الثاني أعمّ مطلقا ممّا ذكره العميدي بعد ملاحظة أنّ الإطلاق في الواجب (5) إنّما هو بواسطة ملاحظة وروده في أصل الشرع من دون مدخليّة في خصوصيّات التكاليف المتعلّقة بآحاد المكلّفين. ومن ذلك تطّلع (6) على فساد ما ذكره في ساير النسب ، كما لا يخفى.

ص: 228


1- الفصول : 79 ، في الهامش.
2- في ( ع ) و ( م ) : ممّا يبعد أن لا يكون واجبا مطلقا.
3- في ( ع ) و ( م ) : به غير مشروط.
4- المتقدّم في الصفحة 221.
5- لم يرد « في الواجب » في ( ع ) و ( م ).
6- في ( ع ) و ( م ) : تقطع.

والأسدّ الأخصر هو أن يقال : إنّ الإطلاق والتقييد إن جعلناهما من الامور الإضافيّة ، فينبغي أن يقال : إنّ الواجب بالنسبة إلى كلّ شيء يلاحظه الملاحظ معه ، إمّا أن يكون وجوبه موقوفا عليه أو لا ، فعلى الأوّل هو واجب مشروط ، وعلى الثاني هو واجب مطلق. وإن لم نجعلهما من الامور الإضافيّة ، فينبغي أن يقال : إنّ الواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على شيء والمشروط ما كان وجوبه موقوفا على شيء.

إلاّ أنّ ذلك يوجب أن لا يكون للواجب المطلق مصداق ، إذ لا أقلّ من الاشتراط بالامور العامّة. ولا ضير في ذلك بعد ما عرفت من أنّه الملائم لما هو المعهود من لفظي « الإطلاق » و « التقييد » في غير المقام وعدم ثبوت وضع جديد له منهم في المقام. وإن كان ولا بدّ فالأقرب هو ما عرّفه العميدي ، كما نبّهنا عليه (1).

وإذ قد عرفت ذلك ، فهل النزاع المذكور يعمّ مقدّمة كلتا القبيلتين من الواجب ، أو يخصّ بمقدّمة الواجب المطلق؟ الّذي صرّح به غير واحد منهم هو الثاني ، فقالوا بأنّ مقدّمة الواجب المشروط ليست واجبة إجماعا (2) ؛ ولذلك اعتبر بعضهم (3) الإطلاق في عنوان النزاع ورام بذلك التعريض على من لم يعتبره فيه ، بل صرّح بعضهم بلزوم التقييد واعترض على من لم يقيّد العنوان بذلك (4).

واعتذر عنهم شيخنا البهائي : بأنّ النزاع وإن كان في مقدّمات الواجب المطلق ، إلاّ أنّ لفظ « الواجب » حقيقة فيه ، فلا حاجة إلى التقييد ، لخروج الواجب

ص: 229


1- في الصفحة 225.
2- كالمحقّق القمّي في القوانين 1 : 101 ، وصاحب الفصول في الفصول : 82.
3- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 100 ، وراجع المعالم : 60 ، والفصول : 82.
4- وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 57.

المشروط عن العنوان بواسطة لفظ « الواجب » المحمول على الحقيقة (1). وفرّع على ذلك عدم الحاجة إلى ما أخذه بعضهم في العنوان من قيد القدرة (2) ؛ لأنّ الواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة مشروط ولا نزاع في مقدّمات الواجب المشروط ، كما استكشفنا من أصالة الحقيقة المعمولة في لفظ « الواجب » ، فلا حاجة إلى التقييد المذكور.

والتحقيق في المقام : أنّ القائلين باختصاص النزاع بمقدّمات الواجب المطلق إن حاولوا بذلك إخراج الواجب المشروط بالنسبة إلى مقدّماته الوجوبيّة مع عموم النزاع بالنسبة إلى مقدّمات وجوده فهو كلام سديد لا محيص عنه ، إلاّ أنّ ذلك تخصيص في المقدّمة لا في الواجب ؛ ولقد نبّهنا على خروج المقدّمات الوجوبيّة فيما مرّ (3) ، والمتراءى منهم تخصيص الواجب ، كما يظهر ممّا قدّمنا من أخذ بعضهم قيد الإطلاق في العنوان ؛ فإنّ الظاهر منه أنّ مقدّمة المشروط لا نزاع فيها سواء كانت وجوبيّة أو وجوديّة.

ويظهر ذلك في الغاية بملاحظة كلام المعترض ، ويتّضح غاية الوضوح من التأمّل فيما أورد المعتذر من إعمال أصالة الحقيقة في لفظ « الواجب » ، وكفاك شاهدا في المقام ملاحظة جميع عنواناتهم ، فإنّ المنساق من قولنا : « مقدّمة الواجب » أو « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به » هو ما يتوقّف عليه الوجود ، فإنّ المقدّمة الوجوبيّة يتوقّف عليها الوجوب لا الوجود ، فعلى ذلك لا وجه لقيد الإطلاق ؛ إذ ينحصر النزاع على تقديره في مقدّمات وجود الواجب المطلق.

ص: 230


1- الزبدة : 46.
2- كما في مبادئ الوصول إلى علم الاصول : 106 ، وتهذيب الوصول : 27 ، والمعالم : 60.
3- راجع الصفحة 216.

وبالجملة : فلو أنّهم حاولوا إخراج المقدّمة الوجوبيّة لم يكن محتاجا إلى هذه التكلّفات ، كما هو ظاهر ؛ مع أنّ ذلك أمر سهل ، كما عرفت ممّا صنعنا فيما مرّ.

وإن أرادوا بذلك تعيين الواجب الذي يقع النزاع في وجوب مقدّماته ليكون الكلام في مقدّمات الواجب المشروط خارجا عمّا هو عقد الباب له - كما يظهر ذلك من ملاحظة كلماتهم في تعليلاتهم ذلك بأن وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها وحيث لم يتعلّق الوجوب إلى ذيها لا يعقل وجوبها ، إلى غير ذلك ممّا هو صريح فيما ذكرنا - فهو تخصيص من دون ما يقضي بذلك ؛ إذ كما عرفت محصّل النزاع يرجع إلى ثبوت الملازمة العقليّة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته. ولا يفرق في ذلك أنحاء الوجوب على تقدير أن يكون الطلب المتعلّق بشيء على نحو الإطلاق مغايرا له على نحو الاشتراط ؛ فكلّما ثبت الوجوب على أيّ نحو كان يمكن النزاع في وجوب مقدّمات المتّصف بذلك الوجوب ، فإنّه لا يراد من إثبات الوجوب لمقدّمة المشروط إثبات الوجوب المطلق لها ؛ فكما أنّ وجوب نفس الواجب مشروط بالمقدّمة الوجوبيّة ، كذا وجوب مقدّمته بمعنى تنجّزه وفعليّته - على وجه لم يكن للمكلّف بدّ من فعله - مشروط بذلك الشرط. وما ذكر من التعليل إنّما ينفي الوجوب الزائد على الوجوب الثابت لنفس الواجب ، لا وجوبا على نحو ذلك الوجوب إن مطلقا فمطلقا وإن مقيّدا فمقيّدا ، فالسعي للحجّ داخل في حريم الخلاف كالطهارة للصلاة ، مع أنّ الأوّل مشروط والثاني مطلق.

ولو لا عموم النزاع للمقدّمات الوجوديّة للواجب سواء كان مشروطا أو مطلقا لم يكن وجه لتحرير المسألة عن أصل ؛ إذ قد عرفت أنّ جميع الواجبات مشروط ولو بالامور العامّة التي هي شرائط التكليف ؛ اللّهمّ إلاّ أن يكون النزاع في المقدّمات بعد حصول شرائط الوجوب ، فيكون النزاع في وجوب السعي بعد

ص: 231

حصول الاستطاعة - كما زعمه بعض الأجلّة (1) - ولعمري! إنّ ذلك تقييد بارد وترويج (2) كاسد لا يقضي به دليل ولا يساعده اعتبار.

ومن هنا تعرف الوجه في عدم تقييد العنوان في كلام جماعة من القدماء في تحرير المسألة بقيد « الإطلاق » (3) لأنّ ذلك - على ما عرفت - مخلّ.

ومن هنا يظهر فساد ما أورده المعتذر عذرا لعدم التقييد : من أنّ الواجب حقيقة في الواجب المطلق فلا حاجة إلى التقييد (4) ؛ لأنّ ذلك - بعد ما ستعرف (5) فساد نفس التعليل المذكور في كلامه - ممّا ينادي باختصاص النزاع كما عرفت بالواجب المطلق ، مع أنّ كلماتهم خالية عنه ؛ اللّهم إلاّ أن يكون مراد المعتذر هو ما ذكرنا : من أنّ المقصود بالقيد المذكور إخراج المقدّمة الوجوبيّة عن حريم الخلاف ، فيتوجّه عليه - على ذلك التقدير - أنّ التعليل المذكور في كلامه ممّا لا مساس له بما نحن فيه ، كما هو ظاهر ؛ مضافا إلى أنّ التأويل المذكور مناف لتفريعه عدم الحاجة إلى التقييد بالمقدورة ، فإنّ ذلك إن (6) أمكن تطبيقه على التأويل المذكور - كأن يقال : إنّ المقصود من ذلك إخراج نفس القدرة لا ذات المقدّمة الموصوفة بعدم القدرة إذ الواجب مشروط بالنسبة إلى القدرة - إلاّ أنّه كلام عار عن التحصيل ؛ إذ لا يعقل وجوب القدرة ، فالمقصود من ذلك إخراج المقدّمة الغير المقدورة ،

ص: 232


1- انظر ضوابط الاصول : 83.
2- في ( ع ) : ترجيح.
3- مثل السيّد المرتضى في الذريعة 1 : 83 ، والشيخ الطوسي في العدة 1 : 186.
4- راجع الزبدة : 46.
5- في ( ع ) و ( م ) : عرفت.
6- كذا ، والظاهر : وإن.

من حيث إنّ الواجب قبل القدرة واجب مشروط ، ولا نزاع في مقدّمات الواجب المشروط ، لأنّ الواجب المأخوذ في العنوان واجب مطلقا بمقتضى أصالة الحقيقة ، كما هو ظاهر كلامه.

ويرد عليه ما أوردنا عليهم : من أنّه لا قاضي للتخصيص المذكور في كلامهم بعد عموم الدليل وشمول عناوين جماعة من القدماء لذلك ، كما ينادي به الاعتراض المذكور واعتذاره عن ذلك. نعم ، كلام المعتذر موجّه على مذاق المشهور القائلين باختصاص النزاع ؛ وكأنّه منهم فنسج على منوالهم.

وينبغي أن يعلم في المقام : أنّ المقدّمة الغير المقدورة على تقدير عموم النزاع لا ينبغي إخراجها عن النزاع ، لأنّ القدرة شرط الوجوب لا المقدّمة الغير المقدورة ، فإنّ المقدّمة ليست إلاّ ذات المقدّمة والواجب المشروط بالقدرة واجب مطلق بالنسبة إلى ذات المقدّمة ؛ غاية ما في الباب أنّ عدم القدرة المتعلّق بذيها بواسطة عدم الاقتدار عليها ، وذلك لا يقضي بأن لا تكون متّصفة بالوجوب على نحو اتّصاف ذيها بالوجوب الشرطي. فتدبّر في المقام كي لا يشتبه عليك حقيقة المرام فإنّه من مزالّ الأقدام ، وتهتدي إلى ما هو المقصود من هذا الكلام بعون اللّه الملك العلاّم.

ص: 233

ص: 234

هداية

قد عرفت في كلام شيخنا البهائي : أنّ لفظ الواجب حقيقة في المطلق منه وأنّه مجاز في المشروط (1) ، ويظهر منه أيضا : أنّ العلاقة فيه هي المشارفة أو علاقة الأول.

والتحقيق : أنّ ذلك مبنيّ على كون التقييد مجازا أو حقيقة.

فعلى الأوّل : فالواجب المشروط مجاز تقييدي ولا مدخل للأول والمشارفة فيه ؛ لأنّ المدار في صدق المشتقّ على وجه الحقيقة هو قيام المبدأ بمورده في الحال ، والوجوب في الواجب المشروط حاليّ إلاّ أنّ الواجب شيء مخصوص بتقدير خاصّ ، وذلك لا يوجب أن لا يتّصف المورد بالوجوب في الحال.

وعلى الثاني - كما هو الحقّ - فهو حقيقة ، كما في سائر المطلقات. نعم ، عند تجرّده عن القيود يحمل على أنّ المورد متّصف بالوجوب على جميع التقادير - كما في غيره من المطلقات أيضا - ولا إشكال في ذلك.

وهل هيئة الأمر حقيقة في الطلب على وجه الإطلاق ومجاز في الطلب المشروط أو بالعكس؟ أو مشترك بينهما لفظا أو معنى؟ وعلى الأخير : فعند الإطلاق هل يحمل على الإطلاق أو يتوقّف؟ وعلى الأوّل : فهل ذلك بواسطة الانصراف أو بواسطة عدم البيان؟ وجوه :

لا إشكال في فساد الأوّلين ولا سيّما الثاني منهما ؛ إذ لم يجوّزه عاقل ولا تعرّض للخلاف فيه ناقل (2).

ص: 235


1- تقدّم في الصفحة 229 - 230.
2- العبارة في المطبوع : ولا خلاف فيه أيضا ولا ناقل.

ويدلّ على فساد الأوّل : أنّه لو كان الأمر موضوعا للطلب لا على وجه التقييد يلزم أن يكون جميع الأوامر مجازات ؛ إذ لا أقلّ من اشتراطها بالامور العامّة ، فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له من الطلب المطلق ؛ على أنّه غير معقول قطعا ، إذ لا فرق بين التقييد على وجه الاشتراط أو غيره من القيود المتعلّقة بالمأمور به بحسب القواعد العربيّة ؛ فهل ترى أنّ أحدا يقول بأنّ قولنا : « اضرب زيدا في المسجد أو راكبا أو ضربا شديدا أو بالسوط أو نحو ذلك » مجاز ، وقولنا : « اضرب زيدا » حقيقة؟

وتوضيح المقال وتفصيل هذا الإجمال هو أن يقال : إنّ هيئة الأمر موضوعة - بالوضع النوعي العامّ والموضوع له الخاصّ - لخصوصيّات أفراد الطلب والإرادة الحتميّة الإلزاميّة التي يوقعها الآمر ويوجدها عند ما ينبعث في نفسه دواعي وجود الفعل المطلوب من المأمور ، ولا اختلاف في تلك الأفراد من حيث ذواتها إلاّ فيما يرجع إلى نفس تعدّد ذواتها من تعدّد الوجودات الخاصّة ، فإنّها يجمعها عنوان واحد هو الطلب والإرادة.

نعم ، الاختلاف إنّما هو فيما تعلّق به الطلب بعد اجتماع شرائط وجوده : من الطالب والمطلوب والمطلوب منه في الجملة ؛ فتارة : يكون المطلوب شيئا عامّا ، كالضرب المطلق على أيّ نحو وقع وعلى أيّ وجه حدث زمانا ومكانا وآلة وحالة ووجها ، إلى غير ذلك. وتارة : يكون المطلوب أمرا خاصّا - على اختلاف مراتب الخصوصيّة - ففي جميع هذه الأقسام صيغة الأمر وهيئته مستعملة في الطلب الواقع والإرادة الحادثة في نفس الأمر. ولا يعقل أن يكون الفرد الموجود من الطلب مطلقا ، إذ الإطلاق إنّما هو واسطة في التعقّل ، لا في الوجود ؛ والألفاظ إنّما تتّصف بالإطلاق والتقييد باعتبار المعنى ، وبعد ما فرضنا من أنّ المعنى المقصود بالهيئة هو خصوصيّات الطلب وأفراده فلا وجه لأن يقال : إن الهيئة مطلقة أو مقيّدة ، بل

ص: 236

المطلق والمقيّد هو الفعل الذي تعلّق به الطلب ؛ فإنّ معنى الضرب في حدّ ذاته معنى كليّ ، واللفظ الكاشف عنه مطلق ، والضرب الواقع في الدار مقيّد.

فظهر من ذلك : أنّ معنى الهيئة ممّا لا يختلف باختلاف المطلوب وإن كان لهذه الاختلافات مدخل في تعدّد أفراد الطلب - كما لا يخفى - إلاّ أنّه لا دخل له بما نحن بصدده.

ولا خفاء أيضا في أنّ الشرط أيضا من الامور الراجعة إلى المطلوب ، فإنّ الفعل تارة : يكون متعلّقا للطلب على جميع تقاديره - من قيام عمرو وقعود بكر وحياة زيد وموت خالد ونحو ذلك - وتارة : يكون متعلّقا للطلب على تقدير خاصّ ؛ فلا اختلاف في حقيقة الطلب ، كما لا اختلاف فيها عند اختلاف سائر قيود الفعل من الزمان والمكان.

وإذ قد تحقّقت ذلك عرفت أنّه لا وجه للقول بكون هيئة الأمر حقيقة في الوجوب المطلق مجازا في المشروط ، فإنّ ذلك ممّا لا يرجع إلى طائل ، بل التحقيق : أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ للأعمّ من الطلب الواقع على الماهيّة المطلقة أو المقيّدة. نعم ، عند عدم القيد بواسطة القاعدة - التي قد شيّدنا أركانها في المطلقات - يحمل الفعل المطلوب على المطلق من دون مدخل لذلك فيما دلّ على الطلب.

فإن أراد القائل بالاشتراك المعنوي ما ذكرنا فهو حقّ لا محيص عنه. وإن أراد بذلك الاشتراك المعنوي بمعنى أن يكون هيئة الأمر موضوعة لمفهوم الطلب الشامل للطلب المشروط والطلب المطلق فذلك ممّا لا يعقل.

أمّا أوّلا : فلأنّ المعقول عندنا عدم اختلاف الطلب المشروط للطلب المطلق إلاّ بالإطلاق والتقييد ، فلا بدّ أن يكون الطلب المطلق - الذي وقع قسيما (1) - شاملا

ص: 237


1- في ( ط ) : قسما.

له على نحو شمول الماهيّة المطلقة التي هي قسم (1) للماهيّة المأخوذة بشرط شيء أو بشرط لا ، فيكون الاختلاف اعتباريّا ويكون هيئة الأمر موضوعة للطلب المقسم المخالف للقسم اعتبارا ، وذلك ممّا لا يقضي به دليل ولا يساعده اعتبار.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المتبادر من الهيئة هو خصوصيّات الطلب والإرادة ، فلا وجه للقول بكونها موضوعة لمفهوم الطلب ؛ وذلك أمر ظاهر بعد تصوّر أطرافه.

ومن هنا يظهر فساد القول بالانصراف أيضا ؛ إذ لا إطلاق في الهيئة حتى يقال بالانصراف. وأمّا إطلاق الفعل المطلوب فالانصراف فيه إلى المطلق غير معقول ؛ إذ الانصراف إنّما هو يلاحظ فيه بالنسبة إلى أفراده ، والمطلق هو عين الفعل فلا ينصرف إليه. وذلك أيضا ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه.

بقي احتمال الاشتراك اللفظي في هيئة الأمر بالنسبة إلى الطلب المطلق والطلب المشروط ، كأن يقال : إنّ الواضع تارة لاحظ أفراد الطلب المتعلّق بالمطلوب المطلق وجعل هيئة الأمر لها ، واخرى لاحظ أفراد الطلب الواقع على الماهيّة المقيّدة وجعل الهيئة لها أيضا بوضع مستقلّ.

وهو أيضا في غاية الضعف والسقوط ؛ إذ نحن لا نجد من أنفسنا فرقا بين استكشافنا معنى الهيئة في المقامين ، ولو كان ذلك فيهما بوضعين يجب أن يكون الانتقال إلى أحدهما من اللفظ مغايرا - ولو بنحو من الاعتبار - عن الانتقال إلى الآخر ، وهو ظاهر في الغاية.

فإن قلت : إنّ سنخ الطلب وماهيّته ممّا يختلف عند الإطلاق والاشتراط ، بحيث إنّه لا يجمعهما عنوان واحد في الملاحظة إلاّ مفهوم الطلب الشامل لهما ، فيكون المطلق والمشروط نوعين من مطلق الطلب ؛ وحيث قد ظهر لك أنّ الهيئة ليست

ص: 238


1- كذا ، والظاهر : قسيم.

موضوعة لمفهوم الطلب ، فالموافق للاعتبار هو أن يكون الآلة في ملاحظة الواضع خصوصيّات أفراد الطلب في كلّ من النوعين هو ذلك النوع ، ولازم ذلك الاشتراك اللفظي. كما أن « من » - مثلا - موضوعة تارة لخصوصيّات التبيين وتارة لأفراد التبعيض ؛ فالهيئة الأمريّة موضوعة للقبيلتين بوضعين.

قلت : أمّا أوّلا : فلا نسلّم أنّ الطلب مختلف بحسب أصل الماهيّة في المقامين ، والوجه في هذا المنع يظهر عند ملاحظة نظير المقام في الجمل الإخباريّة ، فإنّ حقيقة التصديق في القضية الحمليّة والقضيّة الشرطيّة ليست مختلفة على وجه يكون أحدهما نوعا من العلم والآخر نوعا آخر. وكيف ذلك! مع أنّ رجوع القضية الشرطيّة إلى القضيّة الحمليّة (1) :

إمّا على ما يراه البعض : من أنّ المطلوب فيها هو الحكم بالملازمة وأنّ المقدّم ملزوم للتالي (2) ، وإن كان قد يناقش في ذلك : بأنّ المقصود بالإخبار في المقام ليس الإخبار عن الملازمة ، فإنّها ملحوظة تبعا ومرآة ، فلا يكون من موارد الحكم.

وإمّا ما زعمه التفتازاني : من أنّ المقصود فيها هو التصديق بثبوت المحمول للموضوع في التالي على تقدير المقدّم (3). وبيان ذلك : أنّ المخبر عن ثبوت شيء لشيء قد يكون في صدد الإخبار عن ثبوت المحمول للموضوع على جميع التقادير المتصوّرة لذلك الموضوع من الوقائع المربوطة به ، وقد يكون مقصوده الإخبار عنه لكن على تقدير خاصّ كطلوع الشمس للحكم بوجود النهار ، فعلى الأوّل : لا مناص من التعبير بالقضيّة الحمليّة ، فإنّها تفيد ثبوت المحمول للموضوع على أيّ

ص: 239


1- في ( ط ) زيادة : الصرفة.
2- راجع الفصول : 147 - 148 ، وهداية المسترشدين 2 : 421.
3- لم نعثر عليه.

تقدير فرض. وعلى الثاني فلا بدّ من إيراده على وجه الاشتراط ، وذلك أمر ظاهر فيهما (1). وعليك بملاحظة ذلك في المقام أيضا.

فالقول باختلاف حقيقة الطلب في الطلب المطلق والمشروط لا بيّن ولا مبيّن ، بل الوجدان الخالي عن شوائب الوهم قاض بعدم الاختلاف النوعي فيهما.

وأمّا ثانيا : فعلى تقدير التسليم فلا نسلّم أنّ ذلك يمنع عن الاشتراك المعنوي على وجه قلنا به ؛ إذ الآلة في الملاحظة قد يمكن أن يكون أعمّ من النوعين ، فيكون كلّ واحد من خصوصيّات الأفراد موضوعا له بوضع واحد ، ولا ضير في ذلك.

ودعوى الغلبة على خلافه بأنّ الغالب هو أنّ المرآة للمعنى هو القدر المشترك القريب - على تقدير تسليمها - ممّا لا دليل على اعتبارها ، فإنّه مبنيّ على اعتبار الظنّ المطلق في تشخيص الأوضاع ، وقد منعنا عن ذلك في محلّه (2) ، وإن بالغ فيه جماعة كثيرة (3).

فظهر : أنّه لا وجه للقول المذكور في وجه.

ثمّ إنّ هذا القول ممّا قد نسب إلى السيّد المرتضى (4) ولعلّه بواسطة ما قد وجدوا من عادة السيّد (5) الحكم بالاشتراك في أمثال المقام ، وإلاّ فكلام السيّد في الذريعة والشافي ممّا لا دليل فيه على هذه الحكاية.

ص: 240


1- في ( ع ) و ( م ) : فيها.
2- راجع فرائد الاصول 1 : 173 - 176.
3- كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 61 ، وقد بالغ في الاستدلال عليه ونسبه إلى المعظم.
4- لم نعثر على من نسبه إلى السيّد المرتضى ، نعم حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 61 ، عن السيّد الاستاذ.
5- في ( ع ) و ( م ) زيادة : كثيرا.

قال السيّد في الذريعة : فصل - هل الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به؟

اعلم : أنّ كلّ من تكلّم في هذا الباب أطلق القول بأنّ الأمر بالشيء هو بعينه أمر بما لا يتمّ ذلك الشيء إلاّ به ؛ والصحيح أنّه يقسّم ذلك ، فنقول : إن كان الذي لا يتمّ ذلك الشيء إلاّ به سببا فالأمر بالسبب يجب أن يكون أمرا به ، وإن كان غير سبب وإنّما هو مقدّمة للفعل وشرط لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر به أنّه أمر به. والذي يدلّ على صحّة ما ذكرناه : أنّ ظاهر الأمر يقتضي ما تناوله لفظه ، وليس يجوز أن يفهم منه وجوب غيره ممّا لا يتناوله اللفظ إلاّ بدليل غير الظاهر ؛ لأنّه إذا قيل : « صلّ » فالأمر يتناول الصلاة ، والوضوء الذي ليس بصلاة إنّما يعلم وجوبه بدليل غير الظاهر.

وممّا يوضّح ذلك : أنّ الأمر في الشريعة قد ورد على ضربين : أحدهما : يقتضي إيجاب الفعل دون إيجاب مقدّماته ، نحو الزكاة والحجّ ، فإنّه لا يجب علينا أن نكتسب المال لتحصيل النصاب أو نتمكّن به من الزاد والراحلة ، بل متى اتّفق لنا النصاب وحال عليه الحول وجب الزكاة ؛ وكذلك في الزاد والراحلة. والصورة الاخرى : يجب فيه مقدّمة الفعل كما يجب هو نفسه ، وهو الوضوء للصلاة وما جرى مجراها ، فإذا انقسم الأمر في الشريعة إلى قسمين ، فكيف نجعلهما قسما واحدا؟ فإذا قيل : مطلق الأمر يقتضي تحصيل مقدّماته ، فأمّا ما كان مشروطا منه بصفة - كالزكاة والحجّ - فلا يجب ذلك فيه. قلنا : هذه دعوى ، ما الفرق بينكم وبين من عكسها؟ فقال : إنّ مطلق الأمر يقتضي إيجابه دون غيره ، فإذا علمنا بوجوب المقدّمات كالوضوء في الصلاة علمناه بدليل خارج عن الظاهر. والصحيح أنّ الظاهر محتمل للأمرين احتمالا واحد وإنّما يعلم كلّ واحد منهما بدليل. فإذا تعلّقوا بالسبب والمسبّب وأنّ إيجاب المسبّب إيجاب السبب لا محالة ، قلنا : هو كذلك ، والفرق بين الأمرين أنّه محال أن يوجب علينا المسبّب بشرط اتّفاق وجود السبب ،

ص: 241

وإنّما فسد ذلك ، لأنّ مع وجود السبب لا بدّ من وجود المسبّب إلاّ لمنع ، ومحال أن يكلّفنا الفعل بشرط وجود الفعل. وليس كذلك مقدّمات الأفعال ، لأنّه يجوز أن يكلّفنا الصلاة بشرط أن (1) يكلّفنا الطهارة (2) ، كما جرى ذلك في الزكاة والحجّ ، فبان الفرق بين المقامين ، انتهى ما أفاده السيّد المرتضى ، عليه الرحمة (3).

ولا يخفى أنّ كلام السيّد صريح في أنّ المقدمة السببيّة واجبة ، وأنّ المقدّمة (4) الغير السببيّة ممّا يحتمل الوجوب وعدم الوجوب ، وتشخيص ذلك موقوف على الدليل الخارج عن مقتضى الأمر.

وأمّا الوجه في هذا التوقّف ، فلا يظهر من كلامه شيء ، فيحتمل أن يكون الوجه في ذلك هو ما نسب إليه في حواشي المعالم : من أنّ السيّد حيث ذهب إلى اشتراك الأمر بين المطلق والمشروط ، فبمجرّد ورود الأمر لا دليل على الحكم بوجوب مقدّماته ، إذ يحتمل أن يكون واجبا مشروطا ، والمقدّمة الوجوبيّة لا تقبل الوجوب كما عرفت (5).

فعلى ذلك لا مانع من أن يكون الأمر بالشيء أمرا بما لا يتمّ إلاّ به إلاّ احتمال أن يكون الواجب مشروطا بوجود (6) المقدّمة ، وحيث إنّه قد علم اشتراط (7)

ص: 242


1- في ( ط ) زيادة : يكون.
2- العبارة في المصدر هكذا : لأنّه يجوز أن يكلّفني الصلاة بشرط أن أكون قد تكلّفت الطهارة.
3- الذريعة 1 : 83 - 85.
4- لم ترد عبارة « السببيّة واجبة وأنّ المقدّمة » في ( ع ) و ( م ).
5- راجع هداية المسترشدين 1 : 671 و 2 : 111 و 200 ، وحاشية المولى صالح على المعالم : 79.
6- في ( ط ) : بوجوب.
7- كذا ، والظاهر : امتناع اشتراط.

الوجوب بالمقدّمة السببيّة - لامتناع تحصيل الحاصل - قلنا بوجوبه ، لعدم المانع من ذلك ، فيكون كلام السيّد راجعا إلى أنّ الواجب لا يمكن أن يكون بالنسبة إلى المقدّمة السببيّة واجبا مشروطا ، ويمكن أن يكون بالنسبة إلى غيرها مطلقا ومشروطا ، وحيث إنّه لا يعلم الاشتراط والإطلاق فلا يصحّ الحكم بالوجوب ؛ إذ لعلّه يكون الواجب مشروطا ولا يجب تحصيل المقدّمة الوجوبيّة.

وأنت خبير بأنّ المستفاد من كلام السيّد أنّه لا مقتضي لوجوب المقدّمة في الأمر ، حيث إنّه يقتضي ما تناوله. فالظاهر أنّ حكمه بعدم الوجوب لعدم المقتضي له لا لوجود المانع ، وإن كان قد يوهم ذلك الفرق الذي أبداه بين السبب وغيره ؛ حيث إنّه اكتفى بمجرّد ارتفاع المانع والحكم بامتناع الاشتراط فيه ، فالوقف في وجوب غير السبب إنّما هو بواسطة عدم الدليل على الوجوب.

ولا مدخل للاشتراك اللفظي في كلامه ، بل الظاهر منه دعوى وجود الدليل في السبب دون غيره من حيث الملازمة الواقعيّة الموجودة بين السبب والفعل الواجب ، فيعقل أن يكون الأمر به دالاّ على الأمر به دلالة التزامية ، مع عدم (1) احتمال وجود المانع في السبب ، لامتناع اشتراط وجوب الشيء بوجوده ؛ وحيث إنّ هذه الملازمة ليست متحقّقة بين الفعل وسائر المقدّمات لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به مع احتمال وجود المانع. وعلى هذا فالمشهور : من استناد التفصيل في نفس المسألة إلى السيّد ، لعلّه في محلّه.

نعم ، بناء على ما حرّر النزاع في الملازمة العقليّة لا يعدّ قول السيّد فيها تفصيلا ؛ لأنّ الظاهر من تحريره أنّ النزاع في الدلالة اللفظيّة ، فلا ينطبق عليها على ظاهره ، كما لا يخفى.

ص: 243


1- لم يرد « عدم » في ( ع ).

وأمّا على الوجه الذي أشار إليه في المعالم (1) ، فإسناد التفصيل إنّما هو مبنيّ على أن يكون المنع الصغروي تفصيلا. وفيه بعد ظاهر.

وبالجملة ، فكلام السيّد كما ترى خال عن الاشتراك اللفظي ، فلا يدرى من أين يستفاد ذلك من كلامه! ولعلّهم تنبّهوا لذلك من موضع آخر.

ويحتمل قريبا أن يكون مراد السيّد الحكم بالوقف فيما إذا ثبت الاشتراط في الجملة. ولكن لا يعلم أنّ الشرط من شرائط الوجوب أو شرائط الوجود ؛ فإنّ القائل بالاشتراك المعنوي أيضا لا بدّ من أن يتوقّف في هذا المقام. كما إذا شكّ في أنّ الإقامة من شرائط وجود الصوم لمن يجب عليه الصوم مضيّقا كقضاء رمضان قبل دخول السنة اللاحقة ، أو من شرائط الوجوب ، فعلى الأوّل يجب تحصيله ، وعلى الثاني لا يجب. نعم ، إذا أقام يجب عليه.

وليس المقام من موارد الأخذ بالإطلاق عند الشكّ في التقييد ؛ لدوران الأمر بين أن يكون القيد راجعا إلى الأمر أو إلى المأمور به ، ولا مزيّة لاحدهما على الآخر ، فلا بدّ من التوقّف بناء على مذهب المشهور أيضا.

ويرشدك إلى هذا الاحتمال ما أورده السيّد في الشافي (2) في نقض استدلال المعتزلة على أنّ نصب الإمام واجب على الرعيّة : من أنّ إقامة الحدود واجب على الإمام لتوجّه الآيات الدالّة على وجوب إقامتها إلى الإمام ، ولا يمكن التوصّل إلى ذلك إلاّ بنصب الإمام ، إمّا من اللّه أو الرسول ، والمفروض انتفاؤه ، فلا بدّ من نصبنا الإمام ، لأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به. فإنّ وجوب نصب الإمام مثل وجوب الإقامة للصوم ؛ فكما يحتمل أن يكون الإقامة واجبة ، فكذلك يحتمل أن

ص: 244


1- المعالم : 60 - 61.
2- الشافي 1 : 107.

يكون نصب الإمام أيضا واجبا ، لاحتمال إطلاق الأمر. ويحتمل أن لا يكونا واجبين لاحتمال إطلاق المادّة وتقييد الهيئة - على ما ستعرف المراد من تقييد الهيئة - وإلاّ فعلى ما ذكرنا سابقا لا وجه للقول بتقييد الهيئة ، إذ لا يتصوّر في مفاد الهيئة إطلاق كما عرفت.

وبالجملة ، ففيما دار (1) الأمر بين المتباينين لا يصحّ التمسّك بالإطلاق ؛ لعوده إلى الترجيح من دون ما يقضي بذلك.

فإن قلت : إنّ تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادّة من دون عكس ، فتقييد المادّة أولى ، لقلّة التقييد على تقديره.

قلت : ذلك يتمّ بناء على ما احتملنا من رجوع المقدّمة الشرعيّة إلى المقدّمة العقلية ، وأمّا على المشهور فلا وجه لذلك. وسيجيء ما يفيدك توضيح هذا المقال بتوفيق اللّه وهدايته.

ص: 245


1- في ( ط ) : إذا دار.

ص: 246

هداية

اشارة

إذا ثبت وجوب شيء وشكّ في كونه مشروطا أو مطلقا بملاحظة أمر من الامور المحتملة لذلك ، فهل الأصل الإطلاق؟ أو الاشتراط؟ أو فيما إذا كان الوجوب ثابتا باللفظ فالأوّل ، وفيما إذا كان من الوجوه الراجعة إلى غير اللفظ فلا بدّ من التعلّق بما هو قضيّة الاصول العمليّة في مواردها؟ وجوه ، أقواها الأخير ، كما ستعرف وجهه. وتوضيح المقال في موردين :

الأوّل

فيما إذا كان الدليل لفظيّا ، فنقول : إذا تعلّق الأمر بشيء ، فهناك وجوه :

أحدها : أن يكون الأمر غير معلّق على صفة مع إطلاق الفعل المأمور به ، كأن يكون الأمر مطلقا مادّة وهيئة ، نحو قولنا : « أكرم رجلا » فإنّه ليس في المقام ما يحتمل رجوعه بحسب القواعد العربيّة إلى الهيئة ليكون قيدا للأمر بحسب ما هو الظاهر - وإن كان راجعا إلى تقييد المادّة كما عرفت - ولا ما يحتمل أوله إلى المادّة ، فعند الشكّ في قيد سواء كان قيدا للوجوب أو للفعل يجب التمسّك بالإطلاق في دفع الشكّ ، كما هو الشأن في الأخذ بالإطلاق عند احتمال التقييد فيما إذا كان المطلق في مورد البيان ؛ حذرا من الإغراء بالجهل القبيح ، فيحكم العقل بملاحظة ذلك بوجوب إكرام الرجل ، سواء طار الغراب أو جرى الميزاب أو أمطرت السحاب أم لا ؛ فإنّه لو كان الواجب هو وجوب إكرامه عند حدوث حادثة خاصّة (1) كان على المتكلّم

ص: 247


1- في ( ع ) و ( م ) : عند حدوث حادث أو عارض.

الحكيم إيراد لفظ يكون وافيا بتمام مقصوده ، لا التكلّم بما لا يفيد إلاّ بعضا منه ، وذلك ظاهر في الغاية ؛ فيجب على المكلّف حينئذ إيجاد المقدّمات الوجوديّة للإكرام وتحصيل المأمور به ، من دون حالة منتظرة من الامور المحتملة اشتراطه بها. هذا على مذاق المشهور القائلين بالاشتراك المعنوي.

وأمّا على ما هو المنسوب إلى السيّد من الاشتراك اللفظي (1) فيكون اللفظ مجملا ؛ لاحتمال إرادة وجوب الإكرام على تقدير خاصّ من تقادير الفعل المأمور به ، وعدم البيان لا يقضي بتعيّن المطلق ؛ فإنّ القرينة المعيّنة إذا انتفت يصير اللفظ مجملا بلا خفاء في ذلك ، من غير فرق بين اشتراك اللفظ بين معنيين لا ربط بينهما بالإطلاق والتقييد - كما في لفظ العين بالنسبة إلى الذهب والفضة - وبين اشتراكه بين معنيين أحدهما أعمّ من الآخر ، كما في لفظ « الإمكان » فإنّ انتفاء قرينة الخاصّ لا يوجب تعيّن إرادة العامّ ، فإنّه في هذه الملاحظة في عرض الخاصّ ، فسقط ما قد ينساق (2) إلى الوهم : من أنّ الاشتراك اللفظي بين الإطلاق والتقييد - كما في هيئة الأمر - لا يقضي بالإجمال.

وثانيها : أن يكون الهيئة خالية عمّا يحتمل رجوعه إليها بحسب القواعد العربيّة ، لكنّ المطلوب فعل مقيّد بقيد خاصّ ، كما إذا أمر المولى بأداء فعل خاصّ في مكان خاصّ - كالصلاة في المسجد أو الطواف بالبيت - فيجب على المخاطب بخطاب الحجّ السعي إليه لتحصيل الطواف المأمور به ، وعند الشكّ في قيد من القيود الغير الثابتة للمادّة فالحكم ما عرفت في الوجه الأوّل. ومن ذلك ما إذا شكّ في اشتراط الوجوب بالقيد المذكور أيضا ، فإنّ الأصل في المقام هو الإطلاق أيضا.

ص: 248


1- كما تقدّم في الصفحة 242.
2- في ( ع ) : ينسبق.

وتحقيق ذلك : أنّ وجوه مصالح الفعل - بناء على ما هو التحقيق عندنا من اختلاف الحسن والقبح في الأفعال الاختياريّة بالاعتبارات - مختلفة.

فتارة : يكون الفعل مع قطع النظر عن التكليف به حسنا مقتضيا للأمر به أو قبيحا موجبا للنهي عنه.

وتارة : يكون الفعل على وجه لو امر به وأتى به المكلّف امتثالا لأمر المولى صار حسنا ؛ وحيث إنّه لا يعقل الأمر بالفعل أوّلا على ذلك الوجه ، فما يحمله في إيصال المكلّف إلى المصلحة المكنونة في الفعل على الوجه المذكور أن يأمر بالفعل أوّلا تحصيلا لموضوع الفعل الحسن ، ثمّ تنبيه المكلّف بأن يأتي بالفعل المذكور على وجه الامتثال.

وتارة : يكون الفعل حسنا على تقدير عدم الإلزام به ، فيختلف حكمه بحسب اختلاف مراتب عدم الإلزام.

وقد يكون الفعل المقيّد بقيد ذا مصلحة ملزمة على وجه يكون متعلّق التكليف كلاهما.

وقد يكون ذا مصلحة لكن على تقدير وقوع القيد لا على وجه التكليف.

ففي كلّ من هذه الصور ينبغي للحكيم أن يعبّر عن المقصود بلفظ يكون وافيا لمقصوده ، فيستكشف من اختلاف التعبيرات - بعد ما عقلنا اختلاف (1) المعاني - أنّ مقصود المولى هو ما يمكن أن يكون مفاد ذلك التعبير بحسب القواعد الثابتة في اللغة.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الأمر إذا كان مشروطا بشرط - كما إذا قيل : « إن جاءك زيد فأكرمه » أو « إن دخلت الدار فافعل كذا » أو « إن استطعت فحجّ » مثلا - فيستفاد منه وجوب الفعل المتعقّب بالشرط المذكور. وحيث إنّ الدالّ عليه

ص: 249


1- لم يرد « اختلاف » في ( ع ) و ( م ).

هو حرف الشرط المستفاد منه في العرف واللغة العلقة الذاتيّة بين وجود الشرط والمشروط وبين عدمهما ، فنقول : إنّ الواجب هو ذلك الفعل عند حصول الشرط ، فلا يجب عند عدمه بمقتضى اللفظ ، فيكشف ذلك عن وجود المصلحة في الفعل المقيّد بالقيد المذكور ، لكن (1) على وجه كان وجوده غير متعلّق للتكليف ، وإذا عبّر عن القيد المذكور لا على هذا الوجه ، كأن يقول : « صلّ في المسجد » فيستكشف ذلك عن وجود المصلحة في الفعل المقيّد بالقيد المذكور مطلقا ، بمعنى أنّ عدم التكليف ممّا لا مدخليّة له في إيراث الفعل حسنا ، فيكون من المقدّمات الوجوديّة ويجب تحصيلها عند إرادة امتثال تكليف ذيها ، فالآمر لا بدّ أن يكشف عن مقصوده في جميع هذه المراتب بلفظ قابل لذلك المطلب. وذلك ظاهر.

ففيما نحن بصدده نقول : إنّ تقييد المأمور به ثابت وتقييد الأمر ليس ثابتا والأصل عدمه. ولا ينافي ذلك ما قلنا : من أنّ قيد الأمر يرجع إلى المأمور به ، فإنّ المقصود بالأصل المذكور هو ما عرفت : من أنّ التقييد ثابت على الوجه الذي لا يستفاد منه عدم الوجوب عند عدم القيد - كما في الجمل الشرطيّة أو فيما يقوم مقامها في الإفادة المذكورة - بل المستفاد منه هو الوجوب المطلق التابع للمصلحة على وجه الإطلاق ، فظهر المراد بأصالة الإطلاق في المقام.

وثالثها : عكس الثاني ، كأن يكون الهيئة مقيّدة دون المادّة. ومرجعها - على ما عرفت - إلى تقييد المادّة بقيد لا يحسن أن يكون القيد موردا للتكليف ، فالواجب المشروط بالنسبة إلى المقدّمة الوجوبيّة والواجب التعبّدي في طرفي الخلاف ، فإنّ المصلحة في الأوّل على وجه لا يكون المقدّمة المقدورة موردا للتكليف ، والمصلحة في الثاني على وجه يحتاج إحرازها للمكلّف وإيصاله إليها إلى التكليف لطفا ، كما ستعرفه في محلّه.

ص: 250


1- في ( م ) زيادة : لا.

وإذا شكّ في اشتراط المادّة بشيء آخر على ذلك أو على وجه آخر ، فالمرجع هو الإطلاق.

ورابعها : ما اجتمع فيه القيدان ، والحكم يظهر ممّا مرّ من غير فرق.

وخامسها : أن يثبت قيد ، ولكن لا يعلم أنّه من القيود الّتي يجب الإتيان بها حتّى يكون من قيود الفعل مطلقا ، أو من القيود التي لا يجب الإتيان بها حتّى يكون من قيود الفعل بوجه خاصّ ، وهو اعتبار وجوده لا على وجه التكليف. وهذه الصورة هي ما قلنا بأنّها يحتمل أن يكون مراد السيّد.

وكيف كان ، فقد يظهر من بعض المتأخّرين : أنّه لا بدّ من التوقّف في مقام الاجتهاد ، ويجب الرجوع إلى ما هو قضيّة الاصول في العمل ، بل لعلّه عليه المشهور (1) أيضا.

أمّا الأوّل ، فللقطع بورود المقيّد على أحد الإطلاقين ، ولا مرجّح لأحدهما ، فلا مناص من التوقّف.

وأمّا الثاني ، فستعرف الوجه فيه في المورد الثاني.

وأمّا التمسّك بأصالة الإطلاق في جانب الهيئة - لأنّ تقييد المادّة معلوم على الوجهين ، إذ تقييد الهيئة لا ينفكّ عن تقييد المادّة ، بخلاف تقييد المادّة ، فينبغي (2) إطلاق الهيئة - في محلّه.

فقد يجاب عنه : بأنّ تقييد المادّة غير معقول بما هو مقيّد للهيئة ، لأنّ موضوع التكليف والأمر لا بدّ أن يكون قبل تحقّق الأمر متحقّقا ، وإذا فرض تقييد المأمور به بشيء فلا يتعقّل اعتباره في الوجوب ؛ لأنّه يلزم إتيانه بمقتضى تقييد المادّة به - كما في

ص: 251


1- في ( ع ) و ( م ) : ولعلّه المشهور.
2- في ( ع ) و ( م ) : فيبقى.

نحوه من قيودها - ولا يلزم الإتيان به بمقتضى كونه من قيود الهيئة ، فلا يصحّ اعتبار شيء واحد في المادّة والهيئة معا.

نعم ، يصحّ التقييد بالنسبة إلى المقدّمة الوجوديّة الواقعيّة ، لكن لا على وجه يكون تلك المقدّمة معتبرا في المادّة في نظر الآمر ، لما عرفت من التناقض على تقديره.

وبعبارة واضحة : أنّ المقدّمة المعتبرة في المأمور به حكمها من حيث الوجود مثل نفس المأمور به ، فلا يجب الإتيان بالقيد ما لم يتحقّق شرط الوجوب ، والمفروض أنّ من القيود المعتبرة في الفعل نفس المقدّمة الوجوبيّة ، فيلزم وجوبها على تقدير وجودها ، وهو محال.

نعم ، ذلك إنّما يتمّ بناء على ما احتملناه : من رجوع المقدّمة الشرعيّة المأخوذة في المأمور به إلى المقدّمة العقليّة المحضة على وجه لا يكون من قيود الفعل المأمور به ، فلا يجب إيجادها بما هو مفاد الأمر ، وحيث إنّها من المقدّمة العقليّة الواقعيّة صحّ التقييد بها ، فلا يجب عند عدمها. كما هو كذلك بالنسبة إلى القدرة ، فإنّ من شرائط وجود الفعل المأمور به في الواقع هو التمكّن ، مع أنّه من شرائط الوجوب أيضا ، ولكن ذلك خلاف ما يظهر منهم في الموارد ، كما لا يخفى.

وكيف ما كان ، ففي هذه الصورة بناء على مذاق القوم لا بدّ من الأخذ بالإطلاق في جانب الهيئة والحكم بتقييد المادّة بوجهين :

أحدهما : أنّ تقييد الهيئة وإن كان راجعا إلى تقييد المادّة - كما عرفت - إلاّ أنّ بين إطلاق المادّة على الوجهين فرقا ، إذ على تقدير إطلاقه من جهة الهيئة يكون إطلاقه شموليّا - كما في شمول العامّ لأفراده - فإنّ وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع تقادير الإكرام من الامور التي يمكن أن يكون تقديرا للإكرام ، وإطلاق المادّة من غير جهة الأمر إطلاق بدلي ، فإنّ المطلق غير شامل للفردين في

ص: 252

حالة واحدة. والسرّ في ذلك ما قرّر في محلّه : من الفرق بين الإطلاق الملحوظ في الأحوال أو في الأفراد ، فتأمّل.

وثانيهما : أنّ تقييد الهيئة وإن لم يستلزم تقييد المادّة - لما عرفت من المحذور - إلاّ أنّه مع ذلك فالحكم بتقييد المادّة أولى ، لدوران الأمر بين تقييدين : أحدهما يبطل محلّ الإطلاق في الآخر ويرتفع به مورده ، والآخر لا يؤثّر شيئا في مورد إطلاقه ، ولا شكّ أنّ التقييد الثاني أولى.

فلنا في المقام أمران : أحدهما إثبات أنّه متى ما دار الأمر بين هذين التقييدين فالثاني أولى ، وثانيهما إثبات الصغرى.

أمّا الأوّل ، فلا يكاد يستريب أحد فيه بعد ما هو المدار في أمثال المقام من الرجوع إلى قاعدة العرف واللغة ، ولا شكّ أنّ التقييد وإن لم يكن مجازا ، إلاّ أنّه خلاف الأصل ، ولا فرق في لبّ المعنى بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل فيه عملا يشرك مع التقييد في الأثر وإن لم يكن تقييدا ، مثل ارتفاع محلّ بيانه الّذي هو العمدة في الأخذ بالإطلاق.

وأمّا إثبات أنّ المقام من هذا القبيل ، فقد عرفت في محلّه : أنّ الأخذ بالإطلاق ليس إلاّ بواسطة قبح تأخير البيان عن مورد الحاجة ، فإذا فرضنا أنّ مطلقا من المطلقات ليس له محلّ بيان ، فلا يمكن الأخذ بإطلاقه ، فإذا قلنا بتقييد الهيئة لزم أن لا يكون لإطلاق المادّة محلّ حاجة وبيان ، لأنّها لا محالة مقيّدة به ، بمعنى أنّ وجودها لا ينفكّ عن وجود قيد الهيئة ، فبذلك لا محلّ لإطلاقه. بخلاف تقييد المادّة ، فإنّ الأخذ بإطلاق الهيئة مع ذلك في محلّه ، فيمكن الحكم بوجوب الفعل على تقدير وجود القيد وعدمه. ولا ينافي ذلك ما قلناه من رجوع قيد الهيئة إلى المادّة أيضا ، لما عرفت من الاختلاف بين جهتي الإطلاق. نعم ، لو ترتّب على إطلاق المادّة على تقدير رجوع القيد إلى الهيئة فائدة - كأن لا يستلزم ذلك التقييد ارتفاع محلّ بيانه مطلقا - كان التوقّف في محلّه.

ص: 253

وتوضيح المقام : أنّ الشيء الّذي يحتمل أن يكون قيدا للمادّة أو للهيئة قد يكون وجه اشتراطهما به واحدا ، كأن يكون حدوثه شرطا فيهما أو يكون وجوده مستمرّا شرطا فيهما. وبعبارة اخرى : أنّ ما يحتمل أن يكون شرطا في المادّة هو حدوث الشيء وهو بعينه يحتمل أن يكون شرطا في الهيئة ، أو يكون ما يحتمل القيديّة في المادّة (1) هو البقاء وهذا بعينه يحتمل القيديّة في الهيئة. وقد يكون وجه اشتراطهما به (2) متعدّدا ، كأن يكون الشرط في أحدهما حدوث ذلك الشيء وفي الآخر بقاؤه.

ففيما إذا كان وجه الاشتراط واحدا - كأن يكون الشرط فيهما هو الحدوث أو البقاء - فالحكم هو ما عرفت : من أولوية تقييد المادّة من تقييد الهيئة ؛ إذ العكس يوجب ارتفاع الإطلاقين وإن كان في أحدهما التقييد حكميّا ، وذلك كما فيما إذا شكّ في أنّ الصوم الواجب هل وجوبه مشروط بالإقامة الدائمة أو الحادثة أو وجوده موقوف على أحدهما ، فإنّ تقييد الصوم لا يوجب تقييد الوجوب ، وتقييد الوجوب سواء كان بحدوث الإقامة أو بقائها يوجب تقييد الصوم ولو معنى - على ما عرفت - إذ لا يمكن تحقّق الصوم بدون الإقامة حينئذ.

وفيما إذا كان وجه الاشتراط متعدّدا - كأن يكون الشرط ما يحتمل الاشتراط في الهيئة هو الحدوث وفي المادّة هو البقاء - فالحكم في هذه الصورة هو التوقّف ؛ لأنّ تقييد المادّة - كما عرفت - لا يوجب تقييد الهيئة ، وتقييد الهيئة أيضا لا يوجب تقييد المادّة ، لكن بالنسبة إلى استمرار وجود ذلك القيد المحتمل. وأمّا بالنسبة إلى حدوثه فالتقييد ولو معنى لازم ، كما لا يخفى. وحينئذ ، فيمكن التمسّك بإطلاق

ص: 254


1- في ( ع ) و ( م ) : للمادّة.
2- لم يرد « به » في ( ع ).

المادّة ، ففي المثال المذكور يحكم بوجوب الصوم ولو بعد ارتفاع الإقامة ، ويحكم بوجوب الحجّ ولو بعد ارتفاع الاستطاعة. وأمّا عكس هذه الصورة فالتقييد أيضا لازم ، كما لا يخفى.

أقول : ويمكن الحكم بعدم التوقّف في الجميع ؛ لأنّ التقييد ولو في وقت ما لازم. فتأمّل فإنّ المقام من مضطرب الأفهام.

المورد الثاني

فيما إذا كان الدليل الدالّ على الوجوب لبّيا - كالإجماع ، والشهرة على القول بها - فهل الأصل هو الإطلاق أو الاشتراط؟

فنقول : إنّ الموارد في ذلك مختلفة باختلاف صور الشكّ ، فإنّ أحكام الشكّ متفاوتة في الشريعة.

فتارة : يجب الأخذ بالاشتراط ، كما إذا ثبت وجوب شيء إجمالا مع القطع بعدم اشتراطه باستمرار الشيء المشكوك اشتراطه حدوثا (1) في المأمور به ، لأنّ عند عدم الشرط (2) يرجع الشكّ في الحقيقة إلى ثبوت التكليف مع عدم ما يقضي به.

والأصل في المقام البراءة ، إلاّ أنّ بعد الوجود لا بدّ من الإتيان بالواجب وإن طرأ له العدم ، لأنّ المفروض حصول العلم بعدم اشتراط الواجب ببقائه وأنّ حدوثه يكفي في ثبوت التكليف.

نعم ، لو شكّ في اشتراطه ببقائه أيضا ، فعند عدم الشرط ولو كان عدمه حادثا بعد وجوده فالأصل أيضا البراءة ؛ لرجوعه إلى الشكّ في نفس التكليف.

ص: 255


1- لم يرد « حدوثا » في ( ع ) و ( م ).
2- في ( ع ) و ( م ) : الاشتراط.

لكن ذلك يتمّ بناء على ما هو التحقيق : من عدم صحّة الاستناد إلى الاستصحاب في مثل المقام ، لاختلاف القضيّة المشكوكة مع القضية المعلومة. وأمّا بناء على مذاق القوم : من أنّ أمر الاستصحاب في وحدة القضيّة موكول إلى العرف ويكفي في وحدة الموضوع اتّحاده العرفي ، فالمورد حينئذ من موارد الاستصحاب. ولا يعارضه أصالة البراءة كما قرّرنا في محلّه (1).

وتارة : يشكّ في كون الشيء شرطا للوجوب حدوثا أو شرطا للوجود بقاء ، فعند عدم ذلك الشيء لا إشكال في الأخذ بالبراءة إذا لم يكن مسبوقا بالوجود. وأمّا بعد الوجود فمع بقائه أيضا لا إشكال في الوجوب ، وأمّا مع عدمه ثانيا فهل يجب إيجاده في المأمور به أولا؟ وجهان مبنيّان على الأخذ بالبراءة أو الاشتغال فيما إذا شكّ في اشتراط الواجب بشيء ، ونحن رجّحنا القول بالبراءة في محلّه (2) ، فلا يجب إيجاده ثانيا في المأمور به. والتفصيل موكول إلى محلّه.

وتارة : يعلم الاشتراط في الجملة ولكن لا يدرى المشروط به ، فلا إشكال قبل الوجود ، لأنّ الأصل الاشتراط والبراءة. وبعد حدوثه فالحكم ما عرفت : من رجوع الأمر إلى الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة فيما إذا انعدم ثانيا.

وتارة : يشكّ في اشتراط الواجب بشيء مع كون نفس الواجب من أطراف العلم الإجمالي ، كما إذا علمنا إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة مع الشكّ في اشتراط الأخير بوجود الإمام عليه السلام. ولا بدّ من الأخذ بالاحتياط والجمع بين الصلاتين ، ولا وجه لإعمال البراءة ؛ لأنّ الاصول العمليّة ممّا لا حكم لها في قبال العلم الإجمالي.

ص: 256


1- انظر فرائد الاصول 3 : 378.
2- انظر فرائد الاصول 2 : 359 و 400 - 401.

وقد يقال : بأنّ العمل بالبراءة في أحد أطراف العلم الإجمالي ممّا لا ضير فيه إذا لم يكن العمل بها من حيث الشكّ الموجود في أطراف العلم الإجمالي ، كما في المقام ، فإنّ إعمال البراءة في صلاة الجمعة ليس من حيث إنّها واقعة في أطراف العلم الإجمالي ، بل من حيث الاشتراط بشيء وعدمه. فتأمّل.

وكيف كان ، ففيما إذا كان الدليل غير اللفظ لا بدّ من الاقتصار على المعلوم في مقام الاجتهاد والعمل بالاصول المشهورة في الشريعة للشاكّ على حسب مواردها.

ولا يخفى أن إطلاق الدليل كما يعتبر في جانب الواجب فكذلك يعتبر بالنسبة إلى الدليل الدالّ على الاشتراط عند الشكّ في وجوه الاشتراط (1).

ص: 257


1- في ( ع ) و ( م ) : الاعتراض.

ص: 258

هداية

اشارة

قد عرفت في تضاعيف ما قدّمنا القول فيه : أنّ المقدّمات الوجوديّة للواجبات المشروطة ممّا يتّصف بالوجوب على نحو اتّصاف ذيها به. وقضيّة ذلك عدم وجوب الإتيان بها قبل وجوب الإتيان بذيها ؛ إذ لا يعقل أن يكون المقدّمة أعلى شأنا من ذيها ، كأن يكون موردا للوجوب التخييري من دون اتّصاف ذيها بالوجوب التخييري.

ومع ذلك فقد يظهر منهم في موارد مختلفة الحكم بوجوب الاتيان بالمقدّمة قبل اتّصاف ذيها بذلك ، كحكمهم بوجوب الغسل قبل الصبح في ليالي رمضان (1) ، وقولهم بوجوب السعي إلى الحجّ قبل أن يهلّ هلال ذي الحجّة (2) ، وحكمهم بوجوب تحصيل العلم بأجزاء الصلاة وشرائطها قبل دخول الوقت (3) ، وحكمهم بوجوب حفظ الماء وإحرازه للعالم بتعذّره له بعد دخول وقت الصلاة (4) ، كما هو صريح الاستاذ الأكبر في شرح المفاتيح (5) - على ما حكي عنه - وحكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن حاول المسافرة إلى البلدان النائية ، كما يظهر من الشهيد الثاني فيما حكي

ص: 259


1- راجع المقنعة : 345 - 347 ، والنهاية : 154 ، والسرائر 1 : 377 ، والشرائع 1 : 189 - 190.
2- راجع الروضة البهية 1 : 437 ، والذخيرة : 54 ، وكشف الغطاء 1 : 169.
3- لم نعثر عليه بعينه ، نعم حكموا بوجوب التعلّم من باب المقدّمة في العاجز عن الصحيح في التكبير والقراءة ، راجع جامع المقاصد 2 : 238 ، وروض الجنان 2 : 688.
4- راجع البيان : 84 ، والجواهر 9 : 89 - 90 ، ومستند الشيعة 3 : 359 - 360.
5- شرح المفاتيح ( مخطوط ) الورقة : 211.

عن الروض (1) ، ومنها حكمهم بوجوب تعلّم مسائل القصر والإتمام للمسافر ... إلى غير ذلك من الموارد التي تظهر جملة منها للمتتبّع في مطاوي كلمات الفقهاء.

ولهم في التفصّي عن هذه العويصة طريقان :

الأوّل : ما سلكه بعض أعاظم المحقّقين في تعليقاته على المعالم ، ولعلّه تبع في ذلك غيره. وملخّصه : أنّ وجوب الإتيان بهذه المقدّمات ليس من حيث استلزام وجوب ذيها وجوبها كما هو المراد بوجوب المقدّمة ، بل وجوبها نفسيّ وإن كانت المصلحة في وجوبها النفسي إمكان التوصّل بها إلى ذيها.

قال فيما حكي عنه : إن فسّر الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا بوجوب غيره وحاصلا من جهة حصوله من غير أن يكون له مطلوبيّة بحسب ذاته بل يكون مطلوبيّته لأجل مطلوبيّة غيره ، لم يتعلّق وجوبه الغيري قبل حصول الوجوب النفسي للغير ؛ لتفرّع حصوله على حصوله وتقوّيه به وإن تعلّق به أمر أصلي. وإن فسّر الوجوب الغيري بما لا يكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة في نفسه بل يكون تعلّق الطلب له لأجل مصلحة تحصل بفعل غيره لا يجوز تفويت المكلّف لها فيجب عليه ذلك ليتمكّن من إتيانه بذلك الغير ، أمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها ، لا من جهة الأمر الذي تعلّق بذيها ، بل بأمر أصلي يتعلّق به ، ويكون الحكمة الباعثة على تعلّق الطلب به تحصيل الفائدة المترتّبة على فعل آخر يكون ذلك الفعل موصلا إليه إن بقي المكلّف على حال يصحّ تعلّق التكليف به عند حضور وقته ، وقضيّة ذلك استحقاق المكلّف للعقاب عند تركه. لكن عدّ ذلك من الوجوب الغيري محلّ تأمّل. بل لا يبعد كونه من الوجوب النفسي (2). انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

ص: 260


1- روض الجنان 2 : 523 - 524.
2- هداية المسترشدين 2 : 170 - 171.

وفيه : أنّ الوجوب الغيري على التفسير الثاني ، إمّا أن يكون من لوازم نفس المقدّميّة ووجوبها كأن يكون وجوب ذي المقدّمة يلازم هذا النحو من الوجوب في المقدّمة ، وإمّا أن لا يكون هذا النحو من الوجوب من لوازم وجوب ذيها. فعلى الأوّل لا وجه لاختصاص ذلك ببعض المقدّمات بعد استوائها فيما هو المناط للوجوب. وعلى الثاني فلا مدخل له في المقام ؛ إذ الإشكال ناش من جهة وجوبها الغيري على التفسير الأوّل. والتزام الوجوب النفسي لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير.

الثاني : ما أفاده بعض الأجلّة ، من الفرق بين الواجب المشروط والواجب المعلّق ، وما يجب فيه الإتيان بالمقدّمة قبل ذيها إنّما هو في الواجب المعلّق دون المشروط ، ولا محذور ؛ لأنّ المعلّق وجوبه حالي ، دون المشروط فإنّ الطلب فيه مشروط.

قال في جملة كلام له في إبداء الفرق بين هذين النوعين من الوجوب : إنّ الموقوف عليه في المشروط شرط الوجوب وفي المعلّق شرط الفعل ، فلا تكليف في الأوّل بالفعل ولا وجوب قبله ، بخلاف الثاني كما أشرنا إليه ، ففرق إذن بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وقوله : « افعل كذا في وقت كذا » فإنّ الاولى جملة شرطيّة مفادها تعلّق الأمر والإلزام بالمكلّف عند دخول الوقت ، وهذا قد يقارن وقت الأداء فيه لوقت تعلّق الوجوب وقد يتأخّر عنه ، كقولك : « إن زارك زيد في الغداة فزره في العشاء » ، والثانية جملة طلبيّة مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي.

وحاصل الكلام : أنّه ينشئ في الأوّل طلبا مشروطا حصوله بمجيء وقت كذا ، وفي الثاني طلبا حاليّا والمطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا (1). انتهى ما أردنا نقله.

ص: 261


1- الفصول : 80.

وتوضيح ما ذكره : أنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، فكما أنّه يمكن أن يكون الفعل المطلوب مقيّدا بوقوعه في مكان خاصّ - كالصلاة في المسجد - كذا يمكن أن يكون وجوبه مشروطا بوقوعها في مكان خاصّ. فعلى الأوّل فاللفظ الكاشف عن ذلك الطلب لا بدّ أن يكون على وجه الإطلاق ، كأن يقول : « صلّ في المسجد » وعلى الثاني لا بدّ أن يكون على وجه الاشتراط ، كأن يقول : « إذا دخلت المسجد فصلّ » وهذان الوجهان بعينهما جاريان في الزمان أيضا ، فيمكن أن يلاحظ الآمر (1) المقيّد بوقوعه في زمان خاصّ ، فيطلب على هذا الوجه من المكلّف ، ولا بدّ أن يكون التعبير عن ذلك المعنى على وجه الإطلاق ، كأن يقول : « صلّ صلاة واقعة في وقت كذا ». ويمكن أن يلاحظ الفعل المطلق (2) لكن وجوبه المتعلّق به وطلبه مشروط بمجيء وقت كذا.

فالوجوب على الأوّل فعليّ ، ولا بأس باتّصاف مقدّمات الفعل الواجب على هذا الوجه بالوجوب ، إذ لا خلف حينئذ ، لأنّ ذاها أيضا متّصف بالوجوب. بخلاف الوجوب على الوجه الثاني ، فإنّ الفعليّة إنّما هي منتفية في الواجب المشروط ، فيمتنع اتّصاف مقدّماته بالوجوب الفعلي.

ففي الموارد التي حكموا فيها بوجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها يلتزم بأنّ الواجب (3) معلّق ، بمعنى أنّ المطلوب هو الفعل المقيّد بوقت كذا ، ووجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها ، لا أنّه تابع لنفس الواجب ، فيمكن أن يكون وقت إيقاعها قبل زمان إيجاده ، لأنّ زمان اتّصاف الفعل المقيّد بالوجوب ليس متأخّرا عن زمان

ص: 262


1- في ( م ) زيادة : « الفعل » تصحيحا. والصواب في العبارة : أن يلاحظ الآمر الفعل مقيّدا.
2- في ( م ) شطب على « المطلق » وكتب عليه : « مطلقا » والتصحيح في محلّه.
3- في ( ع ) زيادة : « فيه » ، والمناسب : فيها.

اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، بل يقارنه وإن كان زمان وقوع الفعل متأخّرا عن زمان وقوع المقدّمة. هذا غاية توضيح ما أفاده رحمه اللّه. ولكنّه ليس في محلّه.

وتحقيق ذلك موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّ وجوب المقدّمة على القول به وجوب عقليّ تابع للوجوب المتعلّق بذيها ، بمعنى أنّه بعد ما أدرك العقل تعلّق الطلب بشيء يتوقّف ذلك الشيء على امور عديدة يحكم بتعلّق ذلك الطلب في مرتبة من المراتب وطور من الأطوار على تلك الامور ، ولا يختلف ذلك باختلاف كواشف الطلب من اللفظ وما يصلح لأن يكون كاشفا عنه ، فالوجوب المنتزع من المقدّمة بواسطة مطلوبيّتها المتفرّعة على مطلوبيّة ذيها ، ويتبع نفس الطلب المتعلّق بذيها وواقعه وإن كان التعبير في ذلك أيضا مختلفا ما لم يؤدّ إلى اختلاف معنى الطلب ولبّه. فلو فرضنا أنّ الأمر المنقدح في نفس الطالب ممّا لا يختلف باختلاف ما يكشف عنه من الألفاظ ، فلا يعقل اختلاف الطلب المتعلّق بالمقدّمة ، إذ المدار في وجوبها وإيجاد وجوبه هو وجوب ذيها المفروض عدم اختلافه في نفس الأمر باختلاف التعبير. ولعلّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه.

وإذا قد عرفت هذا ، فنقول : الذي يظهر لنا بعد التأمّل في موارد استعمال العبارتين اللتين أوردهما المجيب في بيان الفرق بين ما تخيّله من نوعي الوجوب ، هو : أنّ الموجود في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه على الوجهين ، وإنّما الاختلاف راجع في الحقيقة إلى التعبير وإن استلزم ذلك اختلاف ملاحظات المعنى المعبّر عنه بهذه التعبيرات.

وذلك يظهر عند ملاحظة اختلاف وجوه التراكيب اللغويّة والنحويّة ، فإنّ الموجود في الواقع هو أمر واحد ، لكنّه تختلف عباراته بوجوه مختلفة ، كما يرى ذلك فيما هو ثابت لشيء ، كالركوب لزيد ، فإنّه قد يلاحظ خبرا عنه محمولا عليه ، وقد يلاحظ صفة له ونعتا منه ، وقد يعتبر حالا عنه ، مع أنّ الواقع في جميع هذه الصور هو ثبوت الركوب وحصوله لزيد.

ص: 263

وما نحن فيه بعينه من هذا القبيل ، فإنّه لا يفرق عندنا فيما ينقدح في أنفسنا عند طلبنا شيئا في زمان ، بين أن يجعل الزمان بحسب القواعد النحويّة قيدا للحكم الذي هو الوجوب ، وبين أن يجعل قيدا للفعل الذي تعلّق به الحكم ، وذلك ظاهر لمن راجع وجدانه وأنصف من نفسه. ويتّضح ذلك غاية الظهور فيما لو تجرّد الطلب من الكواشف اللفظيّة وثبت تحقّقه في نفس الطالب بدليل لبّي ، فهل تجد من نفسك فرقا فيما علمت بوجوب شيء في زمان بين الوجهين؟ كلاّ! فلا فرق في محصّل المعنى بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وبين قوله : « افعل كذا في وقت كذا » إذ المعنى الموجود الذي يدعو إلى إظهاره وداعي الأمر فيهما أمر واحد لا تعدّد فيه. نعم ، يمكن التعبير عنه بأحد هذين الوجهين.

فإن قلت : إنّ الأحكام الشرعيّة تابعة لما يستفاد من عنوان الدليل ، واختلاف ورود الأدلّة فيما نحن فيه بصدده يكفي ، كما قد سبق نظيره في الفرق بين الواجب المطلق والواجب المشروط. قلت : وذلك ظاهر الفساد بعد ما قرّرنا في التمهيد ، من أنّ وجوب المقدّمة تابع لما هو واقع الطلب ولبّه (1) ، وبعد تسليم اتّحاده لا وجه لاختلاف لوازمه. وأمّا الفرق بين المشروط والمطلق فنحن بعد ما بيّنّا اختلاف المعنى فيهما استكشفنا من كلّ لفظ وارد في مقام البيان ما يناسبه من المعنى ، ولم نقل بأنّ مجرّد الاختلاف في العبارة كاف في الفرق. كيف؟ ولا يعقل أن يكون ذلك مناطا فيما هو راجع إلى المعنى.

لا يقال : إنّ ذلك المعنى الواحد المعبّر عنه بالعبارتين لا محالة يختلف وجوبه واعتباراته عند اختلاف العبارة ، كما يظهر ذلك عند ورود الركوب حالا أو صفة أو خبرا ، إذ لا شكّ في اختلاف ملاحظات ذلك المعنى الموجود المحكيّ عنه بهذه الخطابات.

ص: 264


1- راجع الصفحة 197.

لأنّا نقول : وذلك أيضا ممّا لا مدخل فيه لما نحن بصدده ، لاختصاص التبعيّة بما هو واقع المعنى ، كما يظهر ذلك فيما هو متعلّق بما هو الواقع في المثال المذكور ، فإنّ حقيقة ثبوت الركوب لزيد يقتضي اتّحاد الركوب المأخوذ لا بشرط شيء أو المشتقّ منه مع زيد في الوجود ، وذلك لمّا كان من لوازم ذلك المعنى فلا يختلف باختلاف ملاحظاته ولا باختلاف عباراته. نعم ، الامور الراجعة إلى الألفاظ أو ملاحظات المعنى كالأحكام اللفظيّة من الرفع والنصب والتنكير والتعريف يختلف باختلاف العبارات ، وقد عرفت في التمهيد أنّ الوجوب العارض للمقدّمة من لوازم واقع الطلب.

فإن قلت : قد ذكر في كلامه (1) أنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، والفعل قد يؤخذ المكان فيه قيدا على وجه يختلف المعنى الموجود في نفس الطالب فيه إذا كان المطلوب ممّا يختصّ بكونه وحصوله في ذلك المكان ، كما إذا قيل : « جئني بالبطّيخ الموجود في بلد كذا » ، فإنّ التقييد على ذلك الوجه يغاير التقييد على وجه آخر ، كما إذا لم يكن المطلوب ممّا يختصّ بكونه في مكان خاصّ ، كما إذا قيل : « جئني بالبطّيخ في مكان كذا » ، فإنّ المأمور به على الأوّل هو البطّيخ الحاصل في ذلك المكان ، بحيث لو أتى بدلا عنه ما يكون في بلد آخر لم يكن مجزئا. وعلى الثاني هو مطلق البطيّخ ، ولكنّه يريده منه في مكان كذا. وقد يؤخذ المكان في الفعل على وجه لا يختلف المعنى فيه كما إذا قيل : « إذا دخلت في مكان كذا فجئني بالبطّيخ » أو قيل : « جئني بالبطّيخ في مكان كذا » وحيث إنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، فيمكن أن يكون الزمان قيدا على وجه يختلف المأمور به فيه ، كما عرفت في المكان.

ص: 265


1- أي كلام صاحب الفصول.

قلت : الظاهر من كلامه - كما يظهر من تمثيله - إنّما هو إبداء الفرق بين هذين الوجهين من التعبير ، فالتكليف المذكور لعلّه ممّا لا يرضى هو به.

وتوضيح ذلك : أنّ الزمان والمكان قد يؤخذان ظرفين لنفس الفعل المأمور به ، كما إذا أخذ المكان ظرفا للصلاة التي هي عبارة عن فعل خاصّ وحركة مخصوصة ، أو اخذ الزمان ظرفا له ، كأن يقال : « صلّ في المسجد » أو « في الظهر » مثلا. وقد يؤخذان ظرفين لما يتعلّق به الفعل المأمور به ، كما في مثال البطّيخ ، فإنّ المكان فيه ليس ظرفا للفعل الذي أمر به الآمر وطلبه منه وهو الإتيان ، وإن أمكن تقييد الفعل بالمكان المذكور أيضا ، والكلام إنّما هو فيما إذا كان الزمان قيدا لنفس الفعل لا لمتعلّقه ، كما يظهر ذلك من الأمثلة التي فيها الإشكال ، كما في الغسل للصوم وتعلّم المسائل للصلاة ، وغير ذلك ممّا عرفت آنفا.

وبالجملة ، فالاحتمال المذكور ممّا لا مساس له بكلام المجيب ، وإنّما يحتمله من لا خبرة له بالمقام. نعم ، ذلك ينهض وجها من وجوه اختلاف الفعل المطلوب ، إذ باختلاف المتعلّق عموما وخصوصا يختلف الفعل أيضا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فلا فرق فيما ينقدح في نفس الآمر بين أن يكون الزمان بحسب القواعد اللغويّة قيدا للفعل كما إذا قيل : « افعل في وقت كذا » وللحكم كما إذا قيل : « إذا جاء وقت كذا افعل كذا ». وبعد ما عرفت من أنّه هو المناط في الأحكام التي نحن بصددها من لوازم الوجوب ينبغي العلم بفساد الوجه المذكور في مقام دفع الإشكال.

ولعلّ اتّحاد المعنى على الوجهين ظاهر ، بناء على ما ذهب إليه الإماميّة : من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ؛ إذ الفعل يختلف مصالحه ومفاسده باعتبار قيوده الطارئة عليه ووجوهه اللاحقة له ، ومن جملة وجوهه وقوعه في زمان خاصّ ، فالطالب إذا تصوّر الفعل المطلوب فهو إمّا أن يكون المصلحة الداعية إلى طلبه

ص: 266

موجودة فيه على تقدير وجوده في ذلك الزمان فقط ، أو لا يكون كذلك بل المصلحة فيه تحصل على تقدير خلافه أيضا. فعلى الأوّل فلا بدّ من أن يتعلّق الأمر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة ، كأن يكون المأمور به هو الفعل المقيّد بحصوله في الزمان الخاصّ. وعلى الثاني يجب أن يتعلّق الأمر بالفعل المطلق بالنسبة إلى خصوصيّات الزمان. ولا يعقل أن يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب ، فإنّ تقييد الطلب حقيقة ممّا لا معنى له ؛ إذ لا إطلاق في الفرد الموجود منه المتعلّق بالفعل حتّى يصحّ القول بتقييده بالزمان أو نحوه. فكلّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدلّ عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادّة. وبعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعنى الذي هو المناط في وجوب المقدّمة.

بل التحقيق أنّ ذلك غير مبنيّ على مذهب العدليّة ، إذ على القول بانتفاء المصلحة والمفسدة أيضا يتمّ ما ذكرنا ؛ فإنّ العاقل إذا توجّه إلى أمر والتفت إليه : فإمّا أن يتعلّق طلبه بذلك الشيء أو لا يتعلّق طلبه به ، لا كلام على الثاني. وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون ذلك الأمر موردا لأمره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طوارئه أو على تقدير خاصّ. وذلك التقدير الخاصّ قد يكون شيئا من الامور الاختياريّة ، كما في قولك : « إن دخلت الدار فافعل كذا » وقد يكون من الامور التي لا مدخل للمأمور فيه لعدم ارتباطه بما هو مناط تكليفه ، كما في الزمان وأمثاله.

لا إشكال فيما إذا كان المطلوب مطلقا. وأمّا إذا كان مقيّدا بتقدير خاصّ راجع إلى الأفعال الاختياريّة فقد عرفت فيما تقدّم اختلاف وجوه مصالح الفعل ، إذ قد يكون المصلحة في الفعل على وجه يكون ذلك القيد خارجا عن المكلّف به ، بمعنى أنّ المصلحة في الفعل المقيّد لكن على وجه لا يكون ذلك القيد أيضا موردا للتكليف ، هذا على القول بالمصلحة. وأمّا على تقدير عدمها - كما هو المفروض - فالطلب

ص: 267

متعلّق بالفعل على هذا الوجه فيصير واجبا مشروطا. وقد يكون المصلحة في الفعل المقيّد مطلقا فيصير واجبا مطلقا ، لكن المطلوب شيء خاصّ يجب تحصيل تلك الخصوصيّة أيضا. وممّا ذكرنا في المشروط يظهر الإطلاق أيضا بناء على عدم المصلحة لتعلّق الطلب بالفعل على الوجه المذكور (1).

وأمّا إذا لم يكن راجعا إلى الامور الاختيارية فالمطلوب في الواقع هو الفعل المقيّد بذلك التقدير الخاصّ ، ولا يعقل فيه الوجهان كما إذا كان فعلا اختياريّا ، كما عرفت. فرجوع التقييد تارة إلى الفعل واخرى إلى الحكم بحسب القواعد العربيّة ممّا لا يجدي (2) بعد اتّحاد المناط في هذه المسألة العقليّة. فقد ظهر من جميع ما مرّ أنّ سلوك هذا الطريق ممّا لا يجدي في رفع الإشكال.

ولنا في المقام مسلك آخر لعلّه حاسم لمادّة الشبهة بحذافيرها. وربّما يظهر من بعضهم أيضا ، كما نشير إليهم.

وتقريره - بعد ما عرفت من أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة إنّما هو العقل على القول بالوجوب ، فالقاضي في أمثال هذه الاختلافات الواقعة فيه هو ذلك الحاكم ، ولا بدّ من ملاحظة حكم العقل الخالي عن شوائب الوهم في ذلك - أن يقال : إنّ الفعل الواجب الموقوف على حضور زمان تارة يكون ذلك الزمان واسعا صالحا لوقوع الفعل بجميع مقدّماته فيه ، وتارة يكون بقدر وقوع ذات الفعل فقط من غير أن يصلح لوقوع المقدّمات أيضا (3). والأوّل كما في الصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، والثاني كما في الصوم بالنسبة إلى الغسل.

ص: 268


1- لم ترد عبارة « وممّا - إلى - المذكور » في ( ع ) و ( م ).
2- في ( ع ) و ( ط ) : لا يجهل.
3- في ( ط ) بدل « أيضا » : فيه.

وعلى الأوّل ، إمّا أن يكون المكلّف عالما باقتداره من المكلّف به وقت حضور زمانه بإتيانه على جميع أجزائه وشرائطه ولواحقه ، أو يشكّ في ذلك ، أو يعلم بعدم اقتداره له في ذلك الزمان ، لكنّه قادر على تمهيد مقدّماته قبل حضوره.

لا كلام في جواز التأخير عند علمه باقتداره من المكلّف به على وجهه. وصورة الشكّ أيضا ممّا لا دخل لها بالمقام ؛ لأنّ المرجع في ذلك إلى الاصول العمليّة ، ولعلّ الأصل عدم الوجوب في ذلك الزمان ، والظنّ به ملحق إمّا بالعلم أو بالشكّ.

وأمّا عند العلم بعدم اقتداره في ذلك الوقت مع تمكّنه من المقدّمات قبله ، كما إذا أمر المولى عبده بالمسافرة بعد الزوال مع علمه بعدم تمكّنه من الراحلة بعده وتمكّنه قبله ، فإن تهيّأ الإتيان (1) بذلك الواجب بترتيب مقدّماته من شراء الزاد وإجارة الراحلة ونحو ذلك ، فلا ينبغي أن يتأمّل في أنّ ذلك العبد مطيع لأمر مولاه. وإن تخلّف عنها ولم يتهيّأ للواجب وأهمل في تمهيد المقدّمات ، فالعقل المستقيم حاكم جزما باستحقاقه العقاب المترتّب على ترك الواجب عند تركه ما يمكن التوصّل به إليه ، ولا يتوقّف ذلك على حضور زمان الفعل.

ويكشف عمّا ذكرنا ملاحظة الوجدان الخالي عن الاعتساف وملاحظة طريقة العقلاء أيضا ، فإنّه يحسن من المولى ذمّ العبد حينئذ ، ولو اعتذر بعدم حضور الوقت فلا يستحقّ أن يصغى إلى اعتذاره ، كيف وهو عاص قطعا ومخالف جدّا!

وعلى الثاني - وهو ما إذا لم يكن الزمان واسعا للمقدّمة أيضا - فالأمر في المخالفة عند تركه المقدّمة أظهر ولا قبح في عقابه عند العقل ، وحيث إنّك قد عرفت أنّ القاضي بالوجوب فيما نحن بصدده هو العقل ، فلا مانع من اتّصاف المقدّمة

ص: 269


1- كذا ، والمناسب : للإتيان.

بالوجوب قبل حضور زمان الواجب ، لأنّ العلم بمجيء زمان الفعل الواجب مع عدم اقتداره عليه بدون إحراز المقدّمة قبله كاف في انتزاع المطلوبيّة والوجوب من المقدّمة عند العقل ، فيحكم بوجوب إتيانها وإحرازها.

وبذلك يرتفع الإشكال عن أصله ؛ إذ لا محذور في أن يكون الشيء الواجب موقوفا على مقدّمة يجب تحصيلها قبل زمان الواجب بعد ما هو المفروض من تعلّق الوجوب بذلك الشيء على ما حقّقنا : من أنّ الوجوب في الواجب المشروط أيضا وجوب فعلي ، غاية الأمر أنّ الواجب فعل مخصوص على تقدير خاصّ. وليس ذلك بمزيّة الفرع على الأصل ؛ فإنّ مراعاة المقدّمة عين مراعاة ذيها.

لا يقال : إنّ الوجوب في الواجب المشروط يتعلّق بالفعل بعد حضور زمانه ووجود الشرط ، فليس وجوبه فعليّا ، ومع ذلك لا يعقل الوجوب الفعلي في المقدّمة ؛ إذ لو كان فيلزم مزيّة الفرع على الأصل كما ذكر.

لأنّا نقول : إنّ الواجب صفة منتزعة من الفعل الواجب الذي تعلّق به الطلب في نظر الطالب ، وبعد تحقّق الطلب - كما هو المفروض - لا وجه لعدم اتّصاف ذلك الفعل بالوجوب ، لوجوب ما هو المناط في انتزاعه عن محلّه.

وما قد يتوهّم : من أنّ الطلب ليس علّة تامّة لانتزاع تلك الصفة عن محلّها ، بل هو مقتض له فلا ينافي وجود المانع من ذلك - وهو عدم حضور زمان الواجب أو وجود الشرط مثلا - فهو ليس في محلّه ؛ إذ لا نعني بالوجوب إلاّ كون الفعل على أيّ وجه فرض في تعلّق الطلب به غير جائز الترك إن مطلقا فمطلقا وإن مشروطا فمشروطا ، وهو حاصل في الواجب الموقوف على حصول شيء زمانا كان أو غيره ، لأنّ المناط في ذلك هو الإنشاء والطلب ، والمفروض أنّ الطالب قد تعلّق طلبه بالفعل وأقام بجميع وظائف الطالبيّة ، ويكفي ذلك في انتزاع الصفة المذكورة.

فإن قلت : الفعل المطلوب إمّا أن يكون قبل الوقت جائز الترك أو لا ، فعلى

ص: 270

الأوّل يلزم اتّصاف المقدّمة بالوجوب وعدم جواز الترك قبل ذيها ، وعلى الثاني يلزم اتّصاف الفعل المذكور بجواز الترك قبله كما هو المفروض أوّلا ، وعدمه كما هو اللازم ثانيا.

قلت : اتّصاف الفعل في الحال بالوجوب في وقته يكفي في اتّصاف المقدّمة بعدم (1) جواز الترك فيما لو علمنا بأنّ تركها يفضي إلى تركه في الوقت.

فإن قلت : إنّ القدرة على الفعل في زمانه شرط لوجوب الفعل ، إذ القدرة من شرائط الوجوب ، وبعد تركه في الحال مقدّمة الفعل يصير المكلّف داخلا في عنوان « غير القادر » و « العاجز » ولا تكليف على العاجز ، فلا مخالفة ؛ لأنّها فرع التكليف. والقول بلزوم تحصيل القدرة يوجب القول بوجوب المقدّمة الوجوبيّة ، ولعلّه ممّا لا يمكن الالتزام به.

قلت : إنّ الحاكم باشتراط الوجوب بالقدرة هو العقل ، لامتناع التكليف بما لا يطاق في حقّ الحكيم العدل ، وليس يمتنع التكليف بالفعل مع تمكّنه واقتداره قبل الوقت. وأمّا منعه نفسه من تعلّق التكليف به فهو أمر راجع إلى المعصية الحكميّة ؛ إذ كما أنّ العقل حاكم بقبح المخالفة كذلك أيضا حاكم بقبح تفويت التكليف ، كما يظهر من ملاحظة (2) إطباق العدليّة على استحقاق العقاب لمن سمع دعوى النبوّة ولم ينظر في المعجزة. وكما يظهر ذلك فيما إذا أراد المولى إعلام عبده لمراده مع امتناع العبد من أن يصغى إلى أمره ، بل وذلك ربما يكون أعظم مخالفة من تفويت المكلّف به ، كما لا يخفى.

بل ربما يقال : بأنّ العاجز المذكور حينئذ مكلّف بالفعل واقعا وإن لم يكن قادرا عليه ، لأنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، إذ لا اختصاص لهذا القول

ص: 271


1- في ( ع ) و ( م ) : اتّصاف المقدّمة به لعدم.
2- لم يرد « ملاحظة » في ( ع ) و ( م ).

عند أصحابه بما إذا كان التكليف منجّزا كما إذا قطع يده بعد الزوال ، بل يجري مناط كلامهم فيما إذا صار المكلّف سببا لارتفاع نفس التكليف على أيّ وجه كان ، فيشمل المورد أيضا.

إلاّ أنّ التحقيق : أنّ الممتنع بالاختيار ينافي الاختيار تكليفا وخطابا ولو كان ابتلائيّا ، لعلم الممتنع عليه بامتناعه في حقّه ، فلا يصلح للخطاب أصلا ، وإنّما لا ينافي الاختيار عقابا ، كما ستعرف الوجه في ذلك فيما سيأتي إن شاء اللّه. فعلى هذا فالتارك المذكور معاقب ، ولكنّه ليس مخاطبا ، وعقابه إنّما هو عقاب تفويته التكليف على نفسه.

فإن قلت : ذلك يلازم القول بوجوب جميع المقدّمات قبل الوقت مع العلم بعدم تمكّنه منها بعد الوقت ، مع أنّ الظاهر عدم وجوب بعض المقدّمات قبل الوقت وإن أدّى ذلك إلى ترك ذيها في الوقت ، كما في إحراز الماء قبل الظهر.

قلت : قد عرفت أنّ الماء يجب إحرازه قبل الوقت ، كما صرّح بذلك الوحيد البهبهاني (1) ، ووجهه ما ذكرنا. ولو سلّم فكلّما علمنا بجواز ترك المقدّمة قبل الوقت - كما إذا استفدنا ذلك من إجماع أو دليل آخر - نقول : إنّ شرط الوجوب في ذلك الواجب هو القدرة على ذلك الواجب وشرائطه في زمان وجوبه ، فيكون من الشروط الشرعيّة. وليس ذلك تخصيصا لحكم العقل ، إذ القدرة المعتبرة في الفعل إذا قدرة خاصّة بحسب حكم الشرع ، فلا يجب تحصيل الراحلة قبل حصول الاستطاعة وإن علم باستطاعته فيما بعد ، ولا يجب إحراز الماء أيضا ، كما قد يمكن استفادة ذلك من دليل الوضوء ، فإنّ إقامة الصلاة إنّما هي بعد الوقت وقد توقّف وجوب الوضوء (2) بوجدان الماء حال إرادة الإقامة التي هي توجد بعد الوقت ، كما لا يخفى.

ص: 272


1- شرح المفاتيح ( مخطوط ) الورقة : 211 ، وقد تقدّم في الصفحة 259.
2- في ( ط ) : « وجود الوجوب » ، وفي ( ع ) : « وجوب الوجوب ».

وبالجملة ، فإن دلّ دليل على عدم الوجوب ، فلا بدّ من القول بأنّ الشرط هو القدرة الخاصّة ، وإلاّ فيجب الإتيان بالمقدّمة.

وقد يفرق في ذلك بين ما إذا كان الأمر الموقوف عليه الوجوب صفة راجعة إلى جنس المكلّف على وجه يختلف بها أنواعه كالمسافر والحاضر والمستطيع وغيره وواجد النصاب وغيره ، وبين ما إذا لم يكن كذلك.

فيقال بعدم وجوب المقدّمة الوجوديّة في مثل الأوّل ؛ لأنّ التكليف غير متوجّه إلى غير المستطيع ، لأنّه لا يكون عرضة للتكليف حال عدم الاستطاعة ، فلو أخلّ بشرط من شروط الواجب - كأن لم يحصّل الراحلة - فليس في ذلك تفويت التكليف ، فلا مخالفة لا حقيقة ولا حكما. ومن هنا تراهم يقولون بأنّ إدخال المكلّف نفسه في موضع التكليف ليس بواجب.

ويقال بالوجوب فيما لا يرجع إلى اختلاف موضوع (1) المكلّف.

وبيان ذلك : أنّ الصفة تارة تؤخذ عنوانا في الحكم على وجه لا مدخل للوصف العنواني في موضوع (2) المكلّفين ، فيكون قيدا للفعل المكلّف به ، فيكون المكلّف حينئذ هو الذات التي تكون تلك الصفة عنوانا فيها ، وانتفاء الشرط في الفعل وإن كان يوجب انتفاء التكليف ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب انتفاء موضوع المكلّف.

وتارة يؤخذ قيدا للمكلّف ، كما إذا قيل : « يجب الحجّ على المستطيع » كما يقال في الأوّل : « إن دخلت الدار فافعل » فيما إذا لم يكن الملحوظ تنويع المكلّفين ، بل كان المقصود تقسيم الفعل المكلّف.

كذا أفاد - دام ظلّه - ولكنّه بعد محلّ تأمّل ؛ إذ لا نجد فرقا في محصّل المعنى

ص: 273


1- في ( ط ) : موضع.
2- في ( م ) : موضع.

بين العبارتين على ما هو المناط في المقام. وعلى تقدير الفرق ففي الموارد ما لا يمكن استفادة ذلك الفرق ، كما لا يخفى.

وقد يؤيّد ما نحن بصدده من حرمة تفويت التكليف ببعض الأخبار :

فمنها : ما رواه الشيخ في زيادات التهذيب عن محمد بن الحسن ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام : « سئل عن الرجل يقيم في البلاد الأشهر ، ليس فيها ماء ، من أجل المراعي وصلاح الإبل؟ قال عليه السلام : لا » (1). ويظهر منه : أنّ وجه منعه عليه السلام الإقامة في مثل ذلك المكان إنّما هو تفويته التكليف على نفسه قبل مجيء زمانه.

ومنها : ما رواه أيضا عن العبيدي ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد إلاّ الثلج أو ماء جامدا ، قال : هو بمنزلة الضرورة يتيمّم ، ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي توبق دينه » (2) والظاهر منه أيضا المنع من تفويت التكليف.

ومنها : الأخبار الدالّة على عدم جواز الإقامة في البلاد التي لا يتمكّن المكلّف فيها من إقامة أحكام اللّه وحدوده (3).

ومنها : ما دلّ على أنّ المفتري بالرؤيا يؤمر بأن يعقد شعيرة وما هو بعاقدها (4) ، فإنّه يدلّ على أنّ التكليف الذي نشأ من المكلّف امتناعه لا ضير في ذلك.

ص: 274


1- التهذيب 1 : 405 ، الحديث 1270 ، والوسائل 2 : 999 ، الباب 28 من أبواب التيمّم ، الحديث الأوّل.
2- التهذيب 1 : 191 ، الحديث 553 ، والوسائل 2 : 973 ، الباب 9 من أبواب التيمّم ، الحديث 9.
3- راجع تفسير القمي 2 : 151 ، ومجمع البيان 4 : 291.
4- البحار 7 : 208 ، الحديث 128 و 76 : 339 - 340 ، الحديث 7 و 8.

والظاهر أنّ هذه الروايات ممّا لا ربط لها بما نحن بصدده ، لعدم التعويل عليها في مواردها ، وإنّما أوردناها تأييدا.

والعمدة هو ما عرفت من حكم العقل باستحقاق العقاب في الموارد المذكورة.

والخبير بمطاوي كلمات الأساطين يطّلع على أمثال ما ذكرنا ، فممّن تنبّه لمثل ما ذكرنا استاذ الكلّ في الكلّ (1) المحقّق السبزواري (2) والسيّد العلاّمة بحر العلوم في المصابيح (3).

ويستفاد ذلك من أصحابنا في الفروع الفقهيّة أيضا :

فمن جملتها : حكمهم بأنّ المرتدّ الفطري مأمور بالعبادات المشروطة صحّتها بالإسلام (4) الغير الممكن في حقّه - بناء على عدم قبول توبته - إذ لا يعقل لذلك وجه إلاّ عقابه على تفويته التكليف على نفسه قبل مجيء زمان التكليف.

ومنها : حكمهم بعقاب الكافر على ترك قضاء عباداته (5) مع أنّه غير ممكن في حقّه ، إذ هو مشروط بالإسلام ، فإمّا يراد امتثال التكليف بالقضاء بدون الإسلام أو مع الإسلام ، فعلى الأوّل فهو تكليف بما لا يطاق ، إذ التكليف بالشيء المشروط بدون الشرط تكليف بغير المقدور. وعلى الثاني لا يراد منه ، لأنّ المفروض أنّ « الإسلام يجبّ عمّا قبله » فعقابه على ترك مثل التكليف ليس إلاّ بواسطة تفويته التكليف على نفسه بإدخاله في الكفّار الممتنع في حقّهم أداء تكليف

ص: 275


1- في ( ع ) و ( م ) : بدل « استاذ الكل في الكل » : « هو ».
2- الذخيرة : 54.
3- مصابيح الأحكام ( مخطوط ) : 211.
4- المنتهى ( الحجرية ) 1 : 421 ، ومجمع الفائدة 3 : 202 ، والجواهر 41 : 605 - 606.
5- انظر العدّة 1 : 190 - 192 ، والغنية 2 : 304 - 305 ، والمنتهى 2 : 182 - 188 ، وتمهيد القواعد : 76 - 77 ، وعوائد الأيّام : 282.

القضاء ، إذ لو كان مسلما صحّ منه الامتثال. وأمّا وجه صحّة الأمر بالقضاء فله محلّ آخر لعلّك تطّلع عليه.

ومنها : حكمهم بعقاب الجاهل المقصّر (1) ، سواء كان من جملة من يعلم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة ولم يبذل جهده في تحصيلها ولا يبال بفوتها منه أو كان شاكّا صرفا ، فإنّ الظاهر منهم حكمهم بترتّب عقاب نفس التكاليف الواقعيّة.

نعم ، بعض أصحابنا - كالمحقّق الفيض (2) وأمين الأخباريّة (3) والمحدّث البحراني (4) - ذهبوا إلى أنّ الكافر باللّه مكلّف بالإيمان به ، وحين كفره باللّه لا يكون مكلّفا بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ، والمؤمن باللّه مكلّف بالإيمان بالرسول ، والمؤمن بالرسول مكلّف بالإيمان بالإمامة ، والمكلّف بالإمامة مكلّف بالأحكام الفرعيّة.

واستندوا في ذلك إلى بعض الروايات ، وتعلّقوا بذيل التأويل في قوله تعالى بعد قوله : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ، ( لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) (5).

والمشهور أنّ الجاهل المقصّر معاقب. أمّا إذا لم يكن له علم إجمالي أيضا فظاهر أنّ عقابه بالامور الواقعيّة ليس إلاّ بواسطة تفويت التكليف في حقّهم. وأمّا

ص: 276


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم يستفاد ذلك من حكم بعضهم بأنّ الجاهل المقصّر في حكم العامد ، كالمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة 3 : 36 ، والمحقّق النراقي في المستند 12 : 150 ، وما نسب الى المعروف من عدم معذوريّة الجاهل ، كما في الفصول : 427 ، والقوانين 2 : 111 ، والحدائق 1 : 77.
2- الوافي 2 : 82 ، وتفسير الصافي 4 : 352.
3- الفوائد المدنيّة : 226.
4- الحدائق 3 : 39 - 40.
5- راجع العدة 1 : 192 ، ومعارج الاصول : 76 ، ومبادئ الوصول : 110 ، والمنتهى 2 : 188 ، والآيات من سورة المدثّر : 42 - 44.

مع العلم الإجمالي فإن كان يمكن القول بالعقاب على ترك تكليفه المعلوم له ، فإنّه يجب عليه الاحتياط ، إلاّ أنّ الواقع أنّ الاحتياط أيضا واجب إرشادي لا عقاب على تركه ، وإنّما العقاب على ترك الواجبات ، فيكون العقاب عليها مع عدم العلم بها تفصيلا وامتناع امتثالها في حقّه بواسطة تفويت التكليف.

ومنها : حكمهم بعقاب من توسّط أرضا مغصوبة حال الخروج منها (1) مع أنّه يمتنع تكليفه بعدم الغصب حال الأمر بخروجه الذي هو غصب ، وليس ذلك إلاّ بواسطة أنّه فوّت التكليف على نفسه حال الدخول أوّلا.

ومنها : ما ذكره الشهيدان ، من حرمة النوم الثاني في ليلة الصيام لمن لم يعزم على الانتباه ولم يكن معتادا (2) ، مع ذهابهما إلى المضايقة في حديث الغسل قبل الفجر ، إذ لو قيل بالمواسعة يمكن القول بالحرمة ، لأنّ زمان النوم زمان التكليف ، وأمّا على المضايقة فليس الحرمة إلاّ بواسطة احتمال تفويت التكليف في حقّه ، وإلاّ فيمكن أن يقال : إنّ زمان النوم ليس زمان التكليف ولا يجب إبقاء القدرة فلا يحرم النوم وإن علم بعدم الانتباه قبل الفجر.

ومنها : ما ذكره غير واحد منهم (3) ، من أنّه متى نذر واحد التصدّق بشاة مخصوصة على تقدير خاصّ - كقضاء حاجته مثلا - لا يجوز له التصرّف فيها من نقل ونحوه مطلقا أو فيما إذا علم تحقّق المنذور عليه ... إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع في كلماتهم.

ص: 277


1- راجع الفصول : 138 ، والقوانين 153 ، وكشف الغطاء 1 : 168 - 169 ، والجواهر 8 : 294 - 295.
2- راجع الدروس 1 : 271 ، وغاية المراد 1 : 315 - 316 ، والمسالك 2 : 18.
3- راجع المسالك 1 : 360 ، والمدارك 5 : 31 ، ومستند الشيعة 9 : 48 - 49 ، والجواهر 15 : 42 - 46.

وبالجملة ، فلا قبح في العقول فيما إذا عاقب المولى عبده عند تقصيره فيما أمره به ولو بواسطة تفويته التكليف على نفسه. ولا ينافي ذلك إطباقهم على عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ؛ لما عرفت من أنّ المقدّمة الوجوبيّة مع كونها من قيود الفعل لا ينبغي أن تكون موردا للتكليف ؛ لأنّ الطلب إنّما يتعلّق بالفعل الملحوظ على وجه مخصوص. وأمّا المقدّمات الوجوديّة الأخر ، فتارة نقول بأنّها لو قام الدليل على عدم وجوبها قبل الوقت فلا بدّ من الالتزام بأنّ القدرة المعتبرة في هذه الواجبات التي يتوصّل إليها بهذه المقدّمات قدرة خاصّة ، لا مطلق الاقتدار. وتارة نقول بأنّ ذلك يتمّ فيما لم يكن الشرط راجعا إلى تقسيم موضوع المكلّف ، كأن كان راجعا إلى تقسيم الفعل. وقد عرفت تفصيل ذلك ، فلا نطيل بالإعادة ، فتدبّر في المقام ، فإنّه حقيق بذلك جدّا.

تتميم تحصيليّ :

قد عرفت أنّ وجوب المقدّمة على القول به وجوب يدعو إليه العقل بعد اطّلاعه على وجوب ذيها ، وبذلك يرتفع الإشكال في الموارد المذكورة. وهل العقل يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة قبل زمان ذيها في كلّ زمان يقتدر عليه ولا يفرق بين الزمان المقارن لزمان ذيها وبين غيره ، أو يقتصر حكمه به في آخر زمان لا يتمكّن بعده من الامتثال؟ وجهان بل قولان ، كما يظهر ذلك من ملاحظة أقوالهم في الغسل قبل الفجر ، فقال بعضهم : بأنّ الواجب هو الغسل في زمان يمكن أن يقع فيه قبل الفجر ، وهو المنسوب إلى المشهور (1). وقال بعضهم : إنّ الواجب هو الغسل في أيّ جزء من أجزاء الليل كان ، وهو خيرة المحقّق الخونساري (2). وهو المنصور.

ص: 278


1- نسبه اليهم صاحب الجواهر ، انظر الجواهر 1 : 34.
2- انظر مشارق الشموس : 386.

ويمكن أن يكون مستند المشهور امورا :

أحدها : دعوى أنّ الغسل قبل زمان التضيّق ليس مقدّمة للواجب ولا شرطا له ؛ فإنّ الشرط - على ما ذكر في تحديده (1) - هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، ولا يلزم من عدم الغسل في غير آخر الوقت عدم المشروط ، إذ لو عدم في الأوّل يمكن إيجاده في آخر الوقت ، فلا يلزم من عدمه عدمه ، فلا يكون شرطا. وهذا ممّا أفاده بعض مشايخنا المعاصرين (2).

والإنصاف أنّه ليس في محلّه ؛ فإنّ المراد بالعدم المأخوذ في تعريف الشرط الذي يلزم منه عدم المشروط هو عدمه مطلقا في جميع الأزمان ، لا عدمه في زمان خاصّ ، وإلاّ فعدمه في الزمان الآخر أيضا لا يلزم منه العدم إذا كان مسبوقا بوجود الشرط قبله. وبالجملة ، فإن أراد أنّ عدمه في الجزء الأخير يلزم منه العدم وإن سبقه الوجود ، فهو باطل جدّا. وإن أراد أنّ عدمه فيه مع عدمه في زمان قبله يلزم منه العدم ، فهو مسلّم لكنّه لا يجديه ، إذ عدمه في الجزء الأوّل مع عدمه في باقي الأجزاء أيضا يلزم منه العدم.

الثاني : إنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة قبل الوقت لا يدلّ على أزيد من الزمان الذي يمكن أن يقع فيه الفعل المقدّمي قبل زمان الواجب. وهذا هو الذي اعتمد عليه الاستاذ في مباحث الطهارة (3).

وتوضيحه : أنّ الداعي إلى إيجاد المقدّمة في الخارج قبل الوقت ليس إلاّ العقل ، وهو لا يظهر منه التحريك إلى الفعل قبله ، لاطمئنانه بفعله بعده ، فلا دليل على الوجوب فيما عدا زمان التضيّق.

ص: 279


1- في ( ع ) و ( م ) : « على ما ذكروه ».
2- هو صاحب الجواهر في الجواهر 1 : 42.
3- راجع كتاب الطهارة 2 : 53 - 63.

فإن قلت : إنّ العقل يحكم بالوجوب في تمام الزمان ، إلاّ أنّ التوسعة فيه هو الباعث على اطمئنانه وعدم اضطرابه ، كما إذا كان الوجوب متعلّقا بماهيّة ذات أفراد مجتمعة في الوجود ، فإنّ العقل لا يبالي بترك بعض الأفراد ما لم ينحصر في الفرد الأخير. فكما لا يمكن القول بأنّ الواجب من هذه الأفراد المجتمعة هو الفرد الأخير ، فكذا فيما نحن فيه.

قلت : فرق بين المقامين ، فإنّ التخيير في الأفراد المجتمعة في الوجود ممّا لا ضير فيه ، بخلاف التخيير بين غيرها كما في الأفراد المختلفة بحسب اختلاف مراتب الزمان تقدّما وتأخّرا ، فإنّ ذلك يشبه أن يكون التخيير بينها في الواجبات العقليّة تخييرا بين الواجب وما هو مسقط عنه ، كما إذا جعل التخيير بين الصوم والسفر المسقط له.

والإنصاف أنّ ذلك أيضا ممّا لا وجه له ؛ إذ لا نجد فرقا بين الأفراد المجتمعة وبين غيرها. وليس ذلك من التخيير بين الواجب ومسقطه ، فإنّ المصلحة الداعية إلى طلب الشيء في العقل حاصلة في جميع أفراد الواجب ، كما هو المعنيّ من الواجب الموسّع شرعا أيضا ، ولو لم يكن دليل على عدم وجوبه قبل الليل لكنّا نفتي بذلك في ذلك الزمان أيضا ، ولكنّ الإجماع متحقّق ظاهرا على عدم الوجوب قبل الليل.

لا يقال : الحكم المذكور عقليّ يمتنع تخصيصه ، فكيف يقول بقيام الإجماع؟

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ الدليل المذكور يكشف عن أنّ الشرط هو القدرة في زمان خاصّ ، فلا غائلة في ذلك.

الثالث : إنّ العقل لا يحكم بوجوب مقدّمة الواجب المشروط قبل الوقت ، ولكن ضيقه وعدم اتّساعه للفعل ومقدّماته يقوم مقام دخول الوقت ، فلا بدّ من الاقتصار على ما هو القدر المعلوم من ذلك.

ص: 280

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّه لا ضير في وجوب المقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ، فإنّه تابع للإرادة المتعلّقة بذيها قبل زمانه. نعم ، لا يتعقّل ذلك قبل علمه بتحقّق إرادته ، بل لا يبعد ذلك فيما إذا علم العبد تعلّق إرادة المولى بعد ذلك بفعل لا يمكن امتثاله له إلاّ بإحراز مقدّمته في الحال ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ قيام الضيق مقام دخول الوقت لو كان بلا دليل ففساده ممّا لا يحتاج إلى البيان ، وإن كان القاضي بذلك العقل فأوله إلى ما ذكرنا. ولا فرق في نظر العقل بين أجزاء الزمان الذي يمكن أن يقع فيه المقدّمة كائنا ما كان ، فالتحقيق في المقام هو القول بالتوسعة. واللّه وليّ التوفيق والهداية.

ص: 281

ص: 282

هداية

يصحّ اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرّم مقدّم عليه زمانا ، سواء كان من المقدّمات الوجوديّة لذلك أم لا ، بل ذلك واقع في الشريعة.

فمن الأوّل : الحجّ المشروط بطيّ المسافة على دابّة مغصوبة ، فإنّه من مقدّماته الوجوديّة ، ومع ذلك فعل محرّم ويشترط وجوب الحجّ بوقوعه عند انحصاره في وجه محرّم. ولا ضير في ذلك ، إذ قبل وقوعه لا وجوب وبعده يجب ، والمحرّم واقع عند ذلك ، فلا محذور.

ومن الثاني : أنواع الكفّارات المترتّبة على الأفعال المحرّمة ، من الإفطار والاصطياد في الإحرام والظهار وغير ذلك ممّا لا يمكن الإحاطة بها عن قريب.

وهل يصحّ أن يكون الواجب مشروطا بمقدّمة محرّمة مقارنة للفعل في الوجود أولا؟ وجهان ، بل قولان.

الذي يظهر من ثاني المحقّقين في جامع المقاصد هو الأوّل (1). وتبعه في ذلك الشيخ الأجلّ الفيلسوف (2) في مقدّمات الكشف (3) وتبعه في ذلك صهره الصفيّ التقيّ في تعليقاته على المعالم (4) وتبعه أخوه الجليل في الفصول (5)

ص: 283


1- سيأتي كلامه في الصفحة 286.
2- لم يرد « الفيلسوف » في ( م ).
3- سيأتي كلامه في الصفحة 287.
4- سيأتي كلامه في الصفحة 289 - 290.
5- الفصول : 80.

فحكم فيه بصحّة الوضوء فيما إذا انحصر الماء في آنية مغصوبة وتوقّف الوضوء على الاغتراف منها.

والمشهور على الثاني ، فحكموا بفساد الوضوء ؛ لعدم الأمر به حال انحصار مقدّمته في فعل محرّم ، إذ لا يعقل طلب فعل مع تحريم مقدّماته. وهو المنصور.

وتوضيح المقام أن يقال : إذا انحصرت مقدّمة الواجب في فعل محرّم ، فتارة يعلم تخصيص دليل الوجوب - إذا كان قابلا للتخصيص - بما دلّ على الحرمة ، فينحصر الوجوب بموارد لا يكون ذلك الواجب فيها موقوفا على فعل محرّم. وتارة يعلم تخصيص دليل الحرمة بما دلّ على الوجوب ، فلا يكون ذلك الفعل حراما فيما إذا توقّف عليه فعل الواجب ، كما في حفظ النفس الموقوف على التصرّف في ملك الغير مثلا. وتارة لا يعلم تخصيص أحدهما بالآخر ، لعدم ما يقضى بتخصيص أحدهما بخصوصه.

وحينئذ فالمقدّمة إمّا أن يكون الاشتغال بها قبل الاشتغال بذيها ، لأنّها مقدّمة عليه زمانا أيضا ، كغسل الثوب للصلاة وطيّ المسافة للحج ونصب السلّم للصعود على السطح. وإمّا أن يكون الاشتغال بها حال الاشتغال بذيها ، كترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر وكالاغتراف من الآنية المغصوبة حال الاشتغال بالوضوء ، وإن كان بين هذين المثالين فرق آخر.

لا كلام ولا إشكال فيما إذا كان دليل الوجوب مخصّصا لدليل الحرمة ؛ إذ لا مانع في ذلك لا عقلا ولا شرعا. كما أنّه لا ينبغي أن يرتاب في عدم الوجوب إذا كان دليل التحريم مخصّصا لدليل الوجوب.

وأمّا الصورة الأخيرة ، فلا إشكال أيضا في وجوب الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة فيما إذا أقدم المكلّف بسوء اختياره على ارتكاب الفعل المحرّم وكانت المقدّمة مفارقة لذيها زمانا ، إذ لا محذور على ذلك التقدير ، فإنّ قبل وجودها لا

ص: 284

تكليف وبعدها لا توقّف للفعل الواجب على فعل محرّم ، فلا ضير في التكليف بالحجّ فيما إذا توقّف على ركوب دابّة مغصوبة موصلة إلى الميقات بعد وجود الموقوف عليه باختيار المكلّف الفعل المحرّم.

وليس في العقل ولا في الشرع ما ينافي ذلك. أمّا الأوّل فظاهر. وأما الثاني فلاشتراط الوجوب شرعا بنفس المعصية ، فعند عدم الشرط لا تكليف بالمشروط من دون تعلّق التكليف والوجوب بالمقدّمة الوجوبيّة أيضا ، وبعد وجوب المعصية وحصول الشرط يجب المشروط ولا يعقل تعلّق الطلب بالحاصل ، فلا محذور أصلا.

وإنّما الإشكال فيما إذا توقّف الواجب على فعل محرّم مقارن له في الوجود ، كترك أحد الضدّين الموقوف عليه فعل الآخر ، وكالاغتراف من الآنية المغصوبة للوضوء الموقوف على ذلك في أثناء العمل.

فالمشهور على سقوط التكليف في هذه الصورة ؛ إذ لو كان الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة واجبا : فإمّا أن يكون وجوبه مشروطا بحصول الشرط أو مطلقا أو معلّقا ، ولا رابع بحسب الفرض ، وإن كان الثالث أيضا فاسدا ؛ لما عرفت في الهداية السابقة. والكلّ فاسد.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المفروض عدم تحقق الشرط قبل زمان الاشتغال بالفعل ، فلا تكليف بالفعل عند عدم الشرط.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التكليف بالفعل الموقوف على مقدّمة محرّمة تكليف بما لا يطاق ، لامتناع ارتكاب مقدّمته الوجوديّة شرعا ، والمانع الشرعي كالمانع العقلي. وأيضا لو كان واجبا مطلقا يلزم أن يكون المقدّمة الوجوديّة المفضية إليه واجبة مع أنّها محرّمة ، والتالي واضح الفساد ، والملازمة ظاهرة.

وأمّا الثالث ، فلأنّ الواجب المعلّق على تقدير تعقّله فهو إنّما يثمر في غير ما هو المعلّق عليه ، وأمّا في نفس المقدّمة المعلّق عليها ، فالأمر فيها لا يخلو :

ص: 285

إمّا (1) أن يكون متعلّقا للتكليف كما في المقدّمات الوجودية المحضة ، أولا يكون كما في المقدّمات الوجوبيّة ، وعلى التقديرين لا يعقل التكليف بالفعل المعلّق عليه. أمّا على الأوّل ، فلما عرفت من اجتماع الحرمة والوجوب في شيء واحد ، مضافا إلى التكليف بما لا يطاق. وأمّا على الثاني - فبعد أنّه فاسد في أصله ، لأنّ هذه المقدّمة المعلّق عليها من الأفعال الاختياريّة وطلب ذيها قاض بطلبها أيضا ، فيلزم المحذور المذكور - لا بدّ من القول باشتراط الوجوب بوجوده ، فيكون من المقدّمات الوجوبيّة ، ولا يعقل التكليف قبل وجود الشرط. وهؤلاء الأجلّة زعموا عدم سقوط التكليف في هذه الصورة على اختلاف يسير في ذلك بينهم ، كما ستقف عليه.

قال المحقّق الثاني في شرح قول العلاّمة رحمه اللّه : « ولا يصحّ الصلاة في أوّل وقتها ممّن عليه دين واجب الأداء فورا » مستدلاّ على الحكم المذكور بأنّ الأمر بالأداء على الفور يقتضي النهي عن ضدّه ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد. قال : وكلّ من المقدّمتين مبيّن في الاصول. ثمّ اختار القول بالصحّة وأبطل الاستدلال بمنع الصغرى. ثمّ قال في جملة كلام له في ذلك :

فإن قيل : يمكن الاحتجاج بأنّ أداء الدين مأمور به على الفور ، ولا يتمّ إلاّ بترك العبادة الموسّعة ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب ، وما وجب تركه ففعله منهيّ عنه فتثبت الصغرى. قلنا : في قوله : « وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب » بحث ، فإنّه إن اريد بذلك العموم منع ، لأنّ الواجب الموسّع لم يقم دليل على أنّ تركه يكون مقدّمة لواجب آخر مضيّق ، وظاهر الأوامر الواردة به الإطلاق في جميع وقته إلاّ ما أخرجه الدليل. وإن اريد به ما سوى ترك الواجب فهو حقّ ، إلاّ أنّ المتنازع فيه من هذا القبيل.

ص: 286


1- في ( ط ) بدل « إمّا » : « من ».

فإن قيل : وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسّع ، لأنّه حين وجوب الصلاة إذا تحقّق وجوب القضاء على الفور يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإن لم يبق خرج الواجب عمّا ثبت له من صفة الوجوب الفوري. قلنا : لا نسلّم لزوم التكليف بما لا يطاق ، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلاّ من الأمرين ، لكن أحدهما مضيّق والآخر موسّع فإن قدّمت المضيّق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. قال : والحاصل أنّ الأمر يرجع إلى وجوب التقديم وكونه غير شرط في الصحّة ، انتهى ما أفاده (1).

ويظهر مراده إجمالا ممّا أفاده الشيخ في الكشف ، قال في مبحث اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه : انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية ، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت معصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب ، لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد (2) ، انتهى.

قلت : وكأنّه يشير بقوله : « كما هو أقوى الوجوه » إلى الإشكال المعروف بينهم ، من صحّة صلاة الجاهل بهما ولو كان مقصّرا مع التكليف بالواقع. وحلّه - على ما زعمه - هو : أنّ التكليف بالواقع مقدّم على تكليفه بما يخالفه ، فعلى تقدير المخالفة يصحّ صلاته وإن كان آثما في التأخير. ومنشأ هذا التوهّم هو الخلط بين اشتراط الوجوب بمقدّمة محرّمة مقدّمة على الواجب زمانا - كما عرفت في طيّ المسافة إلى الميقات للحجّ - وبين اشتراطه بمقدّمة مقارنة له في الوجود.

ص: 287


1- جامع المقاصد 5 : 12 - 14.
2- كشف الغطاء 1 : 171.

ويظهر من بعضهم - تقريبا للمطلب المذكور - تمثيل في المقام ، وهو أنّه لا يمتنع عند العقل أن يقول المولى الحكيم لعبده : « احرّم عليك الكون في دار زيد ، ولكن لو عصيتني وكنت فيها فيجب عليك الكون في زاوية خاصة منها » فالعبد حال كونه في تلك الزاوية منهيّ عن الكون فيه مطلقا ومأمور به بشرط الكون فيها.

أقول : فساده غير خفيّ ، إذ لا يعقل أن يكون الأمر متعلّقا بالكون الخاص على تقدير تعلّق النهي بمطلق الكون. وأمّا ما يرى من تجويز ذلك في بعض المراتب ، فذلك ممّا لا يجدي ، إذ الموارد التي لا يستقبح فيها ذلك إنّما هي فيما إذا كانت المراتب المنهيّ عنها مختلفة شدّة وضعفا بواسطة اختلاف المفسدة الموجودة فيها ، ألا ترى أنّ مراتب الضرر الواردة على الإنسان كلّها مكروهة له ، ومع ذلك فلو خيّرنا بين الأقلّ والأكثر فالمختار هو الأقلّ ، وليس في ذلك محبوبيّة أبدا ، بل الأقلّ أيضا مكروه جدّا ، وحيث إنّه لا سبيل إلى دفعه يختار الأقلّ. وعلى قياسه اعتبار النفع.

ولا وجه لقياس ما نحن فيه بذلك ، إذ المقصود هو حصول الامتثال بالواجب الموسّع وموافقة الأمر وتحصيل المطلوب ، وامتناع هذه الامور ضروري فيما إذا كانت المقدمة منهيّة ، كما لا يخفى.

ولذلك سلك بعض أصحاب هذا القول مسلكا آخر في تعليقاته على المعالم ، ومحصله : أنّه زعم أنّ العصيان إنّما هو من مقدّمات الوجوب فلا يتّصف بالوجوب ، لما عرفت من أنّ المقدّمة الوجوبيّة غير واجبة ، فالأمر بالصلاة ليس منجّزا ما لم يحصل الشرط (1).

وهو وإن استقام كلامه بما زعمه من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق ولا اجتماع الأمر والنهي في المقدّمة ، إلاّ أنّه مع ذلك غير مستقيم ، إذ الكلام في جواز

ص: 288


1- سينقل كلامه في الصفحة الآتية.

الدخول في الفعل قبل حصول الشرط. واستغربه ودفعه بأمر غير معقول عندنا ، وهو جواز تأخّر الشرط عن المشروط. قال في جملة كلام له في ذلك :

فإن قلت : إنّ ترك الأهمّ لمّا كان مقدّمة للإتيان بغير الأهمّ وكان وجوب الشيء مستلزما في حكم العقل لوجوب مقدّمته بحيث يستحيل الانفكاك بينهما ، كما مرّ الكلام فيه ، وكيف يعقل وجوب غير الأهمّ مع انحصار مقدّمته إذا في الحرام؟ فيلزم حينئذ أحد الأمرين : من اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المفروضة أو القول بانفكاك وجوب المقدّمة عن ذيها ، ولا ريب في فسادهما.

قلت : ما ذكرناه من كون تعلّق الطلب على فرض عصيان الأهمّ إنّما يفيد كون الطلب المتعلّق به مشروطا بذلك ، فيكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بترك الأهمّ وإخلاء ذلك الزمان عن اشتغاله به. ومن البيّن عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ، فلا مانع من [ توقّف ](1) وجود الواجب على المقدّمة المحرّمة إذا توقّف وجوبه عليها.

فإن قلت : لو كانت المقدّمة المفروضة متقدّمة على الفعل المفروض تمّ ما ذكر ، لتعلّق الوجوب به بعد تحقّق شرطه فيصحّ تلبّسه. وأمّا إذا كان حصول المقدّمة مقارنة لحصول الفعل - كما هو المفروض في المقام - فلا يتمّ ذلك ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدّمة وجوبه ، فلا يصحّ صدوره من المكلّف ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

قلت : إنّما يتمّ ذلك إذا قيل بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود وعدم جواز توقّف الشيء على الشرط المتأخّر بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط. وأمّا إذا قيل بجواز ذلك - كما هو الحال في الإجازة

ص: 289


1- في النسخ : « تقديم » ، وما أثبتناه من المصدر ، وهو الصواب.

المتأخّرة الكاشفة عن صحّة عقد الفضولي ، وتوقّف صحّة الأجزاء المتقدّمة من الصلاة على الأجزاء المتأخّرة منها - فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقّن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق به الوجوب وصحّ عنه الإتيان بالفعل.

فإن قلت : من أين يستفاد كون الشرط الحاصل في المقام من هذا القبيل حتّى يصحّ الحكم بصحّة العمل مع أنّ الأصل عدمها.

قلت : إنّ ذلك قضيّة إطلاق الأمر المتعلّق بالفعل ، إذ أقصى ما يلزم في حكم العقل تقييده بصورة الإتيان بالأهمّ ، وأمّا مع خلوّ زمان الفعل عن الاشتغال به بحسب الواقع فلا مانع من تعلّق التكليف بغير الأهمّ ، فالتقييد حينئذ ممّا لا قاضي به (1) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه بتفاوت قليل.

وفيه ما عرفت : من أنّه لا يعقل اشتراط الشيء بالشرط المتأخّر ، إذ حال عدم الشرط يمتنع وجود المشروط ، وإلاّ لم يكن شرطا. وأمّا الإجازة في الفضولي فقد بيّنّا في محلّه (2) أنّ القاعدة تقضي بالنقل فيها ، وعلى القول بالكشف لا بدّ من الكشف الحكمي ، وأمّا الكشف الحقيقي فممّا لا واقع له وإن بالغ فيه بعض الأفاضل (3).

وبالجملة ، فنحن لا نؤمن بما لا نعقله بعد كونه من الامور التي من شأنها التعقّل كما في المقام ؛ ولذلك قد أعرض عن هذا المسلك أيضا بعض من تبعهم في أصل المطلب (4) وزعم تفريع ذلك على ما توهّمه من الفرق بين الواجب

ص: 290


1- هداية المسترشدين 2 : 272 - 273.
2- راجع المكاسب 3 : 408.
3- وهو صاحب الفصول في الفصول : 80 ، وراجع المكاسب 3 : 402 أيضا.
4- وهو صاحب الفصول كما سيجيء كلامه.

المشروط والواجب المعلّق ، وتصدّى لدفع ما ذكرنا من عدم معقوليّة تأخّر الشرط عن المشروط : بأنّ الشرط هو الوصف الاعتباري المنتزع عن الشيء باعتبار لحوق الشرط له.

قال بعد إبداء الفرق بين ما تخيّله من نوعي الوجوب :

واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور - وقد عرفت بيانه - كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور ، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله ، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب دابّة مغصوبة ، فالتحقيق أنّ وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدّمة ، وليس مشروطا بحصولها ، كما سبق إلى كثير من الأنظار.

ثمّ فرّع على ذلك صحّة العبادة الموقوفة على المقدّمة المحرّمة الأثنائيّة (1) واستدلّ على ذلك بإطلاق الأدلّة الواردة في هذه العبادات مع عدم ما يقضي بتقييدها من العقل وغيره.

ثمّ قال : فتوقّف الواجب على حصول هذه المقدّمة الاختياريّة من قبيل توقّفه على حصول المقدّمة الغير الاختياريّة ، كتذكّر المكلّف وقت الفعل ، وقدرته فيه بمعنى خلوّه في تمام الوقت من الموانع الاضطراريّة بالنسبة إلى زمن التكليف مع ثبوت الوجوب على تقدير حصولها قبله أيضا ، وأمّا القدرة مطلقا فليس حصولها معتبرا ؛ لجواز أن يمتنع الفعل في الوقت مع ثبوت التكليف قبله ، كما في المتقاعد عن الحجّ. فالموقوف عليه في الحقيقة في هذه الصورة هو كون المكلّف بحيث يأتي بالمقدّمة ولو في زمن لا حق ، أو كونه بحيث يكون وقت الفعل متذكّرا خاليا من الموانع الغير

ص: 291


1- في ( م ) : الإنشائية.

المستندة إليه. وهذا وصف اعتباريّ ينتزع من المكلّف باعتبار ما يطرأ عليه في الزمن المستقبل من هذه الصفات ، وهو غير متأخّر عن زمن الوجوب ، وإن تأخّرت عن الصفة التي ينتزع عنه باعتبارها. ولو كان نفس العلم والخلوّ من الموانع شرطا لتأخّر زمن الوجوب عن زمن الفعل ، فلا يبقى مورد للتكليف.

قال : ومن هذا القبيل كلّ شيء يكون وقوعه مراعى بحصول شيء آخر ، كالصحّة المراعاة بالإجازة في الفضولي ، فإنّ شرط الصحّة فيه كون العقد بحيث يتعقّبه الإجازة ، وليست مشروطة بنفس الإجازة ، وإلاّ لامتنعت قبلها (1) ، انتهى ما أفاده قدس سره.

وفيه أوّلا : ما عرفت من فساد أصل المبنى ، أقول : مضافا إلى تناقض صريح كلماته ؛ إذ الكلام إنّما هو في الواجب المعلّق - على ما زعمه - وهو يغاير المشروط ، فكيف يقول : بأنّ الشرط والموقوف عليه في الحقيقة هو كون المكلّف بحيث يأتي بالمقدّمة؟

وثانيا : أنّ التعليق إنّما يتصوّر في الامور الغير المقدورة. وأمّا الأفعال الاختياريّة ، فالتعليق فيها غير معقول ؛ لأنّ الواجب إمّا أن يكون على وجه يجب مقدّماته الاختياريّة كما في الواجب المطلق ، وإمّا أن يكون على وجه لا يجب مقدّمته لكونها من شروط الوجوب. ولا يعقل أن يكون الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الواجب خاليا عن هذين القسمين ، فعلى الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق واجتماع الحرمة والوجوب فيه ، وعلى الثاني يلزم عدم صحّة العبادة لعدم تحقّق الشرط.

وأمّا القول بأنّ الشرط هو الصفة الانتزاعية ، وإن احتمل استقامته على تقدير التعقّل من حيث اندفاع ما أوردنا عليهم من بطلان تأخّر الشرط عن

ص: 292


1- الفصول : 80.

المشروط ، إلاّ أنّه لا يجدي في دفع الإشكال بالنسبة إلى نفس العصيان الذي ينتزع باعتبار لحوقه الشرط المذكور ، فإنّ ذلك فعل اختياريّ مقدّمة لفعل واجب ، ووجوب ذيها دليل على وجوبها. وأمّا الاستناد في ذلك إلى إطلاق الأدلّة الدالّة على تلك الامور الموقوفة على المقدّمات المحرّمة فإنّما يصحّ التعويل عليها فيما أمكن التكليف بها عقلا ، وأمّا عند امتناعه فالتقييد لازم عقلا. وقد نبّهنا على مثل ذلك في بعض مباحث التراجيح.

فالإنصاف أنّه بعد القول بوجوب المقدّمة واقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه الخاصّ وتسليم مقدّميّة ترك أحد الضدّين لفعل الضدّ الآخر ، يشكل تصحيح العبادة الموسّعة ؛ لبطلان جميع أقسام التكليف المتصوّرة فيها ، إذ التكليف التنجيزي ظاهر البطلان ، والتكليف التعليقي بقسميه أيضا باطل ، أمّا الشرطي فلامتناع تحقّق المشروط قبل حصول الشرط ، وأما التعليقي - على ما زعمه بعض - فبالنسبة إلى الصفة المنتزعة من لحوق العصيان فهو مشروط ، كما صرّح به في العبارة المنقولة. وأمّا بالنسبة إلى نفس العصيان فكأنّه غفل عنه ، مع أنّه هو منشأ الإشكال ، فلا بدّ من أوله إمّا إلى الوجوب المطلق أو إلى المشروط ، وعلى كلّ تقدير يلحقهما حكمهما.

وليت شعري ما أبعده عن الواقع ؛ حيث إنّ الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الواجب لا يخلو عن القسمين ، كما هو غير خفيّ على أوائل العقول.

نعم ، يمكن تصحيح التكليف في المقام بوجه آخر ، وهو : أنّ تعلّق الطلب بشيء إنّما يكون بواسطة حثّ المطلوب منه على الفعل المطلوب وحمله عليه ، وعلى تقدير علم الطالب بأنّ المطلوب منه لا محالة يشتغل بما هو مطلوبه فلا وجه لطلبه منه ، لكونه لغوا ، إلاّ إذا كان المقصود التعبّد بذلك المطلوب ، فلا ضير في الأمر به وحمله عليه ، إذ على تقدير عدم الطلب والأمر يمتنع أن يكون الداعي إليه هو الأمر كما هو المقصود ، وحيث إنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمة ليس إلاّ طلبا توصّليّا لا يحتمل

ص: 293

فيه التعبّد ، فعند علم الطالب بتحقّق المطلوب لا يتعلّق به الطلب حذرا عن اللغويّة ، ففيما إذا توقّف الفعل على المقدّمة المحرّمة مع علم الطالب بأنّ تلك المقدّمة ممّا تقع لا محالة ولو عصيانا ، ليس تلك المقدمة موردا للطلب اللازم من طلب ذيها ، فلا يلزم محذور.

قلت (1) : وذلك على تقدير التسليم إنّما يجدي بالنسبة إلى لزوم اجتماع الأمر والنهي ، وأمّا بالنسبة إلى المحذور الآخر - وهو التكليف بما لا يطاق - فلا يجدي قطعا ، إذ التكليف بالفعل حال تحريم مقدّمته تكليف بما لا يطاق ، إذ لا كلام في حرمة المقدّمة المفروضة. وستعرف لذلك زيادة تحقيق في بعض المباحث الآتية.

فإن قلت : على ما بنيت عليه الأمر في الهداية السابقة من وجوب المقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ، لا مانع من التكليف المذكور ؛ إذ نلتزم بأنّ الوجوب فيه وجوب شرطي وشرطه العصيان ، وبعد علم المكلّف بتحقّق الشرط يجب عليه الإتيان بمقدّمات المشروط فيما إذا انحصرت ، كما هو المفروض.

قلت : ليس الكلام في مقدّمات ذلك الواجب المشروط ، بل المقصود هو الاشتغال بنفس الواجب ، ولا يعقل الاشتغال بالواجب قبل تحقّق الشرط. مع أنّ القول بامتناع اشتراط الواجب بمقدّمة محرّمة مقارنة لذيها في الوجود ، حيث إنّ تمام الشرط لا يمكن إلاّ بتمام الفعل ، كما في مثال الاغتراف وكذلك في مثال الصلاة والإزالة ، وذلك ظاهر ، فلا يجب المقدّمات أيضا.

ثم إنّه يرد على أصحاب هذه المقالة الفاسدة أمران آخران :

ص: 294


1- الظاهر كونه جوابا عن قوله : « نعم ، يمكن ... ».

أحدهما : التزام تعدّد العقاب في المسألة المفروضة ؛ لأنّه إذا غصب (1) ولم يتوضأ فقد ارتكب فعلا محرّما وترك أمرا واجبا. وكذلك إذا ترك الواجبين المضيّقين مع أهميّة أحدهما من الآخر.

وثانيهما : التزام صحّة العمل فيما إذا تعلّق النهي بنفس العمل والعبادة ؛ ضرورة ممانعة غير الأهم عن فعل الأهمّ - ومن هنا كان تركه مقدّمة له - والمانع عن العبادة منهيّ عنه ، فغير الأهمّ بنفسه منهيّ عنه.

ولقد تصدّى لدفعه في التعليقة. وستعرف التحقيق فيه إن شاء اللّه تعالى. وهو وليّ التوفيق والهداية.

ص: 295


1- في ( ع ) و ( م ) : عصى.

ص: 296

هداية

قد عرفت فيما سبق أنّ للواجب أقساما عديدة باعتبارات مختلفة ، وقد عرفت الكلام في تحقيق الواجب المطلق و (1) المشروط وما يتفرّع عليه.

وينقسم باعتبار آخر إلى تعبّدي وتوصّلي.

وقد يعرّف الأوّل ب- « ما لا يعلم انحصار مصلحته في شيء » والثاني ب- « ما يعلم انحصارها في شيء ». والثاني غير منعكس ؛ لخروج جملة من التوصّليّات التي لا يعلم وجه المصلحة فيها فضلا عن انحصارها في شيء ، كتوجيه الميّت حال الاحتضار إلى القبلة ، ومواراته ، ونحو ذلك.

فالأوجه أن يعرّف أنّ التعبّدي « ما يشترط فيه القربة » والتوصّلي « ما لا يشترط فيه القربة » سواء في ذلك كون الواجب من الماهيات المخترعة كالصلاة والحجّ ونحوهما ، أو لا كالذبح والنحر والحلق والتقصير ونحوهما.

وبين كلّ من التعبّدي والتوصّلي والنفسي والغيري عموم من وجه ، والصور أربع ، والأمثلة ظاهرة غير خارجة عن الوضوء والصلاة وتوجيه الميّت إلى القبلة وغسل الثوب.

ومنه يظهر فساد ما قد زعمه بعضهم (2) في تحديدهما : أنّ التوصّلي ما كان الغرض من الأمر به الأمر بشيء آخر ، والتعبّدي بخلافه.

ص: 297


1- لم يرد « المطلق و» في ( ع ) و ( م ).
2- مثل المحقّق القمي في القوانين 1 : 103.

فإنّ ذلك سهو ظاهر. وكأنّه تشابه الأمر عليه في إملاء التوصّل ب- « الصاد » مع التوسّل ب- « السين » وهو يساوق الوجوب الغيري ، وإلاّ فكيف يعقل أن يكون تغسيل الأموات وتكفينها ودفنها من الواجبات التوصّليّة.

فحاصل الفرق بين القسمين : أنّ التعبّدي مشروط بالقربة والتوصّلي لا يشترط فيه ذلك.

وقد يفرق بينهما بوجهين آخرين :

أحدهما : لزوم المباشرة في الأوّل بخلاف الثاني ، إذ يجري فيه حصول الفعل في الخارج ولو بمباشرة من غير المكلّف.

الثاني : اجتماع الثاني مع الحرام بخلاف الأوّل ، إذ لا يعقل أن يكون العبادة (1) محرّمة.

وكلاهما فاسدان (2).

أمّا الأوّل : فلأنّ القائل بالفرق المذكور إن أراد به أن ظاهر الأوامر التوصّلية يقضي بعدم لزوم المباشرة من المخاطب بالخطابات الدالّة على هذه الواجبات ، فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ ضرورة أنّ ظاهر الصيغ الأمريّة توجّه التكليف المستفاد منها إلى خصوص المخاطب بها ، كيف! وحال الفاعل ونفس الفعل سواء ، فلو احتمل أن لا يكون الفاعل المخاطب مباشرا له ، فيحتمل أن لا يكون نفس الفعل مأمورا به أيضا. وذلك ظاهر جدّا.

وإن أراد بذلك أنّ مجرّد كون الواجب توصّليّا يقضي بأن لا يكون المباشرة للفعل المأمور به واجبا وإن كان ظاهرا في المباشرة بحسب القواعد اللفظيّة ، فهو

ص: 298


1- في ( ع ) و ( م ) زيادة : التعبّديّة.
2- في ( ع ) و ( م ) : فاسد.

أوضح فسادا من سابقه ؛ إذ ليس فيها ما يقضي بذلك ، إذ لا نعني بالتوصّليّة إلاّ ما لا يكون قصد القربة معتبرا فيه ، وذلك لا يقتضي شيئا.

وإن أراد بذلك أنّ أدلّة جواز الاستنابة إنّما هي حاكمة على ظاهر الأوامر الواردة في الأفعال الخاصّة ، وهي لا تجري في التعبّديّات ، فهو منقوض بجملة من التوصّليّات التي لا يجوز فيها الاستنابة كالمضاجعة والجماع ، وبجملة من التعبّديّات التي يصحّ الاستنابة فيها كالحجّ والزيارة ونحوهما. والوجه في ذلك أنّ أدلّة النيابة لا اختصاص لها بواجب دون واجب ، ففيما يكون محلّه لا يفرق بين التعبّدي والتوصّلي.

فإن قلت : لا ينبغي إنكار عدم لزوم المباشرة في الواجبات التوصّلية ، ضرورة حصول الواجب فيها بفعل الغير ، كما في غسل الثوب إذا التزم غسله غير المكلّف ، بل ولو حصل من دون مباشرة آدميّ أيضا كان مجزئا.

قلت : فرق ظاهر بين حصول الواجب في الخارج وبين ارتفاع موضوعه ومحلّه في الخارج ، وما يرى من الأمثلة إنّما هي من قبيل الثاني ، كما إذا ارتفع موضوع التعبّدي أيضا ، مثل ما إذا احترق الميّت فلا يجب عليه الصلاة.

وبالجملة ، ظاهر الأمر هو المباشرة ، والقائل بعدم لزوم المباشرة إنّما اختلط عليه الأمر بين الوجهين مع ظهور افتراقهما.

وغاية ما يمكن أن يقال في المقام توجيها لكلامه ، هو : أنّ الأمر وإن كان ظاهرا في تعلّق الطلب بشخص خاصّ ، إلاّ أنّ الغرض تعلّقه بحصول الفعل في الخارج على أيّ وجه وقع. وهو فاسد جدّا ، إذ حقّ التعبير حينئذ هو التأدية بكلام لا يكون مفاده التخصيص بالمخاطب ، كأن يقال : « فليفعل كذا » وغير ذلك.

لا يقال : يصحّ أن يكون المراد بالأمر إيجاد المأمور به ولو بفعل غيره في الخارج.

ص: 299

لأنّا نقول : إن اريد بذلك من غير تأويل في نفس الفعل فهو فاسد قطعا ، لامتناع إرادة فعل الغير عن المأمور. وإن اريد به ذلك مع التأويل - كأن يكون المراد التسبيب - فهو مجاز لا ينبغي أن يصار إليه من دون دليل ، على ما صرّح به جماعة في أمثال قوله تعالى : ( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ) (1) وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا الثاني : فلأنّ الفرق المذكور لو تمّ - على ما ستعرف الوجه فيه - فهو من فروع الفرق الأوّل ، وهو اشتراط التعبّدي بالنيّة دون التوصّلي ، وليس بفرق آخر.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه متى ما علمنا بامتياز أحدهما عن الآخر مصداقا فلا إشكال ، فإنّه يجب الإتيان بالتعبّدي على وجه الامتثال ، كأن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل في الخارج هو الأمر ، وهو المراد بالقربة التي قلنا باعتبارها في التعبّدي. ولا يجب الإتيان بالتوصّلي على وجه الامتثال ، فلو أتى بالفعل المأمور به في الخارج لا بداعي الأمر ، بل بواسطة الدواعي الموجودة في نفسه ممّا لا يتعلّق بالأمر ، لم يجز في الأوّل ويجزئ في الثاني.

أمّا الأوّل ، فللإخلال بما هو المقصود من الفعل وعدم وقوعه على وجهه ، فيجب الإتيان به ثانيا على ما هو المطلوب.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض حصول المطلوب من المكلّف في الخارج على وجهه ، فلا بدّ من سقوط الأمر.

نعم ، استحقاق العبد للثواب المترتّب على الفعل - على ما هو المصرّح به في كلام المتكلّمين - إنّما هو فيما إذا أتى بالفعل على وجه الامتثال والقربة ، والكلام ليس في ذلك.

وإذا شكّ في واجب من الواجبات أنّه من الأوّل أو من الثاني ، فهل ظاهر الأمر قاض بأيّهما؟

ص: 300


1- غافر : 36.

ذهب جماعة من أصحابنا - ومنهم بعض الأفاضل (1) - إلى أنّ ظاهر الأمر قاض بالتعبّديّة.

ويظهر من جماعة اخرى أنّ الأمر ظاهر في التوصّليّة (2). ولعلّه الأقرب.

واحتجّوا في ذلك بامور ، أقواها : أنّ العقل قاض بوجوب الامتثال بعد العلم بالأمر ، ولا يتحقّق إلاّ بقصد القربة والإطاعة.

وفيه : أنّه مصادرة محضة ؛ إذ الكلام إنّما هو في وجوب الامتثال ، فإن اريد بالامتثال مجرّد عدم المخالفة والإتيان بالفعل فهو مسلّم ، لكنّه ليس بمفيد. وإن اريد به الإتيان بالفعل على وجه التقرّب - كأن يكون الداعي إلى الفعل نفس الأمر - فهو ممنوع. والقول بأنّ العقل قاض بذلك ليس بسديد ، إذ غاية ما يحكم به العقل بعد العلم بالأمر هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج. فإن استند في ذلك إلى أنّ الإتيان بنفس الفعل في الخارج على تقدير أن يكون الامتثال به مطلوبا للآمر يعدّ من المخالفة التي يحكم بقبحها العقل - على ما عرفت - نقول : نعم ، ولكن الكلام بعد في اعتبار الامتثال في المأمور به ، وليس المستفاد من الأمر إلاّ مطلوبيّة الفعل فقط ، فلا مخالفة على تقدير الإتيان به ، كما لا يخفى. مع أنّ الاستدلال المذكور خارج عمّا نحن بصدده ، إذ الكلام إنّما هو في أنّ الأمر ظاهر في الوجوب التعبّدي أو التوصّلي. والوجه المذكور ممّا لا مساس له به على ما هو غير خفيّ.

ص: 301


1- مثل العلاّمة في مبادئ الوصول : 114 ، وكاشف الغطاء في كشف الغطاء 1 : 163.
2- منهم : الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 1 : 679 - 683 ، وصاحب الفصول في الفصول : 69 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 153 ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 132.

واحتج بعض موافقينا (1) على التوصّليّة : بأنّ إطلاق الأمر قاض بالتوصّليّة ، إذ الشكّ إنّما هو في تقييد الأمر ، والإطلاق يدفعه. نعم ، لو كان الدليل الدالّ على الوجوب إجماعا أو نحوه من الأدلّة اللبّية لا وجه للاستناد إلى الإطلاق ، فيكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرّر في محلّه من الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة (2) ، فإن قلنا بالاشتغال لا بدّ من القول بالتعبّديّة وإلاّ فلا.

وهو أيضا ليس في محلّه ؛ إذ الاستناد إلى إطلاق الأمر في دفع مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد ممّا لا يتحقّق إلاّ بعد الأمر.

توضيحه : أنّ الإطلاق إنّما ينهض دليلا فيما إذا كان القيد ممّا يصحّ أن يكون قيدا له ، كما إذا قيل : « أكرم إنسانا » أو « أعتق رقبة » فإنّه يصحّ أن يكون المطلق في المثالين مقيّدا بالإيمان والكفر والسواد والبياض ونحوها من أنواع القيود التي لا مدخل للأمر فيها. وأمّا إذا كان القيد من القيود التي لا تتحقّق إلاّ بعد اعتبار الأمر في المطلق فلا يصحّ الاستناد إلى إطلاق اللفظ في دفع الشكّ في مثل التقييد المذكور ، وما نحن بصدده من قبيل الثاني.

فلا بدّ لنا في المقام من بيان أمرين : أحدهما يتكفّل بيان الصغرى ، والآخر بيان الكبرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ القربة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على وجه يكون الداعي إليه هو الأمر ، فهذه من الاعتبارات اللاحقة للفعل بعد ملاحظة كونه مأمورا به ، وأمّا قبل أن يعقل الفعل مأمورا به لا وجه لأن يلاحظ مقيّدا بالقربة أو مطلقا ، كما يصحّ أن يلاحظ مقيّدا بوقوعه في زمان كذا أو مكان كذا أو عن آلة كذا ونحوها وأن يلاحظ مطلقا. ولعلّ ذلك ظاهر لمن له أدنى فطانة ولطافة قريحة.

ص: 302


1- مثل صاحب الفصول في الفصول : 69 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 153.
2- راجع فرائد الاصول 2 : 400 - 402.

وأمّا الثاني : وهو أنّه إذا كان القيد من القيود التي يعتور على المطلق بعد لحوق الأمر له لا يصحّ دفعه عند الشكّ بالإطلاق ، فلأنّ المراد به إمّا الإطلاق المعتبر في المادّة ، أو الإطلاق المتوهّم في الهيئة. ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فبعد ما عرفت من معنى القربة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، لأنّ المفروض أنّها ليست من قيوده مع قطع النظر عن الأمر ، فالقول بارتفاع الشكّ في التقييد المذكور بالاستناد إلى إطلاق المادّة في نفسها مع عدم ملاحظة الأمر فيها يستلزم التناقض : من اعتبار الأمر ليصحّ اعتبار القيد فيها ، ومن عدمه كما هو المفروض. ومن هنا قلنا في بعض المباحث المتقدّمة بأنّ الطالب لو حاول طلب شيء على وجه الامتثال لا بدّ له من أن يحتال في ذلك ، بأن يأمر بالفعل المقصود إتيانه على وجه القربة أوّلا ، ثم ينبّه على أنّ المقصود هو الامتثال بالأمر. ولا يجوز أن يكون الكلام الملقى لإفادة نفس المطلوبيّة مفيدا للوجه المذكور.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّه لا معنى لإطلاق الهيئة ، إذ مفادها ممّا لا يتصوّر فيه الاختلاف. وذلك ظاهر.

لا يقال : إنّ التمسّك بإطلاق المادّة في محلّه ؛ إذ يصحّ أن يقيّد الفعل بعدم الدواعي المنتقشة في النفس باعتبار قواها الشهوانيّة وغيرها ممّا لا يرجع إلى الأمر ، وحيث إنّ المفروض استحالة صدور الفعل الاختياري من الفاعل من دون ما يدعوه إلى الفعل ، فلا مناص للمكلّف إلاّ إتيانه بداعي الأمر ، ففيما إذا شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة يمكن الأخذ بإطلاق الفعل المحتمل تقيّده بعدم الدواعي النفسانيّة ؛ لأنّا نقول ذلك وهم فاسد ، إذ لا فرق فيما يمتنع تقييده بشيء بين أن يكون القيد هو ذلك الشيء أو عدم أضداده على وجه يفضي بالأخرة إليه ، وعلى تقدير عدم الإفضاء لا يجدي شيئا ، إذ لعلّه يكتفى بغيره ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فالفعل الملحوظ فيه لحوق الأمر موضوع للامتثال ، ولا يعقل اعتبار شيء في نفس الفعل فيما إذا كان عروضه عليه بواسطة الأمر المتأخّر عنه رتبة.

ص: 303

ومن ذلك يعرف أنّ التفصيل بين ما إذا كان الكاشف عن الطلب هو اللفظ وما إذا كان الطلب مدلولا عليه بوجه من الوجوه اللبّية ممّا لا وجه له ؛ إذ الدالّ على التقييد المذكور على تقدير وجوده ممّا لا يفرق فيه الأدلّة اللفظيّة واللبّية على نحو اختلاف فيهما ، كما لا يخفى. وعلى تقدير عدمه فلا فرق بينهما أيضا.

فالحقّ الحقيق بالتصديق هو : أنّ ظاهر الأمر يقتضي التوصّليّة ، إذ ليس المستفاد من الأمر إلاّ تعلّق الطلب - الذي هو مدلول الهيئة للفعل - على ما هو مدلول المادّة ، وبعد إيجاد المكلّف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب ، لامتناع طلب الحاصل. وذلك في الأدلّة اللفظيّة ظاهر.

وأمّا فيما إذا كان الدليل هو الإجماع ، ففيه أيضا يقتصر على ما هو المعلوم استكشافه منه ، والمفروض أنّه ليس إلاّ مطلوبيّة الفعل فقط ، وبعد حصوله لا بدّ من سقوطه.

وأمّا الشكّ في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنّه لا يعقل أن يكون مفادا بالكاشف عن الطلب لا بدّ له من بيان زائد على بيان نفس الطلب ، والأصل عدمه. واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان - كما هو المحرّر في أصالة البراءة - من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظيّة أو غيرها ، ومن غير ابتناء له - على ما قرّر في محلّه من الخلاف المشهور بينهم في البراءة والاشتغال عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة (1) - إذ لا ينبغي للقائل بالاشتغال فيما إذا كان المكلّف به مجملا - كالصلاة على الصحيح مع الشكّ في اعتبار شيء فيه - القول به فيما إذا كان المطلوب أمرا معلوما مع الشك في اعتبار أمر آخر فيه ، كما فيما نحن فيه.

فظهر فساد ما قرّره المستدلّ : من أنّه على تقدير أن يكون الدليل لبّيا يكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرّر.

ص: 304


1- راجع فرائد الاصول 2 : 400 - 402.

نعم ، قد يمكن القول بالاشتغال فيما يكون الشكّ في كيفيّة الامتثال بعد معلوميّة وجوب نفس الامتثال من الشرع ، لأنّ الكيفيّات المتعلّقة بالامتثال من الامور التي وكلها الشارع إلى العقل ولا يحتاج إلى بيان منه في ذلك ، فلا قبح في العقاب عليه بعد إمكان الاحتياط.

كما أنّه يمكن القول بالاشتغال فيما إذا لم يكن الامتثال معلوما أيضا ، نظرا إلى أنّ الشكّ في المكلّف به ، حيث إنّ المقصود في الواقع هو أمر واحد وإن احتاج بيانه على تقدير التعبّدية إلى أمر زائد على بيان نفس مطلوبيّة الفعل ظاهرا ، كما لا يخفى ، فتأمّل.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من احتياج التعبّد إلى بيان زائد غير ما دلّ على الطلب لا يلازم أن يكون للفعل ثوابان : أحدهما لنفس الفعل وثانيهما للامتثال ، لتعدّد الأمر الملحوظ فيهما ، كما توهّمه بعض من لا درية (1) له ، لما عرفت من أنّ المقصود حقيقة واحدة ، فلا يعقل تعدّد الثواب والعقاب. واللّه وليّ التوفيق والهداية.

ص: 305


1- في ط : دراية. ولعلّ الأصل : من لا دربة له.

ص: 306

هداية

بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الأوامر قاض (1) بالتوصّليّة ، فهل هناك ما يقضي بخلافه من الأدلّة الخارجة عن مقتضى الأمر؟ قيل : نعم (2).

والتحقيق : أنّه لا دليل على ذلك.

ويمكن الاحتجاج للأوّل بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (3).

ونسبه بعض الأجلّة (4) إلى العلاّمة. والموجود من كلامه في المنتهى (5) يخالف ذلك ، حيث إنّ المطلوب في المقام هو إثبات الأصل في الأوامر ، وما رام به العلاّمة فيه إثبات اشتراط العبادة بنيّة القربة قبالا لأبي حنيفة حيث زعم عدم اشتراط الوضوء بالقربة (6). والظاهر أنّه تبع في ذلك المحقّق في المعتبر ، حيث أفاد في بحث الوضوء : ويشترط استحضار نيّة القربة ، لقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ولا يتحقّق الإخلاص إلاّ مع قصد القربة (7).

ص: 307


1- في ط : ظواهر الأوامر قاضية.
2- راجع مبادئ الوصول : 114 ، ومفاتيح الاصول : 132.
3- البيّنة : 5.
4- وهو صاحب الفصول في الفصول : 69.
5- راجع منتهى المطلب 2 : 7 - 10.
6- راجع المجموع 1 : 355 وبداية المجتهد 1 : 8.
7- المعتبر 1 : 138 - 139.

وكيف كان فالاستدلال بالآية على وجه ينطبق على المدّعى في المقام بأحد وجهين :

أحدهما : أنّه تبارك وتعالى حصر المأمور به لأهل الكتاب في العبادة ، ولا يتحقّق العبادة إلاّ بقصد الامتثال ، فيجب عليهم الامتثال وينسحب هذا الحكم في شريعتنا أيضا ، لما قرّر من جواز استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع الماضية (1). وإن أبيت عن ذلك فيدلّ عليه قوله : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (2) أي المستقرّة الثابتة التي لا ينالها (3) النسخ.

وثانيهما : أنّهم قد امروا بالإخلاص في الدين ، وهو عبارة عن مجموع الأعمال والعقائد الشرعيّة ، والإخلاص بها لا يتمّ إلاّ عند قصد الامتثال ، ويتمّ في حقّنا بالوجهين.

والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل ، فبأنّه إن اريد من حصر المأمور به في العبادة أنّ التعبّد بالأوامر الواردة في الإنجيل والتوراة تنحصر غاياتها بالتعبّد ، على أن يكون كلمة « اللام » للغاية - كما يظهر من استدلال بعض أصحابنا بالآية في قبال الأشعري القائل بالجزاف في أفعاله تعالى - فهو فاسد جدّا ، لأنّ المنساق من الآية أنّها ليست للغاية ، بل من المعلوم بواسطة ملاحظة نظائره في الآيات القرآنيّة أنّها لام الإرادة (4) الداخلة على المراد (5) ، كما في قوله : ( وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (6)

ص: 308


1- فرائد الاصول 3 : 225.
2- في النسخ و( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) والصواب ما أثبتناه ، وإن ورد في سورة يوسف الآية 40 (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) لأنّ الكلام في آية سورة البيّنة.
3- في ( ع ) و ( م ) : المستقرّ الثابت الّذي لا يناله.
4- في ط زيادة : والأمر.
5- في ط زيادة : والمأمور به.
6- الأنعام : 71.

و ( أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) (1) و ( أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (2) و ( يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (3) فمدخول اللام هذه يكون مفعولا به - على ما صرّح به بعضهم (4) - حتّى أنّ المصرّح به في كلام ابن هشام (5) - على ما حكي - : أنّ القائل بعدم التقوية في مثل هذه إنّما زعم ذلك لعدم قصور الفعل وعدم الحاجة إلى التقوية ، فالمفعول به عنده مقدّر ، لكنّه لا يخالف المذكور ، بل يكون من جنسه. فالتقدير في آية التطهير : يريد اللّه الإذهاب ليذهب.

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في أن اللام هذه ليست للغاية ، لما عرفت. مضافا إلى عدم استقامة العطف في قوله تعالى : ( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) (6) فإنّهما معطوفان على قوله : ( لِيَعْبُدُوا ) وقضيّة ذلك تكرار العامل كما يؤذن به حذف النون (7) منهما أيضا ، مع أنّهما ليسا غايتين بل هما مأمور بهما. وذلك ظاهر.

ومع التنزّل فلا دلالة في الآية على المطلوب ، لاحتمال أن يكون الأوامر المتعلّقة بهم لطفا في التعبّد ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (8) فتكون العبادة والتذلّل من الغايات المترتّبة على الأوامر ، سواء كانت تعبّدية أو توصّليّة.

ص: 309


1- الأنعام : 14.
2- الشورى : 15.
3- الأحزاب : 33.
4- راجع مغني اللبيب 1 : 285.
5- لم نعثر عليه.
6- البيّنة : 5.
7- في ( ع ) و ( م ) : حذف المفعول.
8- العنكبوت : 45.

وإن اريد (1) من حصر المأمور به في العبادة أنّ العبادة هي المأمور بها فقط على وجه لا يكون غيرها مأمورا به كأن يكون اللام للصلة والتقوية - كما هو الظاهر - ففيه : أنّ المراد بالعبادة على وجه الإخلاص ليس إلاّ التوحيد ، كما فسّرت بذلك في لسان بعض أهل التفسير ، فعن الطبرسي أنّه قال بعد قوله : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ... : ) أي لم يأمرهم اللّه تعالى إلاّ لأن يعبدوا اللّه وحده لا يشركون بعبادته ، فهو ممّا لا يختلف فيه ملّة ولا يقع فيه التبدّل (2).

قلت : ولعلّه يشير بذلك إلى تفسير قوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. )

وعنه أيضا بعد قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لا يخلطون بعبادته عبادة ما سواه (3).

وعن الصافي بعد ذكر الآية : أي لا يشركون به (4).

ويساعد ذلك ورودها في مقابلة المشركين ، ويعاضده نظائرها من الآيات القرآنيّة ، كقوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) (5) وقوله تعالى : ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) (6)(7) وقوله عزّ من قائل : ( قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي* فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ ) (8) فإنّ ملاحظة مساقها يكفي عن الاستدلال في إرادة التوحيد منها.

وكيف كان ، فالآية مفادها نفي الشرك ، فهي مشتملة على أمّ المسائل الإلهية

ص: 310


1- عطف على قوله : « فبأنّه إن اريد من حصر المأمور به » في الصفحة ...
2- مجمع البيان 5 : 523.
3- مجمع البيان 5 : 523.
4- تفسير الصافي 5 : 354.
5- الزمر : 2.
6- الزمر : 3.
7- لم ترد « وقوله تعالى : أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ » في ( ط ).
8- الزمر : 14 و 15.

والأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، وهي الصلاة والزكاة ، على حسب ما يقتضيه المقام. كما أنّه جمع بين التوحيد وحقوق الوالدين في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) (1).

وبالجملة ، فالمنصف لا مجال له من تسليم ذلك ؛ إذ العبادة ليست على ما اصطلح عليها الفقهاء بحسب اللغة ، فإنّ المراد بها لغة هو : التذلّل والانقياد ، ويعبّر عنه بالفارسيّة ب- « پرستش وبندگى كردن ، وستودن وستايش كردن » ونحو ذلك ممّا لا مدخل لها بالأفعال التي اصطلح عليها الفقهاء. ولعلّ ذلك ظاهر لا ينبغي الإطالة فيه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثاني (2) ، فبأنّ « الدين » له احتمالات وإطلاقات.

فتارة : يكون المراد به ما عرفت من معنى العبادة ، كما يظهر من الآيات السابقة.

واخرى : يكون المراد به الطاعة ، كما قيل في قوله تعالى : ( وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ ) (3) أي لا يطيعون طاعة الحق (4).

ومرّة : يكون المراد به الجزاء ، كما في قوله تعالى : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (5).

وتارة : يكون المراد به الإسلام ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ ) (6).

ص: 311


1- الإسراء : 23.
2- عطف على قوله : « والجواب أمّا عن الوجه الأوّل » في الصفحة ...
3- التوبة : 29.
4- حكاه في مجمع البيان ( 3 : 22 ) عن أبي عبيدة.
5- الفاتحة : 4.
6- آل عمران : 19.

وقيل : إنّه وضع إلهيّ لاولي الألباب يتناول الاصول والفروع (1).

لا إشكال في أنّ المراد به في الآية ليس هو الجزاء ، لعدم تعقّله فيها على ما هو ظاهر ، والكلّ محتمل ، وعلى التقادير لا يتمّ التقريب ، إذ الاستدلال موقوف على أن يكون المراد ب- « الدين » خصوص الأعمال الفرعيّة المأمور بها في الشريعة. ولا دليل على أنّ المراد به في المقام هو خصوص ذلك مع كونه معنى مجازيّا غير ظاهر من مساق الاستعمال.

لا يقال : يتمّ التقريب على تقدير إرادة المعنى الأعمّ من الأعمال الفرعيّة والعقائد الأصليّة ، كما هو أحد الوجوه المحتملة فيما سبق.

لأنّا نقول : ذلك يتمّ على تقدير أن يكون المراد بالإخلاص هو قصد التقرّب ، وهو غير معقول في العقائد.

فإن قلت : لعلّ المراد ب- « الدين » هو الأعمال التي يجزى بها ، تسمية للسبب باسم المسبّب.

قلت : بعد كونه مجازا لا يصار إليه إلاّ بعد دلالة ، لا يجديك شيئا ؛ إذ يكون محصّل مفاد الآية على ذلك التقدير : وما امروا إلاّ بالعبادة والانقياد حال كونهم قاصدين للتقرّب بالأعمال التي يجزى بها ، فيكون قصد القربة معتبرا فيما يترتّب عليه الجزاء. وظاهر أنّ استحقاق الثواب مشروط بالامتثال ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم. والكلام في اشتراط سقوط التكليف بالقصد ، وأين أحدهما من الآخر؟ لجواز سقوط التكليف مع عدم ترتّب الثواب والجزاء.

والإنصاف : أنّ الظاهر من « الدين » هو العبادة التي يرادف الانقياد ، والإخلاص فيه عبارة عن عدم اختلاطه بالانقياد لغير وجهه الكريم ، فيكون المراد

ص: 312


1- لم نعثر عليه.

به أنّهم مأمورون بالانقياد والتذلّل حال كونهم مخلصين له التعبّد والانقياد من غير اختلاطه بانقياد غيره ، كما ينظر إلى ذلك التفاسير المنقولة والآيات المشابهة لها في المساق ، على ما عرفت.

ولو تنزّلنا وأغمضنا عن ذلك كلّه ، فيجب حمل الآية على الاستحباب ، إذ على تقدير إرادة وجوب نيّة القربة يلزم تخصيص مستبشع لا يمكن التزامه ، إذ الأغلب في الأوامر الواردة في شريعتنا أنّها واجبات توصّليّة. ولعلّ ذلك ممّا لا يقبل الإنكار.

الثاني : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1).

وجه الدلالة : أنّ الإطاعة ممّا قد امر بها في هذه الآية ، ولا تصدق إلاّ بقصد الامتثال ، فيجب ذلك في الأوامر نظرا إلى وجوب الإطاعة. فتكون هذه الآية حاكمة على ظواهر الأوامر الواردة في المقامات الخاصّة ، نظير ورود قوله تعالى : ( وَسارِعُوا ) (2) على الأوامر الخاصّة على القول بدلالتها على الفور.

والجواب عنه : أنّ الإطاعة تارة تطلق ويراد بها ما لا يصدق بدون قصد الامتثال على ما هو مناط الاستدلال ، وتارة يطلق ويراد بها مجرّد عدم المعصية.

وليس يجوز أن يكون المراد بها في المقام هو الأوّل ، إذ على تقديره يلزم أن يكون إطاعة الرسول واجبة أيضا بمعنى قصد التقرّب إليه تعالى ، مع أنّ الإجماع قائم بعدم وجوب إطاعة الرسول بهذا المعنى ، إذ لم يقل بوجوب قصد التقرّب إليه تعالى أحد من العلماء ، ولا يكفي في ذلك أنّ إطاعة اللّه بعينها هي إطاعة الرسول ، إذ الظاهر من تكرار الأمر في الآية تكرار المأمور به ، ولذلك أوردنا في الاستدلال هذه الآية ، مع أنّه يمكن الاستدلال بآية لم يكرّر فيها الإطاعة ، فتدبّر.

ص: 313


1- النساء : 59.
2- آل عمران : 133.

سلّمنا ولكنّه تخصيص للأكثر على وجه لا يكاد يلتزم به المنصف ، فلا بدّ من أن يحمل على المعنى الثاني ، كما يشعر بذلك ورودها بهذا المعنى في كثير من الموارد في القرآن الكريم وغيره ، كما في الأمر بإطاعة الوالدين (1) ، إذ ليس المراد بها فيه إلاّ مجرّد عدم المخالفة. وكما في قوله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (2) فإنّ مقابلة التولّي بالإطاعة من أقوى الشواهد على أنّ المراد بها في الآية عدم المخالفة ، وقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) (3) ، وقوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) (4) ، وفي الزيارات : « من أطاعكم فقد أطاع اللّه ومن عصاكم فقد عصى اللّه » (5) فإنّ مقابلة العصيان - كمقابلة التولّي - يؤذن بالمراد منها.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّ المراد بالإطاعة هو عدم المعصية ، ليس على وجه المجازيّة ، لما ستعرف : من أنّه قد يمكن أن يكون المقصود أعمّ من مدلول اللفظ بحسب الظاهر ، على وجه لا سبيل إلى التأدية عن ذلك المعنى المقصود الأعمّ إلاّ على الوجه الغير المفيد لخصوص المراد ، على خلاف الواجبات التعبّديّة ، فإنّ المقصود منها التعبّد بها ، مع أنّه لا يمكن أن يكون المفاد للأمر الدالّ عليه.

وبالجملة ، فالمقصود بهذه الأوامر ليس إلاّ مجرّد عدم الترك ، إلاّ أنّ اللفظ المفيد لذلك المعنى يفيد معنى آخر ليس مرادا. وإن أبيت عن ذلك فالمجاز ممّا يجب

ص: 314


1- الإسراء : 23 - 24.
2- النساء : 80.
3- النور : 54.
4- آل عمران : 32.
5- كما في الزيارة الجامعة ، انظر الفقيه 2 : 617.

أن يصار إليه إذا دلّ عليه الدليل كما عرفت ذلك. ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا : بأنّ المراد من الإطاعة معناها الحقيقي ، فلا نسلّم أنّها حاكمة على الأدلّة الخاصّة ؛ إذ لعلّها واجبة في حدّ ذاتها من غير أن يكون مناطا لأمر آخر ، فالامتثال واجب مستقلّ وفعل الصلاة واجب آخر ، ويمكن سقوط الأمر الأوّل مع عدم سقوط الأمر الثاني بمعنى حصول المكلّف به فيها ، إذ الأمر الأوّل موضوع للإطاعة - على ما عرفت - فيكون سقوط الأمر الأوّل رافعا للعقاب المترتّب على مخالفته وإن كان موجبا للعقاب المترتّب على العصيان بواسطة الأمر بالإطاعة.

إلاّ أنّ ذلك خلاف الإنصاف ، إذ الالتزام بمثل ذلك لعلّه خلاف الإجماع ، فإنّ سقوط الواجب لو كان موجبا لعدم ترتّب العقاب المترتّب على تركه ، لا يعقل أن يكون موجبا للعقاب المترتّب على ترك الإطاعة بواسطة ارتفاع موضوعه كما لا يخفى. فتدبّر في المقام جدّا.

الثالث : قوله عليه السلام : « لا عمل إلاّ بنيّة » (1) ونظيره قوله عليه السلام : « إنّما الأعمال بالنيّات » (2) وقوله عليه السلام : « لا قول إلاّ بالعمل ، ولا عمل إلاّ بالنيّة ، ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة » (3) وقوله عليه السلام : « لكلّ امرئ ما نوى » (4).

وجه الدلالة : أنّ العمل عبارة عن مطلق الأفعال التي يتعلّق بها الأمر والطلب من الامور الواجبة ، والنيّة عبارة عن قصد القربة ، ونفي العمل بدون النيّة يوجب الكذب ، فلا بدّ من حمله على نفي الأثر كما في روادفه ، كقوله : « لا صلاة

ص: 315


1- الوسائل 1 : 33 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 1 - 3.
2- المصدر المتقدم : 35 ، الحديث 10.
3- المصدر المتقدم : 33 ، الحديث 2.
4- المصدر المتقدم : 35 ، الحديث 10.

إلاّ بطهور » (1) فالمعنى : أنّه لا يترتّب على واجب من الواجبات أثر من الآثار المطلوبة منها - من سقوط الأمر وفراغ الذمّة واستحقاق الثواب - إلاّ بقصد القربة. وهو المطلوب.

والجواب عنه : أوّلا : منع كون المراد من العمل مطلق الأفعال الواجبة ، بل الظاهر بملاحظة ورود لفظ « العمل » في مقامات عديدة نظائر (2) المقام : أنّ المراد بالعمل خصوص العبادات ، كما في قوله : « والعالمون كلّهم هالكون إلاّ العاملون » (3) وفي قوله : « لا عمل لي أستحقّ به الجنّة » (4) وإن أبيت عن ذلك فلا بدّ من حمله على ظاهره لغة ، وهو مطلق الأفعال من دون اختصاص له بالواجبات ، ولازمه عدم ترتيب الأثر على كلّ فعل ولو كان من الأفعال المحرّمة إلاّ بنيّة القربة. وفساده غنيّ عن البيّنة.

وثانيا : نمنع كون المراد بالنيّة هو قصد القربة ، إذ المقصود من لفظ « النيّة » عرفا ولغة ليس إلاّ مجرّد القصد إلى الفعل ، ولا دليل على أنّ المراد بها في المقام هو قصد القربة. غاية ما في الباب دلالته حينئذ على اعتبار قصد العنوان في العمل ، فما لم يتحقّق قصد الفاعل إلى عنوان الفعل والعمل لا يتحقّق عمل منه ولا فعل.

ومع ذلك فليس يجوز حمله على هذا المعنى أيضا ، ضرورة وجود ذات العمل مع عدم القصد إلى عنوان الفعل ، فلا يصحّ رجوع النفي إلى الذات ،

ص: 316


1- المصدر المتقدم : 256 ، الباب 6 من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.
2- في ( ع ) و ( ط ) : تناظر.
3- تنبيه الخواطر 2 : 437 مع تفاوت يسير.
4- لم نعثر عليه.

فلا بدّ أن يحمل العمل على الأفعال الاختياريّة من حيث إنّها اختياريّة ، فيكون المراد : ليس الفعل الاختياري موجودا ما لم يكن مقصودا.

ومع ذلك ، فلا يجوز حمله على هذا المعنى أيضا ، ضرورة وجود الفعل الاختياري من غير قصد إلى عنوان الفعل إذا كان له عناوين متعدّدة مع تعلّق القصد بأحدها ، فإنّه يكفي في وقوع الفعل اختيارا أن يكون أحد عناوينه مقصودا للفاعل.

نعم ، لا يكون اختياريّا باعتبار عنوانه الغير الملتفت إليه ، كما هو ظاهر. فلا بدّ من أن تحمل الرواية على أنّ الفعل الاختياري بعنوانه الاختياري غير واقع إلاّ بالقصد إلى ذلك العنوان. هذا ما تقتضيه قواعد اللغة.

وأمّا ما يمكن استظهاره من الرواية فهو ما عرفت من أنّ المراد بها خصوص الأفعال العباديّة ، ويدلّ على اعتبار القربة فيها ، فلا دلالة فيها على المطلوب بوجه. على أنّه لو حمل على ما زعم يلزم تخصيص بشيع (1) لا يكاد يلتزم به من له مسكة ، فالأمر دائر بين التصرّف في الرواية بأحد الوجوه المذكورة.

ونحن لو لم ندّع ظهور الاحتمال الأخير لا نسلّم ظهورها في غيره ، فلا وجه للاستدلال ؛ لمكان الإجمال.

وأمّا قوله : « إنّما الأعمال بالنيّات » فقد ادّعي تواتره لفظا (2). إلاّ أنّ بعض أصحابنا (3) - على ما حكاه الاستاذ - قال باتّصال إسناده إلى الخليفة الثاني. وكيف كان ، فهو بمنزلة أن يقال : « كلّ عمل بالنيّة » وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : « كلّ ما ليس متلبّسا بالنيّة ليس بعمل » فيكون مفادها مفاد الرواية السابقة في الاحتمالات المتصوّرة. وعلى قياسه الرواية الاخرى.

ص: 317


1- في ( ع ) و ( م ) : شنيع.
2- كشف الغطاء 4 : 23.
3- وهو المحقّق في المعتبر 1 : 390 ، وراجع السنن الكبرى للبيهقي 1 : 215.

وأمّا قوله : « لكلّ امرئ ما نوى » فمن الظاهر عدم انتهاضه بشيء من المقصود ، فلا وجه للاستناد إليه.

فالتحقيق أنّ مقتضى الأوامر الخاصّة - على ما عرفت - لا يزيد على التوصّليّة ، والأدلّة المذكورة لا تنهض حجّة على إثبات الأصل الثانوي ، فعند الشكّ لا بدّ من الأخذ بمقتضى أصالة البراءة أو أصالة العدم ، على ما نبّهنا عليه في الهداية (1).

ص: 318


1- لم ترد عبارة « على ما نبّهنا عليه في الهداية » في ( ع ) ، وفي ( م ) ورد بدله : واللّه الهادي.

هداية

اشارة

بعد ما عرفت من أنّه لا دليل على لزوم قصد القربة في الأوامر ، فهل هناك ما يدلّ على اعتبار قصد العنوان في المأمور به ، أم لا؟ وجهان ، بل قولان ، فذهب جماعة إلى الأوّل (1). والحق هو الثاني.

وقبل الدخول في الاستدلال ينبغي أن يعلم أنّه لا إشكال في أنّ الفعل إذا لم يصحّ استناده إلى المكلّف بوجه من الوجوه ليس مجزيا في الأمر ، مثل ما إذا فرض الإكراه والإجبار في صدور الفعل ، دون ما إذا حصل له الداعي إكراها ، للفرق الظاهر بين الوجهين ؛ وذلك لأنّ المنساق من الفعل المأمور به هو ما يكون مستندا إلى المكلّف ، إمّا بدعوى أنّ لفظ « الفعل » حقيقة فيما يصحّ انتسابه إليه وإن كان بعيدا عن التحقيق ، لما قرّر في مقامه من تقسيم الفعل إلى الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الفاعل المختار وغيرها ممّا يصدر عن الفاعل الموجب ؛ مضافا إلى أنّ لفظ « الفعل » ممّا لا يجدي كونه حقيقة ، إذ ليس المأمور به عنوان الفعل بل مصاديقه كالضرب ونحوه ، فلا بدّ من التكلّم فيها. وإمّا بواسطة أنّ الضرب المأمور به منصرف عرفا إلى ضرب يصحّ استناده إلى الضارب ، فلو أمر المولى عبده بالضرب مثلا وأخذ يده واحد من غلمانه وأوقعها على واحد لم يكن العبد ممتثلا. ولعلّ ذلك مفروغ عنه عندهم.

ويلحق بذلك ما إذا صحّ استناده إليه ولكن لم يكن الفعل واقعا على شعور ،

ص: 319


1- كالعلاّمة في مبادئ الوصول : 114 ، ولم نعثر على غيره.

كما إذا وقع منه نائما. ولا ينافيه أدلّة الضمانات ، إذ الفعل لا يصحّ سلبه عنه حينئذ ، وهو كاف في تصحيح الضمان. إلاّ أنّ الواقع في تلو الأوامر التكليفيّة لعلّه ينصرف إلى ما هو مقصود (1) له ولو بوجه ، فلو وقع من غير أن يكون مشعورا به لا يبعد دعوى عدم الإجزاء فيه وإن لم يكن في الظهور بمرتبة القسم الأوّل ، كما لا يخفى.

ولا إشكال أيضا في لزوم القصد إذا كان الفعل ممّا لا يقع إلاّ بالالتفات إليه.

وتحقيق ذلك : أنّ الفعل ذاته عبارة عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق مثلا ، وتحقّق تلك الذات لا يتوقّف على قصد ، إلاّ أنّ لذلك الفعل وجوها واعتبارات ، يلحقها بعضها من غير أن يكون مقصودا ، ك- « الضرب » فإنّه اسم للحركة المخصوصة وإن لم يقع على وجه الضرب ، ويلحقها بعضها إذا كان ذلك الوجه مقصودا ، فلا يقال للحركة : إنّها تعظيم ، ما لم يكن التعظيم مقصودا. فإذا تعلّق الأمر بمثل هذا العنوان فلا مناص من القصد إليه تحصيلا للموافقة بعد العلم بالاقتضاء. فالفرق بين الضرب وبين التعظيم : أنّ الضرب بدون القصد صادق ، فيمكن القول بالإجزاء ، بخلاف التعظيم. ولعلّ ذلك أيضا ظاهر.

وإنّما الإشكال في عنوان يقع على وجه الاختيار مع وقوع ذات الفعل ولو بعنوان آخر اختياريّا وصدق العنوان الذي لم يقع على وجه الاختيار.

وكيف كان ، فاحتجّ الذاهب إلى اعتبار القصد بوجوه ، أقواها امور :

أحدها : دعوى تبادر الفعل الواقع على وجه (2) الاختيار بعنوانه من الفعل الواقع في تلو الأوامر. فإن اريد منه أنّ الضرب حقيقة في الواقع مقصودا منه فذلك دعوى محالة ، وإن اريد الانصراف وإن كان يمكن ذلك إلاّ أنّه ممنوع أشدّ المنع.

ص: 320


1- في ( ع ) : المقصود.
2- في ( ط ) : جهة.

الثاني : إنّ من الامور المقرّرة في محلّه أنّ الأفعال الاختياريّة لا تقع اختيارية إلاّ بالقصد إليها ، وهي محالّ التكاليف الشرعيّة ؛ إذ الأفعال الاضطرارية خارجة عن مقدور المكلّف ، ويمتنع تعلّق التكليف بالأفعال الغير المقدورة ، فيجب أن يكون متعلّق التكليف هي العناوين المقصودة ، وهو المطلوب (1).

الثالث : ما نهجه بعض الأفاضل في مناهجه ، وهو : أنّه لا بدّ من (2) نسبة العمل إلى شيء من كونه مؤثّرا فيه ، وهذا بديهيّ. والتأثير قد يكون مع المباشرة ، وقد يكون بالأمر والبعث كما يقال « قتل السلطان فلانا » ، والأفعال المطلوبة من المكلّف لمّا كانت مطلوبة ممّا هو انسان ، يعني النفس دون البدن ، وتأثيره لا يكون إلاّ بالأمر والبعث للبدن ، وهما لا يتصوّران إلاّ مع القصد والشعور ، فيلزم أن لا يصدر عمل عمّا هو المكلّف حقيقة إلاّ بالقصد (3).

والرابع : قوله : « لا عمل إلاّ بنيّة » على أن يكون المراد من نفي العمل نفي الآثار بالنسبة إلى عنوانه الغير المقصود ، كسقوط التكليف ونحوه.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فقد عرفته.

وأمّا عن الثاني فيحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّ الامور العارضة للمأمور به والقيود اللاحقة له على وجوه :

أحدها : ما يؤخذ فيه قبل لحوق الطلب به ، كتخصيص الضرب بمكان أو زمان أو فاعل أو نحو ذلك ممّا لا يحصى.

وثانيها : ما يلحقه بعد ملاحظة لحوق الطلب به ، كالامتثال على ما عرفته.

وثالثها : ما يعرض فيه بعروض نفس الطلب والأمر.

ص: 321


1- في ( ط ) زيادة : وذلك ظاهر.
2- كذا ، والمناسب : « لا بدّ في ».
3- لم نعثر عليه.

فالقيود التي من قبيل الأوّل لا مجال من اعتبارها في المأمور به ، على ما لا إشكال فيه. والقيود التي تعرضه بعد الأمر أيضا يلحقها حكمها على ما مرّ. وأمّا القيود التي تحدث بنفس الطلب في المأمور به فلا وجه لاعتبارها فيه ، إذ المطلوب إنّما هو الفعل من غير تقييد ، غاية الأمر أنّ الطلب حينما يتعلّق به يحدث فيه قيدا ، ولا دليل على اعتباره.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم : أنّ القدرة المعتبرة في المأمور به تارة تكون معتبرة فيه مع قطع النظر عن قبح تعلّق الطلب بالفعل الغير المقدور ، وتارة تكون بواسطة امتناع تعلّق الطلب بغير المقدور. فإذا كان من القسم الأوّل لا بدّ من القول بعدم الاكتفاء فيما إذا أتى المكلّف بالغير المقدور ، لأنّ الواقع غير مأمور به ، والمأمور به غير واقع. وأمّا إذا كان من القسم الثاني فعلى ما عرفت لا يؤثّر في التقييد بعد إطلاق المادّة.

وبالجملة ، فنحن نقول : إنّ الطالب إذا تصوّر فعلا غير مقيّد بقيد ولاحظ فيه ما يوجب وقوعه من المكلّف على وجه الإطلاق بالنسبة إلى ذلك القيد ، يتعلّق طلبه بذلك الفعل المطلق. وأمّا عدم وفاء نفس الطلب بجميع أفراده لا يؤثّر في دفع الإطلاق ، لأنّه قصور في الطلب لا تقييد في المطلوب.

وبعد ما عرفت - فيما تقدّم - من صدق العناوين التي يقع مأمورا بها على الأفعال الواقعة من جهة من الجهات اختياريّة ، لا ينبغي الإشكال في كفاية كلّ فرد من الأفراد التي ينطبق عليها عنوان المأمور به ، لسقوط التكليف وحصول المأمور به.

فالمستدلّ إن أراد من امتناع تعلّق الطلب بغير المقدور أنّ مقصود الآمر هو الفعل المقيّد بالقدرة فلا سبيل له إلى إثباته ، فهو ممنوع. وإن أراد عدم تعلّق الطلب به بواسطة مضايقة حاصلة في نفس الطلب وقصور موجود فيه فهو مسلّم ، لكنّه لا

ص: 322

يجديه ، إذ قد يكون ما أراد أن يطلبه الطالب أمرا عامّا لا يمكن أن يقع عليه الطلب على عمومه ، كما أنّه يمكن أن يكون أمرا مخصوصا لا يمكن إظهاره أوّلا بنفس الطلب ، كما في الأوامر التعبّديّة على ما عرفت.

فإن قلت : إنّ الفعل لا يكون واجبا إلاّ بالطلب ، والمفروض عدم تعلّقه - ولو بواسطة قصوره - إلى مطلق الفعل الشامل للمقدور ولغير المقدور ، فلا يكون الفعل بعمومه واجبا. وحينئذ لا معنى لسقوط التكليف به ، وإنّ (1) سقوط التكليف بغير الواجب لا بدّ له من دليل ، ولا دليل عليه.

قلت : إنّ سقوط التكليف بغير الواجب فيما إذا كان ذلك بواسطة قصور الطلب بعد معلوميّة أنّ ما أراد أن يطلبه هو الفعل المطلق ، ممّا لا يحتاج إلى دليل ، لحصول المقصود الحقيقي بذلك ، ولا يعقل طلب الحاصل.

فإن قلت : هب أنّ المطلوب مطلق ، ولكنّه يجب الأخذ بمقتضى الطلب وتقييداته.

قلت : ذلك ظاهر الفساد بعد أنّ الوجدان قاض بأنّ المطلوب هو الفعل المطلق فيما إذا كان القيد غير مأخوذ في المطلوب ، ضرورة لزوم اختلاف نسبة الطالب إلى الأفراد ولو (2) كان المطلوب مقيّدا ، والمفروض خلافه لإطلاق المطلوب.

فإن قلت : لو علمنا بأنّ المقصود هو الأعمّ كان الوجه ما ذكر ، ومن أين لك العلم بالمقصود؟

قلنا : يستكشف ذلك من إطلاق المادّة ، حيث إنّ المقصود لو كان أمرا مخصوصا لكان على المتكلّم بيان ذلك.

ص: 323


1- كذا ، والمناسب : فإنّ.
2- في ( ع ) و ( م ) : ولو.

قلت : قد عرفت فيما تقدّم أنّ الإطلاق إنّما يعتبر بواسطة قبح ترك البيان مع ورود الكلام في مقامه. وأمّا إذا كان في المقام ما يصلح لأن يكون بيانا ، فهل ترى صحّة الاستناد إلى الإطلاق؟ حاشا! كما فيما نحن بصدده ، فإنّه لو كان المقصود هو الفعل الخاصّ المقيّد بالقدرة لا ضير في ترك التقييد به ، لجواز الاعتماد على ما يستفاد من نفس الطلب ، إذ المفروض أنّ الطلب - ولو بواسطة قصوره - يمتنع تعلّقه بغير المقدور.

مضافا إلى أنّه يمكن القول بأنّ القدرة مأخوذة في نفس الفعل قبل لحوق الطلب في الأحكام الشرعيّة ، لما تقرّر عند العدليّة من تبعيّة الأحكام الشرعيّة للصفات المحسّنة والمقبّحة ، فما لم يكن الفعل موردا للحسن لا يصير متعلّقا للطلب ولا يكون موردا للحسن إلاّ إذا كان فعلا اختياريّا ، فإنّه مهبط للحسن والقبح اتّفاقا ، ولا يكون فعلا اختياريّا إلاّ إذا كان مقدورا ، ولا يكون مقدورا إلاّ أن يكون مقصودا. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّ الحسن والقبح أيضا يقتضيان الاختياريّة في الأفعال كنفس الطلب.

كذا أفاده الاستاذ بعد ما أوردت عليه ذلك ، إلاّ أنّه بعد في إجمال لا بدّ له من التأمّل ، فتأمّل (1).

وأمّا الجواب عن الثالث : فبأنّه فاسد عن أصله ؛ إذ نسبة النفس إلى الجوارح العمّالة ليست نسبة البعث والأمر ، بل إنّما هي آلات لوقوع أفاعيلها على حسب اختلاف دواعيها ، فالمباشر حقيقة في الأفعال الصادرة عنّا إنّما هو نفوسنا الناطقة بواسطة آلاتها الظاهريّة أو الباطنيّة ، دون الآلات.

أغمضنا عن ذلك ، ولكن يتمّ ما ذكره فيما إذا قيل بأنّ النفس مأمور بالأمر بالجوارح على أن يقع منها الأفعال ، حيث إنّ الأمر لا بدّ له من ملاحظة المأمور به ،

ص: 324


1- العبارة في ( ط ) : ولا بدّ من أن يقع فيه التأمّل.

إذ لولاه لامتنع أمره به ، إذ عند عدم تصوّره لا يجد من نفسه ما يدعوه إلى طلبه ، فلا يقع الطلب من دون تصوّر المطلوب. إلاّ أنّ ذلك بمراحل عن التحقيق ، لإمكان أن يقال على ذلك التقدير : إنّ النفس مأمور بالتسبّب وليس يلزم من التسبّب تصوّر الفعل المأمور به. كذا أفاد الاستاذ.

وفيه نظر ؛ إذ بعد فرض أنّ المباشر هو الآلة دون النفس وأنّ نسبة النفس إليها نسبة التسبّب (1) ، لا يعقل التسبّب (2) مع عدم ملاحظة عنوان المأمور به ، إذ لا فرق بين التسبيب والبعث والأمر ، فإنّ دواعي التسبّب (3) ليس يدعو إلاّ بالتسبيب بالنسبة إلى عنوان المأمور به ، لا مطلق الفعل ولو بعنوان آخر ، فتدبّر.

وأمّا الجواب عن الرابع : فبما مرّ في الهداية السابقة ، ومحصّله : أنّه لا يستفاد من الرواية بعد تعدّد الوجوه المحتملة فيها شيء ، بل لو كان ولا بدّ فيدلّ على اعتبار القصد في الأعمال العباديّة فقط ، ومن البيّن اعتبار القصد إلى العنوان فيها (4).

فالتحقيق في المقام : أنّ الأوامر التي ثبت في الشرع أنّها من العبادات يجب فيها قصد العنوان ، لأنّ الداعي فيها لا بدّ وأن يكون هو الأمر ، وهو لا يدعو إلاّ بالعنوان الذي تعلّق به الطلب ، فلو فرض وجود الفعل في الخارج من غير أن يكون عنوان المأمور به مقصودا لا يعقل أن يكون هو الداعي إلى إيجاده ، فلا يتحقّق القربة ، والمفروض وجوبها. وهذا هو السرّ في عدم صدق الامتثال عرفا عند عدم القصد. وأمّا ما لم يثبت كونها من العبادات فلا يجب فيها قصد القربة على ما عرفت ، ولا قصد العنوان ؛ لعدم دليل يدلّ على ذلك.

نعم ، لو اريد الامتثال بالأوامر التوصّلية يجب قصد العنوان ، لتوقّف قصد القربة عليه. ولعلّه ظاهر.

ص: 325


1- في ( ع ) : التسبيب.
2- في ( ع ) : التسبيب.
3- في ( ع ) : التسبيب.
4- في ( ط ) زيادة : « وذلك ظاهر ».
تذنيب :

قد قرع سمعك فيما تقدّم (1) : أنّ بعض المعاصرين تخيّل جواز اجتماع الحرام مع الواجب التوصّلي (2) ، وبذلك توهّم امتيازه عن التعبّدي ، وقد نبّهنا فيما تقدم أنّ ذلك على تقدير صحّته ليس فرقا جديدا ، بل ويتفرّع على اعتبار قصد القربة. ونزيدك في المقام بما هو التحقيق عندنا في ذلك ، فإنّ ذلك كان منّا على سبيل التنزّل ومعارضة الباطل بمثله.

فنقول : لا ريب في عدم حصول الامتثال في الواجب التعبّدي بالإتيان بالفرد المحرّم ؛ إذ مع كونه حراما لا يعقل توجّه الأمر إليه ، ومع عدم الأمر يمتنع أن يكون الداعي في الإتيان هو الأمر. وأمّا الواجب التوصّلي فلا إشكال أيضا في عدم حصول الامتثال به إذا اريد الإتيان على ذلك الوجه ، وهل هو مسقط للتكليف لارتفاع موضوع الواجب إذا أوجده المكلّف في الفرد المحرّم أو أنّه الواجب حقيقة وإن لم يكن على وجه الامتثال؟ وجهان ، ظاهر المتوهّم المذكور هو الثاني.

والتحقيق هو الأوّل ؛ إذ لا وجه لإرادة الفرد المحرّم بالأمر الدالّ (3) على الوجوب ، لأدائه إلى اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد ، وستعرف في محلّه بطلانه.

نعم ، يصحّ ذلك على القول بجوازه. وحينئذ لا يفرق بين التعبّدي والتوصّلي ، فإنّ القائل بالجواز يدّعي حصول الامتثال في التعبّديات أيضا. وبالجملة ، فعلى القول بالامتناع لا وجه للفرق بين أقسام الطلب على أيّ وجه يفرض ، كما ستقف عليه.

ص: 326


1- في ( ع ) و ( م ) : قد عرفت فيما تقدّم أو قرع سمعك.
2- راجع القوانين 1 : 101 و 103.
3- في ط بدل « بالأمر الدالّ » : ممّا دلّ.

فإن قلت : يمكن له القول بأنّ الإتيان بالفرد المحرّم ليس مسقطا بواسطة انتفاء الموضوع ، بل هو الإتيان بالواجب نظرا إلى ما تقدّم من إمكان أن يكون المقصود أعمّ من المطلوب ، فيحتمل أن يكون عدم إرادة الفرد المحرّم بواسطة قصور الطلب مع وجود المصلحة فيه أيضا.

قلت : وذلك وإن كان يبدو في ظاهر النظر ، إلاّ أنّ الواقع خلافه ، فإنّ المتراءى من أوامرنا هو تقييد العنوان أوّلا بغير المحرّم ثمّ يعرضه الطلب ، لا أنّه يخرج الفرد المحرّم بعروض الطلب كما قلنا بذلك هناك. ويظهر الثمرة فيما لو أتى بالفرد المحرّم نسيانا ، كأن صلّى في الدار المغصوبة مع عدم التفاته إلى الغصبيّة والحرمة ، فعلى ما ذكرنا لا يصحّ صلاته فيها ؛ لخروج الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة من عنوان الأمر بالصلاة ، ويصحّ على ما ذكره. ولا اختصاص لذلك بالتوصّلي حينئذ كما لا يخفى ، لجريانه في غيره أيضا.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ الامور الراجعة إلى تصرّف الآمر على وجه لو لم نقل بذلك التصرّف يلزم نسبة القبح إليه - كإرادة الفرد المحرّم من المأمور به - معتبرة في المأمور به مع قطع النظر عن لحوق الأمر ، وإلاّ يلزم اجتماع الإرادة والكراهة في أمر واحد. وأمّا الامور التي لا مدخل لإرادة الآمر فيها - مثل العجز والجهل ونحو ذلك - فالظاهر أنّ اختصاص المطلوب بالمعلوم والمقدور بواسطة امتناع تعلّق الطلب من جهة قصور في نفس الطلب. فبان الفرق ، وفسد القياس.

لا يقال : يجوز تعلّق الطلب بالقدر المشترك بين الواجب والحرام ، إذ القبح إنّما يتأتّى بملاحظة خصوص الفرد المحرّم ، وبطلان الخاص من حيث الخصوصيّة لا يستلزم بطلان العامّ من حيث إنّه عامّ.

لأنّا نقول : إن اريد التسرية إلى الفرد المحرّم بذلك فغير سديد. وإن اريد مجرّد العموم وإن لم يسر الحكم إلى الفرد المحرّم فغير مفيد ، كما هو ظاهر لمن تبصّر.

وتفصيل الكلام في المقام موكول إلى بعض المباحث الآتية ، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 327

ص: 328

هداية

اشارة

ينقسم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب على وجه خاصّ - كما ستعرفه - إلى غيريّ ونفسيّ. وتحقيق القول في تحديدهما موقوف على تمهيد ، وهو :

انّ متعلّق الطلب قد يكون أمرا مطلوبا في ذاته على وجه يكفي في تعلّق الطلب تصوّره من غير حاجة إلى غاية خارجة عن حقيقة المطلوب ، فلا بدّ أن يكون ذلك غاية الغايات ، فإذن هو الداعي إلى كلّ شيء وهو المدعوّ بنفسه ، كما في المعرفة باللّه الكريم والتقرّب إليه بارتكاب ما يرضيه والاجتناب عمّا يسخطه ، فإنّه هو الباعث على فعل الطاعات والداعي إلى ترك المناهي والسيّئات ، ويلزمه أن يكون المطلوب في الأمر حصوله في نفسه ، لا حصوله لأجل ما يترتّب عليه.

وقد يكون أمرا يترتّب عليه فائدة خارجة عن حقيقة المطلوب ، وهذا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون ما يترتّب عليه أمرا لا يكون متعلّقا لطلب في الظاهر ، فيكون من قبيل الخواصّ المترتّبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلّف حتّى يتعلّق الأمر بها بنفسها.

وثانيهما : أن يكون الغاية الملحوظة فيه تمكّن المكلّف من فعل واجب آخر ، فالغاية فيه هو الوصول إلى واجب آخر بالأخرة وإن كانت الغاية الأوّليّة هو التمكّن المذكور.

وهذا القسم أيضا يتصوّر على قسمين ؛ لأنّ الفعل الآخر الذي يتوقّف على وجود الفعل المطلوب : قد يكون مطلوبا حال تعلّق الطلب بالفعل الأوّل ، كما في

ص: 329

جميع المقدّمات الوجودية للواجب بعد دخول الوقت. وقد يكون مطلوبا بعد وجود الفعل الأوّل في الحال ، كما في المقدّمات التي يجب إيجادها قبل دخول وقت الواجب ، مثل ما عرفت في بعض المباحث الماضية. واللازم في هذين القسمين أن يكون الغير مطلوبا إمّا في وقت تعلّق الطلب بالفعل أو بعده ؛ إذ لا يعقل أن يتعلّق الطلب بفعل بواسطة التوصّل إلى فعل آخر مع عدم تعلّق الطلب بذلك الآخر أصلا (1).

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم : أنّه قد فسّر في كلام غير واحد منهم الواجب النفسي ب- « ما امر به لنفسه » والغيري ب- « ما امر به لأجل غيره » (2) وعلى ما ذكرنا في التمهيد (3) يلزم أن يكون جميع الواجبات الشرعيّة أو أكثرها من الواجبات الغيريّة ، إذ المطلوب النفسي قلّ ما يوجد في الأوامر ، بل جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ، فيكون أحدهما غير منعكس ، ويلزمه أن يكون الآخر غير مطّرد ، لانتفاء الواسطة.

لا يقال : المراد بكونه « مطلوبا لنفسه » أنّه مطلوب لأجل مصلحة حاصلة في نفسه ، فيكون المراد بالغيري ما امر به لأجل مصلحة حاصلة في غيره ، فيتمّ عكس الأوّل ، وبه يصحّ طرد الآخر أيضا (4).

لأنّا نقول : ذلك فاسد جدّا ، ضرورة امتناع أن يكون المصلحة الداعية إلى طلب الشيء حاصلة في غيره ، غاية ما في الباب أنّ المصلحة في فعل المقدّمة هو الوصول إلى الغير الحاصل في نفسه ، وفي ذيها القرب الحاصل في نفسه. وذلك لعلّه ظاهر.

ص: 330


1- في ( ط ) زيادة : « وهو ظاهر في الغاية ».
2- راجع الفصول : 80 ، وهداية المسترشدين 2 : 89 ، ومناهج الأحكام : 48.
3- راجع الصفحة 329.
4- في ( ط ) : وبه يصحّ الطرد أيضا في الثاني.

فالأولى في تحديدهما أن يقال : إنّ الواجب الغيري ما امر به للتوصّل إلى واجب آخر ، والنفسي ما لم يكن كذلك ، فيتمّ العكس والطرد.

فإن قلت : إنّ النفسي بهذا المعنى يشمل الواجب الذي امر به للغير مع عدم وجوب الغير.

قلت : قد عرفت استحالة ذلك. ومن هنا ينقدح لك أنّه لو لم يؤخذ في التحديد صفة الوجوب لكان كافيا ، إذ الأمر بالمقدّمة لأجل الغير لا ينفكّ عن وجوب الغير.

ثمّ إنّه قد نبّهنا فيما تقدّم أنّ النسبة بين كلّ من النفسي والغيري هو التباين ، وبين كلّ واحد منهما مع كلّ واحد من التوصّلي والتعبّدي عموم من وجه. والأمثلة الأربعة (1) غير خارجة عن الصلاة الصادق عليها النفسي والتعبّدي ، ومواراة الميّت الصادق عليها التوصّلي والنفسي (2) ، وغسل الثوب الصادق عليه الغيري والتوصّلي ، والوضوء الجامع للتعبّدي والغيري على إشكال ستعرفه في محلّه ، إلى غير ذلك من الصور المفروضة فيها (3).

ثمّ إنّه إذا علمنا بأحد القسمين فلا إشكال. وإذا شكّ في واجب أنّه من الواجبات الغيريّة أو النفسيّة فهناك صور.

ولا بدّ أن يعلم أنّ صور الشكّ في النفسية والغيرية : تارة يتعلّق القصد بتشخيص حال الغير الذي يشكّ في وجوب الواجب لأجله ، واخرى بتشخيص حال نفس الواجب الذي يشكّ في وجوبه للغير أو لأجل نفسه.

ص: 331


1- في ( ع ) و ( م ) بدل « الأربعة » : أيضا.
2- في ( ع ) و ( م ) بدل « والنفسي » : دون التعبّدي.
3- في ( ط ) زيادة « كما يظهر ذلك بأدنى ملاحظة ».

وحيث إنّ مرجع الأوّل إلى الشكّ في اشتراط الغير بشيء فلا بدّ من إعمال الاصول التي تجري عند الشكّ في الاشتراط والإطلاق من الأخذ بإطلاق اللفظ الدالّ على الوجوب ونحوه.

ولمّا كان مرجع الثاني إلى أنّ وجوب الشيء هل يقتضي النفسيّة أو الغيريّة ، فلا بدّ من إعمال الاصول التي تجري عند ذلك من الأخذ بإطلاق اللفظ.

وتحقيق الكلام في مقامين :

الأوّل : في أنّ قضيّة الاصول اللفظيّة هل هي النفسيّة أو الغيرية؟

فعلى الأوّل فالدليل الدالّ على وجوب الغير والدالّ على وجوب الواجب الذي شكّ في غيريّته متطابقان في نفي الغيريّة ، إذ كلّ منهما ظاهر في النفسيّة.

وعلى الثاني ينفرد دليل الواجب بإفادة الغيريّة ، ولا يعارضه إطلاق دليل الغير ؛ لأنّ اعتبار الإطلاق من جهة عدم البيان والأمر الدالّ على وجوب الواجب الظاهر في الغيريّة بيان لذلك ، فلا بدّ من الحكم بالاشتراط.

فكيف كان ، فيحتمل أن يكون ظاهر الأمر هو الوجوب النفسي فيكون مجازا في الغيري ، أو العكس ، أو الاشتراك لفظا أو معنى مع انصراف الأمر إلى أحدهما ، أو مع عدمه.

والتحقيق : هو القول بأنّ هيئة الأمر موضوعة لخصوصيّات الطلب المنقدحة في نفس الطالب باعتبار دواعيها التي تدعو إليها ، ولا يختلف تلك الأفراد باختلاف الدواعي اختلافا يرجع إلى اختلاف الطلب نوعا حتّى يقال بالاشتراك المعنوي بين النوعين. وعلى تقدير التنزّل فليس مشتركا معنويّا ، إلاّ أن يراد به أنّ آلة الملاحظة حين الوضع هو القدر المشترك بين النوعين. فإن أراد القائل بالاشتراك المعنوي في المقام ما ذكرنا في الواجب المشروط : من عموم آلة الملاحظة حين الوضع فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها ، ولا حاجة إلى إقامة دليل على ذلك بعد شهادة الوجدان بأنّ

ص: 332

المستفاد من الأمر خصوص أفراد الطلب ، من غير فرق بين اختلاف الدواعي التي تعتور باعتبارها (1) النفسيّة والغيريّة ، فلا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد.

نعم ، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق ، لكنّه بمراحل عن الواقع ؛ إذ لا شك في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا يعقل اتّصاف المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب ، فانّ الفعل يصير مرادا بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها. وذلك أمر ظاهر لا يكاد يعتريه ريب.

نعم ، يصحّ التمسّك بالإطلاق من جهة المادّة ، حيث إنّ المطلوب لو كان هو الفعل على وجه يكون شرطا للغير يجب التنبيه عليه من المتكلّم الحكيم ، وحيث ليس ما يصلح أن يكون بيانا فيجب الأخذ بالإطلاق ويحكم بأنّ الواجب نفسيّ غير منوط بالغير على وجه لو فرض امتناع الغير يجب الإتيان به مع إمكانه. ومن هنا تعلم ضعف الاحتمالات التي تقدّم ذكرها.

أمّا الحقيقة والمجاز في النفسيّة والغيريّة ، فإن اريد في مدلول الهيئة فقد عرفت أنّه لا فرق فيها إلاّ اختلاف أفرادها التي لا يعقل مدخليّة الدواعي في كونها حقيقة ومجازا. وإن اريد في مدلول المادّة فهو مبنيّ على ما تقرّر في محلّه من أنّ التقييد حقيقة أو مجاز.

وأمّا الاشتراك اللفظي ، ففساده ظاهر ؛ لعدم ما يقضي به في مدلول الهيئة ، كأن يقال : إنّ الواضع جعل الهيئة تارة بإزاء خصوصيّات الطلب التي تدعو إليها دواعي الوجوب النفسي ، واخرى جعلها لخصوصيّات الأفراد التي تدعو إليها

ص: 333


1- في ( ط ) : باعتوارها.

دواعي الوجوب الغيري. وأمّا بالنسبة إلى مدلول المادّة ، فقلّ من احتمله ، بل لم يحتمله من يعتدّ بشأنه من العلماء.

وأمّا الانصراف ، فلا معنى له في مدلول الهيئة. وأمّا في المادّة فلا دليل عليه ، إذ التقييد على وجه الغيريّة كثير جدّا فلا شيوع حتّى يقال بالانصراف. وذلك أمر ظاهر.

ثمّ إنّ لفظ « الواجب » هل هو حقيقة في الواجب النفسي مجاز في الغيري ، أو مشترك بينهما معنى أو لفظا؟ وعلى الأوّل ، فهل ينصرف إلى النفسي أو لا؟ وجوه ، أقواها الاشتراك المعنوي ، فيكون مطلقا على نحو سائر المطلقات ، وعند عدم القيد ظاهر في المعنى المطلق ، فيكون المراد به النفسي ، إذ لو كان غيره لوجب أن يكون مقيّدا ، كما يقال : الوضوء واجب عند إرادة الصلاة ، ولا يصحّ إطلاق الواجب عليه من دون تقييد.

هذا إذا كان المراد من مادّة الوجوب مفهومها ، ولازم ذلك أن يكون الجمل التي يقع لفظ الوجوب فيها جملا إخباريّة دون الإنشائيّة ، إذ على تقدير إرادة الإنشاء من مادّة الوجوب لا يفرق مدلول الهيئة ، كما لا يخفى على المتفطّن.

ويظهر من بعضهم التفصيل بين المادّة والهيئة ، فقال بالظهور في النفسي من حيث الإطلاق وعدم البيان في مادّة الوجوب ، وبالانصراف في مدلول الهيئة ، ورام بذلك ظهور الثمرة فيما إذا وقع لفظ « الوجوب » في تلو الشرط ، فإنّه ينفي (1) الوجوب النفسي في طرف المفهوم فيما إذا كان الحكم في المنطوق إيجابيّا. بخلاف ما إذا وقع الأمر في تلو الشرط ، فإنّ المتبادر من المنطوق حينئذ بواسطة الانصراف هو الوجوب النفسي ، بخلاف الوجوب المنفيّ في طرف المفهوم.

ص: 334


1- في ( م ) : ينتفي.

وفساده على ما ذكرنا - من عدم الفرق بين المادّة والهيئة فيما إذا كان المراد منها إنشاء الوجوب - ظاهر. وأمثال هذه الكلمات لعلّها ناشئة من سوء التدبّر أو قلّته ، وإلاّ فما الّذي أوجب ارتكاب هذه المفاسد؟

فظهر ممّا مرّ : أنّه إذا كان دليل الواجبين لفظيّا ؛ نظرا إلى الأخذ بإطلاق المادّة يجب الحكم بكونهما واجبين نفسيّين. وأمّا إذا كان أحد الدليلين لفظيّا فيلحقه حكمه من الأخذ بإطلاق المادّة ، ويلزمه الحكم بالنفسيّة.

أمّا على تقدير أن يكون دليل الواجب المفروض لفظيّا فيحكم بكونه واجبا نفسيّا. وأمّا الغير ، فإن ثبت فهو تابع لدليله المفيد لوجوبه ، فإن كان الإجماع المفيد لوجوبه متحقّقا عند عدم الواجب أيضا فهو واجب نفسي أيضا ، وإلاّ فعند عدم الواجب الذي يحتمل اشتراطه به يحكم بعدم الوجوب ؛ لأصالة البراءة ، كما تقدّم.

وأمّا إذا كان دليل الغير لفظيّا دون دليل الواجب ، فإن تحقّق الإجماع على وجوبه - ولو عند سقوط التكليف من الغير - فلا شكّ في كونه واجبا نفسيّا ، وإن لم يقم إجماع على وجوبه ولو حال سقوط التكليف عن الغير ، فمرجع الشك إلى ثبوت التكليف به ، والأصل البراءة.

ويمكن إثبات الوجوب النفسي للواجب بعد العلم بوجوبه في الجملة مع الشكّ في كونه غيريّا أو نفسيّا بإطلاق الدليل الدالّ على وجوب الغير ، إذ لو كان ذلك واجبا غيريّا لوجب تقييد الإطلاق الأوّل ، وهو خلاف الأصل.

كذا أفاده الاستاذ ، ولعلّه لا يتمّ ، لا لما قد يتخيّل : من أنّ أصالة عدم التقييد لا يؤثّر في إثبات عنوان الوجوب النفسي للواجب لأنّها من الاصول التي يعوّل عليها وإن كانت مثبتة لما تقرّر في محلّه ، بل لأنّ الإطلاق لمّا كان ظهوره في الأفراد بواسطة عدم البيان فلا ينهض فيما إذا كان ما يصلح أن يكون بيانا موجودا في المقام ، فتأمّل.

ص: 335

المقام الثاني : في أنّه هل الاصول العمليّة تقضي بالنفسيّة أو الغيريّة فيما إذا كان دليل الواجب ودليل الغير كلاهما لبّيين؟

فنقول : إنّه تختلف الصور أيضا في ذلك ، فربّما يقضى بالنفسيّة ، كما إذا قلنا بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، فيثبت عدم اشتراط الواجب به ، فنقول بالبراءة قبل دخول الوقت وبالاشتغال بعده ، إذ هو واجب قطعا بعد دخول وقته ، إمّا لنفسه وإمّا لغيره.

نعم ، لو ترتّب فائدة على اشتراط الغيريّة (1) لا يحكم بواسطة حكمنا بالبراءة ، مثل بطلان الواجب على تقدير تأخّره عن الغير مثلا.

ثمّ إنّه لو انقضى وقت الغير وشكّ في وجوب الواجب باعتبار النفسيّة والغيريّة ، فالاستصحاب قاض بوجوبه على مذاق القوم. وقد يجب الأخذ بالاحتياط بالجمع بين ما علم بوجوب أحدهما نفسا والآخر بواسطة الغير مع اشتباه أحدهما بالآخر في الوقت أو بعده مع وجوب قضاء الآخر ، وإلاّ فيرجع الأمر إلى البراءة ، كما لا يخفى وذلك ظاهر جدّا.

تنبيه :

هل يجوز اتّصاف الواجب الغيري بالوجوب قبل وجوب الغير أو لا؟

وجهان ، قد تقدّم التحقيق فيهما فيما مرّ في الهدايات المتعلّقة بالوجوب الشرطي ، فراجعها. فلا حاجة إلى إطالة الكلام بإعادتها في المقام.

والموفّق هو اللّه وهو الهادي.

ص: 336


1- كذا ، والظاهر : الغير به.

هداية

اشارة

لا ريب في استحقاق العقاب عقلا على مخالفة الواجب النفسي ، ولا إشكال في ترتّب الثواب على امتثاله. ولا نعرف في ذلك خلافا بين العدليّة ، وإن كان قد يمكن المناقشة بعدم استقلال العقل على استحقاق الثواب على الامتثال فيما إذا فسّر الثواب بما يرجع إلى المنافع الاخرويّة ، لجواز الاكتفاء عنه بالنعم العاجلة. إلاّ أنّه لا منع في العقل عن ترتّبه في الآخرة ، فتحمل الأدلّة الدالّة على الثواب على ظاهرها من غير منافرة ولا حزازة.

وهل يصحّ ترتّب الثواب والعقاب على الواجبات الغيريّة ، بمعنى استحقاق الآتي بالواجب الغيري وتاركه على وجه الامتثال والمخالفة للثواب والعقاب عقلا مطلقا ، أو لا يترتّب مطلقا ، أو يفصّل بين ما إذا كان الوجوب الغيري مستفادا من خطاب أصليّ فيترتّب أو تبعي (1) فلا يترتّب ، أو يفصّل بين الثواب والعقاب ويقال بعدمه في الأوّل وبترتّبه في الثاني؟ وجوه ، بل لعلّه أقوال ؛ حيث ذهب جماعة إلى الأوّل.

منهم بعض أفاضل المتأخّرين في إشاراته ، قال : المشهور بين الاصوليّين ترتّب العقاب على ترك المأمور به شرعا على تقدير كون الأمر للوجوب. واستدلّ على ذلك بآية الإطاعة والعصيان. ثمّ أفاد بقوله : فما قيل من أنّ الواجبات الغيريّة واجبات اصطلاحيّة ومع ذلك لا عقاب عليها أصلا ، ليس على ما ينبغي. ثمّ قال :

ص: 337


1- في ( ع ) و ( م ) : بدل « أو تبعي » : وبين غيره.

وممّن عاصرناهم من قال - بعد تقسيم الواجب إلى الواجب لنفسه ولغيره - : وترك الأوّل موجب للعقاب على نفس الترك ، وأمّا الواجب الغيري فالّذي يقتضيه النظر أنّ تركه يوجب العقاب من حيث إفضائه إلى ترك ما هو علّة في إيجابه ، لا على تركه في نفسه ، لأنّ المطلوب حقيقة هو الواجب النفسي الّذي يتوقّف عليه ، وإنّما وجب هذا لأجل التوقّف (1).

ثمّ إنّه رحمه اللّه بعد ما نقل كلام معاصره إلى حيث ما أراد ، أفاد : ويرد عليه أنّ ما دلّ على ترتّب العقاب على مخالفة الأمر - كما مرّ - يعمّ القسمين ، فإنّ بحصول المخالفة فيهما يحصل العصيان وعدم الطاعة ، وهو المناط في ترتّب العقاب نظرا إلى ظاهر الأدلّة ، مع تأيّدها بالشهرة التامّة ، مع عدم مانع من بقائه على حاله عقلا وشرعا. فتعيّن بقاء الظواهر بحالها كما في الوضوء ونحوه ، فلو تركه وترك الصلاة يترتّب عليه عقابان. ولا ينافيه كون المصلحة في الواجب الغيري في الغير ، فإنّ المفروض أنّه مطلوب في مرتبة ذاته ، غاية الأمر مصلحته في الغير ونحوه يأتي في الواجب لنفسه ، انتهى (2). وهو كما ترى صريح في تعدّد الثواب والعقاب.

ومنهم السيّد الجليل البارع في المناهل (3) - على احتمال في كلامه - حيث إنّه في مقام إثبات الوجوب الشرعي للطهارات ونفي الوجوب الشرطي ، استند إلى أمرين :

أحدهما : أنّ الظاهر من لفظ « الوجوب » في عرف الأئمّة واصطلاح الفقهاء هو المعنى المصطلح عليه ممّا يترتّب على تركه الذمّ والعقاب.

الثاني : أنّه لو كان المراد هو الوجوب الشرطي لم يستقم قولهم : « الوضوء للصلاة الواجبة واجب » إذ الاشتراط به ثابت في المندوب منها أيضا.

ص: 338


1- إشارات الاصول ، الورقة : 44.
2- إشارات الاصول ، الورقة : 44.
3- لا يوجد لدينا.

فإنّ من المحتمل في كلامه أن يكون مراده نفي الوجوب الشرطي وإثبات الوجوب الشرعي في قباله - بمعنى أنّه مطلوب طلبا حتميّا - لا إثبات العقاب على تركه.

ويظهر من المحقّق القمّي التفصيل بين الخطاب الأصلي والتبعي. ولعلّه لا ينافي التفصيل بين الثواب والعقاب ، كما يشعر به أيضا كلامه ، لكنّه على خلاف ما اختاره الغزالي (1). قال : بل لا نضايق في ترتّب العقاب على ترك الوضوء من جهة خصوص الأمر به وإن كان وجوبه للغير ، كما هو مدلول أصل لفظ « الأمر » (2).

وعلّق بكلامه هذا ما هو لفظه : الذي ينادي بأنّ مرادهم في الوجوب الغيري هو الوجوب المصطلح وأنّه يترتّب على ترك المقدّمة العقاب إذا تعلّق به خطاب على حدة ، أنّهم قسّموا الوضوء والغسل وغيرهما إلى واجب ومندوب (3).

ثمّ إنّه دفع توهّم ما يقال بصدق الوجوب المصطلح على المقدّمة باعتبار ترتّب العقاب على ذيها : بأنّ الظاهر ترتّبه على نفس الواجب لا لغيره. وهو صريح في التفصيل المذكور مع إشعار بالتفصيل الآتي على العكس. وحكى عن الغزالي التفصيل بين الثواب والعقاب.

قال المحقّق القمّي : وأمّا المدح والثواب على فعلها فنقله بعض المحقّقين عن الغزالي. ولا غائلة فيه ظاهرا ، إلاّ أنّه قول بالاستحباب. وفيه إشكال ، إلاّ أن يقال باندراجه تحت الخبر العام في : « من بلغه ثواب على عمل فعمله

ص: 339


1- المستصفى 1 : 72.
2- القوانين 1 : 108.
3- المصدر المتقدم.

التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه » (1) فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ ، حتّى فتوى الفقيه. فتأمّل (2).

وقال فيما علّق على هذا المقام : إشارة إلى أنّه يخرج عن المستحبّ المصطلح الّذي تسامح في أدلّته ، لكنّه لا مانع من التزامه إلاّ تسديس الأحكام أو تسبيعه ، إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما هو في الأحكام الأصليّة فلا يضرّ حصول ذلك في التبعيّات (3).

وكيف كان ، فهذه جملة ما حضر عندنا من كلمات القائلين بالثواب والعقاب على اختلاف مشاربهم وتباعد مذاقهم.

والتحقيق عندنا هو القول الثاني ، والّذي يدلّ على ذلك هو : أنّ الحاكم بالثواب والعقاب إمّا العقل أو النقل ، وليس في شيء منهما دلالة على ذلك في المقام.

أمّا العقل فهو مستقلّ بعدم استحقاق الآتي بالمقدّمة للثواب غير ما يترتّب على ذيها ، فضلا عن حكمه باستحقاقه له. والسرّ في ذلك : أنّ الثواب على ما هو المعقول عندنا هو النفع المترتّب جزاء على فعل الطاعات ، فهو إذا من فروع الامتثال ، والمعقول من الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجه يكون الداعي إلى إيجاده هو الأمر ، والأمر الغيري لا يصلح لأن يكون هو الداعي إلى إيجاد ما تعلّق به ، فإنّ الشيء المطلوب بواسطة الغير من حيث إنّه مطلوب بالغير لا داعي إلى إيجاده إلاّ التوصّل إلى ذلك الغير ، فالمطلوب الحقيقي هو الغير والامتثال بمقدّماته ليس الامتثال بذلك الغير. وذلك ظاهر لمن راجع وجدانه وأنصف من نفسه. ويستكشف ذلك بملاحظة أوامر الموالي المتعلّقة بمراداتهم في الموارد المختلفة ، فإنّ

ص: 340


1- الوسائل 1 : 60 ، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.
2- القوانين 1 : 104.
3- راجع التعليق في القوانين 1 : 105.

العقلاء بكافّتهم مطبقون على أنّ الإتيان بواجب واحد يتوقّف على مقدّمات عديدة ولو بلغ ما بلغت إطاعة واحدة وامتثال واحد ، والتارك لواجب واحد وإن تعدّدت مقدّماته لم يعص إلاّ معصية واحدة ، ولا يترتّب على إطاعة واحدة أو معصية واحدة إلاّ جزاء واحد.

ولا فرق في ذلك في نظر العقل بين أن يكون المقدّمة ملحوظة في نفسها في ضمن خطاب أصليّ وبين أن لا يكون مدلولا عليها إلاّ بخطاب تبعيّ ، إذ تأثير الملاحظة التفصيليّة والتعبير عن مطلوبيّتها بعبارة مستقلّة فيما نحن بصدده غير معقول ، فإنّ مناط استحقاق الثواب والعقاب متعدّد بتعدّد (1) الإطاعة والعصيان ، والمفروض أنّهما متّحدان حينئذ أيضا. والقول بأنّ ذلك يوجب التعدّد فاسد جدّا ، كيف! وذلك تفصيل في نفس الأمر بالنسبة إلى سائر المقدّمات على القول بوجوبها ، كما ستعرف.

نعم ، يبقى في المقام نكتة التصريح بالبعض دون الآخر. والخطب فيه من أسهل الخطوب ، كما هو ظاهر.

وأمّا التفرقة بين الثواب والعقاب فلعلّه ممّا لا يرجع إلى طائل بالنظر إلى حكم العقل ، لما عرفت من إمكان المناقشة في استحقاق الثواب على فعل الطاعات النفسيّة ، فكيف يقال باستحقاق الثواب في الغيري دون العقاب؟

وأمّا النقل فغاية ما يمكن الاستناد إليه أمران :

أحدهما : الآيات الدالّة على ترتّب الثواب والعقاب بوجوب (2) الإطاعة والعصيان ، الشاملين بعمومها لجميع المطلوبات الشرعيّة غيريّا كان أو نفسيّا ،

ص: 341


1- في ( ع ) و ( م ) : تعدّده على تعدّد.
2- كذا ، والمناسب بدل « وجوب الإطاعة » : على الإطاعة.

كقوله : ( مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) (1) وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً ) (2) إلى غير ذلك.

والجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من عدم صدق الإطاعة والمعصية في الواجبات الغيريّة (3).

وثانيهما : الأدلّة الدالّة على ترتّب الثواب في خصوص بعض المقدّمات ، ويستكشف عن ذلك جواز ترتّبه عليها مطلقا ، فيكون من الطاعات ، أو يستند في الباقي إلى دعوى عدم الفصل ، وذلك مثل قوله تعالى : ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (4).

فإنّ دلالة الآية على ترتّب الثواب على المقدّمات التي يترتّب عليها الجهاد - من قطع البوادي وإنفاق الأموال وصرف المؤنات - ممّا لا ينبغي إنكارها.

مضافا إلى ما ورد في زيارة مولانا الحسين عليه السلام : من أنّه « لكلّ قدم ثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل » (5) وغيره من الأخبار الصريحة في ذلك على ما أوردها غوّاص بحار أنوار الأئمّة فيها (6).

ص: 342


1- النور : 52.
2- النساء : 14.
3- في ( ط ) زيادة : وذلك ظاهر.
4- التوبة : 120 - 121.
5- البحار 101 : 36 ، الحديث 48.
6- راجع البحار 101 : 28 ، باب أنّ زيارته عليه السلام تعدل الحج والعمرة والجهاد والاعتكاف.

وما ورد في ثواب الوضوء والغسل (1) وغير ذلك.

والإنصاف أنّ منع ظهور هذه الروايات أو دلالتها على ترتّب الثواب على فعل المقدّمات ممّا لا وجه له. إلاّ أنّه مع ذلك لا دلالة فيها على المدعى ، إذ المقصود في المقام إثبات الاستحقاق ، ولا أثر من ذلك فيها. فلعلّه مستند إلى فضل الربّ الكريم ، فإنّ الفضل بيده يؤتيه من يشاء.

مع أنّ من المحتمل أن يقال (2) : إنّ الثواب المترتّب عليها في هذه المقامات في الحقيقة هو الثواب المترتّب على فعل ذي المقدّمة. ولكنّه إذا وزّع على الأفعال الصادرة من المكلّف في تحصيله يكون لكلّ واحد من أفعاله شيء من الثواب ، نظير ما يقول التاجر المسافر الساعي في تحصيل الأرباح عند توزيعه : ما حصل له على أيّام مسافرته.

ولا يخفى أنّ هذا احتمال قريب (3) ، وممّا يؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من ترتّب الثواب على الأقدام بعد المراجعة من الزيارة الحسينيّة عليه السلام (4) ، فإنّها ليست من المقدّمات جدّا ولا سيّما بملاحظة أنّ ثوابها ضعف ثواب الرواح ، كما لا يخفى.

لا يقال : لو كان الثواب المترتّب على فعل المقدّمات هو الثواب المترتّب على ذويها من دون مدخليّة لها فيه يلزم مساواة زيارة البعيد والقريب.

لأنّا نقول : لا ريب في أنّ عسر المقدّمات يوجب ازدياد ثواب الواجب ، فانّ أفضل الأعمال أشقّها ، ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا سترة عليه جدّا.

ص: 343


1- الوسائل 1 : 263 ، الباب 8 من أبواب الوضوء ، والصفحة 269 ، الباب 11 منها ، الحديث 3 ، والصفحة 466 ، الباب 2 من أبواب الجنابة ، الحديث 3.
2- في ( ط ) زيادة : احتمالا ظاهرا.
3- لم ترد عبارة « ولا يخفى أنّ هذا احتمال قريب » في ( ط ).
4- انظر كامل الزيارات : 132 - 135 ، الباب 49 ، والصفحة 144 ، الباب 57.

فان قلت : لا ريب في استحقاق المدح لمن ارتكب المقدّمات وإن لم يات بالواجب ، وذلك يكشف عن خلاف ما ذكرته.

قلت : نعم ، ولكنّه لا يجديك شيئا ، إذ العقلاء يحاولون بمدحهم الآتي بالمقدّمة الكشف عن حسن سريرته وعدم كدورة طينته ، وأين ذلك من استحقاق الثواب على فعل المقدّمة؟ وذلك نظير ما نبّهناك عليه في الانقياد والتجرّي (1).

فإن قلت : قد ذكر بعض المتكلّمين (2) : أنّ كلّ فعل قصد به الإطاعة ففاعله يستحقّ الثواب عليه ، والمقدّمة لا تنقص عن أحد الأفعال المباحة ، فإذا فرض ترتّب الثواب عليها فترتّبه عليها بطريق أولى.

قلت : إن اريد بذلك من حيث دخول المباح تحت عنوان المطلوب نفسا فهو مسلّم ولكنّه غير مفيد إذ لا إشكال في ترتّب الثواب على المطلوبات النفسيّة ، فالمضاجعة مثلا تصير مطلوبة نفسيّة (3) لو وقعت على وجه قضاء حاجة الزوجة المؤمنة ، إلى غير ذلك من العناوين المطلوبة. وإن اريد بذلك ولو مع قطع النظر عن اندراجه تحت عنوان مطلوب فغير سديد ، ضرورة عدم تحقّق الإطاعة إلاّ بعد تحقّق الأمر والإرادة ، وعند عدمه - كما هو المفروض - لا سبيل إلى التزام وجود الإطاعة وصدقها.

والعجب من بعض المحقّقين! حيث إنّه جنح إلى إثبات الثواب بمثل ما ذكرناه في السؤال.

وممّا ذكرنا تقدر على استخراج مواضع النظر فيما أفاده بعض الأجلّة ، حيث إنّه ردّد في المقام بين أن يكون المراد بالثواب هو الاجرة أو المدح ، فقال : إن أرادوا

ص: 344


1- راجع فرائد الاصول 1 : 39.
2- تقدّم كلامهم في الصفحة 300.
3- في ( ع ) : مطلوبا نفسيّا.

بالثواب أمرا غير المدح والقرب فربّما كان له وجه ؛ نظرا إلى أنّ العقل لا يستقلّ بإثباته في جميع موارده ، وثبوته في بعض الموارد شرعا - كالسير إلى الجهاد ونحوه - لا يثبت الكلّيّة ، وقوله تعالى : ( لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ) (1) لا دلالة له على تعيين أثر غيرهما. وإن أرادوا الأعمّ فترتّب الأوّل - أعني المدح - ممّا لا ريب فيه ، بشهادة العقل والعادة. ثمّ استشهد لذلك بحسن تعليل المدح بالفعل. ثمّ قال :

وكذا الأمر الثاني أعني القرب ، واستند في ذلك إلى صدق الإطاعة والانقياد المستلزمين للقرب (2).

ووجه النظر هو : أنّه ما أجاد في حكمه بعدم استقلال العقل على ترتّب الثواب بمعنى الأجر ، إذ التحقيق على ما عرفته هو استقلاله بعدمه ؛ على أنّ الترديد في الثواب في غير محلّه ، فإنّ المراد به - على ما هو صريح المتكلّمين (3) - هو العوض ، فيكون اجرة. مضافا إلى أنّ نفي ظهور الآية في الأجر على تقدير عدم استقلال العقل خلاف الإنصاف ، كما ارتكبه ، فإنّ ظهورها ممّا لا ينكر. بل التحقيق في ردّها هو : ما عرفت من لزوم تأويلها بعد مخالفتها لصريح العقل. مع أنّ الوجه في ترتّب المدح هو ما عرفته من ملاحظة العقلاء في ذاته سريرة طيّبة ، وذلك ظاهر بعد ما عرفته.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ القول بأنّ « فعل المقدّمة يوجب الثواب وتركها لا يورث العقاب » قول باستحباب المقدّمة ، إذ لا يعقل أن يكون الفعل موجبا لاستحقاق الثواب وتركه لا يوجب عقابا مع كونه واجبا ، فهو إمّا قول بالاستحباب وهو باطل ، إذ لا قاضي به ، فإنّ الطلب الاستحبابي لا يستفاد من

ص: 345


1- آل عمران : 195.
2- الفصول : 87.
3- راجع شرح تجريد العقائد ( للقوشجي ) : 350 ، وكشف المراد : 319 - 320.

وجوب ذيها ولا من غيره لانتفائه. وإمّا قول بتسبيع الأحكام - كما (1) أفاده المحقّق القمّي (2) - إذ القاضي بالحكم المذكور هو وجوب ذيها ، وحيث إنّه ليس وجوبا لعدم استحقاق العقاب على فعله بنفسه ، ولا ندبا لعدم ما يقضي به ، فلا بدّ أن يكون قسما سادسا. وبمثله نقول في الموانع ، فلا يكون محرّما لعدم ترتّب العقاب على فعلها امتثالا (3) وترتّب الثواب على تركها ، ولا مكروها لعدم ما يقضي به ، فهو قسم سابع. وليس مراده أنّه وجوب ظاهريّ لا واقعيّ - كما يظهر منه في بعض المباحث - إذ على تقديره فاللازم تعشير الأحكام ، مع أنّه لا محذور كما لا يخفى.

وأمّا ما قد يدفع عن ذلك باختلاف حدّي الوجوب الغيري والنفسي - كما تكلّفه بعض الأجلّة (4) - فليس يجدي شيئا بعد ما عرفت أنّ الكلام في الاستحقاق ، ولا يعقل التفرقة في الوجوب بين أحد لازميه كما صنعه.

وأمّا ما أفاده (5) من استناد استحباب المقدّمة إلى قاعدة التسامح فهو تسامح في إصابة الواقع ، إذ بعد الغضّ عن شمول الأخبار لمثل فتوى الفقيه أوّلا ثمّ لفتوى مثل الغزالي - كما لعلّه تفطّن له ، كما يشعر به قوله : فتأمّل - فهو ممّا ليس ينبغي ، إذ الكلام مع الغزالي القائل بهذه المقالة الفاسدة ، فالنزاع إنّما هو في أمر واقعي يدّعيه الغزالي ، ونحن ندّعي أنّ الواقع على خلافه. وليس المقام من موارد إثبات الحكم المتنازع فيه بالتسامح.

نعم ، إذا فرض البحث مع غيره فيمكن لمدّعي الاستحباب الاستناد إلى قول

ص: 346


1- في ( ط ) : على ما.
2- تقدّمت عبارته في الصفحة 340.
3- لم يرد « امتثالا » في ( ط ).
4- وهو المحقّق القمّي كما تقدّم في الصفحة 339.
5- أي المحقق القمي ، كما تقدّم في الصفحة 340.

الغزالي به ، من حيث إنّه قد أفتى بالاستحباب لا من حيث إنّه مقدّمة. وأمّا ما التزم به في الحاشية : من أنّه لا مانع من التسبيع في الأحكام التبعيّة ، فممّا لا يرجع إلى طائل ؛ لعدم الفرق بين الأحكام الأصليّة وغيرها أصلا ، إذ الحصر في الخمسة بعد ملاحظة الاستحقاق واقعي ، فلا يعقل قسم سادس أو سابع.

وينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : لا يستبعد دعوى معلوميّة ترتّب الثواب على فعل الطهارات الثلاث شرعا ، فإنّ الأخبار في ذلك فوق حدّ الاستفاضة (1).

وكأنّه ممّا لم يقع فيه الخلاف أيضا ، فيشكل الأمر نظرا إلى ما مرّ من استقلال العقل بعدم الاستحقاق. ولا سبيل إلى دفعه بمثل ما دفعناه في مطلق المقدّمات : من احتمال التفضّل أو التوزيع ، إذ لعلّه يأباه مساق الأخبار الدالّة على ذلك. وقد عرفت فساد توهّم الفرق بين الخطاب الأصلي وغيره أيضا.

ويمكن التفصّي عن ذلك : بأنّ الطهارات ليس ممحّضة في التوصّليّة ، بل لها جهات نفسيّة ؛ فإنّها عبادات في أنفسها مستحبّة في حدود ذواتها ، وإن كان قد يعرض لها الوجوب التبعي ، فلا ينافي ترتّب الثواب عليها على وجه الاستحقاق.

إلاّ أنّه مع ذلك لا ينهض بدفع الإشكال ، إذ ليس الكلام في الطهارة التي تقع على وجه المطلوبيّة النفسيّة ، بل الكلام فيما هي مقدّمة للصلاة الواجبة مثلا ، وبعد عروض الوجوب على ما هو المفروض يمتنع بقاء المطلوبيّة النفسيّة ، لطريان ما هو أقوى منها

ص: 347


1- انظر الوسائل 1 : 263 ، الباب 8 من أبواب الوضوء ، والصفحة 265 ، الباب 9 من أبواب الوضوء ، والصفحة 466 ، الباب 2 من أبواب الجنابة ، الحديث 3 ، والمستدرك 1 : 294 ، الباب 8 من أبواب الوضوء ، والصفحة 296 ، الباب 9 منها ، والصفحة 450 ، الباب 2 من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.

تأثيرا وأشدّ مطلوبيّة ، فلا يعقل ترتّب الثواب عليها بعد عروض الوجوب ، إذ لو لم يكن قاصدا إلى الجهة النفسيّة لم يقع على وجه الامتثال ، فلا يستحقّ ثوابا عليها ، وبعد ارتفاع الأمر النفسيّ - ولو بواسطة طريان الأمر الوجوبي الغيري - لا يعقل ان يكون الداعي إليها هو الأمر ؛ لانتفائه ، فلا امتثال.

ويمكن أن يقال في دفعه : بأنّ ارتفاع الطلب تارة يكون بواسطة ارتفاع ما هو الوجه في طلبه كانقلاب المصلحة الموجبة له مفسدة ، واخرى يكون بواسطة طريان ما هو أقوى منه ، فإنّ ارتفاعه إنّما يكون بواسطة امتناع اجتماع الأمثال ونحوه. والفرق بين الوجهين ظاهر. والقدر المسلّم من عدم استحقاق الثواب عند ارتفاع الطلب إنّما هو فيما إذا كان ارتفاعه على الوجه الأوّل. وأمّا إذا كان على الوجه الثاني فلا نسلّم أنّه لا يستلزم ثوابا ؛ لأنّ لحوق المرتبة القويّة للمرتبة الضعيفة إنّما ينافيها من حيث تحدّدها بحدّ ضعيف وتشخيصها بتشخيص قاصر ، وذلك لا مدخل له فيما هو مناط الطلب على ما هو ظاهر. فعروض الوجوب لا ينافي الطلب الموجود بواسطة جهة نفسيّة ، بل يؤكّده ، فيصحّ القصد إليه بوجوده ولو على وجه قويّ.

وذلك أيضا لا يدفع الإشكال ؛ إذ لا أقلّ من أن يكون اللازم على ذلك التقدير هو القصد إلى الطلب النفسي ولو في ضمن الطلب الوجوبي ، والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتّب الثواب على الطهارات وإن انحصر الداعي إلى إيجادها في الأمر المقدّمي على وجه لو لم يعلم باستحبابها النفسي أيضا يكون كافيا في ذلك. على أنّ الاستحباب النفسي في التيمّم لعلّه ممّا لا دليل عليه وإن كان قد يستفاد من بعض الروايات ، إلاّ أنّه ممّا لم يعتمد عليه أحد ظاهرا. وبالجملة ، فالقول بأنّ الثواب من جهة عموم فضله وسعة رحمته أو احتمال التوزيع لعلّه أقرب ، فتأمّل.

ص: 348

الأمر الثاني : قد عرفت فيما تقدّم أنّ النسبة بين الواجب الغيري والتعبّدي عموم وخصوص من وجه ؛ لافتراق الأوّل في غسل الثوب ، والثاني في الصلاة ، واجتماعهما في المقدّمات العباديّة التي يشترط فيها نيّة القربة كالطهارات الثلاث ، فإنّها كما أطبقوا على كونها ممّا يترتّب عليها الثواب - كما هو منشأ الإشكال في الأمر الأوّل - كذلك أطبقوا على كونها عبادة مشروطة بقصد القربة.

ويشكل : بأنّ القربة عبارة - على ما عرفت مرارا - عن الإتيان بالفعل بواسطة الأمر ، ولا مصحّح لها في الأوامر المقدّميّة ، إذ الأمر المقدّمي لا يعقل أن يكون مستتبعا لذلك ، ضرورة معلوميّة الغرض الداعي إلى المقدّمة ، وهو التوصّل بها إلى ذيها ، وبعد العلم بأنّ المقصود والغرض هو التوصّل لا معنى للقول بوجوب الإتيان بالمقدّمة على وجه القربة.

والسرّ في ذلك أيضا هو ما عرفت : من أنّ امتثالها تابع لامتثال ذيها ، كما أنّ وجوبها على القول به وجوب تبعي منتزع من وجوب ذيها ، وهو لا يستتبع امتثالا ولا قربة ، كما لا يوجب ثوابا.

ويمكن التفصّي عن هذا الإشكال بوجوه :

أحدها : أنّها مطلوبات نفسيّة ومندوبات ذاتيّة يصحّ قصد التعبّد بها من حيث مطلوبيّتها النفسيّة.

وذلك فاسد جدّا ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ التيمّم - على ما هو المشهور - ممّا لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيّا ، فالإشكال فيه باق.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك غير مجد فيما نحن بصدده ، إذ لا إشكال في صحّة قصد القربة فيما هو المطلوب النفسي ، والكلام إنّما هو في قصد التعبّد بالمقدّمة من حيث إنّها مقدّمة ، فالوضوء لأجل الصلاة لا بدّ وأن يكون على وجه القربة بواسطة الأمر المقدّمي.

وتوضيحه : أنّه تارة يستشكل في أنّ العبادة كيف تكون مقدّمة مع تنافي

ص: 349

قضيّة كلّ منهما للآخر ، حيث إنّ المقدّميّة لا تقتضي إلاّ التوصّليّة ، والعباديّة قاضية بالتعبّديّة ، وهما متنافيان متباينان ، على ما عرفت في تحديدهما. فيجاب بأن لا تنافي بينهما لاختلاف الجهة ، حيث إنّ الأمر المقدّمي متأخّر اعتباره في العبادة عن الأمر الّذي تعلّق بها وبه صارت عبادة ، كما لو فرض اشتراط الصلاة بعبادة خارجة مستقلّة مأمور بها في حيال ذاتها كالصوم مثلا ، إذ لا ضير في ذلك ، فإنّ المصحّح للعباديّة فيها هو الأمر الأوّل ، والاشتراط قاض بمقدّميّة العبادة المفروضة من غير غائلة.

واخرى يستشكل في أنّ الأمر المقدّمي كيف يقضي بالتعبّديّة من حيث إنّها مقدّمة بعد معلوميّة الغرض من الأمر بها كما هو مناط الإشكال في المقام؟ والجواب المذكور لا ينهض بدفعه ، لاتّحاد جهتي التعبّد والتوصّل حينئذ ، كما لا يخفى.

الثاني : أنّ المقدّمة التي تكون عبادة ليست من الأفعال العاديّة (1) التي تعلم بارتباط ذيها بها على نحو معلوميّة ارتباط الصعود على السطح بمقدّماته التي يتوقّف عليها ، فإنّ المعلوم عندنا من الصلاة ليس إلاّ نفس الحركات والسكنات ، ونحن لا نعقل توقّفا لهذه الصورة على الأفعال الواقعة عند تحصيل الطهارات (2). نعم ، بعد ما كشف الشارع الحكيم عن توقّف الصلاة عليها لا بدّ من إيجادها للتوصّل بها إليها ، وحيث إنّ الأفعال الواقعة في الطهارات أيضا ممّا لا نعرف منها إلاّ الحركة الخاصّة ، فلا بدّ أن يكون الداعي إلى إيجادها هو توقّف الصلاة عليها في نظر الآمر ، كما أنّه لا بدّ من إيجاد هذه الحركات على وجه يكون في الواقع ممّا يترتّب عليها فعل الصلاة. ولا سبيل لنا إلى العلم بذلك إلاّ أن تقع هذه الحركات على وجه تعلّق الأمر بها ، ولا نعني بالقربة إلاّ ذلك.

ص: 350


1- في ( ع ) و ( م ) : العباديّة.
2- في ( ط ) زيادة : كما لا يخفى.

وتوضيحه : أنّ الفعل الواحد قد يختلف وجوهه ، وذلك يلازم اختلاف مصالحه ومفاسده كما هو المقرّر في مقامه ، فتارة يكون الفعل معنونا بعنوان حسنا وبعنوان آخر قبيحا ، فإن علمنا بالعنوان القبيح والحسن فهو ، ويكون الفعل حينئذ من الواجبات العقليّة فعلا أو تركا. وإن لم نعلم بذلك مع العلم بأنّ الشارع لا يأمرنا إلاّ بما هو الحسن واقعا من عناوين معتورة على ذات الفعل ، وحيث إنّه لا علم لنا به بخصوصه فيجب اتّباع الأمر في ذلك للوصول إلى العنوان الحسن واقعا ، لأنّ الأمر حينئذ مرآة لذلك العنوان. وعلى قياس ذلك عنوان المقدّميّة ، فإنّ ذوات الحركات الخاصّة ربّما لا تكون محصّلة لما هو المقصود بالأمر بها ، فلا بدّ من قصد الحركة التي امر بها لأجل الصلاة تحصيلا للمقدّمة لأن يلاحظ مطلوبيّة تلك المقدّمة ، وتوقّف المأمور به عليها عنوان إجمالي لما هو المتوقّف عليها ومرآة لها.

وبالجملة ، فنحن لا ندّعي في الطهارات أنّ الأمر المقدّمي فيها يقضي بالتعبّديّة حتّى يقال بفساده قطعا ، مع أنّه لو صحّ ذلك لكان جاريا في المقدّمات التي نقطع بانتفاء ذلك فيها. بل نقول : إنّ ذلك إنّما هو من قبل نفس المقدّمة ، حيث إنّها لا نعرف وجه التوقّف فيها.

كذا افيد ، ولكنّه منقوض بجملة من المقدّمات الشرعيّة التي لا نعرف وجه التوقّف فيها أيضا ، فإنّ ذلك غير مختصّ بالطهارات كما لا يخفى ، فتدبّر.

الثالث : أنّك قد عرفت فيما تقدّم (1) أنّ الأوامر العباديّة من حيث تعلّقها بمتعلّقاتها يغاير الأوامر التوصّلية ، حيث إنّ نفس الأمر واف بتمام المقصود في الثاني دون الأوّل ، فلا بدّ فيه من بيان زائد على أصل الفعل المطلوب بالطلب المستفاد من الأمر أوّلا. ولا فرق في ذلك بين المقدّمة وذيها ، فما هو المصحّح لأحدهما مصحّح للآخر من غير حاجة إلى القول باستفادة التعبّديّة من الأمر المقدّمي.

ص: 351


1- راجع الصفحة 297 - 298.

وتوضيحه : أنّه كما يمكن أن يكون الفعل ذا مصلحة على تقدير الامتثال به ، فيجب على المريد لإيصال تلك المصلحة إلى المكلّف أن يأمره أوّلا بذلك الفعل ثم يبيّن له أنّ المقصود هو الامتثال بذلك الأمر ، كذلك يمكن أن يكون الفعل موقوفا على عنوان بشرط أن يكون الداعي إلى إيجاد ذلك العنوان هو توقّف ذلك الفعل عليه ، فهو بحيث لو وجد في الخارج ولم يكن الداعي إليه ترتّب الغير عليه لا يكون موقوفا عليه ، وإذا وجد في الخارج على الوجه المذكور يترتّب عليه الغير ، فالطالب لوجود ذي المقدّمة ، له أن يحتال في ذلك بأن يأمر أولا بذيها ويلزم من ذلك الأمر بما هو مقدّمة له في الواقع ، وهو الفعل المقدّمي على الوجه المذكور ، إلاّ أنّه حيث لا يمكن له الاكتفاء بذلك الأمر فيحتال بالقول بأنّ المطلوب موقوف على ذلك الفعل على وجه يكون الداعي إلى إيجاده هو التوقّف المذكور.

فما يقتضيه الأمر (1) المقدّمي في الحقيقة ليس هو إلاّ التوصّل بالموقوف الذي هو الواجب النفسي ، غاية الأمر أنّ ذات المقدّمة حينئذ - حصولها وتكوّنها في الخارج - موقوفة على القصد المذكور ، فلا بدّ من طلب آخر من سنخ طلب المقدّمة ، لا أن يكون طلبا نفسيّا ليلزم ما أوردناه على الوجه الأوّل ليصحّ الطلب المذكور.

ولتكن على بصيرة من ذلك لعلّك تطّلع على وجه آخر في التقصّي عن هذه العويصة. ولله التوفيق والهداية.

ص: 352


1- في ( ع ) و ( م ) : فما يقضى بالأمر :

هداية

زعم صاحب المعالم - على ما يوهمه ظاهر عبارته في بحث الضدّ - توقّف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير ، وقال : وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر (1).

وربّما يقال في توجيهه : إنّ وجوب المقدّمة لمّا كان متمحّضا في التوصّليّة نظرا إلى انحصار حكمة وجوبه في التوصّل بها إلى ذيها ، فعند وجود الصارف وعدم الداعي إلى المأمور به لا دليل على وجوبها. ونحن بعد ما أعطينا النظر في الأدلّة الناهضة على وجوب المقدّمة حقّ النظر واستقصينا التأمّل فيها ما وجدنا رائحة من ذلك فيها ، كيف! وإطلاق وجوب المقدّمة واشتراطها تابع لإطلاق وجوب ذيها واشتراطه. ولا يعقل اشتراط وجوب الواجب بإرادته ؛ لأدائه إلى إباحة الواجب ، فما يدلّ على وجوب ذيها عند عدم إرادته فهو دليل على وجوب المقدّمة أيضا ، والحجّة المفروضة القائمة على وجوب المقدّمة جارية بعينها حال الإرادة وعدمها من غير فرق في ذلك.

وبالجملة ، فلا إشكال في فساد التوهّم المذكور.

وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالواجب الغيري لأجل التوصّل به إلى الغير أو لا؟ وجهان ، أقواهما الأوّل.

ص: 353


1- معالم الدين : 71.

وتحقيق المقام هو : أنّه لا إشكال في أنّ الأمر الغيري لا يستلزم امتثالا - كما عرفت في الهداية السابقة (1) - بل المقصود منه مجرّد التوصّل به إلى الغير ، وقضيّة ذلك هو قيام ذات الواجب مقامه وإن لم يكن المقصود منه التوصّل به إلى الواجب ، كما إذا أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق ، الموقوف على تحصيل الثمن ، ولكنّ العبد حصّل الثمن لا لأجل شراء اللحم بل بواسطة ما ظهر له من الامور الموقوفة عليه ، ثمّ بدا له الامتثال لأمر المولى ، فيكفي له في مقام المقدّميّة الثمن المذكور من غير إشكال في ذلك ، ولا حاجة إلى إعادة التحصيل ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

إنّما الإشكال في أنّ المقدّمة إذا كانت من الأعمال العباديّة التي يجب وقوعها على قصد القربة - كما مرّ الوجه فيها بأحد الوجوه السابقة - فهل يصحّ في وقوعها على جهة الوجوب أن لا يكون الآتي بها قاصدا للإتيان بذيها؟

ومن فروعه : ما إذا كان على المكلّف فائتة (2) ، فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها ولا قاصدا لإحدى غاياته المترتّبة عليه ، فيما إذا جوّزنا قصدها في وقت التكليف به واجبا - كما هو المفروض - فإنّه على المختار لا يجوز الدخول به في الصلاة الحاضرة ولا الفائتة إذا بدا له الدخول إليها ، وعلى الثاني يصحّ.

ومن فروعه أيضا : ما إذا اشتبهت القبلة في جهات وقلنا بوجوب الاحتياط - كما هو التحقيق - فلو صلّى في جهة غير قاصد للإتيان بها بالجهات الباقية ، على ما اخترناه يجب عليه العود إلى تلك الجهة ، وعلى الثاني يجزئ في مقام الامتثال إذا لحقها الجهات الأخر. وقد نسب الثاني إلى المشهور ، ولم نتحقّقه.

وما يمكن الاستناد إليه في تقريب مرادهم هو : أنّ الوضوء ليس إلاّ مثل

ص: 354


1- راجع الصفحة 340.
2- في ( ع ) و ( م ) بدل « فائتة » : طهارة مائيّة.

الصلاة في لحوق الطلب الإيجابي بهما ، غاية الأمر أنّ الداعي إلى إيجاب الواجب الغيري هو التوصّل به إلى الغير ، والداعي إلى إيجاب الصلاة هو وجوب نفس الصلاة ، ولا دليل على لزوم قصد دواعي الأمر في الامتثال.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ ذلك فاسد ؛ إذ بعد ما عرفت من تخصيص النزاع بما إذا اريد الامتثال بالمقدّمة نقول : لا إشكال في لزوم قصد عنوان الواجب فيما إذا اريد الامتثال بالواجب وإن لم يجب الامتثال ، ولا ريب في عدم تعلّق القصد بعنوان الواجب فيما إذا لم يكن الآتي بالواجب الغيري قاصدا للإتيان بذلك الغير ، فلا يتحقّق الامتثال بالواجب الغيري إذا لم يكن قاصدا للإتيان بذلك ، وهو المطلوب.

أمّا الأوّل ، فقد عرفت فيما تقدّم أنّ الامتثال لا نعني به إلاّ أن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل هو الأمر ، ويمتنع دعاء الأمر إلى عنوان آخر غير ما تعلّق به الأمر ، لعدم الارتباط بينهما ، فلو كان الداعي هو الأمر يجب قصد المأمور به بعنوانه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحاكم بالوجوب الغيري ليس إلاّ العقل ، وليس الملحوظ عنده في عنوان حكمه بالوجوب إلاّ عنوان المقدميّة والموقوف عليه ، وهذه الجهة لا تلحق ذات المقدّمة إلاّ بملاحظة ذيها ، ضرورة كونها من العناوين الملحوظة باعتبار الغير ، فالإتيان بشيء على جهة المقدميّة للغير يمتنع انفكاكه عن قصد الغير ، وإلاّ لم يكن الداعي هو الأمر اللازم من أمر الغير.

وبعبارة اخرى : أنّ ذات المقدّمة معنونة بعنوانات كثيرة ، منها المقدميّة ، وهذا هو عنوان وجوبها الغيري ، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان ، لما قرّر فيما تقدّم. وقصد عنوان المقدّمة (1) على وجه يكون الداعي إلى إيجاده ملاحظة المنفعة في هذا العنوان لا يعقل بدون قصد الغير ، إذ لا يعقل القصد

ص: 355


1- في ( ع ) : المقدّميّة.

إلى شيء يترتّب عليه فائدة لأجل تلك الفائدة بدون أن يكون تلك الفائدة مقصودة ، لكونه تناقضا.

ولعلّ ذلك هو مراد كلّ من حكم بوجوب قصد الاستباحة في الوضوء ، إذ لا يظهر من الاستدلال بالآية الشريفة ( إِذا قُمْتُمْ ) (1) الآية ... إلاّ الإتيان بالوضوء لأجل الصلاة (2) ، ولا يظهر (3) منها الدلالة على قصد الاستباحة مع عدم إرادة الصلاة ، كما لا يخفى. وأمّا اشتراط رفع الحدث ، فمرجعه أيضا إلى ذلك لو لم نقل بأنّ الحدث هي الحالة المانعة عن الدخول فيما يشترط بالطهارة. وأمّا إذا قلنا بأنّها من الامور الانتزاعيّة عن الأحكام التكليفيّة فرجوعه إلى ذلك ظاهر.

ومن هنا يظهر أنّ نسبة القول الثاني إلى المشهور لعلّها في غير محلّها ، فتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر اشتراط وقوع المقدّمة على صفة الوجوب والمطلوبيّة بقصد الغير المترتّب عليها ، لما عرفت. ويكشف عن ذلك ملاحظة الأوامر العرفيّة المعمولة عند الموالي والعبيد ، فإنّ الموالي إذا أمروا عبيدهم بشراء اللحم الموقوف على الثمن ، فحصّل العبد الثمن لا لأجل اللحم ، لم يكن ممتثلا للأمر الغيري قطعا ، وإن كان بعد ما بدا له الامتثال مجزيا ، لأنّ الغرض منه التوصّل.

ولمّا كان المقدّمة العباديّة ليست حالتها مثل تلك المقدّمات في الاكتفاء بذات المقدّمة عنها ، وجب إعادتها كما في غيرها من العبادات ، فلا يكاد يظهر الثمرة في هذا النزاع في المقدّمات الغير العباديّة - كغسل الثوب ونحوه - ضرورة حصول ذات الواجب وإن لم يحصل فيه الامتثال على وجه حصوله في الواجبات الغيريّة.

ص: 356


1- المائدة : 6.
2- في ( ط ) زيادة : إلاّ ذلك.
3- في ( ع ) : فلا يظهر.

نعم ، يظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدّمي على حكمه السابق. فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كان مقدّمة لإنقاذ غريق ، بل يقع واجبا سواء ترتّب عليه الغير أو لا. وإن قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم يكن قاصدا لإنقاذ الغريق. كذا أفاد الاستاذ.

ولقائل أن يقول : إنّ قضيّة الوجوب الغيري لا تزيد على أنّ المعتبر في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب أن لا يكون الآتي بها قاصدا لعدم الغير ، أو يكون غير ملتفت إليه ، وأمّا أنّه لا بدّ من أن يكون قاصدا لوقوع الغير جزما فلا نسلّم أنّه ممّا يقضي به الوجوب الغيري ، بل الإتيان بالمقدّمة على وجه احتمال ترتّب الغير عليه ممّا يكفي في وقوعها على صفة الوجوب. ويظهر الثمرة فيما إذا أتى بالمقدّمة رجاء لأن يترتّب عليها الغير ، فإنّها صحيحة بناء على ما ذكرنا ، بخلاف ما لو قلنا بما أفاده الاستاذ ، فليتأمّل.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت من عدم وقوع المقدّمة العباديّة على صفة الوجوب فيما إذا لم يكن الآتي بها قاصدا للغير ، فهل يجزئ في ترتّب ذلك الغير الّذي لم يكن مقصودا عليها فيما إذا كان الآتي قاصدا لغيره ممّا يترتّب عليها ويصحّ القصد إلى غيره - كما هو ظاهر في الوضوء (1) إذا أتى به المكلّف غير قاصد للصلاة مع القصد إلى غاية اخرى ممّا يترتّب عليه ، كالطواف وقراءة القرآن ونحو ذلك - أو لا يجزئ عنه ولا يصحّ القصد إلى غيره فيما إذا كان واجبا والغير مندوبا؟ وجهان.

فعلى الأوّلى - كما عن المشهور ، على ما نسبه جمال المحقّقين (2) - يصحّ الوضوء بعد دخول الوقت مع عدم إرادة الصلاة فيما إذا اريد به الكون على الطهارة.

ص: 357


1- في ( ط ) : كما أنّ الوضوء.
2- انظر الحواشي على اللمعة : 30.

وعلى الثاني ، لا يصحّ على ما ذهب إليه جمع من الأصحاب (1).

والتحقيق في المقام ان يقال : أمّا حديث إجزاء المقدّمة التي يراد بها غاية اخرى غير الغاية الغير المقصودة عنها - كما في الوضوء إذا قصد به الكون على الطهارة أو غيره عن الوضوء للصلاة - فمبنيّ على اتّحاد حقيقة تلك المقدّمة وعدم اختلاف ماهيّتها باختلاف ذويها (2) ، كما هو كذلك في الوضوء ، على ما استظهرناه من الأخبار الواردة فيه ؛ ولذلك نقول بكفاية الوضوء لأجل غاية واحدة عن الوضوء في جميعها ، لأنّ المقدّمة بعد ما كانت حاصلة لا وجه للأمر بإيجادها ثانيا.

لا يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كانت المقدّمة من المقدّمات التوصليّة كما في غسل الثوب. وأمّا إذا كانت عبادة كما في الوضوء ، فمجرّد حصولها لا يكفي عمّا هو المقصود منها من حصول التعبّد بها وقصد التقرّب منها.

لأنّا نقول : لا ينافي كونها عبادة ؛ لما ذكرنا من حصولها.

وتحقيقه : أنّ كون فعل عبادة تارة يلاحظ بالنسبة إلى الأمر الذي تعلّق به وصار بملاحظة ذلك الأمر عبادة من حيث إنّ المطلوب الحقيقي فيه الامتثال. وتارة يلاحظ بالنسبة إلى الامتثال الّذي صار لأجله الفعل عبادة. فبملاحظة نفس الفعل نقول بكونه تعبّديّا ، وأمّا مطلوبيّة الامتثال بذلك الفعل فمن المعلوم أنّه واجب توصّلي ومطلوب غير تعبّدي يسقط بمجرّد حصوله في الخارج من غير توقّف على شيء آخر. فما هو المطلوب من الوضوء وهو وقوعه على وجه العبادة ، ووقوعه على ذلك الوجه مطلوب توصّلي لا ينافي كون الفعل المطلوب بواسطة الامتثال به واجبا

ص: 358


1- منهم الشيخ في المبسوط 1 : 19 ، والحلّي في السرائر 1 : 105 ، وفخر الدين في الإيضاح 1 : 37 ، وراجع جامع المقاصد 1 : 207.
2- كذا ، والظاهر : ذيها.

تعبّديّا ، والمفروض من وقوعه على جهة العبادة بواسطة الغاية المترتّبة عليه من قراءة القرآن ونحوه ، فلا وجه للقول بعدم الإجزاء.

اللّهمّ إلاّ أنّ يتعسّف بالتزام أنّ المطلوب هو الامتثال بالوضوء بواسطة الأمر الخاصّ المتعلّق بغاية مخصوصة ، وهو كما ترى!

هذا على تقدير الاتّحاد. وأمّا على فرض اختلاف المقدّمة كما في الأغسال وإن اتّحدت صورة ، فلا إشكال في عدم الاكتفاء والإجزاء.

ولعلّك بعد ما ذكرنا تطلّع على ما هو الحقّ بالنسبة إلى صحّة القصد إلى غاية مندوبة وصحّة العمل الذي يراد به ترتّب الغاية المندوبة فيما إذا لم يكن المكلّف قاصدا للغاية الواجبة مع دخول الوقت.

وتوضيح ذلك الإجمال وتبيين هذا المقال هو أن يقال : إنّه إذا كانت ماهيّة واحدة مقدّمة لعدّة امور بعضها واجب وبعضها مندوب - كالوضوء للصلاة وقراءة القرآن ونحوهما - فإن اختصّت تلك الماهيّة بشيء ممّا يخصّصها عند كونها مقدّمة لكلّ واحد من تلك الامور ، فلا ينبغي الإشكال في صحّة إرادة الماهيّة التي هي مقدّمة للمندوب ، إذ لا مدخل لما هي مقدّمة للواجب في ذلك ، فإنّ وجوب ماهيّة لا ينافي استحباب ماهيّة اخرى مضادّة لها ، وهو ظاهر. وإن لم يتخصّص تلك الماهيّة بمخصّص - كأن يكون بعينها من غير ملاحظة اعتبار موجب لاختلافها مقدّمة للواجب وهي بعينها مقدّمة للمندوب - فلا ينبغي الارتياب في عدم صحّة إرادة الغاية المستحبّة بعد العلم بفعليّة الوجوب فيها باعتبار وجوب الغاية المرتّبة عليها ، إذ لا ريب في تضادّ الاستحباب والوجوب ، والماهيّة الواحدة من حيث وحدتها على ما هو المفروض يمتنع أن تكون موردا للمتضادّين.

ومن هنا ينقدح لك فساد ما عسى أن يتوهّم : من ابتناء الكلام في المقام على

ص: 359

مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ؛ إذ على تقدير التخصيص (1) لا إشكال في الاختلاف والجواز ، وعلى تقدير عدمه لا إشكال في عدم الجواز حتّى على القول بالجواز في تلك المسألة. نعم ، على تقدير الاختلاف مع كون النسبة بين تينك الماهيّتين عموما من وجه ، ففي مادّة الاجتماع يكون من موارد اجتماع الحكمين المتنافيين ، وهما الوجوب اللازم من وجوب ذيها والاستحباب اللازم من استحباب ذيها ، فيبتني على مسألة اجتماع الأحكام المختلفة.

فإن قلت : إنّ الماهيّة الكليّة تصلح لأن تكون موردا للأحكام المختلفة ، فلا ضير في وحدة الماهيّة مع اختلاف الأحكام ، كما ترى في الدخول في الدار المغصوبة ، فإنّه واجب وحرام باختلاف الغايات المترتّبة عليه من الإنقاذ ونحوه.

قلت : إن اريد أنّ الماهيّة الكليّة من حيث وحدتها تصلح لذلك فهو ضروريّ الاستحالة. وإن اريد أنّ تلك الماهيّة باختلاف أفرادها وإن كان الوجه في الاختلاف اختلاف القصد - كما هو الظاهر من المثال المذكور - تصلح لذلك فهو حقّ ، لكنّه ممّا لا مدخل له بالمقام ، لظهور الفرق بين ما نحن بصدده وبين ما ذكر من الأمثال ، لعدم اختلاف الحكم في المفروض باختلاف الأفراد.

لا يقال : ترتّب الغايات المختلفة على ماهيّة تصلح لأن يختلف به الماهيّة الواحدة ، فيكون موردا للأحكام المتخالفة.

لأنّا نقول : ذلك لا يجدي شيئا ، فإنّ ما يصلح لاختلاف الماهيّة هو ما يعتبر فيها قبل ملاحظة ترتّب الغايات الموجبة لاختلاف الأحكام. وأمّا اختلاف الغايات فهو اعتبار يلحق الماهيّة بملاحظة نفس الغاية ، فلا يصلح وجها للاختلاف ، كيف! وهو منشأ الإشكال.

ص: 360


1- في ( ع ) و ( م ) : التحقيق.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت لا وجه لاتّصاف تلك الماهيّة بصفتي الوجوب والاستحباب مطلقا ، إذ المفروض اتّحادها من جميع الوجوه ، فلا يعقل استحبابها ولو في حال عدم كونها مقدّمة للواجب ، لأنّ المصلحة الداعية إلى إيجابها إمّا أن تكون ملزمة أو لا ، فعلى الأوّل يجب وجوبها وعلى الثاني ندبها.

قلت : لا ضير في ذلك في الواجب الغيري ، فإنّ المصلحة الموجودة فيها القاضية بمقدّميّتها للغايات المرتّبة عليها أمر واحد ولا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف من قبل تلك الغايات ، فإذا كانت واجبة تجب تلك الماهيّة التي تفضي إليها بواسطة وجوبها ، وإن كانت مندوبة تتّصف تلك الماهية بالندب ، إلاّ أنّ حال الوجوب اللازم من وجوب ذيها يمتنع طلبها ندبا ، لكونهما متضادّين باعتبار الفصل ، وإن لوحظ بالقياس إلى جنس الطلب فيمتنع اجتماعهما أيضا ، لامتناع اجتماع الأمثال.

فظهر ممّا قرّرنا : أنّه على تقدير أن يكون تلك الامور المترتّبة على الوضوء وغيره من المقدّمات دواعي للأمر بها لا عناوين لما هو المأمور به في الواقع - كما في الغسل - لا وجه للقول بصحّة الوضوء فيما إذا لم يكن قاصدا لغاية واجبة وإن كان قاصدا للغاية المندوبة ، لأنّ المأمور به غير المقصود والمقصود غير مأمور به.

هذا على ما هو التحقيق من أنّ تكثّر الغايات من باب الدواعي التي مرجعها إلى جهات تعليليّة لا تورث كثرة فيما علّل بها.

وعلى تقدير القول بأنّ تلك الغايات ممّا يختلف به نفس المعنى على أن يكون عناوين لها - كأن يقال : الواجب من الوضوء هو ما يوصل إلى غاية واجبة والمندوب ما يفضي إلى غاية مستحبّة - فالمتراءى في جليّ النظر هو الحكم بجواز اجتماع الوجوب والاستحباب معا ، لما عرفت من أنّ وجوب ماهيّة لا ينافي استحباب ماهيّة اخرى.

ص: 361

ولكنّه مع ذلك ممّا لا يتمّ عند دقيق النظر ؛ لأن ذينك العنوانين تارة يكونان متلازمين ، كما في الوضوء للصلاة والوضوء للطواف ، حيث إنّهما ليسا بمتغايرين ، لأنّ الدليل على التغاير في أمثال المقام إنّما هو اختلاف اللوازم والأحكام المترتّبة عليهما شرعا ، كما في غسل الجمعة والجنابة حيث يرتفع بأحدهما الحدث ولا يرتفع بالآخر ، والمفروض اتّحادهما في اللوازم الشرعيّة ، فلا يعقل التفكيك بينهما في مورد ، فهذا الاختلاف في الحقيقة راجع إلى اختلاف مجرّد الحكاية والعنوان مع اتّحاد المحكيّ عنه والمعنون ، وذلك لا يوجب تعدّد الحكم. وتارة يكونان متغايرين بواسطة التقييد المزبور على نحو العموم من وجه ، وهذا هو الذي قلنا : بأنّ الماهيّة على تقدير التخصيص تصير متعدّدة وإذا اجتمعتا في مورد يكون من اجتماع الأمر والنهي ، ففي مورد الاجتماع لا بدّ من الرجوع إلى المذاهب في تلك المسألة ، وفي مورد الافتراق لا إشكال.

وبالجملة ، القول بصحّة الوضوء فيما إذا كان المكلّف مشغولا ذمّته بوضوء واجب مع عدم القصد إلى غايته الواجبة إمّا مبنيّ على عدم لزوم قصد الغير في الواجب الغيري وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه ، وإمّا مبنيّ على القول باختلاف الماهيّة بواسطة اختلاف الوجوه التعليليّة والاعتبارات الغائيّة كما عرفت ، وهو من أكاذيب الأوهام ، سواء كان الاختلاف الحاصل بواسطة الغايات اختلافا نوعيّا أو اختلافا شخصيّا ، كما أومأنا إليه آنفا في مثل الدخول في الدار المغصوبة ، فإنّ أفراده يختلف أحكامها بالحرمة والوجوب ، بتقريب أن يقال : كما أنّ الدخول يختلف حكمه باختلاف القصد ، فكذلك يحتمل اختلاف أحكام أفراد الوضوء باختلاف القصد إلى الغاية المعيّنة ، فعند عدم إرادة الغاية الواجبة مع إرادة الغاية المستحبّة لا ضير في وقوع الوضوء على صفة الوجوب. وهو أيضا فاسد ، لأنّ الدخول في الدار المغصوبة من حيث هو ممّا لا يتعلّق به حكم ، بل إنّما الحكم يتعلّق بأنواعه من الغصب

ص: 362

والإعانة ونحوهما ، ولا شكّ في أنّ القصد إذا كان محصّلا لعنوان الحسن أو القبح - كما في المقام - ممّا يختلف باختلاف الماهيّة كما يشاهد بالوجدان ، فلا وجه للقول بالاختلاف بالقصد فيما نحن فيه ، إذ لا شاهد عليه من الوجدان - كما يلاحظ في الدخول في الدار المغصوبة - ولا من غيره من الأدلّة ، إذ المستفاد منها اتّحاد الحقيقة ، فلا وجه للقول بالصحّة.

نعم ، عندنا وجه وجيه يصحّ التعويل عليه في تصحيح المذهب المشهور ، وهو الفرق بين طريان الوجوب على الاستحباب وبين طريان ما يخالفه جنسا وفصلا ، إذ لا ميز للطلب الوجوبي عن الطلب الاستحبابي إلاّ بما هو ليس خارجا عن حقيقة الطلب ، كما في أمثاله من الأعراض التي يختلف أفرادها باختلاف مراتبها شدّة وضعفا ، فطريان مرتبة شديدة من السواد على المرتبة الضعيفة إنّما يوجب ارتفاع النقص في الضعيف الذي لا مدخل لذلك النقص في حقيقة السواد ، ولا يوجب ارتفاع ما هو المناط في حمل السواد عليها ، بل يؤكّده.

ولا أقول : إنّ الطلب الاستحبابي باق على أنحاء خصوصيّاته ، كيف! وخلافه مشاهد بالوجدان عند عروض حالة طلبيّة أكيدة وحدوث إرادة آمريّة شديدة ، بل أقول : إنّ الطلب المتخصّص بتلك الخصوصيّة الضعيفة بعد حدوث ما يقضي بالمرتبة الشديدة ينقلب إليها ، فما هو المناط في الاستحباب باق ، فيصحّ القصد إليه ، وبه يحصل الامتثال ، ويتفرّع عليه جواز الدخول في سائر الغايات المشروطة بالطهارة. وعلى قياسه نقول في غسل الجنابة بالنسبة إلى ما يترتّب عليه من الغايات. وأمّا غيرها فالكلام فيه موكول إلى محلّه ، فكن على بصيرة. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 363

ص: 364

هداية

اشارة

زعم بعض الأجلّة (1) : أنّ المعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب ترتّب الغير عليه ، بحيث لو لم يترتّب عليه يكشف عن عدم وقوعه على صفة الوجوب ، وإذا ترتّب عليه الغير يكشف عن كونه واقعا على صفة الوجوب.

ولعلّه أخذه ممّا احتمله أخوه البارع في تعليقته على المعالم ، حيث جعل ذلك من محتملات كلام المعالم ، فإنّه أفاد بعد ما نقلنا من عبارة المعالم في الهداية السابقة (2) : وإنّما خصّ الوجوب بها في تلك الحالة من جهة حصول التوصّل بها عند أداء ما يتوقّف عليها ، دون ما إذا لم يكن مريدا له ولا يتوصّل بها إلى فعله حينئذ (3) ، انتهى.

وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الظاهر من كلامه هو توقّف الوجوب على الإرادة.

وعلى التقديرين فلا ريب في فساده ؛ لما عرفت وستعرف أيضا إن شاء اللّه. والأولى نقل عبارته في المقام فإنّها أوفى بمراده.

قال فيما مهّده من المقال لتوضيح الحال بعد تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري : ثمّ هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة وجوبه أن يترتّب عليه فعل الغير أو الامتثال به وإن لم يقصد به ذلك ، أو يعتبر قصد التوصّل إليه أو إلى الامتثال به وإن لم يترتّب عليه ، أو يعتبر الأمران ، أو لا يعتبر شيء منهما؟ وجوه.

ص: 365


1- وهو صاحب الفصول ، كما سيجيء كلامه.
2- راجع الصفحة 353.
3- انظر هداية المسترشدين 2 : 265.

والتحقيق من هذه الوجوه هو الوجه الأوّل ؛ لأنّ مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه ، دون غيره ؛ لما عرفت من أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث كونه مقيّدا ، وهذا لا يتحقّق بدون القيد الذي هو فعل الغير. وأمّا القصد فلا يعقل له مدخل في حصول الواجب وإن اعتبر في الامتثال به. ثمّ فرّع على ما أفاده فروعا ، أهمّها تصحيح فعل الضدّ إذا توقّف فعل المأمور به على تركه مع القول بوجوب المقدّمة (1).

وقال في مقام آخر : إنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلاّ إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، لا بمعنى أنّ وجوبها مشروط بوجوده فيلزم أن لا يكون خطاب بالمقدّمة أصلا على تقدير عدمه ؛ فإنّ ذلك متّضح الفساد. كيف! وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لإطلاق وجوبه وعدمه. بل بمعنى أنّ وقوعها على الوجه الواجب المطلوب منوط بحصول الواجب ، حتّى أنّه إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف المطلوبيّة ، لعدم وقوعها على الوجه المعتبر ، فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها ، لا من قبيل شرط الوجوب. وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف على من يتفطن له.

قال : والذي يدلّك على هذا أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة ، فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور. وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا أو على تقدير التوصّل بها إليه ، وذلك آية

ص: 366


1- الفصول : 81.

عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه. وأيضا حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا تكون معتبرة إذا انفكّت عنه. وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه ، ويلزم منه ان يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله ، انتهى موضع الحاجة من كلامه (1).

وحاصل مرامه : أنّ المقدّمة باعتبار وجودها في الخارج نوعان : أحدهما ما يترتّب عليها ذوها ، والثاني ما لا يترتّب عليها ما وجبت المقدّمة لأجله ، كما إذا تخلّفت عن ذيها لمانع اختياري أو اضطراري. وما هو مطلوب للآمر إنّما هو النوع الأوّل دون الثاني ؛ إذ لا يعقل طلب شيء من غير ما يدعو إلى طلبه ، والمفروض أنّ المقدّمة ليست مطلوبة في حدّ ذاتها ، فالداعي إلى طلبها إنّما هو ترتّب الغير عليها ، فعند عدم الغير لا داعي إلى طلبها ، لأنّ المفروض أنّه هو الداعي إلى ذلك باعتبار التوصّل بها إليه ، فلو وقعت مجرّدة عنه يكشف عن عدم مطلوبيّتها ، فإنّ انتفاء الغاية المترتّبة على وجود الشيء في الخارج يكشف عن عدم وقوع ذلك الشيء على الوجه المطلوب.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم : أن القول بوجوب قصد الغير في الامتثال بالواجب الغيري يلازم القول باعتبار ترتّب الغير في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب.

وليس على ما توهّم ، إذ لا ملازمة بينهما واقعا :

أمّا في المقدّمات التوصّليّة - كغسل الثوب ونحوه - فظاهر ، إذ قضيّة القول الأوّل هو الوجوب مطلقا ومقتضى هذا القول هو التنويع ، فما يترتّب عليه الغير يكون مطلوبا ، بخلاف ما لم يترتّب عليه الغير.

ص: 367


1- الفصول : 86.

وأمّا في المقدّمات العباديّة فلا ملازمة أيضا ، إذ مجرّد القصد إلى الغير حال الاشتغال بالمقدّمة يجزي عن وقوعها على وجه الامتثال وإن لم يترتّب عليه فعل الغير لمانع اختيارا أو اضطرارا بناء على المختار. بخلافه على القول المذكور ، فإنّه لم يقع على صفة الوجوب فضلا عن وقوعه على صفة الامتثال عند التخلّف ، فلا ربط بين المقامين ، بل للقائل بأحدهما في أحد المقامين اختيار كلّ من طرفي النفي والإثبات في المقام الآخر. ولعلّ ذلك ظاهر. ومن هنا ترى هذا القائل قد التزم باعتبار القصد في الامتثال بالواجب الغيري مع عدم اعتبار القصد في الوجوب ، كما يظهر من قوله : « وإن اعتبر في الامتثال به » (1).

وكيف كان ، فوضوح فساد هذه المقالة بمكان لا نقدر على تصوّر ما أفاده فضلا عن التصديق به! ونحن بمعزل عن ذلك بمراحل ؛ فإنّه إمّا قول بوجوب خصوص العلّة التامّة من المقدّمات ويلازمه القول بوجوب الأجزاء التي تركّبت العلّة منها فيؤول إلى ما ذهب إليه المشهور ، وإمّا قول بعدم وجوب المقدّمة.

وكشف الحال في ذكر ما يرد عليها تفصيلا ، فنقول : يرد عليها امور :

أمّا أوّلا : فلأنّه قد مرّ فيما تقدّم (2) أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على القول به هو العقل ، وهو القاضي فيما وقع من الاختلافات فيه ، ونحن بعد ما استقصينا التأمّل لا نرى للحكم بوجوب المقدّمة وجها ، إلاّ من حيث إنّ عدمها يوجب عدم المطلوب ، وهذه الحيثيّة هي التي يشترك فيها جميع المقدّمات وإن اختصّ بعضها بالاستلزام الوجودي أيضا كما في العلّة التامّة مثلا ، فما هو المناط في حكم العقل بوجوب المقدّمة هو الاستلزام العدمي من حيث إنّ لوجودها مدخلا في وجود المعلول ، فملاك الطلب

ص: 368


1- الفصول : 81.
2- في ( ط ) زيادة : مرارا.

الغيري بالمقدّمة هذه الحيثيّة ، وهي ممّا يكفي في انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة مع قطع النظر عن ترتّب الغير عليها ولحوق الأجزاء الأخر من العلّة بها ، فالمصلحة الداعية إلى حكم العقل بالملازمة بين وجوب الواجب وبين وجوب مقدّماته لا تنفكّ عن ذات المقدّمة ، فيمتنع تجرّدها عن وصف المطلوبيّة وإن تجرّدت عن ترتّب الغير.

وأمّا ما غالط به : من قضاء صريح الواجدان بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه (1) ، فإن أراد من وصف التجريد اعتباره في المطلوب كأن يكون المقدّمة بشرط تجريدها عن ذيها مطلوبة ، فهو حقّ إلاّ أنّه لا يرتبط بما نحن بصدده ، وإلاّ فإن أراد من عدم إرادته عدمها إرادة نفسيّة فهو أيضا مسلّم لكنّه غير مفيد ، إذ لا يعقل إثبات الطلب النفسي للمقدّمة. وإن أراد به عدم الإرادة ولو كانت غيريّة فهو غير سديد ، ضرورة قضاء صريح الوجدان بخلافه. ومن هنا يظهر فساد ما زعمه من جواز التصريح بعدم إرادة المقدّمة الغير الموصلة مع الأمر بذيها.

وأمّا ما أورده في دليل ما صار إليه من قوله : « لما عرفت من أنّ المطلوب فيه هو المقيّد من حيث كونه مقيّدا ، وهذا لا يتحقّق بدون القيد الذي هو فعل الغير » (2) فهو ممّا لا يرجع إلى طائل ، إذ لا يعقل أن يكون الغير في الواجب الغيري قيدا للمطلوب ، إذ لا يراد به إلاّ ما كان الغير قاضيا بوجوبه ، وهذه حيثية تعليليّة لا مدخل للتقييد فيه أصلا ، فالمطلوب في الواجب الغيري ليس مقيّدا ، بل الوجه في مطلوبيّته هو الغير.

ص: 369


1- الفصول : 86.
2- الفصول : 81.

هذا إن لوحظ التقييد بالنسبة إلى مطلوبيّة الواجب الغيري. وإن لوحظ التقييد بالنسبة إلى ذات المقدّمة كأن يقال : إنّ الوضوء المقيّد بترتّب فعل الصلاة عليه مقدّمة لها لا الوضوء المطلق ، ففساده أوضح من أن يحتاج إلى البيان ، فإنّ مقدّمة الكون على السطح ليس الصعود المقيّد بالكون ، بل نفس الصعود ، ولا نعقل للتقييد بالكون مدخلا في مقدميّة الصعود له. نعم ، بعد ترتّب الكون على الصعود يعرض التقييد المذكور له ، وأين ذلك من اعتبار التقييد فيما هو مناط توقّفه عليه؟

والحاصل : أنّه إن أراد من قوله : « المطلوب فيه المقيّد » أنّ الوجه في مطلوبيّة الواجب الغيري هو الغير فهو حقّ لا محيص عنه ، إلاّ أنّه بمراحل عن هذه المقالة. وإن أراد بذلك أنّ المطلوبيّة في الواجب الغيري مقيّدة أو ذات الواجب الغيري كونها مقدّمة مقيّدة بالغير ، فقد عرفت فسادهما ، ضرورة أنّ الجهة التعليليّة لا تورث تقييدا وأنّ عروض التقييد إنّما هو بملاحظة الترتّب ، لا أنّ التقييد به مقدّم عليه ويكون ممّا يتوقّف عليه الواجب ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما أورده قبل ذلك بقوله : « لأنّ مطلوبيّة شيء للغير يقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره » (1) ممّا لم يظهر لنا وجه اختصاصه بالمقام.

وأمّا ما أفاده ثانيا (2) من قوله : « فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لا من قبيل شرط الوجوب » (3) فهو بظاهره فاسد ، لأنّه إن أراد من « شرط الوجود » كونه شرطا له مع قطع النظر عن الوجوب - كأن يكون شرطا لذات الواجب الغيري - فهو دور ظاهر. وإن أراد من كونه شرطا له بملاحظة الوجوب ، فيرجع الأمر إلى شرط الوجوب ، وقد اعترف بكونه متّضح الفساد.

ص: 370


1- الفصول : 81.
2- في ( ط ) زيادة : « في بيان مراده ».
3- الفصول : 86.

فإن قلت : مراده من « شرط الوجود » ما هو شرط لوجود الواجب على صفة الوجوب ، كما يظهر ذلك بملاحظة وجود الأجزاء الواجبة في الصلاة ، فإنّ شرط وجود الجزء على وجه الوجوب لحوق الأجزاء الأخر به ، فكما أنّ الجزء (1) لا تجزئ عمّا هو الواجب منه ما لم يلحقه الأجزاء اللاحقة (2) ، فكذلك المقدّمة لا تقع على صفة الوجوب ما لم يترتّب عليها الغير ، فهو شرط لوقوعها على هذه الصفة ، لا شرط لوجودها حتّى يدور ، ولا لوجوبها حتّى يكون متّضح الفساد.

قلت : نعم ، ينبغي حمل كلامه على ذلك ، إلاّ أنّه مع ذلك فاسد أيضا ، إذ الأجزاء اللاحقة لا تأثير لها في الأجزاء السابقة ، لأنّ المطلوبيّة القائمة بها ليست مطلوبيّة ذاتية نفسيّة ، بل إنّما هي غيريّة عرضيّة ، حيث إنّها أجزاء للواجب النفسي ، وتلك المطلوبيّة لا تنفكّ عنها وإن لم يلحقها الأجزاء الأخر ، لأنّها قد وقعت على تلك المطلوبية. وما وقع على صفة يمتنع زوالها عنه.

لا يقال : فيلزم أن يكون العمل صحيحا فيما إذا لحقه الأجزاء الأخر.

لأنّا نقول : العمل المذكور إن لم يكن ممّا اشترط فيه الموالاة والاتّصال ، فلا دليل على بطلان اللازم وإن كانت الملازمة مسلّمة. وإن كان ، فمنع انتفائه فلا ملازمة ، لأنّ بطلانه بواسطة عدم الشرط أو الجزء المعتبر في نفس العمل على وجه يمتنع إعادته ، لانعدامه قبل.

وبالجملة ، فليس الجزء من حيث إنّه مأخوذ جزء للمركّب أظهر حالا من سائر المقدّمات في المقام حتّى يستند إليه ويقاس الغير عليه في توقّف وقوعه على وجه الوجوب على لحوق الأجزاء الأخر به ، على ما عرفت. نعم ، الجزء

ص: 371


1- في ( ع ) و ( م ) بدل « الجزء » : الحمد.
2- في ( ع ) بدل « اللاحقة » : الأخر.

الملحوظ على وجه لا يخالف الكلّ يتوقّف على لحوق الأجزاء به ، إلاّ أنّه من هذه الجهة ملحوظ على وجه الكلّية ، ولا كلام في حصول الواجب النفسي بحصول جميع أجزائه.

وأمّا قوله : « إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب ... الخ » (1) فإن أراد به أنّ المطلوب بالمقدّمة تمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب والوصول إليه ، حيث إنّه عند عدمها يمتنع صدور الفعل منه ، فغير مفيد وإن كان واقعا في محلّه ، فإنّ ذلك من لوازم ذات المقدّمة من غير ملاحظة شيء آخر. وإن أراد به أنّ المطلوب بالمقدّمة هو ترتّب الغير عليه فعلا ، فغير سديد ، ضرورة أنّ ترتّب الواجب أمر مغاير للمقدّمة مفهوما ، فلا يمكن أن يكون المطلوب منها ذلك المفهوم المغاير إلاّ بضرب من التأويل ، كأن يكون بينهما ملازمة واقعيّة أو اتّحاد خارجي ، وانتفاء الثاني ظاهر ، ولا ملازمة بين المقدّمة والترتّب (2) لما هو ظاهر من كثرة موارد التخلّف ، فلا يعقل أن يكون المطلوب من المقدّمة هو التوصّل. نعم ، يصحّ أن يكون التوصّل إلى الواجب وجها لمطلوبيّة المقدّمة ، فإنّ التوصّل ليس أمرا مغايرا للواجب النفسي بحسب الواقع ، فإنّ ذلك طور من أطواره ، كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر أنّ الداعي إلى طلب المقدّمة هو الصفة الموجودة في ذاتها مع قطع النظر عن الغير ، وهو كونها بحيث يتمكّن المكلّف معها من إيجاد الفعل ، فإنّه لمّا كان إيجاده بدونها ممتنعا التجأنا إلى اعتبار المطلوبيّة فيها ليتبدّل الامتناع بالإمكان. وقد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّه يمتنع أن يكون المصلحة الداعية إلى طلب الشيء موجودا في غيره ، فهذه هي الغاية المترتّبة على وجود المقدّمة ، وعند وجودها يمتنع انتفاؤها.

ص: 372


1- الفصول : 86.
2- في ( ط ) : المترتّب.

وأمّا ثانيا (1) : فلأنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يرجع إلى القول بوجوب مطلق المقدّمة في لحاظ الواقع.

وبيانه يحتاج إلى تمهيد ، وهو أن يقال : إذا كان المأمور به مقيّدا بشيء فهناك صورتان :

الاولى : أن لا يكون القيد مغايرا في الوجود للمقيّد ، كما في الفصول اللاحقة للأجناس ، فإنها لا تغايرها في الوجود الخارجي ، وإنّما يمتاز أحدهما عن الآخر بتعمّل من العقل بانتزاع مفهوم مشترك من الحقيقة النوعيّة وما تتميّز تلك الماهيّة ، وهو ظاهر.

الثانية : أن يكون القيد مغايرا في الوجود ، كما إذا أمر المولى بإتيان زيد فجاء مع عمرو ، ونحو ذلك من الامور التي يعتبر لحوقها بالمقيّد مع جواز انفكاكها عنه وجودا.

لا إشكال في أنّ الواجب على الاولى أمر واحد لا يتصوّر انفكاك القيد فيه عن المقيّد ، ولو حاول المكلّف الامتثال به لا وجه للقول بأنّه يجب إيجاد المطلق مقدمة ثمّ إلحاق القيد به ، إذ المفروض وحدة الوجود فيهما ، ولا يعقل التفكيك بين أمرين متّحدين في الوجود بالسبق واللحوق.

كما أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ الواجب على الثانية إيجاد ما يتّصف بالقيد ثمّ إيجاد القيد ليتّصف به المقيّد ، لأنّ المفروض تغايرهما في الوجود ، ومن أراد إيجاد المقيّد على أنّه مقيّد لا مناص له من ذلك.

لا يقال : إنّ المطلوب في المقامين أمر وحدانيّ حاصل من اعتبار انضمام القيد إلى المقيّد ، ولا يفرق في ذلك كون القيد خارجيّا أو ذهنيّا.

ص: 373


1- مرّ الإيراد الأوّل في الصفحة 368.

لأنّا نقول : وحدة المطلوب على تقدير التسليم ممّا لا ينافي ما نحن بصدده : من لزوم إيجاد المطلق عند التغاير أوّلا ثمّ اتباعه بإيجاد القيد الموجب لحصول المطلوب. ولعلّ ذلك في الظهور كالنار على رأس المنار.

وبعد التمهيد نقول : إنّ التقييد في المقدّمة الموصلة ليس من قبيل التقييد في الصورة الاولى ، لأنّ ما يصير منشأ لانتزاع صفة الإيصال من المقدّمة أمر مغاير لها في الوجود ، إذ هي لا تكون موصلة إلاّ بعد ترتّب فعل الغير عليها. ولا خفاء في أنّ هذه الحالة توجب انتزاع تلك الصفة منها ، فيكون من قبيل التقييد في الصورة الثانية ، وقد قرّرنا في التمهيد وجوب إيجاد المطلق عند إرادة إيجاد المقيّد فيما إذا كان القيد مغايرا له في الوجود العيني. فالقول بوجوب المقدّمة الموصلة يوجب القول بوجوب المقدّمة مطلقا مقدّمة لما هو الواجب من المقدّمة الموصلة. هذا خلف.

وبوجه آخر نقول : إنّ صفة الإيصال إمّا أن تكون معتبرة في المقدّمة أو لا. لا إشكال (1) على الثاني على ما ذهب إليه المشهور. وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ما يوجب انتزاع تلك الصفة منها داخلة في مقدرتنا واختيارنا أو لا. لا كلام أيضا على الثاني ، إذ الأمر الغير الاختياري لا يعقل تعلّق الطلب والتكليف به ، فعلى تقديره يجب وجوب مطلق المقدّمة. وعلى الأوّل فيجب إيجاد تلك الصفة كما يجب إيجاد الموصوف ليصحّ الاتّصاف ، إذ لا منافاة بين وجوب فعل اختياري ووجوب فعل آخر ، ويلزم من ذلك وجوب مطلق المقدّمة مقدّمة لما هو المطلوب من المقيّد. هذا خلف.

فإن قلت : إنّ الواجب من الإتيان بالمطلق فيما إذا وقع على صفة الإيصال أيضا ، فلا يلزم الخلف.

ص: 374


1- في ( ع ) و ( م ) : لا إمكان.

قلت : ذلك وهم فاسد ، إذ الكلام في الإتيان بالأفعال التي يتعلّق بها الطلب والتكليف وإيجادها في الخارج ، ولا يعقل ذلك إلاّ بإيجاد مطلق المقدّمة ثمّ اتباعه بما يوجب انتزاع تلك الصفة منها ، كما يلاحظ بقياسه إلى الأجزاء في واجب مركّب.

والعجب! أنّ القائل المذكور (1) إنّما تفطّن بذلك في نظير المقام ، حيث إنّ بعض الأفاضل تصدّى لدفع الإشكال الوارد في مسألة الضدّ (2) : بأنّ النهي التبعي لا ينافي الأمر النفسي ، فأورد عليه : بعدم الفرق في المنافاة بين الأمر والنهي من جهة اختلاف أقسام الأمر والنهي ، لرجوعه إلى اختلاف جهتي الأمر والنهي ، ولا مدخل للمأمور به والمنهيّ عنه في ذلك (3). إلى أن أورد على نفسه سؤالا حاصله : اختلاف متعلّق الأمر والنهي ، لأنّ المطلوب بالأمر نفس الفعل والمطلوب بالنهي التوصّل بالترك إلى الواجب. فأجاب عن ذلك : بأنّ مطلوبيّة التوصّل توجب مطلوبيّة نفس المقدّمة ؛ لأنّها مقدّمة له ، قال : ولا سبيل إلى أن يجعل المطلوب حينئذ التوصّل إلى التوصّل دون نفس المقدّمة ، للزوم التسلسل ؛ ومع ذلك لا يجدي ؛ لأنّ التوصّلات الغير المتناهية إذا اخذت بأسرها كانت مستندة إلى نفس المقدّمة ، فيلزم مطلوبيّتها لها ، انتهى (4).

وهو جيّد ، لرجوعه إلى ما ذكرنا : من أنّ إيجاد المقيّد يحتاج إلى إيجاد المطلق مقدّمة.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين أن يلاحظ الإيصال في المقدّمة الموصلة في

ص: 375


1- أي صاحب الفصول.
2- وهو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 102 و 114.
3- الفصول : 95.
4- الفصول : 96.

مفروض السؤال بالنسبة إلى الواجب وبين أن يلاحظ بالنسبة إلى المقدّمة الموصلة ؛ لأنّ الإيصال إلى الإيصال إنّما يلاحظ بالنسبة إلى ذات الواجب ، كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلقضاء صريح الواجدان والعرف بخلافه ، ضرورة سقوط الطلب المتعلّق بالمقدّمة بعد وجودها من غير انتظار حالة هي ترتّب ذيها عليها ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يحكم حكما ضروريّا لا يدخله شبهة ولا يمازجه ريبة بالفرق في الحالة الطلبيّة النفسانيّة بين المقدّمات المأتيّ بها وبين غيرها من المقدّمات المعدومة ، لسقوط الطلب المتعلّق بالاولى وبقائه في الثانية ، ولو لا أنّ لوجودها في حيال ذاتها مع قطع النظر عن ترتّب الغير عليها مدخلا في المطلوبيّة لم يعقل الفرق بينها وبين غيرها في السقوط والبقاء. وذلك مشاهد عند المجانب عن الاعتساف ، المتّصف بأحسن الأوصاف.

فإن قلت : إنّ ذلك يتمّ على تقدير أن يكون المقدّمات مطلوبات غيريّة في حيال ذواتها وحدود أنفسها ، فإنّه يمكن القول بوجود الواجب الغيري على ذلك التقدير بدون وجود الواجب النفسي في الخارج. وأمّا بناء على أنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمات ليس طلبا برأسه بل الموجود منه هو طلب واحد فإن قيس إلى نفس الواجب يكون طلبا نفسيّا وإن قيس إلى ما يتوقّف عليه وجود الواجب من المقدّمات يكون طلبا غيريّا ، فلا يتّجه ذلك ، ضرورة أنّ المطلوب حينئذ ليس ذات المقدّمة بل المطلوب هو الإيصال بها إليها ، ومرجعه في الحقيقة إلى طلب الوصول ، ومرجعه إلى طلب الفعل الواجب ، وعلى هذا التقدير فلا وجه لسقوط الطلب من المقدّمة على تقدير عدم وجود ذيها.

قلت : وذلك خروج عمّا هو المفروض من وجوب المقدّمة ، لرجوعه إلى القول بعدم وجوب المقدّمة ، إذ الطلب الواحد ممّا لا يعقل أن يتعلّق بمطلوبين مع اختلاف مراتبه بالنفسيّة والغيريّة. وستطّلع على زيادة تحقيق فيما سيجيء.

ص: 376

تذنيب :

قد عرفت أنّ من أهمّ الدواعي إلى إخراج هذه المقالة الفاسدة هو تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الضدّ ، ولم يظهر صحّة الابتناء أيضا ، بناء على ما أفاده (1) في وجه التفريع على اختلاف تقاريرها.

وتوضيح المقام : أنّ القائل بفساد العبادة فيما إذا توقّف على تركها فعل المأمور به ، استند إلى وجوه ، مرجعها إلى لزوم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو الفعل ؛ لأنّ المفروض وجوب الفعل ، وحيث إنّ الترك ممّا يتوقّف عليه فعل الواجب ، فيلزم أن يكون واجبا ويكون الفعل منهيّا عنه ، لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام قطعا ، فيلزم فساد الفعل بواسطة النهي اللازم من وجوب الترك.

والقائل المذكور (2) قد حاول دفع هذا الإشكال بقوله : إنّ الطلب بكلا نوعيه من الإيجابي والتحريمي يستلزم مبغوضيّة نقيض مورده - كالرجحان والمرجوحيّة ؛ لأنّهما من الصفات المتضايفة التي يلازم وجود إحداهما وجود الاخرى تحقيقا للتضايف - فمطلوبيّة فعل مطلقا أو مقيّدا يستلزم مبغوضيّة تركه على حسب مطلوبيّته إطلاقا وتقييدا ، ومطلوبيّة الترك المطلق المتعلّق بفعل مطلق أو مقيّد مطلقا أو مقيّدا يستلزم مبغوضيّة الفعل على حسبه إطلاقا وتقييدا ، ومطلوبيّة الترك المقيّد المتعلّق بفعل مطلق أو مقيّد يستلزم مبغوضيّة ترك هذا الترك المقيّد ؛ لمكان المناقضة ، دون الفعل لعدم مناقضته معه من حيث ارتفاعهما في الترك المجرّد عن [ القيد ](3).

لا يقال : ترك الترك المقيّد أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، وحرمة العامّ تستلزم

ص: 377


1- أي صاحب الفصول.
2- أي صاحب الفصول.
3- أثبتناه من المصدر ، وفي النسخ : الضدّ.

حرمة الخاصّ. لأنّا نقول : العموم بحسب الوجود لا يستلزم ذلك ، وبحسب الصدق ممنوع (1). انتهى عبارته باختلاف يسير.

وتوضيح ما أفاده في بيان عدم الفساد هو : أنّ المأمور به هو الفعل مطلقا ، وليس منهيّا عنه ؛ لأنّه ليس نقيضا لما هو المأمور به وهو الترك المقيّد. ولا فردا من أفراد ما هو النقيض ؛ لأنّ اقتران الفعل مع ترك الترك المقيّد اقتران اتّفاقي ، كما أنّ ترك الحرام يقارن فعل الواجب أو المباح بالمقارنة الاتّفاقيّة ، فلا نهي ولا فساد.

وفيه : أوّلا : أنّ تفريع هذه الثمرة على ما ذكر لا يحتاج إلى توسيط هذه المقدّمات ، إذ يكفي في ترتّب الثمرة أن يقال : إنّ الواجب من الترك ليس الترك مطلقا ، بل فيما إذا ترتّب عليه الفعل ، وحيث إنّه مع وجود الضدّ لا يعقل وجود الفعل المأمور به ، فلا يكون الترك مطلوبا ، لعدم ترتّب الغير على المقدّمة ، وحيث لم يكن الترك مطلوبا فلا يكون الفعل منهيّا عنه فلا يكون فاسدا ، فلا حاجة إلى ملاحظة مناقضة الترك المقيّد للفعل على ما بحسبه. مع أنّ استفادة حرمة الصلاة من وجوب الإزالة عند القائل باقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه الخاص يمكن أن تكون مستندة إلى دعوى ضرورة العقل بأنّ قضيّة إيجاب شيء حرمة موانعه مطلقا ، فعند وجوب الإزالة يكون الصلاة المانعة منهيّا عنها محرّمة ، فلا يتّجه التفصيل بين المقدّمة الموصلة وغيرها في خصوص الموانع وإن قلنا بتماميّة ذلك في سائر المقدّمات. والفرق بين الموانع وغيرها يظهر بالتأمّل في مواردهما عرفا.

وثانيا : أنّ حرمة ترك الترك المقيّد يكفي في حرمة الفعل ، لكونه من لوازم نقيضه. وبيان ذلك : أنّهم قالوا بأنّ الإيجاب يناقض السلب مع اتّفاقهم على أنّ نقيض الشيء هو رفع ذلك الشيء على وجه السلب لا على وجه العدول ، كما قرّر في

ص: 378


1- الفصول : 98.

محلّه. ومن المعلوم أنّ رفع السلب إنّما هو سلب السلب لا الإيجاب للإيجاب (1). وأمّا الإيجاب فهو يلازم ما هو المحكيّ عنه فيما هو النقيض حقيقة ، كما يلاحظ ذلك في العدم وعدم العدم ، فإنّه ليس هو الوجود ، كيف! وهو مفهوم عدمي ، ولا يمكن أن يكون الوجود عدما ولو مفهوما ، كما هو ظاهر. فمناقضة الإيجاب للسلب سواء لوحظ ذلك في الوجود الربطي النسبي - كما في القضايا - أو في الوجود المحمولي الأصلي - كما في المفردات - إنّما هو بواسطة ملازمة بين ما هو المحكيّ عنه بتلك الحكايات من الإيجاب وسلب السلب والوجود وعدم العدم.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ الترك الخاص نقيضه رفع ذلك الترك ، وهو أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ مطلقا ، كما قرّر في محلّه. فيكون الفعل لازما لما هو من أفراد النقيض. وهذا يكفي في إثبات الحرمة وإلاّ لم يكن الفعل المطلق محرّما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا ، لأنّ الفعل على ما عرفت ليس نقيضا للترك ، لأنّه أمر وجودي ، ونقيض الترك إنّما هو رفعه ، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقا وليس عينه ، كما هو ظاهر عند التأمّل. فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فكذلك تكفي في المقام.

قوله : الأعمّيّة بحسب الصدق ممنوع. قلنا : لا حاجة في إثبات الحرمة إلى ذلك ، كما عرفت في الفعل المطلق بالنسبة إلى الترك المطلق من غير فرق ، غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط. وأمّا النقيض للترك الخاصّ فله فردان ، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده ، كما لا يخفى.

هذا بناء على ما زعمه من أنّ الترك المجرّد من أفراد ترك الترك المقيّد ، وإلاّ فالتحقيق فيه سيجيء في بعض المباحث الآتية. واللّه الموفّق والهادي.

ص: 379


1- الظاهر زيادة : « للإيجاب ». ولم يرد في ( ع ) و ( م ) : « لا الإيجاب ».

ص: 380

هداية

ينقسم الواجب باعتبار تعلّق القصد به وعدمه إلى أصليّ وتبعيّ.

والحقّ أن يعرّف الأصليّ ب- : ما كان مرادا للآمر إرادة مستقلّة ، سواء كانت نفسيّة أو غيريّة ، وسواء كانت استفادة ذلك من الخطاب على وجه الاستقلال كما في دلالة الألفاظ على المناطيق ، أو على وجه التبعيّة كما في دلالة المفاهيم والاستلزامات.

فالعبرة عندنا في صدق الوجوب الأصلي بملاحظة المستفاد : فإن كان مستقلاّ بالإرادة على اختلاف أنحاء الإرادة وتفاوت أقسام الدلالة فهو واجب أصلي ، وإلاّ فهو تبعيّ ، وهو ما لم تتعلّق به إرادة مستقلّة ، بل الطلب فيه - على ما ستعرف - طلب قهريّ حاصل ولو مع الغفلة عن خصوصيّات المطلوب على جهة التفصيل ، وذلك نظير دلالة الإشارة كدلالة الآيتين (1) على أن أقل الحمل ستة ، فإن لوازم الكلام في المخاطبات العرفيّة غير مقصودة للمتكلم.

ولكن يفترق الوجوب التبعي بأن المدلول التبعي لا يلزم أن لا يكون ذا مصلحة نفسية ، بخلاف الوجوب التبعي فإنّه على أن الإرادة ممّا لا يتعلق به على وجه الاستقلال يجب أن لا يكون ذا مصلحة نفسية ، من حيث استفادة وجوبه من وجوب الواجب الأصلي. ونظيره في المطلوبات لوازم الواجب ، فإن من طلب الاستقبال على وجه الاستقلال طلب وقوع الجدي خلف المنكب في العراق مثلا ، فإنه مطلوب تبعي لم يتعلق به في العرف والعادة طلب مستقل وإرادة على حدة.

ص: 381


1- البقرة : 233 ، والأحقاف : 15.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا وجه لما عسى أن يتخيل : من أنّ وجوب إنقاذ ولد المولى وإن لم يكن معلوما للعبد - على وجه الأمر اللفظي أو الإرادة النفسية - من الوجوب التبعي (1) ؛ لما عرفت : من أن المصلحة الداعية إلى الطلب عند الالتفات سواء كان المظهر له لفظا أو غيره مصلحة نفسية ، مع اختصاص الوجوب التبعي بالوجوب الغيري. فإذن ينحصر الوجوب التبعي بالوجوب المقدمي حال عدم الالتفات إلى المقدمة ، وأمّا مع الالتفات وتعلّق إرادة مستقلّة بالمقدمة فلا يكون طلبه إلاّ أصليّا ، كما في قولك : ادخل السوق واشتر اللحم ، فإنّ تعلّق الإرادة المستقلّة بدخول السوق إنّما ينافي التبعيّة ، على ما عرفت.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ النسبة بين الوجوب الغيري والوجوب التبعي عموم مطلق ؛ فإنّ الوجوب الغيري أعمّ ، لتحقّقه فيما إذا كان مدلولا لخطاب مستقلّ فيما إذا كان المظهر لفظا أو مفهوما من إجماع خاصّ مثلا أو غير ذلك ممّا يعلم منه تعلّق إرادة مستقلّة بالواجب الغيري.

لا يقال : إنّ وجوب اللوازم تبعي مع أنّه ليس غيريّا ، فيكون بينهما عموم من وجه. لأنّه يقال : إنّ وجوب اللوازم وجوب عرضي من قبيل الإسناد المجازي ولا كلام فيه.

كما أنّ النسبة بين الأصلي والنفسي والغيري عموم من وجه ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

هذا ما هو الموافق لكلمات أرباب الاصطلاح في موارد استعمالات الوجوب التبعي ، كما أومأنا إليه في الدلالة التبعيّة.

ص: 382


1- في ( ع ) و ( م ) زيادة : بل.

وأمّا ما يظهر من بعض الأجلّة (1) : من إدخال الوجوب المستفاد من المفاهيم في الوجوب التبعي وإن كان وجوبه مستقلاّ ، فهو ممّا لم نعرف له وجها.

ثمّ إنّه لو شكّ في أنّ الواجب أصليّ أو تبعي ، فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به لا يمكن إثبات الوجوب التبعي لو اريد بذلك ترتيب الآثار المترتّبة على الوجوب التبعي فيما إذا فرض له آثار سوى ما يترتّب على عدم الإرادة ؛ لما قرّر في محلّه. فتدبّر في المقام ، واللّه هو الهادي.

ص: 383


1- الفصول : 82.

ص: 384

هداية

قد عرفت تحقيق الكلام في أقسام الواجب ممّا له مدخل في تحرير النزاع فيما هو المقصود من وجوب المقدّمة وعدمه ، فنقول : إنّ الواجب الّذي وقع الخلاف في وجوب مقدّمته أعمّ من أن يكون واجبا مطلقا أو واجبا مشروطا بالنسبة إلى غير المقدّمة الوجوبيّة. وقد عرفت أنّ تخصيص البعض ذلك بالوجوب المطلق دون الشرطي ممّا لا وجه له ، غاية الأمر أنّ الوجوب اللازم منه هو الوجوب الشرطي التبعي على نحو وجوب ذي المقدّمة.

ومنه يظهر أنّه لا يفرق في ذلك في أقسام (1) الواجب من التعبّدي والتوصّلي والنفسي والغيري والأصلي والتبعي ، غاية الأمر أنّ وجوب المقدّمة في الواجب الغيري والتبعي ممّا يختلف فيه اعتبار الوجوب ، لما عرفت من اختصاص الوجوب التبعي على تفسيرنا بالوجوب الغيري ، وهو مسبوق بوجوب الغير لا محالة ، إذ لا يعقل الوجوب الغيري بدون وجوب الغير ، ووجوب ذلك الغير ممّا يكفي في الحكم بوجوب مقدّمات الواجب الغيري ، لأنّ المفروض وجوب مطلق المقدّمة. ولا فرق في نظر العقل في الوجوب اللازم من وجوب ذيها بين المقدّمة القريبة والبعيدة.

نعم ، إذا قيس الوجوب الغيري بالنسبة إلى ما يتوقّف عليه أيضا يحكم العقل بوجوب مقدّماته أيضا. وقد عرفت أنّ ذلك ليس من تكرار الطلب.

ص: 385


1- كذا في النسخ ، والمناسب : بين أقسام.

وهذا هو الكلام في المراد من (1) الواجب الذي يبحث في وجوب مقدّماته.

وأمّا الكلام في وجوب المقدّمة : من أنّ الوجوب المتنازع فيه هل هو وجوب نفسي أو غيري تعبّدي أو توصّلي أصلي أو تبعي؟

فنقول : لا ينبغي النزاع في أنّ وجوب المقدّمة ليس وجوبا نفسيّا ، فإنّ المقدّميّة لا تقضي بتعلّق الطلب النفسي بها ، ولعلّه ممّا لم يذهب إليه وهم أيضا.

ولا وجوبا تعبّديّا من حيث إنّها مقدّمة. نعم ، قد يكون ذات المقدّمة عبادة ، بمعنى أنّها توصل إلى ذيها بشرط الإتيان بها على وجه التقرّب ، كأن يكون الداعي إليه هو الأمر المقدّمي ، كما عرفت تفصيل ذلك في بعض المباحث السابقة.

ولا وجوبا أصليّا ، لأنّ الوجوب الأصلي ممّا لا بدّ فيه من الالتفات التفصيلي إلى ما هو المطلوب ، لأنّ المفروض - بناء على ما فسّرنا - استقلال الطلب فيه وإن كان استفادته على وجه الاستلزام ، كما في المفاهيم. ومن المعلوم أنّ الطالب لذي المقدّمة قد يكون غافلا عن المقدّمة ، وقد يكون مع الالتفات إلى ذات المقدّمة شاكّا في مقدّميتها لذيها وتوقّفه عليها ، وقد يكون قاطعا بعدم التوقّف مع كونه في الواقع ممّا يتوقّف عليه ، فكيف يمكن القول بأنّ اللازم من وجوب شيء هو وجوب مقدّماته وجوبا أصليّا؟ وكيف يجوز انتساب هذه المقالة الفاسدة إلى المشهور؟

نعم ، يصحّ ذلك بالنسبة إلى أوامر الشارع من حيث إحاطة علمه وامتناع حصول الغفلة له تعالى ، فيكون الكلام في الوجوب التبعي الغيري ، حيث إنّ الكلام في مسألة اصوليّة يعمّ موردها غير أوامر الشارع أيضا وإن كان المراد ظهور الثمرة فيها ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ الوجوب الأصلي ليس من محلّ النزاع في شيء ، ولو

ص: 386


1- في ( ط ) زيادة : وجوب.

فرض وقوع النزاع فيه فالقول قول النافين ، إذ لا ملازمة بين وجوب شيء وبين تعلّق إرادة مستقلّة بما يتوقّف عليه ، لما عرفت من إمكان الغفلة. ولذلك من زعم أنّ النزاع في ذلك التزم بعدم الوجوب.

ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في وجوب المقدّمة بمعنى اللابدّية. والتحقيق : أنّها ليست وجوبا يعدّ في عداد الأحكام التكليفية ، بل الواقع أنّها أقرب إلى الأحكام الوضعيّة ؛ ولذلك لا يختلف ذلك باختلاف الأحكام ، فإنّها ترجع إلى معنى المقدّمية ، وهو ظاهر.

كما أنّه لا ينبغي النزاع في إسناد الوجوب الحاصل لذيها إليها مجازا وبالعرض ، كما قد يتحقّق ذلك بين المتلازمين ، كما عرفت : من أنّ الاستقبال إلى القبلة يلازم استقبال أبي قبيس ووقوع الجدي خلف المنكب الأيمن في بعض البلاد ، وعند التحقيق يكون الوجوب المسند إلى اللازم وجوبا عرضيّا ، لعدم اتّصاف المورد حقيقة بالوصف ، بل الموصوف هو اللازم الآخر ، فيكون ذلك من قبيل الواسطة في العروض.

والعجب من بعض الأساطين! حيث حرّر نزاعهم في هذا المقام ومع ذلك اختار القول بعدم الوجوب (1) ، مع أنّ ذلك على هذا التقدير ينبغي أن يعدّ من الضروريّات.

وكذا لا ينبغي النزاع في الوجوب الإرشادي ، بمعنى أنّ العقل بعد ملاحظة وجوب ذي المقدّمة مع امتناع التوصّل إليه بدون الإتيان بالمقدّمة - كما هو اللازم من معنى المقدّمة - يقوم مقام الناصح الأمين ويحكم بالإتيان بما يتوقّف عليه الواجب ، إلاّ أنّ ذلك منه إراءة طريق المصلحة مع كونه في مقام بذل النصح. ولا ينبغي أن ينازع في ذلك ، فإنّه بمكان من البداهة.

ص: 387


1- راجع القوانين 1 : 104.

وبالجملة ، فالقائل بالوجوب إن أراد الوجوب النفسي أو الأصلي ففساد المقالة ممّا يغني بواسطة بداهتها عن إفسادها ، والنافي إن أراد نفي اللابدّية أو الوجوب العرضي أو الوجوب الإرشادي فالضرورة قاضية بخلافه.

فما ينبغي أن يكون مورد النزاع هو الوجوب التبعي الغيري ، بمعنى أنّ وجوب شيء وإرادته هل يستلزم إرادة إجمالية لمقدّمته ، على وجه لو اريد كشف ذلك الأمر وتفصيله لكان الحاصل منه طلبا أصليّا موجودا في نحو قولنا : « اذهب إلى السوق » أو لا؟

وبعبارة اخرى نقول : لا شكّ في أنّ الطلب في قولنا : « اذهب إلى السوق » طلب غيري وإن كان أصليّا. ولا فرق بين هذه المقدّمة وغيرها من المقدّمات من حيث توقّف الواجب عليها ، فيكون النزاع في أنّ المريد لشيء هل يثبت له حالة نفسانيّة بعد الإرادة بالنسبة إلى المقدّمات على وجه لو التفت إليها صحّ له طلبها على نحو الطلب في قولنا : « اذهب إلى السوق » أو لم يثبت؟ فالنافي يقول بعدمها ، بل الموجود هو أحد المعاني المذكورة من الإرشاد والوجوب العرضي والوجوب العقلي بمعنى اللابدّية. والمثبت يقول بوجودها مضافا إلى الوجوب بأحد المعاني السابقة.

وبالجملة ، فنسبة الطلب الموجود في قولنا : « اذهب إلى السوق » عند القائل بالوجوب إلى الحالة النفسانيّة الطارئة بعد حدوث الطلب النفسي بالنسبة إلى المقدّمة نسبة التفصيل إلى الإجمال ، وعند القائل بالعدم يكون موجودا بنفسه لا يقاس بالنسبة إلى حالة نفسانيّة.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ هذه الحالة الإجماليّة التي يفصّلها الطلب الموجود في « اذهب إلى السوق » هل هي من مقولة الطلب لتتّصف المقدّمة بالوجوب والطلب ، أو لا يكون من معنى الطلب والوجوب فهي موجودة ولكنّها لا توجب وجوب المقدّمة؟ والأظهر أنّ النزاع إنّما هو في وجود تلك الحالة ، لا في أنّها من الطلب أولا.

ص: 388

وبالجملة ، فعلى ما ذكرنا يظهر أنّه ليس القول بالوجوب أو القول بالعدم ضروريّ الفساد ، كما قد يظهر كلّ من الدعويين من الفريقين ، بل التحقيق : أنّ المسألة نظريّة لا وجه لإرسالها في الضروريّات ، كما ادّعاه المحقّق الدواني (1).

نعم ، لو كان المراد بكونها ضروريّة أنّه يكفي في رفع التشاجر ملاحظة الوجدان الخالي عن شوائب الأوهام - وإن لم يكن وجود تلك الحالة بمرتبة من الظهور على وجه يعدّ منكرها من المكابر المتعسّف - كان لها وجه ؛ فإنّ الإنصاف أنّا نجد من أنفسنا من بعد حدوث الإرادة المتعلّقة بالواجب نسبة متعلّقة بمقدّماته على وجه لم يكن لتلك النسبة قبل تعلّق الإرادة به في أنفسنا عين ولا أثر. ونظير ذلك في وجود النسبة مع الغفلة أنّ العبد يجد من نفس المولى حالة نفسانيّة وإن لم يكن من حقيقة الطلب بالنسبة إلى قتل ولده أو إكرامه.

وكيف كان ، فالأظهر في النظر أنّه مع قطع النظر عن الوجوب العقلي والوجوب العرضي والوجوب الإرشادي يكون في المقدّمة وجوب آخر بالمعنى الذي ذكرناه ، والدليل على ذلك هو الوجدان وإن لم يكن ظهوره في الوجدان بمثابة يعدّ منكره مكابرا ، فإنّ مراتب الوجدانيّات في الظهور والخفاء بل ومطلق الضروريّات ممّا لا ينبغي التأمّل في اختلافها.

واعلم أنّ الاقتضاء المستعمل عندهم في عنوان هذه المسألة قد عرفت أنّ المراد به هو الاستلزام العقلي ، ولا مدخل للّفظ فيه ، لعموم الكلام في المقام فيما إذا ثبت الوجوب بالعقل. نعم ، إذا كان الدليل المفيد للوجوب لفظا صحّ الاقتضاء اللفظي ، فيكون وجوب المقدّمة من جهة الدلالة الالتزاميّة فيما لو لم يعتبر فيها اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أو مطلقا ، إذ اللزوم على القول به ليس على وجه يكفي في

ص: 389


1- حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 49.

التصديق به تصوّر الملزوم ، بل يحتاج إلى تصوّر اللازم أيضا ، لا من حيث توقّف التصديق على تصوّر الأطراف فإنّ ذلك في اللازم (1) البيّن بالمعنى الأخصّ أيضا ، بل من حيث إنّ له مدخلا في حصول التصديق ، كما قرّر في محلّه. واللّه الهادي.

ص: 390


1- في ( ط ) : فإنّ ذلك لازم في البيّن.

هداية

قد ذكروا للنزاع في وجوب المقدّمة وعدمه وجوها من الثمرة (1) :

أحدها : حصول البرء من النذر فيما لو أتى الناذر لإتيان الواجب بمقدّمة من مقدّماته على القول بالوجوب ، وعدمه على القول بعدمه.

وفيه - بعد الإغماض عن انصراف الوجوب في مقام النذر إلى الواجب النفسي ؛ بدعوى تعلّق الحكم على الماهيّة مع قطع النظر عن جميع ما عداها - أنّ أمثال ذلك لا يعدّ من ثمرات المسألة الاصوليّة ؛ فإنّها مهّدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة ، وحصول البرء وعدمه في نذر خاص لا يعدّ منها ، كما لا يخفى.

ومنه يعرف الوجه في عدم صحّة جعل ترتّب الثواب والعقاب من الثمرة ، فإنّها أيضا ليست من الأحكام الشرعيّة. على أنّك قد عرفت فيما مرّ بما لا مزيد عليه : أنّ العقل المستقلّ يدلّ على عدم استحقاق الثواب والعقاب ؛ ومن هنا التجأنا إلى تأويل الأخبار الدالّة على ترتّب الثواب (2) ، وكذا الآيات (3). وقد مرّ تحقيق القول في ذلك بما لا مزيد عليه ، فراجعه (4).

ص: 391


1- انظر القوانين 1 : 101 ، والفصول : 87 - 88 ، وهداية المسترشدين 2 : 178 - 179.
2- انظر البحار 70 : 191 ، و 101 : 28.
3- سورة النور : 52 ، والنساء : 140.
4- راجع الصفحة : 340 وما بعدها.

الثاني : ترتّب الفسق على تركها على القول بوجوبها ، وعدمه على عدمه ، كذا ذكره بعضهم (1).

فإن أراد بذلك أنّ ترك واجب واحد ولو لم يكن من الكبائر من حيث إنّه يوجب ترك مقدّمات عديدة له فيتحقّق بواسطة ذلك الإصرار في الصغيرة فيؤول إلى الفسق ، فهو باطل.

أمّا أوّلا : فلعدم الملازمة بين ترك الواجب وبين ترك مقدّماته على وجه يتحقّق موضوع الإصرار ، فإنّه ربّما يستند الترك إلى انتفاء مقدّمة واحدة مع وجود غيرها ، اللّهمّ إلاّ بالقول بكفاية صورة واحدة في المقام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحكم بأنّ تارك المقدّمة فاسق بواسطة الإصرار يوجب ارتفاع الفرق بين الصغيرة والكبيرة في الأغلب ؛ لأنّ ترك الصغائر في الأغلب يوجب ترك المقدّمات على وجه يستلزم الإصرار فيها وإن قلنا بعدم الملازمة ، إلاّ أنّه الأغلب كما لا يخفى. ومع الغضّ عن ذلك فلا نسلّم أنّ الإصرار الحاصل بواسطة ترك المقدّمات يوجب الفسق ، إذ المنساق ممّا دلّ على ذلك إنّما هو فيما إذا كان الواجب واجبا نفسيّا لا غيريّا ، لعدم صدق الإصرار بالمعصية في غيره عرفا. وهو ظاهر بعد ما عرفت من أنّ وجوب المقدّمة لا يورث ثوابا ولا عقابا.

وإن أراد بذلك (2) أنّ ترك الواجب إذا كان من المعاصي الكبيرة حيث إنّه يستند إلى ترك مقدّمة من مقدّماته الاختياريّة ، وإلاّ لم يكن معصية ، فعلى القول بالوجوب يحكم بفسقه حين الترك وإن تقدّم على زمان الفعل - كما أنّه يحكم بفسق التارك للحجّ حين عدم خروجه مع الرفقة وتخلّفه عن القافلة - بخلافه على القول

ص: 392


1- وهو القزويني في ضوابط الاصول : 84.
2- عطف على قوله : فإن أراد بذلك أنّ ترك واجب واحد ...

بعدم الوجوب ، فإنّه يحكم بالفسق في زمان الفعل ، فإنّه هو زمان المعصية ، وأمّا قبل ذلك فلم يكن من زمانها في شيء ، إذ المفروض أنّه ليس وقت الوجوب المتعلّق بالفعل ، والمقدّمة ليست واجبة ، فلا معصية ولا فسق.

وفيه : أنّه لا فرق في ذلك أيضا بين القول بالوجوب وعدمه. أمّا على الأوّل فكما هو واضح من أنّه زمان المعصية. وأما على الثاني فلأن تأثير وجوب المقدّمة في صدق المعصية بالنسبة إلى ذيها قبل مجيء وقته - كما في المثال المفروض - غير معقول.

والتحقيق : أنّ ترك المقدّمة من حيث إيراثه امتناع الفعل المأمور به يلازم صدق المعصية بالنسبة إلى الواجب ، إذ لا يراد من المعصية إلاّ عدم إمكان الامتثال مع عدم سقوط الأمر بالنسخ وأمثاله وعدم الامتثال له ، كما هو ظاهر. وإلاّ فكيف يحكم بأنّ بعد انقضاء الوقت يكون من زمان المعصية ، وليس ذلك إلاّ بواسطة امتناع المأمور به في حقّه مع عدم سقوط الأمر بالنسخ والامتثال. وبالجملة ، فالمدار على صدق المعصية بالنسبة إلى الفعل المأمور به.

فإن قلنا بإمكان ذلك قبل مجيء الزمان باعتبار أنّ صدق المعصية يدور مدار الامتناع على الوجه المزبور فلا يؤثّر في ذلك تعلّق الوجوب بما يصير سببا لامتناعه ، إذ لا كلام في أنّ الوجوب المقدّمي لا يورث فسقا ولا عقابا. وإن قلنا بعدمه اعتمادا على أنّ امتناع حصول الواجب قبل مجيء الوقت ليس بواسطة امتناع المقدّمة في حقّه ؛ بل بواسطة أنّ المقيّد (1) في (2) زمان خاصّ يمتنع وجوده في غيره ، ولمّا كان سبب الامتناع حاصلا للفعل قبل ترك المقدّمة فلا وجه لاستناده إلى المقدّمة

ص: 393


1- في ( ع ) : القيد.
2- لم يرد « في » في ( ط ). والظاهر : بزمان.

لامتناع تحصيل الحاصل ، فلا فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه ، إذ لا نرى في الوجوب وعدمه تأثيرا في ذلك.

الثالث : ما ذكره بعضهم من جواز أخذ الاجرة على المقدّمات على القول بالعدم ، وعدمه على القول بالوجوب (1). ولعلّ ذلك مأخوذ من إرسال بعض الفقهاء عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب ، كالمحقّق حيث أفاد عند عدّه ما يحرم الاكتساب به : « الخامس ما يجب على الانسان فعله » (2) ، أو من معاقد بعض الاجماعات المنقولة (3) وإن لم يقض بذلك على إطلاقه.

وكيف كان ، فالتحقيق أنّه لا أصل لهذا التفريع سواء اخذ بالمقالة المرسلة أو التزمنا بما هو التحقيق عندنا.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ الظاهر من مقالة من حكم بحرمة الاجرة إنّما هو حرمتها سواء كانت مأخوذة في مقابلة نفس العمل أو في مقابلة مقدّماته ، ولا فرق في ذلك بين وجوب المقدّمة وعدمه.

وأمّا على الثاني ، فيتوقّف على بيان ما هو الحقّ عندنا ، فنقول : قد قرّرنا في محلّه أنّه لا منافاة بين الوجوب وأخذ الاجرة على فعل الواجب (4) ، وإنّما المانع عن ذلك في بعض الموارد ليس وجوب الفعل ، وإلاّ لما جاز أخذ الاجرة على الواجبات الصناعيّة الكفائيّة ، وبطلان التالي كالملازمة ظاهر ، ضرورة جواز ذلك اتّفاقا.

ص: 394


1- ذكره الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 179.
2- الشرائع 2 : 11.
3- انظر جامع المقاصد 4 : 37 ، والرياض 8 : 83.
4- انظر المكاسب 2 : 135.

وما قيل : من أنّ وجوب (1) اللازم من الإجارة إنّما يؤكّد وجوب الصناعة على الكفاية فلا ينافي ذلك (2) ، إنّما هو كلام خال عن التحصيل ؛ لجريان ذلك في حقّ الجعل مع أنّه لا وجوب ، بل المانع من ذلك إنّما هو استفادة مملوكيّة العمل الواجب مجّانا للغير من الأخبار الواردة في موارد إثبات تلك الحقوق ، فإنّ المستفاد من الأخبار أنّ المؤمن قد ملك عن أخيه المؤمن امورا ، منها الدفن وما يتعلّق به (3) ، فأخذ الاجرة في قبال العمل المملوك للغير يعدّ من الأكل بالباطل.

هذا إذا كان الواجب من الامور التوصّليّة. وكذا إذا كان الواجب من الامور التعبّديّة ، فإنّ المطلوب من العبد (4) هو الإتيان بالعمل على وجه العبادة ، فكأنّه يكون العمل ملكا لله قد استحقّ (5) عليه بالعمل ، فلا وجه لتمليكه غيره بالعمل المذكور.

وبالجملة ، فالذي قوّيناه في محلّه (6) اختصاص المنع من الاجرة بما إذا استفدنا من دليل وجوب العمل لزوم وقوعه على وجه المجانيّة ، كالدفن أو الكفن ونحوهما ، فإنّ الساعي في مقدّماتهما مثل الساعي في أداء ما عليه أداؤه من العمل إذا ملكه الغير منه ، أو فيما إذا كان الواجب تعبديّا. وأمّا في غير هذه الموارد فلا دليل على حرمة الاجرة ؛ ولذلك قلنا : قضيّة القواعد جواز أخذ الاجرة على القضاء بين المسلمين ، وكذا على السعي إلى الميقات ممّن وجب عليه الحجّ ، فيكون النسبة بين

ص: 395


1- كذا ، والمناسب : الوجوب.
2- انظر مفتاح الكرامة 4 : 92.
3- راجع الأخبار الواردة في حقوق الإخوان ، الوسائل 8 : 542 ، الباب 122 من أحكام العشرة.
4- في ( ع ) ، ( م ) : التعبّد.
5- في ( ع ) ، ( م ) : فلا يستحقّ.
6- انظر المكاسب 2 : 143.

الوجوب و (1) أخذ الاجرة هو العموم من وجه ، فمورد الاجتماع هي الأفعال العباديّة والتوصّليّة التي استفيد من دليلها مملوكيّتها للغير ، ومورد الافتراق من جانب الوجوب هو القضاء بين المسلمين والصناعات العامّة الكفائيّة ، ومورد الافتراق من جانب الحرمة هو مقدّمات الدفن والكفن ، فإنّك قد عرفت أنّ القائل بحرمة الأخذ على وجه الإطلاق لم يفرّق في ذلك بين المقدّمات وغيرها حتّى على القول بعدم وجوبها ، فلا وجه لتفريع الجواز وعدمه على الوجوب وعدمه ، لعدم الملازمة كما عرفت.

الرابع : ما قد نسبه البعض إلى الوحيد البهبهاني ، من أنّه على القول بوجوب المقدّمة يلزم اجتماع الأمر والنهي في الموارد التي تكون المقدّمة محرّمة ، دون القول بالعدم (2).

وفيه : أنّ المقدّمة المحرّمة إن كانت مثل قطع المسافة بالنسبة إلى الحجّ أو نصب السلّم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، من المقدّمات التي ليست متّحدة مع ذي المقدّمة بحسب الوجود الخارجي ، فلا يثمر القول بالوجوب والعدم شيئا ، لأنّه على كلا التقديرين يحصل الامتثال بأمر ذي المقدّمة إذا أتى بالمقدّمة على الوجه المحرّم ، غاية الأمر أنّه على القول بعدم الوجوب لا يلزم اجتماع الأمر والنهي في المقدّمة ، بل المقدّمة إنّما هي محرّمة صرفة لكن حصل بها الوصول إلى ذي المقدّمة الواجب. بخلاف القول بالوجوب ، فإنّه يلزم اجتماعهما على القول بجواز الاجتماع ، فيكون المكلّف الآتي بالمقدّمة على الوجه المحرّم آتيا بالمأمور به والمنهيّ عنه.

ص: 396


1- في ( ط ) زيادة : حرمة.
2- القوانين 1 : 101.

كما أنّه على القول بعدم الجواز يكون حاله كحال المنكر للوجوب في كون المقدّمة محرّمة صرفة مسقطة عن الواجب وإن كانت متّحدة مع ذيها ، كالصلاة في المكان المغصوب ، فإنّ الكون الخاصّ الذي هو مقدّمة لمطلق الكون الذي هو جزء الصلاة - بناء على كون الفرد مقدّمة للكلّي - محرّم متّحد معه في الوجود ، فلا يثمر أيضا القول بوجوب المقدّمة وعدمه شيئا من الصحّة والفساد ، بل مناط الحكم بالصحّة والفساد على أنّه هل يجدي تعدّد الجهات التقييديّة في الموجود الواحد الخارجي في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه أم لا؟ فعلى القول بعدم إجداء تعدّد الجهات مع وحدة الموجود الخارجي لا بدّ من الحكم بفساد الصلاة ، سواء قلنا بأنّ الفرد مقدّمة وإنّ المقدّمة واجبة أو لم نقل ، ضرورة أنّ قضية الاتّحاد اجتماع النهي في المقدّمة مع الأمر بذيها على تقدير الصحّة ، فلا بدّ من الحكم بالبطلان من لزوم الاجتماع الباطل كما هو المفروض. وعلى القول بأنّ تعدّد الجهات في اجتماع الأمر والنهي مجد فلا بدّ من الحكم بالصحّة على تقدير القول بالمقدّمة والوجوب معا وعدمه.

ومن هنا ينقدح لك فساد ما ذهب إليه المحقّق القمّي : من جواز اجتماع الأمر والنهي في الصلاة في الدار المغصوبة ونحوها ، على ما زعمه من أنّ المحرّم إنّما هو خصوص الفرد الذي هو مقدّمة للكلّي الواجب وأنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة (1). إذ بعد تسليم المبنى لا وجه للابتناء أصلا ، فإنّ مدار (2) لزوم محذور وليس وجوب المقدّمة ، بل ملاك ذلك إنّما هو الاتحاد في الوجود المفروض في مثل الفرد والكلّي.

ص: 397


1- القوانين 1 : 140 - 141.
2- في ( ع ) ، ( م ) : « فإنّه لا » وعلى أيّ حال العبارة غير خالية عن الإشكال.

كما يظهر غرابة ما قد نسبه إلى العلاّمة في ذلك وإن لم نتحقّقه منه رحمه اللّه ، قال في قوانينه : الظاهر أنّ الكلام في دلالة الواجب على وجوب جزئه كالكلام في سائر مقدّماته ، والقدر المسلّم من الدلالة هو التبعي ، إلاّ أن ينصّ عليه بالخصوص بعنوان الوجوب ، كما مرّ في حكم المقدّمة الخارجيّة ، وربّما نفي الخلاف عن الوجوب في الجزء لدلالة الواجب عليه تضمّنا ، وهو ممنوع. وقد جعل العلاّمة من فروع المسألة الصلاة في الدار المغصوبة من جهة أنّ الكون الذي هو جزء الصلاة واجب بسبب وجوب الواجب فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه (1).

وفيه : ما عرفت (2) في بعض الهدايات السابقة ، من أنّ الجزء باعتبار كونه متّحدا مع الواجب فيما لوحظ لا بشرط شيء لا ينبغي التشاجر في وجوبه بهذا الاعتبار ، وذلك كاف في عدم جواز اجتماعه مع الحرام ، فلا حاجة إلى القول بوجوب المقدّمة في لزوم المحذور.

لا يقال : إنّ أجزاء الصلاة ليست بأجزاء عقليّة متّحدة مع الكلّ في الوجود الخارجي ، ضرورة تباينها فيه ، كما في أجزاء البيت والسرير ، ومع ذلك فكيف يعقل القول بالاتّحاد؟

لأنّا نقول - بعد الغضّ عن ذلك في خصوص الكون ، فإنّه لا نسلّم فيه المغايرة ، كما لا يكاد يخفى على المتأمّل - : إنّ ذلك لا ينافي ما نحن بصدده.

وتحقيق ذلك : أنّ المركّب ما لم يلاحظ فيه جهة وحدة لا يعقل أن يكون مركّبا (3) ، فتلك الجهة تارة تكون حقيقة كما في المركّبات الحقيقيّة التي لها صورة

ص: 398


1- القوانين 1 : 108.
2- في ( ع ) ، ( م ) زيادة : ممّا.
3- في ( ط ) زيادة : ولعلّ ذلك ظاهر.

واحدة وحقيقة متّحدة خارجيّة ، واخرى تكون اعتباريّة كما في البيت والسرير. فعلى الأوّل يكون الكثرة اللازمة للمركّب كثرة في مرتبة (1) من الاعتبار والتعمّل. وعلى الثاني يكون الكثرة حقيقية ، والأجزاء في المركّب الحقيقي ظاهر اتّحادها في الوجود الحقيقي ، وفي المركّب الاعتباري إنّما تتّحد مع الكلّ في الوجود الاعتباري الثابت للمركّب من حيث هو مركّب. وذلك ظاهر عند المتأمّل المنصف.

وكيف ما كان ، فالمقدّمة إمّا أن تكون متّحدة الوجود مع ذيها أو لا ، وعلى التقديرين ، فإن أراد القائل بالثمرة المذكورة أنّ ذلك يجدي في الحكم بالصحّة والفساد ، فلا وجه لما تخيّله. أمّا في صورة الاتّحاد ، فلما عرفت من إمكان الحكم بالفساد ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة كما هو قضيّة الاتّحاد. وأمّا في صورة التغاير ، فعند الانحصار فهي حرام قطعا ولا وجوب فيها ، ومع ذلك لا تؤثّر في الفساد ، بل الواجب حاصل بعد حصوله ، لكونها موصلة إلى ما هو المقصود حقيقة ، كما في الركوب على دابّة مغصوبة في الحجّ. وعند التعدّد فغاية الأمر هو الوجوب في الجملة أيضا ، إلاّ أنّ ذلك لا تأثير له في الفساد أيضا ، كما هو ظاهر. وإن أراد بذلك مجرّد ثبوت مورد قد اجتمع فيه الأمر والنهي وإن لم يكن لذلك مدخل في الصحّة والفساد فهو في محلّه ، إلاّ أنّه بعيد عن مقاصد العلماء ، إذ غاية ذلك تكثير الأمثلة التي اجتمع فيها الأمر والنهي.

الخامس : ما قيل : من أنّ القول بوجوب المقدّمة يؤثّر في صحّتها إذا كانت عبادة ، كما أنّ القول بعدم الوجوب يقضي بفسادها حينئذ (2).

ولعلّ وجهه ما قد يتخيّل : من أنّ صحّة العبادة متوقّفة على الأمر ، والقول بالوجوب يوجب تعلّق الأمر بها فيمكن وقوعها صحيحة ، بخلاف ما إذا لم تكن

ص: 399


1- في ( ع ) بدل « مرتبة » : ماهيّته.
2- هداية المسترشدين 2 : 178 - 179 ، والفصول : 87.

واجبة ، إذ الكلام إنّما هو في المقدّمة العباديّة التي ليست براجحة في حدّ ذاتها ، كالتيمّم عند البعض (1). فعلى الأوّل يمكن الإتيان بالواجب الموقوف على مثل المقدّمة المفروضة وإن لم يتعلّق بها سوى ما يترشّح من الأمر بذيها. وعلى الثاني لا يمكن ، لعدم الاقتدار عليه بعد توقّفه على مقدّمة موقوفة على أمر غير حاصل.

وفيه ما عرفت سابقا : من أنّ الأمر المقدّمي لا يؤثّر صحّة ولا شيئا آخر. وإن كنت على ريبة فراجع ما تقدّم.

السادس : ما يقال : من أنّ القول بوجوب المقدّمة يؤثّر في فساد العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الضدّ ، بخلاف القول بعدمه ، فإنّ الترك ليس مقدّمة فلا يكون واجبا فلا يكون فعله حراما فلا يكون فاسدا (2) ، ولذلك قد التجأ بعض من لم يقدر على حلّ الشبهة المعروفة في فساد العبادة إلى منع وجوب المقدّمة (3).

وكيف كان ، هذه الثمرة - التي قد زعمها بعضهم من أهمّ الثمرات - أيضا ممّا لا يرجع إلى حاصل ولا يعود إلى طائل (4).

أمّا أوّلا : فللمنع من كون الترك مقدّمة ، والسند ممّا ستعرفه في محلّه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ اللابدّية التي يرجع معنى المقدّمة إليها يكفي في الحكم بالفساد ، إذ لا يعقل الأمر بشيء مع الأمر بما ليس للمكلّف بدّ من تركه لو اريد الامتثال به ، وعند عدم الأمر لا معنى للصحّة ، إذ الكلام في العبادات. وأمّا المعاملات فيبنى على أنّ النهي التبعي هل يستلزم فسادا؟ وستعرف تحقيق القول في ذلك. واللّه هو الهادي.

ص: 400


1- انظر القوانين 1 : 101 ، والفصول : 81.
2- انظر الفصول : 95 ، وهداية المسترشدين 2 : 269 وما بعدها.
3- انظر الفصول : 95.
4- العبارة في ( ع ) و ( م ) : ممّا لا يرجع إلى طائل.

هداية

في بيان الأصل في المسألة والأقوال فيها ، فنقول :

قد عرفت أنّ النزاع إنّما هو في حكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء وبين وجوب مقدّماته ، وأنّ وجوب المقدّمة لا يستلزم عقابا ولا ثوابا ، فلا وجه لما يظهر من البعض (1) من التمسّك بأصالة البراءة في رفع الوجوب ؛ لأنّ جريانها إنّما هو فيما يحتمل العقاب ، والمفروض عدمه في المقام.

وأمّا أصالة العدم فيمكن تقريرها بوجه ، كأن يقال : لا شكّ في أنّه قبل حدوث الطلب المتعلّق بالفعل لم يكن مقدّماته مطلوبة - ولو على الوجه المتنازع فيه - وبعد تعلّقه به نشكّ في تعلّقه بها أيضا ، والأصل يقضي بعدم تعلّقه بها ، فالأصل مع النافين. كذا افيد.

قلت : ولعلّه في غير محلّه ، فإنّ الأصل هذا على تقدير جريانه إنّما هو في غير ما عنون به المبحث ، إذ من المعلوم أنّه لا حاجة في تشخيص الأصل فيها إلى حدوث الطلب وتعلّقه بالفعل ، فكيف بمقدّماته؟

ومن هنا تعرف أنّه لا أصل في المسألة ، فإنّ العقل إمّا أن يكون حاكما بالملازمة بين الطلبين أو لا ، وعلى التقديرين لا شكّ هناك حتّى يجري الأصل (2) ، كما لا يخفى.

ص: 401


1- راجع القوانين 1 : 104.
2- العبارة في ( ط ) هكذا : وعلى التقديرين لا وجه للاستناد إلى الأصل لارتفاع الشك على التقديرين.

وأمّا الأقوال في المسألة ، فعلى ما استقصيناه (1) أربعة :

أحدها : - كما هو المنسوب إلى الأكثر (2) - هو الوجوب مطلقا ، وقد نقل الآمدي الإجماع عليه (3) كما حكي عنه. وناقش فيه المحقّق الخونساري : بأنّ الموجود من عبارة إحكامه دعوى اتّفاق أصحابه والمعتزلة عليه ، ونسب الخلاف إلى بعض الاصوليّة (4).

وثانيها : النفي مطلقا ، وقد نسبه الآمدي كما تقدّم إلى البعض ، إلاّ أنّ المحقّق المذكور نفاه. والظاهر من عبارة المنهاج وجود القائل به (5) ، ويحتمله عبارة المختصر (6)(7).

وثالثها : التفصيل بين السبب وغيره ، فقالوا بالوجوب في الأوّل وبعدمه في الثاني. وقد نسبه البعض (8) إلى الواقفيّة ، واختاره صاحب المعالم (9). وقد نسبه

ص: 402


1- في ( ط ) : ما استقصاه بعض الأساطين.
2- نسبه المحقّق القمّي في القوانين 1 : 103.
3- الإحكام في اصول الأحكام 1 : 153.
4- حاشية شرح مختصر الاصول ( مخطوط ) الورقة : 134 ، وإليك نصّه : وقد نسب إلى الآمدي ادّعاء الإجماع عليه ، وهو فرية ، بل ادّعى في الإحكام : اتفاق أصحابه المعتزلة عليه ، ونسب الخلاف إلى بعض الاصوليّة.
5- حاشية شرح مختصر الاصول ( مخطوط ) الورقة : 134 ، وإليك نصّه : وثانيها عدم الوجوب مطلقا ، ولم يظهر قائل به على التعيين ... لكن سينقل المحشّي وجود القول به عن المنهاج.
6- راجع المختصر وشرحه للعضدي : 90 - 91.
7- في ( ط ) زيادة : على ما حكي عنها.
8- القوانين 1 : 104.
9- المعالم : 61 - 62.

العلاّمة (1) إلى السيّد ، وعبارته على ما نقلناها عن الذريعة (2) ممّا لا تأباه بحسب الأنظار البادئة ، إلاّ أنّ مساق كلامه فيما بعده - على ما يظهر للمتأمّل - يأباه ، كما تفطّن له صاحب المعالم (3) ، وقد اعترضه (4) الكاظمي في شرح الوافية (5) والمحصول (6). وفيما ذكرنا سابقا غنية عن إطالة الكلام في المقام.

ورابعها : التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره. وهو المنقول عن الحاجبي (7) ، وتبعه العضدي (8) في ذلك. واللّه الهادي.

ص: 403


1- نهاية الوصول : 94.
2- الذريعة 1 : 83.
3- المعالم : 6.
4- في ( ط ) زيادة : النحرير السيّد.
5- الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) : 255 - 256.
6- لا يوجد لدينا ، وحكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 49.
7- انظر المختصر وشرحه للعضدي :7. 91.
8- انظر المختصر وشرحه للعضدي :7. 91.

ص: 404

هداية

في ذكر حجج القائلين بالإثبات

فنقول : حجّة القول بالوجوب وجوه :

أحدها - وهو أسدّها وأقومها - : ما احتجّ به الاستاذ - دام بقاه - من شهادة الوجدان السليم والطبع المستقيم بذلك ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه مع خلوّ طبيعته عن الاعوجاج الفطري وبراءة قريحته عن اللجاج الطبيعي ، يحكم حكما على وجه الجزم واليقين بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلّق بالفعل وبين الطلب المتعلّق بمقدّماته على الوجه الذي أشرنا إليه في تحرير محلّ الكلام.

ونزيدك توضيحا في المقام : بأنّ المدّعى ليس تعلّق طلب فعلي بالمقدّمة على وجه تعلّقه بذيها ، كيف! والضرورة قضت ببطلانه ، لجواز الغفلة عن المقدّمات بل واعتقاد عدم التوقّف بينهما ، بل المقصود أنّ المريد للشيء لو راجع وجدانه يجد من نفسه حالة إجماليّة طلبيّة متعلّقة بمقدّماته على وجه لو حاول كشف تلك الحالة وتفصيلها لكان ذلك في قالب الأمر والطلب التفصيلي ، كما يرى مثل ذلك من (1) محبوبيّة إنقاذ الولد وإن لم يكن عالما به بل وبالنسبة أيضا. فمجرّد الذهول عن الشيء لا يقضي بسلب جميع أنحاء الوجود عن الشيء ، وكم من امور مركوزة في الخاطر مع انتفاء الالتفات إليه حتّى أنّ تلك الحالة حالة يمكن النزاع في كونها من سنخ الطلب

ص: 405


1- في ( م ) : في.

أو لا ، على ما نبّهنا عليه سابقا. مع أنّ ثمرة الكلام في أوامره تعالى ، ومن المعلوم انتفاء الاحتمال في حقّه تعالى وإن كان عنوان البحث يعمّه وغيره أيضا ، كما في سائر المباحث الاصوليّة. فما يمكن أن يكون ربطا بين المقدّمة وذيها من حيث الطلب هو ما ذكرناه وإن اختلفت شئونه وأطواره في الإجمال والتفصيل ، فتارة يتقمّص قميص الوجود الأصلي التفصيلي ويظهر في مظاهر الطلب والأمر من الامور التي يكشف عنه ، وأخرى يتجلّى (1) بكسوة الوجود التبعي الإجمالي ، وهو في هذه الحالة ممّا لا يعقل أن يكون له عبارة مستقلّة.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد من ادّعى الضرورة في ذلك ، كما نقل عن المحقّق الدواني (2) ، وإلاّ فالظاهر أن ليس المراد بها ضرورة الدين على نحو ما يدّعى في أمثال المقام. ومع ذلك فلعلّ الحكم بالوجوب ليس بهذه المكانة (3) من الظهور ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم (4).

ولا أقول : إنّ الحكم بثبوت الملازمة يحتاج إلى وسط في التصديق ، كيف! وقد قلنا بشهادة الوجدان بذلك ، ومن المعلوم أنّ الوجدانيّات من القضايا الضروريّة ، بل المقصود أنّ الحكم بذلك ليس على وجه يعدّ منكره مكابرا لاحتمال تطرّق الشبهة فيه كثيرا ، بخلاف غيره ، ضرورة اختلاف مراتب المعلومات شدّة وضعفا وإن كانت من الوجدانيّات. وهذا هو المراد ممّا قرع سمعك فيما تقدّم أنّ الحكم المذكور من الأحكام النظريّة. فتدبّر.

ص: 406


1- في ( م ) : يتحلّى.
2- نقله المحقّق النراقي في مناهج الأحكام : 49.
3- في ( ع ) و ( م ) : المثابة.
4- تقدم في الصفحة : 352.

الثاني : اتّفاق جميع أرباب العقول على ذلك على وجه يكشف عن ثبوت المتّفق عليه بحسب الواقع. ولعلّ ذلك مراد من ادّعى الإجماع على ذلك ، نظير ما قد ادّعاه بعض أساطين المعقول من إجماع أرباب الملل على حدوث العالم بالحدوث الزماني وكونه مسبوقا بالعدم الواقعي (1).

ومنه يظهر فساد ما ربّما يتخيّل : من أنّ الإجماع في المسألة الاصوليّة غير ثابت الحجيّة ، إذ بعد الغضّ عن أنّ الإجماع في محلّه حقيقة لا وجه للمنع عن حجيّته وإن كانت مسألة أصوليّة.

يرد عليه : أنّ ذلك إنّما يتّجه إذا كان المراد هو الإجماع المصطلح. وأمّا على الوجه الذي قرّرناه فلا مساق للكلام المذكور بوجه.

الثالث : ما احتجّ به جماعة ، أوّلهم - على ما هو المنسوب إليه - أبو الحسين البصري (2) ، وتبعه في ذلك من تأخّر عنه (3) ، وهو : أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، فحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بالمحال ، وإلاّ يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا وقد فرضناه كذلك ، وبطلان اللازمين ممّا لا كلام فيه ، فكذا الملزوم ، فيجب أن تكون واجبة.

والمراد من عدم الوجوب المذكور في المقدّم في الشرطيّة الاولى أعمّ من أن يكون بفقد الجنس والفصل - أعني المنع من الترك - أو بفقد الفصل فقط ، والمراد من الجواز المأخوذ في التالي فيها هو مجرّد اللاحرج الملحوظ في

ص: 407


1- انظر گوهر مراد : 164 - 165.
2- نسبه إليه الآمدي في الأحكام 1 : 153.
3- منهم المحقّق في المعارج : 74 ، والعلاّمة في نهاية الوصول : 94 ، ومبادئ الوصول : 107 ، وصاحب الفصول في الفصول : 84.

أفعال الصبيان والمجانين ، فإنّ ارتفاع الوجوب (1) يوجب عدم الحرج في الترك ، ضرورة استحالة ارتفاع النقيضين ، فالترك عند عدم الوجوب يكون ممّا لا حرج فيه.

وبذلك يندفع ما عسى أن يتوهّم : من أنّ عدم الوجوب لا يوجب الجواز على وجه الإباحة الشرعيّة ، لأنّ اللابدّية التي مرجعها إلى معنى المقدّمة يمنع من ورود حكم شرعي عدا الوجوب - ولو كان إباحة - على المقدّمة إذا كان ذوها موردا للوجوب الشرعي - على ما قرّرنا في دفع بعض الثمرات المتقدّمة - فالملازمة في الشرطيّة الاولى ممّا لا غبار عليها. وما اضيف إليه الظرف في قوله : « فحينئذ » يحتمل وجوها :

أحدها : ما استفاده صاحب المعالم ، وهو الجواز (2). ومن هنا اورد عليه : بأنّ الإيجاب لا يعقل أن يكون مؤثّرا في القدرة.

وثانيها : ما نسبه البعض إلى السبزواري (3) ، وهو الترك. والظاهر أنّ مجرّد الترك لا يلازم اللازمين المذكورين ؛ إذ الترك على تقدير الوجوب بمنزلة ترك نفس الواجب ، فيختار ارتفاع التكليف ولا يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، لأنّ ارتفاعه إمّا بالامتثال أو بتحقّق المعصية ، وعند الوجوب إنّما يرتفع بواسطة تحقّق العصيان.

وثالثها : أن يكون المراد هو الترك على وجه الجواز. وهو الظاهر من الدليل ، فيترتّب عليه أحد المحذورين بحسب الظاهر ، لأنّ جواز ترك المقدّمة مع وجوب

ص: 408


1- في ( ع ) ، ( م ) بدل « الوجوب » : الحرج.
2- المعالم : 62 - 63.
3- حكى عنه في ضوابط الاصول : 84.

ذيها عند الترك يوجب التكليف بما لا يطاق على تقدير ثبوت التكليف ، وخروج الواجب عن وجوبه على تقدير عدمه. كذا افيد (1).

قلت : الظاهر منه - دام بقاه - إرادة توجيه الدليل على وجه لا يعدّ هجرا من الكلام ، وإلاّ فالحقّ أنّ ذلك لا يجدي في دفع الاعتراض.

أمّا أوّلا : فلأنّ تفسير الجواز بمجرّد اللاحرج - بعد أنّه خلاف الظاهر من « الجواز » المأخوذ في الدليل فإنّه ظاهر في الجواز بمعنى الترخيص - ممّا لا وقع له ، فإنّ ذلك يوجب خلوّ الواقعة عن الحكم ، والتزامه لعلّه ليس في محلّه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تقييد الترك بالجواز بمعنى اللاحرج لا يجدي في ترتّب أحد المحذورين ، لأنّ الوجه في لزوم الشقّ الثاني من الترديد في الحقيقة هو التناقض الثابت على تقدير الترخيص ووجوب الفعل - كما لا يخفى على الملاحظ في لبّ الدليل - وعلى تقدير انتفاء الحكم الترخيصي لا يلازمه ، لأنّ ارتفاع الوجوب إنّما هو بواسطة تحقّق المعصية عند ترك المقدّمة ، وذلك ظاهر عند التأمّل.

وكيف كان ، فقد أجيب عن الدليل تارة بعد اختيار الشقّ الأوّل من الترديد بمنع الملازمة ، إذ الممتنع إنّما هو الإتيان بذي المقدّمة بشرط عدم المقدّمة لا في حال عدمها ، ضرورة ثبوت الفرق بين المشروطة بشرط الوصف وبينها ما دام الوصف ، كما في تكليف الكفّار بالفروع حال الكفر. وتارة اخرى بمنع بطلان التالي ، نظرا إلى ما اشتهر : من أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإنّ المكلّف بالفعل بعد ما أقدم على ترك المقدّمة وصار بنفسه سببا لامتناع الفعل في حقّه لا مانع من تعلّق التكليف به ووجوبه عليه.

وبعض المحقّقين قد تكلّف في دفعه وجها آخر ، حيث أفاد في حاشيته على المعالم - بعد ما أورد على نفسه : بأنّ الامتناع من أيّ جهة كان يوجب قبح الطلب

ص: 409


1- انظر إشارات الاصول : الورقة 71 ، وضوابط الاصول : 87.

من الحكيم - أنّ أوامر الشارع للمكلّفين (1) ليس على قياس (2) أوامر الملوك والحكّام الّذين غرضهم حصول نفس الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده حتّى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه سفها وعبثا ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض : أنّ اللائق بحاله كذا ، وإن فعل كذا كان أثره كذا ، وإن فعل بخلافه كان أثره بخلافه. وهذا المعنى باق في جميع المراتب لا ينافيه عروض الامتناع بالاختيار للفعل ، إذ بعد ذلك أيضا يصحّ أن يقال : « إنّه فات عنه ما هو لائق بحاله » ويترتّب على ذلك الفوت الأثر الذي كان أثره ، وليس معنى كونه مكلّفا حينئذ إلاّ هذا ، ولا يتعلّق للشارع غرض بحصول ذلك الفعل ووجوده حتّى قيل : إنّه لا يتصوّر حينئذ (3) ، انتهى ما أفاده.

والجواب : أمّا عن الأوّل : فبأنّ الفرق بين المشروطتين إنّما يجدي فيما إذا كان الإتيان بالفعل في الآن الثاني من زمان الامتناع ممكنا ، كما إذا كانت المقدّمة الّتي صار تركها موجبا لامتناع الفعل من الأفعال الاختياريّة مع بقاء الاختيار بالنسبة إليها أيضا ، كما في مثال تكليف الكفّار. وأمّا إذا كانت المقدّمة المتروكة ممّا لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بها في الآن الثاني من الامتناع - كما هو المفروض في الدليل - فلا وجه للفرق بين المشروطتين.

وتحقيق ذلك : أنّ ملاك الفرق بينهما إنّما هو بواسطة إمكان انقلاب الوصف إلى نقيضه في المشروطة ما دام الوصف ، وامتناعه في الاخرى. وبعد ما فرضنا من أنّ الكلام في المقدّمة المتروكة الّتي لا يمكن للمكلّف الإتيان بها وإدخالها في الوجود

ص: 410


1- في ( م ) : على المكلّفين.
2- في ( ع ) : على طرز.
3- حاشية سلطان العلماء : 280.

ولو بالعرض فلا وجه للفرق المذكور ، ألا ترى أنّ الوجه المذكور لا ينهض مصحّحا للقول بتكليف المرتدّ الفطري بناء على عدم قبول التوبة منه.

ومن هنا ينقدح فساد ما قد يظهر من المعالم وبعض الناظرين في كلامه : من أنّ الكلام إنّما هو فيما هو مقدور بالنظر إلى ذات المكلّف به والزمان والمكان وسائر الامور الخارجة سوى إرادة المكلّف واختياره ، فكيف يصير ممتنعا امتناعا مانعا عن تعلّق التكليف بمجرّد إرادته واختياره؟ كيف! ولو كان كذلك لما تحقّق عاص بترك الواجبات مثلا ، إذ الفعل ممتنع فيه بالنظر إلى إرادته واختياره عدمه (1) ، انتهى.

وليت شعري! فهل يذهب وهم إلى أنّ مدار الاستدلال على ترك مقدّمة اختياريّة يمكن الإتيان بها في الآن الثاني ، ومع ذلك اختلط عليهما الأمر؟ فتدبّر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تسليم ذلك في مثل تكليف الكفّار بالفروع إنّما هو على سبيل التنزّل وفي بادئ النظر ، وإلاّ فالنظر الدقيق ممّا يحيل ذلك فيه أيضا.

وبيانه : أنّ إمكان الفعل حال عدم المقدّمة إن اريد به الإمكان الذاتي مع قطع النظر عن وقوعه في الوجود ، فلا يفرق ذلك بين أن يؤخذ بشرط الوصف أو في حال الوصف ، ضرورة اجتماع الإمكان الذاتي مع الامتناع العرضي. وإن اريد به الإمكان بمعنى وقوعه في الخارج ووجوده فيه فالضرورة قاضية بامتناع الوجود حال العدم ، وإنّما الفرق إنّما هو بالنسبة إلى الآن الثاني من زمان الامتناع. وذلك ظاهر في الغاية.

وأمّا الجواب عن الثاني : فيتوقّف على تحقيق القول فيما تداول بينهم ، من أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار. فقيل بالمنافاة مطلقا (2). وقيل بها فيما إذا لم يكن

ص: 411


1- حاشية سلطان العلماء : 280.
2- لم نعثر على قائله.

الاختيار باقيا ، كما في تكليف الكفّار (1). وقيل بالتفصيل بين الخطاب فقال بها ، والعقاب فقال بعدمها (2).

والتحقيق أن يقال : هذه القضيّة إنّما اشتهرت بين العدليّة كقضيّة اخرى قائلة : بأنّ الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار. وهاتان القضيّتان إنّما سيقتا (3) في قبال الأشعري القائل بأنّ بعد وجود العلّة التامّة لأحد طرفي الممكن لا يعقل القول ببقاء الاختيار لامتناع التخلّف - ومن هنا التجأ بعض الأخباريّة من أصحابنا (4) إلى جواز التخلف - وعند عدمها يمتنع وجود الفعل لبطلان الأولويّة الذاتيّة ، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وما لم ينسدّ جميع أنحاء وجوده ولم يمتنع لم يعدم. والمقصود منها هو : أنّ الامتناع الحاصل بسبب اختيار الفاعل أحد طرفي الفعل الممكن صدوره وعدمه منه لا ينافي كون الفعل اختياريّا للمكلّف والفاعل ، فيعاقب عليه أو يثاب لأجله ؛ ومن هنا تراهم يعقّبونه بقولهم : « بل يؤكّده » فإنّ التأكيد إنّما هو بواسطة أنّ الامتناع إنّما هو بواسطة اختيار المكلّف صدور الفعل ، ولا مدخل لذلك فيما نحن بصدده.

وتوضيحه : أنّ هناك مطلبين ، أحدهما : أنّ الفعل الاختياري هل يخرج عن كونه اختياريّا بواسطة عروض الامتناع عليه حين اختيار الفاعل أحد طرفي الفعل أولا؟ والثاني : أنّ بعد عروض الامتناع له ولو بواسطة الاختيار هل يصحّ التكليف بذلك الفعل الممتنع أولا؟ والقضية المذكورة إنّما هي مسوقة في المقام

ص: 412


1- لم نعثر عليه.
2- قاله القزويني في ضوابط الاصول : 82 و 151 ، والسيد الكاظمي في الوافي : 257 - 258.
3- في ( ط ) : إنّما هما مسوقتان في كلامهم.
4- راجع لما قاله الأشاعرة وما التجأ إليه بعض الأخبارية ، الفوائد المدنيّة : 244.

الأوّل ، ولا مدخل لها بالمقام الثاني ، كيف! وقضيّة القواعد العدليّة فسادها في الثانية مع أنّها موروثة عن الأساطين ، بل وعليه أساس اصول الدين.

وبالجملة ، أدلّة امتناع التكليف بالمحال قائمة فيها من لزوم السفه على الآمر ، بل عدم تأتّي الطلب مع العلم بامتناع المأمور به ، وتقبيح العقلاء لمن طلب أمرا ممتنعا من غير انتظار منهم لأن يستعلم بأنّ الامتناع إنّما نشأ من المأمور أو من غيره ، ولو اريد استكشاف ذلك لكان المستكشف ملحقا بأصحاب السوداء ويكون كلامه من مقالة أرباب الجنون ، فإنّه فنون.

لا يقال : إنّ الدليل على اعتبار الإمكان في المأمور به ليس إلاّ أن يكون الفعل متعلّقا لقدرة المكلّف ، والمفروض أنّ القدرة باقية بعد الاختيار ، إذ لولاه لزم خروج الفعل بعد صدوره عن مقدرة المكلّف.

لأنّا نقول : ذلك كلام خال عن التحصيل جدّا ، فإنّ الدليل على اعتبار القدرة في الفعل المأمور به هو العقل ، وهو قاض باعتبار صفة في الفعل على وجه يمكن أن يكون ذلك متعلّقا لاختيار المكلّف أحد طرفيه بالفعل ، وهذا هو المراد بالقدرة. ولو سلّم أنّ بعد الاختيار لا يخرج الفعل عن المقدوريّة - كما هو المذكور في الاعتراض - فلعلّه بواسطة أنّ المراد بها ليس ما ذكرنا ، وإلاّ فعلى ما عرفت المراد منها كيف يعقل القول ببقاء القدرة بعد الاختيار وعروض الامتناع ولو بواسطة الاختيار؟

ومن هنا ينقدح لك أنّ القولين الآخرين (1) في المسألة ممّا لا مساق لهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه مبنيّ على اشتباه نبّهنا عليه في الجواب عن الاعتراض الأوّل.

ص: 413


1- في ( م ) : الأخيرين.

وأمّا الثاني : فلأنّ العقاب على فعل غير مقدور ممّا لا يستحسنه العقلاء. نعم ، لو اريد بالعقاب هو العقاب بواسطة تفويته التكليف وتسبيبه لعروض الامتناع لم يكن بعيدا عن الصواب.

فالّذي يتأتّى على مذهب العدليّة هو القول الأوّل ، ولا وجه للمنع عن بطلان التالي في الاستدلال المذكور ، كما هو ظاهر.

وأمّا الجواب عمّا تكلّفه المحقّق المزبور (1) ففي غاية الظهور ، إذ على ما زعمه لا فرق بين التكليف بالامور المستحيلة الذاتيّة وبين المطالب الممتنعة بالعرض ، فإنّ بيان المصالح المودعة في الأشياء لا يختصّ بالأمور الممكنة.

لا يقال : ذلك بواسطة إمكان صدورها عن المكلّفين.

لأنّا نقول : وهذا هو الوجه في امتناع التكليف في الممتنعات العرضيّة أيضا ، لعدم إمكان صدورها عنهم ، على أنّ الضرورة تشهد بأنّ أوامر اللّه تعالى ليست من قبيل أوامر الطبيب على وجه تكون خالية عن المولويّة ، بل التحقيق أنّها من قبيل أوامر المولى الطبيب بالعبد (2) المريض ، ولا يعقل إنكار الطلب رأسا في الأوامر الشرعيّة. ولعلّ الّذي دعاه إلى ذلك هي الشبهة المعروفة في تصحيح تكليف الكفّار والعصاة ، حيث إنّه بعد العلم بعدم وقوع المكلّف به في الخارج لا وجه للتكليف والطلب. وقد تعرّض أصحابنا لدفعها في الكتب الكلاميّة (3) بما لا مزيد عليه.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إن أراد المستدلّ من بقاء التكليف حال ترك المقدّمة كون الفعل بحيث ينتزع منه وصف الوجوب وإن لم يكن موردا للطلب الفعلي

ص: 414


1- تقدّم كلامه في الصفحة : 409 - 410.
2- كذا ، والمناسب : للعبد.
3- راجع كشف المراد : 322 - 324.

على وجه يستلزم تركه العقاب حال عدم المقدّمة فهذا ضروري الوجود ، فنحن نختار بقاء التكليف ولا يلزم محذور ، إذ المرجع فيما ذكرنا إلى أنّ وجوب الفعل الموقوف على المقدّمة ممّا لا يختلف بالنسبة إلى وجود المقدّمة المتروكة وعدمها. وليس ذلك من التكليف بالممتنع ، بل هو تكليف بأمر مقدور عرضه الامتناع ، فكما أنّ هذه الصفة تنتزع من الفعل حال الإتيان بالمقدّمة بل ونفس الفعل ، فكذا ينتزع منه حال عدمها. ولعلّه إلى ذلك يشير عبارة المعالم من قوله : « بعد القطع ببقاء الوجوب المقدور كيف يكون ممتنعا » (1).

وإن أراد أنّ الطلب الفعلي موجود حال عدم المقدّمة نحو وجوده قبل زمان العدم عند الاقتدار عليه ، فنحن نختار عدم البقاء نظرا إلى امتناع صدور هذا النحو من التكليف - على ما عرفت في الجواب عن الاعتراض السابق - ولكن نمنع لزوم اللازم ، فإنّ ذلك يلزم لو قلنا بأنّ عدم المقدّمة تكشف عن عدم كون ذيها مطلوبا عند العدم فيكون الواجب مشروطا ، أو قلنا بانخلاعه عن وصف الوجوب مطلقا. ونحن في سعة من ذلك ، فنقول بوجوبه على الإطلاق وبعدم انخلاعه عن صفة الوجوب مع سقوط الأمر ، لأنّ سقوط الأمر تارة بحصول الامتثال ، واخرى بحصول العصيان. والثاني يتحقّق عند ترك المقدّمة ، فلا يلزم المحذور مع سقوط الأمر والتكليف بمعنى الطلب الفعلي ، وذلك ظاهر.

فإن قلت : قبل زمان الفعل كيف يتحقّق المعصية ولو مع ترك المقدّمة؟ فإنّ التارك للسير إلى الحجّ قبل مجيء العرفة لا يعقل أن يكون مخالفا للأمر بالوقوف فيها ؛ لأنّه موقّت بوقت مخصوص.

قلت : لا غبار على ذلك بعد ما مرّ مرارا ، من أنّ المدار في طريق الإطاعة

ص: 415


1- المعالم : 62.

والعصيان هو العرف وطريقة العقلاء في استخدام الموالي عبيدهم ، ونحن بعد ما راجعناهم نجدهم مطبقين على عقاب عبد مأمور بشيء في وقت مع ترك مقدّمته قبل ذلك الوقت ، بل الانتظار إلى ذلك الوقت إنّما يعدّ لغوا عندهم فيما هو المفروض من امتناع الفعل بعده.

نعم ، فيما لو كان الفعل محتمل الحصول بعد ترك المقدّمة كان الوجه هو عدم الاستحقاق إلى أن يحصل الامتناع ، إمّا بحضور الوقت أو بغيره. لكن قد عرفت أنّ الكلام ليس على هذه الملاحظة.

وقد يقال : إنّه يصدق على التارك للمقدّمة قبل حضور زمان ذيها أنّه حقيقة ترك نفس الفعل في وقته فليس ذلك من قبيل تقدّم المعلول على العلّة ، فيصدق على من لم يخرج مع القافلة الأخيرة أنّه ترك الحجّ في ذي الحجّة.

وفيه نظر ؛ لأنّ الفعل الملحوظ وقوعه في وقت تارة يكون انتفاؤه بواسطة انتفاء الوقت - إمّا لعدم حضوره ، وإمّا لانقضائه - وتارة يكون بواسطة انتفاء نفس الفعل في ذلك الوقت. ولا شكّ أنّ عدم الفعل المذكور بواسطة عدم حضور زمانه ، فلا يصحّ استناده حقيقة إلى اختيار المكلّف ، لعدم اقتداره عليه بعد انتفاء القيد والوقت ، فيكون العدم مستندا إلى ما هو الأسبق من أجزاء العلّة في العدم ، وهو انتفاء الوقت.

نعم ، بعد حضور الوقت تنقلب النسبة فيصير الترك مستندا إلى الاختيار ، كما هو الشأن في أجزاء العلّة فيما إذا انقلبت نسبة الوجود والعدم فيها ، بأن ينعدم الموجود بعد وجود المعدوم ، وذلك ظاهر.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة المذكورة هو ما قلنا : من أنّ العقلاء يستحسنون المذمّة على عبد ترك المقدّمة مع امتناع ذيها في حقّه وإن لم يكن وقت الفعل حاضرا ، ولا حاجة إلى صدق قولنا : إنّه ترك الواجب حقيقة ، حتّى يرد عليه ما ذكرنا.

ص: 416

ويمكن أن يجاب عن الدليل بوجه أخصر ، كأن يقال : المستدلّ إن أراد إثبات وجوب المقدّمة مع الحكم بعدم وجوب ذيها فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، وإن كان قد يظهر من المدارك (1) والكفاية (2) تبعا للأردبيلي (3) حيث حكموا بعقاب الجاهل على ترك الفحص والتعلّم دون الواقع. ومن هنا أورد عليهم المحقّق الجمال (4) : بأنّه يلازمه القول بوجوب المقدّمة دون ذيها.

وبالجملة ، فإنّ ذلك وإن أمكن القول به عقلا على أن يكون العقاب على الحركة الصادرة من المكلّف ابتداء كما في التوليديّات ، إلاّ أنّه خروج عن الظاهر ومصير إلى خلافه مع انتفاء دلالة عليه. على أنّ التحقيق أيضا هو استناد الأفعال التوليديّة إلى المكلّف نحو استناد غيرها من الأفعال الصادرة لا بواسطة.

والظاهر أنّ المستدلّ أيضا لم يكن مقصوده ذلك ، حيث إنّه بصدد إثبات وجوب المقدّمة بواسطة وجوب ذيها وإن كان يعطيه ظاهرا لدليل ؛ كذا افيد ، فتأمّل.

وإن أراد المستدلّ إثبات وجوب المقدّمة مضافا إلى وجوب ذيها فالدليل لا ينهض بإثباته ، لجريان الدليل على تقدير الوجوب أيضا ، كأن يقال : لو وجبت المقدّمة فلو تركها عصيانا ، فإمّا أن يكون الوجوب باقيا أو لا ، وعلى التقديرين يلزم المحذوران ، على ما عرفت من لزوم كلّ منهما على تقدير. ولا فرق في ذلك إلاّ فيما لا تأثير له في المقام من استناد الترك تارة إلى سوء الاختيار ، واخرى إلى غيره. وقد عرفت فساد الفرق المذكور بما لا مزيد عليه ، فالحكم بوجوب المقدّمة لا يؤثّر في دفع شيء من المحذورين.

ص: 417


1- المدارك 2 : 345.
2- لم نعثر عليه في الكفاية ، نعم ذكره في الذخيرة : 167.
3- مجمع الفائدة 2 : 110.
4- الحواشي على شرح اللمعة : 345.

الرابع من الأدلّة : ما استند إليه بعضهم (1) ، من أنّها لو لم تجب لجاز التصريح بجواز تركها ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة ، فلأنّ انتفاء الوجوب إمّا بانتفاء فصله أو جنسه أيضا ، وعلى التقديرين يجوز الترك ، لأنّ جواز الترك يعمّ الأحكام الأربعة (2).

وأمّا القول بالجواز عقلا لا شرعا - بعد تسليم التفكيك بين الحكمين - ممّا لا يجدي ، لما عرفت : من أنّ المقدّمة شرعا لا بدّ من أن تكون محكومة بأحد الأحكام الخمسة ، إذ لا وجه لأن يكون مثل أفعال البهائم والمجانين ممّا لا حكم له.

وأمّا بطلان التالي ، فلأنّه لا يستريب أحد في قبحه من الحكيم.

والجواب عنه : أنّ التصريح بجواز الترك يقع على وجهين : فتارة يكون على وجه يناقض التصريح بوجوب ذي المقدّمة ، واخرى على وجه لا يعدّ مناقضا للخطاب الدالّ على وجوب ذي المقدّمة ، فالتالي في الشرطيّة المذكورة بطلانه مسلّم على الوجه الأوّل ، لكن لا يستلزم الوجوب ، لأوله إلى عدم جواز التصريح بعدم وجوب الفعل بعد التصريح بوجوبه ، لاستلزام ذلك القبح على الحكيم ، وذلك أمر ضروري لا ينكر. ولا نسلّم (3) بطلانه على الوجه الثاني بعد قطع النظر عمّا قدّمنا لك من حكم الوجدان الصحيح بوجوب المقدّمة. وإن أراد المستدلّ بذلك ما قلنا من حكم الوجدان فهو في محلّه ولا غبار عليه.

الخامس : ما تمسّك به المحقّق السبزواري - في رسالته المعمولة في خصوص المسألة - وهو : أنّها لو لم تكن واجبة بإيجابه يلزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقّا للعقاب أصلا ، لكن التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ص: 418


1- وهو أبو الحسن الأشعري ، انظر ضوابط الاصول : 89.
2- أي ما عدا الحرام من الأحكام الخمسة التكليفيّة.
3- في ( ع ) و ( م ) : ونسلّم.

أمّا الملازمة ، فلأنّا نقول : إذا كلّف الشارع بالحجّ ولم يصرّح بإيجاب المقدّمات فرضا ، فتارك الحجّ بتركه قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون مستحقّا للعقاب في زمان ترك المشي إلى مكّة عند التضيّق ، أو في زمان ترك الحجّ في موسمه المعلوم. لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّه لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلاّ ترك الحركة ، والمفروض أنّه غير واجب عليه فلا يكون مرتكبا للقبيح فلا يكون مستحقّا للعقاب. ولا إلى الثاني ، لأنّ الإتيان بأفعال الحجّ في ذي الحجّة ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقّا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه ، إذ لا يتّصف بالحسن والقبح إلاّ المقدور ، وأفعال الحجّ في ذي الحجّة للجالس في البلدان النائي عن مكّة غير مقدورة. ألا ترى أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعل معيّن في زمان معيّن في بلد بعيد ، والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنّه لم يصدر عنه إلى الآن فعل قبيح يستحقّ به التعذيب لكن القبيح أنّه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ الضرب إلاّ على الاستحقاق السابق قطعا.

ثم نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدّمات كان نائما في زمان الفعل ، فإمّا أن يكون مستحقّا للعقاب أو لا. لا وجه للثاني ، لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا ، فثبت الأوّل ، فإمّا أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو حدث قبل ذلك ، لا وجه للأوّل ، لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق ، فلا وجه للثاني ، لأنّ السابق على النوم لم يكن إلاّ ترك المقدّمة ، والمفروض عدم وجوبها.

لا يقال : نختار أنّه يستحقّ العقاب في زمان الحجّ - مثلا - قلتم : إنّ الحجّ في ذلك الزمان ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يستحقّ العقاب بتركه؟ قلنا : إن أردتم أنّ الحجّ في ذلك الزمان بشرط عدم المقدّمات ممتنع بالنسبة إليه فمسلّم ، لكن لا يجدي

ص: 419

نفعا ، لأنّه لم يجب عليه الحجّ بهذا الشرط. وإن أردتم أنّ الحجّ في ذلك الزمان الّذي اتّفق فيه عدم المقدّمات ممتنع بالنسبة إليه فممنوع ، إذ يمكن مع انتفاء المقدّمات ، إذ فرق بين المشروطة بشرط الوصف والمشروطة ما دام الوصف ، فإنّ سكون الأصابع في زمان الكتابة ممكن وبشرط الكتابة ممتنع.

لأنّا نقول : غاية ما ذكرت أنّ الحجّ في ذلك الزمان ممكن لذاته ، والإمكان الذاتي لا يكفي مصحّحا للتكليف إذا تحقّق امتناع الفعل لعلّة سابقة على ذلك الزمان ، سواء كانت العلّة من قبل المكلّف أو من قبل غيره. والقائلون بامتناع التكليف بما لا يطاق لا يخصّونه بالممتنع الذاتي على ما صرّحوا به ؛ مع أنّ أدلّة ذلك - من القبح والسفه العقلي ، وانتفاء غرض التكليف ، وعدم إمكان تعلّق الإرادة من الميل النفساني (1) - جار هنا ، ألا ترى أنّه إذا قيل يوم النحر للساكن في البلد النائي عن مكّة : « طف بالبيت في هذه الساعة » لنسب القائل إلى ضعف الحكم ووهن اللبّ. وليس المانع عن هذا القول لفظيّا ، بل المانع معنوي.

وبالجملة ، من أنصف من نفسه وراجع إلى عقله ولم يخالف (2) استقامة فطرته لا يشكّ في ذلك أصلا ، فإذا قيل : « لم يفعل قبيحا يلومه العقلاء إلى يوم النحر ، لكن فعل في يوم النحر ما يلومه العقلاء ويعاقبونه ، وهو أنّه لا يطوف في هذا اليوم مع أنّه في البلد النائي عن مكّة » لحكمت بكذبه وخروجه عن القول المنقول والكلام المعقول من غير توقّف على أنّ التقرير السابق الّذي ساق إليه الكلام أخيرا لم يجر فيه هذا الاعتراض (3) ، انتهى ما أردنا نقله.

ص: 420


1- في المصدر : والميل النفساني.
2- في ( ط ) زيادة : بالتشكيك.
3- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 48 - 50.

وأورد عليه المحقّق الخوانساري بما لفظه :

وفيه نظر ، أمّا أوّلا : فبالنقض ، فإنّه قد تقرّر في محلّه : أنّ كلاّ من طرفي الممكن لم يتحقّق ما لم يصل حدّ الوجوب في الواقع ، وعلى ما ذكر من أنّ الامتناع ولو كان بالاختيار ينافي العقاب ، يلزم أن لا يصحّ العقاب على ترك أو فعل أصلا. والفرق بين حصول الامتناع في ذلك الآن الّذي تعلّق التكليف بإيجاد الفعل فيه وبين حصوله في الآن السابق عليه تحكّم محض ، إذ الإمكان الّذي هو شرط التكليف إنّما يعتبر في زمان كلّف بإيجاد الفعل فيه ، لا في زمان آخر ، وانتفاؤه في ذلك الزمان حاصل في الصورتين بلا تفرقة ؛ على أنّ كلّ ما لم يتحقّق في زمان فلزوم امتناعه حاصل في الأوّل بناء على قاعدة « الترجيح بلا مرجّح » و « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ولزوم التسلسل أو القدم مدفوع في محلّه.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، باختيار أنّ استحقاق العقاب في زمان ترك الحجّ في موسمه المعلوم. قوله : الحجّ ممتنع بالنسبة إليه فكيف يكون مستحقّا للعقاب بتركه؟ قلنا : امتناعه إنّما نشأ من اختياره سبب العدم ، ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدوريّة.

والحاصل : أنّ القادر هو الّذي يصحّ منه الفعل ، بأن يريد الفعل فيجب حينئذ الفعل أو لا يريده فيجب حينئذ الترك ، والوجوب الذي ينشأ من الاختيار لا ينافي الاختيار. ولا فرق بين أن يكون الوجوب ناشئا من اختيار أحد طرفي المقدور أو من اختيار سببه. قال المحقّق الطوسي - في التجريد في جواب شبهة النافين لاستناد الأفعال التوليديّة إلى قدرتنا واختيارنا : من أنّها لا تصحّ وجودها وعدمها منّا فلا تكون مقدورا لنا - : « والوجوب باختيار السبب لا حق » (1) كيف! ولو كان

ص: 421


1- تجريد الاعتقاد : 200.

الوجوب باختيار السبب منافيا للمقدوريّة لزم أن لا يكون الواجب بالنسبة إلى كثير من أفعاله قادرا - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - لما تقرّر من أنّ الحوادث اليوميّة مستندة إلى أسباب موجودة مترتّبة منتهية إليه تعالى (1) ، انتهى.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره المحقّق المذكور بظاهره يوهم جواز التكليف بالممتنع بواسطة الاختيار ، على ما استفاده منه بعض من لم يسلم فطرته عن الاعوجاج (2) ، بل المدار في الجواب هو التحقيق الّذي لا مفرّ عنه : من جواز العقاب على نفس المأمور به من دون مدخليّة أمر ، وامتناعه في ذلك الوقت لا يضرّ في العقاب على تركه بعد استناد الترك إلى اختياره سبب العدم. وكذا ما أفاده المحقّق الطوسي صريح أيضا فيما ذكرنا.

نعم ، قوله : « ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدوريّة » بظاهره يوهم اتّصاف المورد بالمقدوريّة بعد الاختيار ، إلاّ أنّ من المقطوع من حال ذلك العلم العلاّمة أنّ مراده منه المقدوريّة حال الصدور ، كما هو ظاهر.

ثمّ قال : وبما ذكرنا ظهر أنّ ما ذكر في ذيل « لا يقال » : من أنّ ترك الحجّ ليس ممتنعا في ذلك الزمان بل بشرط عدم المقدّمات ، ليس موافقا للتحقيق وإن كان مشهورا بين القوم ؛ لأنّ الأصلين المذكورين سابقا إنّما يستلزمان الامتناع في ذلك الزمان أيضا ، كما لا يخفى. وأنّ ما ذكره في جواب « لا يقال » من أنّ غاية ما ذكرت الإمكان الذاتي أيضا منظور فيه ؛ لأنّ ما ذكره القائل وهو المشهور بينهم على تقدير صحّته إنّما يستلزم تحقّق الإمكان الوقوعي في ذلك الزمان ، لا الذاتي فقط ، بل هو متحقّق على تقدير الشرط (3) ، انتهى.

ص: 422


1- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 85 - 87.
2- في ( ط ) زيادة : وجبلت طبيعته على اللجاج.
3- المصدر المتقدّم : 87.

قلت : التحقيق في ذلك هو ما قدّمنا : من أنّ الإمكان الذاتي أو الوقوعي إنّما هو بالنسبة إلى الآن الثاني من زمان العدم ، حيث إنّه يمكن انقلاب الوصف المأخوذ في الموضوع في المشروطة ما دام الوصف إلى نقيضه - ومنه تكليف الكفّار بالفروع - وليس ذلك من محلّ الكلام بوجه ، فليتأمّل في فساد المذكورات جميعا.

ثمّ إنّه رحمه اللّه أطال في النقض والإبرام ، ومن أراد الاستطلاع فليراجع رسالته المعمولة في رد المحقّق المذكور.

ونحن نقول : إنّ الإنصاف أنّ الدليل المذكور ممّا لا يتمّ بوجه.

أمّا أوّلا : فنختار أنّه يستحقّ العقاب في زمان ترك المقدّمة.

قولك : إنّ المكلّف لم يفعل قبيحا ، كما هو المفروض. قلنا : قد عرفت فيما سبق أنّ طريقة الإطاعة والعصيان مأخوذة من طريقة العقلاء ، ولا ضير في عقاب العبد التارك للمشي حال الترك وإن لم يكن زمان الفعل حاضرا ، إمّا باعتبار صدق « الترك » بالنسبة إلى الفعل حقيقة وإن لم يكن زمانه حاضرا ، نظرا إلى أنّ للوقت مدخلا في حصول الفعل لا في صدق الترك ، إذ ترك الواجب عبارة عن عدم اقتدار المكلّف على الفعل المتروك إمّا بانقضاء وقته أو بغير ذلك ، والمفروض أنّ المكلّف بعد ترك المقدّمة غير قادر على الفعل ، وإن كان فيه نظر قد نبّهنا عليه فيما سبق. وإمّا باعتبار ما هو المناط في صدق « الترك » من ارتفاع القدرة على الفعل حال حضور الوقت وتفويته التكليف بإيجاد سبب الترك.

لا يقال : كيف يعقل استحقاقه العقاب ويحتمل حصول الفعل بعد ترك المقدّمة بالسعي إليه ولو خرقا للعادة؟ لأنّا نقول : ذلك خارج عن مفروض الكلام ، فإنّ محلّ البحث فيما إذا حصل الامتناع ، وعند حصول المقدّمة على الوجه المزبور يكشف عن أنّ المشي مع القافلة لم يكن مقدّمة معيّنة يوجب تركها الامتناع. وهذا ظاهر.

فإن قلت : ما ذكرت من استحقاق العقاب عند ترك المقدّمة بواسطة إيجاده

ص: 423

سبب الترك بعينه هو القول بوجوب المقدّمة ، فيستقيم الاستدلال ولا ينهض ما ذكرته بدفعه.

قلنا : كلاّ! لأنّ المبحوث عنه في المقام هو اثبات تعلّق الطلب والإرادة ولو على وجه الإجمال - على ما عرفت في تحرير محلّ الخلاف - بالمقدّمة.

وما ذكر في الجواب لا ينهض به قطعا ، إذ غاية ذلك تسليم ترتّب العقاب المترتّب على ترك الفعل عند ترك المقدّمة ، وأين ذلك من تعلّق الطلب والإرادة بالمقدّمة؟

كيف! ولو كان المذكور كافيا في المقام لم يكن حاجة إلى تمهيد المقدّمات المذكورة ، إذ لا يخفى على أوائل العقول أنّ ترك المقدّمة يوجب ترك الواجب ، وهو قبيح ، وبعد لم يثبت أنّ ما يوجب تركه قبيحا لا بدّ أن يكون فعله مطلوبا ، فإنّ ذلك في مرتبة المدّعى على ما هو ظاهر.

وثانيا : نختار أنّ التارك للمقدّمة محكوم باستحقاقه العقاب في زمان الحجّ. قولك : إنّ فعل الحجّ هناك غير مقدور له ، فلا يتّصف تركه بالقبح. قلنا : إن اريد من حضور زمان الحجّ قبل انقضاء وقته ، فهذا هو المذكور في الشقّ الأوّل. وإن اريد بعد انقضاء وقته ، فلا ريب في صدق ترك الواجب في حقّه ، وأيّ قبيح أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه! ففي كلّ آن يلاحظ إمّا أن يكون وقت الفعل منقضيا أو باقيا ولو بالنسبة إلى الأجزاء ، كما لا يخفى. وعلى التقديرين لا غبار في العقاب ، كما عرفت.

ولو سلّم فلا نسلّم أنّ ذلك الامتناع الحاصل في الفعل بواسطة اختيار المكلّف حال الاقتدار عليه عدم الفعل يوجب عدم اتّصاف الفعل بالحسن والقبح وإن قلنا بقبح التكليف الفعلي بذلك ، لكنّه لا يوجب رفع العقاب عليه. وقد مرّ تحقيق ذلك في كلام المحقّق الخونساري (1).

ص: 424


1- تقدم في الصفحة : 423.

وأمّا ما ذكره أخيرا من حديث النوم فهو ممّا لا يشبه كلام ذلك المحقّق ، فإنّ عدم اتّصاف فعل النائم بالحسن والقبح إنّما هو فيما إذا استند فعله إلى النوم ، مثل أن يكون ترك الصلاة مستندا إلى النوم فيما لم يكن مسبوقا بالأمر بها. وأمّا إذا كان مستندا إلى فعل آخر له على وجه الاختيار وكان وقوع النوم منه وعدمه سيّان في ترتّب ذلك الفعل على ما فعله أولا ، فهو ممّا يتّصف بالحسن والقبح قطعا ، وذلك كمن رمى سهما ولم يقع في محلّه إلاّ بعد نوم الرامي مثلا ، فإنّ ذلك قطعا منسوب إليه ولو حال النوم ، والوجه في ذلك أنّ الفعل ليس من أفعال النائم حقيقة ، بل هو من أفعال المستيقظ الّذي نام بعد صدور الفعل منه ولو بواسطة صدور أسبابه ومقتضياته.

والعمدة في ذلك هو إثبات اتّصاف الأفعال التوليديّة - كالمباشريّة - بالحسن والقبح. ولعلّه كذلك ، لترتّب المدح والذمّ عليها كترتّبهما على غيرها ، من غير فرق في ذلك.

ثمّ إنّ بعد التسليم عن الامور المذكورة فلم يظهر لنا تأثير الوجوب في دفع المحاذير إلاّ بالقول بوجوب المقدّمة وترتّب العقاب عليه فقط دون وجوب ذيها ، وذلك من أشدّ القبح (1) كما لا يخفى ، إذ على تقدير الوجوب يلزم المحاذير حرفا بحرف ، كما عرفت في الدليل الثالث. فتأمّل.

السادس من الأدلّة : ما احتجّ به المحقّق المذكور أيضا (2) ، وهو أنّه لو لم يجب مقدّمة الواجب المطلق لزم أن لا يستحقّ تارك الفعل العقاب أصلا. لكن التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ص: 425


1- في ( ط ) : القبيح.
2- أيّ المحقّق السبزواري.

بيان الملازمة يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، هي : أنّ (1) الطالب للشيء في زمان معيّن إذا لاحظ أن في ذلك الزمان يتصوّر أحوال مختلفة يمكن وقوع كلّ منها ، فإمّا أن يريد الإتيان بذلك الشيء في ذلك الزمان على أيّ تقدير من تلك التقادير ، أو يريد الإتيان به فيه على بعض تلك التقادير. وهذه المقدّمة ظاهرة بعد التأمّل التامّ وإن أمكن المناقشة والتشكيك في بادئ النظر. ولا ينتقض بالجزء والكلّ حيث لا يمكن تقييد وجوب الكلّ بوجود الجزء ولا يعمّم وجوده بالنسبة إلى حالتي وجود الجزء وعدمه ، لأنّ مرادنا بالحالات ما كان مغايرا له.

وإذا تمهّد هذه فنقول : إذا أمر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدّمات ويمكن عدمها ، فإمّا أن يراد الإتيان به على أيّ تقدير من تقديري الوجود والعدم ، فيكون في قوّة قولنا : إن وجدت المقدّمة فافعل وإن عدمت فافعل ، وإمّا أن يراد الإتيان به على تقدير الوجود. والأوّل محال ، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق ، فثبت الثاني ، فيكون وجوبه مقيّدا بحضور المقدّمة ، فلا يكون تاركه بترك المقدّمة مستحقّا للعقاب ، لفقدان شرط الوجوب ، والفرض عدم وجوب المقدّمة فانتفى استحقاق العقاب رأسا (2).

والجواب عن ذلك ، أمّا أوّلا : فبأنّه لم يعقل لنا الفرق في جريان الدليل بين القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها. و (3) للمعترض أن يقول : إنّ الطالب لشيء على تقدير تعلّق طلبه بمقدّماته ، إمّا أن يريد ذلك الشيء على تقديري الوجود والعدم بالنسبة إلى الامور المطلوبة الموقوف عليها أو على تقدير الوجود فقط ، فعلى الأوّل يلزم عدم العقاب على الواجب المطلق ، وعلى الثاني يلزم التكليف بالمحال.

ص: 426


1- في ( ط ) زيادة : الآمر.
2- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 51 - 52.
3- في ( ط ) : إذ.

لا يقال : ما ذكر غير موجّه على القول بالوجوب ، إذ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة متعلّقة بعينها بالمقدّمات ، فيكون على القول بالوجوب بمنزلة نفس الواجب ، فلا يصحّ الاستفسار المذكور ، كما عرفت نظيره في الأجزاء.

لأنّا نقول : لا يخفى على أوائل العقول فساد هذه المقالة ، إذ كيف يصحّ تعلّق صفة واحدة بأمرين مع اختلافهما في الموصوفيّة بهما؟ كأن يكون اتّصاف أحدهما بها بواسطة اتّصاف الآخر بها ولم يكن أحدهما في عرض الآخر.

نعم ، يصحّ ذلك فيما إذا كانت نسبتها إلى أحدهما حقيقة وإلى الآخر نسبة عرضيّة مجازيّة. وبعبارة اخرى : أنّ وجوب المقدّمة موصوف بالغيريّة ووجوب ذيها موصوف بالنفسيّة ، وهذان الوصفان متضادّان ، ولا يعقل أن يكون وجوب شخص واحد موصوفا بهما.

ومن هنا تعرف فساد ما أورده في الأجزاء ، لأنّ الإرادة المتعلّقة بالجزء من حيث هو جزء لا بدّ وأن يكون غير الإرادة المتعلّقة به من حيث إنّه متّحد مع الكلّ ، فيصحّ الاستفسار ، غاية ما في الباب أنّ الوجوب النفسي ثابت للجزء من حيث كونه في ضمن الكلّ ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم.

فإن قلت : فرق بين اشتراط الشيء بأمر جائز وبين اشتراطه بأمر واجب ، فإنّ الأوّل لا يعقل العقاب فيه ، أمّا على المشروط فلانتفاء الشرط ، وأمّا على الشرط فلكونه جائزا ، بخلاف الثاني ، فإنّ فيه العقاب قطعا.

قلت : ذلك واه جدّا! إذ الكلام في صحّة العقاب على المشروط ، والعقاب على ترك واجب وهو الشرط ممّا لا مدخل له في العقاب في واجب آخر - وهو المشروط - إلاّ بالقول بأنّ المقدّمة واجبة دون ذيها. وفساده غنيّ عن البيان.

وأمّا ثانيا : فبأنّه لو صحّ ما ذكر في الاستدلال لزم أن لا يقع الكذب في

ص: 427

الأخبار المستقبلة ، والتالي باطل ، فالمقدّم (1) مثله. بيان الملازمة : أنّه لو اخبر المخبر بأنّي غدا أشتري اللحم - مثلا - فعلى تقدير عدم الاشتراء لا سبيل إلى تكذيبه ، إذ له أن يقول : إنّ الإخبار بشراء اللحم ، إمّا أن يكون على تقدير إيجاد جميع المقدّمات أو الأعمّ من ذلك وعدمها ، لا سبيل إلى الثاني لأوله إلى الإخبار عن أمر ممتنع ، ولا إلى الأوّل لأوله إلى الإخبار بشراء اللحم على تقدير وجود المقدّمات ، والمفروض عدم واحدة منها ، إذ لا أقلّ من ذلك. وأمّا بطلان التالي فهو ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، ضرورة صحّة التكذيب في مثل الأخبار المذكورة.

وأمّا ثالثا : فبأنّ الوجه المزبور لو تمّ لدلّ على انتفاء الواجب المطلق ، حيث إنّ عدم المقدّمة لمّا كان من جملة الأحوال التي امتنع صدور المقدّمة على تقديرها لم يصحّ وجوبه بالنسبة إليه ، ولا مدخل لوجوب المقدّمة في ذلك.

وأمّا رابعا : فبالحلّ ، فنختار من شقيّ الترديد ، تارة أوّلهما وهو وجوب الواجب على تقدير وجود المقدّمة وعدمها ، واخرى ثانيهما وهو الوجوب على تقدير الوجود خاصّة. وبيان ذلك : أنّ التقديرين المذكورين إن لوحظا بالنسبة إلى الوجوب فنحن نختار الإطلاق ، فالوجوب غير مشروط بشيء من التقديرين.

وحاصله : أنّ الفعل واجب بمعنى اتّصافه بالمطلوبيّة وكونه متعلّقا للإرادة سواء وجدت المقدّمة أو عدمت ، لأنّ الكلام في المقدّمات الاختياريّة الّتي يمكن أن يكون الوجوب بالنسبة إليها مطلقا ، ولا يلزم منه ارتفاع العقاب على الواجب المطلق ، إذ عند عدم المقدّمة يستحقّ العقاب على نفس الفعل كما هو قضيّة الإطلاق إن لوحظا بالنسبة إلى الواجب ، فنحن نختار الشقّ الثاني - وهو الوجوب على تقدير وجود المقدّمة - ولا غائلة فيه ، إذ مرجع التقدير إلى وجوب الواجب الّذي لا

ص: 428


1- في ( ط ) و ( م ) : والمقدّم.

يحصل إلاّ بعد وجود المقدّمة ، وقضية ذلك هو إيجاد المقدّمة أيضا تحصيلا للواجب المأمور به ، إذ على تقدير الإخلال بها يحصل فيه العصيان ، وبذلك يستحقّ العقاب.

قال المحقّق الخوانساري - بعد ما ذكرنا من النقض بالأخبار المستقبلة - :

والحاصل أنّ تلك التقادير ممّا يتوقّف عليه وجود تلك الأشياء في الواقع ، وأمّا الإخبار عن وجودها أو طلبها فلا يلزم أن يكون مشروطا بها ، وهو ظاهر فتدبّر (1) ، انتهى.

السابع : ما نقل عن المحقّق المذكور أيضا (2) ، وهو أنّ حقيقة التكليف عند العدليّة هي إرادة الفعل عند الابتلاء (3) بشرط الإعلام ، فالذي عليه مدار الإطاعة والعصيان هي الإرادة المتعلّقة ، والألفاظ إنّما هي أعلام دالّة عليها ، والعلامة قد يكون شيئا آخر من عقل أو نصب قرينة.

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ التكليف لا يستلزم الإرادة ولا الدلالة عليها ، بل الطلب الذي هو مدلول صيغة الأمر شيء آخر وراء الإرادة ، يسمّونها « كلاما نفسيّا » وعند المعتزلة أنّه ليس هنا معنى يصلح لأن يكون مدلول صيغة الأمر إلاّ الإرادة ، وقد طال التشاجر وامتدّ النزاع بينهما. والصواب مختار العدليّة. وتمام الكلام في فنّ الكلام ، ولا يسعه المقام.

وظنّي أنّه يكفيك مئونة التشاجر أن تراجع وجدانك عند حصول الأمر هل تجد في نفسك كيفيّة اخرى تصلح لأن يكون مدلول الصيغة أم لا؟ فإنّك عند التأمل في النفس والكيفيّات والهيئات لم تجد شيئا كذلك - إلى أن قال - فإذا ثبت أنّ إيجاب

ص: 429


1- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 101.
2- أيّ المحقّق السبزواري.
3- في المصدر بدل عند الابتلاء : على جهة الابتداء.

الشيء يستلزم إرادته ونحن نعلم قطعا أنّه إذا تعلّق الإرادة الحتميّة بوجود الشيء ونعلم أنّه لا طريق إليه إلاّ بإيجاد شيء معيّن لا يمكن أن يحصل إلاّ به ، لتعلّق الإرادة الحتميّة بإيجاد ذلك الشيء البتّة. وهذا بديهيّ بعد ملاحظة الطرفين وتجريدها عن العوارض وإن حصل التوقّف في بادئ النظر. وإذا ثبت أنّ إيجاب الشيء يستلزم الإرادة المتعلّقة بمقدّماته فيكون المقدّمة واجبة ، إذ ليس الوجوب عند الأصحاب إلاّ هذا (1) ، انتهى.

والإنصاف أنّ ما ذكره في هذه الحجّة من إحالة الأمر إلى الوجدان الصحيح كلام يلوح منه أثر الصدق وتفوح عنه رائحة الحق ، وإن كان ابتناؤه على ما ذكره من أنّ حقيقة التكليف هي : « الإرادة » مستدركا ، إذ على تقدير الخلاف أيضا يتّجه ما ذكره من أنّ المنصف يجد من نفسه وجود الطلب المتعلّق بالمقدّمة على تقدير تعلّقه بذيها ، ويعلم أن لا وجه لذلك إلاّ مطلوبيّة الفعل الموقوف عليها ، ولا يفرق في ذلك القول بأنّ الطلب عين الإرادة كما عليه العدليّة أو غيرها ، وذلك ظاهر.

ثم إنّ ما ذكرنا إنّما يتمّ فيما لو كان مراد المستدلّ إثبات الوجوب التبعي للمقدّمة على وجه حرّرنا في تحرير محلّ الخلاف. وأمّا على ما استفاده المحقّق الخوانساري من كلامه : من أنّ مقصوده إثبات الوجوب على وجه يوجب مخالفته العقاب ، فالتحقيق على ما عرفت أنّ الوجدان لا يقضي بذلك ، وليس ذلك من محتمل كلام القائل بالوجوب أيضا ، كيف! والمشهور على الوجوب ، بل قد عرفت دعوى الاتّفاق من الآمدي (2) على ذلك. وكيف يسوغ إثبات الوجوب بالمعنى المذكور لهم مع الاتّفاق على نفي العقاب على المقدّمات.

ص: 430


1- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 53 - 54 و 107 - 109.
2- الإحكام 1 : 153.

ثم إنّ المحقّق الخوانساري قد أورد على الدليل بأنّه : إذا كان الطلب هو الإرادة وكان المطلوب من الصيغة الموضوعة للطلب إعلام المخاطب بحصول الإرادة في النفس ، فيلزم أن يكون وضع الجمل الطلبيّة لغوا غير محتاج إليه ويكون مفهوماتها ممّا لا يتعلّق بتصوّرها غرض أصلا ، وهو باطل.

بيان الملازمة : أنّ النسب الإنشائيّة والصيغ الموضوعة لها ليست عين الإرادة ، وهو ظاهر. ولا دخل لها أيضا في حصول الإرادة ولا في حصول الإعلام عنها ، وعلى التقدير المذكور ليس معنى آخر حتّى يتصوّر مدخليّتها فيه. أمّا لا مدخل لها في حصول الإرادة فظاهر ، لأنّ الإرادة معنى قائم بالنفس ، وهذا يتوقّف على تصوّر المراد والمكلّف فقط ، ولا توقّف لها على تصوّر النسبة التامّة الإنشائيّة ولا على صيغها ، وهو ظاهر سواء قلنا إنّها عين الداعي أو غيرها. وأمّا الإعلام فلأنّ حاصله أن يعلم الآمر المخاطب أنّ الإرادة موجودة في نفسه ، ولا شكّ أنّ هذا المعنى معنى خبريّ ، واللفظ الدالّ عليه جملة خبريّة ، ولا توقّف له على النسبة الإنشائيّة وصيغها. وأمّا أنّه ليس على هذا التقدير معنى آخر يتصوّر مدخليّتها فظاهر. فثبت لغويّة هذه المفهومات وصيغها ، بل وكان يجب أن لا يدخل في الوجود ، كما لا يخفى على من أنصف.

وأمّا بطلان التالي : فبالضرورة والوجدان ، سلّمنا عدم بطلان التالي ، لكن نقول : لا شكّ أنّ الصيغ الإنشائيّة دالّة على الطلب ، وعلى هذا التقدير لا يتصوّر دلالتها عليه ؛ لأنّ هذا المعنى - أي أنّ الإرادة حاصلة في النفس - ليس معنى مطابقيّا لتلك الصيغ ولا تضمّنيّا - وهو ظاهر - ولا التزاميّا أيضا ، إذ ليس هذا المعنى لازما بيّنا بالمعنى الأخصّ لمفهوم لفظ « اضرب » مثلا - وهو ظاهر - بل ولا لازما مطلقا ، كما يظهر عند التأمّل. فليس أيضا بين النسبة

ص: 431

الإنشائيّة وبين الإرادة علاقة ذهنيّة (1) حتّى ينتقل منها بسبب تلك العلاقة إلى الإرادة ، فانتفت الدلالة رأسا.

ولو سلّم إمكان الدلالة بارتكاب تكلّف بأن يقال مثلا : إنّ شرط وضع هذه الصيغ أن لا يستعملوها إلاّ عند وجود الإرادة - ونحو هذا من التكلّفات الركيكة - فلا شكّ أنّ دلالة الجمل الخبريّة عليها حينئذ أقوى وأظهر ، مع أنّهم صرّحوا قاطبة بأنّ الإنشائيات دالّة على الطلب بالذات ، والإخبار عن الطلب دالّ عليه بالعرض.

فظهر أنّ الطلب ليس هو الإرادة ، وأن ليس الغرض من الصيغ الإنشائيّة الإعلام بأنّ الإرادة حاصلة في النفس ، بل يجب أن يكون أمرا آخر غير الإرادة ، ولا يجوز أن يكون أمرا مثل الإرادة متوقّفا على تصوّر المطلوب والمطلوب منه فقط ويكون الغرض من الصيغ الإعلام بحصوله في النفس ، لعود المفاسد المذكورة.

فهو إمّا نفس النسبة التامّة الإنشائيّة بل إدراكها ، لكن لا يطلق عليها اسم « الطلب » إلاّ بشرائط - مثل حصول الإرادة ونحوه - حتّى لا يرد أنّ كثيرا ما ندركها وليس الطلب متحقّقا. وإمّا أمر آخر غيره ولكن يتوقّف حصوله على ذلك الإدراك.

وهذا بعينه نظير التصديق في الجمل الإخباريّة ، فإنّه أيضا إمّا عين إدراك النسبة التامّة الخبريّة - كما هو رأي بعض (2) - أو يتوقّف عليه أو على إدراك النسبة التقييديّة على رأي من جعله غيره (3).

ص: 432


1- في المصدر بدل ذهنيّة : ذاتيّة.
2- مثل صدر المتألهين في رسالة التصور والتصديق المطبوع مع الجوهر النضيد : 324.
3- لم نعثر عليه بعينه ، ولعلّه يوجد فيما نقله من الأقوال في تفسير التصديق في الرسالة المذكورة.

وعلى التقديرين يندفع المفاسد المذكورة ، ويظهر وجه دلالة الصيغ الإنشائيّة على الطلب وكونها بالذات ، بخلاف الإخباريّة. أمّا على الأوّل فكلا الوجهين ظاهر لا سترة فيه ، لأنّ مفاد الإنشائيّة هو الطلب بنفسه ، ومفاد الإخباريّة ليس هو الطلب ، بل إنّما يخبر عن الطلب بحصوله في النفس. أمّا على الثاني فوجه الدلالة ظاهر أيضا ، لأنّ الطلب لمّا كان حصوله مع حصول مفهوم تلك الصيغ ، فعند سماعها والانتقال إلى معانيها يحصل الانتقال إلى الطلب أيضا لشدّة تقارنهما واتّصالهما حتّى أنّ النفس لا يكاد يفرق بينهما.

وأمّا كونها بالذات وكون الدلالة الإخباريّة عن الطلب بالعرض ، فلعلّ وجهه أيضا التقارن والاتّصال المذكور ، فكان مفاد الإنشائيّة الطلب بنفسها ، بخلاف الإخباريّة. أو يقال : إنّ الطلب لمّا كان يتوقّف على تصوّر النسبة الإنشائيّة وتصوّر المعاني يتوقّف في المعتاد على تخيّل الألفاظ ، أو أنّه لا يحصل بمجرّد التصوّر النسبة التامّة الإنشائيّة ، بل لا بدّ من مخاطبة مع المطلوب عنه وتوجيهه إليه ، وهي إنّما تحصل من الألفاظ ، فللصيغ الإنشائيّة على الوجهين دخل في حدوث الطلب ، فدلالتها عليه من قبيل دلالة العلّة على المعلول ، بخلاف الجمل الخبريّة ، فإنّ دلالتها وضعيّة. ولا شكّ أنّ الأوّل أقوى فلذلك اطلق عليها هنا بالذات. وبما ذكرنا ظهر وجه قولهم : إنّ تلك الصيغ منشئة ومحدثة لمعانيها ، فتدبّر ، انتهى كلامه (1).

ومواضع النظر في كلامهما غير خفيّ على من أمعن النظر فيما أفادا. وليس المقام محلاّ للإطالة.

الثامن : ما نقل عنه أيضا ، من أنّ إلزام المشقّة على الشخص من غير غرض (2) قبيح ، ولذا حكم العدليّة باستحقاق الثواب والعقاب ، فلا بدّ أن يكون في

ص: 433


1- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 109 - 112.
2- في المصدر بدل ( غرض ) : عوض.

فعل المقدّمات التي لا خفاء في كونها من المشقّة أجر وثواب ، وهذا يقتضي الرجحان ، لأنّ ما لا رجحان فيه لا معنى لترتّب الثواب على فعله ؛ ولذا ترى منكري الوجوب لا يقولون باستحقاق الثواب على فعلها. وإذ قد ثبت بهذه المقدّمة وجود الرجحان فثبت الوجوب بمقدّمة اخرى يمكن تحصيلها بأدنى تأمّل (1) ، انتهى ما لخّصناه من دليله المنقول.

والظاهر أنّ المقدّمة الّتي بها أراد إثبات الوجوب هي ملاحظة عدم معقوليّة القول بالاستحباب ، إذ لا يعقل أن يكون الرجحان الناشئ من المطلوبيّة المتعلّقة بذيها مرتبة اخرى من مراتب الرجحان ، لما هو المقرّر من أنّ الأثر من مقولة المؤثّر. مضافا إلى أنّ القول بالاستحباب لم ينقل عنهم أيضا.

وفيه أوّلا : أنّه إن اريد من الإلزام المأخوذ في الدليل على وجه التسليم اللابديّة العقليّة التي إليها يرجع معنى المقدّميّة ، فلا نسلّم أنّه يستتبع أجرا وثوابا على فرض ترتّب الثواب على الواجب الغيري ، مع أنّك قد عرفت تحقيق القول فيه بما لا مزيد عليه. وإن اريد به الإلزام التكليفي ، فبعد أنّه مصادرة قطعا ، لا يحتاج في إتمام المطلوب إلى ضمّ باقي المقدّمات ، كما هو ظاهر.

وثانيا : أنّ المقدّمة المذكورة في مقام إثبات التكليف وإن ذكرها بعض العدليّة ، ولكنّها غير خالية عن منع ، وإنّما يسلّم بشرط أن لا يعود النفع الحاصل من الفعل إلى المكلّف. وعلى تقدير وصول نفعه إلى المكلّف لا دليل عقلا ولا نقلا على قبح التكليف به ، والإلزام بالمقدّمة غير محتاج إلى نفع أزيد ممّا يترتب على ذيها ، بل يكفي في الإلزام بها ملاحظة ما يترتّب على نفس الفعل ، وهو الوصول إلى الواجب.

ص: 434


1- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 55 ، وانظر الصفحة : 116 - 117 ، أيضا.

التاسع : ما استند إليه الفاضل المذكور (1) ، من أنّ المولى إذا أمر عبده بالصعود على السطح في ساعة معيّنة فأخذ العبد في هدم البناء يذمّه العقلاء ويعيّرونه ، وهذا علامة الإيجاب.

ثمّ أورد على نفسه بقوله : الذمّ على الهدم ليس بذاته ، بل لكونه موصلا إلى ترك الصعود. وأجاب عنه بأنّه : إذا ثبت الذمّ على الهدم ثبت إيجاب نقيضه ، وأمّا كون الذمّ معلّلا باتّصافه بصفة الإيصال إلى شيء ما فلا يقدح في ذلك ، كما لا يخفى ، انتهى (2).

والجواب عن ذلك : أنّ الذمّ إنّما هو على إيجاده بسبب الترك ، وهو ليس أمرا مغايرا للذمّ على نفس الترك ، غاية الأمر أن يقال : إنّ الذمّ إنّما يترتّب على الترك قبل زمان الفعل ، ولا ضير فيه ، لما تقدّم من أنّ الترك على قسمين : ترك حقيقي وترك حكمي ، والثاني في المقام متحقّق وإن لم يكن الأوّل صادقا. ولو فرض أنّ الهدم في زمان الأمر بالصعود فالأمر أوضح (3).

العاشر : ما استدلّ به الفاضل أيضا في الصورة المفروضة : من أنّ العاقل الخالص عن الأغراض ينهى عن الهدم المذكور إلزاما ، والنهي الإلزامي من العاقل الخالص عن دواعي الشهوة لا يكون إلاّ لداعي الحكمة ، فلا يكون إلاّ لقبح الشيء في نفسه ، كما تقرّر في غير هذا المقام ، فيكون الهدم المذكور قبيحا ويكون نقيضه واجبا (4).

ص: 435


1- أي المحقّق السبزواري.
2- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن ( الرسائل ) : 54.
3- في ( ع ) و ( م ) : واضح.
4- المصدر المتقدّم : 55.

وفيه : أنّه إن أراد إثبات الوجوب النفسي للمقدّمة فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، والمذكور في الاستدلال لا ينهض بإثباته ، لأنّ النهي المذكور في الحقيقة عن ترك الصعود الّذي هو المأمور به في حدّ ذاته. وإن أراد إثبات الوجوب الغيري بالمعنى الأعمّ من الإرشادي والإلزامي فمسلّم ، لكنّه لا يجدي نفعا. وإن أراد خصوص الإلزامي فللمانع أن يمنع عن ذلك. إلاّ أنّ الإنصاف هو ثبوته بحسب الوجدان ، فلا وجه للمنع المذكور. لكن ظاهر الاستدلال ينافي ذلك ، كما هو ظاهر.

الحادي عشر : ما حكي عنه أيضا ، من أنّ إيجاب المسبّب يستلزم إيجاب السبب ، ويلزم من ذلك أن يكون إيجاب المشروط مستلزما لإيجاب الشرط ، لأنّ ترك الواجب قبيح وترك الشرط مستلزم لترك الواجب والسبب المستلزم للقبيح قبيح (1).

والظاهر أنّه أراد بذلك دفع التفصيل بين الشرط والسبب ، وإلاّ فكيف الاستدلال بمثل ذلك في قبال من لا يرى وجوب السبب أيضا؟ على أنّ الكلام في أنّ ما يستلزم القبيح هل هو قبيح أم لا؟ فالاستدلال المذكور ساقط عن أصله ، لكونه مصادرة.

الثاني عشر : ما نسب إليه أيضا ، وهو أنّ من تأمّل في القواعد العلميّة ومارس المصالح الحكميّة وجرّب التدبيرات الكلّية وعرف مجاري أحكام العقلاء وحكمهم عرف (2) أنّ ما يجب رعايته والأمر به والإلزام به قد يكون مطلوبا بالذات وقد يكون بالعرض من حيث إنّه نافع في حصول الغرض الأصلي والمطلوب الذاتي. فمن أراد تدبير بلد أو عسكر كما أنّه يأمر بالامور النافعة لهم وينهى (3) عن الامور

ص: 436


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن ( الرسائل ) : 55 ، وانظر الصفحة : 114 منها أيضا.
2- كذا في المصدر ، وفي النسخ : وعرف.
3- في النسخ : نهى.

المضارّة لهم ، كذلك يأمر بالامور المؤدّية إلى خيراتهم (1) ومعدّاتها وشرائطها والطريق الموصل إليها وينهى (2) عن الامور المستلزمة لمضارّهم والمستلزمة لإخلال مصالحهم المؤدّية إليه ، ويريد ويكره على نسبة واحدة ، وأيّ مصلحة للشيء أنفع من توقّف المصلحة الذاتيّة عليه؟ ولمّا كانت المصالح مستلزمة للتكاليف الشرعيّة كما أنّ التكاليف الشرعيّة مستلزمة للتكاليف العقليّة عند العدليّة - كما ثبت في محلّه - يلزم وجوب مقدّمة الواجب (3) ، انتهى بأدنى اختصار.

وفيه : أنّ المراد من المصلحة إن كان (4) ما هي ثابتة في المطلوب الذاتي كما أشعر به قوله : « ويريد ويكره على نسبة واحدة » فمجال المنع فيه واسع ، بل العقل يقضي بخلافه صريحا. وإن اريد بها المصلحة الغيريّة التي تترشّح عن المصلحة الذاتيّة ، فإن اريد أنّ تلك المصلحة يستلزم التكليف بذيها فعلا فهو أيضا ممنوع. وإن اريد أنّ تلك المصلحة على وجه يصحّ معها الأمر بالمقدّمة فيما لو كان هناك ما يقضي بإظهار الأمر على وجه التفصيل فهو حقّ لا مناص عنه ، كما عرفت ممّا تقدّم.

وبما ذكرنا يظهر أنّ ما يشاهد من تعلّق الأمر الفعلي التفصيلي أحيانا ببعض المقدّمات ليس من جهة وصف المقدّميّة والمصلحة الغيريّة ، فإنّها بنفسها لا تقتضي أمرا على وجه التفصيل ، بل تحتاج إلى نكتة خارجة ، كالخوف عن غفلة المأمور عنها وخفائها ونحو ذلك ، بل الذي يقتضيه تلك المصلحة تعلّق حالة طلبيّة بسيطة ناشئة من تعلّق الطلب بالمطلوب الذاتي ، وهو كاف في ثبوتها ، ويتفصّل تلك الحالة الإجماليّة بالأوامر المفصّلة التي يقتضيها النكات الخارجيّة ، كما عرفت في تقرير

ص: 437


1- في ( ع ) و ( م ) : خيراتها ، وفي ( ط ) : أجزائها.
2- في النسخ : نهى.
3- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن ( الرسائل ) : 56 ، وانظر الصفحة : 119 منه أيضا.
4- في ( ط ) بدل « كان » : اريد بها على نحو.

الدليل المختار على ما صرنا إليه من الوجوب. وهو كاف في الحكم بوجوب المقدّمة ، كما عليه بناء الفقهاء في الكتب الاستدلاليّة الفقهيّة وغيرها ، من غير فرق بين أقسامها من الشرعيّة كالصلاة بالنسبة إلى الوضوء (1) والعاديّة كتحصيل الماء. وظاهر أنّ مرادهم ليس مجرّد الاشتراط ، لثبوته في مقدّمات غير الواجب أيضا.

بل الإنصاف أنّ ذلك من الأحكام الضروريّة ، كما أذعن به المحقّق الدواني.

قال في شرح العقائد (2) - معترضا على المحقّق الشريف حيث خصّ الوجوب بالمقدّمة السببيّة - قلت : لا فرق بين السبب المستلزم وغيره ، فإنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدّماته بديهة (3).

وقال المحقّق الطوسي في محكي نقد المحصّل : ما لا يتمّ الواجب إلاّ به وكان مقدورا على المكلّف كان واجبا عليه ، فإنّ الّذي كلّف الإتيان به كلّف به كيفما كان (4) فإنّ الاقتصار في التعليل على ما ذكره يشعر بأنّه كاف في التصديق بما ذكره.

وقال المحقّق الخوانساري - بعد دعوى الضرورة والوجدان - : ولا أظنّك في مرية من هذا بعد تصوّر تعلّق الخطاب الإيجابي والإرادة الحتميّة بشيء وتصوّر تعلّقهما بما يتوقّف على ذلك الشيء ولا يحصل بدونه ، تصوّرا مجرّدا عن العوارض ، وكيف يتصوّر من عاقل المنع من ترك شيء وعدم الرخصة فيه مع تجويز ترك مقدّمته التي يستلزم تركها تركه والرخصة (5).

ص: 438


1- لم ترد « كالصلاة بالنسبة إلى الوضوء » في ( ط ).
2- حكاه المحقق الخوانساري في رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 126.
3- انتهى كلام الدواني.
4- حكاه الخوانساري في الرسالة : 127.
5- المصدر المتقدّم : 127.

والإنصاف : أنّ هؤلاء الأفاضل لقد أجادوا فيما أفادوا في الغاية ، إلاّ أنّ الأخير منهم قال في معنى الوجوب المذكور : ولا يخفى عليك أنّ ما ذكرنا من تعلّق الخطاب والطلب تبعا بمقدّمة المأمور به ليس من جهة كونها موقوفا عليها للمأمور به ، بل هو أعمّ من استلزام الفعل المأمور به ، حتى أنّ هذا المعنى ثابت أيضا بالنسبة إلى لوازم المأمور به الذي يكون وجودها تبعا لوجود المأمور به لا مقدّما عليه ، كما يحكم به الوجدان (1).

قلت : لا إشكال في صحّة انتساب الوجوب إلى اللوازم بنوع من العناية والمسامحة من قبيل إسناد الشيء إلى غير من هو له ، كقولك : « زيد حسن خادمه » فإن أراد أنّ الطلب الحاصل في المقدّمات هو من هذا القبيل فيكون ثبوت الوجوب وتعلّقه بالمطلوب الذاتي واسطة في عروض الطلب وصحّة انتسابه إليه مجازا ، فهو ليس في محلّه ؛ لما تقدّم أنّ الوجوب الثابت للمقدّمة إنّما هو معنى آخر فوق ذلك المعنى. وإن أراد أنّ المعنى الثابت في المقدّمة إنّما هو ثابت في اللوازم التابعة للمأمور به وإن لم يتوقّف عليها نظرا إلى مجرّد استلزام تركها تركه - كما يظهر من استدلاله على ذلك فيما تقدّم - ففيه : أنّ الذي نجده من أنفسنا أنّ مدار ثبوت هذا المعنى من الوجوب هو التوقّف والتقدّم لا مجرّد استلزام الترك للترك ، كما لا يخفى على المتأمّل. ومع ذلك فالمتّهم فهمنا ، لاحتمال أن يكون الفرق الّذي نجده في أنفسنا بينهما باعتبار شدّة تلك الحالة وضعفها في المقامين ، إلاّ أنّه بعيد غاية بعد فرض اتّحاد المناط.

وهذا تمام الكلام في احتجاج القائلين بالوجوب ، وربما يستندون إلى وجوه أخر ، كلّها مزيّفة لا حاجة إلى ذكرها وذكر ما فيها.

ص: 439


1- حكاه الخوانساري في الرسالة : 127.

وممّا ذكرنا في تضعيف أدلّة القول بالوجوب يظهر وجه القول بعدم الوجوب مطلقا ، إذ بعد إبطال الوجوه التي يمكن إقامتها على المطلوب لا يحتاج النافي إلى استكشاف مطلوبه عن دليل ، ومع ذلك فقد استندوا إلى وجوه سخيفة لا ينبغي التعرّض لها ولإبطالها. واللّه الهادي.

ص: 440

هداية

في ذكر احتجاج المفصّل بين السبب وغيره ، وقد مرّ الكلام في المراد من « السبب » فيما تقدّم ، وأنّه لم يظهر لنا وجه في المراد منه بعد عدم إرادة العلّة التامّة منه ، إذ لا يعقل أن تكون واجبة ، لاشتمالها على امور غير اختياريّة خارجة عن مقدرة المكلّف. ويحتمل أن يراد به ما عدا غير المقدور من أجزاء العلّة التامّة الذي يعدّ في العادة سببا.

وكيف كان ، فالمنقول من احتجاجهم وجوه :

أمّا الوجوب في السبب : فلإجماعات نقلها الآمدي (1) والتفتازاني (2) وغيرهما في خصوص السبب. ولأنّ وجود المسبّب عند وجود السبب ضروريّ وعند عدمه ممتنع ، فلا يمكن تعلّق التكليف به لكونه غير مقدور. ولأنّ التوصّل إلى الواجب واجب إجماعا ، وليس ذلك في الشرط - لما سيأتي - فتعيّن السبب. ولأنّ الطلب إنّما يتعلّق بفعل المكلّف من الحركات الإراديّة الصادرة عنه التابعة لتحريك القوّة المنبعثة في العضلات ، وأمّا الأمور التابعة لتلك الحركات المعلولة لها فليست فعلا للمكلّف ، بل فعل المكلّف يستتبع لها استتباع العلل للمعلولات أو استتباع الأشياء للامور المقارنة اقترانا عاديّا ، فلا يمكن تعلّق التكليف بها.

وأمّا عدم الوجوب في غيره : فللأدلّة التي اعتمد عليها النافي ، مثل : عدم

ص: 441


1- الإحكام 1 : 153 ، ولكن لم يختص بالسبب.
2- لم نعثر عليه.

الدليل على الوجوب ، وعدم دلالة الأمر عليه بوجه من وجوه الدلالة وبخلوّ الخطب والمواعظ (1) والأخبار عنه مع أنّه ممّا توفّرت الدواعي إلى نقله ، فلو كان واجبا كان منقولا إلينا. وغير ذلك من الوجوه التي لا يخفى ضعفها على المتدرّب.

والجواب أمّا عن دليل الوجوب :

فعن الأوّل : بأنّ الإجماع على وجوب السبب خاصّة ، وإن اريد به النفي عن غيره فتحقّقه ممنوع ، سواء اريد به إجماع العقلاء أو العلماء ، والمنقول منه لا يجدي شيئا ولا يورث وهما (2). وإن اريد به أنّ مورد إجماع العقلاء إنّما هو السبب فقط وأمّا في غيره فيحتمل اختلافهم فيه - كما هو مراد المستدلّ حيث إنّه استدلّ للنفي بوجه آخر - ففيه : أنّ الإنصاف بحسب ما نجده من الوجدان عموم مورده في حكم العقلاء ، لأنّا لا نجد بعد اشتراكهما في توقّف الواجب عليها فرقا يوجب وجوبه دون غيره ، كما عرفت دعوى الضرورة على ذلك في كلام المحقّق الدواني (3). وبذلك ينقطع ما استند إليه في النفي عن غير السبب : من عدم الدليل.

وعدم الدلالة فيما إذا كان الدليل على وجوب ذي المقدّمة لفظيّا بوجه من وجوه الدلالة - كالتبعيّة - ممنوع. وخلوّ الخطب والمواعظ لا يضرّ في ذلك ، لجواز الاتّكال على ما يقتضيه العقل ، مضافا إلى إمكان استفادة ذلك من وجوه لفظيّة ولو بوجه من الإيماء والإشعار ، مثل قوله تعالى ( لا تَسُبُّوا الَّذِينَ ... ) (4) الآية وغير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير الماهر ، وبذلك يتمّ اللطف أيضا.

ص: 442


1- لم ترد « وبخلوّ الخطب والمواعظ » في ( ع ) و ( م ).
2- كذا ، ولا يخفى ما فيه من المبالغة.
3- المتقدّم في الصفحة : 406.
4- الأنعام : 108.

وعن الثاني : بأنّ وجوب الفعل كامتناعه بعد وجود علّته وعدمها لا ينافي التكليف به ، وإلاّ لزم سقوط التكليف عن رأس ، لأنّ المفروض أنّ المقدّمة السببيّة أيضا من الأفعال الاختياريّة التي لا بدّ من انتهائها إلى غيرها من الامور الخارجة عن القدرة التي يمتنع تعلّق التكليف بها اتّفاقا.

وعن الثالث : بما مرّ في تضعيف حجّة النفي.

وعن الرابع : فبأنّ ما ذكره إنّما يتمّ فيما إذا كان المسبّب الّذي تعلّق به الأمر من غير مقولة الحركة والفعل كأن يكون من مقولة الكيف أو غيره ، كالأمر بالعلم فيما إذا لم نقل بكونه من مقولة الفعل ، فإنّ قولك : « اعلم » بناء على ذلك لا بدّ وأن يكون المطلوب النفسي في ذلك الأمر هو التحصيل والنظر. وأمّا إذا كان المسبّب من مقولة الحركة والفعل كتحرّك المفتاح المسبّب عن تحريك اليد وإن لم يكن وجود المسبّب مغايرا لوجود السبب في الخارج ، فلا وجه للمنع عن تعلّق التكليف به ، لكونه فعلا من أفعال المكلّف. وأمّا كونه تابعا لفعله الآخر فلا ينافي تعلّق التكليف به ، كما عرفت في الجواب عن الثاني.

وتوضيحه : أنّ الامور التوليديّة التي يتولّد من فعل المكلّف تارة يكون من مقولة الفعل والحركة الصادرة عنه ، سواء كان اختلافهما بمجرّد العنوان مع اتّحاد الموجود منهما في الخارج كالإحراق الحاصل بالإلقاء في النار وكتحريك المفتاح الحاصل بتحريك اليد ، أو كان الموجود منهما أيضا متعدّدا كحركة المفتاح وحركة اليد بناء على أنّ تلك الحركة القائمة بالمفتاح صاردة عن الفاعل أيضا ، كما لا يخفى.

واخرى يكون من غير مقولة الفعل والحركة ، كالعلم الحاصل بالنظر والتحصيل الذي هو من مقولة الفعل والحركة.

فعلى الأوّل ، لا مانع من تعلّق التكليف بعنوان المولود من فعله الآخر ، سواء

ص: 443

كان متّحدا مع عنوان المولّد (1) أو مغايرا. أمّا الثاني فظاهر ، وأمّا الأوّل فلأنّ مدار التكليف وصحّته على القدرة على ذات الفعل بالعنوان الذي تعلّق به الأمر ، والمفروض كون الذات مقدورة ، وإلاّ لم يصحّ التكليف بالسبب أيضا لاتّحاد الذات فيهما ، وكونها معنونة بعنوان المسبّب - كالإحراق مثلا - لا تأثير له في الامتناع ، إلاّ من حيث توهّم وجوب وجود المسبّب مع وجود السبب ، سيّما إذا كان الذات فيهما متّحدة ، وقد عرفت الجواب عن ذلك فيما تقدّم.

وعلى الثاني ، فلا يعقل أن يكون العنوان المولّد من الفعل موردا للتكليف والأمر ؛ ضرورة توقّف صحّته على أن يكون المأمور به فعلا من المأمور ، وأمّا إذا لم يكن فعلا له فلا وجه للأمر والطلب ، إلاّ أن يكون المأمور به حقيقة والمطلوب النفسي هو عنوان السبب ويكون المسبب الحاصل به داعيا إلى الأمر به. ولا ينافي ذلك وجوبه النفسي - كما تقدّم في تحديده - إذ المطلوب النفسي غير منحصر فيما هو غاية الغايات.

فإن قلت : الأمر بالعلم لا بدّ وأن يكون مجازا على ما ذكرت ، وهو بعيد في الغاية.

قلت : لا نسلّم ذلك ، فإنّ قولك : « اعلم » يشتمل على مادّة وهيئة ، والهيئة تدلّ على طلب إيجاد العلم الذي هو المادّة وهو بعينه مفاد قولك : « حصّل العلم » ، فلا مجاز فيه.

نعم ، لو كان المتعلّق للطلب من مقولة الفعل - كالضرب مثلا - فإن لوحظ من حيث إنّه فعل ومصدر ، لا حاجة إلى تقدير الإيجاد في متعلّق الطلب ، فيقال : إنّ مدلول الهيئة في قولك : « اضرب » طلب الضرب ، إذ الإيجاد مأخوذ في المتعلّق ،

ص: 444


1- في ( ع ) و ( م ) : المولود.

وهو الفعل والمصدر. وإن لوحظ من حيث إنّه حاصل بالفعل والمصدر - كأن يكون اسم مصدر - فيحتاج إلى التعبير بالإيجاد وتقديره في متعلّق الطلب ، وهو عبارة اخرى من وجوب تحصيل الضرب.

ولعلّ ما ذكرنا مراد القائل بأنّ الأمر بالمسبّب عين الأمر بالسبب ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد جدّا ، إلاّ أنّه مع ذلك ليس قولا بالتفصيل في المقدّمات السببيّة وغيرها ، بل هو قول برجوع الأمر النفسي إلى بعض الأسباب ، لعدم قابليّة المسبّب للأمر ، لا لأنّه بعد حصول السبب خارج عن القدرة ، بل بواسطة أنّه ليس فعلا حتّى يتعلّق به التكليف.

وبمثل ما ذكرنا تقدر على إرجاع الأمر المتعلّق بالمسبّب إلى الأمر بالسبب فيما إذا كان الذات فيهما متّحدة ، من دون لزوم تجوّز ؛ فإن قولك : « أحرق » عبارة عن طلب إيجاد الحرق ، وتحصيله في الخارج عن الإلقاء في النار ، فلا مجاز في اللفظ ، مع أنّ المأمور به في الواقع هو الإلقاء. ولا يجري ذلك بالنسبة إلى الشروط ، فإنّ الأمر بالصعود على السطح لا يرتبط بنصب السلّم ، بل كلّ من النصب والصعود من الأفعال الصادرة من الفاعل على وجه المباشرة.

وأمّا بالنسبة إلى الأسباب التي تغاير المسبّبات في الخارج ويكون المسبّبات أيضا من الأفعال فلا داعي إلى التزامه وإن كان له وجه صحّة ، كما عرفت في قولك : « اضرب » إذ يمكن تجريد المادّة عن الإيجاد بجعلها حاصل المصدر ، فيكون مدلول الهيئة طلب الإيجاد ، وهو يرادف الأمر بالسبب في اللبّ ، إلاّ أنّ الظاهر من الفعل المتعلّق للأمر هو كونه مصدرا ، فلا حاجة فيه إلى الإيجاد ، وعلى تقديره يجب إبقاء الأمر على ظاهره ، لجواز تعلّق التكليف بالمسبّبات ، لأنّ الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، والمسبّب أيضا فعل لا مانع من تعلّق التكليف به.

ص: 445

فإن قلت : إنّ ما ذكر موجود بعينه في الأسباب المتّحدة كالإحراق ، فإنّه أيضا فعل ظاهر في كونه مصدرا.

قلت : نعم ، ولكن الفرق من حيث إنّ الحرق ليس فعلا في الواقع ، بل هو من مقولة اخرى ، كما لا يخفى.

فإن قلت : ما الوجه في اختلاف الموارد ، فتارة يحتاج إلى تقدير الإيجاد ، واخرى لا يحتاج؟

قلت : لمّا كان تعلّق الطلب بغير الفعل محالا فاحتاج أن يكون متعلّقه فعلا ، فإن كان فهو ، وإلاّ فبدلالة الاقتضاء يجب تقديره. واختلاف الموارد في كون بعضها فعلا دون الآخر هو الوجه في ذلك. واللّه الهادي.

ص: 446

هداية

في ذكر احتجاج المفصّل بين الشروط الشرعيّة وبين غيرها في الوجوب (1) في الأوّل وبعدمه في الثاني ، كما هو المحكيّ عن الحاجبي (2).

فاستدلّ على الوجوب في الشرط : بأنّه لو لم يكن واجبا لم يكن شرطا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. أمّا الملازمة ، فلأنّه لو لم يجب لجاز تركه ، وحينئذ فإمّا أن يكون الآتي بالمشروط دون الشرط آتيا بتمام المأمور به أو لا ، والتالي باطل ؛ إذ المفروض أنّه لم يتعلّق أمر بالشرط وانحصار الأمر بالمشروط ، فيجب الالتزام بالأوّل ، ولازمه عدم توقّفه على الشرط مع أنّه شرط ، وهو المراد باللازم. وأمّا بطلان التالي ، فلأنّه خلف.

وعلى عدم الوجوب (3) في غيره : بما مرّ في أدلّة النافين.

والجواب عنه أوّلا : أنّ المحذور مشترك الورود ؛ لإمكان أن يقال : إنّه لو عصى بالترك على تقدير وجوبه ، إمّا أن يكون آتيا بالمأمور به أو لا. لا سبيل إلى الثاني ؛ لأنّ لوجوب الشرط ليس مدخل (4) في الإتيان بحقيقة المشروط وعدمه ، إذ المفروض خروجه عن المشروط على الوجهين ، فتعيّن الأوّل ، وهو المراد باللازم.

ص: 447


1- كذا ، والظاهر : بالوجوب.
2- حكاه عنه المحقّق السبزواري في رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 47 ، والشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 104 ، وراجع شرح مختصر الأصول : 91.
3- متعلّق بقوله : فاستدلّ.
4- في ( ع ) و ( م ) : مدخلا.

قولك : إذ المفروض أنّه لم يتعلّق أمر بالشرط لانحصار الأمر بالمشروط.

قلنا : قد عرفت أنّ الوجوب لا يؤثّر في دخول شيء في شيء وخروجه عنه ، غاية الأمر أنّه على تقدير تعلّق الأمر يكون هو موردا للأمر من غير دلالة على أمر زائد عليه ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّه تقدّم أنّ الشرط الشرعي في معنى الشرط العقلي. وبيانه إجمالا : هو أنّ حقيقة الصلاة واقعا ممّا لا يحصل في الواقع إلاّ بعد تلبّس المصلّي بالطهارة ، إذ الصلاة ليست هذه الحركات والسكنات التي هي بمرأى منّا ومسمع من غيرنا ، وإنّما هي حقيقة واقعيّة غير حاصلة إلاّ بما اعتبره الشارع فيها من الأجزاء والشرائط ، بناء على مذهب الصحيحي - كما هو الصحيح - ويكون بيان الشارع لها كشفا عمّا هو الواقع.

وبوجه أظهر بعد الإغماض عمّا ذكرنا : أنّه لا إشكال في أنّ الشارع إنّما قيّد المشروط بالشرط الذي جعله شرطا ، ومن المعلوم أنّ الآتي بذات المقيّد بدون القيد لا يكون آتيا بالمقيّد من حيث إنّه مقيّد ، وخروج الشرط عن المشروط إنّما هو باعتبار ذاته ، وأمّا تقييده فلا بدّ من التزام دخوله في المشروط ، وبذلك يصير جزءا عقليّا للمشروط ، ولا ضير فيه ، فنختار أنّ الآتي بالمشروط فقط لا يكون آتيا بتمام المأمور به ، ولا ينافي ذلك فرض خروج ذات الشرط عن المشروط. ولو لا أنّ الشرط باعتبار تقيّده معتبر في المشروط يلزم أن يكون الشرط العقلي أيضا مأمورا به - كما زعمه المفصّل - لجريان الدليل فيه حرفا بحرف ، كما هو ظاهر.

نعم ، يمكن توجيه الاستدلال بأنّه قد تقرّر في محلّه : أنّ الشرطيّة اعتبار عقليّ منتزع عن مطلوبيّة شيء في شيء على وجه خاصّ ، ولا معنى لجعل الشيء شرطا لشيء إلاّ طلبه في ضمن طلبه ، فلا بدّ من أن يكون الشرط الشرعي مأمورا به من الشارع ، وإلاّ لم يعقل كونه شرطا له ؛ لعدم الارتباط. إلاّ أنّ فيه أيضا : أنّ بيان

ص: 448

الشرطيّة إمّا أن يكون ممكنا بدون الأمر - كأن يقال بأنّ الماهيّة الفلانيّة يتوقّف حصول أثرها على الأمر الفلاني ، وهذا هو الوجه في انتزاع معنى الشرطيّة من الأمر الفلاني - وإمّا أن لا يكون ممكنا. فعلى الأوّل لا إشكال في فساد الدليل ، وعلى الثاني لا وجه للفرق بين الشرط الشرعي وبين الشرط العقلي ، وعلى تقديره فاللازم التفصيل بين المقدّمات الشرعيّة وغيرها ، شرطا كانت أو جزءا أو سببا أو غيرها ، كما لا يخفى.

وقد يتوهّم الانتصار لمذهب المفصّل بما أشعر به العضدي في تقريب حجّة النفي في غير الشرط الشرعي ، حيث قال : لو استلزم وجوبه وجوبه لزم تعقّل الموجب له ، وإلاّ أدّى إلى الأمر بما لا يشعر به (1) ، فإنّه يظهر منه أنّ وجه الأمر في الشرط هو شعور المشترط به ، فإنّ المفروض أنّ الآمر إنّما يأمر بالصلاة مع الطهارة لا مطلقا ، وهو في قوّة أمره بالصلاة. ولعلّه يرجع إلى ما ذكرنا في توجيه الاستدلال ، وإلاّ فمجرّد الشعور لا يستلزم الأمر. وعلى تقديره فاللازم الأمر بالأجزاء أيضا ، لأنّها أيضا مشعور بها على تقدير وجوب الشعور بالشرط ، لا سيّما إذا كان جزءا شرعيّا ؛ على أنّ فتح هذا الباب يوجب انسداد باب إنكار وجوب المقدّمات في الأوامر الشرعيّة ، لامتناع الذهول والغفلة في حقّه تعالى.

ثمّ إنّ ظاهر التفصيل أن يكون قولا في قبال التفصيل المقدّم وأن لا يكون المفصّل قائلا بوجوب الأسباب شرعيّة كانت أو غيرها وإن كان منافيا لما تقدّم من نقل الإجماع عن الآمدي والتفتازاني (2) على وجوب السبب ، فإن التزم المفصّل بوجوب الأسباب فهو ، وإلاّ فاللازم إمّا التفصيل في الشروط في إخراج بعض أقسامها ، وإمّا القول بوجوب بعض الأسباب الشرعيّة.

ص: 449


1- شرح مختصر الاصول : 91.
2- تقدم عنهما في الصفحة : 441.

بيان ذلك : أنّ الشروط الشرعيّة على قسمين :

أحدهما : ما يكون من الأفعال ، كالاستقرار في الصلاة واستقبال القبلة.

والثاني : ما يكون من قبيل الأحوال ، كالطهارة ، فإنّها هي الحالة الحاصلة بالأفعال المخصوصة من الوضوء وأخويه في نفس المكلّف المقارنة لأفعال الصلاة وأكوانها. وأمّا نفس تلك الأفعال فهي ليست من الشروط لانتفاء مقارنتها مع المشروط ولزومها في الشروط ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الأمر الحاصل من الأفعال فيما إذا لم يكن فعلا فالتكليف إنّما يجب تعلّقه بأسبابه وإن كان مورد الأمر نفس تلك الحالة.

وحينئذ نقول : المفصّل إمّا أن يقول بوجوب القسمين فلا بدّ من التزامه وجوب هذا القسم من الأسباب ، وإمّا أن لا يقول بوجوبهما فلا بدّ من التفصيل في الشروط. إلاّ أن يقال : التزام وجوب هذا السبب إنّما هو بواسطة تعلّق الأمر الأصلي حقيقة به ، وهذا ليس تفصيلا في المسألة كما تقدّم ، لعدم اختصاصه بالأسباب الشرعيّة بل يجري في غيرها أيضا ، فلا ينافي اقتصاره في المسألة على وجوب الشرط الشرعي.

على أنّه يظهر من العضدي التزامه بوجوب مطلق الأسباب ، حيث قال رادّا على ما احتجّ به القائل بالوجوب مطلقا : إنّ المستدلّ بذلك إن أراد ب- « لا يصحّ » و « واجب » اللابدّيّة فمسلّم ، وإن أراد أنّه مأمور به ، فأين دليله؟ وإن سلّم الإجماع ففي الأسباب بدليل خارجي (1).

والعمدة ما ذكرنا : من أنّ الأمر الأصلي حقيقة متعلّق بالسبب من دون لزوم تجوّز ، كما عرفت مفصّلا. وهو الهادي.

ص: 450


1- شرح مختصر الاصول : 91 - 92.

هداية

قد عرفت أنّ الحاكم بوجود الملازمة بين طلب المقدّمة وذيها هو العقل. ولا فرق في نظر العقل بين أقسام الطلب من الوجوبي والتحريمي أو الاستحبابي وطلب ترك الشيء على وجه الكراهة والتنزيه ، لوجود ما هو المناط في الوجوبي في غيره ، فلا بدّ من القول بأنّ التحريم إنّما يترشّح من المحرّم الذاتي إلى ما يوجب وجوده ويوصل إليه ، مثل ترشّح الوجوب إلى ما به يتوصّل إليه ، وأمّا وجوب ما يتوصّل به (1) إلى ترك الحرام فهو ثابت ممّا (2) تقدّم من وجوب مقدّمة الواجب ، لعدم تعقّل الفرق بين أقسام الواجب من الفعل والترك.

ولا إشكال في ذلك ، وإنّما المهمّ بيان ما هو الموصل إلى ترك الحرام وتوضيح ما هو الموصل إلى فعله.

وتحقيق ذلك في مقامين :

المقام الأوّل : في بيان ما هو الموصل إلى ترك الحرام ، ولعلّه موقوف على تمهيد ، فنقول :

إنّ العلّة التامّة لوجود الشيء قد تكون أمرا واحدا لا تركّب فيه بوجه ، وقد تكون امورا متعدّدة تجمعها وحدة اعتباريّة أو غيرها.

فعلى الأوّل : لا إشكال في أنّ وجودها يوجب الوجود ومع ارتفاعها لا بدّ

ص: 451


1- لم ترد « إليه وأمّا وجوب ما يتوصّل به » في ( ع ) و ( م ).
2- في ( ط ) : فيما.

من ارتفاع المعلول ، ضرورة امتناع الممكن مع ارتفاع العلّة ، سواء قلنا باستناد العدم إلى علّة أو لم نقل ، إذ على تقديره لا إشكال في ارتفاع المعلول وامتناعه ، غاية الأمر عدم جواز استناده إلى العدم.

وعلى الثاني : فوجود المعلول إنّما يستند إلى جميع أجزاء العلّة التي جمعها وحدة ، كما تقدّم. وأمّا عدمه فيقع بانعدام المركّب الذي فرض كونه علّة تامّة له ، وارتفاعه إمّا بارتفاع جميع الأجزاء وهو ظاهر ، أو بارتفاع بعض الأجزاء. وليس هذا من تعدّد العلل في جانب العدم ، بل علّة العدم على تقدير استناده إلى العلّة هو عدم العلّة التامّة ، وهو أمر واحد ، وإن ظهر في موردين ، كما إذا فرض تعدّد أفراد العلّة في جانب الوجود ، فإنّه لا يوجب تعدّد العلّة ، لأنّ القدر المشترك لا تعدّد فيه. فالمعلول في جانب العدم دائما إمّا مستند إلى انعدام جميع أجزاء العلّة دفعة من دون سبق ولحوق ، وإمّا يستند إلى انعدام الجزء الأوّل من أجزاء العلّة المقتضية للوجود ، إذ بانعدامه ينعدم المركّب ، ومع ذلك يمتنع تحقّق المعلول ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون المعلول المعدوم من الامور الاختياريّة والأفعال الإراديّة أو غيرها.

نعم ، إذا كان المعلول من الأفعال الاختياريّة فالجزء المعدوم من أجزاء علّة وجودها إذا لم يكن من الامور الغير الاختياريّة ، هو إرادة ذلك الفعل والداعي إليه بواسطة وجود معارض له ، إمّا مساويا لما هو الداعي إليه ولازمه الترديد ، أو أقوى منه ولازمه ترجيح العدم على الوجود ، وهو المراد بالصارف. ولا يعقل أن يتقدّم على ذلك جزء بالعدم فيما إذا كان ذلك الجزء من الامور الاختياريّة ، إذ إعدام (1) ذلك الجزء لا يكون إلاّ بوجود الصارف عن ذلك الجزء أو عدم إرادته اللازم لعدم إرادة المعلول ، إمّا لذهول عنه فيما إذا لم يكن ملتفتا إليه بوجه وإمّا لترجيح عدمه على

ص: 452


1- في ( م ) : انعدام.

وجوده بواسطة وجود معارض أقوى لما هو الداعي إليه ، وهو الصارف ، ويعبّر عنه بالكراهة عن ذلك المعلول أيضا ، فأسبق الأجزاء المعدومة لعلّة الوجود في الأفعال الاختياريّة بعد إحراز الامور الغير الاختياريّة التي لها دخل في وجود ما ، هي الإرادة المجامعة مع الصارف تارة والمفارقة عنه اخرى.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا تعلم أنّ سبب الترك منحصر في الصارف عن الحرام وما يحذو حذوه من عدم إرادة الحرام ، وأمّا سائر المقدّمات التي لها دخل في وجود الحرام فلا يستند إليها الترك ، وبذلك تخرج عن كونها مقدّمة ، فلا قاضي بوجوبها ، فلا وجه لحرمة فعلها. فإذا تحقّق وجود الصارف عنه أو عدم إرادته لا دليل على وجوب ترك الامور التي يتوقّف عليها وجود الحرام ؛ لامتناع استناد الترك إليها لاستنادها بما هو أسبق منها في العدم ، كما عرفت.

فإن قلت : لا نسلّم انحصار سبب الترك في الصارف ، لجواز عدم تمكّن المكلّف من ترك الحرام إلاّ بارتكاب فعل من الأفعال ، كما إذا علم من نفسه الوقوع في الزنا لو لم يخرج من البيت - مثلا - ولازمه وجوب ذلك الفعل أيضا وعدم انحصار الواجب في الصارف.

قلت : الخروج في المثال المفروض مستند إلى ذلك الصارف وعلّة لبقائه ، فالصارف كما هو علّة للترك علّة للخروج أيضا. نعم ، بقاء الصارف ووجوده في الزمان الثاني مستند إلى الفعل ولا ضير فيه.

والحاصل أنّ الاشتغال بفعل من الأفعال لأجل الفرار عن ارتكاب الحرام إمّا أن يكون في زمان إرادة ارتكاب الحرام ، أو في زمان خوف حصول الإرادة بذلك الارتكاب. والأوّل محال ، لعدم تعقّل الاشتغال بشيء مع إرادة غيره ، إذ المراد بالإرادة هي الحالة التي تدعو إلى الفعل من دون معارض مساو لها أو راجح عليها ، ومع ذلك يجب صدور الفعل المراد ، ومعه يجب الصارف عن وجود غيره ، ومعه يمتنع

ص: 453

صدوره ، والمفروض الاشتغال به وهو خلف ، فتعيّن الثاني. وقضيّة ذلك كون الفعل مسبوقا بالصارف عن الحرام ، إذ لو لا الصارف عن الحرام لما تحقق ذلك الفعل ، فهو مقدّم عليه ، والترك مستند إليه ، إلاّ أنّ الصارف أنّ ذلك الفعل ممّا يجب الالتزام بوجوبه ، لأنّه إمّا مقدّمة لإبقاء الصارف لو فرض وجه ارتباط بين ذلك الفعل والصارف عن الحرام ، وإمّا معه يمتنع صدور الحرام وإن فرض انقلاب الصارف إلى إرادة الحرام ، وهو الأقرب ، إذ لا نجد وجها لاستناد بقاء الصارف إلى الاشتغال بفعل من الأفعال ، وإنّما بقاؤه مستند إلى ما يستند إليه حدوثه من خوف ونحوه ، كما لا يخفى. نعم ، هو يجدي في امتناع الفعل الذي بواسطة وجود الصارف عنه في الزمان السابق ارتكبه الفاعل كما هو ظاهر ، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه.

المقام الثاني : في توضيح الحال فيما يتوصّل به إلى فعل الحرام ، فنقول : إنّ مقدّمة فعل الحرام إنّما يحرم تبعا للحرمة الدائمة الثابتة لذيها ، وقد عرفت أنّ الحرمة التبعيّة لا يستتبع ذمّا ولا عقابا لكلّ فعل يقصد به التوصّل إلى فعل الحرام يكون (1) حراما على ما نحو ما عرفت فيما يتوصّل به إلى الواجب ، فإنّ الحرمة التبعيّة إنّما يلحق عنوان المقدّميّة لا ذوات تلك المقدّمات ، ويمتنع حصول ذلك العنوان على وجه الاختيار إلاّ بعد القصد إلى ما يتوصّل به منها ، من غير فرق في ذلك بين العلّة التامّة لفعل الحرام أو أسبابه أو شرائطه ومعدّاته. نعم ، الحكم بحرمة العلّة التامّة - بل والأسباب أيضا - قد لا يتوقّف على تشخيص أنّه قصد منه التوصّل إلى الحرام ، نظرا إلى أنّ إيجاد العلّة التامّة لفعل الحرام لا ينفكّ في الأغلب عن القصد إلى المعلول المحرّم ولو إجمالا ، بخلاف سائر المقدّمات ، فإنّ الحكم بالحرمة موقوف على إحراز القصد إلى المحرّم.

ص: 454


1- في ( م ) : ويكون.

والوجه في ذلك : أنّ الفعل إذا حرم بعنوان خاصّ أو وجب ، لا يقع محرّما ولا واجبا إلاّ بعد أن يقع بذلك العنوان في الخارج على وجه الاختيار ، فإن وقع على وجه لا ينتزع منه ذلك العنوان اختيارا لا يكون محرّما ولا واجبا وإن أثّر أثر المحرّم والواجب من ترتّب ما يتوصّل به إليه عليه ، كما لا يخفى.

وقد يتوهّم أنّ مقدّمة الحرام ما لم يكن سببا لم يكن حراما ، لأنّ الحرام ما كان يجب تركه عينا ، ولا يجب ترك شيء منها كذلك بعد السبب ، وهو الإرادة المقارنة بالفعل. وأمّا سائر المقدّمات فيجب تركها تخييرا ، لحصول ترك الحرام بواحدة منها على سبيل التخيير.

وفيه : أنّه إن فرض إمكان ترك الحرام بترك واحدة من المقدّمات غير الإرادة التي جعلها السبب لترك الحرام فلا وجه لجعل وجوب ترك السبب عينيّا ، لقيام ترك غيره مقامه. وإن لم يفرض إمكان ذلك - نظرا إلى ما قدّمنا من أنّ أسبق الأجزاء الاختياريّة المعدومة للعلّة التامّة للأفعال الاختياريّة هو الإرادة - فلا وجه لجعل ترك غير الإرادة واجبا مطلقا ، لما عرفت من عدم التوقّف حينئذ.

وأمّا الجواب عمّا استند إليه من أنّ الحرام ما يجب تركه عينا ، فنقول على تقدير تسليمه : إنّ ترك جميع المقدّمات التي يقصد بها التوصّل إلى الحرام واجب عينا ، غاية الأمر أنّه عند ترك الإرادة التي هي السبب لفعل الحرام لا يعقل وجود القيد ، فيرتفع موضوع ما هو الواجب ، وذلك لا يوجب العينيّة في الإرادة والتخيير في غيرها ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو من حيث عنوان المقدّمة ، وهل هناك عنوان آخر غيرها يوجب تحريمها إذا ارتكبها الفاعل إعانة على فعل غيره أو على فعل نفسه أو غير ذلك من الوجوه والعناوين؟ فهو محلّ الكلام. ولا بدّ في تنقيحه من رسم هدايات لتهتدي بها إلى ما هو الحقّ من المرام ، بعون اللّه الملك العلاّم.

ص: 455

ص: 456

هداية

إذا قصد الفاعل إيجاد معصية مجرّدا عنها وعمّا يتوصّل به إليها فهل فعل محرّما أو لا؟ وعلى الأوّل فهل العفو عنه ثابت في الشرع أو لا؟ ظاهر الأكثر هو الأوّل في المقامين ، بل لم نتحقّق خلافا صريحا في إنكار العفو عنه ما لم يتلبّس بالعمل ، وعنوان « العفو » في كلماتهم دليل على ذهابهم إلى التحريم واستحقاق العقاب أيضا.

نعم ، نسب إلى السيّد (1) وشيخنا الطبرسي (2) وبعض العامّة بكونه معصية (3). ولا دلالة فيه صريحا على عدم العفو ؛ لاحتمال إرادة الاستحقاق دون الفعليّة ، كما يظهر من نسبة السيّد الداماد (4) عدم العقاب إلى فقهاء الفريقين والاصوليّين منهم.

وذهب بعضهم إلى أنّه لم يفعل حراما ، وهو الظاهر من الشهيد ، حيث قال :

« نيّة المعصية لا تؤثّر ذمّا ما لم يتلبّس بها وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه » (5) فإنّ عنوان « العفو » وإن كان ظاهرا في ثبوت الاستحقاق ، إلاّ أنّ قوله : « نية المعصية لا تؤثّر ذمّا » لعلّه أظهر في الدلالة على عدم الاستحقاق.

وقد نسب ذلك إلى الصدوق أيضا ، حيث قال : « اعتقادنا أنّ من همّ بسيّئة

ص: 457


1- حكاه عنهم الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.
2- حكاه عنهم الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.
3- حكاه عنهم الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.
4- السبع الشداد المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : 89 ، المقالة السابعة.
5- القواعد والفوائد 1 : 107.

لم يكتب حتّى عملها ، فإن عملها كتب عليه سيّئة واحدة » (1) ولعلّه ليس في محلّه ، فإنّ قوله : « لم يكتب » ظاهر في العفو ، إذ على تقدير عدم الاستحقاق ليس موردا للنفي والإثبات ، كما لا يخفى.

وقد نسب بعضهم إلى المحقّق الطوسي القول الأوّل ، حيث قال في التجريد : « وإرادة القبيح قبيحة » (2) وظنّي أنّه ليس المراد بالإرادة في عبارته قصد الفاعل ، بل الظاهر المراد منها هو طلب القبيح والأمر به ، كما يظهر بمراجعة شروحه (3).

فكيف كان فيمكن الاستدلال على الحرمة بالأدلّة الأربعة.

أمّا العقل ، فلقضاء صريح الوجدان باستحقاق الذمّ لمن همّ بمخالفة المولى واعتقدها في ضميره وعقد عليها في قلبه ، ولذا يحسن من المولى الإقدام على عقاب من همّ بقتل ولده وهتك حريمه على وجه لا يمنعه منه إلاّ عدم تمكّنه منه. وهذا ممّا لا ينبغي إنكاره من أحد.

وأمّا الإجماع ، فيمكن استكشافه ممّا نسب إلى شيخنا البهائي : من أنّ كون ذلك معصية ممّا لا ريب فيه عندنا وكذا عند العامّة ، قال فيما نسب إليه : وكتب الفريقين من التفاسير وغيرها مشحونة بذلك ، إلاّ أنّ العفو أيضا ثابت ، بل هو من ضروريّات الدين (4) وممّا ستقف عليه في الحكم بالعصيان في التجرّي.

وأمّا الكتاب ، فتدلّ عليه آيات :

ص: 458


1- راجع الاعتقادات للصدوق المطبوع مع مصنّفات المفيد 5 : 68 ، وراجع البحار 5 : 327.
2- تجريد الاعتقاد : 199.
3- انظر كشف المراد : 307 ، وشرح تجريد العقائد للقوشجي : 340.
4- نسبه الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.

منها قوله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ ) (1) فإنّه يعمّ العزم على الحرام.

ومنها قوله تعالى : ( لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) (2) فإنّ العزم على المعصية من الأخير.

منها (3) قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (4) سيّما بعد ملاحظة ما عن العيّاشي عن الصادق عليه السلام : أنّه يسأل عن السمع عمّا سمع (5) والبصر عمّا نظر إليه والفؤاد عمّا عقد عليه (6).

ومنها قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (7) وجه الاستدلال : أنّ الحبّ من مراتب الميل والإرادة - كما حقّق في محلّه - إلاّ أنّه يجامع الموانع التي تمنع عن صدور الفعل ، فيكون المراد به القصد المجرّد أو الأعمّ منه ومن الإرادة التي يترتّب عليها الفعل.

ومنها قوله تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) (8) وقد ورد في تفسيرها عن أمير المؤمنين عليه السلام : « الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها » (9).

ص: 459


1- البقرة : 284.
2- الانعام : 151.
3- كذا ، والمناسب : ومنها.
4- الإسراء : 36.
5- في ( ع ) و ( م ) زيادة : إليه.
6- تفسير العياشي 2 : 292.
7- النور : 19.
8- القصص : 83.
9- انظر تفسير الصافي 4 : 106.

ومنها قوله تعالى : ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).

وأمّا الأخبار ، فهي كثيرة جدّا ، ومع ذلك فهي على أصناف :

الأوّل : ما يدلّ على وجود المؤاخذة في النيّة.

منها : قوله صلى اللّه عليه وآله « نيّة الكافر شرّ من عمله » بعد قوله صلى اللّه عليه وآله « نيّة المؤمن خير من عمله » (2).

وعن الصادق عليه السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا ، وإنّما خلّدوا أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبدا ، فبالنيات خلّد هؤلاء. ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (3) قال : على نيّته » (4).

وفي العلل عن أبي جعفر عليه السلام أنّه كان يقول : « نيّة المؤمن أفضل من عمله وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله وذلك لأنّه لينوي من الشرّ ما لا يدركه » (5).

وعن الصادقين عليهما السلام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « نيّة المؤمن أبلغ من عمله ، وكذلك الفاجر » (6).

ص: 460


1- البقرة : 235.
2- الوسائل 1 : 35 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 3.
3- الإسراء : 84.
4- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 4.
5- الوسائل 1 : 38 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 17.
6- الوسائل 1 : 40 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 22.

وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « إذا التقى المسلمان بسيفهما [ على غير سنّة ](1) فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول اللّه هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه » (2).

وعن الكافي عن ابن بزيع عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « ملعون من ترأّس ، ملعون من همّ بها ، ملعون من حدّث بها نفسه » (3).

وروي في الكافي : « من أسرّ سريرة رآها » (4) إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ » (5) إلى غير ذلك ممّا يقف عليها المتتبّع.

الثاني : ما دلّ على العفو ؛ لما قد مرّ من أنّ عنوان « العفو » ظاهر في تحقّق العصيان.

كقول الصادقين فيما رواه في الكافي : « إنّ آدم عليه السلام قال : يا رب سلّطت عليّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم ، فاجعل لي شيئا ، فقال تعالى : يا آدم جعلت لك أنّ من همّ بسيّئة من ذرّيتك لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت عليه سيّئة ، ومن همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن هو عملها كتبت له عشرا » (6).

ص: 461


1- أثبتناه من المصدر.
2- الوسائل 11 : 113 ، الباب 67 ، من أبواب جهاد العدو ، الحديث الأوّل. وفيه : لأنّه أراد قتلا.
3- الكافي 2 : 298 ، باب طلب الرئاسة ، الحديث 4. والوسائل 11 : 3. الباب 50 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 6.
4- في المصدر : ألبسه اللّه رداءها.
5- الكافي 2 : 396 ، باب الرياء ، الحديث 15. والوسائل 1 : 5. الباب 7 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل ، والصفحة 48 ، الباب 11 منها ، الحديث 5.
6- الكافي 2 : 440 ، باب ما أعطى اللّه عزّ وجل آدم عليه السلام وقت التوبة ، الحديث الأوّل.

وعن فضل بن عثمان المرادي ، سمع أبا عبد اللّه يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ( في حديث إلى أن قال ) « ويهمّ بالسيّئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها أجل سبع ساعات » (1).

وعن توحيد الصدوق عن الصادق عليه السلام قال : « من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ويضاعف اللّه لمن يشاء إلى سبعمائة. ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتّى يعملها ، فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها أجل تسع ساعات ، فإن تاب وندم عليها لم يكتب [ عليه ] وإن لم يتب ولم يندم عليها كتبت [ عليه ] سيّئة واحدة » (2).

وعن الصادق عليه السلام : « إذا همّ العبد بالسيّئة لم يكتب عليها ، وإذا همّ بحسنة كتب له » (3).

وعن الصدوق عن أحدهما : « إنّ اللّه جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بسيّئة لم تكتب عليه » (4).

ص: 462


1- الكافي 2 : 429 ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، الحديث 4. والوسائل 11 : 1. الباب 85 من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.
2- التوحيد للصدوق : 408 ، الحديث 7. والوسائل 1 : 2. الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 20.
3- الوسائل 1 : 37 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 10. وفيه : « ... عليه ، وإذا همّ بحسنة كتبت له ».
4- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 6 ، ولكنّه عن الكافي ، ولم نعثر عليه في كتب الصدوق ، وانظر الكافي 2 : 428 ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، الحديث الأوّل.

وعن الصادق عليه السلام : « أنّ المؤمن يهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه » (1).

الثالث : ما دلّ على حرمة الرضا بما فعله العاصي.

كقول أمير المؤمنين عليه السلام : « أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه ، وعلى الداخل إثمان إثم الرضا وإثم الدخول » (2).

وروي : « أنّ من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم يفعله » (3).

ويكرّر في الزيارات المأثورة عنهم عليهم السلام (4) : « لعن اللّه أمّة سمعت بذلك فرضيت به » (5).

وقد ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (6) « أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين لأجل (7) رضاهم بفعلهم » (8) وجه الدلالة : ما عرفت من أنّ الرضا أيضا مرتبة من مراتب الإرادة والقصد ، غاية الأمر أنّه استعمل فيما وقع من الأفعال ، وهو لا يضرّ فيما نحن فيه.

الرابع : ما ورد في العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتب الحرام ،

ص: 463


1- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.
2- نهج البلاغة : 499 ، الحكمة 154. والبحار 100 : 2. الحديث 7.
3- تفسير علي بن إبراهيم 1 : 157 ، ذيل الآية 155 من سورة النساء.
4- في ( ط ) زيادة : قولهم.
5- البحار 101 : 200 - 201 ، الحديث 32.
6- آل عمران : 183.
7- في ( ط ) بدل « لأجل » : بكثير.
8- انظر تفسير الصافي 1 : 374.

كغارس الخمر (1) والماشي لسعاية مؤمن (2). وجه الاستدلال : أنّ من المعلوم عدم العقاب على المشي والغرس لا بقصد ذلك ، فيكون العقاب للقصد.

ويؤيد الكلّ الأخبار الدالّة على حرمة الحسد (3) واحتقاد الناس (4) والآمرة على اجتناب (5) الظنّ (6) ونحو ذلك من الامور الباطنيّة.

هذا غاية ما يمكن الاستناد إليه في ثبوت العقاب للقصد المجرّد عن العمل ، إلاّ أنّه مع ذلك فالحكم بثبوت استحقاق العقاب محلّ إشكال.

وتوضيحه : أنّ النيّة والقصد إمّا أن يكون من الأفعال الصادرة منّا ، كما يظهر من جملة من الفقهاء في تحديدها ، حيث يقولون : إنّها إرادة تفعل بالقلب (7). وإمّا أن لا تكون من مقولة الفعل والحركة الصادرة من الفاعل ، بل إنّما هي عبارة عمّا يدعو إلى تحريك العضلات من اعتقاد النفع في الفعل ، فيكون من الكيفيّات النفسانيّة الحاصلة تارة بأسباب اختياريّة - مثل النظر والاستدلال - واخرى بغيرها من الامور الخارجة عن الاختيار ، كما عليه جماعة من محقّقي العدليّة.

قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه - بعد ذكر الإرادة والكراهة في عداد الكيفيّات

ص: 464


1- الوسائل 12 : 165 ، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 و 5.
2- البحار 72 : 122 ، الحديث 18 ، و 78 : 272 ، الحديث 112. والوسائل 19 : 2. الباب 2 من أبواب القصاص في النفس.
3- راجع الوسائل 11 : 292 ، الباب 55 من أبواب جهاد النفس.
4- راجع البحار 75 : 209 ، الباب 64 ، والصفحة 193 ، الباب 62.
5- في ( ع ) بدل « اجتناب » : إحسان.
6- راجع البحار 75 : 209 ، الباب 64 ، والصفحة 193 ، الباب 62.
7- كالمحقّق في الشرائع 1 : 20 ، والعلاّمة في منتهى المطلب ( الطبعة الحجريّة ) 1 : 516.

النفسانيّة - : « وهما نوعان من العلم » (1) وهو الظاهر من التأمّل في الوجدان أيضا ، بل ويقتضيه البرهان أيضا ؛ من حيث إنّ النيّة والإرادة ونحوهما لو كان فعلا لكان اختياريّا عند القائل بكونها معصية ، إذ لا يعقل العقاب على الفعل الحاصل بغير الاختيار عند العدليّة ، وذلك يلازم كونها مسبوقة بالإرادة ، فيلزم الدور أو التسلسل.

والقول بأنّ الارادة مرادة بنفسها على قياس « الوجود » (2) الموجود بنفسه ، مدفوع بأنّ ضرورة العقل يحكم بالتساوي بين أفراد الفعل الاختياري في الحاجة إلى الإرادة والنيّة ، وعدم احتياجها إليها إنّما يكشف عن خروجها عن سلسلة الأفعال.

وبذلك يظهر فساد قياسه بالوجود ؛ فإنّه خارج عمّا يصير موجودا به وهو الماهيّة. مضافا إلى أنّ الكلام في الإرادة التي يتوقّف عليها صدور الفعل الاختياري عن المختار ، وصدور الفعل غير محتاج بعد تصوّر الفعل والتصديق بمنفعته - على وجه لا تعارض تلك المنفعة الملحوظة في نظر الفاعل منفعة اخرى في نظره موجودة في تركه مساوية للمنفعة القاضية بوجوده في نظره - إلى أمر آخر ، وذلك كاف في صدوره ، ولا حاجة إلى أمر آخر كما هو ظاهر عند المتأمّل المنصف. فعند التحقيق يختلف مراتب ذلك الاعتقاد الداعي إلى صدور الفعل ، ويختصّ في كلّ مرتبة باسم. وربّما يتسامح في إطلاق اسم بعض المراتب على بعضها نظرا إلى ظهور المراد.

وما ذكرنا وإن كان بعيدا عن أنظار طلبة أهل العصر ، إلاّ أنّه بعد موافقته لما ذهب إليه الأكابر من أرباب التحقيق والعدل ولما نجده من أنفسنا لا بأس به.

ص: 465


1- كشف المراد : 252.
2- لم يرد ( الوجود ) في ( ع ) و ( م ).

وكيف كان ، فعلى الثاني لا ينبغي الإشكال في الحكم بعدم استحقاق العقاب فيما إذا قصد الفعل واعتقد النفع فيه ، ولا سبيل إليه إلاّ بوجهين :

أحدهما : أن يعاقب على تحصيل ذلك الاعتقاد بالنظر أو بما يوجبه من أعمال الحواسّ الظاهرة الموجبة للعلم.

والثاني : أن يقال : إنّه لا إشكال في سوء سريرة من قصد العصيان وخبث طينته ، ومن الجائز أن يعاقب من كان على تلك الحالة الخبيثة والملكة الرذيلة وإن لم يفعل فعلا محرّما.

والأول غير مطّرد ؛ لجواز حصول الاعتقاد بواسطة مقدّمات خارجة عن القدرة ، بل ولا يبعد دعوى أنّه الغالب في العلم الحاصل بمنافع الأفعال.

والثاني ممّا لا يلتزم به العدليّة ؛ لاقتصار العقاب عندهم على مخالفة الأمر الممتنع تعلّقه بغير ما هو من مقولة الأفعال.

وعلى الأوّل - فبعد ما عرفت من أنّه خلاف ما يصل إليه فهمنا القاصر - لا وجه للعقاب على القصد ، إذ لا يزيد القصد من سائر الأفعال التي يتوقّف عليها الفعل المحرّم. وقد مرّ أنّ الأحكام الغيريّة وجوبا وتحريما لا تؤثّر ذمّا ولا يستتبع عقابا ، ولا يرى في العقل ما يوجب اختصاص القصد من سائر المقدّمات الاختياريّة ، فلا وجه للقول بعدم العقاب في غيره بل وامتناعه من حيث إنّها مقدّمات - كما مرّ - والعقاب في خصوص القصد.

فإن قلت : لا إشكال في ظهور الأخبار في الاستحقاق ، ويجعل ذلك دليلا على وجود عنوان نفسي في القصد إذا تجرّد عن وجود المقصود وإن لم يكن معلوما عندنا ، فيصحّ الحكم باستحقاق العقاب.

قلت : لا إشكال في أنّ القصد عند العقلاء لا يلازم عنوانا محرّما نفسيّا عندهم لو لم يكن نفس القصد كذلك كما هو المفروض ، ولم يظهر من الأخبار شيء يزيد على

ص: 466

ما عليه العقلاء كما لا يخفى على الملاحظ والناظر فيها ، فلا بدّ إمّا من القول بجواز العقاب على مقدّمة الحرام كائنا ما كانت ، أو الالتزام بعدم استحقاق عقاب القاصد في قصده ، وإلاّ لزم تعدّد العقاب على تقدير وجود المقصود أيضا.

ويمكن أن يقال : إنّ الهمّ بالمعصية والميل إليها والعزم عليها وقصدها مرتبة من مراتب المخالفة والمعصية ، فإنّ المخالفة قد يشتدّ وجودها وهي ما إذا وقعت المعصية بإيجاد الفعل المنهيّ عنه ، وقد تكون ضعيفة.

فإن لوحظت تلك المرتبة الضعيفة في حدّ نفسها على وجه ملاحظة المرتبة الضعيفة من السواد المأخوذة بشرط عدم اندكاكها واضمحلالها تحت مرتبة شديدة من السواد ، يترتّب عليها أحكام المخالفة من العقاب وغيره ، كما يترتّب على المرتبة الضعيفة من السواد أحكام السواد من اجتماع البصر ونحوه.

وإن لوحظت من حيث اندراجها وانطماسها تحت المرتبة الشديدة من المخالفة ، فالحكم إنّما هو لتلك المرتبة ، ولا ينسب إلى الضعيفة المنطمسة شيء من آثار المخالفة ، كما هو كذلك في السواد أيضا.

وبذلك يظهر عدم وجوب التزام العقاب على القصد فيما إذا قارن وجود المقصود. نعم ، لازم ذلك أن يكون العقاب على القصد أضعف من العقاب على أصل الفعل.

هذا ، ولكنّه لا يخلو عن نظر ، ووجهه - بعد أنّ المخالفة إنّما هو عنوان لفعل المنهيّ عنه أو لترك المأمور به وليست أمرا يمكن انتزاعها من غير ذلك - : أنّ اختلاف الشديد مع الضعيف - على ما تقرّر في محلّه - ليس إلاّ بمجرّد الشدّة والضعف الراجع إلى زيادة ظهور أصل المعنى بعد كونه محفوظا في مقامه ونقصانه كذلك ، فلا بدّ أن يكون الضعيف من سنخ الشديد ومن تلك الحقيقة ، لا أمرا مغايرا له في الحقيقة

ص: 467

بل وفي المقولة أيضا. وعلى هذا فإن قلنا بأنّ حقيقة القصد راجعة إلى اعتقاد النفع ، فعدم إمكان كون القصد من حقيقة الفعل أو مرتبة من مراتبه أمر ظاهر. وإن قلنا بأنّه من مقولة الفعل فلم يظهر لنا أنّه يعدّ من مراتب وجود شرب الخمر ونحوا من أنحاء وجوده.

نعم ، لو كان المراد به تصوّره صحّ جعله نحوا من وجود الفعل ، لأنّ الوجود الذهني نحو من أنحاء وجود الشيء وظلّ له ، إلاّ أنّه لم يظهر من أحد الالتزام بأنّ تصوّر الشيء المحرّم حرام.

وكيف كان ، فنحن وإن استقصينا التأمّل فما وقفنا على وجه وجيه به يحكم بخروج القصد عن قاعدة عدم إيراث المقدّمة ذمّا ولا عقابا ؛ على أنّ فتح ذلك الباب توجب انسداد باب الإلزام على الأشعري القائل بالكسب ، فإنّ له أن يقول : مع أنّ العبد معزول عن الفعل بواسطة تعلّق قدرة البارئ وإرادته بصدور الفعل أنّه قاصد للفعل على وجه لو لم يسبقه إرادة البارئ كان الممكن فاعلا ، وهذا يكفي في العقاب. إلاّ أن يقال : إنّ القصد - بناء على أنّه فعل أيضا - مخلوق لله ، ولا يجوز أن يكون ذلك القصد منشأ للعقاب ، فإنّ الوجه في ذهابهم إلى هذه المقالة السخيفة دعوى امتناع صدور الوجود من الممكن نظرا إلى قولهم : « لا مؤثّر في الوجود عدا اللّه » بناء على ما زعموه من معنى هذه القضيّة الصادقة فهو آت في القصد أيضا مطلقا ؛ مضافا إلى أنّ استنادهم إلى ذلك ينافي القول بأنّه لو لا سبق إرادته تعالى لكان فاعلا ، فإنّ ذلك محال حينئذ ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، لا ينبغي الإشكال في ظهور الأخبار والأدلّة اللفظيّة في حرمة العزم ، وكلماتهم مشحونة بذلك (1). إلاّ أنّ دعوى استقلال العقل باستحقاق العقاب

ص: 468


1- تقدّمت في الصفحة : 457 وما بعدها.

على القصد ممنوعة ، بل ما لم يثبت عنوان يقيني عقلي أو شرعي لا يحسن في العقل العقاب عليه وعلى غيره من المقدّمات.

نعم ، من قصّر نظره على ما يراه من منافع الفعل الراجع إلى متابعة هواه ولم يصرف نفسه عن عدم المبالاة في تحصيل رضاء مولاه يعدّ سيّئ السريرة وخبيث الطينة ، فإن جاز في العقل أو في الشرع العقاب على مثله وإن لم يتحقّق منه مخالفة صحّ مفاد الأخبار ، وإلاّ فلا بدّ من حملها على ما لا ينافيه العقل ، كما هو الشأن في أمثاله.

والظاهر أنّ العقاب بدون المخالفة ليس من العدل ، كما يظهر من رواية عبد اللّه بن جعفر الحميري المرويّة في قرب الإسناد عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « لو كانت النيّات من أهل الفسوق يؤخذ بها لاخذ كلّ من نوى الزنا بالزنا وكلّ من نوى السرقة بالسرقة وكلّ من نوى القتل بالقتل ، ولكنّ اللّه عدل كريم ليس الجور من شأنه » (1) ومع ذلك فليس فيه كثير فائدة ، لثبوت العفو قطعا في المقام ، بل وذلك ممّا يتعاطونه أهل الأسواق من العوام.

فلا حاجة إلى تصرّف في الأخبار بحمل الدالّة منها على العقاب على صورة بقاء القصد والعجز عن الفعل لا باختياره ، وأخبار العفو على من ارتدع عن قصده بنفسه ، كما يومئ إليه بعض الأخبار المتقدّمة ، كقول الصادق عليه السلام : « إنّ المؤمن يهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا يكتب عليه » (2) فإنّه ظاهر في أنّه لا يعملها اختيارا بارتداعه عن قصده بنفسه. أو بحمل الأخبار المحرّمة

ص: 469


1- قرب الإسناد : 48 ، الحديث 158. والوسائل 1 : 1. الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 21.
2- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.

على ما إذا تلبّس بفعل بعض المقدّمات ، وحمل الأخبار الدالّة على العفو بمجرّد القصد ، كما يشعر به أخبار سفر المعصية (1) والساعي للسعاية (2) وغارس الكرم (3) من حيث إنّ موردها هو القصد مع التلبّس. أو بحمل أخبار المؤاخذة على غير المؤمنين وأخبار العفو على المؤمنين ... إلى غير ذلك.

والوجه في عدم الحاجة هو أنّه لم يظهر من أخبار المؤاخذة سوى استحقاق العقاب دون فعليّته ، عدا رواية الخلود المخصوصة بالكفّار (4) ، ولا ينافي ذلك ثبوت العفو تفضّلا من اللّه الكريم على تلك الامّة المرحومة.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يظهر عدم جريان النزاع في أنّ القصد إلى المعصية هل هي كبيرة أو صغيرة ، إذ بعد عدم كونه معصية لا وجه لذلك ، وعلى تقديره فتعيين ذلك موقوف على تعيين معنى الكبيرة ، وهو خارج عمّا نحن بصدده. ولكن ذلك جار بالنسبة إلى المعاصي الّتي لها خارج غير الاعتقاد. وأمّا القصد إلى الامور المبغوضة الاعتقاديّة ، كالقصد إلى الكفر ، فهو عين الكفر بناء على ما قرّرنا من أنّ مرجع القصد إلى الاعتقاد بالنفع ، وهو ظاهر بعد الإحاطة بما مرّ.

ثمّ إنّ بعضهم (5) قد استشهد على كون العزم عصيانا بتقسيم الفقهاء الإصرار على الصغائر إلى الفعلي وهو المداومة عليها ، والحكمي وهو العزم على فعلها عند التمكّن منها. وبعدّ قصد الإفطار من المفطرات في رمضان.

ص: 470


1- الوسائل 5 : 509 ، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر.
2- تقدّم تخريجهما في الصفحة : 464.
3- تقدّم تخريجهما في الصفحة : 464.
4- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 4.
5- استشهد به شيخنا البهائي ، كما نقل عنه الكلباسي في إشارات الاصول : الورقة 98 ، وانظر الأربعون حديثا : 379 - 380.

وضعفه ظاهر ؛ فإنّ ذلك يوجب كونه إصرارا فعليّا كنفس المداومة ، بل وكبيرة من الكبائر بناء على أنّ الإصرار بالصغيرة كبيرة. وأمّا الإفطار فهو ممّا لا يرتبط بالمقام ، لأنّ الوجه في كونها من المفطرات ارتفاع حقيقة الصوم بواسطة القصد إلى الإفطار ، فإنّ الصوم عبارة عن إمساك زمان محدود مخصوص تقرّبا إلى اللّه تعالى ، وذلك لا يتحقّق مع قصد الإفطار ، وأين ذلك من كون القصد عصيانا؟ كما لا يخفى.

وقد يستدلّ على حرمة العزم : بأنّ التوبة واجبة عقلا وشرعا ، وهي عبارة عن الندم على العمل والعزم على عدم العود ، فيكون هذا العزم واجبا فيكون تركه حراما ، فإذا كان ترك العزم على العود حراما فما ظنّك بالعزم على العود؟

وفيه : أنّ تحصيل اعتقاد النفع على عدم العود وتخليصه عن الموانع والعوارض الشهوانيّة التي يمنع عن ترتّب مقتضى الاعتقاد بالنفع واجب ، ولكنّه لا يستلزم عقابا ، لأنّه من الواجبات العقليّة الإرشاديّة التي هي مبنيّة على لزوم دفع الضرر ، وقد قرّر في بعض المباحث المتقدّمة أنّ الأوامر المسوقة للإرشاد وبذل النصح عقليّة كانت أو شرعيّة لا تورث ذمّا ولا يستتبع عقابا على مخالفة الهيئة وطلبها ؛ على أنّه لو لم يكن من الواجبات الإرشاديّة أيضا لم يستحقّ العقاب ، لأنّ أجزاء الواجب بمنزلة المقدّمات لا يستلزم تركها عقابا في نفسه ، كما مرّ.

ثمّ إنّ محلّ الكلام إنّما هو في العزم والتصميم. وأمّا الخطرات العقليّة (1) التي لا ينفكّ عنها الإنسان في الأغلب ، فقد ادّعي الضرورة في عدم كونها معصية ، لكونها تكليفا بما لا يطاق. عصمنا اللّه وإخواننا من المعاصي.

ص: 471


1- في هامش ( ط ) : القلبيّة ، ظ.

ص: 472

هداية

إذا قارن القصد بفعل بعض مقدّمات الحرام ، فإن لم يحتمل وجود عنوان آخر غير عنوان المقدّميّة فيه لم يعقل العقاب ، وإن احتمل وجوده ولو بملاحظة استكشافه من الأخبار فلا بأس به ، مثل الأخبار الدالّة على تحريم القصد المقارن لفعل بعض المقدّمات ، مثل الأخبار الدالّة على حرمة الغرس للخمر (1) والمشي للسعاية (2) ، وما دلّ على حرمة المعاونة على الإثم كقوله : « من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة أكبّه اللّه على منخره في النار » (3) فيما لو قلنا بشمول عنوان « الإعانة » لإيجاد مقدّمات فعل النفس ، كما لعلّه يظهر من الشيخ الأجلّ كاشف الغطاء (4) ، ويحتمل أن يكون استناده بواسطة الفحوى أو تنقيح المناط.

ولكنّ الإنصاف أنّ الأخبار ظاهرة في أنّ عنوان الحرام ليس أمرا خارجا عن عنوان المقدميّة (5) التي قد مرّ أنّها لا يعقل استتباعها الذمّ والعقاب. وأمّا

ص: 473


1- تقدّم تخريجها في الصفحة : 464.
2- تقدّم تخريجها في الصفحة : 464.
3- لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة من العامّة والخاصّة ، نعم ورد أنّه : « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه » عوالي اللآلي 2 : 333 ، الحديث 48.
4- شرح القواعد ( مخطوط ) : الورقة 16 - 17 ، ولم يرد « كاشف الغطاء » في ( ع ) و ( م ).
5- في ( ع ) و ( م ) : المقدّمة.

الاستناد إلى بناء العقلاء فقد ظهر ما فيه (1) فيما تقدّم : من أنّ غاية الأمر أنّ العقلاء يذمّونه ويعيّرونه بواسطة خبث الباطن وفساد السريرة.

نعم ، فيما استقلّ العقل أو الشرع بثبوت عنوان آخر - كما لا يبعد دعواه في مثل رواية الإعانة على القتل بشطر كلمة ، فإنّه يعدّ في العقل ظلما على المقتول - لا بأس بالعقاب. ولا ينافيه ثبوت المبغوضيّة الغيريّة ، لاضمحلالها تحت المبغوضيّة الذاتيّة ، كما تقرّر فيما تقدّم (2) وستعرفه في بعض المباحث الآتية (3) ، واللّه الهادي.

ص: 474


1- لم يرد « ما فيه » في ( ع ) و ( م ).
2- راجع الصفحة : 467.
3- انظر الصفحة : 482.

هداية

إذا تلبّس بما يراه معصية ولم يكن كما يراه في الواقع وهو المراد ب- « التجرّي » ، فهل فعل فعلا محرّما ، أو لم يفعل ، أو فيما إذا لم يعارض الجهة الواقعيّة الجهة الظاهرية ، أو التوقّف؟ وجوه ، بل أقوال :

فظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاق على الأوّل ، كما يظهر من دعوى جماعة الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت (1).

واستوجه العلاّمة في التذكرة عدم العصيان لو انكشف الخلاف ، فقال : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه توجّه عدم العصيان (2). وتبعه في ذلك بعض أجلّة سادات الأواخر في مفاتيحه (3) حيث استقرب العدم. وقال بعض الأجلّة (4) بالتحريم عند عدم معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة وبعدمه عند عدمها ، كما ستعرف تفصيله. وتوقّف جماعة - منهم شيخنا البهائي (5) - في ذلك.

ص: 475


1- منهم العلاّمة في منتهى المطلب 4 : 107 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 3 : 109 ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة 2 : 61.
2- تذكرة الفقهاء 2 : 391.
3- مفاتيح الاصول : 308.
4- الفصول : 431.
5- زبدة الاصول : 41 ، ومنهم العلاّمة في نهاية الوصول : 11 و 94 ، والشهيد في القواعد والفوائد 1 : 107.

واستدل (1) للأوّل : باستقرار بناء العقلاء على الذمّ والحكم بالاستحقاق. وبأنّا لو فرضنا شخصين قاطعين بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا فشرب كلّ منهما ما اعتقده خمرا ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فإمّا أن يستحقّا العقاب ، أو لا يستحقّ كلّ واحد منهما ، أو يستحق المصادف دون غيره ، أو العكس. والرابع بديهيّ البطلان كالثاني ، والثالث أيضا باطل لاستلزامه إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

أمّا الجواب عن الأوّل : فبأنّه إن اريد الذمّ على نفس الفعل المنتزع عنه عنوان التجرّي ، فالضرورة تقضي بعدم جواز الذمّ عليه ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ شرب الماء واقعا ممّا لا قبح فيه بحسب الواقع كما هو المفروض ، اللّهم إلاّ أن يكون مورد التجرّي فعلا من الأفعال القبيحة ، كما إذا اعتقد شرب النبيذ شرب الخمر مثلا. وأمّا ثانيا : فلأنّه واقع على غير جهة الاختيار أو هو غير مقصود للفاعل المعتقد كونه شرب خمر ، فلا يقع على وجه الاختيار ، فلا وجه للذمّ عليه اتّفاقا ، من غير فرق بين أن يكون المورد مباحا واقعا أو حراما.

وإن اريد الذمّ على عنوان التجرّي والإقدام بما يعتقده معصية ، ففيه أنّ التجرّي له موردان ، أحدهما : مورد العصيان الواقعي المفروض انتفاؤه في المقام. وثانيهما : مورد تخيّل العصيان الواقعي - كما هو المفروض في المقام - ومن المعلوم أنّه بهذا الوجه غير واقع على جهة الاختيار ، إذ المتجرّي يعتقد أنّه العصيان ، لا أنّه تخيّل العصيان ، فهو غير مقصود له ، فلا يجوز الذمّ عليه اتّفاقا.

وإن اريد الذمّ على الفاعل من حيث إنّ هذا الفعل يكشف عن وجود ملكة

ص: 476


1- المستدلّ هو المحقّق السبزواري في الذخيرة : 209 و 210.

نفسانيّة رذيلة وحالة طبيعيّة خبيثة ، فإن اريد بالذمّ العقاب فهو موقوف على أنّ عقاب هذا العبد الذي لم يفعل قبيحا ينافي العدل أو لا. وإن اريد به توبيخه وتعييره بإظهار ما فيه من الشقاوة والرذالة فهو لا يبعد تسليمه ، لكنّه لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعا ، لأنّ استحقاق الذمّ على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل ، ولا سيما الذمّ على الوجه المذكور ، إذ من المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل.

وأمّا الجواب عن الثاني : فهو - على ما أفاده الاستاذ في الرسالة (1) - أنّه يلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ، لأنّه عصى اختيارا دون من لم يصادف. قولك : « إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار » ممنوع ، فإنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح ، إلاّ أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم ، كما يشهد به الأخبار الواردة في أنّ « من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها » (2) فإذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة واتّفق كثرة العامل بإحداهما وقلّة العامل بالاخرى ، فإنّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، وقد اشتهر أنّ « للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا » (3) والأخبار في مثل ذلك في طرفي الثواب والعقاب بحد التواتر ، انتهى ما أفاد.

وفيه : أنّ ما ذكره في سند المنع غير وجيه ، فإنّ مدخليّة بعض الامور الغير الاختياريّة في العقاب والثواب ممّا لا بدّ منه ، وإلاّ لم يعقل الاستشهاد بالأخبار

ص: 477


1- راجع فرائد الاصول 1 : 40.
2- راجع البحار 2 : 24 ، الحديث 75 ، و 71 : 258 ، الحديث 5 و 6.
3- كنز العمّال 6 : 7 ، الحديث 14597.

المذكورة ، فإنّ كثرة العامل وقلّته على ما فرضه ممّا له مدخل في العقاب والثواب ، وهما من الامور الغير الاختياريّة بالنسبة إلى من سنّ السنّة الحسنة أو السيّئة ، وإن كان لنا كلام في كون العقاب والثواب في مورد الأخبار من هذا القبيل ، كما ستعرف.

وتوضيح المقام : أنّ الثواب والعقاب من لوازم الإطاعة والعصيان ، وتحقّقهما يتوقّف على امور بعضها اختياريّة وبعضها غير اختياريّة على وجه لو فرض انتفاؤهما أو انتفاء أحدهما لم يتحقّق شيء منهما.

فالأوّل : هو الحركة الصادرة من المكلّف التي هي من مقولة الأفعال ، فإنّه لا بدّ وأن تكون اختياريّة مسبوقة بالقصد واعتقاد النفع فيه ، كما هو المراد بالفعل الاختياري ، فلو لم يكن كذلك لم يتحقّق عصيان ولا إطاعة.

والثاني : امور كثيرة ، منها : تعلّق الأمر من المولى إلى الفعل المأمور به. ومنها : تعلّق الحركة الاختياريّة بما تعلّق به الفعل في عنوان الأمر ، فإنّ تعلّق الشرب بما هو خمر واقعا - بمعنى أن يكون متعلّق الشرب هو الخمر واقعا - من الامور الغير الاختياريّة ، إلاّ أنّه لا بدّ من ذلك في تحقّق الإطاعة والعصيان ، والقدر المسلّم من اعتبار الاختيار في التكليف هو أن تكون الحركة اختياريّة ، بل لا وجه لاعتبار الأزيد من ذلك كما هو ظاهر. وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الاستدلال أيضا ، فإنّا نختار الثالث.

قولك : إنّ ذلك يوجب إناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، قلنا : إن اريد قبح إناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار على وجه الاستقلال - بأن يكون جميع ما يعتبر فيه من الامور الغير الاختياريّة - فهو مسلّم ، لكنّه غير لازم في الحكم بالعقاب في من صادف قطعه الواقع ، لأنّ الحركة المتعلّقة بما هو متعلّق الأمر واقعا اختياريّة فلا استقلال. وإن اريد قبح استقلاله في الحكم بعدم العقاب في من لم يصادف الواقع فهو غير مسلّم ، إذ بذلك يرتفع موضوع العصيان ، والعقاب موقوف

ص: 478

عليه. وإن اريد أنّ مدخليّة ما هو خارج عن الاختيار في الاستحقاق قبيحة فهو ممنوع ، ضرورة توقّف الإطاعة والعصيان الموجبين للاستحقاق على امور غير اختياريّة شتّى ، منها : كون متعلّق الحركة الاختياريّة ما تعلّق به الفعل في عنوان الأمر والنهي بحسب الواقع.

وأمّا دعوى الإجماع من جماعة على العصيان (1) فلا سبيل إليها في المسائل العقليّة. واحتمال انكشاف جهة تعبّديّة من الإجماع ، مدفوع بأنّ المسألة من فروع الإطاعة والعصيان التي لا تعقل فيها التعبّديّة بوجه ، ولو فرض ورود أمر أو نهي شرعي فيها لا بدّ من حملها على الإرشاد. مضافا إلى مخالفة جماعة من الفحول في ذلك ، كما عرفت من العلاّمة (2) حيث حكم بعدم العصيان فيما لو انكشف خطاء ظنّه. وقال الشهيد رحمه اللّه : لو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافها ففي تأثير هذه النية نظر (3). وتقدّم حكاية التوقّف عن شيخنا البهائي (4).

وممّا مرّ يظهر وجه القول بعدم العصيان ، إذ يكفي فيه عدم الدليل عليه.

وأمّا التفصيل ، فيظهر من بعض الأجلّة التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرّم واقعا ، فرجّح استحقاق العقاب بفعله ، إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فإنّه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا أو بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، فإنّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا بل يختلف بالوجوه والاعتبار ، فمن اشتبه عليه مؤمن ورع بكافر واجب

ص: 479


1- كما تقدّم عنهم في الصفحة : 475.
2- راجع الصفحة : 475.
3- القواعد والفوائد 1 : 107.
4- راجع الصفحة : 475.

القتل فحسب أنّه ذلك الكافر وتجرّى فلم يقتله ، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا الفعل عقلا عند من انكشف له الواقع وإن كان معذورا لو فعل. وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ فتجرّى ولم يقتله. ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف العبد ابنه وزعمه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لا يذمّه على هذا التجرّي ، بل يرضى به وإن كان معذورا لو فعل. وكذا لو نصب له طريقا غير القطعي إلى معرفة عدوّه فأدّى الطريق إلى تعيين ابنه فتجرّى ولم يفعل. وهذا الاحتمال حيث يتحقّق عند المتجرّي لا يجديه إن لم يصادف الواقع ، ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب ، لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب ، بخلاف ما لو ترك العمل به ، فإنّ المظنون فيه عدمها. ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافهما ضعفا وشدّة كالمكروهات. ولك أن تراعي في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي (1) ، انتهى كلامه.

وفيه أوّلا : أنّه لو سلّم قبح الفعل في التجرّي فلا شكّ في كونه ذاتيا لا يختلف بالوجوه والاعتبار ، فإنّ منشأ الحكم المذكور على ما نراه غير قابل للاختلاف. وكذلك على ما يراه غيرنا من قبح الفعل في صورة التجرّي ، فإنّه يزعم أنّ ذلك ظلم في حقّ من يستحقّ الطاعة ، ولا شكّ في أنّ موضوع الظلم ممّا يمتنع عروض جهة محسّنة له.

وثانيا : لو سلّم إمكان عروض جهة محسّنة فلا إشكال في لزوم كون تلك الجهة من عناوين الأفعال الاختياريّة حتّى يعقل اتّصافها بالحسن ، فيصير بذلك محسّنة للجهة المقبّحة. ولا ريب في أنّ ما زعمه معارضا للجهة المقبّحة من الأفعال

ص: 480


1- الفصول : 431 - 432.

الغير المتصوّرة للفاعل ، وهو غير مقصود الوقوع منه ، فلا يكون اختياريّا فلا وجه للمعارضة ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون عنوان التجرّي مقتضيا للقبح كالكذب مثلا أو لم يكن كذلك بل يكون من الأفعال التي لا يدرك حسنها ولا قبحها إلاّ بعد ملاحظة لحوق الجهات والعنوانات ، وإن كان محلّ الكلام لا بدّ وأن يكون من الأوّل كما هو ظاهر.

وبالجملة ، أنّ الفعل الذي صار موردا لانتزاع التجرّي - وهو ترك قتل المؤمن في المثال المفروض في كلامه كفعله - ليس من الأفعال الاختياريّة المقصودة ، فلا يتّصف بحسن ولا قبح ، وما يكون كذلك لا يعقل تصرّفه في العنوان الذي فرضنا عدم اتّصافه بحسن ولا قبح أو اتّصافه بقبح يمكن ارتفاعه بورود جهة محسّنة بإيراث حسن فيه أو رفع قبح عنه ، ولذا اعترف في كلامه في مقامين بأنّه معذور لو فعله.

فإن قلت : قد تقرّر في الجواب عن الدليل العقلي أنّه لا امتناع في تأثير الامور الغير الاختياريّة في العقاب وعدمه ، وعلى هذا فلا مانع من ارتفاع القبح من عنوان التجرّي بواسطة فعل وقع التجرّي في ضمنه وإن لم يكن على وجه الاختيار.

قلت : الفرق ظاهر بين المقامين ؛ من حيث إنّ مدخليّة ذلك الأمر الخارج عن الاختيار في حسن الفعل وقبحه ممّا لا مناص عنها ، إذ عنوان الحسن هو شرب الخمر الواقعي الذي لا يعقل وجود هذا العنوان ولو على وجه الاختيار إلاّ بتعلّق الشرب الواقعي الاختياري بما هو خمر واقعي ، فالأمر الخارج عن الاختيار هناك محقّق لموضوع هو حسن ، لا أنّه محسّن لما لا حسن فيه. بخلافه فيما نحن بصدده ، فإنّ المفروض في كلام المفصّل كون التجرّي من العناوين الاختياريّة التي لا حسن فيها ولا قبح أو يقتضي القبح ويزيد تحسين ذلك العنوان بإيراث حسن فيه أو دفع قبح عنه بواسطة لحوق ما ليس بحسن ، وذلك ممّا يحكم بفساده ضرورة العقل ، كما لا يخفى على المنصف المتأمّل.

ص: 481

ثمّ إنّ لازم القول بقبح التجرّي من حيث الفعل هو تعدّد العقاب فيما إذا صادف المعصية الواقعيّة. اللّهم إلاّ أن يقال بالتداخل بمعنى اختفائه تحت ظلّ المعصية على وجه لا ينسب إليه حكم من أحكامه لوجود ما هو أقوى منه ، كاندكاك الانقياد في جنب سطوع نور الطاعة الواقعيّة. وقد عرفته بما فيه.

وقد يستند في المقام إلى الأخبار المتقدّمة (1) الدالّة على حرمة القصد المجرّد أو مع فعل بعض المقدّمات.

ولعلّه ليس في محلّه ، إذ الكلام في تحريم الفعل الذي يعتقده معصية ، والقصد وغيره ممّا لا مدخل له فيه ولو قلنا بكونه محرّما أيضا ، مع أنّك قد عرفت الكلام فيه (2) بما لا مزيد عليه عندنا.

اللّهم إلاّ أن يجعل القصد أيضا من مراتب التجرّي ، فإنّ له مراتب ، أحدها : مجرّد القصد إلى المعصية. الثاني : القصد مع الاشتغال ببعض المقدّمات. والثالث : القصد مع التلبّس بما يراه معصية. الرابع : التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاء كونها معصية ، نظير الاحتياط في إحراز الواجب. الخامس : التلبّس به لعدم المبالاة لمصادفة الحرام. السادس : التلبّس به رجاء أن لا يكون معصية.

ويعتبر في صدق التجرّي في صور الاحتمال أن يكون هناك دليل شرعي أو عقلي على عدم جواز ارتكاب تلك المحتملات ، إذ لو لم يكن هناك دليل على عدم الجواز فجواز ارتكاب المحتملات ممّا لا كلام فيه عند القائلين بأصالة البراءة ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ص: 482


1- تقدّمت في الصفحة : 460 - 461.
2- راجع الصفحة : 466 - 467.

هداية

اشارة

إذا أعان المكلّف على إيجاد فعل محرّم أو إبقائه ، فظاهر الأصحاب الحكم بتحريمه ، كما يظهر من موارد استدلالاتهم في الفروع (1) ، بل ادّعى الإجماع على ذلك جماعة (2).

واستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (3) فإنّ النهي ظاهر في التحريم.

واستفاضت على تحريمه أيضا الأخبار :

فعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه ، آيس من رحمة اللّه » (4). وعن الصادق عليه السلام : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج عن الإسلام » (5). وقال عليه السلام : « إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الظلمة؟ أين أعوان الظلمة؟ أين أشباه الظلمة؟ فيجتمعون

ص: 483


1- كالشيخ في المبسوط 6 : 285 ، والعلاّمة في التذكرة 12 : 143 ، والمحقّق الثاني في حاشية الارشاد ( مخطوط ) : 204 ، والأردبيلي في مجمع الفائدة 8 : 51.
2- منهم السيّد الطباطبائي في الرياض 8 : 79 ، والمحقّق النراقي في عوائد الأيّام : 75 ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة 4 : 60.
3- المائدة : 2.
4- عوالي اللآلي 2 : 333 ، الحديث 48.
5- الوسائل 12 : 131 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 5.

في تابوت من حديد ، ثمّ يرمى بهم في جهنّم » (1). وعن النبي صلى اللّه عليه وآله : « من علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعلها اللّه حيّة طولها سبعون ألف ذراع فيسلّط اللّه عليه في نار جهنّم خالدا مخلّدا » (2).

وقد يدّعى استقلال العقل في الحكم بقبح إيجاد عنوان « الإعانة على الإثم ».

وفيه : أنّ موارد الإعانة على وجهين : أحدهما : ما يكون محرّما نفسيّا وإن كان مقدّمة لحصول فعل الغير ، مثل الأمر بقتل أحد ممّا يعدّ عند العقلاء ظلما في حقّ المقتول والمظلوم. والثاني : ما لا يعدّ في العقل من الظلم ولا من عنوان آخر محرّم نفسا ، كغرس الكرم المتّخذ منه الخمر مثلا.

فدعوى استقلال العقل إنّما يسلّم في القسم الأوّل دون الثاني ، إذ غاية الأمر أن يكون الغير آتيا بمقدّمة من مقدّمات فعل الغير ، ولا كلام في لحوق الحرمة التبعيّة الغيريّة النازلة من المحرّم النفسي بها. وأمّا الحرمة النفسيّة - كما هو الظاهر من القائلين بها - فلا يظهر وجهها عند العقل ، إذ لا فرق في نظر العقل بين إيجاد المكلّف مقدّمة من مقدّمات فعل نفسه المحرّم أو غيره.

نعم لو احتمل وجود عنوان نفسي في تلك الموارد ولو بملاحظة الأخبار المصرّحة بالتحريم والعقاب المخصوص بالمحرّمات النفسيّة تمّ ما ذكر ، لكنّه بعيد جدّا.

ثمّ إنّه وقع الإشكال من جماعة في صدق موضوع « الإعانة » على بعض الموارد ؛ من حيث اعتبار القصد إلى الفعل المعان عليه فيه ، أو اعتبار ترتّبه عليه ، أو العلم بالترتّب.

ص: 484


1- الوسائل 12 : 131 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به الحديث 16 ، مع اختلاف يسير.
2- المصدر السابق ، الحديث 14.
وتنقيح البحث في موارد :

الأوّل : في اعتبار القصد فيه وعدمه ، فظاهر الأكثر - على ما نسبه إليهم الاستاذ في الفقه (1) - هو عدم اعتبار القصد في صدقه. ولعلّه استفاده من موارد استدلالاتهم ، كاستناد الفاضل إلى تحريم المعاونة في الحكم بحرمة بيع السلاح من أعداء الدين على وجه الإطلاق من دون تقييد بصورة القصد إلى تقويتهم (2). واستدلال المحقّق الثاني بذلك على حرمة بيع العصير النجس من مستحلّه (3) ... إلى غير ذلك (4) ممّا يقف عليه الخبير.

ويظهر من بعضهم اعتبار القصد فيه ، قال المحقّق الثاني في ردّ من تمسّك بالآية في الحكم بحرمة بيع العنب ممّن يعمله خمرا في محكي حاشية الإرشاد : والجواب عن الآية المنع من كون محلّ النزاع معاونة ، وإنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك (5). وتبعه في ذلك جماعة من المتأخّرين (6).

وهو الأقرب ، والوجه في ذلك هو مساعدة العرف على اعتبار القصد في صدق « الإعانة » على وجه يصحّ السلب عن المورد الّذي علم فيه عدمه. ولو سلّمنا صدق الإعانة ولو عند عدم القصد فلا إشكال في اختصاص الحرام منها بما إذا كان القصد إلى الحرام محقّقا.

ص: 485


1- المكاسب 1 : 133.
2- تذكرة الفقهاء 12 : 139.
3- حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 204.
4- انظر مجمع الفائدة 8 : 51 ، والحدائق 18 : 205.
5- حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 205.
6- كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع 2 : 9 ، والسبزواري في الكفاية 1 : 426 ، والنراقي في المستند 14 : 100 ، والعوائد : 78.

وتوضيحه : أنّه قد تقدّم في المباحث السابقة من أنّ الفعل الواقع على جهات مختلفة لا تقع اختياريّا من جهة خاصّة إلاّ بعد القصد إلى تلك الجهة ، وهو من الامور الجليّة. ولا ريب في أنّ الفعل إذا كان محرّما بعنوانه الخاصّ لا يقع على صفة الحرمة إلاّ إذا وقع بذلك العنوان المحرّم على وجه الاختيار ، إذ الفعل الاضطراري ولو من جهة خاصّة لا يعقل اتّصافه بالحرمة من تلك الجهة الاضطراريّة ، فعنوان « الإعانة على الإثم » إذا اريد الحكم عليه لكونه وقع على صفة الحرمة لا بدّ أن يكون ذلك العنوان مقصودا ، وإلاّ لم يكن ذلك العنوان اختياريّا ، فلم يعقل وقوعه على صفة الحرمة ، والقصد إلى عنوان الإعانة لا ينفكّ عن القصد إلى المعان عليه ، فإذا لم يكن قاصدا للمعان عليه لم يكن قاصدا للإعانة ، نظير ما تقدّم من اعتبار القصد إلى الواجب في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، كما عرفت.

ويظهر من المحقّق الأردبيلي اعتبار أحد الأمرين في الإعانة : إمّا القصد كما في التجارة التي يترتّب عليها أخذ العشور للعشّار ، فإنّه لو لم يكن قاصدا إلى أخذ العشور بل كان قاصدا إلى تحصيل المنافع لنفسه لم يصدق عليه الإعانة. وإمّا الصدق العرفي وإن لم يكن قاصدا ، كما في إعطاء العصا للظالم مع طلبه منه لضرب مظلوم ، وفي طلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاها. وعلى ذلك حمل الروايات الدالّة على جواز بيع العنب ممّن يعمله خمرا (1) ، فإنّها محمولة على صورة عدم تحقّق القصد مع عدم الصدق العرفي أيضا ، كما عليه الأكثر (2).

أقول : وفيما أفاده نظر ؛ لأنّ الإعانة ليس مشتركا لفظيّا بين مواردها وأقسامها ، كما هو ظاهر. وحينئذ فإمّا أن يكون القصد معتبرا في حقيقته أو لا

ص: 486


1- الوسائل 12 : 168 - 170 ، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به.
2- كنز العرفان : 298.

يكون ، فعلى الأوّل لا وجه للحكم بصدق الإعانة في مورد يشكّ في وجود القصد ، فكيف بما إذا علم عدم القصد. وعلى الثاني لا وجه لجعله مناطا لصدق المفهوم ولو في بعض الموارد.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ القصد ليس داخلا في حقيقة الإعانة ، إلاّ أنّ عند وجوده يعلم وجود الإعانة ، فيكون القدر المتيقّن من موارده ومصاديقه مورد القصد ، لا أنّه معتبر فيه القصد.

وفيه : أنّ ذلك يتمّ فيما إذا لم يستدلّ بعدم القصد على عدم الإعانة ، كما عرفت من استناده في التجارة إلى عدم (1) صدق الإعانة عليها.

فإن قلت : قد يكون من المفاهيم العرفيّة ما نقطع بكونها على هذا الوجه كما في القتل العمدي ، فإنه صادق مع القصد إليه ولو لم يكن العمل الذي يقع في ضمنه القتل ممّا يترتّب عليه القتل في العرف والعادة ، بإدخال إبرة في عضو من أعضائه على وجه لو لم يكن قاصدا لا يقال إنّه عمد إلى القتل ، فمناط الصدق في المقام هو القصد ، وهو صادق أيضا فيما إذا أدخل السيف أو السكّين في جوفه وإن شكّ في وجود القصد إلى القتل ، بل ولو قطع بعدم قصده إليه.

قلت : بعد ما عرفت أنّه غير معقول في صورة اتّحاد المعنى ، نقول : إنّ الوجه في ذلك هو استكشاف القصد عند إيجاد ما هو موصل إلى القتل بحسب العادة وإن كان قصدا تبعيّا ، كأن يكون مقصوده من إدخال السيف في جوفه اختبار سيفه ، لكنّه لا ينفكّ عن القصد إلى قتله ولو تبعا. وأمّا دعوى صدقه بدون القصد ومع العلم بعدمه في الصورة المفروضة فظاهرة الفساد ، كيف! والقتل العمدي معناه القصد إلى القتل كما هو ظاهر. نعم ، لو جهل الفاعل كونه موصلا إلى القتل لم يصدق معه القتل العمدي ، لعدم القصد استقلالا وتبعا فيه.

ص: 487


1- في ( م ) و ( ط ) زيادة : القصد في عدم.

وبالجملة ، لو فرض فيما ذكره المحقّق الأردبيلي من المثال وجود داع آخر غير الضرب على وجه احتمل كونه داعيا إلى إعطاء القلم لا نسلّم فيه صدق الإعانة ، وهو ظاهر على المتأمّل.

الثاني : الظاهر عدم اعتبار ترتّب الفعل المعاون عليه في صدق الإعانة. ويدلّ على ذلك أنّ العرف بعد إحراز القصد إلى حصول ذلك الفعل لا يتوقّفون في الحكم بكونه إعانة ، ولا يتوقّعون في ذلك حصول المعاون عليه. ولازم اعتبار الترتّب هو توقّفه في جواز الحكم عليه بكونه إعانة ، إلاّ مع العلم بترتّبه فيما إذا قلنا بأنّ الترتّب كاشف عن كونه إعانة (1) ، كما يظهر من بعض الأفاضل في عوائده (2) حيث إنّه تخيّل أنّه لو فعل شخص فعلا بقصد تحقّق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقّق منه لم يحرم من جهة صدق الإعانة وإن أثم من جهة القصد إلى حصول فعل المعاون عليه ، بناء على أنّ الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحقّقه حرام ، وأنّه لو تحقّق الفعل كان حراما من جهتين : من جهة القصد إلى المحرّم ، ومن جهة الإعانة. وصرّح في بعض عوائده (3) بأنّه لو سافر بقصد فعل محرّم - كالقتل - وحصل له مانع عنه يكون آثما ، ولو فعل يكون له العقاب والإثم لأجلهما.

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا قرّرنا من حيث صدق الإعانة ولو مع عدم العلم بالترتّب ، كما في صورة احتمال وجود المعاون عليه ، ولا يتوقّف الحكم على العلم بالترتّب.

ومنه يظهر عدم اعتبار العلم بالترتّب أيضا وإن لم يترتّب في الواقع في صدق الإعانة ، بل لو فرض ثبوت حرمة نفسيّة لعنوان الإعانة كان إيجاد الفعل الذي

ص: 488


1- لم ترد عبارة « إلاّ مع العلم - الى - إعانة » في ( ع ).
2- عوائد الأيّام : 78.
3- عوائد الأيّام : 71.

يحتمل توقّف الحرام عليه أو ترتّبه عليه بقصد التوصّل إلى الحرام أولى بأن يكون حراما ، كما لا يخفى. مضافا إلى أنّ القول بثبوت الحرمة النفسيّة للمشتغل بمقدّمات الحرام ممّا لم نقف له على وجه ، كما عرفت.

ثمّ إنّ الالتزام بتعدّد العقاب ممّا لا وجه له قطعا. نعم ، خصوص مسألة السفر لا يخلو عن شيء ، بل المدقّق الشيرواني أنكر وجود القول به في أقوال العلماء (1) وإن كان إنكاره في غير محلّه ؛ لما يظهر من الصالح المقدّس المازندراني (2) نسبته إلى أكثر العامّة والمتكلّمين والمحدّثين ومنهم القاضي. وقد تقدّم الكلام فيه بما لا مزيد عليه (3).

الثالث : إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدّمة مشتركة بين المعصية وغيرها مع العلم بصرف الغير إيّاها في المعصية ، فهل يعدّ ذلك معاونة على تلك المعصية أو لا؟ كما إذا أراد البائع تملّك المشتري للعنب بواسطة حصول ثمنه في ملكه مع العلم بأنّه يعمله خمرا. وقد يجعل من ذلك ما مثّل به المحقّق الأردبيلي (4) من إعطاء العصا بيد الظالم وإعطاء القلم بيده. وهو قريب من وجه ، لاحتمال أن يكون وجود العصا بيده مطلوبا نفسيّا للمعطي ، إلاّ أنّه بعيد في الغاية ، فيستكشف من بعد سائر الدواعي أنّ الداعي إلى الفعل المذكور هو قصد الضرب والظلم ، فيحكمون بكونه إعانة ، كما تقدّم.

وكيف كان ، فالظاهر بناء على ما تقدّم من اعتبار القصد إلى المحرّم في صدق الإعانة أنّه لا يكون معاونة على المعصية.

ص: 489


1- لم نعثر عليه في حاشيته على المعالم ، ولا توجد لدينا حاشيته على المختصر.
2- لم نعثر عليه في حاشيته على المعالم ، ولا في شرحه على الزبدة.
3- راجع الصفحة : 475 وما بعدها.
4- زبدة البيان 1 : 298.

نعم ، لو فرض أنّ إيجاد شرط الحرام بقصد التوصّل إلى الحرام حرام - كما تقدّم من بعض الأفاضل في عوائده (1) - صحّ الحكم بأنّ البيع إعانة على الحرام ، وهو تملّك المشتري للعنب بقصد التخمير ، فلو اشترى لا بقصده وإن علم البائع أنّه سيجعله خمرا بإرادة جديدة لم تكن إعانة لا على التخمير ولا على التملّك المحرّم. أمّا الأوّل فلعدم القصد إليه ، وأمّا الثاني فلأنّ الشراء المحرّم هو ما قصد به التوصّل إلى الحرام ، والمفروض خلافه. إلاّ أنّك قد عرفت المنع من الحرمة النفسيّة في مقدّمات الحرام ، والحرمة الغيريّة لا يستلزم ذمّا ولا عقابا ، فلا يكون إثما وعدوانا حتّى يكون الإعانة عليه إعانة على الإثم والعدوان.

نعم ، لو قصد الإعانة على تلك المقدّمة من حيث إيصالها إلى ذيها كان إعانة على الإثم من حيث إنّ القصد إلى المقدّمة على الوجه المذكور يلازم القصد إلى المحرّم النفسي ، فيكون إعانة على الإثم والعدوان من هذه الجهة. ولو قلنا بأنّ الإتيان بشرط الحرام حرام من حيث كونه داخلا في عنوان التجرّي بعد قصد التوصّل به إلى الحرام ، فإيجاد الشراء يكون محرّما وإثما لكونه تجرّيا. وأمّا البيع مع عدم القصد إلى حصول التملّك الموقوف عليه الحرام لا يكون حراما ، لا من حيث الإعانة على المحرّم الواقعي لعدم القصد إليه ، ولا من حيث الإعانة على حصول التجرّي المحرّم ، لأنّ التجرّي ليس نفس الشراء بل الشراء المتلبّس بالقصد ، والبيع إنّما هو إعانة على نفس الشراء لا على المتلبّس بالقصد ، لأنّ ذلك لا ينفك عن قصد المحرّم الواقعي كما لا يخفى ، والمفروض خلافه.

فإن قلت : إنّ المحرّم من جهة التجرّي حيث كان أمرا مركّبا من الشراء والقصد كان البيع إعانة على الشراء ، وهو جزء من المركّب الحرام ، فيكون إعانة على الحرام.

ص: 490


1- راجع الصفحة : 488.

قلت : ذلك مسلّم إذا أوجد البيع قصدا إلى حصول عنوان التجرّي ، وهو لا ينفكّ عن القصد إلى المحرّم الواقعي ، وأمّا بدون القصد إليه فلا نسلّم ذلك.

ثمّ إنّه يظهر من المحقّق الأردبيلي الاستناد إلى قاعدة وجوب دفع المنكر (1) في الموارد التي منع من صدق الإعانة. ويشهد له ما ورد من « أنّ بني اميّة لو لا وجدوا من يجبي لهم الصدقات ويشهد جماعتهم ما سلبونا حقّنا » (2) دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه لم يتحقّق المعصية.

وفيه : أنّ الذمّ في الخبر بواسطة أنّ نفس الرجوع إلى الطاغوت من أعظم المعاصي ، لما قد امروا أن يكفروا به (3).

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه خلاف الظاهر ، فإنّ المنساق حرمة أفعالهم من حيث ترتّب المفاسد عليها وهو سلب حقوقهم عليهم السلام ، ولا ينافيه تحريم نفس الرجوع إلى مخالفيهم أيضا.

إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن التعويل إلى تلك القاعدة في جميع موارد المسألة ، إذ لا يبعد دعوى القطع على عدم وجوب تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية ، وإنّما الثابت بالعقل القاضي بوجوب اللطف وجوب ردع من همّ بها وأشرف على الوقوع فيها حدوثا وبقاء ؛ مضافا إلى اختصاص ذلك بصورة العلم بعدم حصول المعصية ، فلو لم يعلم البائع بأنّ منعه منه ينفع في دفع المنكر أو علم أنّه لا ينفع ، لا دليل على وجوب الردع.

فإن قلت : إنّ البيع حرام على كلّ أحد فلا وجه للاعتذار بأنّه لو تركه لم يعلم نفعه في دفع المنكر.

ص: 491


1- مجمع الفائدة 8 : 51.
2- الوسائل 12 : 144 ، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
3- النساء : 60.

قلنا : حرمة البيع إنّما هو بواسطة عدم وقوع المنكر في الخارج ، وهو أمر واحد يجب على عامّة المكلّفين دفعه على وجه الاجتماع ، لعدم الاقتدار عليه إلاّ بالاجتماع ، فإذا علم واحد بعدم الاجتماع أو شكّ فيه علم بعدم الاقتدار أو شكّ في الاقتدار ، وعلى الوجهين لا دليل على المنع ، أمّا على الأوّل فظاهر ، وأمّا على الثاني فللتعويل على أصالة عدم الاجتماع الخارجي في المقام من غير توقّف على فحص على تقدير قياسه بسائر الاصول المعمولة في تشخيص الموضوعات. لكنّه لا يخلو عن تأمّل.

نعم ، لو كان ذلك مطلوبا من كلّ أحد على وجه الاستقلال كأن يكون المطلوب امورا متعدّدة ، لم يحسن الاعتذار.

وأمّا الرواية المذكورة ، فبعد ما عرفت من إمكان دعوى القطع على عدم وجوب الردع في جميع مراتبه ، لا بدّ أن يحمل على حرمة إعانتهم بالامور المذكورة (1) فيها ، وقد قرّر في محلّه حرمة إعانة الظلمة حتّى في المباحات ، فضلا عن جباية الصدقات وإعطائها عليهم وحضور الجماعات.

وفذلكة المرام من البداية إلى النهاية : أنّه لا إشكال في حرمة الإعانة على وجه الإجمال. كما لا إشكال في صدقها عند القصد إلى المعان عليه من غير فرق في ذلك بين إيجاد العلّة التامّة للمعان لو فرض أو السبب أو الشرط أو غيره من وجوه ما يتوقّف عليه الشيء. وعدم صدقها عند عدم القصد إليه ، من غير فرق بين الأقسام أيضا ، إلاّ أنّ فرض عدم القصد مع إيجاد السبب والعلّة بعيد ؛ ولذا يستكشف من إيجادهما القصد ، فيحكم بكونه إعانة من غير توقّف على الترتّب أو العلم بالترتّب أو العلم بالمدخليّة ، بل يكفي احتمال الترتّب والمدخليّة. ومن غير فرق أيضا في ذلك بين الإعانة على فعل المقدّمات وغيرها ؛ إذ ما لم يرجع إلى القصد بفعل المحرّم الواقعي لم يحرم ، ومع رجوعه إليه كان الفرق لغوا.

ص: 492


1- في ( ع ) ، ( م ) : حرمة الهمّ بالمذكورة.

وأمّا القصد إلى إيجاد مقدّمة فعل الغير مع قصد الغير التوصّل به إلى الحرام ، فإن كان ترك ذلك الفعل علّة تامّة لترك الحرام في الخارج فيجب ، وإلاّ فلا دليل على وجوبه ، كما عرفت.

تمّت المسألة بعون اللّه تعالى ، ختم اللّه لنا ولإخواننا المؤمنين بالخير والسعادة بحق محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين الغرّ الميامين ، صلّى اللّه عليهم وسلّم تسليما كثيرا.

ص: 493

ص: 494

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

القول في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟

اشارة

ص: 495

ص: 496

وتوضيح المقام في طيّ هدايات :

هداية

لا إشكال في أنّ هذه المسألة ممّا لا يتوقّف تحريرها على أن يكون الأمر مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ؛ لجريان السؤال على تقدير غيره أيضا ، فهل هي - كما عرفت في المسألة المتقدّمة - من المبادئ الأحكاميّة كما صنعه جماعة (1) ، أو من الأدلّة العقليّة وإن كان الأمر لفظيّا أيضا؟ وقد مرّ الكلام فيما هو بمنزلة المعيار لتمييز المباحث ، فراجعه (2).

ثمّ إنّه قد يستشكل في وجه إفراد المقام بالبحث ، مع أنّ القول بالاقتضاء وعدمه من فروع القول بوجوب المقدّمة وعدمه.

وقد يجاب : بأنّ النسبة بين المقامين عموم من وجه ، لإمكان القول بوجوب المقدّمة مع القول بعدم الاقتضاء ؛ لإنكار المقدميّة مطلقا كما عليه السلطان (3) ، أو على التفصيل كما عليه المحقّق الخوانساري (4) ، أو يسلّم المقدميّة وينكر وجوبها مطلقا ، أو على أحد التفاصيل ، أو القول بالاقتضاء والقول بعدم وجوب مقدّمة الواجب نظرا إلى دعوى العينيّة أو التلازم ، إلاّ أنّ التعويل على قاعدة التلازم يوجب القول بوجوب المقدّمة أيضا كما لا يخفى. وفساد المبنى لا دلالة فيه على فساد الابتناء.

ص: 497


1- كالحاجبي والعضدي ، انظر شرح مختصر الاصول : 3 و 199.
2- راجع أول مبحث مقدّمة الواجب.
3- حاشية سلطان العلماء : 282 - 283.
4- انظر رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 147 - 151.

فلا وجه لما قد أورده بعضهم (1) : من ضعف القول المذكور ، وأيّده بما أفاده المحقّق الخوانساري (2) : من أنّه لا يبعد كونه خرقا لمركّب الإجماع ، فإنّ مدرك القول المزبور أنّ الأمر بالإزالة مثلا يرجع إلى النهي عن الضدّ العامّ وهو الترك ، ومرجع النهي المزبور إلى النهي عن الضدّ الخاصّ ، لعدم صحّة تعلّق التكليف بالتروك ، وهو خرق للإجماع ؛ لانحصار القول في مسألة النهي في أنّ مرجع النهي إلى طلب الترك أو إلى طلب الكفّ ، وأمّا أنّ مرجع النهي إلى طلب ترك الضدّ الخاصّ فهو قول حادث.

وأنت خبير بأنّ التأييد في غير محلّه بعد فرض صحّة ما أفاده المحقّق.

وقد يفرق : بأنّ الكلام في تلك المسألة في المقدّمات الوجوديّة وفي المقام في المقدّمات العدميّة ، وهو كما ترى ممّا لا شاهد له بعد عموم العنوان والأدلّة.

وقد يفرق أيضا : بأنّ الكلام هناك كبرويّ والنزاع في المقام في أنّ الترك مقدّمة أم لا فيرجع إلى إثبات الصغرى ، وهو أيضا مناف لظاهر العنوان والأدلّة.

والأولى أن يقال : إنّ المراد بالضدّ إن كان هو الضدّ العامّ فالفرق ظاهر ، وإن كان الضدّ الخاصّ فالنسبة بين المسألتين عموم مطلق ؛ لأنّ المقام بناء على المشهور - من القول بمقدميّته - من فروع المسألة المتقدّمة ، وأمّا على القول بعدم المقدميّة ، فالفرق ظاهر. وهو وليّ التوفيق والهداية.

ص: 498


1- لم نقف عليه.
2- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 148.

هداية في تحقيق مقدميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر

في تحقيق مقدميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر (1)

فنقول : قد اختلف أنظار الأعلام في ذلك ، فذهب الأكثر إلى توقّف الوجود على العدم وعدم توقّفه على الوجود (2) ، واختار جماعة - منهم السيّد المحقّق السلطان (3) وشيخنا البهائي (4) والكاظمي (5) - عدم التوقّف من الطرفين. ويظهر من المحقّق الخوانساري توقّف وجود الضدّ المعدوم على رفع الضدّ الموجود وعدم توقّف وجود الضدّ على عدم الآخر إذا كان معدوما (6) ، فهو تفصيل بين وجود الضدّ وعدمه والتزام بالتوقّف في صورة الوجود وبعدمه في صورة العدم.

ولازم الحاجبي والعضدي (7) الالتزام بالتوقّف من الطرفين ، حيث استندا في دفع شبهة الكعبي إلى منع وجوب المقدّمة ، بل وجعلا ذلك دليلا على عدم وجوب المقدّمة. وهذا صريح في التزام التوقّف ، إذ لو لم يكن مقدّمة كيف يجعل ذلك دليلا

ص: 499


1- في ( ط ) زيادة : فإنّ هذا هو الشأن في المقام.
2- انظر ضوابط الاصول : 97 ، وإشارات الاصول : 78 ، ومناهج الأحكام : 59.
3- حاشية سلطان العلماء : 282 - 283.
4- زبدة الاصول : 82.
5- الوافي في شرح الوافية : الورقة 264 ( مخطوط ).
6- يأتي كلامه في الصفحة 509.
7- راجع شرح مختصر الاصول : 202 - 203.

على عدم وجوبها؟ لاحتمال إبطالها بمنع المقدميّة في طرف الفعل للترك. وأجابا عن الدليل الآتي أيضا بمنع وجوب المقدّمة. وهذا أيضا يتأتّى بعد تسليم المقدميّة. ثمّ إنّه لو التزم باطّراد توقّف الترك على الأفعال الوجوديّة لزمه الدور على وجه لا مدفع له ، كما ستعرف عن الكعبي.

واحتجّ الأكثرون (1) لإثبات التوقّف في طرف الترك بوجهين :

أحدهما : قضاء صريح الوجدان بذلك ، فإنّا نجد بعد المراجعة والإنصاف من أنفسنا ترتّبا بين ترك الضدّ ووجود الآخر ، كما هو قضيّة الوجدان في الحكم بالتوقّف في جميع الامور التي يتوقّف عليها شيء.

الثاني : أنّ الضدّين متمانعان عن الآخر ، وعدم المانع من الامور التي يتوقّف عليها المعلول ، فعدم الضدّ مما يتوقّف عليه وجود الآخر.

أمّا الصغرى : - وهو التمانع بين الضدّين - فهو ضروريّ بعد تصوّر معنى التضادّ ، فإنّ عدم اجتماعهما في الوجود مأخوذ في حقيقة التضادّ ، فلا يجوز اتّصاف المحلّ بأحدهما إلاّ بعد خلوّه والفراغ عن الآخر ، وإلاّ لم يكونا ضدّين.

فإن قلت : إنّ مجرّد عدم إمكان اجتماعهما في محلّ واحد - كما هو قضية التضادّ - لا يجدي في الحكم بالتمانع ، وهو أن يكون عدم أحدهما شرطا لوجود الآخر ووجوده مؤثّرا في عدم الآخر ، لجواز استناد عدمه إلى عدم علّته ووجود الآخر إلى وجود علّته ، غاية الأمر أن يكون علّة عدم أحدهما مقارنة لعلّة وجود الآخر ، فيمتنع وجودهما في محلّ واحد ، لعدم وجود علّتيهما معا مع انتفاء التمانع بالمعنى المتنازع فيه.

ص: 500


1- راجع الفصول : 92 ، ومناهج الأحكام : 59 ، والقوانين 1 : 108 ، وإشارات الاصول : 78 ، وضوابط الاصول : 97.

قلت : إن اريد مجرّد المقارنة مع إمكان تبدّل العلّة المعدومة بالموجودة فهو فاسد ، لاستلزامه إمكان وجود الضدّين المستلزم لارتفاع التضادّ. وإن اريد التلازم بين وجود علّة أحدهما وانتفاء علّة الآخر فننقل الكلام إلى عدم إمكان اجتماع العلّتين ، فإن كان لتمانع بينهما ثبت المدّعى فيهما وفي معلوليهما ؛ نظرا إلى سراية التمانع من العلّتين إليهما ، وإلاّ فجاز اجتماعهما. ويترتّب عليه إمكان وجود الضدّين.

وأمّا الكبرى : فظاهرة ، فإنّ عدم المانع من أجزاء علّة الوجود - على ما صرّح به الكلّ - ولا ينافي ذلك امتناع استناد الموجود إلى المعدوم ، فإنّ ذلك يراد به أن يكون العدم معطيا للوجود ، لا أن يكون العدم شرطا لإيجاد الموجود (1) ، فإنّه لا دليل على بطلانه ، إذ لا يلزم منه سدّ باب إثبات الصانع ولا أمرا مصادما للضرورة.

ويمكن تقريب الدليل بوجه أخصر ، وهو : أنّ الوجه في امتناع وجود أحد الضدّين في مورد وجود الآخر إمّا وجوده أو أمر آخر ، والأوّل هو المطلوب. والثاني باطل ، لامتناع ذلك ولو فرض انقلاب كلّ موجود معدوما وكلّ معدوم موجودا كما هو ظاهر.

ولإثبات عدم التوقّف في طرف الفعل بما هو المقرّر عندهم في دفع قول الكعبي ، كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى (2).

احتجّ من أنكر التوقّف من الطرفين بوجوه ، أقواها وجهان :

أحدهما : أنّ من المعلوم بالوجدان أنّه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك أمران : فعل المأمور به ، وترك ضدّه ، فيكونان إذن معلولي علّة واحدة ، فلا وجه لجعل ترك الضدّ من مقدّمات فعل الآخر. وذلك مثل

ص: 501


1- في ( ط ) زيادة : أمرا آخرا.
2- في الصفحة 502 - 503.

السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ، فإنّه هو الباعث على دفع الآخر من غير ترتّب وتوقّف بينهما. ومجرّد استحالة اجتماع الضدّ مع الضدّ الآخر لا يقضي بكونه مانعا عنه ، إذ الامور اللازمة للموانع ممّا يستحيل اجتماعها مع الممنوع ، مع أنّ وجودها ليس من الموانع ولا عدمها من المقدّمات.

الثاني : أنّه يلزم من القول بتوقّف الوجود على عدم الضدّ - لمكان الممانعة - القول باستناد ذلك العدم إلى ذلك الوجود ، إذ كما أنّ عدم المانع شرط فوجوده علّة لارتفاع المعلول ، وهو دور. واختلاف جهة التوقّف بالشرطيّة والسببيّة لا يدفع المحذور لو لا يؤكّده.

وقريب منه ما أورده المحقّق السبزواري ، حيث قال : ثمّ في جعل الأضداد مانعا من حصول الحرام نظر ، إذ لو كان كذلك كانت المانعيّة من الطرفين ، لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة - مثلا - مانعة عن الزنا كان الزنا مانعا أيضا ، وحينئذ كان الزنا موقوفا على عدم الصلاة ، فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ، لأنّ رفع الموانع من علّة الوجود ، فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين ، انتهى (1).

وإلى ذلك يرجع ما ذكره بعضهم (2) : من أنّ القول بمقدميّة الترك يوجب ثبوت قول الكعبي. وهو ظاهر.

واجيب عن الأوّل بالمعارضة ، كما تقدّم من قضاء الوجدان بالتوقّف.

وأمّا الثاني ، فقد أجاب المحقّق الخوانساري عمّا ذكره السبزواري : بأنّ قوله : « فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا » إن أراد أنّه يتوقّف عليه ولا يحصل بدونه

ص: 502


1- رسالة في مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 60 - 61.
2- انظر المعالم : 68.

فهو باطل ، لأنّ عدم الشيء ربما (1) يحصل لعدم علّته التامّة ، فوجود الزنا إذا كان علّته التامّة مجموعة يكون أحد أجزائها عدم المانع الذي هو الصلاة ، فعدمه إنّما يحصل بعدم ذلك المجموع ، وعدم المركّب إنّما يحصل بعدم أحد أجزائه ، ولا يتوقّف على خصوص عدم المانع - أي وجود الصلاة - وإن أراد به أنّه إذا فرض أنّ جميع أجزاء العلّة (2) للزنا حاصل سوى عدم الصلاة ، فحينئذ عدم الزنا موقوف على وجود الصلاة ووجودها موقوف على عدم الزنا ، فيلزم الدور. ففيه : أنّه يجوز أن يكون هذا الفرض محالا وامتناع صلاحيّة علّية الشيء على تقدير محال ممنوع ، انتهى (3).

وذلك وإن كان دفعا للدور ، إلاّ أنّه التزام بعدم التوقّف من الطرفين ؛ لأنّ توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر إنّما جاء من جهة كون الضدّ مانعا وعلّة لعدم الآخر ، وهو فرع إمكان وجود أحدهما مع تمام مقتضى الآخر ؛ إذ لو لا ذلك لم يكن العدم مستندا إلى وجود المانع بل إلى فقد المقتضي ، وبعد أن جوّز استحالة وجود أحدهما مع مقتضي الآخر ، فمن أين يحكم بتوقّف فعل أحدهما على ترك الآخر؟ لاحتمال أن يكون ما هو منشأ لانتزاع العلّية لوجود أحدهما موردا لانتزاع العلّية لعدم الآخر بعينه من غير توقّف ، بل على تقدير الاستحالة يتعيّن ذلك ، كما هو ظاهر.

وقد يجاب عن محذور الدور أيضا : بأنّ دعوى دوام التوقّف في جانب الفعل على الترك مسلّمة ، لكن دوامه في جانب توقّف الترك على الفعل غير مسلّم ، بل قطعيّ العدم ، كما عرفت في كلام المحقّق المذكور.

فإن قلت : يكفي في الدور توقّف الترك على الفعل ولو في مورد واحد.

ص: 503


1- في المصدر بدل « ربما » : إنّما.
2- في المصدر : العلّة التامّة.
3- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 149.

قلت : نعم ، لو كان الترك الموقوف عليه الفعل عين الترك الموقوف على الفعل ، وليس كذلك بل هما مختلفان بالسبق واللحوق.

وتوضيحه - على ما قرّره جماعة منهم المحقّق المجيب المتقدّم (1) - : أنّا نفرض أنّ في وقت وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حد الاجتماع ، وحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم علّته التامّة. ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة - مثلا - يقوى ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الاجتماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق ، فيشتغل بالصلاة في الوقت السابق خوفا من الوقوع في الزنا في اللاحق ، فلا دور مع توقّف الترك على الفعل ، ويزيد ذلك وضوحا بفرض آنات ثلاثة :

الأوّل : هو الآن الذي يحصل فيه الصارف عن الزنا مع العلم بأنّه لو لم يشتغل بالصلاة يصل شوقه إليه إلى حدّ الاجتماع ، وهو آن فراغ المحلّ عن الضدّين.

الثاني : هو آن الاشتغال بالصلاة ، فعلى المشهور يتوقّف فعل الصلاة على عدم الزنا ، ولا يتوقّف عدم الزنا في هذا الآن على فعل الصلاة ، بل هو مستند إلى الصارف.

الثالث : هو الآن بعد الاشتغال بالصلاة ، ففي هذا الوقت يستند الترك إلى وجود الفعل قبله ، والفعل لا يتوقّف على هذا الترك ، وإنّما هو موقوف على الترك السابق والترك المقارن له ، وقد عرفت أنّ هذين التركين مستندان إلى الصارف دون الفعل ، فما يتوقّف عليه الفعل هو سابق عليه أو مقارن له ، وما يتوقّف على الفعل هو متأخّر عنه ، فاختلف الطرفان بالسبق واللحوق. لكن ينبغي أن يكون

ص: 504


1- أي المحقّق الخوانساري في الرسالة المتقدمة : 150 ، ومنهم السيّد القزويني في ضوابط الاصول : 99 ، والمحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 70 - 71.

الاشتغال بالصلاة في الفرض رافعا لتمكّن المكلّف من فعل الزنا ولو بواسطة عدم الالتفات والشعور به ، إذ لولاه لم يعقل استناد الترك إلى الفعل في وجه ولا بدّ من وجود الزنا في وجه آخر.

بيانه : أنّه على تقدير الالتفات بالزنا وتمكّنه منه في الآن الثالث : إمّا أن يكون مقتضي الزنا موجودا أو معدوما ، فعلى الأوّل لا بدّ من وجوده ، إذ المفروض أنّ الآن الثالث زمان خلوّ المحلّ عن فعل الضدّ ، فيتمّ العلّة فيجب وجود الزنا. وعلى الثاني لا وجه لاستناد الترك إلى وجود الفعل ، بل المتّجه حينئذ أن يكون عدمه مستندا إلى عدم المقتضي كما كان.

ثم إنّ الفرق بين الجوابين ظاهر من حيث إنّ مدار الأوّل على المنع من إمكان فرض يكون الفعل مستندا إلى الترك ، ومدار الثاني على إمكان ذلك مع الاختلاف بالسبق واللحوق ، كما عرفت.

ويمكن أن يقال : إنّ قضيّة التمانع شأنيّة وجود كلّ منهما لعلّية عدم الآخر في جميع الآنات ؛ لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم وإن لم يكن مقتضيا دوام العلّية فعلا ، ولا ريب أنّ المحال إنّما هذه الشأنيّة لا دوام العلّية ، لأنّه يكفي في لزوم المحال - وإن لم يكن دورا - أن يكون توقّف ترك أحدهما على فعل الآخر في زمانه أمرا جائزا ممكنا بعد فرض دوام التوقّف من الطرف الآخر ، ولا حاجة إلى فرض وقوع التوقف من الطرفين. فإن أراد المجيب استحالة هذا الفرض فهو راجع إلى الجواب الأوّل ، وإن أراد دفع الدور في المثال المفروض بواسطة عدم توقّف فيه من الطرفين فهو لا يجدي في دفع المحال على الوجه الذي قرّرناه ، من فرض إمكان التوقّف من الطرف الآخر أيضا.

فالأولى التعويل في الجواب على احتمال استحالة اجتماع مقتضي أحد الضدّين مع وجود الآخر ، وهو كاف في الردّ على من أراد إثبات التوقّف أو إمكانه من الطرفين ، ولا حاجة إلى إثبات الاستحالة ، كما لا يخفى.

ص: 505

والمثال المفروض ليس من هذا القبيل ؛ إذ الوجه في الاستحالة أنّ وجود مقتضي أحدهما كاف في إعدام الموجود وإيجاد الضدّ المعدوم فلا يجامع مقتضي أحدهما وجود الآخر ، والمفروض في المثال هو وجود المقتضي للزنا بعد ارتفاع الصلاة ، لا حال وجود الصلاة ؛ لما تقدّم من أنّ عدم الزنا حال وجود الصلاة لا بدّ وأن يكون مستندا إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الصلاة ، فإنّ القول بتوقّف الترك حال الصلاة عليها دور لا مدفع له على المشهور.

ومن هنا يندفع ما قد يتوهّم من التنافي بين ما أفاده المحقّق المذكور في المقامين.

ثم إنّ بعض أعاظم المحقّقين أورد في تعليقه على المعالم كلاما لا بأس بنقله بطوله ، حيث أجاب عن الدور : بأنّ وجود الضدّ من موانع وجود الضدّ الآخر مطلقا ولا يمكن فعل الآخر إلاّ بعد تركه ، وليس في وجود الآخر إلاّ شأنيّة كونه سببا لترك ذلك الضدّ ، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشيء في وجود المانع منه ، فإنّ انتفاء كلّ جزء من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لتركه ، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقّف له على السبب المفروض حتّى يرد الدور.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه قد يلزم إذا فرض انحصار سبب الترك في وجود الفعل الذي يكون مانعا ، كأن يوجد جميع الأجزاء الوجوديّة للعلّة التامّة بحيث لو لا المانع لا يبقى للوجود حالة منتظرة.

فأجاب : بأنّه لا يمكن الفرض المزبور. واستدلّ عليه بقوله : لأنّ وجود الضدّ لا بدّ له من إرادة وهي كافية في سببيّة الترك ، ضرورة أنّ السبب الداعي إلى أحد الضدّين صارف عن الآخر.

وبالجملة ، السبب الداعي إلى الإزالة كاف في حصول ترك الصلاة ، فلا يستند الترك إلى وجود الإزالة قطّ بعد لا بدّية الداعي في الإزالة قبل حصولها (1).

ص: 506


1- هداية المسترشدين 2 : 224 - 225.

قلت : قد عرفت في كلام المحقّق الخوانساري أنّه قد سبقه بالجواب المذكور ، إلاّ أنّه لم يصرّح بالاستحالة ، وهذا المجيب قد صرّح به واستدلّ عليه. وكيف كان ، ولقد أجاد فيما أفاد وأتى بما هو فوق المراد في دفع المحذور ، إلاّ أنّه غير خفيّ على الناظر أنّ ذلك حسم لمادّة التوقّف من رأس ، إذ ترك الصلاة وفعل الإزالة على ما فرضه ، كلّ واحد منهما مستند إلى الداعي ، فلا يعقل توقّف أحدهما على الآخر ، إذ التوقّف يحتاج إلى تقدّم مع أنّ المفروض أنّ أحدهما في عرض الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يمكن تقرير الدور بين السبب الداعي إلى الإزالة مع نفس الصلاة لمكان المضادّة بينهما أيضا ، فنقول : إنّ السبب الداعي إلى الإزالة سبب في ترك الصلاة ، فلو كان ترك الصلاة أيضا مقدّمة للسبب الداعي - كما هو مذهب المشهور - لزم الدور ، فلا بدّ من القول بعدم مقدّمية ترك الصلاة للسبب الداعي إلى الإزالة ، وهو المقصود.

ثمّ أجاب عنه بمنع التضادّ بين الصلاة والسبب ، واستند فيه تارة إلى النقض بلوازم المتضادّين ، واخرى بالحلّ : بأنّ مدار التضادّ على عدم إمكان الاجتماع الذاتي ، وإنّما هو متحقّق بين الإرادتين دون إرادة الإزالة ونفس الصلاة.

ثمّ نقل الكلام إلى نفس الإرادتين وقرّر الدور فيهما ، ودفعه : بأنّ إرادة الفعل وعدمها إنّما يتفرّع على حصول الداعي ، فقد لا يوجد الداعي إلى الضدّ أصلا فيتفرّع عليه عدم إرادته من غير أن يتسبّب ذلك عن إرادة ضدّه بوجه من الوجوه ، وقد يكون الداعي إلى الضدّ موجودا ، لكن يغلبه الداعي إلى المأمور به. وحينئذ فلا يكون عدم إرادة الضدّ مستندا أيضا إلى إرادة المأمور به ليكون توقّف إرادة المأمور به على عدم إرادته موجبا للدور ، بل إنّما يستند إلى ما يتقدّمها من غلبة الداعي إلى المأمور به ومغلوبيّة الجانب الآخر الباعث على إرادة المأمور به وعدم إرادة الآخر ، فيكون وجود أحد الضدّين وانتفاء الآخر مستندا في الجملة إلى علّة واحدة من غير

ص: 507

أن يكون وجود أحدهما علّة في رفع الآخر ليلزم الإيراد. قال : ولا ينافي ذلك توقّف حصول الفعل على عدم إرادة ضدّه حسبما يجيء بيانه.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّا نجري الكلام بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى المأمور به وغلبة الداعي إلى ضدّه ؛ لكونهما ضدّين أيضا ، وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضدّه ، والمفروض توقّف حصول الضدّ على انتفاء الآخر ، فيلزم الدور.

فأجاب عنه : بأنّه لا سببيّة بين الأمرين ، بل رجحان الداعي إلى الفعل إنّما يكون بمرجوحيّة الداعي إلى الضدّ ، فهو حاصل في مرتبة حصول الآخر من غير توقّف بينهما لنقدّم (1) لذلك أحدهما على الآخر في الرتبة ، فرجحان الداعي إلى المأمور به يتكافأ في الوجود بمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه ، إذ الرجحانيّة والمرجوحيّة من الامور المتضايفة ومن المقرّر عدم تقدم أحد المتضايفين على الآخر في الوجود.

ثمّ قال : وتوضيح المقام أنّ الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل الإيجاب والسلب ، فلا توقّف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر ؛ إذ حصول كلّ من الجانبين عين ارتفاع الآخر. وكذا الحال في تقابل العدم والملكة ، وقد عرفت عدم التوقّف في تقابل التضايف أيضا. وأمّا المتقابلان على سبيل التضادّ فيتوقّف وجود كلّ على عدم الآخر ، إلاّ أن يرجع الأمر فيهما إلى أحد الوجوه الأخر كما في المقام (2) ، انتهى ما أفاد.

قلت : وما أفاده وإن كان دفعا للدور ، إلاّ أنّه أيضا التزام بعدم التوقّف ، كما

ص: 508


1- في ( ع ) و ( م ) : لتقدّم.
2- هداية المسترشدين 2 : 226 - 227.

عرفت في صدر كلامه. وتوضيحه : أنّ التقدّم إمّا أن يعتبر في نفس الضدّين في الأفعال الاختياريّة - كالصلاة والإزالة - وإمّا أن يعتبر في إرادتيهما ، سواء قلنا بأنّها عين الداعي كما هو المتحقّق عندنا على ما تقدّم ، أو غيره كما يظهر ممّا أفاده في جواب الدور الوارد في الإرادتين وإن كان واردا على خلاف التحقيق ، إذ على تقدير الاختلاف وكونها ناشئة منه ينقل الكلام إليه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ تقدّم شيء على آخر إنّما يلازم تقدّم علّته على علّته ، إذ على تقدير التساوي بين العلّتين لا وجه للتقدّم ، وإلاّ لزم تساوي المعلول والعلّة في الرتبة والتقدّم ، واستحالته ضروريّة ، والمفروض في كلامه أنّ علّة وجود أحد الضدّين غلبة الداعي إليه ورجحانه المكافئ وجودا لمرجوحيّة الداعي الآخر ، وهو بعينه علّة عدم الآخر ، فالعلّتان لا تقدّم فيهما ، ولازمه عدم التقدّم في المعلولين ، وهو بعينه ما قصده المستدلّ.

وأمّا الثاني : فلاعترافه بأنّ العلّتين في مرتبة واحدة ؛ مضافا إلى أنّ من المقرّر في مقامه أنّ الأصل في التقابل والتنافي هو التناقض وتقابل السلب والإيجاب ، والأقسام الباقية إنّما هي راجعة إليه بنحو من الاعتبار والعناية ، وهو أيضا ممّا لا ينبغي خفاؤه على الأذهان المستقيمة ، لأنّ الوجودين من دون اعتبار أمر عدميّ بينهما لا يعقل التنافي بينهما ، ومن الامور الظاهرة عدم توقّف أحد النقيضين على عدم الآخر كما أفاده المحقّق المجيب (1) وأشار إليه المحقّق المستدلّ (2) بقوله : « وذلك مثل السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ... » فلا وجه للتوقّف.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن أدلّة المشهور.

ص: 509


1- أي المحقّق الخوانساري.
2- أي الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 224.

أمّا عن الوجدان : فبأنّ المنصف إذا راجع وجدانه في صدور الأفعال الاختياريّة يجد من نفسه عدم التوقّف ؛ فإنّ بعد تصوّر الفعل والقطع بأنّ فيه منفعة غير معارضة لا يتوقّف صدور الفعل على حالة منتظرة ، إذ النفس إمّا أن تكون فارغة عن فعل من الأفعال المضادّة لذلك الفعل المتصوّر أو لا يكون ، وعلى الوجهين لا بدّ من حصول ذلك. أمّا على الأوّل فظاهر. وأمّا على الثاني ، فلأنّ المفروض عدم مقاومة النفع المحرّك لصدوره للنفع الموجود في ذلك الفعل ، فلا بدّ من انقطاعه والاشتغال بما هو أتمّ نفعا في الأفعال المنوطة بالإرادة والدواعي ، وما يتخيّل من التوقّف فهو إنّما هو بواسطة عدم التعمّق في كيفيّة صدور الأفعال الإراديّة. نعم ، لو لم يكن وجود علّة صدور أحدهما كافيا في عدم الآخر كان الحكم بالتوقّف بحسب الوجدان في محلّه.

وأمّا عن الدليل الثاني : فبأنّ التمانع وامتناع الاجتماع في محلّ واحد إنّما يقضي بالتوقّف فيما إذا لم يكن ذلك العدم مساويا في الرتبة لوجود الضدّ الآخر ، وبعد ما عرفت من التساوي فلا وجه للحكم بالتوقّف ، بل يكفي في ردّ الدليل احتمال التساوي كما لا يخفى على الناظر ، فنختار الشقّ الأوّل من الترديد الواقع في دفع السؤال هناك مرّة ونقول : إنّ التمانع بمعنى عدم إمكان اجتماعهما في الوجود لا يقضي بالتوقّف كما في سائر أقسام التقابل ، والشق الثاني مرّة اخرى ونقول : إنّ عدم التمانع بمعنى عدم توقّف وجود أحدهما على عدم الآخر لا يقضي بالاجتماع في الوجود كما في سائر أقسام التقابل أيضا ؛ مضافا إلى أنّ الكبرى في ذلك الدليل لا يخلو عن منع ، فإنّ الموارد التي حكموا فيها بأنّ عدم الشيء شرط ووجوده مانع يحتمل أن يراد به التعبير والعنوان ، كأن يكون الشرط واقعا أمرا وجوديّا وإنّما جعل ذلك العدم عنوانا عنه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثالث : أنّ فرض انقلاب كلّ موجود معدوما

ص: 510

يوجب انقلاب وجود علّة (1) الموجود بالعدم ، كما أنّ فرض انقلاب كلّ معدوم موجودا يوجب انقلاب عدم علّة الآخر بالوجود ، ومع ذلك يجب وجود المعدوم وعدم الموجود من دون توقّف ، فذلك الفرض مع فرض وجود الضدّ محال موجب للتناقض. وإن اريد عدم كلّ موجود ما عدا علّة وجود الموجود ووجود كلّ معدوم ما عدا علّة عدم المعدوم ، فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، لكونه خارجا عن المباحث العلميّة ، كما لا يخفى على من له دربة بها. وإن اريد وجود كلّ معدوم من أجزاء علّة المعدوم مع فرض وجود علّة الموجود فهذا مع أنّه تفكيك لعدم صحّة الفقرة الاخرى محال أيضا ، إذ فرض وجود مقتضى المعدوم لا يجامع وجود علّة الموجود كما تقدّم. فليتأمّل في المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

بقي الكلام فيما أفاده المحقّق الخوانساري في المقام : من التفصيل بين الرفع والدفع ، فأحد الضدّين إذا فرض وجوده في محلّ لا يمكن وجود الضدّ الآخر إلاّ بعد رفعه فالرفع ممّا يتوقف عليه وجود الضدّ ، وأمّا لو فرض المحلّ خاليا من الأضداد وفارغا عنها ، فاتّصاف المحلّ بأحدها لا يتوقّف على عدم الآخر ، لاستواء نسبة المحلّ إليها ، والأضداد متساوية الأقدام بالنسبة إليه ، فالتمانع إنّما يسلّم فيما إذ كان الضدّان موجودين ولا يتوقّف وجود أحدهما على عدم الآخر عند عدمها ، لعدم التمانع حينئذ.

قال بعد الإيراد بما نقلنا عن السبزواري : وهنا كلام آخر وهو أنّه يجوز أن يقال : إنّ المانع إذا كان موجودا فعدمه ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء ، وأمّا إذا كان معدوما فلا. نظير ما قال المحقّق الدواني : إنّ عند إمكان اتّصاف شيء بالمانعيّة يكون عدم المانع موقوفا عليه ، وأما إذا لم يمكن اتّصاف الشيء بالمانعيّة فلا يكون حينئذ عدمه موقوفا عليه.

ص: 511


1- في ( ط ) و ( ع ) : علّته.

قال : وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور إن حمل كلامه على ظاهره أيضا.

قال : وبالجملة ، الحكم بمانعيّة (1) الأضداد ممّا لا مجال لإنكاره وفي كلام الشيخ الرئيس أيضا التصريح بمانعيّتها (2) ، كيف! وأيّ شيء أولى بالمانعيّة من الضدّ؟ فلا وجه للإيراد على المجيب بأنّه جعل الضدّ مانعا. نعم ، لو قيل : إنّ عدم المانع مطلقا ليس موقوفا عليه ، بل هو من المقارنات للعلّة التامّة - كما ذهب إليه بعض - لم يكن بعيدا ، لكن هذا بحث لا اختصاص له بالمجيب وبمقامنا هذا (3) ، انتهى كلامه.

قلت : وجه ارتفاع الدور بما ذكره من التفصيل ، هو : أنّه إذا فرضنا اشتغال المحلّ بوجود أحد الأضداد كالسواد - مثلا - كان وجود الآخر كالبياض موقوفا على ارتفاع الموجود ، لمكان التضادّ. وأمّا وجود السواد في ذلك المحلّ لم يكن موقوفا على عدم البياض ، لأنّ هذا العدم سابق على علّة السواد ومقارن معها ، فلا توقّف من الطرف الآخر ، فلا دور.

والفرق بينه وبين الجواب الأوّل ظاهر ؛ حيث إنّ مدار الأوّل على تسليم توقّف وجود السواد على عدم البياض ، إلاّ أنّ عدم البياض - مثلا - لا يستند إلى وجود المانع في المقام. ومدار الجواب الثاني على عدم تسليم التوقّف في صورة عدم اشتغال المحلّ به ، لما عرفت من استواء نسبة الأضداد إليه.

هذا خير (4) ما قيل ويقال في هذا المجال ، ومع ذلك فلا يخلو عن النظر.

ص: 512


1- في المصدر : بتمانع.
2- في المصدر : بتمانعها.
3- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 150 - 151.
4- في ( ع ) و ( م ) بدل « خير » : حاصل.

أمّا أوّلا : فلأنّ الفرق بين حالة وجود الضدّ وحالة عدمه والتزام التوقّف في الأوّل دون الثاني ممّا لا سبيل إليه ، إذ غاية ما هناك أن يكون الموقوف عليه حاصلا في الثاني ، ولا معنى لمنع التوقّف في المقدّمات الحاصلة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الالتزام بالتوقّف فيما إذا كان الضدّ موجودا خلاف التحقيق ، كما عرفت في تقريب ما أفاده أوّلا من إمكان استحالة الفرض. وتوضيحه : أنّ رفع الضدّ الموجود إنّما يجوز أن يكون مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم إذا كان وجود الضدّ مانعا عنه ليكون العدم مستندا إلى وجود المانع ، وهو فرع وجود تمام أجزاء علّة وجود المعدوم ، وإلاّ كان استناد العدم إلى عدم المقتضي ، فإنّه أسبق في المعدوميّة.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره لو تمّ فهو إنّما يتمّ في الأضداد التي هي من قبيل الأحوال والصفات. وأمّا في الأفعال الاختياريّة التي هي من (1) مقولة الحركة التي يتدرّج وجودها وينقضي شيئا فشيئا فلا يعقل ذلك ، فإنّ الحركة في كل آن غير الحركة في الآن الأوّل ، فإذا حصل مقتضى السكون يرتفع الحركة ويكونان من باب معلولي علّة واحدة ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في المقام من عدم التوقّف والاستناد وإن كان بعد حكومة الإنصاف والاجتناب عن الاعتساف أمرا معلوما ، إلاّ أنّه ربما يمنع منه مانع فيقول : إنّ الشك في ثبوت التوقّف يكفي في المقام.

بيان ذلك : أنّ المقصود من إثبات التوقّف ونفيه هو إثبات تحريم الضدّ وبطلانه وعدمهما ، فعلى القول بالتوقّف والمقدّمية يكون ترك الضدّ واجبا فيكون فعله حراما فيكون فاسدا ، وعلى القول بعدم التوقّف لا يتوجّه إليه النهي الحاصل

ص: 513


1- في ( ط ) بدل « هي من » : ينتهي إلى.

من الأمر بتركه الناشئ من كونه مقدّمة. وعند الشكّ في التوقّف لا مانع من التزام الصحّة بعد وجود الأمر بحكم الإطلاق وعدم العلم بالمانع.

ثمّ إنّه لا فرق في التزام الصحّة بين احتمال عدم التوقّف رأسا وبين احتماله على وجه يراه المحقّق الخوانساري عند خلوّ المحلّ عن الضدّين ، فإنّ من حاول إيجاد أحد الضدّين عند فراغ المحلّ عنهما لا يتوقّف إيجاده على عدم الآخر حتّى يصير واجبا من باب المقدّمة ، فيصير فعله حراما وفاسدا (1).

ص: 514


1- في ( ط ) زيادة : « كما لا يخفى ، والحمد لله » وفي هامشها أيضا زيادة ما يلي : إلى هنا جفّ قلم صاحب مطارح الأنظار - طاب ثراه - في مسألة الضدّ وأمّا ما يأتي في هذه المسألة فليس من تقريراته وتحريراته ، بل إنّما هو من بعض الأساطين من المستفيدين من بحث الشيخ - طاب ثراه وجعل الجنّة مثواه - ولعمري أفاد بما فوق المراد.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فهذه مسألة معروفة معركة للآراء ، يبحث فيها عن اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

وتنقيح الكلام فيه يستدعي رسم مقدّمات :

الاولى

النسبة بين هذه المسألة وسابقتها - التي هي مسألة مقدّمة الواجب على الظاهر - عموم من وجه ، يعني أنّ المثبت في كلّ من المسألتين يمكن أن يكون مثبتا في الاخرى ونافيا. أمّا المثبت في المسألة السابقة فان اعترف بكون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ثمّ اعترف بوجوب المقدّمات العدميّة نحو المقدّمات الوجوديّة ، فهو مثبت في المسألتين. وإن لم يعترف بشيء من الأمرين أو بأحدهما كان مثبتا هناك ونافيا هنا. وأمّا المثبت في هذه المسألة فإن كان وجه الإثبات عنده كون ترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر كان مثبتا في المقامين ، وإن كان وجهه دعوى عينيّة ترك أحدهما لفعل الآخر وبالعكس أمكن أن يكون نافيا في تلك المسألة ومثبتا في هذه. وهكذا الكلام في الثاني ، فإنّ نفي الوجوب أو الاقتضاء يمكن أن يجتمع مع النفي في الآخر ومع الإثبات بعين ما ذكر.

ص: 515

وحينئذ فعلى تقدير كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الآخر يكون هذه المسألة فردا من أفراد المسألة السابقة وشعبة من شعبها. لكن لمّا كان ظاهر عناوينهم في المسألة السابقة اختصاص البحث بالمقدّمات الوجوديّة انفردت هذه المسألة منها في الذكر والعنوان ؛ مضافا إلى ما في مقدّميّة ترك الضدّ في البحث والنظر المقتضي لعقد باب مستقلّ (1).

فإذن لا بأس في تحقيق هذا المقام - يعني كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الآخر أم لا - ثمّ الخوض في أصل المرام.

فنقول - وباللّه الاستعانة وعليه الاعتماد - : قد اختلف العلماء في توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر وبالعكس على أقوال :

فعن البهائي والكاظمي وسلطان العلماء : نفي التوقّف مطلقا (2) ، وبه قال السبزواري فيما حكي عنه في الرسالة المعمولة ، وسنذكر عبارتها (3).

وذهب الحاجبي والعضدي إلى : التوقّف من الطرفين ، حيث إنّهما ذكرا شبهة الكعبي الآتية - إن شاء اللّه - وأجابا عنها بمنع وجوب المقدّمة (4). وهذا اعتراف صريح بكون فعل أحد الأضداد مقدّمة لترك الضدّ الآخر المحرّم. ثمّ لما جاءا في بحث اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أجابا عن الدليل المعروف الذي يأتي ذكره - إن شاء اللّه - بمنع وجوب المقدّمة. وهذا أيضا اعتراف بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للآخر.

ص: 516


1- في ( ع ) و ( م ) زيادة : عليها.
2- حكاه عنهم المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول : 78 ، وانظر زبدة الاصول : 82 ، والوافي في شرح الوافية : 264 ، وحاشية سلطان العلماء على المعالم : 282 - 283.
3- انظر الصفحة 519.
4- راجع شرح مختصر الاصول : 202 - 203.

والمشهور بين المتأخّرين (1) من أصحابنا - على ما قيل (2) - والمتأخّرين منهم - كصاحب القوانين (3) والفصول (4) وأخيه في حاشيته على المعالم (5) - : إثبات التوقّف من طرف الوجود دون العدم ، فقالوا بكون الترك مقدّمة للفعل دون العكس ؛ حذرا من شبهة الكعبي المبنيّة على توقّف الترك على الفعل. فالمذاهب مع مذهب الكعبي القائل بكون الفعل مقدّمة للترك أربعة.

ويلوح من استاذ الكلّ المحقّق الخوانساري تفصيل آخر ، وهو : توقّف وجود الضدّ المعدوم على رفع الضدّ الموجود ، وعدم توقّف رفعه على وجود الآخر (6).

حجّة الأوّلين يظهر من جواب حجّة المشهور. وحجّتهم على كون ترك الضدّ مقدّمة للفعل : أنّ اجتماع كلّ منهما مع الآخر محال للمضادّة ، فيكون وجود كلّ منهما مانعا من حصول الآخر ، وعدم المانع من جملة المقدّمات.

واورد عليه بوجوه :

منها : دعوى المقارنة الاتّفاقية بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر من دون توقّف الوجود على العدم ، بمنع كون وجود كلّ منهما مانعا من وجود الآخر ؛ لأنّ مجرّد استحالة اجتماع الضدّ مع الضدّ الآخر لا يقتضي كونه مانعا منه ليكون عدمه مقدّمة لفعله ، إذ الامور اللازمة للموانع ممّا يستحيل اجتماعها مع الممنوع ، مع أنّ وجودها ليس من الموانع ولا عدمها من المقدّمات.

ص: 517


1- كذا ، والظاهر : المتقدّمين.
2- لم نعثر عليه.
3- القوانين 1 : 108.
4- الفصول : 96.
5- هداية المسترشدين 2 : 200 و 223 وما بعدها.
6- سيأتي كلامه في الصفحة 519 - 520.

ومنها : أنّ من المعلوم بالوجدان أنّه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك أمران : فعل المأمور به وترك ضدّه ، فيكونان إذا معلولي علّة واحدة ، فلا وجه لجعل ترك الضدّ من مقدّمات فعل الآخر. وذلك مثل السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ، فإنّه هو الباعث على رفع الآخر من غير ترتيب وتوقّف بينهما جدّا.

ومنها : أنّه لو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه لزم الدور ؛ فإنّ مقدّميّة الترك للفعل مبنيّة على كون وجود أحدهما مانعا عن وجود الآخر - كما تقرّر في تقرير الحجّة - والتزام المانعيّة من طرف يقتضي المانعيّة من الطرفين ، لاستواء النسبة في المضادّة. فكما أنّ ترك المانع من مقدّمات حصول الفعل ، فكذا وجود المانع سبب لارتفاع الفعل ، فيكون فعل الضدّ مثلا موقوفا على ترك الضدّ توقّف الشيء على عدم مانعة ، وترك الضدّ موقوفا على فعل ضدّه لكونه سببا لذلك الترك. وتوقّف المسبّب على سببه أولى من توقّف الشيء على عدم المانع الذي هو الشرط.

ومنها : أنّه لو كان كذلك لزم صحّة قول الكعبي بانتفاء المباح على القول بوجوب جميع المقدّمات - كما هو المشهور المنصور - والملازمة قد اتّضحت من بيان الملازمة المتقدّمة ، إذ على تقدير كون فعل الضدّ من مقدّمات ترك الآخر يكون فعل المباحات لترك الأضداد المحرّمة واجبا.

وهذه الإيرادات الأربعة قد ذكرها الشيخ في حاشيته على المعالم (1) ، وتصدّى لجواب بعضها بما يرجع إلى كلام المحقّق الخوانساري في جواب كلام السبزواري. والوجهان الأخيران جوابان عن الدليل المزبور على سبيل النقض الإجمالي ،

ص: 518


1- هداية المسترشدين 2 : 223 وما بعدها.

وهما دليلان على القول بعدم التوقّف. كما أنّ الوجهين الأوّلين أوّلهما منع لدعوى التمانع ، وثانيهما ادّعاء قضاء الوجدان بعدم التوقّف ، فهو حينئذ دليل أيضا على عدم التوقّف.

ومنها : ما ذكره السبزواري في الرسالة المعمولة في البحث عن وجوب المقدّمة ، حيث استدلّ النافي على عدم وجوبها : بأنّها لو وجبت لزم صحّة قول الكعبي لعين ما ذكر آنفا. وأجاب عنها بما أجاب. وقال في جملة كلامه ما لفظه هذا : ثمّ في جعل الأضداد مانعا من حصول الحرام (1) نظر ، إذا لو كان كذلك كانت المانعيّة من الطرفين لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة مثلا مانعة من الزنا كان الزنا أيضا مانعا منها ، وحينئذ كان الزنا موقوفا على عدم الصلاة فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ؛ لأنّ رفع الموانع علّة لوجوده ، فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين ، وهذا خلف (2) انتهى.

وهذا الإيراد على مانعيّة الضدّ قريب من الدور المزبور ، إلاّ أنّ المأخوذ في هذا الإيراد كون عدم المانع أيضا علّة وأنّ جهة التوقّف في الطرفين هو العلّية ، والمأخوذ في تقرير الدور : أنّ عدم المانع شرط وأنّ جهة التوقّف في أحد الطرفين على نحو الاشتراط كما في توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر ، وفي الطرف الآخر على جهة العلّية كما في توقّف تركه على فعل الآخر توقّف الشيء على علّته وسببه.

وأجاب عنه المحقّق الخوانساري بقوله : وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ قوله : « فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا » إن أراد أنّه يتوقّف عليه ولا يحصل بدونه فهو باطل ، لأنّ عدم الشيء إنّما يحصل بعدم علّته التامّة ، فوجود الزنا إذا كان علّته التامّة

ص: 519


1- في ( ع ) و ( م ) : المرام.
2- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 59 - 61.

مجموعة يكون أحد أجزائها عدم المانع الذي هو الصلاة ، فعدمه إنّما يحصل بعدم ذلك المجموع ، وعدم المركّب إنّما يحصل بعدم أحد أجزائه ولا يتوقّف على خصوص عدم المانع ، أي وجود الصلاة.

وإن أراد به أنّه إذا فرض أنّ جميع أجزاء العلّة للزنا حاصل سوى عدم الصلاة ، فحينئذ عدم الزنا موقوف على وجود الصلاة ، ووجود الصلاة موقوف على عدم الزنا ، فيلزم الدور. ففيه : أنّه يجوز أن يكون هذا الفرض محالا وامتناع صلاحيّة علّية الشيء على تقدير محال ممنوع (1) انتهى كلامه.

وخلاصة معناه : أنّ المحال إنّما يلزم على تقدير علّية وجود أحد الضدّين لعدم الآخر ، وهذا إمّا (2) غير لازم أو غير جائز.

بيانه : أنّ عدم أحد الضدّين قد يكون باعتبار انتفاء شيء من (3) أجزاء علّة الوجود أو شروطه ، وحينئذ لا يكون العدم معلولا لوجود الضدّ الآخر المفروض كونه مانعا. وقد يكون باعتبار وجود الضدّ ومن جهته ، وذلك إنّما يكون إذا كان أجزاء علّة الوجود وشرائطه مجتمعة إلاّ عدم المانع الذي هو وجود الضدّ الآخر ، فحينئذ يستند عدم الضدّ إلى وجود ضدّه ويكون معلولا منه. ولكن هذا الفرض ممّا أمكن دعوى استحالته ، فالدور المحال غير وارد. وقوله : « وامتناع صلاحيّة عليّة الشيء على تقدير محال ممنوع » كأنّه دفع لإيراد متوهّم ، وهو أنّ جعل الأضداد مانعا حينئذ يكون محالا ؛ لأنّه موقوف على فرض محال ، وهو اجتماع وجود أحد الضدّين مع أجزاء علّة وجود الآخر وشرائطه عدا عدم المانع.

ص: 520


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 149.
2- لم ترد « إمّا » في ط.
3- كذا في نسخة بدل ( ع ) ، وفي غيرها : في.

وبيان الدفع : أنّه ليس إبطالا لمانعيّة الضدّ وكونه علّة عدم الآخر ، وإنّما هو تعليق للمانعيّة على فرض ، وهذا لا يمنع أصل التمانع بعد ذلك الفرض. مثلا إذا قيل : « لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا » فذلك ليس نفيا للفساد على تقدير وجود الآلهة ، بل إنّما هو بيان للملازمة بين أمرين وإن كان الملزوم محالا ، فإنّ استحالة المقدّم لا يوجب كذب القضيّة الشرطيّة. وحينئذ فللقائل بالتمانع بين الأضداد إثبات المانعيّة على فرض وإن كان هذا الفرض محالا.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام وإن كان يندفع به الدور ، إلاّ أنّه ينفي التوقّف رأسا ، فلا يكون ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر أيضا فضلا عن كون الفعل مقدّمة للترك ؛ لأنّ توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر إنّما جاء من جهة كون الضدّ مانعا وعلّة لعدم الآخر وكون عدم المانع من الشرائط - كما قرّر في الاستدلال - فبعد أن قلنا باستحالة كونه مانعا نظرا إلى استحالة اجتماع وجود أحدهما مع مقتضي الآخر - كما يقوله رحمه اللّه - فمن أين يجيء توقّف فعل أحدهما على ترك الآخر؟ ومن أين يثبت المقدّميّة؟ على أنّ قوله : « ويجوز أن يكون هذا الفرض محالا » غير واضح الدليل ، لأنّ غاية توجيهه أن يقال : إنّ مقتضي الضدّين ضدّان أيضا نحوهما ، وبعد فرض وجود أحد الضدّين ومقتضيه يمتنع وجود مقتضي الضدّ الآخر نحو امتناع وجوده. وفيه : منع (1) التضادّ بين مقتضي الضدّين في جميع الموارد وإن سلّم بالنسبة إلى بعضها ؛ مع أنّ مقتضيهما قد يكونان قائمين بموضوعين ، فلا يكونان من الأضداد المتواردة على محل واحد حتّى يمتنع اجتماعهما في الوجود.

وتوضيح ذلك : أنّ أقصى ما في وسع المحقّق المزبور أن يقول : إنّ بين إرادة الصلاة وإرادة الزنا اللتين هما مقتضيان لهما تضادّ نحو تضادّ الصلاة والزنا ، فلا يمكن

ص: 521


1- في ( ع ) و ( م ) : أنّ منع.

أن يجتمع نفس الصلاة مع مقتضي الزنا - أعني الإرادة - حتى يكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ؛ لأنّ اجتماعهما يستلزم اجتماع إرادة الصلاة وإرادة الزنا ، وهما متضادّان لا يجتمعان.

وجوابه : أنّا ننقل الكلام في نفس الإرادتين ، فنقول : إنّ إرادة الصلاة مانعة لإرادة الزنا فتكون علّة لعدمها ، فيجب إيجادها - أي إيجاد إرادة الصلاة - من باب المقدّمة إذا كان ترك الزنا واجبا ، ويجب تركها إذا كان تركه حراما ، كما في صورة توقّف حفظ النفس عليه.

فإن ادّعيت أيضا أنّه يجوز أن يكون اجتماع نفس إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا مستحيلا ، فلا يكون إرادة الصلاة مانعة من إرادة الزنا وعلّة لعدمه ، لأنّ الاجتماع يستلزم اجتماع مقتضي إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا ، وهذا محال لتضادّهما أيضا نحو تضادّ الإرادتين.

ففيه : أنّ مقتضي إرادة الصلاة تعلّق أمر الشارع بها وكونها ذات مصلحة محتّمة وهو أمر قائم بنفس الصلاة ، ومقتضي إرادة الزنا ما فيه من اللذّة وحظّ النفس وذاك متعلّق بنفس الزنا ، ولا استحالة في وجود هذين المقتضيين في الموضوعين والمحلّين المختلفين. فيمكن حينئذ أن يجتمع إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا وهو الداعي القائم بنفس الزنا ، فيكون وجود إرادة الصلاة حينئذ مانعا للزنا وعلّة لعدمه ، فيجب إيجادها من باب المقدّمة أو تركها كذلك.

فإن قلت : إذا جاز اجتماع داعي الضدّين كالصلاة والزنا - أعني المقتضيين لإرادتهما في الوجود - فبما ذا يوجد أحدهما دون الآخر؟

قلنا : بسبب اختيار الطبيعة ، فإنّها إذا نظرت إلى داعي الصلاة وداعي الزنا - مثلا - فتختار مقتضي أحدهما في حدّ ذاتها أو بملاحظة المرجّحات الأخر من (1)

ص: 522


1- كذا في نسخة بدل ( ع ) ، وفي غيرها : في.

حسن تعجيل اللذّة أو خوف تأجيل العذاب ونحوها ، وإذا اختارت أحدهما تحقّق مقتضاه ، فيجوز اجتماع وجود الصلاة مع مقتضي الزنا ، وحينئذ يصحّ الحكم بوجوب إيجاد الصلاة لكونها علّة عدم إرادة الزنا التي هي مقتضية له ، فيتمّ الكلام من غير فرق بين أن يكون التمانع أوّلا ملحوظا بين الصلاة والزنا أو بين إرادتيهما.

والحاصل : أنّ في كلام المحقّق حزازة من وجهين :

أحدهما : أنّه إن تمّ لكان نفيا للتوقّف رأسا ، وهو مدّعى السبزواري.

والثاني : أنّ تماميّته موقوفة على استحالة اجتماع أحد الضدّين مع تمام مقتضي الضدّ الآخر ، ووجهه غير واضح ، بل الظاهر جواز ذلك كما عرفت.

وللمحقّق المزبور (1) تحقيق آخر في رفع الدور ، ذكره انتصارا لمن أجاب عن شبهة الكعبي : بأنّ ترك الضدّ - أعني الحرام - غالبا يستند إلى عدم مقتضي الوجود ، وقد يكون مستندا إلى وجود المانع - أعني الضدّ الآخر الذي هو أحد المباحات مثلا - فالوجوب إنّما يعرض للمباحات أحيانا ، فلا يلزم انتفاء المباح رأسا دائما ، حيث إنّه رحمه اللّه أورد عليه :

أوّلا : بأنّه يلزم الدور حينئذ بناء على تحقّق المانعيّة من الطرفين. ثمّ اعتذر عنه بقوله : ويمكن أن يتكلّف في الجواب : بأنّ مراده أنّ ترك الزنا - مثلا - في وقت موقوف في بعض الصور على فعل ضدّه في الوقت السابق عليه ، فلا يلزم الدور حينئذ.

قال : بيانه أنّا نفرض أنّ في وقت مثلا وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حدّ الجماع ، فحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم الجماع الذي هو علّته التامّة من دون توقّف على وجود المانع. ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة

ص: 523


1- أي المحقّق السبزواري.

- مثلا - يقوى ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الجماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق أيضا يشتغل بالصلاة في الوقت السابق ؛ لأنّ الاشتغال به يمكنه ، إذ الفرض أنّ عدم مانعة متحقّق في الزمان اللاحق أيضا ، بناء على عدم شرطه لا وجود مانعة (1). هذا كلامه.

وتوضيح الإيراد والجواب على وجه ينطبق على ما نحن فيه ، هو : أنّ الاعتراف بكون فعل الضدّ مقدّمة لترك الآخر في الجملة - ولو في بعض الصور وفي بعض الأحيان - لا ينفكّ عن الدور أيضا بناء على تسليم التمانع من الطرفين ، إذ المفروض أنّ التمانع يقتضي أن يكون ترك كلّ منهما مقدّمة شرطيّة لفعل الآخر دائما ، فإذا اتّفق في بعض الصور توقّف الترك على الفعل أيضا من باب توقّف عدم المعلول على وجود المانع المقترن بتمام المقتضي فلا محيص من الدور جدّا. وهذا تقرير الإيراد المزبور الذي هو عين الدور الذي اورد في المقام على كون ترك الضدّ مقدّمة وكون كلّ واحد منهما مانعا عن الآخر.

وأمّا الجواب فتقريره أن يقال : إنّ ترك الضد لا يكون معلولا من فعل ضدّه موقوفا عليه إلاّ إذا كان زمان الترك والفعل مختلفا ، كما إذا كان فعل الضدّ في هذا الزمان علّة لترك الضدّ في الزمان المتأخّر اللاحق ، فيكون الذي يتوقّف على فعل الضدّ هو الترك الذي يتحقّق بعد زمان الفعل ، ولا يتوقّف الفعل على ذلك الترك ، بل على الترك المقارن له في الوجود. مثلا إذا فرض الضدّان - الصلاة والإزالة - كان فعل كلّ واحد منهما موقوفا على ترك الآخر في زمان الفعل ، ولكن ترك كلّ منهما ليس موقوفا ومعلولا لفعل الآخر في زمانه ، بل إنّما يكون كذلك إذا كان ترك كلّ

ص: 524


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 150 ، وقد وقع في نقل العبارة نقص فاختلت لذلك.

واحد منهما في الزمان اللاحق موقوفا على مباشرة المكلّف بفعل الآخر في الحال ، فيكون الصلاة - مثلا - موقوفا على ترك الإزالة في وقتها ، ولا يكون هذا الترك - أعني ترك الإزالة في وقت الصلاة - موقوفا على فعل الصلاة التي كانت موقوفة على الترك المزبور حتّى يرد الدور ؛ لعدم وجود مقتضيها في وقت الصلاة ، بل إنّما يكون ترك الإزالة في الزمان المتأخّر والزمان اللاحق موقوفا ومعلولا لفعل الصلاة الواقع فيما قبل ، وذلك إنّما يكون إذا كان جميع مقتضيات الإزالة موجودة في الآن اللاحق وكان تركها في ذاك الآن موقوفا على إيجاد مانعها - أعني الصلاة - مثل فيما قبل ، فلا يلزم الدور حينئذ ؛ لاختلاف طرفي التوقّف ، حيث إنّ مقدّمة الفعل هو الترك المقارن له في الوجود ، ومعلول هذا الفعل هو الترك المتأخّر.

وأنت خبير بأن هذا الجواب عن الدور مبنيّ على دعوى استحالة توقّف الترك المقارن على هذا الفعل ، وهذا إنّما يتمّ إذا قلنا باستحالة اجتماع تمام مقتضي أحد الضدّين مع الضدّ الآخر حتّى يكون علّية فعله لترك الآخر في زمان واحد مستحيلا ، وقد عرفت منع هذه الاستحالة وأنّه يجوز أن يجتمع أحد الضدّين مع تمام مقتضي الآخر ، وحينئذ يرد الدور على فرض التمانع جدّا ؛ لأنّ التوقف حينئذ ثابت من الطرفين في آن واحد. على أنّ الجواب عن الدور بالتقرير المزبور حقيقة يرجع إلى نفي التمانع وعدم التوقّف رأسا ، وذلك لأنّه إذا قيل : إنّ ترك الضدّ إنّما يتوقّف على فعل ضدّه في الآن الثاني لا في آن الفعل كان معناه أنّهما غير متمانعين في الآن الأوّل ، إذ لو كانا متمانعين لكان عدم كلّ منهما موقوفا على وجود الآخر ، لأنّ عدم الممنوع مستند إلى وجود المانع ، فلا وجه لجعل الصلاة - مثلا - مانعة عن الإزالة في وقتها مع عدم كونها مقدّمة سببيّة لعدم الإزالة.

ص: 525

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ عدم الممنوع لا يجب استناده إلى (1) وجود المانع ، لإمكان استناده إلى فقد شيء من أجزاء المقتضي أو شرائطه ، فحينئذ لا ملازمة بين كونهما متمانعين في الآن الأوّل أيضا وبين استناد عدم أحدهما إلى وجود الآخر ، كاستناد عدم الإزالة إلى وجود الصلاة ، لجواز استناد عدم الإزالة (2) في آن الصلاة إلى عدم المقتضي ، فيكون عدم الإزالة مقدّمة لوجود الصلاة لكونه عدم المانع ، ولكن لا يكون وجود الصلاة مقدّمة لعدم الإزالة (3) المقارن معها في الوجود حتّى يلزم الدور.

وفيه : أنّ قضية التمانع شأنيّة وجود كلّ منهما لعلّية عدم الآخر في جميع الآنات ، لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم وإن لم يكن مقتضاه دوام العلّية فعلا ، ولا ريب أنّ موجب الدور إنّما هو هذه الشأنيّة لا دوام العلّية ، لأنّه يكفي في لزوم الدور أن يكون توقّف ترك أحدهما على فعل الآخر في زمانه أمرا جائزا وممكنا ، إذ المفروض أنّ الترك مقدّمة للفعل دائما ، فإذا جاز توقّف الفعل أيضا على الترك - ولو في بعض الصور - لزم توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه ، وهذا مستحيل جدّا.

نعم ، لو قيل بما ذكره المحقّق المزبور آنفا : من أنّ علّية وجود أحد الضدّين لعدم الآخر مبنيّة على اجتماع وجوده مع مقتضي الآخر ؛ نظرا إلى أنّ المانع لا يكون علّة لعدم الممنوع إلاّ بعد وجود مقتضيه واجتماعهما ممّا يجوز

ص: 526


1- العبارة في النسخ : « لا يجب على وجود المانع » فصحّحت في ( ط ) بما أثبتناه ، وفي ( ع ) : « لا يجب أن يستند على الدوام إلى وجود المانع ».
2- في ( ط ) : الإرادة.
3- في ( ط ) ونسخة بدل ( ع ) : الإرادة.

دعوى استحالته ، لاستريح (1) عن الدور ، لاستحالة توقّف الترك على الفعل في حين وجوده على هذا التقدير. ولكنّك عرفت ما فيه.

هذا تمام كلام المحقّق الخوانساري في الجواب عن الدور.

وأجاب عنه المحقّق الأصفهاني في حاشيته على المعالم في كلام طويل ، وذكره بطوله يوجب الملال ، غير أنّا نذكر خلاصة مجموع فقراته ، ومن أراد الاطّلاع عليه تفصيلا فليرجع إلى الحاشية المزبورة.

قال : ويرد على الثاني - يعني الدور - : أنّ وجود الضدّ من موانع وجود الضدّ الآخر مطلقا ، فلا يمكن فعل الآخر إلاّ بعد تركه ، وليس في وجود الآخر إلاّ شأنيّة كونه سببا لترك ذلك الضدّ ، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشيء في وجود المانع منه ، فإن انتفاء كلّ من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لتركه ، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقّف له على السبب المفروض حتّى يرد الدور. وهذا مع ما ذكره الخوانساري بقوله : « وأمّا ثانيا » - وقد تقدّم - متقاربا متوافقا المراد ، بل متّحدان حقيقة ، كما هو ظاهر للمتأمّل.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه إذا فرض انتفاء سائر الأسباب وانحصار الأمر في السبب المفروض - يعني وجود المانع الذي هو الضدّ - فيجيء الدور.

ثمّ أجاب عنه : بأنّ هذا الفرض غير ممكن ؛ لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته ، وهي كافية في التسبيب لترك ضدّه ، فليس يوجد مقام كان ترك الضدّ مستندا إلى نفس وجود ضدّه ، لوضوح أنّ الفعل مسبوق بالإرادة وهي صارفة من الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يجري الكلام المزبور بالنسبة إلى إرادة الضدّ ، لمضادتها مع الضدّ الآخر ، لامتناع اجتماعهما.

ص: 527


1- كذا في ظاهر ( ع ) ، وفي ( م ) ومحتمل ( ط ) : لا مسرح.

ثمّ أجاب عنه : بمنع المضادّة وأنّ مجرّد امتناع الجمع بين الأمرين لا يقتضي المضادّة ، إذ قد يكون الامتناع عرضيّا - كما في المقام - فإنّ امتناع اجتماع إرادة أحد الضدّين مع الضدّ الآخر من جهة تضادّ هذه الإرادة لإرادة الآخر ، ولذا كان إرادة أحدهما صارفة عن الضدّ الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يجري الكلام بالنسبة إلى الإرادة المفروضة وإرادة الضدّ الآخر فيلزم الدور ، لأنّ حصول الإرادة المفروضة سبب لعدم إرادة الضدّ الآخر ؛ لما ذكر من أنّ وجود أحد الضدّين سبب لانتفاء الآخر ، مع أنّ وجودها يتوقّف على انتفاء الآخر بناء على كون عدم الضدّ شرطا في حصول الآخر.

ثمّ أجاب عنه : بأنّ إرادة الفعل وعدمها إنّما يتفرع على حصول الداعي وعدمه ، فقد لا يوجد الداعي مع الضدّ أصلا فيتفرّع عليه عدم الإرادة من غير أن يتسبّب ذلك من إرادة الضدّ الآخر بوجه من الوجوه. وقد يوجد الداعي لكن يغلبه الداعي إلى الضدّ الآخر المأمور به مثلا ، فلا يكون عدم الإرادة حينئذ أيضا مستندا إلى إرادة الضدّ بل إلى غلبة داعيه ، وعلى أيّ حال فلا تأثير لنفس الإرادة في انتفاء الإرادة الاخرى.

ولا يخفى عليك أنّ منع استناد انتفاء إرادة الضدّ إلى إرادة ضدّه هنا مناف لما ذكره في الجواب عن السؤال الأوّل من أنّ إرادة الضدّ كافية في التسبيب لترك ضدّه ، فتدبّر جدّا.

ثم أورد على نفسه : بأنّا نجري الكلام والإيراد بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى الضدّ المأمور به وغلبة الداعي إلى ضدّه ، لكونهما ضدّين أيضا ، وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضدّه ، والمفروض توقّف الرجحان المزبور على انتفاء رجحان داعي الضدّ ، فيلزم الدور.

ثمّ أجاب عنه : بأنّه لا سببيّة بين رجحان داعي الفعل وبين انتفاء رجحان

ص: 528

داعي ضدّه ، بل رجحان الداعي إلى الفعل إنّما يكون بعين مرجوحيّة الداعي إلى الضدّ ، فهما حاصلان في مرتبة واحدة من غير توقّف بينهما حتّى يتقدّم أحدهما على الآخر في الرتبة ، فرجحان الداعي إلى المأمور به - مثلا - مكافئ في الوجود بمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه ، إذ الرجحانيّة والمرجوحيّة من الامور المتضايفة ، ومن المقرّر عدم تقدّم أحد المتضايفين على الآخر في الوجود.

قال في أواخر كلامه : وتوضيح المقام أنّ الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل الإيجاب والسلب فلا توقّف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر ، إذ حصول كلّ من الجانبين عين ارتفاع الآخر ، وكذا الحال في تقابل العدم والملكة ، وقد عرفت عدم التوقّف في تقابل التضايف أيضا ، وأما المتقابلان على سبيل التضادّ فيتوقّف وجود كلّ على عدم الآخر ، إلاّ أن يرجع الأمر فيها إلى أحد الوجوه الأخر كما في المقام (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

ويرد عليه - بعد إمكان المناقشة في كثير من الكلمات المزبورة - أمران :

أحدهما : أنّ خاتمة كلامه قد استقرّت على أنّ ترك الضدّ أبدا معلول لانتفاء السبب الداعي أعني غلبة رجحانه ، فلا يكون مقام يستند فيه إلى وجود الضدّ الآخر أو إلى سبب وجوده ، وعند ذلك امتنع أن يكون أحد الضدّين مانعا عن الآخر ، لأنّ المانع من شأنه استناد عدم الممنوع إليه ، فلا يكون عدمه مقدّمة لوجود الآخر ، إذ المقدّمية إنّما جاءت من جهة كونه مانعا وكون عدم المانع شرطا. والعجب! أنّه اعترف في صدر كلامه بذلك ومع ذلك قال متّصلا به : إنّ انحصار سبب ترك الضدّ في فعل الضدّ الآخر غير ممكن.

وبالجملة ، أنّه رحمه اللّه لمّا تصدّى لدفع الدور نظر إلى الواقع والحقّ وأفاد ما

ص: 529


1- هداية المسترشدين 2 : 224 - 227.

حاصله : أنّ فعل الضدّ وترك الضدّ الآخر من المقارنات الاتّفاقيّة نظرا إلى تقارن علّتيهما - يعني علّة وجود أحدهما وعلّة عدم الآخر ، وهما غلبة رجحان داعي الوجود ومرجوحيّة داعي المعدوم - وغفل عن كون هذا التحقيق نفيا للتوقّف رأسا.

والثاني : أنّ تقدّم أحد الأمرين على الآخر لا يمكن إلاّ إذا كان علّتاهما مختلفتين في الرتبة ، حتّى أنّه إذا فرض مساواة الشيئين في الرتبة امتنع تقدّم معلول أحدهما على الآخر. وحينئذ لا يجوز أن يكون أحد المعلولين مقدّمة لوجود الآخر ، إذ المقدمة سابقة على ذيها رتبة ، والفرض أنّهما في المرتبة سواء ، لاستواء علّتيهما.

إذا تحقّق ذلك ، فنقول : إنّه رحمه اللّه جعل علّة وجود أحد الضدّين غلبة الداعي إليه ، وجعل علّة عدم الآخر مرجوحيّة الداعي إليه ، وجعل هاتين العلّتين من المتضايفات التي اعترف بعدم تقدّم أحدهما على الآخر رتبة ، قائلا بأنّ أحدهما متحقّق بعين تحقّق الآخر ، كما هو صريح كلامه. وعلى هذا فالحكم بتوقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر وكون العدم هذا مقدّمة لوجود الآخر من العجائب!

فالحقّ أنّه لا مدفع للدور على تقدير كون الترك مقدّمة للفعل ، وأنّ جميع ما قيل في دفعه يرجع بالأخرة إلى نفي التوقّف وتحقّقه.

نعم ، التفصيل الذي نقلنا في صدر المسألة عند ذكر الأقوال من المحقّق الخوانساري : من أنّ الضدّ إذا كان موجودا كان رفعه مقدّمة لمجيء الآخر ، ممّا أمكن الركون إليه من غير أن يكون فيه دور.

وإلى هذا أشار بقوله متّصلا بما حكينا عنه سابقا :

وهنا كلام آخر ، وهو : أنّه يجوز أن يقال : إنّ المانع إذا كان موجودا فعدمه ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء ، وأما إذا كان معدوما فلا ، نظير ما قال المحقّق الدواني : إنّ عند إمكان اتّصاف شيء بالمانعيّة يكون عدم المانع موقوفا عليه ، وأمّا إذا لم يمكن اتّصاف الشيء بالمانعيّة فلا يكون حينئذ عدم المانع موقوفا عليه ، وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور من حمل كلامه على ظاهره أيضا.

ص: 530

قال : وبالجملة ، الحكم بمانعية الأضداد ممّا لا مجال لإنكاره. وفي كلام الشيخ الرئيس أيضا التصريح بمانعيّتها. كيف! وأيّ شيء أولى بالمانعيّة من الضدّ؟ فلا وجه للإيراد على المجيب : بأنّه جعل الضدّ مانعا. نعم لو قيل بأنّ عدم المانع مطلقا ليس موقوفا عليه بل هو من مقارنات العلّة التامّة - كما ذهب إليه بعض - لم يكن بعيدا ، لكن هذا بحث لا اختصاص له بالمجيب وبمقامنا هذا (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وخلاصة مراده : أنّه لا ريب في تمانع الأضداد وأنّ وجود أحدهما يمنع من وجود الآخر ، ولكن لا ملازمة بين كون الشيء مانعا وبين كون عدمه (2) مقدّمة ، لأنّ عدم المانع إذا كان مقارنا للعلّة التامّة أو سابقا عليها لم يكن موقوفا عليه ، إذ لا توقّف حينئذ للمعلول إلاّ على وجود علّته التامّة ، وأمّا إذا كان مؤخّرا عنها - بأن اجتمعت العلّة في الوجود مع وجود المانع - كان عدمه موقوفا عليه.

وحينئذ فالذي يقتضيه تمانع الأضداد إنّما هو توقّف وجود الضدّ المعدوم على ارتفاع الضدّ الموجود أيضا ، وأمّا توقّف الضدّ الموجود أيضا على عدم الضدّ المعدوم الذي كان عدمه سابقا على علّة الموجود أو مقارنا معها فلا. وحينئذ لا يلزم الدور في شيء ، لأنّا إذا فرضنا البياض شاغلا للمحلّ كان وجود السواد حينئذ في ذلك المحل موقوفا على ارتفاع البياض ، لاستحالة اجتماعهما ، ولكن وجود البياض الموجود ليس موقوفا على عدم السواد ؛ لأنّ هذا العدم سابق على علّة البياض أو مقارن معها ، فلا يكون وجود السواد المعدوم سببا لرفع البياض الذي كان مقدّمة لوجود السواد حتّى يلزم الدور ، لأنّ السواد إنّما يكون علة لرفع البياض إذا كان عدمه شرطا ، وبعد أن بنينا على أنّ عدم السواد المعدوم ليس مقدّمة شرطيّة لوجود البياض لم يكن وجه لعليّة السواد لعدم البياض.

ص: 531


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 150 - 151.
2- في ( ع ) : كونه.

هذه خلاصة مراده ، وهي خير ما يقال في هذا المقام ، ولذا جنح إليه الاستاذ - دام ظله المتعال - إلاّ أنّهما مع ذلك لا يخلو عن المناقشة ، والإشكال من وجوه :

الأوّل : أنّ جعل عدم المانع المقارن مع العلّة أو المتقدّم (1) غير موقوف عليه غير ظاهر وجهه ، إذ لا نجد فرقا بين العدم المتقدّم أو المتأخّر من حيث عدم إمكان تحقّق المعلول بدونه (2). وهذا خلف.

نعم ، الفرق بينهما هو : أنّ العدم المقارن أو المتقدّم مقدّمة حاصلة ، والعدم المتأخّر مقدّمة غير حاصلة ، وهذا القدر من الفرق لا يقتضي عدم التوقّف رأسا في الأوّل ، وإلاّ لانحصر المقدّمة في العلّة التامّة إذا كانت مركّبة من أجزاء مترتّبة (3) في الوجود ، لأنّه إذا تحقّقت الأجزاء والشرائط إلى أن انتهت إلى الجزء الأخير صدق أنّ المعلول في هذا الحال لا يتوقّف وروده إلاّ على ذلك الجزء ، فيلزم أن لا يكون أجزاء العلّة وشرائطها من المقدّمات ، وفساده واضح.

وحينئذ فالدور باق بحاله ، لمكان توقّف البياض المفروض وجوده على عدم السواد المفروض عدمه أيضا المقتضي لكون وجود السواد علّة لرفع البياض الذي كان موقوفا عليه لوجوده.

الثاني : أنّ رفع الضدّ الموجود إنّما يجوز أن يكون مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم إذا كان وجود الضدّ الموجود مانعا عن مجيء الآخر المفروض عدمه ، لأنّ المقدّمية إنّما اخذت من جهة كون الضدّ مانعا وعدمه شرطا ، ومن المعلوم أنّ الموجود إنّما

ص: 532


1- في ( ع ) : والمتقدّم.
2- في هامش ( ع ) زيادة ما يلي : وإلاّ لخرج المانع عن كونه مانعا وكان وجود المعلول بدون هذا العدم يعني مع وجود المانع ممكنا.
3- في ( ع ) و ( م ) : مرتّبة.

يكون مانعا عن المعدوم إذا كان تمام مقتضيه وشرائطه موجودا حتّى يكون سبب العدم وجود الموجود ، وإلاّ لم يكن مانعا فعلا بل شأنا ، فلا يكون رفعه مقدّمة.

وأيضا قضيّة ما ذكره : من أنّ مطلق عدم المانع ليس بموقوف عليه ، هو أن يكون تمام ما يقتضي وجود الضدّ الآخر المفروض عدمه موجودا في حال وجود الضدّ المفروض وجوده حتّى يكون رفعه مقدّمة ، إذ لو اعتبر الرفع المزبور قبل استكمال علّة وجود الضدّ المعدوم لكان هذا داخلا في أقسام عدم المانع المقارن مع العلّة أو المقدّم ، فلا يكون باعترافه مقدّمة ، فمقدّمية رفع الضدّ الموجود موقوف على اعتبار ملاحظته بعد استكمال أجزاء المقتضي للضدّ المعدوم وشرائطه ، فيلزم حينئذ أن يجوز اجتماع وجود أحد الضدّين مع تمام مقتضي الضدّ الآخر ، مع أنّه رحمه اللّه قد اعترف - فيما تقدّم في جواب السبزواري - بأنّ الصلاة لا يمكن أن تكون علّة لعدم الزنا إلاّ إذا فرض تحقّق جميع أجزاء علّة الزنا من الشوق والإرادة ونحوهما حتّى يستند عدم الزنا حينئذ إلى وجود المانع فقط ، فيكون هو العلّة للعدم دون فقد المقتضي ، وأنّ هذا يجوز أن يكون محالا (1). وحينئذ كيف يتمكّن هنا من جعل رفع الضدّ الموجود مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم؟ مع أنّ مقدّمية ذلك - بناء على كلامه من عدم كون مطلق عدم المانع مقدّمة - مبنيّة على فرض وجود علّة الزنا مثلا مع الصلاة مثلا حتّى يكون عدم الصلاة مقدّمة لترك الزنا. نعم ، نحن لمّا منعنا استحالة ما ذكر وقلنا بأنّه يمكن اجتماع أحد الضدّين مع تمام مقتضى الضدّ الآخر وبيّنا ذلك ، أمكن لنا دعوى كون رفع الضدّ الموجود مقدّمة للضدّ المعدوم.

ولكن الإنصاف أنّ هذا كلام صدر منه من جهة الاحتمال والمناقشة في المقال ،

ص: 533


1- كذا ، ولم نتحقق معنى العبارة ، ولعلّ فيها سقطا أو تصحيفا.

فإنّ الحكم بذلك (1) بجواز اجتماع وجود أحد الضدّين مع تمام مقتضى الآخر لا يخلو عن إشكال وتأمّل ، إذ لو جاز ذلك لجاز اجتماع نفس المقتضيين أيضا قبل تحقّق أحد الضدّين ، إذ لا مدخليّة لتحقّقه في إمكان اجتماع المقتضيين وامتناعه ، وحينئذ يلزم الدور إذا اجتمعا في الوجود ولو في محلّين مختلفين ، لأنّ تأثير كلّ منهما أثره يتوقّف حينئذ على عدم تأثير الآخر ، ضرورة استحالة تأثيرهما معا لاستلزامه الجمع بين الأثرين المتضادّين ، مع أنّ عدم تأثير كلّ منهما لا سبب له إلاّ تأثير الآخر ، فيلزم الدور.

اللّهم إلاّ أن يدّعى الفرق بين اجتماع سبب الضدّين في الوجود معا من دون تقدّم أحدهما على الآخر ، وبين اجتماعهما متعاقبا بأن يتحقّق أحدهما أوّلا فيؤثّر أثره ثمّ يتحقّق الآخر ، فإنّ الأوّل مستحيل لما ذكر ، بخلاف الثاني فإنّه إذا فرض أنّ سبب أحد الضدّين وجد في حال عدم سبب الآخر كان تأثيره ممّا لا مانع له ، ثمّ بعد أن أثّر أثره فلا استحالة في وجود سبب الآخر في محلّ آخر ، لأنّ هذا السبب حينئذ لا يؤثّر تأثيرا باعتبار وجود المانع الذي قد سبقه ، أعني تأثير السبب المفروض وجوده سابقا.

إلاّ أنّ هذه الدعوى في الفرق أيضا لا تخلو عن حزازة وإشكال ، كما يظهر للمتأمّل الدقيق.

وكيف كان ، فمن يقول باستحالة ذلك يعني اجتماع أحد الضدّين مع تمام سبب الآخر وشرائطه - كالمحقّق على ما سمعت عنه في السابق في الجواب عن السبزواري - فلا يجوز له الحكم بمقدّميّة رفع الضدّ الموجود لوجود المعدوم ، بل ينبغي له أن يجعل رفعه ووجود المعدوم معلولي علّة واحدة أو علّتين متساويتين في الرتبة ، كما عرفت عن الشيخ في الحاشية ، فإذن لا يكون توقّف بينهما جدّا.

ص: 534


1- في ( ع ) زيادة : يعني.

الثالث : أنّ ما ذكره من التفصيل - بعد الغضّ عن جميع ما ذكرنا وقبول حجّته (1) - إنّما يتمّ في الأضداد القارّة كالسواد والبياض ، وأمّا في الأضداد الغير القارّة - كالحركة والسكون وغيرهما من أفعال المكلّفين التي كلامنا فيها - فلا سبيل إليه ، لأنّا نعلم بالضرورة والوجدان أنّ المشتغل بالصلاة مثلا إذا حصل له ما يقتضي الإزالة مثلا - من الشوق والإرادة والعزم وغير ذلك من الامور التي لا بدّ منها في تحقّق الأفعال الاختياريّة - فيقطع الصلاة قهرا ، فيكون انقطاعها ووجود الإزالة في مرتبة واحدة من الوجود لا يمكن جعل أحدهما من مقدّمات وجود الآخر جدّا ؛ على أنّ المحتاج إليه في تحقّق الإزالة إنّما هو خلوّ زمانها عن فعل الصلاة مثلا ، ولا ريب أنّ قطع الصلاة ورفعها لا حاجة للإزالة إليهما إلاّ من جهة تفريغ زمانها عن فعل ضدّها كالصلاة ، فيكون الذي يتوقّف عليه فعل الإزالة حقيقة هو عدم الصلاة في زمان ذلك الفعل مطلقا ، سواء كان مسبوقا بالوجود فرفع أو كان باقيا على الحالة الاولى ، وحينئذ فجعل الرفع من مقدّمات مجيء الضدّ المعدوم حقيقة يرجع إلى كون مطلق عدم الضدّ من المقدّمات ، فيكون الرفع مقدّمة لتحصيل المقدّمة التي هي خلوّ زمان الضدّ عن ضدّه ، فيعود الدور الذي كان رفعه موقوفا على عدم كون مطلق العدم من المقدّمات.

فتدبّر جيّدا في المقام ، فإنّه مزلّة للأقدام ومعركة للآراء ومن غوامض المطالب. ولا أظنّك بعد الإحاطة بجميع ما تلونا عليك حقّ الإحاطة والتأمّل فيه كمال التأمّل ذا مرية في عدم توقّف شيء من فعل الضدّ على فعل ضدّه وتركه (2) ، وإن اشتهر توقّف الفعل على الترك خاصّة من دون عكس بين كثير من أعاظم

ص: 535


1- في ( م ) و ( ط ) : حجّتيه.
2- في مصحّحة ( ع ) : من فعل الضدّ وتركه على وجود فعل ضدّه وتركه.

الأصحاب (1) ، فإنّ الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو والشهرة قد تكذب ، وكم ترك الأوّلون للآخرين! نعم ، قد يتّفق توقّف ترك أحد الضدّين في ثاني الزمان على إيجاد ضدّه في الزمان السابق ، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ، كما عرفت مثاله وبيانه في كلام المحقّق الخوانساري عند الاعتذار عن المجيب عن شبهة الكعبي (2). واللّه العالم بحقائق الأشياء.

ص: 536


1- تقدّم كلامهم في الصفحة 517.
2- انظر الصفحة : 523 - 524.
المقدّمة الثانية : في تحرير محلّ النزاع

من حيث ضيق المأمور به وسعته ، أو وجوبه واستحبابه ، أو تخييره وتعيينه ... إلى غير ذلك من الوجوه المتصوّرة في الأوامر. وهكذا في الضدّ.

قال الفاضل القمّي أعلى اللّه مقامه : موضع النزاع ما إذا كان المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا ، ولو كانا موسّعين فلا نزاع. وأمّا لو كانا مضيّقين فيلاحظ ما هو الأهمّ. وقد يفصّل : بأنّ الضدّين إمّا كلاهما من حقّ اللّه أو من حقّ الناس أو مختلفان ، وعلى التقديرات : إمّا معا موسّعان أو مضيّقان أو مختلفان. فمع ضيق أحدهما الترجيح له مطلقا ، ومع سعتهما التخيير مطلقا. وأمّا الثاني فمع اتّحاد الحقيقة التخيير مطلقا ، إلاّ إذا كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع كحفظ بيضة الإسلام ، ومع اختلافهما الترجيح لحقّ الناس إلاّ مع الأهميّة (1) ، انتهى كلامه.

ويمكن المناقشة في هذا الكلام :

أوّلا : بأنّ إخراج الموسّعين عن محلّ النزاع ممّا لا وجه له ، فإنّ الملازمة التي أثبتوها بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه عقليّة سارية في جميع الأوامر ، فكما أنّ الأمر المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه الموسّع كذلك الأمر الموسّع يقتضي ذلك من غير فرق ، والحاكم بذلك هو العقل على القول بالاقتضاء. غاية الأمر أنّ النهي في الموضعين يختلف حسب اختلاف الأمرين ، فالأمر المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه على جهة التضييق والتعيين ، والأمر الموسّع يقتضيه على جهة التوسعة والتخيير ،

ص: 537


1- القوانين 1 : 113.

فالأضداد الواقعة في وقت الإزالة - مثلا - منهيّة على سبيل الضيق ويجب الاجتناب عنها فورا مضيّقا معيّنا ، والأضداد الواقعة في وقت الصلاة منهيّة توسعة فيجب الاجتناب عنها في مقدار فعل الصلاة من أوّل الوقت إلى آخره. وهكذا الكلام في المضيّقين المتساويين في الأهمّية ، فإنّ قاعدة الاقتضاء المزبورة قاضية باقتضاء كلّ منهما النهي عن الآخر على سبيل التخيير العارض للأمرين باعتبار التزاحم والتكافؤ.

وقد يجاب عنها أوّلا : بأنّه لا مضايقة في القول بخروج الموسّعين والمضيّقين عن تحت النزاع ؛ لعدم جدواه وانتفاء الثمرة المذكورة لهذا النزاع فيهما ، ضرورة معلوميّة عدم اقتضاء النهي التوسّعي التخييري المستفاد من الأمر الموسّع أو المضيّق بالنسبة إلى مضيّق آخر التحريم والفساد ، ولا فائدة حينئذ في تعميم البحث بالنسبة إلى غير الموسّع والمضيّق.

وثانيا : بأنّ المتبادر من الأمر والنهي المشتمل عليهما عنوان المسألة في كلام الأوائل والأواخر إنّما هو الإلزام في الفعل والترك على سبيل الضيق والتحتّم والتعيين ، وهذا النحو من الأمر والنهي مختصّ بما إذا كان المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا ، إذ قد عرفت أنّ في شيء من الموسّعين والمضيّقين ليس إلزام في فعل شيء معيّن أو تركه ، بل التوسعة وتزاحم المضيّقين قاضيان بالرخصة في فعل كلّ فرد وتركه. أمّا الرخصة في الترك فواضح في الموضعين. وأمّا الرخصة في الفعل ففي الموسّعين أيضا واضح ، لمعلوميّة أنّه إذا اجتمع واجبان موسّعان جاز للمكلّف فعل كلّ واحد منهما إلى تضايق وقت أحدهما ، فالنهي الذي يقتضيه الأمر بالموسّع موسّع مثل الأمر بمعنى أنّه يجوز للمكلّف فعل الضدّ في جميع أزمنة وجوب المأمور به ما لم يتضيّق وقته ، فيتعيّن الاجتناب حينئذ لذلك ، يعني لأجل مزاحمة المضيّق والموسّع. وأمّا الرخصة في الفعل في المضيّقين فلأنّه الأصل في تزاحم الواجبين ، إذ المرجع

ص: 538

فيهما التخيير ، فيفعل المكلّف ما شاء. وهذا معنى الرخصة في الفعل - أي فعل ضدّ المأمور به - المنافية للنهي التضييقي التعييني.

هذا ويمكن أن يقال بما ذهب إليه جماعة من الاصوليّين من : أنّ التخيير في النواهي غير جائز ، بمعنى أنّه ليس حال النهي والأمر في الانقسام إلى التخييري والتعييني سواء ، لأنّه لا مانع من أن يكون المأمور به أحد هذه الامور على سبيل البدليّة والتخيير كالخصال ، ولكن المنهيّ عنه لا يجور أن يكون كذلك ، لأنّ النهي عن أحد هذين الأمرين أو الامور يستلزم تحريم الجميع.

وهذا المذهب وإن كان سخيفا مختار المعتزلة (1) ، إلاّ أنّه به يتعيّن كون محلّ النزاع ما ذكره ، إذ الموسّعان والمضيّقان لا يكون فيهما نهي على هذا المذهب ، لعدم جواز النهي عن الضدّ في وقت ما (2) في الموسّعين أو عن ضدّ ما (3) في المضيّقين.

وكيف كان ، فلا إشكال في سريان النزاع إلى سائر أقسام الواجبات : من العيني والكفائي ، والتخييري والتعييني ، والنفسي والغيري ، والتعبّدي والتوصّلي ، والأصلي والتبعي ، بمعنى أنّ المضيّق من هذه الواجبات يقتضي النهي عن الموسّع منها ، سواء كانا متجانسين بأن دار الأمر بين المضيّق والموسّع من العيني والكفائي ...

وهكذا مثلا ، أو مختلفين بأن كان المضيّق من العيني مثلا والموسّع من الكفائي أو التخييري وبالعكس ، فإنّه على القول بالاقتضاء وعدمه فهذه الواجبات متساوية الأقدام. ولعلّ إطلاق كلام الفاضل القمّي رحمه اللّه يشملها أيضا.

وثانيا : بأنّ حصول النزاع فيما إذا كان الضدّ من الواجبات الموسّعة غير جيّد ، لأنّهم يتفرّعون (4) على هذه المسألة حرمة السفر وفساد المعاملات مع عدم

ص: 539


1- كما حكى عنهم الآمدي في الإحكام 1 : 157 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 53.
2- في ( ع ) كتب فوق « ما » : كما.
3- في ( ع ) كتب فوق « ما » : كما.
4- كذا ، والمناسب : « يفرّعون ».

كونها من الواجبات جدّا ، فضلا عن كونها موسّعين. فالتحقيق إرخاء عناء البحث إلى أودية المباحات والمكروهات والمستحبّات أيضا ؛ لأنّ اقتضاء الأمر المضيّق النهي عن الضدّ لا اختصاص له بما إذا كان الضدّ واجبا كما لا يخفى. ولعلّ نظره رحمه اللّه إلى قلّة جدوى البحث فيما عدا الواجب الموسّع ؛ لأنّ الثمرة المعتدّ بها هي فساد الضدّ.

ولعلّ الفساد عند الكلّ أو الجلّ لا يثبت إلاّ للضدّ الذي كان من العبادات ، لأنّهم لا يقولون بفساد المعاملة بمثل هذا النهي المتولّد من الأمر ، ولا بحرمة السفر على وجه يترتّب عليه آثار التحريم من الإتمام والإمساك.

لكن ومع ذلك يرد عليه : أنّ الواجب الموسّع يشمل العبادي والتوصّلي ، مع أنّ الثمرة المزبورة - وهي الفساد - غير ظاهرة في التوصّلي ، فكان عليه بعد الإغماض عن خروج المباحات والمكروهات والمستحبّات تقييد الموسّع بالعبادي.

وأيضا من مواضع جريان هذا النزاع ما إذا كان المأمور به مضيّقا عينيا كالصوم - مثلا - والضدّ مضيّقا تخييريّا كما سنبيّنه ، ومن المعلوم خروج هذا عن محلّ النزاع لو خصّص الضدّ بالواجب الموسّع.

ويدفع جميع هذه المناقشات جعل « الموسّع » في كلامه عبارة عمّا لا حرج ولا ضيق فيه مثل الضيق الذي في المأمور به ، لا المصطلح عليه عند الاصولي ، لأنّ الموسّع بهذا المعنى يشمل المباح في مقابل المضيّق بل الموسّع أيضا. لكن يلزم حينئذ أن يقال بفساد جميع المستحبّات في حقّ من عليه واجب موسّع - كصلاة الرخصة - لأنّ المستحبّ سواء كان موسّعا أو مضيّقا في مقابل الواجب ، ولو كان موسّعا يصدق عليه أنّه « موسّع زاحم المضيّق » فيلزم أن يتوجّه النهي إلى المستحبّ فيفسد. ولكنّه سهل بعد ما عرفت آنفا من أنّ النهي المتولّد من الأمر الموسّع ليس منشأ لشيء من آثار التحريم ؛ لأنّه نهي تخييري مرجعه إلى أنّه إن شاء يفعل وإن شاء يترك إلى أن ينتهي الأمر إلى الضيق المقتضي للنهي العيني المقتضي للفساد.

ص: 540

ثمّ إنّ جهات الضيق والتوسعة (1) - على المعنى الذي فسّرناهما به ( وهو الحقّ ) من كون الأوّل عبارة عن مطلق الحرج والثاني عبارة عن خلافه - يختلفان باختلاف الجهات والاعتبارات.

فمن وجوه الضيق والتوسعة : أن يكون زمان المأمور به مضيّقا وزمان الضدّ موسّعا. وهذا أظهر الوجوه وأشهرها ، ومثاله واضح.

ومنها : أن يكون المأمور به واجبا عينيّا مضيّقا بحسب الزمان - كالصوم مثلا - وكان الضدّ أيضا واجبا مضيّقا ولكن كان تخييريّا لا عينيّا ، مثل ما إذا كان على المكلّف كفّارة الخصال فورا وكان بعض أقسامها منافيا للصوم الذي فرض وجوبه عينيّا مضيّقا ، فإنّ الأمر بالصوم المزبور يقتضي النهي عن الضدّ المفروض وجوبه تخييريّا ، إذ يجب على المكلّف حينئذ اختيار الفرد الآخر الغير المنافي للصوم من أفراد الكفّارة. ومثل ما إذا وجب عليه السفر للزيارة بنذر مضيّقا وكان عليه إحدى الكفّارات على سبيل الضيق أيضا ، فإنّه يجب عليه اختيار غير الصوم من الكفّارة بناء على مضادته شرعا مع السفر ، فالأمر المضيّق يقتضي النهي عن المضيّق أيضا إذا اختلفا من حيث العينيّة والتخييريّة.

ومنها : أن يكون الضدّ مستحبّا ، فإنّ الأمر الوجوبي المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه المستحبّ ولو كان مضيّقا أيضا. وغير ذلك من الوجوه التي لا تخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ التفصيل الذي ذكره بقوله : « وقد يفصّل » ممّا لا غبار عليه ؛ لأنّا نقول أيضا : إنّه إذا تزاحم المضيّق والموسّع فالترجيح للأوّل مطلقا ، وإذا تزاحم المضيّقان فالحكم هو التخيير إن لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع.

ص: 541


1- في ( م ) و ( ط ) : في التوسعة.

ومن وجوه الأهميّة غالبا : كون أحدهما من حقوق الناس. ولكنّه ربما يكون الاهتمام في حقّ اللّه - كحفظ نفس الإمام وبيضة الإسلام (1) - أهمّ في نظر الشارع قطعا. والدليل على التخيير عند التساوي ، هو : أنّ الحكم بأخذ أحدهما معيّنا لا بدّ له من ترجيح ، وإلاّ لكان تحكّما وترجيحا بلا مرجّح ، والمفروض مساواتهما في الرجحان. وليس هذا التزام تخصيص في دليل أحدهما ، لأنّا نعلم قطعا ببقاء إطلاق الأمر فيهما معا ، ولكن الذي يدعونا إلى ترك أحدهما تخييرا هو تعذّر الامتثال بهما معا ، فكان العقل لمّا رأى (2) مساواتهما في نظر الشارع والمصلحة الكامنة الموجبة للطلب ورأى (3) عدم إمكان الجمع بين الامتثالين ، حكم بمعذوريّة المكلّف في ترك الامتثال بأحدهما لا على التعيين ، فخروج أحدهما من تحت الطلب الفعلي إنّما هو من جهة وجود المانع الذي هو تعذّر الامتثال ، لا فقدان المقتضي ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد منهما واجد للمصلحة المقتضية للأمر حال المزاحمة نحو وجدانهما إيّاها في غير حال المزاحمة ، وإلاّ لخرج المقام عن مقام تعارض الواجبين المفروض وجوبهما معا في آن واحد ، ففرق إذا بين أن يكون الخروج من المطلوبيّة بسبب فقدان المقتضي مثل قوله : [ « أنقذ الغريق إلاّ زيدا الكافر » وبين أن يكون الخروج باعتبار وجود المانع عن الامتثال مع وجود المقتضي مثل قوله ](4) : « أنقذ الغريق » الشامل لزيد وعمرو إذا فرض توقّف إنقاذ أحدهما على عدم إنقاذ الآخر ، فإنّ خروج أحدهما الكلّي من تحت الطلب الفعلي ليس باعتبار فقدان مقتضى الوجوب في أحد الإنقاذين ، بل باعتبار وجود المانع الذي هو تعذّر الامتثال.

ص: 542


1- في ( ع ) : زيادة : إذا زاحمه أداء الدين ، فإنّ الأوّلين.
2- في ( ع ) و ( ط ) : فكان الفعل لما كان.
3- في ( ع ) و ( ط ) : وراء.
4- من هامش مصحّحة ( ع ).

ولقد أغرب بعض الأفاضل (1) في المقام - على ما نقل - حيث جعل المرجّح في المقام ملاحظة أدلّة الواجبين حتّى خصّص عنوان البحث في هذه المسألة ، فقال : إنّ الأمر بالشيء إنّما يقتضي النهي عن الضدّ إذا كان دليل ذلك الأمر قطعيّا - كالإجماع والضرورة - ودليل وجوب الضدّ ظنّيا ، فإنّه لو كان الدليلان كلاهما قطعيّين فذاك فرض محال ، لأن الأمر بالضدّين في آن واحد ممتنع نحو امتناع اجتماعهما. وإن كان عكس الأوّل - بأن كان دليل الواجب ظنّيا ودليل الضدّ قطعيّا - فلا يقتضي الأمر الظنّي النهي عن الواجب القطعي الذي هو الضدّ. وإن كان دليل الواجب ودليل الضدّ كلاهما ظنّيين فيرجع إلى الترجيح ويؤخذ بالراجح ، فلا وجه لجعل أحدهما حينئذ ولو كان مضيّقا مقتضيا للنهي عن الآخر ولو كان موسّعا ، لاحتمال أن يكون الرجحان في طرف الموسّع.

ووجه غرابة هذا الكلام :

أوّلا : أنّ باب تزاحم الواجبين والحقّين باب آخر غير باب تعارض الأدلّة المطلوب فيها ملاحظة حيثيّة القوّة والضعف ؛ لأنّ الواجبين إنّما يكونان فردين من كلّي واحد ، كإنقاذ الغريقين الموقوف إنقاذ كلّ منهما على ترك إنقاذ الآخر. وهذا وإن كان ليس من موارد بحثنا في هذه المسألة ، ضرورة كونهما متساويين في الضيق والتوسعة حينئذ وكون الغرض الأصلي للاصولي متعلّقا بمزاحمة المضيّق والموسّع المقتضية للمغايرة بين الواجبين نوعا ودليلا ، إلاّ أنّه لا يبحث في هذه المسألة إلاّ عن حال الواجبين اللذين يبحث عنهما في تزاحم الحقوق من حيث كون العمل بكلّ من الدليلين مقطوعا به ولو كان أصل الدليل (2) ظنّيا ، وحينئذ

ص: 543


1- لم نقف عليه.
2- في ( م ) : « الدليلين ».

فلو كان دليل الواجب في كمال الضعف بالنسبة إلى فعل الضدّ كان كما لو تساويا في القوّة والاعتبار. وهذا واضح.

وثانيا : أنّ الغرض في عنوان هذه المسألة معرفة التنافي والمضادّة بين الأمر بالمضيّق والأمر بالموسّع ، فلا بدّ أوّلا من معرفة منافاتهما ثمّ الرجوع إلى الأدلّة في مقام العلاج بطرح ما كان دليله ظنّيا ، إلاّ أن يجعل الفرق بين القطعي والظنّي رفعا للمنافاة في صورة التساوي مثلا ، بأن يقال : إنّهما إذا كانا ظنّيين - مثلا - فلا يقتضي الأمر بالمضيّق منهما للنهي عن الموسّع ، أعني أنّه لا منافاة بينهما ، لأنّ المنافاة وعدمها لا يختلفان باتّفاق الدليلين في الاعتبار والقوّة واختلافهما ، فإن كان بين الأمر المضيّق والموسّع مضادّة فسواء كان دليلاهما قطعيّين أو ظنّيين أو مختلفين فهي ثابتة بينهما ، وإلاّ فلا وجه لملاحظة حال الدليلين في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ ، بل هو كلام في غاية البعد من الصدور عن الأفاضل ، ولذا تجد الكتب خالية عنه.

وكيف كان ، فالدليل على تقديم الأهمّ من المضيّقين على الآخر تتبّع أحوال الشارع وحكم العقل بذلك وقاعدة الاشتغال السارية في جميع المقامات التي يدور الأمر فيها بين التخيير والتعيين.

ودعوى صاحب الوافية أنّ الحقّ هو التخيير (1) أيضا فاسدة جدّا بعد العلم الضروري بأنّه إذا دار الأمر بين حفظ نفس الإمام وحفظ غيره فالأوّل أهمّ عند الشارع المقدّس وأوجب. اللّهم إلاّ أن يكون مراده بالأهمّ ما هو راجح في نظر المكلّف لا في نظر الشارع ، فإنّ الرجحان الذي يراه المكلّف من دون استناده إلى ما يرجع إلى الشرع غير معتنى به جدّا ، فلا يحكم بالترجيح بل بالتخيير.

ص: 544


1- الوافية : 223.

وطريق معرفة الأهمّية : تتبّع كلمات الشارع والآثار المترتّبة من قبله على ترك الواجب أو فعل الحرام ، فإنّا إذا رأيناه قد حكم بفسق الكاذب وكفر قاتل النبي صلى اللّه عليه وآله علمنا أنّ حفظ نفسه الشريفة أهمّ في نظره المقدّس من الاجتناب عن الكذب. والظاهر أنّ الظنّ بالأهمّية كاف في الحكم بالتخيير ؛ لأنّ العقل وقاعدة الاشتغال أيضا ناهضان على الحكم بذلك ، بل لا يبعد الحكم بالتعيين بمجرّد احتمال الرجحان والأهمّية ولو لقاعدة الاشتغال المزبورة السليمة عن المعارض.

ثمّ المرجّح فعلا يقتضي وجوب الترجيح بل استحبابه ، ومنه ما لو دار الأمر بين الاجتناب عن سبّ الإمام - عليه آلاف التحية والسّلام - وحفظ نفس آدميّ ، فإنّه مقام التخيير بين الأمرين على ما عزي (1) إلى أصحابنا - رضوان اللّه عليهم - مع استحباب مراعاة حفظ النفس ، سيّما في حق قدوة الناس ورئيسهم. ولا يتوهّم المنافاة بين قولنا بالترجيح الاستحبابي وقولنا المقدّم : من الحكم بالترجيح عند احتمال الرجحان ، لأنّ الفرق بين احتمال وجود الرجحان الملزم وبين القطع بعدمه ولوجود الرجحان الغير الملزم ما بين الأرض والسماء. وأمّا إنكار حسن الترجيح واستحبابه رأسا فممّا لا يصغى إليه لمكاذبته للوجدان والتتبّع.

ص: 545


1- لم نعثر عليه.
المقدّمة الثالثة : في معرفة المراد من « الشيء » و « النهي » المشتمل عليهما عنوان البحث

أمّا الأوّل ، فلعلّ الظاهر منه الشيء الوجودي ، ويمكن أن يراد به ما يعمّ التروك أيضا ، فيدخل فيه مثل « اترك الزنا » وعليه يتّجه القول بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ؛ لأنّ النهي عن ترك ترك (1) الزنا عبارة اخرى عن النهي عن فعله جدّا. كما يتّجه القول حينئذ بأنّ المراد بالنهي الذي يقتضيه الأمر بالشيء ما يعمّ الأصلي والتبعي ؛ لأنّ هذا النهي المستفاد من الأمر بالترك ليس إلاّ أصليّا ، كما أنّ النهي المتعلّق بالأضداد الخاصّة على القول بأنّ الأمر بها عين النهي عن أضدادها - حتّى أنّ الأمر بالسكون عبارة اخرى من النهي عن الحركة - يكون أيضا أصليّا ، فاتّضح المراد من النهي بأنّه يعمّ الأصلي والتبعي معا ، فمن خصّصه بالتبعي أو بالأصلي فقد سها.

ولعلّ ما أوقع المخصّص بالأصلي - كالقمّي طاب ثراه (2) - في خياله هذا ما رآه في كلمات الأصحاب في ذكر الثمرات : من بطلان الضدّ المصادم لوقت المأمور به كالصلاة الواقعة في وقت الإزالة ، فإنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير كون النهي المتعلّق بالضدّ أصليّا ، إذ النواهي التبعيّة لا تقتضي الفساد خصوصا في المعاملات ، فحيث حكموا ببطلان الضدّ على القول بالاقتضاء علم أنّ النهي المتنازع فيه هو النهي الأصلي عندهم.

ص: 546


1- في ( م ) و ( ط ) : تركه بترك.
2- القوانين 1 : 114.

ومن هنا ينقدح وجه كون الوجوب المتنازع فيه في بحث مقدّمة الواجب هو الوجوب الأصلي النفسي عنده رحمه اللّه كما تقدّم ؛ لأنّ حرمة الضدّ بزعمه إنّما تثبت من جهة المقدّميّة ، وإذ قد ثبت كون الحرمة هذه حرمة نفسيّة حاصلة من النهي النفسي الأصلي ثبت (1) أنّ الوجوب المتنازع فيه في بحث مقدّمة الواجب أصليّ شرعي.

والتحقيق عندنا - كما مرّ في ذلك المبحث - أنّ وجوب المقدّمة وجوب تبعيّ لا أصليّ ، وعلى هذا يلزم التعميم في النهي المتنازع فيه هنا ؛ لأنّ الحقّ الموافق للتحقيق والمشهور أيضا أنّ النهي المتعلّق بالأضداد الخاصّة - على القول به - ليس من جهة العينيّة ، بل من جهة الاستلزام أو المقدّميّة ، فلو خصّصناه بالنهي الأصلي فكيف ينطبق هذا على القول (2)؟

وأمّا ما ذكر : من أنّ حكمهم بفساد الضدّ يدلّ على كون النهي المتنازع فيه نفسيّا ، ففيه : أنّ منشأ الفساد إنّما هي المبغوضيّة ، والنهي إنّما يقتضي الفساد من جهة كشفه عنها ، والمبغوضيّة ليست من خصائص النهي الأصلي ، إذ قد يجتمع مع النهي التبعي أيضا ولو كانت المبغوضيّة أيضا تبعيّة ، وقد لا يجتمع مع النهي الأصلي ، إذ قد يكون النهي الأصلي غيريّا ، وقد تقدّم في مقدّمة الواجب أنّ الأوامر الغيريّة غير واجدة للمصالح أصلا إلاّ الوصلة إلى الغير فكذا النواهي ، فتدبّر جيّدا.

ص: 547


1- في ( ع ) بدل « ثبت » : ظهر.
2- في مصحّحة ( ع ) : هذا مع هذا.
المقدّمة الرابعة : في الضدّ

ومعناه لغة : المنافي والمعاند مطلقا (1) ، وفي اصطلاح أهل المعقول : أمر وجوديّ لا يجتمع مع وجوديّ آخر في محلّ واحد في زمان واحد (2) ، فالمتناقضان يندرجان تحت الضدّ اللغوي دون الاصطلاحي ، لأنّهما ليسا أمرين وجوديّين ، بل أحدهما وجودي والآخر عدمي.

ويعتبر في التضادّ مضافا إلى ما ذكر جواز تواردهما على محلّ واحد ، فيخرج نحو السواد والعلم ، فإنّهما وإن لم يجتمعا في محلّ واحد لكن ليسا ممّا يتواردان على محلّ واحد ، لأنّ محلّ كلّ واحد منهما مغاير لمحلّ الآخر ، فإنّ محلّ العلم القلب ومحلّ السواد الجسم. وبعبارة اخرى : يشترط أن يكون المنافاة راجعة إلى المتضادّين بحيث لا يجتمعان على محلّ واحد قابل لورود كلّ واحد منهما ذاتا ، فما ليس كذلك لا يكون من التضادّ في شيء ، مثل العلم والسواد.

إذا عرفت ذلك فقد اطلق لفظ « الضدّ » هنا على امور :

منها : كلّ واحد من الامور الوجوديّة المنافية للمأمور به ، مثل الأكل ، والشرب ، والمشي بالنسبة إلى الصلاة ، وهي بالنسبة إلى الإزالة. ولا شك في إطلاق الضدّ عليها حقيقة بكلا المعنيين. نعم ، ربما (3) يكون بعض الأفعال الوجوديّة من

ص: 548


1- كما في القاموس 1 : 309 ، والمصباح المنير : 359 ، ومجمع البحرين 3 : 90.
2- كشف المراد : 107 - 108.
3- في ( ع ) و ( ط ) : إنّما.

الموانع والنواقض بالنسبة إلى الآخر ، كمبطلات الصلاة ونواقض الطهارة وروافع الأحداث وموانع العقد ونحو ذلك. وإطلاق الضد على هذه الامور لا يخلو عن إشكال ومسامحة ، لأنّ نسبة كلّ واحد من الضدّين مثل نسبة الآخر إليه ، والأمر فيها ليس كذلك ، إذ المانع علّة لعدم الممنوع دون العكس ؛ مضافا إلى إشكال تصوير تواردهما على محلّ واحد ، فليتدبّر جدّا.

ومنها : أحد الأفعال الوجوديّة المنافية للمأمور به ، ويسمّونه ب- « الضدّ العامّ » ، وإطلاق الضدّ عليه أيضا خال عن حزازة ، بل هذا في الحقيقة راجع إلى الأوّل.

ومنها : الترك ، ويسمّونه ب- « الضدّ العامّ » أيضا ، وهذا أشهر وأصحّ. وإطلاق الضدّ عليه لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ الترك أمر عدميّ والمأخوذ في الضدّ المصطلح أن يكون أمرا وجوديّا كما مرّ ، فهو نقيض للفعل لا ضدّ له ، ولو جعل الترك عبارة عن اختيار العدم لكان وجها ، لأنّ هذا الاختيار أمر وجوديّ مضادّ للفعل الذي هو عبارة عن اختيار الوجود. وعلى هذا يتصوّر الواسطة بين الفعل والترك ، وهي ما إذا ترك الفعل لا عن اختيار ، فإنّه ليس من الترك المفسّر باختيار العدم. ولا يرد أنّ هذا النحو من الترك أيضا نقيض للفعل ، لأنّ نقيض الوجود العدم ، والعدم قد يكون مسبوقا بالاختيار وقد لا يكون كذلك ، فالأوّل أيضا فرد من أفراد مطلق العدم الذي هو نقيض للوجود وفرد النقيض نقيض ، لأنّ الاختيار أمر وجوديّ لا يجوز جعله فردا من العدم المطلق الذي هو نقيض للوجود ، وكون المختار هو العدم لا يجعل نفس الاختيار عدميّا. وعلى أيّ حال فإن فسّرنا الترك بنفس « لا يوجد » كان نقيضا للفعل جدّا ، وإن فسّرنا باختيار عدم الإيجاد أمكن جعله من الضدّ المصطلح.

قيل : ولقد استراح من جعل الترك بمعنى الكفّ ؛ لكونه من الامور الوجوديّة التي لا تجتمع مع الفعل أبدا في محلّ واحد (1).

ص: 549


1- راجع الفصول : 91.

واعترض عليه : بأنّهما وإن لم يجتمعا في محلّ واحد ، ولكنّهما ليسا من المتضادّين المتواردين على محلّ واحد ، بل هما من قبيل العلم والسواد الذي قد عرفت خروجهما عن الحدّ بقيد التوارد ، لأنّ محلّ الكفّ هو النفس ومحلّ الفعل هو الجوارح.

وفي كلّ من الكلامين نظر.

أمّا في كلام المستريح : فلأنّ الترك الذي كلامنا فيه هو الذي أخذ منعه فصلا للوجوب في قولهم : « الوجوب طلب الشيء مع المنع من الترك » إذ المراد بالضدّ العامّ هو ترك المأمور به الذي منع منه بمجرّد إيجاب المأمور به ، ولم يظهر من القائلين بكون المطلوب من النهي هو الكفّ وأنّ معنى الترك المطلوب من النهي عبارة عن طلب الكفّ أنّ مادّة الترك التي يدخلها النهي مثل قولك : « لا تترك الصلاة » التي قد اعتبر المنع منها قيدا وفصلا للوجوب أيضا عبارة عن الكفّ. كيف! والذي دعاهم إلى إرجاع الترك المطلوب من صيغة النهي إلى الكفّ أنّ مجرّد الترك أمر عدميّ لا يجوز تعلّق الطلب عليه وجودا وعدما ، وهذا غير موجود في المقام ؛ إذ المطلوب من قولنا : « لا تترك الصلاة » المتولّد من قوله : « صلّ » هو بعينه طلب فعل الصلاة ، فلو فسّرنا قوله : « لا تترك الصلاة » بقولنا : « كفّ عن ترك الصلاة » فهذا يكفي في جعل المطلوب من النهي أمرا مقدورا ، ولا حاجة إلى تفسيره بقولك : « كفّ عن الكفّ عن الصلاة » بل لعلّ هذا من المستهجنات التي لا أظنّ قائلا بها.

ودعوى أنّ التروك سواء كانت مداليل الهيئة أو المادّة امور غير مقدورة ، فإنّ دليلهم المزبور على إرجاع مدلول النهي إلى الكفّ ، فلا يتفاوت فيه مدلول المادّة أو الهيئة حتّى أنّه يلزم على هذا التقدير أن يكون المراد من « اترك الزنا » كفّ عن الزنا - وهكذا سائر المقام [ آت ] - واضحة الفساد بما عرفت : من عدم تماميّة

ص: 550

دليلهم المزبور في المقام وإن كان تماما في مثل « اترك الزنا » ؛ لأنّ الترك المنهيّ عنه في المقام أمر انتزع عن طلب الفعل ، فلا حاجة إلى إرجاعه إلى الكفّ بعد كون المراد من النهي عنه بعينه طلب فعل المأمور به.

وأمّا ما يقال : من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل فلا بدّ من كون المراد بقولنا : « لا تترك الصلاة » الحاصل من قوله : « صلّ » كفّ عن الكفّ وإلاّ لكان الذمّ على غير الفعل ، فهو أيضا أجنبيّ عن المقام ؛ لأنّه يكفي في تصحيح الذمّ هنا جعله مترتّبا على الكفّ عن الصلاة ، فلا حاجة إلى أن يفسّر « لا تترك الصلاة » بالكفّ عن الكفّ (1).

وكيف كان فلا وقع عند المتأمّل الفطن لكلام المستريح ، بل ولا أظنّ أحدا من القائلين بأنّ المطلوب من النهي هو الكفّ أن يقول بأن المراد بالترك المنهيّ عنه في المقام هو الكفّ ، فإنّ كلّ واحد من المقامين بمراحل عن الآخر. وهذا خلط فاحش وخبط بيّن ، فتفطّن.

وأمّا في كلام المعترض (2) : فلأنّ منع مضادّة الكفّ مع الفعل بدعوى تغاير المحلّ ممنوع ، لأنّ الحقّ أنّ محلّ الكفّ والفعل كليهما هو النفس وإن كان أثرهما ظاهرا في الجوارح ، لأنّ الفعل عبارة عن بعث النفس للجوارح والكفّ عن إمساكها ، والإمساك والبعث كلاهما حالان وفعلان للنفس ، وأثرهما إنّما يظهر في الأعضاء والجوارح ، فإنّ النفس إذا بعثت الجوارح على العمل حصل منه حركات مخصوصة في الجارحة من الأعضاء المخصوصة ، وإذا أمسكتها حصل منه القبض والسكون فيها. فإن جعلت الفعل عبارة عن نفس حاصل الأثر فقابله بأثر الإمساك الذي هو

ص: 551


1- في هامش ( ع ) زيادة ما يلي : وفيه : أنّه التزام بمقالة المستريح ، لأنّه لا يريد إلاّ جعل الضدّ العام الكف عن المأمور به.
2- عطف على قوله : « أمّا في كلام المستريح » في الصفحة السابقة.

الكفّ وهما متّحدا المحلّ جدّا ، وإن جعلت عبارة عن بعث النفس فقابله بنفس الإمساك على أيّ تقدير ، فالكفّ والفعل محلّهما واحد يمكن تواردهما على ذلك المحلّ. كيف! ولو كان محلاّهما مختلفين - كالعلم والسواد - لجاز اجتماعهما في محلّيهما نحو العلم والسواد ، والفعل والكفّ عنه أبدا لا يجتمعان في عالم الوجود.

كلّ ذلك فيما إذا أردنا جعل إطلاق الضدّ على الترك حقيقيّا. ولكنّ الظاهر أنّ هذا الإطلاق مجازيّ لعلاقة المجاورة ، لأنّ الأفعال الخارجيّة المقارنة لترك المأمور به لمّا كانت أضدادا حقيقيّة للمأمور به سمّي الترك بالضدّ مجازا. ووجه تسميته بالضدّ العام هو اجتماعه مع جميع الأضداد ، وذلك واضح.

ص: 552

المقدّمة الخامسة : في بيان المراد من « الاقتضاء » المتنازع فيه

والمراد به ما يعمّ العينيّة وإن كان الظاهر منه التضمّن والالتزام. يدلّ عليه كلام صاحب المعالم في الضدّ العام ، حيث قال : « إنّه لا نزاع من حيث أصل الاقتضاء وإنّما النزاع في كيفيّته وأنّه هل من باب العينيّة أو التضمّن أو الالتزام » (1) إذ الصريح منه أنّ الاقتضاء المتنازع فيه ما يعمّ العينيّة. ويدلّ عليه أيضا إمكان القول بالعينيّة في الضدّ العامّ ، كما سنذكر.

وربّما يتوهّم من بعض العناوين كقولهم : « إنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه » (2) اختصاص النزاع بالعينيّة ، ولكن المراد به أيضا الأعمّ.

ثمّ الفرق بين العينيّة والدلالة المطابقة يظهر بالتأمّل في الفرق بين الاثنين ونصف الأربعة وبين دلالة لفظ الاثنين على معناه ، فإنّ الثاني على سبيل المطابقة والأوّل - يعني اتّحاد الاثنين ونصف الأربعة - من باب العينيّة. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

ص: 553


1- المعالم : 63 - 64.
2- العدة : 196 ، ونهاية الوصول : 96 ، والمعتمد 1 : 97.

[ الأقوال في المسألة ]

اشارة

[ الأقوال في المسألة ](1)

إذا تمهّدت المقدّمات ، فالأقوال في الضدّ العام خمسة :

أحدها : نفي الاقتضاء رأسا ، وهذا صريح العضدي (2) والحاجبي (3) والمنسوب إلى العميدي (4) وجمهور المعتزلة (5) وكثير من الأشاعرة (6). ودعوى بعض - كصاحب المعالم (7) - أنّه لا خلاف في الضدّ العام في أصل الاقتضاء بل في كيفيّته - كما تقدّم - لا أصل لها.

وثانيها : الاقتضاء على وجه العينيّة ، على معنى أنّ الأمر بالشيء والنهي عن تركه عنوانان متّحدان ممتازان بحسب المفهوم.

وثالثها : الاقتضاء على وجه التضمّن.

ورابعها وخامسها : الالتزام اللفظي والعقلي.

ولا إشكال في تصوّر العينيّة والتضمّن. وأمّا تصوّر الالتزام فيتمّ بدعوى عدم كون المنع من الترك جزءا من ماهيّة الوجوب ، بجعله عبارة عن مجرّد طلب الفعل على جهة الالتزام الذي هو في المرتبة العليا من الطلب وتحته الطلب الندبي الذي لا إلزام فيه. ولا بعد فيه ، بل إنّما البعد في كون الوجوب مركّبا عن طلب الفعل والمنع من

ص: 554


1- العنوان منّا.
2- راجع شرح مختصر الاصول : 199.
3- راجع شرح مختصر الاصول : 199.
4- نسبه إليه الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 200 ، وراجع منية اللبيب : 125.
5- نسب إليهم في الإحكام للآمدي 2 : 191 ، والمستصفى 1 : 81 ، والمعتمد 1 : 97.
6- انظر نهاية الوصول : 96 ، ومنية اللبيب : 125.
7- المعالم : 62.

الترك ، لأنّ ذلك يستلزم تركّب كلّ واحد من الأحكام الخمسة من الحكمين ، لأنّ الوجوب حينئذ يتضمّن النهي عن الترك الذي يقتضي التحريم ، والتحريم نهي عن الفعل ويتضمّن إيجاب الترك ، والإباحة مركّبة من الإذن في الفعل والإذن في الترك ، فيكون الإباحة مركّبة من الإذنين والإباحتين ... وهكذا.

وما يقال : من أنّ الوجوب طلب فعل مع المنع من الترك ، فلا يراد به الترك ، بل إنّما يراد به أنّ الوجوب مرتّبة من الطلب لو التفت الآمر إلى الترك لم يكن راضيا به ، بخلاف الاستحباب ، فإنّ فيه من الطلب ما لو التفت إلى الترك لكان راضيا به ، فعدم الرضا بالترك من اللوازم الغير البيّنة للوجوب ، لا جزئه ولا عينه.

ومن هنا ظهر دليل القول بعدم الاقتضاء رأسا ، كما ذهب إليه الحاجبي والعضدي وغيرهما ، لأنّ لهم دعوى عدم كون هذا النحو من المنع التعليقي نهيا ، نحو دعوى النافين لوجوب المقدّمة لعدم كون الإرادة الإجماليّة التي أثبتنا للمقدّمات بحكم العقل والوجدان وجوبا.

والحاصل : أنّ القول بأنّ الأحكام الخمسة بسيطة لا تركّب فيها - فإنّ الوجوب والاستحباب عبارتان عن المرتبتين من الطلب ليس إلاّ ، والحرمة والكراهة عبارتان عن المرتبتين من النهي والمبغوضيّة ليس إلاّ ، والإباحة عبارة عن رخصة بسيطة في الفعل - ليس ببعيد عن الصواب. وعلى هذا اتّجه تصوير القول بالاقتضاء على وجه الالتزام ، كما يتّجه نفي الاقتضاء رأسا.

وفي الضدّ الخاصّ أربعة ، إذ لم نجد ولا حكي عن أحد القول بالتضمّن ، وإن كان القول به ليس بأبعد من القول بالعينيّة وأنّ معنى « حرّك » (1) عين قوله : « لا تسكن » و « صلّ » عين قوله : « لا تمش » الذي يظهر من بعض العامّة.

ص: 555


1- كذا ، والمناسب : « تحرّك ».

وفي الضدّ الخاصّ قول آخر للبهائي رحمه اللّه ، وهو : أنّ الأمر بالشيء لو قيل : « إنّه يقتضي عدم الأمر بالضدّ » مكان « النهي عنه » لكان أولى (1).

والذي دعاه إلى هذا : أنّ الثمرة المترتّبة على النهي من فساد العبادة الموسّعة الواقعة في وقت المضيّق على هذا القول أوضح ، إذ ربّما أمكن دعوى الصحّة مع (2) النهي كما يجيء في الاستدلال ، ولا يمكن دعواها مع عدم الأمر. مضافا إلى أنّ اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بالضدّ أقرب في الاعتبار والاستدلال من اقتضائه النهي عنه.

وهذا القول في بادئ النظر يخالف القول باقتضائه النهي عن الضدّ ، ولكنّ التحقيق أنّ هذا القول إن لم يرجع إلى القول المشهور ففي غاية البعد من التحقيق.

بيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ المصحّح للامتثال في العبادات على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد إنّما هو تعلّق الأمر بعنوان وأفراد مقدّرة مندرجة تحته على نحو صدق الكلّي على الفرد ، ولا حاجة إلى تعلّق الأمر بخصوص ما يأتي به المكلّف من تلك الأفراد ، بل يكفي في صحّته اندراجه تحت ذلك الكلّي المأمور به. فلو ورد أمر بعتق رقبة أو إتيان رجل فذلك الأمر المتعلّق بكلّيّ العتق يقتضي الإجزاء والصحة في الفرد الذي يأتي به المكلّف في مقام الامتثال من غير أن يكون بذلك الفرد بخصوصه أمر بخصوصه ، بل معنى كونه مأمورا به كون الكلّي الذي هو فرده مأمورا به ، فيكون احتياج أفراد العبادات إلى الأوامر احتياج كلّيّاتها إليه ، ثمّ عدم ورود تخصيص يوجب خروجه عن ذلك الكلّي نحو الصفة بحال متعلّق الموصوف.

ص: 556


1- زبدة الاصول : 82.
2- في ( م ) زيادة : إمكان.

وحينئذ فعدم صحّة بعض الأفراد - بمعنى عدم كونه مجزئا في مقام الامتثال بذلك الكلّي - لا بدّ وأن يكون ناشئا من منع المولى من الإتيان به في ذاك الفرد ، إذ لا حاجة لذلك الفرد من حيث كونه مجزئا مسقطا عن التكليف بذلك الكلّي إلى الإذن من المولى والأمر به ، وإلاّ لكان أفراد الماهيّة الواحدة التي يتعلّق بها أمر عيني واجبات عينيّة ، ضرورة عدم معقوليّة التفكيك بين الأمر المتعلّق بالكلّي والأوامر المتعلّقة بالأفراد من حيث العينيّة والسنخيّة بعد فرض سريان أمر ذلك الكلّي إلى الأفراد الواجد كلّ واحد منها للكلّي بتمامه ، فحيث ما نحكم ببطلان بعض الأفراد فلا بدّ لنا في ذلك من الاستناد إلى المنع في مقام الامتثال ، وإلاّ فيكفي في الحكم بالصحّة أمران : تعلّق الأمر الشرعي بكلّي ذلك الفرد ، واندراجه تحت ذلك ، من غير الاحتياج إلى أمر المولى بخصوص ذلك الفرد.

إذا تحقّق ذلك فظهر فساد قول البهائي ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في الأضداد الموسّعة للمأمور به ، ولا ريب في أنّ الواجبات الموسّعة كلّيّات بحسب الأزمان ذات أفراد كثيرة ، فالحكم بفساد بعض أفرادها المصادم لزمان المأمور به المضيّق لا بدّ أن يستند إلى المنع والنهي. فلو قيل بأنّ الأمر بالمضيّق يقتضي المنع والنهي من الفرد من (1) الموسّع الواقع في وقته ، اتّجه الحكم بالفساد كما يقول به المشهور ، وإلاّ فمجرّد عدم كونه مأمورا به لا يحكم بفساده ، كيف! وليس شيء من الأفراد بمأمور به ومأذون فيه غير الإذن العقلي الذي ينشأ عن انطباق الكلّي المأمور به عليها ، سواء وقعت في وقت واجب مضيّق أم لا ، فلو كان الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضدّ فلا فائدة في القول بأنّه يقتضي عدم الأمر به بعد أن كان مقطوعا به مع قطع النظر عن ذلك الأمر المضيّق.

ص: 557


1- لم يرد « من » في ( ع ).

نعم ، يتمّ كلام البهائي بعد ثبوت أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون الأمر المضيّق بمنزلة التخصيص أو التقييد اللفظي لعنوان الضدّ الموسّع بغير الفرد الذي وقع في زمان ذلك المضيّق ، على أن يكون وجوب الإزالة فورا بمنزلة الاستثناء من قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1) حتّى يصير بمنزلة قولك : « إلاّ الزمان الذي فرض فيه شيء فورا » كالإزالة ، فإنّه لو تمّ أنّ الأمر المضيّق يوجب مثل هذا التخصيص في عنوان الضدّ لتمّ قوله بأنّ عدم الأمر يكفي في الفساد ؛ لأنّ الفرد الواقع وقت الإزالة حينئذ لم يكن أوّلا داخلا تحت المراد من « أقم الصلاة » ، فلم يكن الأمر المتعلّق بالصلاة كافيا في حجّيّة هذا الفرد الخارج أوّلا من غير الاحتياج إلى المنع والنهي. ولكن أنّى له بإثبات مثل هذا! إذ كلّ أحد يعلم أنّ الأمر بالشيء لو اقتضى النهي أو عدم الأمر فإنّما يقتضيهما من حكم العقل واستحالة التكليف بالأمرين في وقت وتقديم المضيّق ، والاستحالة هذه لا تقتضي التخصيص والتقييد في عنوان الصلاة بحسب المراد ، بل إنّما يقتضي المنع العقلي الذي هو في حكم المنع الشرعي عن الإتيان بغير الواجب الفوري من الصلاة وغيرها.

وثانيهما : أن يكون التخيير في أفراد الموسّع بحسب الوقت تخييرا شرعيّا مثل التخيير في الواجبات التخييريّة ، فإنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر دون النهي ، يفيد حينئذ مفاد القول بأنّه يقتضي النهي ؛ لأنّ الأفراد حينئذ قد امر بها شرعا بخصوصها ، فمتى قلنا : إنّ الأمر المضيّق يوجب خروجها عن صفة المأمور به ، اتّجه الحكم بالبطلان من دون أن يكون هناك نهي.

ص: 558


1- الإسراء : 78.

ولكن التحقيق عندنا : أنّ التخيير في الواجبات الموسّعة بحسب الأوقات تخيير (1) عقلي نحو التخيير بين أفراد الكلّي المأمور به ، لا تخيير شرعي كالتخيير في الواجبات التخييريّة. هذه هي الأقوال في المسألة.

وأمّا ثمرة هذا النزاع : فلا بأس بأن نشير إليها قبل الشروع في ذكر الأدلّة.

منها : ترتّب العقاب على فعل الضدّ وعدمه. والأولى تبديل « العقاب » ب- « العصيان » لأنّ ترتّب العقاب في النواهي الغيريّة غير معلوم ، بل إنّما المعلوم خلافه ، كما مرّ تحقيقه في الواجب الغيري. وأيضا « العقاب » أمر اخروي راجع أمره إلى اللّه تعالى ، فلا فائدة في جعله أثرا في شيء من المسائل ، بخلاف « العصيان » فإنّه لا يتفاوت فيه بين النفسي والغيري والأصلي والتبعي من الأوامر والنواهي. وله آثار شرعيّة أيضا إذا كان الضدّ من الامور التي توجب العصيان فيه حكما من الأحكام كالسفر ، بل ربما يوجب الفسق لو قيل بأنّ العصيان هذا من موانع العدالة ، وإن كان الحقّ خلافه.

ومنها : فساد العبادة الواقعة في وقت المأمور به على القول بالاقتضاء. والظاهر أنّ هذه الثمرة من المسلّمات بين أكثر الأصحاب سيّما القدماء منهم ، كما يظهر من تتبّع كلماتهم وفتاويهم في أبواب الفقه ، كما في باب قضاء الصلاة ، فإنّ كثيرا من القدماء - كالشيخين (2) والسيّدين (3) والقاضي (4) والحلّي (5) والآبي (6) على ما حكي

ص: 559


1- في ( ط ) و ( م ) بدل « تخيير » : غير.
2- المقنعة : 143 ، 211 ، والمبسوط 1 : 126 - 127.
3- رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : 38 ، والغنية : 98 - 99.
4- المهذّب 1 : 126.
5- السرائر 1 : 272.
6- كشف الرموز 1 : 209.

عنهم وعن غيرهم (1) - ذهبوا إلى فوريّة القضاء وفساد الحاضرة قبل الإتيان بالفائتة مستندين إلى أخبار دالّة على وجوب المسارعة إلى الفائتة (2) ، ولم يعترض عليهم أحد من المتأخّرين القائلين بعدم الفساد : بأنّ النهي عن الضدّ المتولّد من الأمر لا يقتضي الفساد ، بل أجابوا عنها بقدح الدلالة على الفوريّة أو بقدح السند.

فلذا قد صرّح المحقّق في محكيّ المعتبر بأنّ القول بالمضايقة يقتضي الحكم بتحريم جميع الأشياء ، قال فيما حكى عنه : إنّ القول بالمضايقة يلزم منه منع من عليه صلوات كثيرة أن يأكل شبعا وأن ينام زائدا على الضرورة ولا يتعيّش إلاّ لاكتساب قوت يومه له ولعياله وأنّه لو كان معه درهم ليومه حرم عليه الاكتساب ، والتزام ذلك مكابرة صرفة والتزام سوفسطائي. ولو قيل : قد أشار أبو الصلاح الحلبي إلى ذلك (3) ، قلنا نحن نعلم من المسلمين كافّة خلاف ما ذكره ، فإنّ أكثر الناس يكون عليهم صلوات كثيرة ، فإذا صلّى الإنسان شهرين يومه استكثره الناس (4) ، انتهى.

ويستكشف من كلامه هذا أنّه لا مناص من الحكم بفساد الحاضرة قبل الفائتة على القول بالمضايقة ، مع أنّ اقتضاء النهي المتولّد من الأمر المضيّق الفساد لو كان عندهم محلّ مناقشة لكان الإشارة إلى منع الفساد من أمتن الدليل على الصحّة. اللّهم إلاّ أن يكون نظرهم في خصوص حرمة الضدّ من الواجبات والمباحات ، لا في صحّته وفساده إذا كان من العبادة.

ص: 560


1- مثل ابن أبي عقيل والإسكافي ، كما حكى عنهما العلاّمة في المختلف 3 : 4.
2- راجع الوسائل 3 : 174 ، الباب 39 من أبواب المواقيت ، الحديث 1 و 2 و 4 و 16 والصفحة : 209 ، الباب 62 من الأبواب ، الحديث 2 و 5 والصفحة : 347 - 350 ، الباب 1 و 2 من أبواب قضاء الصلوات وغيرها.
3- انظر الكافي في الفقه : 150.
4- المعتبر 2 : 408 - 409.

وصرّح ابن إدريس - فيما حكي عنه - بالفساد مستدلاّ : بأنّ قبح ما يستلزم القبيح إجماعي (1). ويظهر أيضا من كلماتهم في باب الدين : أنّ النهي المتعلّق بالعبادات من وجوب الأداء فورا يقتضي الفساد (2) ، حتّى إنّ العلاّمة قد صرّح في محكيّ القواعد (3) : بفساد الصلاة في أوّل وقتها في حقّ من عليه الدين الواجب أداؤه فورا.

وبالجملة ، معظم الأصحاب خلفا عن سلف لا يناقشون في أمثال هذه المسائل في الكبرى ، يعني في كون النهي موجبا للفساد ، بل إنّما يناقشون في الصغرى ، المراد بها ثبوت فوريّة المأمور به.

نعم ، قد صدر من المحقّق الثاني في شرح القواعد (4) قول بصحّة العبادة ولو كان آثما في تقديمها على أداء الدين ، ثمّ تبعه بعض من متأخّري المتأخّرين كالشيخ الفقيه في كشف الغطاء (5) ، وتبعه تلميذه الأصبهاني الشيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم (6) مع زيادة تحقيق منه في تصحيح ذلك ، ثمّ تبعهما أخوه الشيخ المحقّق صاحب الفصول (7) وغيره كصاحب القوانين (8) ونحوه.

ص: 561


1- السرائر 1 : 273.
2- منهم الحلّي في السرائر 2 : 33 ، والعلاّمة في التذكرة 13 : 13.
3- قواعد الأحكام 2 : 102.
4- جامع المقاصد 5 : 14.
5- يأتي كلامه في الصفحة الآتية.
6- هداية المسترشدين 2 : 269 وما بعدها.
7- الفصول : 95 - 97.
8- انظر القوانين 1 : 116.

قال في كشف الغطاء في البحث عن المقدّمات : انحصار المقدّمة في الحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية (1). ومراده أنّه إذا عصى بترك المأمور به المضيّق - مثلا - فأتى بالضدّ فلا ينافي ذلك صحّة ذلك الضدّ إذا كان من العبادات.

قال : وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه في حكم الجاهل بالقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من مقتضى الدخول تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء - أي اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه وعدم الفساد - أقرب إلى السداد (2) انتهى.

وقد ذكرنا هذه العبارة وغيرها في بحث مقدّمة الواجب وبيّنا فسادها وفساد ما قيل في توجيهها وتشييدها من كلمات الشيخ في الحاشية وأخيه في الفصول بيان مشبع (3) ، فلا نطيل بذكر ما فيها هنا ، بل نشير إجمالا إلى حاصل كلام الفاضل المحشّي ونجيب عنها ، وحاصل كلامه :

أنّ تصادم الأمرين المضيّقين من المستحيلات الأوّليّة ، ولكن مصادمة الأمر المضيّق والأمر الموسّع لا ضير فيها ، لأنّ مرجعه إلى وجوب الموسّع على تقدير العصيان في ترك المضيّق ووجوب المضيّق مطلقا ، وهذا لا عيب فيه ، لأنّه ليس من التكليف بالأمرين في آن واحد ، ولا من التسوية بين المضيّق والموسّع في الوجوب ، بل هو تقديم للمضيّق على الموسّع ثمّ بقاء وجوب الموسّع على تقدير العصيان بترك

ص: 562


1- كشف الغطاء 1 : 171.
2- نفس المصدر.
3- اشارة إلى ما كتبه هذا المقرّر في بحث مقدمة الواجب ولا يوجد لدينا.

المضيّق ، ولا استحالة في ذلك ، وإنّما الاستحالة في طلب شيئين في آن ، فلا بدّ من جعل الأمر فيها تخييريا عقليّا. هذا حاصل جميع كلماته تلويحا وتصريحا.

وأنت خبير : بأنّ هذا كرّ على ما فرّ ، لأنّا إذا قلنا ببقاء الأمر بالموسّع على تقدير العصيان بالمضيّق لزم أن يكون المكلّف حال إتيانه بالموسّع مكلّفا بإتيانه وبإتيان المضيّق أيضا ، لأن العصيان لا يوجب سقوط التكليف في ثاني زمان العصيان ، فيلزم اجتماع الأمرين في آن واحد ، وهو مستحيل باعترافه. هذا ، مضافا إلى استلزام القول بصحّة الموسّع على تقدير العصيان اجتماع الأمر والنهي - أي الوجوب والحرمة - في ترك المضيّق من جهة كونه محرّما ذاتا وواجبا من باب المقدّمة والوصلة إلى الموسّع ، وحاول الفاضل المحشّي المحيص عن هذا الإشكال ولم ينل مقصوده ، فإنّه باق كما كان. وقد أوردنا كلماته وفسادها في مبحث المقدّمة ، فارجع إليها (1).

وبالجملة ، لا ينبغي للمتأمّل المنصف التأمّل في الثمرة المزبورة وأنّ الضدّ على تقدير كونه من العبادات يكون فاسدا جدّا ، سواء قلنا بأنّ النهي هذا أصلي ونفسي أو قلنا بأنّه تبعي. ولا ينافي ذلك ما تقدّم منّا في مقدّمة الواجب : من أنّ الأمر الغيري لا يجعل الشيء عبادة ما لم يكن فيه رجحان ذاتي وأنّه لا يوجب صحّة العبادة ، قبالا لقول من جعل صحّة المقدّمة العباديّة وفسادها من الثمرات في وجوب المقدّمة وعدمه ؛ وذلك لأنّ الفرق بين الأمر والنهي واضح ، لأنّ النهي سواء كان غيريّا أو نفسيّا أصليّا أو تبعيّا فيه طلب ترك ، وطلب الترك لا يجتمع مع طلب الفعل ، فيكون باطلا بناء على اقتضاء النهي في العبادات الفساد ، بل يمكن الحكم بالفساد إذا كان من المعاملات أيضا بناء على اقتضاء النهي فيها أيضا الفساد.

ص: 563


1- إرجاع لما قرّره في مبحث المقدمة ولا يوجد لدينا. وراجع الصفحة 293 من هذا الكتاب.

وبالجملة ، هذه الثمرة على الظاهر لا إشكال فيها.

ثم إنّ الشيخ (1) قد أحسن في الالتفات إلى الإشكال في مسألة الجهل بالقصر والإتمام ونحوها ، كالجهل بالجهر والإخفاء ، ولكنّه ما أحسن في دفعه. ووجه الإشكال على ما تفطّن له الاستاذ ثمّ وجد تفطّن الشيخ به أيضا : أنّ ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة - بل الإجماع ظاهرا - أنّ الجاهل بوجوب القصر في السفر ، وبوجوب الجهر فيما وظيفته ذلك من الصلاة ، مكلّف نحو سائر مقامات الجهل بالتقصير الذي هو حكم اللّه الواقعي ، كما لعلّه إليه يرشد حكمهم بالمعذوريّة. ومع ذلك كيف يحكم بمعذوريّته مع تقصيره وبقاء الوقت ومع عدم إتيانه بالمأمور به؟

وهذا الإشكال ما اتّضح إلى الآن حقيقة رفعه على مذهب العدليّة من التخطئة دون التصويب.

فإن قيل : إنّ المراد بالمعذوريّة سقوط التكليف بما ليس بمأمور به عنه ، فهذا خلاف صريح الأخبار القاضية بأنّه قد تمّت صلاة من لا يدري بالجهل - مثلا - وأنّه أتى بالمأمور به.

وأمّا الجواب الذي أشار إليه الشيخ بالنظر ، وحاصله : أنّ الجاهل حالة جهله مأمور بالتعلّم وعلى تقدير العصيان به مأمور بما يعلم من الجهر أو الإخفات ، نظير مأموريّة الشخص بالصلاة على تقدير عصيانه بالإزالة ، كما ذكره وذكره أيضا جماعة. ففيه ما عرفت في غير موضع.

ومنها : - أي من الثمرات - حصول العصيان في الضدّ ، فيجري فيه الأحكام الثابتة للمعصية ، كما إذا كان الضدّ سفرا ، فإنّه إذا كان معصية يجب فيه إتمام الصلاة والصوم ، وقد أشرنا إليه آنفا.

ص: 564


1- أي كاشف الغطاء.

والحق أنّ ترتّب أحكام المعصية على مثل هذا العصيان الناشئ عن النهي المقدّمي مشكل ، كما أنّ صيرورتها سببا للفسق أشكل. واللّه العالم بحقائق الامور.

هذا أوان الشروع في ذكر أدلّة الأقوال :
حجّة القول بنفي الاقتضاء رأسا في الضدّ العامّ

ما قدّمت إليه الإشارة في تحرير الأقوال استطرادا ، وحاصله : أنّ الاقتضاء بأي وجه كان فرع ثبوت الملازمة بين طلب الشيء وطلب ترك تركه في نفس الطالب الآمر ، والملازمة ممنوعة بل منفيّة جدّا ، ضرورة غفلة الطالب للشيء كثيرا ما عن تركه فضلا عن أن يكون طالب ترك ذلك الترك ، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجه لدعوى الاقتضاء الذي يتوقّف على كون الآمر شاعرا للترك وناهيا عنه.

قال الحاجبي : لنا أنّه لو كان الأمر نهيا عن الضدّ أو تضمّنه لم يحصل بدون تعقّل الضدّ والكفّ عنه ، لأنّه مطلوب النهي ، ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما.

واعترض : بأنّ المراد الضدّ العامّ ، وتعقّله حاصل ؛ لأنّه لو كان ذاهلا منه لم يطلبه.

واجيب : بأنّ طلبه في المستقبل ، ولو سلّم فالكفّ واضح.

وقال الشارح العضدي في توضيحه ما لفظه : هذا ، واعترض عليه : بأنّ المراد بالضدّ هو الضدّ العامّ ، لا الأضداد الجزئيّة ، والذي يذهل عنه هو الثاني لا الأوّل ، لأنّ تعقّله حاصل ، ضرورة أنّ المأمور لو كان عازما على الفعل ومتلبّسا به لم يطلب الآمر منه ، لأنّه طلب الحاصل ، فإذن إنّما يطلبه إذا علم أنّه متلبّس بضدّه لا به ، وأنّه يستلزم تعقّل ضدّه.

ص: 565

الجواب : أنّه يطلب منه الفعل في المستقبل ، فلا يمنع الالتباس به في الحال ، فيطلب منه أن يوجده في ثاني الحال كما يوجده في الحال ، ولو سلّم فالكفّ واضح يعلم بالمشاهدة ، ولا حاجة في العلم به إلى العلم بفعل الضدّ وإنّما يلزم النهي عن الكفّ ، وذلك واضح ولا نزاع لنا فيه ، فلا يصلح موردا للنزاع والاحتجاج (1) ، انتهى.

والظاهر أنّ مرادهما ما ذكرنا ، إلاّ أنّ ظاهرهما تسليم الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الضدّ العامّ في الأمر بالمجمل ، ونحن إنّما نمنع عنها في ذلك أيضا.

ثمّ إنّه يظهر من قولهما : « ولو سلّم » أنّ الأمر إنّما يقتضي النهي عن الكفّ ، وهو ليس من الضدّ العامّ ولا من الخاصّ ، وأنّه خارج عن محل النزاع. ومن هنا احتمل أن يكون مرادهما من الضدّ العامّ أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، كما يشعر به قول العضدي في تقرير الاعتراض : « إنّما يطلبه إذا علم أنه متلبّس بضدّه » وقوله في الجواب : « ولا حاجة في العلم به - أي بالكفّ - إلى العلم بفعل الضد » وكيف كان ، فغاية ما يمكن الاستدلال به على نفي الاقتضاء في الضدّ العامّ ما ذكرنا.

وجوابه : أنّ النهي التفصيلي عن الضدّ العامّ - وهو الترك - وإن لم يكن ملازما لطلب الشيء والأمر به في التصوّر والحضور في بال المتكلّم ، إلاّ أنّ النهي الشأني المراد به أنّ الآمر لو التفت إلى الترك لكان كارها له وساخطا وناهيا عنه موجود بالضرورة والوجدان ، وهذا القدر من النهي الشأني مساوق للنهي التفصيلي الفعلي في إفادة التحريم وسائر الأحكام ، نظير ما قدّمنا في وجوب المقدّمة من كونها مطلوبة للآمر بالطلب الإجمالي الشأني وكفاية هذا القدر من الطلب في إثبات الوجوب. ولا ريب في ثبوت الملازمة بين هذا النهي الشأني وبين طلب المأمور به في نفس المتكلّم ولحاظ الذهن إما بالعينيّة أو بالاستلزام أو بالتضمّن على الاختلاف المزبور.

ص: 566


1- شرح مختصر الاصول 1 : 199 - 200.
حجّة القول بالعينيّة في الضدّ العام

كصاحب الفصول (1) : أنّ معنى النهي عن الترك الذي هو الضدّ العامّ طلب ترك الترك ؛ لأنّ معنى النهي طلب الترك ، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل في المعنى. وذلك ظاهر.

وفيه : أنّه إن اريد بالعينيّة اتّحاد مفهوميهما فهذا كذب واضح ، بل القائل المزبور قد صرّح أيضا بخلافه (2) ، وكيف لا! وليسا من الألفاظ المترادفة جدّا.

وإن اريد بها الاتّحاد في الصدق الخارجي - بمعنى أنّ ما يصدق عليه الفعل في الخارج بعينه يصدق عليه ترك الترك - فطلب أحدهما يكون حينئذ عين طلب الآخر.

ففيه : أنّ ذلك بعد التسليم - مع أنّ طريق المنع فيه مفتوح نظرا إلى دعوى عدم كون الفعل مصداقا لترك الترك الذي ليس إلاّ مفهوما عدميّا انتزاعيّا من الفعل - غير مجد أيضا ؛ لأنّ اتّحاد مصداقهما في الخارج لا يصير سببا لعينيّة طلب أحدهما مع طلب الآخر ، ضرورة أنّ طلب شيء ذي عنوانين بأحدهما يغاير طلبه بالآخر مفهوما ومصداقا ، لأنّ طلبه لكلّ من العنوانين يستدعي تصوّره وتعقّله بذلك العنوان مستقلاّ ، فكيف يكون طلب ذلك الشيء بأحدهما عين مفهوم طلب الآخر أو مصداقه مع الغفلة عن ذلك؟

والحاصل : أنّ الضاحك والكاتب مثلا وإن كانا متصادقين على شيء واحد ، إلاّ أنّ طلب ذلك الشيء بعنوان الكتابة يغاير طلبه بعنوان الضحك مفهوما ومصداقا ، لأنّ تعدّد العنوان يقتضي تعدّد الطلب باعتبار اقتضائه تعدّد الالتفات.

ص: 567


1- الفصول : 92.
2- الفصول : 92.

نعم ، إذا التفت الطالب حين طلبه بأحد العنوانين إلى العنوان الآخر وعلم تصادقهما في الخارج استغنى بطلبه على أحد العنوانين عن طلبه بالعنوان الآخر ، ولكنّه ليس من الاتّحاد في شيء. نعم ، إن كان مراد القائل بالعينيّة أنّ طلب الفعل طلب شيء هو عين مصداق ترك الترك فلا بأس به ، إلاّ أنّه لا يفيد ما هو بصدده من العينيّة بالنسبة إلى الكلّيين.

حجّة القول بالتضمّن في الضدّ العامّ

كصاحب المعالم (1) : أنّ الأمر يدلّ على الوجوب ، وماهيّة الوجوب مركّبة من أمرين : أحدهما المنع من الترك والآخر طلب الفعل ، فصيغة الأمر الدالّة على الوجوب دالّة على النهي من الترك بالتضمّن ، وذلك واضح.

واعترض عليه بعض المحشّين على المعالم (2) : بأنّ المنع من الترك ليس جزءا لماهيّة الوجوب ، بل هو حكم من أحكام المأمور به وخاصّة من خواصّه ، إذ لا نتعقّل من الأمر بالشيء إلاّ الطلب الحتمي الذي هو عبارة عن بلوغ الطلب حدّا لازمه عدم الرضا بالترك واستحقاق التارك العقاب ، من دون أن يكون هناك طلب آخر متعلّق بترك الترك حتّى يكون المنع من الترك داخلا في ماهيّة الوجوب ، بل يكون خارجا عنها ولازما لها ، فيكون دلالة ما يدلّ على الوجوب على منع الترك دلالة التزاميّة دون التضمّنية.

وقد يوجّه ذلك بما مرّ في توجيه القول بنفي الاقتضاء عند تحرير الأقوال : من أنّ الوجوب والاستحباب مرتبتان من الطلب ممتازان بحسب مرتبتهما وأنفسهما ،

ص: 568


1- المعالم : 63 - 64.
2- انظر حاشية سلطان العلماء : 282.

وضمّ المنع من الترك إلى الوجوب في الأفواه معناه أنّ مرتبة الوجوب لازمها أنّه لو التفت الآمر إلى الترك لم يكن راضيا به ، لا أنّه داخل في ماهيّته ، كيف! ومن الواضح أنّ الدالّ على الوجوب لا يدلّ على طلبين : أحدهما ما يتعلّق بالفعل والآخر ما يتعلّق بترك الترك ، وإلاّ لكان كلّ واحد من الأحكام الخمسة مركّبة من الحكمين ، كما سبق بيانه.

وهذا الاعتراض وإن كان بظاهره واردا ، إلاّ أنّه قد يذبّ عنه : بأنّا نجد بالمشاهدة والعيان أنّ الوجوب والاستحباب مشتركان في شيء هو الجنس ، وممتازان في شيء هو الفصل ، وأنّ ذلك الفصل من مقوّمات ماهيّة كلّ واحد منهما كما هو شأن الفصول ، ولا شيء يوجب امتياز الوجوب من الاستحباب إلاّ أنّ الطلب في الأوّل بمرتبة متقوّمة بعدم الرضا بالترك ، وفي الثاني بمرتبة لم تبلغ هذا الحدّ ، فيكون ذلك المقوّم الذي به صار الوجوب ممتازا عن الاستحباب داخلا في حقيقة الوجوب دخول الفصل في النوع ، وحينئذ فالدالّ على الوجوب - كصيغة الأمر مثلا - دالّ على عدم الرضا بالترك بالتضمّن ، نحو دلالة اللفظ الموضوع للنوع على الفصل.

نعم ، إطلاق النهي عن الضدّ العامّ على هذا الفصل الذي لا بدّ من ثبوته للوجوب لا يخلو عن حزازة وركاكة ، لأنّ الظاهر من النهي كونه مقتضيا للتحريم الذي هو واحد من الأحكام الخمسة قبال الوجوب المتعلّق بالفعل ، وليس الأمر كذلك ، لأنّ فصل الوجوب ليس تحريم ترك الفعل على وجه يكون من المحرّمات الثابتة بالنواهي في قبال الواجبات ، إذ كلّ أحد يعلم أنّ الوجوب ليس إلاّ حكما وحدانيّا يعبّر عنه تارة بإيجاب الفعل ، واخرى بتحريم الترك ، نحو التعبير عن الإنسان بالحيوان الناطق تارة وبالناطق خاصّة اخرى ، لا أنّه يتضمّن حكمين من الأحكام الخمسة : أحدهما الوجوب والآخر التحريم.

ص: 569

نعم ، تحريم الترك على الوجه الإجمالي والشأني - الذي عرفت ذكره آنفا - لا بأس بثبوته للوجوب ثبوت اللازم للملزوم ، لأنّا نعلم قطعا أنّ الآمر لو التفت إلى الترك وأراد أن يثبت له حكما من الأحكام الخمسة كان حاكما بحرمة ترك هذا الترك على سبيل النهي التحريمي ، فالمنع من الترك إذا فسّر بحدّ الوجوب ووجهه وجهة امتيازه عن الاستحباب كان الحقّ مع القول بالتضمّن ؛ لما عرفت. ولو فسّر بحرمة الترك على وجه الإجمال والشأنيّة حرمة تعدّ من الأحكام الخمسة في قبال وجوب الفعل كان الحقّ مع القول بالاستلزام.

فظهر من كلامنا هذا حجّة القول بالاستلزام في الضدّ العامّ أيضا ، كما أنّه قد ظهر أنّ المختار في الضدّ العامّ هو عدم الاقتضاء رأسا إن اريد بالنهي الفعلي التفصيلي ، والقول بالتضمّن إن اريد به وجه الوجوب وحدّه وفصله الذي ليس هو بحكم آخر في عرض وجوب الفعل ، والقول بالالتزام لو فسّر النهي بالنهي الإجمالي الشأني الموقوف على التفات الآمر وإرادته ، والقول بالعينيّة إن اريد بها اتّحاد مصداق المطلوبين في الخارج ، يعني مصداق الفعل ومصداق ترك الترك ، لا اتّحاد نفس الطلبين مصداقا أو مفهوما. واللّه العالم.

حجّة القول بالعينيّة في الضدّ الخاصّ

إنّ الأمر بالشيء - كالحركة - لو لم يكن عين النهي عن الضدّ الآخر - كالسكون - فإمّا أن يكون مثله أو ضدّه أو خلافه ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة ووجه بطلان اللازم وسائر ما يرد على هذا الدليل من المناقشات مذكورة في كتب القوم مشهورة ، فلا حاجة إلى الإطناب.

ص: 570

وأمّا حجّة القول بالتضمّن

فهي أيضا مذكورة في تلك الكتب (1) : من أنّ الوجوب طلب شيء يذمّ على تركه ، ولا ذمّ إلاّ على فعل ، وهو : إمّا الكفّ أو أحد الأضداد الخاصّة ، فكأنّهم ذكروا الترك وأرادوا به سببه الذي هو أحد الأمرين المزبورين ، فيكون دلالة ما يدلّ على الوجوب على ذمّ الترك المراد به سببه - من الكفّ أو أحد الأضداد - دلالة تضمّنية ، لكونه جزء معنى الوجوب.

واجيب (2) عنه تارة : بمنع كون الترك مسبّبا عن الكفّ أو أحد الأضداد ، لأنّ الشيء إنّما يترك باعتبار عدم الداعي إليه ، بل هو كذلك في الأغلب ، فما صار الكفّ سببا لتركه نظرا إلى اعتبار الزجر في مفهومه بعد وجود الداعي ، ولا أحد الأضداد وإن كان لازما للترك في الوجود الخارجي من باب المقارنة الاتّفاقية. واخرى : بمنع المقدّمة الأخيرة من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل ؛ لأنّ الترك مقدور نحو مقدوريّة الفعل ، فهما في جواز الذمّ وعدمه سواء.

حجّة القول بالاستلزام الوضعي

لا بدّ أن تكون إحدى الأمارات وليس جوابها إلاّ المنع.

حجّة القول بالاستلزام المعنوي وجهان :

أحدهما : أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الواجب ، ومقدّمة الواجب واجبة ،

ص: 571


1- راجع مناهج الأحكام : 61.
2- راجع القوانين 1 : 114.

فيكون فعله حراما ، وهذا معنى النهي عنه. وإنّما يكون بالاستلزام ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ليس مدلولا تضمّنيّا أو مطابقيّا لما دلّ على وجوب ذيها ، بل إنّما هو مدلول التزامي بيّن ، بالمعنى الأعمّ أو غير بيّن ، كما مرّ تفصيله.

ولا محيص عنه إلاّ بمنع وجوب المقدّمة كما صنعه صاحب المعالم (1) ، أو بمنع وجوبها عند عدم إرادة المأمور به كما ذكره بعد التسليم والمماشاة ، أو بمنع كون الترك مقدّمة كما هو الحقّ المختار عند السلطان (2) والسبزواري (3) وغيرهما. وتفصيل كلّ ذلك قد مرّ في تضاعيف الكلمات السابقة ، خصوصا الأخير الذي قد بسطنا الكلام فيه بذكر كلمات العلماء وجوابها وتوضيحها في أوّل المسألة.

والثاني : أنّ فعل الضدّ مستلزم لترك المأمور به ، وهو قبيح حرام ، فكذا ما يستلزمه.

وأجاب عنه صاحب المعالم : بأنّه إن اريد بالاستلزام الاقتضاء والعلّية أو الاشتراك في علّة واحدة ، فدعوى الاستلزام ممنوعة ؛ لأنّ فعل الضدّ ليس سببا لترك المأمور به ، لأنّ سببه إنّما هو الصارف - نعم هذا مستمرّ مع فعل أحد الأضداد في الخارج ومقارن معه ، ولكن (4) غير الاقتضاء والعلّية - ولا مسبّبا لما هو سبب للترك حتى يشتركا في علّة واحدة ، لأنّ علة الترك الصارف وعلّة الفعل الإرادة.

وإن اريد به مجرّد عدم الانفكاك في الخارج من غير أن يكون بينهما علّية أو اشتراك في العلّة ، فدعوى الاستلزام مقبولة ، ولكن القول بأنّ المستلزم للحرام حرام

ص: 572


1- المعالم : 62 و 68.
2- حاشية سلطان العلماء : 284 - 285.
3- كما تقدّم عنه في الصفحة : 519.
4- كذا ، والمناسب : لكنّه.

حينئذ ممنوعة ، لأنّ مجرّد التلازم من دون أحد الوصفين لا يقتضي الاشتراك ، وإنّما يقتضيه إذا كان ذلك التلازم ناشئا عن أحد الوصفين. هذا خلاصة ما ذكره في المعالم من الجواب عن هذا الاستدلال (1).

والظاهر أنّ مراده ب- « مجرّد عدم الانفكاك » محض المقارنة من دون استحالة الانفكاك ، بل لعلّ في كلامه تصريح بذلك ، إذ لو كان المراد به استحالة الانفكاك لم يتصوّر قسم ثالث للتلازم ، لأنّ استحالة الانفكاك لا بدّ لها من سبب ، وليس ذلك إلاّ العلّية أو الاشتراك فيها.

ولا ينافي ما ذكرنا من كون المراد بالتلازم المقارنة الاتّفاقية ، اعترافه بكون ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به في الجواب من الدليل الأوّل ، حيث أجاب عنه بمنع وجوب المقدّمة ، لا بمنع المقدّميّة ؛ لأنّ القول بمجرّد مقدّمية الترك للفعل لا يقتضي الاستحالة مع إنكار مقدّمية الفعل للترك ، لأنّه إذا لم يكن الفعل مقدّمة للترك وعلّة له - كما يقول به المشهور - جاز مفارقة الترك حينئذ من الفعل عقلا ، نظرا إلى عدم كونه معلولا للفعل حتّى يمنع انفكاكه عنه.

وكيف كان ، فتحقيق أصل المسألة موقوف على معرفة حكم المتلازمين في الوجود الخارجي من حيث جواز اختلافهما في الحكم وعدمه.

فنقول : أمّا المتقارنان من حيث الاتّفاق ، فمن ضروريّات حكم العقل جواز الاختلاف فيهما ، لإمكان انفكاك كلّ منهما عن الآخر كما هو المفروض ، وما لا يجوز فيه الانفكاك لأمر عرضيّ فهو مندرج في أحد القسمين المزبورين.

وأمّا العلّة والمعلول ، فقد عرفت في البحث عن المقدّمات أنّ حرمة المعلول يقتضي حرمة العلّة عقلا ، وقد تقدّم هناك تفصيل الكلام في ذلك ، وقلنا : إنّ قبح علّة

ص: 573


1- المعالم : 67 - 68.

الحرام من أوّليّات حكم العقل ولو كان غيريّا غير موجب للعقاب غير العقاب المترتّب على فعل المعلول. ويدلّ على ذلك تعليل تحريم بعض المحرّمات في الشريعة بقبح المعلول ، كما يستفاد من الآية الشريفة ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ) (1) الآية : أنّ حرمة الخمر والميسر لأجل كونهما سببين لقبائح اخرى من البغضاء والعداوة ونحوهما. ولا يرد أنّ الآية ونحوها إنّما تدلّ على الحرمة النفسيّة وأين هذه من الحرمة الغيريّة التي أنت بصدد إثباتها؟ لأنّ غرضنا الاستظهار من الشرع على صدق حكم العقل بقبح علّة القبيح في الجملة ولو كان حكم الشرع أزيد من حكم العقل من حيث التقبيح.

وأمّا حرمة العلّة ، فالظاهر أنّها بمجرّدها لا يقتضي حرمة المعلول في شيء ؛ لأنّ المنقصة المقتضية للنهي لعلّها تكون مختصّة بالعلّة ، فلا شيء من مقتضى (2) حرمة المعلول ، لا المنقصة الذاتية ولا الجهة المقدّميّة. نعم ، إنّما (3) يكشف حرمة العلّة عن حرمة المعلول ، فينتقل من قبح شرب الخمر مثلا إلى قبح معلوله الذي هو السكر ، ولكنّه خارج عن فعل المكلّف الذي هو متعلّق الخطابات. ومن هنا قلّت الجدوى في البحث عن اقتضاء حرمة العلّة أو كشفها عن حرمة المعلول ؛ لأنّ فرض كون العلّة المحرّمة ومعلولها من أفعال المكلّفين معا في المحرّمات عزيز أو عديم. نعم ، قبح المعلول بمعنى المنقصة التي تعرض لغير الأفعال أيضا لا بأس باستفادته من تقبيح الشارع العلّة. ولعلّ جميع المحرّمات كاشفة عن هذا القبح على مذهب العدليّة. وقريب من هذا الاستكشاف إناطة الحكم بالوصف في العلل المنصوصة غالبا ، فتدبّر جيّدا.

ص: 574


1- سورة المائدة : 91.
2- في ( ع ) كتب فوق كلمة « من » : ح. والصواب في العبارة : فلا شيء حينئذ يقتضي ...
3- في ( ع ) زيادة : « ربما » استظهارا. وهو الصواب.

وممّا ذكرنا ظهر حكم المعلولين لعلّة واحدة ، فإنّه إذا قلنا باقتضاء حرمة المعلول حرمة العلّة وبالعكس ، فلا بدّ من اقتضاء حرمة أحد المعلولين حرمة الآخر بالضرورة.

ومن جميع ذلك ظهر فساد قول الكعبي ، وزالت شبهته : من وجوب المباحات الذاتيّة بالعرض ، لأنّ غاية ما يستدلّ على ذلك امور ثلاثة :

أحدها : أنّ فعل المباح مقدّمة لترك الحرام ، وهذا واجب ، فيكون فعل المباح كذلك.

وثانيها : أنّ ترك الحرام وفعل المباح متلازمان في الوجود الخارجي ، فيكونان متّحدين في الحكم ، لاستحالة اختلاف المتلازمين في الحكم.

وثالثها : أنّ ترك الحرام عين فعل المباح ، فوجوب تركه ليس إلاّ وجوب فعل المباح.

وفساد الكل واضح.

أمّا الأوّل ، فقد اجيب عنه تارة : بفرض الكلام في حال خلوّ المكلّف من شرائط التكليف ، كالغفلة والاضطرار ونحوهما ممّا لا تكليف معه ، فإنّ ترك الحرام في تلك الحالة غير مأمور به ، لعدم توجّه النهي إلى الغافل أو المضطرّ - مثلا - حتى يكون ترك المنهيّ واجبا. وحينئذ فلا يعرض الوجوب المقدّمي للأضداد المباحة للفعل المحرّم ، فلا يلزم من وجوب ترك الحرام وتوقّفه على فعل المباح نفي المباح رأسا ، وإنّما يلزم وجوب المباح أحيانا ، كما في حال تعلّق التكليف بترك الحرام.

وهذا الجواب منقول من السلطان في حاشيته على المعالم (1) ، وليس بمرضيّ على التحقيق ؛ لأنّ عروض الإباحة للمباحات بالعرض وحال خلوّ المكلّف عن

ص: 575


1- حاشية سلطان العلماء : 285.

شرائط التكليف لا يقدح في مدّعى الكعبي ، لأنّ غرضه أنّ الشارع لم يجعل أحكاما خمسة ، بل إنّما جعل أحكاما أربعة أو حكمين مثلا (1) ؛ لأنّ ما عدا الواجب والمحرّم واجب نحو وجوب ترك الحرام ، فكما أنّ خروج ترك الحرام عن وصف الوجوب أحيانا لا يقدح في كون حكم اللّه الأوّلي في حقّه (2) هو الوجوب وفي فعله هو التحريم ، كذلك سقوط التكليف عن فعل المباحات باعتبار عدم تعلّق التكليف بما هو مطلوب لأجله من ترك الحرام لا يوجب اتّصافه بالإباحة وخروجه عن صفة الوجوب الغيري بحسب جعل اللّه الأوّلي وحكمه الواقعي. نعم ، هذا الجواب سديد ممّن ادّعى عدم اتّصاف شيء في العالم بالإباحة أبدا. ولعله لا يقول به الكعبي ، وإلاّ فالجواب في محلّه.

واخرى (3) : بمنع المقدّمية ؛ نظرا إلى منع علّية فعل المباح لترك الحرام حتّى يكون مقدّمة سببيّة له ، لأنّ ترك الشيء مستند إلى وجود الصارف عنه ، فمع وجوده يكون فعل المباح من مقارنات ترك الحرام اتّفاقا من غير استناد الترك إلى فعله. ولو فرض انتفاء الصارف ووجود الداعي إلى الحرام كان فعل المباح حينئذ مقدّمة سببيّة لترك الحرام. فعلى القول بوجوب المقدّمات لا بدّ من الالتزام بوجوبه ، ولكنه لا ينهض بإثبات دعوى الكعبي ؛ لأنّه لا يلزم من كون فعل المباحات مقدّمة لترك الحرام حال انتفاء الصارف نفي المباح رأسا ، بل إنّما يلزم وجوب أحدها في بعض الأحيان ، ولا ضير فيه.

واعترض على هذا الجواب : بأنّه على هذا التقدير يثبت الوجوب التخييري

ص: 576


1- في ( م ) بدل « مثلا » : متلازمين.
2- في ( ع ) كتب فوق « حقّه » : تركه. وتحتها : صفته.
3- عطف على قوله : فقد اجيب عنه تارة.

للمباحات دائما ؛ لأنّ ترك الحرام على ما قرّر يكون له علّتان : إحداهما وجود الصارف والاخرى فعل شيء من الأضداد المباحة ، فكلّ منهما يجب بالوجوب التخييري ، فيثبت قول الكعبي.

وجوابه : أنّ فرض استناد الترك إلى الفعل أمر غير ممكن ، لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته أبدا ، وهي مضادّة مع إرادة الحرام ، فيكون من مقدّمات إرادة الفعل وجود الصارف عن الحرام ، ففعل الضدّ أبدا مسبوق بالصارف الذي فرض كونه سببا أيضا لترك الحرام ، فالترك دائما مستند إلى الصارف ، فيبقى فعل المباح على حالة الإباحة لكونه من المقارنات الاتّفاقيّة المحضة.

لا يقال : إذا توقّف الصارف عن الحرام على فعل الضدّ المباح وجب حينئذ من باب المقدّمة ، فيصدق أنّ الواجب إمّا فعل الضدّ أو الصارف ، فيكون فعل أحد المباحات واجبا بالوجوب التخييري.

لأنّا نقول : هذا الفرض غير جائز ، وإلاّ لزم الدور ، لأنّ وجود الصارف من أحد الضدّين من مقدّمات وجود فعل الضدّ الآخر ، لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته لا محالة ، وهذه الإرادة باعتبار مضادّتها مع إرادة الحرام موقوفة على عدمها جدّا ، ولا نعني بالصارف عن الحرام إلاّ انتفاء إرادته ، فلو فرض توقّف هذا الصارف على فعل الضدّ المباح أيضا توقّف المعلول على العلّة لزم الدور.

والحاصل أنّه إذا كان الصارف موجودا فلا إشكال في عدم كون فعل المباح مقدّمة كما عرفت ، وإذا فرض انتفاء الصارف كان التكليف حينئذ ساقطا بالنسبة إلى ترك الحرام إذا كان هذا الانتفاء بحيث لا يقتدر المكلّف على إيجاده ، وبعد سقوط التكليف عنه لا معنى لوجوب المباحات مقدّمة ، كما عرفت في الجواب الأوّل. ولا يمكن فرض توقّف انتفاء الصارف على فعل المباح ، للزوم الدور. نعم ، قد يتوقّف انتقاء الصارف عن الحرام في الزمان اللاحق على فعل شيء من الأضداد في الزمان

ص: 577

السابق عليه ، فيكون فعل المباح في الزمان السابق واجبا من باب المقدّمة ، ولكنّه لا يفيد نفي المباح رأسا ، كما ذكره جماعة من المجيبين عن شبهة الكعبي (1).

وفيه نظر ؛ لأنّ توقّف ترك فعل اختياري على فعل اختياري آخر ممّا لا معنى له ؛ لأنّ حاصله أنّ المكلّف لو لم يأت بالفعل المباح لدخل في الحرام بسوء اختياره ، وهذا لا يستلزم توقّف ترك ذاك الحرام على فعل المباح لا عقلا ولا عادة ولا شرعا ، لأنّ المفروض أنّه لو لم يفعل المباح لكان قادرا على ترك الحرام ومختارا فيه ، فلا يتوقّف حينئذ على فعل المباح حتّى يجب من باب المقدّمة. وهذا واضح.

نعم ، يمكن الاستدلال على وجوب المباح في هذه الحالة بوجهين :

أحدهما : قاعدة اللطف ؛ لأنّ إيجاب نحو هذا الفعل المباح المفروض كونه سببا لترك الحرام ولو اختيارا لطف من اللّه تعالى ، ووجوب اللطف عليه ثابت عند العدليّة ، من غير فرق بين أن يكون متعلّقه فعله سبحانه أو فعل العبد ، وحينئذ أمكن القول بوجوب المباح إذا اقتضى ترك الحرام من باب الاتّفاق ولو اختيارا.

وثانيهما : أنّ العقل قاض بوجوب نحو هذا الفعل مع قطع النظر عن جهة توقّف الترك الواجب عليه بحكم الوجدان والعرف ؛ فإنّا إذا راجعنا إلى أنفسنا وجدنا تحريك العقل إلى مباشرة الفعل الذي فيه اجتناب عن الحرام ولو من باب الاتّفاق ، فإن تمّ الوجهان أمكن القول بوجوب المباح حينئذ ، وإلاّ فلا يمكن الاستدلال عليه من باب المقدّمة ، كيف! والأمر كذلك في جميع المباحات بالنسبة إلى فعل المحرّمات ؛ لأنّ المكلّف إذا لم يأت بأحد المباحات لوقع في الحرام قطعا ولو بسوء اختياره ، فلو كان مجرّد عدم انفكاك فعل المباح من ترك الحرام مقتضيا

ص: 578


1- راجع المعالم : 68 - 69 ، وحاشية سلطان العلماء : 285 - 286 ، والقوانين 1 : 112 ، وهداية المسترشدين 2 : 233 - 249 ، والفصول : 89.

لوجوبه فلا وجه لمنع المقدّميّة رأسا إلاّ فيما إذا توقّف ترك الحرام على فعل المباح ، ضرورة ثبوت هذا النحو من التوقّف الراجع إلى أنّ المكلّف لو لم يأت بالمباح لعصى بسوء اختياره بين ترك الحرام وفعل أحد المباحات في جميع المقامات ، فما وجه تكذيب الكعبي في دعوى التوقّف مطلقا؟

نعم ، يمكن أن يعرض الوجوب للمباح في بعض الأحيان ، كما إذا توقّف ترك الحرام مطلقا - ولو اضطرارا - على فعل من المباحات ، مثل ما إذا علم أنّه لو لم يتحوّل من مكانه إلى داره يشرب الخمر كرها ، وحينئذ يجب عليه التحوّل من باب المقدّمة. ولا يرد أنّ التحوّل لا بدّ أن يكون مسبوقا بالصارف عن الشرب في الزمان المستقبل أيضا لكونه من مقدّماته وترك الشرب إنّما يستند إلى هذا الصارف دون فعل الضدّ ؛ لأنّ المفروض صدور الفعل عنه إلجاء أو عدم كفاية الصارف الفعلي في تركه ، فضلا عن الصارف الموجود في الزمان المتقدّم ، لكن قد يتوقّف في بقاء التكليف في صورة الإلجاء. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ هذا الإلجاء إنّما نشأ من اختياره لعلمه به وتمكّنه من دفعه ، فيكون كمن فوّت القدرة في الامتثال قبل مجيء زمان الفعل ، مثل ما سمعت في إراقة ماء الوضوء قبل الوقت وإعجاز النفس عن الحجّ قبل ذي حجّة في مبحث وجوب المقدّمة.

وأمّا الجواب عن الاستلزام (1) فغير خفيّ على من أحاط خبرا بما تلونا في إثبات جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

وأمّا الجواب عن العينيّة (2) فأوضح من البيان ؛ إذ كلّ أحد يعلم أنّ الأمر بترك الزنا ليس عين الأمر بضدّه الوجودي - كالسفر مثلا - في شيء لا مفهوما ولا مصداقا. والعجب من الشهيد الثاني! حيث حكي عنه أنّ الأمر بالحركة عين النهي

ص: 579


1- عطف على قوله : « أمّا الأوّل » في الصفحة 575.
2- عطف على قوله : « أمّا الأوّل » في الصفحة 575.

عن السكون (1). ولعلّ الذي أوقعه في هذا الخيال كونهما ضدّين لا ثالث لهما ، ولعمرك! إنّ الأمر كذلك في سائر المقامات إذا أخذنا الضدّ أحد الامور الوجوديّة ؛ لأنّه لا ثالث له ولفعل المأمور به ، كما لا يخفى. نعم ، لا خفاء في كون ترك الحرام مقارنا للأضداد الوجوديّة في الخارج بحيث يتوهّم مثل الشهيد أنّ الأمر بالأوّل عين الأمر الثاني. هذا تمام الكلام في الأقوال المعروفة.

بقي الكلام في قولين آخرين :

أحدهما لبعض المحقّقين من متأخّري المتأخّرين ، والثاني لشيخنا البهائي وقد تقدّم لذلك ذكر (2).

أما القول الأوّل : فهو التفصيل بين ما إذا كان الضدّ من أسباب امتناع المأمور به في حقّ المكلّف كالمسافرة في البحر بالنسبة إلى إيصال الدين الواجب المضيّق ونحوه ، وبين ما إذا لم يكن كذلك كقراءة القرآن بالنسبة إلى أداء الشهادة. فإنّ الضدّ في الأوّل - وهو السفر - فعله يوجب امتناع المأمور به أعني أداء الدين في حقّ المكلّف أبدا إذا كان من المعجّلات (3). بخلافه في الثاني ؛ فإنّ قراءة القرآن وإن كان ضدّا لأداء الشهادة ، إلاّ أنّه في كلّ آن من الآنات يقتدر على قطع القراءة وأداء الشهادة. ومثله ما إذا ترك أداء الحقّ المضيّق وتشاغل بالصلاة ، فإنّه يتمكّن في كلّ حال من أحوالها أن يتركها ويتشاغل بالواجب لسبق الحقّ المضيّق على الدخول فيها ، فيجوز الإبطال ، كالإبطال لغيره من الامور المقرّرة. وهذا المثال منقول عن صاحب هذا التفصيل ، ولعلّ مثالنا أحسن ؛ لما فيه من المناقشة والتأمّل.

ص: 580


1- انظر تمهيد القواعد : 135 ، القاعدة 40.
2- راجع الصفحة : 499.
3- في ( ط ) : المؤجّلات ، وفي ( م ) : الموصلات. والصواب : إذا كان معجّلا.

واستدلّ على هذا التفصيل على ما حكي عنه : بأنّ إيجاب الشيء إنّما يقتضي بحكم العقل والشرع والعرف إيجاب التهيّؤ له والتوصّل إليه ، فيجب فعل ما يقتضي وجوده وجوده وترك ما يقتضي تركه فعله ، كترك الحركة المقتضي لتحقّق السكون الواجب ، وترك ما يقتضي فعله عدم التمكّن منه كالمنافيات ، فالضدّ إن كان ممّا يوجب فعله عدم التمكّن من الواجب - كالسفر المانع من إيصال الحقّ المضيّق إلى صاحبه - فهو محرّم ، سواء قصد به الغاية المحرّمة أم لا ؛ لأنّ إباحته يقتضي عدم الإثم فيما يترتّب عليه ، فلو لم يكن الضدّ [ الموجب ](1) لعدم التمكّن منه محرّما لزم خروج الواجب عن كونه واجبا ؛ ولأنّ قضيّة إناطة الأحكام بالحكم والمصالح هو تحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، ولما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة لمن لا يتمكّن من الخروج عنه لأدائها (2) وغير ذلك. وإن لم يرفع تمكّنه ، بل كان في جميع أفعال الضدّ متمكّنا من تركه وأداء الواجب ، فلا يلزم من إيجاب الواجب تحريم مثل هذا.

هذه خلاصة ما حكي عنه من الاستدلال على الفرق. ونحن نزيد عليها : بأنّ فعل الضدّ في الأوّل - وهو الرافع للتمكّن عن الامتثال بالواجب - سبب لتركه ، إذ لا معنى للترك إلاّ صيرورة الواجب بحيث يتعذّر المكلّف عن الامتثال تعذّرا اختياريّا. بخلافه في الثاني ؛ فإنّ الاشتغال بالضدّ غير رافع للتمكّن كما هو المفروض ، ومن المعلوم أنّ ترك الواجب حرام ، ويحرم لذلك فعل الضدّ الرافع ، كما تقدّم من أنّ علّة الحرام حرام.

ص: 581


1- الزيادة منّا.
2- لم نعثر عليه بعينه ، انظر الوسائل 3 : 234 ، الباب 3 من أبواب القبلة ، الحديث 8.

وقد أجاب صاحب الفصول (1) عن هذه الأدلّة في كلمات طويلة كلّها أو جلّها مبنيّة على المقدّمة الموصلة التي عرفت فسادها.

ونحن نقتصر في المقال ونجيب عنها :

أوّلا بالنقض ، وتقريره : أنّ ما ذكر من الأدلّة إن نهض في إثبات وجوب ترك الرافع للتمكّن فمقتضاه وجوب غير الرافع أيضا ، لأنّ الكلام في ضدّ الواجب المضيّق الذي وجوبه فوريّ ثابت في جميع آنات القدرة ، ولا ريب أنّ الاشتغال بضدّ مثل هذا الواجب الفوري يرفع التمكّن عن الامتثال به زمن الاشتغال مطلقا ، من غير فرق بين شيء من الأضداد ، فإنّ الاشتغال بالصلاة - مثلا - أو بغيرها من الأضداد المنافية للإزالة يوجب امتناع فعل الإزالة في آن وقوع الصلاة ، وقضيّة ما ذكر من الأدلّة الحكم بحرمة الصلاة لكونها رافعة للتمكّن من فعل الواجب الذي هو الإزالة. وهكذا الكلام فيما فرضنا من المثال ، إذ الاشتغال بقراءة القرآن يرفع التمكّن عن أداء الشهادة في آن القراءة ، نحو رافعيّة السفر للتمكّن عن إيصال الحقّ الواجب.

نعم ، ربما يكون فعل الضدّ مستوعبا لتمام وقت الواجب بحيث لا يتمكّن المكلّف من تركه ، وقد لا يكون كذلك بل يكون من الأفعال التي يقتدر المكلّف على تركها ، وكلاهما مشتركان في كونهما رافعين للتمكّن عن الإتيان بالواجب. وإنّما الفرق بينهما هو أنّ رفع الأوّل مستمرّ إلى انقضاء وقت الواجب ورفع الثاني دائر مدار وجوده ، ولا يلزم في اتّصاف الشيء بالحرمة كونه رافعا للتمكّن عن الامتثال بالأمر الفوري مطلقا ، بل يكفي في ذلك كونه رافعا للتمكّن في آن ما ، ضرورة وجوب المسارعة إلى الامتثال في الأوامر الفوريّة في كلّ آن وحرمة التأخير ، بحيث إذا أخّر كان عاصيا تاركا للعمل بالقضيّة (2) الفوريّة.

ص: 582


1- الفصول : 100.
2- في ( م ) : بما يقضيه.

وثانيا بالحل ، وهو : أنّ ما ذكره من تطابق العقل والشرع والعرف في إيجاب التهيّؤ للواجب والتوصّل بترك فعل الضدّ ولو رفع التمكّن لفعله (1) دليل القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ مطلقا ؛ لأنّ ترك الأضداد تهيّؤ لفعل الواجب. ومن يقول بوجوب المقدّمة فهو قائل بوجوب ترك الضدّ من باب المقدّمة بعد تسليم كون الترك من مقدّمات الفعل لا من المقارنات ، فيكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن الضدّ ، إذ لا نعني بالنهي إلاّ ما كان تركه واجبا مطلقا ، من غير فرق بين الرافع للتمكّن وغيره ، لأنّ النظر الدقيق يرى جميع الأضداد رافعة للتمكّن. كيف لا! ومن الواضحات استحالة اجتماع الضدّين وعدم تمكّن وجود أحدهما في آن وجود الآخر. وأمّا صيرورة بعض الأضداد رافعا للتمكّن إلى انقضاء وقت الواجب دون بعض فلا ربط له بأطراف مسألتنا هذه. ومن لا يقول بوجوبها أو يقول به ولكن يمنع عن كون الترك مقدّمة للفعل - كالسلطان (2) - فهو إمّا يمنع عن حكم العقل والشرع والعرف بوجوب التهيّؤ إن كان من منكري وجوب المقدّمة ، أو يمنع عن كون ترك الضدّ - رافعا كان أو غير رافع - من التهيّؤ والتوصّل ، بدعوى كون التهيّؤ إنّما هو انتفاء الصارف الذي يحرّك إلى فعل الواجب وترك أضداده.

وأمّا ما ذكره من اقتضاء إناطة الحكم بالمصالح تحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، فمع كونه عبارة اخرى عن القول بحرمة سبب الحرام - وحرمته بسبب فوات المصلحة - مشترك الورود بين الضدّ الرافع والغير الرافع ، لما عرفت من كونهما رافعين معا ؛ وكذا ما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة ، فإنّه لو دلّ

ص: 583


1- في ( ع ) ، ( م ) : « للتمكّن بعينه » والعبارة مشوّشة.
2- حاشية سلطان العلماء : 282 - 283.

على المدّعى نسبته إلى المقامين متساوية ؛ مضافا إلى ما فيه أوّلا من خروجه عن محلّ الكلام ، لأنّ الصلاة ليست من الواجبات الفوريّة المضيّقة التي كلامنا فيها ، فلا ضير في كون الضدّ رافعا عن التمكّن بها ما لم يرفع التمكّن إلى انقضاء الوقت ، إذ ليست المسارعة إليها واجبة حتى يكون ضدّه مطلقا ولو كان رافعا في مقدار زمانه حراما.

والحاصل أنّه لا مضايقة في نحو الصلاة من الواجبات الموسّعة الالتزام بحرمة ضدّها الذي يرفع التمكّن منها رأسا دون غيره ممّا لا يرفع التمكّن ، بل لعلّ الحقّ هو هذا بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، لأنّ الواجب الموسّع إذا لاحظته وقايسته مع الضدّ الذي يصير سبب امتناعها في حق المكلّف يكون في حكم الواجب المضيّق في اقتضائه للنهي عنه ، لكون تركه مقدّمة لأداء الواجب. بخلاف ما إذا قايسته بالضدّ الذي لا يرفع التمكّن من الواجب إلى آخر الوقت ، فإنّ تركه حينئذ ليس مقدّمة لفعل الواجب على وجه الانحصار ، لإمكان الواجب في زمان آخر غير زمان ذلك الضدّ.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عن الوجه الذي ذكرناه دليلا على هذا التفصيل : من كون الرافع للتمكّن سببا لترك الواجب دون غيره ؛ لأنّ كلاّ منهما سبب للترك بالنسبة إلى الإتيان بالواجب المضيّق في زمان الضدّ وإن كان الأوّل رافعا للتمكّن بالنسبة إلى تمام العمر أو تمام الوقت. فتدبّر في المقام حتّى يظهر لك بطلان هذا التفصيل بما لا مزيد عليه.

وأمّا القول الثاني - وهو قول البهائي - فقد أشرنا إلى ما فيه عند تحرير الأقوال ، إذ قد ذكرنا أنّ هذا القول إن لم يرجع إلى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ كان بمعزل عن التحقيق ، وقلنا : إنّ صحّة العبادة لا يحتاج إلى تعلّق الأمر بها إذا كانت مندرجة تحت عنوان مأمور به ، بل يكفي في صحّتها انطباقها على ذلك

ص: 584

العنوان. وقلنا : إنّ الوجوب الثابت للطبائع لا يسري إلى الأفراد ، وإلاّ لزم كون جميع الأفراد واجبات عينيّة إذا كان الأمر المتعلّق بالكلّي أمرا عينيّا لا غيريّا. ونزيد هنا في تزييف هذا القول الذي ذهب إليه بعض من متأخّري المتأخّرين - كصاحب الرياض على ما صرّح به في مبحث العلم بغصبيّة الثوب (1) - ونقول : إنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضدّه لا النهي عنه لا دليل عليه إلاّ دعوى كون الأمر بالضدّين تكليفا بالمحال ، فلا بدّ من الحكم بعدم تعلّق الأمر بأحدهما إذا ثبت وجوب الآخر عينا.

وفيه : أنّه إن أردت من تعلّق الأمر بالضدّين تعلّق الأمر الشرعي أو العقلي بهما عينيّا أو تخييريّا شرعيّا أو عقليّا ، فالأمر كما ذكرت من كونه تكليفا بالمحال ، ولكن مصادمة فرد من أفراد الواجب الموسّع مع الواجب المضيّق ليس من هذا القبيل ، لأنّ الفرد بخصوصه ليس ممّا ورد فيه أمر شرعيّ أو عقليّ عينيّا أو تخييريّا ؛ لأنّ معنى كون الفرد مأمورا به كون الكلّي الذي هو فرده مطلوبا للشارع ثمّ انطباق ذلك الفرد على ذلك الكلّي ، فليس الفرد في فرديّته مأمورا به في شيء.

وما يقال : من توقّف صحّة العبادة على الأمر فليس معناه إلاّ ورود الأمر على عنوان تلك العبادة وطبيعتها ، مثلا إذا قال الآمر : « ائتني برجل » فالمأمور به هنا إنّما هو الإتيان بالكلّي المنطبق على خصوصيّات الإتيان بحسب الزمان والمكان والمأتيّ به ، وأمّا خصوصيّات الإتيان وأفرادها فلم يتعلّق بها عن الكلّي انطباقه عليها وحصوله في ضمنها.

وما يقال : من أنّ حكم الطبيعة لا بدّ وأن يسري إلى الأفراد ، نظير سريان الحلاوة الثابتة لطبيعة التمر إلى جميع أفراده.

ص: 585


1- الرياض 3 : 190 - 191.

فجوابه : أنّ أحكام الطبائع ولوازمها مختلفة ، فمنها : ما هو ثابت لها من حيث هي مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي ، ومنها : ما هو ثابت لها بشرط وجودها في الخارج ، ومنها : ما هو ثابت لها بشرط الوجود الذهني كما في القضايا الطبيعيّة ، مثل قولنا : « الإنسان نوع والحيوان جنس » وأمثال ذلك.

وما ذكر من السريان إنّما هو مسلّم في الأوّلين ، وأمّا في الثالث فمن الواضح امتناع السريان فيه ، وإلاّ لكان كلّ فرد من أفراد الحيوان جنسا. والوجوب العارض للماهيّات من هذا القبيل ، فإنّه ليس عارضا للطبيعة من حيث هي هي ، ولا بها بشرط وجودها في الخارج ، بل يعرض لها بشرط وجودها الذهني. وإنّما قلنا كذلك ، لأنّ الوجوب في الحقيقة ليس من صفات الماهيّة بل هو عبارة عن الطلب القائم بنفس المتكلّم المتعلّق بإيجاد تلك الطبيعة ، وطلب الإيجاد لا يمكن أن يعتبر فيه بشرط كون المطلوب في الذهن دون الخارج. وإن أردت من تعلّق الأمر بهما تعلّق الأمر بأحدهما وبكلّي الآخر فما ذكرت من كونه تكليفا بالمسمّى ممنوع ، لأنّ المسمّى إنّما هو طلب الأمرين لا طلب أحدهما. والظاهر انطباق الآخر على المطلوب.

لا يقال : كلّ ما ذكرت - بعد تسليمه - إنّما يقضي بعدم تعلّق الأمر الشرعي بالفرد لا عينا ولا تخييرا ، وأمّا الأمر العقلي التخييري فليس في وسعك إنكار هذا ، لأنّ العقل إذا وجد تعلّق الأمر بالكلّي حكم بكون كلّ واحد من أفراده مطلوبا على جهة التخيير ، وهذا الطلب العقلي التخييري أيضا يستحيل اجتماعه مع طلب ضدّه عينا.

لأنّا نقول : إن أردت بالتخيير العقلي حكم العقل بكون الأفراد مطلوبة للشارع على سبيل التخيير ، فهذا يرجع إلى التخيير الشرعي ، إذ لا نعني بالتخيير الشرعي إلاّ طلب الشارع أشياء على جهة التخيير كالخصال ، وهذا أوّل الكلام.

ص: 586

وإن أردت بالتخيير العقلي أنّ العقل إذا وجد تعلّق الأمر بعنوان كلّي ولم يجد التخصيص حكم بحصول الامتثال في ضمن كلّ فرد ، فهذا بعينه هو الانطباق الذي ادّعينا كونه كافيا في الامتثال وأنّه ليس من الطلب في شيء.

فإن قلت : إنّ الذي سمّيته بانطباق الفرد على الكلّي هو الذي يعدّ امرا عرفا وحكمه حكم الأمر الصريح في صحّة العمل وسقوط (1) التكليف وحصول الإجزاء وترتّب الثواب والعقاب والإطاعة والعصيان وغيرها من أحكام المأمور به ، سمّيته بالأمر أم لا ، ولا ريب في استحالة هذا الانطباق في أحد الضدّين على وجه يؤثّر في الصحّة مع تعلّق الأمر بالضدّ الآخر.

قلت : هذا ممنوع ، فإنّ القبح والاستحالة إنّما هي في خصائص تعلّق الطلب بالضدّين ، فلا يثبت بطلب أحدهما وانطباق الآخر على المطلوب.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا ليس مبنيّا على القول بكون متعلّق الأمر هي الطبيعة دون الفرد - كما يتوهّم من ظاهر كلماتنا - بل لو قيل بتعلّق الأوامر بالأفراد لتمّ ما ذكرنا أيضا ، لأنّ معنى تعلّق الأمر بالفرد أنّ المطلوب إنّما هو الحصّة من الطبيعة في الخارج في ضمن فرد ما ، ولا ريب أنّ نسبة فرد ما إلى خصوص الأفراد مثل نسبة الكلّي إلى الأفراد. وحينئذ نقول : إنّ المطلوب إنّما هو أحد الأفراد على سبيل البدليّة ، ومعنى البدليّة حصول الامتثال بكلّ فرد لانطباقه على فرد ما ، فتدبّر جيّدا.

نعم ، يمكن أن يستدلّ على هذا القول بنحو ما اخترنا في هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب : من أنّ الأمر التخييري الشرعي الشأني ثابت لجميع الأفراد ولو كان الأمر الفعلي منتفيا ؛ لأنّ الآمر إذا التفت إلى الأفراد [ و ] أراد أن يثبت لها حكما من الأحكام امتنع أن يثبت شيئا إلاّ الوجوب التخييري ، وحينئذ أمكن دعوى

ص: 587


1- في ( م ) : ثبوت.

اقتضاء الأمر بالشيء عدم هذا الأمر الشأني للضدّ. ولكنّ الانصاف أنّ من يقول بهذا فلا ينبغي له إنكار اقتضاء الأمر النهي الشأني عن الضدّ ، كما أثبتنا ذلك واخترناه في المسألة وقلنا : بأنّ هذا النهي الشأني قائم مقام النهي الفعلي في الآثار. واللّه العالم.

تذنيب

هل النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العامّ أو الخاصّ ، على القول باقتضاء الأمر به النهي عنهما أو عن أحدهما أم لا؟ ذهب الكعبي إلى أنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه الخاصّ (1) لوجوه قد عرفت جوابها بما لا مزيد عليها ، وخالفه أكثر العامّة (2) وجميع الخاصّة (3) إلاّ في مواضع مستثناة متقدّمة إليها الإشارة.

وأمّا اقتضاؤه الأمر بضدّه العامّ ، مثل اقتضاء قوله : « لا تزن » الأمر بترك الزنا ، فالظاهر أنّه مثل اقتضاء الأمر النهي عن الضدّ العام ، فالكلام الذي سبق (4) هناك جار هاهنا أيضا. وقد عرفت أنّ القول بكلّ واحد منهما عين الآخر على بعض التقادير - وهو أن يكون المراد اتّحاد مصداق المطلوبين دون الطلبين - لا يخلو عن استقامة. كما أنّ القول بالعينيّة على التفسير المراد به اتّحاد نفس الطلبين لا يخلو عن استقامة ، فارجع إلى ما تقدّم حتّى يتضح لك الحال في أطراف المسألة هنا.

ص: 588


1- انظر شرح مختصر الاصول : 202 - 203 ، ونهاية الوصول : 98 ، وهداية المسترشدين 2 : 283.
2- انظر شرح مختصر الاصول : 202 - 203.
3- انظر القوانين 1 : 116.
4- في ( ع ) و ( م ) : سيق.

ثمّ قد يتفرّع على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ اقتضاء الأمر الندبي كراهة ضدّه العامّ أو الخاصّ ، وعلى اقتضاء النهي عن الشيء الأمر بضدّه استحباب ضدّ المكروه.

والتحقيق أنّ الأمر الندبي لا يقتضي كراهة ضدّه العامّ فضلا عن الخاصّ ، إذ ليس في ترك المندوب إلاّ فوت بعض المصالح ، وليس هذا بمبغوض للشارع حتّى يكون مكروها. نعم لو قلنا بأنّ المكروه طلب تركه مع الإذن في الفعل كان ترك ترك المستحب مطلوبا وفعل تركه مأذونا ، ولكنّه مع ذلك لا يعدّ من المكروه ، لأنّه عبارة عن شيء وجودي مطلوب تركه ، فلا يصدق على أمر عدميّ مطلوب نقيضه.

وأمّا اقتضاء النهي على وجه الكراهة استحباب ضدّه العام ، فالظاهر أنّه لا ضير فيه ؛ لأنّ الفرار عن المنقصة مطلوب عند الشارع ، ولا نعني بالمستحبّ إلاّ ما كان مطلوبا. وأمّا استحباب الضدّ الخاصّ فهو مبنيّ على تماميّة قول الكعبي ، ولا نقول به ، كما مرّ غير مرّة.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى على خير خلقه محمّد وآله أجمعين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

ص: 589

ص: 590

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

القول في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

اشارة

ص: 591

ص: 592

وتوضيح المرام في طيّ مقدّمة وهدايات :

أمّا المقدّمة : ففي بيان أنّ هذه المسألة هل هي ملحقة بمسائل الاصول أو بمسائل الكلام؟ وعلى الأوّل فهل هي من مقاصدها أو من المبادئ؟

فنقول : يظهر من بعضهم أنّها من المسائل الكلاميّة (1). ولم يظهر له وجه ، فإنّه يبحث في الكلام عن أحوال المبدأ والمعاد ، حيث إنّها صناعة نظريّة تقدر معها على إثبات العقائد الدينيّة : من إثبات الصانع ، وصفاته التي يتوصّل بها إلى إثبات النبيّ ، والوصيّ ، والمعاد بما فيها من العقائد ، وليس البحث المذكور ممّا يرجع إليها كما هو ظاهر. نعم ، لو كان البحث من حيث صدوره عنه [ كأن يكون النزاع في فعله ، كما يبحث في جواز إقدار الكاذب على فعل خارق للعادة ](2) كان له وجه. لكن الظاهر عدم رجوع النزاع إليه ، كما يرشد إليه كلماتهم نقضا وإيرادا. ومجرّد كونها من المباحث العقليّة لا يقضي بإلحاقها إلى المسائل الكلاميّة.

نعم ، قد يبحث في الكلام عن بعض المطالب العقليّة من حيث إنّ لها دخلا في المقاصد : كما في المسائل المتعلّقة بالطبيعيّات ، وبعض مطالب الامور العامّة كإبطال الجزء (3) وإثباته بناء على ما زعموا من ابتناء أمر المعاد الجسماني عليه ، وكامتناع إعادة المعدوم وإمكانه لذلك أيضا ، وما نحن بصدده ليس من هذا القبيل أيضا.

ص: 593


1- راجع الوافية : 99 ، وإشارات الاصول : 110.
2- أثبتناه من هامش ( ط ).
3- أي الجزء الأصلي للبدن ، راجع كشف المراد : 406.

وقد يظهر من بعض آخر (1) أنّ البحث فيها يرجع إلى البحث عن مقاصد الاصول ، فإنّها يستنبط منها صحّة الصلاة في الدار المغصوبة وفسادها.

وليس بشيء ؛ فإنّ الصحّة والفساد لا يترتّبان على الجواز والعدم ، بل التحقيق أنّ الصحّة متفرّعة على عدم التعارض والتناقض بين مدلولي الأمر والنهي ، وتشخيص ذلك موقوف على مسألة الجواز والامتناع.

فهذه المسألة من مباني المسألة الاصوليّة ، وهي وجود التعارض وتحقّق التناقض بين الأدلّة وعدمه ، فالحكم الفرعي لا يترتّب على هذه المسألة بدون توسيط.

والأولى أن يقال بأنّ البحث فيها إنّما هو بحث عن مبادئ (2) الأحكاميّة ، حيث يناسب عند ذكرها وتحقيقها ذكر بعض أحكامها وأوصافها : من ملازمة وجوب شيء لوجوب مقدّمته ، ومن جواز اجتماع الحكمين مع تضادّهما ، كما تقدّم شطر من الكلام في ذلك في بحث المقدّمة. وذلك هو الوجه في ذكر العضدي له في المبادئ الأحكاميّة (3) ، كشيخنا البهائي قدس سره (4).

ويمكن إيرادها في مباحث الأدلّة العقليّة ، من حيث إنّ العقل يحكم بارتفاع أحدهما قطعا عند الاجتماع على المنع. إلاّ أنّه ضعيف ، إذ مجرّد ذلك لا يقضي به ما لم يلاحظ فيه ثمرة فقهيّة.

ص: 594


1- انظر القوانين 1 : 142.
2- كذا ، والمناسب : « المبادئ ».
3- راجع شرح مختصر الاصول : 3 و 92 ، حيث جعله في المبادئ.
4- لم نعثر عليه.

وقيل : إنّ النفي والإثبات في المسألة راجع إلى اللغة (1). وهذا أنسب بكلام المعالم (2) حيث أوردها في مباحث النهي المبحوث فيها عن اللفظ.

وأنت خبير بما فيه من الضعف والوهن ؛ فإنّ البحث المذكور - كأدلّتهم وأجوبتهم - ممّا ينادي بأعلى صوته على فساد التوهّم المذكور. وقد ذكرنا في مباحث المقدّمة ما يوضح فساده في الغاية ، فراجعه.

وأمّا صاحب المعالم ، فحيث إنّه لم يذكر في المعالم ما يشتمل على مبادئ (3) الأحكاميّة أوردها في مسائل النهي ، مع أنّ كلماته أيضا صريحة في فساد التوهّم المذكور في كلامه ، وإن كان له في كلامه وجه في نظائره كوجوب المقدّمة ، فتدبّر.

ص: 595


1- حكاه في إشارات الاصول : 110 ، عن المحقّق الشيرواني.
2- المعالم : 94 - 96.
3- كذا ، والمناسب : « المبادئ » كما تقدّم.

ص: 596

هداية : في بيان المراد من الألفاظ المأخوذة في العنوان

فنقول : إنّ « الجواز » لغة - على ما يستفاد من كتب اللغة (1) والعرف - هو الانتقال وعدم الوقوف في حيّز ، كما في قولهم : « جاز منه إلى كذا » ومنه التجاوز. وقد يستعمل بالمشاكلة في مقابل المنع ، فيقال : « يجوز ذلك » أي لا مانع منه ، فكأنّه غير واقف على أحد الطرفين من الوجود والعدم ، و « فلان جوّز كذا » أي لم يمنع منه ، و « الشيء جائز » أي غير ممتنع. وأمّا الحاكم بالجواز فهو العقل والشرع ، وستعرف أنّ الجواز العرفي مرجعه إلى العقل ، غاية الأمر اختلاف موضوع الجوازين ، كما سيأتي.

وقيل (2) : إنّ له معان خمسة ، فتارة يطلق في قبال الباطل والفاسد ، كما في قولهم : « يجوز بيع الفضولي ». وقد يطلق في قبال القبيح ، كما يقال : « يجوز صدور المعجزة عن كذا » مثلا. وقد يطلق في قبال ما يعدّ غلطا في اللغة كما يقال : « يجوز استعمال اللفظ في كذا » إلى غير ذلك. والظاهر رجوع كلّ ذلك إلى معنى واحد ، كما لا يخفى على الفطن.

وأمّا « الاجتماع » فبعد ملاحظة إضافته إلى الأمر والنهي ظاهره وجودهما

ص: 597


1- راجع المصباح المنير : 115 ، والقاموس 2 : 170 ، وأقرب الموارد 1 : 149.
2- ضوابط الاصول : 135.

في موردهما بجميع خواصّهما وأحكامهما ولوازمهما ، من حصول الامتثال والتقرّب والثواب والعقاب. وأمّا الإسقاط فليس من الاجتماع في شيء ، كما هو ظاهر لفظ « الاجتماع ».

ومن هنا تعرف النظر في كلام العضدي بعد ما مثّل لمحلّ النزاع بالصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قال : « فقال الجمهور : تصحّ الصلاة. وقال القاضي لا يصحّ الصلاة لكن يسقط الفعل عندها ، لا بها. وقال أحمد وأكثر المتكلّمين والجبّائي : لا تصحّ ولا تسقط » (1) انتهى. حيث إنّ القول بالسقوط لا ينبغي ان يعدّ قولا ثالثا ، إذ لا اجتماع هناك ، فمرجعه إلى القول بالامتناع ، فيكون الصلاة عند القاضي من الواجبات التوصّليّة التي تسقط عند اجتماعها مع الحرام.

لكنّه بعد لا تخلو عن إجمال ؛ إذ ليس النزاع مختصّا بالصلاة ، فإنّها من مواردها كغيرها ، فإن أراد تصحيح الصلاة خاصّة فهي مسألة فرعيّة ، وإن أراد إقعاد قاعدة اصوليّة فلا وجه له كما هو ظاهر الاجتماع ، وإن أراد بيان رجوع كلّ من الأمر والنهي إلى أمر مغاير للآخر فهو مانع. ولعلّ الخلط المذكور من الناقل ، فإنّ كلام القاضي مجمل في المقام.

وأمّا القول بحصول الواجب من دون إسقاط وعدم حصول اللوازم المترتّبة على حصول المأمور به على وجهه من الشرائط والأجزاء فهو ممّا لا ينبغي المصير إليه ، كما اختاره المحقّق القمّي رحمه اللّه ، حيث بنى في العبادات المكروهة - كصوم الغدير في السفر وإن نوى الصائم فيه القربة - حصول المأمور به والمنهيّ عنه ، وعدم حصول لوازمه من التقرّب ، زاعما أنّ نيّة التقرّب لا تلازم وجود التقرّب (2). وهو بمكان من الضعف.

ص: 598


1- شرح مختصر الاصول : 92.
2- القوانين 1 : 144 - 145.

وبالجملة ، فلازم لفظ الاجتماع هو الالتزام بجميع لوازم الواجب والحرام من الثواب والعقاب والقرب والبعد ونحوها. وأمّا الأمر والنهي فالاقتصار على ظاهرهما يعطي كون النزاع في اجتماعهما نفسهما ، لا المأمور به والمنهيّ عنه.

ومن هنا قيل (1) : إنّ في المقام مسألتين ، إحداهما : أنّه هل يجوز كون الشيء الواحد متعلّقا للوجوب والحرمة من جهتين في محلّ النزاع فيهما؟ وثانيتهما : أنّه إذا أمر بعامّ ونهى عن آخر بينهما عموم من وجه ، فأتى المكلّف بالفرد الجامع ، فهل يحصل به الامتثال مع الإثم أم لا؟

وفرّق بين المسألتين : بأنّ الاولى لا ارتباط لها بتعلّق الأحكام للطبائع أو الأفراد ولا بوجوب المقدّمة وعدمه. نعم ، يحصل الفرد الذي هو محلّ الاجتماع في المسألة مثالا للاولى على بعض الوجوه. وأمّا الثانية فتتفرّع على المسألة الاولى ، فإنّ القائل بالجواز في الاولى يقول به فيها بالأولويّة (2).

وأمّا المانع فيحتمل أن يقول بالمنع والجواز أيضا في المسألة الثانية ، فإنّه على تقدير تعلّق الأحكام بالأفراد لا مجال للجواز ، لرجوعه إلى المسألة الاولى. وعلى تقدير تعلّقه بالطبائع فعلى القول بوجوب المقدّمة أيضا يكون من أفراد المسألة الاولى إن لم نقل بأنّ الفرد المحرّم من المقدّمة يوجب الامتثال. وأمّا إذا قيل بعدم وجوب المقدّمة فيجوز (3) ، أو قيل (4) بوجوبها مع حصول الامتثال بالفرد المحرّم ، فيجوز أيضا.

ص: 599


1- قاله الفاضل النراقي في المناهج.
2- مناهج الأحكام : 58.
3- في ( ع ) : فيجوزه.
4- في ( ع ) : وقيل.

ومن هنا اعترض على من عنون البحث باجتماع الوجوب والحرمة والأمر والنهي ، وبعد اختياره القول بالجواز استند إلى أنّ متعلّق الأمر هو الطبيعة والفرد مقدّمة وهي ليست بواجبة ، فإنّ هذه الدعوى غير مربوطة بهذه الحجّة ، وقال : ما أدري ما المناسبة بين الدليل والمدلول (1)؟

أقول : ولعلّ ما عرفت من عنوان المسألتين هو المراد في كلام بعض الأواخر من التفكيك بين اجتماع الأمر والنهي المنسوبين إلى الآمر وبينهما منسوبين إلى المأمور ، حيث قال بامتناع الأوّل وجواز الثاني (2) ، وهو مطابق لظاهر لفظي « الأمر » و « النهي ».

إلاّ أنّ التأمّل في كلمات المانعين والمجوّزين يعطي عدم الفرق بين المسألتين ، بمعنى أنّ العنوان يصلح للنزاعين ولكلّ واحد منهما أيضا ، كما يظهر من ملاحظة كلام العضدي حيث استند للحكم بالجواز بالدليل المذكور (3) مع أنّه عنون النزاع بما هو المعروف فيه. ويساعده جواب المانعين عن حجّة اخرى : من أنّ المقصود من الأمر بالخياطة هو حصولها على أيّ وجه اتّفق ، فإنّه ظاهر في المأمور به والمنهي عنه. وعلى ما ذكره يكون النزاع بين المانعين والمجوّزين في المسألة الثانية صغرويّا ، لأنّ النزاع إنّما هو في أوّل هذه المسألة ورجوعها إليها ، كما صرّح به البعض (4) أيضا (5).

ص: 600


1- لم نعثر عليه.
2- ضوابط الاصول : 133.
3- شرح مختصر الاصول : 93.
4- في ( ع ) : بعض.
5- ضوابط الاصول : 132.

ثمّ إنّ الأمر والنهي ظاهران في الإلزاميّين منهما ، إلاّ أنّ المناط فيهما موجود في غير الإلزاميّين أيضا ، ومن هنا يتخيّل عموم النزاع ، وليس بشيء.

وهل المراد بالأمر والنهي الإلزاميّين جميع أقسامهما من العينيّين والتخييريّين والمختلفين والكفائيّين وغير ذلك ، أو يختصّ ببعض الأقسام؟

وتفصيل القول في المقام هو : أنّه لا إشكال عندهم في خروج العينيّين من هذا النزاع ، كما هو صريح كلّ من خصّ النزاع بما إذا كان للمكلّف مندوحة في الامتثال (1) دون ما إذا لم يكن مندوحة ، كمن توسّط أرضا مغصوبة ، وإن فرّط بعض المجوّزين حيث قال بالجواز فيه أيضا (2). والحق أنّه ليس تفريطا بل هو قول بمقتضى مذهبه ، وإن كانت تلك المسألة خارجة عمّا نحن بصددها. كما أنّهم أيضا عنونوها بعد هذه المسألة ، كما ستعرفه.

وأمّا الأمر والنهي التخييريّين : سواء كان التخيير فيهما عقليّا أو شرعيّا ، فلا ينبغي التأمّل في جواز اجتماعهما ، كما في الأمر بتزويج إحدى الاختين والنهي عن الاخرى ، فإنّ مرجع ذلك إلى وجوب إحداهما والنهي عن الجمع ، هذا في الشرعي. وأمّا في العقلي كما لو فرض تعلّق الأمر بطبيعة باعتبار فرد والنهي عنها باعتبار فرد آخر ، إذ مرجعه إلى وجوب أحد الأفراد والنهي عن إلحاقه بفرد آخر.

وأمّا الأمر العيني والنهي التخييري : كأن يأمر بتزويج إحداهما عينا وينهى عنهما تخييرا ، فلا ينبغي التأمّل في عدم الجواز ، لكنّه ليس من المجوّز التزامه فيه أيضا بعيدا ، إذ لا مائز حقيقة في البين.

وأمّا الأمر التخييري والنهي العيني : فهو من محلّ النزاع إذا كان التخيير

ص: 601


1- مثل الفاضل الأصفهاني في الفصول : 124.
2- لم نعثر عليه.

عقليّا ، وأمّا إذا كان شرعيّا فعلى تقدير تعلّق الطلب بكلّ واحد من الواجبين التخييريّين كأن يكون الطلب في أحدهما بدلا عن الطلب في الآخر - كما هو مذهب المعتزلة والإماميّة في الواجب التخييري (1) - فلا إشكال في عدم الجواز ، فإنّ مناط الامتناع في الواجب العيني موجود فيه أيضا. وأمّا على تقدير تعلّق الطلب بواحد - كأن يكون المطلوب بدلا عن مطلوب آخر - فمرجعه إلى التخيير العقلي ، إذ المطلوب هو القدر المشترك أيضا. ويحتمل دخوله في محلّ الكلام.

وأمّا العينيّان في قبال الكفائيّين : فلا يفرق فيه الكلام كالكفائيّين ، إلاّ أنّه هنا شيء لا بأس بالتنبيه عليه ، وهو أنّه في الواجب الكفائي لا يلاحظ فيه حال المكلّفين ، بمعنى أنّه لو قلنا بوجوب غسل الميّت موافقا كان أو مخالفا على سبيل الكفاية لا وجه للقول بحرمته العيني أو كراهته ، فإنّ ذلك من اجتماع الحرمة العينيّة مع الوجوب العيني في قبال الوجوب والتحريم التخييريّين. وقد عرفت أنّه لا كلام في خروجه عن محلّ النزاع.

ومن هنا يظهر الإشكال في حكمهم بكراهة تغسيل المخالفين بعد القول بوجوب غسلهم (2) ، وحكمهم بكراهة القضاء بين الناس لمن لا يثق بنفسه (3) ، فإنّ الإشكال فيهما زائد على الإشكال في مطلق العبادات المكروهة ؛ لأنّ الأمر فيها تخييري بخلاف الأمر فيهما ، فإنّه عينيّ وإن كان كفائيّا ؛ ولذلك قد يجاب عنه بما لا يجاب به فيها : من أنّ المكروه فيهما هو المبادرة إليهما مع وجود من يقوم بالواجب

ص: 602


1- انظر هداية المسترشدين 2 : 288.
2- انظر الشرائع 1 : 37 و 39 ، والقواعد 1 : 223 - 224.
3- لم نعثر عليه بعينه. نعم ، ذكر في الشرائع ( 4 : 68 ) : « الثانية : تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه ».

الكفائي ، بل لا بدّ في الواجب الكفائي من ملاحظة حال الفعل ، كالصلاة على الميت في المكان المغصوب ، فإنّه واجب تخييريّ كفائي ، فيكون من محلّ الكلام.

وأمّا سائر أقسام الأمر والنهي من الموسّعين والمضيّقين والمشروطين أو التعبّديّين والتوصّليين وغير ذلك ، فلعلّه لا فرق بينها في دخولها في محلّ الكلام لو لم يدّع ظهور الأمر والنهي في بعضها ، وعلى تقديره فالمناط فيها واحد ، كما في غير الإلزاميّين على ما عرفت.

وأمّا المراد من « الشيء الواحد » فقد ذكر غير واحد منهم (1) تبعا للعضدي (2) أنّه هو الواحد بالوحدة الشخصيّة ، وأمّا الواحد بالوحدة الجنسيّة فلا نزاع في جواز الاجتماع فيه كما في السجود ، فإنّه مأمور به ومنهيّ عنه.

وفيه : أنّ ترك التقييد أولى ؛ لما فيه من إيهامه خلاف المقصود ، إذ لا إشكال في امتناعه في الواحد بالجنس أيضا من حيث إنّه واحد ، وإنّما يجوز فيه باعتبار كثراته في مراتب أنواعه ، وكذا في الواحد بالنوع فإنّه يمتنع في وحدته أن يكون مأمورا به ومنهيّا عنه ، وإنّما يصحّ باعتبار كثراته في أشخاصه ، فعند التحقيق لا يكون الجنس ولا النوع على تقدير اعتبار الأخصّ منهما في تعلّق الأمر والنهي مأمورا به ولا منهيّا عنه.

ص: 603


1- مثل صاحب المعالم في المعالم : 94 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 140 ، وصاحب الفصول في الفصول : 124.
2- شرح مختصر الاصول : 92.

ص: 604

هداية

اشارة

ينبغي أن يذكر أمام المقصود امور لعلّها مربوطة به.

الأوّل

أنّ متعلّق الأمر والنهي إمّا أن يكون متّحدا في الذهن والخارج ، أو يكون متعدّدا فيهما ، أو متّحدا في الخارج ومتعدّدا في الذهن ، ولا رابع لهذه الأقسام.

لا إشكال في امتناع الاجتماع في الأوّل فإنّه تناقض صرف ، وجوازه في الثاني مع عدم الملازمة بينهما في الوجود ، وأمّا معها فقد عرفت الكلام فيه ، وسنورد ما يوضحه أيضا.

وأمّا الثالث : فقد يكون أحدهما ملازما في الصدق للآخر كما في الإنسان والضاحك ، وقد لا يكون كأن يكون أحدهما أعمّ من الآخر مطلقا ، أو من وجه.

لا إشكال أيضا عندهم في امتناع الاجتماع في القسم الأوّل ، لاتّفاق كلمتهم على اعتبار المندوحة في الامتثال.

وأمّا الثالث ، فهو محلّ الكلام إن لم ينحصر أفراد أحدهما في فرد الآخر ، إذ على تقدير الانحصار يكون من الموارد التي لا مندوحة للمكلّف في الامتثال. ويظهر من المحقّق القمّي رحمه اللّه عند تعرّضه لبيان الحكم (1) المتوسّط في الدار المغصوبة : أنّ

ص: 605


1- كذا ، والمناسب « حكم ».

المدار على التعدّد الذهني فقط وإن انحصر مفهوم أحدهما في مصاديق الآخر (1). ولعمري! إنّه أخذ بلوازم مذهبه في الواقع ، كما ستعرف.

وأمّا القسم الثاني - وهو العموم المطلق - فقد يظهر من المحقّق القمّي رحمه اللّه أنّه خارج عن محلّ الكلام ، وجعل ذلك مناط الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية من اقتضاء النهي الفساد (2).

واعترض عليه بعض الأجلّة (3) : بأنّه لا وجه للتخصيص بذلك ؛ فإنّ أدلّة المجوّزين والمانعين يجري في العموم والخصوص المطلق ، ومجرّد كون المثال من العموم من وجه لا يقضي باختصاص البحث به بعد شمول العنوان والأدلّة لغيره أيضا. وجعل مدار الفرق بين المسألتين بأنّ الطبيعتين إن اتّحدتا حقيقة وتغايرتا اعتبارا بمجرّد الإطلاق والتقييد - بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد - فهو من المسألة الثانية ، وإلاّ فمن محلّ الكلام.

ولعلّ مراده أنّ مناط الفرق هو اتّحاد متعلّق الطلب وتعدّده ، كما في قولك : « صلّ ولا تغصب » ، « صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة » فإنّ الأوّل لكون المفهومين فيه متعدّدا يكون من محلّ الكلام ، والثاني لاتّحادهما يكون من المسألة الآتية. ولا فرق في ذلك بين كون النسبة عموما مطلقا - كما عرفت - أو عموما من وجه كقولك : « صلّ صلاة الصبح ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة ». كما أنّه لا فرق في محلّ الكلام بين كون النسبة عموما من وجه كما عرفت ، أو عموما مطلقا كقولك : « صلّ ولا تغصب حال الصلاة ». نعم ، يمكن إرجاع كلّ من الموردين إلى الآخر

ص: 606


1- القوانين 1 : 140.
2- انظر القوانين 1 : 147.
3- الفصول : 134.

باعتبار في أحدهما ، كأن يقال بأنّ النهي عن الغصب حال الصلاة راجع إلى النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ، وغير ذلك.

أقول : إنّ ظاهر هذه الكلمات يعطي انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون اختها ، وليس كذلك ، بل التحقيق أنّ المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالاخرى.

وتوضيحه : أنّ المسئول في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهيّة المطلوبة (1) فعلها والماهيّة المطلوبة (2) الترك ، من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي ، فإنّه كما يصحّ السؤال عن هذه القضيّة فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه ، فكذا يصحّ فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك : « صلّ » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » أو لم يكن كذلك. والمسئول عنه في المسألة الآتية هو أنّ النهي المتعلّق بشيء هل يستفاد منه أنّ ذلك الشيء ممّا لا يقع به الامتثال؟ حيث إن المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأيّ فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أنّ النهي المتعلّق بفرد من أفراد المأمور به هل يقتضي رفع ذلك الترخيص الوضعي المستفاد من إطلاق الأمر أو لا؟ ولا ريب في أنّ هذه القضيّة كما يصحّ الاستفسار عنها فيما إذا كان بين المتعلّقين إطلاق وتقييد ، فكذلك يصحّ فيما إذا كان بينهما عموم من وجه ، كما إذا كان بينهما عموم مطلق.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين كما زعموا ، بل لا بدّ من اختلاف جهة الكلام ، وعلى تقدير اختلافها لا حاجة إلى التجشّم المذكور في بيان الفرق. ولو لا ما ذكرنا لم ينطبق عليه الأقوال المذكورة في المقام الآتي ، كما لا يخفى.

ص: 607


1- كذا ، والأنسب : « المطلوب ».
2- كذا ، والأنسب : « المطلوب ».

ثمّ إنّ الظاهر اختصاص كلماتهم فيما نحن بصدده بما إذا كان العموم من وجه بين نفس الفعل المأمور به والفعل المنهيّ عنه ، كما في قولك : « صلّ » و « لا تغصب » حيث إنّ النسبة المأخوذة فيهما غير مستندة إلى أمر خارج عن الطبيعتين. بخلاف ما إذا كان العموم بينهما باعتبار متعلّقهما كما في قولك : « أكرم عالما » و « لا تكرم فاسقا » فإنّ الإكرام باعتبار الإضافة والتعلّق بالعالم والفاسق قد اختلفت ماهيّته على وجه العموم والخصوص من وجه ، كما هو ظاهر. ولعلّ الوجه في ذلك - على ما سيأتي - هو اختلاف متفاهم المثالين عند العرف.

وبما ذكرنا يمكن دفع ما ربما يورد على القوم : من التناقض بين الخلاف في المقام وبين إطباقهم في مباحث الترجيح على التوقّف والرجوع إلى الاصول في تعارض العامّين من وجه أو التخيير أو غير ذلك من غير احتمال الجمع ، إلاّ أنّ المجوّز بعد مطالب بالفرق بين المقامين. كما أنّه مطالب بذلك فيما إذا لم تكن مندوحة وبين غيره ، وقد عرفت (1) أنّ بعضهم قد طرّد الكلام فيه أيضا.

الثاني : في بيان الأقوال في هذه المسألة

فنقول : إنّهم اختلفوا فيها على قولين :

فذهب أكثر أصحابنا (2) وجمهور المعتزلة (3) وبعض الأشاعرة

ص: 608


1- انظر الصفحة 600.
2- منهم العلاّمة في نهاية الوصول : 116 ، والفاضل التوني في الوافية : 91 - 92 ، وصاحب الفصول في الفصول : 125.
3- انظر المعتمد 1 : 181 ، والإحكام للآمدي 1 : 158.

- كالباقلاني (1) - إلى الامتناع ، بل عن جماعة - منهم : العلاّمة (2) ، والسيّد الجليل في إحقاق الحقّ (3) ، والعميدي (4) ، وصاحبي المعالم (5) والمدارك (6) ، وصاحب التجريد (7) - : الإجماع عليه ، بل ادّعى بعضهم الضرورة (8) ، وليس بذلك البعيد.

وأكثر الأشاعرة على الجواز ، ووافقهم جمع من أفاضل متأخّري أصحابنا ، كالمحقّق الخوانساري في تداخل الأغسال من المشارق (9) ، وجمال الدين (10) ، والمدقّق الشيرواني (11) ، والسيّد الشارح للوافية (12) ، والمحقّق القمّي رحمه اللّه (13) بل نسبه (14) إلى ظاهر

ص: 609


1- راجع المستصفى 1 : 77 ، وشرح مختصر الاصول : 92.
2- نهاية الوصول : 116.
3- حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 54.
4- حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 54 ، وانظر منية اللبيب : 123.
5- المعالم : 93.
6- المدارك 3 : 217 ، وحكاه عنه وعن صاحب المعالم في المناهج : 54.
7- تجريد الاصول للنراقي لا يوجد لدينا وحكى عنه ابنه في المناهج : 54.
8- راجع حاشية المعالم للملاّ صالح : 118.
9- انظر المشارق : 61 ، ذيل قول المصنّف : وفي تداخل الأسباب.
10- انظر حاشية اللمعة : 206.
11- لم نعثر عليه في الحواشي المتعلّقة بالمبحث ، انظر المعالم والحواشي المتعلّقة بها في الصفحة 98 - 100.
12- انظر شرح الوافية للسيّد صدر الدين : 65 - 83.
13- القوانين 1 : 140.
14- نسبه إليهم في القوانين 1 : 140.

السيّد في الذريعة (1) ، والأردبيلي (2) بل حكاه عن الفضل بن شاذان (3) مستظهرا من كلامه أنّه من مسلّمات الشيعة ، واستظهره من الكليني (4) أيضا ؛ حيث نقل كلام الفضل ولم يطعن عليه.

والإنصاف أنّ الاستظهار من كلام الفضل ممّا لا وجه له ، لأنّه هو الذي نقله الكليني في كتاب الطلاق ، وهو يدلّ على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ، وهو أعمّ من القول بالجواز من وجوه أقلّها جريان العادة على عدم الحظر في الصلاة ، ويجري ذلك مجرى الإذن أو الأخبار الدالّة على أنّ للناس حقّا في الأرض (5) ، أو القول بأنّ الكون خارج عن الصلاة بل إنّما هو من ضروريّات الجسم كما هو المحكيّ عن البهائي في حبل المتين (6) والمحقّق في المعتبر (7) ، أو القول بأنّ الصلاة من الواجبات التوصّلية التي تسقط عند اجتماعها مع الحرام.

والمنقول من السيّد في الذريعة أظهر في عدم الجواز ، وهو قوله : « وقد يصحّ أن يقبح من المكلّف جميع أفعاله من وجه ويحسن على وجه آخر ، وعلى هذا الوجه يصحّ القول بأنّ من دخل زرع غيره على سبيل الغصب أنّ له الخروج عنه بنيّة التخلّص وليس له التصرّف بنيّة الإفساد ، وكذلك المجامع زانيا له الحركة بنيّة

ص: 610


1- الذريعة 1 : 178 و 194.
2- مجمع الفائدة 2 : 110.
3- الكافي 6 : 94.
4- القوانين 1 : 140.
5- لم نعثر عليها.
6- الحبل المتين : 157.
7- حكاه المحقّق النراقي في المناهج : 54 ، ولكن لم نعثر عليه في المعتبر.

التخلّص وليس له الحركة على وجه آخر » (1). وهو ظاهر في أنّ حال كون الفعل مطلوبا لا يكون مبغوضا ، وقوله : « من وجه » يعني به من حيث دخوله تحت عنوان ، كما هو صريح المثال المذكور.

وقد ينقل في المقام قول ثالث ، وهو : التفصيل بين العقل والعرف ، فيجوز عقلا ولا يجوز عرفا. ونسبه بعضهم إلى الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال : اعلم أنّ السبب لبطلان الصلاة في الدار المغصوبة هو النهي عنها المستفاد من عدم جواز التصرّف في مال الغير ، فلا تبطل صلاة المضطرّ ولا الناسي ولا الجاهل - إلى أن قال : - وإذا علم السبب تحقّق (2) عدم بطلان عبادة ما لم تتّحدا وما لم يكن التصرّف في المكان عبادة ، مثل الصوم والزكاة - إلى أن قال : - أمّا الطهارة في المغصوب فإن قلنا : إنّ إجراء الماء على العضو تصرّف في ملك الغير حيث وقع في فضائه [ أو أنّه متّصل بالعضو الذي على المكان ، فإجراء الماء عليه مستلزم لتصرّف ما في المكان ](3) لكنّه بعيد فلا يصحّ وإلاّ صحّت. ثمّ قال : ويمكن مجيء بطلان الوضوء من جهة أنّه مأمور بالخروج فاشتغل به عن ذلك فصار حراما فيبطل. وهو إنّما يتمّ لو فرض مانعيّته فيه من حيث هو عن الخروج حتّى يحصل المنافاة. ويمكن أن يقال : لا شكّ أنّه مأمور بالوضوء في المكان المباح ، إذ الشارع لا يجوّز الوضوء في المكان المغصوب ، وهو ظاهر ، والمفهوم عرفا ولغة في مثل هذا الكلام عدم الرضا بالوضوء وبطلانه ، ولأنّه لم يأت بالمأمور به عرفا. نعم ، العقل يجوّز الصحة لو صرّح

ص: 611


1- الذريعة 1 : 178.
2- في المصدر : وإذا تحقّقت أنّ سبب بطلانها حينئذ هو لزوم اتّحاد المأمور به والمنهيّ عنه تحقّقت أيضا عدم بطلان عبادة ...
3- أثبتناه من المصدر.

بأنّه لو فعلت في المكان المغصوب بعد نهيك عنه يصحّ وعوقبت بما فعلت. وبمثله يمكن القول بالبطلان في كثير من العبادات بل في بعض المعاملات والمناكحات (1) ، انتهى ما أفاده قدّس اللّه روحه.

ولعلّ موضع الاستفادة من هذا الكلام قوله : « لأنّه لم يأت بالمأمور به عرفا ، نعم العقل يجوّز الصحّة لو صرّح » وأنت خبير بما في هذه الاستفادة ، إذ لم نجد لكلامه دلالة على المدّعى بوجه ، فإنّ ظاهر كلامه هو تعلّق النهي بالخارج عن العبادة ، ومع ذلك يستظهر إمكان فسادها عرفا مع إمكان الصحّة عقلا على تقدير التصريح ، فإنّ أوّل كلامه نصّ في الامتناع مطلقا ، ثمّ التفت إلى ملاحظة قاعدة الأمر بالشيء مع النهي عن ضدّه ، ولذلك بنى تماميّته على فرض المانعيّة ، ثمّ تفطّن في (2) الاستدلال بإمكان استفادة البطلان من تعلّق النهي بالخارج ، نظرا إلى أنّ هذه العبارة في العرف ينساق منها الفساد وإن كان على تقدير التصريح جائزا.

ومنه يظهر حال النسبة فيما تقدّم أيضا.

وقد ينسب ذلك إلى فاضل الرياض أيضا ، وكأنّه مسموع منه شفاها.

وكيف كان فلو كان هناك مفصّل ، فالذي ينبغي أن يراد هو أنّ هناك موضوعين :

أحدهما : أن يتعلّق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة اخرى ، غاية الأمر اتّحادهما في الوجود الخارجي ، ولا ضير في ذلك كما يراه المجوّز.

وثانيهما : أن يتعلّق الأمر والنهي ابتداء بجزئي أو بجميع جزئيّات تينك الطبيعتين.

ص: 612


1- مجمع الفائدة 2 : 110 - 112.
2- في ( ع ) بدل « في » : على.

ولا ريب في أنّ الثاني ممّا لا يجوّزه العاقل ، فاللفظ الوارد في مقام الأمر والنهي وإن كان مفاده لغة تعلّق الأمر بالطبيعة والنهي بطبيعة اخرى ، وهذا الموضوع ممّا يجوّزه العقل ، إلاّ أنّ المنساق منه في العرف هو تعلّق الأمر والنهي بالفرد لا بالطبيعة ، وبعد استفادته من اللفظ ، فلا إشكال في الحكم بعدم الجواز عقلا أيضا في هذا الموضوع.

فظهر أيضا أنّ نسبة عدم الجواز إلى العرف ليس إلاّ بواسطة استفادة العرف موضوعا من اللفظ الوارد في مقام الأمر والنهي يحكم فيه العقل بالامتناع ، وليس المراد هو أنّ العرف حاكم بعدم الجواز في مقابل العقل ، كما ظنّه بعض عوام الطلبة.

وبالجملة ، فالحاكم دائما هو العقل ، والعرف أيضا لا يمكن تخلّفه عن العقل من حيث الحكومة. نعم ، ليس العقل مستقلاّ في كيفيّة استفادتهم المطالب من الألفاظ ، بمعنى عدم الاكتفاء به فيها ، بل لا بدّ مع ذلك من العلم بالوضع وكيفيّات الاستعمالات في الموارد الخاصّة المستندة إلى القرائن المقاليّة والشواهد المقاميّة ونحوها. وأمّا في غير هذه الجهة فلا مجال لغير العقل فيها ، كما يظهر في الحكم بالمجاز والتخصيص والتقييد ، كما في قولك : « رأيت أسدا يرمي » فإنّ العرف بعد استفادة معنى « الأسد » حقيقة واستفادة معنى « يرمي » يحكمون بواسطة عقولهم بالتناقض والتعارض بين المرادين ، ثمّ يستخرجون المراد منهما بتقديمهم الظهور الثابت في القرينة على الظهور الناشئ من الوضع لكونه أظهر منه. وهذه هي الطريقة المستقرّة في استخراج المطالب من العبائر واستكشاف المرادات من الضمائر ، وذلك نظير ما قلنا في بحث المقدّمة عند الاستدلال على وجوبها بعدم جواز التصريح بجواز تركها ، حيث إنّ المنساق من التصريح المذكور عرفا هو جواز الترك من كلّ الحيثيّات ، والمقصود جواز تركها من حيث نفسها ، فلا يمكن التصريح به لأجل هذه الحزازة ، لا من حيث إنّ المقدّمة واجبة.

ص: 613

والحاصل أنّ التفصيل المذكور ليس تفصيلا في الحاكم ، بل إنّما هو حكم من حاكم واحد في موضوعين (1) مختلفين ، وستطّلع بعد ذلك على وجوه فساده إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : في بيان ثمرة النزاع

واعلم أنّه لمّا كانت هذه المسألة من المبادئ ، فالوجه أن تظهر الثمرة في مسألة اصوليّة ، وهي أنّ الأمر والنهي في مورد الاجتماع هل هما متعارضان أو لا تعارض بينهما؟ فعلى القول بالامتناع فالتعارض ثابت ، وعلى القول بالجواز فلا تعارض. ويترتّب على تلك المسألة استحقاق الثواب والعقاب والصحّة والفساد والموافقة والمخالفة فيما لو أتى المكلّف بالفرد الجامع للعنوانين.

وعلى تقدير التعارض ففي العموم المطلق لا بدّ من تقديم جانب الخاصّ كما هو المقرّر ، وفي العموم من وجه لا بدّ من الأخذ بالمرجّحات الداخليّة ، كقلّة أفراد أحد العامّين فيما لو ساعد العرف عليه ، أو المرجحات الخارجيّة - على اختلاف المشارب في تعارض الدلالتين - وعلى تقدير عدم المرجّح أو عدم الرجوع إليه في العامّين من وجه فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة ، وقضيّة الأصل بعد التساقط هو الحكم بإباحة الكون المذكور وفساد الصلاة.

لا يقال : إنّه لا مانع من صحّة الصلاة إلاّ احتمال النهي ، وبعد الحكم بالإباحة فالوجه صحّة الصلاة.

ص: 614


1- في ( ع ) ، ( م ) : موضعين.

لأنّا نقول : إنّه لا مانع من الحكم بالحرمة إلاّ من حيث إنّ الكون المذكور كون صلاتيّ ، وبعد الحكم ببطلانها فالوجه هو حرمة الكون.

وبعبارة واضحة : أنّ تعارض الخطابين وسقوطهما في مورد الاجتماع اقتضى الرجوع إلى الاصول العمليّة ، والأصل العملي بالنسبة إلى الغصب - مثلا - بعد عدم العلم بحرمته يقتضي الإباحة ، وفي الصلاة - حيث إنّها شكّ في سقوط المكلّف به بالإتيان بهذا الفرد المشكوك وقوع الامتثال به ، نظرا إلى احتمال تعلّق النهي به مع فرض سقوط الإطلاق من جانب الأمر - يقتضي بقاء التكليف وعدم حصول الامتثال. والملازمة الواقعيّة بين الصحّة والإباحة لا يجدي في المقام بعد اختلاف مفاد الاصول ، فإنّ التفكيك في الأحكام الظاهرية غير عزيز ، كما هو ظاهر.

نعم ، لو كان في المقام إطلاق فمجرّد احتمال تعلّق النهي لا يدلّ على المطلوب ، لأنّ الأصل عدمه ، إلاّ أنّ المفروض خلافه.

هذا على مذاق القائل بالاشتغال عند الشكّ في الشرطيّة ، وعلى القول بالبراءة فلا يبعد الحكم بالصحّة ، إذ مرجع الشكّ إلى أن من شروط الصلاة وقوعها في غير المكان المغصوب وأصالة البراءة عن الزائد يقضي بالصحّة.

هذا ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ الأخذ بالمرجّح من حيث الدلالة مثل تقديم الخاصّ على العامّ أو تقديم النهي على الأمر لقوّة الدلالة لا يلائم (1) مذاق المشهور المانعين ، حيث إنّهم - كما عرفت من كلام المحقّق الأردبيلي رحمه اللّه (2) - يقتصرون في التخصيص بصورة وجود النهي الفعلي ويحكمون بالصحّة في صورة النسيان والجهل ونحوهما ، وتخصيص العامّ بالخاصّ ليس من هذا القبيل ، بل مقتضاه خروج الفرد

ص: 615


1- في ( ع ) و ( ط ) : لا يلازم.
2- انظر الصفحة 611 - 612.

بجميع أحواله عن العامّ. ويزيد إشكالا فيما لو قلنا بأنّ لا فرق بين العموم من وجه المتحقّق في مثل الصلاة والغصب ، وبين المتحقّق في قولهم : « أكرم عالما ولا تكرم فاسقا » فإنّ المعهود بينهم هو التخصيص مطلقا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه فيما إذا لم يكن الشكّ في أصل مسألة الاجتماع. وأمّا على تقدير الشكّ فيه فقد يقال : إنّ الأصل هو الإمكان ، وقد عرفت في بعض مباحث الظنّ أنّه لا يترتّب على الإمكان الظاهري حكم. نعم ، أصالة الإطلاق بالنسبة إلى دليل الأمر والنهي حاكمة في أمثال المقام ، إذ الشك إنّما هو في مانع الإطلاق ، والأصل عدمه ، وسيأتي لما تقدّم زيادة توضيح. واللّه الهادي ، وهو الموفّق.

ص: 616

هداية : في حجج المجوّزين

اشارة

وهي امور :

أحدها : لو لم يكن جائزا لكان بواسطة التضادّ بين الحرمة والوجوب ، إذ لا مانع سواه ، وهو لا يصلح للمنع ، وإلاّ لكان جاريا في جميع الأحكام لتضادّها بأسرها ، مع أنّه قد اجتمع الوجوب والكراهة في كثير من الموارد كالصلاة في الحمّام والمعاطن والوضوء بالماء المشتبه بالغصبيّة إلى غير ذلك من الموارد ، والوجوب مع الإباحة كالصلاة في الدار ، والوجوب مع الاستحباب كالصلاة في المسجد والمواضع المتبرّكة.

واجيب عن ذلك :

تارة بالنقض : بأنّ اللازم ممّا ذكرتم هو اجتماع الواجب التخييري الشرعي مع الحرام العيني أيضا ، مع أنّه لا يلتزم به أحد من المجوّزين.

وتوضيحه هو : أنّ المجوّز لا يقول بعدم التضادّ بين الأحكام ، بل إنّما يقول بأنّ تعدّد الجهة مجد في اجتماع المتضادّين ، والحرام مع الواجب التخييري العقلي لا يمتنع اجتماعهما من جهتين كما هو المطلوب ، فيطالب بالفرق بين الواجب التخييري الشرعي والعقلي حيث لا يجوّز الأوّل ويجوّز الثاني ، فإنّ وجه الجواز إن كان تعدّد الجهة مع إمكان الامتثال فهو موجود في الواجب التخييري الشرعي ، وإن كان غيره فلا بدّ من بيانه حتّى ينظر إليه.

ص: 617

وتارة بالحلّ : ويقع الكلام تارة في النواهي التي نسبتها إلى الأوامر عموم من وجه ، وتارة في النواهي التي نسبتها إليها عموم مطلق ، فإنّ موارد النقض من كلتا الطائفتين.

أمّا الاولى فكاستعمال الماء المشتبه في الطهارة ، والصلاة في بيوت الظالمين. وأمّا الثانية ، فكالصلاة في الحمّام ونحوها. وخروجها عن محلّ الكلام في المسألة نظرا إلى انعقادها في العامّين من وجه - كما قيل - ليس بضائر ، لاستلزام الجواز فيه الجواز فيما نحن فيه بطريق أولى.

أمّا الكلام فيما إذا كانت النسبة عموما وخصوصا مطلقا فمن وجوه :

الأوّل : ما ذكره جماعة (1) ، من أنّ الكراهة في هذه العبادات كاستحبابها وإباحتها ليست على حقائقها المصطلح عليها : من مرجوحيّة الفعل ورجحان الترك ، ورجحان الفعل ومرجوحيّة الترك ، وتساويهما ، حتّى يلزم من اتّصاف الواجب بهذه الأوصاف اجتماع الضدّين ، بل المراد بها كون الواجب أقلّ ثوابا من الثواب المقرّر لطبيعة ذلك الواجب أو أكثر ثوابا منها أو مشتملا على ذلك الثواب فقط.

وأوضحه بعض المحقّقين في حاشية المعالم ، حيث قال : إنّ أقصى ما يقتضيه ذلك مرجوحيّة تلك التصرّفات بالنظر إلى ذواتها ، وهو لا ينافي رجحانها من جهة اخرى نظرا إلى وقوعها جزءا من العبادة الواجبة ، وحينئذ يقع التعارض بين الجهتين ، ومن البيّن أنّ مرجوحيّة المكروه لا يوازي رجحان الواجب ، فغاية الأمر أن يحصل هناك نقص في ثواب الواجب ويكون الفعل بعد ملاحظة الجهتين راجحا

ص: 618


1- منهم الفاضل التوني في الوافية : 95 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 142 ، والنراقي في المناهج : 57 - 58.

لا مكروها بمعناه المصطلح. نعم ، يثبت له الكراهة بالمعنى المذكور بالنظر إلى ذاته ، وذلك لا يستدعي ثبوت الكراهة في خصوصيّات الموارد مطلقا ، إذ قد يعرضه ما يوازي بسببه رجحان يوازي تلك المرجوحيّة فيزيد عليها فترتفع الكراهة المذكورة عن ذلك ، غاية الأمر أن يكون أقلّ ثوابا عن العاري عن تلك المنقصة. نعم ، لو قلنا حينئذ ببقاء المرجوحيّة بالمعنى المذكور صحّ ما ذكره من النقض.

ثمّ أجاب عن الإيراد على هذا الوجه من عدم الضابط ولزوم مكروهيّة جلّ العبادات : بأنّه ليس المراد بها مجرّد أقليّة الثواب بالنظر إلى غيرها ، بل المقصود كونها أقلّ ثوابا بالنظر إلى ما اعدّ من الثواب لتلك العبادة في حدّ ذاتها ، فقد يجيء هناك ما يزيد ثوابها من ذلك كما في المسجد ونحوه ، وقد يجيء ما يوجب نقصه كالصلاة في الحمّام (1) ، انتهى.

ومحصّل الكلام في تنقيحه هو : أنّ الكراهة الاصطلاحيّة التي هي عبارة عن طلب ترك الفعل على وجه التنزيه تابعة لجهة نقصان موجودة في نفس الفعل يقتضي هذا النحو من الطلب ، إلاّ أنّه ربما يمنع من ذلك الترتّب مانع ، مثل اشتمال ذلك الفعل على مصلحة تقتضي لطلبه على وجه الحتم والإلزام ، ضرورة أنّ تلك الجهة لا يوازي مصلحة الواجب ورجحانه ، فالكراهة بمعنى الطلب لا يكون موجودا ، وإنّما الموجود هي جهة الكراهة ، ولا إشكال في أنّ تلك الجهة يمكن أن تصير منشأ لنقصان مصلحة الواجب على وجه يكفي في الوجوب بعد النقصان أيضا. وهذا هو المراد من قلّة الثواب ، ولا وجه للقول بأنّ بعد تصادم الجهتين لا نسلّم وجود مصلحة كافية في الوجوب ، لأنّ الإجماع على تحقّق الوجوب كاشف عن ثبوت تلك المصلحة ولو بعد المصادمة.

ص: 619


1- هداية المسترشدين 3 : 93 - 94.

فإن قلت : فلا يجري هذا الجواب في العبادات المكروهة التي لا دليل على اشتمالها على مصلحة زائدة على مصلحة الوجوب ، فإنّ فيها لا وجه للوجوب بعد التصادم ، ولا دليل على أنّ هذه الموارد من العبادات المكروهة مشتملة على مصلحة زائدة ، كما هو الظاهر.

قلت : إنّ ثبوت الوجوب بعد ملاحظة الكراهة كاشف عن وجود المصلحة الزائدة ؛ على أنّ المجيب يكفيه احتمال ذلك ، فإنّ الدليل المذكور راجع إلى النقض بالعبادات المكروهة ، ويكفي في دفع النقض إبداء الاحتمال. نعم ، لو دلّ الدليل على كراهة عبادة نعلم بعدم اشتمالها إلاّ على مصلحة كافية في الوجوب فقط من دون زيادة كان ذلك وجها ، وأنّى لك بإثباته!

فإن قلت : إنّ ذلك لا يجري في المستحبّات المكروهة ، لأنّ بعد تصادم الجهتين لا وجه للاستحباب.

قلت : إن قام الدليل على استحبابه بعد ملاحظة اجتماعه مع الكراهة فذلك الدليل يكفي في إثبات مصلحة فائقة على تلك المنقصة على وجه يبقى بعد التصادم مقدار الكفاية ، وإن لم يقم دليل على ذلك فلا مورد للنقض ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فهذا الجواب مبنيّ على دلالة الدليل على امتناع الاجتماع ، فيجب صرف الظواهر التي مقتضاها الاجتماع عنها إلى ما لا دليل على بطلانها ، فإبداء احتمال لم يقم قاطع على فساده (1) كاف في المقام ، كما هو الظاهر على من مارس قليلا قواعد التوجيه والمناظرة.

هذا غاية توجيه المقام على وجه ربما يتوهّم خلوّه عن النظر ، وليس كذلك ؛ فإنّ فيه :

ص: 620


1- في ( ع ) : خلافه.

أوّلا : إنّ المستدلّ بالدليل المذكور هو الأشعري الذي لا يقول بمقالة العدليّة من ثبوت المصالح والمفاسد وإن تابعهم في ذلك بعض العدليّة (1) أيضا ، إلاّ أنّ المناسب هو الجواب على وجه لا يبتني على قواعد العدليّة إلزاما للأشعري أيضا.

وثانيا : أنّ الكاشف عن وجود المنقصة في الفرد المكروه إمّا العقل وإمّا الشرع ، إذ لا ثالث في المقام ، وشيء منهما لا يدلّ على ذلك.

أمّا العقل فظاهر ، حيث إنّه لا سبيل له إلاّ في ما يستقلّ هو في إدراك حكمه ، وموارد النقض ليس منها.

وأمّا الشرع ، فلا نعرف منه شيئا يدلّ على المنقصة إلاّ النهي من قبيل البرهان الإنّي ، فإنّ المنقصة تستتبع النهي ، والمفروض في المقام عدم النهي ، لامتناع اجتماع الطلبين ، فالقول بثبوت المنقصة وعدم ثبوت الطلب قول بلا دليل يشبه أن يكون رجما بالغيب ، فإنّه لا يعلم إلاّ من اللّه ورسوله والراسخين في العلم ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : قد علمنا من عنوان الدليل الوارد في مقام الحكم مثل قوله : « لا تتصرّف في المال المشتبه » وغيره ، أنّ هذا العنوان مشتمل على جهة منقصة تقتضي الكراهة ، وإلاّ لم يتعلّق النهي به. وقد علمنا أيضا من عروض الوجوب لفرد من الأفراد الداخلة في ذلك العنوان اشتمال ذلك الفرد على مصلحة الوجوب ، وهو لا ينافي وجود الجهة ، بل هو مانع عن تحقّق الطلب على وجه الكراهة ، فثبوت الجهة هو مقتضى الخطاب الشرعي ، وليس قولا بما لا يعلم.

قلت : بعد البناء على تخصيص النهي بالأمر وتقديم الأمر والقول بالوجوب يكون الفرد الواجب خارجا عن العنوان المذكور ، ولا دليل على ثبوت الجهة في

ص: 621


1- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 142.

مطلق ذلك العنوان ، فلعلّه مختصّ بما فيه الكراهة الفعلية ، فإنّ ثبوت حكم لطبيعة (1) مقيّدة لا دلالة فيه على ثبوته لفرد آخر لتلك الطبيعة.

فإن قلت : هب أنّ التخصيص في العنوان يوجب خروج مادّة الاجتماع عن النهي ، لكن التخصيص إنّما هو بواسطة وجود مانع عن ترتّب أثر المقتضي عليه ، كما يلاحظ في قولنا : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » مثلا ، فإنّ المستفاد في العرف من الخطاب المذكور هو أنّ العلم يقتضي الإكرام والفسق إنّما يمنع منه ، ولذا لو شكّ في فسق العالم يحكم بوجوب إكرامه ، لأنّ المانع محكوم بالعدم بالأصل.

قلت : لا نسلّم اختصاص التخصيص بما إذا كان المقتضي موجودا ، إذ يحتمل أن يكون مورد التخصيص ممّا لم يجد فيه المقتضي أيضا ، كأن يكون العلّة التامّة مختصّة بغير الفرد المخصّص. وأمّا الاستناد إلى الأصل المذكور فهو إنّما يوجب إحراز ما هو العنوان لوجوب الإكرام الملازم للعلّة التامّة ، وهو العالم الغير الفاسق ، ولا دلالة فيه على أنّ العلم هو المقتضي والفسق إنّما يمنع من حصول أثره.

نعم ، لو كان العنوان ممّا يستقلّ بحكمه العقل على وجه لا ينافي تخصيص الشارع له ، كان القول ببقاء الجهة بعد ارتفاع الحكم له وجها (2). ولكن لا يعقل التخصيص في مورد حكم العقل ، ولو كان وجه التخصيص عقليّا لم يبعد الالتزام ببقاء الجهة ، كما في موارد التزاحم بين الواجبين ، كإنقاذ الغريقين بعد تزاحمهما ، فإنّ العقل قاض بعدم تعلّق الطلب بهما معا مع العلم ببقاء المصلحة فيهما ، إلاّ أنّ ما نحن بصدده ليس من هذا القبيل.

ص: 622


1- في ( ط ) : بطبيعة.
2- كذا ، والظاهر : وجه.

فإن قيل : إنّ الوجه في التخصيص في المقام هو امتناع اجتماع الطلبين على وجه لو فرض ارتفاع الطلب من طرف - كما لو وقع المحرّم سهوا أو نسيانا (1) - لم يكن مانع من ترتيب الأثر على الطرف الآخر ، فيحكم بالصحّة. وليس التخصيص شرعيّا ، إذ على تقديره يلزم فساد الفرد الجامع للعنوانين على تقدير تقديم النهي ، من جهة عدم الأمر ، لا بواسطة امتناع اجتماع الطلبين ، ويلزم من ذلك بقاء المصلحة على تقدير (2) ارتفاع الطلب.

قلت : فعلى ذلك ، فهو جار في مثل قولنا : « أكرم عالما ولا تكرم الفاسق » مع أنّه على تقدير التخصيص لا يعلم ببقاء المصلحة في الفرد الخارج. والوجه في ذلك : أنّ وجه التخصيص ليس إلاّ التضادّ الواقع بين الأمر والنهي في الفرد الجامع ، والمفروض أنّ ذلك لا يقضي إلاّ بعدم تعلّق الطلب بالفرد الذي تعلّق طلب مناقض له به ، فلنا أن نحكم ببقاء المصلحة بعد ارتفاع الطلب ، وقد عرفت فساده.

وثالثا (3) : أنّ قضيّة اللطف ومراعاة المصالح والمفاسد هو اختصاص الأمر في أمثال هذه الموارد بالفرد الغير المشتمل على المنقصة ؛ لأنّ في الأمر به تفويتا للزائد من دون انجبار ، إذ المفروض حصول مصلحة الأمر في الفرد الخالي عن المنقصة أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّ التنبيه على تلك المنقصة والأمر به موافق للّطف ، لاحتمال الانحصار فيه ، فعلى تقدير عدم الأمر يكون ذلك تفويتا في حقّه ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ذلك يحصل في الأمر به على وجه الترتيب ، فتأمّل.

ص: 623


1- في ( م ) زيادة : أو مضطرّا.
2- في ( م ) زيادة : تقديم النهي.
3- عطف على قوله : « أوّلا » في الصفحة 621.

ورابعا : أنّه يلزم على ذلك التقدير أن يكون الفرد المباح أفضل فردي الواجب التخييري ، وهو باطل اتّفاقا منّا ومن المجيب ، إذ لا يراد منه إلاّ ما فيه مصلحة زائدة على مصلحة الواجب ، والمفروض أنّ المكروه مشتمل على مصلحة الواجب ، فيرد (1) عليه عدم الانضباط في المكروه وجريانها في مثل الصلاة في المسجد والمسجد الحرام ونحوه ، ولا سبيل إلى التزامه ، فإنّ ذلك التصرّف مقطوع الفساد في الظواهر التي تدلّ على الكراهة. ولا ينافي القطع بوجوب صرفها عن ظاهرها ، فإنّه لا يقضي بحملها على ما هو ظاهر البطلان ، كما لا يخفى.

ويمكن دفعه : بأنّ المجيب بنى جوابه على أن يكون المراد من قلّة الثواب هو قلّته بالنسبة إلى الثواب المقرّر للماهيّة ، ويستفاد منه بالمقايسة أنّ المندوب هو ما زاد ثوابه على ثواب الماهيّة والفرد المباح لا يزيد ثوابه على ثوابها ، إذ المفروض في كلامه - كما هنا - هو أنّ الكراهة في العبادة إنّما يكون لها مسرحا في العبادات التي تزيد مصلحتها على مصلحة مقتضية للوجوب.

ثم إنّه قد يستشكل في المقام أيضا : بأنّ استفادة قلّة الثواب من تلك النواهي ممّا لا سبيل إليها ، فإنّ ذلك المعنى من المعاني التي ينبغي استفادتها من الجمل الإخباريّة دون الجمل الإنشائيّة ، فلا يعقل أن يكون المراد بقوله : « لا تصلّ في الحمّام » أنّ الصلاة في الحمّام أقلّ ثوابا من غيرها ، إذ لم يعهد منهم استعمال الإنشاء في الإخبار وإن كثر استعمال الإخبار فيه ، فإنّه من محاسن الطلب ، كما لا يخفى.

وتمحّل بعض الأجلّة (2) في دفعه ، تارة : بجعل النواهي المذكورة إرشاديّة مجرّدة عن معنى الطلب بقرينة قيام الحجّة العقليّة على استحالة تعلّق الطلب بطرفي

ص: 624


1- في ( ع ) : فيعود.
2- الفصول : 132.

النقيض ، واخرى : بالتزام كونها مستعملة في الطلب التنزيهي على وجه الغيريّة والمقدّميّة للوصلة إلى الفرد الأفضل.

وفيه ، أوّلا : أنّ القول بتجرّد الإرشاديّات عن الطلب مخالف لما هو الواقع ، كما مرّ في بعض المباحث المتقدّمة.

وثانيا : أنّ الإرشاد إلى ترك الناقص غير معقول إن لم يكن للوصلة إلى الكامل ، وإلاّ فيكون من الأمر المقدّمي ، ولعلّه تفطّن بذلك حيث حكم برجوع أحدهما إلى الآخر.

وثالثا : أنّ الكراهة المقدّميّة أيضا ينافي الوجوب ، إذ كما أنّ التضادّ واقع بين الوجوب وما يخالفه من الأحكام النفسيّة ، فكذا بينه وبين الأحكام الغيريّة ، فالمصير إليه ممّا لا يجدي.

وأجاب عن ذلك : بابتنائه على ما زعمه من اختصاص وجوب المقدّمة بما إذا كانت موصلة إلى ذيها (1).

وتوضيحه هو : أنّ الصلاة في الحمّام تارة يترك ويتوصّل بتركها إلى الصلاة في غير الحمّام من المواضع الغير المكروهة ، وتارة لا يتوصّل بها إلى الفرد الكامل ، إمّا بإيجادها في الحمّام وإمّا بعدم إيجادها مع ترك الكامل أيضا ، ففيما إذا كان الترك المذكور مطلوبا من حيث كونه مقدّمة للوصلة إلى الفرد الكامل يتّصف بمطلوبيّة الترك وليس فعله مطلوبا ، لأنّ المطلوب في الواجب المخيّر هو الفرد الذي اختاره المكلّف في مقام الامتثال ، وبعد اختياره فردا لا يكون الباقي مطلوبا. وفيما إذا كان فعله مطلوبا باختيار ذلك الفرد في مقام الامتثال بالواجب المخيّر لا يكون تركه مطلوبا ، لعدم تحقّق شرط المطلوبيّة وهو الوصلة إلى الغير ، لعدم ترتّبه عليه كما هو المفروض.

ص: 625


1- انظر الفصول : 132.

وفيه - بعد الغضّ عن فساد المبنى كما أوضحنا سبيله في بعض مباحث المقدّمة - : أنّ بعد ما فرض من اختصاص مطلوبيّة الترك بفرد خاصّ من الصلاة في الحمّام وهو الترك المتوصّل به إلى الفرد الكامل ،

يلزم أن لا يكون مطلق الترك مطلوبا ، فلا دليل على وجود المنقصة في فعله.

لا يقال : إنّ مطلوبيّة ترك خاصّ يوجب مرجوحيّة الفعل.

لأنّا نقول : قد تقدّم منه أنّ المرجوح هو ترك هذا الترك الخاصّ ، وهو أعمّ من الفعل ، وهو لا يرى سراية تلك المرجوحيّة إلى الأفراد ، كما تقدّم في المباحث السابقة. مضافا إلى أنّ القول بعدم مطلوبيّة أفراد الواجب المخيّر بعد الإتيان بفرد غيرها في مقام الامتثال لا يخلو عن حزازة ؛ حيث إنّ جميع الأفراد في نظر المولى والآمر متساوية النسبة ، والاختيار إنّما هو في مقام سقوط الطلب المتعلّق بالماهيّة مجرّدا ، أمّا (1) بالنظر إلى طلب الآمر فلا يعقل مدخليّة للاختيار ، والمحذور إنّما هو الثاني دون الأوّل ، فتامّل.

ورابعا : أنّ المناط في الإرشاد المذكور الذي مرجعه إلى الكراهة الغيريّة موجود في جميع أفراد الواجب المخيّر مع اختلافها في الثواب ، فيلزم النهي عن الصلاة في البيت للإيصال إلى الفرد الكامل منها وهو الصلاة في المسجد ، والنهي عنها للصلاة التي تقع في المسجد الحرام. ولا سبيل إلى دفعه : بأنّ مجرّد وجود المناط لا يكفي في الحكم بالكراهة ما لم يرد فيه النهي ؛ لما قد تقدّم في مباحث المقدّمة من أنّ الطلب الغيري يتبع ما هو المناط في المقدّمية ، ولا يتفاوت فيه وجود الأمر الأصلي ، كما إذا صرّح بوجوب بعض المقدّمات كقولك : « ادخل السوق » عند إرادة اشتراء اللحم ، وعدمه كما في سائر المقدّمات.

ص: 626


1- في ( ع ) و ( م ) : وأمّا.

وبالجملة. فالنهي عن الناقص للوصلة إلى الكامل وإرشادا إليه ، مناطه متحقّق في جميع الأفراد المختلفة ثوابا ، وقضيّة ذلك التزام الكراهة فيها. اللّهم إلاّ أن تكون الكراهة في مثل المقام مجرّد اصطلاح.

وقد يجاب (1) عن الإيراد المذكور : من لزوم الكراهة في جميع الأفراد التي يختلف ثوابها :

تارة : بأنّه يمكن أن يشترط في إطلاق الكراهة وصول الفعل في المرجوحيّة الإضافيّة وأقلّية الثواب حدّا خاصّا تشبه به المرجوح في نفسه وما لا ثواب له.

واخرى : بأنّ لفعل كلّ طبيعة مأمور بها - مع قطع النظر عن جميع المنضمّات - قدرا معيّنا من الثواب والرجحان بالنسبة إلى تركه ، وقد يزيد ذلك من جهة بعض الخصوصيّات كالصلاة في المسجد ، وقد ينقص مع بقاء أصل الرجحان والثواب كالصلاة في الحمّام ، وقد يبقى بحاله كالصلاة في البيت ، فما زاد رجحانه وثوابه عن أصل الطبيعة اطلق عليه اسم « المستحبّ » وما نقص عنه « المكروه » وما بقي بحاله « المباح » ، انتهى (2).

أقول : أمّا ما أفاده أوّلا من اشتراط إطلاق الكراهة بوصول الفعل حدّا ، فممّا لا يرجع إلى حاصل ، فإنّ ذلك ليس من الامور التوقيفيّة ، بل المناط في الإطلاق المذكور هو المرجوحيّة بالنظر إلى ما ليس فيه تلك المرجوحيّة من أفراد الطبيعة ، ومن المعلوم عدم اعتبار الوصول إلى حدّ خاصّ في الإطلاق المذكور.

وأمّا ما أفاده ثانيا : فإن اريد منه أنّه قد ينضمّ إلى الماهيّة الراجحة عنوان آخر من عناوين الأفعال اللاحقة التي تقتضي نقص الثواب لأجل مصادمة

ص: 627


1- أجاب عنه المحقّق النراقي.
2- مناهج الأحكام : 57 - 58.

ومدافعة تقع بينهما من حصول الفعل والانفعال فيهما ، فهو راجع إلى ما أفاده المجيب المتقدّم. فيرد عليه ما أوردنا عليه سابقا ، مضافا إلى أنّه لم يعقل معنى محصّل لتأثير جهة الكراهة في المأمور به وإيراثها فيه نقصا ، غاية الأمر وجود العنوانين ، ويلحق بهما أحكامهما من غير إحباط وتكفير فيهما ، فاللازم وجود المنقصة بتمامها ووجود المصلحة كذلك.

وإن اريد منه أنّ الخصوصيّة من غير أن تكون آئلة وراجعة إلى فعل من الأفعال توجب نقصا في الثواب المقرّر للطبيعة ، فإن اريد منه ما قد يوجد في كلمات غير واحد منهم أنّ فعل الصلاة مثلا يترتّب عليها ثواب وإيقاعها في مكان خاصّ له ثواب آخر (1).

ففيه : أنّ الإيقاع إنّما هو عنوان ينتزع من الفعل ، وليس وراء نفس الفعل شيئا آخر كما في مثل الشروع في الفعل ، فإنّه ليس أمرا آخر غير الفعل ، ولا يعقل اختلافهما في الثواب بعد عدم لحوق عنوان آخر للفعل كما هو المفروض.

وإن اريد منه أنّ نفس الإيقاع والفعل في مكان له ثواب دون نفس الفعل ، فمرجعه إلى التزام أنّ الفعل من دون تقييده بوقوعه في مكان خاصّ لا ثواب له ، وإنّما الثواب بإزاء الإيقاعات الخاصّة والأفراد المختلفة باختلاف المشخّصات التي بها يتحقّق أفراد ماهيّة الفعل ، وإذن يعود المحذور من عدم الانضباط وصحّة الكراهة في الفرد الناقص ثوابا من الفرد الآخر ، فيصحّ القول بكراهة الصلاة في البيت بالنسبة إلى المسجد ، وفي مسجد المحلّة بالنسبة إلى المسجد الجامع ، وفيه بالنسبة إلى المسجد الكبير في الكوفة ... إلى غير ذلك. وستعرف لهذه الكلمات توجيها وجيها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 628


1- منهم الملاّ صالح في حاشية المعالم : 120 ، والمحقّق النراقي كما تقدّم ، وراجع مناهج الأحكام : 58.

الثاني من وجوه الحلّ (1) : ما وجدناه في الرسالة المنسوبة إلى بعض سادات مشايخ مشايخنا ، وحاصله : أنّ النهي في العبادات المكروهة متعلّق بالوصف أعني خصوصيّة الفرد مثل « وقوعها في الحمّام » ومتعلق الأمر هو الطبيعة ، فيختلف مورد الأمر والنهي.

واستند في ذلك بما محصّله : أنّ متعلّق الأوامر على ما هو التحقيق هو الطبائع دون الخصوصيّة والأفراد ، فيكون الأمر نصّا في طلب الماهيّة. بخلاف النهي ، فإنّه في معنى السلب ، وسلب المركّب عن الطبيعة والخصوصيّة قد يكون برفع الجزءين - أعني الماهيّة والخصوصيّة - معا ، وقد يكون برفع أحدهما ، كما هو الشأن في رفع المركّبات ، فيكون تعلّقه بالطبيعة ظاهرا لا نصّا ، ومن القواعد المقرّرة وجوب صرف الظاهر بالنصّ حيثما يقع التعارض بينهما.

وفيه ، أوّلا : أنّ الإشكال المذكور إنّما هو وارد على المانع من اجتماع الأمر والنهي ، والتفكيك بين خصوصيّة الفرد والطبيعة إنّما يلائم مذاق المجوّز ، كما هو ظاهر.

وثانيا : أنّ الاستدلال المذكور ممّا لا مساس له بالدعوى المذكورة ، إذ لا كلام لنا الآن في أنّ النهي كيف يقدّم على الأمر ، حتّى يقال : بأنّ النهي نصّ ويجب صرف الظاهر به. وليت شعري! ما المناسبة بين قاعدة انتفاء المركّب بانتفاء جزئيه معا أو أحدهما وبين ما نحن فيه؟

وثالثا : أنّ الخصوصيّة إن لم تكن راجعة إلى عنوان مغاير لعنوان الفعل لا يكون إلاّ نحو وجود الماهيّة ، فإنّ وجودات الأشياء هي التي بها يظهر آثار الماهيّات وخواصّها المطلوبة منها ، فتكون وعاء لآثارها كالحسن والقبح والحلاوة

ص: 629


1- عطف على قوله : « الأوّل » في الصفحة 618.

والمرارة والبرودة والحرارة ونحوها ، وليست الخصوصيّة وراء تلك الوجودات شيئا حتّى يتعقّل تعلّق النهي بها ويصير منشأ لاختلاف الأفراد في الثواب ، وعلى تقديره فاللازم هو ما عرفت فيما تقدّم من عدم الاطّراد وجريانه فيما ليس بمكروه إجماعا.

والظاهر أنّ الرسالة المزبورة ليست من تصانيف السيّد المزبور ، وما عرفت من أقوى الشواهد على ذلك ، فتدبّر.

الثالث (1) : أنّ النواهي التنزيهيّة راجعة إلى شيء خارج عن العبادة بحكم الاستقراء ، كالتعرّض عن الرشاش والتعرّض في موارد السيل (2) ... إلى غير ذلك. وكونه خلاف الظاهر ممّا لا ضير فيه بعد قيام الحجّة على خلافه ، وليكن ذلك من باب الحكمة لعدم الاطّراد في كثير من الموارد وإن كان بعيدا ، ولا يلزم منه كراهة الكون في الحمّام مطلقا ؛ لأنّ المنقصة إنّما هي في الكون المتّحد مع الصلاة.

وفيه : أنّ الجواب المذكور ممّا لا يجدي نفعا ؛ لأنّه إن اريد من تعلّق النهي بأمر خارج عن العبادة تعلّقه به على وجه لا يجامع عنوانهما فرد ، كما يقال : إنّ النظر إلى الأجنبيّة منهي عنه ولكنّه خارج عن الصلاة ، فيقال : إنّ التعرّض عن الرشاش أمر خارج عن حقيقة العبادة ، فهو وإن كان يجدي في دفع اجتماع الأمر والنهي ، لكن يرد عليه : أنّ ذلك الأمر الخارج لا بدّ أن يكون مقارنا للعبادة ملازما لها ، إذ مع المفارقة لا وجه لتعلّق النهي بالعبادة ، ومع عدم الملازمة أيضا لا وجه للنهي على وجه الإطلاق ، فلا بدّ أن يكون ملازما ، فيبنى على جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، فلو قيل بالمنع مطلقا أو على وجه خاصّ شامل للمقام فهو ، وإلاّ فيرد الاحتمال المذكور ، وهو أنّ المعلوم من النواهي الواردة في العبادات كفتاوى من أفتى بالكراهة

ص: 630


1- من وجوه الحلّ.
2- كذا ، والظاهر : للرشاش و ... لموارد السيل. وكذا في ما يأتى.

فيها هو وجود المنقصة في نفس العبادة ، فيكون ذلك من التأويل المعلوم بطلانه ، وهو ظاهر عند التأمّل.

وإن اريد من تعلّق النهي بالخارج تعلّقه به على وجه يجتمعان في فرد واحد ، سواء كان بين الخارج والعبادة عموم من وجه أو عموم مطلق ، فالمحذور باق بحاله (1).

والظاهر أنّ إيراد الجواب المذكور في دفع النقض فيما نحن بصدده ليس في محلّه ، بل هو جواب عن إشكال آخر يشبه النقض المذكور ، وهو ما ذكره شيخنا البهائي في الزبدة (2) والمحقّق الداماد في السبع الشداد : من أنّ وجود المكروه في العبادات يوجب تسديس الأحكام أو تسبيعه. فأجابوا عن ذلك بعدم تعلّق النهي بالعبادة ، بل بأمر خارج ، فليس مكروه العبادة قسما سادسا ، لأنّ نفس العبادة مستحبّة أو واجبة ، وذلك الأمر الخارج المجامع لها في الوجود مكروه ، فلا ضير فيه ، حيث إنّ الأحكام باقية على حصرها.

قال المحقّق الداماد بعد إيراده ضروبا من الإشكال ما لفظه : ثمّ إنّه إذا صحّ ذلك يصحّ قسم آخر سوى الخمسة المشهورة ، وهو ما يثاب تاركه من حيث هو تاركه وفاعله أيضا من حيث هو فاعل له ، ولكن يكون ثواب تركه أكثر من ثواب فعله ، وبإزاء هذا قسم آخر أيضا ، وهو ما يثاب فاعله من حيث هو فاعله وتاركه أيضا من حيث هو تارك له ولكن يكون ثواب فعله أكثر من ثواب تركه ، فإذن يفسد عليهم الحكم على الأحكام الشرعيّة التكليفية بالتخميس (3) ، انتهى.

ص: 631


1- في ( ع ) زيادة : وهو لزوم اجتماع الأمر والنهي.
2- زبدة الاصول : 30.
3- السبع الشداد ( المطبوع ضمن رسالة اثنا عشر ) : 61.

وبالجملة ، فالجواب المذكور ألصق بالإشكال ، فلعلّه يكون إيراده في دفع الإشكال في المقام خبطا من الناقل ، فتدبّر.

الرابع من وجوه الحلّ : ما أفاده بعض الأجلّة وجعله من منفرداته وأطال في بيانه. ومحصّله : أنّ كراهة العبادة عبارة عن رجحان تركها بقصد القربة على وجه يكون القيد المذكور داخلا في المطلوب. ولا غائلة في ذلك ، لأنّ رجحان الفعل يقتضي مرجوحيّة الترك على وجه الإطلاق لأنّه نقيضه. وأمّا الترك المقيّد فليس نقيضا للفعل ، لثبوت الواسطة بينهما ، فرجحان الفعل لا يقتضي مرجوحيّة الترك المقيّد بقصد القربة ، فلا ضير في اتّصافه بالرجحان مع القيد المذكور ، كما أنّ الصوم راجح فعله ، وتركه مقيّدا بإجابة المؤمن أيضا راجح ، ولا مناقضة بينهما لاختلاف محلّي الرجحان والمرجوحيّة. وبالجملة ، فالصلاة في الحمّام فعله راجح بقصد القربة ، وتركها أيضا راجح بقصد القربة من دون مدافعة ، وإنّما التدافع بين رجحان الفعل ورجحان الترك على وجه الإطلاق (1). هذا ملخّص كلامه وإن أطال في بيان مرامه.

وفيه ، أوّلا : أنّ ذلك منه مبنيّ على أن يكون القربة من القيود اللاحقة للمأمور به ، كأن يكون القيد المذكور من وجوه المطلوب ، وقد تقدّم في بحث المقدّمة ما يوضح فساد هذا التوهّم.

لا يقال : ما ذكره لا يبنى (2) على ذلك ، بل يتمّ على تقدير كونه من لواحقه بعد طريان الأمر عليه أيضا.

لأنّا نقول : إنّ اختلاف الماهيّة بالقيد لا يعقل إلاّ أن يكون ذلك القيد من لواحقه ، وإلاّ فكيف يختلف تلك الماهيّة بطريان ذلك القيد؟ وهو ظاهر.

ص: 632


1- الفصول : 132 - 133.
2- في ( ط ) : « لا يبني » والظاهر : لا يبتني.

وقد صرّح أيضا في مباحث الأوامر : أنّ إطلاق الأمر ممّا يمكن التمسّك به عند الشكّ في التعبّدية ، فراجعه (1).

وثانيا : لو أغمضنا عن ذلك ، وقلنا بأنّه يصحّ أن يكون القربة قيدا للمأمور به ، فنقول : ما أفاده فاسد أيضا ، حيث إنّ المحذور كلّ المحذور في التقرّب بترك ما هو فعله ممّا يتقرّب به ، فإنّه هو التناقض اللازم في المقام ، ومن الواضح أنّ اتّصاف طرفي النقيض بالتقرّب أمر محال لا يمكن أن يعقل.

نعم ، يصحّ ذلك في القيود التي يكون من قبيل الإجابة ، فالصوم من حيث كونه صوما مستحبّ فعله ، وتركه من حيث إنّه إجابة للمؤمن يمكن أن يكون مستحبّا ، فالتقرّب به ليس تقرّبا بترك الصوم بل بعنوان الإجابة المتّحدة مع الترك. وبذلك يظهر بطلان المقايسة المذكورة كما لا يخفى.

الخامس (2) : ما نسب إلى الوحيد البهبهاني (3) ، من أنّ المراد بكراهة العبادات مرجوحيّتها بالإضافة إلى غيرها من الأفراد. ولا ينافي ذلك رجحانها في حدود ذواتها. ولا ضير في ذلك ؛ فإنّه واقع في الشرع كثيرا ، فإنّ الغسل واجب نفسيّ على القول به ، ولا ينافي ذلك وجوبه الغيري ، ولا أقلّ من استحبابه النفسي مع وجوبه الغيري. ومثل ما نحن فيه (4) الاتّزار فوق القميص في الصلاة وحمل الحديد فيها ، فإنّهما لا مرجوحيّة فيهما بحسب الشرع ، إلاّ أنّهما مرجوحان في الصلاة.

والإيراد على هذا الجواب ممّا لا حاجة إلى بيانه بعد ما عرفت.

ص: 633


1- انظر الفصول : 69.
2- من وجوه الحلّ.
3- راجع الفوائد الحائرية : 170 - 171.
4- في ( م ) : وما نحن فيه مثل.

وهذه جملة من الكلمات التي أوردوها في النقض بالعبادات المكروهة التي بين عنوان المنهيّ عنه والمأمور به عموم مطلق.

وأمّا الكلام في العموم من وجه : فظاهرهم جريان الأجوبة المذكورة فيه أيضا ، بل وهو صريح المجيب الأوّل في حاشية المعالم ، حيث إنّه بعد ما أورد الجواب المذكور في المقام الأوّل طرّد الكلام في المقام أيضا.

وفيه - مضافا إلى الوجوه السابقة - : أنّ ذلك يوجب في العموم من وجه استعمال النهي في أكثر من معنى ، حيث إنّ المستفاد منه في غير مورد الاجتماع هو الكراهة المصطلح عليها ، فلو استفيد منه فيه معنى آخر لزم ما ذكرنا ، سواء في ذلك ما لو قيل بأنّ النهي للإرشاد أو مستفاد منه قلّة الثواب أو غير ذلك من وجوه التصرّف الراجع إلى اختلاف المعنى ، وهو ظاهر.

والإنصاف أنّ شيئا من الوجوه المذكورة لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، كما عرفت مفصّلا. مضافا إلى أنّ شيئا من الوجوه المذكورة لا ينهض بدفع النقض في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، كالتطوّع ونحوها (1).

فلا بدّ من تحقيق المراد من الكراهة في العبادات من بسط الكلام في طيّ مقامات ، فإنّ العبادات المكروهة على أقسام :

فتارة : يكون المنهيّ عنه أخصّ من المأمور به مع وجود البدل له من جنسه ، كالصلاة في الحمّام.

وتارة : لا يكون لها بدل من جنسه (2) ، كالصوم في السفر ، والصلاة عند طلوع الشمس حيث إنّه يستحبّ التطوّع بها في كلّ زمان يسعها.

ص: 634


1- كذا ، والمناسب : ونحوه.
2- كذا ، والمناسب : جنسها.

وتارة : يكون المنهي عنه أعمّ من وجه من المأمور به مع اتّحادهما في الصدق في الخارج ، كاستعمال الماء المشتبه في الوضوء والصلاة في بيوت الظالمين.

المقام الأوّل

في تحقيق المراد من الكراهة في العبادات التي لها بدل مع كون المأمور به أعمّ من المنهيّ عنه ، كالصلاة في الحمّام.

وتنقيح البحث فيه لعلّه موقوف على تمهيد ، وهو : أنّ المستفاد من إطلاق الأمر المتعلّق بطبيعة من الطبائع في موارده امور ثلاثة :

الأوّل : ترخيص الآمر للمكلّف إيجاد تلك الماهيّة بالإتيان بها في ضمن أيّ فرد كان من أفرادها.

الثاني : حصول الامتثال وسقوط الطلب المتعلّق بتلك الماهيّة بالإتيان بها في ضمن أيّ فرد كان ، وهذا إنّما هو من لوازم الترخيص المستفاد منه كما عرفت ، فجميع أفراد تلك الماهيّة متساوية في مقام الامتثال.

الثالث : أنّ هذه الأفراد متساوية فيما يترتّب على تلك الماهيّة من الأجر والثواب ، فإذا فرضنا تعلّق نهي بفرد من أفراد تلك الماهيّة :

فإمّا أن يكون ذلك النهي ناظرا إلى الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر ، فلا محالة يكون ذلك النهي تحريميّا. وهل يستفاد منه عدم وقوع الامتثال عن تلك الماهيّة بالفرد المنهيّ عنه أو لا بل النهي مفاده التحريم فقط ، أو لا يستفاد منه التحريم ، بل هو مسوق لعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال ، فليس نفي الترخيص ، بل هو نفي ترخيص وضعي (1)؟ وجوه يبحث عنها في

ص: 635


1- لم ترد « بل هو نفي ترخيص وضعي » في ( م ).

المسألة الآتية من اقتضاء النهي الفساد ، كما ستعرف الحقّ إن شاء اللّه تعالى.

وإمّا أن لا يكون ذلك النهي تحريميّا بل هو نهي تنزيهيّ ، فيكون ناظرا إلى عدم استواء تلك الأفراد التي يقع بها الامتثال عن تلك الماهيّة في الأجر والثواب والمترتّب على تلك الماهيّة. كما أنّ الحقّ أنّ النهي التحريمي المتعلّق بفرد من العبادة - كالنهي عن الصلاة في الحرير - يستفاد منه مجرّد المانعيّة ولا يستفاد منه في العرف التكليف ، فيكون الفرد المنهيّ عنه حراما من جهة التشريع ، وليس من المحرّمات الذاتيّة.

وإذ تمهّد هذا ، فنقول : إنّ تلك النواهي ليست على حقائقها المصطلح عليها من رجحان الترك ومرجوحيّة الفعل ، بل إنّما هي إرشاد إلى أنّ تلك الأفراد أقلّ ثوابا عن الأفراد الأخر ، وليس خاليا عن معنى الطلب - كما توهّمه بعض الأجلّة (1) - بل مفاد الأمر والنهي الإرشاديّين هو الطلب - والداعي إليه هو بذل النصح للمطلوب منه وإراءة طريق له إلى اختيار الفرد الكامل في مقام الامتثال ليتوصّل به إلى الفوز بأعلى مراتب الثواب المقرّر لتلك الماهيّة.

فإن قلت : فما تقول في دفع ما اورد على الجواب المذكور من عدم الانضباط وكراهة العبادات الناقصة الثواب؟

قلت : ليس مجرّد قلّة الثواب منشأ للكراهة ، بل كان ذلك بواسطة وجود مانع عن ترتّب الثواب المقرّر لتلك الماهيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ لماهيّة الصلاة قدرا معيّنا من الثواب يترتّب على الامتثال بها عند إيجاد أفرادها ، وقد يكون لتلك الماهيّة باعتبار وجود خاصّ لها ثوابا زائدا على ما هو مقرّر للماهيّة في ضمن وجوداتها الآخر ، وقد يكون لها باعتبار

ص: 636


1- انظر الفصول : 131 و 133.

انوجادها (1) بوجود مخصوص ثواب أقلّ من الثواب المقرّر للماهيّة ، ولا بدّ أن تكون تلك الزيادة والنقيصة باعتبار انضمام حيثيّة خارجة عن حقيقة العبادة لازمة للوجود الخاصّ الذي به يتحقّق تلك الماهيّة ، فيكون الزيادة بواسطة تلك الحيثيّة ، وكذلك النقيصة. فإن لم يكن وجود تلك الماهيّة ملازما لحيثيّة منقّصة أو مرجّحة ، فإيجاد الماهيّة بهذا الوجود يعدّ من الأفراد الغير مكروهة (2) والمستحبّة ، وإيجادها بالوجود الملازم لتلك الحيثيّة المنقّصة - كإيجاد الصلاة في الحمّام - يعدّ مكروها ناقص الثواب بواسطة وجود المانع ، وإيجادها بالوجود الملازم لحيثيّة مرجّحة يعدّ مستحبّا زائد الثواب بواسطة وجود مقتضي الزيادة مع عدم ما يقتضي النقصان ، فليس كلّ ما هو ناقص الثواب مكروها حتّى يرد النقض بالصلاة في البيت والمسجد بالنسبة إلى الفرد الكامل ، ولا كلّ ما هو زائد الثواب مستحبّا حتّى يرد النقض أيضا بالصلاة في البيت بالنسبة إلى الصلاة في الحمّام ، بل النقصان لو كان بواسطة وجود المانع فهو المكروه ، والنقصان في الصلاة في البيت بواسطة عدم المقتضي لا بواسطة وجود المانع. والزيادة لو كان منشؤها وجود مقتضي الزيادة كان مستحبّا ، لا فيما إذا كانت الزيادة مستندة إلى عدم المانع ، كما في الصلاة في البيت.

وحينئذ يندفع المحذور بحذافيره ، ولا يرد عليه شيء من الإيرادات السابقة ؛ لعدم ابتنائه على المصالح والمفاسد ، ولا يلزم استعمال النهي في الإخبار فإنّ الإرشاد من المعاني المتعارفة ، ولا يلزم عدم الانضباط لوجود المعيار في البين ، وليس الأمر بالكلّي خلاف اللطف كما عرفت فيما تقدّم ، ولا يلزم اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد إذ النهي الإرشادي المسوق لبذل النصح وصلاح المسترشد ليس من الطلب

ص: 637


1- لا تخفى غرابة هذا الاستعمال.
2- كذا ، والصواب : غير المكروهة.

الحقيقي المناقض للأمر. نعم ، ذلك لا يتأتّى في العبادة التي يعلم بعدم زيادة ثوابها على القدر المترتّب على واجبها ، ولا يعلم بمثلها في العبادات المكروهة. واحتمال كون بعضها كذلك لا يجدي ؛ للنقض أوّلا إذ مورد النقض ينبغي أن يكون معلوما كما هو ظاهر ، وهو مدفوع ثانيا بما ستعرف : من أنّ العرف قاض بحمل النهي الوارد في مقام توهّم الاستواء على ما ذكرنا من القلّة.

وأمّا ما أورده المحقّق القميّ رحمه اللّه على الجواب (1) المذكور : من الترديد بين كون الأقلّ ثوابا مطلوب الفعل أو مطلوب الترك أو مطلوبهما (2) ، فنختار الأوّل. قوله : « فليس بمكروه » إن أراد منه المعنى المصطلح عليه فهو غير مفيد ، وإن أراد منه المعنى الذي حاولناه فهو غير سديد.

وبالجملة ، فما ذكرنا في توجيه العبادة المكروهة هو المطابق للنصوص الواردة في مقام كراهة العبادات ، ولكلمات الفقهاء في بيانها أيضا كاستحبابها وإباحتها ، ولم نجد موردا ينافي ذلك. فعليك بالتأمّل في مواردها والتتبّع في مطاويها حتّى يظهر لك صدق المقال وحقيقة الحال ، فتدبّر.

ثمّ إنّه لو ظهر رجوع النهي إلى إحدى المراتب المستفادة من الأمر وعلمنا به فهو ، وإلاّ فعند الشكّ فهل يحكم بالتحريم ويتبعه الفساد على القول بامتناع الاجتماع ، أو بالفساد فقط ، أو بالكراهة بالمعنى المصطلح عليه ، فيحكم بعدم الصحّة على القول بامتناع الاجتماع ، أو بالكراهة بالمعنى المذكور؟ وجوه ، أظهرها الثاني ؛ لأنّ الكراهة بالمعنيين خلاف ظاهر النهي ، والتحريم وإن كان مفاد النهي إلاّ أنّ المستفاد من النهي الوارد بعد توهّم الصحّة المستفادة من الإطلاق هو الفساد ، كما

ص: 638


1- في ( ع ) و ( م ) بدل « الجواب » : الجواز.
2- القوانين 1 : 144 ، وفيه بدل « مطلوبهما » : مجتمعهما.

يستفاد من الأمر الوارد عقيب الحظر غير معناه الحقيقي ، ولذا لا يحكم بحرمة كثير من المعاملات مع ورود النهي عنها ، وليس إلاّ لتخصيص العمومات الدالّة على ترتّب الأثر عليها وصحّتها.

والقول بأنّ النهي كما يمكن أن يكون ناظرا إلى الصحّة المستفادة كذا يمكن أن يكون ناظرا إلى الجواز المستفاد من الأمر أيضا ، يدفعه :

أنّ رفع الجواز يلازم رفع الصحّة على القول بالامتناع ، فيكون نظير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، والأصل قاض بعدم التحريم عرفا ، كما يستفاد من الأوامر الواردة في مقام الأجزاء والشرائط الوجوب الغيري اللازم للجزئيّة والشرطيّة مع ظهور الأمر في الوجوب النفسي ، وحيث إنّ ظهور الأمر في الصحّة لعلّه أكثر من ظهوره في تساوي الأفراد ، فلذلك قلنا بأنّ الكراهة بالمعنيين خلاف ظاهر النهي.

نعم ، يصحّ ذلك فيما لو علم بالإجماع ونحوه عدم الفساد ، فإنّ المنساق من النهي حينئذ عدم التساوي في المرتبة.

المقام الثاني

في تصوير الكراهة في العبادات التي لا بدل لها من جنسها ، كالصوم في السفر ؛ بناء على عدم تحريمه المستفاد من قوله صلى اللّه عليه وآله : « ليس من البرّ الصيام في السفر » (1).

واعلم أوّلا : أنّ الإشكال في هذه العبادات ليس مختصّا بالمانع من اجتماع الأمر والنهي ، بل هو وارد على المجوّز أيضا ، حيث إنّ الكلام منهم إنّما

ص: 639


1- المستدرك 7 : 383 ، الباب 9 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 2.

هو في الوجوب التخييري العقلي مع عدم انحصار الفرد الواجب في المحرّم ، ومثله المستحبّ والمكروه أيضا.

وبالجملة ، فلا بدّ أن يكون للمكلّف مندوحة في الامتثال ، على ما هو المصرّح به في كلامهم في تحرير محلّ النزاع.

وقد أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما أفاده الشهيد السعيد في المسالك ، من أنّ المراد من كراهة الصوم في السفر أنّه أقل ثوابا من الصوم في الحضر (1).

وظاهره - على ما حكي - عدم النهي ولو على وجه الإرشاد ، بل يمكن القول بعدم تعقّل الإرشاد فيه ، حيث إنّه لا إرشاد إلى النهي عن الصوم في السفر والأخذ به في الحضر ، لاحتمال عدم الاقتدار عليه ، فهي منفعة عاجلة لا تترك لاحتمال ما هو أنفع منها في الآجل.

ودعوى اختصاص النهي بحالة الاقتدار عليه مدفوعة ؛ لمخالفتها للنصّ والفتوى معا ، حيث إنّ ظاهرهما النهي على وجه الإطلاق ولو مع العجز عن تحصيله في الحضر ، ولذا التزم في محكيّ الروض باستعمال النهي في مجرّد قلّة الثواب (2) ، فإنّه حكم بكراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشمس عند الانحصار قائلا : بأنّ علّة الكراهة موجودة في حال الانحصار ، فإنّ ذلك ينافي الإرشاد جدّا ، كما هو ظاهر.

وكيف كان ، فيرد عليه : أنّ ظاهر النصوص خلاف ذلك ، سيّما ما اشتمل منها على لفظ « الكراهة » كقول أبي جعفر عليه السلام : « أكره أن أصومه - يعني به عليه السلام

ص: 640


1- المسالك 2 : 47.
2- انظر روض الجنان 1 : 429 - 430.

يوم عرفه - أتخوّف أن يكون يوم عرفه يوم النحر وليس بيوم صوم » (1) وقول أبي الحسن عليه السلام بعد السؤال عنه عن اليومين اللذين بعد الفطر أيصامان؟ : « أكره لك أن تصومهما » (2) فإنّ التأويل المذكور في مثل هذه الأخبار ربما (3) يقطع بفساده ، سيّما بعد ملاحظة تسمية الصائم في السفر عاصيا ، كما في رواية سماعة : « سألته عن الصيام ، فقال : لا صيام في السفر ، قد صام اناس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فسمّاهم العصاة » (4).

ويظهر ذلك في الغاية بعد ملاحظة قول أبي الحسن عليه السلام في جواب من سأله عن الصيام بمكّة ومدينة من دون قيام فيهما : « لا يصحّ » (5) فإنّه ربّما يقطع بفساد التوجيه المذكور فيه ، مضافا إلى ما عرفت من عدم استقامة إرادة ذلك من النهي من دون طلب.

الثاني : ما أجاب به المحقّق القمّي رحمه اللّه ، فإنّه وإن لم يمنع من الاجتماع ، إلاّ أنّ الإشكال فيما نحن فيه وارد عليه أيضا كما عرفت ، فقال : وأمّا فيما لا بدل له فنقول : هي إمّا مباحة أو مكروهة على ما هو المصطلح عليه ، فيكون تركه راجحا على فعله ، بل الثاني هو المتعيّن هنا لئلاّ يخلو النهي عن الفائدة فيغلب المرجوحيّة الحاصلة بسبب الخصوصيّة على الرجحان الحاصل لأصل العبادات. ثمّ استشهد بترك الأئمة عليهم السلام لها ونهيهم عنها ، فإنّ ذلك خلاف اللطف.

ص: 641


1- الوسائل 7 : 344 ، الباب 23 من أبواب الصوم المندوب ، الحديث 6.
2- الوسائل 7 : 387 ، الباب 3 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، الحديث 2.
3- في ( ع ) بدل « ربما » : ممّا.
4- الوسائل 7 : 142 ، الباب 11 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث الأوّل.
5- الوسائل 7 : 144 ، الباب 12 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 2.

وأجاب عن لزوم الرجحان في العبادة ، وحصول القرب بها.

أمّا عن الأوّل : فبأنّه لم يقم دليل على لزوم الرجحان في جميع خصوصيّات العبادة ، بل يكفي في ذلك ثبوته للماهيّة.

وأمّا عن الثاني : فبأنّ قصد التقرّب حاصل بالنسبة إلى الماهيّة وإن لم يحصل القرب في الخصوصيّة ، ولا ملازمة بين القصد إليه وحصوله ، وإلاّ لما صحّ أكثر عباداتنا ؛ مضافا إلى أنّ قصد التقرّب قد يراد به موافقة الأمر وهو حاصل ، فلعلّ صورة العبادة تكفي في صحّة قصد التقرّب ما لم يثبت لها مبطل من الخارج ، وإن لم يكن ممّا لم يحصل له ثواب (1).

ثم إنّه وجّه قصد القربة في الحاشية (2) بوجه آخر ، وهو : قصده من حيث كونه متعبّدا وداخلا في زيّ المتعبّدين.

وفيه ، أوّلا : النقض بالحرام والواجب ، فكما أنّه لا مانع على ما زعمه من اجتماع الكراهة والوجوب وكفاية الرجحان في الماهيّة وعدم الحاجة إلى الرجحان في الخصوصيّة ، فكذلك لا مانع من ذلك في الوجوب والحرمة. فإن استند في ذلك إلى عدم إمكان الامتثال فيه ، فنقول : لا يمكن الامتثال في المكروه أيضا ، وإن استند إلى عدم التضادّ بين الوجوب والكراهة بخلافه في الإلزاميّين فهو ممّا لا يسعه عقولنا ، ضرورة وجود التناقض وفهمه عقلا وعرفا بين الأمر بماهيّة على وجه الإطلاق والنهي عن فرد خاصّ من تلك الماهيّة.

وأمّا الاستناد إلى أنّ الماهيّة تغاير إيقاعها في زمان خاصّ أو مكان مخصوص فيحتمل اختلافهما في الحكم ، فقد عرفت أنّه كلام ظاهريّ خال عن

ص: 642


1- القوانين 1 : 144 - 145.
2- انظر الحاشية المطبوعة في هامش القوانين 1 : 145 ، ذيل قوله : وإن لم يحصل القرب.

التحصيل ، فإنّ الإيقاع ليس أمرا مغايرا لوجود تلك الماهيّة وإيجادها في الخارج ، غاية الأمر أنّه وأمثاله منتزع من الماهيّة باعتبارات عقليّة صرفة لا يناط بها حكم.

وأوضح فسادا من ذلك ما زعمه بعض الأجلّة في توجيه مرام المحقّق المذكور. وحاصله : أنّ العبادة المكروهة لها اعتباران وجهتان : من حيث الأجزاء ومن حيث الجملة ، فمن الاولى تشمل على جهتي الرجحان والمرجوحيّة وإن كان الرجحان مغلوبا ، ومن الثانية لا تكون إلاّ مرجوحة ، ويكفي في اتّصاف الشيء بالعبادة وجود جهة الرجحان وإن كانت مغلوبة (1). ووجوه فساده غير خفي على أحد (2).

وثانيا : أنّه لم يعقل معنى لكون الفعل عبادة وعدم حصول التقرّب به على تقدير الإتيان بها على وجهها.

وثالثا : أنّ المراد بالقربة - على ما حقّقناه في مباحث المقدّمة (3) - ليس إلاّ الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر والامتثال. فإن أراد من موافقة الأمر ذلك فهو سديد ، لكنّه غير مفيد له ، فإن الإشكال في وجود الأمر في المقام مع وجود المرجوحيّة المناقضة لما هو لازم الأمر. وإن أراد إيجاد عمل مشارك للعبادة في الصورة كما ربما يومئ إليه قوله : « ولعلّ ... » فهو أظهر فسادا من أن يحتاج إلى بيان.

وأمّا رابعا : فما أفاده أخيرا ، فإن أراد أنّ الدخول في زيّ المتعبّدين إنّما هو بواسطة نفس العمل ، فالكلام إنّما هو في صحّته. وإن أراد أنّه بواسطة الانقياد والبناء

ص: 643


1- الفصول : 130.
2- لم ترد « على أحد » في ( م ).
3- راجع الصفحة 300.

على التعبّد ونحوه يدخل في زيّ المتعبّدين ، فهو فاسد أيضا ، فإنّ ما ينقاد به لا بدّ وأن يكون راجحا ولو من جهة ، والمفروض انتفاء الرجحان ، وهو ظاهر.

وقد يلتزم فيها بعد الأمر المفيد للتكليف ، نظرا إلى امتناع الامتثال لعدم المندوحة ، إذ لا فرق في اشتراط التكليف بإمكان الامتثال بين الإلزامي وغيره ، إلاّ أنّه مع ذلك حكم بالصحّة من حيث استفادة حكم وضعيّ من قوله : « الصلاة قربان كلّ تقيّ » (1) و « الصوم جنّة من النار » (2) ونحو ذلك ، فيكون تلك العبادات صحيحة بواسطة مطابقتها للحكم الوضعي.

وفساده أيضا ظاهر بعد كونه أخصّ ، فإنّ وجود هذه الآثار فيها بعد وقوعها مطابقة لأوامرها ، والكلام بعد في تصحيح الأمر بها مع المرجوحيّة المفروض فيها.

الثالث : لا يبعد أن يكون حاسما لمادة الإشكال ، وهو : أنّه لا ضير في أن يكون طرفا النقيض من شيء واحد ولو من حيث اندراجهما تحت عنوان آخر ذي مصلحة مقتضية للأمر بهما ، كفعل الأكل المندرج تحت عنوان « إجابة المؤمن » وتركه المندرج تحت عنوان « الصوم » وحيث إنّه لا يسعنا الجمع بين المتناقضين فلا محالة يصير التكليف بهما تكليفا على وجه التخيير بين الفعل بعنوانه والترك بعنوانه ، ولا يلزم من ذلك إباحة الفعل ، فإنّه إنّما يتأتّى فيما لو فرض تساوي الفعل والترك مع قطع النظر عن لحوق عنوان آخر بهما ، والمفروض فيما نحن بصدده هو لحوق عنوان آخر بهما ، فالترك المطلق من غير لحوق عنوان به من الصوم والإجابة ممّا لا حسن فيه ولا يقتضي أمرا ولا نهيا ، وتقييده بمخالفة المؤمن يوجب النهي عنه فيصير الفعل مأمورا به ، وتقييده بالصوم يوجب الأمر به.

ص: 644


1- الوسائل 3 : 30 ، الباب 12 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث 1 و 2.
2- الوسائل 7 : 290 ، الباب 7 من أبواب الصوم المندوب ، الحديث 8.

ولا غائلة ؛ فإنّ الترك إمّا أن يكون وقوعه من المكلّف في الخارج من غير التفات إلى القيدين فلا يكون موردا لحكم من الأحكام الشرعيّة ، وإن وقع منه من حيث إنّه صوم يكون مأمورا به فقط ، وإن وقع منه بعد لحوق عنوان « مخالفة المؤمن » و « ترك إجابته له » فهو مكروه منهيّ عنه بواسطة حسن الإجابة وكراهة عدمها.

وذلك يشبه الحكم بالوجوب التخييري ولو بحكم العقل في إنقاذ الغريقين اللذين لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما ، فإنّه مخيّر بين فعل كلّ واحد منهما وتركه ، لا من حيث إنّ الترك ملحوظ بالقياس إلى الفعل ، بل من حيث إنّ ترك أحدهما مجامع لعنوان الإنقاذ في الآخر ؛ وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ فعل الإنقاذ في أحدهما ليس نفس عدم الإنقاذ في الآخر ، فإنّ وجود أحد الضدّين - مثلا - ليس عين عدم الآخر ، وأمّا فيما نحن فيه فترك الصوم وفعل الأكل هو عين عنوان الإجابة ، وهو ظاهر.

وبالجملة ، فلا ضير في اتّصاف طرفي النقيض بالمطلوبيّة باعتبار احتفاف عنوان بهما ، ولا محالة يكون تعلّق الطلب بهما على وجه التخيير لامتناع طلب المتناقضين عينا.

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ الظاهر من ملاحظة النواهي الواردة في العبادات المكروهة التي لا بدل لها أنّها مكروهة بواسطة احتفافها بعنوان آخر ، كما يظهر بالتصفّح في مطاويها ، فإنّهم يحكمون بكراهة صوم الولد والزوجة مع نهي الوالد والزوج عنه ، وكراهة صوم العاشوراء ، وكراهة صوم المدعوّ إلى الطعام (1) ...

ص: 645


1- انظر الشرائع 1 : 209 ، والقواعد 1 : 384 ، والجواهر 17 : 119 ، وكشف الغطاء 4 : 54 ، ومستند الشيعة 10 : 514.

إلى غير ذلك ، إنّما هو بواسطة أنّ هذا الصيام قد احتفّ بعناوين مطلوبة الترك على وجه التنزيه ، كمخالفة الوالد والزوج والتشبّه ببني أميّة ( عليهم اللعنة والنيران ) وترك إجابة المؤمن ونحوها.

يرشد إلى ذلك فيما مرّ في بعض الروايات من التعليل بقوله : « أتخوّف أن يكون يوم عرفة يوم النحر » (1) فإنّه قد احتفّت (2) به عنوان الاحتياط. وما في رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن صاحبه ، ومن طاعة المرأة لزوجها أن لا تصوم تطوّعا إلاّ بإذن زوجها ، ومن صلاح العبد وطاعته ونصحه لمولاه أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن مولاه وأمره ، ومن برّ الولد أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن أبويه وأمرهما ، وإلاّ كان الضيف جاهلا وكانت المرأة عاصية والعبد فاسقا والولد عاقّا » (3) بناء على حملها على الكراهة دون الحرمة. وما في رواية فضل بن يسار قال رسول اللّه : « إذا وصل الرجل بلدة فهو ضيف ، ولا ينبغي للضيف أن يصوم إلاّ بإذنهم ، لئلاّ يعملوا له الشيء فيفسد عليهم ، ولا ينبغي لهم أن يصوموا إلاّ بإذن الضيف لئلاّ يحشمهم فيشتهي الطعام فيتركه لهم » (4) وظاهرها ما عرفت : من أنّ الوجه في كراهة هذا الصيام ملازمة هذه العناوين المكروهة لها.

فإن قلت : ذلك لا يتمّ فيما لا يكون هناك عنوان مكروه ملازم للعبادة

ص: 646


1- الوسائل 7 : 344 ، الباب 23 من أبواب الصوم المندوب ، الحديث 6.
2- كذا ، والمناسب : احتفّ.
3- الوسائل 7 : 396 ، الباب 10 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، الحديث 2.
4- علل الشرائع : 384 ، الباب 115 ، الحديث 2. والوسائل 7 : 4. الباب 9 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، ذيل الحديث الأوّل.

لمطلق (1) الصوم في السفر والصلاة في الأوقات المكروهة ونحوها ، فإنّ ظاهر النهي المتعلّق بها مطلوبيّة الترك على وجه الإطلاق.

قلت : بعد الغضّ عن إمكان انتزاع عنوان مكروه كالتشبيه (2) بعبدة الشمس للصلاة وقت الطلوع مثلا ونحوه في جميع الموارد كما لا يخفى ، نقول : إنّ صريح العقل قاض بوجود عنوان مكروه ملازم لهذه العبادات بعد ملاحظة الامتناع ، فلا حاجة إلى معرفته تفصيلا.

لا يقال : فعلى ما ذكر لا حاجة إلى الأمر بالفعل المذكور والنهي عنه ، إذ المكلّف إمّا أن يفعل ذلك أو لا يفعل ، وعلى التقديرين فيفوز بالمصلحة المودعة في الفعل أو الترك.

لأنّا نقول : لعلّ وجه الأمر والنهي هو أن يكون الفعل والترك بداعي الأمر والنهي لحصول الامتثال. وليس المفيد في المقام هو القربة كما زعمه بعض الأجلّة (3) ، بل المفيد هو العنوان الخارج الملازم ، والقربة إنّما هي معتبرة فيه.

فإن قلت : إذا كان ذلك العنوان الملازم منهيّا عنه - كمخالفة الأب وترك الإجابة ونحو ذلك - فيصحّ ما ذكر من أنّ الوجه في الأمر والنهي وجودهما بداعي الأمر ، وأمّا إذا لم يكن مأمورا به بل ولا معلوما فكيف يحصل معه الامتثال؟

قلت : وجود النهي كاشف ، ولا حاجة إلى العلم بالعنوان تفصيلا ، فيكفي ترك العبادة من حيث اقترانها بعنوان محبوب واقعا وإن لم يعلم به تفصيلا ، لا غائلة في ذلك.

ص: 647


1- في ( ع ) : كمطلق.
2- كذا ، والظاهر : التشبّه.
3- لم نعثر عليه.

نعم ، يرد على الجواب المذكور أمران :

الأوّل : أنّ قضية ما ذكرنا هو تساوي الصوم وتركه ، لكونهما مندوبين تخييرا ، مع أنّ النصوص والفتاوى كادت أن تكون صريحة في ترجيح الترك على الصوم ، فما أوردنا على الشهيد رحمه اللّه (1) وارد عليه أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّه إن اريد من أنّ النصّ والفتوى قاضية (2) بعدم الرجحان في الصوم فهو ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المعلوم خلافه ، ضرورة كونها عبادة ولا يتحقّق بدون الرجحان. وإن اريد أرجحيّة تركه على فعله مع ثبوت الرجحان في الفعل أيضا فلا ينافي ما ذكرنا.

ويمكن استكشاف الأفضليّة ، أوّلا : من الروايات الواردة في مقام الكراهة ، فإنّ في بعضها : « أنّ إفطارك لأخيك المؤمن أفضل من صيامك تطوّعا » (3).

وثانيا : أنّ التعبير بلفظ « النهي » كاشف عن المرجوحيّة ، كما ربما يساعده العرف والاعتبار أيضا.

وثالثا : يدلّ على الأفضليّة فعل من يكون الواقع حكاية عن فعله ، وهم أئمّتنا صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وبالجملة ، فيكون النهي في هذه المقامات أيضا إرشاديّا. ولا ضير فيه ، حيث إنّه مختصّ بمورد الأمر كما هو المفروض ، فلا ينافي كون النهي عن ذلك العنوان في غير مورد الأمر حقيقيّا لا إرشاديّا.

الثاني : أنّ مناط هذا الإرشاد ربما يقال بتحقّقه في جميع العبادات المستحبّة مع أفضليّة أحدهما عن الآخر.

ص: 648


1- راجع الصفحة 640 - 641.
2- كذا ، والمناسب : قاضيان.
3- الوسائل 7 : 109 ، الباب 8 من أبواب آداب الصائم ، الحديث 3.

ويمكن دفعه : بالتزامه فيما إذا كان مثل المقام ، كأن كان عنوان الأفضل في الخارج عين غير الأفضل كالإفطار مع الصوم ، بل وفيما إذا كان أحدهما مقارنا للآخر كالإنقاذ. ومن هنا تراهم يحكمون بكراهة صوم المدعوّ إلى الطعام ، مع أنّ الرواية الواردة فيه هي ما عرفت : من أنّ « إفطارك لأخيك المؤمن ».

وبذلك يندفع مناقشة سيّد المدارك (1) على من حكم بالكراهة (2) بواسطة الرواية المذكورة ، فإنّ الرواية تدلّ على الأفضليّة دون كراهة الصوم. هذا غاية توجيه المقام.

المقام الثالث

في تصوير الكراهة في العبادات التي بين عنوان المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه.

فأوجه الوجوه في توجيهه هو الوجه المذكور فيما لا بدل له ، فيقال : إنّ المكلّف مخيّر بين الصلاة وتركها في بيوت الظلام ، لا من حيث إنّ تركها ترك لها ، بل من حيث إنّ ذلك الترك محفوف بعنوان التصرّف في ملك مشتبه غير معلوم الحال من الإباحة والغصبية ، والأفضليّة إنّما تستفاد من الوجوه المذكورة فيما سبق. ولا يصحّ الحمل على الأقلّ ثوابا ؛ لما عرفت من لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. وليس التخيير شرعيّا ليكون النهي مستعملا في أكثر من معنى ، بل هو بحكم

ص: 649


1- المدارك 6 : 278.
2- تقدّم عنهم في الصفحة 640.

العقل كالتخيير بين الإنقاذين ، وما ذكرنا (1) هو غاية توجيه أمثال المقام ، وإلاّ فالعالم بالسرائر مطّلع على حقائق الامور والوقائع. هذا تمام الكلام في توجيه اجتماع المكروه مع الواجب أو المستحبّ.

بقي الكلام في اجتماع المستحبّ مع الواجب ، فنقول :

لا كلام في امتناع اجتماع الاستحباب العيني مع الوجوب العيني ، بمعنى أن يكون الشيء بعينه مطلوب الفعل تارة على وجه الحتم واخرى مطلوبة لا على وجه الحتم على وجه يكون الطلبان قائمين بنفس الطالب ، والمطلوبيّة على الوجهين قائمة بالفعل.

واستحالة ذلك ممّا لا ينبغي أن يكون موردا للتأمّل ؛ فإنّ قيام الطلبين مع قطع النظر عن الخصوصيّة المائزة للوجوب والاستحباب بنفس الطالب يوجب اجتماع المثلين ، فإنّ حقيقة الطلب على القول باتّحاده مع الإرادة المفسّرة باعتقاد النفع - كما أفاده المحقّق الطوسي في التجريد وغيره (2) - راجع إلى العلم ، ويكون اختلاف الوجوب والاستحباب حينئذ باختلاف المراد ، فإنّ الإرادة حينئذ حقيقة واحدة ولا يكون اختلافها إلاّ باختلاف الأفراد ، فوجود فردين منها في فعل واحد يوجب اتّصاف محلّ واحد - وهو النفس - بفردين من كيفيّة واحدة ، وهي الإرادة ؛ مضافا إلى لزوم المحذور المذكور أيضا في الفعل.

فإن قلت : إنّ المتّصف بالمطلوبيّة هو الماهيّة الذهنيّة ، لامتناع اتّصاف الماهيّة الخارجيّة بالمطلوبيّة ، لكونها موجودة ولا يعقل طلب الحاصل ، والماهيّة الذهنيّة تختلف باعتبار الملاحظات.

ص: 650


1- في ( م ) : ما ذكره.
2- انظر كشف المراد : 252.

قلت : إن اريد من اختلاف الملاحظة اختلاف وجوه الماهيّة وعناوينها - كأن يكون الماهيّة المطلوبة وجوبا في الذهن مغايرة للماهيّة المطلوبة استحبابا مع تلازمهما في الخارج ، لئلاّ يخرج الكلام عمّا فرضناه من اجتماع الوجوب العيني والاستحباب العيني في شيء واحد - فهو سديد ، إلاّ أنّ هناك أمرين ، أحدهما : ما يتعلّق به الطلب ويكون متصوّرا للطالب ، وهو فيما نحن بصدده العنوانان المختلفان في الذهن. وثانيهما : ما به يسقط ذلك الطلب المتعلّق بالماهيّة ، فإنّه أيضا لا بدّ وأن يكون منشأ لانتزاع وصف المطلوبيّة ، وإلاّ لما يعقل وجه لسقوط الطلب. ولا إشكال في أنّ ما به يسقط الطلب لا بدّ وأن يكون من الموجودات الخارجيّة التي ينتزع منها المطلوبيّة. واختلاف الفعل في الذهن إنّما يجدي في عدم لزوم اجتماع المثلين في الماهيّة المتصوّرة للطالب ، وأمّا ما يسقط الطلب الذي هو ينتزع منه المطلوبيّة فلا اختلاف فيه ، ويلزم فيه اجتماع المثلين. وبما ذكرنا (1) يظهر أنّ ذلك كاف في إبطال الاجتماع وإن لم يلاحظ حال الطالب حتّى يقال : إنّا لا نعقل كيفيّة الطلب الصادر من اللّه ، كما لا يخفى.

وإن اريد باختلاف الملاحظة أنّ ماهيّة واحدة من دون اختلاف وجوهها تارة يعقل ويتعلّق بها الطلب الوجوبي وتارة اخرى يتصوّر ويتعلّق بها الندبي ولا إشكال في اختلاف الملاحظتين ، فهو فاسد جدّا ، إذ اختلاف الملاحظتين مرجعه إلى تغاير التصوّرين ، والطلب إنّما يحتاج إلى اختلاف المتصوّرين ، وتعدّد التصوّر لا يجدي في تعدّد المتصوّر ، وهو ظاهر.

وأمّا على القول بمغايرة الإرادة والعلم (2) - كأن يكون الإرادة كيفيّة اخرى

ص: 651


1- في ( م ) : ذكره.
2- عطف على قوله : « على القول باتّحاده مع الإرادة » في الصفحة السابقة.

غير العلم - فما ذكرنا لازم أيضا ، كما لا يخفى على المتأمّل. كما أنّه لازم على القول بتغاير الإرادة والطلب أيضا ، فإنّ ما ذكرنا (1) لا يختلف باختلاف المذاهب في ذلك ، كما هو ظاهر.

نعم ، هنا شيء ينبغي أن يعلم ، وهو أنّ الظاهر أنّ اختلاف الطلب الوجوبي مع الاستحبابي عند عدم رجوع الطلب إلى الإرادة وعدم رجوعها إلى العلم يكون من قبيل اختلاف العلم والظنّ ، حيث إنّ اختلافهما ليس بواسطة المعلوم والمظنون ، بل باختلاف نفس العلم والظنّ كما هو ظاهر ، فتدبّر.

هذا مع قطع النظر عن الخصوصيّة المائزة للاستحباب عن الوجوب ، وأمّا بملاحظتها فيلزم من اجتماع الطلب الوجوبي مع الندبي في فعل واحد على وجه التعيين - سواء قيل بتعلّق الأحكام للطبائع أو الأفراد - اجتماع الضدّين ، ضرورة أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة ، وإلاّ لم يفترق أحدها عن الآخر ، كما هو المقرّر في محلّه من أنّ الفصول اللاحقة للجنس لا بدّ وأن تكون متضادّة حتّى يحصل بلحوق بعضها إليه نوع محصّل ممتاز عن سائر الأنواع ، وهو ظاهر. وبعد ما عرفت من اتّحاد منشأ انتزاع الطلبين فيما يسقط منه الطلب فالملازمة ظاهرة لا حاجة إلى بيانها.

فإن قلت : فما توجيه موارد اجتماع الوجوب العيني والاستحباب العيني ، مثل الوضوء الواجب لغاية واجبة والمندوب لغاية مندوبة ، أو مع قطع النظر عن الغاية أيضا لاستحبابه في نفسه؟ إذ لا فرق فيما ذكر بين أن يكون الوجوب والندب نفسيّين أو غيريّين أو مختلفين ، لاتّحاد المناط في الكلّ.

ص: 652


1- في ( م ) : ما ذكره.

قلت : قد استوفينا الكلام في توجيه ذلك في بحث المقدّمة ، وحاصله : ما نبّه عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه : من عدم اتّحاد زماني الوجوب والندب (1).

فإن قيل : وجوب الغاية يكون مندوبا نفسيّا أو غيريّا عند استحباب الغاية ، ولا محذور من اجتماع الندبين فيه ، لما ستعرفه في الوجوبين ، وبعد وجوبها لم يبق الطلب الندبي بوجه ، فيكون واجبا محضا من غير شائبة الندبيّة.

وبالجملة ، فنحن نحكم بعدم اجتماع الطلبين في مورد واحد ، لاستلزامه إمّا اجتماع المثلين أو الضدّين ، والتالي من المستحيلات الأوّليّة ، والملازمة ظاهرة ممّا مر.

وممّا ذكرنا (2) يظهر حال اجتماع الوجوبين ، مثل ما لو أمر الوالد بشيء مع تعلّق أمر الوالدة به أيضا ، فإنّ ذلك الفعل من حيث كونه منشأ لحصول إطاعة الوالد واجب ومن حيث إنّه يصير موردا لامتثال الوالدة أيضا واجب ، لكنّه لا يتّصف ذلك الفعل بوجوبين ولا يصير منشأ لانتزاع المطلوبيّة مرّتين ، بل التحقيق في ذلك هو تأكّد الطلب الناشئ من حصول الجهتين ، كما يظهر بالرجوع إلى الوجدان عند تعدّد جهات الطلب في مطلوب واحد ، من غير فرق بين وجودها فيه دفعة وبين حصولها متدرّجة في الوجود ، وبين العلم بها دفعة وبين الجهل ببعضها ، فإنّ ذلك لا مدخليّة له فيما نحن بصدده. ولا وجه للقول ببقاء أحدهما عند اللّه وارتفاع الآخر ، فإنّه غير آئل إلى حاصل ، فمقتضى وجود العنوانين اللذين تعلّق بكلّ واحد منهما طلب حتميّ تأكّد الطلب في الفرد الجامع لهما وزيادة الثواب.

ص: 653


1- القوانين 1 : 147.
2- في ( م ) : ممّا ذكره.

فإن قلت : قضيّة كلّ واحد من العنوانين اجتماع الحكمين فعلا ، وبعد حكم العقل بامتناع ذلك يحصل التعارض بينهما لاقتضاء كلّ منهما انتساب الأثر إليه ، وحيث إنّه لا مرجّح بينهما فيتساقطان ، فلا يثبت وجوب فضلا عن تأكّده.

قلت : إنّ بعد تسليم اختلاف مراتب الطلب شدّة وضعفا لا وجه لما ذكر أصلا ، فإنّ كلّ واحد من العنوانين على وجه الاستقلال يقتضي مرتبة خاصّة من الطلب ، واجتماعهما معا يقتضي مرتبة أشدّ من المرتبة التي كان كلّ واحد منهما مقتضيا لها ، فلا تعارض بينهما حتّى يقال بالتساقط. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ كلّ واحد من العنوانين يقتضي وجود الرجحان والمطلوبيّة ، فلا تعارض بينهما ، وإنّما التعارض في استناد الأثر إليهما على وجه الاستقلال ، وبعد التعارض يحكم بتساقط الاستناد إليهما استقلالا دون أصل الوجود ، فيكون المقام نظير ما لو عقد كلّ واحد من الأب والجدّ على البنت لشخص واحد ، دون ما لو عقد عليها كلّ واحد منهما لغير ما عقد له الآخر ، فتأمّل.

وبالجملة ، فلا محذور في القول بتأكّد الطلب [ و ] المطلوب ، سواء قلنا بوجود المصالح والمفاسد في المكلّف به - كما هو مذاق التحقيق - أو لم نقل به ، كما زعمه الأشعري (1).

أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ الوجه في ارتفاع الطلبين هو استحالة وجودهما في محلّ واحد ، وذلك لا يقضي بارتفاع المصلحة والمفسدة ، فإنّ التخصيص عقليّ ، فيقطع ببقاء الجهة ، سيّما على ما قرّرنا من اقتضائهما مرتبة خاصّة من الطلب.

ص: 654


1- انظر الإحكام في اصول الأحكام لابن حزم 5 - 8 : 583 ، والإحكام للآمدي 1 : 119 - 130.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ إنكارهم وجود المصالح والجهات المحسّنة ممّا لا ربط له بالقول بتأكّد الطلب بواسطة العنوانين ، وهو ظاهر.

وبمثله نقول فيما إذا اجتمع الوجوب والندب ، فإنّه يحصل به تأكّد الطلب نظير اجتماع السواد الشديد والضعيف ، فإنّ الثاني لا يتحقّق في مورد الشديد على وجه يغاير الشديد ؛ لما عرفت من لزوم اجتماع المثلين ، بل يشتدّ الشديد بلحوقه.

ولا بدّ أن يكون الحكم الفعلي في مورد اجتماعهما الوجوب دون الاستحباب ، لاضمحلال الضعيف في جنب الشديد دون العكس ، فإنّ وجود الجهة الناقصة لا ينافي ثبوت الوجوب.

وتحقيقه : أنّ الجهات التي لا تقتضي حكما إلزاميّا - كالإباحة والندب ونحوهما - إنّما يستند إليها فيما إذا لم تكن للشيء جهة ملزمة ، فإنّه يكفي في تحريم شيء اشتماله على جهة مقبّحة مقتضية لتركه على وجه الإلزام ، ولا حاجة إلى اشتماله على تلك الجهة من جميع الجهات ، ويكفي في إيجاب الشيء اشتماله على جهة مقتضية له وإن اشتمل على جهات أخر لا تقتضي ذلك ، وهو ظاهر.

فيحصل من جميع ما مرّ أنّ اجتماع الوجوب والاستحباب والوجوبين على اختلاف وجوههما من النفسيّة والغيريّة وغيرها (1) غير ممكن لو اريد به وجودهما فعلا ، وممكن لو اريد به وجود الآثار المستندة إليهما من الثواب والامتثال ، ولذلك قلنا بصحّة الوضوء في وقت وجوبه فيما لو نوى استحبابه في نفسه كما تقدّم في بحث المقدّمة (2) ، لكنّه مبنيّ على القول باختلاف الوجوب والاستحباب بالشدّة والضعف ، كما هو الظاهر.

ص: 655


1- كذا ، والمناسب : غيرهما.
2- راجع الصفحة 357.

وربّما يكون الوجه في زيادة الثواب المترتّب على العمل شدّة الطلب المتعلّق به ، ويلزم من ذلك أن يكون الواجب أكثر ثوابا من المندوب ، كما لعلّه المشهور بينهم وورد فيه الروايات (1) ، إلاّ أنّ قضيّة ذلك عدم جواز الاستثناء من ذلك ، مع أنّهم ذكروا لقاعدة أفضليّة الواجب موارد مستثناة.

قال الشهيد في محكيّ القواعد : الواجب أفضل من الندب غالبا لاختصاصه بمصلحة زائدة ، ولقوله تعالى في الحديث القدسي « ما تقرّب اليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه » (2) وقد تخلّف ذلك في صور : كالإبراء من الدين الندب ، وإنظار المعسر الواجب ، وإعادة المنفرد صلاته جماعة ، فإنّ الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ، فصلاة الجماعة مستحبّة وهي أفضل من الصلاة التي سبقت وهي واجبة. وكذلك الصلاة في البقاع الشريفة فإنّها مستحبة وهي أفضل من غيرها من مائة ألف إلى اثنتي عشرة صلاة. والصلاة بالسواك والخشوع في الصلاة مستحبّ ويترك لأجله سرعة المبادرة إلى الجمعة وإن فات بعضها مع أنّها واجبة (3) ، انتهى.

وقد يشكل - مضافا إلى ما عرفت من عدم جواز تخصيص القاعدة العقليّة - : أنّ المركوز في أذهان المتشرّعة زيادة ثواب جملة كثيرة من المندوبات من (4) جملة من الواجبات ، كالصيام في الهجير بالنسبة إلى ردّ السّلام ، وكذا زيارة

ص: 656


1- ستأتي الإشارة اليها.
2- عوالي اللآلي 1 : 408 ، الحديث 74 ، وانظر الوسائل 3 : 53 ، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 6.
3- القواعد والفوائد 2 : 106 ، القاعدة 185.
4- كذا ، والمناسب : « على ».

الحسين عليه السلام ... إلى غير ذلك من الامور المندوبة ، كبناء المساجد والقناطر وغير ذلك من الامور الباقية مدى الدهر التي ينتفع منها عامّة العباد في أطراف البلاد.

فإمّا أن يقال : بأنّ تأكّد الطلب غير كاشف عن تأكّد المصلحة وزيادة الثواب ، أو يقال بأنّ الواجب أفضل من المندوب مطلقا ولا وجه للأخذ بالروايات الظاهرة في الزيادة المخالفة لحكم العقل ، فإنّها مطروحة أو مؤوّلة ، وليس تلك الروايات بقطعيّة - كالإجماع - حتّى نحتاج إلى توجيه في الجمع بين العقل والإجماع ، بدعوى اختصاص أحدهما بما لا مدخل للآخر فيه ونحوه ، كيف! والإجماع - كما نقله المحقّق البهائي في الأربعين (1) - على خلافه.

وقد يقال في التوجيه : إنّ المصلحة القاضية بالوجوب هو دفع المضرّة والمفسدة ، والحكمة الداعية إلى الاستحباب هو جلب المنفعة ، وقضيّة قوله : « لكلّ امرئ ما نوى » (2) هو حصول المنفعة للعبد بفعل المندوب فيما إذا قصده ودفع المضرّة عنه فيما إذا طلبه من فعل الواجب ، وهو لا ينافي فضل الواجب إذا اريد منه المصلحة أيضا.

وفيه أوّلا : أنّ دفع المضرّة في الواجب ملازم للمنفعة الداعية إلى تشريعه فيما لو اتي به على وجهه ، وإلاّ فلا يترتّب عليه دفع المضرّة أيضا.

وثانيا : أنّ الإشكال باق فيما لو فرضنا الإتيان بالواجب لأجل المنفعة على تقدير تعقّل الانفكاك.

وقد يدفع الإشكال عن الزيارة : بأنّ فضلها على كثير من الواجبات إنّما هو بواسطة كونها من مظاهر الولاية التي هي من أهمّ الواجبات ، فإنّها بالزيارة تتحقّق في الخارج.

ص: 657


1- لم نعثر عليه.
2- الوسائل 1 : 34 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 10.

وفيه : أنّ مطلق الأعمال المستحبّة يمكن أن يقال بأنّها من مظاهر التعبّد لله الذي هو فوق الولاية في الوجوب. وبالجملة فهذه الكلمات لا تدفع الخصم.

ثمّ إنّه قد يظهر من بعضهم : أنّ إجزاء غسل واحد عن الجنابة الواجبة والجمعة المندوبة إنّما هو بواسطة اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد ، فيكون من موارد اجتماع حكمين متضادّين ، حتّى أنّ بعضهم قد جعله دليلا برأسه على الجواز ، كما حكاه الفاضل النراقي (1).

أقول : ومثله ما عن البعض من مطلق تداخل الأسباب في بعض الموارد ، كما في منزوحات البئر (2) وأسباب السجدة (3) ونحوها.

ولا بأس بتحقيق ذلك في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : ففي توضيح الحال في تداخل الأسباب على وجه يظهر أنّه ليس من موارد اجتماع الأحكام المتضادّة أو المتماثلة في شيء.

فنقول : إذا دلّ الدليل الشرعي على وجوب شيء عند حدوث شيء آخر ، كما إذا قيل : « إذا نمت فتوضأ » و « إذا التقى الختانان وجب الغسل » فإذا لم يعلم بوجود سبب آخر لترتّب الجزاء المذكور فيحكم بحسب الظاهر بأنّ النوم علّة تامّة لوجوب الوضوء ، والالتقاء للغسل ، سواء كان جميع ما عداه موجودا أو معدوما ، وهذا هو معنى حجّية مفهوم الشرط.

وذلك الجزاء تارة يكون قابلا للتكرار والتعدّد كما في قولك : « إذا رأيت زيدا فأعطه درهما » فإنّ إعطاء الدرهم له ممّا يمكن أن يتكرّر وجوداته في الخارج ،

ص: 658


1- مناهج الأحكام : 58.
2- مثل العلاّمة في القواعد ، انظر مفتاح الكرامة 1 : 122.
3- مثل الحلّي في السرائر 1 : 258 ، فيما إذا كانت أسباب سجدتي السهو من جنس واحد.

وإمّا أن لا يكون قابلا للتكرار والتعدّد كما في قولك : « إن زنى زيد فاقتله » فإنّ قتله ممّا لا يقع مكرّرا في الخارج.

فإن كان من الثاني فتكرار وجود السبب لا يقضي بتكرار القتل ، لامتناعه. نعم ، وجوب القتل ممّا يتأكّد بتكرّر أسبابه ، سواء كان أسبابه متعددا بواسطة تعدّد أفراده كما إذا زنى زيد - مثلا - مكرّرا ، أو بواسطة تعدّد أنواعه كما إذا كان السرقة أيضا ممّا يوجب القتل ، ولا يعقل اتّصاف القتل الواقع جزاء لوجوبات عديدة ؛ لامتناع اجتماع الأمثال.

فإن (1) كان من الأوّل فعند اتّحاد حقيقة المعلول والعلّة فالظاهر من الجملة الشرطيّة هو لزوم تكرّر أفراد المسبّب عند تعدّد أفراد السبب ، كما في قولك : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (2) وقولك : « إذا وقع الخمر في البئر فانزح كذا » فإنّ الظاهر وجوب النزح متعدّدا عند تعدّد وقوع الخمر ، إذ القول بوجوب النزح مرّة واحدة يوجب تقييدا في الشرط ، كأن يكون المراد : إذا وقع الخمر الغير المسبوق بوقوع مثله في البئر فانزح كذا ، والأصل يقضي بعدم التقييد. اللّهم إلاّ أن يعلم من الخارج بالتقييد المذكور فيحكم بتداخل الأسباب ، بمعنى أنّ تعدّد وجودات ماهيّة السبب ممّا لا يكون منشأ لتعدّد أفراد المسبّب ، كما علم ذلك بالنسبة إلى الوضوء ، فإنّ تعدّد مرّات النوم لا يوجب تعدّد أفراد الوضوء.

فإن قلت : إذا كان ظاهر الدليل اتّحاد المسبّب - كما هو المفروض - لا حاجة إلى ارتكاب التأويل فيه بحمله على تعدّد أشخاصه عند تعدّد أشخاص المسبّب ، فيكون من قبيل تداخل المسبّبات ، كما في مثال القتل.

ص: 659


1- كذا ، والمناسب : وإن.
2- في ( م ) : للصلاة.

قلت : إنّ بعد ما عرفت من إطلاق سببيّة أفراد السبب ووجوداته ، يستقلّ العقل بالحكم بتعدّد وجود ذات المسبّب ؛ نظرا إلى امتناع اجتماع العلل المتعدّدة المعلومة علّيتها بإطلاق الدليل على معلول واحد.

وما اشتهر : من أنّ العلل الشرعيّة معرّفات ليست بعلل حقيقيّة فيمكن اجتماعها على معلول واحد ، ممّا لا يجدي في المقام ، إذ لا إشكال في أنّ هذه الأسباب أسباب عقليّة بعد جعل الشارع للأحكام المترتّبة عليها من الوجوب ونحوه ، كما هو ظاهر.

وأمّا عدم وجوب قتل زيد مرّة ثانية فليس لأجل أنّ أسباب وجوبه ليست عللا حقيقيّة ، بل بواسطة وجود المانع ، وهو اتّصاف المحلّ بالمثل وامتناع اجتماع الأمثال ، فيقال : إنّ تلك الأسباب بشرط قبول المحلّ وعدم اتّصافه بالمثل علل تامّة للوجوب ، وهذا التقييد ممّا يقضي به العقل ، وأين ذلك من التقييد اللازم على تقدير تداخل الأسباب؟ فإنّه لا قاضي به.

وبالجملة ، فنحن لا نلتزم بتداخل المسبّبات إلاّ حيث يقوم دليل من العقل أو النقل على التداخل ، كما لا نلتزم بتداخل الأسباب أشخاصها أو أنواعها إلاّ بعد دلالة الدليل.

فإن قلت : هب! إنّ مقتضى إطلاق السببيّة تعدّد الوجوب عند تعدّد أفراد السبب وتكرّره ، ولكن لا نسلّم أنّه كلّما تكرّر الوجوب يجب إيجاد الواجب على حسب تكرّره ، وإنّما يلزم ذلك فيما لو استلزم تكرّر الوجوب تعدّد الواجب ، وليس كذلك كما في تعدّد الإيجاب ، إذ كثيرا ما يتعدّد الإيجاب ، مع وحدة الواجب ، كما في الأوامر الواردة بالصلاة والزكاة على جهة التأكيد ونحوه.

قلت : بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الإطلاق هو سببيّة كلّ فرد للوجوب - كما اعترف به - لا وجه لما ذكره أصلا ، إذ لا نعقل من تعدّد الوجوب الذي هو صفة

ص: 660

منتزعة من الفعل بعد امتناع اجتماع الأمثال إلاّ تعدّد الواجب ، وهو لا يتمّ بالفرض إلاّ بعدم التداخل. وأمّا الأوامر التأكيديّة فلا يستفاد منها وجوب غير ما أفاده الأمر الأوّل. نعم ، لا بأس باستفادة شدّة الطلب وتأكّده بتكرار الأوامر التأكيديّة. ولا يحسن قياس تعدّد الوجوب بتعدّد الإيجاب الحاصل في التأكيد ، فإنّ الأمر الثاني مرتّب على الأمر الأوّل في التأكيد ووارد في مورده ، بخلاف ما نحن فيه ، ضرورة حصول الوجوب على وجه التعدّد - مثل وجود السبب - بنفس الكلام الدالّ على السببيّة ، فيكون تلك الوجوبات كلّ واحد منها في عرض الآخر ، فهناك إيجابات متعدّدة في موارد متعدّدة بواسطة الكلام الدالّ على السببيّة ، ويتفرّع عليها وجوبات متعدّدة على وجه التعليق ، وبعد حصول المعلّق عليه - وهو وجود السبب - يتحقّق الاشتغال فعلا بأفراد مختلفة.

فإن قلت : هب! إنّ الموجود في مثل المقام تكاليف متعدّدة ، ولكنّه نقول بأنّ الإتيان بالفرد الواحد يكفي في الامتثال عنها ، كما يقضي به العرف فيما لو أمر بإعطاء درهم بعالم (1) وإعطاء درهم آخر بهاشميّ ، فلو أنّه أعطى درهما بعالم هاشميّ يعدّ ممتثلا في العرف.

قلنا : وهو ظاهر الفساد بعد اختلاف متعلّق التكاليف المتعدّدة بواسطة الوجودات الخاصّة. وأمّا صدق الامتثال في العالم الهاشمي بواسطة تداخل المفهومين في مصداق واحد واجتماعهما فيه ، ولا يعقل تداخل متعلّق التكاليف في المقام ، فإنّ المفروض هو اختلاف متعلّقاتها بالوجود ، وتداخل الفردين من ماهيّة واحدة غير معقول.

والقول : بأنّ تعدّد الأسباب لو كان كاشفا عن تعدّد المسبّبات - كما هو

ص: 661


1- كذا ، والمناسب : « لعالم » ، وكذا ما يليه.

المفروض - فلم لا يكون كاشفا عن تعدّد ماهيّات المسبّبات حتّى لا يمتنع الاجتماع في فرد ، ولو لم يكن كاشفا فالكلام ساقط.

مدفوع : بأنّه ساقط جدّا ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ ذلك يستلزم الخروج عن ظاهر اللفظ الدالّ على المسبّب ، فإنّ ظاهره وحدة الماهيّة ، واختلاف الأسباب ولا سيّما اختلافها بواسطة الأفراد - كما هو مقتضى ظاهر اللفظ الدال على السبب - لا يقضي باختلاف المسبّب. وأمّا عند اختلافها ماهيّة وإن احتمل اختلاف المسبّب أيضا بحسب الماهيّة لامتناع اتّحاد آثار الماهيّات المختلفة ، إلاّ أنّه يحتمل استناد المسبّب أيضا إلى وحدة جامعة لتلك الأسباب المختلفة ، فلا يدلّ على اختلاف المسبب أيضا.

وثانيا : سلّمنا أنّ اختلاف الأسباب ولو بالفرديّة يوجب اختلاف ماهيّات المسبّبات ، ومع ذلك فلا دليل على الاكتفاء بفرد في مقام الامتثال ، إذ من المعلوم أنّ الفرد الواحد لا بدّ وأن يكون مجمعا للعنوانين حتّى يكتفى به في الامتثال ، وذلك مبنيّ على إمكان اجتماعهما ، ولا دليل عليه. فلعلّ تينك الماهيّتين ممّا لا تتصادقان أبدا ، فيكون بينهما مباينة كلّية.

وبما ذكرنا تعرف الكلام فيما إذا كان السبب لذلك الشيء متعدّدا ، كما إذا قيل : « إذا نمت فتوضّأ » و « إذا بلت فتوضّأ » و « إذا خرج من أحد سبيليك شيء - مثلا - فتوضّأ » فإنّه لا بدّ من القول : بأنّ السبب الواقعي هو القدر المشترك بين تلك الأسباب المختلفة ، ويكون اختلاف أنواعها بمنزلة اختلاف الأفراد ، ويجب تعدّد المسبّبات بحسب مقتضى اللفظ إلاّ إذا دلّ دليل على التقييد ، كما في خصوص الوضوء ، على ما قرّر في محلّه.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا ، يظهر أنّ شيئا من الموارد لا يلزم فيه اجتماع الأمثال ولا اجتماع الأضداد ، فإنّ الحكم فيما سبق محصور بين وجوب الإتيان بأفراد مختلفة - وظاهر أنّه لا يقضى بشيء من اللازمين - وبين الإتيان بفردٍ

ص: 662

واحد لعدم وجوب غيره - كما في الوضوء - وليس فيه اجتماع الأمثال ولا الأضداد ، وبين الإتيان بفرد واجب شديد الوجوب أكيد الطلب - كما في قتل زيد - من دون اجتماع للوجوبات فيه ، كما لا يخفى. وأمّا اجتماع الوجوب والندب في الوضوء فقد عرفت فيما سبق تحقيق الكلام فيه ، فلا حاجة إلى الإطالة بالإعادة.

المقام الثاني : في خصوص تداخل الأغسال.

وتوضيح الحال فيه على وجه تبيّن حقيقة المقال ، هو أن يقال : إنّ الأصحاب في الأغسال :

بين من ذهب إلى أنّها ليست حقائق مختلفة ، والأثر الحاصل منها ليس إلاّ رفع لحالة واحدة مسمّاة عندهم بالحدث (1) ، مستظهرين ذلك من ظواهر الخطابات الآمرة بالغسل بعد تحقّق أسبابها ، فإنّ الظاهر اتّحاد حقيقة الغسل - كالوضوء - بعد عدم ما هو يصلح للاختلاف ، فإنّ الأسباب المختلفة لاحتمال اشتراكها في قدر يصحّ استناد المسبّب إليه لا يدلّ على اختلاف المسبّبات - كما عرفت - وأمّا الأسباب المختلفة فعندهم مثل أسباب الوضوء مقيّدة بما إذا لم يكن أحدها مسبوقا بالآخر.

وبين من ذهب إلى أنّها ماهيّات مختلفة لاختلاف آثارها وأحكامها (2) ، مثل ارتفاع بعضها وبقاء الآخر ولزوم الوضوء في البعض دون الآخر. واستكشف ذلك أيضا من الروايات الدالّة على إجزاء غسل واحد من الأغسال (3) ؛ فإنّ

ص: 663


1- انظر الحدائق 2 : 196 - 198.
2- انظر الجواهر 2 : 117 - 119.
3- انظر الوسائل 1 : 525 ، الباب 43 من أبواب الجنابة.

ظاهر الإجزاء هو ثبوت المقتضي لكلّ واحد ، وما دلّ على أنّها حقوق لله (1) ، وما دلّ على أنّ المكلّف يجعل الحيض والجنابة غسلا واحدا (2) إلى غير ذلك من أمارات الاختلاف.

فعلى الأوّل ، لا ينبغي الإشكال في تداخل الأغسال ، فإنّه كالوضوء الذي يسقط به الفرض ويجزئ عن النفل. ولا محذور فيه ، إذ المحذور إنّما هو فيما إذا كان هناك ماهيّات مجتمعة في فرد واحد لكلّ واحد منها حكم غير حكم الآخر شخصا ليلزم اجتماع الأمثال ، أو نوعا ليلزم اجتماع الأضداد. وبعد اتّحادها - كما هو المفروض - فلا بدّ إمّا من القول بلزوم إيجاد الغسل مكرّرا على حسب تكرار السبب ، كما في المنزوحات وسجدتي السهو مثلا ونحوهما ؛ لعدم تعقّل تداخل الأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة. أو القول بتداخل الأسباب بمعنى تقييد الأوامر المطلقة بما إذا لم يكن مسبوقا بسبب آخر كما في الوضوء. وعلى التقديرين لا إشكال ؛ لعدم الاجتماع على الأوّل وعدم التعدّد على الثاني ، وهو ظاهر ممّا مرّ أيضا.

وعلى الثاني ، فبملاحظة أدلّة الإجزاء يحكم بتصادق الماهيّات المختلفة - كما هو المفروض - في فرد جامع لها ، ويتحقّق به الامتثال عنها على تقدير القصد إلى الجميع تفصيلا كما إذا قصد كلّ واحد منها بغاياتها وأسبابها ، أو إجمالا كما إذا قصد الحدث الحاصل منها على وجه الإطلاق ، أو قصد الغسل الذي يندرج فيه غيره كالجنابة على المشهور ، فإنّ الحدث الذي يرتفع بغسل الجنابة فوق جميع الأحداث على ما قيل (3) ، ولا محذور فيه ، إذ غاية ما في الباب : صدق الامتثال بعد القصد إلى

ص: 664


1- انظر الوسائل 1 : 526 ، الباب 32 من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.
2- انظر الوسائل 2 : 566 ، الباب 23 من أبواب الحيض.
3- انظر جامع المقاصد 1 : 130.

تلك العناوين ووجودها في ذلك الفرد ، فيكون من قبيل اجتماع إطاعة الوالد والوالدة في فعل واحد ، ومن قبيل اجتماع إكرام العالم وإضافة الهاشمي في فرد ، وغاية ما يلزم من ذلك هو اجتماع الجهات وتأكّد الطلب من دون غائلة ، كما عرفت نظيره فيما تقدّم مرارا ، من غير فرق في ذلك بين الواجب والمندوب ، كأن يكونا واجبين أو مندوبين أو مختلفين ، فإنّ طريق الحلّ في الكلّ واحد.

وحاصله : تأكّد الطلب باجتماع جهتي الوجوبين أو الندبين أو الوجوب والندب. ولعلّه إلى ذلك يشير ما أفاده الشهيد السعيد في الذكرى : بأنّ نيّة الوجوب تستلزم نيّة الندب ؛ لاشتراكهما في الترجيح. ولا يضرّ اعتقاد منع الترك ، لأنّه مؤكّد للغاية. ومثله الصلاة على جنازتي بالغ وصبيّ (1).

وقد يجاب عن الإشكال المذكور في الواجب والندب :

أوّلا : بأنّ الدليل لمّا دلّ على الاجتزاء بغسل واحد عن الغسلين يلزم أن يقال : إحدى الوظيفتين تتأدّى بالاخرى ، بمعنى أنّه يحصل له ثوابها وإن لم يكن من أفرادها حقيقة ، كما تتأدّى صلاة التحيّة بالفريضة والصوم المستحبّ بالقضاء.

وثانيا : بأنّ ما دلّ على استحباب غسل الجمعة يختصّ بصورة لا يحصل سبب الوجوب ، والمراد من كونه مستحبّا أنّه مستحبّ من حيث نفسه مع قطع النظر عن طريان العارض المقتضي للوجوب (2) ، انتهى.

أقول : وفي كلا الوجهين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ تأدّي إحدى الوظيفتين بالاخرى غير معقول ، إلاّ أن تكون المصلحة الداعية إلى طلبها موجودة في الاخرى ، وذلك يوجب إيجاب المندوب أيضا ، فإنّه أحد أفراد الواجب المخيّر لاستوائهما في المصلحة.

ص: 665


1- الذكرى 1 : 205.
2- انظر المدارك 1 : 196.

وأمّا سقوط التحيّة بالفريضة كالمندوب من الصوم بالقضاء ، فعلى القول به لا بدّ من أن يحمل على مجرّد الفضل. أو المراد به اشتمال الفريضة والقضاء على ما هو أزيد ثوابا من التحيّة والصوم المندوب ، فيكون المراد هو وصول المنفعة الحاصلة منهما إليه لا سقوطهما بغيرهما. أو المراد به هو أنّ العبد بعد ورود الأمر بالقضاء لا يتمكّن من الصوم المندوب في اليوم الذي يقع فيه الصوم قضاء ، مع أنّه في مقام الانقياد ويطلب ذلك الصوم المندوب أيضا ، فيستحقّ لذلك ثواب الصوم المندوب.

والتزام أمثال ذلك في الغسل الواجب والمندوب بعيد جدّا ، حيث إنّ ظاهرهم الإطباق على حصول المأمور به إمّا بتداخل الأسباب كما في أسباب الوضوء ، أو بتداخل المسبّبات مثل اجتماع مفاهيم متعدّدة في فرد واحد ، وليس من السقوط في شيء.

ثمّ إنّه لو فرض كونه من السقوط فهو إنّما يتمّ في سقوط النفل بالفرض مثل سقوط الجمعة بالجنابة ، ولا يعقل سقوط الفرض بالنفل ، وقضيّة ما ذكره هو سقوط كلّ من الوظيفتين بالاخرى (1).

وأمّا الثاني : فإن أراد منه اختصاص دليل الاستحباب بصورة عدم وجوب الغسل على المكلّف فهو بعيد جدّا ، بل ومقطوع الفساد ؛ للإجماع على خلافه ، مضافا إلى الإطلاق وعدم ما يقضي بالتقيّد. وإن أراد منه وجوب غسل الجمعة لعارض - كالنذر وشبهه - فهو فاسد قطعا ، لأنّ الإشكال في صورة الاستحباب. وإن أراد وجوبه من حيث اتّحاده في المصداق مع الواجب فهو واجب لاتّحاده مع الواجب فهو ممّا لا يجدي قطعا ، إذ الإشكال إنّما هو في اجتماع المندوب والواجب ، ولم نجد من عروض الوجوب بالمعنى المذكور فائدة.

ص: 666


1- لم ترد عبارة « ثم إنّه لو فرض - إلى - بالاخرى » في ( ع ).

وأجاب عن الإشكال بعض أعاظم مشايخنا - دام ظلّه - : بأنّ هذا الفرد يعني ما يجزي عن الغسلين ليس مصداقا للكلّيين حتّى يلزم الإشكال ، بل هو أمر خارج عنهما ، فهو من قبيل فرد لكلّي آخر اجتزى الشارع به عن الواجب والمندوب ، لكن لمّا شابههما في الصورة يسمّى بالتداخل ، وإلاّ فهو ليس بغسل جنابة وغسل جمعة ليرد ذلك.

ثمّ قال : فإن قلت : هذا الغسل واجب أو مستحبّ أو كلاهما؟ قلت : هو حيث يقوم مقام الأغسال الواجبة فهو أحد فردي الواجب المخيّر بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يأتي بالفعلين أو بالفعل الواحد المجزي عنهما ، وحيث يقوم مقام الواجب والمندوب فهو مندوب محضا ، لأنّه يجوز تركه لا إلى بدل فلا يكون واجبا ، فينوي بناء على اشتراط نيّة الوجه ، الندب فيه مع نيّة الاجتزاء عن الواجب والمندوب ، وعلى عدم الاشتراط ينوي القربة مع نيّة الاجتزاء به عن الجميع (1) ، انتهى.

وفيه - بعد الغضّ عن ظواهر كلماتهم القاضية باجتماع المفهومين في فرد واحد كما هو مقتضى القول بتداخل المسبّبات ، وعلى القول بتداخل الأسباب فالأمر أظهر - : أنّ ذلك يوجب اجتماع الواجب والمندوب فيما نصّ الشارع على وجوبه ، وهو محال قطعا حتّى على القول بجواز اجتماع الأحكام المتضادّة ، فإنّ أصحاب هذه المقالة الفاسدة يخصّون الجواز بما إذا اجتمع بعض أفراد الواجب المخيّر عقلا مع الاستحباب ، وأمّا فيما نصّ الشارع على وجوبه عينا أو تخييرا شرعيّا فلا قائل بالجواز.

بيان اللزوم : أنّ قيام فرد من ماهيّة مغايرة لماهيّة اخرى مقام أفراد هذه الماهيّة لا يعقل إلاّ وأن يكون مصلحة ذلك الواجب متحقّقة في ضمن ذلك الفرد ،

ص: 667


1- الجواهر 2 : 129 - 130.

وحيث إنّ إجزاء ذلك الفرد المذكور لا بدّ وأن يكون بواسطة تعلّق أمر الشارع بذلك الفرد ، فلا محالة يكون ذلك الفرد أحد أفراد الواجب المخيّر بالنسبة إلى الأمر الوجوبي المتعلّق بماهيّة غسل الجنابة لتحقّق مصلحته به أيضا. وكذا بالنسبة إلى الأمر الندبي المتعلّق بماهيّة غسل الجمعة ، فيكون ذلك الفرد موردا للطلب الندبي والوجوبي معا على وجه التخيير الشرعي.

وأمّا ما أورده في الجواب عن الترديدات فلا يجدي شيئا ، كما يظهر للمتأمّل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ شيئا من هذه الموارد ليس من مورد اجتماع حكمين فعليّين سواء كانا مثلين أو ضدّين.

وتلخّص أيضا : أنّ موارد اجتماع الأسباب والمسبّبات لا يخلو من صور أربع :

الاولى : تعدّدهما مع المباينة الكلّية بين الأسباب والمسبّبات ، كما إذا قيل : « إذا ظاهرت فأعتق رقبة » و « إذا تكلّمت فاسجد سجدتي السهو » مثلا ، وحكمها ظاهر.

الثانية : تعدّدهما مع تصادق المسبّبين فقط ، أو مع تصادق السببين أيضا ، أو تصادق السببين فقط. فعلى الأوّلين ينوط (1) الكلام بدعوى صدق امتثال التكليفين بالإتيان بالفرد الجامع ، ولعلّه كذلك. وعلى الثاني فالظاهر عدم التداخل ولزوم الإتيان بالطبيعتين عند تصادق السببين لعدم المانع بعد وجود المقتضي ، ويظهر ممّا مرّ.

الثالثة : أن يعلم اتّحاد حقيقة المسبّبات مع إمكان تكرّر وجوداتها في الخارج سواء كان الأسباب متّحدة الحقائق أو مختلفة ، لرجوع الثاني إلى الأوّل كما عرفت.

ص: 668


1- كذا ، والأنسب : « يناط ».

وحكمها تكرار الوجودات بالإتيان بأفراد كثيرة على حسب تكرار المسبّبات ، أشخاصها أو أنواعها. اللّهم إلاّ أن يعلم بالدليل تقييد تلك الأسباب بعدم مسبوقيّة بعضها بأمثالها ، كما في الوضوء.

الرابعة : أن يعلم اتّحاد المسبّب مع عدم قابليّته للتكرار ، ولا مجال للتعدّد فيه أيضا ، وقد عرفت ممّا مرّ.

ثمّ إنّ لبعض الأجلّة في المقام كلاما طويلا لا بأس بنقله والتنبيه على بعض ما فيه ، حيث قال : وأمّا تداخل بعض العبادات كالأغسال فلا إشكال في تداخل واجباتها ومندوباتها مع اعتبار النيّة ، لأنّ مرجعه إلى التخيير بين أفعال مشتملة على النيّة وبين فعل واحد مشتمل على تلك النيّات ، وهما متغايران. ولو قلنا بتداخلها أو الاستحباب قهرا فيرجع إلى تأكّد الوجوب أو الاستحباب عند تعدّد الأسباب. ثمّ نفى الإشكال أيضا عند اجتماع الواجب والمندوب فيما إذا كانا غيريّين وعند اختلاف وجههما بالغيريّة والنفسيّة ، زعما منه أنّ اختلاف وجه الوجوب والندب يجدي في اجتماع الحكمين الفعليّين.

ثمّ قال : وكذا في النفسيّة منها إن جعلنا الوجوب والندب لا حقين للفعل مع النيّة الخاصّة ، بأن جعلنا النيّة شطرا من العمل لتغاير المورد. فمحلّ الوجوب في المثال المذكور الغسل مع نيّة رفع الجنابة ، ومحلّ الاستحباب الغسل مع نيّة كونه للجمعة ، ولا ريب في تغاير المركّبين وتباينهما ، غاية ما في الباب أن يشتركا في جزء وهو ما عدا النيّة ، فيلزم وجوبه في ضمن أحدهما واستحبابه في ضمن الآخر ، ووجوبه لأحدهما واستحبابه للآخر ، ولا إشكال في شيء منهما.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ عدم المنع من تركه في ضمن مركّب أعمّ من عدم المنع من تركه لا في ضمنه ، لصدقه على فعله مع ترك ما ينضمّ إليه ، فلا ينافي عدم جواز تركه في نفسه ولو في ضمن مركّب آخر. وإن جعلناهما لا حقين للفعل

ص: 669

بشرط النيّة كان بحكم الواجب المخيّر مع رجحان بعض أفراده (1). انتهى موضع الحاجة من كلامه.

أقول : إنّ وجوه فساده غير خفيّ على أحد.

أمّا أوّلا : فلأنّ نفي الإشكال عن تداخل الأغسال مع اتّحادها نوعا من الواجب والمندوب في غير محلّه ، لما قد عرفت من لزوم اجتماع الأمثال على تقديره ، وإن كان مدفوعا بما عرفت من تأكّد الطلب باجتماع المفاهيم المتعدّدة في فرد واحد ، كما دفعه عند التداخل القهري على ما زعمه.

وأمّا ثانيا : أنّ موارد التداخل القهري إنّما هو فيما إذا لم يكن الفعل قابلا للتكرار كما في مثال القتل - على مسامحة فيه أيضا - وفيما إذا قلنا بتداخل الأسباب بواسطة التقييد في إطلاق دليل السببيّة كما في الوضوء ، والأغسال ليس من قبيل الأوّل الذي هو قابل للتأكيد. وعلى الثاني لا وجه للتأكيد ، إذ ليس هناك أسباب متعدّدة ليحصل منها وجوبات تكون منشأ للتأكيد. ويظهر ذلك بملاحظة ما ذكرنا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ دخول النيّة في المأمور به ولحوق الوجوب والندب للفعل المركّب مع النيّة قد فرغنا عن إبطاله فيما تقدّم. سلّمنا لكن الفعل لا يختلف حكمه باختلاف النيّة في المقام ، فإنّ قوله : « فمحلّ الوجوب الغسل مع نيّة رفع الجنابة ، ومحلّ الاستحباب الغسل مع نيّة كونه للجمعة ، ولا ريب في تباين المركّبين » يعطي بظاهره اتّحاد حقيقة الغسل مع قطع النظر عن النيّتين ، وإنّما الاختلاف بواسطة اختلاف نفس النيّتين ، كما يؤيّده قوله : « غاية ما في الباب أن يشتركا في جزء » ولا سبيل لنا إلى تعقل اتّصاف فعل واحد بالوجوب والندب بواسطة النيّة من غير أن يكون النيّة منشأ لاختلاف حقيقة الفعل ، كما في لطم اليتيم بنيّة التأديب والظلم ؛

ص: 670


1- الفصول : 136.

على أنّ ما ذكره لا يجدي في دفع الإشكال ، فإنّ الفعل لا أقلّ من كونه جزءا للواجب والمندوب ، فيلزم اتّصافه بالوجوب والندب ، فإنّ جزء الواجب والمندوب يتبعان الكلّ في الحكم. اللّهم إلاّ بالقول بعدم التضادّ بينهما فيما إذا كانا غيريّين ، وستعرف فساده.

نعم ، يصحّ ذلك فيما إذا كان المركّبان ممتازي الوجود ، كما إذا وقع السجود في الصلاة الواجبة والمندوبة ، وأمّا إذا كان فعل واحد في وجوده الواحد جزءا لمركّبين ، أحدهما واجب والآخر مندوب - كما في الغسل - فالإشكال ظاهر الورود فيه.

ثمّ إنّه لو فرض كفاية نفس النيّة ودخولها في الواجب في جعل أحد الفعلين مغايرا للآخر - كما زعمه - فالتقييد بتلك النيّة أيضا يوجب التغاير والاختلاف ، فلم يعلم وجه للفرق بين دخول النيّة في العمل كأن يكون شطرا منه وبين خروجها كأن تكون شرطا.

وأمّا نفي الإشكال عند اجتماع الواجب والمندوب إذا كانا غيريّين أو أحدهما غيريّا والآخر نفسيّا فهو مبنيّ على ما زعمه من نفي التضادّ بين الوجوب والاستحباب إذا كانا غيريّين أو مختلفين ، حيث قال : إنّ الوجوب والندب إمّا أن يتّحدا جهة ، بأن يكونا نفسيّين أو غيريّين مع اتّحاد الغير أو لا ، فإن كان الأوّل امتنع الاجتماع.

ثمّ أخذ في الاستدلال على ما صار إليه - إلى أن قال : - وإن كان الثاني جاز الاجتماع ، إذ لو امتنع لكان إمّا باعتبار الرجحان ولا حجر من هذه الجهة ، إذ انضمام الرجحان إلى الرجحان لا يوجب إلاّ تأكّد الرجحان ، أو باعتبار ما تقوّما به من المنع من النقيض وعدمه ولا حجر من هذه الجهة أيضا ، لأنّ الوجوب والندب حيث كانا باعتبار جهتين كان المنع من الترك وعدمه أيضا باعتبارهما. ولا منافاة بين المنع من ترك الفعل لنفسه أو لغيره وبين عدم المنع منه لغيره أو لأمر آخر ،

ص: 671

فإنّ عدم المنع من النقيض بأحد الاعتبارين راجع إلى عدم اقتضاء ذلك الاعتبار للمنع ، وهو لا ينافي اقتضاء اعتبار آخر له (1).

ثمّ أوضحه بعبارة اخرى : بأنّه يصدق على الواجب لنفسه أنّه ليس بواجب لغيره ، وذلك يوجب أن لا يكون ممنوع الترك لغيره ، فإذا انضمّ إليه رجحانه حصل ماهيّة الاستحباب. ثمّ قاس على ذلك اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي ، وأطال فيما يتعلّق به.

أقول : لا يخفى على المتأمّل أنّ اختلاف الوجوب والاستحباب بالغيريّة والنفسيّة ليس إلاّ اختلاف الشيء باعتبار الغايات التي يترتّب على الشيء ، فإنّ الواجب الغيري لا يمايز الواجب النفسي فيما هو مناط المطلوبيّة وما به يتحقّق ملاك صدق الوجوب ، إلاّ من حيث إنّ الوجه في وجوب أحدهما ليس خارجا عن حقيقة المطلوب ، والوجه في الآخر هو ذلك الغير ، ولعلّ ذلك ظاهر. فكما أنّه لا يعقل اجتماع الوجوب والاستحباب فيما إذا كانا نفسيّين لا يعقل اجتماعهما فيما إذا كان أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا ، لأنّ مناط التضادّ متحقّق في حقيقة الطلبين ولا مدخل للغاية المترتّبة على المطلوب في ذلك. نعم ، يصحّ ما ذكره فيما إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري ليس من حقيقة الوجوب وإنّما هو من قبيل إسناد الشيء إلى غير ما هو له فإنّ المطلوب هو الغير. وليس كذلك ، فإنّ المتّصف بالوجوب هو الواجب الغيري حقيقة ، والغير إنّما يكون واسطة في ثبوت تلك الصفة له.

وأمّا ما زعمه : من أنّه لا حجر باعتبار الرجحان لأنّ انضمامه يوجب تأكّده ، فإن أراد أنّ الرجحان بعد انضمامه إلى الرجحان الوجوبي باق بحاله على وجه يشاهد في النفس رجحانان نظير وجودهما بالنسبة إلى أمرين - فبعد كونه بديهي البطلان وجدانا وبرهانا لاستلزامه اجتماع الأمثال - يردّه ما زعمه من التأكيد بعد

ص: 672


1- انظر الفصول : 135.

الانضمام ؛ لأنّ التأكيد إنّما هو في اندراج أحدهما في الآخر ، كما يلاحظ في اجتماع السوادين. وإن أراد أنّ الانضمام يوجب أن يكون أحدهما مندرجا تحت الآخر فذلك اعتراف بامتناع الاجتماع في الحكمين الفعليّين. ومجرّد تحقّق فصل الاستحباب الغيري - وهو عدم كونه ممنوع الترك للغير - بعد التسليم لا يجدي في الحكم بكون الاستحباب الغيري موجودا بالفعل في مورد الوجوب النفسي.

ثمّ إنّه حكم بالامتناع فيما إذا فسّر المندوب بالرجحان مع الإذن في الترك ، وما ذكره من الجواز مقصور على ما إذا فسّر بالرجحان مع عدم المنع من الترك ، وجعل التفسير الثاني أسدّ وأولى نظرا إلى اختلاف الرجحان بالشدّة والضعف.

ولم يعلم وجه فرق بينهما ، فإنّ التحقيق أنّ اختلاف الوجوب والاستحباب إنّما هو بواسطة اختلاف مراتب الطلب شدّة وضعفا ، وليس حقيقة عدم المنع من الترك ولا الإذن في الترك معتبرة في ماهيّة الاستحباب ، وإنّما يفسّر بأحدهما من حيث إنّهما من لوازم تلك المرتبة ، وحينئذ فكما يجوز أخذ عدم المنع من الترك فصلا يجوز أخذ الإذن أيضا فصلا.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره في وجه الأولويّة بالنسبة إلى تفسير المندوب غير وجيه ، فإنّ تلك المراتب حقائق بسيطة تارة ينتزع منها الإذن ، واخرى عدم المنع من الترك ، وذلك ظاهر.

وما ذكرنا إنّما هو فيما إذا اجتمع الواجب والاستحباب العينيّان. وأمّا إذا كان الواجب تخييريّا والاستحباب عينيّا - كإيجاد الصلاة في المسجد - فقد عرفت في توجيه العبادات المكروهة وجه الصحّة فيها ، وحاصله : أنّ تلك الأوامر إرشاد إلى مزيّة حاصلة في الأفراد الخاصّة ، كما مرّ فيما سبق.

ويمكن أن يجاب أيضا : بأنّ الاستحباب في أفراد الواجب المخيّر إنّما يلاحظ بالنسبة إلى جهة التخيير ، فيكون المتّصف بالاستحباب هو الواجب بعد اتّصافه بالوجوب التخييري ، ولا تضادّ بين الاستحباب وذلك الوجوب.

ص: 673

وتوضيحه : أنّ الوجوب والاستحباب إذا اعتبرا في مرتبة واحدة ليكون أحدهما في عرض الآخر في عروضهما للفعل ، فلا ريب في تضادّهما ، فيمتنع اتّصاف محلّ واحد بهما ، من غير فرق بين اختلاف وجههما أو جهتهما. وأمّا إذا اعتبر الاستحباب مرتّبا على الواجب - كأن يكون لحوق وصف الاستحباب في موضوع الواجب بعد اتّصافه بالوجوب التخييري - فلا تضادّ بينهما ، فإنّه إذا اتّصف الفعل باعتبار تركه المقيّد بعدم الإتيان بالبدل بالوجوب ، فلا بدّ أن يتّصف باعتبار تركه المقيّد بإتيان البدل بحكم آخر ، فترك الفعل على وجه الإطلاق من دون ملاحظة أحد الاعتبارين لا حكم له ، وتركه بالاعتبار الأوّل ممّا لا يجوز ، وبالاعتبار الثاني ممّا يجوز ، وهذا الاعتبار قد يصير راجحا فيكون الفعل مكروها ، وقد يكون مرجوحا فيكون الفعل مستحبّا ، وقد يبقى بحاله فيكون الفعل من هذه الجهة جائز الترك فقط ، ولا منافاة. وكيف! والفعل بالاعتبار الثاني واقع في عرض الفعل بالاعتبار الأوّل فيجوز اتّصافه بالاستحباب والكراهة ، بل ولا بدّ ذلك بناء على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم.

لا يقال : فيجوز اتّصافه بالاعتبار الثاني بالحرمة أيضا.

لأنّا نقول : إنّ طريان الوجوب على الفعل باعتبار تركه لا إلى بدل مانع عن اتّصاف ذلك الفعل باعتبار تركه إلى بدل بالحرمة ، لأنّ ذلك يوجب انقلاب الواجب التخييري إلى الواجب العيني ، وهو خلف.

وبالجملة ، فمناط هذا الجواب هو منع التضادّ بين الوجوب التخييري والاستحباب والكراهة ، فإنّ جنس الحكمين - وهو جواز الترك - من مقوّمات الوجوب التخييري ، ومحل الوجوب هو الفعل باعتبار تركه الخاصّ ، ومحلّ الاستحباب هو الفعل باعتبار تركه إلى بدل ، كذا أفاده شيخنا ( دام ظلّه ).

أقول : ولعمري! إنّه - رفع اللّه اسمه في سماء التحقيق - وإن دقّق النظر في هذه الإفادة ، ولكنّه بعد غير خال من النظر.

ص: 674

أمّا أوّلا : فبالنقض بالواجب التخييري الشرعي ، فانّه قد عرفت انعقاد إجماعهم على امتناع اجتماع الكراهة بالمعنى المصطلح والاستحباب بمعناه والوجوب في الواجب التخييري الشرعي ، ولذلك كان الجواب الأوّل عن النقض بالعبادات المكروهة النقض بالواجب التخييري الشرعي ، كما مرّ.

وأمّا ثانيا : فلأنّه يستلزم اتّصاف الفعل بوجوبين فيما لو نذر إيجاد الفعل في مكان خاصّ ، فإن الفعل باعتبار تركه لا إلى بدل متّصف بالوجوب الأصلي ، وباعتبار تركه إلى بدل متّصف بالوجوب الثابت بالنذر ، وهو محال.

وأمّا ثالثا : فلأنّ اتّصاف الفعل بالاستحباب والكراهة بعد اتّصافه بالوجوب على أن يكون موضوع الكراهة والاستحباب هو الفعل الواجب هو المحذور في جميع المقامات السابقة ، ولا نجد فرقا في استحالته بين القسمين. وهو قريب ممّا ذكره بعض الأجلّة (1) في توجيه اجتماع الوجوب النفسي والاستحباب الغيري ، والعجب! أنّه - سلّمه اللّه - قد بالغ في الردّ على المقالة المذكورة ، مع أنّ ما أفاده لا ينقص منها مفسدة ، فتأمّل. هذا تمام الكلام في الواجب التخييري مع الاستحباب العيني.

وأمّا التخييريّان ، فنظير اجتماع الواجب التخييري مع المكروه فيما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه. وقد عرفت أنّ أوجه الوجوه في توجيه اجتماعهما هو القول بوجود الجهة. ولا يصحّ الجواب المذكور ، لأنّ الاستحباب بمعنى أفضليّته من سائر الأفراد لا يتأتّى في الأفراد التي لا اجتماع فيها مع الوجوب ، فيوجب استعمال اللفظ في معنيين : أحدهما الإرشاد ، وثانيهما الطلب الاستحبابي. وهذا هو تمام الكلام في الحلّ عن الاستدلال النقضي بالعبادات المكروهة ، وهو الوجه الأوّل من وجوه استدلالهم.

ص: 675


1- وهو صاحب الفصول في الفصول : 136.
الثاني : من وجوه احتجاجهم على الجواز

أنّ المقتضي موجود والمانع مفقود.

أمّا الأوّل : فلإطلاق الخطابات الشرعيّة القاضية بحصول الامتثال والمخالفة في مورد اجتماع الأمر والنهي عند الإتيان بذلك المورد.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المانع إمّا التكليف بما لا يطاق أو اجتماع الضدّين ، ولا يلزم شيء منهما.

أمّا الأوّل ، فظاهر بعد اعتبار المندوحة في محلّ النزاع ، فإنّ وجه اعتبارها إنّما هو بواسطة دفع هذا التوهّم ، وإلاّ فكما أنّ تعدّد الجهتين مجد بالنسبة إلى المحذور الآتي فيما فيه المندوحة فكذلك هو مجد فيما ليس فيه المندوحة.

وأمّا الثاني : فلاختلاف محلّي الأمر والنهي ، فإنّ الأمر متعلّق بماهيّة الصلاة والنهي متعلّق بماهيّة الغصب في المثال المعروف ، ولا ريب أنّ إحدى الماهيّتين مغايرة مع الاخرى. وحصول الطبيعتين في الفرد لا يوجب اتّصاف الفرد بالضدّين ، لعدم تعلّق الطلب به ابتداء. وأمّا الطلب المقدّمي من حيث إنّ الفرد مقدّمة لوجود الكلّي فلا نسلّم ثبوته أوّلا ، وعلى تقدير التسليم فليس المطلوب المقدّمي إلاّ فردا ما ، وإيجاد هذا المفهوم في ضمن فرد خاصّ إنّما هو مثل إيجاد الماهيّة المأمور بها في ضمن أفرادها ، فإنّ فردا ما أيضا كلّي ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى اتّصاف الفرد الموجود في الخارج بالوجوب المقدّمي التبعي التخييري العقلي ، وهو توصّليّ لا مانع من اجتماعه مع الحرام ، وذلك لا يوجب انقلاب الواجب التعبّدي بالتوصّلي ، لأنّ

ص: 676

التعبّدي هي الطبيعة التي يكون الفرد مقدّمة لوجودها. وقد سلك هذا المسلك غير واحد من المجوّزين (1) وأوضحه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2).

وحيث إنّ ذلك مبنيّ على مقدّمات غير مسلّمة : من عدم وجوب المقدّمة ولا سيّما فيما إذا كان ذوها متّحدا معها في الوجود الخارجي - كما نبّهنا على ذلك في محلّه - واختلاف الطبيعة والفرد باتّصاف أحدهما بالوجوب التعبّدي والآخر بالوجوب التوصّلي ، وكلّ ذلك ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ضروريّ بالمعنى المتنازع فيه ، ولا سيّما فيما إذا كانت متّحدة مع ذيها في الوجوب ، على أنّ مقدّمية الفرد للطبيعة ممّا لم نقف لها على محصّل ، فإنّ الفرد على ما هو التحقيق ليس إلاّ عين الطبيعة ، كما ستعرف.

فالأولى أن يوجّه عدم المانع على وجه لا يبتني على هذه المقدّمات ، وهو أن يقال : إنّ الفرد الجامع للعنوانين إنّما هو متّصف بالحرمة العينيّة بناء على اقتضاء النهي استيعاب أفراد الماهيّة المنهيّ عنها ، وليس متّصفا بالوجوب المتضادّ للحرمة بوجه.

وتوضيحه : أنّ الوجوب المتوهّم اتّصاف الفرد به إمّا العيني أو التخييري ، وعلى الثاني إمّا أن يكون شرعيّا أو عقليّا ، والأوّلان ظاهر انتفاؤهما في المقام.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الوجوب العيني إنّما هو متعلّق بالطبيعة ، وليس الفرد واجبا عينيّا ، وإلاّ لاستلزم إمّا وجوب جميع الأفراد أو عدم حصول الإجزاء بفرد آخر ، والتالي بقسميه باطل ، ضرورة عدم وجوبها وحصول الإجزاء بجميعها. والملازمة ظاهرة جدّا.

لا يقال : إنّ ثبوت حكم للماهيّة يستلزم سراية ذلك الحكم إلى الأفراد

ص: 677


1- منهم الكلباسي في الإشارات : 110.
2- انظر القوانين 1 : 141.

كما في الأوصاف اللاحقة للماهيّة باعتبار وجودها الخارجي ، كالبياض والسواد والحلاوة والمرارة والبرودة والحرارة ونحوها.

لأنّا نقول : إنّ اتصاف الطبيعة بالوجوب العيني ليس من قبيل اتّصافها بأوصافها القائمة بها باعتبار وجودها في الخارج ، وإلاّ لاستلزم أحد المحذورين : من اتّصاف الجميع بالوجوب العيني وعدم الإجزاء.

وأمّا الثاني - وهو عدم اتّصاف الفرد بالوجوب التخييري الشرعي - فهو من الامور الواضحة التي لا يليق توهّم خلافه لأحد.

وأمّا الأخير - وهو الوجوب التخييري العقلي - فبيان عدم اتّصاف الفرد به يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ التخيير العقلي ليس من الأحكام التكليفيّة العقليّة ، بل التحقيق أنّ مرجعه إلى إذن وضعيّ وترخيص لا يؤول إلى التكليف من حيث مساواة الأفراد في نظر العقل حيث إنّها ممّا يحصل معها الامتثال بالواجب العيني ، وحاصله يرجع إلى التصديق بأنّ الطبيعة المطلوبة إنّما تتحقّق في هذه الأفراد ، وليس ذلك ممّا ينافي حرمة واحد من هذه الأفراد.

وإذ قد عرفت هذه ، فإن اريد من اتّصاف الفرد بالوجوب العقلي التخييري ما ذكرنا ، فقد عرفت عدم المنافاة. وإن اريد معنى آخر مثل حكم الشارع بالتخيير بين أفراد ماهيّات مختلفة - كخصال الكفّارة - على وجه يتّصف كلّ واحد منها بالمطلوبيّة التخييريّة ، فلا نسلّم أنّ الفرد متّصف بالوجوب بهذا المعنى. وإلزام العقل بالامتثال راجع إلى امتثال الواجب العيني ، ولا حكم له في الأفراد بوجه إلاّ ما عرفت من التصديق ، وهو ليس حكما تكليفيّا ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من عدم اتّصاف الفرد بالوجوب - على اختلاف أنحائه - فما مناط الامتثال؟ ومن أي وجه يتّصف بالصحّة التي لا يراد بها إلاّ مطابقة الفعل للمأمور به؟ ومن المعلوم أنّ ذلك غير معقول على تقدير عدم تعلّق الأمر به بوجه لا عينا ولا تخييرا.

ص: 678

قلت : إنّ انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد وتحقّقها فيه كاف في الصحة وانتزاعها ، ولا حاجة إلى اعتبار أمر خارج عن الأمر المتعلّق بالطبيعة في الفرد حتّى يتّصف بالصحّة ويكون موردا لانتزاعها ، بل وهذا هو الوجه في اتّصاف الفرد بالصحّة ولو في غير الأفراد المحرّمة.

فإن قيل : إنّ اجتماع المصلحة والمفسدة التي هما جهتا ثبوت الوجوب والحرمة أيضا ممتنع ، والفرد المحرّم لا بدّ وأن يكون مجمعا لهما وإن لم يجتمع فيه الوجوب والحرمة.

قلنا : إن اريد بالمصلحة والمفسدة الحسن والقبح الفعليّان فلا نسلّم اجتماعهما في الفرد ، فإنّ اجتماعهما في الفرد يوجب اجتماع الوجوب والحرمة ، فإنّهما علّتان تامّتان لهما ، والمفروض عدم اجتماعهما. وإن اريد وجود الجهات المقتضية للحسن والقبح ، فلا نسلّم امتناع اجتماعهما ، كيف! وهو معلوم لا ينبغي التأمّل في ثبوته ، كما يلاحظ في الأدوية المضرّة للسوداء النافعة لما يضادّها ، وفي الأغذية النافعة لبعض الأمراض والموجبة لبعض آخر ، فإنّ كلّ ذلك ممّا يشاهد بالوجدان ، وليس فيه استحالة من حيث اجتماع الحب والبغض في الفرد. والسرّ في ذلك : أنّ متعلّق الحبّ والبغض هو نفس تلك الجهات ، ولا سراية إلى ما (1) يشتمل على تلك الجهات.

والجواب عن ذلك يظهر بعد تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ الحق - كما عليه المحقّقون (2) - وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، ومعنى وجوده هو أنّ الصورة الكلّية المطابقة لكثيرين المنتزعة من الصورة الشخصيّة الحاضرة في الخيال بتجريدها عن

ص: 679


1- في ( ع ) : ما لا يشتمل.
2- انظر شرح المنظومة للسبزواري : 21.

لوازم (1) الشخصيّة من الأوضاع الخاصّة والكيفيّات المخصوصة تارة تلاحظ في نفسها ولا يحكم عليها بالوجود ذهنا ولا خارجا ولا بالكلّية والجزئيّة ، ضرورة أنّ هذه كلّها أوصاف خارجة عن الماهيّة طارئة عليها وإن كانت متّصفة بالوجود الذهني في الواقع ، فإنّ عدم اتّصافها به يوجب التعامي عن بيان أحكامها وجودا وعدما. واخرى تلاحظ من حيث إنّها متّصفة بالوجود ذهنا أو خارجا.

فعلى الأوّل فهو فرد من مفهوم الصور الذهنيّة ومصداق من مصاديق العلم. وعلى الثاني فهو فرد من أفراد تلك الماهيّة في الخارج ، فالفرد ليس إلاّ تلك الماهيّة عند اتّصافها بالوجود الخارجي. وبعبارة اخرى : أنّ الفرد ليس إلاّ الطبيعة الخارجيّة ، ولا يعقل من الفرد سوى ما ذكرنا.

والإنصاف : أنّ وجود الكلّي بالمعنى المذكور من الامور الواضحة الجليّة التي لا يتوقّف العلم به على ملاحظة أمر خارج عن طرفي الحكم المزبور.

نعم ، ربما قيل : إنّه يحتاج إلى تنبيه ، حيث إنّ الطبيعة لا بشرط شيء ربما يتوهّم أنّ مقارنة شيء لها مانعة عن وجودها ، وحمل ما هو المعروف في الاستدلال من حديث الجزئيّة على ذلك. ولعلّه لا يحتاج إلى التنبيه من هذه الجهة أيضا ؛ فإنّ المقارن - على ما هو المفروض - ليس إلاّ الوجود الذي به يتحقّق تلك المأخوذة لا بشرط شيء ، ولا يعقل ممانعة الوجود المقارن عن اتّصاف الماهيّة لا بشرط شيء بالوجود. كيف! وذلك المقارن هو وجودها.

ومن هنا يظهر أنّ ما هو المعروف عندهم في تقريب الاستدلال بالجزئيّة : من أنّ الماهيّة بشرط شيء موجودة في الخارج واللابشرط جزء منها وجزء الموجود الخارجي موجود ، لا يخلو عن مسامحة ومساهلة ، حيث إنّ المركّب ليس إلاّ الماهيّة

ص: 680


1- كذا ، والمناسب : اللوازم.

والوجود الذي به يتحقّق تلك الماهيّة ، وظاهر كلامهم يعطي أنّ المركّب موجود على وجه لا يشعر بأنّ الجزء الآخر هو الوجود في هذا المركّب.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد تردّد في المقام : من أنّه لو كان الكلّي موجودا لكان إمّا نفس الجزئيّات أو جزئها أو خارجا عنها ، والأقسام بأسرها باطلة.

أمّا الأول : فلأنّه لو كان عين الجزئيّات يلزم أن يكون كلّ واحد من الجزئيّات عين الآخر في الخارج.

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان جزءا منها في الخارج لتقدّم عليه في الوجود ، ضرورة أنّ الجزء الخارجي ما لم يتحقّق أوّلا وبالذات لم يتحقّق الكلّ ، وذلك يوجب انتفاء الحمل.

وأمّا الثالث : فضروريّ الاستحالة.

فإنّ لنا اختيار كلّ من الشقّين الأوّلين.

أمّا الأوّل ، فنختار أنّ الكلّي عين الأفراد في الخارج ، ولا يلزم اتّحاد الأفراد والجزئيّات ؛ لأنّ ذلك إنّما يلزم فيما لو سلّم ثبوت المقدّمة الخارجيّة في قياس المساواة ، وهي : « أنّ عين العين عين » وتلك المقدّمة غير مسلّمة ، فإنّ معنى عينيّة الكلّي الطبيعي للفرد هو أنّ الفرد عبارة عن الماهيّة الخارجيّة ، وحيث إنّ الوجود والماهيّة متّحدان في الخارج لا فاصل بينهما يكون أحدهما عين الآخر ، فالطبيعة عين الفرد ، وأين ذلك من اتّحاد الأفراد؟ لاختلاف الوجودات فيها.

وأمّا الثاني ، فنختار أنّ الكلّي جزء للأفراد ويكون الجزء الآخر هو الوجود الذي به يتحقّق الكلّي ، ولا يلزم تقدّم الجزء في الوجود على الكلّ فيما إذا كان أحد جزئي المركّب هو وجود الجزء الآخر.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الفرد ليس إلاّ وجود الكلّي والطبيعة الموجودة.

ص: 681

وإذ تقرّر ما ذكرنا من وجود الكلّي الطبيعي بالمعنى المذكور ، نقول في الجواب :

أوّلا : نختار أنّ الفرد متّصف بالوجوب العيني المتّصف به نفس الطبيعة ، فإنّ فرد الصلاة التي هي واجبة عينا ليس إلاّ وجود تلك الصلاة الواجبة في الخارج ، فهو الواجب العيني الموجود في الخارج ، بل وذلك ممّا لا مناص عنه ، إذ لولاه لما صحّ الامتثال ، إذ لا يعقل أن يكون المطلوب هو الفرد (1) وما يسقط به الطلب غيره.

وأمّا قولك : إنّ اتّصاف الفرد يوجب اتّصاف الجميع بالوجوب العيني أو عدم الإجزاء.

نقول : لا محذور في البين أصلا. أمّا الثاني فظاهر ، لأنّا لا نلتزم باتّصاف فرد واحد بالوجوب حتّى يلزم عدم الإجزاء ، كيف! وذلك ترجيح بلا مرجّح ، لاستواء الكلّ في حصول الماهيّة بها. وأمّا الأوّل ، فلأنّه إن اريد من اتّصاف الأفراد جميعها بالوجوب العيني أنّ واحدا منها غير مجز عن الآخر ، فالملازمة ممنوعة ، إذ الوجوب العيني الذي يتّصف به الماهيّة ليس إلاّ عدم كفاية ماهيّة اخرى عنها ، وعدم إجزاء فرد منها عن الفرد الآخر ليس ماخوذا في الوجوب العيني ، وهو بعينه موجود في جميع الأفراد ، لعدم كفاية فرد آخر للماهيّة المغايرة لتلك الماهيّة عنه. وإن اريد من اتّصافها بالوجوب العيني أنّ كلّ واحد منها عين الطبيعة الواجبة بالوجوب العيني وإن كان إتيان بعض أفرادها مسقطا للطلب المتعلّق بها ، فالملازمة ظاهرة مسلّمة ، ولكن بطلان التالي ممنوع ، بل ولا بدّ أن يكون كذلك كما عرفت.

وثانيا : نختار أنّ الفرد متّصف بالوجوب التخييري العقلي الذي لا يرجع إلى خطاب تكليفي ، وهو يوجب المحال.

ص: 682


1- في ( ط ) ونسخة بدل ( ع ) : الضرب.

بيانه : أنّ اجتماع الضدّين يتصوّر على وجهين ، أحدهما : أن يكون شيء واحد شخصي باعتبار جهة واحدة متّصفا بالمتضادّين كالسواد والبياض مثلا. وثانيهما : أن يكون شيء واحد شخصي مصداقا لطبيعتين متغايرتين مفهوما ، ويكون كلّ واحدة من تينك الطبيعتين محلاّ لواحد من الضدّين. ولا فرق في الاستحالة بين القسمين ؛ ضرورة أنّ المتّصف بالضدّين على الثاني أيضا هو المصداق ، فإنّ الوجوب والحرمة كالبياض والسواد والحركة والسكون من الأوصاف اللاحقة للماهيّة باعتبار الوجود ، ولا ريب أنّ الطبيعتين متّحدتان وجودا وإن اختلفتا مفهوما.

وبعبارة اخرى : أنّ جهة اختلافهما - وهي جهة ملاحظتهما في الذهن على وجه التغاير - لا مدخل لها في اتّصافهما بالضدّين ، لأنّ الضدّين على ما هو المفروض من الأوصاف الخارجية للماهيّة. وجهة اتّحادهما - وهي مقارنتهما في الوجود الخارجي واتّحادهما فيه كما يكشف عنه حمل إحداهما (1) على الاخرى - يوجب المحذور المحال ؛ وعلى ذلك نقول : إنّ حصول الطبيعة المأمور بها في الفرد المحرّم كاف في الامتناع ؛ لأنّ ذلك أيضا من اجتماع الضدّين.

وقد يوجّه : بأنّ ذلك من اجتماع الضدّين في مورد باعتبار اتّصاف المورد بأحدهما بنفسه وبالآخر باعتبار حصول الطبيعة الاخرى فيه ، فإنّ ما نحن فيه يكون اتّصاف الفرد بالحرمة بنفسه - فإنّ النهي في الفرد المحرّم عيني - وبالوجوب باعتبار الصدق. والأقوى ما ذكرنا ؛ لأنّ الفرد المحرّم اتّصافه بالحرمة أيضا باعتبار الصدق ، كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الطبيعتان كلتاهما عرضيّتين للمورد الجامع بينهما ، أو إحداهما ذاتيّة والاخرى عرضيّة ، أو كلتاهما ذاتيّتين ، إلاّ أنّه لا يعقل

ص: 683


1- أي : إحدى الطبيعتين ، وفي ( ع ) ، ( م ) : أحدهما على الآخر.

العموم من وجه حينئذ كما هو ظاهر ، فلا بدّ أن يكون بينهما عموم مطلق ، إذ يكفي في اجتماع الضدّين المحال اجتماعهما في مورد واحد على ما هو مناط الحمل ، سواء كان المحلاّن المتّحدان أصيلين في المورد أم لا. ولا حاجة إلى اتّحادهما بوجه لو فرض انتفاء أحدهما يلزم انتفاء الآخر ، فإنّ ذلك ممّا لا يعقل مدخليّته في الاستحالة المذكورة.

فما قد يتوهّم : من أنّ الغصب والصلاة في محلّ الكلام يرتفع أحدهما مع بقاء الآخر ، كما لو أبطل الصلاة أو حصل له الإذن في الصلاة ، وذلك دليل تعدّد الوجود.

ليس في محلّه ؛ فإنّه كلام ظاهريّ خال عن التحصيل ، فإنّ مناط الحمل إمّا أن يكون موجودا أو لا يكون ، والثاني باطل ضرورة صحّة الحمل في المثال المفروض حال عدم الإذن ، والأوّل موجب للمحال ، فإنّ حمل الأسود على ما هو أبيض وحمل المتحرّك على ما هو ساكن وحمل الواجب على ما هو حرام محال جدّا.

ولعمري! إنّ فساد هذه المقالة أوضح من أن يحتاج إلى البيان. وأمّا حديث الارتفاع فهو مشترك الورود بين الذاتيّات والعرضيّات ، كما لا يخفى على المتأمّل ؛ ومع ذلك لا يجدي شيئا بعد ظهور المناط فيما يوجب المحال ، فكن على بصيرة وتدبّر حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن التقرير الأوّل في ارتفاع المانع ، فإنّ الفرد عين الكلّي في الخارج ، ولا يعقل أن يكون وجوب الكلّي تعبّديا والفرد توصّليا حتّى يقال بأنّ وجوب الفرد على تقدير وجوب المقدّمة توصّلي يجتمع مع الحرام.

وأمّا ما اشتهر عندهم : من أنّ تعدّد الجهات فيما إذا كانت تقييديّة مجد في عدم اجتماع الضدّين في محلّ واحد (1) ، فهو كلام غير خال عن شوب الإبهام والإجمال.

ص: 684


1- انظر حاشية السلطان على المعالم : 290 ، وهداية المسترشدين 3 : 66 - 67 ، وضوابط الاصول : 132.

وتحقيقه : أنّ التقييد - كالتقسيم - عبارة عن ضمّ قيود عديدة متباينة بأمر واحد لا يكون أحدها أو نقيضه معتبرا في حقيقة ذلك الأمر الواحد ليصحّ التقييد به وبما يضادّه كالفصول اللاحقة للأجناس ، أو بما يخالفه (1) في الجملة كما إذا كان بين القيدين مباينة جزئيّة ، كالبغدادي والأبيض العارضين للإنسان مثلا ، على ما هو المقرّر في محلّه. ولا يتحقّق حقيقة التقييد إلاّ فيما إذا كان المقيّد أمرا عامّا قابلا لورود القيود المعتورة عليه ، وإذا فرضنا اختلاف أحكام تلك القيود يجب أن يكون المقيّد بها خاليا عن تلك الأحكام ، مثل ما لو فرض وجوب أحد النوعين وحرمة الآخر ، فإنّه لا بدّ وأن يكون الجنس غير متّصف بالوجوب والحرمة ، وذلك من الامور الواضحة التي لا يكاد يعتريها ريب.

فإذا عرفت ذلك نقول : إنّ محلّ الكلام على ما مرّ إنّما هو في فرد جامع لعنوانين ، وتطبيق ذلك على الجهات التقييديّة غير معقول ، فإنّ ذلك الفرد الجامع ليس من الامور القابلة لاعتوار القيدين المختلفين عليه على وجه يحصل من انضمام كلّ واحد من القيدين به فرد ، كيف! وهو فرد لتينك الماهيّتين ، فلا يعقل تقيّده بهما على وجه يحصل فردان متمايزان. نعم ، يصحّ ذلك في مثل ماهيّة السجود الذي يحتمل وقوعه على وجه التعظيم لله والإهانة ، فإنّ التقيّد بكونه لله يوجب اختلافه معه فيما لو كان مقيّدا بكونه للشمس ، فيصحّ اختلاف الفردين في الحكم.

فما يظهر من بعضهم : من ابتناء المسألة على أن تكون الجهات المعتبرة في الواحد الشخصي تقييديّة فيجوز أو تعليليّة فلا يجوز ، إن أراد أنّه يمكن أخذ الجهة تقييديّة في الواحد الشخصي كما يمكن أخذها تعليليّة ، والكلام إنّما هو مبنيّ على تشخيص ذلك فإن كان اعتبار الجهة من التقييد فيجوز وإن كان من التعليل

ص: 685


1- في ( م ) زيادة : ولو.

فلا يجوز ، فهو كلام خال عن التحصيل ؛ لما عرفت من عدم معقوليّة التقييد فيما هو محلّ الكلام. وإن أراد أنّ الاجتماع في الكلّي القابل للقيدين جائز من حيث قبوله للقيدين ولا يجوز فيما اجتمع فيه المقيّدان ، فهو حقّ لكنّه ليس من مباني المسألة ، لأنّ الكلام إنّما هو في الثاني ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فالكلام في المقام إنّما هو فيما إذا اجتمع الطبيعتان المقيّدتان في مورد واحد ، والقول بأنّ تينك الطبيعتين جهتان تقييديّتان لذلك المورد ممّا لا محصّل له. نعم ، تانك الطبيعتان من أصناف كلّي آخر فوقهما ، فيكون جهة اختلافهما من الجهات التقييديّة بالنسبة إلى ذلك الكلّي الفوق ، لا بالنسبة إلى فردهما وإن فرض كون الفرد أيضا كلّيا ، فإن فرض كلّية ذلك المورد يجوز لحوق قيد آخر به لا ما هو معتبر في فرديّته ، من غير فرق في ذلك بين كون الجهتين عرضيّتين أو إحداهما ذاتيّة والاخرى عرضيّة.

والحاصل : أنّ المجوّز إنّما يدّعي عدم التضادّ بين الأمر والنهي ، أو يدّعي جواز اجتماعهما في مورد واحد باعتبار جهتين على وجه لا يصير اختلاف الجهة موجبا لاختلاف المحلّ في الوجود الخارجي ، أو يدّعي أن الجهتين في المقام توجب التعدّد في الوجود الخارجي.

أمّا الأوّل : ففساده أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، فإنّ رفع التضادّ يوجب اجتماعهما في الواحد من جهة واحدة مع أنّه ممّا لم يتفوّه به عاقل.

وأمّا الثاني : فقد مرّ ما يوضح فساده ، وحاصله : أنّ الوجوب والحرمة من الأوصاف المنتزعة من الأفعال باعتبار وجودها في الخارج كالحسن والقبح ، ولا سبيل إلى انتزاعهما من الأفعال الذهنيّة وإن تعلّق الطلب من الآمر بالطبائع حال وجودها في الذهن ، فإنّ المطلوب ليس تلك الماهيّات المتصوّرة ، وإلاّ لما توقّف الامتثال على إيجاد تلك الطبائع في الخارج ، فموارد انتزاع الوجوب والحرمة إنّما هي

ص: 686

الأفعال الخارجيّة ، وبعد اتّحاد الموردين في الوجود الخارجي يلزم وجود الضدّين في ذلك الموجود الواحد وإن كان بواسطة اجتماع الطبيعتين ، وهو محال ، وإلاّ لزم اتّصاف جسم واحد - كزيد مثلا - بالسواد والبياض بواسطة اجتماع عنوانين موجودين فيه ، ككونه بغداديّا وكونه من بني أسد مثلا لو فرضنا اقتضاء كلّ واحد منهما لأحد الوصفين.

وأمّا الثالث : فبداهة فساده يصرفنا عن الإطالة في إبطاله ؛ ضرورة صحّة الحمل الذي مناطه هو اتّحاد الوجود ولو على وجه ، كما هو ظاهر.

الثالث : من وجوه احتجاجهم على الجواز

هو ما تمسّك به غير واحد منهم (1) : من قضاء العرف بحصول الإطاعة والعصيان فيما إذا أتى المكلّف بفرد جامع للعنوانين ، كما إذا أمر المولى بالمشي ونهاه عن الحركة في مكان خاصّ ، فإنّ العبد لو خالف المولى وأوجد المشي المأمور به في ضمن الحركة في ذلك المكان عدّ عاصيا ومطيعا يستحقّ بالأوّل اللوم والعقاب وبالثاني المدح والثواب. وليس ما ذكر بذلك البعيد ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يلاحظ الاستحقاق المذكور من دون شائبة إنكار.

والجواب عنه : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما إذا كان المطلوب بالأمر وجود الفعل المأمور به على أي وجه اتّفق كأن يكون توصّليّا ، وليس تعلّق النهي بالفعل موجباً

ص: 687


1- انظر القوانين 1 : 148 ، ومناهج الأحكام : 56 ، وإشارات الاصول : 110 - 111.

لعدم حصول الماهيّة المأمور بها ، إذ لا يعقل في الأمر والنهي مدخل في وجود المأمور به والمنهيّ عنه ، كما هو ظاهر.

فإن اريد من الإطاعة التي اخذت في الدليل ما هي معتبرة في الأوامر - كما مرّ في بحث المقدّمة - ومرجعها إلى عدم المخالفة بواسطة حصول المأمور به ولو اتّفاقا أو بوجه محرّم ، فهو حقّ لا محيص عنه ؛ لما مرّ من أنّ النهي لا يوجب عدم تحقّق المأمور به. ولكنّه لا يجدي ، إذ مرجعه إلى سقوط الطلب بحصول المطلوب. وليس ذلك من الإطاعة والاجتماع في شيء ، ولا يترتّب عليه ثواب أبدا.

وإن اريد منها ما يترتّب على وجودها لوازم الامتثال من الثواب والمدح ونحوهما ، فلا نسلّم أنّ العرف قاض بحصولها ، فإنّ الحركة الخاصّة ليس إلاّ مبغوضا يترتّب عليها العقاب فقط ، ونحن كلّما نراجع وجداننا منصفا غير مسبوق بشبهة لا نرى في الوجدان ما يشبه الحكم بحصول الامتثال بالمعنى المذكور ، وكأنّ اشتراك الإطاعة بين الامتثال بالمعنى المذكور وبين عدم المخالفة أوجب التوهّم المذكور ، فلا تكن في غفلة.

وليس المقصود من الجواب المذكور أنّ الواجب التوصّلي يصحّ اجتماعه مع الحرام ، فإنّا قد أشبعنا الكلام في فساده فيما تقدّم ، وظهر ممّا قلنا في الجواب عن الوجه الثاني اتّحاد مناط الامتناع في القسمين ، بل المقصود القول بحصول الواجب مع اجتماعه مع الحرام لا على وجه الامتثال.

وقد ذكر غير واحد منهم في توجيه الدليل مثال الخياطة والكون في المكان المخصوص (1). فاعترض عليه :

تارة : بأنّه توصّلي يجتمع مع الحرام ، ولعلّ المراد منه ما ذكرنا ، فيندفع ما اورد عليه من اتّحاد المناط.

ص: 688


1- انظر القوانين 1 : 148 ، ومناهج الأحكام : 56.

واخرى : بأنّ محلّ النزاع هنا فيما إذا اتّحد متعلّق الأمر والنهي في الخارج كما مرّ ، ولا نسلّم اتّحاد الكون مع الخياطة ، فإنّ المراد بها إمّا الصفة القائمة بالثوب بعد صدور فعل الخياطة من الفاعل أو نفس الفعل ، لا ما يوجد بالفعل ، وعلى التقديرين ليس الكون في المكان - بمعنى التحيّز الراجع إلى مقولة الأين - جزءا منه.

وفيه : أنّ ذلك ليس من دأب المحصّلين ، كما هو ظاهر.

والجواب هو ما عرفت : من أنّ العرف إنّما يقضي بسقوط الطلب بواسطة حصول المطلوب ، وذلك إنّما يجدي في التوصّليّات ، حيث إنّ حقيقة المأمور به يمكن حصوله ولو مع اجتماعها وحصولها في فرد محرّم. وأمّا في التعبّديات فالنهي والتحريم إنّما ينافي وجود المأمور به في الخارج ، حيث إنّ التقرّب ممّا له مدخل في حصول المأمور به ولا يعقل التقرّب بالمحرّم ، وعلى تقدير عدم حصول المأمور به في الخارج لا يعقل صدق الامتثال ولا سقوط الطلب.

فإن قلت : قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّه يمكن أن يكون المقصود من الأمر المتعلّق بماهيّة أعمّ من المطلوب بواسطة قصور في الطلب ، فالأفراد المطلوبة متساوية مع الأفراد التي لا يتعلّق بها الطلب بواسطة قصور فيه في حصول غرض الأمر بها وإن لم تكن متعلّقة للطلب ؛ ولذلك قلنا بأنّ حصول الأفراد الغير الاختياريّة يوجب سقوط الطلب مع اختصاص الوجوب بالاختياري. وعلى هذا يمكن القول بأنّ مقصود الآمر ولو كان تعبّديّا هو حصول الماهيّة المأمور بها ولو كان في ضمن فرد محرّم ، ويمكن قصد التقرّب أيضا ، حيث إنّه يحصل لو كان الداعي إلى الفعل المحرّم هو تحصيل ما هو مقصود الآمر وإن لم يكن مطلوبه لامتناع طلب المحرّم ، ولذا يستحقّ المدح عرفا فيما لو كان الداعي في الفعل هو ما ذكرنا ، إذ لا دليل على اعتبار قصد القربة فيما هو زائد على القدر المذكور.

قلت : ما ذكر إنّما يتمّ في الأفراد التي تقع اضطرارا ، كما تقدّم الكلام فيه. وأمّا

ص: 689

في الأفراد المحرّمة فلا بدّ من التقييد والقول باختصاص المقصود بالأفراد المباحة ، إذ لا دليل على التعميم في المقام ، بل النقل قاض بالتخصيص بالأفراد المباحة ، سيّما في التعبّديات التي لا تصحّ بدون الأمر ، فكيف بالأفراد التي نهى الآمر عنها؟

وبالجملة ، فالاكتفاء بالأفراد المحرّمة في التعبّديات دونه خرط القتاد! وأمّا مدح الآتي بالفرد المحرّم تحصيلا لغرض الآمر ، فإن اريد مدحه من حيث إيجاده الماهيّة المأمور بها فكلاّ ، حيث إنّها محرّمة صرفة ، ولا أمر فيما هو محرّم ، وبعد انتفاء الأمر لا تحصل القربة ، لأنّها عبارة عن موافقة الأمر ، فلا تكون الماهيّة المأمور بها موجودة حتّى يكون المدح لأجلها. وإن اريد مدحه من حيث إنّه في مقام الإطاعة وتحصيل غرض الآمر ، فذلك أمر لا يرجع إلى طائل فيما هو المقصود من حصول الواجب وإن كان حسنا في مقامه.

وتوضيح المطلب : أنّ لسقوط الأمر والطلب وجوها من التصوّر :

الأوّل : أن يأتي بالمأمور به على وجه يكون الداعي على إتيانه الأمر والإطاعة.

الثاني : إتيان ما هو مقصود الآمر وإن قصر طلبه عنه ، كإيجاد الضرب على وجه غير مقصود للضارب.

الثالث : إيجاد ما يشبه في الصورة المأمور به ، كإيجاد الضرب على وجه محرّم.

الرابع : إعدام الموضوع الذي يرتبط به الطلب ، كإحراق الثوب المأمور بغسله أو قتل الدابّة المأمور بتعليفها وسقيها ورعيها.

والإطاعة بمعناها الحقيقي صادقة في القسم الأوّل ، والتوصّليّات إنّما يتحقّق الواجب فيها بالقسم الثاني أيضا. وأمّا القسم الثالث فليس الحاصل فيه الواجب وإن كان يجدي في حصول التوصّلي ، فإن الفرد المحرّم خارج عن

ص: 690

المقصود في أيضا ، وأمّا التعبّدي فليس الموجود في الفرد المحرّم شبيها له أيضا ؛ لما عرفت من عدم حصول الماهيّة المأمور بها فيه

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من أنّ الآمر لا بدّ وأن يكون الفرد المحرّم خارجا عن مطلوبه ومقصوده أيضا ، يلزم فساد الصلاة في الدار المغصوبة ولو في حال النسيان والاضطرار ، لا بواسطة امتناع الامتثال بالمحرّم ، بل بواسطة انتفاء الأمر كما هو قضيّة التقييد ، مع أنّ المشهور أنّ المانعين يحكمون بصحّتها ، وكذا صحّة نظائرها كصلاة الصبيّ - بناء على كونها تشريعيّة - في الدار المغصوبة ، وقد سمعت فيما تقدّم كلام المقدّس الأردبيلي (1) ( طيّب اللّه رمسه ).

قلت : إنّ المخصّص لو كان لفظا كما في قولك : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » كان الوجه عدم وجوب إكرام زيد في جميع الأحوال. وأمّا لو كان المخصّص عقلا ، فلا بدّ من الاقتصار على قدر يقتضيه. وليس وجه التخصيص بالأفراد الغير المحرّمة في المقام إلاّ مناقضة الطلب التحريمي والطلب الوجوبي ، وبعد ارتفاع التحريم بواسطة النسيان فلا مانع من القول بالصحّة والأخذ بإطلاق الأمر بالصلاة ، فيكون ذلك من باب التزاحم كإنقاذ الغريقين ، فإنّ عدم تعلّق التكليف بكلّ واحد منهما على سبيل الاجتماع ليس إلاّ بواسطة وجود المصلحة فيهما على وجه سواء مع امتناع الاجتماع بينهما ، وإذا فرضنا ارتفاع المانع صحّ الأمر من غير إشكال.

وتوضيح المقال : أنّ النهي المتعلّق بعبادة إن كان بواسطة عنوان مجامع للعبادة مع كونه أخصّ منها فالظاهر أنّ ذلك تخصيص للأمر بخروج تلك العبادة مطلقا عن المأمور به ، وإن كان بواسطة عنوان بينهما عموم من وجه فيحكم بكونها فاسدة حال تعلّق النهي بها ، إذ لا قاضي بما يزيد على ذلك من دليل التخصيص.

ص: 691


1- راجع الصفحة 611.

أمّا الأوّل : فلأنّ مرجعه إلى التخصيص اللفظي ، كما فيما إذا قيل : صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة. ولعلّ السرّ في ذلك أنّ النهي المذكور تابع لمفسدة ثابتة في الفرد الخاصّ فيتعلّق النهي به لكونه فاسدا ، وليس الفساد فيه تابعا للنهي ، فيجب الأخذ بمقتضى الفساد في جميع الأحوال. ونظيره الأوامر الواردة في مقام بيان ماهيّة العبادات المركّبة ، فإنّها قاضية بأنّ تلك الأجزاء ممّا لا يتخلّف عن مركّباتها عمدا وسهوا واضطرارا.

وأمّا الثاني : فلأنّ مرجعه إلى مزاحمة بين الطلبين على وجه لا بدّ من الالتزام بانتفاء أحدهما مع وجود مقتضي الطلبين ، وبعد القول بترجيح النهي في مورده على الأمر لا بدّ من القول بفساد العبادة ، فالفساد تابع للنهي ، وبعد ارتفاع النهي المانع من تعلّق الطلب الوجوبي مع وجود ما يقضي به يعود ذلك الطلب ، فيصحّ العمل لو وقع في حال السهو والنسيان من دون شائبة.

فإن قلت : إنّ ارتفاع الطلب التحريمي لا يكفي في صحّة المأمور به مع بقاء المفسدة التي ينبعث منها التحريم بناء على اصول العدليّة ، ولا سبيل إلى منع المفسدة على تقدير انتفاء الطلب ، فإنّ ذلك يستلزم اختلاف الفعل بواسطة الذكر والنسيان والجهل والعلم ، وهو التصويب كما لا يخفى ، ووجه اللزوم ظاهر.

قلت أوّلا : إنّ ما ذكر من وجود المفسدة إنّما يتمّ فيما إذا كان ذهاب النهي بالسهو والجهل ونحوهما ممّا يليق اختلاف الأحكام باختلافها. وأمّا الاضطرار فيصحّ اختلاف الأحكام والمفاسد والمصالح به ، فلا دليل على وجود المفسدة بعد ارتفاع الطلب.

وثانيا : سلّمنا وجود المفسدة في جميع الموارد ولكن لا نسلّم أنّ المفسدة تمنع عن تعلّق الطلب الوجوبي في موردها ، لأنّ المانع إمّا مجرّد اجتماع المفسدة والمصلحة كالأمر والنهي والحسن والقبح ، وإمّا اقتضاء اللطف عدم تعلّق الأمر والطلب بمورد وجد فيه المفسدة.

ص: 692

أمّا الأوّل : فلا نسلّم امتناع اجتماعهما إن لم يكن المراد بهما الحسن والقبح الفعليّان ، ضرورة صحّة اجتماع المفسدة والمصلحة في شيء بالنسبة إلى جهات عديدة ؛ وذلك نظير اتّصاف شيء واحد بإضافات متقابلة كالابوّة والبنوّة والفوقيّة والتحتيّة ، لكن لا بالنسبة إلى شيء واحد بل بالنسبة إلى أشياء متعدّدة ، فيصحّ أن يكون السقمونيا مفسدة لأحد الأخلاط الأربعة ومصلحة لآخر منها ، وذلك أمر ظاهر. والوجه في ذلك : انتفاء التقابل بعد ملاحظة الجهات ، فإنّ ابوّة زيد لا تقابل بنوّة عمرو ، لا أنّهما متقابلان ويكفي في اجتماعهما واتّصاف المحل بهما وجود الجهتين. وإن اريد من المصلحة والمفسدة الحسن والقبح فالحقّ ارتفاعهما بارتفاع الطلب.

وأمّا الثاني : فلا نسلّم أنّ قضيّة اللطف عدم تعلّق الطلب بمورد يكون فيه المفسدة ، كيف! والوقوع في تلك المفسدة ممّا لا مناص عنه ، فإنّ المفروض أنّه ليس من الامور الاختياريّة ، بل المكلّف يقع في تلك المفسدة على وجه الاضطرار ، فلا مانع من إيصال المكلّف إلى مصلحة الفعل ولا يلاحظ فيه مساواة المصلحة للمفسدة وزيادتها عليها ، فإنّ المفسدة لازمة لا مناص عنها ، فيكون المصلحة بمنزلة ما لا معارض لها.

هذا ما وسعنا من الكلام في أدلّة المجوّزين والجواب عنها. وبعد ما عرفت في جوابها من ثبوت المانع من الأخذ بإطلاقات الأوامر والنواهي في مورد الاجتماع لا حاجة إلى إيراد احتجاج القول بالامتناع.

وقد يذكر في الدليل على الامتناع وجوه مرجعها إلى ما ذكر في الأجوبة المتقدّمة ، فإن أردتها فارجعها (1). واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 693


1- كذا ، والمناسب : « فراجعها ».

ص: 694

هداية : في ذكر احتجاج المفصّل بين العرف والعقل

كالسيّد الطباطبائي (1) ، ويظهر ذلك من سلطان المحقّقين أيضا في تعليقاته على المعالم (2) ، والمحقّق القمّي في المسألة الآتية (3) ، وقد عرفت فيما تقدّم نسبته إلى المقدس الأردبيلي (4) بما فيها.

وكيف كان ، فالوجه في التفصيل المذكور لعلّه الجمع بين ما تقدّم من دليل المجوّز من جواز اجتماع الضدّين في محلّ واحد ، وبين ما يفهم في العرف من التعارض بين الأمر والنهي في مادّة الاجتماع ، والحكم بلزوم تخصيص أحدهما بالآخر فيما لو ساعد عليه دليل ، وإلاّ فالحكم بالتساقط والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل.

والجواب عنه : أنّه لا يخلو إمّا أن يكون الموضوع في حكم العقل بالجواز عين الموضوع المحكوم عرفا بالامتناع أو غيره.

لا سبيل إلى الأوّل لامتناع أن يكون حكم العرف على خلاف حكم العقل ، فلو فرضنا أنّ العقل يحكم بامتناع اجتماع المتناقضين لا وجه لتوهّم اختلاف العرف

ص: 695


1- قد نقل عنه سابقا في الصفحة 612 ، بلفظ : وقد ينسب ذلك إلى فاضل الرياض أيضا وكأنّه مسموع منه شفاها.
2- انظر حواشي السلطان على المعالم : 290 - 291.
3- القوانين 1 : 159.
4- راجع الصفحة 611.

للعقل والحكم بجوازه ، وكذلك العكس. والسرّ في ذلك : أنّ العرف لا حكومة له في قبال العقل ، بل العرف مرتبة من مراتب العقل وطور من أطواره ، حيث إنّ جهة الارتباط والاستيناس باستفادة المعاني من الألفاظ بواسطة العلم بأوضاعها أو قرائنها يسمّى بالعرف. ولا شكّ أنّ هذه أيضا من مظاهر العقل وجنوده ، وكيف يعقل اختلاف حكمي العقل والعرف في موضوع واحد مع أنّ العرف هم العقلاء؟ وذلك ظاهر.

وكذا لا سبيل إلى الثاني كأن يكون هناك موضوعان يحكم العقل في أحدهما بالجواز كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الأوامر هو الطبائع وفرضنا جواز اجتماع حكمين متضادّين في فرد واحد من طبيعتين من تلك الطبائع ، ويحكم العرف في الآخر بالامتناع كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الأمر والنهي خصوص الفرد الجامع للعنوانين ، فإنّه لا كلام في امتناع ذلك حتّى من المجوّزين ، ففي كلّ واحد من الموضوعين يتطابق العقل والعرف في الحكم بالامتناع والجواز ، لما عرفت من أنّه لا حكومة للعرف في قبال حكومة العقل.

وحينئذ نقول : إنّ المستفاد من الخطابات الشرعيّة من الأوامر والنواهي إمّا الموضوع الذي يحكم العقل فيه بالجواز كما تخيّله المجوّزون من تعلّق الأوامر بالطبائع وكفاية تعدّد الجهة في رفع التضادّ ، أو الموضوع الذي يحكم العرف فيه بالامتناع. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل المذكور ؛ لما عرفت من تطابق العقل والعرف في كلّ واحد من الموضوعين بالجواز والامتناع ، ومع ذلك لم يبق للتفصيل وجه يمكن التعويل عليه ويركن إليه.

فإن قلت : إنّ الوجه في التفصيل هو أنّ المستفاد من الأمر والنهي بمقتضى الوضع في اللغة هو المعنى الذي لا يستحيل عقلا اجتماع الوجوب والحرمة فيه كما مرّ في دليل المجوّزين ، وهذا المعنى ليس مستفادا عند العرف ، بل المستفاد عندهم هو

ص: 696

المعنى الذي يستحيل عقلا اجتماع الوجوب والحرمة فيه ، كأن يكون المستفاد من الخطابات تعلّق التكاليف ابتداء بخصوص الأفراد ، فليس العرف حاكما في قبال العقل ، إلاّ أنّ استناد الامتناع إليه بواسطة أنّ موضوعه ممّا للعرف مدخل فيه ، ولو من حيث استفادة ذلك الموضوع من اللفظ.

قلت : إنّ وجه اختلاف المعنى اللغوي للمعنى العرفي ، إمّا الوضع الثانوي أو القرينة ، والأوّل معلوم العدم وظنّي أنّه لا يدّعيه المفصّل أيضا. والثاني إمّا أن يكون عقلا أو غيره من غلبة الاستعمال أو الوجود ممّا هو منشأ الاختلاف.

أمّا الأوّل : فلا نجد في العقل ما يقضي بأن يكون المستفاد من قول الشارع : « صلّ » و « لا تغصب » الموضوعين في اللغة لطلب طبيعة الصلاة والنهي عن طبيعة الغصب وجوب خصوص الفرد وحرمته حتّى يلزم المحذور ، فإنّ المفروض أن لا امتناع في ذلك ، فلا داعي للعقل في صرفه عن ظاهره. وعلى تقدير الامتناع فالوجه صرفه إلى معنى غير ممتنع ، لا إلى معنى أشدّ امتناعا من معناه الحقيقي ، كأن يحمل على الأفراد ، كما هو مقصود المفصّل.

وأمّا الثاني : فلا نعرف شيئا يقضي بأنّ المستفاد من الخطابات الشرعيّة غير مداليلها اللغويّة ، فضلا عن تعيين الأفراد حتّى يترتّب عليه التفصيل المذكور. فالحقّ أنّ ما ذكروه من قضاء العرف بالامتناع أعدل شاهد على أنّ اجتماع الوجوب والحرمة في مورد اجتماع الطبيعتين من الامور المستحيلة ؛ لما قد تقدّم من أنّ التخصيص لا يعقل بدون التعارض ، وهو عين الامتناع.

ثمّ إنّ ظاهر المفصّل هو ما قدّمنا دفعه من أنّ العرف حاكم بالامتناع في موضوع حكم العقل بالجواز ، ولذلك تعرّضنا لدفعه أوّلا ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد يورد على المجوّزين : اتّفاقهم على التعارض فيما إذا كان العموم من وجه بين متعلّقي الأمر والنهي ، كما في قولك : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق »

ص: 697

ويظهر ذلك بالرجوع إلى كلمات الفقهاء في الأبواب الفقهيّة والاصوليّين في باب التعادل والتراجيح ، مع أنّه لا يعقل فرق بين أن يكون العموم من وجه بين العنوانين في الأمر والنهي بملاحظة نفس المفهومين - كالغصب والصلاة - أو بملاحظة متعلّقهما كما في المثال المذكور.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بمثل ما ذكرنا في وجه التفصيل.

وحاصله : أنّ العرف وإن قلنا بأنّه لا يقضى بتعلّق الطلب في مثل قولك : « صلّ » و « لا تغصب » بالفرد ، إلاّ أنّه قاض بتعلّقه بالفرد في قولك : « أكرم العالم » ولعلّ السرّ في ذلك هو : أنّ الوجه في اختلاف المأمور به والمنهيّ عنه هو تعلّق المأمور به والمنهيّ عنه بالعالم والفاسق ، وهما في المثال المذكور لا يراد بهما مفهوم العالم والفاسق على وجه يكون ثبوت الحكم لزيد العالم باعتبار ثبوت هذا المفهوم لزيد ، بل « العالم » عنوان لزيد على وجه يكون زيد متعلّقا للحكم ابتداء من دون سراية ، فيؤول الأمر إلى اجتماع وجوب الإكرام لزيد وحرمته له بواسطة جهتين تعليليّتين ، وذلك ممّا اتّفق المجوّز والمانع على امتناعه.

وفيه : أنّ اعتبار العالم لأفراده على وجه يكون عنوانا لها من غير سراية ويكون الحكم ثابتا لزيد ابتداء يشبه أن يكون من سخيف الكلام ، فإنّ الظاهر أنّ وجوب إكرام زيد من حيث إنّه فرد من أفراد العالم ، والمفروض حصول طبيعة الفاسق فيه أيضا ، فيحرم إكرامه - كما هو مفاد النهي - فالقائل بالجواز يلزمه القول بالجواز في المقام أيضا ، لأنّ العالم والفاسق طبيعتان مختلفتان تعلّق بإحداهما الوجوب وبالاخرى الحرمة ، وقد اجتمعتا في فرد واحد ، فيجب إكرام إحداهما ويحرم إكرام الاخرى ، فلو فرض إكرام مورد الاجتماع كان بذلك عاصيا من جهة إكرام الفاسق ومطيعا من جهة إكرام العالم ، فلو كانت الجهتان تعليليّتين فلم لا نقول به في مثل الغصب والصلاة؟

ص: 698

فإن قلت : هب! أنّ العالم والفاسق مفهومان متغايران ، ولكن متعلّق الأمر والنهي واحد وهو الإكرام ، بخلاف « صلّ » و « لا تغصب » لاختلاف المتعلّقين فيهما.

قلت : إنّ المدار على الاختلاف في المعنى وإن اتّحد المتعلّقان في الصورة ، وهو حاصل في المقام ، فإنّ إضافة الإكرام إلى العالم والفاسق ونحوهما يوجب تنويع الإكرام إلى أفعال يصحّ تعلّق الأمر بأحدها والنهي بغيره ، كما يلاحظ في السجود المضاف إليه تعالى والسجود المضاف إلى الشمس ، وإلاّ فلا وجه للأمر والنهي في غير مورد الاجتماع أيضا ، مع أنّه لا كلام في صحّة الأمر بالإكرام بالنسبة إلى زيد العالم والنهي عنه بالنسبة إلى عمرو الفاسق ضرورة اشتراط اتّحاد الإضافة في التناقض.

فإن قلت : هب! أنّ الإضافة توجب اختلاف الإكرام ، لكن فرق بيّن بين اختلاف الصلاة والغصب وبين اختلاف الإكرامين بواسطة تعدّد الإضافة ، فإنّ مورد الاجتماع في الأوّل يوجد فيه فعلان مختلفان ، غاية الأمر أنّهما موجودان بوجود واحد ، ومورد الاجتماع في الثاني فعل واحد تعدّد إضافاته ، فالموجود والوجود في الثاني كلاهما واحد ، ولذلك لا يصحّ العطف فيه بالواو ، كأن يقال : إنّ المكلّف أوجد إكراما وإكراما ، كما يصحّ في الأوّل أن يقال : إنّه أوجد صلاة وغصبا ، فمرجع التغاير في الأوّل إلى التغاير الواقعي وفي الثاني إلى مغايرة اعتباريّة صرفة ، لا يصحّ فيها اجتماع حكمين متضادّين. ولعل السرّ في ذلك : أنّ الإكرام مثل السواد والبياض متعلّق بالموجودات الخارجيّة ابتداء ، فإنّ السواد الموجود في جسم واحد - كالعباء مثلا - لا يعدّ سوادان ، سواد الصوف وسواد العباء لو فرضنا اقتضاء كلّ واحد منهما السواد. ومن هنا يظهر وجه خروج المثال المذكور عن محلّ البحث أيضا.

ص: 699

قلت أوّلا : لا نسلّم أنّ اختلاف الإكرام بالإضافة لا يوجب اختلاف الماهيّة - كما عرفت في مثال السجود - بل التحقيق أنّ الإضافة توجب تنويع الإكرام ، كما يكشف عنه صحّة حمل إكرام العالم وإكرام الفاسق على الإكرام الموجود ، وهو ظاهر.

وثانيا : أنّ الوجه في ركاكة العطف ليس اتّحاد الحقيقة ، بل اتّحاد الصورة قاض به ، حيث إنّ ظاهر العطف هو تعدّد الوجود ، ولذا لو انضمّ إليه قرينة الاتّحاد لا يلزم محذور. وأمّا حديث السواد فالوجه فيه : أنّ السواد من عوارض الجسم مع عدم اعتبار خصوصيّاته في عروضه له وإن كانت واسطة في ثبوته للمورد ، إذ بدونها لا قوام لها حتّى يتّصف بالسواد ، ولو فرض أنّ كلّ واحد من الصوفيّة والعبائيّة يقتضي لعروض السواد في المحلّ فلا نسلّم أنّه ليس هناك سوادان موجودان بسواد واحد.

ومن هنا يظهر أنّ الأقوى دخوله في محلّ النزاع ، ويكون ذهاب المجوّز إلى التعارض فيه مبنيّا على تخيّله أنّ المستفاد منه في العرف غير المستفاد من قولك : « صلّ » و « لا تغصب » كما عرفت في وجه المفصّل ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه دعوى لا يساعد عليها ضرورة ولا بيّنة. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 700

هداية

بعد ما عرفت من امتناع اجتماع الواجب والحرام في مورد واحد في محلّ النزاع ، فهل الحكم في موارد اجتماعهما بحسب الظاهر هو الأخذ بالأمر والقول بعدم الحرمة أو العكس أو لا يحكم بشيء منهما والمرجع هو الأصل؟ وقد عرفت أوائل المبحث : أنّ الأصل يقتضي فساد الصلاة وإباحة الكون في المكان المغصوب حال الصلاة ، والملازمة الواقعيّة بين الإباحة والصحّة ممّا لا ينبغي مراعاتها بعد جواز التفكيك في الاصول الظاهريّة.

فنقول : إنّ ملاحظة الترجيح بحسب السند بين الروايتين اللتين يقتضيان الاجتماع موقوفة على ما قرّرنا في مباحث التعادل والتراجيح : من أنّ تعارض العامّين من وجه هل يمكن الأخذ فيه بالترجيح بحسب السند أم لا؟ وقد عرفت أنّ الأقوى الثاني ، لأنّ فيه تفكيكا لا يرتضيه العرف.

وأمّا الترجيح بحسب الدلالة ، فقيل : إنّه مرعيّ في المقام ، حيث إنّه يحكم بتقديم النهي في مورد الاجتماع ، لأنّ دلالة الأمر على مطلوبيّة محلّ الاجتماع بالإطلاق ودلالة النهي على مبغوضيّته بالعموم ، ولا شكّ أنّ العامّ أظهر من المطلق في استيعابه لأفراده.

ويمكن أن يقال : إنّ ملاحظة الترجيح في الدلالة يوجب المصير إلى أنّ مورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله وأطواره ، وهو يوجب فساد المورد بواسطة ارتفاع المطلوبيّة والأمر ولو حال الغفلة عن الحرمة ، وقد عرفت أنّ المانعين لا يلتزمون به.

ص: 701

وأمّا ملاحظة الترجيح بين المدلولين - كأن يؤخذ بالحرمة لكونها أسهل من الوجوب - فقد يظهر من بعضهم الأخذ بها في المقام من وجوه :

منها : ما عرفت من أنّ الحرمة لمكان كونها مستلزمة للترك أسهل من الوجوب.

وفيه : منه كونها أسهل ، ومنع جواز الأخذ بالأسهل على تقديره.

ومنها : ما تعارف بينهم من أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فالأخذ بالنهي أولى ؛ لأنّ في فعل المنهيّ عنه مفسدة.

وفيه - بعد الغضّ عن انحصار مصالح النهي في دفع المفسدة ومصالح الأمر في جلب المنفعة ، فإنّ ذلك يستلزم أن يكون ارتكاب معصية صغيرة بفعل المنهيّ عنه أشدّ من ترك أعظم الواجبات ، لأنّ في تركها لا منفعة وفي فعلها مفسدة ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة - أنّ ما نحن فيه ليس من موارد القاعدة لوجهين :

الأوّل : أنّها لا مسرح لها إلاّ في مورد يحكم فيه بالتخيير بعد عدم الأخذ بالترجيح ، مثل ما لو دار الأمر بين وجوب شيء في الشريعة وبين حرمته - كشرب التتن مثلا فيما لو فرض احتمال وجوبه - وما نحن فيه بعد عدم الترجيح لا وجه للأخذ بالتخيير ، لما عرفت من حكومة الأصل في موارد الشكّ من العامّين من وجه.

الثاني : أنّ من الظاهر أنّ القاعدة المذكورة إنّما يؤخذ بها فيما إذا كانت المنفعة والمصلحة متساويتين في ترتّبهما على الفعل والترك ، وليس كذلك فيما نحن بصدده ، فإنّ الوجوب المفروض في المقام ممّا يحصل المصلحة فيه بإتيان فرد آخر من الطبيعة الواجبة ، بخلاف الحرمة فإنّها عينيّة لا بدل لها.

لا يقال : إنّ ذلك يوجب تقديم الحرمة بوجه أولى.

لأنّا نقول : لسنا في صدد عدم تقديم الحرمة ، وإنّما ذلك منّا مناقشة في الطريق.

ص: 702

ومنها (1) : الاستقراء ، فإن الشارع قد رجّح احتمال الحرمة على الوجوب في موارد ملاحظتها توجب الظنّ باطّراده ، كأمر الحائض بترك الصلاة المردّد بين الوجوب والحرمة استظهارا (2) ، وكوجوب إهراق الإناءين في الشبهة المحصورة والأمر بالتيمّم لدوران الأمر بين الوضوء الواجب والحرام (3).

وفيه - بعد الغضّ عن حجيّة الاستقراء وعدم تحقّقه على تقدير حجّيته بملاحظة موردين بل وموارد - : أنّ الموردين المذكورين ليس الأمر فيهما على ما تخيّل من تقديم جانب الحرمة على الوجوب عند دوران الأمر بينهما.

وتوضيح ذلك لعلّه موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّ موارد ثبوت هذه القاعدة لا بدّ وأن يكون على وجه يعلم ولو بواسطة الدليل أنّ وجه التقديم هو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب حتّى يكون الموارد المشكوكة ملحقة بتلك الموارد بواسطة الغلبة - كما هو الشأن في جميع الموارد التي يدّعى فيها الاستقراء - إذ ما لم يعلم أنّ موارد الثبوت وجه التقديم فيها ذلك لا يصحّ الإلحاق بوجه ، فكيف بالموارد التي علم أنّ وجه التقديم فيها غيرها.

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الوجه في تقديم جانب الحرمة في مسألة الاستظهار ليس هو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب على القول به. وأمّا على القول باستحبابه فلا يدلّ على المدّعى بوجه ، إذ الاستظهار إمّا أن يقال به بعد أيّام العادة ، وإمّا أن يقال به قبل العادة كما في المبتدئة والمضطربة. أمّا الأوّل فالوجه فيه قاعدة الإمكان واستصحاب الحيض ونحوه المستدلّ عليها في مقامه ، وليس من

ص: 703


1- أي من وجوه الأخذ بالحرمة.
2- انظر الوسائل 2 : 559 ، الباب 14 من أبواب الحيض.
3- الوسائل 1 : 113 - 116 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 2 و 14.

القاعدة المذكورة فيه حظّ ونصيب ، ولذا لم يعوّل عليها من اعتمد على القول المذكور. وأمّا الثاني فالقائل بالوجوب أيضا يعتمد على قاعدة الإمكان ، كما أنّ غيره يعوّل على الاستصحاب.

وأمّا وجوب إهراق الماء فلا شهادة فيه على المدّعى ، أمّا على القول بأنّ الحرمة ليست ذاتيّة بل تشريعيّة فظاهر ، حيث إنّ التشريع يرتفع بالاحتياط. وأمّا على القول بالحرمة الذاتيّة فلأنّ المورد من موارد دوران الأمر بين الواجب والحرام (1) بواسطة اشتباه المكلّف به ، وليس من موارد الشكّ في التكليف ، والحكم فيه التخيير لا الترجيح ، فإنّ التخيير يوجب القطع بالموافقة ولو إجمالا وإن أوجب القطع بالمخالفة أيضا. بخلاف الترجيح ، فإنّ فيه موافقة احتماليّة ومخالفة احتماليّة ، والأوّل أولى. وفيه تأمّل ظاهر.

وبالجملة ، فالرواية دلّت على تقديم جانب الحرمة على الوجوب ولم يعلم منها أنّ الوجه في التقديم هو ترجيح جانب الحرمة ، بل المظنون أنّ وجه التقديم فيما نحن بصدده هو ثبوت البدل للوضوء وهو التيمّم ، كما أوضحنا سبيله في غير المقام.

والأوجه في المقام هو القول بأنّ النهي (2) في مادّة الاجتماع إنّما هو ناظر إلى جهة الترخيص الثابت بالأمر في الفعل ، ومع ذلك لا وجه للقول بتقديم الأمر ، فالنهي حاكم على الأمر. كذا أفاده ( دام ظلّه ).

ويمكن المناقشة فيه بما استفدنا منه في غير المقام : بأنّ ذلك يرجع إلى كون النهي إرشادا إلى ترك الفرد المجامع ، ولا يصحّ ذلك فيما يكون بين العنوانين عموم من وجه.

ص: 704


1- في ( ع ) : الوجوب والحرمة.
2- في ( ع ) زيادة : من الأمر.

هذا كلّه فيما إذا كان الأمر والنهي ظنّيين. وأمّا لو كان النهي قطعيّا كأن يكون ثابتا بالإجماع - ولو في مورد الأمر - فلا كلام في تقديم النهي. وأمّا القطعيّان فلا يعقل التعارض بينهما على القول بالامتناع ، وأمّا على القول بالجواز فلا تعارض أصلا.

ص: 705

ص: 706

هداية

اشارة

قد عرفت فيما تقدّم اعتبار المندوحة في حريم النزاع ، كما عرفت أنّ الوجه في ذلك هو دفع ما قد يتوهّم من أنّ الاجتماع يوجب التكليف بما لا يطاق ، حيث إنّه بعد اعتبار المندوحة لا وجه لذلك. نعم ، فيما ليس للمكلّف مندوحة يلزم ذلك ، كمن توسّط أرضا مغصوبة ، فإنّه مأمور بالخروج ومنهيّ عن الغصب ومنه الخروج المذكور ، ولا يمكن انفكاك جهتي الأمر والنهي ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ ذلك إمّا أن يكون بتوسّط المكلّف وسوء اختياره أو لا يكون.

لا إشكال في امتناع التكليفين فيما إذا لم يكن الوجه في عدم الانفكاك هو التكليف على قواعد العدليّة ، لا بواسطة أنّه تكليف بالمحال ، بل بواسطة استحالة وجود التكليفين الراجعين عند العدليّة إلى الإرادة والكراهة.

وأمّا إذا كان الوجه في الانحصار وعدم الانفكاك هو المكلّف ، فالأقوال فيه ثلاثة :

فقيل بالجواز ، وهو المحكيّ عن أبي هاشم على ما نسب إليه العلاّمة ، حيث أفاد في محكيّ النهاية : أطبق العقلاء كافّة على تخطئة أبي هاشم في قوله بأنّ الخروج تصرّف في المغصوب فيكون معصية فلا تصحّ الصلاة وهو خارج سواء تضيّق الوقت أم لا (1).

واختاره المحقّق القمّي رحمه اللّه ناسبا له إلى أكثر أفاضل متأخّري أصحابنا وظاهر

ص: 707


1- نهاية الوصول : 117.

الفقهاء (1). والوجه في النسبة المذكورة هو قولهم (2) بوجوب الحجّ على المستطيع وإن فاتت استطاعته الشرعيّة.

وأنت خبير بعدم دلالته على المطلب ؛ حيث إنّ وجوب الحجّ بدون الاستطاعة الشرعيّة عند التأخير عن زمن الاستطاعة ليس تكليفا بما لا يطاق ، لكفاية الاستطاعة العقليّة في دفعه. ويكفي في فساد النسبة المذكورة ذهاب المشهور من أصحابنا إلى عدم جواز الاجتماع فيما فيه المندوحة ، فكيف فيما ليس فيه مندوحة!

وقيل بالعدم ، وهم بين قولين : فقيل بأنّه منهيّ عنه وليس بمأمور به (3). وقيل بالعكس مع جريان حكم المعصية عليه ، وهو المحكيّ عن الفخر الرازي (4) وجنح إليه بعض المتأخّرين (5). وقيل بأنّه مأمور به فقط وليس يجري عليه حكم المعصية أيضا ، وقد نسبه بعضهم إلى قوم (6) ، ولعلّه الظاهر من العضدي كالحاجبي (7) حيث اقتصرا على كونه مأمورا به فقط.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة (8) ذهب إلى أنّه مأمور به ولكنّه معصية بالنظر إلى النهي السابق ، وعليه حمل الكلام المنقول من الفخر الرازي.

ص: 708


1- القوانين 1 : 153.
2- انظر القواعد 1 : 229 ، والشرائع 1 : 228 ، والدروس 1 : 316.
3- راجع نهاية الوصول : 117 ، والمدارك 3 : 117 ، وضوابط الاصول : 151.
4- حكاه المحقّق القمّي في القوانين 1 : 154.
5- الظاهر أنّ المراد به هو صاحب الفصول.
6- نسبه صاحب الفصول في الفصول : 138.
7- انظر شرح مختصر الاصول : 94.
8- وهو صاحب الفصول في الفصول : 138.

والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيّا عنه ، ولا يفترق فيه النهي السابق واللاحق. ولعلّه ظاهر الفقهاء حيث حكموا بصحّة الصلاة في حال الخروج ، كما عرفت في كلام العلاّمة (1). وقد صرّح صاحب المدارك : بعدم كون الخروج معصية وأنّ القول بجريان حكم المعصية عليه غلط صدر عن بعض الاصوليّين (2). وقد عرفت ما نقلنا من كلام السيّد في الذريعة : فإنّه صريح في كون الخروج بنيّة التخلّص مأمورا به ، وكذا المجامع زانيا له الحركة بقصد التخلّص دون غيره (3).

لنا على كون الخروج مأمورا به : أنّ التخلّص عن الغصب واجب عقلا وشرعا ولا شكّ أنّ الخروج تخلّص عنه بل لا سبيل إليه إلاّ بالخروج فيكون واجبا على وجه العينيّة ، وعلى عدم كونه منهيّا عنه : ما ستعرف في تزييف احتجاج الأقوال المذكورة.

حجّة القول بكونه مأمورا به ومنهيّا عنه :

هو أنّ المقتضي - وهو إطلاق الأدلّة الدالّة على حرمة الغصب ووجوب التخلّص عنه - موجود ولا مانع منه ، لأنّ المانع إمّا اجتماع الضدّين أو التكليف بما لا يطاق ، وشيء منهما لا يصلح لذلك.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من إجداء الجهتين في اجتماعهما.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا نسلّم بطلان التكليف بما لا يطاق فيما إذا كان المكلّف سببا له ، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار (4).

ص: 709


1- راجع الصفحة 707.
2- المدارك 3 : 219.
3- راجع الصفحة 610.
4- القوانين 1153 - 154.

وفيه : أنّ كلّ واحد من المانعين موجود.

أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت من أنّ تعدّد الجهة غير مجد.

وأمّا الثاني ؛ فلإطباق العقلاء كافّة على تخطئة من يكلّف عبده بالخروج وعدمه ، بل هو منسوب إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، من غير فرق بين أن يكون الوجه في ذلك هو المكلّف أو غيره ، كما يشهد بذلك حسن الذمّ على التكليف من غير توقّف على استعلام الوجه في ذلك من أنّ المكلّف هو السبب في امتناع الفعل أو غيره ، وهو ظاهر.

وأمّا القضيّة المشهورة : من أنّ « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » فليست واردة في مقام صحّة التكليف عند امتناع الفعل بواسطة الاختيار ، كما أوردها المستدلّ (1) ، بل الإنصاف أنّ هذه القضيّة كقولهم : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار » مسوقة في مقام الردّ على أهل الجبر ، حيث إنّهم زعموا أنّ وجود العلّة التامّة للفعل يوجب ارتفاع الاختيار ومع عدمها يمتنع وجوده. فأجاب العدليّة عن ذلك : بأنّ الاختيار من جملة أجزاء العلّة التامّة لوجود الفعل وبذلك يصير الفعل اختياريّا فإنّ للاختيار مدخلا في وجوده (2) ؛ ولذلك أردفها بعضهم بقوله : « بل يؤكّده » (3) فمفاد تلك القضيّة هو : أنّ الاختيار السابق الذي يصير سببا لامتناع الفعل يكفي في كون الفعل الممتنع اختياريّا بمعنى جواز اللوم على تركه أو المدح عليه ، وأين من ذلك أنّ بعد اتّصافه بالامتناع بواسطة الاختيار يصحّ تعلّق التكليف به لكونه اختياريّا؟

ص: 710


1- القوانين 153 - 154.
2- انظر كشف المراد : 308 - 309 ، وشرح تجريد العقائد للقوشجي : 341.
3- لم نعثر عليه.

لا يقال : ليس شرط صحّة التكليف إلاّ استناد الفعل إلى الاختيار على وجه يقال : إنّ الفعل اختياريّ.

لأنّا نقول : إنّ الوجه في الشرط المذكور هو العقل ، ولا ريب أنّ المعتبر عند العقل في الشرط المذكور هو كون الفعل بحيث يمكن صدوره من المكلّف. وأمّا صحّة إطلاق الاختياري على الفعل بواسطة الاختيار السابق فممّا لا مسرح له في صحّة التكليف ، ولعمري! أنّ ذلك إنّما هو في منار ، ولقد أبسطنا القول في تحقيق ذلك في بعض المباحث المتقدّمة.

وقد يورد عليه : بمنع المقتضي ، فإنّ الخروج أخصّ من الغصب في مورد الأمر ، فلا بدّ من تخصيص الغصب بالخروج.

وفيه ما أشار إليه قدس سره بقوله : من أنّ الخروج ليس بمأمور به من حيث إنّه خروج بل لأنّه تخلّص عن الغصب. كما أنّ الكون في الدار المغصوبة ليس حراما إلاّ من جهة أنّه غصب ، والنسبة بين الغصب والخروج عموم من وجه. والظاهر أنّ ذلك الأمر قد استفيد من جهة كونه من مقدّمات ترك الغصب الواجب ، ومقدّمة الترك أعمّ من الخروج وإن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة ، فإنّ الظاهر أنّ العامّ الذي أفراده الموجودة منحصرة في فرد بحسب العادة - بل في نفس الأمر أيضا - لا يخرج عن كونه عامّا في باب التعارض ، فلو فرض ورود أمر بالخروج أيضا بالخصوص فالظاهر أنّه من جهة أنّه الفرد الغالب الموجود ، لإمكان التخلّص بوجه آخر ، إمّا بأن يحمله غيره على ظهره ويخرجه من دون اختياره أو غير ذلك (1) ، فليضبط فإنّه فائدة جليلة لم أقف على تصريح بها في كلامهم (2).

ص: 711


1- في ( ع ) زيادة : كأن ينقل إليه بناقل شرعي كالهبة والصلح والبيع.
2- القوانين 1 : 154.

واعترض عليه في الإشارات أوّلا : بأنّ معاملة العموم من وجه في باب التعارض مع ما كان أفراده النفس الأمريّة منحصرة في الفرد ممّا لا وجه له ، فإنّ العام إذا كان منحصرا أفراده في الواقع في الفرد فالمراد منه ومتعلّق الخطاب إنّما هو ذلك الفرد. ومثله ما إذا انحصر في الفرد بحسب العادة ، فإنّ العادة مخصّصة - كما سيأتي - فلا يراد منه إلاّ الفرد العادي ، فلا وجه لمعاملة العموم معه في التعارض ، على أنّ معاملة العموم للوازمه ، وعمدتها قبول التخصيص ، فبانسلاخ لازمه عنه - كما فيهما - يرتفع فائدة التخصيص فيرتفع فائدة العموم في التعارض ، بل في العرف ليس مثله عامّا لعدم الاستغراق فيه عرفا بالفعل ، وعليه المدار.

وثانيا : بأنّ بفرض الانحصار العادي يرتفع إمكان التخلّص بفرد آخر كما مرّ ، إلاّ أن يكون ذلك الفرد أيضا عاديّا وهو خلاف الفرض ، مع أنّ الحمل إمّا بالاختيار أو بدونه ، والثاني خارج عن الأمر قطعا ، والأوّل لا يختلف النسبة به بالتدبّر ، بل يكون من الأفراد العاديّة.

وثالثا : بأنّ التصريح من القوم بالفائدة المذكورة موجود ، إلاّ أنّه يؤذن بخلاف ما ذكره (1) انتهى.

ويمكن أن يذبّ عن الاعتراض : بأنّ ملاحظة انحصار أفراد العامّ في مورد الاجتماع إنّما يجدي فيما لو قيل بالتعارض بين مفاد العامّين ، إذ على ذلك يجب التخصيص بغير ذلك المورد لئلاّ يلزم خلوّ ذلك العامّ المنحصر أفراده عن الفائدة. وهذا هو الذي يوجد عليه التصريح في كلامهم. وهو غير مؤذن بخلاف ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه حيث إنّه ذهب إلى أنّه لا معارضة بين مفاد العامّين ، لإجداء الجهتين في الجمع بين الأمر والنهي. ولا ريب أنّ المدار في تعدّد الجهة إنّما هو المفهوم ، فإنّه متعلّق الأمر والنهي ، والأفراد خارجة عن ذلك بأسرها.

ص: 712


1- إشارات الاصول : 114.

وبالجملة ، فما أجاب عنه إنّما هو متوجّه بناء على ما ذهب إليه من جواز الاجتماع ؛ لما عرفت من أنّ المناط في ذلك هو تعدّد العنوان ، والمفروض حصوله في المقام.

وأمّا ما قد عرفت من تقييدهم محلّ التشاجر بما إذا لم ينحصر أفراد أحد العامّين في الآخر ، فهو بواسطة تخليص البحث عن لزوم التكليف بما لا يطاق. وهذا أيضا ممّا لا ضير فيه عنده إذا كان الوجه فيه هو المكلّف ، كما عرفت.

فالإنصاف : أنّ الوجوه المذكورة ممّا لا مساس لها بكلامه ، إلاّ أنّه بعد مطالب بالفرق بين الموارد التي يحكم بالتعارض في صورة الانحصار ، كما إذا كان العموم من وجه بين عنواني الأمر والنهي بقوله : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفاسق » وبين الموارد التي لا يحكم فيها بالتعارض ، كما إذا اعتبر العموم من وجه بين العنوانين. كما أنّ غيره أيضا مطالب بالفرق المذكور ، كما تقدّم.

حجّة القول بكونه منهيّا عنه غير مأمور به :

كما يظهر عن بعض الأفاضل في الإشارات (1) ، أمّا على كونه منهيّا عنه : فلأنّ الخروج تصرّف في ملك الغير وهو غصب عند عدم الإذن ، وهو منهيّ عنه. وأمّا على كونه غير مأمور به : فلأنّ الواجب هو عدم التصرّف ، والخروج إنّما هو مقدّمة له ، فهي ليست بواجبة.

والجواب عنه : أنّ عدم التصرّف بعد فرض انحصار مقدّمته في الخروج المحرّم لا يعقل وجوبه لكونه تكليفا بالمحال.

واحتجّ بعض الأجلّة على ما صار إليه : من أنّ الخروج مأمور به بالنسبة إلى الأمر اللاحق مع جريان حكم النهي السابق عليه ، فيكون معصية. وقد عرفت

ص: 713


1- إشارات الاصول : 114.

سابقا (1) حسبانه رجوع كلام الفخر الرازي إليه بقوله : أنّ المكلّف في الزمن الذي لا يتمكّن من الخروج فيما دونه لا يتمكّن من ترك الغصب فيه مطلقا ، فلا يصحّ النهي عنه مطلقا ، لأنّ التكليف بالمحال محال عندنا وإن كان ناشئا من قبل المكلّف ، للقطع بكونه سفها. نعم ، يجري عليه حكم المعصية في تلك المدّة على تقدير الخروج بالنسبة إلى النهي السابق على وقوع السبب - أعني الدخول - لتمكّنه منه حينئذ.

وهذا حكم كلّي جار في جميع ذوات الأسباب التي لا يقارن حصولها حصول أسبابها كالقتل المستند إلى الإلقاء من الشاهق. ومثله ترك الحجّ عند الإتيان بما يوجبه من ترك المسير ، وغير ذلك ، فإنّ التحقيق في مثل ذلك أنّ التكليف بالفعل يرتفع عند ارتفاع تمكّن المكلّف منه ، ويبقى حكم المعصية من استحقاق الذمّ والعقاب جاريا عليه (2).

ثمّ أورد على ما أفاده سؤالا في آخر المبحث : بأنّه لو صحّ ذلك لزم أن يكون الخروج إطاعة ومعصية ، وهو محال.

وأجاب عن ذلك : بأنّه لا ضير فيه عند عدم اجتماعهما في الزمان ، فإنّ الخروج معصية قبل الدخول وطاعة بعده.

وقال في توضيح ذلك : إنّ ترك الغصب مراد من المكلّف بجميع أنحائه التي يتمكّن من تركه إرادة فعليّة مشروطا بقاؤها ببقاء تمكّنه منه ، وحيث إنّه قبل الدخول يتمكّن من ترك الغصب بجميع أنحائه دخولا وخروجا ، فترك الجميع مراد منه قبل دخوله ، فإذا دخل ارتفع تمكّنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما يتوقّف التخلّص عليه ، وهو مقدار خروجه مثلا ، فيمتنع بقاء إرادة تركه كذلك ، وقضيّة

ص: 714


1- انظر الصفحة 708.
2- الفصول : 138.

ذلك أن لا يكون بعض أنحاء تركه حينئذ مطلوبا ، فيصحّ أن يتّصف بالوجوب لخلوّه عن المنافي ، والعقل والنقل قد تعاضدا على أن ليس ذلك إلاّ التصرّف بالخروج ، فيكون للخروج بالقياس إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادّان : أحدهما مطلق وهو النهي عن الخروج ، والآخر مشروط بالدخول وهو الأمر به ، وهما غير مجتمعين فيه ليلزم الجمع بين الضدّين ، بل يتّصف بكلّ.

ثمّ استدلّ على عدم التنافي بين الحكمين : بجواز وقوع البداء في حقّنا ، إذ لا يجوّزه إلاّ اختلاف الزمان.

ثمّ قال : ولا يشكل بانتفاء الموصوف في الزمن السابق ، لوجوده في علم العالم ولو بوجهه ، ولو لا ذلك لامتنع تحقّق الطلب إلاّ مع تحقّق موضوعه في الخارج ، وهو محال (1) ، انتهى ما أفاده قدس سره.

أقول : أمّا ما ذكره في الاحتجاج على كون الخروج مأمورا به - مطابقا لما ذكرناه في الاحتجاج على المختار - فهو كلام صحيح لا غبار عليه بجميع جزئيّاته ، سيّما منعه عن التكليف بالمحال مطلقا ، من دون تفصيل بين أن يكون المكلّف هو السبب في الامتناع أو غيره ، كما يقتضيه قواعد العدليّة.

والعجب من بعض المحقّقين - كسلطان العلماء - كيف اختفى ذلك على مثله! مع طول باعه في التحقيق. وأعجب من ذلك استناده فيه إلى دعوى لا يساعدها العرف والعقل من أنّ هذه الأوامر مرجعها إلى الإرشاد إلى وجود المصالح والمفاسد في نفس الأشياء مثل أوامر الطبيب ونواهيه ، من دون أن يكون هناك طلب حقيقيّ مثل وجوده في أوامر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم ، وقد أشرنا إلى فساده في المباحث السابقة.

ص: 715


1- الفصول : 139.

وأمّا ما ذكره : من جريان حكم النهي السابق على الخروج فيكون معصية بواسطة النهي (1) ، فهو كلام مختلّ النظام :

أمّا أوّلا : فلأنّ التصرّف في مال الغير ليس من العناوين التي لا يتبدّل حكمها بلحوق العناوين اللاحقة للأفعال ، ضرورة اتّصافه بالوجوب عند لحوق عنوان حفظ النفس مثلا بالتصرّف المذكور ، فيمكن أن يلحق بالتصرّف عنوان يكون ذلك العنوان مناطا لاختلاف حكم التصرّف المذكور ، مثل كونه تخلّصا عن الغصب على وجه الانحصار ، ولا شكّ أنّ موضوع التخلّص عن الغصب ممّا لا يختلف حكمه بعد الدخول وقبله وإن توقّف وجود الخروج في الخارج على الدخول بواسطة ترتيب طبيعي بين الدخول والخروج ، ومثل هذا التوقّف الوجودي لا يعقل أن يكون منشأ لاختلاف حكم ذلك الموقوف ، إذ الحكم تابع لعنوان ينتزع من ذات الفعل تارة بالذات واخرى بواسطة الاعتبارات عند وجوده في الخارج لكونه موردا للحسن والقبح ، ولا مدخل للامور التي يتوقّف وجود العنوان عليها في ذلك ، كما هو ظاهر على من له مسكة بالمطالب.

وإذ قد عرفت ذلك نقول : إنّ الحركات الواقعة في ملك الغير تارة تكون معنونة بعنوان الغصب ، واخرى معنونة بعنوان التخلّص عن الغصب. فعلى الأوّل يكون الأمر المعلوم المتصوّر عند الآمر هو الغصب فيلحقه طلبه على وجه النهي عنه ، وعلى الثاني يكون المتصوّر عنده هو التخلّص فيلحقه طلبه على وجه الأمر به من غير مداخلة لأحد العنوانين والمتصوّرين في الآخر ، فالغصب مبغوض دائما والتخلّص مطلوب من غير فرق بين قبل الدخول وبعده ، فلو فرضنا لحوق حكم النهي به يلزم أن يكون موضوع التخلّص طاعة ومعصية ، وهو محال.

ص: 716


1- لم نعثر عليه في حاشية المعالم في المبحث ، نعم يوجد في مبحث المقدّمة ذيل قول المصنّف : « بعد القطع ببقاء الوجوب » ما يفيد ذلك.

وأمّا ما استند إليه في دفع ذلك من اختلاف الزمان ، ففيه خبط ظاهر لا يليق بأرباب النظر ، فكيف بمن هو بمنزلة ربّهم! فإنّ اختلاف الزمان إنّما يجدي في دفع التناقض فيما إذا كانت القضيّة السالبة واقعة في أحدهما والموجبة في الآخر ، مثل قولك : « زيد قائم أمس ، وليس بقائم في الغد » وأمّا إذا كان الزمان على وجه لو اعتبر في الفعل يصير عنوان الفعل مغايرا للعنوان الذي كان وجها للفعل وعنوانا له ، فلا يعقل أن يكون اختلاف الزمان في مثله رافعا للتناقض.

وتوضيحه : أنّ الحركات الواقعة في دار الغير وملكه ، في نفسها لا يلحقها حكم من الأحكام التكليفيّة ، كما هو الشأن في جميع الكلّيات التي يختلف أحكام أنواعها. نعم ، لو لوحظت على وجه الغصبيّة يتّصف بالحرمة ولو وقعت على وجه التخلّص عن الغصب يتّصف بالوجوب ، ولا مدخل للزمان فيما ذكرنا إلاّ في وجود (1) عنوان الواجب في الخارج ، فإنّ الحركة الخروجيّة لا توجد في نفس الأمر إلاّ بعد وجود الحركة الدخوليّة ، فالبعديّة إنّما تؤثّر في وجود عنوان الواجب وحصول موضوعه في الخارج ، وأين ذلك من الزمان الذي يؤخذ ظرفا لوقوع النسبة في القضيّة؟

وأمّا ما أفاد في التوضيح من أنّ جميع أنحاء الغصب مطلوب الترك ، ففيه : أنّه إن اريد من « أنحاء الغصب » جميع الحركات الواقعة في العين المغصوبة مع قطع النظر عن الوجوه اللاحقة لها التي تصير وجها في اختلاف أحكامها ، فمجال المنع فيما ذكره واسع. وإن اريد أنّ أنحاء الغصب على وجه الغصبيّة فهو سديد ، لكنّه غير مفيد ؛ لأنّ الكلام في الحركة التي تقع على وجه التخلّص. وإن اريد ما يعمّ الحركة الخروجيّة على وجه التخلّص فلا نسلّم أنّ الغصب في هذا النحو من وجوده مطلوب الترك ، بل العقل والنقل - على ما اعترف به - قد تعاضدا على كونه مطلوب الفعل.

ص: 717


1- لم يرد « وجود » في ( ع ) ، ( ط ).

وبالجملة ، فالذي هو مطلوب الترك قبل الدخول هو ليس عنوان الخروج ، بل هو الحركة لا على وجه التخلّص وهو مطلوب الترك بعد الدخول أيضا ، والذي هو مطلوب الفعل هو عنوان التخلّص وهو مطلوب قبل الدخول وبعده أيضا ، وذلك لا يوجب مطلوبيّة الدخول ، كما ستعرف.

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا أنّ اختلاف الزمان يجدي في دفع التناقض والتنافي في المقام ، نقول : إنّه قد قرّر في محلّه من أنّ اختلاف نفس الزمان من دون أن يكون رجوعه إلى اختلاف عنوان الفعل لا يصلح لأن يكون وجها لتعلّق الأمر والنهي بالشيء الواحد الشخصي ، فإنّ الحركة الخروجيّة لو لم تكن في الزمان الثاني عنوانها مغايرا لعنوانها في الزمان الأوّل - كالشيء الواحد الشخصي - لا يعقل توارد الأمر والنهي عليه ، كما نبّهوا على ذلك في مسألة عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلأنّ القول بإجداء اختلاف الزمان ينافي ما هو بصدده من إجراء حكم النهي السابق عليه ، كيف! وقد فرض اختصاص النهي بالزمان السابق ، فلو فرض أنّ شرب الخمر كان في الأمس حراما لا وجه لإجراء حكم نهيه في اليوم أو في الغد.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ القول المذكور ساقط جدّا لما عرفت ؛ مضافا إلى أنّ استفادة الحكم المذكور من الدليل اللفظي الدالّ على حرمة الغصب مثل قولك : « لا تغصب » لا يخلو عن إشكال ، فإنّه يدلّ بعمومه على تحريم جميع أفراد الغصب في مرتبة واحدة. وأمّا الترتيب المذكور فممّا لا يعقل طريق استفادته من الدليل المذكور.

فإن قلت : ما ذكرت يوجب أن يكون الدخول واجبا لكونه من مقدّمات الخروج الواجب ، ولو قيل بأنّ الخروج إنّما يجب بعد الدخول فيكون وجوبه

ص: 718

مشروطا بالدخول ولا يجب المقدّمة الوجوبيّة - كما قرّر قبل - فيتمّ ما ذكره المستدلّ من عدم الوجوب قبل الدخول ومن وجوبه بعده.

قلت : القول بوجوب الخروج بعد الدخول لا يوجب المصير إلى ما ذهب إليه المستدلّ من تعلّق النهي بالخروج قبل الدخول والأمر به بعده وجريان حكم النهي عليه ، فإنّ غاية ما في الباب هو أنّه يلزم أن يكون الحركة الواقعة حال الخروج وجوبها مشروطا بلحوق عنوان بها لا يتحقّق ذلك العنوان إلاّ بعد الدخول. وما ذكرنا حكم كلّي يجري في جميع الموارد التي يدور الأمر فيها بين القبيح والأقبح ، فإنّه يجب حينئذ ارتكاب القبيح على وجه التنجّز (1) مطلقا عند الابتلاء من دون شائبة النهي.

نعم ، يصحّ النهي عن جعل الشخص نفسه مضطرا إلى ارتكاب القبيح عند الدوران وإن كان واجبا بعده ولو بواسطة سوء اختياره ، فالنهي عند التحقيق متوجّه إلى الأسباب الموجبة للاضطرار إلى ارتكاب القبيح ، لعدم معقوليّة النهي عن ارتكاب القبيح بعد ما يصير دافعا للأقبح.

ونظير ذلك في الأوامر ، فإنّه ربما لا يمكن الأمر بشيء ابتداء فيتعلّق الأمر بمقدّمته ثمّ يتعلّق بعد ذلك بذيها ، وذلك كما لو قلنا بعدم تكليف الغافل الصرف إلاّ بعد العلم التفصيلي ، فإنّ الآمر لو حاول طلب شيء منه يجب عليه أوّلا أن يطلب منه تحصيل العلم حتّى يتوجّه إليه التكليف بذي المقدّمة. ومن هنا ذهب جماعة إلى أنّ المكلّف المقصّر إنّما يعاقب على ترك تحصيل العلم (2).

ص: 719


1- في ( ع ) و ( م ) : التخيير.
2- منهم الأردبيلي في مجمع الفائدة 2 : 110 ، والسيّد العاملي في المدارك 2 : 345.

وإلى ما ذكرنا ربما يشير بعض الأخبار من المنع عن المسافرة إلى البلاد التي لا يتمكّن المسافر فيها على أداء أحكام الإسلام (1). وعلى ذلك قد استقرّ آراء العقلاء في امور معاشهم ، فيعاقبون على التسبيبات المذكورة معادلا لما يترتّب على نفس المسبّبات المحرّمة.

ولعلّ حمل كلام الرازي على ما ذكرنا أولى ممّا حمل عليه المستدلّ ؛ لما عرفت من فساده جدّا. كما أنّه يحتمل أن يكون ذلك مراد من قال بارتفاع التكليف خطابا ووجوده عقابا (2) ، فإنّ العقاب على التكليف الذي يمتنع ثبوته قبيح ، فلا بدّ من أن يكون المراد منه هو العقاب على التسبيب المذكور.

ونظير ما ذكرنا في المقام ما ربما يقال في بعض المغالطات : من أنّه لو فرض أنّ وجود زيد يوجب محالا - وهو حماريّة عمرو - وعدمه أيضا يوجب ذلك المحال ، فلو ردّد الأمر بينهما فبأيّهما ينبغي أن يؤخذ؟ وجوابه : أنّه لا يمكن الفرض المذكور ، فلا نسلّم إمكان استلزام وجود الشيء وعدمه المحال المذكور.

والحاصل : أنّ مرجع النفي في القضيّة ليس إلى الوجود والعدم أو إليهما حتّى يلزم على الأوّل والثاني المحال ، وعلى الثالث ارتفاع النقيضين ، بل مرجعه إلى نفي التوصيف والتفكيك بين الصفة والموصوف ونفي الاتّصاف ، فلا يلزم شيء من المحاذير ، كما لا يخفى على من لاحظ وتدبّر.

وبمثل ما ذكرنا بنى العلاّمة في المختلف في ردّ الشيخ في لباس المصلّي إذا كان نجسا ، فلاحظ وتأمّل (3).

ص: 720


1- الوسائل 8 : 249 ، الباب الأول من أبواب آداب السفر إلى الحج ، الحديث 5.
2- قاله السيّد الأعرجي في الوافي : 254 - 255.
3- انظر المختلف 1 : 487 - 488.

ثمّ إنّ ما أفاده : من أنّ النهي عن التصرّف في ملك الغير على وجه الإطلاق والأمر به مشروط بالدخول ، لا يخلو عن تناقض ، فإنّ النهي على جميع التقادير ينافي الأمر على تقدير خاصّ.

ثمّ إنّه يظهر منه التردّد في صحّة صلاة النافلة حين الخروج ، حيث قال : وعلى مذهب المختار هل يصحّ منه الصلاة المندوبة وما بحكمها موميا حال الخروج؟ وجهان : من ارتفاع الخروج في تلك المدّة ، ومن أنّها كانت مطلوبة العدم (1) ، ثمّ اختار الصحّة.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه للقول بالصحّة على مذاقه ، فإنّ زمان الخروج زمان المعصية فعلا وإن كان زمان النهي سابقا ، كما ستعرف.

وثانيا : لا نعلم وجها لإفراد الصلاة المندوبة بالبحث بعد ما عرفت من أنّ المناط في الصحّة والبطلان على النهي وعدمه ، فلو قلنا بأنّ زمن الخروج ممّا (2) لا يتعلّق بالمكلّف نهي وليس أيضا زمان المعصية فالصلاة صحيحة سواء كانت واجبة أو مندوبة في سعة الوقت أو في ضيقه إذا لم تكن الصلاة في الدار المغصوبة حال السعة مستلزمة لزيادة التصرّف مثلا ، فالتقييد بالضيق في كلامهم بواسطة أنّ إيجاد الصلاة في السعة فيها يوجب زيادة التصرّف لو كان المقصود إيجادها مشتملة على أجزائها وشرائطها الاختياريّة ، وذلك ظاهر في الغاية.

ص: 721


1- الفصول : 139.
2- في ( ع ) : بأنّ في زمن الخروج لا يتعلّق.

خاتمة

قد عرفت في الهداية السابقة ذهاب المشهور إلى القول بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة حال الخروج (1).

وقد يتوهّم التنافي بين ذلك وبين ما يظهر منهم في مسألة الجاهل بحكم الغصب في الشريعة مع تقصيره في التعلّم ، حيث حكموا ببطلان عمله (2) ولو حين الغفلة عمّا علم به إجمالا في أوّل الأمر أو عند عدم تمكّنه من التعلّم مع ارتفاع النهي عنه حال الغفلة وعدم التمكّن ، فلو كان المدار في صحّة العبادة ارتفاع النهي فلم لا يحكمون بها في الجاهل المزبور؟ وإن كان ارتفاع النهي لا يجدي في الصحّة فلم حكموا بها في الصلاة حال الخروج؟

ويمكن دفع التنافي بإبداء الفارق بين المقامين ؛ فإنّ الوجه في الحكم بالصحّة هو ما عرفت : من كون الخروج على وجه التخلّص مأمورا به فقط ، فلا مانع من الصحّة. والوجه في الحكم بالفساد في مسألة الجاهل هو : أنّ زمان الفعل زمان المعصية ، وكما لا يجوز الأمر بالفعل حال وجود النهي فكذا لا يجوز الأمر حال صدق المعصية وإن كان النهي مرتفعا ، فالحكم بالصحّة فيما تقدّم ليس منوطا بارتفاع النهي فقط ، بل لعدم صدق العصيان في تلك الحالة مدخل في الصحّة ، فلا منافاة بين المقامين.

ص: 722


1- راجع الصفحة 709.
2- انظر الشرائع 1 : 71 ، والقواعد 1 : 258.

ونظير الحكم بالفساد إنّما يتمشّى فيما إذا ورد نهي عن الارتماس في قليب ، فإنّ المكلّف بعد ما ألقى نفسه في القليب وحصل له الاضطرار ارتفع النهي قطعا ومع ذلك لا يصحّ منه الغسل ، لأنّ الغسل يقع منه في زمان يتحقّق فيه المعصية وإن كان النهي مرتفعا.

وهكذا الأمر في كلّ الأفعال ، فإنّ التكليف ينقطع بعد اتّصاف الفعل بالوجوب والامتناع بواسطة الاختيار - على ما عرفت - وإن كان ذلك الامتناع والوجوب مؤكّدا للاختيار الذي هو شرط في الأفعال الاختياريّة المتعلّقة للتكاليف الشرعيّة.

وقد يذكر في مقام الفرق وجوه لا محصّل لها ، والاعتماد على ما قلنا. واللّه المعتمد في الامور كلّها ، واللّه العالم.

ص: 723

ص: 724

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في اقتضاء النهي للفساد فيما إذا تعلّق بشيء

اشارة

ص: 725

ص: 726

وتحقيق البحث في طيّ هدايات :

هداية

في تقديم امور لعلّها تنفع في توضيح المطلوب :

الأوّل : قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة على وجه التفصيل ، ومحصّله هو : أنّ المسئول عنه في تلك المسألة هو إمكان اجتماع هذين النحوين من الطلب في مورد واحد وامتناعه ، والمسئول عنه في هذه المسألة هو ثبوت الملازمة بين تعلّق النهي بشيء وبين فساد ذلك الشيء.

نعم ، على القول بامتناع الاجتماع لا بدّ من القول باقتضاء الفساد ، وذلك لا يوجب اتّحاد العنوانين ولا إغناء أحد البحثين عن الآخر ، كيف! واقتضاء النهي الفساد أو جواز اجتماع الأمر والنهي مفهومان مختلفان لا ارتباط لأحدهما بالآخر.

ويظهر ما ذكرنا بملاحظة الفساد في المعاملات ، إذ لا فرق في اقتضاء النهي الفساد بالنسبة إلى العبادات والمعاملات ، فإنّ ذلك على تقدير التعميم بواسطة جهة مطّردة فيهما.

وحينئذ لا حاجة إلى تكلّف الفرق بينهما ، تارة : باختصاص الاولى بما إذا كان بين متعلّق الأمر والنهي عموم من وجه - كما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه (1) - واخرى : باختصاص الثانية بما إذا كان المنهيّ عنه عين المأمور به في العنوان ، كما إذا قيل : « صلّ ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة » كما أفاده غيره ؛ فإنّ الاختلاف الموردي

ص: 727


1- القوانين 1 : 155.

لا يصير سببا لاختلاف المسألتين بعد اتّحاد جهة البحث فيهما. نعم ، ذلك يوجب أن يكون الموردان قسمين من مسألة واحدة. وذلك ظاهر في الغاية.

ومن هنا يظهر أنّ المسألة لا ينبغي أن تعدّ من مباحث الألفاظ ، فإنّ هذه الملازمة على تقدير ثبوتها إنّما هي موجودة بين مفاد النهي المتعلّق بشيء وإن لم يكن ذلك النهي مدلولا عليه بالصيغة اللفظيّة ، وعلى تقدير عدمها إنّما يحكم بانتفائها بين المعنيين.

الثاني : ظاهر النهي المأخوذ في العنوان هو النهي التحريمي وإن كان مناط البحث في التنزيهي موجودا ، وذلك لا يوجب تعميم العنوان.

وهل يختصّ البحث بالنهي الأصلي أو يعمّ التبعي أيضا؟ والحقّ هو الثاني ؛ لما قد تقدّم من استدلالهم على فساد الضدّ بتعلّق النهي التبعي الحاصل من الأمر بضدّه الآخر. وذهب المحقّق القمّي رحمه اللّه إلى الأوّل ، فزعم عدم اقتضاء النهي التبعي الفساد قطعا ، لانحصار ما يمكن أن ينازع فيه فيما يترتّب عليه العقاب ، ولا عقاب في التبعي (1). ولا دليل على انحصاره فيه ، وكلمات القوم لا توافقه ، بل إنّما هي آبية عنه وصريحة في خلافه.

الثالث : الشيء المتعلّق للنهي إمّا أن يكون عبادة أو غير عبادة.

أمّا الأوّل ، فقد تطلق ويراد بها معناها المصدري ، ويعبّر عنها بالفارسيّة ب- « پرستيدن » فتشمل بهذا المعنى العبادات بالمعنى الأخصّ التي ستعرفها ولكلّ فعل كان المقصود منه هو الامتثال ، فغير العبادة ما لا يكون المقصود منه الامتثال ، سواء لا يقع به الامتثال لعدم الأمر - كالمكروهات والمحرّمات - أو لا يقصد به الامتثال وإن أمكن فيه ، كالواجبات التوصّلية إذا وقعت بدونه. وقد يطلق ويراد بها معناها

ص: 728


1- انظر القوانين 1 : 156 - 157.

الاسمي ، وهي الأفعال التي يقع بها الامتثال (1). والأجود في تحديدها هو ما قدّمنا في بحث المقدّمة : من أنّها ما امر به لأجل التعبّد به.

وقد تعرّف في كلام غير واحد بأنّها ما يتوقّف صحّته على النيّة (2).

ويمكن أن يناقش فيه : بأنّ الصحّة إن كان المراد بها الامتثال ، فيدخل جميع أفراد العبادة بالمعنى الأعمّ.

وإن كان المراد بها ما يوجب سقوط الفعل ثانيا ، فيخرج العبادات التي لا يجب فعلها ثانيا. ولو فرض اشتماله لها بنوع من العناية ، ففيه : أنّ أخذ « الصحّة » في التعريف يوجب الدور ؛ فإنّ معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحّة لوقوعها جزءا لحدّها ، ومعرفة الصحّة موقوفة على معرفة العبادة ؛ لأنّ الصحّة في العبادات معناها سقوط القضاء لا الصحّة على وجه الإطلاق ، ومعرفة المقيّد موقوفة على معرفة القيد والتقييد.

وإن كان المراد بها مطلق ترتّب الأثر ، فإن اريد من الأثر الامتثال لزم ما عرفت من عدم المنع. ولو سلّم كأن يقال : المراد من الامتثال موافقة الأمر ولا شكّ أنّ موافقة الأمر موقوفة على النيّة ، فليست النيّة ممّا يتوقّف عليها الصحة ، بل التحقيق على ما مرّ من أنّ القربة ليست من وجوه الفعل ، بل هي من الدواعي ، حيث إنّ وجود الفعل المأمور به في الخارج موقوف على النيّة ، فتأمّل. وإن اريد من الأثر سقوط القضاء فقد عرفت أيضا ما فيه. وإن اريد مطلق الأثر فينتقض بالعبادات الصوريّة التي يترتّب عليها الآثار العقليّة بل الشرعيّة أيضا ، كما إذا وقعت في مقام التعليم.

ص: 729


1- لم ترد « وهي الأفعال التي يقع بها الامتثال » في ( ط ).
2- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 154 ، والكلباسي في الإشارات : 103.

وعرّفها في القوانين بما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء (1).

واعترض عليه بعض الأجلّة (2) ، تارة : بانتقاض طرده بتوجيه الميّت إلى القبلة ، فإنّه ليس من العبادات قطعا ، مع أنّ مصلحة الفعل المأمور به غير معلوم انحصارها في شيء.

واخرى : بانتقاض عكسه بنحو الوضوء ، فإنّ مصلحته معلومة - وهي الطهارة لأجل الدخول في المشروط بها - مع أنّه من العبادات قطعا.

ويمكن توجيه ما أفاده بوجه لا يتوجّه عليه شيء ، كأن يقال : إذا علم انحصار مصلحة الواجب في شيء ، فبعد العلم بوجود تلك المصلحة يعلم بسقوط الطلب ، فيكون الواجب توصّليّا مثل التوجيه إلى القبلة ، فإنّ المصلحة في التوجيه ليس إلاّ حصول التوجّه إلى القبلة ، وبعد العلم بوجود التوجّه لا يبقي للأمر محلّ. وإذا لم يعلم انحصار المصلحة في شيء فلا يعلم سقوط الطلب إلاّ أن يكون الداعي في الإتيان بالفعل هو الأمر ، فإنّه يوجب السقوط قطعا ، وهذا بعينه هي القربة.

وعلى ما ذكرنا لا يرد عليه شيء من الإيرادين ، أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت من معلوميّة المصلحة. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الكلام في انحصار المصلحة في شيء معلوم ، والطهارة غير معلومة ، ولذلك كانت عبادة. وقد ذكرنا في مباحث المقدّمة ما ينفع في المقام.

وأمّا الثاني - وهو غير العبادة - فهو على قسمين : فتارة يكون من الامور التي يتصوّر فيها الاتّصاف بالصحّة والفساد كغسل النجاسات والعقود والإيقاعات ، واخرى يكون من الامور التي لا تتّصف بهما.

ص: 730


1- القوانين 1 : 154.
2- الفصول : 139.

والثاني على قسمين : فإنّه تارة يكون من الامور التي يترتّب عليها الآثار الشرعيّة كالغصب والإتلاف ونحوهما ، فإنّه يترتّب عليها الضمان ووجوب الردّ ونحوهما ، وتارة لا يكون منها كشرب الماء مثلا.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا : من تقسيم الشيء إلى العبادة وغيرها - وقد يسمّى بالمعاملة - وتقسيم العبادة إلى الأعمّ والأخصّ ، وتقسيم المعاملة إلى ما يترتّب عليه الأثر الشرعي وإلى غيره ، والأوّل إلى ما يتّصف بالصحّة والفساد وإلى غيره ، فهل المراد ب- « الشيء » الواقع في العنوان جميع هذه الأقسام أو مختصّ ببعضها؟

فنقول : إنّ الظاهر أنّ العبادة بالمعنى الأعمّ داخل في عنوان النزاع ، كالمعاملة التي يترتّب عليها الآثار الشرعيّة مع صحّة اتّصافها بالصحة والفساد. وأمّا المعاملة التي يترتّب عليها الآثار من دون الاتّصاف المذكور فلا كلام فيه ، إذ بعد عدم اتّصاف المحلّ بالصحّة والفساد لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد فيه. ولا ينافي ذلك ترتّب الآثار على الإتلاف واليد والجنايات وأسباب الوضوء ونحوها ، فإنّها تعدّ من الأحكام المترتّبة على وجود هذه الأسباب في الخارج.

ومنه يعلم خروج ما لا يترتّب عليه الأثر الشرعي وإن ترتّب عليه الأثر العقلي أو العادي ، إذ لا يعقل تأثير النهي فيما يترتّب على الشيء عقلا أو عادة.

فالمراد ب- « الشيء » هو العبادة بالمعنى الأعمّ والمعاملة التي تتّصف بالصحّة والفساد شرعا ، وقد عرفت وجه التخصيص في الثاني.

وأمّا وجه التعميم فيه بالنسبة إلى ما يتّصف بالصحّة فأمران : أحدهما عموم الأدلّة ، كما ستعرف. الثاني ما ذكره الشيخ في محكيّ المبسوط في الاستدلال على عدم حصول الطهارة فيما لو استنجى بالمطعوم ونحوه ممّا تعلّق النهي بالاستنجاء عنه ، قال : كلّ ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا ،

ص: 731

إن استعمل في ذلك ونقي به الموضع لا يجزي ، لأنّه منهيّ عنه ، والنهي يقتضي الفساد (1). وقد نقله في المعتبر (2) ولم يعترض عليه بخروجه عن محلّ الكلام كغيره ، وإنّما اعترضوا بعدم اقتضاء النهي الفساد.

وأمّا وجه التعميم في العبادة : فلأنّه أفيد وأشمل وإن كان الظاهر من قولهم : « العبادة » هو المعنى الأخصّ ، فيشمل الواجبات التوصّلية ، فيقال : إنّ الغسل إذا وقع على وجه محرّم فهل يقتضي النهي عنه عدم وقوع الامتثال به إذا كان قاصدا للامتثال ، أو لا؟

الرابع : صحيح العبادة قد يفسّر ب- « ما يوافق الأمر » وهو المنسوب إلى المتكلّمين (3). ولا يراد بالأمر خصوص الإلزامي ، فلا يرد النقض بالعبادة الصحيحة المندوبة. ولا حاجة إلى تبديل « الأمر » ب- « الشريعة » ليرد النقض بالمباح ؛ مع أنّه أيضا في غير محلّه ، لأنّ الموصولة كناية عن العبادة والمباح ليس بها. ولا يلزم استدراك موافقة الشريعة ، لأنّ العبادة كما تتّصف بالصحّة تتّصف بالفساد أيضا.

وقد يفسّر ب- « ما يسقط معه القضاء » وهو المنسوب إلى الفقهاء (4). ولا يرد أنّ حال الفعل لا ثبوت للقضاء حتّى يسقط به ؛ لأنّ الإسقاط لا يصحّ إطلاقه في مثل المقام ولو بنحو من العناية. والمراد سقوطه على تقدير ثبوته ، فلا يرد النقض بصحيح العيدين والجمعة. ولا بأس به لعدم ظهور المراد.

ص: 732


1- المبسوط 1 : 17.
2- المعتبر 1 : 133.
3- نسبه في الفصول : 140 ، وانظر القوانين 1 : 157 ، أيضا.
4- نسبه في القوانين 1 : 157 ، والفصول : 140 ، وراجع تفصيله في مفاتيح الاصول : 296.

وأمّا ما يقال : من أنّ المراد بالقضاء هو الإعادة أو الأعمّ منها ، فلا يدفع الضيم ؛ لورود النقض بالعيدين عند ضيق الوقت إذ لا يتصوّر الإعادة أيضا ، وكذا الصوم المندوب في كلّ يوم كالصلوات المبتدأة.

ثمّ إنّهم قد ذكروا أنّ النسبة بين التفسيرين عموم مطلق ؛ لأنّ العبادة التي توجب سقوط القضاء يجب مطابقتها للأمر ، وليس كلّ ما يطابق الأمر مسقطا للقضاء ؛ لأنّ الصلاة بالطهارة المستصحبة مطابقة للأمر وليست مسقطة للقضاء ، لأنّه يجب إذا انكشف الخلاف. وكأنّه مبنيّ على التفكيك بين التفسيرين ، كأن يكون المراد بالأمر في تفسير المتكلّمين الأعمّ من الظاهري والواقعي وفي تفسير الفقهاء خصوص الواقعي.

وتوضيح المقام : أنّ قضيّة أعمّية تفسير الفقهاء أن يكون القيود المعتبرة في التفسير الأوّل معتبرة فيه أيضا لتحقّق الأعمّية بذلك ، والظاهر أيضا (1) فلا بدّ من اعتبار موافقة الأمر في تفسير الفقهاء أيضا كما هو مقتضى القضاء ، فإنّه فرع للأمر.

و « الأمر » في كلّ واحد من التفسيرين يحتمل وجوها :

أحدها : أن يحمل فيهما على الأمر الواقعي الاختياري ، فكلّ فعل يكون مطابقا للأمر الواقعي الاختياري يجب أن يكون مسقطا للقضاء قطعا ، وتنعكس هذه القضية كلّيا من دون إشكال ، فيكون التفسيران متلازمين في الصدق.

وثانيهما : أن يراد ب- « الأمر » فيهما الأعمّ من الاختياري والاضطراري الواقعيّين كما في الصلاة بالطهارة المائيّة الواقعيّة وبالطهارة الترابيّة ، فالتفسيران أيضا متطابقان. أمّا بالنسبة إلى الاختياري فظاهر. وأمّا بالنسبة إلى الاضطراري - كما إذا صلّى بالطهارة الترابيّة - أمّا عند استقرار العذر وعدم زواله فلإطباقهم على

ص: 733


1- كذا ، والعبارة ناقصة.

إطلاق الصحيح على مثل هذه العبادة. وامّا عند ارتفاع العذر فعلى القول بعدم وجوب الإعادة وحصول الإجزاء - كما هو التحقيق - فظاهر أيضا إطلاق الصحيح عليها. وأمّا على القول الآخر فلا يتّصف بالصحّة بمعنى سقوط القضاء والفعل ثانيا ، فيكون التفسير الأوّل أعمّ من التفسير الثاني ، لمطابقة تلك العبادة للأمر الاضطراري مع عدم إسقاط القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي.

وثالثها : أن يحمل « الأمر » فيهما على الأعمّ من الظاهري والواقعي ، فتارة على وجه يعتبر في أحدهما ما يعتبر في الآخر من دون اختلاف فيكون التفسيران متلازمين في الصدق ، واخرى على وجه الاختلاف. فإن اعتبرنا في الأوّل خصوص الواقعي وعمّمنا الثاني إلى الظاهري أيضا يكون الثاني أعم ؛ لصدق الصحيح على الصلاة بالطهارة المستصحبة بالنسبة إلى الأمر الظاهري وعدم صدقه عليها بالمعنى الأوّل. وإن اعتبرنا في الأوّل الأعم من الواقعي والظاهري وفي الثاني خصوص الواقعي يكون الأوّل أعمّ ؛ لصدقه على الصلاة بالطهارة المستصحبة - على ما رامه القوم - وعدم صدقه عليها بالمعنى الثاني ، لعدم إسقاطه القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي. وإن عمّمنا الأوّل وخصّصنا الثاني بالظاهري فقط يكون الثاني أعمّ. وبالجملة ، إنّ ملاحظة اختلاف النسبة في الأمر واتّحادها يوجب الاختلاف والاتّحاد.

ولكن الحقّ أنّ أعمّية التفسير الثاني - وهو تفسير الفقهاء - في غاية البعد ، فإنّ مجرّد مطابقة العبادة للأمر الظاهري لا يوجب اتّصاف الفعل بالصحّة عندهم ، فإنّ الصحيح عندهم هو ما يوجب سقوط القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي ولو كان اضطراريّا حتّى على القول بلزوم الإعادة بعد زوال العذر ، فإنّ ثبوت الإعادة والقضاء أعمّ من الفساد كما زعمه القائل بعدم الإجزاء في نفس الأمر الواقعي أيضا. والفرق بين ذلك وبين الصلاة بالطهارة المستصحبة في غاية الوضوح بعد

ص: 734

ما عرفت من أنّ الاستصحاب إنّما هو مأخوذ طريقا ولا تأثير له في الواقع ، وبعد كشف الخلاف لا وجه لالتزام الصحّة. وقد مرّ في مباحث الإجزاء (1) ما يوضّح المقام ، فراجعه.

وأمّا المتكلّمون فيحتمل أن يكون مرادهم من « الأمر » الأعمّ من الظاهري والواقعي من حيث إنّ نظرهم إنّما هو في الفعل من حيث إنّه يترتّب عليه الثواب والعقاب ، وموافقة الأمر الظاهري يحتمل أن يكون منشأ للثواب كما أنّ مخالفته يحتمل العقاب وإن كان التحقيق قد يقضي بخلافه.

ومن هنا يظهر أنّ اختلاف الفقهاء والمتكلّمين في معنى « الصحّة » و « الصحيح » ليس اختلافا في المعنى ، بل معنى « الصحيح » ليس إلاّ ما هو المراد منه في العرف واللغة ويعبّر عنه بالفارسيّة ب- « درست » وحيث إنّ الأنسب بمقاصد الكلام هو البحث عن الفعل من حيث إنّه منشأ للثواب والعقاب فلذلك عبّر أهله عن الصحيح بما يوافق الأمر والشريعة ، والأنسب بمقاصد الفقه هو البحث عن الفعل من حيث إنّه يوجب فراغ الذمّة ولذا عبّر أربابه عنه بما يوجب سقوط القضاء ، فلا وجه لما قد يظهر منهم من الاختلاف بينهم على وجه لا يشعر باتّحاد المعنى حقيقة.

والإنصاف أنّ الثمرة أيضا غير موجودة بينهما ، فإنّ التفكيك في غاية البعد.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ المناط في الاتّصاف بالصحّة في سقوط القضاء هو مطابقة الأمر الظاهري ، فلا إشكال في صحّة اتّصاف الفعل بالصحّة بعد مطابقته للأمر الظاهري.

وأمّا لو قلنا بأنّ المناط فيه هو مطابقة الأمر الواقعي فهل يصحّ الاتّصاف قبل انكشاف الخلاف أو لا يصحّ؟ وعلى الأوّل فبعد انكشاف الخلاف هل يحكم بالفساد

ص: 735


1- راجع الصفحة 146.

من حين الانكشاف أو من الأصل؟ وجوه ، أقواها الثاني ؛ لأنّ المفروض إناطة الصحّة بالواقع ، وحين عدم العلم به لا وجه لاتّصاف الفعل بالصحّة. ولا سبيل إلى إحراز المطابقة بأصالة عدم كشف الخلاف ؛ لأنّه على تقديره لا يجدي في الاتّصاف المذكور ، فإنّ ذلك ليس من الآثار المترتّبة على المستصحب شرعا. ولا يجب إتيان الفعل في الظاهر نظرا إلى أصالة عدم المطابقة ، فإنّها مقطوعة بأصالة بقاء الطهارة كما هو المفروض. فالفعل يبقى في مرحلة الظاهر غير محكوم بالصحّة والفساد ، ولا يوجب الإعادة ، لأنّ الموجب هو العلم بعدم الاتّصاف بالصحّة الواقعيّة ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بعد الكشف فيما قامت الأمارة الظنّية على الواقع. هذا تمام الكلام في الصحّة في العبادات.

وأمّا الصحّة في المعاملات : فقد يقال بأنّها عبارة عن « ترتّب الأثر » (1). وليس على إطلاقه ، لصدقه على الآثار العقليّة المترتّبة على الموضوعات العقليّة ، وعلى الضمان المترتّب على الإتلاف مثلا. وقد يقيّد بكون الأثر « شرعيّا » (2) فيخرج الآثار العقليّة ، و « مقصودا » (3) فيخرج مثل الضمان ، فإنّه ليس من الآثار المقصودة نوعا ، ولا عبرة بما إذا اتّفق كونه مقصودا.

ويكفي في شرعيّة الأثر كونه ممّا أمضاه الشارع وإن لم يكن من الآثار المخترعة المجعولة ، كالطهارة المترتّبة على الغسل.

وممّا ذكرنا يعرف الوجه فيما قيل : من أنّ الصحّة عبارة عن ترتّب الأثر

ص: 736


1- فوائد الاصول لبحر العلوم : 130 ، ومناهج الأحكام : 720 ، وراجع تفصيله في مفاتيح الاصول : 296.
2- كما قيّده في القوانين 1 : 158 ، والفصول : 140.
3- كما في الفصول : 140 ، وفوائد الاصول لبحر العلوم : 130.

مطلقا (1) ، ففي العبادات الأثر المترتّب هو سقوط القضاء ، وفي المعاملات هو التملّك والتذكية والطهارة ونحو ذلك ، غاية الأمر أنّ سقوط القضاء في العبادات من الآثار العقليّة ، والتملّك من الشرعيّة. ولا ينافي ذلك اختلاف الأثر المترتّب على العبادات للأثر المترتّب على المعاملات بالعقليّة والشرعيّة.

وبالجملة ، فلم يعلم أنّ لفظ « الصحّة » و « الصحيح » قد استعمل في هذه الموارد على غير ما يستعمل فيه في العرف. واختلاف الآثار لا يقضي باصطلاح جديد.

تذنيب :

الحقّ أنّ الصحّة والفساد وصفان اعتباريّان ينتزعان من الموارد بعد ملاحظة العقل انطباق المورد لما هو المأمور به وعدمه ، أو لما هو المجعول سببا وعدمه مطلقا ، سواء كان في العبادات أو في المعاملات ، وسواء فسّرت الصحّة بما فسّرها المتكلّمون أو بما فسّرها الفقهاء.

وقيل : إنّهما من الأحكام الوضعيّة مطلقا (2).

وفصّل ثالث بين العبادات والمعاملات : فزعم أنّهما في العبادات عقليّان وفي المعاملات من أحكام الوضع. ذهب إليه الحاجبيّان (3) وتبعهما بعض الأجلّة (4).

وحكي التفصيل بين التفسيرين في العبادات ، فقيل بكونهما حكمين على تفسير الفقهاء ، وأنّهما وصفان اعتباريّان على تفسير المتكلّمين (5).

ص: 737


1- انظر القوانين : 158.
2- انظر تمهيد القواعد : 37.
3- لم نعثر عليه.
4- وهو صاحب الفصول : 140.
5- لم نعثر عليه.

ثمّ إنّه ليس الكلام في المقام في أصل مجعوليّة الأحكام الوضعيّة وعدمها ، فإنّ ذلك قد أوردنا الكلام فيها على وجه الاستطراد في مباحث الاستصحاب على وجه لا مزيد عليه ، بل الكلام في المقام إنّما هو في خصوص وصفي الصحّة والفساد على تقدير القول باختلاف حكمي التكليف والوضع ، فإنّهم أيضا اختلفوا في كونهما من الأحكام أو لا.

لنا : أنّ الصحّة في العبادات على تفسير المتكلّمين عبارة عن موافقة الأمر ، وهذا المعنى يحصل بعد إيجاد المكلّف الفعل مطابقا لما هو المأمور به ، من غير حاجة إلى جعل هذا الوصف وإنشائه على وجه يحتاج إليه في إنشاء أحكام التكليف. وعلى التفسير الآخر عبارة عن كون المأمور به بوجه يسقط معه القضاء ، وهو حاصل على تقدير الإتيان بما يعتبر في المأمور به على وجه يكون الفعل من مصاديق الصحيح في العرف من دون احتياج إلى تكلّف الجعل والإنشاء ، نظير حصول الزوجيّة بعد حصول الأربعة من غير حاجة إلى تحصيل الزوجيّة بتحصيل مغاير لتحصيل الأربعة.

وأمّا الصحّة في المعاملات فهي عبارة عن كون المعاملة على وجه يترتّب عليها الأثر المقصود منها شرعا ، وهذه الصفة يصحّ انتزاعها بعد إيجاد المكلّف ما هو سبب في الشريعة لذلك الأثر. وكون الآثار ممّا حكم بترتّبها الشارع لا يقضي بأن يكون الصحّة مجعولة للشارع.

وبالجملة ، أنّ المجعول الشرعي في العبادة ليس إلاّ إيجاب الفعل الكذائي ، وفي المعاملة ليس إلاّ تسبّب العمل الكذائي للأثر الكذائي ، وهذا لا يقضي بمجعوليّة الصفة المنتزعة عن الفعل والعمل على تقدير المطابقة لما هو المجعول الشرعي كما هو الحقّ.

وعلى تقدير الاقتضاء فلا فرق بين العبادة والمعاملة ، فالقول بالتفصيل مطلقا ممّا لا وجه له ، وهو ظاهر.

ص: 738

واستدلّ من ذهب بأنّهما من أحكام الوضع : بأنّ المدار في شرعيّة الحكم على أن يكون بيانه وظيفة الشارع وإن كان العقل مستقلاّ فيه ، والمقام منه ؛ فإنّ الحكم بترتّب آثار السبب الشرعي عليه حكما وظيفة الشارع ، سواء كان بموافقة الأمر أو إسقاط القضاء أو غيرهما.

وفيه أولا : أنّ المدار في الشرعيّة ليس على البيان الصرف وإن لم يكن مشتملا على الإنشاء كما في الأحكام التكليفية ، فإنّ ذلك مجرّد إخبار عمّا هو ثابت في الواقع. نعم ، ذلك يوجب تصحيح النسبة والإضافة إلى الشارع والشرع فيما إذا لم يكن وجود ذلك الأمر الثابت معلوما بوجه وأين ذلك من الجعل الموجود في أحكام التكليف؟

وثانيا : أنّ الصحّة والفساد ليس بيانهما من وظيفة الشارع على تقدير اكتفاء ما ذكر في الحكم الشرعي ، فإنّ ما هو من وظيفة الشارع هو الإخبار والإعلام عن ترتّب هذه الآثار المخترعة أو غيرها على تلك الأفعال عبادة كانت أو معاملة. وأمّا كون الفعل ممّا يترتّب عليه الأثر أو لا فليس من وظيفة الشارع بيانه. ويظهر وجه التفصيلين وجوابهما ممّا ذكرنا في حجّة المختار ، فتدبّر.

الخامس : ذكر المحقّق القمّي رحمه اللّه تبعا لغيره : أنّ محلّ النزاع إنّما هو فيما إذا ورد النهي مع وجود ما يقضي بالصحّة شرعا ، فلا نزاع فيما ليس فيه جهة صحّة - كالزنا والقمار ونحوهما - لكونه فاسدا بالأصل (1).

أقول : ما ذكره إنّما يتمّ في العبادات ، إذ لا يعقل العبادة بدون الأمر. وأمّا في المعاملة فلا دليل على تخصيص النزاع بماله جهة صحّة ، بل قضيّة الأدلّة والعناوين عموم النزاع لكلّ ما له الاتّصاف بالصحّة والفساد ، سواء كان له في الشرع جهة

ص: 739


1- القوانين 1 : 155 - 156.

صحّة أو لا ، غاية الأمر تطابق الأصل والنهي في الدلالة على الفساد فيما ليس فيه جهة صحّة. وبعبارة واضحة : توهّم الصحّة مع صحّة الاتّصاف بالصحّة يكفي في صحّة النزاع ، فيخرج كثير من المعاصي من جهة عدم الاتّصاف ، كجملة من الأفعال التي تترتّب عليها أحكام شرعيّة ، كالضمان المترتّب على الإتلاف ونحوه.

السادس : قال المحقّق القمّي رحمه اللّه أيضا : الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد ، لأنّ الأحكام الشرعيّة كلّها توقيفيّة ومنها الصحّة ، والأصل عدمها ، وعدمها يكفي في ثبوت الفساد ، وإن كان هو أيضا من الأحكام الشرعيّة ، لأنّ عدم الدليل دليل العدم (1).

وأورد عليه بعضهم : بأنّ الكلام في أنّ النهي هل يقتضي رفع الصحّة عمّا من شأنه الصحّة أو لا؟ وشيء من طرفي الحكم لا يرتبط بالأصل المذكور ، إذ الكلام إنّما هو بعد ثبوت الصحّة - كما اعترف به - فلا وجه لإيراد الكلام المذكور في مقدّمات المسألة المفروضة. اللّهم إلاّ أن يكون ذلك منه حرصا على ضبط المطالب وإيراد المقاصد. نعم ، لو كان مثل القمار وغيره ممّا لم يثبت له جهة صحّة داخلا في النزاع كان لإيراده وجه ، لكونه بيانا للأصل في المسألة بعد عدم دلالة النهي على الفساد (2).

ثمّ إنّ ما ذكره من أصالة الفساد إنّما يتمّ بإطلاقه في المعاملات ، إذ عند الشكّ في ترتّب الأثر الشرعي على المعاملة بعد عدم دليل يقضي به ، لا إشكال في لزوم الاستناد إلى أصالة عدم الترتّب (3) ، ولا يراد بالفساد إلاّ ذلك.

ص: 740


1- القوانين 1 : 155.
2- انظر الحاشية المسمّاة بالتوضيح المطبوعة في هامش القوانين 1 : 155.
3- العبارة في ( ع ) هكذا : لزوم الاستناد إلى الأصل ، لكون الأصل عدم الترتّب.

وأمّا في العبادات فإن كان الشك في صحّتها بمعنى موافقتها للأمر ، فيمكن جريان الأصل المذكور أيضا ، لكنّه ليس على إطلاقه.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في مطابقة الأمر تارة بواسطة الشك في وجود الأمر رأسا ، واخرى بواسطة الشكّ في كون المشكوك فيه من أفراد المأمور به ، فتارة بواسطة إجمال المفهوم ، واخرى بواسطة الشك في تعميم المأمور به للفرد المشكوك فيه.

فعلى الأوّل ، لا شكّ في جريان الأصل المذكور ، لأنّ الشكّ في وجود الأمر ، والأصل عدمه ، وعدم الأمر - ولو بالأصل - يكفي في فساد العبادة ، لأنّ صحّتها موقوفة على العلم بالأمر ، فإنّها (1) عبارة عن موافقة الأمر بالفرض.

وعلى الثالث ، فالأصل أيضا يقضي بالفساد ، إذ مرجع الشك إلى أنّ طبيعة المأمور به هل تعمّ المشكوك أم لا؟ وهذا وإن كان لا يجري فيه الأصل ، إلاّ أنّ الأصل عدم حصول الامتثال به ، كما هو الشأن في كلّ مقام لا يجري في نفسه الأصل بواسطة التعارض ، فإنّه يرجع إلى أصل ثالث لازم لأحد المتعارضين ، كما قرّر في محلّه.

وعلى الثاني ، فإمّا أن يعلم من ذلك المفهوم المجمل شيء معلوم ، أو لا يعلم ، وعلى الأخير لا بدّ من الأخذ بالبراءة أو الاشتغال ، على الخلاف. وعلى الأوّل فلا بدّ من إتيان ذلك المعلوم إجمالا كما عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة في شيء من العبادات كالصلاة - مثلا - بناء على ما هو التحقيق من البراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة. فالقول بذلك مع حسبان أنّ الأصل عند الشكّ في موافقة العبادة للأمر الفساد بأقسامها - كما رآه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2) - تناقض صرف. اللّهم إلاّ

ص: 741


1- في ( ع ) : فإنّ صحّة العبادة.
2- القوانين 1 : 155.

أن يقال : إنّ أصالة البراءة عن الجزء المشكوك فيه أصل بها تثبت الصحّة ولا ينافي الفساد لو لا أصالة البراءة.

وبيانه : أنّ الشكّ في تعلّق الأمر بالصلاة بدون السورة إنّما هو بواسطة الشكّ في وجوب السورة ، فأصالة عدم تعلّق الأمر بهذه الصلاة تنقطع بإعمال أصالة البراءة في السورة ، فلذلك يجب الإتيان بالصلاة بدون السورة ، لارتفاع الشكّ بطريق شرعي ظاهري.

وإن كان الشكّ في صحّة العبادة بمعنى إسقاطها القضاء (1) فإن كان الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في الأمر بأقسامه فقد مرّ الكلام فيه.

وإن كان الشكّ فيه بعد إحراز الأمر ، فإن قلنا بأنّ التفسيرين متلازمان وليس تفسير الفقهاء بأخصّ من تفسير المتكلّمين ، فيكون الشكّ في مسألة الإجزاء ، فلا وجه لأصالة الفساد في المقام ، سواء اخذ الأمر فيهما واقعيّين أو ظاهريّين ، وذلك ظاهر في الغاية ، فإنّ الأمر الظاهري أيضا يفيد الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الظاهري ، ولا يجب الإعادة بالطهارة المستصحبة قطعا. نعم ، للأصل المذكور وجه على القول بعدم الإجزاء.

وإن قلنا بأخصّية تفسير الفقهاء بأن (2) قلنا بأنّ الصلاة بالطهارة المستصحبة مطابقة للأمر وليست مسقطة للقضاء ، فقد عرفت في مسألة الإجزاء أنّ الأصل يقضي بالإعادة لو كان الشكّ فيها بعد كشف الخلاف ، لعدم إفادة الأمر الظاهري الإجزاء - فلأصالة الفساد وجه. وأمّا لو كان الشكّ في القضاء ، فيحتمل القول بعدم وجوبه ، لاحتمال التدارك.

والفرق بين الإعادة والقضاء : أنّ الإعادة مطابقة للأصل لكونها ثابتة

ص: 742


1- عطف على قوله : « فإن كان الشكّ في صحّتها بمعنى موافقتها للأمر » في الصفحة السابقة.
2- « بأن » من هامش ( ط ).

بمقتضى الأمر ، بخلاف القضاء فإنّه تكليف مستقلّ ، والأصل عدمه. ويحتمل القول بوجوبه أيضا ؛ لأنّ القضاء مترتّب على صدق « الفوات » وهو أمر عدميّ مطابق للأصل ؛ لأنّ الأصل عدم الإتيان بما هو الواقع.

وكيف كان ، فأصالة الفساد فيما لو كان الشكّ في الصحّة بمعنى إسقاط القضاء على إطلاقها ليس على ما ينبغي. إلاّ أن يقال : إنّ مقصود المحقّق أيضا ليس على إطلاقها. فتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بحسب الأصل الأوّلي مع قطع النظر عمّا يقضى بخلافه. وأمّا بعد ملاحظة الأدلّة الواردة في جزئيّات الموارد أو أصنافها أو أنواعها أو غير ذلك ، فلا مجال للحصر في شيء ، كما لا يخفى على الفطن.

السابع : أنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة ، أو جزءها ، أو وصفها الداخلي أو الخارجي ، مع اتّحادهما في الوجود أو مع اختلافهما فيه (1).

ولا ينبغي الإشكال في خروج القسم الأخير عن محلّ الكلام ، كقولك : « لا تنظر إلى الأجنبيّة في الصلاة » والوجه في ذلك ظاهر ؛ لأنّ المستفاد من هذا النهي إمّا إراءة الطريق إلى ما هو الواقع من عدم تحقّق الصلاة بدون الترك المذكور ، فيكون دلالته على الفساد ممّا لا يكاد يخفى على أحد. وإن استفيد منه الحرمة الذاتيّة من دون تعلّق النظر بالصلاة ، فلا إشكال في عدم دلالته على الفساد ، فتعلّق النهي بأمر خارج عن الماهيّة مع عدم الاتّحاد بين المأمور به والمنهيّ عنه وإن كان زمان النهي زمان الصلاة غير قابل للنزاع ، فإنّه على وجه لا ينكر اقتضاؤه الفساد ، كما في الأوامر المتعلّقة بالأجزاء أو الموانع ، وعلى وجه لا يتوهّم (2) اقتضاؤه الفساد.

ص: 743


1- في ( ط ) : مع اتّحادهما أو مع اختلافهما في الوجود الخارجي.
2- في ( ع ) : لا يتوجّه.

وأمّا الأقسام الأخر ، فالكلّ يحتمل وقوع النزاع فيها.

أمّا الأوّل : فكالصلاة في زمان الحيض ، وهو مبنيّ على كون الصلاة منهيّا عنها مطلقا في ذلك الزمان ، وأمّا لو جعلناها منهيّا عنها باعتبار وقوعها في ذلك فهي من المنهيّ عنها لوصفها.

وقد يمثّل للمنهيّ عنه لنفسه في المعاملة بأمثلة كثيرة (1) ، كبيع الخمر والخنزير وبيع السفيه ونكاح الخامسة ، ولا سبيل إلى العلم بكونها منه ، لاحتمال أن يكون المعاملات فيها ملحوظة باعتبارات خاصّة ، فيكون من المنهيّ عنه لوصفه.

وأمّا الثاني : ففي العبادة قد يمثّل له بمثل قولك : « لا تصلّ الصلاة المشتملة على العزائم » أو قولك : « لا تقرأ العزائم » بناء على أنّ نهي الجزء يلازم النهي عن الكلّ ، ولا يلزم منه حرمة الشروع نظرا إلى أنّ الكلّ محرّم حينئذ ؛ لأنّ متعلّق النهي هو المجموع ، فإيجاد الجميع حرام ، وهو لا يصدق مع الشروع. مع أنّ التزام حرمة الشروع فيما لو قصد من أوّل الأمر قراءة العزائم غير بعيد ، لأنّ هذه الصلاة المفروضة غير مشروعة ، فيكون الشروع فيها محرّما على الوجه المذكور.

وأمّا في المعاملة فقد مثّل لها في القوانين ببيع الغاصب مع جهل المشتري على القول بأنّ البيع نفس الإيجاب والقبول الناقلين ، فإنّ هذه المعاملة منهيّ عنها باعتبار جزئها وهو إيجاب الغاصب (2).

وفيه أولا : أنّه لا دليل على حرمة الإيجاب من الغاصب ، فإنّ ذلك لا يعدّ تصرّفا في مال الغير كما قرّرنا في الفضولي ، وإن كان بينهما فرق من جهة توقّع لحوق الإجازة في الفضولي واستقلال الغاصب بالإيجاب في المقام ، إلاّ أنّه لم يعلم تأثير له في هذا المقام.

ص: 744


1- لم يرد « كثيرة » في ( ط ).
2- القوانين 1 : 156.

وثانيا : سلّمنا حرمة الإيجاب ، لكنّه لا يوجب النهي عن المعاملة المركّبة من الإيجاب الصادر من الغاصب والقبول الصادر عن الجاهل ، كيف! وهو جاهل لا يعقل الحرمة في حقّه. وتعلّق النهي بالجزء إنّما يسري إلى الكلّ فيما إذا كان الكلّ متعلّقا بعمل شخص واحد ، وأمّا إذا كان الجزء الآخر فعلا لغيره فلا وجه للحرمة. اللّهم إلاّ أن يفرض الغاصب متولّيا لطرفي العقد مع لحوق الإجازة بعد تحقّق الإيجاب.

وأمّا بناء على القول بأنّه النقل (1) ، فقال في القوانين : إنّ الأمثلة كثيرة واضحة (2).

وفيه - كما نبّه عليه بعضهم (3) - : أنّ الكثرة والوضوح ربما توجب خفاء الأمر وعدم الاطّلاع ، وإلاّ فنحن لم نقف له على مثال واحد.

وربما يمثّل بصفقة واحدة مشتملة على بيع ما يملك وما لا يملك ، إلاّ أنّه أيضا لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، لأنّ النقل أمر بسيط لا يعقل التجزئة فيه وكونه حراما بواسطة جزئه وإن كان المنقول مركّبا.

وأمّا الثالث : فهو المنهيّ عنه لوصفه الداخل في (4) العبادات ، فكالنهي عن الصلاة اللازم من النهي عن الإخفات في موارد الجهر أو العكس ، فإنّ الجهر والإخفات من الأوصاف الداخليّة للقراءة حتّى كأنّهما من الفصول المقوّمة لأنواع القراءة على وجه لا يتصوّر انفكاك القراءة من أحدهما. وفي المعاملة كبيع الربوي مثلا.

ص: 745


1- عطف على قوله : « على القول بأنّ البيع نفس الإيجاب والقبول » في الصفحة السابقة.
2- القوانين 1 : 156.
3- لم نعثر عليه.
4- في ( ع ) : من.

وأمّا الرابع : وهو المنهيّ عنه لوصفه الخارجي ، فكالنهي عن الصلاة باعتبار الغصب. وفي المعاملة كالنهي عن البيع باعتبار تفويت الجمعة. وليس ذلك من موارد اجتماع الصلاة والغصب الغير الملحوظ في الصلاة بوجه ، كما إذا قيل : « صلّ ، ولا تغصب » واتّفق اجتماعهما في فرد واحد ، فإنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بالصلاة باعتبار وصفه (1) الخارج المفارق المتّحد له (2) في الوجود.

وهذا هو الوجه في إفرادنا الوصف الداخلي عن الوصف الخارجي بالذكر ، حيث إنّه لا يمكن إيجاد الجهر والإخفات في ضمن غير الصوت ، بخلاف الغصب فإنّه على تقدير تعلّق النهي به يمكن إيجاده في ضمن غير الصلاة ، فيلاحظ.

وقد يذكر - زيادة على الأقسام المذكورة - المنهيّ عنه لشرطه ، وهو يحتمل وجهين ، أحدهما : أنّ النهي تعلّق به باعتبار فقد الشرط ، كالنهي عن الصلاة باعتبار فقد الطهارة ، وثانيهما : أنّ النهي تعلّق به باعتبار حرمة الشرط ، وشيء من الوجهين لا يصلح أن يكون موردا للنزاع.

أمّا الأول : فلأنّ الفساد فيما لا يوجد في العبادة أو المعاملة شرطهما إجماعيّ لا يكاد يخفى على أحد كما هو قضيّة الاشتراط ، فإنّ ارتفاع المشروط عند ارتفاع الشرط من القضايا المعروفة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الشرط تارة يكون متّحد الوجود مع المشروط ، أو لا يكون ، فعلى الأوّل حرمة الشرط تسري إلى حرمة المشروط وتوجب فساده ، إلاّ أنّه ليس قسما خارجا عن الأقسام المتقدّمة ، لرجوعه إلى المنهيّ عنه لوصفه المتّحد

ص: 746


1- كذا في النسخ ، والمناسب تأنيث الضميرين ؛ لرجوعهما إلى الصلاة.
2- كذا في النسخ ، والمناسب تأنيث الضميرين ؛ لرجوعهما إلى الصلاة.

معه في الوجود ، فلا وجه لجعله قسما برأسه. وعلى الثاني فحرمة الشرط لا دليل على سرايتها في المشروط ، فلا يقتضي الفساد قطعا ؛ فإنّ النهي عن شيء مباين للشيء ، فكيف (1) يعقل اقتضاؤه الفساد! فكن على بصيرة من الأمر كيلا يختلط عليك الموارد. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 747


1- كذا ، والمناسب : كيف.

ص: 748

هداية

اشارة

بعد ما عرفت مورد النزاع ، فاعلم أنّهم اختلفوا في مورد النزاع في دلالة النهي على الفساد على أقوال ربما تزيد على العشرة ، ثالثها : التفصيل بين العبادات والمعاملات ، ورابعها : الدلالة شرعا لا لغة ، وخامسها : الدلالة في العبادات لغة ، وفي المعاملات عرفا.

إلى غير ذلك من الأقوال التي لا محصّل في ضبطها وإيرادها والبحث عن صحّتها وفسادها. فلنقتصر على ما هو الحقّ في المقام ، ومنه يظهر الوجه في الإيراد على الأقوال المخالفة لما اقتضاه الدليل.

فاعلم أوّلا : أنّ جملة من هذه الأقوال ممّا لا نعرف له وجها ، فإنّ التفصيل بين العرف والعقل ممّا لا سبيل لنا إلى تعقّله. وأعجب من ذلك التفرقة بين الوضع واللغة ، كما يظهر من كلام بعض الأجلّة (1). ويظهر الوجه في ذلك ممّا تقدّم في المسألة السابقة. ويزيدك توضيحا ما ذكرنا في الأمر الأوّل في الهداية السابقة.

وإن شئت قلت : إنّ النزاع في المقام إمّا لفظيّ أو عقليّ ، فعلى الأوّل لا وجه للدلالة العقليّة ، وعلى الثاني لا وجه لعدّ الدلالة اللفظيّة في عداد الأقوال ، ثمّ الفرق بين العقل والعرف. إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يسعنا الجمع بين مواردها والأخذ بمجامعها.

وكيف كان ، فالحقّ في المقام يذكر في موردين :

ص: 749


1- انظر الفصول : 140.
الأوّل في بيان التحقيق في العبادات

فنقول : إنّ النواهي الواردة في العبادة بأقسامها لا تخلو من قسمين :

أحدهما : ما هو منساق لبيان المانع ، كالأوامر الواردة في العبادات لبيان الأجزاء والشرائط. ولا إشكال في دلالة هذه النواهي على الفساد ، بل ذلك لا يخلو عن مسامحة ، فإنّ الفساد الواقعي إنّما أوجب النهي عن العبادة المقارنة للمانع ، لا أنّ النهي اقتضى الفساد. فكلّما دل دليل على وجه الإطلاق أو العموم على مشروعيّة عبادة ، ثمّ تعلّق النهي بفرد خاصّ منه على وجه يستفاد منه وجود المانع عن الامتثال ، فلا إشكال في الحكم بكون العبادة فاسدة ، فإنّ النهي حينئذ يكون ناظرا إلى ذلك الإطلاق ويكون مقيّدا له ، ومع تقييد الإطلاق لا سبيل إلى دعوى الصحّة. وكأنّ هذا القسم من النهي أيضا لا كلام في اقتضائه الفساد.

وثانيهما : ما هو منساق لتحريم أصل العبادة ، من دون إرشاد إلى عدم وقوع الامتثال بها ، كقولك : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » غير قاصد بذلك رفع الإذن الحاصل من إطلاق الأمر بالصلاة. وينبغي أن يكون ذلك محلاّ للنزاع ، لما عرفت من عدم قبول القسم الأوّل للنزاع.

فالحقّ أنّ النهي التحريمي يقتضي الفساد ، لما عرفت في المسألة المتقدّمة من عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة في مورد شخصي ، فالنهي يلازم فساد ما تعلّق به. ولكن ليس الفساد الحاصل من النهي في المقام مثل الفساد في القسم الأوّل ؛ لأنّ الفساد في المقام تابع للنهي ، فمتى وجد النهي يمكن الحكم بالفساد ، ومتى انتفى النهي لمانع - كالغفلة والنسيان والضرورة ونحوها ممّا يرتفع معها التكليف - فلا فساد ، بخلاف الفساد في القسم الأوّل ، فإنّه ليس تابعا للنهي ، بل النهي إنّما تعلّق به لكونه فاسدا ، فعند ارتفاع النهي بواسطة الضرورة - مثلا - لا يمكن

ص: 750

الحكم بعدم الفساد ، وقد مرّ نظيره فيما مرّ مرارا. فلا إشكال في شيء من ذلك بعد ما عرفت من امتناع الاجتماع ، وإنّما الإشكال في تمييز هذين القسمين وبيان صغريات هاتين القاعدتين.

فنقول : لا إشكال في الموارد التي نعلم بدخولها في القاعدتين. وأمّا الموارد المشكوكة ، فقضية الظواهر وإن كانت تقتضي الحكم بالحرمة فقط ، ويتبعها الفساد اللازم منها ، إلاّ أنّه يمكن دعوى أنّ الغالب في النواهي الواردة في العبادات - على أقسامها - إنّما هي ناظرة إلى الإطلاقات القاضية بصحّة هذه العبادات. فيكون المقام مثل ما ذكروا في الأمر الوارد عقيب الحظر فإنّ المستفاد منه ليس الوجوب ، مع أنّ الظاهر بحسب اللغة هو الوجوب ، إذ لا فرق بين ورود الأمر عقيب النهي وبين ورود النهي عقيب الأمر ، فإنّهما في مرحلة سواء.

مع إمكان أن يقال : إنّ استعمال النواهي في الإرشاد ليس على خلاف الظاهر ، فإنّها مستعملة في الحرمة التشريعيّة. لكنّه بعيد جدّا ؛ فإنّ الحرمة التشريعيّة لازمة لعدم كون المنهيّ عنه مأمورا به ، ولو فرض عدم استعمال النهي في الإرشاد لا دليل على كونه غير مشروع بعد اقتضاء الإطلاق مشروعيّته ، فلا يعقل هناك حرمة تشريعيّة حتّى يستعمل النهي في تلك الحرمة.

المورد الثاني في المعاملات

وتوضيح الحال هو أنّ النواهي الواردة في المعاملات على أقسام :

أحدها : أن يكون النهي متعلّقا بالمعاملة من حيث إنّها أحد أفعال المكلّف ، فيكون إيجاد السبب والتلفّظ بالإيجاب والقبول - مثلا - وقت النداء مثل شرب الخمر محرّما ، من غير ملاحظة أنّ ذلك الفعل المحرّم يوجب نقلا وانتقالا. ولا ريب

ص: 751

في عدم دلالة هذا النحو من النهي على الفساد ، فإنّ غاية مدلوله التحريم وهو لا ينافي الصحّة ، فإنّ المعصية تجامع ترتّب الأثر ، كما يشاهد في الأسباب العقليّة بالنسبة إلى الآثار العقليّة ، والشرعيّة أيضا.

وثانيها : أن يكون مفاد النهي هو مبغوضيّة إيجاد السبب لا من حيث إنّه فعل من الأفعال المتعلّقة للأمر والنهي باعتبار المصالح والمفاسد ، بل من حيث إنّ ذلك السبب يوجب وجود مسبّب مبغوض في نفسه ، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر ، فإنّ إيجاد السبب حرام بواسطة إيراثه أمرا غير مطلوب مبغوض ، وهو سلطنة الكافر على المسلم بناء على القول بالصحّة ووجوب الإجبار على إخراجه عن ملكه.

وهذا القسم - أيضا - يمكن القول بعدم دلالة النهي فيه على الفساد ، إذ لا مانع من صحة البيع حينئذ ، غاية الأمر وجوب النقل وإجبار الناس له على عدم إبقاء ذلك المسبّب بحاله بواسطة النهي الكاشف عن المبغوضية. إلاّ أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما إذا قلنا بأنّ الأسباب الناقلة إنّما هي مؤثّرات عقليّة قد اطّلع عليها الشارع وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد. وأمّا على القول بأنّ هذه أسباب شرعيّة إنّما وضعها الشارع وجعلها مؤثّرة في الآثار المطلوبة عنها ، فلا بدّ من القول بدلالة النهي على الفساد ، فإنّ من البعيد في الغاية جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبّب مبغوضا.

وكأنّه إلى ذلك ينظر ما حكي عن الفخر : بأنّ قضيّة اللطف عدم إمضاء المعاملات التي تكون مبغوضة عنده (1) ، فإنّ ذلك على إطلاقه ربما لا يساعده دليل ولا ضرورة.

ص: 752


1- لم نعثر عليه.

وثالثها : أن يكون مفاد النهي حرمة الآثار المترتّبة على المعاملة المطلوبة عنها ، مثل ما يدلّ على حرمة أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير مثلا. والفرق بين هذا القسم وسابقه ظاهر ، فإنّ المبغوض في الأوّل هو ملكيّة المسلم للكافر مثلا ، والمبغوض في هذا القسم هو حرمة التصرّف في الثمن والمبيع ونحو ذلك ممّا هو من الآثار المترتّبة على الملك على وجه لو حصل الملك لا وجه للمبغوضيّة ، فيدلّ ذلك النهي بالالتزام على عدم حصول الملك بهذه المعاملة ، وهو عين الفساد.

ورابعها : أن يكون النهي ناظرا إلى إطلاق دليل الصحّة ، فيكون لا محالة مقيّدا لإطلاقه ، ويكون مفاده التصريح بالدلالة على الفساد ، فكأنّه بمنزلة الاستثناء لقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) - مثلا - الدالّ على حصول الملك والنقل والانتقال بإحراز العقد وإتمام طرفيه. وهذا القسم نظير النهي المسوق لبيان المانع في العبادة.

فلا إشكال في عدم دلالة القسم الأوّل على الفساد ، لعدم ما يقضي به عقلا ولا لفظا. ويحتمل دلالة الثاني على الفساد وعدمه ، كما عرفت بناء على القولين على تأمّل أيضا. وأمّا الثالث والرابع ، فلا يبقى الإشكال في الدلالة على الفساد. هذا ما يتعلّق بهذه الموارد على تقدير العلم بها وتمييزها عن غيرها.

وأمّا عند الاشتباه فهل يحكم بعدم الدلالة حملا للنهي على ظاهره من تعلّقه بعنوان فعل المكلّف وإن كان ذلك معاملة ، أو بالدلالة حملا له على أحد الوجوه الباقية الدالّة؟

فنقول : إن قضيّة القواعد اللغويّة من إعمال أصالة الحقيقة هو المعنى الأوّل ،

ص: 753


1- المائدة : 1.

فيحكم بالحرمة دون الفساد. ثمّ إذا قامت قرينة على عدمه فالمصير إلى الثاني أقرب ، فإنّ استعمال النهي في الطلب الغيري لا يوجب تجوّزا ، وإن كان الظاهر هو النهي النفسي ، كما قرّر في محلّه.

ومنه يظهر أنّ الثالث أيضا في هذه المرتبة ، لاشتراكهما في استعمال النهي في معناه التحريمي ، غاية الأمر أنّ الباعث على ذلك التحريم في الأوّل حصول الملك المبغوض ، وفي الثاني الآثار المترتّبة على الملك ، كما عرفت.

لكن ذلك مع قطع النظر عمّا يقتضيه استقراء موارد النهي في المعاملات ، فإنّ الغالب في النهي المتعلّق بالمعاملة من حيث إنّها معاملة - لا من حيث إنّه فعل من الأفعال - هو المعنى الثالث والأخير. وتشخيص الموارد حقّ التشخيص موكول إلى ملاحظة الأطراف والجوانب.

ولا بدّ من تنزيل الإجماع المدّعى في كلامهم على دلالة النهي على الفساد في المعاملات على ما ذكرنا ، فإنّ دعوى عمومه حتّى في الموارد التي يتعلّق النهي بالمعاملة لا من حيث إنّها معاملة مجازفة صرفة.

ثم إنّه قد يكون هناك معاملة مشتملة على جهتين : إحداهما الحرمة الذاتيّة مثل سائر الأفعال المحرمة ، والاخرى عدم وقوع مضمونها وعدم ترتّب آثارها ، فإيجادها محرّم ، والأخذ بآثارها محرّم آخر. إلاّ أنّه لا بدّ من استفادة هذين النحوين من دليلين ، لا من دليل ، من غير فرق في ذلك بين أنّ الدالّ على التحريم هو صيغة النهي أو أحد الألفاظ المساوية له في إفادة المعنى المذكور ، كما في قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (1) خلافا لبعض الأجلّة ، حيث خصّ الحكم بصيغة النهي ، زعما منه أنّه صريح في الدلالة على الفساد ، وإن فرض

ص: 754


1- النساء : 23.

الكلام فيما إذا استند التحريم إلى العقد ، كأن يقال : « يحرم عقد كذا » فتوجّه النزاع المعروف إليه غير مسلّم (1). وأنت خبير بضعفه ، فلا حاجة الى تطويل الكلام فيه.

ثم إنّه قد يدلّ على المطلوب في المقام أخبار لا بأس بالإشارة إليها وبيان دلالتها والتعرّض لما قد يورد عليها.

فمنها : ما رواه الكليني في الصحيح في وجه ، والصدوق في الموثّق بابن بكير ، عن زرارة ، عن الباقر عليه السلام : « سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال : ذلك إلى سيّده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما. قلت : أصلحك اللّه تعالى ، إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : إنّه لم يعص اللّه إنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز » (2).

ومنها : ما رواه الكليني بطريق فيه موسى بن بكير (3) ، والصدوق عنه ، عن زرارة - مرسلا - عنه عليه السلام « سأله عن الرجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه؟ فقال : ذلك إلى مولاه ، إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ، إلاّ أن يكون اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا. وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل ، فقلت لأبي جعفر عليه السلام : فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : إنّما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله

ص: 755


1- الفصول : 140.
2- الكافي 5 : 478 ، الحديث 3 ، والفقيه 3 : 541 ، الحديث 4862 ، وعنهما في الوسائل 14 : 523 ، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.
3- في المصادر : موسى بن بكر.

ورسوله صلى اللّه عليه وآله وإنّما عصى سيّده ولم يعص اللّه ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » (1).

وجه الدلالة : أنّه عليه السلام إنّما فرّع الصحّة والفساد على معصية اللّه وعدمها ، وهو يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يكون المعاملة معصية لله من حيث إنّه فعل من الأفعال مع قطع النظر عن كونه معاملة موجبة لما هو المطلوب من إيقاع تلك المعاملة.

والثاني : أن تكون معصية لا من هذه الجهة ، بل من حيث إنّها منهيّ عنها شرعا على أحد الوجوه المتصوّرة في النهي عن المعاملة ، من حيث إنّها موجبة لترتّب الآثار المطلوبة عنها.

لا سبيل إلى الأول ، فإنّ عصيان السيّد - أيضا - عصيان لله ، فلا وجه لنفي العصيان عن الفعل الواقع بدون إذن السيّد على وجه الإطلاق. فلا بدّ من المصير إلى الثاني ، وهو يفيد المطلوب ، فإنّه يستفاد من التفريع المذكور أنّ كلّ معاملة فيها معصية لله فاسدة ، كما هو ظاهر الحصر. ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ المراد هو العصيان لا من حيث كون المعاملة فعلا من الأفعال : ما في ذيل الرواية الثانية من التمثيل بالنكاح في العدّة ، فإنّه ليس خارجا من الأقسام التي قلنا بأنّ النهي يدلّ فيها على الفساد.

وبالجملة ، أنّ المطلوب في المقام هو : أنّ النهي المتعلّق بالمعاملة إذا كان نهيا عن إيجاد السبب من حيث إنّه فعل من أفعال المكلّف لا يقتضي الفساد ، سواء كان تلك المعاملة مبغوضة في نفسها أو باعتبار اجتماعها مع عنوان غير مطلوب ، كالنهي

ص: 756


1- الكافي 5 : 478 ، الحديث 2 ، والفقيه 3 : 446 ، الحديث 4548 ، وعنهما في الوسائل 14 : 523 - 524 ، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 2.

عن البيع وقت النداء ، فإنّ تحريمه بواسطة كونه موجبا لتفويت الجمعة. وإذا كانت منهيّا عنها من حيث كونها سببا ومعاملة موجبة لترتّب الآثار المطلوبة منها - على أحد الوجوه السابقة - يقتضي الفساد.

والروايتان صريحتان فيما قلنا. أمّا بالنسبة إلى الجزء الأوّل فيستفاد من قوله : « وإنّما عصى سيّده » المستلزم لعصيان اللّه ، لا من حيث إنّها موجبة للآثار المطلوبة ، فإنّ عصيان اللّه من جهة عصيان السيّد لا يعقل كونه من جهة الترتّب ، وذلك واضح. وأمّا بالنسبة إلى الجزء الثاني فيستفاد من تفريع الصحّة والبطلان على المعصية التي يجب أن تكون مخالفة للمعصية اللازمة من مخالفة السيّد ، فيكون على أحد الوجوه السابقة ، وهو المطلوب.

واعترض على الاستدلال بالرواية جماعة - منهم المولى البهبهاني (1) والمحقّق القمّي (2) - : أنّ المراد من المعصية هو عدم مشروعيّة نوع المعاملة في أصل الشرع ، فلا دلالة في الرواية على المطلوب.

وتوضيحه : أنّ قوله عليه السلام : « إنّه لم يعص اللّه » لا يمكن حمله على ظاهره ، ضرورة أنّ عصيان السيّد يلازم عصيان اللّه ، فلا بدّ من الحمل على عدم الإذن ، فمفاد الرواية أنّ النكاح صحيح ؛ لأنّه إنّما أوقع ما هو مأذون فيه ومجعول في الشرع ، وإنّما يمنعه عن النفوذ عدم إذن المولى ، وبعد لحوق الإذن منه أيضا يتمّ المقتضي ويترتّب المعلول.

ويدلّ على ذلك : أنّ الأخذ بظاهر العصيان في كلام الإمام غير صحيح ، إذ المفروض أنّ العبد لم يعص السيّد أيضا ، لأنّ العصيان لا يتحقّق بدون

ص: 757


1- انظر الفوائد الحائريّة : 176.
2- القوانين 1 : 162.

النهي ، وعدم الإذن المفروض في السؤال أعمّ من النهي وعدمه. بل ومقتضى قول السائل في الرواية الثانية : « ثم اطّلع على ذلك مولاه » هو إرادة خصوص عدم الاطّلاع.

والقول : بأنّ مع عدم الاطّلاع أيضا يكون معصية لكونه تصرّفا في ملك الغير بغير إذنه ، مدفوع : بأنّ ذلك لا يعدّ تصرفا ، كما قرّرنا في الفضولي من أنّ مجرّد إيقاع العقد ليس محرّما. فلا بدّ من الحمل على أنّ النكاح صحيح لأنّه مشروع أصلا ، وليس ممّا لم يأذن الشارع بإيقاعه ، وإنّما هو لم يأذن سيّده بذلك ، وبعد لحوق الإذن منه يكون صحيحا يترتّب عليه الأثر.

فمفاد الرواية : فساد المعاملة التي لم يأذن الشارع بإيقاعها ، وهو من الامور الواضحة التي اتّفق عليها الفريقان.

وإلى هذا ينظر كلام القوانين : من أنّ الرواية على خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد بالمعصية لا بدّ أن يكون هو مجرّد عدم الإذن والرخصة من الشارع ، وإلاّ فمخالفة السيّد أيضا معصية (1).

قوله : « على خلاف المطلوب أدلّ » يحتمل أن يكون نظره إلى أنّ الأخذ بظاهر العصيان اللازم من مخالفة السيّد يوجب الحكم بالفساد ، مع أنّ الرواية صريحة في الحكم بالصحّة مع الحكم بالعصيان من هذه الجهة ، إلاّ أنّه يجب حمله على ما ذكره من الجهة المذكورة.

والجواب عنه : أنّه لا يصلح حمل العصيان على عدم الإذن ، فإنّه خلاف معناه الحقيقي ، فلا يصار إليه. وما ذكره من الصارف من أنّ عصيان المولى أيضا معصية ، لا يوجب حمله عليه بعد احتمال ما ذكرنا من الحمل على العصيان من غير جهة أنّه

ص: 758


1- القوانين 1 : 162.

فعل من الأفعال ، مع كونه أظهر قطعا ، لدوران الأمر بين تقييد العصيان بما ذكرنا وبين كونه مجازا عن عدم الإذن ، ولا شكّ أنّ الأوّل أقرب.

وأمّا ما استند إليه : من أنّ عدم الإذن لا يوجب العصيان ، ففيه : أنّ الرواية الاولى ليست صريحة في عدم النهي ، فإنّ قولنا : « بغير إذن » قد يستعمل في مقام العصيان أيضا ، غاية الأمر عمومه لصورة عدم النهي أيضا ، وحمل « العصيان » في كلام الإمام على عدم الإذن مرجوح بالنسبة إلى حمله على صورة وجود النهي ، كما ربما يعاضده استقرار العادة على الاستيذان في مثل هذه الامور الخطيرة ، بل ربما يعدّ الإقدام على مثل النكاح بدون إذن المولى وإن لم يكن مسبوقا بالنهي عصيانا. ولا يقاس ذلك بالفضولي ، فإنّ الفرق بين إجراء الصيغة في المال المتعلّق بالغير وبين الإقدام على النكاح والدخول المستلزم لتعلّق المهر بذمّة العبد - كما هو مورد الرواية الثانية - في غاية الظهور.

وأمّا في الرواية الثانية فلا بدّ أيضا من حمل « عدم الإذن » على صورة النهي ، كما يدلّ عليه قول السائل : « فإنّه في أصل النكاح عاص » مع فرض السؤال في صورة عدم الإذن. ولا ينافيه قوله : « ثم اطّلع » فإنّه يلائم صورة النهي أيضا كما لا يخفى. مع أنّ حمل « العصيان » على عدم الإذن يوجب التفكيك.

وبيانه : أنّ الإذن في كلام المعترض ليس إذنا تكليفيّا ، فإنّ عدمه يكون عصيانا حقيقة ، فمراده الإذن الوضعي ، والإذن الوضعي ليس من شأن المولى ، بل إنّما هو شأن الشارع. فما ذكر في توجيه الرواية : من أنّ المراد أنّه ليس ممّا لم يأذنه الشارع وإنّما السيّد لم يأذنه ، يوجب حمل « الإذن » في الأوّل على الجعل والوضع ، وفي الثاني على التكليف ، وهو خلاف الظاهر. سلّمنا أنّ المراد عدم الإذن ، ولكنّه أيضا يدلّ على المطلوب ، فإنّ النهي يلازم عدم الإذن الموجب للفساد ، إلاّ أنّ ذلك ليس تعويلا على الرواية ، فإنّ الملازمة المذكورة ليست مستفادة من الرواية ، بل التعويل على ما ذكرنا من الغلبة والظهور في النواهي الواردة في المعاملات.

ص: 759

وممّا مرّ يظهر التقريب في رواية اخرى رواها الكليني ، عن منصور بن حازم ، عن الصادق عليه السلام « في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله؟ قال : عاص لمولاه. قلت : حرام هو؟ قال : ما أزعم أنّه حرام ، وقل له : أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه » (1) بل الإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر دلالة من غيرها ، فإنّ الظاهر أنّ الكبرى بعد إحراز العصيان عند الراوي معلومة ، لا حاجة إلى الفحص عنها.

وزعم بعض الأجلّة : أنّ هذه الرواية لا إشعار لها على المطلوب ، ولعلّ ذكرها في عداد الأدلّة وقع سهوا عن القلم (2). وقد عرفت ما به يتمّ الوجه في الاستدلال بها ، فلعلّ ذلك سهو من قلمه.

وقد يستدل أيضا برواية البقباق ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « الرجل يتزوّج الأمة بغير علم أهلها؟ قال : هو زنى ، إنّ اللّه يقول : ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ ) (3) » (4).

وجه الدلالة - على ما قيل - : أنّ الإمام عليه السلام استند في الحكم بكون العقد على الأمة بدون علم أهلها فاسدا على انتفاء الإذن المشروط نكاحهنّ به ، ولا ريب في أنّه يدلّ على المدّعى بطريق أولى.

قلت : وهو عجيب فإن الحكم ببطلان المعاملة بواسطة انتفاء الشرط المستفاد من مفهوم القيد ممّا لا يرتبط بالمقام ، فضلا عن دلالته على المطلوب ، فضلا عن كونه بطريق أولى.

ص: 760


1- الكافي 5 : 478 ، الحديث 5 ، والوسائل 14 : 522 ، الباب 23 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 2.
2- الفصول : 144.
3- النساء : 25.
4- الوسائل 14 : 527 ، الباب 29 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.

ثم إن الوحيد البهبهاني قد اختار في فوائده الجديدة تفصيلا لا بأس بذكره.

وحاصله : الفرق بين ما إذا كان دليل صحّة المعاملة منحصرا فيما يدلّ على الحكم التكليفي فيدلّ ، وبين ما لا يكون فلا يدلّ. ومثّل للأوّل بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (3).

واحتجّ على ذلك : بأنّ الصحّة متى استفيدت من الحكم التكليفي - كالوجوب والإباحة - كانت تابعة له ، فلا يجامع النهي الذي يدلّ على ارتفاع ذلك الحكم. وأمّا إذا لم تكن مستفادة من ذلك ، كقوله : « متى التقى الختانان وجب المهر » لا دلالة للنهي على الفساد ، فإنّ حرمة الالتقاء حال الحيض ، لا ينافي ترتّب الأثر على الالتقاء ، فلا بدّ من الجمع بين ما دلّ على الترتّب وبين ما دلّ على الحرمة (4).

ولعلّ ذلك قريب ممّا قدّمنا بحسب المفهوم ، فإنّ (5) الموارد التي قلنا فيها بعدم الدلالة ، كالنهي عن البيع في الجمعة بواسطة تفويت الصلاة ، وتلقّي الركبان بواسطة إيراثه الغلاء - كما يستظهر من الروايات - ففي الأوّل لا بدّ من التخصيص ، وفي الثاني لا بدّ من الجمع.

إلاّ أنّه يرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ هذا التفصيل قلّما يوجد لو لم يؤخذ بما هو المناط فيه كما قرّرنا ، فإنّ الأغلب أنّ دليل الصحّة في المعاملات ليس منحصرا فيما يفيد الحكم التكليفي ،

ص: 761


1- البقرة : 275.
2- المائدة : 1.
3- النساء : 29.
4- الرسائل الفقهيّة : 300 - 301 ، وانظر الفوائد الحائرية : 174.
5- في ( ط ) شطب على « فإنّ » وكتب في الهامش ما يلي : فإنّ الموارد التي التزمنا فيها بالفساد إنّما يكون النهي.

فإنّ صحّة البيع كما يستفاد من قوله : ( أَوْفُوا ) كذلك يستفاد من قوله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (1). نعم ، ربّما يقال : يتمّ ذلك في مثل النكاح ، فإنّ الصحّة فيه تستفاد من قوله : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2).

الثاني : أنّ عدّه آية الوفاء بالعقد (3) - كآيتي العهد (4) والتجارة (5) - ممّا يضادّها التحريم غير وجيه ، إذ لا مانع من النهي عن المعاملة ثمّ الأمر بإمضائها بعد إيجادها. نعم ، يتمّ التناقض والمضادّة في ما لو كان المقصود من الأمر هو تشريع تلك المعاملات بالأمر بإمضائها ، وليس الأمر في ( أَوْفُوا ) على هذا الوجه ، فإنّ المستفاد من الآية هو وجوب الوفاء بالعقد على تقدير وجود الموضوع ، فيجوز التمسّك بعموم الآية في العقود التي ثبت حرمتها في الشرع ، إلاّ أن يستفاد من التحريم المذكور الفساد على وجه قلنا به.

ثمّ إنّ عدّه وجوب المهر المترتّب على الالتقاء في أمثلة الثاني لعلّه ليس في محلّه ، فإنّه نظير الضمان المترتّب على الإتلاف.

ص: 762


1- الوسائل 12 : 346 ، الباب الأوّل من أبواب الخيار ، الحديث 3.
2- النساء : 3.
3- المائدة : 1.
4- الاسراء : 34.
5- البقرة : 275.

هداية

اشارة

حكي عن أبي حنيفة والشيباني (1) دلالة النهي على الصحّة. والمنقول عن نهاية العلاّمة التوقّف (2). ووافقهما فخر المحقّقين في نهاية المأمول (3) ، وأحال الأمر على شرح التهذيب.

والمنقول من احتجاجهما أمران :

أحدهما : أنّه لولاه لامتنع النهي عنه ، والتالي باطل. وأمّا الملازمة : فلأنّ النهي عن صوم الحائض ويوم النحر ، إمّا أن يكون مع إمكان وجوده من المكلّف مع قطع النظر عن النهي ، أو مع امتناعه لكونه أمرا فاسدا لا يمكن تحقّقه من الحائض وفي يوم النحر ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني هو المقصود بالتالي ، وبعد بطلانه تعيّن الأوّل.

الثاني : أنّه لو لا دلالة النهي على الصحّة لكان المنهيّ عنه الصوم الغير الشرعي ، وهو باطل ، لعدم الفرق بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي ، والملازمة ظاهرة.

واستقامة هذين الوجهين موقوفة على أمرين :

أحدهما : أن يكون ألفاظ العبادات والمعاملات - بل جميع موارد النهي - موضوعة لمعانيها الصحيحة الجامعة للأجزاء والشرائط.

ص: 763


1- انظر المستصفى 2 : 28 ، والإحكام للآمدي 2 : 214 ، وفيهما : نقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنّه يدل على الصحّة ، وانظر القوانين 1 : 163.
2- انظر نهاية الوصول : 122 - 123 ، وحكاه عنه في إشارات الاصول : 109.
3- حكاه الكلباسي في إشارات الاصول : 109.

وثانيهما : إمكان اجتماع الأمر والنهي العينيّين في أمر واحد شخصيّ.

إذ على تقدير طروّ المنع بأحدهما لا يتمّ شيء منهما. أمّا الأوّل : فلأنّه لو قيل بكون الألفاظ موضوعة للأعمّ نختار إمكان وجود المنهيّ عنه من المكلّف ، ولا يلزم محذور ، لأنّه لا يلازم الصحّة ، لصدق المعنى على الفاسدة أيضا. وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير امتناع تعلّق الأمر والنهي بشيء يمتنع صحّة المنهيّ عنه ، لأنّ الصحّة فرع الأمر ، والمفروض امتناعه. وعلى قياسه الدليل الثاني ، كما هو ظاهر.

وكيف كان ، فالجواب عنهما : أنّه إن اريد من « الصحّة » كون المنهيّ عنه مأمورا به ، فقد عرفت - في المسألة السابقة - امتناعه على وجه لا مزيد عليه ، فنختار إمكان وجود المنهيّ عنه ، وهو لا يلازم الصحّة بمعنى موافقة الأمر. وإن اريد من « الصحّة » كون المنهيّ كامل الأجزاء والشرائط مع قطع النظر عن النهي المتعلّق به ، فهو حقّ على القول بالصحيح إذا لم يكن تعلّق النهي بالعبادة أو المعاملة كاشفا عن عدم اجتماعهما الشرائط الوجودية والعدميّة ، فيكون استعمال لفظ « البيع » و « الصلاة » في موارد النهي مجازا باعتبار المشاكلة والمشابهة ونحوها. ولكن ينبغي أن يعلم أنّ ذلك إنّما هو بواسطة مادّة المنهيّ عنه ، وليس للنهي مدخل في ذلك ، كما هو ظاهر. ولعلّ العلاّمة رحمه اللّه وابنه فخر المحقّقين ، إنّما ينظران إلى ما ذكرنا ، فتوقّف الأوّل ومال الثاني إليه.

ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لتعجّب بعض أفاضل المعاصرين منهما في ذلك (1) ، فإنّ المسألة ليست بتلك المكانة ، بل على القول بالصحيح لا بدّ من التزام مقالته ولا يلزم محذور ، فإنّ الصحيحي لا يقول بأنّ الصحّة - بمعنى مطابقة الأمر - أيضا داخلة في المسمّى ، كيف! وهو فاسد جدّا. وقد نبّهنا على ذلك في محلّه. نعم ، لو كان القول بالصحيح مقتضيا لذلك كان فاسدا ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ص: 764


1- إشارات الاصول : 109.

وتظهر الثمرة فيما لو نذر ترك الصوم على وجه الإطلاق ، فإنه على القول بأنّ المنهيّ عنه صحيح - بمعنى مطابقة الأمر - لا ينعقد النذر ؛ لأنّ جميع أفراد الصوم راجح شرعا حتّى الفرد المنهيّ عنه ، غاية الأمر حصول الامتثال والعصيان معا على القول بالصحّة بمعنى اجتماع الشرائط والأجزاء ، أو الصحّة بمعنى ترتّب الأثر اللازم لذلك المعنى ، فينعقد النذر ويحصل الحنث بالأفراد المحرّمة ، كذا قيل (1) ، ولا يخلو من تأمّل.

تذييل : فيه تنبيه على فائدة مهمّة

لو كانت المعاملة متقوّمة بشخصين تعلّق النهي بما هو متعلّق بأحدهما - كالإيجاب أو القبول - دون الآخر ، لا إشكال في عدم سراية الحكم التكليفي من أحدهما إلى الآخر ، فإنّه لو كان الإيجاب من أحدهما وقت النداء مع وجوب الجمعة في حقّه حراما - مثلا - لا دليل على حرمة القبول ، إلاّ أن يكون القابل معاونا للموجب في إيجاد المحرّم. وليس الحرمة على الوجه المذكور محلّ الكلام.

وأمّا الحكم الوضعي ، فلا ينبغي الإشكال في سرايته ، كيف! والمعاملة متقوّمة بشخصين ، وبعد فرض انتقاء الأثر من أحد الطرفين لا يعقل ترتّب الأثر من الآخر ، فإنّ الأثر مترتّب على تمام العقد الحاصل من فعلهما.

نعم ، لو كان كلّ واحد من الإيجاب والقبول مؤثّرا لأثر لا يرتبط أحدهما

ص: 765


1- لم نعثر عليه.

بالآخر كان الوجه عدم السراية ، كما هو كذلك في الآثار المترتّبة على أحدهما خاصّة ، كعدم جواز التصرّف في المبيع فيما إذا كان الموجب أصيلا والقابل فضوليّا. وأمّا حصول الملك ونقل العوض وانتقال المعوّض وأمثاله ، فإنّما يترتّب على الفعلين المفروض فساد أحدهما ، فلا يعقل القول بأنّ العقد صحيح بالنسبة إلى أحدهما وفاسد بالنسبة إلى الآخر.

نعم ، يصحّ التفكيك إذا اختلف المتعاقدان في المذهب ، كأن يرى أحدهما صحّة العقود الفارسيّة فعقدا بالفارسيّة على شيء ، فإنّه يصحّ عند القائل بالصحّة ولا يصحّ عند القائل بالفساد ، وحيث إنّ اعتقاد الفساد على تقدير إرادة النقل بالسبب الفاسد لا يوجب الفساد في الواقع عند القائل بالصحّة ، فلا ضير في الحكم بالصحّة عنده في الظاهر على القول بالتخطئة ، وفي الواقع على القول بالتصويب.

ويظهر من بعضهم الحكم بالتبعيض مطلقا ، ولا وجه له كما عرفت.

والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم الدين. ومن اللّه التوفيق والهداية.

ص: 766

الفهرس

ص: 767

ص: 768

الفهرس

كلمة المجمع... 7

مقدمة التحقيق... 9

خطبة الكتاب... 23

القول في الصحيح والأعم 27 - 105

هداية - هل جريان النزاع موقوف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية؟... 31

هل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات؟... 37

هداية - المراد بلفظ « الصحيح »... 45

هداية - في بيان المراد من القول بالأعم... 51

تذنيب - العبادة المشتملة على أجزاء مسنونة... 58

هداية - ثمرات النزاع في الصحيح والأعم... 61

تذنيب - اختلاف الأصل باختلاف وجوه القول بالصحيح والأعم... 71

ص: 769

هداية - في ذكر احتجاج القول بالصحيح... 73

هداية - في ذكر احتجاج القائلين بالأعم... 87

هداية - وجه القول بالتفصيل بين الأجزاء والشرائط... 101

فائدتان - الاولى : تمييز الأجزاء عن الشرائط... 103

الثانية : فروق عملية بين الجزء والشرط... 104

تذنيب - خروج ألفاظ المعاملات عن النزاع... 105

الكلام في الإجزاء

107 - 194

امور تمهيدية... 109

الاتيان بالمأمور بالأمر الواقعي الاختياري يقتضي الإجزاء... 116

هداية - هل الإتيان بالمأمور بالأمر الواقعي الاضطراري يقتضي الإجزاء أم لا؟... 119

هداية - الأمر الظاهري العقلي لا يقتضي الإجزاء... 127

هداية - في الأمر الظاهري الشرعي... 133

هداية - في أن الأمر الظاهري الشرعي هل يقتضي الإجزاء في ما لو انكشف الخلاف؟ 153

وجه القول بعدم الإجزاء وهو المختار... 156

وجوه التفصيل في المقام... 169

هداية - الإجزاء وعدمه بالنسبة إلى فعل الغير في ما لو اعتقد فساد فعله... 189

تذنيب - وجه القول باستحباب التدارك والإعادة في ما لو أحرم بغير غسل الإحرام أو صلاته 193

ص: 770

القول في وجوب مقدّمة الواجب

195 - 494

هداية - هل المسألة فرعيّة أم اصوليّة وهل هي عقليّة أم من مباحث الألفاظ؟... 197

هداية - المراد من المقدمة... 203

تقسيمات المقدمة إلى :... 204

الداخليّة والخارجيّة... 204

العقليّة والشرعية والعاديّة... 214

مقدّمة الوجود والوجوب والصحة والعلم... 215

هداية - تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط... 223

هل النزاع يخصّ بمقدّمة الواجب المطلق؟... 229

هداية - هل الواجب حقيقة في المطلق ومجاز في المشروط؟... 235

هداية - إذا شكّ في كون الواجب مشروطا أو مطلقا ، فهل الأصل الإطلاق أو أو الاشتراط؟ 247

هداية - الكلام في موارد حكم فيها بوجوب الإتيان بالمقدمة قبل اتصاف ذيها بالوجوب 259

تتميم تحصيلي : هل وجوب الإتيان بالمقدمة قبل وجوب ذيها مطلق أم مقيد بالزمان الذي بعده لا يتمكّن من الامتثال؟... 278

هداية - صحة اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرّم مقدم عليه زمانا ، وهل يصحّ أن يكون الواجب مشروطا بمقدمة محرّمة مقارنة للفعل في الوجود أم لا؟... 283

هداية - الواجب التعبدي والتوصلي... 297

إذا شك في واجب أنه تعبدي أو توصلي فما الذي يقتضيه ظاهر الأمر؟... 300

ص: 771

هداية - هل الأدلّة الخارجة تقتضي التوصلية في موارد الشك؟... 307

هداية - الكلام في اعتبار قصد العنوان في المأمور به... 319

تذنيب - هل يجوز اجتماع الحرام مع الواجب التوصّلي؟... 326

هداية - الواجب الغيري والنفسي... 329

صور الشك في النفسية والغيريّة... 331

هداية - هل يصحّ ترتّب الثواب والعقاب على الواجبات الغيريّة؟... 337

تنبيهان : الأوّل : الكلام في ترتب الثواب على فعل الطهارات الثلاث شرعا... 347

الثاني : الكلام في تصحيح القربة في الأوامر المقدّمية... 349

هداية - عدم توقف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير... 353

هل يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها لأجل التوصّل بها إلى الغير؟ 353

هل يكتفى بالمقدمة في الغاية غير المقصودة؟... 357

هداية - هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب ترتّب الغير عليه؟ 365

تذنيب - الكلام في تصحيح العبادة التي يتوقّف فعل الضد على تركها... 377

هداية - الواجب الأصليّ والتبعيّ... 381

هداية - هل البحث عن وجوب المقدمة يشمل جميع أقسام الواجب؟... 385

الكلام في نوع وجوب المقدمة ، وهل هو نفسي أم ...؟... 386

المراد من وجوب المقدمة... 387

هداية - ثمرات النزاع في وجوب المقدّمة... 391

هداية - في بيان الأصل في المسألة والأقوال فيها... 401

هداية - في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدمة... 405

هداية - في ذكر احتجاج المفصّل بين السبب وغيره... 441

ص: 772

هداية - في ذكر احتجاج المفصّل بين الشروط الشرعيّة وغيرها... 447

هداية - المقدمة الموصلة إلى ترك الحرام... 459

المقدمة الموصلة إلى فعل الحرام... 454

هداية - الكلام في حرمة العزم على المعصية والعفو عنها... 457

هداية - الكلام في القصد المقارن لفعل بعض مقدّمات الحرام... 473

هداية - الكلام في التجرّي... 475

هداية - الإعانة على الإثم... 483

القول في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟

495 - 590

هداية - في أنّ هذه المسألة هل هي من فروع مسألة مقدّمة الواجب أو هي مسألة برأسها 497

هداية - في تحقيق مقدميّة ترك أحد الضدين لوجود الآخر... 499

مقال آخر في بحث الاقتضاء... 515

مقدّمات :... 515

الاولى - النسبة بين هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب... 515

الثانية - في تحرير محلّ النزاع... 537

الثالثة - في معرفة المراد من « الشيء » و « النهي » المشتمل عليهما عنوان البحث 546

الرابعة - في الضدّ... 548

الخامسة - في بيان المراد من « الاقتضاء »... 553

ص: 773

الأقوال في المسألة... 554

ثمرات النزاع... 559

أدلّة الأقوال... 565

الكلام في قولين آخرين... 580

تذنيب - هل النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه؟... 588

القول في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

591 - 723

مقدّمة : هل هذه المسألة ملحقة بمسائل الاصول أو بمسائل الكلام؟... 593

هداية - في بيان المراد من الألفاظ المأخوذة في العنوان... 597

هداية - في بيان امور ترتبط بالمقام... 605

الأوّل - في بيان متعلق الأمر والنهي... 605

الثاني - في بيان الأقوال في هذه المسألة... 608

الثالث - في بيان ثمرة النزاع... 614

هداية - في حجج المجوّزين :... 617

الوجه الأوّل - التضاد بين الأحكام لا يصلح للمنع عن اجتماعها... 617

الكلام في العبادات المكروهة... 618

تحقيق المراد من الكراهة في العبادات... 634

اجتماع المستحبّ مع الواجب... 650

اجتماع الوجوبين... 653

الكلام في إجزاء غسل واحد عن الجنابة الواجبة والجمعة المندوبة... 658

ص: 774

الوجه الثاني - المقتضي للجواز موجود والمانع مفقود... 676

الوجه الثالث - قضاء العرف بحصول الإطاعة والعصيان في ما إذا أتى المكلّف بفرد جامع للعنوانين 687

هداية - في ذكر احتجاج المفصّل بين العرف والعقل... 695

هداية - ما هو الحكم في المسألة بعد القول بالامتناع؟... 701

هداية - الأقوال في المسألة في ما إذا كان الاجتماع بسوء اختيار المكلف... 707

خاتمة - دفع توهّم التنافي بين القول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة حال الخروج وبطلان عمل الجاهل بحكم الغصب مع تقصيره في التعلّم... 722

القول في اقتضاء النهي للفساد في ما إذا تعلّق بشيء

725 - 766

هداية - في تقديم امور... 727

الأوّل - الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي... 727

الثاني - المراد من النهي المأخوذ في العنوان... 728

الثالث - أن الشيء المتعلق للنهي إمّا أن يكون عبادة أو غير عبادة... 728

الرابع - في تفسير « صحيح العبادة »... 732

تذنيب - في أنّ الصحة والفساد وصفان اعتباريّان لا أنّهما من الأحكام الوضعية 737

الخامس - هل محلّ النزاع إنّما هو في ما إذا ورد النهي مع وجود ما يقضي بالصحة شرعا؟ 739

السادس - هل الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد؟... 740

ص: 775

السابع - في أنّ متعلّق النهي قد يكون نفس العبادة أو جزءها أو وصفها... 743

هداية - في الأقوال في المسألة وبيان الحق في المقام... 749

هداية - هل يدلّ النهي على الصحة؟... 763

تذييل - لو كانت المعاملة متقومة بشخصين وورد النهي عن ما هو متعلق بأحدهما دون الآخر 765

ص: 776

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

المحقق: مجمع الفكر الإسلامي

الناشر: مجمع الفكر الاسلامي

المطبعة: شريعت

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-5662-51-6

المكتبة الإسلامية

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الثاني

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 1

اشارة

ص: 2

المكتبة الإسلامية

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الأوّل

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 3

سرشناسه : كلانتری نوری ، ابوالقاسم بن محمد علی

محل نكهداری نسخه : قم

مركز نگهدارنده نسخه : كتابخانه زنجانی (آیة اللّه)

شماره بازیابی نسخه : 39

عنوان و نام پدیدآور : مطارح الانظار[نسخه خطی]

وضعیت استنساخ : رجب 1283

یادداشت كلی : آغاز كتاب: الحمدلله رب العالمین .. القول فی الاستصحاب و تحقیق المقصود فیه فی طی هدایات انجام كتاب: علی القول بالتصویب و یظهر من بعضهم بالتبعیض مطلقاً و لاوجه كما عرفت. مباحث ظن تاریخ تالیف:1246 ق. تدوین و گردآوری: موسسه فرهنگی پژوهشی الجواد

یادداشت مشخصات ظاهری : خط: شكسته نستعلیق

خصوصیات نسخه موجود : مقابله شده با نسخه اصل. با مهر كتابخانه حاج شیخ فضل اللّه نوری. در آغاز و انجام

منابع اثر، نمایه ها، چكیده ها : منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: الذریعة136/21 و369/4 و 513/28 منابع كتابشناسی: مرعشی9/9 و 184/28و 185/28 و 126/31 و 252/31 منابع كتابشناسی: مجلس424/25 منابع كتابشناسی: مشارعربی/875 منابع كتابشناسی: فهرست آستان قدس 81/6 و 404/16 و 436/16-438 منابع كتابشناسی: معجم المؤلفین 120/8 منابع كتابشناسی: بیروت، داراحیاء التراث العربی منابع كتابشناسی: الذریعة 136/21 منابع كتابشناسی: آیة اللّه زنجانی ص 203 منابع كتابشناسی: عكسی مركز احیاء میراث 213/5 و 351/5 منابع كتابشناسی: ذریعه 136/21 شماره 4305 منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: كتابخانه مدرسه آخوند ص 1361 منابع كتابشناسی: مجلس شورا 564/23 و425/16 و 667/23 و 114/26 و 424/25-426 منابع كتابشناسی: نامه دانشوران 472/1 منابع كتابشناسی: مكتبة امیرالمؤمنین 322/4 منابع كتابشناسی: شورا 150/24/2 منابع كتابشناسی: سید محمد باقر طباطبائی ص40و 41 منابع كتابشناسی: الذریعة: 107/6 منابع كتابشناسی: ریحانة الادب: 244/5 منابع كتابشناسی: آغاز نامه: 459/1. ماخذ: آشنائی با چند نسخه خطی

یادداشت باز تكثیر : بیروت، دار احیاء التراث العربی؛ مشار عربی 875 ؛ دارالخلافه طهران ، سنگی ، 1308 ، رحلی ، بدون شماره صفحه . و در تهران 1308و 1314 به همراه تقلید المیت و الاعلم حبیب اللّه رشتی چاپ سنگی شده و اخیرا به تحقیق علی قاضلی در قم 1386-1383 به چاپ رسیده.

معرفی نسخه : معرفی كتاب: تقریراتی است كه مرحوم كلانتر از درس اساتید خود تحریر نموده است . این تقریرات از دروس شیخ انصاری و میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر گردیده است . با عناوین <هدایة -هدایة> تنظیم شده و پس از مؤلف فرزندش <میرزا ابوالفضل كلانترتهرانی> آنها را جمع آوری و بدین نام موسوم گردانیده است . مطارح الانظار درتهران به صورت چاپ سنگی در307 صفحه رحلی درسال 1308 ق به چاپ رسیده ، ولی ناشر تصرفاتی در اصل كتاب داده ، و بخش قطع و ظن و برائت و استصحاب را به استناد آنكه نظرات شیخ انصاری دراین مسائل دركتاب رسائل بیان گردیده ، چاپ نكرده و از مسئله اجتهاد و تقلید بحث تقلید میت و اعلم راچاپ نموده است . نسخه حاضر پنج بخش از مطارح را شامل است . سه بخش اول همان است كه در مطارح الانظار چاپی به چاپ رسیده و از تقریرات درس شیخ انصاری است . اما بخش پنجم و چهارم چاپ نشده ومؤلف د رپایان بخش چهارم ، تصریح نموده كه این بخش از تقریرات درس میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر شده است . بخش پنجم نیز گویا از تقریرات درس رشتی است . ترتیب و عنوان بخشهای كتاب چنین است : 1- مسالة الاجزاء بسمله هدایة اختلفوا فی ان الاتیان بالمامور به علی وجهه 1-33 2- مقدمة الواجب : بسمله القول فی وجوب مقدمة الواجب وتحقیق الكلام 34-132 3- الضد ، بسمله القول فی ان الامر بالشی هل یقتضی النهی عن ضده اولا 132-158 4- الاجتهاد والتقلید ( تقریرات درس شیخ حبیب اللّه رشتی ) آغاز حمدله وبعد اختلف بعد اتفاقهم علی جواز التقلید عند تعذر العلم 163-215 5- الاستصحاب ، آغاز : حمدله القول فی الاستصحاب وتحقیق المقصود فیه فی طی هدایات 221-445

عنوان افزوده توسط فهرستنو یس : التقریرات attaqrīrāt

موضوع های كنترل نشده : اصول فقه

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

ص: 6

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في المفهوم والمنطوق

اشارة

ص: 7

ص: 8

وتحقيق المطلب في طيّ هدايات :

هداية

في بيان امور ترتبط بالمقام :

الأوّل : الظاهر من موارد إطلاق اللفظين في كلمات أرباب الاصطلاح أنّهما وصفان منتزعان من المدلول ، لكن من حيث هو مدلول ، فنفس المعنى مع قطع النظر عن كونه مدلولا لا يتّصف بشيء منهما. ولا يقاس بالكلّية والجزئيّة ؛ لظهور اتّصاف المعنى بهما من حيث هو. ويشعر بذلك الحدود الآتية ، سيّما مع تفسير جماعة منهم الموصولة الواقعة فيها ب- « الحكم » ونحوه ، فإنّ الدلالة لا تعرّف بالحكم.

خلافا لظاهر العضدي (1) تبعا للحاجبي (2) وللمحكيّ عن الشهيد الثاني (3) ، حيث جعلوهما من الأوصاف الطارئة للدلالة. ولا وجه لذلك.

وأمّا ما قيل : من أنّ تقسيم الدلالة إليهما يدلّ على ذلك. ففيه : أنّ التقسيم المذكور لم نعثر عليه في كلام من يرى أنّهما من الأوصاف المنتزعة من المدلول. نعم ، عدّهم دلالة الإشارة من المنطوق دليل عليه. والظاهر إرادة دخول مدلولها فيه.

ص: 9


1- انظر شرح مختصر الاصول : 306.
2- انظر شرح مختصر الاصول : 306.
3- تمهيد القواعد : 108 ، وحكاه عنه وعمّا قبله في إشارات الاصول ، الورقة : 233.

وربّما يستشهد له أيضا بقولهم : هل المفهوم حجّة أو لا؟ حيث إنّه لا يعقل حجيّة المدلول بعد ثبوته.

وفيه : أنّه لا يعقل حجيّة (1) الدلالة بعد ثبوتها ، فالكلام على التقديرين في نفس الثبوت.

وأمّا كونهما من عوارض الدالّ - كالأوصاف اللاحقة للألفاظ من العموم والخصوص والحقيقة والمجاز ونحوها - فممّا لم يذهب إليه وهم ، ولا يساعده موارد استعمالهم لهما أيضا.

الثاني : أنّ مقتضى الحصر بين الدلالات انحصار استفادة المدلول فيها. وهل المدلول منحصر في المفهوم والمنطوق أو لا؟ ظاهر الأكثر - كما يظهر من الحدود الآتية - هو الأوّل ؛ لاعتبارهم النفي والإثبات فيهما.

ويظهر من محكيّ النهاية ثبوت الواسطة (2) ، حيث جعل الإيماء والإشارة قسما ثالثا ، مع أنّ المشهور دخولهما في المنطوق ، خلافا للتفتازاني حيث جعلهما من المفهوم (3).

فإن أرادا بذلك جعل اصطلاح جديد فلا ينبغي التشاحّ. وإن أرادا بيان ما هو المصطلح فالظاهر خلافه ، كما يظهر بالرجوع.

ثمّ إنّ المداليل المفردة ليست من المنطوق ، كما أنّ لوازمها العقليّة أو غيرها ليست من المفهوم ، فإنّ المقسم فيهما هو المدلول المركّب ، فلا يختلّ الحصر ، كما لا يخفى.

ص: 10


1- في ( ع ) زيادة : « ثبوت ».
2- نهاية الوصول : 200.
3- حاشية التفتازاني المطبوع مع شرح العضدي 2 : 171 - 172.

الثالث : الظاهر في مصطلحهم دخول المدلول المطابقي في المنطوق قطعا.

وأمّا التضمّني ، فظاهر الأكثر أيضا أنّه من المنطوق وإن وقع الخلاف (1) في صراحته. لكن لازم من زعم أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على الحكم المفهومي إنّما هو بالتضمّن انقسامه إليهما.

وأمّا الالتزامي ، فعن بعض الأفاضل كونه مفهوما مطلقا (2). ولازمه عدّ دلالة الأمر على الوجوب ووجوب المقدّمة وحرمة الضدّ من المفهوم ، فضلا عن مثل دلالة الإيماء والإشارة والتنبيه.

وحيث إنّ المرجع في تشخيص هذه الامور الاصطلاحيّة - كما تقدّم - هو الرجوع إلى كلماتهم ، فالظاهر أنّ المقسم هو مطلق المدلول ، لكنّ المدلول المطابقي والتضمّني لا يكون إلاّ منطوقا ، والمدلول الالتزامي ينقسم إليهما. فتقسيم المداليل الثلاثة إلى القسمين باعتبار التوزيع والتداخل.

ثمّ إنّ الظاهر من كلماتهم أيضا أنّ التمييز بين القسمين ليس باعتبار الحيثيّات والاعتبارات ، بل هما تعبيران عن معنيين ممتازين في الواقع لا يتداخل أحدهما في الآخر. فما يظهر من بعضهم : من أنّ آيتي « الحمل » (3) و « التأفيف » (4) يحتمل جعل مدلولهما من المنطوق باعتبار ومن المفهوم باعتبار آخر - كما ستعرف - لا وجه له.

ص: 11


1- راجع هداية المسترشدين 2 : 412 ، والقوانين 1 : 168 ، وإشارات الاصول ، الورقة : 233.
2- حكاه المحقّق النراقي في المناهج : 127 ، عن البيضاوي.
3- الأحقاف : 15 ، والبقرة : 233.
4- الإسراء : 23.

الرابع : عرّف الحاجبي المنطوق ب- « ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق » ، والمفهوم ب- « ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق » (1). والظاهر أنّ لفظة « ما » موصولة ، فيدلّ على أنّ المنطوق وخلافه من أوصاف المدلول كغيره من الحدود الآتية. كما أنّ الظاهر اختصاصهما بالدلالة الوضعيّة ، فالدلالة العقليّة وإن كانت لفظيّة لا يعدّ مدلولها من المنطوق والمفهوم.

وفسّره العضدي بقوله : أي يكون حكما لمذكور وحالا من أحواله ، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أم لا. والمفهوم بخلافه ، وهو : ما دلّ عليه اللفظ (2) لا في محلّ النطق ، بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله (3).

وتوجيهه - على ما زعم من كون لفظة « ما » مصدريّة - : أنّ المنطوق دلالة اللفظ على مدلوله حال كون ذلك المدلول يكون موضوعه ثابتا في محلّ النطق ، فيكون الظرف متعلّقا بالعامل المقدّر حالا عن الضمير المجرور باعتبار موضوعه ، فيكون من قبيل إجراء الصفة على غير من هي له.

وذلك مع كونه بعيدا - لما عرفت من أنّ الظاهر أنّ كلمة « ما » موصولة ، وأنّ استفادة المدلول من الدلالة ليكون مرجعا للضمير المجرور لا يخلو عن شيء ، وأنّ ظاهر التوصيف وما يجري مجراه من الحال ونحوه أن يكون جاريا على من هي له - اورد عليه (4) :

أوّلا : بخروج بعض المفاهيم ، كمفهوم الشرط مثل قولك : « إن جاءك

ص: 12


1- راجع شرح مختصر الاصول : 306.
2- لم يرد « عليه اللفظ » في ( ع ) والمصدر.
3- شرح مختصر الأصول : 306.
4- انظر هداية المسترشدين 2 : 410.

زيد فأكرمه » فإنّ الموضوع في المفهوم هو « زيد » المذكور في المنطوق ، ومفهوم الغاية كقولك : « صم إلى الليل » فإنّه لا يجب فيه الصيام وهو مذكور ، ومفهوم الحصر كقولك : « إنّما زيد قائم » ، ومفهوم اللقب ، نحو قولك : « يجب إكرام غير زيد » ، وبنحو « فاسأل القرية » ، فيختلّ التعريفان طردا وعكسا.

وثانيا : أنّهم ذكروا أن الإيماء والإشارة من المنطوق ، ومثّلوا لهما بالآيتين (1) ؛ فإنّ دلالتهما على أن أقلّ الحمل ستّة بالمنطوق مع أنّ أقلّ الحمل الذي هو الموضوع غير مذكور.

وثالثا : أنّ المداليل الالتزاميّة التي لا يعدّ عندهم من المفهوم في الأغلب لا يكون الموضوع فيهما مذكورا.

وقد يذبّ عن هذه الوجوه :

أمّا عن مفهوم الشرط ، فتارة : بأنّ الموضوع في المفهوم هو « زيد الغير الجائي » ، لا « زيد » مطلقا ، وهو ليس بمذكور. وأخرى : بأنّ الموضوع في المنطوق هو « المجيء » وفي المفهوم عدمه ، وهو ليس بمذكور.

وأمّا عن مفهوم الغاية : فبأنّ الموضوع في المفهوم هو أنّ « غير الليل ليست غاية » وهو ليس بمذكور.

وأمّا عن مفهوم الحصر : فبأنّ المراد نفي القيام عن غير زيد ، وهو ليس مذكورا. وإن اريد منه نفي غير القيام عن زيد فيؤول الأمر حقيقة إلى نفي اتّصاف زيد بشيء من الصفات ، و « الاتّصاف » ليس مذكورا.

ص: 13


1- أي : آيتي « الحمل » : الأحقاف : 15 ، والبقرة : 233 ، وراجع هداية المسترشدين 2 : 410 ، والفصول : 146.

وأمّا عن مفهوم اللقب : فبأنّ الموضوع في المفهوم ليس زيدا بل هو « غير زيد » وهو ليس مذكورا وإن كان مصداقه وهو « زيد » مذكورا (1).

وأمّا عن خروج دلالة الإشارة عن المنطوق : فبأنّ الموضوع هو « الحمل » ، والمستفاد من الآيتين أنّ الحمل أقلّه ستّة ، وهو مذكور.

وأمّا عن نحو « فاسأل القرية » : فبأنّ الموضوع المقدّر في حكم المذكور.

وأمّا المداليل الالتزامية : فبأنّ وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ ونحوهما إنّما هو من أحكام الصلاة المذكورة في قولك : « صلّ » ، فالمستفاد منه أنّ الصلاة يجب مقدّمتها ويحرم ضدّها ... إلى غير ذلك.

ولا يخفى على من له خبرة أنّ هذه كلّها تكلّفات سخيفة وتوجيهات ضعيفة لا ينبغي ارتكابها ؛ فإنّ ذلك يوجب اختلاط مصاديق النوعين وامتيازها بحسب الوجوه والاعتبارات ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الظاهر منهم عدم اختلاط المفهومين كمصاديقهما ، فلا ينبغي الإصغاء إليها.

وقد يفسّر الحدّ المذكور - مع قطع النظر عن تحليل مفرداته - : بأنّ المنطوق هو المدلول الذي يفهم من اللفظ في محلّ النطق ، بأن يكون ناشئا من اللفظ ابتداء بلا واسطة المعنى المستعمل فيه ، بخلاف المفهوم.

وتوضيحه : أنّ المستفاد من قولك : « إن جاء زيد فأكرمه » حكمان يكفي في استفادة أحدهما ترجمة الألفاظ الواقعة في التركيب لغير أهل اللسان ، ويحتاج استفادة الثاني إلى ملاحظة اعتبار آخر في المدلول ، كما هو ظاهر. فالظرف متعلّق ب- « دلّ » ويكون المراد بالموصولة هو الحكم ونحوه. إلاّ أنّه لم يظهر بعد معنى لقولهم : « في محلّ النطق » إلاّ على وجه بعيد ، فتأمّل.

ص: 14


1- كذا في النسخ. والمناسب هكذا : وأمّا عن مفهوم اللقب فبأنّ الموضوع في المفهوم ليس « غير زيد » بل هو « زيد » وهو ليس مذكورا وإن كان « غير زيد » مذكورا.

ويشعر به تعريف الآمدي للمنطوق ب- « ما فهم من اللفظ نطقا » (1) كتحديد العلاّمة ب- « ما دلّ اللفظ عليه بصريحه » (2) فالمعيار في الفرق هو الاستفادة الابتدائيّة وعدمها.

وحينئذ ينتقض الحدّان بناء على ما ذكرنا : من أنّ ظاهرهم دخول التضمّن في المنطوق ، وتقسيم الالتزام إليهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المدلول التضمّني لا يستفاد من اللفظ ابتداء ؛ ضرورة تبعيّة التضمّن للمطابقة وإن انعكس الأمر في التحقّق ، فيدخل في حدّ المفهوم مع أنّه ليس منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المداليل الالتزاميّة كلّها لا تتحقّق (3) إلاّ بالواسطة ، ولا وجه لما يتوهّم من الفرق بين المداليل الالتزاميّة البيّنة وغيرها ، فإنّ وجوب المقدّمة من غيرها مع أنّه ليس من المفهوم كدلالة الإشارة ونحوها.

وقد يفرّق أيضا : بأنّ المداليل الالتزامية على قسمين ، أحدهما : ما يكون لازما لنفس المعنى لا مدخل للّفظ والوضع فيه أبدا إلاّ الكشف عن المعنى ، وذلك كوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وأمثالهما من اللوازم ، فإنّ الانتقال إليها لا يتوقّف على ملاحظة لفظ أو وضع أو غير ذلك ، بل يكفي في الانتقال إليها ملاحظة نفس المعنى الملازم وإن لم يكن بدون اللفظ ، ولذلك لا يفرّق بين ما إذا ثبت وجوب الواجب باللفظ أو بغيره في الحكم بوجوب المقدّمة. الثاني : ما يكون لازما للمعنى الموضوع له باعتبار الوضع له ، فكأنّ الواضع اعتبره في وضع اللفظ للمعنى الملازم. فالأوّل من المنطوق ، والثاني من المفهوم.

ص: 15


1- الإحكام في اصول الأحكام 3 : 74.
2- نهاية الوصول : 200.
3- في ( ع ) : « لا يتصوّر ».

وفيه : أنّ الفرق المذكور ممّا لا محصّل له ؛ فإنّ الملازمة واقعة بين المعاني في جميع الموارد ، فإنّ العلقة بين الشرط والجزاء تتصوّر على وجهين : أحدهما التوقّف الوجودي فقط ، والثاني التوقّف وجودا وعدما. وإنّما النزاع في أنّ الجملة الشرطيّة - مثلا - هل يستفاد منها العلقة على الوجه الأوّل ، أو على الوجه الثاني؟

ولا معنى لاعتبار الواضع اللزوم أو الملازمة في الوضع ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ولا ينافي ذلك كون المبحث من مباحث الألفاظ كما في الأمر ؛ ولذلك لو ثبت المعنى الموجود في الجمل الشرطيّة - مثلا - بدليل غير اللفظ على الوجه المستفاد من اللفظ نقول بالانتفاء عند الانتفاء فيما إذا قلنا بثبوت المفهوم ؛ مضافا إلى ورود النقض بمفهوم الموافقة بعد ، فإنّا لا نفرّق بين الانتقال إلى حرمة الضرب من آية « التأفيف » وبين غيره من اللوازم.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ لوازم المداليل المفردة خارجة عن المقسم ، كما يشعر به أخذ « الحكم » جنسا في التعريفات السابقة.

وأمّا المداليل الالتزامية للمركّبات : فتارة يقصد دلالة اللفظ عليها ، وتارة يستفاد ولو مع عدم القصد. والثاني خارج عن المفهوم. وأمّا القسم الأوّل ، فإن كان الحكم المستفاد من الكلام المنطوق به مفاده مفاد قولك : « لا غير » كما في مفهوم المخالفة ، كما يقال : « زيد قائم غير عمرو » أو كان الحكم ثابتا للغير على وجه الترقّي - كما في مفهوم الموافقة - فهو المفهوم بقسميه ، وإلاّ فهو من المنطوق. فاستقرّ اصطلاحهم على تسمية هذا النوع من المدلول الالتزامي بالمفهوم ، وذلك شامل لجميع المفاهيم. أمّا مفهوم الشرط فلأنّ المقصود منه نفي تحقّق الجزاء عند غير الشرط ، كمفهوم الوصف واللقب والحصر ، سواء كان من قبيل قصر الصفة أو قصر الموصوف ، وكمفهوم الغاية فإنّ المقصود فيه نفي وجود الحكم فيما بعد الغاية ، فيكون الحكم ثابتا قبلها لا غير.

ص: 16

ولا يرد النقض بدلالة الإشارة ، فإنّ المستفاد من الآيتين هو الحكم بأنّ أقلّ الحمل ستّة ، ولا دلالة فيهما على نفي الحكم عن الغير أو الإثبات له على وجه الترقّي ، ولا بدلالة الأمر على الوجوب أو على وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ. وكلّ ذلك ظاهر في الغاية.

ويمكن أن يعرّف المفهوم حينئذ ب- « أنّه حكم افيد لغير المذكور » سواء كان مغايرا في النفي والإثبات أو موافقا ، كما هو قضيّة إطلاق الحكم ، فيشمل لكلا قسمي المفهوم.

والوجه في تبديل « الدلالة » ب- « الإفادة » إخراج ما لا يكون مقصودا من اللوازم. والمراد بكونه حكما لغير المذكور هو كونه ثابتا له على أحد الوجهين المتقدّمين. والمراد بغير المذكور هو الموضوع الذي سيق له الحكم.

وتوضيحه : أنّ المراد ب- « الموضوع » في المقام وأمثاله ليس خصوص المبتدأ أو الفاعل في الجملة الخبريّة ، بل كلّ ما يتعلّق بالحكم من المتعلّقات : من الظرف والغاية والفاعل والمفعول ونحوها من الامور المذكورة في القضيّة التي يمكن الإخبار عنها بالحكم ، كأن يقال في الظرف : « إنّ الدار مضروب فيها » ونحو ذلك ، فقولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » يشمل على حكم هو الوجوب ، وموضوعات عديدة هي : المجيء ، والمخاطب ، وزيد ، والإكرام ، فإذا سيق الكلام المزبور لبيان نفي الحكم عن غير الإكرام ، يكون المراد به : إن جاءك زيد فلا يجب غير الإكرام ، وحينئذ يكون من مفهوم اللقب ، والموضوع « غير الإكرام » وهو غير مذكور. ومثله لو سيق الكلام لنفي الحكم عن غير زيد أو المخاطب. وإذا سيق الكلام المزبور لنفي الوجوب عند عدم المجيء يكون من مفهوم الشرط.

ص: 17

ومن هنا تعرف أنّه لو أريد من آية « النبأ » (1) نفي الحكم عن مجيء غير الفاسق يكون من مفهوم الوصف أو اللقب ، وإن اريد نفي الحكم عن عدم مجيء الفاسق يكون من مفهوم الشرط.

وبالجملة : فتشخيص الموضوع في القضايا موقوف على تشخيص ما سيق لأجله الكلام المذكور. ولعمري! إنّه غاية ما يمكن أن يقال ، إلاّ أنّه بعد إحالة على على المجهول.

والأولى أنّ الحدود المذكورة إنّما هي حدود لفظيّة لا عبرة بها بعد تميّز المعنى المقصود عن غيره ، كما ذكرنا وجه التميّز.

مع أنّه لا يكاد يظهر الثمرة في تشخيص مصاديق المفهوم عن المنطوق ، عدا ما قيل : من تقدّم المنطوق على غيره. وفيه : أنّ المناط في التقديم على قوّة الدلالة لا على التسمية ، والقوّة غير مخفيّة.

نعم ، تظهر الثمرة فيما لو اشتمل على أحد اللفظين عنوان من عناوين الأدلّة مع إرادة المعنى المصطلح ، ولكنّه لا يكاد يوجد.

الخامس : قسّموا المنطوق إلى صريح وغيره ، وعدّوا المدلول المطابقي من الأوّل اتّفاقا ، وألحق بعضهم (2) التضمّني به.

فإن كان ذلك اصطلاحا منهم ، فلا مشاحة. وإن كان ذلك بواسطة حصول ما هو المناط في التسمية ، فالأولى إلحاقه بالالتزامي الغير الصريح ؛ ضرورة أنّ وجه الانتقال إلى المدلول التضمّني والالتزامي واحد ، وهو الملازمة بين المعنى المطابقي وغيره ، غاية الأمر أنّ اللازم في أحدهما داخل وفي الآخر خارج ، وذلك لا يوجب الاختلاف في الصراحة.

ص: 18


1- الحجرات : 6.
2- انظر إشارات الاصول ، الورقة : 233 ، وشرح مختصر الاصول : 307.

ودعوى : أنّ الدلالة التضمّنية أظهر من الالتزاميّة ، ممنوعة. كيف! وبعض اللوازم أظهر من بعض المداليل التضمّنية ؛ فإنّ دلالة العمى على البصر أظهر من دلالة الإنسان على الحيوان أو الناطق.

ص: 19

ص: 20

هداية

الحقّ - كما عليه المحقّقون - أنّ تقييد الحكم بواسطة كلمة « إن » وأخواتها يفيد انتفاءه عند انتفاء مدخولها.

وما ذكرنا أولى ممّا قيل في العنوان : إنّ تعليق الحكم ... ؛ لإشعار لفظ « التعليق » بالانتفاء عند الانتفاء ، فلا يناسب أخذه في العنوان. وإن كان ذلك أولى ممّا قيل : هل مفهوم الشرط حجّة أو لا؟ لظهوره في أنّ النزاع ليس في ثبوت الدلالة ؛ مضافا إلى أن لفظ « الشرط » ممّا لا وقع له ، أمّا على مصطلح الاصوليّين فلعدم تأتّي النزاع على تقديره ، وأمّا على مصطلح النحاة فلأنّ الشرط عبارة عن المقدّم في الجملة الشرطيّة ، ولا يطلق على نفس الجملة عندهم.

وبما ذكرنا يظهر أنّه لا حاجة إلى بيان معنى لفظ « الشرط » فيما نحن بصدده. ولكنّه لا بأس بالتنبيه على ذلك احتذاء.

فنقول : الشرط يطلق في العرف على معنيين :

أحدهما : المعنى الحدثي ، وهو بهذا المعنى مصدر « شرط » بمعنى الإلزام ، فهو شارط للأمر الفلاني وذلك الأمر مشروط له أو عليه ، ومنه الاشتراط بمعنى الالتزام. من غير فرق في ذلك بين أن يكون ابتدائيا أو ضمن العقد ، كما يساعد عليه العرف ، كما في قولك : « شرطت على نفسي كذا » أو « فلان شرط على نفسه كذا ».

ص: 21

وعن الصحاح : « الشرط معروف » (1) من دون تعرّض لاختصاصه بما إذا كان في ضمن العقد فضلا عن البيع فقط.

لكن في القاموس : « أنّه إلزام الشيء والتزامه في البيع » (2).

وظاهره كون استعماله في الإلزام الابتدائي مجازا أو غير صحيح. مع أنّه لا إشكال في صحّته ، بل وفي اطّراده في موارد استعماله ، كما في قوله صلى اللّه عليه وآله : « قضاء اللّه تعالى أحقّ وشرطه أوثق » (3) ، وقوله عليه السلام إنّ « شرط اللّه قبل شرطكم » (4). وقد اطلق على النذر والعهد والوعد (5). وعن الحدائق : أنّ إطلاق الشرط على البيع في الأخبار كثير (6). مضافا إلى أولويّة الاشتراك المعنوي. وفي بعض الروايات استدلّ الإمام عليه السلام بقوله : « المؤمنون عند شروطهم » على إمضاء النذر والعهد (7).

ومع ذلك لا يبقى وجه لما زعمه في القاموس ، ولعلّه لم يعثر على موارد هذه الاستعمالات.

ثمّ إنّه قد يستعمل الشرط بالمعنى المذكور (8) في المشروط كالخلق في المخلوق. ولا ريب في كونه مجازا ، فيراد منه ما ألزمه الإنسان على نفسه من عمل ونحوه.

ص: 22


1- الصحاح 3 : 1136 ، مادّة « شرط ».
2- القاموس المحيط 2 : 368 ، مادّة « شرط ».
3- كنز العمال 10 : 322 ، الحديث 29615.
4- الوسائل 15 : 31 ، الباب 20 من أبواب المهور ، الحديث 6.
5- راجع الوسائل 15 : 29 و 46 - 48 ، الأبواب 20 و 37 - 40 من أبواب المهور.
6- الحدائق 20 : 73.
7- الوسائل 15 : 30 ، الباب 20 من أبواب المهور ، الحديث 4.
8- لم يرد « بالمعنى المذكور » في ( ع ).

الثاني : ما يلزم من عدمه العدم ، من دون ملاحظة أنّه لا يلزم من وجوده الوجود. وهو بهذا المعنى من الجوامد ولا يكون مشتقّا.

فيكون لفظ « الشرط » مشتركا بين المعنيين ، مثل اشتراك لفظ « الأمر » بين المعنى الحدثي الذي يشتقّ منه « الأمر » و « المأمور » ، والمعنى الاسمي ك- « الشيء » و « الشأن » ونحوهما. وأمّا اشتقاق « المشروط » منه بهذا المعنى فهو ليس على الأصل ، بل هو اشتقاق جعليّ مثل اشتقاق « المسبّب » من لفظ « السبب » مع أنّه ليس المراد منه معنى يمكن الاشتقاق منه كما هو ظاهر ؛ ولذلك ليس الفاعل وهو « الشارط » والمفعول وهو « المشروط » منه (1) متقابلين في الفعل والانفعال ، بل الشارط هو الجاعل والمشروط هو ما جعل له الشرط ، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة. وقاعدة الاشتقاق تقضي بأن يكون المشروط هو نفس الطهارة ، وذلك ظاهر.

وله في اصطلاح أرباب النحو معنى ، وهو : الجملة الواقعة عقيب « إن » وأخواتها ، وهو مأخوذ من المعنى الثاني من جهة إفادة تلك الجملة لكون مضمونها شرطا بالمعنى الثاني.

وفي اصطلاح أرباب المعقول والاصول له معنى آخر ، وهو : ما لا يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم ، فيكون مأخوذا أيضا من المعنى الثاني ، إلاّ أنّه اعتبر فيه عدم اللزوم بين الوجودين ، في قبال السبب حيث اخذ فيه الملازمة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المعنى الثاني ليس خارجا عن المعنى الأوّل ، بل هو من نتائج بركاته ولو بنحو من العناية ، كما لا يكاد يخفى.

ص: 23


1- كذا ، والظاهر زيادة : « منه ».

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنّ تنقيح البحث في موارد :

الأوّل : في أنّ الجملة الشرطيّة هل هي ظاهرة في اللزوميّة؟ فيستفاد منها تعلّق أحد الجزءين بالآخر على وجه يكون الاتّفاقيّة خارجة عن حقيقتها أو لا.

فنقول : لا ينبغي الإشكال في أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في إفادة الربط والتعلّق بين جزأيها ، كما يقضي بذلك العرف في موارد استعمالها ، بل لا يكاد يتّضح معنى أداة الشرط في قولك : « لو كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا » إلاّ بضرب من التأويل.

وأمّا استعمال أدوات الشرط في الوصليّة - مستعملة في التسوية (1) - كما في قوله : « أكرم الضيف ولو كان كافرا » (2) فيحتمل أن يكون المراد منها إفادة التسوية بين الكفر والإسلام في لزوم الإكرام ، فيكون أداة الشرط مثل استعمال بعض الحروف في غير معناه ، كاستعمال « في » في قوله : إنّ « امرأة دخلت النار في هرّة » (3) في التعليل.

ويحتمل أن يكون المراد منها الربط بين الشرط والجزاء ، لكنّه بعد إعمال ضرب من التأويل ، كأن يقال : إنّ المتكلّم بواسطة زيادة اهتمامه واعتنائه في إفادة لزوم إكرام الضيف في المثال المذكور ، جعل ما ليس بسبب سببا وحكم بالتسوية بين الكفر والإسلام ، فالسببيّة بواسطة العطف مبالغة في دفع ما يتوهّم من كونه مانعا عن الحكم بالإضافة والإكرام ؛ ومن هنا يشترط في حسن استعمال الوصليّة احتمال مانعيّة مدخول أداة الشرط عن الحكم المذكور قبلها ، ومن ثمّ لم

ص: 24


1- لم ترد « مستعملة في التسوية » في ( ع ).
2- كنز العمّال 15 : 38 ، الحديث 39976.
3- مسند أحمد 2 : 507.

يحسن قولك : « أكرم الزائر ولو كان حافيا » فإنّ كونه حافيا يوجب مزيد الإكرام (1) فلا يحسن ذكره عقيب أداة الوصل. فليس التجوّز في كلمة « إن » وأخواتها ، بل التصرّف إنّما هو في المعنى بادّعاء سببيّة ما يحتمل مانعيّته ، كما في قوله تعالى : ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (2) تنزيلا للعدوّ منزلة الصديق في وجه.

الثاني : في أنّ العلاقة المعتبرة بين الشرط والجزاء هل هي السببيّة وعلّيّة الشرط للجزاء ، أو هي أعمّ منها؟ ظاهر كثير من الاستعمالات هو الأوّل ، حتّى أنّ جماعة - كالمحقّق القمّي رحمه اللّه (3) وغيره (4) - راموا تأويل الموارد التي لا يكون الشرط فيها علّة للجزاء ، كما في قولهم : « إذا نزل الثلج فالزمان شتاء » : بأنّ الشرط في المقام وإن لم يكن سببا لتحقّق الجزاء ، بل الأمر على عكس ذلك ، إلاّ أنّ الشرط سبب للعلم بتحقّق الجزاء. وإن كان ذلك لا يخلو عن مساهلة ، حيث إنّ العليّة المفروضة إنّما هي بين العلمين ، لا بين جزأي الكلام.

وبالجملة ، لا ينبغي الإشكال في أنّ الظاهر من الجمل الشرطيّة هو سببيّة الاولى للثانية ، وإنّما الإشكال في أنّ الوجه في ذلك الظهور هو الوضع فاستعمال الجملة الشرطيّة فيما يكون الجزاء علّة للشرط أو كلاهما معلولي علة ثالثة أو غير ذلك من أنواع اللزوميّة استعمال مجازيّ ، أو الوجه فيه هو إطلاق الجملة وعدم تقييدها؟ وجهان :

للأوّل : أنّ الأصل في الظهور استناده إلى الوضع.

ص: 25


1- في ( ع ) زيادة : « بطريق أولى ».
2- القصص : 8.
3- القوانين : 175.
4- انظر الفصول : 149 ، ومفاتيح الاصول : 211 - 212 ، ونقلا عن التفتازاني أيضا.

وللثاني : عدم تنافر (1) استعمال الشرطيّة فيما يكون المقدّم معلولا ، وذلك دليل عدم اختصاص الوضع بما إذا كان علّة ، غاية الأمر أنّ هذه العلاقة الخاصّة حيث كانت أكمل أفراده (2) انصرف الإطلاق إليها ، نظير انصراف الأمر إلى الفرد المتكامل من أفراد الطلب ، فإنّ علاقة العلّية هي أتمّ العلائق وأكملها.

وفي الأوّل منع. وفي الثاني - بعد تسليم أنّ هذه العلاقة هي أتمّها وكفاية ذلك في المدّعى ، فإنّ ما ذكر لا ينافي كون الجزاء علّة - : أن (3) لا وجه للانصراف المذكور ، إذ لا يعقل ذلك إلاّ بواسطة غلبة الاستعمال ، ومن المعلوم أنّ ذلك الظهور ليس مستندا إليه كما يظهر بالتأمّل ؛ مضافا إلى أنّ الانصراف إنّما هو في المطلقات ولا يعقل ذلك في مدلول أدوات الشرط - كما في الأمر أيضا - فإنّ الموضوع له فيها هي المعاني الخاصّة ، كما لا يخفى.

وقد تستند الدلالة المذكورة إلى إطلاق الشرط. وتوضيحه : أنّ ظاهر الجملة يفيد وجود الجزاء عند وجود الشرط على وجه الاستقلال ، سواء فرض وجود شيء آخر معه أو لم يفرض ، فلا مدخليّة لشيء في وجود الجزاء ، سوى وجود الشرط ، وهو معنى السببيّة ، إذ لو لم يكن ذلك كافيا لم يحسن عدم انضمام شيء آخر إليه كما ينضمّ إليه عند تعدّد الشروط.

ولا يخفى ما فيه من المنع والمصادرة في وجه وعدم كفايته في المدّعى في وجه آخر ، وذلك يظهر بأدنى تدبّر وتأمّل.

فالأولى دعوى استفادة السببيّة من أدوات الشرط بحسب الوضع ، كما لا بعد في ذلك أيضا عند ملاحظة معناها.

ص: 26


1- في ( ع ) : « عدم تنافي ».
2- في ( ط ) : « أفرادها ».
3- في ( ع ) : « إذ ».

وممّا ذكرنا يظهر جريان الوجهين في كون الشرط علّة تامّة وسببا مستقلاّ من دون مداخلة أمر آخر ، وكونه سببا ناقصا ، فلا نطيل بالإعادة.

الثالث : أنّه بعد ما عرفت في المورد الأوّل أنّ الجملة الشرطيّة تستفاد منها العلقة فاستعمالها في الاتّفاقيّات ليس استعمالا حقيقيّا. وفي المورد الثاني (1) أنّ هذه العلقة هي علّية الشرط على وجه الاستقلال ، دون المعلوليّة لعلّة ثالثة ولا التضايف ولا معلوليّة الشرط للجزاء ، كما عرفت.

فهل يستفاد منها انحصار العلقة التامّة في الشرط ، كأن لا يكون من أفراد ما هو العلّة حقيقة ، أو لا يستفاد ذلك منها؟ وهذا هو النزاع المعروف بين القوم.

فالمثبتون على أنّ الجملة ظاهرة في انحصار العلّة التامّة في الشرط ، ولذلك يحكم بانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ولو مع احتمال قيام شرط آخر مقامه ، إذ ذلك الاحتمال مدفوع عندهم بظهور الانحصار من اللفظ ، فلا يعتنى به.

والمانعون على أنّه لا يستفاد منها ذلك. وربّما يحتمل أن يكون وجه المنع التأمّل في أحد الموردين المتقدّمين كما يتراءى من بعضهم (2). لكن استدلال السيّد باحتمال قيام سبب آخر مقام الشرط (3) ينادي بتسليمه الموردين ، وإنّما النزاع في الثالث كما لا يخفى.

وهل الأصل يقتضي ثبوت المفهوم أو عدمه؟ قد يقال بالثاني ؛ لأصالة عدم اعتبار الواضع في مدلول الأداة التعليق على وجه خاصّ. وفيه (4) : أنّ ذلك الأصل ممّا لا عبرة به ، لمكان المعارضة ، كما هو ظاهر.

ص: 27


1- يعني عرفت في المورد الثاني.
2- راجع مفاتيح الاصول : 210.
3- الذريعة 1 : 406.
4- « فيه » من هامش ( ع ).

والحقّ أنّ مقالة القائل بالمفهوم مطابقة للأصل سواء كان نفس الحكم المذكور في المنطوق مخالفا للأصل كما إذا كان مثل الوجوب والحرمة ، أو مطابقا كالإباحة.

أمّا في الأوّل : فظاهر ، لأصالة عدمه في غير مورد اليقين ، وأصالة براءة الذمّة عن الشواغل الشرعيّة عند عدم ما يدلّ عليها.

وأمّا في الثاني : فلأنّ تعليل الإباحة وتعليقها على الشرط يشعر بأنّ تلك الإباحة الثابتة في المنطوق ليست إباحة مطابقة للأصل ، وإلاّ لم يحتج إلى التعليل بالعلّة المذكورة. ولا شكّ أنّ هذه الإباحة عند الشكّ فيها محكومة بالعدم. وليس ذلك قولا بالمفهوم ، كما هو ظاهر. وذلك نظير ما قيل (1) : من أنّ قوله « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (2) يفيد أنّ الأصل في الماء انفعاله بالملاقاة ، فإنّ تعليق عدمه بالكرّية يفيد ذلك بحسب الأصل ، وهو ظاهر.

ثم إنّ القول بالمفهوم هو المشهور على ما نسبه جماعة (3). وذهب السيّد (4) من أصحابنا إلى عدمه ، واختاره بعض المتأخّرين أيضا ، كالشيخ الجليل الحر العاملي رحمه اللّه (5). والحقّ - كما أشرنا إليه - هو الأوّل.

لنا : قضاء صريح العرف بذلك ، فإنّ المنساق إلى الأذهان الخالية من الجمل الشرطية هو التعليق على وجه ينتفي الحكم بانتفاء الشرط ، وكفانا بذلك دليلا

ص: 28


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم في القوانين ( 1 : 426 ) ما يفيد هذا المعنى.
2- الوسائل 1 : 117 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث 1 ، 2 و 6.
3- انظر مناهج الأحكام : 128 ، ومفاتيح الأصول : 207.
4- الذريعة 1 : 406.
5- الفوائد الطوسيّة : 279.

وحجّة ملاحظة الاستعمالات الواردة في العرف. وذلك لا ينافي ثبوت استعمال الجملة في معنى آخر ، فإنّ باب المجاز غير منسدّ ، ولم يزل البلغاء والفصحاء يستعملونه في موارد تقضي بها (1) الحال ، فما حكي عن الفوائد الطوسيّة : من أنّه تجشّم باستخراج مائة مورد بل وأزيد (2) من القرآن الكريم لا دلالة فيها على المفهوم (3) ، فهو تكلّف من غير حاجة ، إذ لا نزاع في ثبوت ذلك في الجملة ، ولا يوجب ذلك وهنا في قضاء العرف بثبوت المفهوم.

وإلى ما ذكرنا يرجع استدلال البعض باستدلال أهل اللسان بالمفهوم في موارد جمّة ، كما ورد ذلك في جملة من الأخبار (4) ، وهي مذكورة في الإشارات (5).

ولا ينافي ما ذكرنا من ثبوت المفهوم ، ما ذكره أهل الميزان : من أنّ القياس الاستثنائي وضع المقدّم فيه ينتج وضع التالي ، كما أنّ رفع التالي ينتج رفع المقدّم ، وأمّا رفع المقدّم فلا ينتج رفع التالي. ولو كان المستفاد من الجمل الشرطيّة هو سببيّة الشرط للجزاء كانت النتيجة المذكورة أولى بالثبوت من غيرها.

ووجه عدم المنافاة : أنّ مقصود المنطقيّين ومحطّ نظرهم في القياس الاستثنائي الاستدلال بالملازمة والاستكشاف منها على وجود أحد طرفيها أو

ص: 29


1- في ( ع ) : « به ».
2- لم يرد « بل وأزيد » في ( ع ).
3- الفوائد الطوسيّة : 291.
4- راجع معاني الأخبار : 209 ، باب معنى قول إبراهيم ... ، الحديث الأوّل ، والوسائل 8 : 4. الباب 9 من أبواب العود إلى منى ، الحديث 4 ، و 20 : 391 ، الباب 45 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث 5.
5- إشارات الاصول : 235 - 236.

عدمه ، ولا شك أنّ صرف الملازمة بين الشيئين لا دلالة فيها زيادة على ما ذكروه : من ثبوت اللازم عند ثبوت الملزوم ، ومن انتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم. وأمّا ثبوت اللازم فلا يدلّ على ثبوت ملزوم خاصّ ، لجواز كونه أعمّ ، كما أنّ نفي الأخصّ لا يلازم نفي الأعمّ ، كما يظهر من قولك : « لو كان هذا إنسانا كان حيوانا » فإنّ نفي الإنسان لا يلازم نفي الحيوان ، كما أنّ إثبات الحيوان لا يلازم إثبات الإنسان ؛ ولذلك لم يذكروا ذلك في عداد النتائج الحاصلة من الاستثنائي ، وحيث كانت الجملة الشرطيّة مفادها ثبوت الملازمة جعلوا تلك الجملة أمارة على ما راموه من الاستنتاج ، كما عرفت. وليس ذلك لأجل اختصاص تلك الجملة بإفادة الملازمة على وجه لا يلزم من نفي المقدّم نفي التالي.

والحاصل : أنّه حيث كان مقتضى الترتيب الطبيعي عند إرادة الاستنتاج أن يجعل ما هو الأعمّ مذكورا في التالي وما هو الأخصّ في المقدّم وكان ثبوت الخاصّ دليلا على ثبوت العامّ وعدم العامّ دليلا على عدم ثبوت الخاص ، اقتصروا في النتيجة على ما ذكروا ، وأين ذلك من انحصار مدلول الجملة الشرطيّة فيما لا يلزم من عدم المقدّم عدم التالي؟ وبالجملة ، فمنشأ ذلك اختلاف أنظارهم.

احتجّ المنكرون بوجوه :

الأوّل : ما عزاه جماعة إلى السيّد (1) وهو : أنّ تأثير الشرط إنّما هو تعليق الحكم به ، وليس يمنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن كونه شرطا ، فإنّ قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (2)

ص: 30


1- الذريعة 1 : 406.
2- البقرة : 282.

يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه شاهد آخر ، فانضمام الثاني إلى الأوّل شرط في القبول ، ثمّ علمنا أنّ ضمّ امرأتين إلى الشاهد الأوّل شرط في القبول ، ثمّ علمنا أنّ ضمّ اليمين إلى الأوّل يقوم مقامه أيضا ، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى ، مثل الحرارة ، فإنّ انتفاء الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة ، لاحتمال قيام النار مقامه. والأمثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا.

والجواب : أنّ ما أفاده ممّا لا ينافي ما نحن بصدده ، فأنّ ظاهر الاستدلال ناظر إلى إمكان نيابة شرط عن شرط آخر فكأنّه جعل النزاع في أمر عقليّ ، فحاول رفع امتناع ذلك بما أفاده. وعلى تقديره فهو حقّ لا محيص عنه ، إلاّ أنّ الظاهر من عناوين المسألة رجوع البحث إلى الأبحاث اللغويّة ، مثل النزاع في وضع هيئة الأمر للوجوب.

وإذ قد عرفت ، فنقول : إنّ المستدلّ إن أراد بذلك منع الظهور الوضعي فيما نحن فيه ، فقد عرفت ممّا تقدّم جوابه. وإن أراد أمرا آخر فهو لا ينافي ما نحن بصدده. وكأنّ السيّد أيضا لا يمنع الظهور ، كما ربما يشعر به قوله في الاستدلال : إنّ قوله تعالى : ( فَاسْتَشْهِدُوا ) يمنع من قبول الشاهد الواحد ، فإنّ هذا هو عين القول بالمفهوم ، غاية الأمر أنّه لم يعوّل عليه ، لما ذكره بقوله : « ثمّ علمنا أنّ ضمّ امرأتين ... الخ » فإنّ الظاهر (1) يدفع بالقاطع كما هو المفروض في كلامه ، كيف! والمنقول منه اعترافه بثبوت مفهوم العدد (2) مع كونه أضعف من مفهوم الشرط بمراتب.

ص: 31


1- في ( ع ) زيادة : « قد ».
2- الموجود في الذريعة إنكار مفهوم العدد ، انظر الذريعة 1 : 407 ، ولم نعثر على الحاكي.

وأمّا ما لم يعلم بقيام سبب آخر فظاهر الجملة يلزم الأخذ به من دون اعتناء باحتمال وجود سبب آخر ، كما هو الحال في سائر الظواهر. وبالجملة ، فمع احتمال تعدّد الأسباب لا ينبغي الاعتناء به ، ومع العلم فهو المتّبع ، ولكنّه لا يضرّ ما نحن بصدده من ثبوت المفهوم ، فإنّ القائل بالمفهوم يلتزم بالتقييد (1) ويحكم بعدم الجزاء عند عدم الشرط بجميع أفراده لا في الجملة ، وهو ظاهر في الغاية.

لا يقال : يمكن أن يكون السبب الآخر المحتمل قيامه مقام السبب الأوّل ملازما في الوجود مع نقيض الشرط ، وحينئذ لا سبيل إلى القول بأنّ قيام سبب آخر لا ينافي ثبوت المفهوم.

لأنّا نقول : إن أريد أن يكون الحكم ثابتا على تقديري وجود الشرط وعدمه ؛ لأنّ عدمه يقوم مقام وجوده في ترتّب الجزاء عليه ، فلا يمكن القول بالمفهوم ، لاستلزامه ارتفاع النقيضين فهو على تقدير تعقّله يوجب إلقاء الاشتراط ، إذ لا فائدة في الاشتراط بالشرط المذكور. وإن اريد غير ذلك كأن يكون هناك ضدّان كالسواد والبياض وكلّ واحد منهما باعتبار جامع بينهما يقتضي حكما ، فيجوز التعلّق المذكور ، ولا يضرّ في ثبوت المفهوم ، إذ يقال : إنّه على تقدير وجود السواد والبياض (2) الحكم كذا ، وعلى تقدير عدمهما معا فالحكم المذكور منتف. ولا ضير في ذلك.

فإن قلت : قد يكون السبب القائم مقامه محتملا لعدّة امور فيصير مجملا ، فيلغو اعتبار المفهوم.

ص: 32


1- في ( ع ) : « بالتقيّد ».
2- في ( ع ) : « أو البياض ».

قلت : نعم ، ولكنّه لا يضرّ بظهور اللفظ فيما لا يحتمل ذلك ، فإنّ الحكم بالإجمال في المجمل لا يسري إلى ما ليس بمجمل ، وهو ظاهر.

وقد يعترض على السيّد : بأنّ مجرّد احتمال قيام سبب آخر لا ينافي القول بالمفهوم ، لأنّ الأصل يقضي بعدمه.

وفيه : أنّ المانع أيضا لم يعلم من حاله الاعتداد بالاحتمال المذكور وعدم الأخذ بالأصل في مقام الشك في القيام ، لكنّه لا دخل له في ثبوت المفهوم ، فإنّ المقصود نفي الاحتمال المذكور بظهور اللفظ كما يدّعيه القائل بالمفهوم ، وهو ظاهر.

الثاني : أنّه لو دلّ لكان بإحدى الدلالات ، والملازمة كبطلان التالي حيث لا لزوم عقلا ولا عرفا - ظاهرة.

والجواب : أنّا نمنع بطلان التالي ، إذ الالتزام ثابت ، فإنّا قد قدّمنا أنّ العرف قاض بأنّ المستفاد من أداة الشرط هو التعليق على وجه خاصّ يلزم منه الانتفاء عند الانتفاء ، وذلك نظير قضاء العرف باستفادة الطلب من الأمر على وجه لا يرضى الطالب بتركه ، وهو المعبّر عنه بالوجوب ، فيكون الوجوب مدلولا التزاميّا وضعيّا للأمر.

وقد يجاب : بأنّ الدلالة المذكورة من التضمّن ، فإنّ التعلّق المذكور في نظيره (1) مركّب من قضيّة يحكم فيها بالوجود عند الوجود وقضية اخرى يحكم فيها بالانتفاء عند الانتفاء ، نظير لفظ « السبب » في وجه. وهو بعيد ؛ إذ المعقول عندنا هو الالتزام دون التضمّن ، كما لا يخفى.

ص: 33


1- في ( ع ) : « نظره ».

ثم إنّا قد أشرنا في بعض المباحث السابقة إلى الفرق بين هذه الالتزامات وبين الالتزامات في مسألة الضدّ والمقدّمة ، وحاصله : أنّ النزاع في هذه المسائل في أنّ مدلول اللفظ هل المعنى الذي يلزمه اللازم الفلاني أو معنى لا يلزمه ، والنزاع في تلك المسائل إنّما هو في ثبوت الملازمة بين المعنيين ولو لم يعبّر عنهما بلفظ أصلا.

الثالث : قوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (1) وجه الدلالة : أنّ اعتبار المفهوم يوجب إباحة الإكراه عند عدم الشرط ، وهو عدم إرادة التحصّن ، واللازم باطل ، والملزوم مثله.

والجواب : أنّ مجرّد الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ونحن لا ننكر استعمال الجمل الشرطيّة فيما يلغو فيه المفهوم ، وإنّما الكلام في الظهور العرفي ، ووجود الاستعمالات المخالفة (2) وإن كانت غالبة ، غير مضرّ فيه ؛ لاقترانه بالقرينة في الكلّ.

وأجاب عنه في المعالم (3) وغيره (4) ، تارة : بالالتزام بالمفهوم والقول بأنّها تدلّ على عدم حرمة الإكراه عند عدم إرادة التحصّن ، وذلك لا يقتضي إباحة الإكراه ، إذ لا يعقل الإكراه عند عدم إرادة التحصّن ، فيصدق : أنّه لا يحرم الإكراه عند عدم إرادة التحصّن ، لأنّ السالبة صادقة عند انتفاء الموضوع أيضا. وأخرى : بأنّ التعليق بالشرط إنّما يقتضي الانتفاء إذا لم يظهر للشرط فائدة

ص: 34


1- النور : 33.
2- في ( ع ) : « المختلفة ».
3- المعالم : 78.
4- انظر الفصول : 151 ، ومناهج الاصول : 129.

اخرى ، وأمّا إذا ظهرت فائدة فلا ، كما في الآية ، فإنّ الوجه في التعليق يحتمل أن يكون المبالغة في النهي عن الإكراه ، يعني : أنّهنّ إذا أردن العفّة فالمولى أحقّ بإرادتها.

ويرد على الأوّل - بعد الغضّ عن إمكان الواسطة عند عدم الالتفات أو عنده مع التردّد - : أنّ ذلك يوجب إلغاء المفهوم ، فإنّه كما ستعرف يجب أن لا يكون بين المفهوم والمنطوق اختلاف إلاّ من جهة الإيجاب والسلب ، والمفروض في المنطوق هو وجود الموضوع ، فيجب اعتباره في المفهوم أيضا.

وتوضيحه : أنّه لو قال المولى لأحد غلمانه : « إن جاءك زيد فأضفه » فلا بدّ أن تكون الإضافة المنفيّة في طرف المفهوم أمرا مقدورا كما أنّها في المنطوق كذلك ، فلو كان الإضافة في المفهوم غير مقدور كان التعليق المذكور تعليقا مجازيّا. وصدق السالبة بدون الموضوع وإن كان صادقا ، لكنّه لا يصحّح ثبوت المفهوم ؛ لما عرفت ، فلا وجه لتصحيح المفهوم بما ذكر ، بل الظاهر أنّ الجملة الشرطيّة مسوقة في مثله لبيان موضوع الحكم ، كما في قوله : « إن ركب الأمير فخذ ركابه » و « إن رزقت ولدا فاختنه » وقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (1) إلى غير ذلك من الموارد.

وعلى الثاني (2) : أنّ ذلك ينافي القول بالمفهوم ، فإنّ اللازم حينئذ اقتصار الحكم بما إذا علم عدم الفائدة. ودعوى كونها أظهر الفوائد إن رجعت إلى دعوى الوضع ، فمرجعها إلى ما قلنا ، وإلاّ فلا فائدة فيها. وهو ظاهر.

ص: 35


1- الحجرات : 6.
2- عطف على قوله : « ويرد على الأوّل ».

ص: 36

هداية

بعد ما عرفت أنّ الحقّ هو المفهوم في الجملة الشرطيّة ، فهل يفرق في ذلك بين موارد الوصايا والأوقاف ونحوها وبين غيرها؟ فنقول : لا فرق فيما ذكرنا من ثبوت المفهوم بين كون الجمل الشرطيّة واقعة في موارد الوصايا أو الأوقاف أو الأقارير وبين غيره.

ويظهر من الشهيد الثاني اختصاص النزاع بالثاني بخروج الأوّل عن محلّ التشاجر ؛ للقطع بثبوت المفهوم فيها من غير أن يكون قابلا للنزاع. قال في محكيّ تمهيد القواعد : لا إشكال في دلالتها (1) في مثل الوقف والوصايا والنذر والأيمان ، كما إذا قال : « وقفت هذا على أولادي الفقراء » أو « إن كانوا فقراء » أو نحو ذلك (2). ولعلّ الوجه في تخصيص (3) المذكور هو عدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم وفهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك : وقفت على أولادي مطلقا.

وفيه : أنّ ذلك خلط بين انتفاء الإنشاء الشخصي الخاصّ الموجب لما يترتّب عليه من الآثار من ملك أو لزوم أمر آخر ، وبين انتفاء نوع الوجوب المعتبر في المفهوم ، فإنّ انتفاء الشخص قطعيّ لا يقبل إنكاره بعد ارتفاع الكلام الدالّ على الإنشاء ، ومن لوازم تشخّصه عدم سراية ذلك الحكم الثابت به

ص: 37


1- في المصدر : « دلالتهما » ، أي : الصفة والشرط.
2- تمهيد القواعد : 110.
3- كذا ، والظاهر : التخصيص.

إلى غيره ؛ كما يظهر ذلك بملاحظة مفهوم اللقب ، فإنّ وجوب إكرام زيد الثابت بإنشاء خاصّ منفيّ عن عمرو قطعا. نعم ، يصحّ إنشاء الوجوب أيضا لعمرو بإنشاء آخر مماثل لإنشاء وجوب إكرام زيد. ولا يصحّ إنشاء الوقف لغير الفقير بواسطة عدم قابليّة المحلّ المذكور لوقفين ، حيث إنّ ذلك المتعلّق أمر شخصي ، بخلاف الإكرام فإنّه كلّي يحتمل الوجوبين بالنسبة إلى زيد وعمرو. ونظير الملك المذكور هو ما إذا أمر بفرد خاصّ شخصيّ للإكرام لو فرض ، فإنّه لا يحتمل الوجوبين أيضا.

وبالجملة ، فعدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم لا يقضي بالمفهوم كما عرفت في اللقب أيضا. وفهم التعارض والتناقض بين قوله : « وقفت على أولادي إن كانوا فقراء » و « وقفت على أولادي » مطلقا بواسطة عدم تحمّل العين لتمليكين ، كما هو ظاهر. والمعتبر في المفهوم انتفاء الحكم عن مورد الشرط على تقدير انتفائه بحسب نوع الحكم وسنخه.

وقد يستشكل في المقام ، نظرا إلى أنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطا بالنسبة إلى الإنشاء الخاصّ الحاصل بذلك الكلام دون غيره ، فأقصى ما تفيده الشرطيّة انتفاء ذلك ، وأين ذلك من دلالته على انتفاء نوع الوجوب؟ كما هو المدّعى.

وقد يذبّ عنه : بأنّ الوجوب المنشأ في المنطوق هو الوجوب مطلقا من حيث كون اللفظ موضوعا له بالوضع العامّ ، واختصاصه وشخصيّته من فعل الآمر ، كما أنّ شخصيّة الفعل المتعلّق للوجوب من فعل المأمور ، فيحكم بانتفاء مطلق الوجوب في جانب المفهوم.

أقول : لا وقع للاشكال والدفع.

ص: 38

أمّا الأوّل : فلأنّ الكلام المشتمل على المفهوم إمّا أن يكون خبريّا ، كقولك : « يجب على زيد كذا إن كان كذا » وإمّا أن يكون إنشائيّا ، كقولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » وارتفاع مطلق الوجوب في طرف المفهوم في الأوّل ظاهر ، حيث إنّ المخبر عن ثبوته في المنطوق ليس شخصا خاصّا من الوجوب ، ضرورة كون الوجوب كلّيا. فلا يتوجّه هنا إشكال حتّى يدفع بما ذكره أو بغيره. وأمّا ارتفاع مطلق الوجوب فيما إذا كان الكلام إنشائيّا فهو من فوائد العلّية والسببيّة المستفادة من الجملة الشرطيّة ، حيث إنّ ارتفاع شخص الطلب والوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع العلّة والسبب المأخوذ في الجملة الشرطيّة ، فإنّ ذلك يرتفع ولو لم يؤخذ المذكور في حيال أداة الشرط علّة له ، كما هو ظاهر في اللقب والوصف. فقضيّة العلّية والسببيّة ارتفاع نوع الوجوب الذي أنشأه الآمر وصار بواسطة إنشائه شخصا من الوجوب. وأمّا وقوع الشرط شرطا للإنشاء الخاصّ فهو بملاحظة نوع الوجوب المتعلّق به الإنشاء وإن لم يكن ذلك على ذلك الوجه مدلولا للّفظ ، إذ يكفي فيه ارتفاع شخصه من حيث إنّه عنوان لارتفاع نوعه ، نظرا إلى العلّية المذكورة.

وأمّا الثاني : فلأنّ ابتناء الدفع على ما زعمه من عموم الموضوع له والوضع ليس على ما ينبغي ، كما عرفت فيما ذكرنا ؛ مضافا إلى أنّ ذلك أيضا ممّا لم يقم دليل عليه لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه ، حيث إنّ الخصوصيّات بأنفسها مستفادة من الألفاظ. والحمد لله.

ص: 39

ص: 40

هداية

يجب تطابق المفهوم والمنطوق في جميع القيود المعتبرة في الكلام والاعتبارات اللاحقة له ، إلاّ في النفي والإثبات. والوجه في ذلك - بعد ما عرفت من أنّ الوجه في ثبوت المفهوم هو علّيّة الشرط للجزاء - ظاهر ، حيث إنّ العلّية تقضي بارتفاع ما فرض كونه معلولا عند ارتفاع (1) العلّة ، ولا يقضي بارتفاع ما هو أجنبيّ عن العلّة ، فمفهوم قولك : « إن جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه » عدم وجوب إكرام زيد على تقدير عدم المجيء في يوم الجمعة ، لا مطلقا ، فلا ينافي ثبوته في السبت ، إلى غير ذلك ممّا هو معتبر في الكلام.

نعم ، ينبغي استثناء ما هو متفرّع على النفي والإثبات وليس منفيّا ولا مثبتا في الكلام ، وذلك نظير استفادة العموم من النكرة الواقعة في سياق النفي وعدم استفادته من الواقعة في حيّز الإثبات ، كما في قولك : « إن جاءك زيد فأعتق رقبة » إذ المستفاد منه في المنطوق وجوب عتق رقبة مردّدة بين أفراد جنسها على تقدير الشرط ، وفي المفهوم يستفاد عدم وجوب عتق كلّ فرد من الرقبة ، وذلك ليس بضائر فيما ذكرنا ، فإنّه من خصائص النفي والإثبات الواردين على الطبيعة المطلقة ، وليس ذلك من مداليل اللفظ إلاّ على القول بدخول وصف الإطلاق في الموضوع له فيتوجّه النفي في المفهوم إلى ذلك القيد.

ص: 41


1- في ( ع ) : « انتفاء ».

وقد يتوهّم أنّ مفهوم قولنا : « إن جاء زيد فهو يكرم » على جهة الإخبار - الذي يستفاد منه وجوب الإكرام على تقدير الشرط بواسطة حسن الطلب - هو قولنا : « إن لم يجئك زيد فلا يكرم » وهو يفيد التحريم. وذلك أيضا من الامور المتفرّعة على نفس النفي والإثبات ، فلا يضرّ اختلاف المفهوم والمنطوق بهذا الوجه نظير اختلافهما بالعموم والإطلاق في المثال المتقدّم.

وفيه : أنّ ذلك لا يخلو من مغالطة.

وتوضيحه : أنّ قولك : « يكرم » يفيد التحريم فيما إذا وقع في حيّز النفي إذا لم يكن ممّا استفيد منه الوجوب ، وأمّا إذا كان ممّا استفيد منه الوجوب ووقع في حيّز النفي فلا يفيد ذلك إلاّ رفع الوجوب. وبعبارة واضحة : أنّ قولك : « يكرم » إذا لوحظ بشرط وقوعه في الجملة الإثباتيّة التي يستفاد منها الوجوب ، غير قولك : « يكرم » إذا لوحظ لا بشرط شيء ، والثاني يفيد التحريم في الجملة المنفيّة دون الأوّل. ولا يجري ذلك في الإطلاق ، حيث إنّ ورود النفي والإثبات على الطبيعة الملحوظة لا بشرط يفيد ذلك ، ووقوعه في الجملة الإثباتيّة لا يعقل أخذه شرطا لها ، إذ المفروض كونها لا بشرط شيء ، فتدبّر.

والحاصل : أنّه لا بدّ من ملاحظة الامور المستفادة من ضروب التراكيب ووجوه الكلام ، فإنّه ربما يتوهّم خلاف ما هو الواقع.

ومن ذلك : ما توهّم أنّه لو كان مفاد المنطوق الوجوب العيني ، كما إذا قال : « إن جاءك زيد فيجب عليك إكرامه » الظاهر في الوجوب العيني ، فالمستفاد منه في المفهوم أيضا هو نفي الوجوب العيني على تقدير عدم الشرط ، ولا ينافي إثبات الوجوب التخييري على تقدير عدم الشرط.

وبعد ما عرفت من أنّ لوازم النفي والإثبات لا يعتبر في المفهوم والمنطوق لا ينبغي الإشكال في فساد التوهّم المذكور ، فإنّ ذلك من قبيل الإطلاق والعموم

ص: 42

المستفادين في المثال المتقدّم ، من غير فرق في ذلك بين استفادة الوجوب من مادّة الوجوب - كما في المثال المتقدّم - أو من الهيئة ، حيث إنّ ذلك يرجع في الحقيقة إلى إطلاق المادّة ، والمفروض أنّ الطبيعة المطلقة إذا وقعت في سياق النفي يستفاد منها العموم ؛ ولذلك تراهم يقولون بالتعارض فيما إذا دلّ الدليل على وجوب إكرام زيد في المثال المذكور على تقدير عدم الشرط تخييرا. ولا فرق فيما ذكرنا بين أقسام الوجوب المستفاد من الهيئة من الإطلاق والتعيين والنفسيّة وغيرها ، فإنّ الظاهر من المفهوم نفي جميع الأقسام وإن كان المنطوق خاصّا بواحد منها.

هذا كلّه فيما إذا كان المأخوذ في المنطوق مطلقا. وأمّا إن كان عامّا استغراقيّا ، كقولك : « إن جاءك زيد فأكرم العلماء » فهل يستفاد من المفهوم عدم وجوب الإكرام بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من العلماء على تقدير عدم الشرط ، أو يستفاد عدم وجوب إكرام الجميع؟ فعلى الأوّل لو دلّ دليل على وجوب إكرام زيد العالم يعارضه المفهوم ، بخلافه على الثاني.

اختلفوا في ذلك ، فيظهر من جماعة - منهم الشيخ وصاحب المعالم والمحقّق القمّي رحمهم اللّه - الأوّل ، وحكي [ عن ] بعضهم الثاني (1). ولعلّ وجه الاختلاف في ذلك هو : أنّ العموم الملحوظ في المنطوق هل هو يعتبر آلة لملاحظة حال الأفراد على وجه الشمول والاستغراق فلا يتوجّه النفي إليه في المفهوم فيكون الاختلاف بين المنطوق والمفهوم في الكيف فقط دون الكمّ ، أو يعتبر على وجه الموضوعيّة فيتوجّه إليه النفي فالاختلاف بينهما ثابت كمّا وكيفا على قياس النقيض المأخوذ عند أهل الميزان؟

ص: 43


1- راجع ضوابط الاصول : 112.

وكيف كان ، فلا بدّ من تشخيص أحد الموضوعين حتّى نجري على منواله في الحكم المذكور.

فنقول : لا إشكال عند العلم بأحد الوجهين. وأمّا إذا لم يعلم ذلك من القرائن الخارجيّة ، فالظاهر أنّ العرف قاض بالوجه الأوّل. وأمّا ما يرى من ظهور قولك : « إن جاءك زيد فلا تقتل أحدا » في الوجه الثاني - حيث إنّه لا يدلّ على عدم حرمة قتل أحد على تقدير عدم المجيء - فبملاحظة القرينة ، لمكان العلم بأنّ سبب حرمة القتل في كلّ واحد لا ينحصر في الشرط المذكور ، بل لها أسباب عديدة. وذلك مثل قول القائل : « إن كان زيد أميرا لاستغنى كلّ أحد » فإنّه لا يفيد أنّه على تقدير عدم إمارة زيد لا يستغني أحد.

وتوضيح ذلك : أنّه قد يعلم بوجود أسباب كثيرة للحكم المأخوذ في الجملة الشرطيّة ، وحينئذ فلو أخذنا العام في الجزاء دلّ ذلك على سببيّة الشرط لعموم الحكم ، لا للحكم على وجه العموم ، ونحن لا نضايق من ذلك.

والحاصل : أنّ قضيّة ما ذكرنا من التطابق بين المفهوم والمنطوق ، وما تقدّم من ظهور الجملة الشرطيّة في انحصار السبب - المؤيّد بفهم العرف فيما نحن فيه أيضا - هو الوجه الأوّل. ولا ينافي ذلك ما هو المقرّر في الميزان : من أن نقيض الموجبة الكلّية هي السالبة الجزئيّة ، فإنّ غرضهم لا يتعلّق ببيان ظواهر القضايا ، بل نظرهم مقصور على بيان لوازم ما هو القدر المتيقّن من القضيّة ، ولا ريب أنّ المتيقّن هو اللازم بالنسبة إلى المجموع دون الآحاد.

ومن هنا يعلم صحّة ما أفاده بعض الأساطين (1) في قوله عليه السلام : « إذا كان الماء

ص: 44


1- وهو الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك كما نقله عنه في هداية المسترشدين 2 : 460 ، وراجع حاشية المدارك 1 : 48 ، ذيل قول الشارح : لفقد الشرط.

قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) من أنّ مفهومه « أنّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء من النجاسات » وفساد ما أورد عليه (2) : من أنّ اللازم من القضيّة المذكورة نجاسة الماء الغير الكرّ بشيء من النجاسات ، وهو مجمل لا يفيد ولا يلزم منه النجاسة بكلّ شيء ؛ ولذلك نقول بأنّ ما دلّ على عدم نجاسة غسالة الاستنجاء يعارض عموم المفهوم (3) مثل ما يدلّ على عدم نجاسته إذا كان عاليا (4) إلى غير ذلك.

ونظير ذلك في صحّة الاستدلال وفساد الاعتراض ، ما أفاده الشيخ : من عموم مفهوم قوله : « كلّ ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره » (5) وما اعترضه الشيخ محمّد في حاشية الاستبصار : بعدم العموم (6) ، فلاحظهما متأمّلا فإنّه حقيق بذلك. واللّه الهادي.

ص: 45


1- الوسائل 1 : 117 - 118 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث 1 و 2 و 5 و 6.
2- أورده في هداية المسترشدين 2 : 460 - 461.
3- كذا ، والظاهر : « مفهوم » بدون اللام.
4- في ( ع ) : « غالبا ».
5- التهذيب 1 : 224 ، ذيل الحديث : 642.
6- استقصاء الاعتبار 1 : 203 - 206.

ص: 46

هداية

بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الجملة الشرطيّة سببيّة الشرط للجزاء على وجه الانحصار ، فلو تعدّد الشرط فلا بدّ من الخروج عن ذلك الظاهر ، وذلك يحتمل وجوها :

أحدها : تخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، فقول الشارع : « إذا خفي الأذان فقصّر » (1) و « إذا خفي الجدران فقصّر » (2) يراد من كلّ منهما انتفاء وجوب القصر عند انتفاء السبب الآخر أيضا. والوجه في ذلك ما هو المعروف : من أنّ دلالة اللفظ على منطوقة أقوى من دلالته على مفهومه ، ولا ريب أنّه عند التعارض يقدّم الأقوى.

وثانيهما : رفع المفهوم فيهما. ويظهر الثمرة أنّه على الأوّل يستدلّ بهما على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء المفروض ، بخلافه على الثاني.

وعلى الوجهين لا ريب في لزوم المجاز على القول باستناد المفهوم إلى الوضع. وقد يتوهّم أنّه على القول بالتضمّن لا يكون هناك مجاز. وهو وهم ؛ إذ على تقديره يلزم استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

وثالثها : تقييد إطلاق الشرط في كلّ منهما بالآخر وجودا فيكون المراد في المثال المذكور « إذا خفي الأذان عند خفاء الجدران فقصّر » أو عدما فالمعنى

ص: 47


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم يوجد ما يدلّ عليه ، راجع الوسائل 5 : 506 ، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 3.
2- لم نعثر عليه بعينه أيضا ، ويدلّ عليه ما في المصدر المتقدم ، الحديث الأوّل.

« إذا خفي الأذان ولم يكن الجدران مخفيّة فقصّر » فعلى الأوّل يرجع الأمر إلى أنّ كلّ واحد منهما جزء السبب ، فلا يجوز القصر مع خفاء أحدهما فقط ، كما ذهب إليه جماعة (1) ، وهو أبعد الوجوه. وعلى الثاني يكون كلّ واحد منهما سببا مستقلاّ عند عدم الآخر ، وأمّا مع وجود الآخر فلا سببيّة فيهما.

وهذان الوجهان يلائمان القول باستناد المفهوم إلى الإطلاق ، بل وربّما يستدلّ بذلك عليه ، حيث إنّه لو كان بالوضع يلزم ما عرفت من المجاز ، ولا يلزم على هذا التقدير إلاّ تقييد الإطلاق ، وهو لو كان مجازا أيضا مقدّم على غيره من أنواع المجاز.

ورابعها : إبقاء إحدى الجملتين بحالها مفهوما ومنطوقا والتصرّف في الاخرى كذلك ، كما هو الظاهر من الحلّي في المثال المذكور ، فإنّه جعل المناط في القصر خفاء الأذان فقط ، وقيّد منطوق الآخر بخفاء الأذان ومفهومه بعدمه (2) ، فيرجع إلى إلغاء الجملة الثانية رأسا. اللّهم إلاّ أن يكون خفاء الجدران من الأمارات الّتي يتوصّل بها إلى خفاء الأذان ، فلا يلزم لغويّته رأسا.

وخامسها : إرادة القدر المشترك بين الشرطين من كلّ واحد منهما. وتوضيحه : أنّ الظاهر من الجملة الشرطيّة هو كون ما اخذ في الشرط بعنوانه الخاصّ علّة تامّة منحصرة للجزاء ، إلاّ أنّ تعدّد الشروط ينهض قرينة على

ص: 48


1- منهم : السيّد المرتضى ( رسائل الشريف المرتضى ) المجموعة الثالثة : 47 ، والشيخ في الخلاف 1 : 572 ، المسألة 324 ، وقد نسبه في المدارك 4 : 457 ، إليهما وإلى أكثر المتأخّرين ، ومنهم : الشهيد في الذكرى 4 : 321 ، والشهيد الثاني في المسالك 1 : 346.
2- السرائر 1 : 331.

أنّ الشرط إنّما هو شرط بعنوانه الأعمّ الشامل للشرط الآخر ، فلا مجاز فيما يدلّ على العلقة ولا تقييد في إطلاق أحد الشرطين. ولعلّ العرف يساعد على ذلك بعد الاطّلاع على التعدّد.

وكيف كان ، فالوجه الأوّل والقسم الثاني من الثالث مشتركان مع هذا الوجه في أنّ الحكم ثابت على تقدير كلّ واحد من الشرطين ومرتفع عند عدمهما معا ، كما هو الشأن فيما إذا تعدّدت العلل مع قيام إحداها مقام الاخرى ، إلاّ أنّ الاختلاف في وجه التصرّف.

فعلى الأوّل ، يلزم المجاز - كما عرفت - وإن لم نقل بأنّ التخصيص مجاز. والوجه فيه : أنّ المفهوم من اللوازم العقليّة للمنطوق ، ولا يعقل التصرّف في المدلول الالتزامي إلاّ بعد التصرّف في المدلول المطابقي.

وعلى الثاني ، يلزم تقييد الإطلاق في كلّ واحد منهما بعدم الآخر ، وأمّا مع الوجود فإمّا أن يقال بأنّ التأثير للمتقدّم أو للقدر المشترك ، على حسبما تعرف.

وعلى الثالث ، فلا يلزم شيء منهما ، إلاّ أنّه خروج عن الظاهر ، حيث إنّ ظاهر الشرط كونه علّة لعنوانه الخاصّ ، ولا يلزم مجاز ، فتدبّر : واللّه الهادي.

ص: 49

ص: 50

هداية

اشارة

إذا تعدّدت الأسباب واتّحد الجزاء ، فلا إشكال على ما ذهب إليه الحلّي من إلغاء إحدى الجملتين ، كما أنّه كذلك على ما ذهب إليه البعض (1) : من أنّ كلّ واحد منهما جزء السبب. وعلى الوجوه الأخر ، فهل اللازم تعدّد المسبّبات ولزوم إيجاد الجزاء على حسب تعدّد الشروط ، أو يتداخل المسبّبات ويكتفى في الإتيان بالجزاء دفعة واحدة؟ اختلفوا فيه على أقوال :

فالمشهور على عدم التداخل ، وذهب جماعة منهم المحقّق الخوانساري رحمه اللّه إلى التداخل على ما يظهر منه في المشارق (2). وعن الحلّي التفصيل بين اتّحاد الجنس وتعدّده. وتوضيح المقام بعد رسم امور :

أحدها : أنّ التداخل تارة يعتبر في الأسباب ، كأن يقال : بأنّ تعدّد الشروط لا يقتضي إلاّ إيجاد جزاء واحد ، سواء كانت تلك الأسباب من نوع واحد مثل تعدّد أفراد النوم المقتضي لوضوء واحد ، أو من أنواع مختلفة كتعاقب النوم والبول بالنسبة إلى الوضوء.

واخرى يعتبر في المسبّبات ، كأن يقال : إنّ تعدّد الشروط قاض بتعدّد المسبّبات ، إلاّ أنّ الجزاء الواحد يقوم مقام ذلك المتعدّد.

فعلى الأوّل فتداخل المسبّبات عزيمة ويتوقّف جواز الإتيان به ثانيا على وجه الامتثال على دليل ، وعلى الثاني رخصة.

ص: 51


1- كما تقدّم عن جماعة في الصفحة : 48.
2- مشارق الشموس : 61.

ولعلّ نظرهم إلى تداخل المسبّبات في المقام ، كما يظهر من استدلالهم بحصول الامتثال فيما لو أتى بالمسبّب مرّة واحدة.

ولا ينافي ذلك استدلالهم. بأنّ العلل الشرعيّة معرّفات فلا يمتنع اجتماعهما في شيء واحد ، الظاهر في دعوى تداخل الأسباب ؛ لأنّ المقصود حقيقة إثبات عدم تعدّد الجزاء ، كما هو المصرّح به في كلام بعضهم : من أنّ المراد تداخل المسبّبات ، وإنّما عبّروا عنه بتداخل الأسباب تنبيها على علّة الحكم.

الثاني : الجزاء المأخوذ في الجملة قد يكون قابلا للتعدّد. وقد لا يكون ، كقتل زيد إذا وقع جزاء لشروط عديدة.

لا ينبغي الإشكال في خروج الثاني عن محلّ النزاع. نعم ، قد يستشكل في كيفيّة تأثير الأسباب المتعدّدة فيما لا يقبل التعدّد إذا تعاقب الأسباب أو تواردت دفعة واحدة ، فإنّه إمّا أن يقال بسببيّة كلّ منهما (1) مستقلاّ فيلزم المحال المعروف ، أو باستناد الأثر إليهما معا ، وهو خلاف الفرض ؛ لكفاية أحدهما فيه قطعا. والقول بأنّ القدر المشترك بينهما سبب لا يدفع الضيم ؛ لعدم تحقّقه إلاّ في الأشخاص ، ووجوده الذهني لا يترتّب عليه شيء ، واستناد الأثر إلى أحدهما ترجيح بلا مرجّح.

أقول : إمّا أن يكون المسبّب ممّا يختلف شدّة وضعفا أو لا ، فعلى الأوّل لا إشكال ؛ لاستناد المرتبة الشديدة إليهما دفعة عند التوارد ، وانقلاب الضعيفة إلى الشديدة عند التعاقب. وعلى الثاني فنلتزم بأنّ السبب هو القدر المشترك ولا ضير فيه ، إذ القدر المشترك لا يتعدّد بتعدّد الأشخاص والوجودات الخاصّة. ولا أقول إنّ نفس الماهيّة مع قطع النظر عن الوجود هي السبب حتّى يقال بأنّ الماهيّة الذهنية لا يترتّب عليها شيء ، بل الماهية من حيث الوجود ، إلاّ أنّه لا حكم لنفس الوجودات الخاصّة.

ص: 52


1- كذا ، والمناسب : « منها » وكذا الكلام في الضمائر الآتية.

وحينئذ فلو تعاقب الأسباب فالأثر مستند إلى الأوّل ويلغو الباقي ؛ لعدم قابليّة المحلّ بعد الاتّصاف بالمثل. ولو تواردت دفعة واحدة فالأثر مستند إلى الماهيّة الموجودة ولا اختصاص للوجودات ، فلا يلزم محذور ، لعدم تعدّدها.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما قيل (1) : من أنّها معرّفات ؛ أمّا أوّلا : فلما ستعرف أنّه خلاف الواقع ، وأما ثانيا : فلأنّ الأسباب الواقعيّة ربما يكون كذلك.

الثالث : حكي عن فخر المحقّقين أنّه جعل مبنى المسألة على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي معرّفات وكواشف أو مؤثّرات؟ وعلى الأوّل فالأصل التداخل ، بخلافه على الثاني (2).

ولعلّه تبعه في ذلك بعض المحقّقين في كتابه الموسوم ب- « العوائد » ، حيث إنّه بعد ما قسّم الأسباب قسمين وجعل الأسباب الشرعيّة من المعرّفات وصرّح بامتناع اجتماع الأسباب الواقعيّة ، قال : إنّه لا يراد من الأسباب في قولهم : « الأصل عدم التداخل » هذا القسم يعني الأسباب الواقعيّة ، لأنّ الأصل إنّما يستعمل في مكان جاز التخلّف عنه بدليل ، بل يصرّحون بأنّ الأصل عدم التداخل إلاّ فيما ثبت التداخل. وكذا لا كلام في جواز التداخل فيما كان من الثاني ، إذ المعرّف علّة للوجود الذهني ، ومعلوليّة موجود واحد ذهني لعلل متعدّدة جائزة ، ولذا يستدلّ على مطلوب واحد بأدلّة كثيرة ، ويصحّ أن يستند وجود ذلك الموجود الذهني إلى كلّ منهما ؛ ولذا لا يرتفع ذلك الموجود الذهني بظهور بطلان واحد من الأدلّة (3).

ص: 53


1- قاله العلاّمة في المنتهى 1 : 107 ، والشهيد الثاني في المسالك 1 : 199 وغيرهما.
2- لم نعثر عليه بعينه ، ولعلّه يدلّ عليه ما في الإيضاح 1 : 48.
3- عوائد الأيّام : 294.

أقول : القول بأنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات من المشهورات التي لم نقف على أصل لها. نعم ، قد يكون في الأسباب الشرعيّة ما هو كاشف عن أمر آخر غير الحكم الّذي قد جعله الشارع سببا له ، كالبيّنة واليد ونحوهما ، فإنّهما سببان للعمل بمقتضاهما ووجوب التعويل عليهما مع كونهما كاشفين عن نفس المقتضى والمدلول ، وأين ذلك من كون الأسباب الشرعيّة معرّفات على وجه الإطلاق؟ وتعدّد الأسباب الشرعيّة ليس إلاّ كتعدّد الأسباب العقليّة ، فكما أنّ ذلك لا يقتضي الكاشفيّة فيها لا يقتضي فيها أيضا.

وأمّا ما أفاده : من أنّه لا يراد من الأسباب في قولهم ... ، ففيه : أنّ المحال هو تعدّد العلّة التامّة ، وتلك الأسباب ليست كذلك ، لرجوعها الى القدر المشترك كما في الأسباب العقليّة. ولا ينافي ذلك كونه أصلا يجوز التخلّف عنه بدليل ، نظرا إلى ظهور اللفظ في العلّية التامّة ؛ مضافا إلى أنّ كلماتهم مشحونة بما يدلّ على خلاف ما أفاده في موارد شتّى ، كما هو غير خفيّ على المتتبّع.

وأمّا قوله : « لا كلام في جواز التداخل فيما كان معرّفا » لما ذكره من الوجه ، ففيه : أنّه لم يعلم فرق في امتناع توارد العلل التامّة على معلول واحد بين أن يكون موجودا ذهنيّا أو خارجيّا ، بل وليس ذلك إلاّ الموجود الخارجي ، وأمّا الموجود الذهني فهو المعلوم دون العلم ، فإنّ وجود العلم في الخارج وإن كان من الامور الذهنيّة إنّما هو بواسطة المعرّف ، وطريق الامتناع واحد ، وهو لزوم خلاف الفرض فيما لم يكف إحداها في الوجود أو تحصيل الحاصل على تقدير الكفاية. وأمّا تعدّد الأدلّة فربّما يحتمل أن يكون لتحصيل مرتبة من الكشف لم يكن قبل ، كما هو المحسوس في الأمارات الظنّية التي تفيد اجتماعها العلم ، وإلاّ فلا بدّ من توجيه ذلك على ما وجّهنا به العلل في الموجودات الخارجيّة.

ص: 54

وأمّا عدم ارتفاع الصورة عند ظهور بطلان أحد الأدلّة فلم يظهر لنا وجه ارتباطه بالمقام. والعجب! أنّه تفطّن بذلك واعتذر عنه بالفرق بين الموجود الذهني والخارجي ، حيث إنّه لا يمكن كون الشيئين في الخارج شيئا واحدا ، بخلاف الموجود الذهني فإنّه يصير ألف موجود ذهني موجودا واحدا ، بمعنى تطابق موجود واحد في الذهن لألف موجود خارجي ، فينتزع من كلّ ألف موجود صورة وهيئة كلّها منطبقة على موجود ذهني واحد.

وفيه : أنّ تعدّد الموجود الذهني إنّما هو بتعدّد نفس الملاحظة والانتزاع. ولا ريب في امتناع تلك الملاحظات كامتناع اتّحاد الموجودات الخارجيّة ، بل ما نحن فيه منها أيضا كما عرفت. وأمّا اتّحاد تلك الصور المنتزعة من أفراد كليّ واحد فعلى تقدير تعدّد الملاحظات يراد به عدم اختلافها مع قطع النظر عن خصوصيّات الوجود الذهني ، إذ لا يرتاب عاقل في التغاير مع ملاحظتها ؛ على أنّ ذلك خلط بين التصوّر والتصديق ، فإنّ الاعتقاد ممّا لا يتصوّر فيه ما ذكره في الصورة الكلّية المتصوّرة ، فإنّه موجود علميّ واحد لا يشوبه شوب التعدّد ، كما هو ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وبالجملة ، فلم يظهر لنا وجه في صحّة الابتناء المذكور فلا بدّ من التأمّل لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا.

الرابع : زعم بعضهم (1) جريان النزاع المذكور فيما إذا قال الشارع : « صم يوما وصم يوما » نظرا إلى أنّ الأمر سبب للوجوب فيتعدّد السبب مع وحدة المسبّب. فيمكن أن يقال فيه ما يقال في غيره. والظاهر اختصاص النزاع بما إذا كان الأمران مسبّبين عمّا جعله الشارع سببا أو ينتزع عمّا جعله الشارع

ص: 55


1- راجع عوائد الأيّام : 296 ، والعناوين 1 : 237.

سببا (1) أو ينتزع (2) منه السببيّة على القول بعدم تعلّق الجعل بها على وجه الاستقلال. وانتفاؤه فيما زعمه ظاهر ، وإن كان يمكن للعقل انتزاع السببيّة والمسببيّة من المصلحة الداعية إلى الأمر وإيجاب الشارع ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المشهور في مثل ما فرضه هو تعدّد التكليف مع قطع النظر عن قرينة الاتّحاد كما إذا كان أحدهما منكّرا والآخر معرّفا ، أو قرينة التعدّد كالعطف. ولم أقف على وجه فيه عدا ما يظهر من بعض الأعلام من دعوى الظهور العرفي. وستعرف الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

الخامس : الظاهر أنّ النزاع في هذه المسألة إنّما يؤول إلى اقتضاء معنى السببيّة عند التعدّد تعدّد المسبّبات وعدمه وإن (3) لم يكن ذلك المعنى مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ، كما إذا قام إجماع على سببيّة أمرين لوجوب شيئين ، فمع القطع بسببيّة الأمرين يمكن أن ينازع في الاقتضاء المذكور. فما يظهر من بعضهم في المقام من الاستدلال على مذهب المشهور بإطلاق الأدلّة ، لا وجه له (4) فلعلّ مقصوده دفع منع آخر يتوجّه على عدم التداخل فيما إذا كان دليل السببيّة فيهما لفظا ، وإلاّ فالقائل بالتداخل لم يظهر منه دعوى التخصيص أو التقييد حتّى يتمسّك بالإطلاق في قباله.

السادس : قضيّة الأصل التداخل فيما إذا كان النزاع في تداخل الأسباب ، لرجوع الكلام على تقدير عدم التداخل إلى دعوى تعدّد التكاليف ، ولا ريب أنّه عند الشكّ في تعدّد التكليف الأصل البراءة عن المشكوك.

ص: 56


1- لم ترد عبارة « أو ينتزع عمّا جعله الشارع سببا » في ( ع ).
2- في ( ع ) : « وينتزع ».
3- في ( ط ) : « إن » بدون الواو.
4- لم يرد « لا وجه له » في ( ع ).

وقضيّة الأصل عدم التداخل فيما لو كان المراد تداخل المسبّبات ، لأول البحث إلى أنّه بعد ما ثبت من تعدّد التكليف ، فهل يمكن أداؤه بفعل واحد أو لا؟ ولا ريب أنّه شكّ في سقوط المكلّف به بعد العلم بالتكليف.

وإلى ما ذكرنا أوّلا ينظر ما حكاه البعض عن المشارق (1) : من أنّ ما يقال من « أنّ الأصل عدم التداخل » فكلام خال عن التحصيل ، فإنّه إن اريد به الظهور فممنوع ، بل الظاهر كفاية مسمّى المسبّب ، وإن اريد به الاستصحاب فهو ممّا لا يعقل له وجه ، وعلى تقديره فلا عبرة به ، وإن اريد به الغلبة والكثرة فهو أيضا باطل ، انتهى ملخّصا. والظاهر عدم التفاته قدس سره إلى ما ذكرنا ثانيا من المراد ، مع أنّه أجلّ من ذلك.

ثمّ إنّ لبعض الأعلام (2) في نظير المقام كلاما ، وملخّصه : أنّ مقتضى الأصل العملي التداخل فيما إذا علم تعدّد التكليف ، فيجزي الإتيان بالفعل الواحد عن مجموع التكاليف ، وإن كان الأصل اللفظي قاضيا بعدم الإجزاء ؛ فإنّ المتفاهم عند العرف تعدّد المكلّف به عند تعدّد التكليف.

أقول : إذا ثبت تعدّد التكاليف ، فإن قلنا بأنّ تعدّدها يوجب تعدّد المكلّف به - كما هو التحقيق على ما ستعرفه - فلا وجه لما أفاده من أنّ الأصل التداخل ، وإن قلنا بأنّ ذلك لا يقتضي التعدّد - كما يراه رحمه اللّه في تداخل الأسباب - فلا نعرف وجها لدعوى ظهور اللفظ في تعدّد المكلّف به.

وتوضيحه : أنّه لا كلام فيما إذا كان في المقام ما يدلّ على الوحدة أو التعدّد ، مثل العطف الظاهر في المغايرة ، أو سوق الكلام على وجه يستفاد منه الاتّحاد.

ص: 57


1- حكاه المحقّق النراقي في العوائد : 293 ، وانظر مشارق الشموس : 61.
2- لم نعثر عليه.

بل الكلام إنّما هو في مقتضى الدليل بحسب الوضع واللغة ، ولا شكّ أنّ الأمرين إذا تعلّقا بطبيعة واحدة لا يقتضيان إلاّ إيجاب تلك الطبيعة ، ولا دلالة في اللفظ على غير ذلك بحسب القواعد اللغويّة ، فلا وجه لدعوى فهم العرف من اللفظ تعدّد المكلّف به ، فلو كان ذلك قضيّة العرف فليس إلاّ من جهة أنّ تعدّد التكاليف قاض بتعدّد المكلّف به ، لما ذكرنا سابقا : من أنّ الطبيعة الواحدة على وحدتها لا تتحمّل وجوبين لكونها من اجتماع المثلين ، فينصرف التكليف إلى الوجودات الخاصّة (1) ، فيجب تكرارها على حسب تكرار الأمر. ولا فرق في ذلك بين التكاليف الثابتة باللفظ أو بغيره من الأدلّة اللبيّة ، كما تقدم إليه الإشارة.

وبالجملة ، فالأصل العملي يختلف على حسب ما عرفت ، فلا وجه لما يوجد في كلمات غير واحد منهم من الإطلاق.

وإذ قد عرفت هذه الامور ، فاعلم أنّه ذكر بعض أجلاّء السادة الأعلام (2) وجوها للقول المشهور ، أقواها ما احتجّ به الفاضل في محكيّ المختلف (3) ، وتبعه عليه السيّد في شرح الوافية (4) : أنّه إذا تعاقب السببان أو اقترنا ، فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين أو مسبّبا واحدا أو لا يقتضيا شيئا أو يقتضي أحدهما شيئا دون الآخر. والثلاثة الأخيرة باطلة ، فتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

أمّا الملازمة : فلانحصار الصور في المذكورات.

ص: 58


1- في ( ع ) : « وجودات خاصّة ».
2- وهو السيّد الطباطبائي بحر العلوم في فوائده المطبوعة بالطبعة الحجريّة : 126.
3- المختلف 3 : 427 - 428.
4- لم نعثر عليه.

وأمّا بطلان التوالي : أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت سابقا من أنّ النزاع المذكور إنّما هو مبنيّ على خلافه. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ذلك خلاف ما فرضناه من سببيّة كلّ واحد منهما على ما يقتضيه الدليل. وأمّا الثالث ؛ فلأنّ استناده إلى المعيّن يوجب الترجيح بلا مرجّح مع أنّه خلاف المفروض من دليل السببية ، وإلى غير المعيّن يوجب الخلف المذكور.

واعلم أنّ محصّل الوجه المذكور ينحلّ إلى مقدّمات ثلاث :

إحداها : دعوى تأثير السبب الثاني.

الثانية : أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة : أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

فالقائل بالتداخل لا بدّ له من منع إحدى المقدّمات المفروضة على سبيل منع الخلوّ.

فتعلّق جماعة منهم منع (1) المقدّمة الاولى. ويمكن أن يستند في ذلك إلى أمرين :

أحدهما : وهو الظاهر من بعض الأعلام في تعليقاته على المعالم ، حيث قال : لا مانع من كون المسبّب (2) الثاني كاشفا عن المسبّب الأوّل (3).

وتوضيحه : أنّه يجوز أن يكون لشيء واحد آثار متعدّدة ولوازم عديدة ، يستكشف عنه بتلك الآثار واللوازم ، سواء كانت مقترنة في الوجود أو لا ، وتعدّد اللوازم لا يدلّ على تعدّد الملزومات ، كما هو ظاهر. فيجوز أن يكون الأسباب

ص: 59


1- كذا ، والظاهر : « بمنع ».
2- في ( ع ) و ( ط ) : « السبب » وما أثبتناه من المصدر.
3- هداية المسترشدين 1 : 712.

الشرعيّة من هذا القبيل ، فعلى المستدلّ إثبات هذه المقدّمة. وقد عرفت أنّ الفاضل النراقي لم يكتف بالمنع المذكور ، بل ادّعى أن الأسباب الشرعيّة ليست بأسباب حقيقيّة ، وإنّما هي معرّفات (1).

ويؤيّد الدعوى المذكورة : توارد الأسباب الشرعيّة على مسبّب واحد مع امتناعه في غيرها ، كما في توارد النوم والبول على وضوء واحد.

أقول : إنّ بعد ما فرغنا من أنّ الظاهر من الجملة الشرطيّة هو سببيّة الشرط للجزاء وتسالم عليه المانع المذكور لا وجه للمنع المذكور ، لرجوعه إلى مقدّمة ثابتة ؛ على أنّ الكلام لا يختصّ بالجملة الشرطيّة بل تجري فيما إذا ثبت السببيّة بالتصريح بها ، بل وفيما إذا قام عليها الإجماع ، كما عرفت.

لا يقال : حيث إنّه قد ثبت في بعض الموارد معرفيّة الأسباب فيقوم احتمالها ويرجّح على احتمال المؤثريّة ؛ نظرا إلى موافقته لأصالة عدم تعدّد الأثر.

لأنّا نقول : لا عبرة بالأصل في قبال الدليل الظاهر في التعدّد. وأمّا الدعوى المذكورة فيكفي في دفعها عدم دلالة دليل من العقل والنقل عليها ، وبعد ما عرفت من الظهور يتمّ التقريب.

ولا دلالة في توارد الأسباب على المعرّفيّة.

أمّا أوّلا : فبالنقض بالأسباب العقليّة والعاديّة ، فإنّها أيضا قد تجتمع على أمر واحد.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، وهو القول بأنّ القدر المشترك هاهنا سبب ، ولا غائلة فيه كما قدّمنا.

وأمّا مسألة الأحداث فلا تدلّ على مطلوبهم.

ص: 60


1- راجع الصفحة : 53.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقصود بالوضوء - كما علم ذلك بالدليل - ليس إلاّ رفع الحدث ، وهي الحالة المانعة عن الدخول فيما هو مشروط بعدمها ، ولا شكّ أنّها بعد ارتفاعها بوضوء واحد لا يقبل المحلّ لوضوء آخر يقصد به رفع تلك الحالة ، فيكون ذلك من قبيل ما لا يقبل التكرار ، الخارج عن المتنازع فيه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات المعرّفية في الوضوء لا يجدي في إثباتها في غيره إلاّ على وجه القياس ولا نقول به. سلّمنا أنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات ، لكن ذلك يلازم تعدّد الأثر ؛ لامتناع توارد المعرّفات على معرّف واحد ، فتعدّد المعرّف كاشف عن تعدّد المعرّف. ولا ينافي ذلك عدم دلالة تعدّد اللوازم على تعدّد الملزومات ، حيث إنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا لم يقصد بها الاستكشاف.

فإن قلت : نعم ، ولكنّه معرّف شأني. قلنا : ظاهر الدليل فعليّة المعرفيّة.

ومنه يظهر فساد ما أفاده في التعليقة : من أنّ السببيّة الشرعيّة لا تنافي عدم فعليّة التأثير ، لصدق السببيّة الشرعيّة مع شأنيّة التأثير قطعا ، كما في مسألة الأحداث (1). وجه الفساد : أنّه إن اريد بذلك الفرق بين الأسباب العاديّة والشرعيّة لعدم منافاتها للفعليّة في الثاني دون الأوّل ، فهو كلام خال عن التحصيل ، إذ لا يعقل الفرق بينهما. وإن اريد به منع ظهور دليل السببيّة في الفعليّة فقد يظهر فساده بالرجوع إلى العرف. فكيف كان ، فلا نعرف وجها للدعوى المذكورة عدا ما عرفت من مسألة تعاقب الأحداث وأشباهها ممّا لا دلالة فيها عليها.

نعم ، يظهر من بعض الأجلّة الاستناد إلى وجه آخر في الدعوى المذكورة ، حيث قال - في دفع ما استشكل على القول بحجيّة المنصوص العلّة من أنّه ينافي القول بأنّ « علل الشرع معرّفات » - : إنّ علل الشرع على ضربين ، الأوّل : العلل

ص: 61


1- هداية المسترشدين 1 : 712.

المجعولة في الشرع عللا وأسبابا لأحكام مخصوصة ، كالأحداث للطهارة ، وأسباب الكفّارة والعقود والإيقاعات لما يترتّب عليها ، فإنّها معرّفات لها ، وليست عللا حقيقيّة ، لانحصارها في الأربع. وعدم كونها من الماديّة والصوريّة واضح ، وكذا عدم كونها من الفاعليّة ، لاستناد جعل الأحكام الشرعيّة إليه تعالى ، لا إلى تلك الأسباب ؛ وكذا عدم كونها الغائيّة ، لظهور أن ليس المقصود بوضع تلك الأحكام ترتّب تلك الأسباب عليها. الثاني : العلل التي هي منشأ حكم الحكيم وجهات حسن تشريعه وما يستند إليه مطلوبيّة الفعل أو مبغوضيته ، كإسكار الخمر الموجب لمبغوضيّتها. وهذه العلل علل حقيقيّة ، إذ مرجعها إلى العلّة الغائيّة ، فإنّ المقصود من تحريم الخمر حفظ المكلّف عن السكر وفساد العقل. ثمّ حمل قولهم بأنّها معرّفات على القسم الأوّل ، وجعل مبنى القول بحجيّة المنصوص العلّة (1) القسم الثاني (2). انتهى كلامه - رفع مقامه - ملخّصا.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه للإشكال المذكور ، إذ القول بالمعرّفيّة لا ينافي الحجيّة ، إذ لا ضير في كون الإسكار كاشفا عن علّة التحريم مع اطّراد الحكم. نعم ، لو قيل بكونها عللا ناقصة تمّ الإشكال المذكور ، ولا مدفع له.

وثانيا : أنّ ما استند إليه في نفي كونها عللا حقيقيّة من انحصارها في الأربع غير مستقيم ؛ أمّا أولا : فلأنّ دعوى الانحصار فيها باطلة ، كما أذعن به جماعة ، منهم شارح المقاصد حيث قال - بعد تقسيم الخارج إلى ما به الشيء وهي الفاعليّة ، وإلى ما لأجله الشيء وهي الغائيّة - : لا دليل على انحصاره فيهما سوى الاستقراء (3) ، وهو أيضا ممنوع ، فإنّ موضوع العرض خارج لا فاعل ولا غاية.

ص: 62


1- في ( ع ) زيادة : « على ».
2- الفصول : 385.
3- إلى هنا تمّ كلام شارح المقاصد ، راجع شرح المقاصد 2 : 78.

ثانيا : سلّمنا الانحصار ، ولكنّا نقول : إنّها علل فاعليّة كما أنّ حركة اليد علّة فاعليّة لحركة المفتاح ، بل ولا بدّ من تعميم العلّة الفاعليّة على وجه يدخل فيها الشروط والآلات ، كما صنعه بعضهم (1).

قوله (2) : « لاستناد جعل الأحكام إليه تعالى ، لا إلى تلك الأسباب ».

فيه من الخلط ما لا يخفى ، سيّما على ما زعمه من مجعوليّة الأحكام الوضعيّة بنفسها ، فإنّه تعالى جاعل لسببيّة تلك الأسباب ، وأين ذلك من استناد المسبّبات لتلك الأسباب إليها ، فإنّ شرعيّة السبب لا تنافي استناد المسبّب إليه بعد تشريع السببيّة.

ثمّ لا يخفى ما فيما أفاده من نفي كونها من الغائيّة.

ثمّ إنّ ما أفاده في القسم الثاني من أنّها علل حقيقيّة ، لا وجه له على ما زعمه.

قوله : « إذ مرجعها إلى العلّة الغائيّة ».

فيه : أنّه لا يعقل أن يكون الإسكار غاية لحرمة الخمر. وكون المقصود من تحريم الخمر حفظ المكلّف عن فساد العقل ممّا لا ربط له بالمقام لظهور الفرق بين داعى التحريم وهو الحفظ وبين غاية الحرمة التي هي معلول الإسكار.

وتوضيحه : أنّ العلّة الغائيّة هي علّة فاعليّة الفاعل وسبب ترجيح الفاعل أحد طرفي المقدور ، فمعلولها لا بدّ أن يكون فعلا من الأفعال. وما ذكره إنّما يصحّ غاية للتكليف الذي هو فعل المكلّف ، ولا دخل له بما نحن بصدده من فرض علّيّة الإسكار للحرمة التي هي من الأوصاف دون الأفعال ، وذلك ظاهر في الغاية.

ص: 63


1- وهو التفتازاني في شرح المقاصد 2 : 78.
2- أي : صاحب الفصول.

ثمّ انّ هذا المستدلّ ذكر في خلال بيان اجتماع العلل ما ملخّصه : ولو لم يكن الحكم قابلا للشدّة والضعف أو كان وعلم عدم الاشتداد بدليل جاز أن يكون علّيّة الثاني مشروطة بعدم سبق المتقدّم فيكون الثاني معرّفا وكاشفا محضا (1) ، انتهى.

أقول : ولعلّه أخذه من أخيه البارع في تعليقاته حيث قال - على ما تقدّم نقله - : لا مانع من كون المسبّب (2) الثاني معرّفا وكاشفا عن المسبّب الأول (3). وما أفاده ليس في محلّه ؛ فإنّه لا يعقل القول بأنّ الشيء إذا لم يكن مسبوقا بمثله فهو سبب وإذا كان فهو معرّف ؛ لاستواء الحالتين بالنسبة إلى دليل السببيّة ، فإن اقتضى السببيّة فالقول بالمعرفيّة لا وجه له ، وإن اقتضى المعرفيّة فلا وجه للقول بالسببيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ الأسباب الشرعيّة ليست إلاّ كالأسباب العقليّة سواء كانت من جنس واحد أو من أجناس مختلفة ، لرجوع الكلّ إلى سببيّة القدر المشترك ، ضرورة امتناع اجتماع العلل على معلول واحد ، فإذا تواردت على شيء واحد غير قابل للتعدّد يمتنع تأثير الثاني ، لامتناع تحصيل الحاصل لو كان الأثر هو الأثر الحاصل بالأوّل ، وامتناع اجتماع الأمثال لو كان غيره ، فعدم تأثير السبب الثاني ليس بواسطة تصرّف لفظي في دليل السببيّة كما هو المشاهد في الأسباب العقليّة ، بل بواسطة عدم قابليّة المحل لحصول الأثر ، وذلك لا يقضي بالكاشفيّة (4) ، فلا وجه للقول بأنّ السبب كاشف. نعم ، هو سبب شأنيّ لمقارنته

ص: 64


1- الفصول : 385.
2- في ( ع ) و ( ط ) : « السبب » وما أثبتناه من المصدر.
3- تقدّم في الصفحة : 59.
4- في ( ع ) : « لا يقتضي الكاشفيّة ».

وجود المانع عن التأثير ، وهو حصول الأثر في المحل. وكيف كان ، ففساد هذه الدعوى ظاهر لمن تأمّل الأسباب العقليّة والعاديّة.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما زعمه أخيرا من احتمال عدم اشتراط السبق ، كما أفاده أوّلا ، حيث قال : وجاز أن لا تكون مشروطة به فيشترط حينئذ استدامة التأثير به ، فيكون العلّة بعد تحقّقه هو والسابق ، كما في صورة التوارد في زمان واحد. والأسبقيّة لا تصلح للترجيح حينئذ ، لأنّ العلّيّة إذا كانت مستدامة كانت بالنسبة إلى كلّ زمان كالعلّة الابتدائيّة (1). والظاهر أنّه أراد بما أفاده أنّه يلتزم بتعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب المتعاقبة ، لكن بواسطة اعتبار الزمان جزءا من المسبّب ، فالحدث الحاصل في القطعة الاولى من الزمان مسبّب عن النوم الأوّل مثلا وفي الثانية عن الثاني وهكذا ... وإن كانت العبارة غير خالية عن حزازة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وجه الفساد : أنّ بعد ما عرفت من العلاج لا حاجة إلى هذه التكلّفات التي لا يساعدها اعتبار ، فإنّ استفادة هذه التقييدات من دليل السببيّة فيما إذا كان لفظا ممّا لا سبيل إليها ، وإذا كان عقلا - كما في الأسباب العقليّة - يلزم تخلّف المعلول عن العلّة ، إذ المفروض أنّ السبب الأوّل إذا لم يتعاقبه السبب الثاني يكفي في الاستدامة أيضا ، فلحوق الثاني لا يترتّب عليه شيء قطعا ، وذلك ظاهر.

الثاني من الأمرين (2) اللذين يمكن الاستناد إليهما في منع المقدّمة الاولى من الدليل المذكور : ما يمكن استظهاره ممّا قدّمنا.

ص: 65


1- الفصول : 385.
2- تقدّم أولهما في الصفحة : 59.

ومحصّله : أنّ قضيّة القواعد اللفظيّة فيما نحن بصدده وحدة الأثر والتكليف ؛ وذلك لأنّ اللفظ الواقع في الجزاء موضوع للطبيعة المرسلة التي لا يشوبها شوب التعدّد - كما هو المختار في وضع (1) اسم الجنس - ولا شكّ أنّ الماهيّة في تلك المرتبة واحدة فلا تتحمّل وجوبين ، إذ لا فرق في امتناع الأمثال بين أن يكون الوحدة شخصيّة أو نوعيّة ، فعند تعدّد الأسباب لا دليل على تعدّد الآثار والتكاليف ، لعدم صلاحيّة الفعل المتعلّق للتكليف المدلول عليه باللفظ المأخوذ في الجزاء للتعدّد ؛ ولذلك قلنا : عند تعدّد الأوامر الابتدائيّة لا دليل على ترجيح التأسيس على التأكيد ، فإنّ التأكيد (2) بمقتضى اللفظ بعد كونه معنى انتزاعيّا.

لا يقال : إنّ كون الماهيّة في تلك المرتبة متّحدة لا يجدي في دعوى الاتّحاد ، لأنّ الوحدة أيضا خارجة عنها وإن كانت متّصفة بها حقيقة ، فمدلول اللفظ لا ينافي الكثرة.

لأنّا نقول : عدم دلالة اللفظ على الكثرة كاف في المدّعى ، لإثبات الوحدة بالأصل عند عدم الدليل على خلافها.

أقول : إنّ بعد الاعتراف بأنّ اللفظ الواقع في الجزاء إنّما هو موضوع لنفس الماهيّة الخارجة عنها الوحدة وغيرها من أوصاف الماهيّة ، لا ينبغي الارتياب في تعدّد الأثر والتكليف ؛ إذ الوحدة لا وجه لها حينئذ إلاّ الأصل ، وهو لا يقاوم الدليل ، وهو ظهور دليل السببيّة في الفعليّة ، ولازمها التعدّد في المحلّ القابل ، والمفروض قابليّة المحلّ أيضا ، لعدم مدخليّة الوحدة النوعيّة في الموضوع له.

ص: 66


1- في ( ع ) : « موضوع ».
2- لم يرد « فإنّ التأكيد » في ( ع ).

فإن قلت : على تقدير التعدّد لا بدّ من تقييد إطلاق المسبّب أيضا ، فإنّ المطلوب في الثاني ليس نفس المطلوب في الأوّل ، بل لا بدّ أن يكون مغايرا ، فيؤول الأمر إلى القول بأنّ المطلوب هو الفرد المغاير للفرد الأوّل المطلوب بالسبب الأوّل ، ولا شكّ أنّ ذلك تقييد ، وأصالة الإطلاق محكّمة عند الشكّ.

قلت : نعم ، ولكن ذلك التقييد ليس في عرض ظهور دليل السببيّة في الفعليّة ، بل إنّما يقضي به العقل بعد الأخذ بذلك الظهور.

وتوضيح المطلب : أنّ الاستناد إلى الإطلاق ليس بواسطة عدم البيان وانتفاء ما يقضي التقييد ، وبعد وجود ما يصلح له لا وجه للقول بمعارضة ظهور الإطلاق لظهور ذلك الصالح ، فإنّه بيان له كما قرّر في محلّه ، فبعد ما فرضنا من ظهور دليل السببيّة في الفعليّة لا بدّ من ذلك التقييد ، لأنّ ذلك الظهور دليل على التقييد.

ومن هنا يظهر أنّه لا يقاس حال الأوامر الابتدائيّة بما نحن بصدده ، فإنّ مجرّد قابليّة الفعل المتعلّق للأمر لا يقتضي التعدّد كما هو الحال فيها ، بل لا بدّ من أمر آخر يقضي به ، كما في تعدّد الأسباب ، فظهر الفرق وبطل القياس.

ومن الغريب! ما وقع عن بعض الاعلام (1) : من تسليم ظهور الأوامر الابتدائيّة في التعدّد دون ما نحن فيه ، مع ما عرفت من أنّ التحقيق على خلافه.

ثم إنّه بما ذكرنا أيضا يظهر فساد ما توهّم بعضهم (2) : من أنّ المسبّب الثاني لا بدّ أن يكون مغايرا للمسبّب الأوّل ؛ إذ على تقدير التغاير يلزم استعمال اللفظ في

ص: 67


1- وهو صاحب هداية المسترشدين كما سيجيء في الصفحة : 72.
2- عوائد الأيام : 300 ، العائدة 31.

معنييه. بيان اللزوم هو : أنّ قولك : « إن سلّم عليك زيد فأكرمه » يراد من الإكرام طبيعة الإكرام عند انفراد السلام ، وإذا انضمّ إليه فرد آخر من السلام لا بدّ أن يراد منه الفرد المغاير ، وهو معنى مجازي للإكرام ، وهو المراد باللازم.

وجه الفساد : أنّ لفظ « الاكرام » لا يراد به إلاّ نفس الطبيعة ، وهذه التصرّفات ممّا يدلّ عليه العقل في مقام امتثال الأمر المتعلّق بتلك الطبيعة ، ألا ترى أنّه لو صرّح الآمر بأنّ المطلوب هو تعدّد الوجودات عند تعدّد الأفراد المندرجة في السبب ، لا يعدّ ذلك قرينة على الاستعمال المذكور ، ولو كان كما زعمه يلزمه وقوع ذلك الاستعمال في جميع الموارد التي ثبت فيها عدم التداخل ، ولا أظنّه راضيا بذلك.

هذا محصّل الكلام في إثبات المقدّمة القائلة بأنّ السبب الثاني لا بدّ وأنّ يكون مؤثّرا.

وأمّا المقدّمة الثانية (1) التي يطلب فيها مغايرة الأثر الحاصل من السبب الأوّل للأثر الحاصل من الثاني ، فمنعها جماعة ، منهم المحقّق النراقي.

قال في محكيّ العوائد - بعد ما نقلنا منه من دعوى معرّفيّة الأسباب الشرعيّة ، ولا ضير في تواردها نظرا إلى إمكان ذلك في الموجود الذهني - ما محصّله : إنّه لا شكّ في أنّ الأسباب الشرعيّة علل للأحكام المتعلّقة لأفعال المكلّف ، لا لنفس الأفعال ؛ ضرورة لزوم الانفكاك على تقدير علّيّتها لها لا لأحكامها ، فتعدّدها لا يوجب تعدّد الفعل ، وإنّما يوجب تعدّد معلولها وهو الوجوب ، وتعدّد الوجوب لا دلالة فيه على وجوب إيجاد الفعل متعدّدا ، لإمكان تعلّق فردين من حكم بفعل واحد ، كما في الإفطار بالحرام في نهار

ص: 68


1- تقدّمت في الصفحة : 59.

رمضان وقتل زيد القاتل المرتدّ (1) ، انتهى ملخّصا.

وأشعر به بعض الأعلام أيضا ، حيث قال : إنّ تعدّد التكليف بنفسه لا يقتضي تعدّد المكلّف به إلاّ أن ينضمّ إليه ظهور عرفي (2). انتهى.

أقول : بعد تسليم أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب حقيقيّة كالأسباب العقليّة والعاديّة لا وجه لما ذكره ، وتحقيقه : أنّا نلتزم بأنّ الأسباب الشرعيّة أسباب لنفس الأحكام لا لمتعلّقاتها ، ومع ذلك يجب تعدّد إيجاد الفعل في الخارج كما هو المطلوب ، فإنّ المسبّب حينئذ يكون هو اشتغال الذمّة بإيجاد الفعل ، ولا شكّ أنّ السبب الأوّل يقتضي ذلك ، فإذا فرضنا وجود مثله فيوجب استعمالا آخر ، إذ لو لم يقتض ذلك فإمّا أن يكون بواسطة نقص في السبب أو في المسبّب ، وليس شيء منهما. أمّا الأوّل : فلما هو المفروض ، وأمّا الثاني : فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد وعدمه إنّما هو تابع لقبول الفعل المتعلّق له وعدمه كما هو ظاهر للمتأمّل ، والمفروض قبوله للتعدّد ، إذ لا وحدة فيها لا شخصا ولا نوعا ، كما قرّرنا.

قولك : « يمكن تعلّق فردين من حكم بفعل واحد ».

نقول : ذلك إنّما هو بواسطة وحدة المحلّ وعدم قبوله للتعدّد ، فإنّ الإفطار بالحرام فعل خاصّ لا يحتمل التعدّد فلا يتحمّل وجوبين إلاّ على وجه التأكيد واضمحلال الضعيف في الشديد على وجه لا يكون هناك فردان من الوجوب ، لامتناع اجتماع الأمثال ، فلا يقاس ذلك بما إذا كان المحلّ قابلا.

ص: 69


1- عوائد الأيام : 297 - 298.
2- الظاهر أن المراد من بعض الأعلام هو صاحب هداية المسترشدين ، كما عبّر عنه في الصفحة 72 وغيرها ، ولكن لم نعثر على العبارة بعينها في الهداية ، نعم يوجد ما يفيد ذلك ، راجع هداية المسترشدين 1 : 708 - 712.

فإن قلت : إذا كان التأكيد معقولا فلا مانع من احتماله في المحلّ القابل أيضا ، فعلى المستدلّ رفع ذلك الاحتمال بالدليل.

قلت : إنّ ملاحظة الأسباب العقليّة رافعة لهذا الاحتمال ، فإنّه إذا فرضنا سببيّة كلّيّ لكلّيّ آخر قابل للتعدّد لا يعقل التأكيد ، إذ على تقديره لا دليل على وجود الأفراد المتعدّدة ، مع أنّه مشاهد بالعيان في الأسباب العقليّة. فظهر أنّ المانع إنّما هو اعتبار وحدة المحلّ سواء كانت الوحدة شخصيّة أو نوعيّة. والحاصل أنّ السبب الأوّل يقتضي اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الطبيعة المهملة ، والمفروض مماثلة السبب الثاني للأوّل في التأثير والمسبّب ، فيقتضي اشتغال الذمّة تارة اخرى ، كما في الأسباب العقليّة.

نعم ، ما ذكره يتمّ في الأوامر الابتدائيّة مع قبول المحلّ أيضا ، لأنّ مجرّد القابليّة غير قاضية بالتعدّد ، بل إنّما يحتاج إلى ما يقتضيه ، والاشتغال الحاصل بالأمر الثاني فيها لا نسلّم مغايرته للأمر الأوّل حتّى يكون مقتضيا للتعدّد ، لاحتمال التأكيد الموافق لظاهر الأمر بالطبيعة ، كما أشرنا إليه سابقا.

هذا إن اريد من التأكيد المحتمل في المقام تأكيد مرتبة الطلب والوجوب وإن كان حصوله بواسطة لحوق جهة مغايرة للجهة الاولى ، كما في التأكيد الحاصل بالتحريم للإفطار في نهار رمضان من جهتين. وإن اريد التأكيد نحو الحاصل في الأوامر المتعدّدة الابتدائيّة كالأوامر المتعلّقة بالصلاة في الكتاب والسنّة ، ففساده أظهر من أن يخفى وإن كان يوهمه بعض عباراتهم ويتعاطونه طلبة عصرنا ، فإنّ الأمر الثاني مرتّب على الأمر الأوّل ووارد في مورده في التأكيدات ، كما هو ظاهر. وذلك بخلاف ما نحن فيه ضرورة حصول الاشتغال والوجوب على وجه التعدّد قبل وجود السبب بنفس الكلام

ص: 70

الدالّ على السببيّة ، فتكون تلك الوجوبات كلّ واحد منها في عرض الآخر ، فهناك إيجابات متعدّدة في موارد متعدّدة بواسطة الكلام الدالّ على السببيّة ، ويتفرّع عليها وجوبات متعدّدة على وجه التعليق ، وبعد حصول المعلّق عليه - وهو وجود السبب - يتحقّق الاشتغال بأفراد متعدّدة. ويمكن أن يجاب بالتزام أنّها أسباب لنفس الأفعال لا لأحكامها.

قوله : « ضرورة لزوم الانفكاك » (1).

قلنا : إنّ الجنابة - مثلا - سبب جعليّ لا عقليّ ولا عاديّ ، ومعنى السبب الجعلي هو أنّ لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل للغسل مثلا على وجه لو انقدح في نفوسنا لكنّا جازمين بالسببيّة ، يكشف عن ذلك ملاحظة قولك لعبدك : « إذا جاء زيد من السفر فأضفه » فإنّ للضيافة نحو ارتباط بالمجيء ، فالقول بأنّها ليست بأسباب لنفس الأفعال ، لا وجه له ؛ ولذا اشتهر في الأفواه والألسن : أنّ أسباب الغسل والوضوء كذا. إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا يسمن (2) فإنّ معنى جعليّة السبب ليس إلاّ مطلوبيّة المسبّب عند وجود السبب.

والارتباط المدّعي بين الشرط والجزاء حيث يكون الجزاء (3) من الأفعال الاختياريّة هو كون الشرط موردا لانتزاع أمر يصحّ جعله غاية للفعل المذكور ، كما يظهر بملاحظة قولك : « إذا قدم زيد من السفر فأضفه » فإنّ السفر مورد لما هو الغاية ولو على وجه انتزاعي كما لا يخفى ، فالتعويل في دفع المنع المذكور على ما ذكرنا.

ص: 71


1- أي : قول المحقّق النراقي المتقدّم في الصفحة : 68.
2- في ( ع ) : « لا يثمر ».
3- في ( ع ) : « الفعل ».

وأمّا الكلام في المقدّمة الثالثة (1) القائلة بأنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل ولا يكفي إيجاد فعل واحد في مقام فعلين ، فلم أر مصرّحا بدعوى الكفاية بعد تسليم المقدّمتين السابقتين.

نعم ، لا يبعد حمل كلام المحقّق الخوانساري (2) على ذلك وإن احتمل رجوعه إلى منع الثانية أيضا ، حيث قال : إنّ الظاهر اقتضاء كلّ من الأسباب مسمّى الغسل ، وهو متحقّق في ضمن فرد واحد. ولا يخفى احتماله للوجهين.

وربما يمكن استفادته من بعض الأعلام أيضا ، فإنّه عوّل في استفادة التعدّد في الأوامر الابتدائيّة على ما هو خارج عن مقتضى اللفظ ، حيث أجاب عمّا أورد على نفسه : من أنّ قضيّة إطلاق المادّة عدم التعدّد لكفاية المسمّى فمن أين يجيء التقييد؟ بقوله : يمكن استناد ذلك إلى ضمّ أحد الأمرين إلى الآخر (3) ، فإنّ الفرق بين الأوامر الابتدائيّة والمسبوقة بالأسباب من هذه الجهة غير معقول ، وإن كان يظهر منه الفرق لكن بدعوى ظهور الابتدائيّة في التعدّد دون العكس ، كما أشرنا إليه.

ومن الغريب! قوله في جواب السؤال المذكور : بل لا يبعد القول في المقام بإسناد الفهم المذكور إلى خصوص كلّ من الأمرين ، لقضاء كلّ منهما باستقلاله في إيجاب الطبيعة ووجوب الإتيان بها من جهته ، وقضيّة ذلك تعدّد الواجبين المقتضي للزوم الإتيان بهما كذلك (4). فإنّ دعوى ذلك في غير ذوات الأسباب لا أعرف الوجه فيها.

ص: 72


1- تقدّمت في الصفحة : 59.
2- مشارق الشموس : 68.
3- هداية المسترشدين 1 : 704.
4- هداية المسترشدين 1 : 704.

وكيف كان ، فيحتمل رجوع هذه الكلمات إلى المقدّمة الثانية ، كما يحتمل رجوعها إلى الثالثة ، وعلى الأوّل فقد استوفينا ما عندنا ، وعلى الثاني نقول : قد قرّرنا في المقدّمة السابقة أنّ متعلّق التكاليف حينئذ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ، ولا يعقل تداخل فردين من ماهيّة واحدة ، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضا على ذلك التقدير ، إلاّ أن يكون ناسخا لحكم السببيّة.

وأمّا تداخل الأغسال فبواسطة تداخل ماهيّاتها ، كما كشف عنه رواية الحقوق (1) ، مثل تداخل الإكرام والضيافة فيما إذا قيل : « إذا جاء زيد فأكرم عالما وإن سلّم عليك فأضف هاشميّا » فعند وجود السببين يمكن الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي على وجه الضيافة فيما لو قصد امتثال الأمرين في التعبّديّات ، وأين ذلك من تداخل الفردين؟

لا يقال : إنّ تعدّد الأسباب يحتمل أن يكون كاشفا عن تعدّد ماهيّات المسبّبات أيضا ، فيصحّ دعوى الاكتفاء.

لأنّا نقول : ظهور لفظ المسبّب في ماهيّة واحدة ممّا لا يقبل الإنكار. ولو سلّمنا فلا يجدي ، لعدم العلم بالتصادق لإمكان المباينة ، فالقاعدة قاضية بالتعدّد.

وما ذكرنا محصّل الدليل المذكور. ولهم وجوه أخر كلّها مزيّفة لا فائدة في إيرادها ، فليراجع الى فوائد السيّد السند بحر العلوم (2). وممّا ذكرنا يظهر احتجاج القائل بالتداخل أيضا من الأصل وغيره ، فلا نطيل بالإعادة.

ص: 73


1- راجع الوسائل 1 : 526 ، الباب 43 من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.
2- الفوائد الاصوليّة : 119.

واحتجّ ابن إدريس رحمه اللّه على ما ذهب إليه من التفصيل - من التعدّد عند اختلاف الأجناس وعدمه عند الاتّحاد - بدعوى الصدق على الثاني ، وبإطلاق السببيّة على الأوّل.

قال في محكيّ السرائر في مسألة تكرّر الكفّارة عند تكرّر وطء الحائض - بعد أن اختار العدم - : الأصل براءة الذمّة ، وأمّا العموم فلا يصحّ التعلّق به في مثل هذه المواضع ، لأنّ هذه أسماء أجناس (1). وقال في بحث السجود ما يظهر منه الوجه المذكور - إلى أن قال - : فأمّا إذا اختلف الجنس فالأولى عندي بل الواجب الإتيان عند كلّ جنس بسجدتي السهو ، لعدم الدليل على تداخل الأجناس (2) ، انتهى.

والإنصاف أنّه لا وجه للتفصيل المزبور ؛ إذ بعد الإذعان بامتناع توارد الأسباب والعلل على معلول واحد ، لا بدّ من القول بأنّ العلّة هو القدر المشترك بين تلك الأجناس المختلفة على وجه لا مدخليّة لخصوصيّات تلك الأجناس ، كما لا مدخليّة لخصوصيّات أفراد تلك الأجناس وأشخاصها ، على ما أشرنا إلى تحقيقه إجمالا. وحينئذ فإمّا نقول بعدم التداخل نظرا إلى الدليل المذكور ، أو لا نقول بواسطة تطرّق المنع إلى إحدى مقدّماته. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل ، فدعوى الصدق في متّحد الجنس تناقض دعوى الإطلاق في متعدّده.

ص: 74


1- السرائر 1 : 144.
2- السرائر 1 : 258.
فائدتان

الأولى : قد سبق أنّ التداخل تارة سببيّ ومرجعه إلى : دعوى عدم تعدّد الأوامر والآثار والاشتغال والتكليف ، واخرى مسببيّ ومرجعه إلى : دعوى صدق الامتثال والاكتفاء بفرد واحد عند تعدّد التكاليف والاشتغالات.

فعلى الأوّل ، تعدّد الفعل في الخارج بقصد المشروعيّة غير جائز ، لعدم الدليل على ذلك حينئذ ، فيكون تشريعا محرّما.

وعلى الثاني ، فإمّا يكون الفرد الذي يراد الاكتفاء به في مقام امتثال التكاليف مجمعا لعناوين الأفعال التي تعلّق التكليف بها ولو عند عدم إرادة اجتماع تلك العناوين ، كما فيما فرضنا من مثال العالم الهاشمي ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل الاجتماع موقوف على القصد وإرادته. فعلى الأوّل أيضا لا يجوز إيجاد الفعل في الخارج متعدّدا إلاّ إذا كان أحدهما أو كلاهما عبادة مع عدم قصد الإطاعة فإنّه حينئذ يجب إيجاده متعدّدا لتوقّف الامتثال عليه. وعلى الثاني فالتعدّد وعدمه موقوف على القصد ، فمن قصد إيجاد عنوانين من عناوين الفعل لا يجوز له تكرارهما ، بخلاف العنوان الغير المقصود ، فإنّه يجوز ترك الفعل قصدا إلى ذلك العنوان. وإلى ذلك أشرنا في صدر المسألة (1) ، حيث قلنا : إنّ التداخل على الأوّل عزيمة وعلى الثاني رخصة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون المسبّب من التوصّليّات أو من التعبّديّات ، إذ بعد ما عرفت من أنّ المطلوب هو تكرّر وجودات الفعل على تقدير عدم تداخل الأسباب ، لا بدّ من إيجاد الفعل التوصّلي مرّتين.

ص: 75


1- راجع الصفحة : 52.

وما يتوهّم : من أنّه على تقدير التوصّليّة لا يجب ذلك لحصول المطلوب بالمرّة الاولى فيكون التداخل عزيمة ، فاسدة جدّا ؛ لأنّ قضيّة التوصّليّة ليست إلاّ عدم اعتبار قصد الامتثال فيه ، ولا مدخل لها في لزوم إيجاد الفعل مرّتين وعدمه كما هو المقصود في المقام.

نعم ، يثمر التوصّليّة فيما إذا كان هناك عنوانان ، أحدهما مسبّب والآخر مأمور به ابتداء ، كالوضوء المسبّب عن أحد أسبابه وغسل موضع الوضوء إذا كان نجسا ولم نشترط سبق الطهارة ، فإنّه يمكن القول بأنّ العنوان الابتدائي حيث كان توصّليّا يحصل في ضمن العنوان المسبّب ولا يجوز تكراره عزيمة.

ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لجعل هذه المسألة من موارد تداخل الأسباب ، فإنّ أحد العنوانين من الأوامر الابتدائيّة.

وممّا ذكرنا أيضا يظهر أنّه في مورد التداخل وعدمه لا وجه للاحتياط من جهة حصول المأمور به وعدمه ، إذ على تقدير التداخل في السبب فالأمر ظاهر من هذه الجهة ، وأمّا احتمال عدم تداخل الأسباب فهو يورث احتياطا آخر من جهة اخرى. وعلى تقدير تداخل المسبّبات ففيما لم يتوقّف على القصد فالأمر أيضا ظاهر ، وفيما توقّف عليه لا بدّ منه عند إرادة الاكتفاء ، وعند عدمه يلزم التعدّد فلا يبقى محلّ الاحتياط. نعم ، يبقى من حيث إنّ امتثال هذه المسألة من الاجتهاديّات النظريّة ، فيحسن الاحتياط من جهة الخروج عن شبهة الخلاف.

الثانية : قد يتعدّد الأسباب الشرعيّة وتتوارد على مسبّب واحد غير الفعل ، مثل اجتماع عقدي الأب والجدّ على البنت لزوجين ، واجتماع بيع الوكيل والمالك في صيغة واحدة من شخصين ، واجتماع وصايا عديدة على مال واحد لأشخاص ، ونحو ذلك من الموارد المختلفة المتشتّتة.

ص: 76

ويظهر من مطاوي كلماتهم تارة الحكم بالسقوط من الطرفين ، كما في المثالين الأوّلين. واخرى الحكم بالتشريك كما في المثال الأخير.

ولم يظهر لنا وجه في ذلك إلاّ ما قد يقال : من أنّه لا بدّ من إعمال السببين بقدر الإمكان نظرا إلى إطلاق دليل السببيّة في مورد يقبل التشريك ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل السببيّة. وقضيّة ذلك التشريك في الوصايا ، وفي مورد لا يقبل ذلك يحكم بالسقوط ، كما في عقد الوليّين على الصغيرة.

إلاّ أنّه مع ذلك فلا يشفي العليل ، إذ - بعد الغضّ عن عدم الاطّراد ، كما يظهر لمن راجع كلماتهم - يرد عليه : أنّ قضيّة القاعدة السقوط في جميع الموارد ، إذ بعد ما هو المقرّر من امتناع اجتماع العلل المتعدّدة لا بدّ من القول بأنّ العلّة هو القدر المشترك ، وأفراده إنّما هي علّة إذ لم تكن مسبوقة بأمثالها ، نظرا إلى امتناع اجتماع الأمثال وتحصيل الحاصل ، فإذا تقارن فردان من ماهيّة السبب لا وجه للقول بكلّ واحد منهما أو أحدهما سببا مؤثّرا ، لمقارنة كلّ واحد منهما مع ما يمنع عن استناد الأثر إليه.

فإن قلت : فعلى ذلك لا بدّ من القول بالسقوط فيما إذا عقد الوليّان على الصغيرة لشخص واحد ، لعين ما ذكر من وجود المانع.

قلت : السبب على ما عرفت هو القدر المشترك ، ولا عبرة بخصوص الوجودات ، ولا تعدّد في القدر المشترك ، فالوجودات الخاصّة مظاهر له ، فلا وجه للقول بالسقوط. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ بناء العرف والعقلاء على التشريك فيما يقبل ذلك ، ونحن لم نحقّقه (1). إلاّ أنّ التشريك في خصوص الوصيّة لا يبعد الالتزام به ،

ص: 77


1- كذا ، والمناسب : لم نتحقّقه.

لظهور الفرق بينها وبين عقد الوليّين على صيغة واحدة من (1) شخصين ، فإنّ تعدّد الوصايا وإنشائها إنّما يكون على وجه التعدّد والاستقلال لأشخاص متعدّدة من دون أولها إلى رجوع غير معقول ، وحيث إنّ الموصي إنّما يكون في مقام الإفادة وليس لاغيا فيصرف إلى إرادة التشريك ، ولا يضرّ ذلك عدم صراحة اللفظ في التشريك لوسعة الدائرة في الوصيّة. نعم ، لو كان ذلك في البيع لم يكن البيع نافذا ، لاشتراطهم صراحة اللفظ في عقد البيع وغيره من العقود. فتأمّل في المقام ، فإنّه بعد محتاج إليه.

ص: 78


1- في ( ع ) بدل « من » : « على ».

هداية

اشارة

الحقّ - كما عليه المشهور - أنّ إثبات حكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها لا يستلزم انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء تلك الصفة.

وما ذكرنا في العنوان أولى ممّا ذكره غير واحد ، منهم الآمدي حيث قال : « اختلفوا في الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ... » (1).

وجه الأولويّة : أنّ ما ذكره لا يشمل ما إذا كان الموضوع وصفا من الأوصاف كأن يقال : « أكرم عالما » ودخوله فيما ذكرنا ظاهر ، حيث يصدق عليه أنّه إثبات حكم لذات ، سواء قلنا باعتبار الذات في المشتق أم لا ، وعلى الأوّل ظاهر ، وأمّا على الثاني فلأنّ النزاع يجري فيه على ذلك التقدير أيضا ، كما لا يخفى.

كما أنّ عنوان الآمدي أولى من عنوان غيره : من أنّ تعليق الحكم بالصفة لا يدلّ على انتفائه بانتفائها ؛ كما صنعه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2) ؛ لظهور أنّ اعتبار التعليق إنّما يناسب مفهوم الشرط ونحوه.

وقد يقال بخروج المثال المذكور عن محلّ النزاع. ولم يظهر وجهه. بل قيل بدخول الوصف الضمني في النزاع (3) ، كقوله صلى اللّه عليه وآله : « لأن يمتلئ بطن الرجل قيحا

ص: 79


1- الإحكام في اصول الأحكام 3 : 80.
2- القوانين 1 : 178.
3- قاله صاحب هداية المسترشدين 2 : 469 ، وراجع مناهج الأحكام : 130 ، والقوانين 1 : 178 أيضا.

خير من أن يمتلئ شعرا » (1) فإنّ امتلاء البطن كناية عن الشعر الكثير ، فيدلّ بمفهومه على عدم البأس بالشعر القليل. وهو ليس ببعيد ، لجريان مناط الأقوال فيه كما في الكلمات المتضمّنة معنى الشرط في النزاع السابق.

وهل الحال داخل في النزاع أو لا؟ صرّح بدخوله بعض الأفاضل (2) إلاّ أنّ الظاهر من كلماتهم اختصاص النزاع بما كان قيدا للموضوع لا الحكم ، بل يحتمل إلحاقه بمفهوم الشرط ، فإنّ قولك : « اضرب زيدا قائما » بمنزلة قولك : « إن كان قائما فاضربه ».

والإنصاف أنّ مناط الأقوال موجود فيه ، بل ربما يحكى عن بعضهم (3) عدّ جميع جهات التخصيص منه ، فالمعدود والمحدود موصوفان بالعدّ (4) والحدّ ، إلاّ أنّ وجود المناط ممّا ينهض وجها للإلحاق لا للإدخال.

ولا فرق فيما ذكرنا بين اعتبار الوصف في كلام إنشائي أو خبري ، وما يوجد في بعض كلماتهم من الاختصاص فمحمول على المثال.

ثمّ إنّ الوصف قد يكون مساويا للموصوف ، وقد يكون أخصّ مطلقا ، وقد يكون أخصّ من وجه. فعلى الأوّل لا وجه للنزاع المذكور ، لعدم تحقّق موضوعه ، كما إذا كان أعمّ. وعلى الثاني فالنزاع جار. وعلى الثالث فهل يجري فيه النزاع بالنسبة إلى الافتراق من جانب الوصف كما يظهر من بعض الشافعيّة - حيث قال : إنّ قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » يدلّ على عدم الزكاة

ص: 80


1- الوسائل 5 : 83 ، الباب 51 من أبواب صلاة الجمعة ، الحديث 3.
2- وهو صاحب هداية المسترشدين 2 : 469.
3- لم نعثر عليه.
4- في ( ع ) : « بالعدد ».

في معلوفة الإبل (1) - أو لا يجري كما يظهر من جماعة؟ الظاهر هو الثاني ، حيث إنّ المطابقة بين المنطوق والمفهوم - كما عرفت وستعرف - من الشروط ، واختلاف الموضوع من أشدّ أنحاء عدم المطابقة. نعم ، يتمّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ الوصف علّة مستقلّة كما في منصوص العلّة ، فيخرج بذلك عن مفهوم الوصف.

ومن هنا يظهر حال المحكيّ عن العلاّمة (2) حيث فصّل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره ، فإنّ مجرّد العلّيّة إنّما يقضي بعدم التخلّف في موارد الوجود كما في منصوص العلّة ، وأين ذلك من الانتفاء عند الانتفاء المطلوب في المقام؟ اللّهم إلاّ أن يقال بأنّه يلزم ذلك فيما لو علم انحصار العلّة. وهو كذلك إلاّ أنّه خروج عن محلّ النزاع ؛ فإنّ الكلام مع قطع النظر عن القرائن المفيدة للمفهوم مثل الأوصاف الواقعة في الحدود والتعاريف ، حيث إنّها يقصد بها الإصلاح طردا وعكسا الملازم لإرادة المفهوم ، كما لا يخفى.

ومن أوضح القرائن على إرادة المفهوم ما إذا كان الوصف عدميّا ، كقولك : « أكرم رجلا لا يكون جاهلا » أو قولك : « غير جاهل » وأشباه ذلك ، فالتفصيل بين هذه المقامات غير واقع في محلّه ، كما صدر عن الفاضل النراقي (3).

ثم إنّ المراد بالمفهوم في المقام هو ما نبّهنا عليه في مفهوم الشرط من أنّ المقصود - على القول بالمفهوم - ليس رفع الحكم الشخصي الثابت بالكلام ، فإنّ ذلك ليس من المفهوم في شيء ، فإنّ قولك : « أكرم زيدا » لا يدلّ إلاّ على وجوب

ص: 81


1- تخريج أحاديث اللمع في اصول الفقه : 140 ، وفيه : ومن أصحابنا من قال : يدلّ على نفيها عمّا عداها في جميع الأجناس.
2- حكاه في هداية المسترشدين 2 : 498 ، والمفاتيح : 220.
3- انظر مناهج الأحكام : 130.

إكرام زيد ، وغير زيد لا يكون فيه ذلك الحكم قطعا بالخطاب المذكور ، بل المقصود رفع سنخ الحكم عن غير محلّ الوصف ، على وجه يكون القضيّة المشتملة على الوصف منحلّة إلى عقد إيجابيّ وهو الثبوت في محلّ الوصف ، وعقد سلبيّ في غير محلّه مثلا.

وبهذا اندفع ما توهّمه بعض (1) من التنافي بين ما ذهب إليه المشهور من عدم المفهوم في الوصف ، وبين ما قالوا بالتخصيص في مباحث العامّ والخاصّ ، كقولك : أكرم العلماء الطوال ، فإنّه لا يجب إكرام القصار ، لا من حيث إنّ تقييد العلماء بالوصف دلّ على عدم الحكم في القصار حتّى يكون من المفهوم ، بل من حيث إنّ وجوب الإكرام في غير المنصوص بوجوبه يحتاج إلى دليل ، والنصّ مختصّ بمحلّ الوصف ، فلا يعارض ما دلّ الدليل على وجوبه أيضا.

وأغرب من ذلك! جواب البعض (2) من التنافي : بأنّ الحيثيّات مختلفة ، فإنّ الوصف تارة يعتبر من حيث كونه مقتفيا بالعامّ واخرى من حيث نفسه ، فهما لمّا كانا مختلفين موضوعا ، فلا إشكال لو اختلفا حكما.

وأفسد من ذلك! ما اجيب أيضا (3) : بأنّ ذلك من جهة تعليق الحكم على العامّ الموصوف ، والكلام إنّما هو فيما إذا كان الحكم على نفس الصفة. فانّ هذه كلمات صدرت عن غير تأمّل.

ونظير ذلك ما أورده شيخنا البهائي : من أنّ القائلين بعدم حجيّة مفهوم الصفة قد قيّدوا بمفهومها في نحو « أعتق في الظهار رقبة مؤمنة » فإذا لم يكن

ص: 82


1- نقله عن بعض مشايخه المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول : 244.
2- وهو المحقّق الكلباسي في الإشارات ، الورقة : 244.
3- المصدر السابق.

مفهوم الصفة حجّة عندهم كيف يقيّدون بها ، فما هذا إلاّ التناقض؟ وأجاب عن ذلك : بأنّ مفهوم الوصف إمّا أن يكون في مقابله مطلق - كما في المثال المذكور - أو لا ، ففي الأوّل قالوا بالحجيّة ، وفي الثاني قالوا بعدم الحجّيّة ، فلا تناقض (1).

وفيه : أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من جهة المنطوق من غير ملاحظة المفهوم ، بل لو فرض اعتبار المفهوم فلقائل أن يقول بعدم الجمل.

أمّا الأوّل ، فلأنّ محصّل الحمل هو أنّ المراد من المطلق هو المقيّد ، فيكون غير المقيّد في قولك : « اعتق رقبة مؤمنة » غير واجب ، بمعنى أنّ اللفظ المذكور والإنشاء الخاصّ لا يدلّ على وجوبه مطلقا ، سواء كان وجوبا عينيّا أو وجوبا تخييريّا. أمّا الأوّل فلأنّ الوجوب العيني إنّما هو متعلّق بالمقيّد فلا يكون المطلق وغيره من أفراده المخالفة للمقيّد واجبا عينيّا. وأمّا الثاني فلأنّ الوجوب التخييري إنّما هو من فروع تعلّق الوجوب العيني بالمطلق ، وقد فرضنا خلافه.

ولا ينافي ذلك ورود دليل آخر يدلّ على وجوب غير المقيّد عينا فيما إذا كان غير المطلق ؛ إذ على تقديره فلا بدّ من حمله أيضا ، إذ لا فرق بين تعدّد الأمر بالمطلق واتّحاده ، نعم يدلّ على عدم تعلّق الوجوب التخييري ، فلو دلّ دليل على ثبوته غير الإطلاق نقول بتعارضه. ولا سبيل إلى توهّم أنّ نفي الوجوب التخييري من جهة المفهوم ، فإنّ ذلك من مقتضيات الحمل ؛ ولذلك نقول به في اللقب أيضا ، كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلأنّا لو قلنا بثبوت المفهوم للوصف كان التعارض بين المطلق والمقيّد من قبيل تعارض الظاهرين ، وقد تقرّر في مقامه : من أنّه لا بدّ في مثله من التوقّف والحكم بمقتضى الاصول العمليّة ، فلا سبيل إلى الحمل ؛ لأنّه فرع

ص: 83


1- لم نعثر عليه.

عدم المعارضة كما هو التحقيق في وجه الحمل بناء على أنّ المطلق حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء ، أو دعوى أظهريّة المقيّد من ظهور المطلق كالعامّ والخاصّ بناء على ما هو المنسوب إلى المشهور ، كما ستطّلع على تفاصيله في محلّه إن شاء اللّه الرحمن.

وأمّا بيان اللزوم : فلأنّ الحمل على ذلك التقدير موقوف على أن يراد من الكلام المشتمل على الصفة نفي سنخ الوجوب ، سواء كان تخييريّا أو عينيّا ، إذ لو كان عينيّا فقط لا سبيل إلى الحمل ، لعدم المنافاة بين عدم الوجوب العيني والوجوب التخييري ، فإن قلنا بكفاية هذا المقدار في ثبوت المفهوم ؛ نظرا إلى لزوم اتّحاد القضيتين في المفهوم والمنطوق ، فلا شكّ في عدم اقتضائه الحمل. وإن قلنا بأنّ المعتبر في المفهوم نفي سنخ الوجوب ، سواء كان تخييريّا أو عينيّا ، فلا شكّ أنّ دلالة المقيّد عليه حينئذ بالظهور ، ولا ترجيح لهذا الظهور بالنسبة إلى ظهور المطلق في الوجوب التخييري ، بل قد يقال بأنّ الثاني أقوى ، نظرا إلى كونه مدلولا منطوقيّا ، إلاّ أن ذلك إنّما يتمّ على مذاق المشهور في المطلق.

وأمّا على مشرب الواقع عندنا ، فلا وجه لذلك ، بل اعتبار المفهوم يؤكّد وجه الحمل كما ستعرف في محلّه إن شاء اللّه. نعم ، يؤيّد الاعتراض ما لو قلنا بثبوت المفهوم من جهة العقل وصونا لكلام الحكيم عن اللغويّة ، فإنّ في ذلك يكفي رفع الوجوب العيني ، فتدبّر في المقام. وممّا ذكرنا يظهر فساد ما أورده رحمه اللّه في الجواب.

وممّا ذكرنا أيضا يندفع إشكال آخر ، وهو أنّ القائلين بعدم المفهوم متّفقون على أنّ الأمر وما يحذو حذوه ظاهر في الوجوب العيني ، وهو تناقض ؛ فإنّ مقتضى العينيّة عدم وجوب غير محلّ الوصف ، وهو معنى المفهوم.

ووجه الدفع : أنّه إن اريد مقتضى العينيّة نفي الوجوب العيني عن غير محلّ الوصف فهو غير سديد ؛ إذ لا ينافي ذلك ثبوت الوجوب العيني لغيره على القول بعدم المفهوم. وإن اريد أنّ مقتضاه نفي الوجوب التخييري لغيره

ص: 84

فهو غير مفيد ؛ لأنّ ذلك من لوازم تعليق الوجوب العيني به وعدم تعلّقه بالمطلق الخالي عن الوصف.

وبالجملة ، فقد اختلف الأصوليّون في ثبوت المفهوم وعدمه على أقوال :

فنسب إلى كثير من الاصوليّين والفقهاء القول بثبوته.

ولعلّ المشهور بين أصحابنا هو العدم.

وحكي التفصيل بين ما كان في مقام البيان وغيره عن عبد اللّه البصري (1).

وقد عرفت نسبة التفصيل إلى العلاّمة بين ما كان علّة وبين غيره ، كالتفصيل بين كون الوصف من قبيل قولك : « لا يكون » و « غير الجاهل » كما في المناهج (2).

ولعلّ القول منحصر في الأوّلين. وأمّا التفاصيل ففي موارد إثباتها خارجة عن حريم النزاع ، لاستناد الدلالة إلى القرائن الخارجيّة ، كما أشرنا إليه إجمالا.

احتجّ النافي (3) : بأنّه لو دلّ لكان بإحدى الثلاث ، والتالي باطل ، كما يشهد به العرف. وثبوته في الشرط لا يقضي به في الصفة (4) ؛ لظهور الفرق بينهما : من دلالة الجملة الشرطيّة على علّيّة الشرط للجزاء على وجه الانحصار ، بخلاف المقام.

لا يقال : قد ملأ الأسماع قولهم : إنّ التعليق على الوصف يشعر بالعلّية ، فلا وجه للمنع.

لأنّا نقول - بعد الغضّ عن عدم اطّراده كما في قولك : « اشتر لي عبدا أسود » وتسليم أصل الإشعار - لا يثمر في المقام ؛ إذ الإشعار بالعلّية لا ينفي

ص: 85


1- حكاه عنه المحقّق النراقي في مناهج الأحكام : 130 ، والآمدي في الإحكام 3 : 80.
2- مناهج الأحكام : 130.
3- احتجّ به صاحب الفصول في الفصول : 152 ، والمحقّق النراقي في المناهج : 130.
4- في ( ع ) : « لا يقتضي ثبوته في الوصف ».

احتمال خصوصيّة المورد أيضا ، فلا إشعار على العلّيّة التامّة ، وعلى تقديره فلا ينفي احتمال التعدّد كما هو المقصود في إثبات المفهوم ، إلاّ أنّه لا ينافي ثبوت المفهوم في الجملة.

وأمّا وجه الإشعار المدّعى ، فيحتمل أن يكون كثرة الفائدة المذكورة من بين الفوائد التي تدعو إلى التوصيف لا على وجه تنهض لصرف اللفظ عمّا وضع له من المعنى الأعمّ كما لا يخفى. ونظير ذلك إجمال المطلق في بعض مراتب تشكيكه.

وإلى هذا الدليل يرجع قولهم : « إنّ الأوصاف ليست إلاّ مثل الجوامد » فكما أنّ أسماء الأجناس لا دلالة فيها على أزيد من الإثبات المذكور نفيا أو إثباتا فكذلك الأوصاف ، غاية ما في الباب أنّ « الغنم » مثلا موضوع للطبيعة مع قطع النظر عن اتّصافها بوصف (1) بخلاف « السائمة » فإنّها موضوعة للطبيعة الملحوظة مع بعض أوصافها ، وذلك لا ينهض دليلا على نفي الحكم عمّا عدا الملحوظة.

واستدلّ (2) أيضا بالأصل. وتقريره : أنّ الأصل هو الاشتراك المعنوي فيما لو استعمل اللفظ في معنيين بينهما جامع قريب ، كما فيما نحن فيه.

احتجّ المثبتون بوجوه :

منها : التبادر عرفا ، فإنّ قول القائل : « اشتر لي عبدا أسود » يدلّ على عدم مطلوبيّة شراء العبد الأبيض ، على وجه لو اشتراه لم يكن ممتثلا.

وأجاب عنه الشهيد الثاني بما عرفت (3) : من التزام المفهوم في القيود الواقعة في الإنشاء. وقد عرفت ما فيه.

ص: 86


1- في ( ط ) : « بالوصف ».
2- أي : النافي.
3- راجع الصفحة : 37.

ومنه يظهر الوجه في فساد الدليل. وبيانه : أنّ عدم مطلوبيّة شراء الأبيض إنّما هو بواسطة المطلوبيّة بالأسود في الإنشاء الخاص ، والكلام ليس فيه. نعم ، لو كان مفاده عدم مطلوبيّته مطلقا كان ذلك وجها.

وربّما يؤيّد التبادر المذكور بدعوى غلبة إرادة المفهوم في كلمات البلغاء ، وهي على تقديرها تنهض وجها للإشعار المدّعى في المقام. وأمّا الزائد فلا نسلّم الغلبة ، كما لا يخفى.

ومنها : أنّه لولاه لزم اللغو في كلام الحكيم ، والتالي باطل. وأمّا الملازمة ، فلأنّه لا فائدة في التقييد إلاّ ذلك وعند انتفائها يلزم اللغو ، وهو المذكور في التالي.

هذا فيما إذا اعتمد الوصف على الموصوف.

وأمّا إذا كان الحكم محمولا على الوصف - كما في آية النبأ - فقد قرّروا الدليل : بأنّه قد اجتمع فيه وصفان ، أحدهما ذاتيّ وهو كونه خبر الواحد ، والآخر عرضيّ وهو كون مخبره فاسقا ، والمقتضي للتثبّت هو الثاني ، فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل للعلّية ، وإلاّ لوجب الاستناد به ؛ إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّيّة أولى من التعليل بالعرضي ، لحصوله قبل حصول العرضيّ ، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضيّ.

والجواب : منع الملازمة ؛ لاحتمال فائدة اخرى كالاهتمام بمحلّ الوصف ، كما في قوله « والصلاة الوسطى » أو لعدم احتياج السامع إلى غيره ، أو لدفع توهّم اختصاص الحكم بغيره ، أو لسبق ذلك ، أو لعدم المصلحة في بيان غيره ، أو للتوضيح والكشف ، ونحو ذلك من دواعي التوصيف. مع أنّ ذلك على تقدير تسليمه لا ينهض وجها للمطلوب ؛ لأنّ الكلام في الدلالة اللفظيّة على حدّ غيره من المباحث المتعلّقة بالظواهر اللفظيّة.

ص: 87

ومنها : أنّ « أبا عبيدة » - مع كونه من أهل اللسان الذين ينبغي الرجوع إليهم في تشخيص المعاني - قد فهم من قوله صلى اللّه عليه وآله : « مطل الغنيّ ظلم » أنّ مطل غيره ليس بظلم ، ومن قوله : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته » أن ليّ غيره لا يحلّ.

والجواب : أنّه إن اريد التمسّك بفهمه مع قطع النظر عن ملاحظة ظهور اللفظ في ما فهمه وعدمه ، فهو على تقدير كونه منزّلا منزلة إخباره بالوضع ، اعتباره مبنيّ على اعتبار قول اللغوي في الأوضاع ، ونحن لا نرى ذلك فيما إذا كان واحدا ولم يكن ما ذكره مؤيّدا بالأمارات الّتي يعوّل عليها في المطالب اللغويّة ، كالتبادر العرفي ونحوه. وبالجملة ، ففي الموارد الغير المعلومة لا بدّ في قبول قول اللغوي من اعتبار شروط الشهادة. وإن اريد بذلك تأييد التبادر المدّعى ، فبعد عدم وجداننا له في العرف لا جدوى فيه.

واعترض عليه (1) : بالمعارضة بما ذكره الاخفش ، من أنّ الأصل في التوصيف التوضيح. وهو غير ثابت.

وفي المقام اعتراضات وأجوبة ركيكة. ونظيره الكلام فيما استدلّ بفهم ابن عبّاس في بعض الآيات (2).

تنبيهات :

الأوّل : وممّا تقرّر عند القائل بثبوت المفهوم في الصفة أنّه يشترط

ص: 88


1- اعترض عليه السيّد المجاهد في المفاتيح : 219 ، والمحقّق النراقي في المناهج : 130 - 131.
2- للاطّلاع على تفصيل ذلك ، راجع الإحكام إلى اصول الأحكام للآمدي 3 : 83 ، وهداية المسترشدين 2 : 485 - 487.

أن لا يكون واردا مورد الغالب ، كما في قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (1) فإنّ التوصيف في المقام لا يدلّ على انتفاء الحكم في الربائب اللاتي ليست في الحجور.

وعلّله الرازي - على ما حكي - : بأنّ الباعث على التخصيص هو العادة ، فإنّ الربيب غالبا يكون في الحجور ، وإذا احتمل أن يكون ذلك هو الوجه في التخصيص لم يغلب على الظنّ أنّ سببه نفي الحكم عمّا عداه (2). وتبعه في ذلك جماعة (3).

وما ذكره يناسب القول بأنّ التزام المفهوم إنّما هو لأجل إخراج الكلام عن اللغويّة ، أو القول بأنّ أصالة الحقيقة إنّما لا يعوّل عليها إذا لم تكن مفيدة للظنّ ، وإلاّ فعلى القول بالدلالة الوضعيّة مع عدم اعتبار الظنّ لا وجه له ، كما هو ظاهر.

وعلّله المحقّق القمّي : بأنّ النادر هو المحتاج حكمه إلى التنبيه ، والأفراد الشائعة تحضر في الأذهان عند إطلاق اللفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللفظ فإنّما يحصل في النادر ، فالعلّة في المذكور (4) لا بدّ أن تكون شيئا آخر لا تخصيص الحكم بالغالب ، وهو فيما نحن فيه - يعني قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ ) - التشبيه بالولد (5).

ص: 89


1- النساء : 23.
2- التفسير الكبير 10 : 33.
3- راجع تفسير روح البيان 2 : 187 ، ذيل الآية 23 من سورة النساء ، وروح المعاني 4 : 257 ، ذيل الآية ، ومجمع البيان 2 : 29 ، ذيل الآية أيضا.
4- في المصدر : « فالنكتة في الذكر ».
5- القوانين 1 : 181.

فإن أراد أن مجرّد انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة الغالبة ينهض وجها في عدم إرادة التخصيص من التوصيف مع إمكان إرادة التخصيص في الوصف الغالب أيضا ، فهو مطالب بالفرق بين المقامين ، حيث إنّه لا يعتبر التخصيص في الوصف الغالب ويعتبر في غيره مع إمكانه.

فإن قلت : إنّ الوصف الغالب بمنزلة الوصف المساوي للموصوف ، فكما لا وجه لاعتبار التخصيص فيه كذلك فيما إذا كان الوصف غالبيّا.

قلت : يمكن تصحيح ذلك فيما لو قلنا بأنّ الانصراف في المطلق ينزّل منزلة التخصيص اللفظي ، فيكون الوصف مساويا حينئذ. وأمّا لو لم نقل به أو قلنا ولكن لا في جميع مراتب التشكيك - كما ستعرفه في محلّه إن شاء اللّه - فلا وجه لذلك ، لإمكان إرادة إخراج الفرد النادر عن مورد الحكم وإثبات خلاف الحكم له ، كما هو مقتضى المفهوم.

وإن أراد أنّ الوصف الغالبي مع إرادة التخصيص منه واختصاص محلّ الحكم في الموصوف لا وجه لاعتبار المفهوم فيه نظرا إلى أنّ النادر إنّما هو المحتاج حكمه إلى التنبيه - إلى آخر ما ذكره في التعليل - ففيه : ما أورده بعضهم بأنّ غاية ما يلزم من انصراف المطلق إلى الفرد الغالب اختصاص الحكم به ، وهو غير الدلالة على الانتفاء. فيمكن أن يكون التقييد بالوصف الغالب للدلالة على المفهوم على القول به في غيره ، بل المقام أولى به من غيره ، لانتفاء بعض الفوائد التي لأجل احتمالها طرحنا القول بالمفهوم ، كما لا يخفى.

لكنّ الإنصاف أنّ الظاهر من كلامه هو أنّ الغلبة في الوصف مانعة عن إرادة التخصيص به ، وبعد عدم إرادة التخصيص من الوصف لا يعقل ثبوت المفهوم ، لأنّ الانتفاء فرع الاختصاص ، إلاّ أنّه بعد مطالب بالفرق ، كما لا يخفى.

ص: 90

الثاني : قد بسطنا لك القول في مفهوم الشرط ، من أنّ اللازم في أخذ المفهوم الأخذ بجميع مجامع الكلام وقيوده سوى النفي والإثبات ، فمفهوم الوصف في قولنا : « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » لا شيء من غير السائمة فيه الزكاة. وقد عرفت أنّ جماعة من الفحول تخيّلوا اختلافهما في الكمّ أيضا ، فمفهوم الموجبة الكلّيّة السالبة الجزئيّة.

وأنت بعد ما عرفت أنّ السور في القضايا إنّما هو آلة لملاحظة ما تعلّق به ولا يعتبر موضوعا فيها تحكم بفساد الخيال المذكور ، ولا حاجة إلى إطالة الكلام بعد ذلك.

الثالث : قد عرفت نسبة القول بالتفصيل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره إلى العلاّمة رحمه اللّه. وقد عرفت أيضا أنّ مرجعه إلى القول بحجّيّة مفهوم العلّة (1). واستدلّ عليه في محكيّ النهاية : بأنّه لو لم يلزم من عدمه العدم لزم ثبوت المعلول بدون العلّة أو يلزم خروج الوصف عن كونه علّة ، لأنّ ثبوت الحكم مع عدمه لا بدّ له من مستند آخر ، فالوصف يكون إحدى العلّتين (2). وظاهره دعوى ظهور اللفظ الظاهر في العلّية في الانحصار أيضا ، وإلاّ فلا وجه لما جعله تاليا في الشرطيّة. فلا يرد عليه ما قيل : من أنّ تعدّد العلّة في الشرعيات غير عزيز (3). نعم ، يرد عليه منع الظهور في الانحصار في الوصف الظاهر في العلّية ، فتدبّر.

ص: 91


1- انظر الصفحة : 81.
2- حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 220.
3- لم نعثر عليه.

ص: 92

هداية

الحقّ - كما عليه كثير من أهل التحقيق - : أنّ الحكم المغيّا بغاية يرتفع بعد حصول الغاية على وجه لو قيل بثبوته بعدها كان مناقضا للدليل الأوّل. وهو المراد بمفهوم الغاية.

وتنقيح المبحث موقوف على رسم مقدّمة ، وهي :

أنّ لفظ « الغاية » قد يطلق ويراد به النهاية ، كما في قولك : « بلغ الغاية ». ولعلّ منه الغاية الداعية إلى الفعل والعلّة الغائيّة ، حيث إنّه يترتّب عليه بعد وصوله إلى نهايته ، كما لا يخفى.

وقد يطلق ويراد به المسافة ، كما صرّح به التفتازاني في قولهم : « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية. قال في محكيّ التلويح : المراد بالغاية في قولهم : « من لابتداء الغاية » المسافة ؛ إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ ، فالغاية هي النهاية وليس لها ابتداء (1) ، انتهى.

والظاهر أنّ المراد من « المسافة » ليس خصوص المكان والزمان وإن كان يعطيه ظاهر بعض الكلمات في بعض المقامات ، بل المراد مطلق الامتداد الحاصل في غير المكان والزمان أيضا ، كما في قولك : « أنشدت القصيدة من أوّلها إلى آخرها » فإنّ المسافة المعقولة في ذلك ليست مكانيّة ولا زمانيّة ، كما لا يخفى.

ص: 93


1- شرح التلويح على التوضيح 1 : 287.

ثمّ إنّ ظاهر التفتازاني : أنّ استعمال الغاية في المسافة إنّما هو مجاز عن النهاية.

واعترض عليه : بأنّ نهاية الشيء هو ضدّه ، وضدّ الشيء لا يكون جزءا منه ، فلا وجه لقوله : « إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ ».

وأجاب عنه الچلبي : بأنّ الجزء المجاور للنهاية اطلق عليه « النهاية » من باب علاقة المجاورة ، ثم اطلق ذلك الاسم على الكلّ ، فيكون مجازا بمرتبتين ، وهو غير عزيز. ثمّ وجّه الاستعمال المذكور : بأنّ المراد من الغاية هو الحدّ وإضافة الابتداء والانتهاء إليه بيانيّة ، من قبيل إضافة الفرد إلى الجنس (1).

وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّ انسباك المجاز عن مثله على تقدير جوازه عزيز الوجود جدّا ، مع أنّ الظاهر في الإضافة أن تكون لاميّة ، مضافا إلى أنّ استعمال الغاية في مطلق الحدّ الشامل للابتداء ممّا لم نقف عليه إلى الآن.

فالأولى في دفع الاعتراض عمّا أفاده التفتازاني : المنع من أنّ نهاية الشيء هو ضدّه ، بل النهاية ليست إلاّ أمرا اعتباريّا يصحّ انتزاعه من الشيء بعد فرض انقطاعه بملاحظة ما يغايره ويضادّه ، كالبداية ، فإنّها أيضا أمر منتزع من الشيء الممتدّ في أوّل أجزاء وجوده بملاحظة ما يغايره قبله. وهذا الأمر المنتزع وإن لم يكن جزءا من الشيء ، إلاّ أنّ منشأ انتزاع جزء منه كمنشإ انتزاع البداية أيضا. نعم ، حيث إنّه قلنا بامتناع الجزء الجوهري فلا بدّ أن لا يكون منشأ الانتزاع موجودا فعليّا في ذلك الممتدّ ، بل يجب أن يكون مفروضا كما في سائر الأقسام الفرضيّة.

ص: 94


1- لم نعثر عليه.

ومع ذلك فلا يخلو ما ذكره التفتازاني عن شيء ؛ نظرا إلى ظاهر كلام القاموس والصحاح ، حيث جعلا من معاني الغاية مدى الشيء ، فلا حاجة إلى ارتكاب التأويل فيها. ولو قلنا بأنّه لا يزيد على مجرّد الاستعمال فالظاهر أنّه من توابع استعمال الغاية فيما هو المقصود ؛ نظرا إلى أنّ غاية الشيء إنّما هي مقصودة ، فتدبّر في المقام.

ثمّ المقصود فيما نحن بصدده يحتمل أن يكون النهاية ، كأن يقال : إنّ الحكم المفروض نهايته بإحدى آلات النهاية - مثل لفظ « حتّى » أو « إلى » - ينتفي بعد حصول النهاية أو لا؟ ويحتمل أن يكون المراد منه مدخول لفظ « إلى » و « حتّى ».

والفرق بينهما : أنّ مدخول لفظ « إلى » و « حتّى » لا يلزم أن يكون نهاية على الحقيقة ، فإنّ مدخول تلك الآلات قد يكون ممّا يشتمل على أجزاء من الامور الممتدّة كالكوفة في قولك : « سر من البصرة إلى الكوفة » والليل في قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1) وقد لا يكون كذلك. فظهر أنّ مدخول الأداة لا يجب أن يكون نهاية.

ثمّ إنّ على الثاني لا إشكال. وعلى الأوّل فقد وقع الخلاف بينهم في أنّ الحكم المنطوقي الثابت لما قبل الغاية هل هو ثابت لنفس الغاية أو لا؟ ولا وجه لما زعمه البعض : من أنّه لو قيل بخروج الغاية كان النزاع المذكور في العنوان أوّلا غير متصوّر ، لأنّ اللفظ إذا دلّ على نفس الغاية كان ما بعدها أولى بالخروج ، فإنّ ذلك خلط بين النزاع في ثبوت المفهوم للغاية وبين دلالة المنطوق على ثبوت الحكم لنفس الغاية ، ولعلّه ظاهر.

ص: 95


1- البقرة : 187.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ لفظ « الغاية » في النزاع الثاني لا يحتمل إلاّ الوجه الثاني. وزعم بعض الأجلّة اتّحادهما (1). ولا وجه له كما عرفت.

إذا تمهّد تلك المقدّمة نقول : إنّ لهم في المقام نزاعين :

أحدهما : أنّ الغاية هل تدخل في المغيّا أو لا؟

والثاني : أنّ الحكم المغيّا هل ينتفي بعد حصول الغاية أو لا؟

ولنذكر كلّ واحد في مقام.

أمّا المقام الأوّل ، فاختلف القوم فيه على أقوال :

فذهب نجم الأئمة إلى الخروج مطلقا (2) ؛ نظرا إلى أنّ حدود الشيء خارجة عنه ، وحمل الموارد الّتي يظهر فيها الدخول على وجود القرينة فيها.

وقيل بالدخول مطلقا (3).

وفصّل ثالث : بين « حتّى » و « إلى » ، فقال بالدخول في الأوّل وبعدمه في الثاني. اختاره الزمخشري على ما نسب إليه (4).

وادّعى بعض النحاة الإجماع على الدخول في « حتّى » (5). ولعلّه خلط بين العاطفة والخافضة ، كما نصّ عليه ابن هشام (6).

ص: 96


1- راجع الفصول : 153.
2- حكى عنه النراقي في المناهج : 132.
3- لم نعثر على القائل ، وقال السيّد المجاهد في المفاتيح ( الصفحة 100 ) : والقول بالدخول مطلقا شاذّ لا يعرف قائله.
4- شرح الكافية 2 : 324.
5- حكاه ابن هشام في المغني 1 : 168 ، عن شهاب الدين القرافي.
6- انظر المغني 1 : 168.

وفصّل بعضهم : بين ما إذا كان ما قبل الغاية وما بعدها متّحدين في الجنس فقال بالدخول ، وبين غيره (1). وهنا أقوال أخر.

ولعلّ الأظهر بمقتضى لفظ « النهاية » الدخول مطلقا ، حيث قد عرفت من أنّها الأمر المنتزع عمّا نفرض جزءا أخيرا للشيء المفروض امتداده بملاحظة ما يغايره ويضادّه في الأغلب. ومنه يظهر حال الابتداء في كلمة الابتداء ، فإنّه أيضا ينتزع من الجزء الأوّل للشيء.

إلاّ أنّ ذلك لا يجدي فيما هو محلّ الكلام ؛ إذ لا يعقل النزاع المذكور فيما إذا كان مدخول « حتّى » أو « إلى » نهاية بالمعنى المذكور ، بل لا بدّ من أن يكون ذلك المدخول ممّا يفرض له أجزاء كثيرة - مثلا - كما نبّهنا عليه. وذلك لا يكون نهاية في الحقيقة ، بل هو تسامح في جعل ما ينتهي عنده الشيء المغاير له نهاية ، إذ من الواضح افتراق « ما به ينتهي الشيء » وهو النهاية و « ما ينتهي عنده الشيء » وهو الضدّ على ما زعمه المعترض المتقدّم.

وتوضيح المطلب : أنّ أدوات النهاية إنّما هي موضوعة لأن يلاحظ حال ما لحقت به من الأفعال على وجه النهاية ، ولا ريب في أنّ النهاية الحقيقيّة غير قابلة لأن ينازع في دخولها في ذيها ، لا نفسها ولا ما ينتزع منها. أمّا الأوّل فلكونه أمرا اعتباريّا. وأمّا الثاني فلبداهة دخول جزء الشيء فيه. وقد يستعمل تلك الأدوات فيما ليست نهاية حقيقيّة ، بل ولعلّ أغلب موارد استعمالها كذلك ، فيكون مدخول الأدوات نهاية تسامحيّة ، فيمكن أن ينازع فيه بالدخول وعدمه. إلاّ أنّ الأظهر خروج مثل هذه الغاية عمّا قبلها ، ولذلك ذهب إليه الأكثر واستظهره نجم الأئمة ، والتعليل الّذي استند إليه حينئذ في محلّه.

ص: 97


1- نسبه في إشارات الاصول 1 : 243 إلى المبرّد ، ومثله في هداية المسترشدين 2 : 515.

نعم ، حيث كان استعمال « إلى » و « حتّى » في مثل ذلك تسامحا ، فيمكن فرض الكلام على وجه يستظهر منه الدخول - كما في بعض الأمثلة - بواسطة القرائن ، وعند عدم القرينة فمع العلم بأنّ النهاية ليست نهاية حقيقيّة ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في كلّ مورد. ولا وجه للرجوع إلى أصالة عدم الدخول ، فإنّه إن اريد بها عدم دخول الغاية في المغيّا موضوعا ، فذلك معلوم وجدانا كما هو المفروض. وإن اريد بها عدم دخولها فيه حكما فذلك ممّا يختلف فيه قضيّة الأصل بحسب اختلاف موارده. ومع عدم العلم بذلك فالظاهر أنّه يحكم بالدخول نظرا إلى أصالة الحقيقة لو قلنا بأنّ الأداة (1) موضوعة للنهاية الحقيقيّة ، كما هو الظاهر.

وأمّا المقام الثاني ، فاختلفوا في أنّ تقييد الحكم بالغاية هل يوجب انتفاء الحكم رأسا وسنخا عمّا بعد الغاية على وجه لو ثبت له مثل الحكم المذكور بدليل آخر كان معارضا لذلك التقييد أو لا يوجب؟ فالمشهور بل المعظم على الأوّل ، وذهب جماعة - منهم السيّد (2) والشيخ (3) - إلى الثاني. ولا ريب في أنّ اعتبار المفهوم في المقام على القول به إنّما هو مثل اعتباره في الشرط ، من انتفاء سنخ الحكم في جانب المفهوم ، وإلاّ فانتفاء الحكم الشخصي ثابت في اللقب والوصف أيضا ، بل وذلك ضروريّ ؛ ضرورة اختصاص كلّ حكم مختص بموضوع بذلك الموضوع.

ومن ذهب إلى القول الأوّل ومع ذلك يقول يجوز أن يكون الحكم فيما بعد الغاية كالحكم فيما قبلها بالنظر إلى خطاب آخر ، فقد أتى بشيء عجيب! فإنّه إن

ص: 98


1- في ( ع ) : « الأدوات ».
2- الذريعة 1 : 407.
3- العدّة 2 : 478.

أراد بالجواز المذكور إمكانه بالنظر إلى ترجيح في جانب الخطاب الآخر فهو جار في جميع المفاهيم ، إذ لا يمنع ترك الظاهر بواسطة ما هو أظهر منه. وإن أراد عدم المعارضة فهو ممّن لا يقول باعتبار المفهوم قطعا ، فلا وجه لعدّ نفسه منهم. ومن العجب! أنّه صرّح بأنّ مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الشرط وصرّح بظهور الثمرة عند التعارض بتقديم الأقوى (1).

وأغرب من ذلك ما وجدناه في كلام بعض الأجلّة (2) ، حيث قال : إنّ النزاع يتصوّر هنا في مقامين : الأوّل أنّ التقييد بالغاية هل يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها مطلقا أو لا؟ الثاني أنّ التقييد بها هل يقتضي المخالفة بالنسبة إلى الحكم المذكور أو لا؟ فاختار في الأوّل العدم وفي الثاني اختار الدلالة مع اعترافه بأنّ ظاهر كلامهم هو الأوّل.

ثمّ استدلّ على مطلوبه في المقام الأوّل : بأنّ قول القائل : « صم إلى الليل » إنّما يقتضي عرفا ولغة تعلّق طلبه بالصوم المغيّا بالليل ، وظاهر أنّ هذا لا ينافي تعلّق أمره أيضا بصوم الليل إلى الصبح بطلب مستقلّ ، فإنّ مرجع الأمرين إلى طلب الصومين المحدودين. وهذا لا يستدعي خروجه عمّا يقتضيه ظاهر الأمر.

واستدل على الثاني : بأنّ المفهوم من قولك : « صم إلى الليل » انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية. ثمّ حقّق ما ذكره : بأنّ توابع الفعل من القيود اللاحقة للموضوع ، فيجري ذلك مجرى الوصف ، فكما لا نقول به فيه ، فكذلك فيما نحن فيه (3).

ص: 99


1- انظر القوانين 1 : 186 ، وهداية المسترشدين 2 : 556.
2- وهو صاحب الفصول.
3- الفصول : 153 - 154.

أقول : وما أفاده ممّا لا يرجع إلى طائل ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ الانتفاء في المقام الثاني ممّا لا حاجة فيه إلى تجشّم الاستدلال ، ضرورة ارتفاع الحكم بارتفاع الموضوع فلا يعقل توجيه النزاع فيه. وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره وجها في المقام الأوّل ممّا لا وجه له. وتوضيحه : أنّ تعليق الفعل بالغاية ، كما في قولك : « سر من البصرة إلى الكوفة » يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يلاحظ السير المبتدأ من البصرة المنتهى إلى الكوفة ويأمر به بواسطة اشتمال هذه القطعة من السير على مصلحة أو ينهى عنه مع قطع النظر عن سائر قطعات السير وجودا وعدما ، ومرجعه إلى طلب فعل واحد أوّله كذا وآخره كذا ، فالطلب إنّما تعلّق بالفعل المحدود ابتداء وانتهاء.

الثاني : أن يلاحظ السير المطلوب فعله أو تركه أوّلا ثمّ بعد اعتبار تعلّق طلبه به يلاحظ تحديده بداية ونهاية بما يصلح لذلك التحديد.

فعلى الأوّل لا وجه لاستعمال أداة الغاية والتعليق بها ، بل لو كان المراد ذلك فمن حقّه استعمال الغاية على جهة التوصيف ، إذ الكلام في أمثال المقام إنّما هو في الظهور.

وعلى الثاني فمن حقّه استعمال التركيب المتنازع فيه. ومجرّد إمكان رجوعه إلى التوصيف لا يجدي ، إذ لم يقم دليل على امتناعه في الشرط أيضا.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما زعمه في توجيه ما صار إليه ، من أنّ توابع الفعل من القيود اللاحقة للمادّة لا للهيئة (1) ، نظرا إلى أنّ مفادها معنى حرفيّ ؛ فإنّ ذلك لا يقضي بما زعمه ، مضافا إلى عدم قدحه فيما إذا كان الطلب مثلا ، ولا ينافي ذلك كونه إنشاء لا إخبارا ، كما لا يخفى.

ص: 100


1- انظر الفصول : 154.

ثمّ لا فرق في الوجه الثاني بين أن يكون المطلوب المحدود ملحوظا على وجه يكون فعلا واحدا كما عرفت في الوجه الأوّل ، أو أفعالا متعدّدة فينحلّ إلى مطلوبات متعدّدة لكنّها محدودة بالغاية المذكورة ، أو يكون على وجه التوسعة فيكون المطلوب التخيير في الأفعال الّتي يمكن إيجادها في الوقت المضروب إلى زمان الغاية المفروضة.

لا يقال : لعلّه يدّعى ظهور الجملة المغيّاة بالغاية في الوجه الأوّل. لأنّا نقول : كلاّ! فإنّ كثيرا من الموارد ممّا لا وجه لإرجاعها إليه ، كما في أغلب موارد التحريم والإباحة ، كقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) وقوله عزّ من قائل : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) (2) إذ على تقديره يكون المراد تحريم المقاربة التي يكون غايتها الطهر وإباحة الأكل والشرب الذي يكون غايته التبيّن ، وذلك واضح الفساد جدّا. نعم ، بعض الموارد ممّا يصلح لذلك ، كما في بعض الأمثلة ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّ مجرّد الصلاحيّة مع ظهور اللفظ في الخلاف ممّا لا يجدي في مثل المقام.

ثمّ إنّه قد أفاد في أثناء احتجاجه على المقام الثاني : أنّ معنى « صم إلى الليل » طلب إمساك مقيّد يكون نهايته الليل ، فلو فرض أنّ المطلوب إنّما هو إمساك ما زاد عليه لم يكن الإمساك إلى الليل مطلوبا لنفسه ، وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فلا بدّ حينئذ إمّا من حمل الأمر على الطلب الغيري وهو عندنا وإن كان حقيقة إلاّ أنّه خلاف الظاهر من الإطلاق ، أو حمل الليل على الجزء المتأخّر عنه ... (3).

ص: 101


1- البقرة : 222.
2- البقرة : 187.
3- الفصول : 154.

وهو بظاهره يشعر بإمكان دلالة الكلام المذكور على ما زاد على الإمساك إلى الليل ، وإنّما المانع منه ظهور الأمر في الوجوب النفسي. وفساده ظاهر ؛ لما عرفت من أنّ عدم الدلالة على الزيادة على الحكم الخاصّ على تقدير عدم المفهوم من أجلى الضروريّات ، سواء كان الأمر ظاهرا في الوجوب النفسي أو الغيري ، إذ على الثاني أيضا لا يمكن التجاوز عن مدلول اللفظ ، كما هو ظاهر.

نعم ، لو كان الأمر ظاهرا في الوجوب النفسي ، فلو ورد بعد ذلك خطاب آخر يعلم باتّحاد التكليف منه ومن الخطاب الأوّل لا بدّ من حمل الأمر على الوجوب الغيري ، لأنّ دلالة الأمر على النفسيّة - على ما صرّح به - إنّما هو بالإطلاق ، ومع وجود ما يصلح للتقييد لا يبقى له ظهور كما هو الشأن في جميع المطلقات. ولعلّ ذلك هو الباعث إلى مصيره إليه فأثبت مقامين وزعم أنّ الثاني أيضا من المفهوم جدّا.

ثمّ إنّ ما ذكره بعينه جار في الوصف واللقب وأضرابها. وقد تفطّن به أيضا ، إلاّ أنّه دفعه بأنّه لا يظهر هناك ثمرة ، بخلافه في المقام حيث نعلم اتّحاد التكليف ، كما لو ورد أمر بالصوم إلى سقوط القرص وورد أمر آخر إلى سقوط الحمرة فيحكم بينهما بالتعارض (1).

وفيه : أنّ التعارض إن كان بواسطة دلالة الغاية على انتفاء الأمر ، فعدم مجيئه بالوصف مسلّم ، إلاّ أنّه خلاف المفروض. وإن كان بواسطة ظهور الأمر في النفسي بعد فرض اتّحاد التكليف فهو منقوض :

ص: 102


1- انظر الفصول : 154.

أوّلا : بما إذا علّق الحكم على صفة خاصّة ثمّ علّق على صفة عامّة مع القطع باتّحاد التكليف ، فانّ الظاهر من الأوّل عدم تجاوز الحكم عن موضوعه ، والظاهر من الثاني تجاوزه عن الموضوع الأوّل وإن لم يتجاوز عن موضوعه ، فيقع التعارض.

وثانيا : نقول إنّ ذلك ليس من المفهوم ولا يعدّ من التعارض أيضا ، ضرورة حمل المطلق على المقيّد في الثاني وعدم الاعتداد بظهور الأمر الأوّل في النفسي بعد ورود الأمر الثاني ، كما نبّهنا عليه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الأظهر في المقام هو القول بالدلالة ، ولا حاجة إلى تطويل الكلام في بيان المرام.

واحتجّ النافي بما قدّمناه في مفهوم الوصف ، من انتفاء الدلالات الثلاث.

والجواب : أنّ العرف شاهد على ثبوت الدلالة الالتزاميّة ، فبطلان التالي ممنوع.

ثمّ إنّ الدلالة المذكورة كما هي ثابتة في « إلى » و « حتّى » فالظاهر ثبوت نظيرها (1) في « من » الابتدائيّة أيضا كما صرّح به جماعة (2).

والظاهر استفادة الترتيب أيضا من الكلام المشتمل على الكلمتين إلاّ ما أخرجه الدليل ، فيصار إلى المجاز بدليله ، كما في آية الوضوء. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 103


1- في ( ع ) : « ثبوتها ».
2- مثل صاحب الفصول في الفصول : 154 ، والمحقّق الكلباسي في الإشارات : 243.

ص: 104

هداية

في ما يفيد الحصر ، سواء كان الدالّ مادّة ك- « إنّما » و « بل » الإضرابيّة ومادّة الحصر والقصر وأشباهها ، كتقديم ما هو حقّه التأخير.

ومنها : الاستثناء ، وهو من النفي يفيد إثبات الحكم للمستثنى فقولك : « ما جاءني أحد إلاّ زيد » ومن الإثبات يفيد انتفاء الحكم له كقولك : « جاءني القوم إلاّ زيدا ».

ولم نعثر على حكاية خلاف في الحكمين إلاّ من « أبي حنيفة » ، حيث إنّه ذهب - فيما حكي (1) - إلى عدم الإفادة. والمعقول من كلامه أن يقال : إنّ المستفاد من قولك : « ما جاءني إلاّ زيد » ليس إلاّ عدم دخول زيد في الحكم المذكور ، وأمّا حكمه فيحتمل أن يكون موافقا أو مخالفا ، إلاّ أنّ شيئا منهما غير مستفاد من الكلام المذكور ، فغاية ما يفيده الاستثناء خروج المستثنى عن كونه مخبرا عنه بالنفي والإثبات.

واحتجّ (2) بمثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، فإنّه على تقدير عدمه يلزم أن يكون الطهارة المقرونة مع فقد الشرائط صلاة.

ص: 105


1- حكاه الآمدي في الإحكام 3 : 106 ، والمحقق القمّي في القوانين 1 : 251.
2- انظر المستصفى من علم الاصول 1 : 329 ، ونهاية الوصول ( مخطوط ) : 158 ، وشرح مختصر الاصول 1 : 264 - 265.

وهو ضعيف جدّا ؛ فإنّ الحصر إضافيّ بالنسبة إلى حالة فقدان الطهارة مع فرض نفي (1) الأجزاء والشرائط ، ومجرّد الاستعمال أعمّ.

وشواهد خلافه كثيرة ، أقواها التبادر كما يحكم به الوجدان السليم وادّعى جماعة الإجماع على ذلك ، ومنهم العضدي (2).

وقبول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إسلام من قال « لا إله إلاّ اللّه » من أعدل الشواهد على ذلك. والقول بأنّ ذلك للقرينة أو أنّها تدلّ على التوحيد شرعا بمكان من السخافة.

ولا ينافي الإجماع المذكور ذهاب جماعة في دفع التناقض في الاستثناء : بأنّ الاستناد إنّما هو بعد الإخراج ، لأنّ الكلام في دلالة الإخراج سواء كان قبل الاستناد أو بعده ، وعلى تقدير التنافي فذهابهم إلى ذلك باطل ، كما اعترض عليهم المحقّق القمّي رحمه اللّه أيضا (3).

ثم إنّهم اختلفوا في كلمة الطيّبة التوحيديّة بين من يقول باستغناء « لا » عن الخبر كما ذهب إليه التميميّون (4) ، وبين من يقول بأنّ الخبر « موجود » أو « ممكن » (5).

والأظهر الأوّل ، وتحقيقه : أنّ الوجود كما قد يؤخذ محمولا وقد يؤخذ رابطة ، فكذلك العدم قد يكون محمولا كقولك : « زيد معدوم » وقد يكون رابطة كقولك : « زيد ليس قائما » ، والثاني يحتاج إلى الطرفين ، لامتناع تحقّق الرابط

ص: 106


1- في ( ط ) : « نفيه » ، ولعلّ الصواب : « بقيّة ».
2- انظر شرح مختصر الاصول 1 : 264 - 265.
3- القوانين 1 : 251.
4- نقله عنهم في شرح الكافية 1 : 112 ، والبهجة المرضيّة 1 : 134.
5- كما في المستصفى 1 : 330 ، والبهجة المرضيّة 1 : 134.

بدونهما ، والأوّل لا يحتاج إليهما. فالعدم المستفاد من كلمة « لا » على طريقة التميميّين عدم محمول (1) ولا يحتاج إلى تقدير خبر. والمعنى : نفي عنوان الإلهيّة مطلقا إلاّ في اللّه ، كما في قولك : « لا مال ولا أهل » فإنّه يراد منه انتفى المال والأهل ، وهذا المعنى لا يحتاج إلى خبر ، لتمام الكلام بدونه.

إلاّ أنّه يشكل أنّ كلمة « لا » لم نجد من صرّح بأنّها ترد اسميّة ، وهذا المعنى - على ما عرفت - ليس معنى رابطيّا ومدلولا حرفيّا. واحتمال أن يكون استعارة عمّا يصلح لإفادة ذلك ضعيف.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ قولك : « لا رجل ولا مال » وأضرابهما غير محتاج إلى تقدير الخبر ، بل الكلام المذكور في قوّة أن يقال : لا شيء ورجل ، ولا شيء ومال ، ولا شيء وإله ، ففي الحقيقة يكون اسم « لا » محذوفا.

إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو عن إشكال ، فإنّ التزام ذلك في المقام إنّما هو بواسطة ما يلزم على القول بالاحتياج إلى الخبر من المحاذير ، كما هو المشهور. وتلك المحاذير على تقدير عدم الحاجة أيضا ثابتة ، فإنّ إثبات عنوان الإلهيّة لله تعالى إمّا أن يكون بالفعل أو بالإمكان ، فعلى الأوّل لا يدلّ على نفي إمكان الغير ، وعلى الثاني لا يدل على ثبوت العنوان له تعالى فعلا. غاية ما يتصوّر الفرق بينهما أنّه على تقدير الاحتياج إلى الخبر إنّما يتوجّه الترديد المذكور بالنسبة إلى نفس الخبر ، وعلى تقدير عدمه إنّما يتوجّه بالنسبة إلى مادّة القضيّة وكيفيّة ثبوت المحمول للموضوع ، وذلك لا يجدي في دفع المحذور قطعا. ومن هنا التجأ بعضهم إلى القول بالنقل الشرعي في الكلام المزبور.

ص: 107


1- في ( ع ) : « محمولي ».

فالأوجه على ما صرّح به بعض المحقّقين (1) : أنّ المنساق من ذلك ليس إلاّ إثبات عنوان الإلهيّة لله تعالى فعلا. وأمّا نفي إمكان غيره فإنّما هو بواسطة ملازمة واقعيّة بينهما ، ولا يضرّ خفاء تلك الملازمة ، فإنّ ما اختفى منها إنّما هو الالتفات اليها تفصيلا ، بمعنى عدم الشعور بعلمها ، وأمّا العلم بنفس الملازمة فإنّما هو ممّا فطر اللّه تعالى عليه عامّة الخلق ، كما ذهب إليه جماعة من العرفاء والحكماء الالهيّين (2). وعلى تقدير الاختفاء فلا مانع من القول بكفاية ذلك في الحكم بالإسلام ، سيّما في صدر الإسلام كما صرّح به جماعة أيضا (3).

ثمّ إنّهم اختلفوا في كون الدلالة المذكورة هل بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فإن أرادوا بذلك ترتيب أحكام أحد القسمين عليها عند التشخيص ، ففيه : أنّا لا نعرف حكما يخصّ بأحدهما ، إذ ليسا مأخوذين في عنوان دليل شرعي. وأمّا تقديم المنطوق عند التعارض فقد عرفت ما فيه ، إذ المدار على الأقوائيّة والظهور ، ولا دليل على دورانهما مدارهما. وإن أرادوا بذلك تشخيص ما هو الواقع بحسب الاصطلاح ، فالظاهر أنّه من المفهوم.

وتحقيق ذلك : أنّ قولك : « ما زيد إلاّ قائما » يشتمل على حكمين : أحدهما سلب جميع المحمولات عن زيد ، وثانيهما : إثبات القيام لزيد. والأوّل مستفاد منطوقا ، والثاني مفهوما ، نظرا إلى ما وجّهنا حدّيهما فيما تقدّم ، إلاّ أنّه مع ذلك لا طائل تحته.

ومنها : الإضراب بكلمة « بل » ، وأمّا ما جيء به للترقّى فلا يفيد الحصر قطعا ، إذ لا وجه لاستفادة الحصر منها. ولعلّ من جزم بعدم إفادتها الحصر

ص: 108


1- لم نعثر عليه.
2- لم نعثر عليه.
3- لم نعثر عليه.

فيما إذا دخلت على الجملة وادّعى الوفاق فإنّما أراد ما ذكرنا ؛ نظرا إلى أنّ الأغلب كونها للترقّي ، بخلاف ما إذا كان بعدها مفرد ، فيحتمل الوجهين.

وكيف كان ، ففيما إذا كانت إضرابيّة اختلفوا فيها على أقوال :

أحدها : إفادتها الحصر مطلقا سواء كان في الإيجاب أو النفي ، وهو المنسوب إلى الحاجبي (1).

الثاني : العدم مطلقا ، وهو المنسوب إلى الزمخشري (2) ، فقولك : « جاءني زيد بل عمرو » إنّما يدلّ على صرف الحكم المقصود بالكلام إنشاؤه عن زيد وإثباته لعمرو من غير دلالة على حكم المتبوع.

الثالث : التفصيل بين النفي فيدلّ ، والإثبات فلا يدلّ. ذهب اليه جماعة منهم نجم الائمّة (3) والتفتازاني (4) - على ما حكي - واختاره بعض أعاظم المتأخّرين (5). واستند في ذلك : بأنّ احتمال الغلط في النفي بعيد ، بخلافه في الإثبات.

ثمّ إنّه ينبغي أن لا يكون من موضع الخلاف ما إذا كانت مسبوقة ب- « لا » ، فإنّه حينئذ كالنصّ في ثبوت المفهوم. ولا يبعد دعوى الوفاق ، إلاّ أنّ ابن هشام جعله لتأكيد الإضراب (6) فلو كان لمجرّد الصرف عنده كان مخالفا.

ص: 109


1- حكى عنه الكلباسي في إشارات الاصول 1 : 252.
2- المصدر المتقدم ، وراجع شرح الأنموذج من كتاب جامع المقدمات 2 : 401.
3- شرح الكافية 2 : 378 - 379.
4- انظر شرح التلويح على التوضيح 1 : 259 - 260.
5- الظاهر أنه هو الكلباسي صاحب إشارات الاصول ، فراجع.
6- مغني اللبيب : 153.

ومنها : الحصر بإنّما ، كقولك : إنّما زيد قائم. واختلفوا في ذلك ، والمشهور على الإفادة ، وذهب بعضهم إلى العدم (1).

واحتجّوا بامور ، أقواها تصريح اهل اللغة كالأزهري (2) بذلك. وقال بعضهم : لم أظفر بمخالف فيه (3). ونقل بعضهم إجماع النحاة على ذلك (4) ، وهو المنقول عن أئمة التفسير أيضا (5). وحكي عن المبرّد في جواب من سأله عن اختلاف قولهم : « إنّ زيدا قائم » و « إنّما زيد قائم » : أنّ الأوّل إخبار عن قيامه فقط والثاني إخبار عن قيامه مع اختصاصه به (6). وظاهره اختلاف المدلول باختلاف الدلالة. وأيّد ذلك بدعوى التبادر عند استعمال تلك اللفظة.

والانصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك ؛ فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتّى يستكشف منها ما هو المتبادر منها ، بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعا لبعض الكلمات العربيّة ، كما في أداة الشرط ونحوها.

وأمّا النقل المذكور فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللغوي في تشخيص الأوضاع على تقدير أن لا يكون ذلك منهم اجتهادا ، ولم يثبت ذلك إلاّ على تقدير اعتبار مطلق الظنّ كما قرّر في محلّه.

ص: 110


1- مثل الآمدي في الإحكام 3 : 106 ، والمحقّق النراقي في المناهج : 132.
2- راجع لما احتجّوا به ولما حكي عن الأزهري ، مفاتيح الاصول : 105 ، وإشارات الاصول 1 : 248.
3- قاله الطريحي في مجمع البحرين 1 : 91.
4- نقله المحقّق الكلباسي في الإشارات ، 1 : 248.
5- انظر مفاتيح الاصول : 105.
6- لم نعثر عليه.

وقد يتمسّك بأنّ العلماء لا يزالون يتمسّكون بحديث « إنّما الأعمال بالنيّات » (1) بفساد العمل بلا نيّة ، كاعتمادهم على قوله : « إنّما الولاء لمن أعتق » (2) في مثله. وهو لا يجدي شيئا ، إذ بعد الغضّ عمّا فيه لا يزيد عن مجرّد الاستعمال.

وأمّا كلمة « أنّما » بفتح الهمزة فقد صرّح بعضهم : بأنّ الموجب للحصر في « إنّما » بالكسر ما (3) في « أنّما » بالفتح (4) ، وهو تضمّنها معنى « ما » و « لا » أو اجتماع حرفي التأكيد.

وفيه : أنّ الموجب في « إنّما » على القول ليس إلاّ الوضع ، وإلاّ فمجرّد ما زعمه في الموجب فاسد جدّا ، كما لا يخفى. ودعوى الوضع ممّا لا شاهد عليها.

ومنها : تعريف المسند إليه (5) باللام إذا كان الخبر خاصّا ، كقولك : « الانسان زيد » وأمّا إذا كان الخبر أعمّ مطلقا كقولك : « الانسان حيوان » ، أو من وجه كقولك : « الإنسان أبيض » فظاهر التفتازاني إلحاقه بالأوّل ، ونصّ عليه بعض الأفاضل (6) ، وربّما يؤيّده أيضا قولهم : « التوكّل على اللّه » و « الأئمّة من قريش » فإنّ الخبر في هذه التراكيب لا يكون أخصّ قطعا. ومنه يظهر عدم اختصاصه بما إذا كان المسند إليه وصفا أيضا.

ص: 111


1- الوسائل 1 : 34 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.
2- الوسائل 13 : 35 ، الباب 9 من أبواب بيع الحيوان ، الحديث الأوّل.
3- في ( ع ) بدل « ما » : « ثابت ».
4- انظر مفاتيح الاصول : 107 ، حيث نقله عن الچلبي في حاشية المطوّل.
5- في ( ع ) : « المبتدأ ».
6- هو الفاضل النراقي في المناهج : 133.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الوجه في إفادة الحصر وعدم تجاوز المبتدأ عن الخبر هو التعريف كما يظهر من عنوان البحث ، إلاّ أنّه يلوح من بعض كلماتهم أنّ الوجه في ذلك هو كون المعنى موضوعا لما هو المحمول في الكلام ، وعلى ذلك فعنوان البحث ب- « تعريف المسند إليه » ممّا لا وجه له إلاّ بواسطة ما يتوصّل به إلى جعل المعرّف مسندا إليه ، وهو كما ترى خلاف الظاهر ، سيّما بملاحظة ما ذكروه في تعريف المسند إليه.

فكيف كان فاختلفوا في ذلك ، فالأكثر على الإفادة ، وذهب بعضهم إلى عدمها. والقائلون بالإفادة : بين من صرّح بأنّ ذلك بواسطة المقام وليس لذلك (1) كاشف لفظيّ كما نقله البعض عن إمام الحرمين (2) ، وهو الظاهر من كلّ من تمسّك في المقام بأنّ العدول عن الترتيب الطبيعي إلى خلافه يحتاج إلى نكتة ، وبين من يرى ذلك بواسطة اللفظ.

واحتجّ الأوّلون - بعد ظهور إجماع البيانيّين كما يظهر من إرسالهم ذلك إرسال المسلّمات ، والتبادر على ما يساعد عليه العرف - بوجوه ، أقواها أمران :

أحدهما : ما ذكره التفتازاني في المسند المعرّف (3) ، لكنّه جار في المقام أيضا.

وحاصله : أنّ « اللام » في مثل قولك : « الأمير زيد » إن حملت على الاستغراق فأمره ظاهر ، وإن حملت على الجنس فهو يفيد أنّ جنس الأمير

ص: 112


1- في ( ع ) : « كذلك ».
2- لم نعثر عليه.
3- انظر المطوّل : 140.

وماهيّته متّحد مع زيد كما هو قضية الحمل وهو المطلوب ، أو يجب حينئذ أن لا يصدق جنس الأمير إلاّ حيث (1) يصدق زيد ، وهو معنى القصر.

أورد على نفسه سؤالا في الخبر المعرّف ، وحاصله : النقض بالخبر المنكّر كما في القضايا المتعارفة.

وأجاب عنه : بأنّ المحمول فيها مفهوم الفرد ، ثمّ تنظّر فيه وبيّنه بأنّ اعتبار مفهوم الفرد خارج عن طريق الحمل. وهو كذلك ؛ لأنّ الفرديّة أمر منتزع من حمل الماهيّة الإنسانيّة على زيد مثلا ، فكيف يمكن اعتبارها في المحمول؟ مع أنّ اعتبار مفهوم الفرد يوجب التسلسل ، فإنّه أيضا كلّي.

فالحقّ : أنّ المحمول هو نفس مفهوم الإنسان ومفاد القضيّة الحمليّة هو أنّ زيدا وجود الإنسان في الخارج ، بمعنى أنّ هذا المفهوم الّذي في الذهن موجود علميّ في الخارج زيد. وبهذا الاعتبار ينتزع الفرديّة من زيد والكلّية من الإنسان.

وتحقيق المقام وتوضيحه أن يقال : الماهيّة الواقعة في مقام المحمول أو الموضوع تارة يمكن اعتبارها على وجه يستفاد من حملها أو وضعها الحصر ، كما إذا اعتبرت على ما هي معتبرة في الحمل الذاتي الأوّلي كقولك : « الإنسان بشر » فيما إذا اريد بيان اتّحاد المعنى دون التساوي في الصدق. واخرى يمكن اعتبارها على وجه لا يستفاد منها الحصر ، سواء كانت موضوعا كما إذا قيل لمن سمع الأسد ولم يشاهد فردا من أفراده : « الأسد هذا » أو محمولا معرّفا كقولك في المقام المذكور : « هذا الأسد » أو منكّرا كما في جميع القضايا المتعارفة ، أو كانت متعلّقة للأمر كما إذا قيل : ( أكرم الرجل ) حيث لا عهد.

ص: 113


1- في ( ط ) : « من حيث ».

وبعبارة ثانية : أنّ مفاد الحمل هو الاتّحاد المفهومي في الأوّل ، والخارجي مع بقاء اختلاف المفهومين في الثاني. ولم يظهر لنا اختلاف المفهومين (1) على وجه لو كان اللفظ موضوعا لأحدهما لم يكن استكشاف الآخر منه إلاّ على وجه المجاز ، بل الظاهر أنّ هذا الاختلاف بواسطة اختلاف الأحكام في الواردة على الماهيّة ، وإنّما اللفظ موضوع لنفس الماهيّة الّتي هي هي في المقامين ، كما يظهر بملاحظة الأمثلة المتقدّمة.

فالمستدلّ إن أراد تعيين أحد الوجهين من اللفظ مع قطع النظر عمّا يفيد ذلك من المقام والحكم ونحوهما ، ففيه : أنّ ذلك تحكّم صرف. ولا سبيل إلى دعوى ظهور الحمل في الحمل الذاتي ، إذ لو لم نقل بظهوره في المتعارفي فلا أقلّ من التساوي. وإن أراد أنّ تعيين ذلك إنّما هو بواسطة التعريف ب- « اللام » حيث إنّها وضعت للإشارة إلى نفس الماهيّة من حيث إنّها معهودة ، ففيه : أنّ مجرّد التعريف لا يقضي بذلك ، كما يظهر بملاحظة ما إذا وقع علم الجنس محمولا ، كقولك : « زيد اسامة ».

فإن قلت : التعريف في العلم الجنس على تقدير كونه تعريفا معنويّا كما يراه البعض (2) - لا تعريفا لفظيّا كما يراه نجم الأئمة (3) وبعض آخر (4) - ليس بالإشارة ، بخلاف التعريف في المعرّف باللام ، فإنّ أداة التعريف يشاربها إلى نفس الحقيقة ، ومن المعلوم أنّه إذا فرض اتّحاد نفس الحقيقة مع شيء يلزمه القصر كما هو المفروض في الدليل.

ص: 114


1- في ( ع ) : « الاعتبارين ».
2- لم نعثر عليه.
3- شرح الكافية 2 : 129 و 132 - 135.
4- انظر البهجة المرضيّة 1 : 57 ، وشرح ابن عقيل 1 : 126.

قلت : اتّحاد نفس الحقيقة قد عرفت عدم اقتضائه الحمل الذاتي ، بل هو أعمّ منه ومن المتعارفي ، والمطلوب الأوّل.

لا يقال : إنّهم ذكروا أنّ « اللام » لتعريف الجنس ، وهذه الجهة إنّما تلحق الماهيّة من حيث عمومها وكلّيّتها ، وكذلك لا يسري الحكم بالجنسيّة إلى أفرادها ، ضرورة اختلاف اعتبار الماهيّة على وجه ينتزع منه الجنسيّة واعتبارها فيما إذا كان محمولا لمصاديقها ، وإذا فرض اتّحاد شيء مع الماهيّة بالاعتبار الأوّل فلازمه القصر.

لأنّا نقول : ذلك وهم باطل.

أمّا أوّلا : فلأنّ الجنس في قولهم إنّما هو عنوان لنفس الماهيّة ، كما يشعر بذلك تعبير غير واحد بلفظ « الماهيّة » و « الحقيقة » وأشباهها (1).

وأمّا ثانيا : فلأنّ المقصود في مقام الحصر ليس دعوى اتّحاد الشيء مع الماهيّة الملحوظة بهذه الملاحظة ، فإنّها في هذه المرتبة ليست إلاّ أمرا اعتباريّا ومعقولا ثانويّا ، كما هو ظاهر جدّا.

وزعم بعض الأجلّة أنّ الوجه في التبادر المدّعى في المقام هو : أنّه قد اخذت حقيقة الرجل في قولك : « أنت الرجل » و « زيد الأمير » مثلا مقيّدة باعتبار الخارج ، فاعتبرت من حيث تمام تحقّقها فيه بقرينة الإشارة إليها باللام ، فإنّ الإشارة تستدعي تعيّن المشار إليه ، ولا تعيّن للماهيّة الخارجيّة عند عدم العهد إلاّ بهذا الاعتبار ، وبنى على ذلك في الردّ على ما ذكره التفتازاني من ظهور الحصر ، بناء على حمل « اللام » على الاستغراق (2).

ص: 115


1- كذا في ( ع ) و ( ط ) ، والظاهر : « أشباههما ».
2- الفصول : 155.

أقول : بعد تسليم أخذ الطبيعة خارجيّة - حيث إنّه لم نقف على ما يكشف عن ذلك مع قطع النظر عن الأحكام الواردة على الطبيعة - لا وجه لما أفاده إلى آخره ، فإنّ أخذ الطبيعة مقيّدة باعتبار الخارج إمّا على وجه الاستغراق وهو لا يقول به ، أو العهد الخارجي أو الذهني وشيء منهما لا يقضي بما ذكره ، كما لا يخفى. ولا نعقل اعتبار الماهيّة الخارجيّة عدا ما ذكرنا.

وبالجملة ، فبيان وجه الإفادة كما هو المتبادر بحسب القواعد اللفظيّة المقرّرة في غاية الإشكال.

وما توهّمه بعض المعاصرين (1) في دفع ما أورده التفتازاني من النظر ، من قوله : « إنّ أراد بالمفهوم معنى حاقّ اللفظ بدون ملاحظة ما تعتوره من اللواحق كالتنوين واللام ونحوهما فلا نسلّم اعتباره في المفهوم ، وإن أراد به مفهومه مع ملاحظة ما لحقه من التنوين فاعتباره مسلّم لكن الفرق ظاهر حيث إنّ المحمول على التعريف هو نفس الطبيعة بخلافه على التنكير » فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ ضرورة أنّ التنوين اللاحق لاسم الجنس ليس في الأغلب إلاّ تنوين التمكّن وهو لا يقضي بالفرديّة. سلّمنا كون التنوين للتنكير ، لكنّه لا ينافي الحصر أيضا ، فإنّ القائل بوضع اسم الجنس للفرد المنتشر لا يمنع من الحصر كما هو ظاهر. وصرّح المحقّق الشريف بإمكان استفادة الحصر على القولين (2). وبالجملة ، لا بدّ من ملاحظة ما وقع في جانب المحمول على الوجه الّذي أشرنا إليه عند إرادة الحصر. ولا نفرّق في ذلك كون المحمول هو الصفة أو الفرد المنتشر ، فتدبّر.

الثاني : أنّ المعرّف إذا وقع محكوما عليه ولم ينحصر في المحكوم به لزم الإخبار بالخاصّ على العامّ والتالي باطل. أمّا الملازمة فظاهرة ، إذ المفروض

ص: 116


1- لم نعثر عليه.
2- لم نعثر عليه.

فيما لم يفد الحصر هو الأعمّيّة وعدم اختصاص الوصف المحكوم به. وأمّا بطلان التالي فلأنّ ما ثبت للشيء ثبت لجميع جزئيّاته.

وفيه أوّلا : أنّ ذلك لا مدخل له في التعريف ، والمقصود في المقام استفادة الحصر منه. وثانيا : أنّ ذلك يتمّ فيما إذا اريد من الحمل بيان اتّحاد المحمول بحسب المفهوم لما جعل موضوعا ، والحمل لا يستدعي ذلك.

لا يقال : فحمل العبارة في (1) جعل العام محمولا كما في القضايا المتعارفة ، ولو قدّم واريد منه المعنى المذكور فلا بدّ من القول بأنّه خبر مقدّم.

لأنّا نقول : قد عرفت فيما تقدّم صحّة ذلك بدون اعتبار التقديم كما في « الأسد هذا » لمن عرف الأسد ولم يشاهده. ولا سبيل إلى جعله للعهد ، كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ ذلك خلاف الظاهر.

لأنّا نقول : الكلام إنّما هو في بيان وجه الظهور ولا سبيل إليه ، ولذلك عدل المحقّق الشريف في الخبر المعرّف إلى وجه آخر (2) ، وهو : أنّ المقصود ب- « الحمل » عند تعريف المحمول باللام ، لو كان مجرّد الاتّحاد في الوجود يصاغ التعريف لاستفادته من الخبر المنكّر أيضا ، فالعدول منه إليه دليل على أنّ المقصود الاتّحاد في الحقيقة والمفهوم ولو ادّعاء. وهو بظاهره أيضا فاسد ، لأنّ العدول لا يتحقّق من تركيب إلى تركيب لأجل إفادة أمر إلاّ بعد فرض دلالة التركيب الثاني على ذلك الأمر بخلاف التركيب الأوّل ، والمفروض انتفاء الدلالة في المقام. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّ التعريف يلازم قرينة تفيد ذلك ، وهو أيضا إحالة على المجهول ، كما لا يخفى.

ص: 117


1- في محتمل ( ع ) : « حينئذ » وعلى أيّ حال ، العبارة لا تخلو عن إشكال.
2- لم نعثر عليه.

وقد يتمسّك في المقام بما ذكره الشيخ عبد القاهر واختاره الزمخشري على ما نسب إليهما (1) في مثل قولك : « الأسد زيد » ، من أنّ المراد اتّحاد الجنس مع الفرد مبالغة في كماله في الفرديّة ، يعني : هل سمعت بالأسد وتعرف حقيقته؟ فزيد هو بعينه ، وهو الحصر بل أعلى منه ، لأنّ قضيّة الحصر ليس إلاّ انحصار المسند إليه في المسند ، وهذا يفيد التساوي وعدم تجاوز المسند منه أيضا.

فإن أرادوا التمسّك بقولهم من حيث إنّهم من أئمّة اللغة فله وجه على تقدير الاكتفاء بأمثاله في مثل المقام ، وإلاّ فإن اريد استفادة المعنى المذكور من قولك : « الأسد زيد » بمقايسة العبارة المذكورة فهو ممّا لا سبيل لنا إليه ، إذ الكلام إنّما هو في وجه ذلك بحسب قواعد اللغة وظهور قولك : « هل سمعت بالأسد وتعرف حقيقته » في التساوي. والحمل الذاتي لا يقضي بالظهور في محلّ النزاع.

ثمّ اعلم أنّ المقصود في المقام إنّما هو بيان أنّ تعريف المسند إليه يفيد الحصر ، حتّى إذا وردت رواية مشتملة على ذلك يحكم بعدم تجاوز المسند إليه عن المسند ، كما في قولك : « الأئمّة من قريش » وهذا كما ترى إنّما يفيد فيما إذا لم يعلم أخصيّة المسند إليه من المسند ، وأمّا إذا علم فليس ذلك من الحصر الحقيقي قطعا ، بل الحصر فيه ادّعائي. وأغلب ما يذكر في المقام من كلمات البيانيّين إنّما يلائم الحصر الادّعائيّ ، كما لعلّه ظاهر. والمقصود الأوّل ، لكنّه نجده من العرف إجمالا ولم نحصّله تفصيلا.

احتجّ الخصم : بأنّه لو أفاد الحصر كان تعريف المسند أيضا مفيدا له ، والتالي باطل. أمّا الملازمة : فلاتّحاد الوجه فيهما ، ولأنّه لو لم يفد لزم استناده إلى الهيئة لاتّحاد المادّة وهو غير معهود ، إذ لم يعهد تأثير الهيئة في اختلاف معنى المادّة بحسب اللغة.

ص: 118


1- نسبه اليهما المحقّق الكلباسي في الإشارات 1 : 251.

والجواب : تارة بالالتزام ، إذ لا دليل على بطلان التالي ، بل قد عرفت أنّ جملة من كلمات أهل البيان إنّما هو فيه. واخرى بإبداء الفارق : بأنّ الوصف إذا وقع محكوما عليه كان معناه الذات بالوصف العنواني ، وإذا وقع محكوما كان معناه ذات موصوفة به وهو عارض للأوّل ، والاتّحاد مع الذات الموصوفة يقتضي الحصر ، بخلاف الاتّحاد مع عارض له ، فإنّه لا ينافي مشاركة معروض آخر له فيه.

وحيث إنّ الفرق المذكور ممّا لا يرتضيه من يرى الحصر عند تعريف المسند أيضا كالتفتازاني ، فاعترض عليه بأنّ ما ذكر إنّما يتّجه في الوصف المنكّر دون المعرّف ، فإنّ معناه الذات الموصوفة. والظاهر أنّه أراد بذلك الإشارة إلى ما تقدّم نقله منه في الدليل الأوّل ، من الفرق بين المحمول المعرّف والمنكّر ، من اقتضاء الأوّل الحصر دون الثاني. وحمله بعض الناظرين في كلامه (1) على أنّه إذا كان المحمول معرّفا فيراد منه الذات ، وإذا كان منكّرا يراد منه المفهوم (2). فاورد عليه : بأنّ هذا إنّما يراد إذا كانت اللام موصولة ، وأما إذا كانت للتعريف فلا فرق بين حمل المعرّف بها وحمل المنكّر في كون المحمول فيهما المفهوم دون الذات.

وأنت خبير بأنّ ذلك ممّا لا مساس له بكلامه ، إذ لم يظهر من كلامه الفرق المذكور ، كيف! وذلك لا يجدي في دفع الجواب ، وأنّ اعتبار الذات في المحمول أو المفهوم ممّا لا دخل له بالجواب المذكور كما هو ظاهر ؛ مضافا إلى أنّ ما ذكره من الالتزام - أخذ الذات في المحمول إذا كان اللام للموصول - فهو مناف لما قد اشتهر عندهم ، من أنّ المعتبر في المحمول هو المفهوم دون الذات مطلقا.

ص: 119


1- راجع مفاتيح الاصول : 215.
2- راجع مفاتيح الاصول : 215.

ولبعض الأجلّة في المقام كلمات لا تخلو عن مناقشة يظهر بعضها ممّا ذكرنا ، فراجعه (1).

ثمّ إنّا في غنية عن التعريض لتعريف المسند أيضا ، كما تجشّمه البعض في المقام.

كما أنّه يظهر الوجه في إفادة الحصر من قولك : « صديقي زيد » ونحوه من كلّ تركيب يقدّم فيه ما حقّه التأخير. ولعلّ الكلّ بواسطة أمر خارج عن الوضع والموضوع. وقد تقدّم ما يغني عن الإطالة ، فتدبّر جدّا واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 120


1- الفصول : 155.

هداية

الحقّ - كما عليه أهل الحقّ وجماعة من مخالفينا (1) - أنّه لا مفهوم في اللقب. والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام ، كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر وغير ذلك ، سواء كان صالحا لأن يؤخذ منه مفهوم آخر - كما إذا كان المبتدأ أو الفاعل أو غير ذلك وصفا أو زمانا أو عددا - أو يعمّ فيما إذا كان وصفا ، فيستفاد منه المفهوم على القول بثبوته فيه وفي المقام من جهتين.

وذهب جماعة منهم الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد (2) إلى ثبوت المفهوم فيه.

لنا : انتفاء الدلالات الثلاث ، يكشف عنه أنّه لا دلالة في قولك : « زيد موجود » على أنّه تعالى ليس بموجود ، وقولك : « موسى رسول اللّه » على أنّ محمد صلى اللّه عليه وآله ليس برسول اللّه. ومن ادّعى ذلك فقد لبس عليه وجدانه ولا يحسن مناظراته. وقد اشتهر على الألسن : « أنّ إثبات الشيء لا ينفي الحكم عن الغير » ولا محلّ له إلاّ في أمثال المقام.

واحتجّوا : بلزوم العراء عن الفائدة لولاه ، وبأنّ قول القائل : « لا أنا بزان ولا اختي زانية » رمي للمخاطب ولاخته بالزنا ، ولذلك أوجبوا عليه الحد.

ص: 121


1- انظر الإحكام في اصول الأحكام للآمدي 3 : 104 ، ومفاتيح الاصول : 217.
2- انظر الإحكام في اصول الأحكام للآمدي 3 : 104 ، وشرح مختصر الاصول : 321 ، ومفاتيح الاصول : 217.

والجواب عن الأوّل بمنع الملازمة كما تقدّم نظيره. وعن الثاني بأنّ ذلك بواسطة قرينة المقام. وللعامّة في مباحث العلوم العقليّة والنقليّة خرافات وهذيانات لا تحصى!

ص: 122

هداية

اشارة

الأقوى - وفاقا لجمع كثير من أصحابنا ومخالفينا - أنّه لا مفهوم في العدد ، بل وادّعى بعضهم وفاق أصحابنا فيه (1). وحكي القول بالإثبات مطلقا (2) ، ولم نعرف قائله. وفصّل جماعة منهم الآمدي في ذلك ، فقال - على ما حكي عنه - : إنّ الحكم إذا قيّد بعدد مخصوص ، فمنه ما يدلّ على ثبوت ذلك الحكم فيما زاد على ذلك العدد بطريق أولى كما لو حرم اللّه جلد الزاني بمائة ، وقال : « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا » ومنه ما لا يدلّ على ثبوت الحكم فيما زاد عليه بطريق أولى ، وذلك كما إذا أوجب جلد الزاني بمائة أو أباحه ، فإنّه مسكوت عنه ، مختلف في دلالته على نفي الوجوب والإباحة فيما زاد ، متّفق على أنّ حكم ما نقص كحكم المائة لدخوله تحتها لكن يمنع الاقتصار (3). فاختار في الأوّل الدلالة وفي الثاني العدم.

وفصّل بعضهم (4) بين ما وقع جوابا عن المقيّد كأن يقول : « نعم » في جواب هل اجلد الزاني ثمانين؟ فلا يفيد ؛ لظهور كون الفائدة فيه غير المفهوم ، وبين ما إذا وقع جوابا عن المطلق فمع عدم ظهور فائدة غير المفهوم فانّه لا بدّ من حمله على المفهوم ، لئلاّ يلزم العراء عنها.

ص: 123


1- ادّعاه المحقّق الكلباسي في الإشارات ، الورقة : 354.
2- حكاه المحقّق النراقي في المناهج : 131 ، بلفظ : وقيل حجة مطلقا.
3- الإحكام في اصول الأحكام 3 : 103.
4- نسبه المحقّق الكلباسي في الإشارات إلى بعض الأواخر.

والظاهر أنّ شيئا من القولين ليس بتفصيل في المقام.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ البحث في المقام إنّما هو في أنّ التقييد بالعدد الخاصّ هل يستلزم نفي الحكم عمّا فوقه وعمّا دونه أو لا؟ وما حكم فيه بالدلالة لا ربط له بهذه المسألة ، بل اختار مشاركة الفوق لما تحته بمفهوم الموافقة في تلك الموارد.

وما اختار فيه العدم إن حملناه على عدم الدلالة على المشاركة بقرينة الإثبات فعدم كونه مرتبطا بالمقام ظاهر ، وإلاّ كان من النافين مطلقا ، حيث إنّ اختياره الدلالة على المشاركة لا ينافي عدم الدلالة على النفي بل يؤكّده.

وأمّا الثاني ؛ فعدم كونه تفصيلا ظاهر.

لنا على ما صرنا إليه : ما تقدّم من انتفاء الدلالات الثلاث.

احتجّوا بالعراء عن الفائدة لولاه ، و (1) بقوله صلى اللّه عليه وآله : « لأزيدنّ على السبعين » (2) بعد نزول قوله تعالى : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) (3) وبلزوم تحصيل الحاصل لو كان الحكم ثابتا لما دون وما زاد ، فقوله صلى اللّه عليه وآله « طهور إنائكم إذا ولغ الكلب فيه أن تغسله سبعا » (4) يدلّ على حصوله بها خاصّة.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبما مرّ مرارا.

وعن الثاني : فبعدم صحّة الرواية ، كما يؤيّده سياق الآية ، فإنّ الظاهر أنّها واردة في مقام الكناية عن الكثرة ، إذ الظاهر أنّ كلمة « إن » لا تفيد السببية ، إذ لا يعقل أن يكون عدم المغفرة مسبّبا عن الاستغفار ولو مرّة ، بل الظاهر أنّها

ص: 124


1- كلمة « و » من ( ع ).
2- مجمع البيان 3 : 55.
3- التوبة : 80.
4- المستدرك 2 : 602 ، الباب 45 من أبواب النجاسات.

هي الوصليّة. ومع ذلك يبعد صدور هذا الكلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولو سلّم صحّتها فلا تفيد في المقام ، كما لا يخفى.

واجيب (1) أيضا : بأنّ ذلك بواسطة مفهوم الشرط ، وهو ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ قضيّة ذلك حصول المغفرة عند عدم الاستغفار مطلقا لو لم نقل بمفهوم العدد ، كما لا يخفى.

وأمّا عن الثالث : فبأنّ ذلك إنّما يتمّ إذ وقع العدد في مقام التحديد كما في الرواية ، وهو خارج عن المتنازع فيه. ثمّ على تقدير وروده في مقام التحديد فالملازمة إنّما تتم على تقدير امتناع التخيير بين الأقلّ والأكثر.

وممّا ذكر يظهر فساد القول الرابع أيضا على تقدير كونه من أقوال المسألة ، ولا حاجة إلى الإطالة.

تذنيب :

العدد المأخوذ في متعلّق الحكم إمّا يعلم بكونه مأخوذا لا بشرط الزيادة أو النقيصة ، أو يعلم بكونه مأخوذا بشرط عدم النقيصة والزيادة معا ، أو بشرط عدم الزيادة فقط ، أو النقيصة فقط ، أو لا يعلم شيء منها.

وعلى الأخير فلا بدّ من إجراء أحكام ما علم كونه مأخوذا لا بشرط ، إذ اللفظ إنّما هو كاشف عن العدد المعيّن ولا يدلّ على شيء آخر سواه ، فلا داعي على اعتباره.

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون الحكم وجوديّا كما إذا قيل : يجب صوم ثلاثين يوما ، وإمّا أن يكون عدميّا كما إذا قيل : يحرم جلد الزاني مائة. فعلى الأوّل

ص: 125


1- أجاب بذلك السيّد المجاهد في المفاتيح : 216 - 217.

يدلّ على وجوب صوم كلّ يوم من الثلاثين تبعا ، وهل يدلّ على وجوبه أصالة أيضا؟ الظاهر العدم إذا لم يعلم تعدّد التكاليف ، ولا يدلّ على وجوب الزائد وهو ظاهر ، ولا ينافيه أيضا نظرا إلى عدم المفهوم كما عرفت. وعلى الثاني فيدلّ على حرمة الزائد بالأولويّة.

وإذا اخذ بشرط عدم الزيادة والنقيصة : ففي الوجودي يجب الجميع تبعا ، فإن زاد عليه أو نقص لم يمتثل ؛ لعدم الإتيان بالمأمور به. وفي العدمي لا يحرم في الناقص قطعا ، وفي الزائد فإن لم يكن تدريجا فلا يحرم أيضا ، وإن كان تدريجا ففي تحريم ما وصل إلى مرتبة ذلك العدد المعيّن وعدمه وجهان مبنيّان على تشخيص ذلك بالقصد وعدمه.

وإذا اخذ بشرط عدم الزيادة فقط فلا حرمة ولا وجوب فيما زاد عليه إذا كان دفعيّا ، وفي التدريجي فالوجهان فيهما. وفيما دونه أيضا لا حرمة ولا وجوب ، أمّا أصالة فظاهر بناء على عدم تعدّد التكليف ، وأما تبعا ففي العدمي ظاهر ، وأما في الوجودي فلأنّ اتّصافه بالوجوب التبعي إنّما هو بعد قصد الكلّ ، فلو قصده كان واجبا كما في سائر المقدّمات على ما حقّقناه في مقامه ، وإلاّ فلا.

وإذا اخذ بشرط عدم النقيصة فقط ففي العدمي لا حرمة إلاّ بعد التمام ، ويدلّ على حرمة الزائد بالإطلاق ، ويحتمل الأولويّة أيضا. وفي الوجودي لا وجوب إلاّ في التمام أصالة ، وتبعا قد عرفت الوجه فيه. وأمّا وجوب الزائد فلا دلالة في اللفظ عليه نفيا وإثباتا ، إلاّ أنّه لو زاد على العدد يحكم بالامتثال نظرا إلى الإطلاق. وما ذكرنا ظاهر جدّا ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 126

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في العموم والخصوص

اشارة

ص: 127

ص: 128

واعلم أنّ صرف الوقت في تزييف ما ذكروه في الحدود الواردة للعامّ وبعض المسائل المتعلّقة بالعموم - مثل إفادة المعرّف ب- « اللام » العموم وأمثال ذلك - ممّا لا وجه ؛ لوجود ما هو الأهمّ منها ، فالأولى أن نتعرّض لما هو المفيد في المباحث الفقهيّة أو ما هو كاللازم في المباحث في طيّ هدايات :

ص: 129

ص: 130

هداية

إذا خصّص العامّ بأمر معلوم مفهوما ومصداقا ، فلا ينبغي الإشكال في حجيّة العامّ في الباقي ، وليس ممّا يتطرّق عليه الاشتباه كما عليه المشهور ، بل ولم يظهر من أصحابنا فيه خلاف ، وإنّما نسب الخلاف إلى بعض العامّة كأبي ثور (1).

وذهب جماعة - منهم البلخي على ما حكي (2) - إلى التفصيل بين المخصّص المتّصل - كالوصف والغاية وبدل البعض والاستثناء ، على تأمّل فيه - فقال بالحجّيّة ، وبين المنفصل فقال بعدمها.

لنا : ظهور العامّ في الباقي بعد التخصيص على وجه لا يشوبه شائبة الإنكار في العرف. ويشهد له انقطاع عذر العبد المأمور بإكرام العلماء إلاّ زيدا عند عدم الامتثال به كما هو ظاهر ، ولا نعني بالحجيّة في المقام إلاّ ذلك ، ويظهر بالرجوع إلى الوجدان الخالي عن الاعتساف. ويزيد ظهورا بملاحظة الاحتجاجات الواردة في كلمات الأئمّة وأرباب العصمة - صلوات اللّه عليهم - وأصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله من أهل اللسان والعلماء في موارد جمّة ، على وجه لا يمكن إنكاره ، بل ولولاه لا نسدّ باب الاجتهاد ؛ فإنّ رحى الاجتهاد تدور على العمل بالعمومات ، مع أنّ من السائر في الأفواه « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » ومن هنا قيل : إنّ العام المخصّص أقوى ظهورا من غيره ؛ لكونه مظنّة له (3).

ص: 131


1- انظر الإحكام في أصول الأحكام 2 : 252 ، والمختصر وشرحه : 224.
2- حكاه الآمدي في الإحكام 2 : 252 ، وانظر المختصر وشرحه للعضدي : 223 - 224.
3- لم نعثر عليه.

واحتجّ النافي : بأنّ الباقي بعد التخصيص مرتبة من مراتب المجاز ، وهي متساوية ، فتعيّن الباقي دون غيره ترجيح من غير مرجّح.

فاجيب عنه : بأنّ المرجّح هو أقربية الباقي لمدلول العامّ.

فإن اريد من الأقربيّة ما هي معتبرة في الترجيح فلا نسلّم تحقّقها ، إذ الأقربيّة المعتبرة ما تكون منوطة بغلبة استعمال اللفظ بعد صرفه عن الحقيقة ، مثل استعمال الأسد في الشجاع لا في الأبخر مثلا ، ولا سبيل إلى إثبات غلبة استعمال العامّ المخصّص في الباقي ، إذ المراد مصداق الباقي وهو مختلف جدّا ، فلا يتحقّق غلبة كما لا يخفى. وإن اريد غيرها فلا يكفي في الترجيح.

والأولى أن يجاب - بعد تسليم مجازيّة الباقي - بأنّ دلالة العامّ على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ولو كانت دلالة مجازيّة ، إذ هي إنّما بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ؛ لأنّ المانع في مثل المقام إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي ، لاختصاص المخصّص بغيره ، فلو شكّ فالأصل عدمه ، فليس ذلك على حدّ سائر المجازات حتى يحتاج إلى معيّن آخر بعد الصرف مع تعدّدها ، فإنّ الباقي متعيّن على حسب تعيّن الجميع عند عدم المخصّص مطلقا.

وممّا ذكرنا يظهر سرّ الظهور العرفي ، فلا يرد ما قد يتوهّم : من أنّه لا وجه له ؛ إذ على تقدير المجازيّة لا وضع حتى يستند إليه والمفروض أيضا عدم القرينة ، وعلى تقدير عدمها فالحقائق متعدّدة أيضا ، فالوجه هو الإجمال. وتوضيح الدفع هو ما ذكرنا من عدم إناطة دلالة العامّ على فرد على دلالته على فرد آخر بالوضع ، وعدم إرادة فرد - سواء كان بعد ذلك حقيقة أو مجازا - لا يوجب عدم دلالة العامّ

ص: 132

على الأفراد الباقية بالوضع ، وحيث لا صارف فيحمل عليه اللفظ ، على ما هو المعتاد في حمل اللفظ بعد ثبوت الدلالة وعدم الصارف.

ويمكن أن يحتجّ للمفصّل : بأنّ للعامّ عند اتّصال المخصّص به ظهورا ثانويا في الباقي ، بخلافه عند انفصاله.

لا يقال : لا وجه لذلك ، إذ لا نجد فرقا في المقامين ، فدعوى الظهور في المتّصل دون غيره ممّا لا شاهد لها ؛ لأنّا نقول : الفرق بينهما في غاية الظهور ، ويرشدك ملاحظة ما قيل في المجاز المشهور : من أنّ إرادة المعنى العاري عن القرينة اعتمادا على القرائن المنفصلة ربّما يوجب إجمال اللفظ الموجب للتوقّف ، بخلاف ما إذا اقترنت القرينة باللفظ ، فإنّه لا يكاد يصل إلى حدّ الإجمال وإن بلغ الاستعمال ما بلغ ، فانفصال المخصّص ربما يوجب وهنا في الظهور بخلاف المتّصل ، ومن هنا قال بعضهم بجواز تخصيص الأكثر في المتّصل دون غيره (1) وستعرف وجها آخر في الفرق في ما سيأتي إن شاء اللّه.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه ليس الفرق بمثابة لا يمكن القول بالبيان والاعتبار عند الانفصال ، نظرا إلى ما قلنا : من أنّ مقتضى الحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، وإمكان الإجمال في صورة الانفصال لا يقضي به ، كما هو ظاهر في القرائن المنفصلة في سائر المجازات. وبالجملة ، فلا إشكال في ذلك ، فلا بدّ من صرف الكلام إلى ما هو أهمّ. واللّه الهادي.

ص: 133


1- قاله ابن الحاجب ، انظر المختصر وشرحه : 249.

ص: 134

هداية

الحقّ عدم صحّة التعويل على العامّ عند عروض الاشتباه في أفراد المخصّص إذا فرض له عنوان مع انتفاء أصل يوجب تعيين ذلك المشتبه في مقام الظاهر.

خلافا لما يظهر من جماعة من الأخباريّة (1) ، حيث إنّهم يتمسّكون في موارد الاستصحابات الموضوعيّة بعموم الدليل مع إنكارهم الاستصحاب فيها أيضا ، وقد أشرنا إليه في محلّه (2).

وهذا منهم ليس بعجيب وإنّما العجب من الشهيد الثاني ؛ حيث إنّه قال على ما حكي : والمرأة لا تقتل بالارتداد ، وكذا الخنثى ؛ للشكّ في ذكوريّته المسلّطة على قتله ، ويحتمل أن يلحقه حكم الرجل ؛ لعموم قوله : « من بدّل دينه فاقتلوه » (3) خرج منه المرأة ويبقى الباقي داخلا في العموم ؛ إذ لا نصّ على الخنثى بخصوصه (4) ، انتهى.

وستعرف وجها يمكن تصحيحه ، مضافا إلى احتمال كون الشبهة حكميّة على تقدير إمكان الواسطة بين النوعين ، فيكون من جزئيّات الهداية السابقة.

ص: 135


1- لم نعثر عليه.
2- انظر الفرائد 3 : 45.
3- المستدرك 18 : 163 ، الباب الأوّل من حدّ المرتدّ ، الحديث 2.
4- الروضة البهيّة 4 : 161.

وكيف كان ، فلنا في المقام دعويان :

إحداهما : التعويل عند وجود أصل رافع للاشتباه ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » وشكّ في زيد العالم أنّه هل هو فاسق بعد العلم بعدالته سابقا أو لا؟ فاستصحاب العدالة يوجب تحكيم العامّ في المورد المشكوك ، كما أنّ استصحاب الفسق في مورده يوجب تحكيم عنوان التخصيص. وكذا إذا قيل : « أكرم عدول العلماء » وشكّ في زيد العالم في عدالته ، فبأصالة عدم حصول الملكة له يحكم بعدم وجوب إكرامه ، ولا إشكال في ذلك على ما قرّرنا في محلّه.

الثانية : عدم صحّة التمسّك بالعامّ في مورد الاشتباه عند انتفاء أصل موضوعي.

والذي يدلّ عليه : أنّ المقصود من الاستدلال بدليل والداعي إليه إنّما هو رفع الشكّ الذي أوجب النظر والفحص ، إذ مع عدمه بعد الالتفات لا حاجة إلى الاستدلال قطعا والشكّ في المقام ممّا لا نعقل رفعه بالتمسّك بالعامّ.

وتوضيحه : أنّ منشأ الشكّ في الشبهة الموضوعيّة هو التردّد في الأمور الخارجيّة التي لا مدخل لإرادة المتكلّم فيها بوجه ، بل ذلك التردّد والاشتباه كثيرا ما يقع للمتكلّم أيضا ، بل قد يقطع المتكلّم بخلاف ما هو الواقع في المصاديق أيضا ، فمن حاول رفع هذه الشبهة فلا بدّ من رجوعه إلى ما هو المعدّ في الواقع لإزالة هذه الشكوك والشبهات من اختبار وتجربة وإحساس ونحوها ، وما يمكن رفعه بالرجوع إلى العام هو الشكّ في مراد المتكلّم على وجه لو صرّح بمراده بعد الرجوع إليه لم يقع الشكّ فيه ، ففيما إذا شكّ في أنّ زيدا عادل لو راجعنا المتكلّم أيضا لا يرتفع الشكّ المذكور من حيث هو متكلّم ، فلا وجه لتحكيم العامّ في مورد

ص: 136

الشكّ كيف! ونسبة المشكوك إلى العنوانين نسبة واحدة ، فالتزام دخوله في أحدهما من غير أن يكون ذلك مستفادا من أصل أو دليل ترجيح بلا مرجّح.

وبالجملة ، فالمتكلّم والمخاطب سيّان في هذه الشبهة ، لثبوتها مع قطع النظر عن المتكلّم وإن كان قد يوجب التفاتا إليها أيضا ، ولا يلزم على المتكلّم قبح عند التكلّم بالعامّ مع شكّ المخاطب في مصاديق العنوانين من حيث هو متكلّم من جهة إقامته بما هو الوظيفة في المتعارف من التعبير بما هو الكاشف عن مراده من دون قصور فيه ولا تقصير. ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا سترة فيه.

ويمكن أن يحتجّ للخصم تارة بالاستصحاب فيما لو عمل بالعامّ في المشكوك بواسطة القطع باندراجه ثم طرأ الشكّ فيه.

وفيه : أنّ ذلك - بعد الإغماض عن كونه رجوعا عن التمسّك بالعامّ إلى التعويل على الاستصحاب وعدم نهوضه للشكوك البدوية - ممّا لا يجدي ؛ لارتفاع الحكم بعد ارتفاع القطع ؛ لكونه دائرا مداره ، كما نبّهنا على عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام في محلّه.

واخرى بأنّ الظاهر من عنوان العامّ والمخصّص أن يكون الأوّل مقتضيا والثاني مانعا عن الحكم ، ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي ، والأصل عدمه ، فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي.

وفيه أوّلا : أنّا لا نسلّم أنّ الظاهر من العنوانين أن يكون العامّ مقتضيا والخاصّ مانعا ، فإنّ قضيّة التخصيص لا تزيد على صرف الحكم عن الأفراد المخصّصة وتخصيصه بالأفراد الباقية من غير إشعار بأنّ العلم هو المقتضي والفسق هو المانع ، لكونه أعمّ من أن يكون العامّ مقتضيا والآخر مانعا كما هو مطلوب المستدلّ ، أو أن يكون عنوان العامّ هو الجزء الآخر للعلّة التامّة بالنسبة إلى الحكم ويكون عنوان المخصّص كاشفا عن عدم شرط في بعض أفراده.

ص: 137

وبالجملة ، فلا دليل على التزام كون العامّ مقتضيا والمخصّص مانعا.

فإن قلت : الظاهر من القضايا الغير المعلّلة بعلّة عند عدم استنادها إلى عللها الواقعيّة (1) أن يكون الموضوع هو العلّة في ثبوت المحمول أو ما هو ثابت في مورده قطعا ، وإلاّ لزم أن يكون كلّ شيء صالحا لأن يحكم عليه بكلّ شيء ، وهو ضروريّ الفساد ، ولذلك لا حاجة إلى إحراز أمر آخر في ترتيب الحكم بعد إحراز ما جعل موضوعا في القضيّة ، فإذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » نعلم أنّ علّة وجوب الإكرام إنّما هو العلم الغير الجامع للفسق ، ولا شكّ أنّ العلم حينئذ يكون مقتضيا كما هو مأخوذ في عنوان العامّ والفسق مانعا كما هو مقرّر في المخصّص.

لا يقال : فيلزم القول باعتبار مفهوم الوصف واللقب وأضرابهما كما هو قضيّة العلّيّة المدّعاة في المقام.

لأنّا نقول : إنّما يلزم لو قلنا بأنّ الظاهر انحصار العلّة ليلزم من ارتفاعه ارتفاع سنخ الحكم ولا نقول به ، بل المقصود إثبات الاطّراد في الوجود فقط ، فإنّ ذلك يكفي فيما نحن فيه وإن أمكن ثبوت الحكم في مورد آخر أيضا ، فلا يلزم محذور.

قلت : لا إشكال في أنّه بعد إحراز ما هو الموضوع في القضية يلزم ترتيب الحكم عليه ولا حاجة معه إلى أمر آخر ، بل يكفي فيه ذلك ولو فرض ارتفاع جميع الموجودات أو وجود جميع المعدومات كما هو قضيّة الإطلاق ، لكن ذلك لازمه القول بأنّ العلّة في الحكم أو في العلم به (2) عنوان العامّ مع انتفاء عنوان

ص: 138


1- في ( ع ) : « عند عدم العلم باستنادها إلى العلل الواقعيّة ».
2- في ( ع ) زيادة كلمة غير واضحة لعلّها : هو.

المخصّص ولا حاجة إلى إحراز أمر آخر في الحكم المذكور ، ولا دلالة فيه بوجه على تعيين المقتضي والمانع كما هو المقصود. لا يقال : لا نعني بالمقتضي إلاّ الأمر الوجودي المؤثّر في وجود المعلول ، وبالمانع إلاّ ما يكون عدمه معتبرا في الوجود ، ولا شكّ في صدق ذلك على العنوانين كما عرفت بأنّ العلّة هو العلم مع انتفاء الفسق.

لأنّا نقول : ما ذكر ليس مستفادا من ظاهر الدليل وإنّما هو أمر يمكن اعتباره كذلك ، كما يمكن اعتباره بوجه آخر أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة ، فمن الجائز أن يكون الأفراد الباقية مشتملة على علّة الحكم بعناوينها الخاصّة ، بخلاف الفرد المخرج ، لارتفاع بعض أجزاء العلّة فيها ، ويكون الداعي إلى التعبير على الوجه المذكور هو تعذّر إحصاء الأفراد الباقية بعناوينها أو غيرها ، وحينئذ لا دلالة على المطلوب بوجه كما في قولك : « أكرم أهل هذه البلدة إلاّ اليهود » مثلا ، بل قد يقال : إنّ العام بعد تخصيصه بالمنفصل يصير كالدليل اللبّي وينهدم أساس عنوان الموضوع ، فإنّه حينئذ ذوات الأشخاص الباقية كما إذا قيل مشيرا إليها : « أكرم هؤلاء » ومشيرا إلى الأفراد الخارجة : « لا تكرم هؤلاء ».

إلاّ أنّ ذلك خلاف الإنصاف ، لظهور الفرق بين الإشارة وعنواني العامّ والمخصّص ، فإنّ للعالميّة مدخلا في الحكم جزما ، لارتفاع الحكم فيما لو انقلب جاهلا ، بخلافه في صورة الإشارة.

ثمّ إنّ الدعوى المذكورة ممّا لا سبيل إليها في مثل قولك : « لا يجب إكرام الناس إلاّ العالم » من الأحكام السلبيّة ، إلاّ أنّه لا بد من التأويل فيها بعد ذلك أيضا.

ص: 139

وثانيا (1) : سلّمنا كون العامّ مقتضيا والمخصّص مانعا ، إلاّ أنّه لا بدّ من إحراز عدم المانع بدليل ، ومجرّد الشكّ في وجود المانع مع قطع النظر عن الحالة السابقة لا يقتضي الحكم بالعدم ، وأمّا الحالة السابقة فليست معلومة في المقام حتّى يؤخذ بها.

وتوضيح ذلك : أنّ عدم الفسق المفروض وجوده مانعا قد يكون معلوما قبل زمان الشكّ كما إذا كان زيد المشكوك دخوله في العنوانين معلوم العدالة في السابق ، وقد لا يكون كما إذا كان الشكّ في فسقه ابتداء.

فعلى الأوّل : لا حاجة إلى تجشّم إثبات كون العام مقتضيا والمخصّص مانعا ، لكفاية الأصل الموضوعي عن ذلك. وعلى الثاني : لا يجدي إثبات كونه مانعا أيضا ، لعدم ما يقضي بعدمه في الواقع من الدليل أو في الظاهر من الأصل.

لا يقال : إنّ المانع إذا كان مشكوكا فالأصل فيه العدم ، سواء كان مسبوقا بالحالة السابقة أو لم يكن. ويكفي في ذلك احتجاج المحقّق في الاستصحاب بعد إحراز المقتضي : بأنّ احتمال وجود المانع معارض باحتمال عدمه (2) ، فإنّ ذلك لا وجه له إلاّ على تقدير عدم الاعتناء بوجود المانع بمجرّد الشكّ فيه.

لأنّا نقول : لا دليل على كفاية الشكّ في وجود المانع في الحكم بعدمه ، لا عقلا لعدم استقلاله به ، ولا نقلا لعدم اندراجه تحت قاعدة من القواعد الشرعيّة. وأمّا احتجاج المحقّق فقد نبّهنا على ما فيه في محلّه.

وربّما يتوهّم الفرق في المقام بين ما كان الأفراد الباقية والخارجة معلومة الأعداد والأشخاص - كأن يكون العدول مثلا عشرة والفسّاق أيضا عشرة فاشتبه

ص: 140


1- عطف على قوله : وفيه أوّلا في صفحة : 137.
2- معارج الاصول : 207.

واحد منهم بالآخر - وبين ما لم يكن كذلك ، بل كان الاشتباه لأجل حصول عنوان المخصّص في المشكوك. فعلى الأوّل : نقول بعدم تحكيم العامّ ، لما مرّ من أنّ الحكم بدخوله في أحد العنوانين خاصّة ترجيح بلا مرجّح. وعلى الثاني : نقول بتحكيم العامّ في مورد الاشتباه ، نظرا إلى وجوب الأخذ بالعامّ مهما أمكن ، فما لم يعلم خروج فرد من العامّ يجب الأخذ به ، لعدم وصول المعارض إلينا من جانب المولى كما جرى عليه ديدن العقلاء في مقام امتثال الأوامر المتعلّقة بهم ، كما هو ظاهر.

أقول : لا إشكال على الأوّل كما هو المفروض. وأمّا على الثاني ، فما ذكر في وجه التحكيم فإنّما يناسب فيما لو كان المراد من المخصّص مجملا. وأمّا إذا كان عنوان المخصّص معلوم المراد فلا وجه للفرق بين الموردين بوجه ، لاتّحاد ما هو المناط بينهما. ودعوى جريان ديدن العقلاء على تحكيم العامّ في مثل ما نحن فيه ممنوعة جدّا ، ألا ترى أنّهم يتوقّفون في مائع لم يعلم كونه خلاّ أو خمرا ولا يستندون فيه إلى عموم التحليل والتحريم؟ والوجه في ذلك هو ما نبّهنا عليه : من أنّ الشكّ في المقام ممّا لا يزول بالأخذ بالعموم ، فإنّ الاصول اللفظيّة تارة يقصد بها إثبات الوضع والمفروض في المقام عدم الشكّ فيه في أحد من العنوانين ، وتارة يقصد بها إثبات المراد من اللفظ وهو أيضا معلوم فيهما.

وتوضيح المقام : أنّ ملخّص ما يمكن أن يقال في الفرق بين الصورتين : هو أنّ الشك في دخول زيد في عنوان الخاصّ على الأوّل لا يستلزم الشكّ في تخصيص العامّ زيادة على ما علم تخصيصه ، لأنّ دخول زيد تحته يوجب خروج فرد آخر منه ، لانحصار أفراده في عشرة مثلا. بخلاف الشكّ فيه على الثاني ، فإنّه يشكّ في أنّ زيدا هل خصّص من العامّ أو لا؟ بعد العلم بتخصيصه بالنسبة إلى عمرو وأصالة عدم التخصيص في الأقلّ معارضة بمثلها كما في الشبهة المحصورة. وعلى الثاني فلا معارض لها ، لكونه من قبيل الشبهة البدويّة.

ص: 141

وملخّص الجواب : أنّ الفرق لا يجدي في الرجوع إلى العامّ ، لأنّ منشأ الشكّ في التخصيص وإن كان الشكّ بدويّا هو الاشتباه في الأمر الخارجي ولا يمكن زواله بالرجوع إلى العامّ كما قلنا. وذلك بمكان من الظهور والوضوح [ بهداية اللّه ](1) وهو الهادي.

ص: 142


1- لم يرد في ( ع ).

هداية

اشارة

إذا علم تخصيص العامّ بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم ، فالحقّ صحّة التعويل عليه عند الشكّ في فرد أنّه من أيّهما. ويمكن استيناسه من مذاق العلماء في جملة من الموارد أيضا. ومثال ذلك : ما إذا قال المولى : « أكرم العلماء » وعلمنا من نفسه ومن تعبيره وتخصيصه للعامّ أنّه لا يريد إكرام الفاسق ، فإنّه إذا شكّ في زيد هل هو فاسق أو لا يجب تحكيم العامّ فيه والقول بوجوب إكرامه.

وتحقيق القول : أنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين وتنويعهما ، كالعالم الفاسق والعالم الغير الفاسق مثلا. واخرى لا يوجب ذلك ، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنوانا في العامّ وإن علمنا بأنّه لو فرض في أفراد العامّ من هو فاسق لا يريد إكرامه. فعلى الأوّل : لا وجه لتحكيم العام ، لما عرفت في الهداية السابقة ، وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظيّة. وعلى الثاني : يجب تحكيم العامّ وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللبيّة. والذي يقضي بذلك أمران :

الأوّل : أنّه لا إشكال في أنّه يجب ترتيب الحكم فيما لو علمنا بعدم ما هو المخصّص واقعا ، وكذا فيما لو شكّ فيه لملازمته لأصل موضوعيّ به يرتفع الشكّ ، وهو أصالة عدم كونه فاسقا. ولا يرد فيه ما أوردناه في القسم الأوّل : من أنّه بدون الحالة السابقة لا دليل على اعتبار الأصل ومعها يخرج عن عنوان البحث.

ص: 143

وتوضيحه : أنّ أصالة عدم وجود الفاسق الأزلي يكفي في المقام بعد إحراز عنوان العامّ في الفرد المشكوك ، ولا يكفي في القسم الأوّل ، لأنّ مجرّد عدم إحراز وجود الفاسق بالأصل لا يجوب إحراز ما هو الموضوع في الحكم من عنوان العامّ مع ما هو ضدّ لعنوان المخصّص.

وفيه أوّلا : إن اريد من استصحاب عدم الفاسق إثبات أنّ المشكوك ليس فاسقا ، فهو ممّا لا تعويل عليه. وإن اريد استصحابه بدون ذلك فالشكّ في محلّه ، فلا وجه في تحكيم العامّ فيه. وإن اريد استصحاب عدم الفسق في هذا المشكوك الخاصّ ، ففيه أنّ هذا الفرد متى يكون لا فاسقا حتى يستصحب؟

وثانيا : أنّ الحكم في القسم الأوّل ربما يترتّب على نفس عدم الفاسق ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء العدول » مضافا إلى أنّ هذا الوجه لو تمّ لم يكن تحكيما للعامّ كما هو المراد ، بل لو قيل : إنّ العامّ أيضا مجمل في المقام لم يكن كذبا.

الثاني : أنّ الرجوع إلى العامّ في المقام يوجب رفع الشكّ الموضوعي المفروض في المشكوك. بيان ذلك : أنّ التعبير بالعموم من دون أخذ عنوان آخر يكشف من أنّ المتكلّم لا يرى في أفراد ذلك العامّ ما يصلح لمعارضة العامّ ، وإلاّ كان عليه التخصيص بغيره ، فالخطاب المنفصل لبيان الحكم إنّما يستفاد منه بيان الموضوع أيضا ولو بملاحظة أصالة عدم التخصيص ، وكلّ من يجب إكرامه ليس بفاسق ، لما قد فرضنا أنّ المولى لا يريد إكرام الفاسق ، فينتج أنّ زيدا ليس بفاسق ، فالتمسّك بالعامّ لا يحتاج إلى رفع الشكّ ، بل بالعموم يستكشف واقع المشكوك فيه ، ومن هذا القبيل التمسّك بعموم ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) لعصمة

ص: 144


1- البقرة : 124.

النبي صلى اللّه عليه وآله والتمسّك بقوله : « اللّهم العن بني اميّة قاطبة » (1) على عدم وجاهة واحد منهم - لعنهم اللّه - وأمثال هذه التمسّكات في كلمات العلماء كثيرة ، بل العرف أيضا شاهد على ذلك ، كما يلاحظ في كثير من محاوراتهم ، كما إذا أمر المولى عبده بإتيان كلّ بطيخ في بيته مع العلم بأنّه لا يريد الفاسد منه ، أو أمر المولى بإكرام جيرانه عموما مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه يستكشف من الأوّل أنّ المولى لا يعتقد فسادا فيما هو في بيته من البطّيخ ، ومن الثاني أنّه لا يرى من هو عدوّ في جيرانه. ولعلّه ظاهر ، وإنّما الإشكال في تشخيص مورد القسمين ، وبيان ما هو المعيار في تمييز أحدهما عن الآخر. ولعلّ ما أخذناه في عنوان الهداية يوجب التمييز في الأغلب.

فإن قيل : إذا علمنا بأنّ العداوة مانعة عن اقتضاء عنوان العامّ للحكم ، فلا فرق بين التصريح بالتخصيص كما في القسم الأوّل وبين غيره كما فيما نحن فيه ، لظهور أنّ الحكم إنّما يلحق موضوعه وبعد العلم بالممانعة نشكّ في ثبوت الموضوع كما قرّر مفصّلا.

قلنا : لا نسلّم مداخلة العداوة في الموضوع ما لم يصرّح بالتخصيص ، غاية الأمر أنّا نعلم بملازمة بين العداوة وبين عدم الإكرام ، وذلك لا يضرّ التمسّك بالعامّ بل يؤكّده ، حيث إنّا نستكشف من ثبوت الإكرام الملازم لعدم العداوة عدم كونه عدوّا كما هو الشأن في جميع ضروب الاستدلال.

فإن قلت : إنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لم يعلم بوجود المخصّص في الخارج أصلا ، وأمّا إذا علم بوجوده ولو واحدا ، فيكفي في أخذه عنوانا والحكم بالتنويع.

ص: 145


1- الوارد في زيارة عاشوراء ، انظر البحار 101 : 293.

قلت : لا فرق في ذلك بين العلم بوجوده وبين عدمه ، إذ المدار على الاستكشاف المذكور لجريان أصالة عدم التخصيص ، فكما أنّه لو شكّ ابتداء في تخصيص العامّ بفرد بعد العلم بتخصيصه بفرد آخر يجب التمسّك بالعموم ولا ينافيه العلم بتخصيصه بالنسبة إلى فرد غيره ، فكذا في المقام.

وبالجملة ، فملاك الأمر في المقام على تشخيص الموضوع ، ولا تفاوت فيه بين أقسامه وأحواله.

هذا كلّه فيما إذا كان أخذ عنوان المخصّص قيدا في موضوع الحكم ممكنا وأمرا معقولا ، كما عرفت من الأمثلة المتقدّمة. وأمّا ما لا يمكن أخذه في الموضوع ولا يعقل ذلك فيه ، فلا ينبغي الإشكال في أنّه يؤخذ بالعموم.

فتوضيح المطلب بأن يقال : إنّ العلم بعدم إرادة المولى بعض ما يلاحظ كونه فردا عند إيراده عنوان العامّ على وجهين :

أحدهما : ما يمكن اعتباره في الموضوع كالجار الصديق والعالم العادل ونحو ذلك.

وثانيهما : ما لا يمكن ذلك فيه ولا يعقل اعتباره فيه ، كما إذا كان ذلك الوصف منتزعا من مجرّد إرادة المولى المتعلّقة بما هو المراد وعدم إرادته لما ليس مرادا كالصحّة والفساد سواء كانت في العبادات أو في المعاملات ، فإنّهما وصفان اعتباريّان منتزعان من تعلّق إرادة المولى بما هو المقصود وعدمه في غيره ، فهما إنّما يعتبران في محلّهما بعد ملاحظة الأمر والجعل ، فلا يعقل اعتبارهما في متعلّق الأمر والجعل. وعلى الأوّل : فقد عرفت الكلام فيه بما لا مزيد عليه. وعلى الثاني : فالتمسّك بالعموم فيه كاد أن يكون ملحقا بالضروريّات ، فإذا شككنا في أنّ عتق الرقبة الكافرة هل هو صحيح أو لا؟ يجب الأخذ بالعموم أو الإطلاق ، ولا سبيل للقول بأنّا نعلم بأنّ غير الصحيح من العتق غير مراد للمولى والشكّ إنّما

ص: 146

هو في ذلك ، فمن حاول التمسّك بالعموم لا بدّ له أوّلا من إثبات الصحّة ثمّ بعد ذلك يتمسّك بالعموم ، فإنّ ذلك باطل جدّا ، لأنّ الصحّة ليست إلاّ ما ينتزع من المأمور به ، والعموم يفيد كونه مأمورا به فيكون صحيحا. ولا يعقل اعتبار الصحّة في المأمور به ، لما قد نبّهنا عليه في محلّه ، فلا يجب إحرازه قبل التمسّك على تقدير لزوم إحراز كلّ ما هو لازم للموضوع أيضا.

وعلى هذا جرى ديدن العلماء في التمسّك بالعمومات والإطلاقات في جميع أبواب العبادات والمعاملات من الأنكحة والبيوع وغيرها على وجه لا يحسن إنكاره من المكابر أيضا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما أفاده في الحدائق - على ما حكي - : من أنّ إمضاء الشارع إنّما يتعلّق بالعقد الصحيح الجامع للشرائط والأجزاء الواقعيّة المعتبرة عنده ، دون الفاسد والفاقد لبعضها ، فإذا شكّ في صحة العقد وفساده ، فلا بدّ أوّلا من إثبات صحّته بمعنى كونه تام الأجزاء والشرائط ثمّ الاستناد إلى العموم المزبور في الصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، بحيث إذا لم يحرز ذلك سقط اعتبار ذلك العموم هنا.

ومن هذا القبيل اعتراض بعض القائلين بوضع أسماء العبادات للصحيحة على من زعم أنّها موضوعة للأعمّ : بأنّه لا وجه للتمسّك بالإطلاق على تقديره أيضا ، للعلم بأنّ الشارع لا يريد منها إلاّ الصحيحة ، فلا بدّ من إحراز صحّتها (1).

أقول : ولعمري إنّ ذلك في غاية السقوط جدّا ، ومع ذلك أولى ممّا ذكره في الحدائق ، لاعترافه بسقوط الإطلاق على هذا الاعتبار الفاسد عن الاعتبار ، بخلافه حيث إنّه يظهر من قوله : « ثم الاستناد إلى العموم في الصحّة بمعنى ترتّب الأثر » أنّه بعد متمسّك ومستدلّ بالإطلاق.

ص: 147


1- انظر الفصول : 49 ، وضوابط الأصول : 28.

وكيف كان لا وجه للتردّد في أمثال هذه المطالب الواضحة وإن صعب مأخذه بواسطة عدم التدرّب في كيفيّة المأخذ ، ولقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الصحيح والأعمّ فراجعه.

تنبيهات :
الأوّل :

أنّه يظهر من بعضهم التمسّك بالعمومات في ما إذا شكّ في فرد من غير جهة العموم ، كما إذا شكّ في صحّة الغسل أو الوضوء ، بمائع مضاف فيستكشف صحّته بعموم قوله : « أوفوا بالنذر » إذا وقع متعلّقا للنذر ، فيقال : إنّ هذا الفرد من الوضوء يجب الوفاء به ، لعموم قوله : « أوفوا بالنذر » وكلّ ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحا ، فيجب أن يكون الوضوء صحيحا ، أمّا الصغرى فبالعموم وأمّا الكبرى فللقطع بأنّ ما ليس صحيحا لا يجب الوفاء به.

وقد شاع التمسّك بمثل ذلك في كلمات بعضهم (1) ، كما لا يخفى على المتتبّع. وهو فاسد جدّا.

أمّا إجمالا : فلأنّ النذر وأمثاله من العناوين الثانوية التي لا ترد إلاّ على محل يعلم قبوله له ، ولا يمكن استكشاف ذلك.

وأمّا تفصيلا : فلأنّ الأحكام الواردة في الشريعة على ضربين :

أحدهما : ما لا تؤخذ ضدّه في موضوع ذلك الحكم كإباحة السكّر وحرمة الخمر ووجوب الصلاة ونحوها ، فإنّه لا يعقل القول بأنّه يباح السكّر

ص: 148


1- لم نعثر عليه بعد الفحص التام.

الذي ليس بحرام ، فإنّه في مقام إنشاء الإباحة التي في عرض الحرمة. نعم ، يمكن تقييد موضوعه بأمر ذلك ليوجب (1) الحرمة كأكل المسكر المضرّ مثلا.

وثانيهما : ما يؤخذ في موضوعه أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّلية ، كوجوب إطاعة الوالدين في الامور المباحة أو الغير المحرّمة ، وكإمضاء وصايا الميّت في الامور الغير المحرّمة ، وكإجابة الأخ المؤمن في الامور المباحة.

وقد اصطلحنا على تسمية الأوّل بالعناوين الأوّليّة والثاني بالعناوين الثانوية ، فموضوع هذه الأحكام إنّما اخذ فيه الجواز وليس الجواز ما يتفرّع على وجوب النذر حتّى يمكن استكشافه بالعموم ، بل يجب أوّلا إحراز الجواز مع قطع النظر عن لحوق هذه الأحكام للموضوع ، ثمّ بعد ذلك التمسّك بالعموم في وجوب ترتيب الآثار. ولو صحّ التمسّك بالعموم في مثل المقام لم يبق لنا مشكوك من الامور إلاّ ويمكن استكشافه من العموم ، كما إذا شكّ في جواز شرب مائع فيتمسّك بأدلّة استحباب قضاء الحاجة ويشرب فيما لو أراده مؤمن. وهو باطل جدّا ، فتأمّل كيلا يختلط عليك الأمر في الموارد المتقدّمة ، فإنّها بعد تباعدها متقاربة جدّا.

الثاني :

إذا علمنا أنّ زيدا مثلا ممّن لا يجب إكرامه وشككنا في أنّه عالم وخصّص في هذا المورد أو ليس عالما فلا تخصيص ، وأصالة عدم التخصيص تقول : إنّه

ص: 149


1- في ظاهر ( ع ) : « لموجب » والعبارة على كلا التقديرين مشكلة.

ليس بعالم. بل ولو تردّد زيد بين شخصين : أحدهما عالم ، والآخر جاهل ، وسمعنا قول القائل : « لا تكرم زيدا » نحكم بأنّه زيد الجاهل ، لأصالة عدم التخصيص ، فنقول : إنّ كلّ عالم يجب إكرامه بالعموم ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كلّ من لم يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب.

وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهيّة ، كاستدلالهم على طهارة ماء الغسالة على أنّها لا ينجّس المحلّ ، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا : كلّ نجس ينجّس.

الثالث :

الحكم المتعلّق بالعامّ إذا علّل بعلّة فإن علمنا بعدم المطابقة عموما وخصوصا فالحكم يدور مدار العلّة في التعميم والتخصيص ، كما إذا قيل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » فيخصّ بالحامض منه ويعمّ غير الرمّان أيضا ولا مجال لتوهّم كشف الحموضة من العموم في المقام. وأمّا إذا لم يعلم بالمطابقة فبأصالة عدم التخصيص يحكم بالمطابقة ، فكلّ رمّان يحكم بحموضته ، وذلك ظاهر في الجملة.

ولا بدّ من التأمّل في الموارد كيلا يشتبه الأمر فيها ، فإنّ تشخيصها موكول إلى نظر آخر. واللّه الهادي.

ص: 150

هداية

اشارة

إجمال المخصّص يسري إلى العامّ فيوجب إجماله عند أكثر المحقّقين ، بل نفى الخلاف فيه جماعة (1) وادّعى بعضهم الإجماع صريحا (2).

وينبغي أن يكون مرادهم من سراية الإجمال أنّه لا يؤخذ بعمومه كما يؤخذ به فيما إذا لم يكن مجملا ، وليس مرادهم سقوطه عن الاعتبار بالمرّة فلا يستفاد منه شيء بوجه من الوجوه ، ولعلّه يشعر بذلك تصريح جماعة بسقوطه من جهة إجماله (3) ، فلو كان مبيّنا من جهة اخرى يلزم الأخذ ، لوجود المقتضي وانتفاء المانع.

ولا فرق في جهة البيان بين أن يكون المبيّن أمرا معلوما من جميع الجهات كما إذا قيل : « اقتلوا الكفّار إلاّ بعض اليهود » فإنّ غير اليهود ممّا يجب الأخذ فيه بعموم العامّ فيهم من دون حاجة إلى أمر آخر - كما في جميع العمومات والمطلقات - وبين أن يكون المبيّن أمرا مجملا كأن يعلم بالتكليف مجملا في مورد العامّ ، كما إذا قيل : « يجب الاجتناب من هذه الآنية إلاّ بعضها » فإنّه صريح في ثبوت التكليف إجمالا فيها وإن لم يعلم المكلّف به شخصا ،

ص: 151


1- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 265 ، وصاحب الفصول في الفصول : 199 ، والكلباسي في الإشارات ، الورقة : 54 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 211.
2- ادّعاه الكلباسي في الإشارات.
3- صرّح به المحقّق القمّي في القوانين ، ومثله صاحب الفصول والضوابط.

فلا بدّ من الأخذ بالمعلوم ، فإن اقتضى العلم الإجمالي ثبوت التكليف في الجميع - كما هو التحقيق في مورد الشبهة المحصورة - فهو وإلاّ فلا بدّ من العمل بما يقتضيه الاصول في ذلك المورد.

وبالجملة ، فالمراد من نفي الحجّيّة في العامّ المخصّص بالمجمل عدم الأخذ به في القدر الذي لا يمكن الاستكشاف. وأمّا ما يمكن استكشافه تفصيلا كما في قولك : « أكرم العلماء إلاّ بعض النحويّين » إذا كان البعض معيّنا عنده كوجوب (1) إكرام غير النحويّين ، فلا إشكال عندهم في اعتباره. أو إجمالا كوجوب إكرام بعض النحويّين في المثال المذكور ، ثم الأخذ بما يقتضيه القواعد المقرّرة في أمثال المقام : من لزوم الاحتياط في بعض الموارد والتخيير في آخر ، أو الرجوع إلى البراءة كما هو غير خفيّ على أحد.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي أو مجاز ، فإنّ التكليف التفصيلي ممّا لا يمكن استفادته منه ، والإجمالي ما (2) لا مانع من استفادته ، لما قرّرنا : من أنّ المجاز في العامّ المخصّص ليس على حدّ سائر المجازات التي على تقدير تعذّر الحقيقة وتعدّدها يصير اللفظ مجملا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد يفصّل في المقام - كما في المناهج - من أنّ اختيار الجملة (3) فيما إذا كان العامّ المخصّص حقيقة ، وعدمها إذا كان مجازا (4) وبيّن الحجيّة على الأوّل بما حاصله يرجع إلى الأخذ بما يستفاد من العامّ على وجه الإجمال ، وعدمها على الثاني بعدم ظهوره في شيء من المراتب المجازية.

ص: 152


1- في ( ط ) : « وهو وجوب ».
2- كذا ، والظاهر : ممّا.
3- كذا ، والصحيح : من اختيار الحجّية.
4- المناهج : 107.

وجه الفساد أوّلا : أنّه لم يظهر من القائل بالإجمال نفي الحكم الإجمالي المستفاد من الخطاب المجمل ، كيف وقد وضعوا لذلك بابا على حدة.

وثانيا : أنّه على تقدير المجازيّة أيضا يجب الأخذ بما هو المعلوم إجمالا ، لما عرفت من الفرق بين المجاز اللازم في المقام على تقدير (1) المجازية وبين غيره ، كما أشرنا إليه.

ثمّ إنّ في كلامه مواقع للنظر يطّلع عليها الخبير بموارد الكلام ، ومن أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إليه ، ونحن لا نطيل الكلام بذكره ، فراجعه.

ثم اعلم أنّ الإجمال على قسمين :

أحدهما : أن يكون المراد مردّدا بين المتباينين ، كقولك : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » مع اشتراكه بين آحاد من العامّ.

الثاني : أن يكون مردّدا بين الأقل والأكثر وهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون الأقلّ داخلا في الأكثر ويكون دخوله في الباقي معلوما كقولك : « أكرم العلماء العدول » وشكّ في العدالة هل هي الملكة أو حسن الظاهر؟

فصاحب الملكة دخوله في المقام معلوم. أو يكون دخوله في المخصّص معلوما كقولك : « أكرم العلماء ولا تكرّم الفسّاق منهم » وشكّ في معنى الفاسق هل هو مرتكب الكبائر فقط أو يعمّه ومرتكب الصغائر فمرتكب الكبائر دخوله في المخصّص قطعي والشكّ إنّما هو في الزائد.

الثاني : أن لا يكون الأقلّ داخلا تحت الأكثر ، كقولك : « أكرم العلماء إلاّ الزيدين » وتردّد الأمر بين أن يراد من المخصّص فردان من العلماء لتسمية كلّ منهما زيدا أو فردا واحدا مسمّى بزيدين.

ص: 153


1- في ( ع ) : « تقرير ».

وعلى التقادير : المخصّص إمّا أن يكون متّصلا كالشرط والغاية وبدل البعض والصفة والاستثناء - على تأمّل فيه كما ستعرف الوجه فيه - أو منفصلا ، والثاني ظاهر ، فهذه صور ستّة.

والحكم بالإجمال في صورة دوران الأمر بين المتباينين في محلّه سواء كان التخصيص بالمتّصل أو بالمنفصل. والوجه فيه ظاهر ، حيث إنّ اللفظ لا يكون حاملا للمكلّف إلاّ بعد العلم أو الظنّ المعتبر بما اريد منه ، والمفروض انتفاؤه ؛ وكذا في صورة دوران الأمر بين الأقلّ الذي لا يشمله الأكثر سواء كان المخصّص متّصلا أو منفصلا ، لعدم ما يوجب البيان ، لا من اللفظ ولا من غيره. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فغاية ما يمكن أن يقال هو : أنّ الأصل عدم خروج الأكثر ، وهو معارض بأنّ الأصل عدم خروج الأقلّ ، فإنّ الأقلّ حينئذ بمنزلة المتباينين.

لا يقال : إنّ خروج الواحد يقينيّ فلا يجري فيه الأصل ، فأصالة عدم خروج الأكثر سليمة عن المعارض.

لأنّا نقول : إنّ المعلوم خروجه هو الواحد مفهوما ، والعلم بخروجه غير مجد بعد ابتلاء الأصل الجاري في المصداق بالمعارض ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الحكم بخروج فردين ولو كانا متغايرين يشتمل على زيادة تخصيص في العامّ ، بخلاف الحكم بخروج فرد واحد ، فهو مخالف لأصل واحد ، والأوّل مخالف لأصلين.

قلت : لو سلّم ذلك يجدي فيما لو قلنا بأنّ توحيد الاصول يوجب الترجيح ، ونحن قد بيّنا في محلّه : أنّ ذلك ممّا لا يوجب له (1) في غير الأدلّة الاجتهادية. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّ الاصول اللفظيّة أيضا منها ، لابتنائها على الظنون النوعيّة.

ص: 154


1- كذا ، والظاهر : يوجبه.

وأمّا إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر مع شمول الأكثر للأقل ، ففيما إذا كان التخصيص بالمتّصل - كالشرط والغاية والصفة وبدل البعض - فالظاهر أنّ الإجمال أيضا في محلّه لسريان الإجمال في العامّ ، فيسقط عن الاعتبار بالنسبة إلى تلك الأفراد المشكوكة فيها ، فيرجع فيها إلى الاصول. وأمّا غيرها فالعامّ فيها مبيّن لا إجمال فيها ، لأنّ العدالة في قولك : « أكرم العلماء العدول » من القيود المعتبرة في الموضوع ، وإجمال المقيّد بعد إجمال القيد من الامور الواضحة ، فكان الموضوع في المقام هو نفس العدالة ، كما إذا قيل : « أكرم عدول العلماء » مع اشتباهها بين الوجهين.

وأمّا إذا كان التخصيص بالمنفصل كقولك : « أكرم العلماء » ثمّ قولك : « لا تكرم فسّاق العلماء » فمن القريب جدّا عدم سراية إجمال المخصّص إلى العامّ فيؤخذ في المعلوم المتيقّن المخصّص وهو مرتكب الكبائر ، ويدفع الزائد بأصالة عدم التخصيص ، فيؤخذ فيه بالعموم ، فلا وجه للرجوع إلى الاصول العمليّة. وإن شئت تقول : إنّ خروج أهل الكبائر بواسطة القرينة معلوم وأمّا خروج غيرهم فغير معلوم ، والأصل عدم الخروج.

والفرق بينه وبين المتّصل : هو أنّ العامّ في المتّصل لم يتمّ دلالته وظهوره على الأفراد المندرجة فيه قبل الإتيان بالقيد ، فإنّ المتكلّم ما لم ينته كلامه فكلّ قيد يأتي به فهو مأخوذ في موضوعه أو محموله. بخلافه في المنفصل ، فإنّ التخصيص فيه لأجل التعارض كسائر المعارضات بعد تماميّة الدلالة في العام ، فكما إذا قامت قرينة على صرف الظاهر يجب التعويل عليه ، وإن لم نعلم بما هو القرينة فالأصل عدمه (1).

ص: 155


1- العبارة من قوله : « فكما إذا قامت ... الخ » مختلّة غير واضحة.

لا يقال : إنّ الشكّ في المقام إنّما هو في كون الشيء قرينة ، وهذا ممّا لا يجري فيه الأصل ، إذ لم يعلم أنّه لا يكون قرينة في زمان حتّى يستصحب.

لأنّا نقول : أصالة عدم وجود القرينة مطلقا تجدي في المقام بعد ما عرفت من أنّ العامّ ظاهر في جميع المراتب ، وعدم ظهوره في البعض محتاج إلى القرينة ، فأصالة عدم القرينة مجدية. وبالجملة ، لا يبعد الفرق المذكور ، كما لعلّه يساعد عليه العرف.

هذا كلّه في غير الاستثناء ، وأمّا في الاستثناء ففيه إشكال ، من حيث إنّه لم يظهر كونه من المخصّصات المتّصلة أو غيرها ، ولا يبعد دعوى الاتّصال فيه أيضا ، فيلحقه حكمه.

تذنيب :

إذا ورد مخصّصان متعارضان ، كما إذا علمنا بتخصيص العامّ بأحدهما يقينا وعدم تخصيصه بالآخر أيضا ، فإن أمكن الترجيح فهو ، وإلاّ فالحكم فيه ما عرفت في المخصّص المجمل ، فيجب الرجوع في محلّ الاشتباه إلى الاصول إن قلنا به ، وإلاّ فيتخيّر بينهما ، فتدبّر. واللّه الهادي.

ص: 156

هداية

اشارة

الحقّ كما عليه المحقّقون عدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص. وربّما نفي الخلاف فيه كما عن الغزالي (1) والآمدي (2) ، بل ادّعي عليه الإجماع كما عن النهاية (3). وحكي عن ظاهر التهذيب اختيار الجواز (4) ، وتبعه العميدي (5) والمدقّق الشيرواني (6) وجماعة من الأخباريّة ، منهم صاحب الوافية (7) وشارحها (8) ، ومال إليه بعض الأفاضل في المناهج (9). وحكى من بعضهم : أنّ مراد القائل بالجواز وجوب الاعتقاد بالعموم واقعا حتّى يظهر المخصّص فيحكم بكونه ناسخا (10).

ص: 157


1- المستصفى 2 : 157.
2- الإحكام 3 : 56.
3- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 195.
4- حكاه في المعالم : 118 ، والمناهج : 110 ، وانظر التهذيب : 138 ، وفيه : ولا يجب في الاستدلال بالعام استقصاء البحث في طلب المخصص.
5- انظر منية اللبيب : 168 و 209.
6- حكاه النراقي والسيّد المجاهد في المناهج : 110 ، والمفاتيح : 187 عن حاشيته على المعالم. وانظر حاشيته المطبوعة في هامش المعالم :6. 125.
7- انظر الوافية : 130.
8- انظر شرح الوافية ( مخطوط ) : 122.
9- المناهج : 110.
10- حكاه في المناهج (110) عن مذهب أبي حنيفة والكرخي.

اللّهم إلاّ أن يكون مرادا لبعض من (1) لم نقف على كلامه. ونقل التفصيل بين ضيق الوقت فالجواز وبين عدمه (2)(3) فالمنع عن بعض (4). وقيل : إنّه مبنيّ على (5) جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب (6) ، وهو على تقدير صحّته ممّا ينادي كلام المجوّز بخلافه.

وكيف كان ، فمن اللازم تقديم مقدّمة يعلم فيها أمران :

الأوّل : أنّه صرّح شيخنا البهائي وغيره على أنّ النزاع في هذه المسألة من جزئيّات النزاع في جواز العمل بالأدلّة الشرعيّة قبل الفحص عن المعارض ولو كان الدليلان متباينين ، وأمّا الوجه في إفرادهم هذا نظرا إلى أنّ وجود المعارض هنا أقوى (7).

وقد يتوهّم أنّ مرجع النزاع إلى جواز العمل بأصالة الحقيقة قبل الفحص عن القرينة انظر الفصول : 200.. وليس كذلك لأنّ الاصول المعمولة في الألفاظ من تشخيص أوضاعها ومراداتها لم يعهد من أحد الخلاف فيه ، ولم يظهر من العرف توقّف في العمل بها قبل الفحص ، بل وذلك ديدنهم على وجه لا يقبل الإنكار.

ص: 158


1- في ( ع ) : « ممّن ».
2- في ( ع ) : « غيره ».
3- لم نعثر عليه بعينه ، نعم قال الكلباسي في الإشارات : إن الفحص في المضيّق قبل الحكم ، ونقل مثله السيّد المجاهد في المفاتيح عن جدّه.
4- انظر المناهج : 110.
5- في ( ع ) زيادة : « عدم ».
6- انظر المناهج : 110.
7- الزبدة : 97 - 98.

وقد يظهر من بعضهم (1) : أنّ الخلاف إنّما في حجّيّة العامّ قبل الفحص ، فقال في مقام استنهاض الحجّة على ما اختاره من العدم بعد دعوى العلم الإجمالي أنّه : لا دليل على حجّيّة تلك العمومات مطلقا حتى عند عدم البحث.

وكلامه ظاهر في نفي الدليل على اعتبار أصالة الحقيقة عند العلم الإجمالي. ثم ساق الكلام - إلى أن قال - وهذا الدليل بعينه يجري في سائر الأدلّة الظنّيّة ، سواء كانت ظنّيّتها من حيث السند كخبر الواحد ، أو من حيث المتن كالأمر والنهي والمطلق وغيرها من الظواهر اللفظيّة.

أقول : ولعلّه إلى مثل ذلك ينظر المتمسّك بإطلاق أدلّة الحجّية كما عن بعض المجوّزين (2) وإلاّ فلا وجه لكلّ منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ هذا النزاع بعد الفراغ عن الحجّية ، فإنّ ترك الأخذ بالدليل بواسطة احتمال ما زاحمه من سنخه لا ينافي الحجّيّة بل تؤكّدها.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا كلام في حجّية تلك الأدلّة على وجه الإطلاق حتّى يحتاج إثباته إلى التمسّك بالإطلاق ، وإنّما الكلام في وجود المانع عن العمل بهذه الأدلّة الثابتة حجّيّتها سندا كما في المتباينين ، ودلالة كما في العموم والخصوص ، فالمجوّز إنّما يحكم بالجواز لعدم ما يصلح للمنع عنده بعد إحراز المقتضي ، بخلاف المانع فإنّه يعتقد وجود مانع من ذلك.

فإن قلت : إنّ تجويز النزاع في العامّ والخاصّ هدم لما قرّرت : من أنّ الاصول المعمولة في الألفاظ لم يعهد منهم الخلاف فيه.

قلت : أوّلا : إنّ ذلك مع قطع النظر عمّا يوجب المنع كما هو مقصود المانع. وثانيا : سلّمنا الاتّفاق على وجه الإطلاق ، لكن نقول : إنّ المخصّصات المنفصلة

ص: 159


1- وهو صاحب الفصول في الفصول : 200.
2- لم نعثر عليه.

عن العامّ بمنزلة المعارضات ، فليست من قبيل قرائن المجاز ؛ وذلك لأنّ القرائن المتعارفة إذا اطّلع عليها المخاطب فلا يتأمّل في الحكم بإرادة المتكلّم خلاف ظاهر اللفظ ، بخلاف المقام فإنّ الحكم بقرينيّة الخاصّ للعامّ في المنفصل بهذه المثابة ، سيّما في الأخبار التي بأيدينا اليوم ، فإنّه قد يكون العامّ واردا عن معصوم والخاصّ عن معصوم آخر ، والحكم بكونه قرينة يتوقّف على كون المتكلّم بهما بمنزلة متكلّم واحد.

وبالجملة ، فالفرق ظاهر بين المخصّص المتّصل وبين المنفصل ، فدعوى الاتّفاق على العمل بالاصول المعمولة في الألفاظ إنّما تتمّ - على تقدير صحّتها على وجه الإطلاق - فيما إذا كان الشكّ في المخصّص المتّصل دون المنفصل ، لكونه - مع كونه من القرائن - معدودا في المعارضات عند العرف ، فتدبّر في المقام.

الثاني : قد يتوهّم أنّ الوجه في وجوب الفحص في المقام هو الوجه فيه عند إعمال الاصول العمليّة كالبراءة في الأحكام الشرعيّة.

ولعلّ المقامين متغايران ، حيث إنّ العمدة في وجوب الفحص عند العمل بالبراءة في الحكم الشرعي عدم جريان دليل البراءة عند عدم الفحص. أمّا العقل : فلانحصار المعذوريّة فيما إذا كان الجاهل متفحّصا عن الحكم ، ضرورة عدم معذوريّة غير المتفحّص مطلقا عند العقل ، ولذلك يحكم العقل بوجوب النظر في المعجزة. وأمّا النقل : فبعد مخالفته لما هو المستفاد من العقل وتسليم الإطلاق - كما في بعض الروايات (1) - فالإجماع واقع على وجوب تقييده بالفحص ، إذ لم

ص: 160


1- مثل كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ... والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا ، انظر الوسائل 2 : 1. الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.

نجد من يظهر منه الخلاف في وجوب الفحص في العمل بالبراءة فيترك التعويل على البراءة عند عدم الفحص لعدم المقتضي ، بخلاف المقام فإنّ المقتضي في المقام ممّا لا ينبغي الكلام فيه ، لظهور اعتبار العامّ سندا ودلالة ما لم يمنع منه مانع.

لا يقال : إنّ من جملة الأدلّة على وجوب الفحص عن الدليل عند العمل بالبراءة هو العلم الإجمالي في موارد الأصل ، لوجود العلم الإجمالي فيها بالتكليف ، وهذا الوجه بعينه موجود في المقام ، وقضيّة ذلك وجوب الفحص عن الحكم الواقعي وتحصيل التكاليف الواقعية عند الشكّ في المعارض ، فالمقامان من واد واحد.

لأنّا نقول : إن اريد من ذلك أنّ العامل بالعامّ قبل الفحص بمنزلة العامل بالبراءة قبله - كما يظهر ذلك من بعضهم - فهو غير سديد ، لظهور الفرق بينهما ، حيث إنّ العامل بالعامّ إنّما عوّل على دليل اجتهاديّ به يخرج الواقعة عن أطراف العلم الإجمالي المقتضي للتكليف المانع عن العمل بالبراءة. وإن اريد أنّ في المقام أيضا علما إجماليا بوجود المعارض فهو متين ، لكنّه لا يكون وجها لاتّحاد المقامين كما لا يخفى. وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّه يظهر من مطاوي كلماتهم وجوه من الدليل على المختار :

[ وجوه القول بعدم جواز الاخذ بالعامّ قبل الفحص : ]

الأوّل : ما قاله بعض الأعلام في الإشارات بعد ما نقله عن الوافية ، ومحصّله : أنّ إطاعة اللّه وإطاعة خلفائه واجبة وهي لا تتحقّق إلاّ بعد العلم بالمراد أو الظنّ ، وهو لا يحصل إلاّ بالفحص. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فللشكّ في صدق الإطاعة عند عدم العلم أو الظنّ بالمراد ، وأمّا الثالث فهو ظاهر أيضا (1).

ص: 161


1- الإشارات : 158.

واعترض عليه في الوافية : بمنع عدم حصول الظنّ في كلّ فرد ، قال : ولا ينافيه ظنّ أصل التخصيص ، لقلّة المخرج غالبا (1).

وظاهره : أنّ الظنّ بتخصيص العامّ لا يوجب عدم الظنّ في جميع الأفراد ؛ لأنّ الغالب في التخصيصات عدم خروج غالب الأفراد ، فإذا شكّ في فرد أنّه هل خصّص أو لا ، فبغلبة عدم تخصيص أغلب الأفراد في العمومات يحصل الظنّ بأنّ هذا العامّ ممّا لم يخصّص أغلب أفراده ، بل لو كان مخصّصا فالخارج هو غير الغالب ، ومنه يحصل الظنّ بعدم تخصيص هذا الفرد ، والظنّ بدخوله في العامّ يستلزم الظنّ بالإطاعة الواجبة.

ومنه يظهر فساد ما أورد عليه في الإشارات : من أنّه إذا قيل : « اقتلوا المشركين » إمّا أن يأتي بأقلّ الأفراد أو أكثرها أو الكلّ ، والأوّل لا يوجب الظنّ بالامتثال وهو ظاهر ، وكذا الأخير ، إذ المفروض العلم بوجود المخصّص في الجملة ، وأمّا الثاني فلبعد المطابقة.

وجه الفساد : أنّا نختار الثاني ، والظنّ بعدم الخروج في الفرد الملحق بالغالب يوجب الظنّ بالامتثال عقلا.

نعم ، يرد على الاستدلال : أنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بعد فرض العلم الإجمالي بوجود المعارض للعمومات ، وإلاّ فمع عدمه لا وجه لطرح أصالة عدم التخصيص ولو مع الظنّ بالتخصيص ، اللّهم إلاّ على القول باعتبار الظنّ الشخصي في تشخيص مراد اللافظ ، فإنّه لا وجه للتعويل على الأصل ما لم يفد الظنّ بعدم التخصيص.

والظاهر أنّ المستدلّ ممّن لا يرى ذلك ، فلا بدّ من الأخذ بالأصل في المقام ، وبذلك يحصل الإطاعة الواجبة إذ المدار في تشخيص الإطاعة هو

ص: 162


1- الوافية : 130.

الرجوع إلى العقلاء والعرف ، وبعد ما فرضنا من اعتبار أصالة العموم ولو عند عدم الظنّ عند العقلاء يصدق الإطاعة قطعا ، فلا موجب للفحص.

الثاني : أنّه لا إشكال في أنّ الخاصّ أقوى من العامّ والعمل بأقوى الدليلين واجب إجماعا ونصّا (1) ، فيجب تحصيله ؛ لكونه من الواجبات المطلقة ، وهو المراد بالفحص.

وفيه : أنّه لا يجدي مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، لوجود الأقوى سندا كان أو دلالة ؛ لأنّ أصالة عدم المعارض لا مانع من جريانها في هذا المقام ، كما يظهر بملاحظة حال الموالي والعبيد في أمثال أوامرهم ونواهيهم.

الثالث : أنّه لا سبيل إلى تشخيص تخصيص (2) المراد من العامّ إلاّ بأصالة عدم التخصيص ، وهي موهونة في المقام لامور :

أحدها : ما أفاده في الزبدة ، من ابتناء تلك الاصول على الظنون الشخصيّة (3) ، كما هو ديدنه في مطلق الاستصحاب أيضا (4) ، على ما نبّهنا عليه في محلّه (5). وذلك على تقدير القول به لا وجه له ؛ لعدم حصول الظنّ الشخصي من الأصل المذكور على تقدير انتفاء العلم الإجمالي بوجود المخصّص ، فإنّ دعوى

ص: 163


1- لعله قصد بذلك الروايات العلاجية ، انظر الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.
2- كذا في ( ع ) ، ولم يرد « تشخيص » في ( ط ) ، والظاهر أنّ كلمة « التخصيص » فيهما زائدة.
3- الزبدة : 97.
4- الزبدة : 73.
5- انظر فرائد الاصول 3 : 21 - 22.

حصول الظنّ فعلا من الأصل في غير ما نحن فيه دونه بعد تساويهما من حيث وجود المقتضى وعدم المانع فيهما معا مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليه ؛ مضافا إلى أنّ المعنى أيضا فاسد ، لإطباق أهل اللسان على العمل بتلك الاصول ولو لم يحصل منها الظنّ.

إلاّ أنّ فيه إشكالا لو لم يكن تلك الاصول حجّة شرعيّة تعبّديّة - كما احتمله بعضهم (1) - وإن كان ضعيفا جدّا كما لا يخفى.

وجه الإشكال : أنّه لا يعقل اعتماد العقلاء على الشكّ إذا لم يكونوا متعبّدين ، لكونه ترجيحا بلا مرجّح ، بل لا يعقل الاعتماد على الظنّ من حيث هو ظنّ ما لم يفرض ما ينسدّ معه احتمال الخلاف ، كما لا يخفى على المتدبّر.

وثانيها : ما قد يستفاد من مطاوي كلمات بعضهم - كالمحقّق القمّي وغيره (2) - : من أنّه لا دليل على اعتبار تلك الاصول بالنسبة إلى غير المشافه أو من قصد تفهيمه باللفظ.

وتوضيحه : أنّ من أراد استكشاف مراد المتكلّم إمّا أن يكون مشافها ومخاطبا فعلا ، لا إشكال في استقرار السيرة وجريان العادة على التعويل على الاصول المعمولة في الألفاظ في هذا القسم كاستقرارها وجريانها فيما إذا كان مرادا بالاستفادة ومقصودا للمتكلّم وإن لم يكن مخاطبا فعليّا ومشافها ، كما هو الحال في الكتب المؤلّفة وما يرسم في سجّل الأوقاف والوصايا والأقارير ونحوها. والسرّ في ذلك بعد عدم احتمال السهو ونحوه في كلام الحكيم المطلق ، وندوره على وجه لا يعتنى به في كلام غيره ، وأنّ المتكلّم حيث علمنا بكونه في

ص: 164


1- لم نعثر عليه.
2- انظر القوانين 1 : 398 - 403 ، والمعالم : 193 - 194.

مقام الإفادة وعلمنا بكونه عالما بطرق التأدية واختلافها في مفادها ، فمتى حاول إفادة مطلب يجب عليه التعويل على ما هو المعهود في إفادة ذلك المطلب في عرفهم ، وإلاّ لم يكن في صدد الإفادة ، أو كان ولم يكن عالما بطريقها ، أو كان وكان مقصّرا في التأدية ناقضا لغرضه المنزّه عن جميع ذلك العقلاء ، فضلا عن ربّهم جلّ وعلا.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في اعتبار تلك الاصول وأنّها ليست من جهة الاستصحاب ، ولذلك لم ينكره من أنكره على وجه الإطلاق. وأنّه يندفع الإشكال الذي أشرنا إليه آنفا ، فإنّ الشكّ في وجود القرينة يرتفع بعد فرض المقدّمات المفروضة ، فتدبّر في المقام.

وإمّا أن لا يكون مشافها (1) ولا مرادا بالإفادة والاستفادة كما في الكتاب العزيز - بناء على ما زعمه بعضهم : من أنّه ليس من قبيل تأليف المؤلّفين - وكما في الكلام المسموع من وراء الجدار لمن هو غير مخاطب به وغير مراد بالإفادة ، ففي هذا القسم لا دليل على اعتبار الاصول المعمولة في الألفاظ في تشخيص مراداتها ، إذ لو فرضنا إهمال بعض ما يوجب خفاء المراد من اللفظ بالنسبة إلى ذلك الغير لم يلزم على المتكلّم قبيح.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول بأنّ حالنا في زماننا هذا حال من يريد استفادة المطالب من الكلام الذي لا يكون مخاطبا ولا مرادا باستفادته منه ، كما ستعرف. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلعدم ما يقضي بذلك ، وقد عرفت عدم اعتبار الأصل حينئذ ، فلا بدّ من تحصيل القطع بعدم المخصّص أو ما قام الإجماع على قيامه مقامه ، وهو الظنّ الحاصل بعد الفحص.

ص: 165


1- عطف على قوله : إمّا أن يكون مشافها.

وفيه أوّلا : أنّ دعوى الإجماع على اعتبار الظنّ بعدم المخصّص على تقدير عدم اعتبار الأصل اللفظي مجازفة صرفة. نعم ، لا كلام في العمل بالأصل بعد الفحص ، لكنّه ليس بناء العامل به على عدم اعتباره كما هو المفروض في الدليل ، بل المقصود - على ما يظهر منهم - جعل الأصل بعد الفحص مثل الأصل قبل الفحص في كلام قصد إفهامه للغير مخاطبا أو غيره. وبعبارة اخرى ظاهرة : أنّ اعتبار الأصل على ما ذكره مبنيّ على أصالة حجّيّة الظنّ المطلق ، إذ بدونه لا وجه للعمل بالأصل بعد الفحص أيضا ما لم يحصل منه القطع.

وثانيا : أنّ مدار العرف على الأخذ بالاصول المذكورة ولو في مقام لم يقصد إفهام العامل بتلك الاصول. ولعلّ الوجه في ذلك : أنّ الأغلب في المحاورات عدم التفرقة بين القسمين ، وأنّ من المشاهد عدم اختلاف حال المتكلّم في التعبير عن مراده عند إرادة إفهام غير المخاطب أيضا وعدمها ، فإنّه يبالغ في ما يفيد مقصوده من غير ملاحظة الفرق في المقامات. وما ذكره وإن كان ممكنا إلاّ أنّ الواقع على خلافه على وجه لا يعمل بذلك الاحتمال عندهم ، مثل احتمال السهو والنسيان والخطاء ونحوه. ويشهد بذلك ملاحظة حال السلف ، فإنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانوا إذا سمعوا خبرا من ثقة أو استند أحد المتخاصمين إلى ظاهر رواية اعتمدوا عليه وسكتوا وأخذوا بظاهر ما يقتضيه ظاهرها مثل المشافهين ، بل وملاحظة العرف أيضا يشهد بذلك ، فإنّه لا يتوقّف أحد في الشهادة فيما لو سمع من وراء الجدار إقرار زيد لعمرو بشيء. وقد أبطلنا التفصيل المذكور في محلّه بما لا مزيد عليه.

وثالثها : أنّ الأخذ بأصالة عدم التخصيص إنّما يجب إذا كان ذكر العامّ وإرادة الخاصّ قبيحا. وهو ممنوع ، لاحتمال وجود مصلحة داعية على إيراد العامّ غير مقترن بما هو قرينة على المراد من العامّ ، فلا قبح في إغراء المخاطب

ص: 166

بالجهل. ومن هنا يظهر : أنّ إخفاء الحكم الواقعي ليس خلافا للطف الواجب على الحكيم ، كيف! وهو واقع جزما ، ضرورة أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما بيّنها الشارع الأقدس على وجه التدريج ، وكلّ من لاحظ الأحكام يعلم أنّ في بدء البعثة وابتداء التكليف لم يكن النبيّ صلى اللّه عليه وآله يبيّن جميع الأحكام الواقعيّة في الصلاة وغيرها من العبادات والمعاملات ، فيكون التكليف بالعمومات أحكاما ظاهريّة لمن لم يطّلع على المخصّص وأحكاما واقعيّة لمن اطّلع عليه ؛ ولذلك ترى أنّ العامّ إنّما ورد من النبيّ صلى اللّه عليه وآله والخاصّ من العسكري عليه السلام أو الهادي عليه السلام.

لا يقال : لعلّ العامّ الصادر كان مقترنا بقرينة يكشف عنها الخاصّ الصادر بعده.

لأنّا نقول : ذلك ممّا يقطع بفساده في جميع العمومات ، كما هو ظاهر على المتأمّل المنصف ، فلا وجه للأخذ بأصالة عدم التخصيص ، فإذا علمنا بالعامّ يجب في مورده الفحص عن المخصّص حتى يظهر التكليف الواقعيّ.

فإن قلت : هب أنّ العامّ يحتمل أن يكون حكما ظاهريّا لهم ، إلاّ أنّ قاعدة الاشتراك في التكليف تفيد لنا وجوب الأخذ بالعامّ ولو كان تكليفا ظاهريّا.

قلت : لم يثبت الاشتراك إلاّ في الأحكام الواقعيّة ، فلا دليل على الاشتراك مطلقا حتّى في الأحكام الظاهريّة.

وبالجملة ، فمن الجائز. بل من الواقع : أن يريد الشارع تعبّدهم بالحكم الظاهريّ لمصلحة تدعو إليه ، وحينئذ لا وجه للأخذ بالأصل ، بل ولو مع العلم بعدم المخصّص هناك أيضا ما لم يثبت كون العام مفيدا للحكم الواقعي ، وهو موقوف بعد التعويل على الأصل اللفظيّ على أصل عمليّ ، وهو أصالة عدم جعل حكم آخر وعدم ورود خطاب غيره حتّى يكون العامّ مفيدا للحكم الواقعيّ. ولا شكّ في أنّ الاتّكال على الاصول العمليّة موقوف على الفحص إجماعا وقولا واحدا ؛ ولذلك لم يذهب وهم إلى الجواز هناك كما أشرنا إليه سابقا.

ص: 167

وفيه أوّلا : أنّ ذلك من قبيل الشبهة في مقابل الضرورة ، ضرورة استقرار السيرة على الأخذ بتلك الاصول. واحتمال كون المصلحة في الإخفاء ممّا لا وجه للاعتناء به ، إذ لا فرق في ذلك بين كلام الشارع وكلام غيره من العقلاء وأهل العرف ، فإنّ الإنصاف أعدل شاهد على أنّ المتداول عند أهل اللسان الأخذ بالعموم والبناء على أنّه الحكم الواقعي ما لم يظهر المخصّص. نعم بعد ظهور المخصّص يعلم أنّه كان حكما ظاهريّا ، لا أنّه قبل ظهوره يحكم بكونه من الأحكام الظاهريّة ، لعدم الاعتبار بذلك الاحتمال.

وثانيا : أنّ الفحص ممّا لا يثمر في المقام أيضا إلاّ بناء على أصالة حجّية الظنّ المطلق ، إلاّ أنّه موهون عند المحقّقين ، سيّما في الظنون اللفظيّة ، على ما نبّهنا عليه في محلّه بما لا مزيد عليه.

ورابعها - وهو العمدة - : أنّ العلم الإجمالي بورود معارضات كثيرة بين الأمارات الشرعيّة التي بأيدينا اليوم حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهيّة واستشعر اختلاف الأخبار ، والمنكر إنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان بذلك ، ولا يمكن إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي - كما قرّرنا في محلّه - فيسقط العمومات عن الحجّيّة ، للعلم بتخصيصها إجمالا عند عدم الفحص. وأمّا بعد الفحص فيستكشف الواقع ويعلم أطراف الشبهة تفصيلا بواسطة الفحص ، فلا يرد ما أوردناه على السابقين.

وتوضيحه : أنّ احتمال تخصيص العامّ تارة يكون بدئيّا غير مسبوق بالعلم الإجمالي ، واخرى يكون من حيث إنّه أحد أطراف المعلوم بالإجمال ، وقد يجتمع في عامّ واحد كلاهما ، كأن يكون محتمل التخصيص بدءا ومحتمله بواسطة سبق العلم الإجمالي. وارتفاع الاحتمال من جهة لا يلازم ارتفاعه من جهة اخرى ، كما أنّ إبقاءه من جهة لا يلازم إبقاء الاخرى ، كما هو ظاهر.

ص: 168

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ العمومات التي بأيدينا اليوم في الأخبار يحتمل تخصيصها من جهتين :

إحداهما : من حيث علمنا الإجمالي بوجود مخصّصات لها في الأخبار التي يمكن الوصول إليها في زماننا ، وغيرها من الأمارات الظنّية على تقدير القول بها.

وثانيتهما : من حيث احتمال ورود التخصيص عليه في الواقع مع عدم وصوله إلينا أيضا. والاحتمال الثاني بدئيّ يعمل في دفعه أصالة عدم التخصيص من دون معارض ، والاحتمال الأوّل بعد الفحص يستكشف واقعه ويعلم أنّه من العمومات التي خصّصت أو من غيرها ، إذ المفروض دعوى العلم الإجمالي فيما هو بأيدينا وما يمكن لنا الوصول إليها من المخصّصات. فالفحص من حيث تشخيص الواقع ، لا من حيث إجراء أصالة عدم التخصيص ، لأنّ الجهة البدئيّة غير محتاجة إلى الفحص ، والجهة المسبوقة بالعلم الإجمالي تصير معلوم التخصيص تارة ومعلوم العدم اخرى ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو من شعب العلم الإجمالي بمطلق التكاليف الشرعيّة التي تمنع عن الرجوع إلى الاصول في مواردها ، واحتمال ثبوت التكليف في موارد العامّ وأفراده إنّما هو بواسطة ذلك العلم الإجمالي ، وحكم ذلك العلم الإجمالي باق بعد الفحص ما لم يقطع بعدم المخصّص ، وقيام الظنّ مقامه يوجب التعويل على الظنّ المطلق ، كما عرفت فيما تقدّم.

قلت : إنّ العلم الإجمالي بثبوت مطلق التكاليف الذي أوجب الفحص عن مطلق الدليل يكفي في رفع حكمة الأخذ بظاهر العموم المعوّل عليه في الاصول ، وما هو المدّعى في المقام يغاير ذلك العلم الإجمالي ، ولا مدخل لأحدهما بالآخر وجودا وعدما ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 169

وخامسها : ما أشار إليه في المعالم بقوله : وقد شاع التخصيص حتى قيل : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » فصار احتمال ثبوته مساويا لاحتمال عدمه وتوقّف ترجيح أحد الأمرين على الفحص والتفتيش (1). ولعلّه يشير إلى ما صرّح به في الزبدة : من توقّف إعمال الأصل على الظنّ الشخصي (2) ، ولا يقول بكونه من المجاز المشهور حتّى يقال بأنّ الفحص لا يوجب الإجمال حينئذ ؛ مضافا إلى عدم نهوضه في العامّ المعلوم تخصيصه ، إذ لا غلبة.

وكيف كان ، فلا وجه له مع انتفاء العلم الإجمالي ، إذ لو قلنا بحجّيّة الأصل ولو مع عدم الظنّ فالأمر ظاهر. وأمّا لو قلنا بدورانها مدار الظنّ فلا مانع من حصوله بعد عدم العلم الإجمالي ، فدعوى الحصول في مثله دونه مكابرة.

الرابع من الأدلّة : دعوى الإجماع على الفحص والالتزام به. ويكشف عن تحقّقه أمران : أحدهما ما عرفت من نقله في لسان جماعة منهم العلاّمة (3).

وثانيهما ملاحظة حال الفقهاء خلفا عن سلف ، فإنّه قد استقرّ رأي أرباب الفتوى والاجتهاد على البحث والتفتيش في طلب الأدلّة عموما وخصوصا ، ومعارضاتها موافقا ومخالفا ، مجتهدا وأخباريّا ، والمنكر إنّما يناقض عمله قوله ، ولا يجوز عنده البدار بالفتوى بمجرّد عموم رواية أو آية دلّ على مطلوب ، كيف! ولو لم يكن كذلك لكان الواجب عليه الاقتصار في كلّ باب على عموم وارد فيه ، فيأخذ بإطلاق قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (4)

ص: 170


1- المعالم : 119.
2- الزبدة : 97.
3- تقدّم عنهم في الصفحة : 157.
4- الفرقان : 48.

ويفتي (1) بما يقتضيه ، فهل المجوّز [ إنّما ](2) يتفصّى في تحصيل الأحكام الشرعيّة بتحصيل المخصّصات والفحص عنها وترك التعويل على العموم (3) ، كلاّ! بل الإنصاف أنّ عدم اجترائه في الأخذ بالعمومات ابتداء وإتعاب نفسه في تحصيل المدارك بعد الأخذ بالعموم إنّما هو من أقوى الشواهد على أنّه لا يجوّز ذلك بحسب ما فطره اللّه عليه ، وإن كانت تلك الفطرة الإلهيّة قد اكتساها غواشي الأوهام في الظاهر ويعمل على غير شاكلتها في مقام الجدل ، وإن كان المجوّز مجترئا بالفتوى بمجرّد اطّلاعه على رواية من دون فحص ، وهل هذا إلاّ هرج ومرج وتغيّر في دين اللّه وتبديل لشريعة الرسول مع أنّه بالغ في حفظه ، فيا سبحان اللّه! كيف يمكن أن يقال : إنّ الفقيه إذا اطّلع على الفقيه يكتفي به عن الكافي ، وكيف يستغني في تهذيب المطلوب عن التهذيب؟ اللّهم إلاّ أن يكون من دون استبصار ، فالمرجوّ من كرمه تعالى أن يحفظنا عن الخطاء.

الخامس : الأخبار الدالّة على أنّ في الكتاب والسنّة عامّا وخاصّا ومطلقا ومقيّدا ، كما ورد في نهج البلاغة (4) وغيره (5).

والإنصاف عدم ظهور دلالة تلك الأخبار على المدّعى وهو الفحص. نعم يدلّ على وجوب الأخذ بعد الاطّلاع ، وهو من الامور الضروريّة التي لا تحتاج إلى تجشّم استدلال في المقام.

ص: 171


1- في ( ع ) : « يقل ».
2- لم يرد في ( ع ).
3- كذا في النسختين ، والعبارة لا تخلو من تشويش.
4- نهج البلاغة : 325 ، الخطبة 210.
5- انظر الوسائل 18 : 129 و 152 ، الباب 13 و 14 من أبواب صفات القاضي.
احتج المجوّز بامور :

الأول ما حكي عن الصيرفي من التعويل على الظنّ الحاصل من أصالة عدم التخصيص (1). واعترضه في محكيّ النهاية : بمعارضتها لأصالة عدم حجّيّة الظنّ (2). ولا وجه له على تقدير جريان الأصل اللفظي ، ضرورة ثبوت التعويل على الظنون اللفظيّة الكاشفة عن المراد. والوجه هو ما قدّمناه : من أنّها موهونة بواسطة العلم الإجمالي بالتخصيص.

واعترض عليه بعض من قارب عصرنا (3) تارة بأنّ العلم الإجمالي لا يمنع عن العمل بالأصل إلاّ إذا كانت الشبهة محصورة ، وجعل ذلك من باب الشبهة المحصورة من غرائب الجعليّات! فإنّه إذا كان ذلك من باب المحصور ، فأين غير المحصور؟

قلت : ولعلّه سهو من مثله ، إذ لا إشكال في كون المقام من المحصور نظرا إلى كثرة المعلوم بالإجمال وإن كانت الأطراف أيضا كثيرة.

واخرى بأنّ كونها من باب المحصور مسلّم ، لكن لا تجب الموافقة القطعيّة فيه ، كما قرّر في محلّه.

وفيه : ما قرّر في محلّه من لزومها.

ثمّ اعلم أنّ دعوى العلم الإجمالي تارة تكون في جميع العمومات ، واخرى تكون في عامّ واحد ، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة - على تقدير

ص: 172


1- حكاه الآمدي في الإحكام 3 : 56.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 146.
3- وهو المحقّق النراقي في المناهج : 111.

صحته - إنّما يتمّ في الأوّل دون الثاني ، لأوله إلى كون العامّ مخصّصا بمجمل ، وقد عرفت الحال فيه فيما تقدّم ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع المعترض أيضا ، حيث إنّه ذهب إلى حجّيّة هذا العامّ المخصّص بالمجمل.

الثاني أنّه لو وجب الفحص عن المخصّص لوجب الفحص عن قرينة المجاز أيضا ، والتالي باطل ، والملازمة ظاهرة ، حيث إنّه لا فارق.

واجيب - بعد تسليم بطلان التالي - : بشيوع التخصيص وغلبته ، فالفارق موجود. وعورض بأنّ المجاز أيضا شائع حتى قيل بأنّ أكثر ألفاظ العرب مجازات.

واورد عليه بأنّه إغراق ، سلّمنا لكنّه لا يجديهم فيما أرادوا من كون المجاز اللغويّ أكثر من الحقيقة ، لاحتمال المجاز العقليّ ، والاستعارة التمثيليّة ، والمجاز في الإعراب بالحذف والزيادة.

أقول : بعد الإحاطة بما قدّمنا لا حاجة إلى إطالة الكلام في إبطال هذه الكلمات ، إذ بدون العلم الإجمالي لا يعقل وجه لطرح الأصل في المقامين ، ومعه لا وجه للأخذ به فيهما ، من غير فرق في ذلك بين الأدلّة الشرعيّة وغيرها من الكلمات المستعملة عندهم في المحاورات ، من غير فرق بين القرائن المعمولة في المجازات اللغويّة أو غيرها. وبذلك يظهر فساد الإيراد الأخير. نعم ، احتمال هذه الوجوه من المجاز يؤيّد ما ذهب إليه ابن جنّي : من أنّ أكثر كلام العرب مجازات (1) ؛ إذ لم يصرّح ولم يظهر منه المجاز في الكلمة ، فتدبّر.

ص: 173


1- انظر حاشيته المطبوعة ضمن جمع الجوامع 1 : 310 ، ونقله السيّد المجاهد في المفاتيح : 31 عنه وعن جماعة.

الثالث إطلاق ما دلّ من الآيات وغيرها على اعتبار أخبار الآحاد كآية النبأ (1) والنفر (2) والسؤال (3) فإنّ قضيّة إطلاقها وجوب الأخذ بالخبر من دون انتظار أمر آخر من الفحص وغيره.

والجواب : أنّ الاعتماد على أخبار الآحاد موقوف على سدّ خلل السند والدلالة وجهة الصدور مع خلوّها عن المعارض ، وقد وضعوا لكلّ واحد من هذه المقامات مقاما وعقدوا بابا على حدة ، والمنعقد للمقام الأوّل هو مسألة حجّيّة الأخبار ، والآيات - على تقدير دلالتها - إنّما يصحّ التمسّك بها فيما إذا كان الشكّ من هذه الجهة. وأمّا إذا شكّ من جهة اخرى فالتعويل على هذه الإطلاقات في دفع الشكّ المذكور ممّا لا وجه له ، فهل ترى أنّه إذا شكّ في جواز الاعتماد على الظنّ الحاصل من أصالة الحقيقة ولو بعد الفحص يصحّ التمسّك بالإطلاق المذكور؟ فالإنصاف : أنّ الاستدلال المذكور أجنبيّ عن طريقة أهل الاستدلال وإن كان المستدلّ (4) بمنزلة ربّهم!

والعجب أنّه يحتمل تفطّنه بذلك حيث أورد على نفسه بقوله :

فإن قلت : هذا إنّما يتمّ في نفي اشتراط القطع ، وأمّا اشتراط الظنّ فللخصم أن يدّعي أنّ المعنى أنّ الخبر الذي يفهم المراد منه ظنّا أو قطعا لا يجب التثبّت عند مجيء العادل به ، وأمّا الخبر الذي لا يظنّ بالمراد منه فخارج عن مدلول الآية ومفهومها.

ص: 174


1- الحجرات : 6.
2- التوبة : 122.
3- الانبياء : 7.
4- وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، وسيجيء كلامه.

فأجاب عنه : بأنّ ذلك يوجب تقييد الإطلاق ، ولو صحّ ذلك لصحّ القول باعتبار الظنّ في السند أيضا. ثمّ أخذ في إبداء الفارق بين المجمل وبين العامّ بما حاصله : استقباح العقل التعبّد بالمجمل ، بخلاف العامّ ، وحكم بخروج الأوّل عن الآية بالإجماع ، بخلاف الثاني ، إذ لا إجماع (1).

أقول : بعد ما عرفت من اختلاف الجهات المذكورة يظهر وجوه الفساد فيما أفاده ، إذ الشكّ في المقام ليس من جهة السند حتّى يؤخذ بالإطلاق وإن صحّ ذلك فيما لو قيل باعتبار الظنّ في السند على تقدير دلالة الآية على حجّيّة السند تعبّدا ، وإلاّ لم يكن ذلك أيضا تقييدا ، كما لا يخفى. والمجمل ليس بخارج من الإطلاق قطعا وإن لم يمكن الانتفاع به من جهة عدم إحراز جميع شرائط الانتفاع بالدليل اللفظيّ ، كما هو ظاهر.

الرابع ما أشار إليه المستدلّ المتقدّم (2) واعتمد عليه في الوافية (3) وقرّره بوجه أتمّ وأتقن بعض الأفاضل (4) ، فقال : الضرورة الدينيّة واقعة على اشتراكنا مع الموجودين المشافهين في التكليف ، ولازمه لزوم تحصيل تكليفاتهم ، ولا يمكن ذلك إلاّ بالرجوع إلى ما خوطبوا به ، وتحصيل تكليفهم منها لا يمكن إلاّ بتحصيل طرق فهمهم ، وهو الغرض من تأسيس الاصول اللفظيّة ، ولازم ذلك استخراج

ص: 175


1- انظر حاشية الشيرواني المطبوعة في هامش المعالم : 125 ، ونقل عنه السيّد المجاهد في المفاتيح : 190.
2- وهو المحقّق الشيرواني ، انظر حاشيته المطبوعة في المعالم ، الصفحة : 124 - 125 ، ونقل عنه في المفاتيح : 189.
3- الوافية : 130.
4- وهو المحقّق النراقي في المناهج : 110.

الأحكام من الأخبار بطريق استخراجهم ، وإذا علمنا أنّهم لا يتربّصون للفحص عن المخصّص كما هو معلوم لمن استعلم حال السلف ، فإنّ الصحابة والتابعين كانوا يعملون بالعمومات ويحتجّون بها على المتنازعين ولم يطلب أحد من المتنازعين في المسألة التوقف من صاحبه حتّى يبحث عن المعارض ، فكيف نتربّص في العمل بهذه العمومات ، فهل هذا إلاّ التناقض (1)؟ ومن هنا يظهر وجه آخر ، وهو تقرير الإمام عليه السلام العامل بها من دون فحص ، فيكون حجّة اخرى على الخصم.

والجواب : أنّ الضرورة الدينيّة واقعة على الاشتراك فيما إذا اتّحد موضوعنا وموضوع المشافهين ، وأمّا إذا اختلفا موضوعا فالضرورة واقعة على عدم الاشتراك ، وما نحن فيه من الثاني ، لوجود العلم الإجمالي بكثرة المعارضات على وجه لا يجوز معه الرجوع إلى الاصول ، كما عرفت في دليل المختار.

لا يقال : إنّ وجه الاختلاف في المقام ممّا يجب أن يكون موجودا فيهم أيضا ، فلا سبيل إلى دعوى اختلاف الموضوع.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ إبلاغ الرسول للأحكام الدينيّة لم يكن دفعة واحدة بل إنّما كان على وجه التدريج ، ولازم ذلك اختلاف موضوع المشافه بالخطاب الصادر في أوّل الشريعة والمشافه عند كمالها مثلا ، فيحتمل أن يكون الموجودون في زمن الأئمّة من الصحابة والتابعين لم يطّلعوا إلاّ على العمومات لا تفصيلا ولا إجمالا على وجه يوجب الفحص ، لاحتمال أن يكون كلّ عامّ في نظرهم من أطراف الشبهة الغير المحصورة التي لا توجب الموافقة القطعيّة.

فإن قلت : إنّا لو لم نقل بوجود العلم الإجمالي لهم بأجمعهم فلا بدّ من القول به في زمان الصادقين عليهما السلام ومن بعدهما من الأئمّة عليهم السلام ومع ذلك فلم نجد في زبرهم ما يبيّن فيه وجوب الفحص في العمل بالأدلّة المعمولة عندهم.

ص: 176


1- إلى هنا انتهى كلام النراقي مع إضافات لم ترد في المناهج الموجودة عندنا.

قلت : لا نسلّم أنّهم كانوا يعملون بالعمومات بعد العلم الإجمالي بكثرة المعارضات والمخصّصات بالأدلّة والعمومات من دون فحص في زمان اجتماع الأخبار وانتظام الآثار ، فإنّ ذلك لعلّه من مقتضيات الجبلّة ولوازم الفطرة كما أشعرنا به ، فكيف يسوغ لك فرض العلم الإجمالي الموجب للفحص لرؤساء الشريعة وأمنائها من أصحاب الأئمة عليهم السلام مع عدم فحصهم عن المخصّص؟ كلاّ! ثمّ كلاّ! نعم ، حيث إنّهم كانوا مشافهين للأئمّة عليهم السلام وكان تأخير البيان عن وقت الحاجة غير محتمل عندهم ، فلذلك كانوا يقنعون بالعموم الملقى إليهم من دون الفحص ، ولا أقلّ من أن يكون أكثر العمومات الملقاة إليهم كذلك ، ومن أين علمنا أنّ القبيل الذي لم يكن وروده في محلّ الحاجة لم يتفحّص فيه الراوي؟ ولا ملازمة بين وقوعه ونقله مع هذه الندرة ، لعدم عموم البلوى به ، ولذلك ترى أنّ أرباب التصنيف وأصحاب التأليف أخذوا فيهما ما قصروا في الفحص على وجه يعلم منه أنّ إتعاب أنفسهم في تحصيل الكتب العلميّة وتحمّلهم لمشاقّ الفحص ولوازمه إنّما هو لملزم شرعي أو عقلي لذلك ، إذ لم يعهد إلى الآن استمرار طريقتهم على الوجه المذكور على أمر غير لازم عندهم كما هو معلوم لمن أنصف وتأمّل. وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن التقرير المذكور في آخر الاحتجاج.

الخامس ما استدلّ به بعض الأفاضل (1) : من أخبار التسامح المستفيضة الواردة في من بلغه ثواب (2) ، فإنّ إطلاق تلك الأخبار يدلّ على كون العامل بالعموم مثابا في جميع أفراده.

ولعمري! إنّه استدلال عجيب بعد ما عرفت من جهة الشكّ في المقام.

ص: 177


1- وهو المحقّق النراقي في المناهج : 111.
2- راجع الوسائل 1 : 59 ، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات.

وأعجب منه استدلاله (1) بقوله عليه السلام : « علينا إلقاء الاصول وعليكم التفريع » (2) فإنّ المراد بالاصول العمومات وقد امرنا بالتفريع وتطبيقها على الجزئيّات من دون تقييد بالفحص.

وأغرب من ذلك! الاستدلال (3) بالأخبار الواردة في تعيين ما فيه الزكاة بعد ما سئل عنه ، فأجاب الإمام عليه السلام بأنّها في تسعة وقال : وعفا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عمّا سوى ذلك ، فقال الراوي عندنا شيء كثير مثل الأرز هل فيه الزكاة؟ فردّ الإمام عليه السلام بأنّي أقول : « عفا عما سوى ذلك » وتقول : عندنا أرزّ (4)!

فإنّ قياس حال المشافه الواقع في محلّ الحاجة بغيره قياس قد عرفت فساده. وأمّا رواية التفريع فقد عرفت أنّ إطلاقها لا يجدي في مثل المقام.

واستدلّ أيضا (5) بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (6) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (7).

وتقريب الاستدلال بأمثال هذه الأدلّة فيما نحن بصدده مما لا سبيل إليه للمنصف ، فكيف بإتمامها والتحويل عليها؟ ولعمري أنّه نظير الاستدلالات الموروثة عن بعض الأخباريّين في المسائل الخلافيّة بينهم وبين المجتهدين ،

ص: 178


1- أي الفاضل المذكور.
2- الوسائل 18 : 41 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 52.
3- هذا الاستدلال أيضا من الفاضل المذكور.
4- الوسائل 6 : 34 ، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث 6.
5- أي الفاضل المذكور.
6- البقرة : 286.
7- الطلاق : 7.

مثل استدلالهم بالأخبار الواردة في فضيلة العلماء (1) ، مثل ما دلّ على ترجيح مدادهم على دماء الشهداء (2) على جواز تقليد الميّت. وهذه الأدلّة من أقوى الأدلّة على أنّ المستدلّ إنّما لم يبلغ إلى ما هو المبحوث عنه في المقام ، وإلاّ فهو أجلّ من ذلك.

تذنيب :

اختلف القائلون بوجوب الفحص في مقداره ، فنسب إلى القاضي لزوم تحصيل القطع (3) والأكثرون على كفاية الظنّ واحتجّ القاضي : بأنّ القطع ممّا يتيسّر حصوله للمجتهد بالفحص ، فلا بد من تحصيله.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحكم المستفاد من العامّ إن كان ممّا كثر البحث عنه ولم يطّلع على ما يوجب تخصيصه ، فالعادة قاضية بالقطع بانتفائه ولو قبل الفحص ، وإلاّ فبحث المجتهد يوجب القطع بانتفائه ، إذ لو اريد بالعامّ الخاصّ لأطلع عليه ، فإذا حصل الفحص ولم يطّلع عليه وجب البناء على العموم.

وأمّا الثاني : فلقضاء صريح العقل بعدم الاقتناع بالظنّ عند إمكان تحصيل العلم ، إلاّ أن يدلّ على ذلك دليل من الشرع.

واجيب عنه بوجوه مرجعها إلى منع حصول القطع من الفحص ، فلا بدّ من الاكتفاء بالظنّ (4).

ص: 179


1- انظر الكافي 1 : 32 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء.
2- الفقيه 4 : 398 ، الحديث 5853 ، والوافي 1 : 145.
3- نسبه إليه الآمدي في الإحكام 3 : 56 ، وصاحب الفصول في الفصول : 200 وغيرهما.
4- انظر الإحكام للآمدي 3 : 57.

واعترض عليه المدقّق الشيرواني بأنّ عدم إمكان حصول القطع في الغالب لا يوجب جواز الاكتفاء بالظنّ عند إمكانه فلا بدّ من الالتزام باشتراطه إلاّ إذا تعذّر (1).

والتحقيق في المقام : أنّه يجب الفحص إلى أن يرتفع ما يقتضي الفحص ، وقد عرفت أنّ ما يقتضي الفحص عندهم أمور :

فعلى القول باعتبار الظنّ الشخصي ومنع حصوله قبل الفحص لا بدّ من القول بكفاية الظنّ بعدم المخصّص عند حصول الظنّ بالمراد بعد الفحص ، وإن كان ذلك غير مرضيّ عندنا ، كما نبّهنا عليه.

وعلى ما اخترنا : من أنّ المانع عن العمل بالعامّ هو العلم الإجمالي وارتفاعه بالفحص ، يظهر أنّ الفحص يفيد القطع بعدم المخصّص الذي كان احتماله مانعا من الأخذ بالعموم.

وأمّا احتمال التخصيص البدئيّ فلا يمنع من العموم ، ويكفي في دفعه أصالة عدم المخصّص ، كما عرفت ذلك في دليل المختار مفصّلا ، فراجعه.

ثمّ إنّ ممّا ذكرنا في مناط وجوب الفحص يظهر : أنّه لا يجب استقصاء البحث في جميع أبواب الكتب الجوامع الفقهيّة والأخباريّة ، بل يكفي في العمل بعمومات باب الطهارة استقصاء ذلك الباب ، إذ لا نعلم المعارض لذلك العام في غير الأخبار المذكورة في ذلك الباب ، فأصالة عدم المعارض والمخصّص سليمة لا بدّ من الأخذ بها ، ولا سيّما فيما إذا تفحّصنا عن المعارض (2)

ص: 180


1- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 192 ، وانظر حاشية المعالم المطبوعة في هامشه : 124 - 125.
2- لم يرد « عن المعارض » في ( ع ).

في مثل كتاب الوسائل والكتب الفقهيّة المفصّلة المصنّفة في زمان العلاّمة والشهيدين ومن تأخّر منهم إلى زماننا ، فإنّهم قد بالغوا في ضبط الأخبار وجمعها ، فلو فرضنا أنّ في باب لباس المصلّي خبرا يناسب باب الطهارة فقد تعرّضوا لذكره ولو بالإشارة الكافية لأهل الدراية ، فشكر اللّه مساعيهم الجميلة وجزاهم اللّه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء السابقين واللاحقين بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 181

ص: 182

هداية

اشارة

الحقّ إمكان شمول الخطاب للمعدومين على وجه الحقيقة ، وتوضيح المرام بعد رسم أمور :

الأوّل : اعلم أنّ كلماتهم قد اختلفت في تحرير العنوان فقال في المعالم : ما وضع لخطاب المشافهة نحو « يا أيّها الناس » و « يا أيّها الذين آمنوا » لا يعمّ بصيغته من تأخّر عن زمن الخطاب وإنّما يثبت حكمه لهم بدليل آخر (1).

وظاهر المثالين - ولو بعد تصرّف في الثاني بتجريده عن الماضويّة ، أو بالقول بأنّ المناط اتّصافهم بالإيمان حال وجودهم وتعبير الماضوية بالنسبة إليها ، كما قيل (2) - اعتبار أن يكون في تلو أداة الخطاب لفظ شامل للمتأخّر عن زمن الخطاب لو لا المخاطبة (3) فيرجع النزاع إلى أنّ لفظ « الناس » بعده توجيه لغير المخاطب في نفسه هل يصلح له بعد الخطاب أيضا لعدم ما يقضي بالتقييد والتخصيص ، أو لا يصلح لاقتضاء أداة الخطاب ذلك؟ وقال بعض الأجلّة في فصوله : اختلفوا في أنّ الألفاظ التي وضعت للخطاب ك- « يا أيّها الناس » و « يا أيّها الذين آمنوا » هل يكون خطابا لغير الموجودين ويعمّهم بصيغته أو لا (4).

ص: 183


1- معالم الاصول : 108.
2- لم نعثر عليه.
3- في ( ع ) : « المخاطب ».
4- الفصول : 179.

وأنت خبير بأنّه لا يعقل النزاع في عموم صيغة الخطاب في قوله : « يا أيها الناس » على ما مثّل به ويقتضيه ظاهر الضمير في قوله : « بصيغته » على أنّ البحث على هذا لا يلائم مباحث العامّ ، كما لا يخفى.

وقريب من ذلك في وجه ما عنون به بعض الأعاظم ، حيث قال : اختلفوا في إمكان عموم خطاب المشافهة لغير الموجودين وعدمه (1).

ويمكن الذبّ عنه بأنّ المراد ليس عموم الخطاب ، بل عموم اللفظ الواقع في تلو أداته ، فينطبق على التحرير الأوّل ، إلاّ أنّه لا يخلو عن تمحّل في الأوّل ، فتدبّر.

فعلى ما هو الظاهر من العالم الأورع (2) في عدم شمول الخطابات الخاصّة ك- « يا أيّها الرسول » و « يا أيّها المدّثر » و « المزمّل » و « أنت » وأشباهها ، لعدم تعقّل الشمول إلاّ على وجه بعيد كذكر المقيّد وإرادة المطلق ، وأما مثل قولك : « أنتم » وصيغ الجمع من الأمر الحاضر ك- « افعلوا » ونحوها فلا دليل على خروجه مع ظهور اتّحاد المناط أيضا. وحكي عن التوني التمثيل بذلك أيضا (3). ومع ذلك فلا يخلو عن تأمّل.

الثاني : الخطاب بمعناه المصدري عبارة عن توجيه الكلام نحو الغير للإفهام. وبعضهم أسقط القيد الأخير (4) وظاهر المحكيّ عن الطريحي أنّه معناه لغة (5)

ص: 184


1- إشارات الاصول : 139.
2- لعل المراد به هو الكلباسي صاحب إشارات الاصول ، انظر المصدر المتقدم : 142.
3- الوافية : 119.
4- مثل النراقي في المناهج : 90 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 189.
5- مجمع البحرين 2 : 51 ، « خطب ».

وصرّح به بعض الأعاظم أيضا (1). وقد يطلق ويراد به الكلام الموجّه نحو الغير للإفهام ، فيكون اسم عين. والظاهر أنّه مجاز من الأوّل ، من حيث إنّه حاصل بسببه.

وزعم بعضهم أنّه الحاصل لذلك المصدر (2) ، فإن أراد ما هو المتعارف في غير المقام ، ففيه نظر واضح ، حيث إنّ الكلام ليس حاصلا لذلك المصدر ، بل هو أيضا مصدر آخر يعمّ نفس الكلام يمكن اعتباره حاصلا لمصدره كما لا يخفى. وإن أراد حصوله بسببه ولو بوجه تجوّزيّ وإن لم يكن حاصلا له ، فهو حقّ ، كما ذكرنا. لكنّه خلاف ظاهر كلامه. ولعلّ المراد بالكلام معناه اللغويّ ، فيشمل المخاطبة بنحو « يا زيد » لو لم نقل بكونه كلاما نحويّا.

وكيف كان ، فما ذكر من معنى الخطاب يحصل بمجرّد المواجهة بالكلام نحو الغير وإن لم يكن الكلام مقرونا بواحدة من أدوات الخطاب كالنداء ونحوه ، كما في قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (3). نعم ، قد يكون الكلام مقرونا بأداة الخطاب ، كما عرفت من التمثيل. والظاهر أنّ النزاع إنّما هو في الثاني لا في الأوّل ، إذ لم نجد مخالفا في شمول حكم الآية السابقة لمن تأخّر عن زمن الخطاب ، ولا يلازم ذلك مخاطبة المعدوم حتّى يشاجر في إمكانه وامتناعه. وليس هناك لفظ خوطب به حتّى يقال : إنّه حقيقة أو مجاز. ولا ينافيه اختصاص التوجيه والخطاب بواحد ، كما إذا وجّه الخطاب بواحد وكان غيره مكلّفا ، نحو قولك : « يا زيد يجب على عمرو كذا ».

ص: 185


1- صرّح به الكلباسي في الإشارات : 139.
2- إشارات الاصول : 139.
3- آل عمران : 97.

نعم ، لو فرض إرادة المواجهة بالكلام والمخاطبة به للمعدوم أو لغير الحاضرين توجّه النزاع في أنّه هل يمكن مخاطبة المعدوم أو لا؟

وممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام المعالم في بحث الأخبار حيث قال : « إنّ أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين » (1) إذ الأحكام المستفادة من الكتاب قد تكون مستفادة من نحو قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ) ولا نزاع في شموله لغير الحاضرين وإن اختصّ خطابه بهم على تقدير الامتناع.

وقد يذبّ عنه بأنّ الاختصاص بالحاضرين يستند إلى أنّ لفظ « الناس » حقيقة في الموجودين. وهو خبط وخلط ولا يخفى على أحد ، إذ الظاهر أنّه قياس اسم الجنس الواقع في تلو أداة النداء بغيره ، حيث إنّ المنادى على تقدير امتناع نداء المعدوم يجب أن يكون موجودا حال النداء ، وأمّا اسم الجنس الخالي عن النداء فعلى تقدير اعتبار الوجود فيه أيضا - على ما هو خلاف التحقيق - لا يقتضي ما زعمه من عدم الشمول ، فإنّ إطلاق « الناس » على غير الموجودين إنّما هو باعتبار حال وجودهم ، ولا إشكال أنّه حقيقة حينئذ على هذا القول.

الثالث : هل النزاع المذكور عقليّ أو لغويّ؟ يشهد للثاني ظاهر عنوان الحاجبي (2) وصاحب المعالم (3) وجماعة آخرين (4) حيث إنّهم جعلوا النزاع في

ص: 186


1- معالم الاصول : 193.
2- انظر المختصر وشرحه : 245.
3- معالم الاصول : 108.
4- انظر القوانين 1 : 229 ، والفصول : 179 ، والمناهج : 87.

عموم الصيغة وعدمه ، وظاهر أنّ هذا من الأبحاث اللغويّة وإن كان البحث (1) في العموم والخصوص ممّا يرجع إلى أمر عقليّ من إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه ، إذ المدار في كون المسألة لغويّة أو عقليّة إنّما هو على ما هو المسئول عنه في عنوانها دون ما ينتهي إليه مداركها ، كما يشهد له عدّ المسألة في عداد مسائل العامّ والخاصّ ، فإنّ إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه لا ربط له بها جزما. ويؤيّده ما جنح إليه التفتازاني من الشمول فيما إذا كان الخطاب للمعدومين والموجودين على وجه التلفيق فمجاز لا حقيقة ويؤيّده استناده إلى التبادر في تشخيص معنى الخطاب. ويحتمل قريبا أن يكون ذلك بواسطة تسجيل معنى الخطاب وتعيينه حتّى يتمكّن من دعوى الاستحالة والامتناع ، بل هو المصرّح في كلمات جملة منهم (2).

وبالجملة ، فظاهر جملة من الأمارات يشهد للثاني. وظاهر جملة اخرى يشهد للأوّل ، كإحالة المنكر الامتناع (3) إلى الوجدان ورمي المخالف إلى المكابرة. وصريح عنوان بعضهم كما تقدّم عن بعض الأعاظم [ والإنصاف على ما ظهر لي بعد التأمّل إمكان الجمع بين هذه الأمارات ، بل لا يبعد أن يكون هو الواقع في كلام المتنازعين أيضا ](4) أنّ النزاع في أمر لغويّ ، وهو شمول الصيغة للغائبين والمعدومين أو اختصاصها بالموجودين.

ص: 187


1- في ( ع ) : « الوجه ».
2- نقل عنه في المناهج : 88.
3- كذا ، والظاهر أن كلمة « الامتناع » زائدة.
4- ما جعلناه بين المعقوفتين غير ملائم لنظم الكلام ، وقوله بعده : « إنّ النزاع » ... خبر لقوله قبله : « وصريح عنوان بعضهم ... ».

لكنّ الوجه في الاختصاص هو ما يدّعيه المانع من امتناع شمول الخطاب حقيقة أو مجازا. والوجه في الشمول هو ما يراه المجوّز من إمكان ذلك حقيقة أو مجازا ، فلو لوحظ ما هو مناط القولين يمكن القول بأنّ النزاع عقليّ ، ولو لوحظ نفس الخلاف يمكن القول بكونه لغويّا ، ولكل وجهة هو مولّيها.

ثمّ على تقدير النزاع العقليّ قد عرفت إمكان جريانه بالنسبة إلى الخطابات التي لم يدلّ عليها بكاشف (1) لفظيّ كقوله : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ) إلاّ أنّه غير مفيد ، كما أومأنا إليه.

وتوضيحه : أنّا لو قلنا بشمول الخطاب للمعدومين ففي أمثال « يا أيّها الناس » ممّا يكون في تلو أداة الخطاب لفظا عامّا لجميع أفراده المعدومة والموجودة ، فالمقتضي للحمل على العموم موجود لمكان ذلك اللفظ ، والمانع مفقود كما هو المفروض ، فيحمل على العموم بخلاف ما إذا لم يكن الخطاب مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ، فإنّ غاية ما يكون هناك أن لا يكون مانع عن الخطاب بالمعدوم ، أمّا أنّه خاطب وأراد بذلك الكلام الخطاب العامّ للمعدوم والموجود فلا قاضي به من اللفظ ، لإمكان اختصاص المخاطبة بشخص خاصّ مع عموم الحكم المستفاد من ذلك الكلام ، فكلّ ما لا مانع من أن يكون خطابا للمعدوم لا يكفي في القول بالعموم ، بل لا بدّ من وجود المقتضي أيضا.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه فيما قلنا من دخول نحو « أنتم » و « افعلوا » وأمثاله في النزاع ، حيث إنّ المخاطبة بها وأشباهها موقوفة على القصد وإرادة عموم الخطاب وشموله للمعدوم والغائب ، وذلك ممّا لا كاشف له ظاهرا بحسب الوضع.

ص: 188


1- في ( س ) : « كاشف ».

ثمّ على تقدير النزاع اللفظيّ ، فهل الخلاف في الشمول على نحو الحقيقة ، أو في الأعمّ منه ومن المجاز ، أو في خصوص المجاز إمكانا على وجه لا خلاف في وقوعه على تقدير إمكانه ، أو وقوعا على وجه لا خلاف في إمكانه؟ وجوه يمكن استفادة كلّ منها من مطاوي كلماتهم عنوانا واحتجاجا واعتراضا ، على ما هو غير خفيّ على المتتبّع. وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم أنّ المنقول منهم في المقام أقوال :

أحدهما : ما اختاره في الوافية (1) - على ما حكي - من الشمول ، من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز.

الثاني : الشمول حقيقة لغة ، حكاه البعض عن الفاضل النراقي (2) أنّه نسبه إلى بعضهم.

الثالث : الشمول حقيقة شرعا ، ونفي عنه البعد الفاضل المذكور فيما حكي (3).

الرابع : الشمول مجازا ، حكاه البعض عن التفتازاني (4). وظاهره دعوى ذهابه إلى أنّ الخطابات القرآنيّة تعمّ الغائبين أو المعدومين على وجه المجازية فعلا.

وظنّي أنّه ليس في محلّه ، فإنّ ما يظهر من كلامه المحكيّ دعوى إمكان الشمول على وجه المجاز ولم يظهر منه وقوعه. نعم ، قد اختاره في المناهج (5) - على ما حكي - ونقله عن والده في الأنيس (6).

ص: 189


1- الوافية : 119.
2- حكاه في المناهج : 88 ، عن والده في الأنيس.
3- حكاه أيضا في المناهج : 88 ، عن التجريد.
4- حكاه عنه في المناهج : 88.
5- المناهج : 88.
6- المصدر السابق.

الخامس : إمكان الشمول على وجه المجاز بنحو من التنزيل والادّعاء إذا كان فيه فائدة يتعلّق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة. ولعلّه المشهور كما قيل (1).

والأظهر عندي القول بإمكان الشمول على وجه الحقيقة إن اريد من المجاز المبحوث عنه في المقام المجاز في أداة الخطاب ، كما يظهر من جماعة - منهم بعض الأجلّة (2) - حيث صرّحوا بأنّ الأداة حقيقة في خطاب الموجود الحاضر ، واستعماله في غير ذلك سواء كان على وجه التغليب ( كما إذا انضمّ إلى الموجودين غيرهم ) أو غيره ( كما إذا اختصّ بغيرهم ) مجاز إن اريد من المجاز ما هو المعهود مثله في المجاز العقليّ ، بمعنى أنّ التصرّف إنّما هو في أمر عقليّ من دون سرايته إلى اللفظ.

وتحقيق ذلك : أنّ أداة الخطاب إنّما هي موضوعة لأن يخاطب بها ، والمخاطبة إنّما تقتضي أن تكون إلى مخاطب يتوجّه إليه الخطاب ، وذلك لا يعقل في حقّ المعدوم ، إلاّ بتنزيله منزلة الموجود وادّعاء أنّه الموجود ، ومجرّد ذلك يكفي في استعمال اللفظ الموضوع للمخاطبة من دون استلزام لتصرّف آخر في اللفظ باستعماله في غير معناه ، وهل هذا إلاّ مثل استعمال الأسد في الرجل الشجاع بادّعاء أنّه الحيوان المفترس حقيقة؟ وما يتوهّم : من أنّ الأسد مجاز حينئذ لأنّه موضوع للحيوان المفترس الحقيقي لا الادّعائي ، فهو غلط ، فإنّ ادّعاء كونه من الأسد ليس من وجوه المعنى حتّى يقال : إنّه موضوع لغيره ، كما لا يخفى.

ص: 190


1- لم نعثر على القائل.
2- الفصول : 180 ، وانظر القوانين 1 : 229.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما بالغ فيه بعض الأجلّة : من امتناع تعلّق الخطاب بمعناه الحقيقي وتوجّهه نحو المعدوم (1). فإنّ ما ذكره في وجه الامتناع ممّا لا مدخل لكون أداة الخطاب على وجه الحقيقة أو المجاز ، كما هو ظاهر على المتأمّل ، ويظهر الصدق بمراجعة كلامه في فصوله.

والذي يقضي بذلك أنّه لا حاجة إلى أمر آخر بعد التنزيل - ولو عند التغليب - من ملاحظة أمر أعمّ لئلا يلزم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقيّ والمجازيّ ، بل ولا يعقل الأمر الأعمّ الشامل للمعدومين والموجودين في مدلول أداة الخطاب. والوجه في ذلك : أنّ الخطاب إمّا من الامور الحادثة بالأداة كما يراه البعض ، أو من الامور التي يكشف عنها الأداة ، سواء كانت الأداة علامة لها كما في علامة التأنيث والتذكير أو غيرها. وعلى التقادير فهي معان شخصية جزئيّة لا تتحمّل العموم ، كما هو ظاهر لمن تدبّر. نعم ، يصحّ ذلك في مدلول مدخول الأداة ، وأين ذلك من اعتبار العموم في مدلول الأداة؟

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بمجرّد الإمكان. وأمّا الوقوع فلا بدّ له من التماس دليل آخر ، ولم نجد ما يقضي به ، فإنّ ما تخيّله البعض من الأدلّة لا يقتضي إلاّ الاشتراك في الحكم ، وأمّا أنّ الخطابات القرآنيّة ممّا لوحظ فيها التنزيل المذكور واستعمل اللفظ في المخاطبة للحاضر ولمن هو منزّل منزلته فلم يدلّ عليه دليل.

ثم إنّه قد احتمل بعض المحقّقين في الخطابات القرآنيّة - مع القول باختصاصها بالحاضرين - شمولها للغائبين ، لقيام الكتّاب والمبلّغين واحدا بعد واحد مقام المتكلّم بها ، فلم يخاطب بها إلاّ الموجود فكأنّ الكتابة نداء مستمرّ من

ص: 191


1- انظر الفصول : 180.

ابتداء صدور الخطاب إلى انتهاء التكليف. والسرّ فيه : أنّ المكتوب إليه ينتقل من الوجود الكتبي إلى الوجود اللفظي ومنه إلى المعنى فمن حيث هو قارئ متكلّم ، ومن حيث إنه من المقصودين بالخطاب مستمع (1) ، انتهى كلامه.

أقول : وما أفاده أمر معقول ، لكنّه موقوف على وجود ما يدلّ عليه ، ولم نقف على ما يقضي بذلك الاعتبار ، مع أنّ ما ذكره في السرّ ليس أمرا ظاهرا لا يقبل المنع ، لاحتمال الانتقال من الكتب إلى المعنى من دون توسيط اللفظ فينتفي اعتبار الخطاب باللفظ. وأما الأمر بالكتابة والحفظ - كما هو ثابت - فلا دليل فيه على ما ذكره ، لاحتمال فوائد شتّى غير ما ذكره.

ثم إنّه قد طال التشاجر بين القوم في الاحتجاج على الأقوال المذكورة وتصحيحها وتزييفها ، ولا نرى طائلا تحتها.

فالأولى أن نختم الكلام بذكر امور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل :

الظاهر عدم الفرق بين المعدوم والغائب عن مجلس الخطاب في عدم تحقّق المخاطبة لو لا التنزيل ، كما تقدّم إليه الإشارة. واستواء الكلّ بالنسبة إليه تعالى غيبة وحضورا لا يجدي في المقام.

أمّا أوّلا : فلأنّ ذلك مبنيّ على أن يكون المخاطب - بالكسر - هو اللّه تعالى ، ولا دليل عليه ، فإنّ ذلك موقوف على تشخيص ما وقع به الخطاب من مراتب القرآن لو كان اسما لجميع مراتبه ، وإلاّ فهو موقوف على تشخيص معنى

ص: 192


1- شرح الوافية : 112.

القرآن من أنّه هل هو اسم لوجوده العلمي لله سبحانه ، أو لما هو الثابت في اللوح المحفوظ ، أو لما هو المنزل على النبيّ صلى اللّه عليه وآله في بيت المعمور كما اطلق عليه القرآن في قوله تعالى : ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (1) أو لما هو المنزّل عليه في الوقائع الشخصيّة ممّا نزل به جبرئيل من الألفاظ الخاصّة ، فيكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله حاكيا له فيما خاطب به الناس ، أو لما خاطب به النبيّ صلى اللّه عليه وآله العباد عن اللّه تعالى ، فيكون وجود القرآن في عالم الظهور وجوده في لسان النبيّ صلى اللّه عليه وآله نظير وجود الكلام في الشجر فقراءته له بعد انقضاء القراءة في مجلس الوحي والتنزيل إنّما هو حكاية عمّا بلغه في مجلس الوحي نظير قراءة غيره أو الأعمّ منه وممّا يظهر عندنا كونه حكاية ، فيكون جميع الألفاظ الشخصيّة الصادرة من القرّاء من حقيقة القرآن ، إمّا بالقول بوضعه لأمر كلّي صادق على جميع ذلك كما احتمله البعض (2) وإن كان ضعيفا ، وإمّا بالقول بكون كلّ واحد من تلك القراءات (3) من القرآن ، نظير الوضع في المبهمات ، أو الأعمّ منها ومن المكتوبات على الوجهين فيها أيضا ، أو للأعمّ من الألفاظ والنقوش والمعاني الثابتة في اللوح وغيره ، ويحتمل وجوه أخر أيضا. ومع جميع هذه الوجوه والاحتمالات كيف يقطع بأنّ المخاطب هو اللّه تعالى؟

وأمّا ثانيا : فبأنّ استواءه غيبة وحضورا لا يجدي مع اختلاف حال المخاطبين بالعلم والسماع ، فإنّ النقص فيهم ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ؛ مضافا إلى أنّ الاستواء إنّما هو موجود في الموجود والمعدوم ، ولم يظهر

ص: 193


1- طه : 114.
2- لم نعثر عليه.
3- في ( ع ) : « المراتب ».

التزامه من المورد ، فبدون التنزيل لا يعقل الخطاب في المقامين ، ومعه لا إشكال فيهما. نعم ، ذلك إنّما نعقله فيما هو بأيدينا من الخطابات. وأمّا خطابه تعالى فلا يعرف وجه التنزيل فيه كما لا يعرف سائر وجوه التصرّف في كلامه تعالى.

اللّهم إلاّ أن نقول : إنّ المعلوم عندنا هو تكلّمه بكلام من ينزّل المعدوم منزلة الموجود ، فتدبّر.

الثاني :

ذكر بعضهم : أنّ الغرض من هذه المسألة وذكرها بيان الحقّ فيها ، فلا يترتّب عليها أثر عمليّ ، إذ الظاهر تحقّق الإجماع على مساواة جميع الامّة في الحكم (1). واعترض عليه بعض المحقّقين (2) بأنّه غفلة ، لوجود الثمرة في مقامين :

أحدهما : أنّه على الشمول لا بدّ من الأخذ بما هو ظاهر من الخطاب ، لامتناع الخطاب بما هو ظاهر وإرادة خلافه من دون دلالة : وعلى العدم فلا بدّ من تحصيل متفاهم المتشافهين والتحرّي في استحصاله ، فإن حصل العلم به فهو ، وإلاّ عملنا بالاجتهاد في تحصيل ما هو الأقرب إليه.

وأورد عليه بعض الأجلّة (3) بأنّه على العدم لا وجه للفرق بين المخاطب وغيره في حجّيّة الظواهر ، فإنّ ذلك أمر متّضح الفساد منحرف عن منهج السداد ، للإجماع على حجّيّة ظواهر الألفاظ في حقّ السامعين مطلقا ، ولو لا ذلك لم يعتبر ظواهر الأقارير والوصايا والعقود والشهادات ، ونحو ذلك.

ص: 194


1- الوافية : 134.
2- انظر المناهج : 91.
3- الفصول : 184.

ويمكن ذبّه بأنّه ليس المقصود بيان الفرق في ذلك بين المشافه وغيره في الأخذ بالظواهر ، بل المقصود إثبات الفرق بينهما من حيث احتمال وجود القرينة عندهم واختفائها لدينا أو (1) ثبوت النقل وإن كان يمكن تحصيل متفاهمهم بإعمال الاصول اللفظيّة في اللفظ أيضا. ومحصّل الفرق : أنّ المشافه إنّما يأخذ بالظاهر من حيث هو ظاهر ، وغيره إنّما يأخذ به من حيث إنّه الظاهر عند المشافه وإن كان طريق ثبوته هو الظاهر أيضا ، فليس ذلك تفصيلا في حجّية الظواهر ؛ مع أنّ في احتجاجه لعدم الفرق بظواهر الأقارير والوصايا والشهادات نظرا ذكرناه في محلّه.

واعترض عليه أيضا بأنّه على الشمول لا وجه للأخذ بالظواهر ، للعلم بطريان النسخ والتجوّز والتخصيص والتقييد ممّا مرّ الإشارة إليها في بحث الفحص ، فلا بدّ من البحث والتحرّي (2).

وزاد عليه بعض آخر بأنّه مع ذلك يحتمل السهو من الراوي والغلط منه والسقط والتحريف والتصحيف والزيادة ، مع اختلاط الصادق بالكاذب ، لدسّ الكذابة ، إلى غير ذلك ، فعلى الشمول أيضا لا بدّ من التحرّي والاجتهاد في دفع تلك المحتملات (3) انتهى.

وفسادهما غنيّ عن البيان ، إذ ليس المقصود أنّه على تقدير الشمول لا يعقل وجود الفرق بين الحاضر وغيره من جميع الجهات حتّى يتمسّك بهذه الوجوه الواهية ، فإنّ هذه الموانع كما هي مانعة من حمل الغائب على تقدير

ص: 195


1- في ( ع ) : « و ». وعلى أيّ حال فالعبارة مختلّة.
2- انظر الفصول : 184.
3- لم نعثر عليه.

وجودها ، كذلك هي مانعة عن حمل المشافه أيضا. بل المقصود أنّه على تقدير ارتفاع الموانع من سائر الجهات ، كأن لا يكون الخطاب بواسطة العلم الإجمالي بوجود المخصّصات مجملا ، كما مرّ في المسألة المتقدّمة. وبعد أن أحرزنا قول المعصوم بإعمال الاصول المعتبرة في إحرازه - كأصالة عدم السقط والتحريف وغيرها ، واعتبار سند الرواية لعدالة الراوي أو ما هو بمنزلته - يجب القول بالمساواة بين الغائب والحاضر ، وأنّ الغيبة والحضور لا ينهضان فرقا في الاعتبار وعدمه ، وذلك من الامور الوضحة التي لا تكاد تخفى على أحد كما هو ظاهر ؛ ومع ذلك فلا يتمّ الثمرة المذكورة كما نبّه عليه إجمالا بعض أجلّة السادة المحقّقين (1).

وتحقيقه : أنّه على القول بالشمول ، إمّا أن يعلم الاختلاف بين المشافه وغيره فيما هو الظاهر عند كلّ منهما ، أو يعلم الوفاق ، أو يشكّ في ذلك.

فعلى الأوّل : إمّا أن يكون وجه الاختلاف قرينة مخفيّة عليهم موجودة عندنا ، كما مرّ نظيره في العامّ المخصّص بمخصّص متأخّر ، أو خطائهم في تشخيص الظواهر لو فرض ، ونحو ذلك ممّا لا يوجب تعدّد الحكم الواقعي. وإمّا أن يكون وجه الاختلاف ما يوجب ذلك ، مثل اختلاف الأوضاع ونحوه.

فعلى الأوّل : نقول إنّ المشافه إنّما لم ينجّز في حقّه الحكم الواقعي ، لاختفاء القرينة عليه أو لخطائه إذا لم يكن على وجه التقصير ، وليس ذلك من حجّيّة الظواهر في حقّه ، كما لا يخفى.

ص: 196


1- الظاهر أنّه هو السيّد الصدر في شرح الوافية : 112 ، حيث قال : أقول قد عرفت أنّ بعد تسليم جواز الاستعمال لا ثمرة للاصولي.

وعلى الثاني : نقول : لا يجوز إرادة كلّ من الظاهر ، لا لأجل عدم جواز استعمال اللفظ في أزيد من معنى واحد ، بل ولو قلنا بجوازه أيضا ؛ لأنّ ذلك لا يستلزم استعمال اللفظ في معان غير محصورة ، ولا سيّما لو فرضنا إلحاق المعاني المستحدثة الظاهرة أيضا. ولا يتعقّل استعمال اللفظ في كلّ ما يفهمه المخاطبون على أنحاء اختلاف أفهامهم ومراتبهم على وجه يكون كلّ واحد منهم مخصوصا بإرادة ما فهمه في حقّه من غير مشاركة الآخر له في ذلك.

ومنه يظهر الفرق بينه وبين استعمال العين في معنييه ، فإنّه على تقديره إنّما هو مرادان بالنسبة إلى الكلّ ، وذلك خارج عن حدّ المحاورات ، ولا يبعد نسبته إلى الغلط عند أربابها ، بل هو كذلك قطعا ؛ مضافا إلى استلزامه تعدّد الأحكام الواقعيّة ، وهو خلاف الصواب عندنا ، فلا بدّ من القول بإرادة معنى واحد من تلك الظواهر وإحالة من ليس ظاهرا عنده إلى من هو ظاهر عنده. ولعلّ الظاهر إحالة من عدا المشافه إليه ، لقيام أدلّة الاشتراك قرينة عليها وكفايتها في ذلك ، بل ولا يعقل (1) إحالة المشافه إلى غيره في بعض الصور المتقدّمة ، كما إذا كان المعنى المراد من المعاني الظاهرة المستحدثة بعد زمان المشافهة. اللّهم إلاّ أن ينصب قرينة عليه وكشفه لديه ، لئلاّ يلزم القبح (2) وعند الشكّ في وجود القرينة يحكم بعدمها ، كما هو قضيّة الأصل.

فثبت بذلك وجوب الرجوع إلى متفاهم المشافه عند العلم بالاختلاف وعدم قيام قرينة على تعيين أحد المعاني.

ص: 197


1- في هامش ( ع ) : « بل ولا يبعد » ، خ ل.
2- في ( ط ) : « القبيح ».

وعلى الثاني (1) - وهو العلم بالوفاق - لا إشكال في وجوب الأخذ بما هو الظاهر عندهم ، إلاّ أنّه ليس مورد ظهور الثمرة.

وعلى الثالث (2) : فلا بدّ من الأخذ بما هو ظاهر عند غير المشافه والحكم بأنّ الظاهر عندهم أيضا هو ذلك بإعمال الاصول اللفظيّة. وبالجملة ، لا نعرف فرقا بين القول بالشمول وعدمه من هذه الجهة.

الثالث :

الثالث (3) :

أنّ شرط اشتراك المشافهين وغيرهم هو اتّحاد الصنفين لعدم الإجماع عليه عند الاختلاف ، والأدلّة القائمة عليه غير الإجماع أيضا يمكن القول بأنّها محمولة على صورة اتّحاد الصنف ، كما لا يخفى. فوجوب صلاة الجمعة مثلا على الحاضرين لا يدلّ على وجوبها على الغائبين ، لاحتمال اختلافهم في الصنف كأن كان وجوبها مشروطا بحضور السلطان أو نائبه الخاصّ المفقود ذلك الشرط في حقّ الغائبين. ولا وجه للتمسّك بإطلاق الآية بعد احتمال اختلاف الصنف.

واعترض عليه تارة : بأنّ اعتبار الاتّحاد في الصنف ممّا لم يحدّه قلم ولا يحيط ببيانه رقم. واحتمال مدخليّة كونهم في عصر النبي صلى اللّه عليه وآله أو كان صلاتهم خلفه وأمثال ذلك في الأحكام ممّا يهدم أساس الشريعة.

واجيب بأنّ اللازم إحراز الاتّحاد ، إمّا بدعوى القطع على عدم المدخليّة كما في كثير ممّا يقبل أن يكون وجها للاختلاف. ولا يلزم من ذلك القطع بالحكم

ص: 198


1- عطف على قوله : فعلى الأوّل في الصفحة : 196.
2- وهو صورة الشكّ في الاختلاف والوفاق.
3- في جميع النسخ ( الثاني ) ، والصواب ما أثبتناه ، فقد تقدّم التنبيه الثاني في الصفحة : 194.

ليلزم عدم الحاجة إلى دليل الاشتراك ، إذ اتّحاد الصنف بمجرّده لا يقضي بالتكليف ، فلا بدّ من التماس دليل الاشتراك. أو بإقامة دليل خاصّ عليه (1) من الأدلّة اللفظيّة أو غيرها. والمفروض في المقام عدم القطع باتّحاد الصنف حتى أنّه قال الأكثر : بأنّ شرط وجوب الجمعة حضور السلطان أو نائبه ، فلا بدّ من انهدام أساس الشريعة فيما لو لم يؤخذ بعدم الاتّحاد في مثل المقام.

واخرى : بأنّ في المقام ما يدلّ على اتّحاد الصنف من أصالة عدم القيد وأصالة الإطلاق. ومجرّد كونهم واجدين للشرط لا يمنع من جريان الأصل ، كما أنّه لا يمنع منه كونهم في المدينة أيضا.

ويمكن أن يناقش فيه بأنّ الأصل المذكور لا يجري في المقام ، إذ مرجعه إلى قبح إرادة المقيّد (2) من المطلق ، ولا قبح لإطلاق الخطاب فيما إذا كان المخاطب واجدا للشرط ، فإهمال القيد لا يوجب قبيحا. نعم ، على القول بالشمول لا بدّ من إظهار القيد لئلاّ يقع الغائب في خلاف المراد ، لما قرّرنا فيما تقدّم من بطلان اختلاف تكليف المشافه والغائب بالإطلاق والتقييد (3). ومجرّد وجدان الحاضر للشرط - وهو الحضور - لا يكفي في تقييد الإطلاق بالنسبة إلى الغائب المقصود بالخطاب أيضا ، فلا بدّ من إعمال أصالة الإطلاق عند الغائب. ومنه يستكشف عدم مدخليّة الحضور في حقّهم أيضا ، لأنّ المفروض اتّحاد التكليف.

ص: 199


1- عطف على قوله : إمّا بدعوى القطع.
2- في ( ع ) : « القيد ».
3- في ( ع ) : « التقيد ».
الرابع :

الرابع (1) :

لا إشكال في ثبوت اشتراك كلّ الامّة في ما إذا لم يكن الخطابات مصدّرة بإحدى أدوات الخطاب ك- « يا أيّها الناس » ونحوه كأن كان الخطاب عامّا لجميع المكلّفين ، مثل قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... ) (2) ونحوه من الأدلّة العامّة الغير المختصّة بصنف خاصّ من المكلّفين الشاملة لجميع الأزمان والأحوال ، وأمثال ذلك كثيرة في الأحكام الشرعيّة على وجه لو لم نقل بالاشتراك فيما ثبت بعناوين الخطاب للمشافهين لا أظنّ لزوم (3) انهدام أساس الشريعة وبطلان الطريقة ، لا سيّما بعد انضمام الخطابات الخاصّة الواردة بالنسبة إلى أشخاص معلومة يقطع بعدم اعتبار ذلك الشخص المعيّن كخطابه لزرارة « لا تنقض اليقين » (4) ونحو ذلك. وليس القطع بعدم مدخليّة خصوص السائل في قول النبي صلى اللّه عليه وآله : « هلكت وأهلكت » (5) بعد سؤال الأعرابي من مواقعة أهله في نهار رمضان أخفى من القطع بقاعدة الاشتراك الثابتة بالإجماع.

وممّا ذكرنا يظهر عدم ورود ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه - على من تأمّل - في قاعدة الاشتراك : من لزوم انهدام أساس الشريعة (6).

ص: 200


1- في جميع النسخ ( الثالث ) ، والصواب ما أثبتناه.
2- آل عمران : 97.
3- لم يرد « لزوم » في ( ع ).
4- الوسائل 1 : 175 ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.
5- كذا ، والصواب : « أعتق رقبة » لأنّ « هلكت وأهلكت » من قول السائل ، راجع الوسائل 7 : 30 ، الباب 8 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث 5.
6- القوانين 1 : 234.

وأمّا إذا كان الخطاب مصدّرا بأداته ، فهل في المقام أصل يرجع إليه عند الشكّ؟ نقول : إنّه لم نقف على أصل جامع لموارد الشكّ بأجمعها ، فإنّها على أقسام :

أحدها : أن يكون الشك في كيفية الحكم ، بأن يكون الشكّ في تقييد الحكم بأمر أحرزه الحاضرون وإطلاقه ، كما قرّرناه في الثمرة الثانية (1) وحينئذ لا بدّ من دفع الشكّ المذكور إمّا بالتمسّك بالإطلاق - كما عرفت - ثمّ يحتاج إلى عموم أدلّة الاشتراك ، فإنّ مجرّد عدم تقييد الإطلاق لا يقتضي ثبوت الحكم لغير المشافه على تقدير عدم الشمول. وإمّا بالتمسّك بأصالة البراءة عند دوران الأمر بين الاشتراط وعدمه ، لأنّ الأصل الاشتراط ، فلا يبقى مورد لأدلّة الاشتراك.

وثانيها : أن يكون الشكّ في مقدار ثبوت الحكم بحسب الزمان من دون مدخليّة للأشخاص الموجودة في زمان ثبوت الحكم على وجه لو كان الغائب موجودا في ذلك الزمان والحاضر معدوما فيه لم يختلف الحكم ، فمرجع الشك إلى بقاء الحكم في الزمان الثاني أو ارتفاعه ، لطريان النسخ أو لعدم وجود ما يقتضيه واقعا لو وجد في الأحكام مثله ، وحينئذ لا بدّ من الأخذ بالاستصحاب ، ولا وجه للاعتماد على البراءة ، لحكومته عليها في مجاريه ، ومنها المقام عندهم ، بل ادّعى أمين الأخباريّة اعتبار الاستصحاب في المقام ، وكونه من ضروريّات الدين (2) ، وإن لم يأت على دليل بسلطان مبين ، لما قرّرنا : من أنّ الاعتماد على الاستصحاب في المقام بعينه كالتعويل عليه في سائر المقامات خلافا ووفاقا. نعم ، لو كان مرجعه إلى أصل لفظيّ - كأصالة عدم التخصيص في العامّ الزماني - كان وجها لثبوت التعويل عليه إجمالا وإن لم نعلم وجهه.

ص: 201


1- راجع الصفحة : 198.
2- انظر الفوائد المدنية : 143.

ثمّ إنّه لا يكفي مجرّد الاستصحاب ، بل لا بدّ من التشبّث بأدلّة الاشتراك ، إذ المفروض اختصاص الخطاب. نعم ، يكفي الاستصحاب في غير المصدّر بالخطاب ، كما أنّه لا يكفي مجرّد الاشتراك أيضا ، إذ على تقدير النسخ لا مسرح للاشتراك.

وثالثها : أن يكون الشكّ في اختصاص الحكم للأشخاص الموجودين في ذلك الزمان من دون مدخليّة وصف من الأوصاف ، ومن غير مدخليّة الزمان ، على وجه لو كان الغائب حاضرا كان ثبوت الحكم في حقّه أيضا مشكوكا فيه لو فرض مثل هذا الشكّ.

ووقوعه في محلّ المنع ، لعدم معقوليّة الاختصاص في الواقع لا بواسطة اندراج أحدهما في عنوان لا يندرج فيه الآخر. نعم ، يمكن عدم العلم بذلك العنوان ، فالفرق بينه وبين الصورة الاولى احتمال مدخليّة عنوان خاصّ ، بخلاف المقام.

وكيف كان ، فإن أمكن دفع الشكّ بالتمسّك بدليل لفظيّ كالإطلاق ونحوه فهو ، ويحتاج إلى أدلّة الاشتراك على تقدير عدم الشمول ، وإلاّ فيمكن دفعه بالتمسّك بأدلّة الاشتراك ، فإنّها كاشفة عن اتّحاد العنوان. ولا يرد النقض بما إذا كان الشكّ في مدخلية عنوان خاصّ ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ ممّا ذكرنا يظهر حال الحكم الثابت بالدليل اللبّي. وأمّا الأدلّة التي أقاموها على الاشتراك فهي كثيرة ، عمدتها الإجماع المنقول في لسان جمع كثير وجمّ غفير من الفحول (1) ، تعرف بأدنى تتبّع.

ص: 202


1- منهم العلامة في تهذيب الوصول : 134 ، والمحقق القمي في القوانين 1 : 233 ، والكلباسي في الإشارات ( مخطوط ) : 140.

وأمّا الأخبار الدالّة على أنّ حكمه على الأوّلين حكمه على الآخرين (1) فلا بأس بالتمسّك بها ، إلاّ أن يناقش بأنّ الظاهر منها إثبات التعميم من جهة الزمان كما فرضناه في القسم الثاني (2) كما يظهر من ملاحظة قوله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (3) لكنّ الإنصاف عدم الاعتداد بهذه المناقشة ، كما لا يخفى على من لاحظها وتأمّل فيها حقّ التأمّل.

ثمّ إنّه إذا ثبت حكم في حقّ النساء أو الرجال ولم يدلّ دليل على التعميم بخصوصه ، فهل الأصل العموم فيه؟ وجهان بل قولان ، فمن المقدّس الأردبيلي والمحقّق الخوانساري (4) : نعم ، بل ادّعى فيه الإجماع. وظاهر جماعة اخرى - منهم صاحب المدارك (5) ، بل نسبه إلى الأكثر (6) : العدم. ولعلّه الأقوى ، لعدم ما يقضى به ، والإجماع على الاشتراك غير ثابت. ومنه يظهر الكلام في الحرّ وغيره (7).

ص: 203


1- راجع العيون 2 : 87 ، الحديث 87 ، والبحار 74 : 105 ، الحديث 68 ، وغيره.
2- راجع الصفحة : 201.
3- انظر الكافي 1 : 58 ، الحديث 19 ، والوسائل 18 : 124 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 47.
4- حكى عنهما المحقّق القمّي في القوانين 1 : 241.
5- قال النراقي في المناهج (92) : وهو الظاهر من المدارك في بحث اعتداد الرجل بأذان المرأة وفي بحث الصلاة في الحرير. انظر المدارك 3 :5. 178 و 260.
6- الظاهر من العبارة أنّ الناسب هو صاحب المدارك ، ولم نعثر فيه. بل في المناهج 6. : ويظهر فيه أنّه المشهور ، ونسبه هو إلى الأكثر.
7- في ( ع ) بدل « وغيره » : « ونحوه ».

ص: 204

هداية

إذا تعقّب العامّ ضمير يرجع إلى بعض ما يتناوله فذلك لا يوجب تخصيص العامّ ، وفاقا لجماعة من المحقّقين ، منهم الشيخ (1) والعلاّمة في أحد قوليه (2) والحاجبي (3). وذهب جماعة إلى تخصيصه (4) واخرى إلى التوقّف (5) مثاله قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) (6) حيث إنّ الضمير في « بعولتهنّ » راجع إلى بعض المطلّقات وهي الرجعيّات. ومحلّ الكلام في المقام هو ما إذا كان الحكم الثابت للضمير مغايرا للحكم الثابت لنفس المرجع ، سواء كان الحكمان واحدا وفي كلام واحد كقولك : « أكرم العلماء واحدا منهم » إذا فرض عود الضمير لعدولهم ، أو متعدّدا وفي كلامين كما في الآية المباركة ، حيث إنّ حكم العامّ وجوب التربّص ، وحكم الضمير أحقّيّة الزوج بالرجوع والردّ.

ص: 205


1- العدة 1 : 384.
2- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبه ولا على من نسب إليه.
3- المختصر مع شرحه للعضدي : 278.
4- منهم العلاّمة في النهاية : 171 ، والعميدي في شرحه على التهذيب : 193 ، وإمام الحرمين والبصري ، انظر المختصر وشرحه : 278 - 279.
5- كالسيّد في الذريعة 1 : 300 ، والمحقّق في معارج الاصول : 100 ، والعلاّمة في التهذيب : 154 ، وصاحب المعالم في المعالم : 138 ، 153 ، والنراقي في المناهج : 102.
6- البقرة : 228.

وأمّا إذا كان الحكم واحدا ، كقوله تعالى في صدر الآية : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) حيث إنّ المراد منها غير اليائسات ، لعدم انفراد المدخول بها قطعا للدليل ، فلا نزاع في وجوب اختصاص الحكم بما هو المرجع حقيقة ، ولئلاّ يلزم خلوّ الكلام عن الرابط.

وهل هو تخصيص للعامّ أو استخدام ، أو تجوّز في الإسناد من قبيل إسناد ما هو للبعض إلى الكلّ؟ وجوه. ولعلّ الأوجه الأوّل ، لكونه أشيع.

ومنه أيضا قوله : ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) بعد قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (1) حيث إنّ الإيلاء وإن كان في اللغة لمطلق الحلف على ترك الوطء ، إلاّ أنّ المقصود في الآية هو ترك الوطء بالنسبة إلى الدائمة فقط ، إذ ترك الوطء للمنقطع ليس حراما ، والإيلاء هو الحلف على ترك الوطء الغير المشروع ، فلا بدّ من أن يراد من الضمير في « عزموا » ما هو المراد من النساء.

وجعله بعض الأجلة من أمثلة المقام (2) بتقريب أنّ « النساء » تعمّ الدائمة والمنقطعة ، لكونها جمعا مضافا ، والمراد من الضمير في قوله : ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) أي طلاقهنّ هي الدائمة ، إذ لا يقع الطلاق على غيرها ، فالنساء تعمّ غير الدائمة ، والضمير الذي عوّض عنه بأداة التعريف يختصّ بالدائمة.

وممّا ذكرنا يظهر فساده ؛ لأنّ المراد بالنساء خصوص الدائمة في الآية ، فإنّ وجوب تربّص أربعة أشهر ليس في الحلف على ترك وطء المنقطعة ، لكونه مشروعا غير محرّم ولو إلى الأبد.

ص: 206


1- البقرة : 226 - 227.
2- انظر الفصول : 212.

ثمّ إنّ ما ذكره على تقدير صحّته إنّما يجيء في الضمير في قوله تعالى : ( وَإِنْ عَزَمُوا ) والموصول المتقدّم ذكره في الآية ، ولا حاجة إلى ملاحظة في لفظ « النساء » والاستدلال على عمومه بكونه جمعا مضافا ثم تقدير الضمير في الطلاق ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ وجه الخلاف في المسألة اختلاف أنظارهم في تشخيص ما ينبغي أن يجعل كبرى في المقام ، فجعله البعض من قبيل دوران الأمر بين تعدّد المجاز ووحدته كالعضدي (1) حيث زعم أنّ تخصيص العامّ يوجب التجوّز في الضمير ، للزوم مطابقته لما هو الظاهر من المرجع دون المراد ، بخلاف التصرّف في الضمير بالاستخدام ونحوه ، فإنّه لا يسري إلى العامّ.

وزعم أرباب التوقّف (2) أنّ المقام من قبيل تعارض المجازين ، للزوم مطابقة الضمير لما هو المراد من المرجع وإن كان مجازا ، فيدور الأمر بين التصرّف في العامّ بالتخصيص أو في الضمير بالاستخدام أو بالتخصيص فيه أيضا ، كما زعمه السلطان (3) فإنّه يظهر منه : أنّ الضمير أيضا من صيغ العموم ، ولازمه التزام التخصيص في الضمير الراجع إلى بعض العامّ.

واحتمل بعضهم (4) أن يكون المقام من الموارد التي يقرنها ما يصلح أن يكون قرينة كما في جملة من الموارد ، منها : تعارض الحقيقة مع المجاز الراجح ،

ص: 207


1- شرح مختصر الاصول : 279.
2- منهم صاحب المعالم في المعالم : 138.
3- حاشية السلطان : 298 ، ذيل قول الماتن : « فالتعارض إنّما هو بين التخصيص والمجاز ».
4- لم نعثر عليه.

والاستثناء عقيب الجمل ، والأمر الوارد عقيب الحظر ، وغير ذلك. فإن قلنا بأنّ ذلك الأمر الصالح للقرينيّة يوجب صرف اللفظ عن الظاهر ، فلا بدّ من القول بالتخصيص. وإن لم نقل ، فإنّ قلنا باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا - ولو في مثل المقام - فلا بدّ من القول بعدمه. وإن قلنا باعتبارها من باب الظهور النوعي ونوع ذلك الكلام ليس بظاهر في إرادة الحقيقة ولا في إرادة المجاز ، فلا بدّ من الوقف ، لعدم ظهور المراد بحسب القواعد المعمولة في الألفاظ ، فيكون من موارد الإجمال.

والظاهر أنّ المقام من قبيل تعارض الظاهرين ؛ لأنّ ظهور العامّ في العموم ممّا لا ينكر ، كما لا ينبغي إنكار ظهور الضمير في مطابقته للمرجع ، وليس من الموارد التي تقرن بما يصلح قرينة ، كورود الأمر عقيب الحظر والمجاز المشهور ، فإنّ الورود والشهرة من الأمور الاعتباريّة المكتنفة باللفظ ، وليس لهما ظهور يقابل بظهور اللفظ. بخلاف المقام ، فإنّ ظاهر الضمير أن يكون كناية عمّا أريد من المرجع ولو على وجه المجاز.

وممّا ذكرنا يظهر فساد جعل الاستثناء عقيب الجمل من تلك الموارد ؛ لأنّ وجه الإجمال في الاستثناء هو الاشتراك بين خصوصيّات الإخراج ، نظير تردّد اسم الإشارة بين امور متعدّدة. ولا ينافي ذلك كون الوضع في أمثاله عامّا ، فإنّ ذلك من لوازم خصوصيّات الموضوع له ، فإنّها بحكم الاشتراك اللفظي.

وأمّا ما زعمه العضدي : من دوران الأمر بين مجازين ؛ لأنّ تخصيص العامّ يوجب المجاز في الضمير أيضا (1) فهو فاسد جدّا ، لما عرفت من أنّ الضمير لا يتفاوت الحال فيه بعد انطباقه على المرجع بين أن يكون المرجع حقيقة أو مجازا.

ص: 208


1- تقدّم في الصفحة : 207.

وأمّا ما أفاده سلطان العلماء (1) فهو أيضا بظاهره فاسد ؛ لأنّ الضمير ليس من صيغ العموم حتى يتصوّر فيه التخصيص إلاّ بإخراج بعض أفراد المرجع ، كما في قولك : « أكرم العلماء وأضفهم بشرط العدالة » ولو فرض كون ذلك تخصيصا في الضمير لا في المرجع فالفرق بين المقامين ظاهر ، فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

فالأقرب أنّ المقام من قبيل تعارض الظاهرين ، أعني ظهور العامّ في العموم ، وظهور الضمير في الرجوع إلى تمام مدلول مرجعه دون بعضه ، وهو المراد بالاستخدام في المقام. نعم ، لا ينحصر في ذلك ، لوجوده فيما إذا أريد من اللفظ معناه الحقيقي ومن ضميره معناه المجازي ، أو أحد معنييه الحقيقيّين أو المجازيّين. والعلاقة المصحّحة للاستعمال المذكور هي المسامحة في أمر المرجع بالاكتفاء بما يمكن أن يراد منه المرجع ولو في استعمال آخر ، فكأنّه مذكور حكما.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الاستخدام ليس من المجاز.

كما يظهر فساد ما حكي عن بعض أصحاب التدقيق (2) من أنّ العلاقة في المقام هي علاقة العموم والخصوص. وجه الفساد ، أمّا أوّلا : فلأنّه ليس من المجاز كما عرفت. وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير كونه مجازا فالعلاقة المعتبرة فيه غير العموم والخصوص ، لوجوده في غير المقام أيضا. والظاهر أنّ الوجه واحد في الكلّ.

ص: 209


1- تقدّم في الصفحة : 207.
2- لم نظفر به.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يظهر فساد ما قد يتوهّم : من أنّه على القول بكون التخصيص حقيقة لا إشكال في تقديمه على الاستخدام فإنّه على تقديره أيضا لا يخلو من تصرّف على خلاف الظاهر ، مضافا إلى أنّ الاستخدام أيضا حقيقة.

وإذ قد عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّه يمكن الاستناد فيما صرنا إليه من عدم التخصيص وترجيح الاستخدام عليه - مع ما هو المعروف عندهم من شيوع التخصيص ، وبذلك يقدّم على أنحاء التصرّفات المتصوّرة في الألفاظ - إلى أنّ الشكّ في أحد التصرّفين إذا كان مسبّبا عن التصرّف في الآخر وفرضنا علاج ذلك الشكّ بإعمال أصل من الأصول الممهّدة لذلك ، فالظاهر تعيّن التصرّف في غير مورد العلاج ، كما يساعده الاعتبار ، بل لعلّه يوافقه حكم العرف أيضا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الشكّ في الاستخدام في الضمير إنّما هو بواسطة الشكّ في عموم العامّ على وجه لو فرض التخصيص فيه علم بعدم الاستخدام ، ولو فرض عدمه في العامّ علم بالاستخدام في الضمير. وبعد جريان أصالة العموم وعلاج الشكّ في العموم بالأصل يتعيّن التصرّف في الضمير بالاستخدام.

لا يقال : يمكن قلب الدليل ، فيؤخذ بظاهر الضمير المقتضي لمطابقته للمرجع ، وذلك يعيّن التصرّف في العامّ بالتخصيص.

لأنّا نقول : إنّ الظاهر هو أنّ الشكّ في المطابقة إنّما نشأ من الشك في المراد. والسرّ في ذلك : أنّ الاختلاف في الضمير لا يرجع إلى اختلاف المراد منه ، لظهور اختصاص الحكم في الضمير بالبعض وإنّما هو اختلاف في نحو من أنحاء استعماله كما لا يخفى. بخلاف الاختلاف في العامّ ، فإنّه راجع إلى المراد قطعا ، على وجه لو أراد المتكلّم الكلّ فتبعه (1) نحو من الاستعمال

ص: 210


1- كذا في النسخ ، ولعلّ الأصل : يتبعه.

في الضمير ، ولو أراد المتكلّم البعض يلزمه نحو آخر منه. وليس تلك الأنحاء ممّا يقصد ابتداء ، مثل قصد العموم والخصوص. وذلك ظاهر لمن تدبّر وأنصف من نفسه.

وبذلك يمكن القول بأنّ المسألة نظيرة لما تقدّم من المجاز المشهور وورود الأمر عقيب الحظر. وعلى ذلك التقدير يمكن الاستدلال بأصالة الحقيقة ما لم يعلم بالقرينة ، ولا يعارض بالأصل في الضمير ، فإنّه تابع لجريان الأصل في المرجع وعدمه.

ولكنّه ليس في محلّه ؛ لأنّ أصالة الحقيقة إنّما هي تعتبر من جهة الظهور النوعي ، وقد عرفت إمكان منع إفادة الأصل لذلك نوعا في المقام ، لاحتمال ما يصلح أن يكون قرينة.

فإن قلت : إنّ أصالة عدم القرينة جارية في المقام ، وبذلك يتمّ الاستدلال.

قلت : إنّ مرجع الأصل المذكور إن كان هو الاستصحاب فهو موقوف على العلم بالحالة السابقة ، ومتى علمت بأنّ ذلك الشيء المحتمل لكونه قرينة لم يكن قرينة حتّى يستصحب؟ وإن كان هو الحكم بالعدم عند الشكّ في الوجود ولو لم يعلم الحالة السابقة فلا دليل على اعتباره.

نعم ، يصحّ التمسّك بأصالة عدم وجود القرينة في الكلام بواسطة العلم به قبل التكلّم أو بأصالة عدم التعويل عليها كذلك ، إلاّ أنّهما لا يجديان ، لا لأنّهما من الاصول المثبتة لاعتبارها في مباحث الألفاظ ، بل لما عرفت من أنّ الوجه في التعويل على الأصول المذكورة هو حصول الظنّ نوعا منها ، ولا نسلّم حصوله ولو نوعا في المقام ؛ ولذلك لو فرض العلم بتعويل المتكلّم بما يصلح أن يكون قرينة لم يحكم بأنّه فعل قبيحا ، كما لا يخفى على من تدبّر.

ص: 211

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الأوفق بالقواعد في المقام على تقدير الشكّ فيما ذكرنا : من أنّ الشك في الاستخدام إنّما هو تابع للشك في العموم ، هو التوقّف ، لعدم الاعتماد على أصالة الحقيقة في مثل المقام.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة أورد كلاما في ترجيح التصرّف في الضمير لا بأس بذكره تنبيها على ما فيه ، فقال : إنّ الدليل الدالّ على عدم ثبوت الحكم المتعلّق بالضمير لجميع أفراد مرجعه إنّما يقتضي منع عموم الضمير دون المرجع ، فتعيّن فيه التخصيص. وإغناء التصرّف في المرجع من التصرّف في الضمير لا يوجب التكافؤ ؛ لأنّ التصرّف في مورد التعارض أولى (1).

وفيه ما مرّ : من أنّ الضمير ليس من صيغ العموم ، بل هو من الكنايات ، فتارة كناية عن جماعة محصورة وأخرى عن غيرها ، فالمعارض لذلك هو المرجع قطعا ، غاية ما في الباب أنّه بمنزلة تكرار لفظه ، فتارة يبقى على العموم واخرى يخصّص. سلّمنا لكنّ الدليل الدالّ على عدم ثبوت الحكم المتعلّق بالضمير بجميع أفراد المرجع لا يعارض خصوص ظاهر الضمير ، فإنّ نسبة ذلك الدليل إليهما نسبة واحدة ، فإنّه أوجب التعارض بينهما ، إذ لو لم يكن ذلك الدليل لم يكن تعارض بينهما. ولعلّه راجع إلى الأوّل ؛ فتدبّر ، واللّه الهادي.

ص: 212


1- الفصول : 211.

هداية

لا كلام في تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة الراجع إلى دلالة اللفظ بحكم العقل على ثبوت الحكم في الأشدّ بطريق أولى. وأمّا دلالة اللفظ على مساواة المدلول لغيره - وهو المعبّر عنه بلحن الخطاب في بعض الألسنة - فهو على تقدير القول به أيضا لا ينبغي الكلام في التخصيص.

والوجه فيه : أنّ السرّ في دلالة اللفظ على ثبوت الحكم في غير محلّ النطق مع أنّه ليس مدلولا مطابقيّا له هو أنّ المذكور في محلّ النطق إنّما دلّ عليه باللفظ (1) توطئة للوصول إلى حكم غيره ، فكأنّ المذكور طريق إليه ، وإنّما قصد به مجرّد الإراءة ، فيكون دلالة اللفظ عليه أظهر من دلالة العامّ على العموم وإن لم يكن من مداليل اللفظ على وجه الصراحة والمطابقة حتّى أنّه يمكن أن يقال : إنّ دلالة اللفظ على المفهوم أظهر من دلالته على المنطوق وإن كان مدلولا التزاميّا ؛ لأنّه المقصود بالإفادة. ولا ينافي ما ذكرنا من دلالة اللفظ عليه كونه موقوفا على حكم العقل بالأولويّة في غير محلّ النطق كتوقّفه على القطع بالمناط ، لكونه طريقا لثبوت الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة كما في غيره من موارد الالتزامات العقليّة. نعم ذلك ينهض وجها آخر لتقديم المفهوم على العموم بعد الغضّ عن عدم ظهور اللفظ في المفهوم ولم نقل بكونه من الدلالات اللفظيّة كما تعرفه بعد ذلك.

ص: 213


1- في ع : « اللفظ ».

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون النسبة بين المفهوم والعموم عموما من وجه كما في قولك : « لا تكرم الفسّاق » و « أكرم خدّام العلماء » فالتعارض إنّما هو في العالم الواجب الإكرام بالمفهوم ومحرّم الإكرام بالعموم ، أو كان المفهوم أخصّ كما إذا قيل : أكرم خدّام العالم الفاسق.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفهوم في المقام قضيّة لبّيّة لا يمكن التصرّف فيها بنفسها بالتخصيص وإنّما هو يتبع المنطوق ، فلا بدّ إمّا (1) من التصرّف في المنطوق بالقول بأنّ قولنا : « أكرم خدّام العلماء » إنّما لا يراد منه وجوب (2) إكرام الخدّام بإخراجه عن الظاهر بالمرّة ، إذ على تقديره فلا معنى للمنع من ثبوت الحكم للمفهوم ، لاستقلال العقل بثبوت الحكم على وجه الأولويّة ، نظير استقلال العقل بوجوب المقدّمة بعد فرض وجوب ذيها. ولا يعقل القول ببقاء الدليل الدالّ على الوجوب مع المنع عن وجوب المقدّمة ، لرجوع ذلك إلى منع الملازمة بين الوجوبين ، وقد فرض حكومة العقل بثبوتها ، ولا ريب أنّ ذلك تصرّف بارد لا ينبغي ارتكابه لمن له أدنى درية.

وأمّا القول بالتخصيص فهو متعيّن ولو لم يكن شائعا ، لما عرفت من خصوصيّة المقام. وهذا هو الوجه في كونه محلاّ للاتّفاق ، دون مفهوم المخالفة بعد اشتراكهما في عدم تعقّل التصرّف في المفهوم ، لرجوع التصرّف إلى تفكيك اللازم عن الملزوم. أمّا في الموافق فقد عرفت. وأمّا في المفهوم المخالف فلأنّ بعد تسليم ظهور اللفظ في العلّية المنحصرة - كما هو مدار المفهوم - لا يعقل عدم

ص: 214


1- لم يرد « إمّا » في ( ع ).
2- لم يرد « وجوب » في ( ع ).

الحكم بالانتفاء عند الانتفاء ، فإنّ ذلك حكم يستقلّ به العقل ولو كان بواسطة خطاب الشرع ، إلاّ أنّ منع ظهور اللفظ في ذلك ليس بتلك المكانة من البعد.

وأمّا الثاني : فيظهر الوجه في وجوب تقديم المفهوم على العموم فيه ممّا تقدّم ، مضافا إلى كون المفهوم أخصّ مطلقا أيضا.

وبالجملة ، فاللازم تقديم المفهوم الموافق على العموم كما عرفت ، لعدم معقوليّة التصرّف فيه بنفسه فيدور الأمر بين التصرّف في العامّ أو في المنطوق ، ولا ريب أنّ الأوّل أرجح ، مضافا إلى ما تقدّم : من أنّ اللفظ مسوق لبيانه ، فظهوره في المفهوم أولى من ظهور العامّ في العموم.

ومنه يظهر فساد ما قد يحكى عن بعض سادة مشايخ مشايخنا (1) حيث أورد على من استدلّ على اعتبار العربيّة في العقود باعتبار الماضويّة - كالمحقّق الثاني (2) - بأنّ الأولويّة معارضة بعموم وجوب الوفاء بالعقد ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، فلا بدّ من ملاحظة المرجّحات. وأمّا مفهوم المخالفة فعلى تقدير القول بثبوته في قبال العامّ وعدم التصرّف في ظاهر الجملة الشرطيّة والأخذ بظهورها لا إشكال في تخصيص العامّ به كما عرفت ، وإنّما الإشكال في أنّ الجملة الشرطيّة أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء منها أو العامّ أظهر في إرادة الأفراد منه؟ فمرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين.

فربما يقال : إنّ العامّ أظهر دلالة في شموله لمحلّ المعارضة كما قلنا بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم على تقدير القول به بالنسبة إلى

ص: 215


1- وهو السيّد المجاهد في المناهل : 270 - 271.
2- حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 217 - 218.

خبر العدل الظنّي ، فإنّ قضيّة عموم التعليل عدم الاعتماد على الخبر الظنّي ، ومقتضى المفهوم ثبوته ، وعموم التعليل أظهر ، ولا سيّما إذا كان العام متّصلا بالجملة الشرطيّة. وربما يقال بتقديم الظهور في الجملة الشرطيّة كما قلنا في تعارض المفهوم مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم.

وبالجملة ، فالإنصاف أنّ ذلك يتبع الموارد. ولم نقف على ضابطة نوعيّة يعتمد عليها في الأغلب ، كما اعترف بذلك سلطان المحقّقين (1).

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو فيما إذا كان النسبة بين المفهوم والعموم عموما وخصوصا ، بأن كان المفهوم أخصّ مطلقا ، فإنّه يدور الأمر بين التصرّف في ظاهر العامّ وبين التصرّف في ظاهر الجملة الشرطيّة بإلقاء المفهوم رأسا.

وأمّا إذا كان المفهوم عامّا فلا بدّ فيه من تقييد المنطوق ، كما إذا قيل : « أكرم الناس إن كانوا عدولا » وقيل : « أكرم العالم الفاسق » فإنّه يقدّم على المفهوم القائل بعدم وجوب إكرام غير العادل عالما وغيره ، ومعنى تقديمه عليه هو تقييد الناس بغير العالم الفاسق ، لما عرفت من عدم معقوليّة التصرّف في المفهوم بنفسه ، فلا بدّ من إرجاعه إلى المنطوق. وأمّا احتمال إلقاء المفهوم رأسا في المقام فلا وجه له.

وأمّا إذا كان النسبة عموما من وجه ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء » بعد قولك : « أكرم الناس إن كانوا عدولا » فيحتمل أن يقال بإلقاء المفهوم رأسا على تقدير تقديم العموم في مورد التعارض - وهو العالم الفاسق - على المفهوم القاضي بنفي وجوب إكرام الفاسق مطلقا. ويحتمل التقييد في المنطوق ، كأن يقال : « أكرم الناس الغير العالم إن كانوا عدولا » فيستفاد من الكلامين سببيّة كلّ

ص: 216


1- حاشية سلطان العلماء : 298 ، ذيل قول الماتن : بل التحقيق أن أغلب صور المفهوم.

من العلم والعدالة لوجوب الإكرام ، بل ولعلّه هو المتعيّن ، لعدم ما يقضي بخلافه في غير مورد التعارض من المفهوم ، كما عرفت فيما إذا ورد خاصّ في قبال المفهوم العامّ.

ومنه يظهر الوجه لمن أطلق القول بعدم انفعال الجاري ولو لم يكن كرّا ، مع أنّ مقتضى المفهوم في قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) اعتبار الكريّة في الماء الجاري أيضا ، إذ إلقاء المفهوم رأسا ممّا لا شاهد عليه ، فلا بدّ إمّا من طرح العموم الدالّ على عدم انفعال الجاري في مورد التعارض أو تقييد المنطوق ، وذلك ظاهر على من تأمّل. وهو الهادي.

ص: 217


1- الوسائل 1 : 117 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 2.

ص: 218

هداية

يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب وبالخبر المتواتر ، كما يجوز تخصيصه بهما بلا خلاف معتدّ به. وأمّا تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، فالأقرب جوازه أيضا ، وفاقا لأكثر المحقّقين (1).

وحكي عن الذريعة (2) والعدة (3) والمعارج (4) عدم الجواز مطلقا. ولعلّ منع السيّد مبنيّ على أصله من إنكار حجّيّة الخبر الواحد (5).

وفصّل بعضهم (6) بين تخصيص العامّ الكتابي بمخصّص قطعيّ فيجوز ، وعدمه فلا يجوز. وحكي عن المحقّق أيضا الوقف (7). ولعلّه توقّف منه في العمل ، وإلاّ فالمحكي عنه هو العدم ، كما عرفت.

ص: 219


1- منهم العلامة في تهذيب الاصول : 148 ، ونهاية الوصول : 159 ، وصاحب المعالم في المعالم : 140 ، والمحقق القمي في القوانين 1 : 308 ، وغيرهم.
2- الذريعة 1 : 280.
3- العدّة 1 : 344.
4- حكاه عنه في المعالم : 140 ، والقوانين 1 : 308 ، والمناهج : 114 ، قال : ظاهر كلامه الثاني ( عدم الجواز مطلقا ).
5- الذريعة 2 : 517.
6- وهو عيسى بن أبان كما في المناهج : 114 ، ومفاتيح الأصول : 160 ، وراجع المعارج : 96.
7- حكى عنه في المعالم : 141 ، والقوانين 1 : 308 ، والمناهج : 114.

ثمّ إنّه قد يستشكل في الفرق بين المقام والمسألة الآتية الباحثة عن بناء العامّ على الخاصّ. وظنّي أنّه ليس في محلّه ، كما يظهر من ملاحظة كلمات المانعين ، حيث إنّه يظهر من بعضهم عدم اعتبار الخبر الواحد في قبال عموم الكتاب (1). ويظهر من آخر عدم قابليّة الخبر للتخصيص من جهة قطعيّة العموم (2). وعلى الأوّل فالفرق ظاهر ، وعلى الثاني فكذلك أيضا ؛ لأنّ المبحوث عنه في المسألة الآتية هو رجحان التخصيص على أنحاء التصرّفات المتصوّرة في الدليلين وعدمه بعد فرض القابليّة لو فرضنا احتمال التجوّز في الخاصّ أيضا ، وإلاّ فتلك المسألة يبحث فيها عن أنّ الخاص بيان أو ناسخ على ما هو التحقيق.

وكيف كان ، فيمكن الاستدلال على الجواز بالإجماع من الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال العامّ الكتابيّ ، وهذه سيرة مستمرّة إلى زمن الأئمّة عليهم السلام بل وذلك ممّا يقطع به في زمن الصحابة والتابعين ، فإنّهم كثيرا ما يتمسّكون بالأخبار في قبال العمومات الكتابيّة ولم ينكر ذلك عليهم.

ودعوى أنّ ذلك لعلّه بواسطة احتفاف الخبر بقرينة قطعيّة ، مدفوعة بما أفاده الشيخ عند احتجاجه بعمل الصحابة على حجّيّة الأخبار بأنّه تعويل على ما يعلم ضرورة خلافه ولا يحسن مكالمة مدّعيه (3).

ومن هنا ترى أنّ الشيخ مع أنّه منع من ذلك في الاصول فقد بنى عليه في الفقه ، كما يظهر من تتبّع موارد كلامه وتضاعيف الفروع كالمحقّق أيضا.

ص: 220


1- انظر الذريعة 1 : 281.
2- انظر العدة 1 : 344.
3- العدّة 1 : 136.

وبالجملة ، وجوب تخصيص الكتاب بالخبر الواحد عندهم على منار ، بل ربّما يظهر من بعضهم (1) أنّ الوجه في اعتبار الخبر هو لزوم تخصيص الكتاب على وجه لو لم يخصّص به يعلم بأنّ الأمور الثابتة بالكتاب ليست بحقيقة تلك الأمور ، كما قرّر في محلّه.

ومن هنا يظهر أنّه لو قلنا باعتبار الخبر من باب الظنّ المطلق يجب التخصيص أيضا ، للعلم الإجمالي بورود التخصيص بالكتاب ووجود المخصّصات في الأخبار الظنّيّة ، فلا وجه للتعويل على أصالة الحقيقة ، لطروّ الإجمال.

فلا وجه لما تخيّله البعض : من أنّه على تقدير الظنّ المطلق لا وجه للتخصيص ، لوجود الظنّ الخاصّ وهو العامّ الكتابي (2) وعلى تقديره فلا انسداد حتّى يؤخذ بالظنّ.

واستدلّ بعض الأفاضل (3) على المطلب بأنّه لولاه لزم إلقاء الخبر بالمرّة ، إذ ما من خبر إلاّ وهو مخالف لعموم الكتاب ، ولا أقلّ من عموم ما دلّ على أصل البراءة.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الخبر المخالف لأصل البراءة لا يعقل أن يكون مخصّصا للعموم كما قرّر في محلّه ، وستعرفه بعد ذلك من عدم ورود الدليل والأصل في مورد واحد.

احتجّ المانع تارة : بأنّ العام المفروض في الكتاب قطعيّ وخبر الواحد ظنّي ، وهو لا يعارض القطعيّ.

ص: 221


1- لم نعثر عليه.
2- لم يرد « الكتابي » في ( ع ).
3- وهو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 310.

والجواب : أنّ القطعيّ لا يعارض بالظنّي في جهة ما هو القطعيّ. وأمّا في غيرها فلا نسلّم عدم المعارضة. وبعبارة واضحة : الكتاب قطعيّ سندا وخبر الواحد ظنّي سندا ولا تعارض بينهما من هذه الجهة ، وإنّما التعارض بينهما من جهة الدلالة الراجعة في العامّ إلى أصالة الحقيقة التي يجب تقديم ما هو صالح للقرينة عليها ، لارتفاع موضوع الأصل ، لوجود الدليل حقيقة إذا كان علميّا أو حكما إذا كان ظنّيّا ولو مع ملاحظة العلم باعتباره ، والمفروض أنّ خبر الواحد صالح لذلك ، أمّا دلالة فظاهر ، وأمّا سندا فلأنّ كلامنا في قبال هذا المانع إنّما هو بعد الفراغ عن حجّية الخبر ، والمانع إنّما زعم ذلك بواسطة ما زعمه من عدم قابليّة التخصيص بالظنّي كما هو ظاهر. ولا فرق فيما ذكرنا بين اعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا أو من باب الظنّ ؛ لأنّه مقيّد بعدم ورود ظنّ على خلافه قطعا ؛ ولذا لا يتأمّل أحد في تقديم الخاصّ على العامّ ، فتدبّر.

وقد يجاب بأنّ الكتاب وإن كان قطعيّ المتن ، إلاّ أنّه ظنّي الدلالة ، والخبر بالعكس ، فيتساويان. وردّ بأنّ الدلالة في الخبر أيضا ظنّيّة ، لاحتمال التجوّز فيه أيضا. وفي كليهما نظر. أمّا الأوّل : فلأنّ فرض التساوي لا يوجب التخصيص.

وأمّا الثاني : فلأنّ المفروض في محلّ البحث عدم احتمال تصرّف آخر في الخاصّ ، إمّا بالنظر إلى أنّ التخصيص أشيع فلا يعارض احتمال التجوز ، وإمّا بواسطة عدم احتماله في نفسه.

وأخرى : بأنّ جواز التخصيص يلازم جواز النسخ ، والتالي باطل إجماعا. أمّا الملازمة ، فلأنّ مرجع النسخ أيضا إلى التخصيص. والجواب أوّلا : بمنع بطلان التالي من حيث القاعدة ، وقيام الإجماع هو الفارق.

وثانيا : بأنّ الفرق ظاهر بين النسخ والتخصيص ، من حيث إنّ النسخ ممّا يتوفر الدواعي إلى ضبطه ونقله ونشره ، بخلاف التخصيص. ويرشدك إلى

ص: 222

ذلك أنّ الموارد المنسوخة ممّا شذّ فيه الخلاف على تقدير وجوده فيها ، بخلاف موارد التخصيص ، فإنّ الخلاف فيها على منار ، فالملازمة ممنوعة.

وقد يجاب بأنّ التخصيص دفع والنسخ رفع ، والأوّل أهون بخلاف النسخ. وهو بظاهره فاسد جدّا.

وقد يوجّه ذلك بأنّ التخصيص هو الحكم بعدم ثبوت الحكم للبعض ، والنسخ هو رفع الحكم بعد ثبوته ، ولا شكّ أنّ الثابت وجودا كان أو عدما يجب الحكم بثبوته ما لم يعلم عدمه بالإجماع والاستصحاب ، فإذا دلّ خبر على النسخ فهو معارض لأدلّة الاستصحاب ولدليل ثبوت هذا الحكم. بخلاف دليل التخصيص ، فإنّها معاضدة بأدلّة الاستصحاب ، فيكون إعماله أهون ، انتهى ملخّصا (1).

أقول : لا نعرف فرقا بين النسخ والتخصيص بعد ملاحظة العموم الزماني في النسخ الملازم لعدم ثبوت الحكم في البعض ولو بملاحظة الزمان.

ومنه يظهر فساد ما أورده من حديث المعارضة مع أدلّة الاستصحاب ولدليل الحكم :

أمّا أوّلا : فلأنّ دليل الحكم لا يعارض الناسخ إلاّ باستصحاب عدم النسخ وعدم ورود مخصّص زماني ؛ لأنّه لا يزيد على أصالة الحقيقة كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ دليل النسخ على تقدير اعتباره لا يعقل معارضته لأدلّة الاستصحاب ؛ لارتفاع موضوع الاستصحاب - وهو الشكّ - حقيقة أو حكما بعد ورود الدليل ، كما أنّه لا يعقل معارضته لأدلّة التخصيص.

ص: 223


1- أي انتهى التوجيه ، والموجّه هو المحقّق النراقي في المناهج : 116.

ومرّة : بأنّ الدليل على العمل بخبر الواحد هو الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به ، وهو المحكي عن المحقّق (1).

والجواب : ما مرّ من أنّ الإجماع على العمل بالخبر المخالف لعموم الكتاب واقع وليس له دافع ، مضافا إلى ما قرّر في محلّه : من عدم انحصار الدليل في الإجماع.

وأخرى : بطائفة كثيرة من الأخبار الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها وضربها على الجدار وأنّها زخرف وأنّها ممّا لم يخبر بها الإمام وهي كثيرة جدّا وصريحة الدلالة على وجوب الطرح ، فلا وجه لما يجاب : من أنّ العمل بتلك الأخبار يوجب تخصيص الكتاب الدالّ على حجّيّة الخبر بالخبر الغير المخالف ، فإنّ هذه قطعيّة ، كما يظهر للمنصف.

والجواب - بعد القطع بصدور جملة من تلك الأخبار عن الحجج الطاهرة - : أنّ مخالفة العموم وأصالة الحقيقة لا تعدّ مخالفة عرفا ، ومع الشكّ في صدق المخالفة على مثل هذه المخالفة يستكشف من عموم ما دلّ على أنّ المخالف غير صادر منهم أنّ هذه الأخبار الصادرة عنهم قطعا ليست مخالفة للقرآن ، وإلاّ لزم التخصيص في العموم ، والأصل عدمه ، مع أنّ سياق هذه الأخبار يأبى عن التخصيص.

وبالجملة ، فتارة ندّعي العلم بعدم صدق المخالفة على مثل هذه المخالفة ، كما يشهد به العرف. وأخرى أنّه لا أقلّ من الشكّ في صدق المخالفة ، وبعد القطع بالصدور يستكشف بالعموم الغير القابل للتخصيص عدم كونها مخالفة ،

ص: 224


1- المعارج : 96.

نظير استكشاف عدم كون النحويّ عالما على تقدير الشكّ فيه من عموم « أكرم العلماء » بعد القطع بعدم وجوب إكرام النحويّ. اللّهم إلاّ أن يدّعى القطع بصدق المخالفة في المقام ، والإنصاف أنّه في غير محلّه.

ويؤيّد ما ذكرناه من عدم صدق المخالفة أنّ المشايخ الراوين لهذه الأخبار هم الذين رووا الأخبار المخالفة على التوجيه المذكور ، وكيف يتصوّر مع إكثارهم في هذه الرواية؟

والحاصل أنّه لا ينبغي التوقّف في العمل بالأخبار المخالفة لعموم الكتاب في زماننا هذا ، لاستلزامه حدوث شرع جديد ، كما لا يخفى على من تدرّب.

فلا بدّ من حمل تلك الأخبار على الأخبار المخالفة على وجه المباينة. ولا ينافي قلّتها في زماننا ؛ لأنّ جوامع الأخبار الموجودة عندنا إنّما هو بعد التهذيب ، فلعلّها كانت كثيرة في تلك الأزمنة قبل التهذيب.

لا يقال : إنّه لا داعي إلى جعل الأخبار المباينة ، للعلم بكذبها ، فلا يقع بها التدليس المقصود من دسّ الكذّابين.

لأنّا نقول : لا ينحصر الداعي في التدليس ، بل يحتمل أن يقصد بالجعل الإبطال وإسناد الأباطيل إليه ، كما يومئ إليه جملة من الأخبار (1) على ما لا يخفى على المتتبّع فيها. أو يحمل (2) على الأخبار الواردة في مسائل اصول الدين ، كأخبار الغلوّ والجبر والتجسيم والتشبيه ، ونحو ذلك من الامور المعلومة بنصّ الكتاب الموافق للسنّة السنيّة والملّة المحمّدية صلى اللّه عليه وآله على صادعها ألف سلام وتحيّة.

ص: 225


1- انظر الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي وغيره.
2- عطف على قوله : « فلا بدّ من حمل تلك الأخبار ».

وبالجملة ، فعلمنا بصدور الأخبار المخالفة لا على وجه التباين واعتبارها إنّما يمنعنا عن الأخذ بظواهر هذه الأخبار لو سلّم ظهور صدق المخالفة على ذلك.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف القول بالوقف ، كما يظهر من الوافية حيث استند فيه إلى أنّ العامّ الكتابيّ غير ظاهر المراد والحجّيّة ، وكذا الخبر المخالف لعموم الكتاب مشكوك في اعتباره (1).

ووجه الضعف : أنّه لا وجه لكلتا مقدّمتيه.

أمّا الأولى : فلأنّ أصالة الحقيقة في الكتاب إنّما يجب الأخذ بها ما لم يدلّ دليل معتبر على خلافها ، والمفروض في كلامه عدم اعتبار الخبر في قبالها. وأمّا الثانية : فلأنّه لا وجه للشكّ في اعتبار الخبر في قبال العامّ ، كيف! وهو الذي حاول إثبات حجّيّة الخبر بما أشرنا إليه فيما عوّلنا عليه في إثبات الجواز : من أنّه لو لم يؤخذ الخبر لزم خروج الامور الثابتة بالكتاب عن حقيقتها. وهذا أيضا من الشواهد على أنّ النزاع في المسألة إنّما هو مبنيّ على غفلة عمّا هو مركوز في أذهانهم وجرى عليه ديدنهم في الفقه.

وأمّا حجّة المفصّل وجوابه فيظهر ممّا ذكرنا ، فتدبّر. واللّه الهادي.

ص: 226


1- الوافية : 136 و 140.

هداية

اشارة

الأقرب أنّ الخاصّ المخالف لحكم العامّ إنّما هو بيان له تارة وناسخ له أخرى ، وفاقا لجلّ المحقّقين بل كلّهم.

وتفصيل المقام بعد تمهيد ، وهو أنّ عقد هذه المسألة ليس لبيان أظهريّة الخاصّ عن العام ، فإنّ ذلك موكول إلى بحث تعارض الأحوال ، وقد قرّر فيه : أنّ التخصيص لكونه أشيع أرجع على أنحاء التصرّفات في الخاصّ نوعا ، فإعادته في المقام تكرار لا طائل تحته ، بل المبحوث عنه في المقام هو أنّ الخاصّ هل هو بيان أو ناسخ للعامّ؟ وأنّه في أي مقام يحكم بكونه بيانا؟

ومن ذلك يظهر : أنّه لا وجه لتخصيص محلّ الكلام بالعامّ والخاصّ المطلقين ، إذ بعد ما صرّح جماعة بجريانه في العامّين من وجه - كالتفتازاني (1) وصاحب المعالم (2) والفاضل الشيرواني (3) - أنّ ملاك البحث موجود فيه أيضا ، فإنّه لو فرض تأييد أحد العامّين بما يوجب التقديم من دعوى ظهور ناش عن قلّة الأفراد - كما قيل (4) - مثلا ، فيمكن أن ينازع فيه أنّ ذلك المقدّم هل هو بيان أو ناسخ؟ وبعد وجود الملاك وتصريح جماعة بالشمول لا وجه للتخصيص ، مع أنّه ليس في كلامهم عنوان آخر له.

ص: 227


1- لم نعثر عليه.
2- انظر المعالم ( الحجرية ) : 149 ، ونسبه إليه المحقق الشيرواني في الحاشية.
3- انظر حاشية المعالم ( الحجرية ) : 149.
4- لم نقف عليه.

وتوهّم جماعة اختصاص النزاع بالمطلقين (1). ولعلّ الوجه فيه عدم تعيين المخصّص فيهما ، أو عدم تصوّر بعض الأقسام الآتية كتقديم الخاصّ ، إذ لكلّ منهما جهة عموم ، إلاّ أنّ ذلك لا ينهض له وجها ، إذ عدم التعيين لا ينافي ما ذكرنا : من أنّه عند التعيين هل هو بيان أو ناسخ؟ كما أنّ عدم تصوّر بعض الأقسام لا يمنع عن النزاع في القسم المتصوّر. نعم ، شاع بينهم التمثيل بالمطلقين وهو لا يقاوم التصريح ، مضافا إلى تمثيل الحاجبي والعضدي (2) - كما حكي - بآيتي عدّة الحامل والمتوفّى عنها زوجها ، مع كون النسبة بينهما عموما من وجه.

ثمّ إنّ الكلام في المقام ليس من حيث السند ، فلو كان العامّ قطعيّا يجري فيه الكلام كما لو كان ظنّيّا ، إذ المبحوث عنه - كما عرفت - لا يفرق فيه بالقطعيّة والظنّية بعد فرض اعتبار الظنّي من غير فرق بين أن يكون اعتبار أصالة الحقيقة من باب التعبّد أو الظنّ ، لكونه مقيّدا بعدم ورود ظنّ على خلافه ، كما قرّر في محلّه.

وإذ قد تقرّر ذلك ، فاعلم أنّ الصور المتصوّرة كثيرة ، بل انتهت - كما عن الوافية (3) - إلى ما يقرب من ألفين ، بل يمكن تصوّرها بأضعاف ما ذكره ، إلاّ أنّ الحكم لا يختلف في كثيرها فنحن نقتصر على ما هو المعتدّ بها منها.

فنقول : إنّ العامّ والخاصّ إذا تنافيا ظاهرا ، إمّا يعلم اقترانهما - كما إذا صدرا عن معصومين في زمان واحد - أو افتراقهما ، أو يجهل ذلك إمّا مطلقا أو في أحدهما ، فهذه صور ستّة.

ص: 228


1- منهم المحقق القمي في القوانين 1 : 314 ، وسلطان العلماء في حاشيته على المعالم : 149 ، والنراقي في المناهج : 117 ، وغيرهم.
2- راجع المختصر للحاجبي وشرحه للعضدي : 271.
3- الوافية : 134.

الأولى : أن يعلم اقترانهما ، فلا بدّ من حمله على البيان ، ولا وجه لاحتمال النسخ ، لبطلانه قبل حضور وقت العمل ، وفهم العرف الراجع إلى تقديم ما هو صالح من الدليل على أصالة الحقيقة في العامّ لو كان التخصيص مجازا أو ما يضارعه على تقدير عدمه. ولعلّ الحكم في هذه الصورة وفاقيّ ، إلاّ عن شاذّ لا يعتنى به ، من غير فرق في ذلك بين العامّين من وجه وبين غيره فيما لو اقترن أحدهما بما يوجب تخصيصه بالآخر ، كما هو ظاهر.

الثانية : أن يعلم تقدّم العامّ على الخاصّ ، فعلى تقدير ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ فلا بدّ من حمله على النسخ إذا أحرزنا ورود العامّ في مقام بيان الحكم الواقعي. وأمّا إذا شكّ فيه ففيه إشكال ستعرفه. والوجه فيه : أنّه لولاه لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. هذا إذا كانا من المطلقين.

وأمّا في العامّين من وجه : فلا بدّ من حمل العامّ الأوّل على كونه مخصّصا للثاني ، إذ ورود الثاني إنّما هو بعد حضور وقت العمل بالأوّل ، فيكون نصّا في مورد التعارض ، وذلك يصير قرينة على إرادة التخصيص في الثاني ، من غير فرق بين العمل بالعامّ وعدمه. ولو ورد الخاصّ قبل حضور وقت العمل فعلى تقدير جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لا إشكال في التخصيص ، لما عرفت في الأوّل. وعلى تقدير عدمه فكذلك ، إلاّ على القول بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل. ولعلّه لم يذهب من أرباب المقالة الأولى إلى الجواز أحد ، كما لا يخفى. هذا في المطلقين.

وأمّا في العامّين من وجه : فعلى القول بعدم جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، فلا بدّ من تخصيص الثاني بالأوّل ، للزوم التأخير لولاه. وعلى الجواز فيجوز تخصيص كلّ ما اقترن بما يوجبه بالآخر من غير فرق بينهما ، ولا وجه للنسخ فيهما إلاّ على قول من يجوّزه قبل الحضور.

ص: 229

الثالثة : أن يعلم تقدّم الخاصّ على العامّ فيبنى على تخصيص العامّ بالخاصّ ، من غير فرق بين ورود العامّ قبل حضور وقت العمل بالخاصّ أو بعده.

أمّا الأوّل : فظاهر على القول بعدم جواز النسخ قبل الوقت ، وعلى الجواز فلا بدّ من القول بأنّ التكليف ابتلائيّ ، وهو خلاف ظواهر أدلّة التكليف ، فالراجح حملها على التكليف الحقيقي ، وهو يلازم التخصيص ويساعده فهم العرف وغلبة التخصيص.

وقد يستدلّ على المطلب بأنّ تقدّم العامّ المحتمل على الخاصّ القطعيّ قطعي البطلان (1).

وفيه : أنّ ذلك يتمّ فيما إذا اريد عدم التخصيص مع عدم النسخ ، وهو غير محلّ الكلام. وأمّا عند احتماله - كما هو المفروض في المقام - فليس من تقديم المحتمل على القطعيّ ، لرجوع النسخ أيضا إلى التخصيص في العموم الزماني المستفاد من الدليل أو من خارج قابل للتخصيص.

ونقل عن بعضهم القول بالنسخ في المقام محتجّا بأنّه لولاه لزم تقديم البيان وهو محال والشرطيّة ظاهرة (2).

والجواب : أنّ تقديم البيان على أنّه بيان محال كتقديم ما له البيان أيضا. وأمّا تقديم ذات البيان فلا ضير فيه ، كما في ذات ما له البيان أيضا. والوجه فيه : أنّ البيانيّة من الأمور المنتزعة من الشيء باعتبار إضافته إلى شيء آخر ، ويجب

ص: 230


1- المستدل هو صاحب المعالم في حاشيته عليه كما نسب ذلك إليه أيضا في القوانين 1 : 319 ، وحاشية الشيرواني المطبوعة مع المعالم ( الحجرية ) : 150.
2- نقله المحقق في المعارج : 98 عن الشيخ ، راجع العدة 1 : 393.

تقارنهما في هذه الملاحظة وإن تقدّم أحدهما على الآخر بحسب الذات ، فالحاكم في مثل المقام هو رجحان أحد التصرّفين على الآخر ، وقد عرفت أنّ التخصيص أرجح من غيره. ومن هنا يظهر فساد القول بالوقف في المقام.

وأمّا الثاني : فالأمر فيه أيضا ظاهر ممّا مرّ ، إلاّ أنّ القائل بالنسخ في المقام الأوّل يقول به في الثاني بطريق أولى.

الرابعة : أن يجهل التقارن والتقدّم ، سواء علم تاريخ أحدهما أو لم يعلم ، والظاهر هو التخصيص في جميع الصور ؛ لأنّ الواقع لا يخلو عن إحدى الصور المتقدّمة ، وقد عرفت أنّ التخصيص هو الراجح فيها.

وينبغي التنبيه على أمور مهمّة :

الأوّل : أنّه يظهر الثمرة بين النسخ والتخصيص فيما إذا ورد مخصّصان مستوعبان للعامّ ، فعلى التخصيص يقع التعارض ، لاستهجان استيعاب التخصيص ، بخلاف النسخ ، ومثله ما إذا قلنا باستهجان تخصيص الأكثر وورد خاصّ مشتمل على حكم أكثر الأفراد ، فإنّه على النسخ لا ضير فيه ، بخلاف التخصيص. ومن موارد إمكان ظهور الثمرة ما إذا كان الخاصّ ظنّيّا والعامّ قطعيّا وقلنا بعدم جواز نسخ القطعيّ بالظنّي ، فإنّه يحمل على التخصيص ، فتأمّل.

الثاني : قد تقدّم في بعض الهدايات (1) أنّ تقدّم العامّ على الخاصّ لا يخلو عن إشكال ؛ لاستلزامه إمّا النسخ بعد انقطاع زمان الوحي والإجماع على خلافه ، وإمّا تأخير البيان عن وقت الحاجة التي اتّفقت كلمة أهل المعقول على بطلانه.

ص: 231


1- راجع الصفحة : 229.

والجواب عن ذلك ما أشرنا إليه في محلّه أيضا : من أنّ الخاصّ الوارد في كلام العسكري عليه السلام لعلّه كاشف عن خاصّ مقارن للعامّ الوارد في كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو أنّ العموم حكم ظاهريّ لمن لم يبلغه حكمه الخاصّ ، وإنّما أخفاه من أظهر العامّ لحكمة داعية إلى ذلك. ويؤيّده القطع بأنّ الأحكام الشرعيّة إنّما بلّغها النبيّ صلى اللّه عليه وآله على وجه التدريج ، كما يقضي به العادة أيضا.

الثالث : قد عرفت عدم جريان النسخ إلاّ في مورد يكون فيه عموم زمانيّ قابل للتخصيص ، إذ بدونه لا وجه لاحتمال النسخ ، سواء لم يكن هناك ما يتعلّق بحكم الزمان أو كان ولم يكن قابلا للتخصيص ، كما إذا كان من الأدلّة اللبيّة. وعلى هذا يكون موارد احتمال النسخ في غاية القلّة ، فإنّ اقتران الخطابات بعموم زمانيّ قليل جدّا. وقد تبيّن وجه العموم من وجوه : كعموم ما دلّ على أنّ « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (1) وكظهور الأدلّة الخاصّة مثل قولك : « الكلب نجس » في العموم ، وكظهور تأسيس الشرائع والأحكام في العموم ، كاستصحاب الأحكام ، وكإطلاق الأوامر بالنسبة إلى الأزمان.

وفيه : أنّ الأوّل إنّما هو في بيان عدم انقراض أصل الشريعة ، ولا ينافي ذلك نسخ بعض أحكامها ، كما يظهر من موارد ثبوت النسخ ، فإنّها لا تنافي الأخبار المذكورة. والثاني كالثالث ، ولا دلالة فيهما على العموم ، وعلى تقديره فلا يقبل التخصيص. وأمّا الاستصحاب فهو ممّا لا مساس له بالمقام. وإطلاق الأوامر لا يجدي ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه على تقدير وجود العامّ الزماني فمرجع البحث إلى تعارض الظاهرين.

ص: 232


1- الكافي 1 : 58 ، الحديث 19.

الرابع : قد اشتهر عندهم أنّه ربّ عامّ يقدّم على الخاصّ وهو بظاهره ينافي ما قرّرنا : من أنّ أصالة الحقيقة في العامّ إنّما يعتمد عليها ما لم يقم دليل على خلافها ، والمفروض أنّ الخاصّ إذا بلغ إلى أدنى مراتب الاعتبار يكون دليلا ، فيجب تقديمه على العامّ ولو كان في أعلى مدارج الاعتبار ، فلا بدّ أن يكون ذلك مقصورا فيما إذا كان الخاصّ موهونا من جهة السند ، كما إذا كان ممّا قد أعرض عنه المشهور بناء على أنّ ذلك من الموهنات للرواية ، من غير فرق في ذلك بين تعدّد العام وانفراده ، فإنّ نسبة الخاصّ إلى جميع العمومات المخالفة نسبة واحدة ؛ ولذا استقرّ بناؤهم على التخصيص في موارد تعدّده ، مثل استقراره في مورد انفراده كما يظهر بالتتبّع.

نعم ، قد يظهر لهذه القاعدة مورد آخر ، وهو ما إذا كان العامّ غير قابل للتخصيص ، لوروده في مقام الامتنان أو مثل ذلك من الامور التي يستنكر معها التخصيص ، فإنّ العامّ فيها يقدّم على الخاصّ ، بل لعلّه هو أغلب موارد استعمال تلك القضيّة بل كلّها ، نظرا إلى أنّ الخاصّ إذا لم يكن حجّة لا وجه للقول بتقدّم العامّ عليه ، إذ على تقدير عدم العامّ أيضا يجب الرجوع إلى دليل آخر غير الخاصّ ، كما لا يخفى.

الخامس : قد يظهر من بعضهم (1) تقديم العامّ على الخاصّ فيما إذا كان العامّ مقرونا بشيء من المرجّحات التي تراعى في السند ، كموافقته للكتاب أو مخالفته للعامّة ، ونحو ذلك.

ص: 233


1- نسب في هامش القوانين إلى السلطان ولكن لم نقف عليه في حاشيته على المعالم والموجود فيها عكس ذلك. انظر القوانين 1 : 315، والمعالم : 151.

ولعلّه خلط بينهما ، فإنّ المقام لا بدّ فيه من مراعاة المرجّحات المعمولة في الدلالة. وأمّا المرجّح السندي فلا ينبغي استعماله فيه ، إذ إعمال تلك المرجّحات إنّما يؤكّد الظنّ بصدور العامّ وهو لا يؤثّر فيما هو محلّ التعارض ، كيف! ولو كان قطعيّا أيضا لا يجدي ، لما عرفت من تخصيص الكتاب بالخبر الواحد. ويوميك إلى ذلك ملاحظة كلمات العلماء في الفروع والاصول ، فإنّه لم يعهد منهم تقديم الرواية المشتملة على العموم على الخاصّ بواسطة أعدليّة راويها ، إلى غير ذلك من مراتب الترجيح ، وما ذكرنا من الوضوح بمكان.

والسرّ في ذلك ما قرّرنا في بحث التعارض : من أنّ العرف بعد اطّلاعهم على ما فيه من التنافي لا يلتفتون إلى السند ما لم يعجزوا عن الدلالة ، وبعد عدم الالتفات إلى السند لا معنى للتعويل على التراجيح المعمولة في السند ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ومن هنا يظهر أنّه لا يصلح ذلك وجها في دفع الإشكال المذكور في الأمر الواقع ، كما عساه يتوهّم ، فتدبّر.

السادس : زعم بعض الفضلاء أنّ العامّ إذا خصّ بمخصّص ثمّ طرأ ورود مخصّص آخر له ينقلب النسبة بين العام والخاصّ الثاني عموما من وجه ؛ لأنّ التخصيص الأوّل تغيّر في موضوع العامّ وبذلك يحصل في الخاص جهة عموم (1).

وقد نبهنا على فساد ذلك مرارا ، فإنّ المخصّصات متساوية الأقدام بالنسبة إلى العامّ في مراد اللافظ وإن تقدّم أحدهما على الآخر من حيث وجود الكاشف عنه ؛ مضافا إلى أنّ الحكم بالتقديم أيضا في الأغلب بالنسبة إلى الروايات

ص: 234


1- مناهج الأحكام : 317.

في غاية الصعوبة ، لعدم العلم بالتاريخ. والعلم بورود المخصّص والاطّلاع عليه مقدّما على الآخر ممّا لا ينبغي أن يصغى إلى احتمال تأثيره في المقام ، كما لا يخفى.

السابع : إذا ورد عامّ كتابي ووافقه خاصّ آخر ثمّ عارضه خاصّ مقترن بمرجّح آخر - كمخالفته للعامّة مثلا - فهل العبرة بالخاصّ الموافق للكتاب أو بالخاص المعارض؟ الأقرب الثاني ، لدوران الأمر بين الأخذ بموافق الكتاب وطرح الخاص المخالف لا من ترجيح ، وبين الأخذ بالمخالف والتخصيص وطرح الخاصّ الموافق بواسطة ما يوجب ترجيح معارضه عليه ، ولا ريب أنّ الثاني أولى ، إذ به يرتفع موضوع الموافقة ، فلا مرجّح في البين. بخلاف ما لو قدّم الخاصّ الموافق ، فإنّ لازمه وجود موضوع المرجّح الآخر وعدم ثبوت الحكم له (1) وذلك نظير ما قلنا في ترجيح الأصل الحاكم في دخوله تحت دليله على الأصل المحكوم فيه.

لا يقال : إنّ موافقة الآخر للكتاب مرجّح فيتعارض المرجّحان.

لأنّا نقول : إنّ وجود الموافقة فرع لعدم اعتبار المخالف وعدم اعتباره فرع وجود الموافقة وهو دور صريح ، فلا بدّ من تقديم الخبر المرجّح بغير الموافقة. والسرّ فيه : هو ما قدّمنا في مباحث تخصيص الكتاب بالخبر الواحد : من أنّ الموافقة والمخالفة لا يراد بهما موافقة الظاهر ومخالفته من الكتاب ، وقد نبّهنا على ذلك في باب التعارض (2) أيضا.

ص: 235


1- في ( ع ) : « به ».
2- لم يطبع بحث التعارض للمؤلف في كتاب مطارح الأنظار.

الثامن : قد عرفت في بعض الصور المتقدّمة (1) أنّ الخاصّ إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ فهو مخصّص بناء على عدم جواز النسخ حينئذ ، وإن ورد بعده فهو ناسخ بناء على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ولو شكّ في وروده قبل الحضور أو بعده ، فإمّا أن يجهل زمان العمل بالعامّ وورود الخاص كليهما ، أو يعلم أحدهما دون الآخر. فعلى الأوّل : لا وجه لتعيين أحد المجهولين بأصالة التأخّر ، إلاّ أنّه مع ذلك يحكم بالتخصيص للغلبة. وعلى الثاني : فإن علم زمان العمل بالعامّ وشكّ في ورود الخاصّ قبله حتّى يكون مخصّصا أو بعده حتى يكون ناسخا ، فبأصالة تأخّر ورود الحادث يحكم بكونه واردا بعد زمان العمل ويحكم بكونه ناسخا.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ذلك من الاصول التي لا تعويل عليها ؛ لأنّ الناسخيّة ليست من أحكام عدم ذلك الحادث في زمان وجود الحادث الآخر ، بل إنّما هو من أحكام تأخّره عنه. وهذا وإن كان من لوازم ذلك العدم ، إلاّ أنّه لازم عقليّ ولا دليل على ترتّبه على الملزوم بالاستصحاب ، كما تقرّر.

ولا ينافي ذلك ما قرّرنا في محلّه من اعتبار هذه الاصول فيما يتعلّق بمراد الألفاظ وأوضاعها ، فإنّ ذلك ليس منها ، فتأمّل.

وإن علم زمان ورود الخاصّ وشكّ في حضور وقت العمل بالعامّ ، فبأصالة التأخّر أيضا يمكن القول بالتخصيص ، إلاّ أنّ فيه أيضا ما عرفت ، مع ما فيه من التأمّل.

التاسع : ذكر بعض الأجلّة (2) في آخر المبحث تتمة ، وحاصلها أنّه إذا فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله ما يخالف العامّ ، فلا إشكال في تخصيصه بالنسبة إليه. وأمّا بالنسبة إلى

ص: 236


1- تقدم في الصفحة : 229.
2- وهو صاحب الفصول قدس سره.

غيره هل يقال بالتخصيص ، لعموم التأسّي (1) أو لا؟ قولان ، ثمّ اختار العدم نظرا إلى أنّ عموم التأسّي يعارض العامّ المخصّص بفعله صلى اللّه عليه وآله تعارض العموم من وجه ، والمرجع فيه بعد عدم المرجح هو الإجمال والتوقّف فلا تخصيص. ثمّ قال : وما يقال : من أنّ المخصّص لعموم العامّ ليس عموم التأسّي وحده بل هو مع الفعل وهو أقوى ، ففيه : أنّ التنافي بين العامّين إنّما هو بسبب الفعل ، فلا اختصاص له بأحدهما ، إذ كما يمكن تخصيص العامّ بعموم التأسّي مع الفعل كذلك يمكن تخصيص عموم التأسّي بعموم العامّ مع الفعل.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ العبرة في مقام التعارض بنفس الدليل لا بدليل الدليل وإلاّ لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ، إذ مرجع حجية كلّ دليل إلى أدلة عامة ، والفعل هنا خاص وإن كان دليل حجّيّته عامّا ، فيجب تخصيص العامّ به.

ثمّ أجاب بقوله : إنّما يتمّ ما ذكر إذا كان الخاصّ دالاّ في نفسه وإلاّ كان التعارض بين دلالتي العامّين كما في المقام ، فإنّ الفعل مشخّص لعنوان أحد العامّين ، وليس بدالّ (2) ، انتهى ما أردنا نقله.

ومواقع النظر في كلامه غير خفيّة.

أمّا أوّلا : فلأنّ ما يظهر منه في جواب ما أورده على نفسه من تسليم كون عمومات التأسّي دليل الدليل ممّا لا وجه له ؛ لأنّ دليل الدليل هو ما يتوقّف عليه اعتباره بعد أن كان له دلالة كآية النبأ (3) بالنسبة إلى قول العادل : يجب عليك كذا ، وعمومات التأسّي على ذلك المنوال بالنسبة إلى الفعل ، فإنّ الفعل من موارد ظهور

ص: 237


1- مثل الآية : 21 من سورة الأحزاب.
2- الفصول : 217.
3- الحجرات : 6.

ذلك العموم ومظهر وروده كما لعلّه (1) يشعر به قوله : « فإنّ الفعل مشخّص لعنوان أحد العامّين » وبعبارة ظاهرة : أنّ عموم التأسّي إنّما تكفّل حكم موارد فعل النبي صلى اللّه عليه وآله فيكون موارد الفعل موضوعا لدليل التأسّي ، فعمومه دليل لنفس التأسّي والمتابعة ، لا للفعل ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما يظهر منه أيضا في الجواب من إمكان معارضة دليل الدليل والدليل الآخر إذا لم يكن بنفسه دالاّ ، ظاهر الفساد ؛ لأنّ دليل الدليل لا يرتبط بالدليل الآخر بنفسه حتّى يتصوّر فيه المعارضة. نعم ، يمكن المعارضة بين دليل الدليلين ، وذلك من الأمور الظاهرة. ويمكن توجيه كلامه على وجه لا يرد عليه ما أوردنا ، فتدبّر (2).

ص: 238


1- لم يرد « لعلّه » في ( ع ).
2- في ( ع ) و ( ط ) ما يلي : وما نقلنا في المقام إنّما هو من نسخة لاحظها نفسه ، وإلاّ ففي بعض النسخ ما لا يليق انتسابه به. والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في المطلق والمقيّد

اشارة

ص: 239

ص: 240

وتنقيح البحث فيه بطيّ هدايات :

هداية

عرّف المطلق بأنّه : ما دلّ على شايع في جنسه. وفسّره غير واحد منهم بأنّه : حصّة محتملة لحصص كثيرة ممّا يندرج تحت أمر مشترك (1). والظاهر أنّه تفسير للمدلول.

فالمراد بالموصولة بقرينة الصلة - مضافا إلى وقوعه في مباحث الألفاظ - هو اللفظ الموضوع والمراد ب- « الشائع » - على ما يظهر من التفسير - هو الكلّي المأخوذ باعتبار إضافته إلى قيد ما ، فإنّ ذلك هو المعهود من لفظ « الحصّة » وبذلك يخرج ما دل على الماهيّة الغير الملحوظة عن الحدّ ، فإنّها لم يلاحظ فيها الإضافة إلى شيء كاسم الجنس.

وأمّا احتمالها لحصص كثيرة فليس المراد منها الحصص التي هي في عرض الحصّة المفروضة كما هو ظاهر وإن كان قد يوهمه ظاهر التفسير ، بل المراد الحصص التي تلاحظ في تلك الحصّة المفروضة ويحتملها باعتبار

ص: 241


1- منهم صاحب المعالم في المعالم : 150 ، وصاحب الفصول في الفصول : 217 ، والعضدي في شرحه على المختصر : 284 ، ونسبه في ضوابط الأصول : 221 إلى المشهور ، وفي القوانين 1 : 321 إلى أكثر الأصوليّين.

إضافتها إلى قيد آخر غير ما فرض فيها ، والاحتمال ليس على وجه الشمول والاستغراق لجميع ما يحتمله تلك الحصّة كما يشعر به لفظ « الشيوع » وإن كان التفسير ممّا لا يأباه كما لا يخفى.

وبذلك خرج العامّ ، فانّه يدلّ على الحصّة المستغرقة لجميع ما يحتملها (1) من الحصص. ولكنّه يعمّ احتمال النكرة التي لا تصدق دفعة على فردين لتقيدها بالفرد الواحد (2) واحتمال الطبيعة الملحوظة مع شيء ما كقولك : « رقبة مؤمنة » وأمثالها. بل ظاهر التفسير يشكل مطابقته لاحتمال النكرة.

وبذلك يظهر شمول العدّ لهذا القسم من المطلق أيضا ، كما يظهر به خروج الأعلام الشخصيّة من الحدّ ، لعدم الاحتمال فيها إلاّ لمعيّن خاصّ (3) ؛ ويلحق به المعهود الخارجي.

وأمّا المعهود الذهني : فهو يلحق بالنكرة.

وأمّا المعرّف بلام الجنس المأخوذ معه إضافته إلى بعض قيوده كالرقبة المؤمنة فلم يدلّ على خروجه عن الحدّ شيء ، سيّما بعد ملاحظة التفسير.

وأمّا المبهمات فهي خارجة عن الحدّ ، إمّا من جهة العموم المستفاد من بعضها كما في الموصولات ، وإمّا من جهة أنّ الشيوع فيها ليس في جنس ، إذ مداليلها هي الذوات الخارجية من دون أن يكون ملحوظا في كونها موضوعا لها كونها معنونة بعنوان وإن كان ملاحظة العنوان في نفس الوضع ممّا لا مناص عنه.

ص: 242


1- في ( ق ) : بدل « ما يحتملها » : « ما تحته ».
2- في ( ش ) : « بفرد واحد ».
3- في ( ش ) : « المعيّن خاصّة ».

وبعبارة ظاهرة : أنّ الواضع لمّا حاول وضع « هذا » لاحظ المفرد المذكّر العاقل وجعل ذلك اللفظ تعبيرا عن ذوات ذلك العنوان ، من دون أن يكون ذلك العنوان ملحوظا في الموضوع له ، كما يظهر بملاحظة مرادفه بالفارسيّة ، فالشيوع فيها ليس في أمر مشترك معبّر عنه بالجنس.

ومنه يظهر خروج « من » و « ما » الاستفهاميّتين أيضا وغيرهما من أدوات الاستفهام ، فإنّ تلك الألفاظ لا يراد منها إلاّ مجرّد إراءة الذات الخارجية على وجه الاستفهام ، من دون دلالته (1) على كونها حصّة من الماهية ومعنونا بعنوان الجنس والأمر المشترك.

والحاصل : أنّ كلّ ما هو من قبيل عامّ الوضع وخاصّ الموضوع له لا دلالة فيه على عنوان وإن لوحظ في وضعه العنوان آلة لملاحظة الذوات ، فإنّ الموضوع له حقيقة هي الذوات الخارجيّة. نعم ، ملاحظة العنوان في الوضع إنّما يجعل (2) في عدم التجاوز (3) عن مصاديقه والذوات الصادقة عليها ذلك العنوان الملحوظ في الوضع (4).

وممّا ذكرنا يعرف أنّه لا وجه لما زعمه (5) بعض الأجلّة (6) من أنّ « من » و « ما » الاستفهاميّتين يردان على طرد الحدّ ، لدلالتهما على معنى شائع في أفراد

ص: 243


1- كذا ، والمناسب : دلالتها.
2- كذا ، والظاهر أنّه مصحّف : يجدي.
3- في ( ق ) : « عدم تجاوزه ».
4- من قوله : « وبعبارة ظاهرة ... » إلى هنا لم يرد في ( ش ).
5- في ( ق ) : « لما ذكره ».
6- هو الأصفهاني في الفصول : 218.

جنسه أعني جنس (1) العاقل (2) وإنّما تكلّف لإخراج مثل ذلك من ألفاظ العموم البدلي بزيادة قوله : « شيوعا حكميّا » فإنّ الشيوع فيهما وضعيّ.

مع أنّ ذلك كلّه على مذاق من زعم دلالتهما على العموم البدلي ، وهو مخالف لما ذهب إليه جمهور المحقّقين من الأصوليّين وأرباب الأدب من دلالتهما على العموم الاستغراقي ، كما يدلّ عليه اطّراد صحّة الاستثناء منهما ، كما يقال : « من في الدار إلاّ زيد » أو « أيّهم جاء إلاّ زيد ».

والإنصاف : أنّ مجرّد صحّة الاستثناء لا دليل فيها على العموم الشمولي في اللفظ ، ألا ترى أنّه يصحّ الاستثناء من قولك : « أكرم رجلا إلاّ زيدا » على ما هو مفروض الصحّة في قولك : « من في الدار إلاّ زيد » إذ الوجه فيه بعد ظهور احتياج الاستثناء وافتقاره إلى الشمول وإلاّ لم يعقل الإخراج - كما هو معتبر في مفهومه - هو أنّ مرجع الاستثناء حقيقة في الكلام المذكور إنّما هو عن حكم عامّ شموليّ ، وهو جواز قيام كلّ فرد من أفراد الرجل مقام الآخر في مورد الامتثال المفهوم من الكلام ، وذلك ظاهر بعد أدنى تأمّل ، فعمومه الشمولي إنّما هو متصوّر في أدوات الاستفهام بواسطة عمومه البدلي ، كما لا يخفى على من تأمّل (3).

ثمّ (4) إنّه لا ريب في كون الإطلاق والتقييد من الأمور الإضافيّة ، فتارة يمكن اعتبار شيء على وجه الإطلاق كالرقبة المؤمنة بالنسبة إلى حصصها

ص: 244


1- في ( ش ) زيادة : « المذكّر ».
2- كذا ، ولعلّها بحاجة إلى إضافة : وغير العاقل.
3- من قوله : « مع أنّ ذلك ... » إلى هنا لم يرد في ( ش ).
4- في ( ش ) بدل « ثمّ » : « وبالجملة فاعلم ».

المفروضة فيها ، وأخرى على وجه التقييد كما إذا لوحظ نفس الرقبة ، فمن هذه الجهة هي خارجة عن الحد.

ولا فرق في التقييد بين أن يكون حاصلا من اللفظ كما في المثال المذكور ، وبين أن يكون مفهوما من غيره كما في المطلق المنصرف إلى فرد خاصّ (1) فإنّه باعتبار عدم احتماله لتمام حصصه المفروضة خارج عن الحدّ. ولا بأس به ، بل ولا بدّ من إخراجه ؛ لأنّه من المقيّد حقيقة.

ومن هنا تعرف فساد ما أورده بعض الأجلّة : من أنّ التفسير المذكور للحدّ يصدق على المطلق المقيد (2) ، إذ لا بأس به بل يجب المحافظة على دخوله في الحدّ.

كما تعرف فساد ما توهّمه بعضهم : من أنّ قيد « الجميع » في الحدّ الذي ذكره بعضهم (3) يوجب خروج المطلق المنصرف ، ولذا أسقطه عن الحدّ. وجه الفساد ما عرفته ؛ مضافا إلى أنّ إسقاطه غير مفيد إن اريد به الجميع ، وان اريد به الشيوع في الجملة فيصدق على المقيّد أيضا ، فتأمّل (4).

وعرّفه جماعة - منهم الشهيد (5) - بأنّه اللفظ الدالّ على الماهيّة من حيث هي هي (6) والمراد من الماهية أعمّ من الماهية الغير الملحوظة معها شيء كالحيوان

ص: 245


1- في ( ش ) : « الفرد الشائع ».
2- الفصول : 218.
3- لم نعثر عليه.
4- من قوله : « كما تعرف فساد ما توهّمه ... » إلى هنا لم يرد في ش.
5- لم يرد « الشهيد » في ش.
6- راجع نهاية الوصول ( مخطوط ) : 174 ، والذكرى 1 : 45 وفيه : وهو اللفظ الدالّ على الماهيّة لا بقيد ، وتمهيد القواعد : 222.

مثلا من دون ملاحظة لحوق فصل من فصوله له ، ومن الملحوظة معها شيء كالحيوان الصاهل [ و ] كالرقبة المؤمنة ، من غير فرق بين التعبير عنها بما يكشف عن تلك الماهيّة المركّبة على وجه الإجمال كالفرس في المثال المذكور أو على وجه التفصيل كما في المثال المذكور ، فيشمل الحدّ لما هو غير مقيّد أصلا ولما هو مقيّد لكنّه ملحوظ من جهة إطلاقه في حصصه وأفراده ، فإنّه يصدق عليه أيضا أنّه دالّ على الماهيّة من حيث هي هي ، ولا يوجب انحصار المطلق فيما لا تقييد فيه أصلا ، كما في جنس الأجناس ، إذ لا فرق قطعا بين الإجمال والتفصيل كما لا يخفى.

وأمّا الماهيّة الملحوظة مع التشخّص وإن كان على وجه الإبهام كما في النكرة ، فالظاهر عدم انطباق الحدّ عليها ، كما لعلّه ظاهر ، ولا يمكن إدراجها تحته إلاّ بتكلّف فاسد.

فالإنصاف : أنّ الحدّين كلاهما قاصران عن بيان ما هو المراد من المطلق ، كما يظهر من تضاعيف كلماتهم ومطاوي موارد إطلاقاتهم ، فإنّ الحدّ الأوّل لا يصدق على اللفظ الدالّ على الماهيّة المطلقة ، والثاني لا يصدق على النكرة ، مع أنّ القوم قد عاملوا مع كلّ واحدة منهما معاملة المطلق وأجروا عليهما أحكامه من غير فرق بينهما بوجه.

وقد يتخيّل زيادة قسم ثالث للمطلق وهو الإطلاق المستفاد من الأوامر عند الشكّ في كونها مشروطة أو مطلقة. وهو وهم ، لما قرّرنا من أنّه راجع إلى إطلاق المادّة وعلى تقدير عدمه فلم يعلم وجه المغايرة ، كما هو ظاهر.

ولا يبعد إحالة التحديد إلى ما هو المستفاد من لفظ « المطلق » لغة ، فإنّه فيها : ما ارسل عنانه ، فيشمل الماهية المطلقة والنكرة. والمقيد بخلافه ،

ص: 246

فهو ما لم يرسل عنانه ، سواء كان مطلقا ومرسلا ثم لحقه التقييد فاخذ عنانه وقلّ انتشاره. مثل « رقبة مؤمنة » لا من حيث إطلاقه وإرساله ، أو لم يكن مرسلا من أوّل الأمر كالأعلام الشخصيّة ونحوها ، ولكن إطلاق المقيّد عليها من قبيل « ضيّق فم الركيّة » وهذا الاستعمال في غاية الشيوع بينهم.

ولا يرد على المطلق أسماء العدد ، فإنّها لا إرسال فيها كما هو ظاهر ، واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد.

ص: 247

ص: 248

هداية

اشارة

الحقّ - كما عليه جماعة من أرباب التحقيق - أنّ التقييد لا يوجب مجازا في المطلق من جهته ، وأوّل من صرّح بذلك [ من أئمّة الفنّ على ما اطّلعت عليه هو ](1) السيّد السلطان (2) [ وإن كان يظهر ذلك من جماعة من المحقّقين في غير الفنّ ، كما لا يخفى على المتدرّب ](3).

وذهب بعضهم (4) إلى أنّه مجاز بل نسب إلى المشهور (5). ولا أظنّ صدق النسبة.

وفصّل ثالث بين التقييد بالمتّصل فاختار ما اخترناه ، وبين التقييد المنفصل فذهب إلى أنّه مجاز (6).

وتحقيق المقام موقوف على تمهيد ، وهو أنّ الماهيّة يمكن اعتبارها على وجوه مختلفة :

ص: 249


1- لم يرد في ( ش ).
2- في ( ش ) : « سلطان المحقّقين » ، وراجع لما صرّح به حاشيته المطبوعة في هامش المعالم : 155 ، ذيل قول الماتن : فلأنّه جمع بين الدليلين.
3- لم يرد في ( ش ).
4- ذهب إليه المحقّق القمي في القوانين 1 : 325.
5- لم نعثر عليه.
6- ذهب إلى هذا التفصيل القزويني في ضوابط الاصول : 225 - 326.

فتارة : تعتبر على وجه التقييد بشيء خاصّ وقيد مخصوص ، سواء كان ذلك القيد ممّا يقتضي حصرها في شيء خاصّ كما في ماهيّة الإنسان الملحوظ معها خصوصيّة زيد على وجه لا يمكن التعدّي عنه ، أو كان ممّا يقتضي عدم حصرها في شيء خاصّ مثل ما يلحق الإنسان من الاعتبار الموجب لكفاية الإكرام لكلّ فرد منه في مقام الامتثال لو تعلّق الأمر بإكرامه ، ولا ريب أنّ ذلك اعتبار زائد على نفس المعنى ولا يلازمه دائما ، لجواز انفكاكه عن الماهيّة وهذا هو المعبّر عندهم بالماهيّة بشرط شيء.

وأخرى : تعتبر على وجه عدم التقييد (1) وهي الموسومة عندهم بالماهيّة بشرط لا ، وهذه ممّا لا يتحقّق لها حكم عمليّ ، لعدم إمكان تحقّقها إلاّ في الذهن إن كان القيد الملحوظ عدمه فيها هو الوجود أو ما يلازمه.

وثالثة : تلاحظ على وجه الإرسال وعدم ملاحظة شيء معها من أمر وجودي أو عدمي ، فهي في هذه المرتبة ليست إلاّ هي ويمكن حذف جميع ما عداها وسلبها عنها ، كما أنّها في هذه المرتبة يحمل عليها الأضداد ، وهي الموسومة عنده بالماهيّة لا بشرط شيء [ معها ](2) والتي يرتفع عنها النقيضان ، بمعنى عدم أخذهما فيها ، كما هو (3) الموضوع لهما أيضا من دون حاجة لأن يلاحظ معها قيد في صحة حمل الأضداد أو المتناقضين عليها ، كيف! وتلك القيود لا بدّ من رجوعها إلى الأضداد ، وهي ثابتة لها من دون

ص: 250


1- كذا ، والظاهر : التقييد بالعدم.
2- من ( ش ).
3- كذا ، والظاهر : « هي » لرجوع الضمير إلى الماهيّة ، وإلاّ فلا معنى للعبارة.

مدخليّة قيد دفعا للتسلسل. ولا فرق بين هذا القسم والمقسم إلاّ بمجرّد الاعتبار والملاحظة ، على وجه حرّرناه في غير المقام.

وملخّصه : أنّ القسم يمايز المقسم بالالتفات إلى أنّه في تلك الحالة كذلك ، وهو غير ملتفت به في المقسم وإن كان هو أيضا كذلك. وما ذكرنا إنّما يجري بالنسبة إلى جميع القيود التي يمكن اعتوارها على أمر سواء كان ذلك الأمر ممّا قد لوحظ معه شيء آخر غير ما فرض كونه لا بشرط بالنسبة إليه أو لا.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ اللفظ المطلق بكلا قسميه إنّما هو موضوع للمعنى اللابشرط الذي لم يلاحظ فيه وجود القيد وعدمه من القيود التي يمكن لحوقها له ، سواء كان ماهيّة غير مقيّدة بفرد كما هو مقتضى التحديد الثاني أو نكرة ؛ لأنّ المفروض فيها أيضا إمكان اعتوار القيود المعيّنة للتشخّص المبهم المأخوذ فيها ، فالموضوع له هو نفس المعنى الذي قد يكون ذلك المعنى واحدا وقد يكون هو بعينه (1) في عالم نفس المعنى كثيرا ، وقد يكون أبيض حال كونه أسود ... إلى غير ذلك.

ولا ريب في أنّ المعنى بعد ما كان على هذا الوجه لا يعقل أن يوجب التقييد فيه اختلافا ، وبعد عدم اختلافه في جميع مراتب تقلّباته وأنحاء ظهوره ومراتب وجوده لا يعقل أن يكون التقييد مجازا (2) ؛ لأنّه هو بعينه في جميع مظاهره وأطواره وشئونه ، ومن تلك الأطوار ظهوره على وجه السراية والشيوع.

ص: 251


1- في ( ق ) : « بنفسه ».
2- في ( ش ) : « أن يوجب التقييد فيه مجازا ».

فالماهيّة في هذه الملاحظة ملحوظة بشرط شيء ، لما أشرنا إليه : من أنّ الشيء المشروط به أعمّ من ذلك ومن غيره ، ولذلك تكون القضيّة التي اعتبر موضوعها على هذا الوجه من المحصورة في وجه.

وبالجملة ، فمتى اعتبر مع نفس المعنى أمر غير ما هو مأخوذ فيه في نفسه فهو من أطوار ذلك المعنى ، سواء كان ذلك الأمر هو اعتبار الوجود الذهني فيه أو الخارجي أو اعتبار آخر غيرهما ، وفي جميع هذه الأطوار نفس المعنى محفوظ لا تبدّل ولا تغيّر فيه بوجه ، وإنّما المتبدّل وجوه المعنى ، كما هو ظاهر.

وإلى ما ذكرنا يشير السيّد المتقدّم بقوله : « إنّه يمكن العمل بالمطلق والمقيّد من دون إخراج عن حقيقته بأن يعمل بالمقيّد ويبقى المطلق على إطلاقه ، فلا يجب ارتكاب مجاز حتّى يجعل ذلك وظيفة المطلق ، فإنّ مدلول المطلق ليس صحّة العمل بأي فرد كان حتّى ينافي مدلول المقيّد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد بل المقيّد في الواقع ، ألا ترى أنّه معروض للقيد ، كقولنا : رقبة مؤمنة ، وإلاّ لزم حصول المقيّد بدون المطلق ، مع أنّه لا يصلح لأي رقبة كانت ، فظهر : أنّ مقتضى المطلق ليس ذلك ، وإلاّ لم يتخلّف عنه » انتهى (1).

قوله : « فإنّ مدلول المطلق ليس ... » والوجه فيه ما عرفت : من أنّ هذه الملاحظة من أطوار المعنى وشئونه ، ومدلول اللفظ ليس إلاّ نفس المعنى.

قوله : « بل هو أعم منه وممّا يصلح للتقييد ، بل المقيّد » الوجه فيه هو ما عرفت : من أنّ اللفظ موضوع لنفس المعنى الذي هو المقسم في الأقسام

ص: 252


1- راجع حاشية السلطان المطبوعة في هامش المعالم : 155 ، ذيل قول الماتن : فلأنّه جمع بين الدليلين ... مع تفاوت في الألفاظ ، والعبارة مأخوذة من القوانين ، راجع القوانين 1 : 326.

المعتبرة في المعنى وإن كان أحد أقسامه وهو ما يصلح للتقييد المعبّر عنه بالماهيّة لا بشرط [ أيضا ](1) نفس ذلك المعنى من غير اختلاف بينهما إلاّ بمجرّد الاعتبار ، كما عرفت.

وكلمة « بل » في قوله : « بل المقيّد » ليست للإضراب كما زعمه بعض الأجلّة (2) بل هو للترقّي ، والوجه فيه هو : أنّ المقيّد هو ذلك المعنى القابل للتقييد الذي عرضه التقييد بواسطة تلك القابليّة ، وذلك لا يوجب خروج المعنى عمّا كان عليه بل هو هو ؛ ولذلك يصحّ الحمل عليه ، ولو لا أنّ اللفظ موضوع لنفس المعنى لم يصحّ الحمل في قولك « زيد إنسان » من دون تأويل وخروج عن الظاهر ، وبطلان التالي كنفس الملازمة ظاهر جدّا ، إذ الماهيّة الملحوظة على وجه السراية والشيوع ليست متّحدة مع الموضوع ، بل المتّحد معه هو نفس المعنى على وجه لا يمازجه شيء غيره ، فقضيّة صحّة الحمل بدون تأويل كون اللفظ موضوعا لنفس المعنى القابل للتقييد ، والشيوع والسراية خارجة عنه.

ولعمري! إنّ ذلك من المعاني الظاهرة التي لا ينبغي خفاؤها على أحد ، ولعلّه أيضا غير خفيّ في غير المقام ، إلاّ أنّه ظهر من بعضهم (3) كلمات تخالف ما ذكرنا.

فالقول بالمجازيّة ممّا لا نعرف له وجها. والذي يقضي بذلك - مضافا إلى ما عرفت - أنّ المركّبات لا بدّ لها من وضع شخصي أو نوعي به يدلّ على ما هو المقصود من التركيب من توصيف أو إضافة أو اتّحاد ، ففي قولنا : « رقبة مؤمنة »

ص: 253


1- من ( ش ).
2- وهو صاحب الفصول في الفصول : 221.
3- العبارة في ( ش ) : « ظهر مع ذلك من بعض ».

لفظ « الرقبة » يدلّ على الموصوف « كالمؤمنة » على الصفة والهيئة على التوصيف ، وكلّ واحد من هذه المعاني ممّا يدلّ عليه لفظه بدون مشاركة قرينة أو علاقة ، فمن أين يحكم بكونه مجازا؟ ولما ذا يلزم؟ وما الداعي إلى التزامه؟

فإن قلت : إنّ ذكر الصفة قرينة على إرادة الموصوف من حيث اتّصافه بالصفة.

قلت : كلاّ! فإنّ هذه الحيثيّة إنّما يصحّ انتزاعها من الموصوف بعد ذكر الصفة ، فكيف يمكن اعتبارها في لفظ الموصوف.

فإن قلت : إنّ المتبادر من المطلق هو الإشاعة والسراية ، ولذا لا يتأمّل في الحكم بصحّة أيّ فرد كان بعد السماع لقولك : « أكرم رجلا » ونحوه.

قلت : إن اريد أنّ نفس اللفظ إنّما يستفاد منه ذلك فهو ممنوع بل هو مقطوع الفساد ، لوجود أمارات على خلافه على وجه القطع. وإن أريد أنّ اللفظ بمعونة المقام - كما ستعرف تفصيله - يستفاد منه ذلك فهو مسلّم ، لكنّه لا يرتبط بما ذكر بوجه ، من غير فرق فيما ذكرنا بين موارد استعماله من الإخبار كما في قوله تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) الآية (1) ، أو الإنشاء كما في قولك : « أكرم رجلا » لاتّحاد المناط فيهما.

والقول بأنّ « الرجل » على وجه الإهمال ممّا يمتنع تعلّق الحكم الشرعي به ، فلا بدّ من أن يراد به إمّا الإطلاق بمعنى الماهيّة ملحوظة على وجه السراية ، أو خصوص المقيّد مثل « زيد » ، بخلاف الإخبار ، فإنّه يعقل أن يخبر عن عنوان « الرجل » ولو على وجه الإجمال والإهمال ، وهذا هو الوجه في الفرق بين المقامين.

ص: 254


1- القصص : 20.

مدفوع بأنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو كان المقصود من الأمر المتعلّق بالماهيّة المهملة هو بيان تمام المراد والمقصود ، كما أنّه لو كان المقصود الإخبار عن تمام من قام به السعي في الآية الشريفة لم يصحّ في بيانه الاكتفاء (1). وأمّا إذا كان المراد بيان بعض ما هو المطلوب فلا بأس به ولا ضير فيه كما هو كذلك في الآية الشريفة ، فالفرق ممّا لا وجه له.

وممّا يدلّ على ما ذكرنا : أنّه لو فرض لماهية واحدة إرسال من جهات عديدة فقيّدت من إحدى الجهات ، فعلى القول بالمجازيّة لا بدّ وأن يكون لانسلاخ الشيوع والسراية من تلك الجهة من اللفظ ، والمفروض عدم التقييد من جهات اخرى ، فالشيوع باق بحاله من جهتها ، ولا بدّ أن يكون حقيقة من تلك الجهة ، فيلزم كون اللفظ الواحد في استعمال واحد حقيقة ومجازا وهو باطل جدّا ، وبعد ملاحظة أنّ جميع المطلقات ممّا لا يخلو عن تقييد ما يلزم كون جميعها حقيقة ومجازا.

والقول بأنّ ذلك نظير العامّ المخصّص - فإنّه إمّا أن يكون حقيقة أو مجازا - باطل ، للفرق بين المقامين كما لا يخفى ؛ مضافا إلى أنّ ذلك في المقام محلّ كلام ، نظرا إلى أنّ أغلب التخصيصات فيه راجع إلى التقييد ، فتأمّل حتّى تهتدي إلى المرام.

وممّا يشهد بما ذكرنا كثير من موارد استعمال الألفاظ المطلقة ، كقول الطبيب لمن حاول أن يعالجه : « إنّه لا بدّ لك أن تشرب الدواء » ولا يجوز أن يؤخذ بإطلاقه فيشرب كلّ ما يصدق عليه الدواء ، فإنّ أمثال هذه الاستعمالات

ص: 255


1- كذا في ( ق ) ، وفي سائر النسخ : « الانتفاء ».

في العرف فوق حدّ الإحصاء ، ولا ريب في أنّها خالية عن أمارة المجاز ؛ مضافا إلى مساعدة أمارة الحقيقة عليها أيضا ، كما يظهر بعد التأمّل الصادق في مواردها.

ومن هذا القبيل جملة من الأوامر الشرعيّة التي يختلف تفاصيل مواردها على حسب اختلاف موضوع المكلّفين سفرا وحضرا صحّة ومرضا اختيارا واضطرارا ... إلى غير ذلك ، مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) بناء على القول بوضع الصلاة للأعمّ ، فالمراد من ذكره بيان أصل المشروعيّة ، وأمّا تفاصيل ذلك فهي موقوفة على بيان آخر في موارد أخر (2) كما هو كذلك أيضا ؛ ولذا لا يحسن الاستفهام عند الاطّلاع على مثل الواقعة الواردة في مقام الإهمال ، فإنّه لازم للإجمال ، سواء كان في الاشتراك اللفظي أو في الاشتراك المعنوي.

ثمّ إنّه لا فرق [ فيما ذكرنا ](3) بين اتّصال القيد بالمطلق كقولك : « رقبة مؤمنة » وانفصاله عنه كقولك : « أعتق رقبة مؤمنة » بعد الأمر بالمطلق ، فإنّ ما عرفت من الوجوه متساوية النسبة إليهما ولا وجه لما تخيّله بعض (4) : من أنّه على تقدير الانفصال لا بدّ وأن يراد من المطلق (5) خصوص المقيّد على وجه المجازيّة (6) ، لإمكان أن يراد به نفس المعنى إلى أن يلحقه القيد ، فذكر القيد ينهض

ص: 256


1- البقرة : 43.
2- كذا في ( س ) ، وفي سائر النسخ : « مورد آخر ».
3- لم يرد في ( ق ).
4- في ( ش ) والمطبوع : « البعض ».
5- في ( ق ) : « بالمطلق ».
6- راجع ضوابط الاصول : 225.

ببيان تمام المراد ، وقبل الاطّلاع على القيد (1) لو تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد لا ينافي ما ذكرنا ، إذ بعد الاطّلاع يكشف عن عدم وروده في ذلك المقام ويكون اللفظ مستعملا في نفس المعنى على وجه الحقيقة.

لا يقال : كما أنّه يمكن ما ذكرت ، فيمكن أن يكون ورود المقيّد كاشفا عن إرادة المقيّد من المطلق ، فيكون مجازا ؛ لأنا نقول : إنّ ذلك الوجه ممّا ينكره العرف ؛ مضافا إلى أن أصالة الحقيقة تحكم بما ذكرنا.

لا يقال : إنّ أصالة الحقيقة لا مسرح لها في مورد يكون شيء يصلح لأن يكون صارفا عنها كما في المقام ؛ لأنّا نقول بعد الغضّ عن أصل المبنى - كما قرّر في محلّه - : إنّما هو في غير المقام ، لعدم اختلاف المقصود بالصرف وعدمه ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا يعقل فرق بين الرقبة الموصوفة بالإيمان في قولك : « رقبة مؤمنة » وبين الرقبة المجرّدة ، فكما أنّ القول بأنّ الرقبة في التركيب الأوّل إنّما يراد منها الرقبة المؤمنة بقرينة ذكر القيد شنيع في الغاية - كما أوضحنا سبيله فيما مرّ - فكذلك القول بأنّ المراد منها في الثاني هو المقيّد ، لوجود ما يصلح للصرف في الأوّل أيضا.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يظهر فساد ما نسبه بعضهم إلى بعض الأفاضل (2) : من القول بأنّ المطلق مع قطع النظر عن المقيّد له وضع مغاير لوضعه معه ، نظير فعل المضارع المقرون ب- « لم ».

وجه الفساد : أنّ ذلك تكلّف بارد ، إذ بعد إمكان استفادة الوجهين من وضع واحد لا وجه لتعدّد الوضع بعد عدم مساعدة اعتبار عقليّ أو نقليّ عليه.

ص: 257


1- في ( ق ) : « قيده ».
2- انظر هداية المسترشدين 3 : 222.
تذنيب :

قضية ما عرفت من معنى اللفظ وعدم اعتبار شيء في الموضوع له من الوجوه الطارية والقيود اللاحقة هو عدم الفرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة أو النهي بها بحسب القواعد اللفظيّة الممحّضة في تشخيص مداليل اللفظ بحسب الأوضاع اللغويّة ، فإنّ قولك : « لا تضرب » لا يفيد سوى وجوب ترك ماهيّة الضرب المفروض كونها (1) لا يزيد عليها شيء من الاعتبارات. نعم ، ملاحظة ماهيّة الضرب على وجه الشيوع والسراية التي هي أحد الوجوه الطارئة عليها ثمّ النهي عنها يوجب التكرار والدوام ، وقد عرفت أنّ ذلك خارج عن معنى اللفظ فلا بدّ له من التماس دليل آخر كما هو المحتاج في الأمر أيضا.

والقول بالفرق من حيث إنّ قولنا : « اضرب » و « لا تضرب » متناقضان ، فلا بدّ من القول بإفادة النهي التكرار - بملاحظة المناقضة (2) - واضح الفساد ، لما عرفت من أنّ نفس المعنى ممّا يصحّ اجتماع المتناقضين فيه ، ولذا لا تناقض بين وجود زيد الانسان وعدم عمرو الانسان. فإن أريد ثبوت المناقضة بمجرّد ملاحظة نفس المعنى فهو فاسد ، لجواز اجتماع النقيضين في مقام نفس المعنى كارتفاعهما. وإن أريد ثبوته باعتبار آخر فهو لا ينافي ما نحن بصدده.

ص: 258


1- في ( ق ) بدل « المفروض كونها » : « التي ».
2- في ( ق ) : « دفعا للمناقضة ».

هداية

قد تكرّر فيما تقدّم : أنّ الشياع والسريان خارجان عن معنى اللفظ ولا بدّ في إثباتهما من التماس وجه آخر غير اللفظ ، فلا بدّ من تحقيق ذلك الوجه ، فنقول : إنّه موقوف على أمرين :

أحدهما : انتفاء ما يوجب التقييد داخلا أو خارجا.

والثاني : كونه واردا في مقام بيان تمام المراد.

ومتى شككنا في أحد الأمرين لا يحكم بالسراية إلاّ أن يكون هناك ما يوجب ارتفاع الشكّ من أصل أو دليل ؛ فلو دلّ دليل على التقييد لا وجه للأخذ بالإطلاق ، لارتفاع مقتضى الإطلاق ، لا لوجود المانع عنه ، وإن كان الدليل الدالّ على التقييد أيضا ممّا يحتمل فيه التصرّف بحمل الوارد فيه على الاستحباب ، إلاّ أنّ أصالة الحقيقة يكفي في رفع ذلك الاحتمال. ولا تعارض بأصالة الحقيقة في المطلق ، لعدم لزوم مجاز فيه ، وإنّما حمل على الإطلاق والإشاعة بواسطة عدم الدليل ، فالإطلاق حينئذ بمنزلة الأصول العمليّة في قبال الدليل وإن كان معدودا في عداد الأدلّة دون الأصول ، فكأنّه برزخ بينهما.

وتوضيح المطلب : أنّه إن علمنا بعدم التقييد مع وروده في مقام البيان فلا ينبغي الإشكال في إفادته التخيير والشياع ، إذ لولاه فإمّا أن يراد منه البعض المعيّن أو جميع الأفراد ، وكلّ واحد منهما خلاف الفرض ، لما عرفت من العلم بعدم التقييد فلا بدّ من أن يراد منه التخيير.

ص: 259

فإن قلت : إنّ ملاحظة المعنى على وجه التخيير أيضا من القيود التي فرضنا العلم بعدمها.

قلت : نعم ، ولكن يكفي في إثبات ذلك القيد عدم ذكر قيد آخر وإخراج كلام المتكلّم عن اللغويّة وعدم إسناد القبيح إليه ، وهو إخفاء المطلوب مع أنّه بصدد بيانه مع عدم ما يقضي بخلافه من مصلحة الإخفاء كما هو مفروض المقام.

فإن قلت : يكفي في إثبات (1) التخيير والشياع استواء نسبة الماهيّة الغير الملحوظة بشيء من الاعتبارات إلى جميع أفراده ، فلا حاجة إلى إحراز كون المتكلّم في صدد بيان تمام المراد ، كما صرّح بذلك جماعة ، منهم بعض الأفاضل (2).

قلت : لو لا كونه في مقام البيان لا يجدي ذلك في إفادة التخيير والشياع إذ استواء النسبة لا ينافي أن يكون المتكلّم في مقام بيان بعض المراد ، وقد عرفت عدم إفادته الشياع في ذلك المقام. نعم ، ذلك يفيد بعد إحراز كونه بصدد بيان تمام المراد ، فيحكم العقل بحصول الامتثال بالنسبة إلى كلّ الأفراد المتساوية في صدق الماهيّة عليها.

وأمّا إذا شكّ في أحد الأمرين ، فإن شكّ في ورود المقيّد فبأصالة عدم ورود المقيّد المعمولة عند أرباب اللسان يستكشف عدم التقييد ، وهذا ممّا لا ريب فيه.

وهل هناك أصل يرجع إليه عند الشكّ في ورود المطلق في مقام البيان؟

ص: 260


1- في ( ق ) بدل « إثبات » : « مصلحة ».
2- لم نعثر عليه.

قد يقال (1) : إنّ أغلب موارد استعمال المطلقات كذلك (2) فعند الشكّ يحمل عليه. وليس بذلك البيعة ، فتأمّل.

وأمّا إذا علم بانتفاء أحدهما فلا ينبغي الأخذ بالإطلاق ، أمّا الأمر الثاني (3) فلما عرفت من عدم الداعي لا لفظا ولا عقلا لعدم الدلالة وعدم لزوم القبيح (4). وأمّا الأمر الأوّل (5) فلو علم بورود ما يصلح للتقييد فلا وجه للاعتماد على أصالة عدم ورود القيد ، فهو - ولو بملاحظة أصالة الحقيقة - ينهض مقيّدا للمطلق ، لكفايته في مقام البيان ، ويستكشف من ذلك عدم ورود المطلق في مقام البيان ، ويرتفع بذلك ما هو الوجه في الحكم بإطلاقه.

وهذا هو السرّ في الحكم بتقديم التقييد على أنحاء التصرّفات المتصوّرة في اللفظ ، فلا حاجة إلى دعوى شيوع التقييد بالنسبة إلى غيره من التصرّفات وإن كان الوجه في شيوعه هو (6) ما ذكرنا [ واللّه الهادي إلى سواء السبيل وهو خير معين ](7).

ص: 261


1- راجع ضوابط الاصول : 223 - 224.
2- في ( ش ) والمطبوع : « إنّما هو ذلك ».
3- يعني كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، راجع الصفحة : 267.
4- العبارة مشوّشة وقاصرة عن إفادة المراد جدّا.
5- يعني انتفاء ما يوجب التقييد داخلا أو خارجا ، راجع الصفحة : 263.
6- في المطبوع بدل « هو » : « أيضا ».
7- من ( ق ).

ص: 262

هداية

اشارة

قد عرفت أنّ حمل المطلق على الإطلاق موقوف على أمرين : أحدهما عدميّ ، والآخر وجوديّ ، ويتولّد من كلّ واحد منهما شرط للحمل على الإطلاق ، كما أفاده بعض المحقّقين في فوائده (1).

الأوّل :

أن لا يكون منصرفا إلى بعض الأفراد. والوجه في ذلك : الاشتراط ظاهر بعد قيام الانصراف مقام التقييد اللفظي ، إلاّ أنّه لا بدّ من توضيح موارده ، فنقول : إنّ له أقساما :

أحدها : الشيوع الحضوري (2) بمعنى حضور (3) بعض أقسام المعنى في الذهن بواسطة استيناس حاصل به مع القطع بعدم كونه مرادا بالخصوص كانصراف الماء إلى ما هو المتعارف شربه في البلد ، كالفرات في العراق مثلا.

ثانيها : ما هو أقوى من ذلك مع ارتفاعه بالتأمّل ، وهو المسمّى بالتشكيك البدوي.

وثالثها : أن يكون الشيوع موجبا لاستقرار الشكّ واستمراره على وجه لا يزول بالملاحظة والتأمّل ، نظير الشكّ الحاصل في المجاز المشهور عند التردّد في وصول الشهرة حدّا يمكن معها التصرّف. إلاّ أنّه في المجاز محكوم بإرادة

ص: 263


1- الفوائد الحائرية : 361 ، الفائدة 5.
2- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « الخطوري ».
3- في المطبوع و ( ع ) : « خطور ».

الحقيقة نظرا إلى أصالتها ، وفي المقام محكوم بالإجمال نظرا إلى أنّ الحكم بالإطلاق ممّا لا قاضي به. أمّا على المختار فلأنّ بعد احتمال البيان قويّا لا ضير في ترك الإطلاق ولا يجري فيه أصالة الحقيقة ، وأمّا على المجازيّة [ كما عليه المشهور ](1) فلأنّ شيوع هذا المجاز هو الفارق بينه وبين غيره من عدم جريان أصالة الحقيقة عند احتماله.

ورابعها : بلوغ الشيوع حدّ الشياع في المجاز المشهور عند تعارضه مع (2) الحقيقة المرجوحة ، إلاّ أنّه يحكم في المجاز بالتوقّف وبالتقييد في المقام.

أمّا على المختار ، فلما عرفت من صلاحيّته للبيان وبعد وجود ما يصلح له لا يحكم العقل بالإطلاق من غير فرق بين القرينة الداخلية - أعني الشيوع - وغيرها. وما توهّم : من أنّ الشيوع لا يصلح أن يكون دليلا على الخصوصيّة والتقيّد (3) ليلزم منه كون المطلق حقيقة ، بل إنّما هو صالح لأن يراد من المطلق المقيّد فيكون مجازا حينئذ لا محالة ، فهو فاسد ، إذ لم نجد ما يقضي بذلك ، فكما أنّه يمكن ذلك فيه فما نحن فيه أولى به.

وأمّا على المشهور ، فلوضوح الفرق بين المجازات كما عرفت ، ولعلّ الوجه هو الأخذ بالمعلوم ، فإنّ المقيّد هو القدر المتيقّن على دخوله في المطلق ، إلاّ أنّ ذلك خلاف الاحتياط عند عدم التمكّن من المقيّد ، فلا بدّ من بيان ما هو الملاك في التقييد. نعم ، يتمّ ذلك في مقام العمل ، فتأمّل.

وخامسها : بلوغ الشيوع حدّ الاشتراك ثمّ النقل. وقد يتوهّم على المختار من عدم لزوم مجاز في التقييد بلوغه ذلك الحدّ مشكل ؛ لأنّ المعنى الموضوع له

ص: 264


1- من ( ش ).
2- في ( ش ) زيادة : « أصالة ».
3- في غير ( ش ) : « التقييد ».

محفوظ في جميع المراتب ولا يختلف باختلاف الوجوه كما عرفت والنقل مسبوق بالمجاز لا محالة ، فكيف يتصوّر ذلك؟

والجواب عن ذلك : أنّ ما ذكرنا إنّما هو في مقام بيان عدم الملازمة بين التقييد والمجاز ، وإلاّ فقد يمكن أن يكون التقييد مجازا ، كأن يراد من لفظ المطلق - الموضوع لنفس المعنى - المقيّد بواسطة القرينة ، ولا امتناع في ذلك ، كيف والعموم والخصوص من العلائق التي تراعى بين المعاني الحقيقيّة والمجازيّة ، ومن موارد تلك العلاقة استعمال الكلّي والمطلق في الفرد والمقيّد ، فيمكن حصول النقل بملاحظة هذا النحو من الاستعمال. نعم ذلك غير ممكن على الوجه الآخر الذي لا يلزم على تقديره مجاز ؛ مع أنّه يمكن القول بإمكانه على ذلك التقدير أيضا ، كأن يكون الذهن غير ملتفت إلى ما يوجبه التقييد لكثرة استيناسه بما يوجب التقييد ، فينتقل تارة بعد تأكيد الأنس إلى المقيّد مع قطع النظر عمّا يوجبه ، نظير حصول النقل على وجه المجازيّة أيضا.

ثمّ إنّ الانصراف كما يختلف مراتبه - كما عرفت - كذلك يختلف مراتبه ؛ لأنّه بمنزلة التقييد ، بل هو هو بعينه ، إلاّ أنّ المقيّد هنا لبّي ، فقد يكون اللفظ من إحدى الجهات منصرفا ومطلقا من جهة غيرها ، ويلحق بكلّ جهة حكمها ، من دون سراية إلى الاخرى.

ولو شكّ في الانصراف أو في بلوغه حدّا لا يؤخذ معه بالإطلاق ، ففي الأخذ به أو عدمه وجهان ، ولعلّ الأوّل أقرب ، لعدم العلم ولا ما يقوم مقامه من أصل ونحوه بالبيان ، فاعتبار (1) المتكلّم على ذلك قبيح ولا رافع له من حكم العرف بالبيان ، فتأمّل.

ص: 265


1- كذا ، والظاهر : فاعتماد.

تفريع : إذا قام إجماع أو نحوه على ثبوت حكم المنصرف إلى الشائع للفرد النادر ، فهل يوجب ذلك الحكم بإطلاقه من جميع الجهات التي يكون منصرفا بالنسبة إليها ، أو لا فيقتصر على ثبوت الحكم لذلك المورد بالخصوص ويؤخذ بالانصراف في الجهات الباقية؟ وجهان بل قولان ، فالمشهور على الثاني ، ونسب إلى الشريف المرتضى (1) الأوّل حيث حكم بجواز التطهير بالمضاف. خلافا للمشهور لذهابهم إلى عدم الجواز لانصراف الغسل إلى ما يحصل بالماء المطلق. فقال المرتضى : إنّ الغسل بالمضاف كما أنّه من الأفراد النادرة فكذلك الغسل بماء الكبريت ونحوه من الأفراد النادرة أيضا ، والإجماع على جواز التطهير بأمثال ماء الكبريت ثابت (2) وبذلك يستكشف عن كون المراد هو المطلق على وجه الاطلاق (3).

وقال بعضهم : إنّ الحقّ في ذلك هو التفصيل ، بأن يقال : إن علمنا أنّ مستند الإجماع على تعلّق الحكم الكذائي ببعض الأفراد (4) النادرة هو تعلّق الحكم على المطلق ليكون فتوى المجمعين مستندا إلى ظاهر الإطلاق ، فالتعويل على ما اختاره الشريف المرتضى كما هو كذلك في الفرع المتنازع فيه ، فلا وجه لردّ السيّد بالانصراف ولا بدّ له من إبداء وجه غيره. وإن لم يعلم ذلك فلا ، إذ لعلّ هناك دليلا خاصّا دلّ على تعلّق الحكم المذكور بخصوص هذا الفرد النادر ، كما لا يخفى.

ص: 266


1- نسبه في ضوابط الأصول : 222 ، وراجع مفاتيح الأصول : 197.
2- لم يرد « ثابت » في ( ش ) والمطبوع.
3- راجع مسائل الناصريات : 105 - 106.
4- في ( ق ) : « بالأفراد ».

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ النسبة المذكورة ممّا لا دليل عليها ، فإنّ السيّد حكم بالإطلاق في ذلك المورد الخاصّ لا مطلقا ، وهو في محلّه.

ويمكن أن يقال : إنّ ذلك غير وجيه بعد تعدّد جهات الإطلاق والانصراف ، فإنّهم لو استندوا إلى الإطلاق من جهة خاصّة لا ملازمة بين ذلك وبين استنادهم إليه من جهة أخرى ، فإنّ الانصراف أيضا كما عرفت من التقييد ، فكما لا ينافي ورود التقييد اللفظي الآخذ بالإطلاق من جهة لم يرد فيها (1) فكذلك الانصراف.

ولكنّه لا بدّ من التأمّل من حيث نسبة ذلك إلى من هو أعرف منّا بمواقع الكلام.

الشرط الثاني :

إذا فرض لإطلاق المطلق جهات عديدة ، فالشرط في حمله على الاطلاق من كلّ جهة أن يكون واردا في مقام بيان تلك الجهة بخصوصها ، فلا يجوز التعويل على الإطلاق في الجهة التي لم يرد المطلق في مقام بيانها. ووجه الاشتراط ظاهر بعد ما عرفت من أنّ الإطلاق إنّما هو موقوف على وروده في مقام البيان ؛ لأنّه لو لم يحمل على العموم من تلك الجهة وحمل على الإهمال من جهتها لا يلزم قبيح على المتكلّم ، ويظهر ذلك في الغاية بالمراجعة إلى المحاورات العرفيّة ، فلو أفتى المجتهد مقلّده بجواز الصلاة في القلنسوة النجسة ، فهل ترى أن يؤخذ بإطلاق القلنسوة ويحكم بجواز الصلاة فيها إذا كانت مغصوبة أيضا؟ ومن هنا أوردوا (2) على الشيخ في استدلاله على طهارة موضع عضّ الكلب

ص: 267


1- في ( ش ) والمطبوع : « في جهة ولم يرد فيها ».
2- في المطبوع : « ومنها نقدوا على الشيخ ».

بإطلاق قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (1) مع وروده في مقام بيان الحلّية ولا يرتبط بجهة الطهارة والنجاسة (2).

نعم ، من لا يرى أنّ وجه العموم في المطلق هو ما ذكرنا بل العموم عنده وضعيّ يشكل عليه الأمر في إثبات الشرط ، مثل من ذهب إلى أنّ وجه العموم في المطلق هو استواء نسبة الماهيّة الملحوظة بنفسها إلى جميع الأفراد من غير حاجة إلى إحراز مقام البيان وإن كان قائلا بخروج الشيوع عن المعنى كما هو الظاهر من بعض الأفاضل ؛ قال في العوائد - بعد نقل ما ذكرنا عن الوحيد البهبهاني - : وهذا الكلام يجري على دليل الحكمة ، ولا يجري على المختار من كون عموم المطلق لوجود الطبيعة ؛ لأنّها موجودة في ضمن كلّ فرد من أفرادها (3).

ثمّ إنّه حاول الاعتراض على ما ذكره ، فأورد عليه بما حاصله : أنّ ملاحظة الجهات والحيثيّات توجب ارتفاع التناقض بين المطلقين فيما إذا تقارب الجهات ، فلا يكون تعارض بين قوله : « في الغنم زكاة » وبين قوله « ليس في الحيوان الأسود زكاة ».

وأنت خبير بأنّ عدم التعارض إنّما هو الحقّ الحقيق بالتصديق ، لما عرفت من ارتفاعه حيث لا يلاحظ المعنى على وجه السراية والشيوع وبالجملة ، فملاحظة موارد إطلاق المطلق في العرف من أقوى الشواهد.

ص: 268


1- المائدة : 4.
2- راجع المبسوط 6 : 259 ، والخلاف 6 : 12 ، المسألة 7 من كتاب الصيد والذبائح ، وراجع لما أوردوه عليه ، المسالك 11 : 443 ، والجواهر 36 : 67 ، والمستند 15 : 360.
3- عوائد الأيّام : 753.

ثمّ إنّ وروده في مقام بيان حكم آخر قد يكون واضحا جليّا ، وقد لا يكون كذلك فيحصل الشكّ ، فهل يحكم بوروده في مقام بيان الحكم من جميع الجهات أو من الجهة المشكوك فيها ، أو لا؟ وجهان مبنيّان على دعوى الغلبة ومنعها ، ومجال الكلام فيه واسع.

تذنيب :

ما ذكرنا من عدم السراية إلى الجهة التي لم يرد المطلق في بيانها إنّما هو إذا لم يكن لتلك الجهة ملازمة عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة للجهة التي ورد في بيانها ، مثل ما ورد في صحّة الصلاة في ثوب فيه عذرة ما لا يؤكل لحمه من جهة النجاسة عند عدم العلم بها (1) ، فإنّها تدل على صحة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل عند عدم العلم بها إذا كانت النجاسة من الأجزاء ، لعدم الانفكاك بينهما على هذا التقدير ، فلو حمل على نفس الجهة التي ورد في بيانها لزم إلغاؤه بالمرّة.

ومثله أيضا أنّه سئل الإمام عليه السلام عن الكافر إذا وقع في البئر ومات ، قال : « ينزح سبعون دلوا » (2) فإنّه وإن ورد من جهة النجاسة من حيث إنّه كافر ، لكن النجاسة الحادثة بالموت نظرا إلى الإطلاق لا يمكن أن يكون أزيد منها ، وإلاّ لغى الكلام ويبقى بلا مورد.

ص: 269


1- الوسائل 2 : 106 ، الباب 40 من أبواب النجاسات ، الحديث 5.
2- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من المجاميع الحديثية ، نعم ورد في موثّق عمّار نزح سبعين دلوا لموت الإنسان في البئر ، راجع الوسائل 1 : 141 ، الباب 21 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 2.

ومثله ما ورد من طهارة سؤر الهرّة (1) حيث إنّ الغالب عدم خلوّ موضع السؤر عن النجاسة ، فيحكم بكون السؤر طاهرا مطلقا ولو كان قبل الملاقاة ملاقيا بالنجاسة ، بل وذلك هو عمدة الوجه في اتكالهم على طهارة الحيوان بزوال النجاسة فراجع.

ومثله الاستدلال بعمومات البراءة الواردة في الشبهة الموضوعيّة البدويّة على حلّيّة أطراف الشبهة الغير المحصورة ، لعدم انفكاك هذه الجهة في الأغلب عنها ، فلمّا لم يدلّ على هذه الجهة يبقى تلك العمومات عادم المورد ؛ لأنّ النادر كالمعدوم ... إلى غير ذلك من الموارد لا يكاد ضبطها ولا خفاؤها على الملاحظ المتتبّع ، واللّه الهادي.

ص: 270


1- راجع الوسائل 2 : 164 ، الباب 2 من أبواب الأسآر ، الحديث 1 و 2.

هداية

اشارة

إذا ورد مطلق ومقيّد ، فإمّا أن يكون المحكوم به متّحدا أو متعدّدا ، وعلى التقديرين فهما إمّا منفيّان أو مثبتان أو مختلفان ، وعلى التقادير إمّا أن يكون الموجب فيهما مذكورا أو لا ؛ وعلى الأوّل إمّا أن يكون الموجب واحدا أو متعدّدا وتنقيح البحث في طيّ مقامات :

المقام الأوّل : فيما إذا كان المحكوم به متعدّدا بجميع الصور المفروضة (1) لا حمل ، كقولك : « أطعم فقيرا » و « اكس فقيرا هاشميا » لعدم ما يقضي (2) بالحمل ، ضرورة عدم ارتباط أحدهما بالآخر ، إلاّ أن يكون هناك ما يقضي بذلك من توقّف أحد الموضوعين على الآخر ، كقولك : « أعتق رقبة » و « لا يملك رقبة كافرة » فإنّ توقّف العتق على الملك أوجب تقييد الرقبة بالمؤمنة ، وعند التحقيق ذلك خارج عمّا نحن فيه ، فإنّ قولك : « أعتق » بمنزلة « املك رقبة وأعتقها » بواسطة التوقّف ، فيدخل في المتّحدين. هذا إذا كان اختلافهما على وجه التباين الكلّي.

وأمّا إذا كان بينهما عموم من وجه فلا حمل أيضا ، إلاّ أنّه يمكن الحكم في مورد اجتماع الفعلين بالامتثال إذا تعلّق الأمر بهما. ولعلّه ظاهر.

وأمّا إذا كان بينهما عموم مطلقا فكما إذا كان بين متعلّقيهما كذلك.

ص: 271


1- في ( ع ) : « فجميع الصور المذكورة ».
2- في ( ع ) : « يقتضي ».

المقام الثاني : إذا اتّحد المحكوم به ، فمع تعدّد الموجب كقولك : « إن ظاهرت أعتق رقبة » و « إن قلت (1) أعتق رقبة مؤمنة » فلا حمل أيضا ، كما عليه أصحابنا الإماميّة أجمع على ما حكي (2) ، لعدم ما يوجب ذلك من العقل والنقل ، لعدم التنافي بينهما. وحكي عن بعض أهل الخلاف : أنّهم خالفوا في ذلك وقالوا بالحمل (3). وشذوذه يكفي في الأعراض عنه.

المقام الثالث : إذا اتّحد الموجب مذكورا أو مستورا وكان الكلامان مثبتين ، فالمشهور على الحمل ، بل وعليه الإجماع صريحا في كلام جماعة من أصحابنا كالعلاّمة (4) والعميدي (5) والبهائي (6) ، وغيرهم كالآمدي (7) والحاجبي (8) والعضدي (9).

ولعلّ ذلك هو الواقع أيضا ، فإذا قال القائل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » مجرّدين عن ذكر الموجب أو مضافين إلى قوله : « إن ظاهرت » فالعرف إنّما يساعد على الحمل المذكور وأنّ المراد بالمطلق هو المقيّد ، وهو راجع إلى التقييد وإن توهّم اختلافهما كما هو ظاهر.

ص: 272


1- كذا ، والظاهر : إن قتلت.
2- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 204 ، عن نهاية المأمول.
3- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 204 عن الشافعي وغيره ، وراجع شرح مختصر الأصول للعضدي : 285.
4- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 174.
5- قاله في منية اللبيب : 194 ، وحكى عنه السيّد المجاهد في المفاتيح : 202 - 203.
6- زبدة الاصول : 104. وفي ( ط ) ونسخة من ( ش ) : « البهبهاني ».
7- الإحكام 3 : 7 ، وفيه : فلا نعرف خلافا في حمل المطلق على المقيد.
8- راجع شرح مختصر الاصول :8. 285.
9- راجع شرح مختصر الاصول :284- 285.

فاستدلّ الأكثرون بأنّه جمع بين الدليلين ، وهو أولى. وأورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر كحمل الأمر فيهما على التخيير أو في المقيّد على الاستحباب. والأوّل باطل لعدم معقولية التخيير بين الفرد والكلّي ، والثاني فاسد لما عرفت من أنّ التقييد ليس تصرّفا في معنى اللفظ وإنّما هو تصرّف في وجه من وجوه المعنى الذي اقتضاه تجرّده عن القيد مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال ، فلا إطلاق فيه حتّى يستلزم تصرّفا ، فلا يعارض ذلك بالتصرّف في المقيّد بحمل أمره على الاستحباب ، وعلى المشهور فلا يعارض أيضا بغلبة هذا المجاز على أقرانه ، وعلى تقدير التساوي فالحكم هو الإجمال على المشهور ، ولا بدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل عند دوران الأمر بين المطلق والمقيّد من تحكيم البراءة والاشتغال ، على الخلاف المقرّر بينهم.

والعجب من المحقّق القمي رحمه اللّه حيث حكم بالبراءة عند دوران الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة (1) ، ويظهر منه الاشتغال في المقام (2).

وممّا ذكرنا يظهر عدم استقامة ما قد يحتجّ على الحمل بالاحتياط ، فإنّه بعد كونه مختلفا فيه ليس حملا بل هو حمل في العمل كما لا يخفى.

وقد ذهب شيخنا البهائي إلى أنّ وجه الحمل هو اعتبار مفهوم الوصف في قبال المطلق (3) ؛ ولذلك أورد عليهم التناقض. وهو ليس في محلّه ، إذ بعد النقض

ص: 273


1- القوانين 2 : 37.
2- القوانين 1 : 325 - 326.
3- لم نعثر عليه في الزبدة ولا في حواشيه ، نعم حكى في القوانين 1 : 329 عن حواشي الزبدة ما يدل عليه.

باللقب وعدّ هذا القسم في المثبتين يرد عليه : أنّ التنافي إنّما هو بواسطة اتّحاد التكليف والمفهوم لا يورث التنافي ؛ لأنّ المستفاد منه نفي وجوب الفعل (1) عن غير محلّ الوصف ، وهو لا ينافي وجوبه تخييرا كما هو قضيّة الأمر بالمطلق. ولو سلّم أنّ المستفاد منه هو نفي سنخ الوجوب مطلقا فاللازم هو التعارض ، لكونهما ظاهرين ، ولا وجه للترجيح بينهما من دون مرجّح ولو التزمنا ثبوت المفهوم صونا لكلام الحكيم عن اللغوية. فما ذكرنا : من أنّ المستفاد من المفهوم ليس إلاّ نفي الوجوب العيني يكون أقوى ، وقد فصّلنا ذلك في مباحث المفهوم ، فراجعه.

تنبيه فيه تحصيل : قد عرفت أنّ وجه التنافي بين المطلق والمقيّد هو اتّحاد التكليف ، إذ لو لم يكن ذلك فلا وجه للحمل ، لوجوب المقيّد هنا تارة بواسطة تعلّق الأمر به وأخرى تخييرا. نعم يتأتّى القول بالاكتفاء بفرد واحد على القول بأنّ تعلّق الأوامر العديدة على وجه العينيّة أو غيرها مع قبول المورد التعدّد لا يوجب تعدّد الامتثال ، وهو لا يرتبط بما نحن بصدده من الحمل ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

وهل يستفاد ذلك من نفس اللفظ ، أو لا بدّ من استفادته من الخارج كأن يكون السبب فيه واحدا بناء على أنّ ذلك من كواشفه كما قيل (2)؟ وجهان مبنيّان على تشخيص معنى المطلق من خروج الإشاعة والسريان منه أو دخوله فيه ، فعلى الأوّل نعم ، وعلى الثاني لا.

ص: 274


1- في ( ع ) و ( ق ) : « نفي الوجوب ».
2- لم نعثر على قائله.

وتوضيح المطلب : أن ذلك من فروع ما قد عنونوا في غير المقام : من أنّ ورود الأوامر العديدة [ وتعلّقها ](1) هل يوجب تعدّد الامتثال بحسب الأوضاع اللغويّة أو لا؟ إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون مورد الأمرين طبيعة واحدة كقولك : « اضرب رجلا ، اضرب رجلا » أو طبيعتين بينهما عموم مطلق نحو قولك : « اضرب رجلا ، واضرب رجلا بغداديّا » وقد قرّرنا في محلّه : أنّ مجرّد ذلك لا يقتضي التكرار بحسب الدلالة اللفظيّة لو خلّي وطبعها ؛ لأنّ اللفظ إنّما موضوع للطبيعة المرسلة ، ولا دلالة في تعدّد الطلب المدلول بالهيئة على تعدّد الامتثال ، فظاهر اللفظ [ إنّما ](2) لا ينافي وحدة التكليف.

لا يقال : إنّ ذلك [ إنّما ](3) يوجب التأكيد ، والتأسيس خير منه ، بل التأكيد إنّما هو من قبيل المجاز يحتاج إلى القرينة ، حتّى أنّ بعض الأفاضل منع من حمل الكلام على التأكيد والتأسيس إذا احتمل الوجهين (4) نظرا إلى أنّه مثل استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي.

لأنّا نقول : ليس التأكيد إلاّ اعتبارا منتزعا من الكلام بعد وروده على وجه خاصّ ، وبعد تحقّق مورده - كما هو المفروض من تعاقب الأمرين وتوارد الطلبين - يصحّ انتزاعه من الكلام من دون ارتكاب مخالفة للظاهر ، فلا وجه لقياسه بالمجاز ، كيف! وذلك قضيّة أصالة الحقيقة في اللفظ الموضوع للماهيّة.

نعم. لو قيل بأنّ ظاهر حال المتكلّم إنّما هو التأسيس كان وجيها ، مع كونه أيضا في مجال المنع ، حيث إنّه لا يستبعد التأكيد مثل استبعاد كون المتكلّم في مقام الإلغاز والتعمية.

ص: 275


1- لم يرد في ( ق ).
2- لم يرد في ( ق ).
3- لم يرد في ( ق ).
4- لم نعثر عليه.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره ذلك البعض أيضا ، فإنّ اجتماع العنوانين من دون أن يكونا مقصودين ممّا لا إشكال فيه أصلا كما لا يخفى ، وعلى تقدير أن يكونا داعيين للمتكلّم في تكلّمه لا دليل على امتناعه لا عقلا ولا لغة ؛ ولا دخل لذلك باستعمال اللفظ في معنيين ، فإنّه لم يعهد من متكلّم إلى الآن استعمال اللفظ والإتيان به مرآة لمعنيين ، وأين ذلك من الاختلاف في الاستعمال؟ فربما يكون المتكلّم بكلام عامّ لأفراد كثيرة ذا إرادات عديدة ودواعي كثيرة بالنسبة إلى كلّ فرد ، كما لا يخفى على الملاحظ.

وكيف كان ، فبعد ما عرفت : من أنّ اللفظ إنّما هو موضوع للطبيعة المهملة لا دليل في اللفظ على تعدّد المطلوب ؛ لأنّ طلب المطلق لا ينافي طلب المقيّد ، بل يحتمل أن يكون المطلوب في أحدهما عين المطلوب في الآخر.

لا يقال : إنّ الأمر بالطبيعة كما لا ينافي أن يكون المطلوب فيها عين المطلوب بالفرد ، فكذا لا ينافي أن يكون غيره كما هو قضيّة ملاحظة نفس المعنى.

لأنّا نقول : نعم ، ولكنّه مجرّد عدم الدليل على التعدّد يكفي في الحكم بالاتّحاد كما هو قضيّة الأصل.

هذا إذا لم يعلم ورود المطلق في مقام بيان تمام المراد ، إذ لو علمنا ذلك فلا بدّ من استعلام الاتّحاد من الخارج ، بل ولا يعقل ذلك ، إذ بعد الاستعلام يعلم عدم وروده في مقام بيان تمام المراد. نعم يتمّ ، ذلك على المشهور من دخول الشياع في اللفظ ، فإنّه قبل الاستعلام لا بدّ من حمل اللفظ على الإشاعة والقول بوجوب المقيّد عينا وتخييرا وبعد الاستعلام والعلم باتّحاد التكليف لا بدّ من القول بكونه مجازا ، لعدم إرادة الشياع منه.

وبالجملة ، فمقتضى الأصل اللفظي هو تعدّد التكليف ؛ لأنّ المطلق بقيد

ص: 276

الشياع يغاير المقيّد قطعا. ودعوى فهم العرف اتّحاد التكليف بناء على ذلك من اللفظ في نفسه جزاف من القول ، لا يساعده دليل ولا اعتبار. نعم ، فهم العرف مسلّم ، لكنّه بواسطة ما صرنا إليه من خروج الشياع ، فتدبّر.

تذنيبان :

الأوّل : قد تكرّر في كلماتهم دعوى انصراف المطلق إلى بعض الأفراد مثل ما يظهر من جماعة (1) : من دعوى انصراف المسح في آية التيمم (2) إلى المسح بباطن اليد ، وقد عرفت أنّ قضيّة الانصراف كالتقييد اللفظي من أنّ متعلّق الحكم هو الفرد الخاصّ [ على وجه يدور معه الحكم وجودا وعدما فلا يصحّ التيمّم لو وقع المسح بظاهر اليد اختيارا ولو تعذّر الفرد الخاصّ ](3) فيحتاج إثبات الحكم في فرد آخر إلى التماس دليل آخر ، ومع ذلك فقد تراهم يتمسّكون بنفس الإطلاق لإثبات الحكم في الفرد الغير الشائع عند تعذّر الفرد الشائع ، فقالوا بوجوب المسح بظاهر اليد عند تعذّر المسح بباطن اليد. ويمكن التفصّي عنه بوجهين :

أحدهما : أنّ الاستناد إلى الإطلاق بعد تعذّر القيد إنّما هو فيما إذا قلنا بالتقييد من حيث إنّ المقيّد هو القدر المتيقّن من المطلق ، ولا شكّ أنّ الأخذ بالفرد الآخر بعد تعذّر القدر المتيقّن أيضا احتياط. ولا ينافي ذلك عدم حصول الامتثال به عند إمكان القدر المتيقّن ؛ لأنّ الاحتياط في خلافه حينئذ.

ص: 277


1- في ( ق ) : « من بعضهم ».
2- المائدة : 6.
3- ما بين المعقوفتين من المطبوع.

وفيه : أنّه وإن لم يكن بعيدا عن مذاق الجماعة ، إلاّ أنّه خلاف التحقيق في وجه الحمل ، كيف! والقول بالاحتياط عند وجود الدليل الكاشف عن الواقع وجوبا ممّا لم نقف على قائل به ، فإنّ المطلق ليس مجملا عندهم ، بل يعاملون معه معاملة الدليل ، كما لا يخفى ، فلا وجه لأن يكون ذلك وجها لهذه المسألة الاتّفاقيّة.

الثاني من الوجهين : أنّ أفراد المطلق كقولك : « رقبة » تارة تلاحظ من جهة الإيمان والكفر ، وأخرى من جهة حال الاختيار والاضطرار ، فإنّ هذه أيضا جهة ملاحظة الاطلاق (1) والتقييد بالنسبة إليها ، وتقييد المطلق من جهة لا يستلزم تقييده من جهة أخرى ، فإذا فرضنا أنّ الرقبة قد قيّدت بالإيمان في إحدى الحالتين فقط ، فلا بدّ من الأخذ بالإطلاق في غير تلك الحالة.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : يحتمل أن يكون الموارد التي رجعوا فيها إلى الإطلاق من هذا القبيل ، كأن نقول : إنّ المسح في آية التيمّم إنّما هو محكوم بالإطلاق بالنسبة إلى ما هو يقع به (2) من الظاهر والباطن ، وانصرافه إلى أحد فرديه في حالة خاصّة - وهي حالة الاختيار - لا يقتضي انصرافه إلى أخرى ، فيصحّ التمسّك بالإطلاق فيها.

نعم ، لو كان المقيّد ممّا يعقل فيه إطلاق كان إطلاقه دليلا على التقييد في الحالتين ، إلاّ أنّ الانصراف حكمه حكم المقيّدات اللبيّة لا بدّ فيها من الاقتصار على ما هو المعلوم من التقييد ؛ وذلك نظير ما قلنا بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة

ص: 278


1- في ( ق ) : « للإطلاق ».
2- في ( ق ) : « ما يقع فيه ».

عند النسيان ، فإنّ الخارج من إطلاق الأمر هو حال الذكر والاختيار ، لامتناع الاجتماع على تقدير عدم خروجها ، وإطلاق الأمر باق يصحّ التعويل عليه في الحكم بالصحّة وحصول الامتثال عند عدم المزاحم (1).

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين المجاز من خروج الشياع عن معنى اللفظ (2) وغيره ، والوجه في ذلك : أنّ المتكلّم بالمطلق إذا حاول الشيوع والسراية لا بدّ له من أوّل الأمر أن يلاحظ المعنى على وجه السراية والإشاعة ، ثمّ يستكشف ذلك بملاحظة عدم ورود البيان والقيد مع كونه واردا في مقام البيان. كما أنّه إذا لم يرد ذلك وأراد نفس المعنى لا بدّ وأن يكون مقصوده من أوّل الأمر الكشف عن نفس المعنى بدون ملاحظة شيء آخر ، ويستكشف ذلك من عدم وروده في مقام البيان ومن ورود القيد ، فإذا فرضنا ورود قيد للماهيّة يكشف ذلك عن إهمالها من أوّل الأمر ، وبعد تعذّر القيد لا يعقل أن ينقلب المعنى عمّا كان عليه من الإهمال ، لامتناع خروج الشيء عمّا وقع عليه.

إلاّ أن يستند إلى ما ذكرنا في الجواب من تغاير جهات الإطلاق. وإهمال المعنى من جهة ورود القيد الكاشف عنه لا ينافي إطلاقه من جهة أخرى ، لعدم ورود القيد مع وروده في مقام البيان من تلك الجهة. وانفكاك هذه الجهات بعضها عن بعض ممّا لا ينبغي الارتياب فيه كما يظهر بملاحظة العموم في هذه الجهات ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا وجه للفرق بين المذهبين في ورود الإشكال ودفعه ، كما قرّرنا.

ص: 279


1- في ( ق ) : « المزاحمة ».
2- في ( ق ) : « مسمّى اللفظ ».

نعم في المقام إشكال آخر يشبه بما تقدّم يحتمل فيه الفرق بينهما ، وتقريره : أنّهم قالوا في كثير من الموارد باختلاف حكم العاجز والقادر ، فيجب على القادر الإتيان بالسورة ويسقط عن العاجز ، فعلى المشهور من القول بالمجازيّة يكون الصلاة في قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) مستعملة في المقيّد بخصوصها ، فإذا فرضنا تعذّر القيد لا وجه للاستناد إلى المطلق (1) في إثبات الصلاة بدون القيد للعاجز ولو بضميمة قوله (2) : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (3) فإنّ ذلك يصلح وجها لتشريع وجوب الميسور بعد تعذّر المقيد ، لا لإرادة وجوبه من الدليل الأوّل ، لاستلزامه استعمال المطلق تارة في المقيّد وأخرى في المطلق على وجه الترتيب (4) ، فإنّ الإطلاق ليس في عرض المقيّد (5) ، بل إنّما هو مترتّب على انتفاء المقيّد ، وهذا موقوف على استعمال جديد وإنشاء لفظ آخر غير اللفظ المنشأ أوّلا وإن قلنا بجواز استعمال اللفظ في المعنيين أيضا ؛ لأنّهما إنّما يكون أحدهما في عرض الآخر على تقدير جوازه ، وعلى المختار يصحّ الاستناد إلى المطلق بضميمة قوله (6) : « الميسور لا يسقط بالمعسور » فإنّ المطلق لا يراد منه غير نفس المعنى ، وله بيانان : أحدهما المقيّد وثانيهما قوله : « الميسور » بالنسبة إلى الحالتين. ولا ضير فيه بوجه ، لعدم اختلافه باختلاف أحواله وطواريه كما قدّمنا.

ص: 280


1- في ( ق ) : « الإطلاق ».
2- لم يرد « قوله » في ( ق ).
3- عوالي اللآلي 4 : 58 ، الحديث 205 ، وفيه : لا يترك بالمعسور.
4- في ( ق ) : « الترتّب ».
5- في ( ق ) : « التقييد ».
6- لم يرد « قوله » في ( ق ).

الثاني (1) : أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم الفرق بين الواجب والمستحبّ في الحمل ، فإنّ اللفظ لا دليل فيه على التعدّد والأصل قاض بالاتّحاد ، ومعه يتحقّق التنافي فيحمل المطلق على المقيّد.

إلاّ أنّ المشهور بينهم عدم الحمل. والوجه فيه على المشهور واضح ؛ لأنّ اللفظ ظاهر في التعدّد ، وإثبات الاتّحاد من الخارج موقوف على مقدمة عزيزة ، وهي القطع بعدم تفاوت مراتب تلك الماهيّة في المطلوبيّة ، وأنّى لك بإثباته!

وتحقيقه : أنّ تعدّد الاستحباب كما يكون بتعدّد الفعل كذلك يكون بتعدّد مراتب محبوبيّة فعل واحد وقد علمنا بذلك في موارد جمّة (2) ، فإذا ورد أمر مطلق بزيارة الحسين عليه السلام ثمّ ورد أمر آخر بزيارته عليه السلام يوم عرفة لا داعي على الحمل ، بل يحمل على زيادة استحبابها في عرفة.

وأمّا على المختار : فلعلّ الوجه العلم بورود المستحبّات غالبا في مقام البيان والظنّ يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، أو للعلم باختلاف مراتب المطلوبية في المستحبّات غالبا فيحمل المشكوك على الأغلب. وأمّا إذا وردا في خبر « الإمام » عليه السلام (3) فيحكم أيضا بإبقائهما على ظاهرهما ؛ ويظهر الوجه عن قريب في الحكم الوضعي إن شاء اللّه (4).

ص: 281


1- أي : التذنيب الثاني.
2- في غير ( ق ) : « خمسة جمّة ».
3- العبارة في ( ق ) : « إذا ورد في حيّز الإباحة » وفي ( ش ) : « في خبر الإباحة ». والظاهر صحّة ما أثبتناه من المطبوس. وإن كان هو أيضا قاصرا عن إفادة المراد. والمقصود منه - على فرض صحّة النسخة - وأما إذا ورد أمر في خبر بزيارة الإمام عليه السلام وفي آخر بزيارته يوم عرفة. أو المراد : إذا ورد في خبر أمر بزيارة الحسين عليه السلام وفي آخر بزيارة الإمام عليه السلام.
4- يأتي في الصفحة : 287.

وأمّا على المشهور : فالأمر واضح. وهكذا الحال في الواردين في مقام الكراهة وستعرفه بتفصيله (1).

المقام الرابع : فيما إذا كانا منفيّين سواء كان متعلّق النفي نفس الحكم المتعلّق بهما كقولك : « لا يجب عتق الرقبة » و « لا يجب عتق الرقبة المؤمنة » أو كان متعلّقا بالمحكوم به ، كقولك : « لا تعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة مؤمنة (2) » وعلى الوجهين لا حمل بلا خلاف كما عن العلاّمة (3) ، بل ادّعى عليه الإجماع في الزبدة (4) والاتّفاق في المعالم (5) على ما حكي عنه. والوجه في ذلك عدم الداعي عليه ؛ لأنّ انتفاء الحكم عن الطبيعة الواقعة في سياق النفي لا ينافي انتفاءه عن الفرد أيضا ، فإنّ التأكيد بابه واسع ، وقد عرفت أنّه ليس مجازا ولا بخلاف الظاهر ، بل وهو قضيّة الأخذ بالظواهر.

نعم ، على القول بالمفهوم يتأتّى التنافي بين مفهوم القيد ومنطوق العامّ ، فلا بدّ إمّا من تخصيص العامّ بالمفهوم أو إلغاء المفهوم في قبال العموم.

ودعوى اتّحاد التكليف ممّا لا شاهد عليها ، أمّا اللفظ فلأنّ العامّ بعمومه يغاير الخاصّ ، فظاهر اللفظين هو التعدّد ، والعرف أيضا لا يساعد الاتّحاد ، بل مدار حكم العرف على الظواهر ، ولا حكم للعرف مع قطع النظر عنها ، وقد عرفت أنّها قاضية بالتعدّد. نعم ، لو قام على الاتّحاد إجماع خاصّ

ص: 282


1- راجع الصفحة : 284.
2- في ( ق ) : « كافرة ».
3- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 203 ، وراجع نهاية الوصول : 175.
4- زبدة الاصول : 104.
5- معالم الاصول : 152.

فلا بدّ من الحمل ، لأنّ ارتكاب التخصيص في العموم أهون من طرح اختصاص الحكم الخاصّ المستفاد من التقييد.

أقول : إنّما يتمّ ما ذكرنا فيما لو قلنا بأنّ المطلق الواقع في سياق النفي يجب أن يكون مفيدا للعموم ؛ لأنّ انتفاء الطبيعة يلازم انتفاء جميع أفرادها كما صرّح بذلك جماعة (1) ، وقد عرفت فيما تقدّم (2) : أنّ نفس الماهيّة مع قطع النظر عمّا يلحقها من الطوارئ واللواحق ممّا يتساوى فيه الوجود والعدم والنفي والإثبات. نعم ، الماهيّة الملحوظة على وجه السراية التي تقع في مقام البيان ممّا يختلف فيه الوجود والعدم ، فإن وقعت في حيّز الوجود في الإثبات يقتضي العموم البدلي وإن وقعت في حيّز النفي يقتضي العموم الشمولي.

فالتحقيق أن يقال : إنّ المنفيّين إذا كان المطلق منهما باقيا على إطلاقه غير خارج عمّا وضع له من نفس المعنى - كأن (3) لا يكون في مقام البيان حتّى يستكشف منه كونها ملحوظة على وجه السراية - فاللازم الحمل ، لما (4) تقدّم بعينه في المثبتين من غير فرق بين المقامين بوجه من الوجوه. وإن لم يكن كذلك - كأن يكون الماهيّة ملحوظة على وجه السراية لوقوعها في مقام البيان - فلا حمل ، كما عرفت أنّه لا حمل في المثبتين أيضا.

ص: 283


1- راجع نهاية الاصول ( مخطوط ) : 115 ، والمعالم : 92 ، والقوانين 1 : 138 ، وإشارات الاصول الورقة : 102.
2- راجع الصفحة : 250 وما بعدها.
3- في ( ق ) : « بأن ».
4- في ( ق ) : « كما ».

وبالجملة ، لا نجد فرقا بين المقامين في مورد الحمل ، وهو ما إذا كان المطلوب من المطلق نفس المعنى من دون مدخليّة شيء في الماهيّة وعدمه ، وهو ما إذا كان المطلق واقعا موقع البيان.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ المنفيّين لا يجب رجوعهما إلى العموم والخصوص دائما (1) كما زعمه جماعة (2).

فإن قلت : إنّ الواقع في حيّز النفي يلزم أن يكون واردا في مقام البيان كما يساعده العرف ، فيتّجه قول المشهور.

قلنا : إن أريد أنّ أغلب موارد النفي هو ذلك ، فعلى تقدير تسليمه لا يضرّ فيما نحن بصدده من الحمل ، كما أنّ أغلب موارد الإثبات أيضا كذلك. وإن اريد الملازمة الدائمة فلا نسلّم ذلك ، كيف! ولا يقضي به شيء والعرف بخلافه ، كما يظهر من قول الطبيب إذا أراد علاج شخص خاصّ ، فإنّه كما يصحّ له الأمر بشرب الدواء على وجه الإهمال يصحّ النهي عن شرب الدواء على وجه الإهمال من غير تناقض وعدول عن الظاهر ، كما هو ظاهر لمن تدبّر فيما ذكرنا من أحوال الماهيّة.

فإن قلت : إنّ وقوع الماهيّة في حيّز النفي وإن كان لا يقضي بذلك ، إلاّ أنّ دليل الحكمة يقضي به فيقع في مورد البيان بواسطة الدليل.

قلت : ذلك إنّما يتمّ فيما إذا تجرّد المطلق عن ورود المقيّد ، وأمّا مع ورود المقيّد فلا يجري فيه دليل الحكمة ، كما هو كذلك في الإثبات أيضا ، فتدبّر.

ص: 284


1- لم يرد « دائما » في ( ق ).
2- راجع شرح مختصر الاصول : 286 ، والإحكام 3 : 7 - 8 ، والنهاية : 175.

المقام الخامس : فيما إذا كانا مختلفين ، بأن كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا ، فإمّا أن يكون النفي في المنفيّ واردا على الحكم كقولك : « يجب عتق الرقبة » و « لا يجب عتق الرقبة المؤمنة » (1) وإمّا أن يكون واردا على المحكوم به كقولك : [ يجب عتق الرقبة ويجب عدم عتق الرقبة المؤمنة إذا كان النفي والإثبات مستفادين من نفس الحكم ، كقولك : ](2) « أعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة مؤمنة » مثلا.

فعلى الأوّل : إن استظهرنا أنّ وجوب المنفيّ هو مطلق الوجوب الشامل للوجوب العيني والتخييري الشرعي والعقلي ، فلا بدّ من التقييد كما هو ظاهر.

وإن لم نستظهر ذلك فلا داعي على التقييد ؛ لانّ الواجب حقيقة هو المطلق وإن كان هو عين المقيّد في وجه ، لكن يمكن أن يقال : إنّه ممّا لم يتعلّق به الأمر بخصوصه فلا منافاة فلا يجب التقييد.

وعلى الأخيرين : سواء كان العموم والخصوص بين نفس الفعلين مع قطع النظر عن متعلّقهما أو كان بين المتعلّقين - كما فيما نحن فيه - فإن قلنا بأنّ النهي (3) يقتضي الفساد فلا بدّ من التقييد ، لدلالته على عدم حصول الإجزاء بالإتيان بالمقيّد ، فيقدّم على ما أفاده الأمر بالمطلق من حيث عدم البيان ؛ لأنّه بيان. وإن قلنا بعدم الاقتضاء فعلى القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي يجب التقييد (4) ، وعلى القول بالجواز لا داعي على التقييد ويجزي الإتيان بالمقيّد عن الأمر الوارد

ص: 285


1- في ( ق ) بدل « المؤمنة » : « الكافرة ». وهكذا فيما يأتي من المثالين.
2- ما بين المعقوفتين لم يرد في ( ش ).
3- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « النفي ».
4- في ( ق ) زيادة : « أيضا ».

بالمطلق وإن كان عاصيا بواسطة النهي أيضا ؛ لأنّ المفروض أنّ النهي لا يقتضي الفساد ، ولكن لم يذهب إليه من قال بجوازه. ولعلّه مبنيّ على ما تخيّله بعض المجوّزين من أنّ الجواز العقلي لا ينافي التقييد العرفي ، وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه في محلّه (1).

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في اختلافهم في مسألة النهي [ في العبادات ](2) واتّفاقهم في المقام ، حيث إنّ الكلام في المقام بعد الفراغ عن اقتضاء النهي الفساد ، فالكلام هناك في إثبات الصغرى للمقام ، فتدبّره متأمّلا. هذا إذا كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا.

وأمّا إذا كان المطلق منفيّا والمقيّد مثبتا ، كأن تقول : « لا تعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا يجب عتق رقبة » فإن حملنا المنفيّ على الإهمال فلا حمل ولا تقييد ، لعدم ما يقضي به. وإن حملناه على الشياع والسراية فاللازم التقييد ؛ لأنّه حينئذ بمنزلة العموم والخصوص ، لكنّه خارج عن المقام كما عرفت تفصيله في المنفيّين (3).

ثمّ إنّه لا فرق في هذه المقامات بين ذكر السبب وعدمه ، وبين تعدّده ووحدته ، كما أشرنا إليه إجمالا في بعضها واللّه الهادي.

ص: 286


1- راجع مطارح الأنظار 1 : 695 ، هداية في ذكر احتجاج المفصل بين العرف والعقل.
2- أثبتناه من ( ش ).
3- راجع الصفحة : 283 وما بعدها.

هداية

اشارة

قد عرفت حكم المطلق والمقيّد الواردين في مقام بيان الحكم التكليفي.

وأمّا حكمه في مقام بيان الأحكام الوضعيّة : فالظاهر منهم عدم الحمل ، فلو قيل : « البيع سبب » و « البيع العربي (1) سبب » يحمل على مشروعيّة المطلق والمقيّد معا ، بل لا يكتفى بذلك ويقال : بأنّ السبب كلّ واحد من أفراد البيع على وجه العموم الاستغراقي ، فيطالب بالفرق بين الأحكام التكليفيّة وغيرها من حيث الحمل فيها وعدمه في الوضعيّة. ثمّ الحمل على العموم على المذهبين (2).

أمّا على المختار : فالإشكال ظاهر الورود ، حيث إنّ اللفظ لا دلالة فيه على شيء سوى المعنى القابل لأنحاء التبدّلات ، ولا دلالة فيه على شيء من تلك الأنحاء ، فإثبات العموم موقوف على دليل آخر من عقل أو نقل.

وأمّا على المشهور : فلأنّ غاية ما يلزم من اللفظ والوضع هو العموم البدلي ، فيستفاد منه سببيّة فرد واحد على سبيل التخيير دون العموم الاستغراقي.

والجواب : إن استظهرنا عدم ورود المطلق في مقام البيان فعلى المختار لا وجه لعدم الحمل ولا نقول به ولا ضير فيه. وإن استظهرنا وروده في مقامه فالفرق إنّما جاء من خصوص الحكم والمحمول (3) فإنّ المحمولات مختلفة جدّا. فتارة

ص: 287


1- في المخطوطات : « بيع العربي ».
2- كذا في النسخ ، والعبارة غير تامّة.
3- في ( ق ) : « المحمولات ».

يكون ثبوت المحمول للموضوع على وجه التخيير مفيدا في مقام البيان كالوجوب ، فإنّ ثبوته لما هو محمول له - كالصلاة - على وجه التخيير ممّا لا غائلة فيه ولا إشكال في كونه مفيدا ، كما يظهر بالرجوع إلى العرف. وتارة يكون ثبوته له على وجه العموم مفيدا وعلى وجه التخيير لا يعدّ مفيدا ، وهو ينافي كونه في مقام البيان والإفادة فيصرف (1) بحكم العقل والعادة إلى العموم مثل السببيّة والمانعيّة ونحوهما من الأمور التي لا وجه للإخبار بثبوتها على وجه التخيير والإجمال في مقام البيان من غير فرق في ذلك بين المذهبين ؛ لأنّ العموم الاستغراقي غير معنى اللفظ على المشهور أيضا ؛ هذا هو الوجه في فهم العرف من الخطابات المذكورة العموم أيضا.

ومنه يظهر الوجه في إفادة المنفيّين العموم ، فإنّ المطلق الوارد في مقام البيان إذا تعلّق به النفي يفيد العموم ، كما إذا قيل : « لا تضرب » إذ التخيير فيه ممّا لا فائدة فيه كما لا يخفى.

فعند التحقيق لا يختلف الحكم في المقامات المذكورة نظرا إلى اللفظ وإن اختلف بحسب حكم العقل من حيث الإفادة وعدمها في بعض دون آخر.

تذنيب يشتمل على فوائد :

الأولى : إذا جعل المطلق [ شرطا لشيء ](2) - كالستر في الصلاة - وجعل المقيّد شرطا آخر كالستر (3) بغير الحرير فيها ، فيبنى على اشتراط كلّ منهما.

ص: 288


1- في « ش » : « فينصرف ».
2- في النسخ : « بشرط شيء » ، والصواب ما أثبتناه.
3- العبارة في ( ق ) : « كالتستر للصلاة وجعل للمقيّد شرط آخر كالتستّر ... ».

فلو لم يتمكّن من تحصيل المقيّد يجب الأخذ بالشرط المطلق ، وليس ذلك من الحمل كما لا يخفى.

الثانية : إذا ورد مطلق ومقيّد بالفرد النادر ، كقولك : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة ذا رأسين » فهل يحمل المطلق على الفرد النادر مطلقا ، أو لا يحمل مطلقا ، أو يفصّل بين المنفيّين والمثبتين؟ وجوه :

من أنّ بيان الفرد النادر وذكره هل (1) يصلح لأن يستكشف منه ملاحظة المتكلّم المطلق على وجه الإهمال مطلقا (2) ، فيحمل. أو لا يصلح لذلك نظرا إلى ظهور المطلق في الشائع (3) ، فالنادر خارج عن مدلوله ، فلا ينافي ثبوت الحكم له ثبوته لما هو مغاير له (4). أو يصلح في المثبتين دون المنفيّين ، لرجوع المطلق فيهما إلى العموم ، فلا ينافي نفي الحكم عن فرد من أفراده.

والأوجه أن يقال : إن استظهرنا ورود المطلق في مقام البيان ، فلا وجه للحمل في المثبتين ؛ لأنّ ذلك يقضي بالانصراف ، وبعد الانصراف لا ينافي ثبوت الحكم للفرد النادر ، فلا تعارض بينهما. بخلاف ما إذا لم يكن المقيّد من النادر ، فإنّه على تقدير وروده في مقام البيان يتعارضان ؛ مع احتمال أن يكون بيان الفرد النادر علامة لملاحظة المتكلّم المطلق على وجه العموم أيضا ، نظير : استثناء الفرد النادر دليل على العموم. نعم ، ورود المقيّد في المقام ليس دليلا على عدم وروده في مقام البيان ، كما أنّه دليل عليه في غيره لئلاّ يلزم البداء.

ص: 289


1- في ( ق ) بدل « هل » : « لا ».
2- لم يرد « مطلقا » في ( ق ).
3- في ( ق ) : « الشياع ».
4- في ( ق ) : « لما خارج عنه ».

وإن لم نستظهر فلا مانع من الحمل ، بل هو في محلّه ؛ لأنّ الفرد النادر ليس خارجا عن حقيقة المطلق ، فيحتمل أن يكون هو المراد من المطلق في الواقع.

وكذلك الكلام في المنفيين.

وأمّا في المختلفين : فإن كان النفي مطلقا فلا بدّ من التخصيص وإن كان المطلق مثبتا فلا بدّ من التقييد ، غاية الأمر يؤكد الانصراف ، ولا ضير فيه.

الثالثة : إذا ورد للمطلق مقيّدان مستوعبان ، كأن يقال : « أعتق رقبة مؤمنة » و « أعتق رقبة كافرة » فهل يحكم بالإطلاق نظرا إلى تساقطهما أو نظرا إلى بيانهما (1) للمطلق على وجه الإطلاق ، أو يتخيّر بين المقيّدين نظرا إلى العلم بالتقييد مع التردّد فيهما من دون ترجيح بينهما فلا بدّ من التخيير ، أو يتوقّف نظرا إلى إجمال الدليل بواسطة تعارض البيانين؟ وجوه :

الأوجه هو التخيير ، إذ لا وجه للتساقط كما قرّر في محلّه : من أنّ التعارض لا يوجب التساقط. ولا يكون كلّ منهما بيانا لقضاء العرف بالحمل. ولا وجه للإجمال أيضا بعد إطلاق أدلّة التخيير في المتعارضين الشامل للمقام أيضا كما هو ظاهر.

الرابعة : كلّ ما تقدّم من أحكام العامّ والخاصّ : من جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد وتخصيص المنطوق بالمفهوم مخالفا وموافقا وأحكام العامّ المخصّص بالمجمل مفهوما ومصداقا وبالمتّصل والمنفصل ، يجري في المطلق والمقيّد ، لاتّحاد الوجه في المقامين من دون تفاوت.

ص: 290


1- في ( ق ) : تباينهما ، وفي ( ع ) : إثباتهما.

نعم ، ينبغي استثناء مقدار التخصيص من بين الأحكام المذكورة في باب العامّ والخاصّ ، فإنّ ذلك لا يجري في المطلق والمقيّد ، فإنّ التقييد ممّا لا حدّ له عندهم ، لجوازه في أيّ مرتبة من المراتب قليلا وكثيرا ، ولعلّه ممّا لا كلام فيه أيضا عندهم ، ولا إشكال فيه أيضا لمساعدة العرف على جوازه حتّى إلى الواحد ، كما يظهر من مطاوي المحاورات العرفيّة.

هذا تمام الكلام فيما أردناه من مباحث المطلق والمقيّد ، ولله الحمد (1) [ وصلّى اللّه على رسوله وأهل بيته ](2).

ص: 291


1- في ( ش ) : « فلله الحمد تمّه بالخير والسعادة » ، وفي ( ع ) : « والحمد لله باطنا وظاهرا ».
2- من ( ق ).

ص: 292

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في المجمل والمبيّن

اشارة

ص: 293

ص: 294

وتحقيق البحث في طيّ هدايات :

هداية

المجمل لغة كما عن أهلها : المجموع ، مأخوذ من « أجملت الحساب » إذا جمعته ، أو من الخلط كما قيل (1).

وعرّفه جماعة (2) اصطلاحا بأنّه : ما لم يتّضح دلالته ، فكأنّه مجمع الاحتمالات ، أو لاختلاطها.

والمراد بالموصولة : اللفظ الموضوع ، فلا يرد النقض بالمهمل. وتقسيم المجمل إلى الفعل والقول لا يدلّ على جريان الاصطلاح عليه كما لا يخفى ؛ مضافا إلى ظهور السالبة في وجود الموضوع وإن صدقت عند انتفائه أيضا والمراد بالدلالة : اللفظيّة الوضعيّة ، فإنّها المعهود (3) في باب الألفاظ ، فلا يرد النقض بالمسموع من وراء الجدار فإنّه لا يتّضح دلالته على قائله ، إذ تلك دلالة عقليّة ؛ ومع ذلك يرد عليه : أنّ عدم وضوح الدلالة ممّا لا يعقل ، فإنّ الدلالة تابعة للعلم

ص: 295


1- المعتمد 1 : 293 ، والإحكام للآمدي 3 : 11 ، والمختصر وشرحه للعضدي : 286 - 287.
2- منهم صاحب المعالم في المعالم : 152 ، والعضدي في شرحه على المختصر : 285 - 286 ، والكلباسي من الإشارات ، الورقة : 202 ، وراجع القوانين 1 : 332 ، والفصول : 223 ، أيضا.
3- في ( ق ) : « المعهودة ».

بالوضع فمتى علم الوضع يتحقّق الدلالة ، فإنّه علّة تامّة لها ويمتنع تخلّفها عنه ، حتّى في المشترك بعد العلم بأوضاعه ، وحتّى في المجاز ولو مع القرينة ، فإنّها صارفة عن الإرادة لا عن الدلالة ، بل ومحاسن الكلام (1) وأسرار البلاغة إنّما هي فرع للدلالة على الحقيقة ، فما هو غير متّضح (2) في الاشتراك والمجاز عند فقد القرينة المعيّنة هو المراد ، لا الدلالة.

نعم ، يتصوّر عدم وضوح الدلالة ولو بوجه فيما إذا علم إجمالا وضع اللفظ لمعنى من المعاني ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الدلالة غير متّضحة ، بمعنى أنّه لا يدلّ على معنى خاصّ ، لعدم العلم به على وجه الاختصاص.

وكيف كان ، فالمبيّن خلافه.

وقد قسّموا المجمل إلى القول والفعل والترك (3) ، وإلى المفرد والمركّب.

أمّا القول : فستعرف تفصيله (4).

وأما الفعل : فوجه الإجمال فيه : هو اشتراكه في وقوعه على وجوه عديدة ، وإذا جهل وجه وقوعه تردّد بين جميع ما يحتمله من الوجوه ، فيكون غير ظاهر الدلالة ومجملا.

وفيه نظر ، إذ تلك الوجوه ليست مدلولة للفعل مثل دلالة اللفظ على معناه ، لعدم الوضع. ودلالته على عدم الحرمة إنّما هو بواسطة دليل العصمة لا بنفس

ص: 296


1- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « محاسن المجاز ».
2- في ( ق ) زيادة : « كما ».
3- كما في ضوابط الأصول : 226 ، وراجع المناهج : 121 ، وشرح المختصر : 287 ، وفيهما تقسيمه إلى قول وفعل.
4- في الصفحة الآتية وما بعدها.

الفعل (1). نعم ، لو وضع فعل لمعنيين وصدر ذلك الفعل عن الفاعل من غير اقترانه بما يرشد إلى أحد الوجهين كان ذلك مجملا فعليّا ، كالإشارة المردّدة بين الأمر بالذهاب والأمر بالقعود مثلا ، وكالقيام المردّد بين كونه تواضعا لمن قدم عليه وكونه استراحة لما حصل فيه من الكسالة.

وأمّا المفرد (2) : فإجماله تارة : باعتبار نفس اللفظ ذاتا ك- « تضرب » المشترك بين المخاطب والغائبة ، أو عرضا ك- « المختار » (3). واخرى : باعتبار المعنى ذاتا كالمشترك ، أو عرضا كالمجاز المتعدّد عند فقد القرينة المعيّنة مع وجود الصارفة.

وأمّا المركّب : فإجماله تارة باعتبار وقوع لفظ في تركيب خاصّ على وجه لو كان في غيره لم يكن مجملا ، كقول عقيل : « أمرني معاوية بلعن علي عليه السلام ألا فالعنوه » (4) وقول بعض [ أصحابنا ](5) حين سئل عن الخليفة بعد النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال : « من بنته في بيته » (6). واخرى باعتبار نفس التركيب كقوله تعالى : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ... ) (7) فقالوا : إنّ المعطوف محتمل

ص: 297


1- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع زيادة : « لها ».
2- أي المجمل المفرد.
3- يعني لفظ « المختار » المشترك بين اسمي الفاعل والمفعول بعد الإعلال.
4- العقد الفريد 4 : 29.
5- لم يرد في ( ش ).
6- المعروف في الكتب أنّه قول سبط ابن الجوزي ، راجع رياض الجنة 1 : 158 ، وسير أعلام النبلاء 21 : 371.
7- البقرة : 237.

لأن يكون الزوج فيكون العفو عمّا في ذمّة الزوجة إذا كان المهر مقبوضا لها ، ولأن يكون وليّ الزوجة فيكون المعفوّ عنه الزوج بإبراء ذمّته عن المهر ، والإجمال إنّما هو في جملة الكلام لا في جزء خاصّ.

وفيه نظر ؛ لأنّ الإجمال على تقدير تسليمه إنّما هو ناش من جزء خاصّ (1) في الكلام وهو صلاحيّة الصلة المذكورة للموصول لكلّ واحد من الوليّين ، فليس الإجمال في الجملة ؛ مضافا إلى أنّه لا إجمال في الآية بوجه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الصلاحيّة لا تنافي البيان ، لاحتمال العموم ، بل وهو (2) الظاهر حيث لا عهد ، إلاّ أن يكون المعهود كما ستعرف وجهه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قضيّة العطف أن يكون المراد هو وليّ الزوجة ، إذ لو كان المراد هو الزوج لزم أن يكون مستثنى من المفهوم الثابت بواسطة قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) وهو خلاف الظاهر للمتعاطفين ، فإنّ الظاهر خروجهما من مخرج واحد كما لا يخفى على من له أنس بمواقع الكلام. ولا يعارض ذلك لظهور (3) عقدة النكاح في الزوج ، إذ هذه الصفة موجودة فعلا في الزوج دون الوليّ ؛ لأنّ ذلك أظهر ، بل لم نجد في العربيّة نظيرا له.

ومنه يظهر عدم إمكان إرادة العموم من الموصول ، إذ يلزم الاستثناء تارة من المفهوم واخرى من المنطوق ، وهو لا يصحّ في استعمال واحد. ولا يجوز أن يكون المراد هو الوليّ ويكون الاستثناء من المفهوم منقطعا ، لكونه خلاف الظاهر

ص: 298


1- في ( ق ) : « جزئه الخاصّ ».
2- في ( ش ) : « هي ».
3- في ( ش ) : « بظهور ».

مع شناعته. ولو حمل قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) على بيان ما يستحقّه الزوج فهو أشنع ؛ لأنّ المراد بالمعطوف إن كان الوليّ لزم استثناؤه كالمعطوف عليه من المفهوم ، وهو وإن كان صحيحا ، لكنّه بعيد جدّا. وإن كان المراد الزوج فالمعطوف عليه خارج من المفهوم والمعطوف من المنطوق وهو أيضا فاسد.

ولو (1) حمل على بيان النصف (2) بينهما حتّى يكون بمنزلة قولنا : « لكلّ منهما نصف المهر » صحّ استثناء كلّ منهما من المنطوق ، إلاّ أنّه أبعد المحامل المتصوّرة في الآية ولا يصار إليه.

ثمّ إنّ المجمل على قسمين : أحدهما ما عرفت ، والآخر ما له ظاهر لم يرده المتكلّم كما في العامّ المخصّص (3) واقعا مع عدم العلم به على القول بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الحقّ ، والمطلق عند عدم ذكر المقيّد.

فإن أرادوا بذلك أنّه من المجمل فيما لو علم بوقوعه على هذا الوجه من المتكلّم كان ذلك حقّا لا مناص عنه ، فإنّا إذا علمنا أنّ المتكلّم إنّما لاحظ المطلق لا على وجه السراية فمراده مجمل لإجماله ، كما إذا علم التخصيص ولم يعلم بخصوصه ، وهذا هو الذي قلنا في بعض المباحث المتقدمة بسراية إجمال المخصّص إلى العامّ.

وإن أرادوا أنّه مع عدم العلم من المجمل ، فممّا لا يرى له وجه ، بل هو محكوم بالبيان إلى ظهور القيد ، وبعد الظهور ينكشف كونه واقعا على وجه

ص: 299


1- كذا في مصحّحة ( ش ) ، وفي النسخ بدل « ولو » : « لو لا ».
2- كذا في ( ش ) ، وفي ( ق ) : « التنصيف » ، وفي المطبوع و ( ع ) : « المتّصف ».
3- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « المخصوص ».

الإجمال. نعم ، يشكل ذلك فيما إذا قلنا باعتبار الأصول لا من جهة الظنّ بل تعبّدا ، إذ عند عدم الحاجة لا يترتّب على الكلام أثر شرعيّ حتّى يؤخذ بالأصل ويحكم بكونه مبيّنا (1) ، بخلاف الظنّ فإنّ وجوده لا يناط بترتيب الأثر كما لا يخفى على المتأمّل. [ واللّه الهادي ](2).

ص: 300


1- في ( ق ) : « مثبتا ».
2- من ( ش ).

هداية

لا إجمال في آية السرقة ، وهي قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... ) (1).

أمّا القطع : فلأنّ المتبادر منه مطلق الإبانة الصادقة على جميع مراتبها وخصوص مرتبة خاصّة وإرادتها بالدليل ، وقد مرّ أنّه لا يوجب الإجمال ، إذ بعده لا إجمال وقبله محمول على المسمّى.

نعم ، لا يبعد القول بالإجمال من حيث إنّ الظاهر - وهو إبانة الكلّ - غير مراد قطعا ولا ظاهر بعده فيتردّد بين المراتب العديدة من إبانة اليد. ولكن الإجمال إنّما جاء به من قبل أمر آخر لا بواسطة نفس الآية.

وأمّا في اليد : فإنّ الظاهر منها تمام العضو المخصوص ، وثبوت اسم خاصّ لبعض أجزائه ممّا لا دليل فيه على خلاف ما ذكرنا.

وأمّا الموارد التي يستعمل لفظ « اليد » فيها على بعضها كما في قولك : « غوّصت يدي » و « قطعت يدي » ونحو ذلك ، فليس « اليد » مستعملة فيها في أبعاضها بل في تمام العضو ، إلاّ أنّ نسبة تلك الأفعال إنّما تقتضي اتّصاف المورد بالفعل المذكور على الوجه المذكور من دون مجاز في الفعل أو في المورد ، كما أفاده بعض المحقّقين في عوائده ، حيث قال بعد ما قرّر من أنّ العرف ربما يتسامحون في صدق بعض المعاني على مصاديقها : إنّ هذه القاعدة

ص: 301


1- المائدة : 38.

- يعني المسامحة - جارية في وضع الجزء الصوري للنسبة بين الشيئين أيضا ، فكلّ ما يعدّ في العرف هذه النسبة فهو المراد بالإضافة من غير تغيير في حقيقة المضاف والمضاف إليه ، فإنّ الموضوع له للماهيّة الإضافيّة النسبة العرفيّة الحاصلة بين الحقيقتين ، فالتقبيل الحقيقي لزيد الحقيقي يحصل بجزء منه عرفا ، لا بمعنى أنّ زيدا الواقع في هذا التركيب يراد منه جزؤه عرفا ، بل بمعنى أنّ النسبة العرفيّة التي هي الجزء الصوري تحصل بذلك ، ولم يعلم للجزء الصوري معنى غير هذا لغة ولم يعلم للهيئة معنى آخر سوى المصداق العرفي ، ولا يختصّ ذلك بالتركيب الإضافي بل كذلك الإسنادي والتوصيفي ، نحو زيد مضروب ، وهذا الثور أسود إذا كان فيه نقطة بيضاء والقصيدة العجميّة إذا كانت فيها ألفاظ عربيّة (1). انتهى ما أردنا نقله بأدنى تفاوت.

فما أفاده [ غير ](2) بعيد ، إلاّ أنّه لا حاجة إلى اعتبار المسامحة في النسبة ، كما يظهر من قياسها على ما يقع من التسامح في طرفيها ؛ مضافا إلى ما يظهر منه : أنّ المعنى العرفي يغاير المعنى الحقيقي ، وليس كذلك ، بل المعنى محفوظ على الوجهين ، إلاّ أنّ التسامح في دعوى العرف صدق المعنى الحقيقي على ما ينزّلونه (3) منزلة الواقع. وعليك بإمعان النظر في كلامه لعلّك تطّلع على ما لم نطّلع عليه ، وهو الموفّق المسدّد الهادي.

ص: 302


1- عوائد الأيّام : 505.
2- لم يرد في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع.
3- العبارة في ( ش ) : « على ما يراد أنّه منزلة الواقع ».

هداية

الأقرب أنّ التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) (1) و ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (2) لا يلازم الإجمال. وقيل بالملازمة (3) ، وآخر بالبيان مطلقا (4).

واحتجّ الأوّل بأنّ (5) إضافة الحلّ والحرمة إلى نفس العين ليست إضافة حقيقيّة ، لامتناع تعلّقهما بها ، بل إنّما هي إضافة لملابسة (6) ، بين الحلّ والعين باعتبار الفعل المتعلّق بها ابتداء ، وحيث إنّ ذلك ممّا لا دليل على تعيينه بعد تعدّده (7) في نفسه يصير مجملا.

واحتجّ الثاني بأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم بعد أنّ الأصل في كلّ كلام حمله على البيان والإفادة ، نظير المطلق الوارد بدون القيد.

ص: 303


1- المائدة : 1.
2- النساء : 23.
3- نسبه الشيخ في العدّة 2 : 436 ، والآمدي في الإحكام 3 : 15 ، والعضدي في الشرح :
4- نسبه في المعالم : 156 إلى الأكثر ، ومثله في القوانين 1 : 339 ، واختاره صاحب المعالم ، وهو مختار الشيخ في العدّة 2 : 36.
5- في ( ش ) والمطبوع : « إلى أنّ ».
6- في ( ق ) : « الملابسة ».
7- في ( ع ) : « فعند تعذّره ».

والجواب عن الأوّل : فبأنّه ربما يكون الفعل الرابط بينهما ظاهرا عند أهل الاستعمال كما هو كذلك في أغلب الموارد التي يتعاطونه أهل العرف في محاوراتهم كالأكل في المأكول واللبس في الملبوس والشرب في المشروب ونحوها ، فإن أريد الملازمة بمعنى أنّ نفس التركيب مع قطع النظر عن ظهور خارجي يقتضي الإجمال فهو حقّ ، وإن أريد أنّ الواقع على الإجمال في جميع موارد التركيب فهو فاسد جدّا. لكنّ الإنصاف أنّه لم يظهر من القائل بالإجمال غير الشقّ الأوّل من الترديد.

وعن الثاني : فبأنّ حذف المتعلّق إنّما يفيد العموم بعد البيان في الجملة بواسطة إحراز أركان الكلام من الموضوع والمحمول. وأمّا عند عدم إحرازها كذكر الفعل بدون الفاعل أو العكس فلا شكّ في إجماله كما فيما نحن فيه ، فإنّ المضاف إليه هو الفاعل والموضوع في هذه التراكيب ، وأصالة البيان لا تجري بعد العلم بالإجمال عرفا ، فلا يقاس ذلك بالمطلق.

ثمّ اعلم أنّ الحلّية والحرمة في هذه التراكيب كسائر الأحكام المتعلّقة بموضوعاتها تدور مدار صدق ذلك العنوان الذي تعلّق به الحكم على وجه لو زال العنوان زال الحكم ، إلاّ أن يعلم من دليل خارج عن نفس القضيّة الحمليّة ثبوت الحكم بعد زوال العنوان أيضا ، فيكشف ذلك الدليل عن كون العلّة التامّة للحكم هو حدوث العنوان في أحد الأوقات.

ثمّ إنّه بما ذكرنا ظهر (1) أنّ وجه الإفادة في أمثال هذه التراكيب في مورد إفادتها ليس وضعا جديدا للهيئة التركيبيّة ، لعدم الحاجة إليه والأصل عدمه ،

ص: 304


1- في ( ق ) : « ممّا ذكرنا يظهر ».

بل يكفي في ذلك ملاحظة صحّة الإضافة بواسطة ارتباط حاصل من (1) الحكم والعين من جهة ما هو منسوب إلى الطرفين ، كالأكل في ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) فإنّ له تعلّقا بالحلّ (2) من حيث اتّصافه به وبالعين (3) من حيث تعلّقه بها ، فيضاف الحلّ بما هو متعلّق لمتعلّقه مجازا في الإضافة والإسناد ، كما يشهد بما ذكرنا أنّ الذهن إنّما يلتفت إلى هذا المذهب بعد الالتفات إلى عدم تعقّل سلوك سبيل يقتضيه الوضع من ارتباط الحكم إلى العين بلا واسطة. وهذا ظاهر وإن زعم بعض الأجلّة (4) - تبعا للمحكيّ عن الشيخ (5) والعلاّمة (6) - خلافه. واللّه الهادي.

ص: 305


1- في ( ع ) بدل « من » : « بين ».
2- في ( ش ) : « باحلّ ».
3- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « بين العين ».
4- الفصول : 224.
5- العدة 2 : 437.
6- نهاية الوصول : 178 - 179.

ص: 306

هداية

اشارة

قد تداول في تضاعيف المحاورات إطلاق مثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) وموارد مثل هذا التركيب لا يخلو من وجوه.

فتارة : يستعمل في نفي الحقيقة والذات ، فيكون مفاد كلمة « لا » مفاد لفظ « العدم » إذا وقع محمولا بنفسه ، كقولك : « زيد معدوم » ومن هنا ذهب جماعة إلى عدم احتياجه إلى الخبر ، كما تقدّم في كلمة التوحيد (2).

ثمّ إنّ المنفيّ قد يكون مجرّد الذات من دون عنوان ، وقد يكون الذات باعتبار عنوانه الملحوظ في الكلام كقولك (3) : « لا صغيرة مع الإصرار » فإنّ المنفيّ هو عنوان « الصغر » (4) فالمنفيّ يمكن اعتباره على وجه المحموليّة إن لوحظ المنفيّ هو الذات المعنون من حيث إنّه معنون. ويمكن اعتباره على وجه الربط من حيث إنّ ذلك راجع إلى انتفاء الوصف العنواني عن الذات ، فإنّ التوصيف مسبوق بالحمل قطعا ، كما هو ظاهر لا سترة عليه.

وتارة يستعمل في نفي الصفة عن الذات ، فيكون مفاده مفاد العدم إذا كان رابطا ، وتلك الصفة مختلفة جدّا ، فتارة تكون صحّة ما تعلّق به النفي كقوله :

ص: 307


1- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.
2- راجع الصفحة : 106.
3- في ( ق ) : « كقوله عليه السلام ».
4- في ( ش ) : « الصغيرة ».

« لا صلاة إلاّ بطهور » بناء على عدم حمل النفي فيه على نفي الذات وحمله على نفي الصحّة (1) كما يراه جماعة (2) ، فيكون المراد هو عدم مطابقة الصلاة بدون الطهارة لما هو المأمور به حقيقة.

وتارة يراد به نفي المشروعيّة كقوله : « لا جماعة في نافلة » (3) فيكون المراد هو عدم تعلّق طلب الشارع بالجماعة في النافلة ، ويغاير الأوّل بالاعتبار.

وقد يراد به نفي الفضيلة كقوله عليه السلام : « لا صلاة لجار المسجد » (4) أو نفي الكمال كقوله عليه السلام : « لا صلاة لحاقن » (5) ويفارق الأوّل بأنّ نفي الفضيلة لا ينافي الإباحة في العبادات ، وبخلاف نفي الكمال فإنّه يفيد (6) الكراهة المعتبرة (7) في العبادات.

وقد يراد به نفي الوجوب كقوله عليه السلام : « لا إعادة إلاّ في خمس » (8) أو نفي جميع الآثار الشرعيّة أو بعضها على اختلاف المقامات كقوله عليه السلام

ص: 308


1- في ( ق ) والمطبوع : « الصفة ».
2- منهم صاحب المعالم في المعالم : 155 ، والمحقّق القمي في القوانين 1 : 338 ، والغروي في الفصول : 224 ، والعضدي في الشرح : 289.
3- الوسائل 5 : 182 ، الباب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان ، الحديث 6.
4- الوسائل 3 : 478 ، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد ، الحديث الأوّل.
5- الوسائل 4 : 1254 ، الباب 8 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 5.
6- في المطبوع : يضادّ.
7- في المخطوطات : « المعتبر ». والكلمة مصحّفة قطعا ، ولعلّها في الأصل : المضرّة.
8- « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة » الوسائل 4 : 683 ، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث 14.

« لا رضاع بعد فطام » (1) و « لا يتم بعد احتلام » (2) و « لا عمل إلاّ بنيّة » (3) إلى غير ذلك من موارد الاستعمال.

وحيث إنّ ذلك التركيب صالح لأن يراد به الوجوه المذكورة اختلف القوم في بيانه وإجماله على أقوال (4) : ثالثها التفصيل بين الأسماء الشرعيّة واللغويّة التي لها حكم واحد وبين غيرها من الأحكام اللغويّة التي لها أحكام متعدّدة فالإجمال في الثاني والبيان في الأوّل ؛ ومثّل بعضهم (5) للأوّل بقوله عليه السلام : « لا إقرار لمن أقرّ بنفسه على الزنا » (6) وقوله عليه السلام : « لا غيبة لفاسق » (7).

وقد يتخبّل : أنّ وجه الإجمال في المقام على تقديره هو دوران الأمر بين مجازات عديدة بعد تعذّر الحمل على المعنى الحقيقي.

وقد يورد عليه بأنّه ليس في محلّه ، بل المعنى الحقيقي أيضا - وهو إرادة نفي الذات - أحد المحتملات من حيث حدوث الوهن في الحمل عليه ، للزوم تقييدات كثيرة في بعض الموارد كما هو معلوم في قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (8)

ص: 309


1- الوسائل 14 : 291 ، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث 2.
2- الوسائل 1 : 32 ، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 9.
3- الوسائل 1 : 33 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل.
4- راجع شرح المختصر : 290 ، والإحكام للآمدي 3 : 20 ، ونهاية الوصول : 179.
5- نهاية الوصول : 180. وفيه : لا إقرار لمن أقرّ بالزنا مرة واحدة.
6- لم نقف عليه بعينه في الجوامع الحديثية.
7- كشف الريبة : 80 ، وراجع الأمالي للشيخ الصدوق : 42 ، المجلس العاشر ، الحديث 7 مع تفاوت يسير. وكنز العمال 3 : 7. الحديث 8071 ، وفيه : ليس للفاسق غيبة.
8- المستدرك 4 : 158 ، الباب الأوّل من أبواب القراءة ، الحديث 5.

فإنّ الحمل على نفي الذات يوجب تقييد الصلاة بغير الموارد التي تقع الصلاة بدون الفاتحة كالناسي والجاهل والأخرس والمضطرّ ونحوهم.

وممّا ذكرنا أوّلا يظهر فساد ذلك كلّه ، فإنّ استعمال أداة النفي (1) في نفي الذات على وجه يراد بها العدم المحمولي الذي لا يحتاج إلى الخبر (2) لو لم نقل بكونه مجازا - لأنّه من المعاني الاسميّة التي لا يستفاد من الأداة - فلا أقلّ من أن لا (3) يكون استعمالها في نفي المحمول مجازا ، من غير فرق بين المحمولات ، سواء كان وجودا أو أمرا غيره ، فلا يتصوّر هناك مجاز في تلك المواد حتّى يقال بدوران الأمر بين المجازات بعد تعذّر الحقيقة أو بين الحقيقة وأحد المجازات ، بل الوجه في الإجمال هو ما قرّر من صلاحيّة إرادة جميع ما يمكن (4) نفيه من الموضوع المفروض دخول الأداة عليه.

نعم ، على تقدير حمل الأداة على نفي المحمول والصفة لا بدّ من تقدير الخبر ، من غير فرق بين أن يكون الخبر وجودا أو أمرا آخر. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهر الأداة لو قلنا باحتياجها إلى الخبر هو نفي خصوص المحمول الوجودي ؛ ولعلّ هذا هو الوجه في امتيازها عن المشبّهة بليس بحسب المعنى ، إذ على تقدير كونها غير ظاهرة في نفيه خاصّة لا تمايز بينهما معنى ، وهو أيضا في غاية الإشكال ، فلا بدّ من التأمّل.

ص: 310


1- في ( ش ) ، ( ع ) والمطبوع : « فإنّ أداة النهي استعمالها ».
2- في ( ع ) : « خبر ».
3- لم يرد « لا » في ( ع ).
4- في ( ق ) : « ما يحتمل ».

احتجّ القائل بالبيان مطلقا بأنّ الفعل المنفيّ إمّا من العبادات أو من غيرها. فعلى الأوّل فإمّا أن تكون موضوعة للصحيحة أو الأعم ، فعلى الأوّل لا إجمال لإمكان الحمل على نفي الذات ، وعلى الثاني فيحمل على أقرب المجازات ، وهو نفي الصحّة ، لتعذّر الحمل على المعنى الحقيقي. وعلى الثاني فيحمل على نفي الفائدة ؛ لأنّه الأقرب. هذا إذا لم نقل بثبوت وضع ثانوي لهذه التراكيب لنفي الفائدة ، وعلى تقديره فالأمر أظهر.

وأجيب عنه بأنّه على القول بالصحيح لا وجه لحمله على نفي الذات ، لما (1) تقدّم من أنّه في عرض أحد المجازات ؛ مضافا إلى استلزامه حمل الكلام على الإخبار ، وهو ليس من شأن المعصوم وهو الإخبار عن نفي الذات بدون الشرط أو الجزء. وعلى القول بالأعمّ لا وجه لإطلاق القول بأنّه لا يحمل على نفي الذات ، لاحتمال أن يكون الجزء الثابت جزئيّته بالكلام المذكور من الأجزاء المقوّمة التي ينتفي الكلّ بانتفائه ولو عند القائل بالأعمّ ، بل لا بدّ من القول بأنّه من تلك الأجزاء نظرا إلى ظاهر اللفظ.

وفيه نظر ، أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّه لا يتصوّر مجاز في التركيب المذكور.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا مناص من حمل الكلام على الإخبار كما هو ظاهر التركيب أيضا ، غاية الأمر أنّ المخبر به على تقدير حمله على نفي الصفة هو الحكم الشرعي الذي شأن الإمام عليه السلام بيانه ، وهو حاصل على تقدير نفي الذات أيضا ، فلا داعي إلى صرف كلامه عن ظاهره إلى غيره ؛ مع أنّ ما أورده على القول

ص: 311


1- في ( ق ) و ( ع ) والمطبوع : « كما ».

بالأعمّ لا ينافي مقصود المستدلّ من البيان ، فإنّ حمل الجزء على ما لا يتقوّم الكلّ بدونه - كما هو ظاهر اللفظ - ممّا يؤكّد البيان ولا ينافيه.

ثمّ إنّه قد يمكن على القول بالأعمّ حمله على نفي الذات بوجه آخر ، وهو تنزيل الفعل الفاقد لذلك الجزء منزلة العدم مبالغة في الاعتناء بشأن ذلك الجزء أو الشرط. وبذلك يظهر وجه آخر لعدم لزوم مجاز في تلك التراكيب على تقدير حملها على نفي الصفات ، فإنّ التصرّف في أمر عقليّ.

ونظير في غير المقام قوله عليه السلام : « المؤمن إذا وعد وفى » (1) و « المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه » (2) فإنّه مشعر بعدم إيمان من لا يفي بالوعد وعدم إسلام من لم يسلم منه المسلمون. لكنّه محمول على ادّعاء نفي الإيمان والإسلام عند التخلّف والإيذاء.

ومن هنا يظهر أنّه على القول بالأعمّ لا ينحصر وجه المبالغة في الاعتناء بما لا يعدّ الفعل صحيحا لولاه ، بل يحتمل أن يكون وجه التنزيل هو فقد الكمال كما في قوله عليه السلام : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (3).

واحتجّ القائل بالإجمال بما مرّ إليه الإشارة من صلاحيّة التركيب للوجوه المحتملة.

وأمّا المفصّل ففي جهة الإجمال يشارك من قال به مطلقا ، وفي جهة البيان بأنّ الفعل الشرعي يمكن انتفاؤه بفوات شرطه أو جزئه فيحمل النفي على ظاهره.

ص: 312


1- البحار 67 : 31 ، الحديث 45.
2- الوسائل 8 : 597 ، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.
3- الوسائل 3 : 478 ، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد ، الحديث الأوّل ، ولفظ الحديث : في مسجده.

كما لا إجمال مع اتّحاد الحكم اللغوي لصرف (1) النفي إليه على تقدير وجود الفعل ، وعلى تقدير عدمه فلا إجمال.

والتحقيق : أنّ هذه التراكيب لا يقتضي الإجمال ، إذ لو قلنا باستفادة العدم المحمولي من الأداة ، أو قلنا بأنّ المستفاد منها خصوص نفي الوجود دون سائر المحمولات - كما لعلّه الظاهر من الأداة - فلا إشكال في عدم الإجمال. وإن قلنا بأنّ المستفاد منها هو نفي المحمول ولو كان غير الوجود ولا وجه لدعوى (2) ظهورها في نفي المحمول الوجودي ، فإن علمنا بانتفاء الذات فلا إجمال قطعا ، وإن علمنا بقاء الذات فالعرف يساعد على نفي جميع آثارها. ولعلّ ذلك ناش من ظهور الأداة في نفي المحمول الوجودي دون ساير المحمولات ، وبعد تعذّره - للقطع ببقائه - فالأقرب هو نفي جميع الآثار ، ودونه في القرب نفي معظم الآثار ، وهو الصحّة في العبادات ، والفائدة في غيرها ، ثم نفي التماميّة فإنّ الناقص كالمعدوم ، ثم نفي الكمال فإنّه أبعد. وعند الشكّ يحمل على نفي الوجود وعلى تقدير ظهورها في نفيه خاصّة.

تذنيبان :

الأوّل : لا إشكال في بيان خصوص قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (3) وإن احتمل إجمال غيره ، لظهوره في أنّ العمل الغير المتلبّس بالطهور فاسد

ص: 313


1- في ( ش ) و ( ط ) : « مع اتّحاد حكم اللغوي بصرف ».
2- في ( ق ) بدل « لدعوى » : « لعدم ».
3- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.

لا يحصل منه البراءة ، من غير فرق في ذلك بين القول بالأعمّ والصحيح. نعم ، حمل النفي على نفي الذات موقوف على القول بالصحيح ، وإمكان ذلك على القول بالأعمّ إنّما هو في غير الشرائط ، اللّهمّ إلاّ بالقول بدخول الشرط في بعض الاعتبارات في المشروط ، فيحتمل أن يكون ذلك من الأجزاء المقوّمة التي يرتفع الماهيّة بارتفاعها ولو عند القائل بالأعمّ أيضا ، وسيأتي تفصيله عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون النفي متوجّها إلى الذات أو إلى الصفة ، كالصحّة والفائدة بدعوى ظهوره في نفي الصحّة والفائدة بحسب متفاهم العرف ؛ وقد يحتجّ على ذلك بأنّ نفي الذات يدلّ على نفي الصفات وإذا ترك العمل به في نفي الذات لوجودها وجب العمل في نفي الصفات. ولعلّه قياس بما تقدّم في العامّ المخصّص : من أنّ خروج بعض الأفراد لا يوجب زوال الحكم عن الباقي. والفرق ظاهر ؛ لأنّ نفي الصفات إنّما هو تابع لنفي الذات في كونه مدلولا للّفظ ، ولا يعقل زوال المتبوع وبقاء التابع من حيث إنّه تابع ، بخلاف العامّ فإنّ أفراده في حدّ سواء.

الثاني : على تقدير ظهور تلك التراكيب في خصوص نفي الذات إمّا من دون احتياج الأداة إلى الخبر وإمّا معه ، فلو تعذّر الحمل عليه فيحتمل في التركيب المذكور وجوه من التصرّف :

إمّا بالقول بأنّ التصرّف في أمر عقليّ تنزيلا لما لا صحّة له منزلة المعدوم ، أو لما لا كمال فيه منزلته. ولو دار الأمر بينهما فالظاهر الأوّل ؛ لأنّه الأقرب ولو في مقام التنزيل.

وإمّا بالقول بأنّه مجاز في الحذف بتقدير الاسم للأداة ، كأن يقال : لا فائدة في الصلاة أو لا صحّة فيها.

ص: 314

وإمّا بالقول بأنّه مجاز في الإسناد فإنّ المحلّ المقرّر لإسناد النفي بعد وجود الذات هي الصفة عند العقل ، فإسناده إليها يكون مجازا فيه ، فهو من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى اللازم إلى ملزومه ، كقولك : « بنى الأمير المدرسة » (1).

وإمّا بالقول بأنّه مجاز لغويّ ، إمّا من جهة استعمال المطلق في خصوص المقيّد فيكون المراد من الصلاة خصوص الصحيحة ، أو من استعمال الملزوم وإرادة اللازم ؛ لأنّ نفي الذات يلازم نفي الصفة. كذا قيل (2). وفي الأخير نظر.

[ تمّ ما أفاده قدس سره في مسألة المجمل والمبيّن ، ولعمري نعم ما أفاد ممّا لم يسبقه. ويتلوه الكلام في الأدلّة العقلية ](3).

ص: 315


1- في ( ق ) : « المدينة ».
2- راجع نهاية الوصول : 180 ، والقوانين 1 : 338.
3- أثبتناه من ( ط ).

ص: 316

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

القول في الأدلّة العقليّة

اشارة

ص: 317

ص: 318

ويتمّ الكلام فيه في طيّ اصول :

أصل

أصل (1)

عرّف الدليل العقلي : بأنّه « حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ».

وقسّموه إلى ما لا يتوقّف على خطاب شرعيّ كالحسن والقبح العقليّين وإلى ما يتوقّف عليه كالحكم بوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ ، ونحوه. وعدّ غير واحد - منهم الفاضل التوني (2) - منه ما لو ثبتت الملازمة شرعا كالملازمة بين القصر والإفطار ، مصرّحين بعدم الفرق بينه وبين ما كان الملازمة عقلية.

ثمّ يرد على التعريف : بأنّ الدليل العقلي إنّما هو فرد من أفراد مطلق الدليل ، وقد عرّف : بأنّه « ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبريّ » (3) فلا وجه لإهمال قيدي « الإمكان » و « صحيح النظر فيه » ، إلاّ أن يراد من « التوصّل » إمكانه ، وهو كما ترى مجاز لا يصار إليه في أمثال المقام كما لا يخفى.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ من الظاهر أنّ المقصود بالتحديد في المقام ليس إلاّ تميز هذا القسم من الدليل عمّا يشاركه في الجنس من الدليل الشرعي ، وبعد اعتبار القيدين فيما يتمّ القسمين لا غائلة في إهمالهما في مقام يراد فيه تميز

ص: 319


1- في ( ش ) : « تحديد ».
2- الوافية : 219.
3- انظر الإحكام للآمدي 1 : 27.

أحدهما عن الآخر إجمالا ، دون أن يكون المقصود كشف تمام حقيقتهما ؛ على أنّه يمكن القول بعدم الحاجة إلى قيد « الإمكان » في المقام ، فإنّه - على ما هو المصرّح به في كلامهم - لإدراج المغفول عنه وهو في الأدلّة العقليّة غير معقول ، إذ المراد بالحكم هنا هو التصديق ، ومع حصوله لا معنى للغفلة ، وبدونه لا حكم هناك حتى يكون مغفولا.

ثم إنّه إن اريد من « الموصل » ما هو العلّة التامّة للعلم بالحكم الشرعي فلا يكاد يتمّ أصلا ، إذ الحكم العقلي لا يزيد على مقدّمة واحدة فيما هو الموصل واقعا ، فإنّ المجهول التصديقي ممّا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بعد [ اعتبار ](1) قضيّتين يستفاد من إحداهما ثبوت اللازم ومن الاخرى اللزوم - على ما هو المقرّر في محلّه - وتسمية الاصولي غيرهما دليلا إنّما يرجع إلى مجرّد الاصطلاح ، نظرا إلى إطلاق الدليل عندهم على المفرد وعلى القضيّة الواحدة وعلى القضيّتين من غير اعتبار ترتيب بينهما كما يظهر للمتدرّب في كلماتهم.

وإن اريد منه مطلق ما له دخل في الإيصال ولو لم يكن علّة تامّة فيلزم دخول الكلّ فيه ، إذ ما من دليل شرعي إلاّ وللعقل فيه مدخليّة ، ولا أقلّ من انتهائه إليه في مقام الحجّية. والالتزام به - كما وقع عن بعضهم - ممّا لا يرضى به المنصف المتأمّل.

ويمكن دفعه : باختيار الشقّ الثاني والقول بأنّ الحكم المجهول : تارة يستدلّ عليه بدليل عقلي بكلتا مقدّمتيه ، ولا ريب في كونه دليلا عقليّا.

ص: 320


1- من ( ش ).

وأخرى بدليل شرعيّ كذلك ، ولا ريب في كونه شرعيا. وأمّا مدخليّة العقل فيه فإنّما هو من حيث انتهائه إليه في إثبات حجّيته ، ولا شكّ في عدم اعتباره بعد إحراز حجّيته كما هو المقصود في أمثال المقام على ما لا يخفى.

واخرى : بما يكون إحدى مقدّمتيه عقليّة والأخرى نقليّة ، فالمقدّمة العقليّة لو كانت معلومة مفروغا عنها ومحرزة صحّ تسمية الدليل بالشرعيّ ، سواء كانت صغرى للقياس أو كبراه ، والمقدّمة الشرعيّة لو كانت مفروغا عنها - ولو في الاعتبار - فالدليل عقلي ، فإنّ المقدّمة العقليّة حينئذ ممّا (1) يتوصّل به إلى حكم شرعي ، كما يقال : بأنّ مقدّمة الواجب ممّا يتوصّل بها إليه ، يعني أنّ بعد إحراز الشرائط ورفع الموانع - مثلا - يتوصّل بها إليه ؛ ولا يراد منه أنّها علّة تامّة للتوصّل إلى ذيها ، ولكن حيثما كان وجود المعلول متوقّفا على حصول العلّة وكان حصولها لوجود الجزء الأخير منها صحّ إسناد المعلول إليه فكان الموصل هو هذا الجزء.

وبالجملة ، المقدّمة العقليّة سواء كانت صغرى للقياس الذي هو المفيد للعلم بالحكم أو كبرى له فيما لو كانت المقدّمة النقليّة الأخرى محرزة مفروغا عنها تجري مجرى الجزء الأخير من العلّة ، فيصحّ استناد العلم إليها والقول بأنّها الموصلة إليه كما لا يخفى. وإليه ينظر كلام من قسّم الدليل إلى العقلي والنقلي من أساطين العلماء ، كالمحقّق في مقدّمات المعتبر (2) والشهيد في الذكرى (3) على ما حكى عنهما (4).

ص: 321


1- في ( ش ) بدل « ممّا » : « ما ».
2- انظر المعتبر 1 : 28 - 31.
3- انظر الذكرى 1 : 44 - 52.
4- في ( ط ) : « عنها ».

فإن قلت : ما ذكر من أنّ المراد من الموصل أعمّ من العلّة التامّة وغيرها ينافي ما هو المصرّح به في كلامهم : من أنّ الدليل النقلي ما لا يكون مقدّماته عقليّة صرفة ، فإنّ ذلك إنّما يلائم كون المراد من الموصل خصوص العلّة التامّة كما هو الظاهر.

قلت : قد يطلق الدليل العقلي ويراد به ما ليس بنقلي في قبال الدليل النقلي ، وقد يطلق ويراد به ما يقابل غير العقلي ، فالعقلي بأحد المعنيين لا ينافي النقلي بالمعنى الذي لا يقابله ، بل ينافي ما يقابله ، فالمراد من التسمية بالعقلي : أنّ الحكم مستند إلى العقل ، لا الإجماع وغيره من الأدلّة الشرعيّة. ولا ينافي كونه نقليّا بالمعنى الذي ذكروه ، فإنّه ربما يستند الحكم إلى الكتاب أو السنّة ؛ مع أنّ كلاّ منهما لا يكاد يتمّ الاستدلال بهما إلاّ بعد ضمّ مقدّمة عقليّة أو نقليّة كالإجماع - ولو مركّبا - ونحوه ؛ ومع ذلك فالحكم مستند إلى الكتاب أو السنّة.

مثلا : لزوم الاجتناب عن الأثواب الملاقية لأبوال ما لا يؤكل لحمه يستفاد من السنّة ، والحكم في الأبدان إنّما يتمّ بعد انضمام عدم القول بالفصل بين الأبدان والأثواب إلاّ (1) أنّ الحكم في الأبدان أيضا مستند إلى الكتاب (2).

وبالجملة ، لا تنافي بين كون الدليل نقليّا بمعنى كون بعض مقدّماته نقليّة وكونه عقليّا بمعنى استناد الحكم إلى العقل ، كما عرفت عدم المنافاة بين استناد الحكم إلى السنّة أو (3) الكتاب مع عدم انتهاضهما على تمام المطلوب إلاّ باعتبار مقدّمة خارجة عنهما.

ص: 322


1- لم يرد « إلاّ » : في ( ش ).
2- كذا ، والظاهر : السنّة.
3- في ( ش ) بدل « أو » : « و ».

ثم إنّه لا يخفى عليك عدم انعكاس الحدّ المذكور ، نظرا إلى أنّ المتبادر منه هو اختلاف حكمي العقل والشرع ، كما هو ممّا لا مناص عنه حذرا عن اتّحاد الدليل والمدلول ؛ ومع ذلك فبعض أفراد الدليل العقليّ - كالحكم بوجوب المقدمة بعد وجوب ذيها - هو عين الحكم الشرعيّ ، فإنّ العقل يدرك وجوب المقدّمة وهو نفس المدلول ، فيلزم الاتّحاد المحذور.

اللّهمّ إلاّ أن يجاب عنه : بأنّ الحكم العقلي في المقام هو وجوب المقدّمة عند وجوب ذيها على وجه إجمالي كلّي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ خاصّ ، كوجوب الوضوء للصلاة والخروج مع الرفقة للحجّ ، وأمثال ذلك ممّا هو ظاهر كالحكم في سائر الكبريات المستدلّ بها على ثبوت أحكام أفراد موضوعها ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ التقسيم المذكور ممّا لا وجه له ظاهرا ، إذ العقل بعد فرض حكمه فهو مستقلّ فيما يحكم به ، ولا ينافيه ثبوت موضوعه بالشرع ، فإنّ العقل يستقلّ بوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ كما يستقل بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم ، من غير فرق بينهما إلاّ فيما لا عبرة به في الاستقلال وعدمه ، وهو تحقّق موضوعه شرعا في الخارج ، فالحاجة إلى ثبوت الموضوع لو كان ممّا يؤثّر في الاستقلال وعدمه لما كان هناك حكم يستقلّ به العقل ، للاحتياج المذكور.

وبالجملة ، فالعقل يحكم بامتناع انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر وإن كان ثبوت الملزوم متوقّفا على شيء آخر في الخارج.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكلام ليس في تلك العناوين الكلّية - كوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها أو امتناع الانفكاك بين المتلازمين - بل الكلام إنّما هو في العناوين المخصوصة المعنونة (1) في كتب الفقهاء : من وجوب الوضوء عند

ص: 323


1- في ( ش ) : « المعهودة ».

وجوب الصلاة ، وحرمة الصلاة عند نجاسة المسجد ، وحرمة الضرب عند حرمة التأفيف ، ونحوها من الأحكام الخاصّة. ولا ريب أنّ العقل لا يستقلّ بإدراك أحكام تلك الأمور المخصوصة إلاّ بعد ورود خطاب شرعيّ على وجوب الفعل أو حرمته بخلاف حكم العقل بحرمة الظلم ولو في مورد خاصّ ، فإنّه لا حاجة في ذلك إلى خطاب أصلا ، بل يكفي فيه مجرّد حكم العقل بالتحسين والتقبيح ، فالحكم الكلّي بحرمة الأشدّ عند تحريم الأخفّ أو وجوب المقدّمة عند وجوب ذيها أو حرمة الضدّ عند وجوب الضدّ الآخر لا يثمر في حكم العقل بحرمة (1) الصلاة والتأفيف ووجوب الوضوء إلاّ بعد ورود خطاب الشرع. وهذا هو المراد بالتقسيم.

وأمّا ما عدّه الفاضل التوني من الدليل العقلي كالحكم بالملازمة بين القصر والإفطار ولو كانت الملازمة شرعيّة (2) ، فهو بظاهره أيضا ليس بشيء ؛ لأنّك قد عرفت آنفا أنّ الدليل لو كان بكلتا مقدّمتيه شرعيّة صغرى وكبرى فهو دليل شرعي لا وجه لعدّه من الأدلّة العقليّة ، وفي المقام صغرى القصر شرعيّة ، والكبرى وهي القضيّة القائلة بالملازمة أيضا شرعيّة لا مدخل للعقل فيها إلاّ مجرّد الاستنتاج ، وهو لا يثمر في نسبة الدليل إلى العقل ، لوجوده فيما ليس بعقلي قطعا (3).

وبالجملة : إذا ثبت وجوب القصر في أربع فراسخ وثبت أيضا وجوب الإفطار فيما وجب فيه القصر على وجه كلّي ، ثبت وجوب الإفطار في المسافة

ص: 324


1- في ( ش ) : « بحكم العقل في حرمة ».
2- الوافية : 219.
3- في ( ش ) : « اتّفاقا ».

المقدرة من غير توسيط للعقل إلاّ فيما لا مدخل له في انتساب الدليل إلى العقل ، وهو مجرّد الاستنتاج (1) ، وإلاّ فيلزم أن يكون الأدلّة الشرعيّة بأجمعها أدلّة عقليّة ، وفساده غير خفيّ.

قال الاستاذ - دام عزّه (2) السامي - : وهذه الإيرادات على التعريف والتقسيم وعلى ما أفاده الفاضل التوني ممّا كنّا نورده في سالف الزمان ، وأمّا الآن فنحن معرضون عنها.

أمّا بالنسبة إلى التعريف والتقسيم ، فلما عرفت.

وأمّا بالنسبة إلى ما أفاده الفاضل التوني ، فلأنّ الحكم في الكبرى قد يكون على وجه كلّي ، كأن يقول الشارع : « كلّ ما وجب فيه القصر وجب فيه الإفطار » ولا ريب في صلوحه لإثبات النتيجة بعد ضمّ الصغرى الشرعيّة إليها من غير حاجة إلى حكم العقل بامتناع انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر ، بل وهذا عين مفاد حكم العقل كما في قولنا : « كلّ متغيّر حادث » على ما لا يخفى.

وقد يكون الحكم الثابت بالشرع على وجه يحتاج إلى ملاحظة حكم العقل بامتناع انفكاك المتلازمين أيضا ، كأن يقول : « القصر ملازم للإفطار » أو ما يؤدّي مؤدّاه ، وحينئذ فلا بدّ من ضمّ كبرى عقليّة إليها يستند الحكم في الواقع : من امتناع الانفكاك بين المتلازمين ، وإن كان اللزوم شرعيّا ، فإنّه ليس بضائر كما في الحكم بوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ. وما أفاده من قبيل الثاني لا الأوّل ، فصحّ إفادته (3).

ص: 325


1- لم ترد « وهو مجرّد الاستنتاج » في ( ش ).
2- في ( ط ) : « دام ظلّه ».
3- العبارة في ( ط ) هكذا : « فصحّ التعريف والتقسيم وما أفاده بأجمعها ، كما لا يخفى ».

ص: 326

أصل

اشارة

أصل (1)

لا كلام في المقام في حجّية العلم الحاصل من الأدلّة العقليّة (2) التي لا تبتني على (3) التحسين والتقبيح العقليّين ، فإنّ لها محلاّ آخر قد فرغنا عنه فيما سلف في حجّية الظنّ وذكرنا : أنّ المخالف فيها هناك (4) هو بعض الأخبارية وتبعهم في ذلك بعض المتأخّرين (5)(6)؟

بل الكلام هنا في أنّ العقل فيما هو مبنيّ على القول بالحسن والقبح هل هو حجّة؟ بمعنى أنّه إذا أدركت عقولنا حسن شيء على وجه ملزم أو قبحه كذلك ، فهل هو ممّا يعتبر في التوصّل به إلى الحكم الشرعي ويصحّ استكشاف الحكم الشرعي منه أم لا؟

ولا بدّ أن يعلم أيضا أنّ محلّ الكلام بالتقييد المذكور ليس عامّا بحيث يشمل أفعاله تعالى أيضا ، كوجوب العدل وقبح الكذب والظلم في حقّه تعالى ، فإنّ هذه الأحكام وإن كانت ممّا يتفرّع على الحسن وما يقابله ، إلاّ أنّ أفعاله تعالى

ص: 327


1- في ( ش ) : « هداية ».
2- في ( ط ) : « الشرعيّة العقليّة ».
3- في ( ش ) : « لا ينتهي إلى ».
4- لم يرد « هناك » في ( ش ).
5- راجع الفوائد 1 : 51 - 64.
6- في ( ط ) زيادة : « فلا نطيل بإعادته ».

ليس ممّا يتعلّق به حكم شرعي حتّى يتوصّل بالحكم العقلي إلى الحكم الشرعي كما في أفعال العباد ، فإنّ من قبح الظلم وحسن ردّ الوديعة يستكشف الحكم الشرعيّ في حقّهم ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثم اعلم أنّ المعروف بين من تقدّم على الفاضل التوني اكتفاؤهم عن هذا العنوان بعنوان « مسألة إثبات إدراك العقل للحسن والقبح » وأوّل من جعل هذا المبحث عنوانا آخر هو الفاضل المذكور (1) ، ولعلّه أخذه من كلام الفاضل الزركشي (2) حيث التزم بالحكم العقلي ونفي الملازمة بينه وبين الحكم الشرعيّ ، إلاّ أنّه تبعه في ذلك جماعة ممّن تأخّر عنه.

ولكن التحقيق : أنّ البحث الأوّل على ما يستفاد من عناوينهم للمبحث وإقامة الأدلّة من الطرفين وثمرات المسألة بين الفريقين مغن عن العنوان الثاني.

وتوضيح ذلك يتوقّف على ذكر كلمات من تعرّض لها من أصحابنا ومخالفينا في الموارد الثلاثة.

أمّا كلمات أصحابنا في أوّل المقامات :

فمنها : ما ذكره الفاضل المحقّق اللاهيجي في رسالته الفارسيّة المسمّاة ب- « گوهر مراد » حيث فسّر الحسن في محلّ النزاع ب- : « جزاء الخير » ، والقبح ب- : « جزاء الشرّ » ، لكن إذا أضيف إلى اللّه تعالى يكون الأوّل ثوابا - لعدم كون جزاء الخير منه إلاّ الثواب - والثاني عقابا (3).

ص: 328


1- الوافية : 171.
2- لا يوجد لدينا كتابه.
3- گوهر مراد : 244.

فلولا أنّ النزاع في المقامين ممّا يرجع إلى نزاع واحد لم يصحّ ذلك كما لا يخفى (1).

ومنها : ما ذكره العميدي في شرح التهذيب : من أنّ الحسن : هو الفعل الذي لم يكن على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ.

والقبح : ما كان على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ.

وفسّر الذمّ : بأنّه قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبئ عن اتّضاع حال الغير.

ومثّل للأوّل بالشتم من الرئيس لذي المروّة ، وللثاني بالضرب منه له ، وللثالث بتركه ردّ السلام ، والرابع بترك القيام له مع أهليّته لذلك (2).

ولا شكّ أنّ اعتبار الذمّ في الحسن والقبح وجودا وعدما ثم تفسيره بما عرفت أصرح دليل على الاكتفاء عن الثاني بالأوّل ، إذ ليس الذمّ بهذا المعنى إلاّ العقاب.

ومنها : ما أفاده جمال المحقّقين في تعليقاته على العضدي : من نسبة الحسن والقبح بالمعنى المذكور إلى المعتزلة (3). وفي مورد آخر ادّعى الإجماع من الإماميّة على القول بالحسن والقبح بالمعنى المذكور (4).

ص: 329


1- في ( ط ) زيادة : « على المتدبّر ».
2- منية اللبيب : 16 - 17.
3- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية مبحث مبادئ الأحكام : 65.
4- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية مبحث مبادئ الأحكام : 66 ونسب فيه هذا القول إلى المذهب.

ومنها : ما عن الكاظمي في شرح الزبدة : من تفسيره للحسن والقبح بما ذكرناه (1).

ومنها : ما ذكره جملة من أساطين العلماء - كالمحقّق (2) والشهيد (3) وأضرابهما - : من تقسيم حكم العقل إلى ما يتوقّف على خطاب شرعيّ وما لا يتوقّف ، ومثّلوا للثاني بالتحسين والتقبيح العقليّين كحرمة الظلم ووجوب ردّ الوديعة.

وأمّا كلمات مخالفينا :

فعن المواقف : تفسير الحسن - في محلّ النزاع - باستحقاق المدح في العاجل والثواب في الآجل ، والقبح باستحقاق الذمّ والعقاب كذلك (4).

وعن القوشجي : تفسير الحسن والقبح أيضا بما سمعت (5) ، كما عن الباغنوي (6) أيضا (7).

وقال الاسنوي في شرح المنهاج : اعلم أنّ الحسن والقبح قد يراد بهما ملائمة الطبع ومنافرته ، وقد يراد صفة الكمال وصفة النقص ، وليس نزاع فيهما ، وإنّما النزاع في الحسن والقبح بمعنى ترتّب الثواب والعقاب ، فعندنا أنّهما

ص: 330


1- لا يوجد لدينا.
2- المعتبر 1 : 31 - 32.
3- الذكرى 1 : 52.
4- المواقف المطبوع مع شرحه للسيد الشريف 8 : 183.
5- شرح التجريد للقوشجي : 338.
6- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية مبحث مبادئ الأحكام.
7- في ( ط ) زيادة : « مثل ما مرّ ».

شرعيّان ، وذهب المعتزلة إلى أنّهما عقليّان ، بمعنى أنّ العقل له صلاحيّة الكشف عنهما وأنّه لا يفتقر الوقوف على حكم اللّه ، لاعتقادهم وجوب مراعاة المصالح والمفاسد وإنّما الشرائع مؤكّدة (1) ، انتهى. وصراحة ذلك في المقصود ممّا لا يخفى (2).

فظهر من جميع ما مرّ : أنّ المراد بالحسن والقبح الواقعين في العنوان ما ذا ، فإثبات أنّ العقل يحكم بالحسن والقبح في قوّة إثبات أنّ العقل يدرك حكم اللّه كما هو المراد بالملازمة. ويكفيك شاهدا في المقام قولهم : إنّ « الظلم حرام » و « ردّ الوديعة واجب » حيث لا يعنون بالوجوب إلاّ الطلب الملازم للعقاب عند المخالفة. نعم ، لو كان المراد من الحسن والقبح هو مجرّد المدح والذمّ دون الثواب والعقاب كان لتغاير العنوانين وجه. هذا تمام الكلام في عناوين القوم.

وأمّا الأدلّة الواردة من الفريقين على الطرفين القاضية (3) باتّحاد العنوانين وكفاية إثبات الحسن العقلي عن الملازمة :

فمن أدلّة المثبتين : هي لزوم إفحام الأنبياء وعدم وجوب معرفة اللّه لولاه ، حيث إنّ مجرّد (4) إدراك استحقاق الذمّ والمدح لا يلزم منه الوجوب ولا يندفع منه إفحام الأنبياء ما لم يلاحظ مع ذلك العقاب ولو احتمالا.

ص: 331


1- لا يوجد لدينا.
2- في ( ط ) : « ممّا لا ينبغي أن ينكر ».
3- العبارة في ( ط ) هكذا : « وأمّا أدلّة الطرفين الواردة على النفي والإثبات فتقضي ».
4- العبارة في ( ط ) هكذا : « فأدلّة المثبتين من لزوم إفحام الأنبياء وعدم وجوب معرفة اللّه لولاه تقضي بما ذكرناه ، لأنّ مجرّد ».

ومن أدلّة النافين : آية التعذيب (1) الصريحة في كون المراد من الحسن والقبح هو ما يلازم الثواب والعقاب (2) ، وإلاّ فنفي التعذيب لا مساس له في نفي الذمّ والمدح. وكذا في جواب القائلين بالتحسين عنهم : بأنّ المنفيّ هو فعليّة العذاب دون استحقاقه إيماء إلى المطلب المزبور (3) من حيث عدم تعرّضهم لعدم مدخليّة الحسن والقبح للعذاب ، فنفيه لا يدلّ على عدم الحسن ، كما لا يخفى.

وأمّا ثمرات المسألة على ما فرّع عليه العضدي (4) وأضرابه (5). من عدم وجوب شكر المنعم فلا عقاب ولا إثم في تركه على من لم يبلغه دعوة النبي (6) فممّا لا تصحّ إلاّ بملاحظة الدعوى التي ادّعيناها.

وبالجملة : فنحن لا نقول بأنّ المقامين متّحدان لا تغاير بينهما بوجه لا يمكن النزاع في أحدهما مع تسليم الآخر ، ولكنّا نلتزم بأنّ النزاع الواقع بين العدليّة والأشعريّة ممّا يغني عن هذا النزاع في المقام الثاني ، فكان بعد تسليم صغرى الإدراك من العقل وأهليته ، فلا نزاع في كونه سبيلا إلى الحكم الشرعيّ على وجه لا ريب فيه كما استظهرناه من المقامات الثلاثة المذكورة من العناوين

ص: 332


1- الإسراء : 15.
2- العبارة في ( ط ) هكذا : « وأمّا أدلّة النافين كآية التعذيب فدلالتها على أنّ المراد بالحسن والقبح ما يلازم الثواب والعقاب صريحة ».
3- لم يرد « المزبور » في ( ش ).
4- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 76.
5- انظر الإحكام للآمدي 1 : 126.
6- في ( ط ) : « النبوّة ».

الواقعة في كتب القوم وأدلّتهم القائمة على الطرفين وثمرات المسألة المتفرعة عليها على ما هو الشأن في استكشاف أمثال هذه المقاصد ، وسيأتي ما يوضّح ذلك ، فإنّ الإيضاح عند الاستدلال على المقصود (1).

وتوضيح البحث وتنقيحه يقتضي بسطا في المقام ، فنقول : إنّ هنا نزاعين :

أحدهما : أنّ العقل هل يدرك حسن شيء أو قبحه أم لا يدرك؟ فأثبته الإماميّة ومن تابعهم من المعتزلة ، وأنكره الأشاعرة ؛ وحيث إنّ الكلام في المقام ليس من الكلام في مباحث الفن - لعدم كون المسألة أصوليّة بل إنّما هو من [ ال ] مبادئ الأحكاميّة - فقد طوينا الكشح عن ذكرها ؛ مضافا إلى بداهة المقصود ، حتى أنّ إكثار الكلام فيها ربما يعدّ من العبث ، حيث إنّه لا يفيدنا غير ما هو المعلوم لنا منها بسلامة الوجدان ، مع أنّ فيه غنى عن تجشّم البرهان.

إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ الحسن والقبح الواقعين في العنوان قد اختلف في تفسيرهما ، فعن بعضهم - كالفاضل التوني والفاضل الزركشي - تفسيرهما بمجرّد المدح والذمّ دون الثواب والعقاب.

قال الأوّل في محكيّ الوافية : « الحقّ ثبوت الحسن والقبح العقليّين في الجملة ، لقضاء الضرورة ، ولكن في إثبات الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة الشرعيّين بهما نظر » (2). ثم فرّق بين الوجوب العقلي والشرعي باستحقاق الذمّ (3) على الأوّل والثواب على الثاني. ثم قال بعد ذكر أمور من وجوه النظر : فإن قلت :

ص: 333


1- توجد هنا اختلافات في النسخ ، وقد أثبتنا ما في المخطوط ، ولم نتعرض للاختلافات ؛ لعدم الفائدة.
2- الوافية : 171.
3- في نسخة بدل ( ش ) : « المدح » ، وفيها بعد كلمة « الذمّ » زيادة : « أي على تركه ».

الواجب العقلي هو ما يكون تاركه مذموما عند كلّ عاقل حكيم ، والحرام العقليّ ما يكون فاعله مذموما كذلك ، فالحرام العقلي لا بدّ وأن يكون ممقوتا لله ، وليس الحرام الشرعيّ إلاّ ذلك ؛ لأنّ فاعل فعل ممقوت عنده مستحقّ لعقابه ضرورة. قلت : الحرام الشرعي ما يجوز للمكلّف العقاب عليه ، ولا يكفي مجرّد الاستحقاق وإن علم انتفاؤه بسبب ما كان من إخباره بذلك (1). وأيضا بداهة استلزام المكروهيّة عند اللّه لاستحقاق عقابه محلّ نظر ، انتهى (2).

وقال الثاني - على ما حكاه الأوّل - : إنّ الحسن والقبح عقليّان والوجوب والحرمة شرعيّان ، فلا ملازمة بينهما حيث قال : تنبيهان ، الأوّل : أنّ المعتزلة لا ينكرون أنّ اللّه تعالى هو الشارع للأحكام وإنّما يقولون : إنّ العقل يدرك أنّ اللّه شرّع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها ، فهما عندهم مؤدّيان إلى العلم بالحكم الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما لا عينهما ، فما كان حسنا جوّزه الشارع وما كان قبيحا منعه ، فصار عند المعتزلة حكمان : أحدهما شرعيّ والآخر عقلي - إلى أن قال في ثاني التنبيهين - ما اقتصر عليه المصنّف من حكاية قولهم هو المشهور بينهم (3). ثمّ قال : وتوسّط قوم وقالوا : قبحها ثابت بالعقل ، والعقاب (4) بالشرع. ثم قال : وهو المنصور ، انتهى (5).

ص: 334


1- في المصدر : بسبب ما كإخباره بذلك.
2- الوافية : 175.
3- في ( ط ) زيادة ما يلي : « يعني أنّ ما حكاه صاحب جمع الجوامع عن المعتزلة من إدراك العقل الثواب والعقاب هو المشهور ».
4- في ( ط ) زيادة : « ثابت » ، وفي المصدر : « والعقاب يتوقّف على الشرع ».
5- الوافية : 175 - 176.

التحقيق - على ما عرفت من استظهارنا من العناوين والأدلّة والثمرة - :

أنّ المراد منها هو الثواب والعقاب ويرشدك إليه أيضا تصديق الزركشي باشتهاره بين المعتزلة ، كما لا يخفى.

وثانيهما (1) : ما اشتهر بين من (2) تأخّر من التوني في مسألة الملازمة : من أنّه بعد تسليم إدراك العقل للمدح والذمّ ، فهل يدرك الثواب والعقاب؟ زعما منهم أنّ الحسن والقبح في محلّ النزاع هو مجرّد المدح والذمّ من غير مدخليّة للثواب والعقاب فيهما ، وهذا هو البحث الذي نحن بصدده.

فنقول : إنّ الحقّ - كما عليه المحقّقون - ثبوت الملازمة الواقعيّة بين حكم العقل والشرع ، وهذا الحكم هو مفاد قولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع » وسيأتي بيان المراد من القضيّة المذكورة ، وحيث إنّ المخالف في المقام ممّن يعتدّ بشأنه ليس إلاّ جمال المحقّقين والسيّد الصدر شارح الوافية ، فالأقرب ذكر كلامهما لتوضيح مرامهما ، ثم ذكر ما يرد عليهما عندنا.

فقد قال السيّد المذكور في المقام بعد ما مهّد مقدّمتين في جملة كلام طويل له : إنّا إذا أدركنا العلّة التامّة للحكم العقلي بوجوب شيء أو حرمته - مثلا - يصحّ أن يحكم عليه : بأنّ الشارع حكم أيضا بمثل الحكم العقلي عليه ، لما مرّ في المقدّمة الأولى ، ولمّا فرضنا عدم بلوغ التكليف إلينا لا يترتّب عليه الثواب وإن ترتّب على نفس الفعل شيء من قرب أو بعد فلا يكون واجبا أو حراما شرعيّا - إلى أن قال - : وبالجملة ، وجود الإضافة التي يعبّر عنها بالخطاب معتبر في تحقّق حقيقة الحكم. وليس مجرّد العلم التصديقي من الشارع. بأنّ شيئا خاصّا ممّا

ص: 335


1- يعني : ثاني النزاعين ، وقد تقدّم أوّلهما في الصفحة : 333.
2- كذا ، والمناسب : عن.

يحسن فعله أو تركه ، وكذا إرادته من المكلّف أن يفعل أو يترك ، ورضاه من فعل ومقته لآخر حكما شرعيّا من دون أن يصير المكلّف مخاطبا بالفعل بأن يصل إليه قول النبي صلى اللّه عليه وآله : أن « صلّ » و « صم » ؛ وكذا إخبار الشارع : بأنّ هذا الشيء واجب أو حرام ، إذ طلبه قبل بلوغ الخطاب ليس حكما ، فعلى هذا يكون كلّ الأوامر والنواهي قبل علم المكلّف بها خطابات بالقوّة لا يترتّب عليها آثارها من الثواب والعقاب.

ثم قال : فحينئذ نقول : إن أردت بقولك : « كلّ ما يحكم به العقل مطابق للواقع (1) فقد حكم الشارع عليه بحكم مماثل له » : أنّه علم وأذعن بأنّ هذا الشيء بحيث لو نقل إلى المكلّف الأمر به أو النهي عنه لكان مستحقّا للثواب والعقاب مع الامتثال وعدمه.

أو أراد به (2) : أنّ الفعل أو الترك مرضيّ عنده أو ممقوت له ، أو أخبر أهل بيته بالحكم ، أو قال لهم : « قولوا للناس : افعلوا أو لا تفعلوا إن رأيتم المصلحة » وهم ما رأوها ، فجميع ذلك لا نمنعه ونسلّمه ، ولكن لا يترتّب عليه الثواب والعقاب.

وإن أردت أنّه طلبه فعلا أو تركا بحيث حصل التكليف وصرنا مكلّفين فهو خلاف الفرض ؛ لأنّ المفروض عدم بلوغ الحكم إلينا ، بل نريد أن نثبت الحكم الشرعي بتوسّط الحكم العقلي.

ثم إنّه بعد ذلك أورد على نفسه سؤالا حاصله : أنّه بعد قطع العقل بالحكم الواقعي لا مجال لإنكار كونه حكم اللّه وهو المطلوب. فأجاب عنه : بأنّ التعبّد بمثل هذا الشيء محلّ نظر ؛ لأنّ المعلوم أنّه يجب فعل شيء أو لا يجب إذا حصل

ص: 336


1- العبارة في المصدر : « كلّ ما حكم عليه العقل بحكم مطابق للواقع ».
2- في المصدر : « أو أردت ».

الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره ، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أي طريق كان كالفتوى ، فإنّه لا يجوز الانقياد بقول المعصوم المسموع منه في المنام (1).

ثم إنّ السيّد المذكور قد أفاد شيئا آخر في إحدى المقدّمتين الممهّدتين ، وهو عدم كون الجهات المدركة للعقل علّة تامّة للحكم ، بل غاية ما يمكن أن يدركه العقل هو بعض الجهات المحسّنة والمقبّحة ، ويجوز أن يكون هناك جهة أخرى في الواقع لم يحصّلها [ فيمكن أن تكون ](2) معارضة للجهة المدركة فلا يكون الحكم كما أدركه (3).

وقال جمال المحقّقين بعد ما نقلنا عنه في عنوان النزاع : إنّ الحسن والقبح في بعض الأشياء مسلّم ، لكن يمكن أن لا يكون في بعض الأشياء جهة حسن ولا جهة قبح ، ومع ذلك أمر الشارع به ونهى عنه ليعلم المطيع من العاصي. ثم أجاب عن ذلك : بإمكان الاستكشاف من الأخبار والآثار الواردة عن الهداة الأبرار الأطهار والآيات القرآنيّة والبيّنات الفرقانيّة عدم تعلّق الأمر والنهي إلاّ لكلّ حسن وقبيح على أن يكون الحسن مأمورا به والقبيح منهيّا عنه (4).

وبالجملة ، فلم يظهر من المحقّق المذكور مخالفة حتى يحتاج إلى دفع مقالته (5).

ص: 337


1- شرح الوافية للسيّد الصدر : 213 - 215.
2- لم ترد « فيمكن أن تكون » في ( ش ).
3- المصدر نفسه : 211.
4- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية بحث مبادئ الأحكام : 66.
5- في ( ط ) زيادة : « ونقلها ».

فالأولى عطف عنان الكلام إلى دفع ما أفاده السيّد المذكور ، وستعرف الجواب عمّا أورده المحقّق المذكور في دفع الشبهة التي أوردها بعض الأجلّة في منع الملازمة ، فنقول :

فيما أفاده السيّد نظر من وجوه :

الأوّل : أنّ ما أفاده في تفكيك حكم العقل والشرع بتسليم الرضا والمقت ومنع الثواب والعقاب ليس على ما ينبغي وذلك لأنّ (1) الحكم الشرعي قد يطلق ويراد به : الخطاب الفعلي التنجيزي الصادر منه تعالى أو أحد امنائه عليهم السلام ، وإليه ينظر تعريفهم له : بأنّه خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين ، على حسب اختلاف القيود المعتبرة فيه عند بعضهم.

وقد يطلق ويراد به : الخطابات الشأنيّة التي صدرت عن الشارع وإن لم يعلم بها المكلّف ، لعدم وصولها إليه من حيث ممانعة مانع داخلي أو خارجي عنه ، فهي مخزونة عند أهلها ، وبعبارة واضحة : الأحكام التي يقول بثبوتها المخطئة وبعدمها المصوّبة ؛ ويشارك الأوّل في مجرّد الجعل ويمايزه من حيث عدم حصول فعليّة هنا (2) بخلاف الأوّل.

وقد يطلق ويراد به : الإرادة الجازمة والكراهة الثابتة في الواقع متعلّقة بالمراد في الأوّل وبالمكروه في الثاني على وجه يصير المظهر عنهما عند إرادة إظهارهما هو الأمر اللفظي والنهي كذلك ، فالإرادة هذه في الحقيقة روح الطلب ولبّه ، بل هو عينه بحيث لو أراد الشارع جعل حكم ، فلا بدّ من أن يكون مطابقا له.

ص: 338


1- في ( ط ) : « وتوضيحه وتحقيقه أنّ ».
2- في ( ط ) : « الفعليّة فيه ».

فإن أراد السيّد : أنّ حكم العقل بوجوب شيء وإدراكه العلّة التامّة المقتضية للوجوب لا يلازم صدور الخطاب على وجه يصدق أنّه حكم فعلي تنجيزيّ صادر من الشارع فمسلّم ، لكنّه لا يجديه ، فإنّ مدار الثواب والعقاب هو الإرادة والطلب الحتمي ، كما يشهد به الوجدان على ما ترى بالقياس إلى حال العقلاء في تعذيب عبيدهم ، فلو علم العبد بعدم إرادة المولى قتل ولده أو إرادة إكرامه وقتله أو أكرمه فيعدّ عندهم عاصيا ومطيعا من غير أن يدانيه (1) ريبة أو يخالطه شبهة ، كما لا يخفى (2). وليس في صدور اللفظ المعبّر عنه بالخطاب مدخليّة في ذلك كما هو ظاهر لا سترة عليه (3). ومثله ما لو أراد من « الحكم » فيما نفى الملازمة بينه وبين حكم العقل الحكم الشأني كما في الإطلاق الثاني.

والظاهر أنّ القائل بالملازمة أيضا لا يقول به بواسطة مجرّد حكم العقل ، ألا ترى في المثال المذكور مع قطع العبد بعدم إرادة المولى قتل ولده يقطع بعدم صدور الخطاب عنه أيضا ولا تنافي بين القطعين؟

ويؤيّد ما ذكرنا : من عدم إرادة القائل بالملازمة ذلك : أنّ المتكلّمين من أصحابنا مع كونهم قائلين بأنّ الجهات الثابتة في الأفعال علل تامّة لم يكتفوا في إثبات التكاليف بمجرّد ذلك ، بل قالوا بها بواسطة وجوب اللطف.

نعم ، لو انضمّ إلى ذلك مقدّمة خارجيّة أخرى كقولهم باللطف أو قولهم بعدم جواز خلوّ الواقعة عن الأحكام - كما يستفاد من جملة من الأخبار (4) - صحّ

ص: 339


1- في ( ش ) : « يذهبه ».
2- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
3- لم يرد « لا سترة عليه » في ( ش ).
4- الوسائل 19 : 271 ، الباب 48 من أبواب ديات الأعضاء.

القول : بأنّ الحكم العقلي يلازم الخطاب الفعلي ، يعني بعد ملاحظة المقدّمة الخارجيّة العقليّة أو النقليّة. إلاّ أنّ الظاهر منهم في المقام دعوى ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع مع قطع النظر عنها ، كما يشعر بذلك قول الحاجبي : « شكر المنعم ليس بواجب عقلا ، فلا إثم على من لم يبلغه دعوة النبوّة » (1) حيث إنّ قوله : « فلا إثم » - على ما صرّح به السيّد الشريف (2) - ثمرة المسألة ، ولا يخفى عدم ترتّبها إلاّ على دعوى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع مع قطع النظر عن المقدّمات الخارجية ، وإلاّ فالثمرة (3) لا تظهر إلاّ فيمن بلغه دعوة النبوّة. ويومئ إليه ما استدلّ به الفاضل التوني في نفي الملازمة (4) بالأخبار ، فإنّ ثبوت الأحكام الشرعيّة ولو بعد ملاحظة المقدّمة الشرعيّة فيما استقل فيه العقل ممّا لا ينكر.

وبالجملة : فإن أراد منع الملازمة بين حكم العقل والحكم الشرعي (5) اللفظي بأحد الوجهين فمسلّم ، ولكنّه كما عرفت غير مجد فيما يراه.

وإن أراد الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى طلبه وإرادته ، فهو محجوج بقطع العقل الخالي عن شوائب الوهم بخلافه ، فإنّ العقل إذا أدرك حسن الشيء على وجه يستحقّ فاعله الثواب وجزاء الخير ، فقد أدرك من كل عاقل حكيم شاعر فكيف بمن هو خالقهم (6)! وكذلك إذا أدرك قبح الشيء كذلك.

ص: 340


1- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 76.
2- انظر شرح المواقف 1 : 274.
3- في ( ش ) زيادة : « ان » وفي ( ط ) زيادة : « إنّما » وكلاهما زائدتان ظاهرا.
4- الوافية : 172.
5- في ( ش ) بدل « الحكم الشرعي » : « حكم ».
6- في ( ش ) : « خالفهم ».

ولعمري! إنّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بهذا المعنى ممّا لا يقبل الإنكار ، فكأنّها نار في منار.

فإن قلت : ما ذكر ممّا لا يجدي شيئا في المقام - كما اعترف السيّد (1) بذلك أيضا - لأنّ الكلام في ترتّب الثواب على الواجب العقلي والعقاب على تركه ، ولا نسلّم ترتّبهما إلاّ على الأمر والنهي اللفظيين.

قلت : بعد أنّ ذلك منقوض بموارد الإجماع والضرورة والسيرة على وجه في الجميع ، فإن أراد عدم ترتّبهما على الواجب العقلي في الحقيقة وفي المعنى فهو مردود بملاحظة حال العقلاء في كيفيّة الإطاعة والعصيان كما مرّ.

وإن أراد أنّ ما يترتّب على العقليّين من الواجب والحرام لا يسمّى في الاصطلاح عقابا وثوابا فبعد الغضّ عنه - كما ينفيه تحديد المتكلّمين (2) للثواب : بأنّه إيصال النفع بقصد التعظيم ، والعقاب بما يقابله من غير ملاحظة الأمر فكيف باللفظيّ منه - فيرد عليه : أنّ النزاع ليس في مجرّد التسمية والاصطلاح ، إذ لا يترتّب على تسمية ذلك ثوابا أو غيره شيء من الأحكام الشرعيّة ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ بعض الآثار لا يترتّب إلاّ بعد إثبات الخطاب والثواب والعقاب مثل قتل فاعل الكبيرة في الرابعة ، حيث إنّها على ما عرّفها جماعة (3) بأنّها « ما أوعد اللّه عليها النار في كتابه » لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّق الخطاب ، والقائل بالملازمة لا بدّ له من إثبات الخطاب في صدق الثواب والعقاب.

ص: 341


1- انظر شرح الوافية : 213 - 214.
2- انظر كشف المراد : 407 - 408 ، وشرح القوشجي : 384.
3- نسبه في الذخيرة : 304 ، ومفتاح الكرامة 3 : 89 إلى المشهور ، وفي الكفاية 1 : 139 إلى المعروف بين الأصحاب.

قلنا : لا نسلّم انحصار الكبيرة فيما ذكر ، فإنّها أعمّ عندنا من ذلك وممّا حكم العقل بحرمته على الوجه المعهود.

الثاني (1) : أنّ ما أفاده في دفع ما أورد على نفسه - من عدم مجال للإنكار بعد ما قطع العقل بالحكم بالنظر والتأمّل في جواز التعبّد بأمثال هذه الإدراكات العقليّة القطعيّة أو الظنّيّة - ممّا لا يبتني على أساس ولا له بما أورده مساس ، حيث قد فرغنا عن حجّيّة العلم المرآتي في محلّه على وجه ظهر عدم معقوليّة التخصيص بطريق دون آخر ، فليراجع ثمّة.

الثالث : أنّ ما أفاده من أنّ (2) الجهات المدركة في المستقلاّت العقليّة ليست علّة تامّة فممّا لا يصغى إليه بعد موافقة الوجدان ، فإنّ الجهة المدركة (3) في الإحسان والظلم الآمرة في الأوّل والناهية في الثاني بحسب وجداننا في حال العلم هي العلّة التامّة ، وأمّا جواز تبدّل العلم جهلا فهو أمر خارج عمّا نحن فيه ، إذ ليس الاحتمال - هذا - للعالم ، والمحتمل لغيرها لا علم له ، فيخرج عمّا نحن بصدده. ويشعر بذلك ما أفاده الشيخ في العدّة في مباحث النسخ : من أنّ حكم الشارع إنّما هو كاشف عن الصفات ، لا أنّه به يحصل الوجوب (4) ؛ ومن هنا تمسّك الأشعري بعدم كونه حينئذ في جعل الأحكام مختارا ، بل لا بدّ وأن يكون موجبا.

وبذلك يشعر ما أجاب عنهم أصحابنا : بأنّ انتفاء القبيح لصارف لا ينافي

ص: 342


1- من وجوه النظر فيما أفاده السيّد ، راجع الصفحة : 338.
2- لم يرد « أنّ » في ( ش ).
3- لم ترد عبارة « في المستقلاّت - إلى - المدركة » في ( ش ).
4- لم نعثر عليه بعينه ، انظر العدّة : 409 - 505 ، الفصل 2 من فصول النسخ.

الاختيار ، فإنكار كون تلك الجهات المدركة لنا في الأفعال التي تستقلّ عقولنا بأحكامها يشبه أن يكون سفسطة في سفسطة! فإنّ المفروض استقلال العقل بإدراك الحكم في البعض.

ثمّ اعلم ، أنّ معنى قولهم : « إنّ حكم العقل بوجوب شيء أو حرمته ممّا يمكن أن يتوصّل به إلى الحكم الشرعي » أنّه يمكن أن يجعل دليلا للحكم الشرعي ، فإنّ حكم العقل باستحقاق فاعل الإحسان جزاء الخير بمنزلة كبرى كلّيّة لخصوص حكم الشارع ، بمعنى إرادته ورضاه وطلبه للإحسان ، وإن كان إطلاق الحكم على هذا المعنى مجازا عندهم كما لا يخفى.

ومن هنا يلوح ضعف ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه في تحرير العنوان من قوله : « كما تبيّن عندنا معاشر الإماميّة تبعا لأكثر العقلاء : أنّ العقل يدرك الحسن والقبح - إلى قوله - كذلك من الواضح : أنّه يدرك أنّ بعض هذه الأفعال ممّا لا يرضى بتركه - إلى أن قال - وما توهّمه بعض المتأخّرين : من أنّ حكم العقل محض استحقاق المدح والذمّ ، فهو مبني على الغفلة عن مراد القوم وحسبان أنّ حكم العقل إنّما هو الذي ذكروه في مبحث إدراك العقل » (1).

ووجه الضعف أمران :

أحدهما : حسبانه تعدد النزاع وقد علمت أن كلام الأكثرين يشعر بخلافه.

الثاني : أنّه على ما أفاده فلا معنى لدليليّة حكم العقل لحكم الشرع ، بل العقل تارة يدرك الحسن والقبح بمعنى المدح والذمّ ، وأخرى يدرك الثواب والعقاب بمعنى أنّه يدرك أنّه ممّا يرضى اللّه تعالى بفعله أو لا يرضى به ،

ص: 343


1- القوانين 2 : 2 ، الباب السادس ، المقصد الرابع ، القانون الأوّل.

فلا يتصوّر النزاع في ذلك إلاّ ممّن ينكر حجّيّة الإدراكات القطعيّة العقليّة ، والمفروض : أنّ العقل مذكور في عداد الأدلّة والمسألة أصوليّة ، إذ المقصود فيها إثبات دليليّة العقل للحكم الشرعي.

وبالجملة ، فما أفاده لا يكون دليلا للحكم الشرعي. ولعلّه إنّما أخذ ذلك من كلام المحقّق اللاهيجي ، حيث قال : « إنّ العقل رسول في الباطن ، كما أنّ الرسول عقل في الظاهر » (1) فإنّ المستفاد من كلماته في موارد عديدة : أنّ العقل لسان الشرع وطالب من قبله ، كما أنّ الرسول في الظاهر مبيّن أحكامه.

وكيف كان ، فلا وجه لما ذكره أيضا ، إلاّ أن يكون ذلك منه لبيان مقام (2) آخر غير دلالة العقل على حكم الشرع كما هو (3) الكلام في المسألة الأصوليّة المعبّر عنها بقولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع »

واعلم أنّ هذه القضيّة تحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد منها : أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم بمثله الشرع ، وهذا يلائم قولهم : « إنّ العقل والشرع متطابقان » فإنّه ظاهر في تعدّد الحكمين (4) وتغايرهما ، من جهة أنّ أحد الحكمين شرعي والآخر عقلي إرشادي ، وعلى هذا المعنى ففي الموارد التي استقلّ بها العقل حكمان وحاكمان.

وثانيها : أن يراد منها : كلّ ما حكم به العقل حكم بعينه الشرع ، وبعبارة

ص: 344


1- گوهر مراد : 247.
2- في ( ش ) بدل « مقام » : « حكم ».
3- في ( ش ) بدل « هو » : « مرّ ».
4- في ( ط ) زيادة : « وتطابقهما ».

اخرى : أنّ الشرع يصدّق العقل فيما يحكم به ، لا أنّه يحكم بحكم آخر لكنّه يماثل حكم العقل ، وعلى هذا فالحاكم اثنان والحكم واحد فإنّ أحدهما حاكم وهو العقل ، والثاني مصدّق وهو الشرع (1).

وثالثها : أن يراد منها : أنّ كلّ ما حكم به العقل فهو عين ما حكم به الشرع ، بمعنى أنّ العقل رسول الشرع ، فكما أنّ الرسول لا يختلف حكمه حكم (2) الشرع بل هو عين ما حكم به الشرع ، فكذلك العقل ، فإنّه رسول في الباطن ، كما أنّ الشرع عقل في الظاهر ، فحكم الشرع قائم بالعقل حيث إنّه لسان الشرع ، وعلى هذا : الحكم واحد والحاكم واحد ، كما في أحكام الرسول صلى اللّه عليه وآله.

ثمّ إنّ هذه القضيّة قد تطلق في قبال من يرى صحّة حكم العقل وعدم حكم الشرع ، لجواز خلوّ الواقعة عن الأحكام ، وقد تطلق في قبال من يرى أنّ حكم الشارع قد يكون على خلاف حكم العقل بعد تسليمه عدم جواز خلوّ الواقعة (3) عن الحكم ، فعلى الأوّل يكون المقصود إثبات الحكم الشرعي قبالا لمن ينفيه ، والتطابق غير ملحوظ في المقام (4) حينئذ. وعلى الثاني يكون المقصود إثبات التطابق ، ونفس الحكم الشرعي سواء كان مخالفا أو موافقا غير ملحوظ في النزاع ، وذلك كما تقول : « الذي ضربته أمس ضربته اليوم » فإنّه قد يكون قولك مسوقا لإثبات المسند قبالا لمن نفاه ، وقد يكون مسوقا لإثبات المضروب وبيانه ، وقد تقدّم ما يدلّ على ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى الإرادة

ص: 345


1- لم ترد عبارة « فإن أحدهما - إلى - الشرع » في ( ش ).
2- كذا ، ولعلّ المناسب : حكمه عن حكم.
3- لم ترد عبارة « عن الأحكام - الى - الواقعة » في ( ش ).
4- لم يرد « في المقام » في ( ش ).

والكراهة والسخط والرضا ، وسيأتي ما يدلّ من الأدلّة الشرعيّة كتابا وسنّة وإجماعا بأقسامه محقّقا ومنقولا بسيطا ومركّبا على الملازمة بين حدّي (1) الحكمين بمعنى الحكم اللفظي الخطابي كما أفاده (2) محقّق الجمال (3).

قال الاستاذ - دام علاه - : وزعم بعض المعاصرين جواز الانفكاك بين حكم العقل والشرع ، أراد به صاحب الفصول حيث قال - بعد ما عنون البحث في مقامين : أحدهما : يرجع (4) إلى الكليّة القائلة بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وثانيهما : إلى حجّيّة القطع وجواز عمل القاطع بقطعه : فالحقّ عندي في المقام الأوّل أن لا ملازمة عقلا بين حسن الفعل أو قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ، وإنّما الملازمة بين حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه. نعم ، جهات الفعل من جملة جهات التكليف ، فقد يقتضي حسن الفعل أو قبحه حسن التكليف به ، وقد لا يقتضي لمعارضته لجهة أخرى في نفس التكليف (5). واستند في ذلك إلى وجوه :

الأوّل : حسن التكليف الابتلائي ، فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله من حيث هو فاعله المدح في نظره ؛ استخبارا لحال العبد أو إظهارا لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصورا على حسن الفعل لما حسن ذلك.

ص: 346


1- لم يرد « حدّي » في ( ط ).
2- في ( ط ) : « ادّعاه ».
3- في الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، في مباحث مبادئ الأحكام : 96.
4- في ( ط ) زيادة : « في محصّل المعنى ».
5- الفصول : 337 - 338.

والجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبأنّه خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ الكلام إنّما هو في الملازمة بين حكم العقل بعد إدراكه الجهة المحسّنة والمقبّحة وحكم الشرع ، ولا وجه للابتلاء بعد العلم بحال الفعل وجوبا وحرمة ، لعدم وجود الفائدة فيه ، كما لا يخفى. نعم ، إنّما يرد ذلك نقضا على الملازمة بين حكم الشرع والعقل التي مرجعها إلى الحكم بتبعيّة الأحكام الشرعيّة للصفات الكامنة في الأشياء باعتبار حدود ذواتها أو بعد انضمام أمور أخر إليها زمانا ومكانا ونحوهما. ومن هنا يظهر عدم استقامة ما أجاب به عن الاعتراضات التي أوردها المحقّق القمّي على الوجه المذكور ، حيث إنّه إنّما حاول دفعها على (1) ذلك المقام ، وقد عرفت أنّه لا ربط بين المقامين (2).

وأمّا ثانيا : فبأنّ التكاليف الابتلائيّة خارجة عن محلّ تشاجرهم وحريم نزاعهم ، إذ ليست بتكاليف حقيقة ، فإنّ التكاليف الحقيقية - على ما هو المصرّح به في كلام المتكلّمين - لا بدّ وأن تكون مشتملة على حسن زائد على حسن التكليف (3).

قال المحقّق الطوسي قدس سره القدّوسي في مقام بيان شرائط حسن التكليف : وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدّمه وإمكان متعلّقه وثبوت صفة زائدة على حسنه (4).

ص: 347


1- في ( ط ) : « دفعه في ».
2- في ( ط ) زيادة : « كما لا يخفى على المتدبّر فيهما ».
3- في ( ش ) : « التكاليف ».
4- تجريد الاعتقاد : 203.

وتحقيق المقام إنّما هو بعد بسط في الكلام ، فنقول : إنّ التكليف بشيء يقع على وجوه :

الأوّل : أن يكون الفعل المأمور به مشتملا على مصلحة توجب الأمر به أو يشتمل على مفسدة مقتضية للنهي عنه بحيث لو نهى عن الأوّل أو لم يأمر به أو أمر بالثاني (1) أو لم ينه عنه لكان قبيحا على ما عرفت مرارا ، وهذا هو القسم الشائع عندنا معاشر العدليّة.

الثاني : أن يكون المصلحة في نفس صدور الأمر من غير أن يكون الفعل ذا مصلحة بوجه ، بل قد يكون الفعل مبغوضا للآمر ، لكن المصلحة المقتضية لصدور الأمر دعته إلى الأمر به كالأوامر الواردة في مقام التقيّة من غير أن يكون في نفس العمل تقيّة ، ولا شكّ أنّ هذا القسم من الأمر لا يورث إيجابا بالنسبة إلى الفعل ولا شيئا آخر ، وإنّما هو فعل قد ألجأت إليه الضرورة فوقع من غير أن يكون منوطا بحسن في متعلّقه ، وإنّما الحسن في نفسه على النهج السائر في الأفعال الاختياريّة التي يكفي في صدورها عن الفاعل وجود الداعي إليه بخصوصه ولو كان هو حفظ النفس عن مكائد الأعادي ، بل هو من أعظم الدواعي.

الثالث : أن يكون المصلحة في الفعل ، لكنه بعد ما تعلّق الأمر به فتارة من حيث إنّ الفعل محصّل للامتثال بالنسبة إلى أمر المولى ، واخرى من حيث إنّ الفعل بعد ما تعلّق الأمر به (2) ظاهرا [ إنّما ](3) اشتمل على عنوان حسن كان الأمر به طريقا إلى تحصيل ذلك العنوان الحسن الذي هو المقصود بالأمر واقعا وإن تعلّق

ص: 348


1- لم ترد « أو لم يأمر به أو أمر بالثاني » في ( ش ).
2- لم ترد عبارة « فتارة - إلى - الأمر به » في ( ش ).
3- لم يرد « إنّما » في ( ش ).

بغيره ظاهرا ، فالمأمور به بالأمر اللفظي شيء والمقصود من الأمر الذي حسنه اقتضى صدور الأمر من الآمر شيء آخر ، إلاّ أنّ تعلّق الأمر به حيث لم يكن ممكنا لأدائه إلى مفسدة ابتداء تعلّق الأمر بغيره على وجه يحصل بواسطة تعلّق الأمر به ذلك العنوان الحسن ، فيصير مأمورا به بأمر آخر ؛ مثلا إذا كان في إظهار الإطاعة للمولى حسن أو مصلحة دعت إلى طلبه من العبد ، فلا يصحّ الأمر بإظهار الإطاعة ابتداء من غير سبق تكليف ؛ لأنّ الإطاعة ترجع في محصّل المعنى إلى الامتثال بأوامر المولى والإتيان بما تعلّق به الأمر ، والمفروض انتفاء موضوعه في المقام ، فلا بدّ في ذلك من الأمر بشيء آخر مثل الأمر بقطع يده مثلا أو قتل ولده لتحصيل موضوع ما هو مطلوب واقعا : من إظهار الإطاعة وإن لم يكن قطع اليد محبوبا له ، بل إنّما يكون مبغوضا ، فكان الأمر اللفظي في المقام جزء لموضوع ما هو المقصود حقيقة ، وبعد تحصيل ذلك الموضوع يحكم العقل بالأمر العقلي بالإطاعة المطلوبة للمولى حقيقة ، فالأمر اللفظي لا يورث وجوبا في متعلّقه واقعا وإن تخيّله المأمور من حيث جهله بالواقع وكشف اللفظ عن الوجوب ظاهرا ، ولا يتبع هذا حسنا ، بل هو مستتبع لموضوع حسن تعلّق الأمر الحقيقي به.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ القسم الأوّل ممّا لا كلام فيه ، والقسم الثاني ممّا لا دخل له في المقام ، فإنّه أمر صوري لفظي صرف وتخيّل بحت. وأمّا القسم الثالث فبالنسبة إلى الأمر المتعلّق لفظا بقطع اليد أو ذبح الولد فلا شكّ في كونه صوريّا بحتا لا يورث وجوبا في الواقع وإن تخيّله المكلّف - بواسطة عدم اطّلاعه وجهله بالواقع وبالنسبة إلى المطلوب - واقعا ، فهو كالقسم الأوّل من حيث إنّ حسن الفعل دعا إلى الأمر به. والأوامر الابتلائية يحتمل أن تكون من هذا القبيل ، ولا ينافيه ما اشتهر في الألسنة : من أنّ التكاليف الابتلائية

ص: 349

لا بدّ وأن يكون الفعل فيها غير مطلوب ، إذ بعد تسليمه فإنّما هو فيما تعلّق الأمر اللفظيّ به وتخيّله المكلّف مأمورا به.

ولا دليل على أنّ ذلك الأمر لا يصحّ أن يجعل طريقا إلى الوصول إلى ما هو المطلوب حقيقة ، كما أنّه لا ينافيه مبغوضيّة ما تعلّق الأمر به ظاهرا ، نظرا إلى أنّ المطلوب الحقيقي هو إظهار الإطاعة والانقياد ، ومن جملة ما يحصل به هذا المفهوم هو قطع اليد أو قتل الولد ، والمفروض كونه مبغوضا للمولى ، والوجه في ذلك : هو أنّه كما يحصل بالقتل ذلك المفهوم فكذلك يحصل بإيقاعه في معرض القتل أو القطع ، كما هو ظاهر.

ومن ذلك كلّه ظهر أنّ ما زعمه المحقّق القمّي تبعا لبعضهم : من أنّ الأمر في أمثال المقام مجاز عن المقدّمات (1) ممّا لا وجه له.

والحاصل : أنّ الأوامر الابتلائيّة لا ترد نقضا على الملازمة بعد احتمال ما ذكرناه ، فكيف بأنّ الظاهر من مساق كلماتهم هو ذلك الاحتمال! (2) فتأمّل جيّدا تهدى إلى الحقّ.

الثاني (3) : التكاليف التي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن أئمّتنا الأطهار عليهم السلام لا يكاد يعتريه شوب الإنكار وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أيضا ، فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن والرجحان ، لما فيها من صون المكلّف والمكلّف عن شرور المخالفين وإن تجرّد المكلّف به عن الحسن الابتدائي. وطريان الحسن

ص: 350


1- القوانين 2 : 4.
2- في ( ط ) زيادة : « ما قلنا ».
3- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

بعد التكليف من جهة الامتثال ممّا لا يجدي ، إذ الكلام في الجهات المتفرّع عليها التكاليف ، لا في الجهات المتفرّعة عليها هذا (1).

والجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبالنقض بما لو حكم العقل بوجوب شيء أو حرمته ، فإنّه يحسن التكليف اتّقاء من شرور الأعادي وصونا عن مكائدهم على خلاف حكم العقل من تحريم الواجب وإيجاب الحرام ، مع أنّه لا يلتزم بجوازه ولا يحكم بالانفكاك بين الحكمين فيه. قال في ذيل المبحث : « وإذا ثبت عندك ممّا حقّقناه انتفاء الملازمة الكليّة ، فاعلم أنّ ذلك يتصوّر إمّا بالأمر بالحرام العقلي (2) ولو ندبا والنهي عن الواجب العقلي (3) ولو تنزيها » (4) وعدّ الأقسام المتصوّرة في المقام من الأمر بالمباح أو تحريمه أو إباحة الواجب ونحوه - إلى أن قال - : « أمّا القسمان الأوّلان : فلا ريب في امتناعهما بالقياس إلى الحكم الواقعي » (5) مع أنّ مقتضى ما ذكره من الدليل هو جواز مثل ذلك أيضا ، فما هو الجواب عنه هو الجواب عن غيره أيضا. والحقّ أن النقض المذكور ممّا لا يختصّ وروده بهذا الدليل خاصّة ، بل يجري في أكثر الوجوه التي استند إليها ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، بأن نقول : إنّ تلك التكاليف لا بدّ وأن تحمل على أحد الوجهين : إمّا على التورية باعتبار إرادة معنى غير ظاهر منها على إطلاقها ، كأن يقال فيما لو أمر بالمسح على الخفّين : إنّه يجب عند الخوف على النفس ، والفعل

ص: 351


1- الفصول : 338.
2- في المصدر : الفعلي.
3- في المصدر : الفعلي.
4- الفصول : 340.
5- الفصول : 340.

فيه يشتمل على الحسن قطعا ؛ لأنّ الفعل الواقع في مقام الخوف على النفس له وجه يغاير سائر وجوهه ويختلف الحسن والقبح باختلاف الوجوه المتّحدة مع الفعل المنتزع عنه ، كما لا يخفى. وقد ورد نظير ذلك في الأخبار بحيث لا يكاد يشوبه الإنكار ، فمن ذلك : ما قد قاله الإمام عليه السلام فيما سأله السائل عن الوتر من وجوبه ، ثم فسّره بوجوبه على الرسول (1). وقوله : « أصبت » ثم فسّره ب- « أصبت الباطل » (2). وقوله في الشيخين : « إنّهما إمامان عادلان قاسطان كانا على الحقّ وماتا على الحق » (3) ثم فسّره بما ينافيه ظاهرا. ولا قبح في ذلك الوجه بوجه.

وأمّا حمل الأمر فيها على مجرّد اللفظ وإيجاد صيغة الأمر صورة من غير إرادة معنى منه - نظير الكذب في الإخبارات من حيث عدم مطابقة نسبة الكلام للواقع - فلا بعد فيه أصلا كما زعمه. والعجب أنّه لا يستبعد وقوع التكليف بالقبح ويستبعد حمل الأمر في أمثال المقام على الأمر الصوريّ! مع أنّه في مقام التقيّة لا غائلة فيه بوجه.

الثالث (4) : أنّ جملة من الأوامر الشرعيّة متعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد التقرّب والامتثال حتّى أنّها لو تجرّدت عنها تجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصلاة والحجّ والزكاة ، فإنّ وقوعها موصوفة بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة ، حتى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به ، مع أنّ تلك الأفعال لا تخلو واقعا إمّا أن تكون واجبات عقليّة مطلقا أو بشرط الأمر بها

ص: 352


1- الوسائل 3 : 50 ، الباب 16 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 6.
2- لم نعثر عليه.
3- الصوارم المحرقة : 155 ، والصراط المستقيم 3 : 73.
4- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

ووقوعها بقصد الامتثال ، وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الأوّل : فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم وجوبه ، وأمّا على الثاني : فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده ، فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل (1).

أقول : ويمكن تحريره بوجه آخر يغايره في الجملة ، وهو : أنّه لا شكّ في اشتراط جملة من الأفعال بالإتيان على وجه الامتثال ، فمع قطع النظر عن هذا الاشتراط ، فإمّا أن يكون تلك الأفعال مشتملة على حسن يقتضي الأمر بها أو لا ، وعلى التقديرين لا يتمّ الملازمة ، أمّا على الأوّل : فلأنّها لا تجزي عن التكليف الواقعي ، وأمّا على الثاني : فلأنّها مأمور بها مع أنّه لا حسن فيها ولا تناقض (2) في البين ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الأمر يتعلّق بها من حيث اشتراط وجه القربة قلنا : الكلام في الجهات التي يتفرّع عليها التكليف ، ووجه القربة (3) إنّما يتفرّع على التكليف ، فلا يحصل إلاّ بعد الأمر ، فأخذه في المأمور به يوجب الدور المحال.

والجواب عنه بكلا تحريريه.

أمّا أوّلا : فبخروجه عمّا نحن فيه ، إذ الكلام فيما إذا أدركت عقولنا حسن الفعل أو قبحه فهل يكشف عن حكمه الشرعي أم لا على ما عنون به المبحث؟ وذلك إنّما يرد نقضا على الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، ولا يرتبط بما نحن فيه (4) أصلا.

ص: 353


1- الفصول : 339.
2- في ( ش ) شطب على كلمة « تناقض » وكتب عليه : ملازمة.
3- لم ترد عبارة « قلنا - إلى - القربة » في ( ش ).
4- في ( ط ) بدل « فيه » : « بصدده ».

وأمّا ثانيا : فنختار أنّها واجبات عقليّة مطلقا مع قطع النظر عن الاشتراط بقصد القربة ، ولا غائلة فيه أصلا ، وبيانه موقوف على مقدّمة ، وهي : أنّ الفعل الواقع عن المكلّف ، له عناوين كثيرة ووجوه عديدة تصلح للحمل عليه ويصحّ انتزاعها منه ، فقد يكون الضرب الصادر من المكلّف معنونا بعنوان حسن (1) حسنا كما إذا كان على وجه التأديب ، وقد يكون ملحوظا بلحاظ آخر موجّها بوجه غيره قبيحا كما إذا كان على وجه التعذيب مثلا (2) ، فإذا علمنا العنوان الحسن المنتزع من الفعل بخصوصه تفصيلا فلا كلام ، وإن علمناه إجمالا كأن علمنا أنّ الفعل الفلاني وجها يكون ملحوظا بذلك الوجه حسنا ، ولو كان علمنا أنّ للفعل الفلاني وجها يكون ذلك الفعل (3) ملحوظا بذلك الوجه حسنا (4). ولو كان علمنا بذلك بواسطة أمر الشارع وكشفه عن وجود عنوان الحسن إجمالا فلا ريب أنّ الإتيان بالفعل في الخارج تحصيلا لذلك العنوان المعلوم حسنه إجمالا يجزي عن الأمر به لو كان مأمورا به ، ويحصل الحسن المنتزع من الفعل كما لا يخفى.

وبالجملة ، فبعض الأفعال لوقوعها مشتركة بين وجوه كثيرة لا بدّ في تعيين واحد منها إلى قصد ذلك الوجه بالخصوص تفصيلا أو إجمالا ، وإليه تنظر العبارة المنقولة عن المتكلمين من أنّه : « لا بدّ أن يقع الفعل في الخارج إمّا لوجوبه أو لوجه وجوبه » (5) فإنّ هذا أحد الوجوه في وجه الوجوب.

ص: 354


1- لم يرد « حسن » في ( ش ).
2- لم يرد « مثلا » في ( ش ).
3- لم يرد « ذلك الفعل » في ( ش ).
4- العبارة مشوّشة جدّا.
5- المنقذ من التقليد 1 : 240 - 241 ، وكشف المراد : 407 - 408.

وإذ قد عرفت هذه ، فنقول : نلتزم بأنّ الأفعال المخصوصة التي يعبّر عنها بالصلاة مثلا حسن ، لكن لا على أي وجه حصلت وعلى جميع العناوين المنتزعة عنها ، بل على وجه خاصّ علمنا به إجمالا من أمر الشارع وإن لم نعلم ذلك الوجه بخصوصه ، فهي معنونة بعنوان معلوم بالإجمال حسنه ، ولهذا قد أمر بها الشارع ، والإتيان بها على الوجه المأمور بها يجزي عن الواجب وإن لم يكن الامتثال ظاهرا ، وأمّا واقعا فمرجعه إلى حقيقة الامتثال كما لا يخفى فهي حسنة ومأمور بها فلا مخالفة بين الحكمين.

وأمّا ثالثا : فنختار أنّها واجبات عقليّة بعد الاشتراط بنيّة القربة وقصد الامتثال ، ولا غائلة أيضا ، وبيانه أيضا يحتاج إلى تقديم مقدّمة.

وهي : أنّ الحكمة الداعية إلى وضع الألفاظ - على ما تقرّر في محلّه - هو الكشف عن المقاصد في مقام الإفادة والاستفادة ، وذلك يحصل بوجهين.

أحدهما : أن يكون المقصود بالإفادة والاستفادة ما هو المفهوم من اللفظ بحسب ما يستفاد منه لغة ، كما هو المتعارف عند العقلاء في أغلب إفاداتهم واستفاداتهم خبرا أو إنشاء.

وثانيهما : أن يكون المقصود واقعا من إيراد اللفظ وإطلاقه بحسب ما يستفاد منه من الأمور اللازمة للمعنى أو الملزومة له ولو بملاحظة مدلوله ابتداء.

فكما أنّ اللفظ في القسم الأوّل طريق للوصول إلى المعنى ، فكذلك المعنى المستفاد من اللفظ في المقام طريق للوصول إليه ، وذلك في الأخبار ظاهر شائع كالمداليل الكنائية.

وأمّا في الإنشاء : فقد يتحقّق مثل ذلك أيضا ، كما إذا جعل الأمر بشيء عنوانا لمطلوبيّة شيء آخر ، فالمطلوب بحسب ما يعتقده المكلّف هو ما تعلّق

ص: 355

الأمر به لفظا ، إلاّ أنّ المحبوب واقعا ربما يكون شيئا آخر ولو بعمومه ، فيختلف المقصود المسوق للكلام والمستفاد من الأمر بحسب ما تعلّق به ظاهرا في مقام اللفظ ، كما إذا أمر المولى بضرب زيد مثلا أو إكرام عمرو ، فإنّه ربما يقال باختلاف المقصود والمطلوب ظاهرا من حيث إنّ الطلب لا يتعلّق إلاّ بالامور الاختياريّة للمكلّف ، ومع ذلك فيمكن الحكم بالإجزاء فيما لو أكرم عمرا من غير اختيار ومن دون قصد إليه ؛ لأنّ عدم تناول الطلب للامور الاضطراريّة التي لا تقع باختيار المكلّف إنّما هو من جهة قصور في الطلب ، وإلاّ فاللفظ المفيد لما تعلّق به الأمر - على ما صرّح به السكّاكي (1) - مطلق يعمّ القسمين.

وبالجملة ، فاختلاف أحكام المقصود والمطلوب أمر ظاهر لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، وإذ قد تقرّر هذه ، فنقول :

لمّا كان الفعل مجرّدا عن الاشتراط بنيّة القربة غير واجد لحسن ملزم للأمر به وكان بعد الأخذ بها حسنا مقتضيا للأمر ولا يمكن الأمر به على وجه يكون الاشتراط بها مأخوذا في الفعل نظرا إلى محذور الدور ، انحصر الطريق في الأمر به أوّلا على وجه يكون نفس الفعل متعلّقا للأمر اللفظي مجرّدا عن اعتبار الاشتراط والقيد ، ليصحّ التقييد بالاشتراط بعد ذلك الأمر ، فالحيلة في الوصول إلى ما هو المقصود واقعا إنّما هو تعلّق الأمر لفظا بما هو مجرّد عن قيد المطلوب ثم التقييد بعد ذلك ، فالمقصود من الأمر بالصلاة هو التقرّب بها ، فإنّ (2) المطلوب الظاهري هو مجرّد فعل الصلاة ، فما هو متعلّق للأمر الواقعي والطلب الحقيقي

ص: 356


1- لم نعثر عليه.
2- في ( ط ) بدل « فإنّ » : « وإن كان ».

حسن قطعا ، وما هو مأمور به في مقام اللفظ لا دليل على لزوم كونه حسنا ولا يدّعيه القائل بالملازمة أيضا على ما لا يخفى.

الرابع (1) : الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة (2) رفعا للكلفة والمشقّة عنهم ، كقوله صلى اللّه عليه وآله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عقيب كلّ صلاة » (3) فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن أصل الفعل ، وذلك حيث لا يكون هناك ما يحسن الابتلاء ولا يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد ، فالفعل الشاقّ قد يكون حسنا بل واجبا عقليّا لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّفين مع قضاء الحكمة بعدمه (4).

أقول : ويمكن تحريره بوجهين :

الأوّل : أنّ الأدلّة الدالة (5) على رفع الحرج عن هذه الامّة - على ما يعطي النظر في مساقها - أنّها إنّما هي واردة في مقام الامتنان عليهم ، فتلك التكاليف التي تفرّدت تلك الأمّة المرحومة بالعفو عنها لا تخلو : إمّا أن تكون حسنة في الواقع على وجه يقتضي الأمر بها إلزاما ، أو لا ، فعلى الأوّل يلازم القول بانتفاء الملازمة ، وعلى الثاني ينافي الامتنان ، فإنّ ترك الإلزام بما لا ملزم فيه لا يعدّ امتنانا بل التكليف الإلزامي حينئذ يعدّ قبيحا ، ولا امتنان في ترك القبيح ؛ مع أنّه قد

ص: 357


1- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.
2- في ( ش ) زيادة : « قطعا ».
3- الوسائل 1 : 355 ، الباب 5 من أبواب السواك ، الحديث 3.
4- الفصول : 339.
5- لم يرد « الدالّة » في ( ش ).

منّ اللّه تعالى ببركات نبيّنا نبيّ الرحمة - عليه وآله من الصلاة أزكاها ومن السلام أفضلها - على هذه الأمّة بترك الإلزام بها ، على ما يستفاد من جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار (1) ، كما لا يخفى على من راجعها.

الثاني : أنّ الظاهر من قوله صلى اللّه عليه وآله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي ... » (2) أو « لأخّرت العتمة إلى ثلث الليل » (3) ونحوه أنّ ترك التكليف بهذه الأفعال إنّما هو بواسطة عدم إلقائهم في المشقّة بعد ما هو يقتضي التكليف ، نظرا إلى ما هو المعهود من طريقة العقلاء حيث يستندون في عدم المعلول إلى عدم المقتضي فيما لو اجتمع مع وجود المانع ، وإنّما يحسن الاستناد إليه بعد إحراز المقتضي ، وإلاّ فينسب كلام القائل به إلى كلمات أصحاب الهزل والظرافة ، أو يلحق بكلمات أرباب السوداء والجنون ، فاللازم لذلك وجود الحسن في تلك الأفعال مع عدم الأمر بها.

والجواب أمّا عن التحرير الأوّل :

أمّا أوّلا : فبأنّه خارج عن العنوان ، إذ لا كلام فيما لا (4) يستقلّ العقل بإدراكه.

ص: 358


1- راجع الوسائل 1 : 153 ، الباب 9 من أبواب الماء المضاف ، الحديث الأوّل ، و 120 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأوّل و 327 ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث 5 و 113 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 5 ، والوسائل 2 : 980 ، الباب 13 من أبواب التيمم ، الحديث الأول و 1071 ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث 3 وغيره.
2- المتقدّمة في الصفحة السابقة.
3- الوسائل 3 : 135 ، الباب 17 من أبواب المواقيت ، الحديث 7.
4- لم يرد « لا » في ( ش ).

وأمّا ثانيا فبالمعارضة ، إذ لو كان التكليف في تلك الأفعال قبيحا فلا امتنان في ترك القبيح ولو كان حسنا ، فلا ملازمة بين حسن التكليف ووقوعه على ما زعمه ، فهذا الإيراد على صحته مشترك الورود ، ولا بدّ لكلّ من الفريقين من التفصّي عنه ، فلا يصلح نقضا للملازمة.

وأمّا ثالثا : فبأنّ العسر واليسر من وجوه الفعل واعتباراته ، فيجوز أن يكون الفعل باعتبار العسر قبيحا فلا يكون مكلّفا به. وأمّا إشكال الامتنان فستعرف الحلّ منه على المذهبين.

ثم لا يخفى عدم ورود هذه الإيرادات على التحرير الثاني :

أمّا الأوّل : فلأنّ المخبر الصادق قد كشف عن حسنه - على ما عرفت - فالقطع حاصل بحسنه ، مع أنّه لا تكليف به.

وأمّا الثاني : فواضح.

وأمّا الثالث : فلأنّ الظاهر من الرواية عدم كون الفعل شاقّا ، بل المشقّة إنّما تحصل من الإلزام به ، كما يظهر من قوله : « أشقّ » حيث استند (1) مشقّتهم إلى نفسه صلى اللّه عليه وآله كما لا يخفى.

ولكنّه يرد عليه :

أوّلا : أنّ غاية ما يمكن أن يستفاد من هذه الأخبار هو الظنّ والظاهر يدفع بالقاطع ، فإنّ الدليل الدالّ على الملازمة قطعيّ ولا يعارضه خبر الواحد بل ولا المتواتر لفظا ، فلا بدّ إمّا من حمله على خلاف ظاهره ، كأن يقال : إنّ المشقّة في تلك التكاليف إنّما هي من وجوه المكلّف به ، فبعد العسر والمشقّة لا يكون حسنا ، فلا مخالفة أو من طرحه.

ص: 359


1- كذا ، والأنسب : أسند.

وبالجملة ، لا يصحّ ترك الدليل العقليّ والأخذ برواية في سندها - بل وفي دلالتها أيضا - ألف كلام ، فهذه الكلمات في دفع الملازمة لو خيطت من ألف جانب لتهتّك من ألف جانب آخر.

وثانيا : أنّ جملة من الأخبار الدالّة على تفويض الأحكام إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وأوصيائه عليهم السلام (1) محمولة على وجوب اتّباع النبيّ صلى اللّه عليه وآله فيما لو أمر لداع غير التبليغ : من إيصال العباد إلى جميع المصالح المكنونة قليلها وكثيرها من غير أن يفوّت منهم مثلا شيئا منها ، ومن هنا قيل : فرض اللّه وفرض رسوله ، فيجوز أن يكون الأمر المفروض في الرواية - كما يظهر من استناده إلى نفسه - من فرائضه من غير أن يكون تبليغا منه صلى اللّه عليه وآله ، فالفعل بعد الأمر من النبيّ صلى اللّه عليه وآله يصير حسنا فيجب ، فأمره في الحقيقة محقّق لموضوع الواجب العقلي والشرعي كالنذر وأمر الوالد لولده. ولا ينافيه علم النبيّ صلى اللّه عليه وآله وحكمته بعد ما عرفت من أنّه ربما يكون الداعي استيفاء جميع المصالح لهم ، فليتأمّل.

ثمّ إنّ الإشكال الوارد في المقام - أعني مقام الامتنان - يمكن التفصّي عنه على المذهبين ، أمّا على مذهب الناقض : فبأن يقال : إنّ التكليف وإن كان حسنا ، إلاّ أنّ ترك التكليف أحسن ، للامتنان (2) على نهج العفو فيمن يستحقّ العقوبة ، فإنّها عدل لكن العفو أولى.

وأمّا القول بأنّ فعل الأحسن بعد ما كان كذلك لا امتنان فيه - نظرا إلى وجوب (3) صدور الأحسن منه تعالى ، فهو في مقام الربوبيّة وعدم جواز صدور

ص: 360


1- الكافي 1 : 265 ، باب التفويض إلى رسول اللّه وإلى الأئمة صلوات اللّه عليهم.
2- في ( ط ) زيادة : « و ».
3- لم يرد « وجوب » في ( ش ).

القبيح منه لا امتنان له - فواه جدّا ، فإنّ عدم صدور القبيح منه تعالى إنّما هو لغنائه ، لا لشيء آخر على وجه يضطر إليه ، فإنّ امتناع القبيح لصارف يؤكّد الامتنان ، حيث إنّ اتّصافه (1) بذلك أيضا من أعظم المنن (2) ، كما أنّ فيّاضيّته على وجه الإطلاق محض الامتنان على العباد ، وإلاّ فلا وجه لعدّ الوجود من أعظم نعمائه التي منّ بها على خلقه ، كما لا يخفى.

وأمّا على مشرب التحقيق ، فبأن يقال : إنّ حسن الفعل قد يتدارك بوجوه أخر ويحرز بجهات أخرى على الوجه الأتمّ الأكمل من غير تكليف إذا اقتضى المصلحة لذلك ، كما في الحكم بإفطار الصوم في السفر ، فإنّ التنعّم بنعمه في السفر (3) عند المشقّة قد يوجب شكر المنعم والخضوع لوجهه الكريم المنّان المشتمل على أكمل المصالح وأتمّ الفوائد ، فرفع التكليف والإحسان بما لا يستحقّه من مجازاته تعالى له بجزائه الجميل ممّا لا يقدر العاقل بإحصاء (4) وجوه امتنانه عمّا قليل. كذا أفاد الأستاذ - دامت إفاداته - لكنّه لا يخفى عدم اندفاع النقض على المذهبين بذلك وإن حلّ الإشكال به ، فتدبّر.

الخامس (5) : لا ريب في أنّ كثيرا من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ظنّا أو احتمالا بِحِكَمٍ غير مطّردة في مواردها ، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذرا من الأداء إلى الاختلال بموارد الحِكَم ،

ص: 361


1- في ( ش ) بدل « اتّصافه » : « المتصارف » أو « التصارف ».
2- في ( ش ) زيادة : « به ».
3- لم يرد « في السفر » في ( ش ).
4- في ( ش ) : « بإحضار ».
5- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

كتشريع العدّة المعلّلة بحفظ الأنساب ونحوه ، فالفعل في الموارد المنفكّة عن العلّة خال عن المصلحة مع اطّراد الحكم واختصاص الحكمة بالبعض (1).

والجواب عنه :

أوّلا : فبما عرفت مرارا.

وثانيا : أنّه لا نسلّم كون تلك الحكم علّة للحكم الشرعي ، كيف! ولولاها لزم التخلّف ، بل تلك الحكم إنّما هي تقريبات لأذهان المخاطبين لمناسبة جزئيّة ، أو علل لتشريع الحكم وإظهاره وإبرازه كما في شأن نزول الآيات القرآنية ، فإنّ المصالح الكامنة في الأشياء المقتضية للأمر بها والنهي عنها ممّا لا يعلمها إلاّ اللّه والراسخون في العلم من امنائه وخلفائه.

وأمّا ما تخيّله : من كفاية الاحتمال فيما يراه (2) من نفي الملازمة - كما أشار إليه بقوله : « ظنّا أو احتمالا » وصرّح به أخيرا في ذيل كلامه - فلعلّه سهو عن قلمه أو غفلة عن قواعد المناظرة ، فإنّ الناقض لا بدّ وأن يكون في مقام النقض موردا لمورد يخالف مقصود خصمه قطعا ولا يكفيه الاحتمال ، نعم المانع يكفيه الاحتمال في قبال الاستدلال.

وبالجملة ، فمن يقول بالملازمة فإن منعها مانع بتجويز أمثال ذلك فلا بدّ لنا (3) من إحكام الدليل الدالّ على الملازمة وسدّ باب الاحتمال بإقامة البراهين القطعيّة ، وإن نقضها الناقض بأن يقول : إنّ المورد الكذائي قد تخلّف فيه الحكم المذكور فلا بدّ له من إتيانه بمورد قطعيّ المخالفة ، وعلينا إمّا إصلاحه أو الالتزام

ص: 362


1- الفصول : 339.
2- العبارة في ( ش ) هكذا : « وأمّا ما تخيّله من أنّ كثيرا من الأحكام فيما يراه ».
3- كذا ، والظاهر : له.

بمقالته ، ومن الظاهر أنّ الوجوه التي استند إليها في عدم ثبوت الملازمة إنّما هو أوردها على وجه النقض كما لا يخفى ، فلا وجه حينئذ لإبداء الاحتمال.

وثالثا : أنّه كما يحتمل أن يكون اطّراد تلك الأحكام بواسطة حسن في التكليف كذلك يحتمل أن يكون بواسطة حسن في الفعل المكلّف به في غير الموارد الموجود فيها العلّة ؛ لأنّ اشتمال فرد على مصلحة من (1) طبيعة ممّا يجدي (2) في انتزاع عنوان عن فرد مماثل له في النوع ، فيصير ذلك العنوان من وجوه ذلك الفرد ، ويحتمل أن يكون حسنا فيصير مأمورا به.

وبالجملة ، فلا دليل على انحصار المصلحة في شيء بخصوصه ، فلعلّ الحكم في الأفراد الغير الواجدة لتلك الحكم مستند إلى علّة عامّة لغيرها أيضا أو (3) يخصّ بها ، ولعمري! كيف يرضى العاقل - فضلا عن الفاضل - بالاستناد إلى مثل هذه الوجوه في دفع ما قد اتّفقت العدليّة عليه؟ كما سنبيّنه إن شاء اللّه.

السادس (4) : الصبيّ المراهق إذا كان لطيف القريحة كامل العقل تثبت في حقّه الأحكام العقليّة ، مع أنّه لا يجب عليه شرعا (5).

والجواب الالتزام بالأحكام الشرعيّة في حقه أيضا بعد ما أدرك الحكم العقلي كحرمة الظلم أو وجوب ردّ الوديعة ، غاية ما في الباب عفوه ثابت بالشرع تفضّلا كما في المعاصي الصغيرة مثلا ؛ مع أنّ الحكم بثبوت العفو

ص: 363


1- في ( ش ) زيادة : « انتزاع ».
2- في ( ش ) : « لا يجدي ».
3- في ( ش ) : بدل « أو » : « و ».
4- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.
5- الفصول : 339.

في بعض المقامات - كما لو فرضنا فيما لو قتل الصبيّ قبل بلوغه ساعة مع كمال عقله وإدراكه نبيّا أو وصيّ نبيّ - في غاية الصعوبة ، فإنّه ربما يخالف العدل على ما لا يخفى.

وبالجملة ، فنحن نقول : إنّ كلّما أدرك العقل أنّ الفعل الفلاني ممّا يترتّب عليه الثواب بمعنى جزاء الخير ، أو العقاب بمعنى جزاء الشرّ ، أو لا يترتّب عليه شيء منهما عند العقلاء والحكماء ، فيمتنع أن يكون حكم الشارع الذي هو خالق العقلاء الحكماء بخلافه. وإن شئت التوضيح فلاحظ المباح العقلي هل يصحّ أن يحكم الشارع بوجوبه أو حرمته أو لا يصحّ؟ وقس عليه البواقي.

فنقول : إنّ بعد ما أدرك العقل جهات الفعل ولم يحكم بوجوبه أو حرمته أو استحبابه أو كراهته وحكم بإباحته ، فإيجاب الشارع الحكيم له لا يخلو عن وجوه :

إمّا لحسن فيه قبل الأمر والمفروض خلافه.

أو لحسن فيه بعد الأمر على وجه يتفرّع عليه التكليف ، فالأمر فيه محقّق لعنوان حسن مطلوب حقيقة هو مأمور به واقعا كما في الأوامر التعبّديّة كالصلاة والزكاة ، فإنّ بعد الأمر يحصل عنوان حسن غير الامتثال هو يصير مأمورا به. وأمّا حسن الامتثال فلا يتفرّع عليه التكليف بل الامتثال يتفرّع عليه ، فلا يصلح وجها لتعلّق التكليف بالفعل.

وإمّا الابتلاء (1) ...

ص: 364


1- عطف على قوله : إمّا لحسن فيه. ولا يخفى عدم ارتباط قوله : « كما أورده القوشجي ... » بما قبله ، ولذا أفرزناه عنه ، والظاهر - بل المقطور. سقوط بعض الكلمات ، والكلمات الآتية أيضا لا تخلو عن تشويش.

كما أورده القوشجي على المحقّق الطوسي في بيان كلامه (1). وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن ، فأمّا مع العلم فلا وجه له ، وأمّا مع الجهل فالامتثال به أيضا لا حسن فيه ؛ لأنّ حسن الامتثال إنّما هو من حيث تحصيل محبوب المولى ، والمفروض أنّه لا حسن فيه.

نعم ، في صورة الجهل لاعتقاد المخاطب (2) - من حيث ظاهر الأمر الكاشف عن الطلب واقعا - بالمحبوبيّة يحسن منه الانقياد ويحرم عليه التجرّي بترك المطلوب على حسب ما اعتقده ، وهذا ليس من حسن الامتثال في شيء كما لا يخفى ، وليس هذا الأمر إلاّ صوريّا صرفا ولفظيّا بحتا ، والكلام على تقدير خلافه فلا يصلح نقضا على الملازمة الواقعيّة.

نعم ، لو قلنا : بأنّ الطلب أمر يغاير الإرادة أو لا يستتبعها ، بل يمكن الانفكاك بينهما كما يراه بعض الأعاظم (3) - تبعا للأشاعرة - فلا ملازمة بين الحكمين. ولعلّ الناقض المذكور قد بنى كلامه على ذلك ، إلاّ أنّ الكلام معه حينئذ (4) في أصل المبنى.

ثم إنّه قال في عنوان المبحث بعد ما نفى الملازمة الواقعيّة : « هذا إذا أريد بالملازمة القطعيّة الواقعيّة منها ، ولو أريد بها الملازمة - ولو بحسب الظاهر - فالظاهر ثبوتها » (5) ثم قال - بعد إيراد النقوض على الملازمة الواقعيّة بما

ص: 365


1- انظر شرح التجريد للقوشجي : 340.
2- في ( ط ) : « المكلّف ».
3- انظر ضوابط الاصول : 47 ، وشرح القوشجي : 246.
4- لم يرد « حينئذ » في ( ش ).
5- الفصول : 337.

عرفت (1) والاستدلال على مقصوده من إثبات الملازمة بين حسن التكليف ووقوعه في أثناء الاحتجاج على الملازمة الظاهريّة في المقام الثاني الذي يرجع في محصّل (2) المعنى إلى حجّيّة العلم والقطع في الظاهر - : ومن هنا يتّضح أنّه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف عملا بعموم الآيات وما في معناها من الأخبار ؛ ولأنّ قضيّة جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها ، إلاّ أن يعارضها مانع. ولا يكفي احتماله ، إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به (3) ، انتهى.

وهذا أيضا ليس في محلّه ، فإنّ الملازمة لو كانت ثابتة فهي واقعيّة على ما عرفت ، وإلاّ فالملازمة الظاهريّة ممّا لا محصّل لها.

وأمّا ما استند إليها من عموم الآيات : فعلى تقدير دلالتها إنّما يثبت بها الملازمة الواقعيّة دون غيرها ، فالحكم بلزوم العمل على مقتضى ما أدركه العقل من جهات الفعل في الظاهر يبقى بلا دليل.

وغاية ما يمكن الاستناد إليه في تصحيح مرامه هو أن يقال : إنّ الرجوع إلى الوجدان يقضي بأنّ الجهات المحسّنة للفعل بعد وصول العقل إليها إنّما هي المقتضية للتكليف ، واحتمال المانع ممّا لا يعبأ به العقل سيّما إذا كان بعيدا ، مع أنّ الأصل يقضي بعدمه ، فيثبت التكليف في مرحلة الظاهر إلى ثبوت مانعة.

وفيه :

أوّلا : أنّ الرجوع إلى الوجدان شاهد صدق على أنّ جهات الفعل علّة تامّة

ص: 366


1- في ( ش ) زيادة : « ما عليها ».
2- في ( ط ) : « تحصيل ».
3- الفصول : 340.

للتكليف ، فليست هناك حالة منتظرة له. وبعد التنزّل نقول : إنّ كونها علّة تامّة (1) لا دليل على كونها مقتضية للحكم ، فلعلّها جزء للمقتضي ، فإنّ ارتفاع التكليف في الصبي (2) يحتمل أن يكون لوجود مانع منه ، ويحتمل أن يكون مستندا إلى فقدان شرط من شروط التكليف ولا معيّن لأحد الاحتمالين في البين ، فالجزم بأنّ العدم في أمثال المقام مستند إلى وجود المانع إنّما هو تعرّض على الغيب أو تحكّم (3).

وثانيا : لو سلّمنا إحراز المقتضي فلا نسلّم أنّ الشكّ إنّما هو في وجود المانع عن ثبوت المقتضي وترتّبه على المقتضي ، كيف! ويحتمل أن يكون الشكّ في مانعيّة شيء موجود ولا يجري الأصل حينئذ (4) لعدم العلم بالحالة السابقة ، فإنّ ما يحتمل مانعيّته مذ خلق ومنذ جعل يحتمل مانعيّته وعدمها ، فهي من الآثار واللوازم الغير الشرعيّة (5) وقد تقرّر في مقامه عدم جريان الأصل فيها لكنّه يختصّ بالموانع الواقعيّة للمطالب الخارجيّة ، وأمّا الموانع الجعليّة كالموانع الشرعيّة التي يناط كونها مانعة للأحكام الشرعيّة بجعل فيها ، فيجري فيها الأصل ، وليس (6) المقام منه - كما لا يخفى - فإنّ الكلام في الموانع التي تمنع عن ترتّب الحكم العقلي على مقتضياتها ، وهذه أمور واقعيّة غير منوطة بجعل ، ولا وجه للأصل فيها.

ص: 367


1- لم يرد « إنّ كونها علّة تامّة » في ( ش ).
2- لم يرد « في الصبي » في ( ش ).
3- في ( ش ) : « بحكمه ».
4- في ( ط ) بدل « حينئذ » : فيه.
5- لم يرد « الغير الشرعيّة » في ( ط ).
6- في ( ط ) : « إلاّ أنّه ليس ».

ودعوى استقرار بناء العقلاء على عدم اعتبار ما يحتمل مانعيّته في ترتيب آثار (1) المقتضي بعد إحراز المقتضي غير مسموعة جدّا ، كيف! ولا نجد منها عينا ولا أثرا ، ألا ترى أنّه من أراد المسافرة إلى بلد خاصّ بعد وجود المقتضي لذلك السفر واحتمل هناك مانعيّة شيء موجود عنه فهم لا يترتّبون (2) آثار وصول المسافر إلى البلد المقصود له عليه : من إرسال المكاتيب إليه وتوكيله وجعله وصيّا ، وغير ذلك.

وأمّا أصالة عدم وجود المانع فقد تقرّر (3) في محلّه : أنّه جار في الامور الشرعيّة ، فإنّ من آثار عدم المانع الشرعي وجود المقتضي الشرعي بخلاف الامور الواقعيّة فإنّها تستند إلى عللها الواقعيّة بجميع أجزائها : من وجود المقتضيات ورفع الموانع ، فعدم المانع المحرز بالأصل (4) لا يجدي في الحكم بوجود المقتضي فيها.

وبالجملة ، مرجع الأصل في أمثال ذلك إلى الاصول المثبتة ، ولا ثبات لها عندنا (5).

والحاصل : أصالة عدم المانع وإن كان يجدي في إثبات الملازمة الظاهريّة ، إلاّ أنّ الكلام في مورده ، فإثبات أنّ المقام إنّما هو ممّا نعلم فيه بوجود المقتضي ونشكّ في وجود المانع دونه خرط القتاد.

ص: 368


1- في غير ( ط ) : « الآثار ».
2- كذا ، والمناسب : لا يرتّبون.
3- في ( ط ) : « قلنا ».
4- في ( ط ) زيادة : « الشرعي ».
5- العبارة في ( ط ) هكذا : « فإنّه أصل مثبت ولا ثبات له عندنا ».

وقد يستفاد من كلامه الملازمة الظاهريّة أيضا فيما لو أدرك العقل بعض جهات الفعل واحتمل وجود معارض يعارض قبحه أو حسنه فيما أدركه ، كما إذا أدرك حسن العدل أو قبح الكذب ولكنّه يحتمل هناك وجود عنوان آخر في الكذب من إنجاء نفس محترمة ونحوه ، فانّ العقل في مقام الظاهر يستقلّ بحرمته أو وجوبه مثلا ما لم ينكشف الخلاف أو يعتمد على أصالة عدم المانع ، وهذا أيضا ممّا لا وجه له في وجه ، فانّ العقل بعد ما أحرز العنوان الحسن فلا يجدي في الحكم بخلاف مقتضاه احتمال طريان عنوان القبيح ؛ لأنّ الحسن وخلافه من الصفات الطارئة على الأفعال الاختياريّة والعناوين المقصودة ، فكلّما لم يكن العنوان القبيح مقصودا لا يتّصف بالقبح وإن وقع وكذا العنوان الحسن ، فإنّ قطع اليد من اليتيم ممّا يستقلّ به العقل قبحا ، ولا يكفي في رفع قبحه احتمال رفع شقاقلوسه (1) مثلا وإن وقع مفيدا واقعا ، فالحكم بقبح الظلم وقطع اليد حكم واقعيّ غير مبتن على الظاهر ، فعند عدم القصد إلى العنوان الحسن لا يتزلزل العقل في الحكم بالقبح حكما واقعيّا ولا يحتمل الخلاف لا في الواقع ولا في الظاهر ، فكيف يكون مثل هذا الحكم حكما ظاهريّا؟ ولا حاجة إلى إعمال الأصل في عدم لحوق العنوان المحتمل ، فإنّ الآثار التي تحرز بالأصل ويحكم بترتّبها في المقام ممّا (2) يترتّب على نفس الشكّ في وجود العنوان اللاحق من غير حاجة إلى إعمال الأصل ، كما لو شككنا في حجّيّة أمارة فنفس الشكّ فيها يكفي في عدم ترتيب آثار الحجّيّة عليها فلا فائدة حينئذ في إجراء أصالة عدم الحجّيّة كما نبهنا عليه في مباحث حجّيّة الظنّ.

ص: 369


1- هو داء يموت أو يفسد به العضو ، أصله : سفاكلوس ، لغة يونانيّة ( لغت نامه دهخدا 9 : 12644 ).
2- في ( ش ) زيادة : « لا ».

وبالجملة ، إذا أدرك العقل بعض جهات الفعل وأحرز عنوانا حسنا وشكّ في وجود عنوان آخر معارض للأوّل (1) فبمجرّد الشكّ يحكم بحسن الفعل واقعا من غير تأمّل وتزلزل ، فإنّ الشكّ دليل على عدم عنوان مقتض للقبح ، إذ لا يتّصف بالقبح إلاّ بعد القصد والاختيار ، ولا قصد مع الشكّ فلا قبح قطعا من غير احتمال خلاف في الواقع ؛ واحتمال وقوع العنوان القبيح ممّا لا يجدي ؛ لأنّه بعد عدم القصد فعل اضطراري لا يتّصف بحسن ولا قبح.

ومن هذا القبيل فعل المتجرّي لو اعتقد حرمة شيء واجب واقعا ، فإنّه لا يجدي به مع عدم قصده إليه ولا يتّصف بالحسن والقبح ، وكذا لو اعتقد وجوب شيء حرام وتركه تجرّيا على اللّه - نعوذ باللّه - فإنّه يذمّ على نفس التجرّي ولا يمدح في ترك الحرام الواقعي ، كما نبّهنا عليه في بعض المباحث السابقة (2).

فتخلّص ممّا مرّ : أنّ الملازمة الظاهريّة ممّا لا محصّل لها بوجه ، والحقّ ثبوت الملازمة الواقعيّة.

وما قد يتوهّم في المقام : من دلالة الظواهر على انتفاء الملازمة ، كما في قوله تعالى في تحريم الشحوم على اليهود : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ... ) (3) الخ ، وقوله : ( جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ... ) (4) الخ ، وقول ابن عبّاس في اليهود في قصّة البقرة : من « أنّهم شدّدوا فشدّد اللّه عليهم » (5) - وأمثال ذلك - فممّا لا يقاوم

ص: 370


1- في ( ط ) هكذا : « عنوان آخر يعارض قبحه حسنه ».
2- لم ترد عبارة « كما نبّهنا عليه في بعض المباحث السابقة » في ( ش ).
3- الانعام : 146.
4- الانعام : 146.
5- انظر مجمع البيان 1 : 135.

ضرورة العقل ، فلا بدّ من حمله على أنّ الفعل بعد الظلم والبغي والتشديد منهم اختلف أوصافه ، لا أنّ مجرّد الظلم حرّم الشحوم عليهم مثلا من غير وجدان الفعل للصفة المقتضية للتحريم ، كما نبّه عليه المحقّق القمّي في بعض مباحث القياس (1) ، فتدبّر جيّدا فإنّه حقيق بالتدبّر (2).

وممّا يعدّ من الوجوه الدالّة على ثبوت الملازمة الواقعيّة بين حكمي العقل والشرع الإجماع بأقسامه : نقلا وتحصيلا ، مركّبا وبسيطا.

أما الإجماع البسيط : فيكشف عن تحقّقه أمور :

منها : ما عزى الأستاذ إلى الشيخ في العدّة : من أنّه لا خلاف في أنّ كلّ محظور عقلي فهو محظور شرعي (3). وظاهره نفي الخلاف بين أرباب التحصيل وأهل النظر ، ولا أقلّ من نفيه بين العدليّة.

ومنها : ما أفاده جمال المحقّقين في تعليقاته على العضدي (4) : من أنّه لا خلاف بين العدليّة في ذلك.

ومنها : ما ذكروه في ثمرة النزاع بين الفريقين من ترتيب (5) الأحكام الشرعيّة على القول بالإدراك وعدمه على تقدير عدمه.

ص: 371


1- القوانين 2 : 81.
2- لم ترد عبارة « من غير وجدان - إلى - بالتدبّر » في ( ش ).
3- انظر العدة 2 : 741.
4- الحاشية على مختصر الاصول في أول مبحث مبادئ الأحكام : 66 ، وفيها نسب ذلك إلى « المذهب ».
5- في ( ش ) : « ترتّب ».

ومنها : احتجاج الأشعري (1) في نفي الحسن والقبح : بلزوم الجبر في أفعاله تعالى ، وجواب العدليّة (2) : بأنّ انتفاء القبح لصارف لا ينافي الاختيار وعدم تعرّضهم في دفع ذلك بمنع الملازمة مع كفايته في الجواب ، كما لا يخفى.

ومنها : احتجاج الأشعري أيضا : بنفي التعذيب اللازم للحكم الشرعي على انتفاء الملزوم كما يرشد إليه قوله تعالى : ( ... وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3) وجواب أهل العدل : بأنّ الرسول أعمّ من الرسول الظاهر ، ولم يتعرّض واحد منهم لنفي الملازمة إلاّ من هو محجوج بالإجماع.

ومنها : ما أضافه بعضهم (4) بالمدح والذمّ الثواب والعقاب آجلا وعاجلا في تفسير الحسن والقبح عند تحريره لمحلّ النزاع ، فإنّه قد أفرط في الإشعار بأنّ بعد تسليم الإدراك لا ينبغي التشكيك في ثبوت الملازمة حتّى أنّه يعلم في مقام إثبات الحسن والقبح ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد ، إذ لا يذهب وهم إلى دعوى إدراك الثواب والعقاب في الآجل إلاّ بعد تسالم الخصمين بعد الإدراك في ثبوته.

وبالجملة ، فمن تدبّر في مطاوي كلماتهم في مجاري استدلالاتهم وموارد ثمراتهم وتحرير عنواناتهم لا يكاد يرتاب في ثبوت الملازمة بعد تسليم صغرى الإدراك ، حتّى أنّ الأشاعرة الذين نسبتهم إلى القواعد المأخوذة من مشكاة الولاية ومصباح الهداية كنسبة السوفسطائيّة إلى القواعد الموروثة عن البداهة

ص: 372


1- راجع الإحكام للآمدي 1 : 120 - 133 ، والمختصر وشرحه للعضدي : 70.
2- راجع كشف المراد : 304 ، والفصول : 320 وما بعدها ، ومناهج الأحكام : 140.
3- الإسراء : 15.
4- انظر هداية المسترشدين : 433 ، والفصول : 316.

والمنتهية إلى الضرورة و (1) لا ينكرون ثبوت الملازمة بعد تسليم الإدراك كما عرفت في إلزاماتهم على العدليّة ؛ فتنبّه في الغاية وتذكّر ما أسلفنا لك في تحرير العنوان إلى النهاية.

وأمّا الإجماع المركّب : فلأنّ علماء الإسلام بأجمعهم بين منكر للحسن والقبح العقليّين وبين ملتزم بالملازمة بين الحكمين ، فكلّ من قال بثبوت الإدراك العقلي التزم بملازمته للحكم الشرعي ، إلاّ ما قد يحكى عن الزركشي (2) وأشباهه ممّن لا يعتدّ بشأنهم في تحصيل الإجماع الكاشف عن رضا الإمام والرئيس بالعمل بما أدركه العقل ، فالقول بثبوت الحسن والقبح وانتفاء الملازمة إحداث لقول ثالث ، فيكون باطلا.

وممّا يدلّ على ثبوت الملازمة أيضا : الكتاب والسنّة :

فمن الأوّل : قوله - عزّ من قائل - في مدح النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ( ... يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ... ) (3) والتقريب : أنّ المعروف والمنكر هما الحسن والقبيح العقليّان ، والمستفاد من السياق بدلالة وقوعه في مقام المدح هو العموم وإن كان تعريف الجنس ممّا لا يلازمه ، ولا مدح على تقديره كما لا يخفى. والأمر فيه محمول على مطلق الطلب ، لعموم المعروف للمستحب ، فالترك لو كان من المنكرات التي تنهى عنها فالفعل واجب وإلاّ فهو مستحبّ ، فلا يرد عدم التميز كما زعمه بعض الأجلّة (4).

ص: 373


1- الظاهر زيادة : و.
2- حكاه الفاضل التوني في الوافية : 175.
3- الأعراف : 157.
4- انظر الفصول : 341.

وقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ... ) (1) وجه الدلالة : أنّ العدل من كلّ شيء وسطه ومستقيمه ومستقيم الأفعال حسنها ، والعموم أيضا مستفاد من المقام على ما عرفت.

وقوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... ) (2).

وقوله تعالى : حكاية عن لقمان في وصيّة ابنه : ( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... ) (3).

وجه الدلالة في الكلّ واضح. والمناقشة فيها ممّا لا وقع لها بعد اعتضاد بعضها ببعض كما لا يخفى.

ومن الثاني (4) جملة من الأخبار :

منها : ما ورد في خطبة الوداع التي خطب بها النبيّ صلى اللّه عليه وآله يوم الغدير : « إلا ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويبعّدكم عن النار إلاّ وقد أمر اللّه تعالى به ، ألا ما من شيء يقرّبكم إلى النار ويبعّدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهاكم عنه » (5).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر عليه السلام في رجل سأله عن طول الجلوس في بيت الخلاء : « دع القبيح لأهله ، فإنّ لكلّ شيء أهلا » (6).

ص: 374


1- النحل : 90.
2- آل عمران : 104.
3- لقمان : 17.
4- يعني ومن السنّة ، عطف على قوله : فمن الأوّل.
5- الوسائل 12 : 27 ، الباب 12 من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث 2.
6- الوسائل 2 : 975 ، الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة ، وفيه حديث واحد. مع تفاوت يسير.

وجه الدلالة ظاهر ، وفيما تقدّم منّا من البرهان العقلي كفاية.

فلنعطف عنان القلم إلى بيان الكلّيّة القائلة : بأنّ « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » فنقول : إنّ هذه الكلّيّة منهم تحتمل وجهين :

الأوّل : أنّ كلّ ما حكم به الشرع قد صدّقه في الحكم في تلك الواقعة العقل واعتقد وقوعه في محلّه وصدوره من أهله ، وهذا المعنى ممّا لا [ يكاد ](1) ينكره القائل بانفكاك الحكمين من العدليّة أيضا.

الثاني : أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم العقل على طبقه حكما إنشائيّا جعليّا كما في عكسه ، على ما مرّ تحقيق الكلام فيه.

فالمعنى الأوّل يتوقّف ثبوته على مقدّمتين مسلّمتين عند العدليّة ، وقد فرغنا عن إثباتهما في غير الفنّ.

إحداهما : أنّ أفعاله تعالى معلّلة بأغراض لا تعود إليه لئلاّ يلزم الاستكمال في حقّه والعبث منه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وثانيهما : امتناع الترجيح بلا مرجّح وأنّه لا يكفي للترجيح إرادة الفاعل وتعلّق قصده بأحد المتساويين في نظر الفاعل وإلاّ لزم الترجّح بلا مرجّح وهو ضروري البطلان وبديهي الاستحالة.

فبعد إحراز هاتين المقدّمتين لا يعقل عدم تصديق العقل لأحكام الشرع ، فإنّه تعالى خبير في حكمه وحكيم في صنعه ، فلا مناص من إمضاء العقل حكم الشرع على الوجه المذكور.

وقد زعم بعض المعاصرين (2) : أنّ من قال بعدم كفاية الإرادة في الترجيح - كما في المقام - إنّما ينافي قوله في دفع ما ذهب إليه سليمان بن عبّاد الصيمري :

ص: 375


1- لم يرد « يكاد » في ( ش ).
2- انظر القوانين 1 : 194.

من أنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة أو الوضع إنّما هو لمناسبة ذاتية ، بأنّ إرادة الواضع مرجّحة ؛ فإنّ كون إرادة الواضع مرجّحة إنّما يناسب مذاق من يجوّز صدور الفعل عن الفاعل من غير اقترانه واستناده إلى الفاعل وقدرته ، وأمّا على المشرب الحق الأصفى الأتمّ الأكمل فلا يكفي في الترجيح تعلّق الإرادة بأحد المتساويين ، إذ الكلام إنّما ينقل إلى نفس الإرادة بعد تساوي نسبتها إلى الطرفين (1).

لكنّه لا يخفى عدم استقامة ما زعمه ، فإنّ الإرادة تارة قد يقال للقصد ، وأخرى للعلم بالأصلح. فعلى الأوّل لا يكفي في الترجيح كما في المقام ، وعلى الثاني فهي بعينها هي المصلحة الداعية للفعل وصدوره من الفاعل. والمراد من « الإرادة المرجّحة » في مقام الوضع هو هذا المعنى ، نظرا إلى منع انحصار المرجّح في الوضع فيما يرجع إلى ذات اللفظ ، والإتيان بلفظ « الإرادة » مجرّدا عن القيد المذكور إنّما هو الإشعار بتوغّل اللفظ وما يتعلّق به من الوضع ومرجّحاته في التوقيفيّة ، كما لا يخفى.

وأمّا المعنى الثاني (2) : فتارة يحمل على أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل تفصيلا أو فعلا ، وأخرى على أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل إجمالا أو بعد الاطّلاع على جهات الفعل. فعلى الأوّل لا شكّ في فسادها ، لمخالفتها للوجدان الصحيح. وعلى الثاني فلا شكّ في صحّتها ، لوجوه :

منها : أنّه لو لم يكن « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » صادقا لم يصدق قولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع » والتالي باطل فالمقدّم

ص: 376


1- العبارة في ( ط ) هكذا : إلى نفس الإرادة مساواة الفعل بالنسبة إليها أيضا.
2- يعني المعنى الثاني لقاعدة « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » راجع الصفحة : 375.

مثله. أمّا بطلان التالي ، فلما تقدّم في المقام الأوّل. وأمّا الملازمة ، فلأنّ عدم صدق قولنا : « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » يلازم عدم صدق عكسه ، وهو قولنا : « بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع » وكذب العكس يلازم صدق نقيضه ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، وهو قولنا : « لا شيء ممّا حكم به العقل حكم به الشرع » وقد ثبت أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وهو المذكور في التالي.

وأمّا القول بأنّ العقل يمكن أن لا يكون له حكم في مورد حكم الشرع فليس على ما ينبغي ؛ لأنّ الكلام إنّما هو بعد الاطّلاع على الواقع على ما هو عليه ، وعلى تقديره لا يعقل عدم الحكم ؛ لأنّ الأحكام منحصرة بالحصر العقلي في الخمسة ، كما لا يخفى.

ومنها : الكتاب العزيز ، قوله تعالى : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ... ) (1) وقوله - عزّ من قائل - : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ... ) (2).

وجه الدلالة : أنّ المستفاد من انحصار المأمور به في القسط والمحرّم في الفواحش هو ذلك ، كما هو ظاهر.

ومنها : الأخبار ، كما في خطبة أوصى بها أمير المؤمنين ابنه الحسن - عليهما أفضل الصلاة والسلام من الرحمن وأكملها - : من أنّه تعالى « لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح » (3) ، وقول الباقر عليه السلام في رواية سبق

ص: 377


1- الأعراف : 29.
2- الأعراف : 33.
3- نهج البلاغة : 396 ، الرسالة 31.

ذكرها « فإنّه لا يكره اللّه إلاّ القبيح » (1) فالأمر ظاهر لا ينبغي أن يرتاب فيه ذو مسكة.

نعم ، بقي هنا شيء ، وهو : أنّه قد تقدّم (2) أنّ الأشاعرة قد تمسّكوا في نفي الإدراك العقلي بآية التعذيب ؛ نظرا إلى أنّ انتفاء اللازم يساوق انتفاء الملزوم - وهو الحكم الشرعي - جريا على طريقة العدليّة من ثبوت الملازمة بعد ثبوت الحسن والقبح.

وتنظّر فيه الفاضل التوني : بأنّ ثبوت الحسن والقبح العقليّين لا يلازم وقوع التكليف ؛ نظرا إلى جواز التفكيك بين الحكمين (3) ، فاستند في دفع الملازمة بالآية المذكورة في أحد الوجهين.

ولقد أجاب عنها القوم بوجوه (4) :

منها (5) : أنّ الآية - على ما يشهد به مساقها - واردة في مقام نفي التعذيب في الدنيا قبل البعثة ، ويظهر ذلك بعد الرجوع إلى الآيات السابقة منها واللاحقة لها ، فعدم وقوع التعذيب في مستقلاّت العقل في الدنيا لا يقتضي عدم (6) ترتّب العقاب عليها ولو في الآخرة ، لوضوح أنّ نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ ولو في فرد آخر غير الأخصّ.

ص: 378


1- راجع الصفحة : 374 والرواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام.
2- راجع الصفحة : 332 و 372.
3- الوافية : 171 - 172.
4- انظر هداية المسترشدين : 440 ، والفصول : 342 ، ومناهج الأحكام : 141 و 147.
5- في ( ط ) : « الأوّل ».
6- في ( ط ) : لا يقضي بعدم.

ومنها (1) : أنّ غاية ما يستفاد من الآية نفي العذاب الفعلي ولو في الآخرة ، وهو لا ينافي الاستحقاق ، لمكان العفو. واستحقاق العقاب في المستقلاّت العقليّة ممّا لا يدانيه ارتياب.

واعترض عليه في الوافية : بأنّ الواجب ما يجوّز العقل ترتّب العقاب على تركه (2) ، وبعد ما عرفت من العفو - كما اعترفت به - لا يجوّز العقل ترتّب العقاب على المدركات العقليّة ؛ للقطع بصدق المخبر بالعفو.

والجواب عنه : أنّ تعريف الواجب بما ذكره إنّما هو اقتراح من نفسه - قدّس اللّه نفسه - فإنّ حقيقة الوجوب هو الطلب (3) الأكيد ، وهو أمر بسيط لا مدخل لتجويز ترتّب العقاب عليه فيه ، كيف! ولا نقول بمدخليّة الاستحقاق أيضا (4) في حقيقته.

وأمّا ما عرّفه بعضهم بما يترتّب على تركه الذمّ والعقاب (5) ، فهو تعريف باللازم ، وعلى تقديره فلا غائلة أيضا ؛ لأنّ تجويز ترتّب العقاب على تركه إنّما هو من حيث ذات الواجب مع قطع النظر عمّا عداه ، وهذا موجود في المقام وإن لم نجوّز ترتّب العقاب على تركه نظرا إلى امتناع تخلّف وعده سبحانه ، فإنّ عدم التجويز لعارض ليس بضائر ، كما لا يخفى.

ص: 379


1- في ( ط ) : « الثاني ».
2- الوافية : 172.
3- في ( ط ) زيادة : « الحتمي ».
4- لم يرد « أيضا » في ( ط ).
5- كما عرّفه المعتزلة حسب ما نقل عنهم العلاّمة في نهاية الوصول : 7 ، وعرّفه شيخنا البهائي في الزبدة : 37 ، بأنّه ما يستحق تاركه لا إلى بدل ذمّا.

فإن قلت : إنّ من جملة ما يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية هو وعد اللّه سبحانه على الطاعة ووعيده على ارتكاب المعصية ، بل هذا من أعظم ألطافه - جلّت عظمته - على العباد ، فالإخبار بالعفو إنّما يوجب التهاون في مدركات العقول ويورث الإغراء في أفاعيلهم والذهول ، فربما يفرط المكلّف فيما تشتهيه نفسه من ارتكاب المحرّمات العقليّة وترك واجباتها اتّكالا على عفوه تعالى واعتمادا على فضله ، وذلك ينافي ما هو المعلوم من طريقة الشرع من الحثّ على فعل الواجبات والتحريض على ترك المحرّمات ، فهو نقض لغرضه تعالى ؛ وعلى هذا فلا وجه لحمل الآية على الإخبار بالعفو ، بل لا بدّ من حملها على نفي الحكم قبل بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله ، فيتمّ ما يراه المستدلّ من نفي الحكم الشرعي في موارد استقلال العقل.

قلت : مع أنّ ذلك لازم على تقدير عدم الحكم الشرعي في موارد حكم العقل أيضا على ما تنبّه به المستدلّ أيضا (1) في بيان وجه ترديده - كما لا يخفى على من لاحظ كلامه - فهو منقوض :

أوّلا : بالموارد التي وعد اللّه تعالى بالعفو عنها (2) فيها ، كما فيمن ترك الكبائر ، فإنّه عفو في صغائره ، على ما يشهد به الكتاب العزيز : من قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ) (3) الآية ، وكما في الظهار (4) ، فإنّ ما دلّ على حرمته

ص: 380


1- لم يرد « أيضا » في ( ش ).
2- لم يرد « عنها » في ( ش ).
3- النجم : 32.
4- المجادلة : 2.

قد دلّ أيضا على كونه معفوّا عنه ، كما لا يخفى (1). وكما في الصبيّ المراهق ، بناء على ما هو التحقيق : من ثبوت الأحكام العقليّة في حقّه دون الأحكام الشرعيّة. إلاّ أنّه لا يرد نقضا عليه ، على ما لا يخفى فالإغراء المذكور لازم في هذه الموارد ، فما هو الجواب عنها هو الجواب عنه في المقام.

وقد يتخيّل : أن التوبة أيضا ممّا يرد نقضا على المقام. وليس كذلك (2) ، فإنّ فيها حالة ترتدع النفس بها عن القبائح حقيقة ، كما هو ظاهر على من له شمّ روائح المعاني. ولا فرق في ذلك بين أن يكون العفو معلّقا على إيجاد سبب كالبكاء على الحسين عليه السلام أو لم يكن ؛ فإنّه ربما يتوهّم الجاهل ويغترّ بفعل القبائح نظرا إلى عدم تخلّف وعده.

وثانيا : أنّ الأحكام العقليّة من ضروريّات جميع الملل والأديان ، فالمكلّف يعلم بتحريمه في الشريعة قبل اطّلاعه على الوعد على عفوها ، فلا غرو ولا اغترار.

وثالثا : أنّ الآية ممّا لا ينبغي الاستناد إليها في اعتقاد العفو ، نظرا إلى عدم كونه من الأحكام الشرعيّة وعدم إفادة أصالة الحقيقة في غير الأحكام الشرعيّة شيئا. نعم ، لو حصل العلم بالعفو عنها ولا أقلّ من الظنّ الشخصي تمّ ما ذكروا (3) وأنّى لها لإفادة (4) العلم لأمثال المكلّفين الذين يغترّون بالعفو (5).

ص: 381


1- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
2- في ( ط ) : « ليس على ما ينبغي ».
3- في ( ط ) : « ما ذكر ».
4- في ( ط ) : « في إفادة ».
5- في ( ط ) زيادة : « ونحوه ».

نعم ، يحصل العلم بذلك من أهل اللّه ، وهم لا يعصون اللّه طرفة عين (1)!

ومنها (2) : ما أجاب عنها العلاّمة في التهذيب : من أنّ دلالة الآية على نفي الملازمة ظاهرة ، وقد سبق في مقام إثباتها ما يفيد القطع بها ، والظاهر يدفع بالقاطع ، فلا بدّ من تأويلها وتنزيلها على غير محلّ الكلام من تخصيص ونحوه (3). وتبعه في ذلك المحقّق القمّي (4).

واعترض عليه بعض الأجلّة بعدم استقامة هذا الجواب (5) على إطلاقه ، فإنّ (6)

ص: 382


1- في ( ط ) بدل عبارة « نعم يحصل - إلى - طرفة عين » ما يلي : اللّهمّ إلاّ للمتخلين عن جلباب البشريّة والمتخلّقين بأخلاق الربوبيّة ، وهم لا يعصون اللّه فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به ولو لم يجزهم بالجنة ويعذّبهم في النار. وبالجملة : فالعالم بالعفو ممّن له رتبة عالية لا يغترّ بذلك ، والمغترّ لا يعلم. والاستناد إلى ما لا يفيد العلم ولا الظنّ في الاغترار إنّما هو كمن يغترّ على اللّه تعالى بلا احتمال أيضا. فهنا إنّما يشبه بما أفاده الشيخ في كفاية التقليد في الاعتقادات للعوام بعد ما أورد على نفسه : بأنّ القول به إنّما يوجب اغترار العوّام وعدم الفحص والاجتهاد في العقائد. فأجاب : بأنّ العلم بالكفاية لا يحصل إلاّ لمن جاس خلال الديار في تحصيل المطالب والأنظار ، وهو مجتهد قطعا فلا غرو. ومن لا يعلم بالكفاية فلا بدّ له من الاجتهاد فلا اغترار. [ راجع عدّة الاصول 2 : 731 ]. وعلى مثل هذا الجواب قد بنينا في دفع الإشكال الوارد على العفو في ثلاثة أيّام في ربيع الأعياد والغدير ونحوه ؛ فتدبّر.
2- في ( ط ) : « الثالث ».
3- لم نعثر عليه في التهذيب ولا في غيره ، نعم هو موجود في شرح التهذيب للعميدي : 19.
4- القوانين 2 : 6.
5- في ( ش ) : « بعدم استقامته ».
6- في ( ط ) : « فقال ».

استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي - واقعيّا كان أو ظاهريّا - مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي من جواز تعويله عليه - إلى أن قال (1) - : والجواب المذكور إنّما يقتضي منع دلالتها على القسم الأوّل (2) ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الجواب المذكور في غاية المتانة وبمكان من الواقع (3) ؛ فإنّك قد عرفت سابقا في مسألة القطع : أنّ حجّيّة العلم غير مجعولة ، بل هو بنفسه طريق إلى الواقع وليس بواسطة في ثبوت أحكام متعلّقه له ، إذ الأحكام ممّا تترتّب عليه في مرتبة ذاته ، والعلم متأخّر عن المعلوم ولا يعقل تأثير المتأخر في المتقدم وإلاّ يلزم تقديم المتأخر أو تأخير المتقدّم.

بل التحقيق : أنّ القطع إنّما هو مرآة لثبوت أحكام متعلّقه عليه ؛ ولهذا لا يحتاج في إثباتها وترتّبها (4) عليه إلى شيء آخر عدا دليل الواقع ، فإنّ الكبرى في قياس يطلب فيه إثبات التحيّز مثلا للإنسان هو قولنا : « كلّ حيوان متحيّز »

ص: 383


1- ورد في ( ط ) مكان « إلى أن قال » نصّ عبارة الفصول : ولهذا يصحّ عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده : لا تعوّل في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر في ذلك على ما يصل منّي إليك بطريق المشافهة أو المراسلة. ومن هذا الباب ما أفتى بعض المحقّقين : من أنّ القطّاع الذي يكثر قطعه من جهة أمارات لا توجبه يرجع عادة إلى المتعارف ولا يعوّل على قطعه الخارج منه - إلى أن قال - ولكن العقل قد يستقلّ في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ، وقد لا يستقلّ ولكن يبني على التعويل عليه في الظاهر ما لم يثبت خلافه. والاحتجاج بالآية على تقدير دلالتها إنّما يقتضي منع حجّية القسم الثاني.
2- الفصول الغروية : 343.
3- لم يرد « وبمكان من الواقع » في ( ش ).
4- في ( ط ) : « في إثبات الآثار وترتيبها ».

ولا دخل للعلم في ثبوت التحيّز للأصغر سوى أنّه طريق إليه ومرآة يحكي عنه ، وكذا لا مدخليّة لإثبات النجاسة للبول في العلم بالبوليّة (1) ؛ ولذا يقال في قياس يطلب فيه (2) ذلك وكلّ بول نجس ، بدون توسيط العلم ومدخليّته في الكبرى ، إلاّ في كونه جهة للقضيّة كالضرورة والدوام ونحوهما ، وعلى هذا فلا يعقل تخصيص الاعتبار ببعض أقسامه دون آخر ، لعدم مدخليّته في شيء ، وإلاّ يلزم خروج الواقع (3) عن كونه واقعا ، وقد أجمع العقلاء على امتناع تخلّف الذات والذاتي عن صاحبها (4) فالقول بالتفصيل بين أقسام العلم ثم القول بحجّيته ظاهرا لا واقعا ممّا لا يصغى إليه (5) لا ظاهرا ولا واقعا.

وقد ظهر من ذلك : أنّ ما نسب (6) إلى بعض المحقّقين : من الفتوى بعدم اعتبار قطع القطّاع أيضا غير سديد كما مرّ مفصّلا. نعم ، لو أخذ الشارع العلم جزءا لموضوع أو جعله موضوعا لصحّ تخصيص ذلك بما أراده بحسب الخصوصيّات المعتبرة في أنفس الأشياء في حدود ذواتها ، كما لا يخفى. فعلى ما ذكرنا يظهر أنّه لو قيل للقطّاع : « لا تعمل بقطعك » فلا بدّ من أن يكون هذا إرشادا له إلى زوال قطعه. أو يقال له : لا تعمل بقطعك فيمن لا يعرف مناقضة ذلك للعلم ويعتقد صحّة المنع ، كما في حقّ بعض من لا يلتفت إلى شيء من العوام (7).

ص: 384


1- لم ترد عبارة « وكذا لا مدخلية - إلى - بالبولية » في ( ش ).
2- في هامش ( ش ) زيادة : « إثبات النجاسة ».
3- في ( ط ) : « سلب الواقع ».
4- لم ترد عبارة « وقد أجمع - إلى - صاحبها » في ( ش ).
5- من هنا إلى قوله : « ومنها » لم يرد في ( ش ).
6- نسبه صاحب الفصول كما مرّ.
7- من بعد قوله : « ممّا لا يصغى إليه » إلى هنا لم يرد في ( ش ).

ومنها (1) : ما ذكره غير واحد (2) : من أنّ المراد من « الرسول » (3) أعمّ من الظاهري والباطني ، فيصير كناية عن إتمام الحجّة ولو بالعقل ، والتعبير ب- « الرسول » إنّما هو رعاية للغالب ، حيث إنّ التبليغ به غالبا.

ومنها (4) : أنّ البعث الذي هو غاية في التعذيب حاصل. أمّا إذا كان المراد مجرّد البعث - ولو على تقدير خلوّه عن التبليغ - فلما عرفت. وأمّا إذا كان المراد به التبليغ فهو أيضا حاصل ؛ لما ورد عنهم عليهم السلام : من صدور كلّ حكم عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله حتى أرش الخدش ، وهو مخزون عندهم عليهم السلام (5).

لا يقال : إنّ المراد بالتبليغ هو التبليغ التفصيلي ، كما هو ظاهر من مساق الآية الواردة في مقام إتمام الحجّة.

لأنّا نقول : لا نسلّم ظهور ذلك من الآية ، بل الغاية تسليم وجوب اللطف على حسب ما يتعارف فيه ، كما يظهر من كيفيّة تبليغ الأنبياء والأوصياء من الاكتفاء به ولو نوعا ، فإنّه ربما يمنع الإيصال إلى جميع الأشخاص عادة ويمنع عنه المانع (6) ، ولتحقيق المقام محلّ آخر (7).

وقد يجاب بوجوه ضعيفة أخر لا مجال لذكرها وتزييفها ، فتدبّر (8).

ص: 385


1- في ( ط ) : « الرابع ».
2- كالمحقّق القمي في القوانين 2 : 25 ، والنراقي في المناهج : 141 ، 147.
3- في ( ش ) زيادة : « في الآية ».
4- في ( ط ) : الخامس.
5- انظر الكافي 1 : 238 ، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ...
6- العبارة في ( ط ) هكذا : « فإنّه ربما يمنع من الإيصال إلى جميع الأشخاص مانع ».
7- لم يرد عبارة « ولتحقيق المقام محلّ آخر » في ( ش ).
8- لم ترد عبارة « وتزييفها فتدبّر » في ( ش ).

وممّا استند إليه الفاضل التوني لدفع الملازمة (1) جملة من الأخبار ، مثل ما رواه الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ اللّه يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب ... » (2).

وجه الدلالة : أنّ قوله : « أرسل » عطف على الموصول ، لعدم الاعتداد بالإرسال لولاه ، لتمام الحجّة بدونه ، فيدلّ على أنّ اللّه تعالى لا يحتجّ على العقل وحده ، وهو المطلوب. ولعلّ المراد من « المعرفة » ما بها يتمكّن من تمييز الحقّ عن الباطل كما يشهد به (3) جملة من الأخبار - كما في الكافي (4) - : من أنّ حجّة اللّه تعالى على الخلق هو النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، وحجّته فيما بينه وبينهم هو العقل لتميّز الحقّ عن الباطل ، فيدلّ على انحصار الحجّة من اللّه تعالى في النبي صلى اللّه عليه وآله والشرع.

والجواب حمل الرواية على الغالب ، حيث إنّها واردة في مقام بيانه ، والغالب عدم تماميّة الحجّة إلاّ بالشرع ، ومن ذلك الأخبار الدالّة على عدم التكليف إلاّ بعد البعثة ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة (5).

ومجمل الجواب : حصول البعثة ، فلا بدّ من ترك ما يستقلّ العقل بقبحه وفعل ما يستقلّ العقل بحسنه.

ص: 386


1- الوافية : 172.
2- الكافي 1 : 164 ، الحديث 4.
3- في ( ط ) : « يشعر بذلك ».
4- الكافي 1 : 25 ، الحديث 22.
5- انظر كمال الدين وتمام النعمة : 508 ، ذيل الحديث 37 ، وعلل الشرائع 1 : 120 ، الباب 99 ، الحديث الأوّل ، والتوحيد : 45 ، الباب 2 ، الحديث 4.

ومن ذلك أيضا الأخبار الدالّة على عدم جواز خلوّ الزمان عن حجّة ليعرّفهم ما يصلحهم وما يفسدهم (1).

والجواب : أنّ « وجوب نصب الإمام للمستقلاّت العقليّة » أوّل الكلام ، والسيّد المرتضى (2) والطبرسي (3) ينكرانه ، بل وجماعة وافرة من العلماء أيضا (4).

ومن ذلك قوله : « كلّ شيء مطلق » (5).

وجوابه عدم نهوضه في المستقلاّت العقليّة كما مرّ.

ومن ذلك ما رواه الكليني عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : « بني الإسلام على خمسة - إلى أن قال - : أما إنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه ، فيكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان على اللّه حقّ في ثوابه » (6) ووجه الدلالة ظاهر بعد عدّ التصدّق في عداد ما ذكر ، فإنّه من قبيل الإحسان الذي هو (7) من المستقلاّت العقليّة.

والجواب : أنّ ذلك (8) مبنيّ على الحثّ والمبالغة في معرفة وليّ اللّه ، ولا دلالة له على عدم حجّية المدركات العقليّة. وأمّا التصدّق فبقرينة الحجّ

ص: 387


1- انظر الكافي 1 : 178 ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة.
2- انظر الذريعة 2 : 824 و 700 - 701.
3- انظر مجمع البيان 3 : 404 ذيل الآية الشريفة ، ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) .
4- انظر العدّة 2 : 741 - 746 ، ومناهج الأحكام : 146.
5- الوسائل 4 : 917 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، الحديث 3.
6- الكافي 2 : 19 ، الحديث 5.
7- لم ترد عبارة « من قبيل الإحسان الذي هو » في ( ط ).
8- في ( ش ) : « عن ذلك ».

والصوم والصلاة محمول على الواجب منه كالزكاة الواجبة (1) ، وإلاّ فليس مطلق التصدّق ممّا بني عليه الإسلام.

ويمكن أن يقال : إنّ غاية ما يستفاد من الحديث عدم الثواب إلاّ بعد دلالة ولي اللّه ، ويمكن الالتزام بذلك حتّى في الواجبات العقليّة ، كما يراه بعضهم من عدم استقلال العقل في لزوم الثواب في الأشياء الحسنة وإن كان يستقلّ في قبح الأشياء القبيحة ولزوم العذاب على تقديرها ، لكنّ الإنصاف فساد هذا الجواب ، كما يشعر بذلك اتّفاق المتكلّمين على خلافه (2).

واستند الفاضل التوني أيضا (3) : بأنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا : بأنّ التكليف ممّا يستقلّ به العقل لطف ، والعقاب بدون اللطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لا يرد به نصّ من الشارع وإن كان قد حكم به العقل.

وأجاب المحقّق القمي (4) - تبعا للسيّد الكاظمي (5) - بمنع وجوب كلّ لطف استنادا إلى أنّ كثيرا من الألطاف مندوبة ، لوضوح أنّ التكاليف المندوبة أيضا لطف في المندوبات العقليّة أو مؤكّدة للواجبات العقليّة. وربّما يقال (6) : باستشعارهم ذلك من كلام المحقّق الثاني في باب النيّة (7).

ص: 388


1- لم يرد « الواجبة » في ( ش ).
2- لم ترد فقرة « ويمكن أن يقال ... إلى هنا » في ( ش ).
3- الوافية : 173.
4- القوانين 2 : 8.
5- الوافي في شرح الوافية ( المخطوط ) ، أوائل بحث الأدلة العقلية ذيل قول الماتن ، الثالث : ما عليه الأصحاب والمعتزلة.
6- انظر الفصول : 345.
7- جامع المقاصد 1 : 202.

وفي دلالته على ما ذكر تأمّل ، ومن أراد الاطّلاع عليه ، فراجعه (1).

وفيه : أنّ الجواب المذكور ممّا لا يوافقه البرهان ، فإنّه هدم لما أسّسه أكابر المتكلّمين في جملة من الأصول الدينيّة. فلعلّ المانع المذكور قد يتسرّى منعه إلى عدم وجوب اللطف في (2) بعث الأنبياء.

وقد أفاد مثل ذلك أيضا في ردّ مسلك الشيخ في الإجماع (3) ، ونحن لم نحصّله إلى الآن ؛ ولعلّ المنشأ في ذلك ما قد اشتهر بينهم : من أنّ اللطف ما يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية فيما لم يصل إلى حدّ الإلجاء ؛ وصدق ذلك في مثل المقام أدّاهم إلى مثل هذه المقالة ، مع أنّ فسادها ممّا لا يخفى. والعجب! أنّهم إنّما أخذوا بظاهر التحديد مع (4) صراحة الدليل على وجوب اللطف بخلافه ، حيث علّل بلزوم نقض الغرض ، كما مثّله جماعة : بأنّ من أراد ضيافة شخص وتعلّق غرضه بها ولو بواسطة عوده إليه وعلم بأنّه ما لم يفعل بالنسبة إليه نوع إكرام - كما إذا أظهر طلب قدومه في ضمن رقعة أو إرسال أمين من امنائه إليه - أنّه لم يجبه يجب عليه حينئذ أن يفعل ما يتوقّف حصول غرضه عليه تحصيلا للغرض ، فإنّ نقضه من العاقل الحكيم يعدّ قبيحا ولو قطعنا النظر عن التعليل (5) فالتحديد المذكور أيضا لا يدلّ على مرادهم ، حيث إنّ المراد إيصال العباد إلى المصالح ،

ص: 389


1- لم ترد عبارة « استنادا - إلى - فراجعه » في ( ش ) وورد بدلها : الخ.
2- لم يرد « اللطف في » في ( ش ).
3- القوانين 1 : 353.
4- في ( ش ) بدل « مع » : « على ».
5- لم ترد فقرة « كما مثّله - إلى - عن التعليل » في ( ش ) ، وفي هامشها ما يلي : « كما مثّلوا له بمن أراد الضيافة بشخص فلا بدّ له ... ».

ولا شكّ أنّ اللطف أصلح وفعل الأصلح واجب عليه ، فلا ينقسم إلى الواجب والمندوب ، إلاّ أن يراد بالوجوب ما فيه المصلحة الموجبة للّطف مع قطع النظر عن لزوم فعل الأصلح عليه تعالى (1) وبالجملة ، فالتحقيق منع كونه لطفا.

قال المحقّق الطوسي : فإنّ من عدم التكليف في الواجبات العقليّة لا يلزم نقض الغرض ، لاستقلال العقل بلزوم الإتيان. ولو سلّمنا كونه لطفا فيكون واجبا ، فهو صادر ولا دلالة فيه على مقصود الخصم ، إذ التبليغ حاصل نوعا ولو إجمالا ، والبيان موجود فالعقاب صحيح (2). كذا أفاد ، إلاّ أنّه لا يخلو من ضعف ، حيث إنّ كلام المستدلّ في قبح العقاب بدون اللطف وحصول اللطف وإن كان يصحّح العقاب ، إلاّ أنّه خارج عن فرض المستدلّ ، كما لا يخفى.

ص: 390


1- لم ترد عبارة « إلاّ أن يراد - إلى - عليه تعالى » في ( ش ).
2- لم نعثر عليه.

أصل

اشارة

أصل (1)

هل الحسن والقبح ذاتيّان للأشياء ، أو بالصفات اللازمة ، أو يفصّل بين الحسن والقبح ، ففي الأوّل يكفي انتفاء الجهة المقبّحة وفي الثاني بالصفات اللازمة ، أو بالوجوه والاعتبارات ، أو يختلف بحسب اختلاف الأشياء ، ففي البعض ذاتي وفي آخر اعتباري وفي ثالث بالصفات اللازمة؟ وجوه بل أقوال :

فقيل : بأنّهما ذاتيّان (2). ويحتمل أن يراد به أمران :

أحدهما : أن يكون نفس ذات الشيء كافية في انتزاع الحسن والقبح منها من غير حاجة إلى ملاحظة حيثيّة خارجة عنها بعد وجودها ، كما في سائر لوازم الماهيّات كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فإنّ بعد ملاحظة الحيثيّة التعليليّة المقيّدة لوجودها يكفي في انتزاع الزوجيّة منها ، أي ذاتها.

وثانيهما : أن يكون الذات مقتضية للحسن والقبح ، فيتوقّف انتزاعها عنها إلى عدم المانع في الخارج. فعلى الأوّل إمّا أن يكون المراد ب- « الذات »

ص: 391


1- في ( ش ) : « هداية ».
2- نسبه المحقّق النراقي في المناهج : 142 إلى ظاهر السيّد الداماد في السبع الشداد ، انظر السبع الشداد المطبوع ضمن « اثنى عشر رسالة » : 42 - 43 ، وحكاه في هداية المسترشدين : 440 عن قدماء المعتزلة ، وانظر المستصفى 1 : 27 و 55 - 56 ، والإحكام للآمدي 1 : 120 ، ونسبه في شرح المختصر : 70 إلى المعتزلة والكراميّة والبراهمة.

ذوات كلّيّات الأجناس العالية والمتوسطة والأنواع الحقيقيّة والأصناف ، أو المراد ذوات المصاديق الخارجيّة والجزئيّات الحقيقيّة ولا يجري هذا التقسيم في الثاني ، إذ لا يعقل أن يكون الجزئي الحقيقيّ مقتضيا للحسن ، لجواز انقسامه باعتبار وجود المانع وعدمه ، والمفروض كونه جزئيّا حقيقيّا ، هذا خلف.

والظاهر أن المراد هو الأول من الأول كما يرشدك إليه ما اورد على القائل بالذاتيّة : من عدم جواز النسخ على تقديرها (1) وجواب بعض أصحاب هذه المقالة بأنّ النسخ من جهة تعارض الذاتيّين (2) ، فإنّ كلاّ من الإيراد والجواب صريح في أنّ المراد هو أنّ الذات تكفي في انتزاع الحسن والقبح. وكذا يشعر بذلك ما اورد عليهم : من لزوم التناقض في الصدق الضارّ والكذب النافع (3) ؛ مضافا إلى أنّ احتمال أن يكون الذات مقتضية للحسن والقبح فاسد من جهة أخرى ؛ لأنّ عدم المانع إن لوحظ فيهما على وجه يصير منوعا فينقلب إلى الأوّل ، وإلاّ فلا يفترق عن القول بالوجوه والاعتبارات.

ويحتمل ضعيفا أن يراد بالذات ذوات الجزئيّات أيضا ، إذ ليس المراد : أنّ الحسن والقبح في الكلّ كذلك ، بل قد يكون ذات المصداق الخارجي مقتضيا للحسن أيضا ، فلا ينتقض بالعلم ، لعدم مدخليّة صدق زيد في حسن كلّي الصدق ، كما لا يخفى.

ص: 392


1- انظر هداية المسترشدين : 440 ، والمناهج : 142.
2- المناهج : 142.
3- انظر الإحكام للآمدي 1 : 120 وما بعدها ، وهداية المسترشدين : 440.

وقيل (1) بالصفات اللازمة (2). ويحتمل أن يراد بها ما هي لازمة للذوات الكلّيّة والجزئيّة (3). ويحتمل أن يراد بها الصفات التي هي بمنزلة الفصول للأجناس. والظاهر أنّ المراد هي الصفات اللازمة لنفس (4) الماهيّات على وجه يكفي في انتزاعها تحقّق الماهيّة ، فعلى القول بالذاتي نفس الحسن والقبح بمنزلة تلك الصفات. وعلى هذا القول هذه الصفات واسطة فيه ، كما لا يخفى.

وقيل بالتفصيل بين الحسن والقبح فيكفي في الأوّل انتفاء جهة مقبّحة ، وفي الثاني بالصفات اللازمة (5). ويحتمل أن يكون المراد من « الحسن » عدم الحرج في الفعل. وإليه ينظر ما قد يوجد في كلمات بعضهم : من أنّ الحسن ما لا حرج في فعله (6). ويحتمل أن يراد أنّ الحسن في الفعل إنّما هو بحسب اقتضاء الذات ، فيكفي فيه انتفاء جهة مقبّحة ، بخلاف القبح فإنّه بالصفات اللازمة (7) على أحد الوجوه المتقدّمة فيها. وهذا هو الظاهر.

ص: 393


1- عطف على قوله : فقيل بأنّهما ذاتيّان.
2- ذهب إليه جماعة أخرى من المعتزلة ، انظر الإحكام للآمدي 1 : 120 ، والمختصر وشرحه : 70 ، وشرح التجريد للقوشجي : 338 ، وفواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : 27.
3- في ( ط ) : « أو الجزئيّة أيضا ».
4- في ( ش ) : لا نفس.
5- نسبه في فواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : 27 إلى قوم من المعتزلة ، وانظر الإحكام للآمدي 1 : 120 أيضا.
6- قاله العضدي في شرح المختصر : 70.
7- لم يرد « اللازمة » في ( ش ).

وقيل بالوجوه والاعتبارات (1).

والفرق بين الوجوه والاعتبار - على ما يساعده الاعتبار وإن كان لا يظهر من موارد كلماتهم - هو : أنّ المراد بالأوّل هي العناوين المنتزعة من ذوات الأفعال التي لا يمكن تخلّف الفعل عنها ، فلا بدّ من أن يقع على واحد منها كالتأديب والتعذيب (2) في الضرب ، والإنجاء والإضرار في الكذب ونحوهما. والمراد بالاعتبار : هو الأوصاف اللاحقة للأفعال باعتبار ملاحظة المعتبر على وجه لو لم يكن الاعتبار لما كانت تلحق بالفعل ؛ مثلا قد يكون الخروج عن البلد ممّا لا يقضي به شيء ، إلاّ أنّه بعد ملاحظة خروج الرفقة والرئيس قد يوجد في نفس الخروج صفة بعد الاعتبار تقضي بالخروج ، كما لا يخفى. وقد يصير المثال من قبل الأوّل ؛ والأمر سهل.

ثم الفرق بين هذا القول والقول الأوّل ظاهر ، فإنّه على الأوّل مورد الحسن تمام الفعل والوجه ، وعلى الثاني نفس الفعل باعتبار الوجه.

وأمّا الفرق بين هذا القول والقول بالصفات اللازمة أيضا ظاهر باللزوم وعدمه.

ثم إنّ أصحاب هذا القول بين معمم في الوجوه والاعتبارات حتّى العلم والجهل ، سواء كانا متعلّقين بالصفة أو الموصوف. ومخصّص بالموصوف فقط. ومخصّص بغيرهما مطلقا.

ص: 394


1- قاله الجبائيّة كما في المختصر وشرحه : 70 ، وفواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : 27.
2- في ( ط ) بدل « التعذيب » : « الإهانة ».

فعلى الأوّل ما لم يعلم بالظلم وبقبحه لا يكون قبيحا. وعلى الثاني لو جهل بالظلم لا يكون قبيحا. وعلى الثالث فهو قبيح مطلقا.

وقيل باختلاف الموارد (1) ، فربّما يكون ذاتيّا كما في الظلم والشرك وشكر المنعم والخضوع لوجهه الكريم ، وربّما يكون بالوجوه والاعتبار كما في التأديب والتعذيب (2) وغير ذلك كما في اعتبار (3) مطابقة العمل بقول الأعلم - مثلا - فإنّ هذه المطابقة ليست من العناوين المتّحدة مع الفعل في الخارج إلاّ اعتبارا. وهذا هو الحقّ الحقيق بالتصديق الذي لا محيص عنه.

ولعلّ هذا ما ذهب إليه الإماميّة بأجمعهم على حسب ما يظهر منهم في موارد كلماتهم ومطاوي تحقيقاتهم ؛ ولذا (4) لا يلتزمون بالنسخ في جميع الأحكام كما صرّح به الشيخ في العدّة (5) والعلاّمة في النهاية (6) وجماعة من متكلّمي الإماميّة (7) ، كما لا يخفى على المتتبّع (8) ، لكن ينبغي أن تخصّص الوجوه والاعتبار بغير العلم والجهل المتعلّقين بالصفة ، إذ لولاه لزم الدور الباطل (9) فإنّ العلم بالقبح

ص: 395


1- مناهج الأحكام : 142.
2- في ( ط ) بدل « التعذيب » : الإهانة.
3- لم يرد « اعتبار » في ( ش ).
4- في ( ط ) : « ولهذا تراهم ».
5- انظر العدّة 2 : 499.
6- نهاية الوصول : 217.
7- لم نعثر عليه.
8- لم ترد عبارة « وجماعة من متكلّمي الإمامية كما لا يخفى على المتتبّع » في ( ش ).
9- لم يرد « الباطل » في ( ش ).

متأخّر عنه لكونه متعلّقا به ، فلو كان العلم المتأخّر عنه مؤثّرا فيه قبحا (1) لزم تأثير المتأخّر في المتقدّم ، فلا بدّ من فرضه مقدّما ؛ وعلى تقديره يلزم تقدّم العلم على وجوده وتأخّر القبح عن وجوده ، وهو باطل جدّا.

بخلاف العلم بالموصوف ، إذ لو لم يكن الموصوف معلوما لما كان وقوعه على وجه الاختيار ، فإنّه ممّا علم ضرورة احتياج الفعل الاختياري إلى العلم والإرادة ، فعلى تقدير الجهل يكون الفعل اضطراريّا ومن المقطوع به المجمع عليه عدم اتّصاف الفعل الاضطراري بالحسن والقبح.

فالعلم بالموصوف لا بدّ وأن يكون ممّا له دخل بالحسن والقبح على هذه الوجوه (2) دون العلم بالصفة ؛ لما عرفت ، مضافا إلى لزوم التصويب ، إذ الظلم في حقّ العالم بقبحه حرام وفي حقّ الجاهل مباح ، وما هو إلاّ اختلاف الأحكام في حقّ العباد من غير اندراجهم تحت عنوان يخصّهم بالعلم والجهل.

تنبيهان :

الأوّل : منشأ (3) هذا النزاع بينهم هو ما قد تقرّر عند المتكلّمين : من أنّ النزاع في أنّ اختلاف الأفعال هل هو بواسطة اختلافها في حدود أنفسها وذواتها ، أو لأمور خارجة عنها؟ كالنزاع بين أرباب الصنعة في اختلاف الجواهر والفلزّات ، فيمكن إرجاع الاختلاف في المقام إلى اختلاف أقوالهم هناك ، فمن يرى أنّ شرب الخمر ماهيّة متميّزة عن غيرها لا تختلف لوقوعها في حالتي

ص: 396


1- في ( ط ) : « مؤثّرا في قبحه ».
2- في ( ط ) : « هذا الوجه ».
3- في ( ط ) : « لعلّ منشأ ».

المرض والصحّة ، بل ذلك أمر خارج عنها ، يقول : إنّ الحسن والقبح ليسا بالذات بل يلحقان الأفعال باعتبار الصفات الخارجة. ومن قال : بأنّ الوقوع في حالتي الصحّة والمرض منوّع للشرب يقول : بأنّ القبيح هو الشرب الواقع في حالة الصحة ، وهكذا ...

الثاني : قد ذكروا في ثمرة النزاع امورا لا يترتّب شيء منها على قول من الأقوال ، أحسنها في المقام أمران :

أحدهما : أنّ القول بالوجوه والاعتبار على تقدير التعميم إلى العلم المتعلّق بالصفة لازمه التصويب ، وباقي الأقوال لازمها التخطئة.

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ (1) أصحاب هذه المقالة الباطلة لا يقولون بالحكم الواقعي ولا الحسن والقبح ، بل لازم القول بالتصويب حدوث الحكم بواسطة الظنّ. ومن هنا قد يجاب عن إشكال الدور عليهم : بأنّ المراد الظنّ بما هو أشبه بالقواعد والأصول ، كما قرّره العضدي (2). فحينئذ إنّما (3) هو نوع آخر من التصويب كما هو اللازم من مذهبنا : من ثبوت الأحكام الواقعيّة والحسن والقبح ، كما مرّ.

وأمّا التصويب المشهور عنه أهله فلا ملازمة بينه وبين هذا القول بل قد يخالفه ؛ لأنّ مبنى التصويب على عدم الحكم والحسن والقبح ، ومبنى هذا القول على وجودها. ومن هنا يعلم أن الجواب الذي أورده العضدي لا ينهض جوابا هناك.

ص: 397


1- في ( ش ) : « وفيه أنّ ».
2- انظر شرح المختصر : 470.
3- في ( ط ) بدل « فحينئذ إنّما » : « نعم ».

وثانيهما : أنّ لازم القول بالذاتي جواز اجتماع الأمر والنهي في مثل الصدق الضارّ والكذب النافع ، لعدم جواز تخلّف الذاتي.

وضعفه ظاهر أيضا ، لأنّ القائل بالذاتيّة إن قال : بأنّها مقتضية للحسن والقبح فلا ملازمة أصلا (1) ؛ لاحتمال كون الضرر مانعا عن الحسن ، والنفع مانعا عن القبح ، فلا حسن ولا أمر ، فلا يجتمع الأمر والنهي. وإن قال : بأنّها علّة تامّة للانتزاع كما مرّ (2) ، فلازمه اجتماع الحسن والقبح معا ، لامتناع تخلّف اللازم عن الملزوم ، إلاّ أنّه لا ملازمة بينه وبين الاجتماع ؛ لأنّ الحسن والقبح إنّما يوجبان الأمر (3) والنهي لو لم يكن هناك جهة خارجة توجب قبح الحسن وحسن القبيح بالعرض كما في موارد اجتماعهما ، فإنّ الكذب النافع قبيح بالذات وحسن بالعرض ، ولا يؤثّر مثل هذا الحسن والقبح في الأمر والنهي ؛ لأنّه في قوّة الخارج عن تحت القدرة والاختيار. ولو صحّ هذه الثمرة فلازمه جواز الاجتماع المسبّب من الأمر أيضا ، مع أنّ البداهة تشهد بخلافه.

هذا تمام الكلام في مسألة الحسن والقبح.

ص: 398


1- لم يرد « أصلا » في ( ش ).
2- لم يرد « كما مرّ » في ( ش ).
3- في ( ش ) : « بالأمر ».

أصل

اشارة

أصل (1)

اختلف الآراء في أنّ الأصل في الأفعال الاختياريّة التي لا ضرورة فيها عقلا هل هو الإباحة أو الحظر؟ على أقوال :

وقبل الخوض في نقلها ونقدها ينبغي رسم أمور :

الأوّل :

أنّه قد استصعب بعضهم (2) الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الآتية : من أنّ الأصل العملي في مقام الشكّ في التكليف - على حسب اختلاف موارده - هو البراءة أو الاحتياط ، زاعما أنّ عنوان إحدى المسألتين مغن عن الأخرى ، إمّا لعموم إحداهما ، وإمّا لاتّحادهما.

وليس على ما زعم ولا على تلك المكانة من الصعوبة ، فإنّ الفرق بين المقامين في منار.

أمّا أوّلا : فلأنّ جهة عنوان البحث في المقام تغاير الجهة المعنونة في ذلك المقام.

وبيان ذلك : انّ الأشاعرة بعد ما نازعوا مع العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين في إثبات الحسن والقبح ونفيه نازعوهم في مسألتين على سبيل التنزّل والانحطاط عمّا قالوا به ، مما شاة منهم للعدليّة ، فجعلوهما من فروع تلك

ص: 399


1- في ( ش ) : « هداية ».
2- لم نعثر عليه.

المسألة وتذنيباتها - كما يظهر ذلك بعد الرجوع إلى عناوينهم - إحداهما وجوب شكر المنعم ، والأخرى هذه المسألة ، فكأنّهم قالوا : سلّمنا أنّ للعقل في بعض العناوين - كوجوب ردّ الوديعة والظلم والإحسان - حكما ، ولكنّا لا نسلّم أنّ هذين المقامين من جملة موارد حكم العقل ، فلا حكم للعقل على تقدير حكومته فيهما. والعدليّة قالوا : بأنّ العقل يحكم في الأولى منهما بالوجوب ، وبالإباحة أو الحظر في الثانية.

فمحصّل النزاع في المقام إنّما يرجع إلى أنّ للعقل حكما في الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة أم لا؟ ولا مدخل في تشخيص المرجع في العمل عند الشكّ فيه ، فانّ الحاضر ربما يحكم بالإباحة في ذلك المقام والمبيح بالحظر ، من غير تناف بينهما ، لإمكان ورود دليل عقليّ أو نقليّ آخر على خلاف ما أصّله في هذا المقام.

وملخّص النزاع في المقام الآتي يرجع إلى أنّ المرجع شرعا عند الشكّ في التكليف - باختلاف أقسامه وموارده سواء كان المدرك في ذلك هو العقل أو النقل - ما ذا؟ فالأخباريّ على الاحتياط والأصولي على البراءة ، فكان الجهة الملحوظة في تلك المسألة مباينة للجهة المبحوث عنها في المقام.

وبعبارة مجملة هي : أنّ مسألة أصالة البراءة من المسائل الأصوليّة التي هي مبان لأحكام أفعال المكلّفين. وهذه المسألة من فروع الخلاف في الحسن والقبح الذي هو من مبادئ الأحكام ، على ما هو المحرّر في كلماتهم كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المقصود بأصالة الإباحة - بعد الإغماض عمّا تقدّم - هو إثبات الإباحة التي هي من الأحكام. والمطلوب بأصل البراءة هو نفي العقاب.

ص: 400

وما يستفاد من بعض الأدلّة الناهضة عليها من إثبات الإباحة كقوله : « كلّ شيء مطلق » (1) ونحوه إنّما هو تفضّل من الدليل ، وإلاّ فلا وجه للتمسّك ببعض ما لا يستفاد منها إلاّ رفع العقاب كما هو الغالب فيها ، كقوله : « ما حجب اللّه علمه عن العباد ... » (2) وقوله : « رفع عن امتي ... » (3) ونحوهما ممّا يدل على الرفع والوضع وانتفاء العقاب والمؤاخذة.

لا يقال : إنّ مفاد أصالة الإباحة لا يزيد على نفي الحرج وعدم المؤاخذة ، فلا ينهض فرقا.

لأنّا نقول : إنّ المبيح يدّعي الإذن والترخيص ، كما يستفاد من قولهم في دفع حجة الحاظرين : بأنّ الإذن معلوم.

وأمّا ثالثا : فبأنّ النزاع في المقام في الإباحة الواقعيّة ، وفي البراءة في الإباحة الظاهرية. ويظهر ذلك من الرجوع إلى مطاوي استدلالاتهم وفحاوي كلماتهم ، ألا ترى أنّهم قد جعلوا في قبال القول بالحظر القول بالوقف (4) مع تصريحهم باشتراكهما في العمل (5) ، فلولا أنّ المراد بالحظر الحظر الواقعي لما صحّ عدّ القول بالوقف قولا آخر ، ولا شكّ أنّ الحظر بعد ما كان واقعيّا لا مناص من كون الإباحة أيضا واقعيّة.

ص: 401


1- الوسائل 4 : 917 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، الحديث 3.
2- الوسائل 18 : 119 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 28.
3- الوسائل 11 : 56 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل والثاني.
4- وهو مختار الشيخ في العدّة 2 : 742 ، ونسبه فيه إلى شيخه المفيد قدس سره ، وانظر معارج الاصول : 203 ، ومناهج الأحكام : 208.
5- كما صرّح به السيّد في الذريعة 2 : 809.

وممّا يدلّ على أنّ الكلام في المقام في الإباحة الواقعيّة استدلال القائل بالحظر بأنّ التصرّف في الأشياء المذكورة تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، وجواب المبيح : بأنّ الإذن من المالك معلوم ، فإنّ كلاّ من الدليل والجواب أدلّ دليل على أنّ المراد بالإباحة والحظر الواقعيّين منهما كما لا يخفى ، إذ التصرّف في ملك الغير حرمته واقعيّة وبعد معلوميّة الإذن إباحة التصرّف واقعيّة. وكذا احتجاج القائل بالإباحة بما يقرب من قاعدة اللطف يلائم كونها واقعيّة ، إلى غير ذلك ممّا يلوح من عنواناتهم لها في ذيل مبحث الحسن والقبح في عرض وجوب شكر المنعم ، كما عرفت في أوّل الوجوه (1).

فإن قلت : بعد ما كانت الإباحة واقعيّة لا يجوز ورود الشرع بخلافها لأولها (2) إلى التناقض بين العقل والشرع.

قلت : ورود الشرع بخلافها لا يقتضي التناقض ، فإنّ العقل في موضوع التصرّف في ملك الغير بغير إذن المالك يحكم بالحظر وفي موضوع (3) الإذن يحكم بالإباحة ، ولا يجوز ورود الشرع بخلاف حكم العقل في هذين الموضوعين. نعم ، يمكن تبدّل أحد الموضوعين بالآخر بحصول الإذن كما في الغصب على ما لا يخفى ، فلا تناقض على تقديره.

وأمّا رابعا : فلأنّ المستفاد من ظاهر قولهم : « أصالة الإباحة » ومن موارد إجرائها فيها - كما هو المتداول في ألسنة القدماء - اختصاصها بالشبهة التحريميّة. ومن ظاهر « البراءة » اختصاصها بالشبهة الوجوبيّة ولا أقلّ من عمومها لها وللتحريمية.

ص: 402


1- راجع الصفحة : 340.
2- في ( ش ) : « لأدائها ».
3- في ( ش ) زيادة : « موضع ».

فالفرق ظاهر بين المقامين. وربما يذكر في وجه الفرق وجوه أخر ضعيفة (1).

الثاني من الامور في تحرير محل النزاع :

الثاني من الامور (2) في تحرير محل النزاع :

فنقول : الأشياء عند العدليّة تنقسم على قسمين : قسم يستقلّ بإدراك حكمه العقل ، وقسم لا يستقلّ.

الأوّل خارج عن هذا النزاع وينقسم على أقسامه الخمسة : من الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة العقليّات.

والثاني أيضا على قسمين ، فإنّه إمّا من الأفعال التي لا يمكن بقاء النوع وحفظ النظام بدونه - كالتنفّس في الهواء ونحوه من ضروريّات العيش - وإمّا أن لا يكون من هذا القبيل. والأوّل أيضا خارج عن هذا النزاع ، ضرورة حكم العقل بجواز ارتكابه فيه (3) ، ففي الحقيقة مرجع هذا القسم إلى الأوّل. والثاني لا يخلو إمّا أن يكون ممّا يشتمل على أمارة المنفعة أم لا. وعلى الثاني فلا شكّ في كونه (4) لغوا وعبثا ، فلا يجوز الارتكاب فيه أيضا (5) إمّا الكراهة عقليّة أو حرمة ، كما لا يخفى (6). والأوّل إمّا أن يكون ممّا يشتمل على أمارة المفسدة أيضا أم لا. وعلى الأوّل فلا ريب أيضا في عدم جواز الارتكاب فيها. وعلى الثاني فهو محلّ النزاع.

ص: 403


1- في ( ط ) بدل « ضعيفة » : « كلّها غير وجيهة فلا نطيل بذكرها وتزييفها ».
2- تقدّم أوّلها في الصفحة : 399.
3- في ( ط ) : « بجواز الارتكاب فيهما ».
4- في ( ط ) : « كونها ».
5- في ( ط ) : « أيضا فيها ».
6- لم ترد عبارة « إمّا لكراهة عقليّة أو حرمة كما لا يخفى » في ( ش ).

وبالجملة ، فالنزاع إنّما هو في الأفعال الغير الضروريّة التي لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه الخالية عن إمارة المفسدة المشتملة على أمارة المنفعة.

وربما توهّم بعض الأجلّة (1) دخول ما لا فيه أمارة المفسدة ولا أمارة المنفعة (2) في النزاع ، وليس بسديد. وأمّا ما زعمه من اشتمال العنوان بشموله لها بعد ما يظهر منهم التصريح بخلافه في عناوينهم (3) ، فممّا لا يصغى إليه ، كتوهّم شمول الأدلّة لها. نعم ما زعمه من الدليل ربما يشمله ، إلاّ أنّه بمعزل عن الصواب ، لعدم استقامة الاحتجاج بمثله في أمثال المقام كما لا يخفى (4).

بقي هنا شيئان :

أحدهما : ما استشكله المحقّق القمّي (5) : من أنّه بعد ما كان مثل شمّ الطيب وأكل الفاكهة ممّا اختلف في إباحته ، فأي شيء يبقى بعد ذلك يكون مباحا عقليّا في قبال أقسامه الأربعة؟ فالأولى تربيع الأقسام فيما يستقلّ العقل بإدراك حكمه.

وقد يجاب عنه بما ذكره بعض الأجلّة (6) : بأنّ التقسيم مبني على أن يراد باستقلال العقل في الجملة ولو بحسب بعض أفراده ، وفساده غير خفيّ.

ص: 404


1- الفصول : 347.
2- في ( ش ) : « ما لا فيه الأمارتين ».
3- الفصول : 350.
4- لم ترد عبارة « كتوهّم - إلى - كما لا يخفى » في ( ش ).
5- القوانين 2 : 9.
6- لم يرد « بعض الأجلّة » في ( ش ) ، وانظر الفصول : 346.

وقد يجاب أيضا (1) : بأنّ العلم بعدم المفسدة فيما فيه أمارة المصلحة يوجب القطع بالإباحة ، فهو مباح عقليّ قطعيّ.

ويرد عليه : أنّ دليل الحاظر : بأنّ التصرّف فيه تصرّف غير مأذون فيه يجري فيه أيضا ، فلا يصير متّفقا عليه كما هو المطلوب ، ولا غائلة فيه بعد تمييز (2) المفاهيم.

وثانيهما : ما هو المعروف بينهم : من أنّ فرض العنوان فيما لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه يناقض دعوى الحاظر والمبيح باستقلال العقل (3) : بإباحته أو حظره. وهذا هو الوجه في اختيار الحاجبي عدم الحكم في المسألة (4) حيث إنّ الحكم فرع الحاكم ولا حاكم في المقام ، أمّا العقل فلأنّ المفروض عدم استقلاله بالحكم ، وأمّا الشرع فلأنّ الكلام قبل وروده.

وأجيب (5) عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ لا يستقلّ بإدراك حكم العناوين الخاصّة من حيث أنفسها وفي حدود ذواتها - كأكل الرمّان وشرب الماء البارد - فيما ليس هناك ضرورة ونحوهما ، وهو لا ينافي استقلال العقل بإدراك حكم عنوان عامّ صادق على تلك العناوين الخاصّة على وجه كلّي إجمالي كما في الحكم بكليّة الكبرى في الشكل الأوّل.

ص: 405


1- انظر القوانين 2 : 9.
2- في ( ط ) : « تميّز ».
3- في ( ش ) : « بالاستقلال ».
4- المختصر وشرحه : 77 - 78.
5- انظر الفصول : 350.

وفيه : أنّ التقسيم حينئذ يبقى (1) بلا وجه ، لجريانه بعد فيما يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، مثلا : الظلم الخاصّ القائم بشخص خاصّ ممّا لا يستقلّ العقل بقبحه بخصوصه ، بل مما يستقلّ العقل بإدراك حكمه من حيث اندراجه تحت عنوان كلّي « الظلم ». وكذا ردّ الوديعة ونحوه لو لوحظ من حيث خصوص أفراده لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، ولو لوحظ باعتبار شمول عنوان كلّي له فهو من المستقلاّت العقليّة (2) ونحن لا نقول : بأنّ اختلاف حكم الكلّي والجزئي لا يجزي في دفع الإشكال ، كيف! ولولاه لبطل الاستدلال من أصله ، بل نقول : بأنّ مجرّد هذا الاختلاف لا يقضي بعدّ الظلم من المفاهيم التي يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، وما نحن فيه ممّا لا يستقلّ بإدراكه بعد جريان الكلام المذكور فيه أيضا كما عرفت.

الثاني (3) : انّ ما لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه ضرورة من دون حاجة إلى الوسط في الإثبات هل يستقل بإدراك حكمه بالنظر ومع ملاحظة الدليل والوسط أم لا؟ فمحلّ النفي هو الإدراك الضروري ومحلّ الإثبات على تقديره هو الإدراك النظري ، فلا تناقض.

وقد يستفاد هذا الجواب من تحرير البعض في عنوان البحث كالعميدي (4) على ما لا يخفى (5).

ص: 406


1- لم يرد « يبقى » في ( ش ).
2- لم ترد عبارة « لو لوحظ - إلى - العقليّة » في ( ش ).
3- في ( ش ) زيادة : « من الوجوه ».
4- انظر منية اللبيب : 21.
5- لم يرد « على ما لا يخفى » في ( ش ).

وفيه أيضا : ما عرفت من جريانه بعينه فيما يستقلّ العقل بإدراكه ، كيف! ومرجع هذا الوجه عند التدبّر هو الوجه الأوّل ، وعلى (1) بعض الوجوه فالعنوان الذي لا يستقلّ بإدراك حكمه العقل إلاّ بعد ملاحظة الوسط ليس من المستقلاّت العقليّة وإنّما الوسط منها.

ولا معيار في المقام لاختلاف المراتب ، فربما يكون الشيء بعنوان جزئي منها وربما يكون منها باعتبار صنفه على اختلاف مراتب الأصناف أو باعتبار نوعه أو جنسه السافل إلى أن يصل إلى جنس الأجناس في سلسلة الطول ، فأكل الفاكهة في المقام بمنزلة الظلم الشخصي في ذلك المقام. فكما أنّ الظلم الشخصي لا يعدّ من المستقلاّت العقليّة إلاّ باعتبار الاندراج فكذلك ، أكل الفاكهة لا يعدّ منها إلاّ باعتبار التصرّف في ملك الغير الذي مرجعه في الحقيقة إلى عنوان الظلم على بعض الوجوه ، كما لا يخفى.

الثالث : ما أفاده بعض أفاضل المتأخّرين (2) طاعنا على الفاضل القمّي حيث استصعب دفع الإشكال ، وهو : أنّ الحكم في المقام بالنسبة إلى مرحلة الظاهر والجهل بالنسبة إلى مرحلة الواقع ، والنفي في الواقع لا ينافي الإثبات في الظاهر كما في أصالة البراءة ، فإنّ شرب التتن ممّا لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه الواقعي ويستقلّ بإدراك حكمه الظاهري من غير تناقض بين الحكمين.

وفيه : أنّك قد عرفت فيما تقدّم : أنّ حكم العقل بالإباحة عند المبيح وبالحظر عند الحاظر واقعيّ على ما هو لائح من مطاوي كلماتهم وإن كان باعتبار جهالة حكم موضوعه.

ص: 407


1- في ( ط ) : « على ».
2- لم نعثر عليه.

وتوضيحه وتحقيقه يحتاج إلى رسم مقدّمة ، وهي : أنّه لا يتصوّر في الحكم العقلي أن يكون ظاهريّا بل كلّ ما يحكم به العقل فهو حكم واقعي ، لأنّ اختلاف الأحكام الشرعيّة بأن يكون بعضها واقعية وبعض آخر ظاهريّة إنّما هو بواسطة إمكان جعل حكم في الواقع وعدم الوصول لمانع إلى المكلّف ، فما هو مجعول واقعا حكم واقعيّ ، وما هو المحكوم به في مقام العمل والفتوى حكم ظاهري. وهذا كما هو ظاهر يصحّ فيما لو كان الحاكم غير المكلّف وأمّا فيما إذا كان هو المكلّف - كما فيما نحن فيه - فلا وجه لعدم الوصول حتّى يقال : بأنّ المجعول الغير الواصل حكم واقعيّ والمحكوم به في مقام الجهل بالواقع حكم ظاهريّ.

لا يقال : قد يكون الفعل قبيحا والعقل من حيث جهله بقبحه مثلا يحكم بجواز ارتكابه وإباحته ، فمن حيث قبحه واقعا له حكم واقعيّ ، ومن حيث الجهل به له حكم ظاهريّ.

لأنّا نقول : الكلام في المقام إنّما هو في الحكم التابع للقبح والحسن على ما هو المقرّر في المراد منهما (1) في محلّ النزاع ، والحسن والقبح بالمعنيين المعهودين لا يلحقان للأفعال (2) الغير الاختياريّة اتّفاقا من العدليّة والأشعرية ، فالفعل القبيح في الواقع لا يتّصف بالقبح إلاّ بعد العلم به على وجه يصير (3) اختياريّا ، فهو حال الجهل لا يتحقّق قبيحا ؛ لأنّ المفروض عدم العلم بالعنوان القبيح ومع عدمه لا يصحّ قصده وبدون القصد لا يكون اختياريّا فلا يكون متّصفا بالقبح في الواقع.

ص: 408


1- لم يرد « في المراد منهما » في ( ش ).
2- كذا ، والظاهر : لا يلحقان بالأفعال.
3- في ( ط ) زيادة : « به ».

وإذا تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : إنّ حكم العقل بقبح التصرّف في ملك الغير يقع على وجوه :

فتارة مع العلم بعدم إذنه ، ولا ريب في كونه حكما واقعيّا غير منوط بالجهل.

وأخرى مع عدم العلم بإذنه ، فإمّا مع إذنه واقعا أو مع عدم الإذن في الواقع ، والحكم بقبح التصرّف في الصورتين أيضا حكم واقعيّ وإن كان في موضوع الجهل (1) ، فإنّ تعريض النفس في معرض الهلاكة عنوان حكم العقل ولا اختلاف فيه في جميع الصور ، وعدم وقوع الهلاكة في البعض لا يناط بالاختيار ، فلا يصحّ القول بكونه فارقا في الصور الثلاثة.

وبالجملة ، فمقتضى القول بالحظر - كما هو ظاهر ما تمسّك به - هو الحظر الواقعي. وفي قباله القول بالإباحة ، سيّما بعد ملاحظة ما أجابوا به عن دليل الحظر من معلوميّة الإذن هو الإباحة الواقعيّة. فجعل النزاع في الحكم الظاهري في المقام - كما في أصالة البراءة - ودفع التناقض بأنّ عدم الاستقلال إنّما هو بالنسبة إلى الواقع والاستقلال إنّما هو بالنسبة إلى الظاهر إنّما هو تأويل بما لا يرضاه المتنازعون ، كما لا يخفى على المتأمّل (2).

فالتحقيق في دفع الإشكال هو أن يقال : إنّ استقلال العقل إنّما هو في موضوع عدم وجدان ما يقتضي المفسدة ، وعدم استقلاله فيما لم يلاحظ مع الفعل هذا العنوان ، وليس من الحكم الظاهري في شيء ، فإنّ موضوعات أحكام العقل

ص: 409


1- في ( ش ) : « وإن كان موضوع موضع الجهل ».
2- لم يرد « كما لا يخفى على المتأمّل » في ( ش ).

ليس أحدها في سلسلة طول الآخر ، بل الكلّ في عرض سواء. بخلاف الأحكام الشرعيّة ، فإنّها ربما يكون أحد الموضوعين فيها في عرض الموضوع الآخر - كالحاضر والمسافر - وقد يكون مرتّبا على الآخر كما في أصالة البراءة على ما سيجيء تحقيقه - إن شاء اللّه - والأحكام الظاهريّة إنّما تتصوّر فيما إذا كان أحد الموضوعين مرتّبا على الآخر. مثلا حكم العقل بحرمة الظلم حكم واقعيّ وحكمه بحرمة الضرب فيما إذا شكّ في حصول التأديب أيضا حكم واقعي وإن حصل التأديب ، ومثله في الشرعيّات يسمى بالحكم الظاهري ، فإنّ للشيء مع قطع النظر عن العلم والجهل حكما مخزونا في الشرع.

وأمّا الأحكام العقليّة ، فموضوعاتها لا تحصل إلاّ بعد العلم والإرادة ، حيث إنّ الكلام - على ما عرفت - إنّما هو في الحكم التابع للحسن والقبح اللاحقين للأفعال (1) الاختياريّة التي لا تصير اختياريّة إلاّ بعد العلم والإرادة ، فما لم يقصد حصول عنوان لم يحصل على وجه يتّصف بالحسن والقبح وإن وقع ما هو القبيح أو الحسن في الواقع ، كالتأديب المترتّب على الضرب فيما لم يكن مقصودا وقتل النبيّ المترتب على الصدق إذا لم يكن الصادق مريدا له في صدقه.

والسرّ في جميع ذلك هو ما عرفت في المقدّمة الممهّدة : من أنّ مناط الانقسام إلى الحكمين هو إمكان جعل الأحكام الشأنيّة وعدم وصولها إلى المكلّف ، فيمكن أن يقال : إنّ للشيء مع قطع النظر عن الجهل حكما ومن حيث هو مجهول حكما آخر. بخلاف الأحكام العقليّة ، فإنّ الشأنيّة فيها غير معقول ، لامتناع ذهول النفس عنها ، كما لا يخفى.

ص: 410


1- كذا ، والظاهر : اللاحقين بالأفعال.

الثالث من الامور (1) : في بيان الأقوال في المسألة :

فقيل بالإباحة (2). وقيل : بالحظر (3). وتوقّف شيخ الأشاعرة (4) ، وفسّر تارة بعدم الحكم (5) ، واخرى بعدم العلم بالحكم (6).

قلت : إنّ التفسير الأوّل يلائم مذهب الأشاعرة بعدم حكم للعقل في أمثال المقام ، كما عن الحاجبي (7) وأضرابه ، والتفسير الثاني يلائم كون هذا البحث إحدى مسألتي التنزّل والمماشاة ، كما لا يخفى.

وإذ قد عرفت هذه الامور فالمنقول من حجج المبيحين امور :

أحدها : ما نقله الشيخ في محكيّ العدّة (8) : من أنّ تلك الأفعال منفعة بلا مضرّة. أمّا إنّها منفعة فبالفرض ، وأمّا إنّها بلا مضرّة ؛ لأنّها لو كانت فيها مضرّة آجلا أو عاجلا لوجب على الحكيم اللطيف نصب أمارة مفيدة للعلم ولا أقلّ من الظنّ المفيد للوثوق عليها والمفروض عدمها.

ص: 411


1- تقدّم ثانيها في الصفحة : 403.
2- ذهب إليه المرتضى في الذريعة 2 : 809 وفي العدّة 2 : 742. نسبه إلى أكثر المتكلمين من البصريين وفي المناهج : 208 نسبه إلى كثير من الامامية.
3- قال الشيخ : ذهب كثير من البغداديين وطائفة من أصحاب الامامية إلى انها على الحظر. العدة 2 : 742.
4- كما نسب إليه في المناهج : 208 والفصول : 346 واختاره الشيخان. انظر مختصر كتاب اصول الفقه : 43 والعدة 2 : 742.
5- نسبه في المناهج : 208 إلى الرازي.
6- كما فسّر به النراقي في المناهج : 208.
7- انظر المختصر وشرحه : 77 - 78.
8- العدّة 2 : 746 - 747.

والجواب عنه - على ما نبّه به الشيخ (1) والمحقّق الجمال في تعليقاته على العضدي (2) - منع لزوم نصب أمارة عليها ، لم لا يجوز أنّه تعالى قد وكلنا على أنفسنا بعد وضوح طريقة العقلاء في الإطاعة والعصيان.

وهذا الجواب عن الشيخ كما ترى يناقض ما أورده في الإجماع : من أنّ طريق ثبوت الإجماع منحصر في سلوك سبيل اللطف (3) ، بل هذا هو بعينه ما أورد عليه السيّد (4). ومن العجب! أنّ السيّد قد احتجّ للقول بالإباحة بهذه الحجّة (5). اللّهمّ إلاّ أن يوجّه بأنّ اللطف ربما يقول بوجوبه الشيخ على اللّه تعالى بعد ما يقتضي التكليف ، لا قبل ملاحظة ما يقتضي التكليف. إلاّ أن فيه ما لا يخفى.

وبالجملة فالسيّد والشيخ متعاكسان في المسألتين ، بل ربما يعدّ هذا من الشيخ من وجوه التأييد لاعتبار الإجماعات المنقولة في كلماته رحمه اللّه (6).

وثانيها : أنّ الأشياء المشتملة على المنفعة لو لم تكن مباحة لزم أن يكون إيجادها عبثا منه تعالى (7) ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا (8).

ص: 412


1- العدّة 2 : 746 - 747.
2- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، ذيل قول العضدي : « لا حكم لأفعال العقلاء قبل الشرع » ، الورقة : 99.
3- انظر العدّة 2 : 602 و 628.
4- لم يرد « السيّد » في ( ش ).
5- الذريعة 2 : 810 - 811.
6- في ( ط ) : « في كلامه ، فتدبّر ».
7- انظر الذريعة 2 : 819 ، والعدة 2 : 747.
8- لم ترد عبارة « تعالى عن ذلك علوّا كبيرا » في ( ش ).

وفيه : أنّ سخافته بحيث لا يخفى على أحد ، إذ غاية ما يمكن للقول (1) عدم العلم بالفائدة ، ولا يلزم منه عدم الفائدة ، وإلاّ فالفائدة فيها معلومة لمن تدبّر وتبصّر.

وثالثها : ما احتجّ به بعض الأجلّة (2) ، وهو : أنّ ضرورة العقل قاضية بالإباحة في الظاهر عند عدم ما يدلّ على الخلاف ، من غير فرق بين المشتمل على المنفعة وغيره ، لظهور أنّ التكليف بأقسامه الأربعة مشروط بالعلم والبيان عقلا وعادة ، وإذ ليس فليس ، ولا نعني بالإباحة إلاّ ذلك.

وفيه - بعد الغضّ عمّا أشرنا إليه سابقا في تحرير محلّ النزاع من انحصار عناوين القوم فيما يشتمل على المنفعة ، ومن أنّ الحكم بالإباحة حكم واقعيّ - أنّه إن أراد قضاء ضرورة العقل بالإباحة بمعنى عدم الحرج والمؤاخذة فمسلّم ، إلاّ أنّه لا يجديه ، لوقوعه في غير محلّ النزاع ، كما صرّح به العضدي (3) حيث حكم بعدم النزاع في الإباحة بهذا المعنى حتى عند الأشعري. وإن أراد الإباحة بمعنى الإذن والترخيص كما قد يقال باستظهاره من نفي الأحكام الأربعة وإثباته. ففيه : أنّه لا نسلّم قضاء الضرورة (4) بالإباحة بهذا المعنى.

وما تخيّله : من اشتراط التكليف بأقسامه الأربعة بالعلم فهو كذلك ، إلاّ أنّ الإباحة بهذا المعنى - أيضا - من الأحكام التكليفيّة ويحتاج إلى العلم عقلا وعادة. ولو سلّم فانتفاء الأربعة لا يلازم إثبات الإباحة ، لوجود الواسطة وهو

ص: 413


1- في ( ط ) : « ما يمكن القول به ».
2- الفصول : 347.
3- شرح مختصر الاصول : 78.
4- في ( ط ) : « لقضاء ضرورة العقل ».

عدم الحكم ، فإنّ الأحكام وإن كانت منحصرة في الخمسة ، إلاّ أنّه لا ينهض دليل على ثبوتها في جميع الأشياء بحسب حكم العقل ، فتدبّر.

ورابعها : ما استند إليه جملة من المتأخّرين (1) ، وهو استقرار طريقة العقلاء بعدم الاجتناب عنها وحكمهم بلحوق المتحرّز عنها بأصحاب السوداء والجنون ، واستحقاق المقتصر في التنفّس على قدر الحاجة للذمّ عقلا.

وفيه : أنّ محلّ الكلام على ما مرّ يشمل فيما لو كان المفسدة مشكوكة ؛ لأنّ انتفاء أمارة المفسدة لا ينافي الشك بوجودها (2). ولا نسلّم استقرار طريقة العقلاء في محلّ الشكّ بالإباحة لو لم نقل بأنّ سجيّة كلّ عاقل يحكم بالاجتناب عند الشكّ ، لعدم العلم بالإذن عند الشك. وأمّا إلحاق المتحرّز بأصحاب السوداء والجنون فهو إنّما يثمر في إبداء الاحتمال ، لا العمل بمقتضاه بعد حصول الشكّ (3).

وبالجملة ، لا دلالة في الدليل المذكور على الإباحة في جميع الصور ، بل العقلاء يقتصرون على الظنّ بالسلامة ولو بتحصيل الظنّ من بعض السوالف (4) ، والامور الغير المعتبرة من التسويلات النفسانيّة كما هو مشهور (5).

ص: 414


1- منهم المحقّق القمّي في القوانين 2 : 9.
2- كذا ، والظاهر : في وجودها ، وكذا في الموارد الآتية.
3- في ( ط ) زيادة ما يلي : « كما قد يمكن الاستشعار من قولهم أصحاب السوداء ، على ما لا يخفى ».
4- السوالف ، جمع السالفة ، لغة عاميّة يقصد بها القصص وأمثالها.
5- في ( ط ) زيادة ما يلي : « كما هو مشهود من ملاحظة حالهم في أمور معاشهم ، مثلا لو فرضنا نزول بليّة مساوية النسبة في الكلّ فالنفس تحتال في إخراجها منها لا على وجه يكون مردّدا في الواقع ، بل في تحصيل الظنّ بالخروج ، كما لا يخفى ».

وقد يحتجّ للقول بالإباحة بأقيسة مشهورة وأمثلة عرفيّة (1) ، كالاستظلال بحائط الغير والاستضاءة من نوره والاصطلاء بناره. وليس على ما ينبغي ، للقطع بالفرق من حصول الإذن فيها دون غيرها كما لا يخفى.

واحتجّ القائل بالحظر بوجهين :

الأوّل : ما مرّ الإشارة إليه مرارا : من أنّ ارتكاب تلك الأفعال تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، فإنّ العبد في مقام العبوديّة لا يملك شيئا حتى نفسه فكيف لغيرها! والتصرّف في ملك الغير بغير إذنه قبيح فيحرم التصرّف فيها (2).

والجواب عنه : أنّ قبح التصرّف في ملك الغير مطلقا عقلا (3) ممنوع ، بل ما يستلزم (4) التضرّر للمالك أو في صورة منع المالك وإن لم يستلزم ضررا بالنسبة إلى المالك ، فإنّ التصرّف في ملك الغير لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه بعنوان نفسه ، بل من حيث أوله إلى عنوان آخر يستقلّ العقل بإدراك حكمه كالظلم ونحوه ، وعند انتفاء التضرّر أو عدم المنع لا قبح فيه ، لعدم رجوعه إلى عنوان قبيح. نعم ، في الصورتين المذكورتين يرجع إلى الظلم.

أمّا الأولى : فظاهر.

وأمّا الثانية : فلأنّه بعد تسليم تسلّط المالك على ملكه وعدم إذنه في التصرّف ومنعه منه بعد التصرّف فيه بغير إذنه ظلما ، فإنّه وضع الشيء

ص: 415


1- كما احتجّ بها المحقّق القمّي في القوانين 2 : 9.
2- انظر الذريعة 2 : 821 ، والمختصر وشرحه للعضدي : 77.
3- لم يرد « عقلا » في ( ط ).
4- في ( ش ) : « ما لا يستلزم » ، وفي ( ط ) : « ما لم يستلزم ».

في غير محلّه ، ومن المعلوم تعاليه ، تعالى عن الضرر والمنع اقتراحا كما في غيره من الملاّك. ولك أن تقول : إنّ التضرّر في حقّه تعالى ممتنع غير معقول ، وكذلك المنع الاقتراحي. إلاّ أن يحتمل أن يكون بواسطة ضرر متعلّق بنا ، فإنّ أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض الراجعة إلينا دفعا للعبث والاستكمال في حقّه تعالى. ومع هذا الاحتمال لا يجوز الإقدام على ارتكاب مثل تلك الأفعال.

ومع ذلك فلا يستقيم وجها آخر في قبال ثاني الوجهين ، لأوله حقيقة إليه ، كما ستعرف.

الثاني : ما استند إليه الشيخ في العدّة (1) : من أنّ في ارتكاب تلك الأفعال إقداما بما لا يؤمن النفس من ضررها ، وهو قبيح.

ولتحقيق الحال في هذا الاحتجاج محلّ آخر ، إلاّ أنّه لا بدّ من الإشارة إليه إجمالا.

فنقول : لا كلام في قبح الإقدام بما يعلم التضرّر كما لا كلام في قبحه فيما لو ظنّ بالضرر. وإنّما الكلام في أنّ الظنّ بالسلامة يكفي في رفع القبح أو لا بدّ من دفع الضرر الموهوم ، وعلى تقدير الكفاية فهل الشكّ في الضرر يجب الاحتراز عنه عقلا أو لا؟

وقد يقال : بأنّه لا قبح في العقول في عدم التحرّز عن الضرر الموهوم ، وغاية ما يقال به (2) هو الاستحسان العقلي ، ولا يزيد على استحبابه عقلا.

ص: 416


1- العدّة 2 : 742.
2- في ( ط ) : « وإنّما غاية ما يمكن القول به ».

إلاّ أنّه بمعزل عن التحقيق - على ما يظهر من بعضهم (1) - حيث إنّ الموارد التي يستكشف منها حال العقلاء في أمور معادهم ومعاشهم من اكتفائهم بالظنّ في السلامة إنّما هو بواسطة انسداد طرق العلم لهم (2) بحيث لو اقتصروا على المنافع المعلومة والمضارّ المعلومة لزم اختلال نظامهم. وذلك لا ينافي حكمهم بالوجوب فيما لا يعارضه ما هو أقوى منه أو مساو له. وأمّا الضرر المشكوك فلا ينبغي الشك بوجوب التحرّز عنه عقلا ، بل ويظهر ذلك من كلمات المتكلّمين أيضا ، كما يلوح عند حكمهم بوجوب شكر المنعم ، كما لا يخفى. إلاّ أنّ الظاهر من الفقهاء - بل كاد أن يكون إجماعا منهم - عدم لزوم الاجتناب عنه ، كما فيما لو شكّ في وجوب السفر مع العلم بعدم ترتّب الضرر على تركه ، وكما لو شكّ في الوضوء بترتّب الضرر عليه ، فإنّهم مطبقون على عدم الاعتناء بهذا الشكّ إلاّ عن جماعة من المتأخّرين ، أوّلهم الفاضل الهندي في شرح (3) الشرح على ما حكاه الأستاذ (4).

وبالجملة ، فالذي يظهر منهم عدم لزوم الاحتراز شرعا. ولا ينافيه أيضا خلاف بعض المتأخّرين (5) ؛ لأنّهم - على ما صرّح به الفاضل - إنّما قالوا به بواسطة زعمهم أنّ موضوع الخوف الصادق مع (6) الشكّ في الحكم بالإفطار والتيمّم

ص: 417


1- لم نعثر عليه.
2- في ( ش ) : « طريق العلم بهم ».
3- وهو المناهج السوية في شرح الروضة البهية ، ولكن لم نعثر عليه بعد الفحص التام في المواضع المناسبة.
4- لم يرد « على ما حكاه الأستاذ » في ( ش ).
5- وهو الفاضل الهندي.
6- في ( ش ) بدل « مع » : على.

ونحوهما يغاير موضوع الضرر ، وإلاّ فموضوع الضرر لا يقضي بتقييد الإطلاقات في صورة الشكّ كما يقضي به عند العلم أو الظنّ.

فالفاضل لو سلّم انحصار المقيّد في الضرر ، كما هو كذلك - على ما بيّنّاه في محلّه مستقصى من أنّ الخوف طريق إلى الضرر - لا يقول بوجوب دفع الضرر المشكوك ، ولا يحكم بتقييد ما دلّ على وجوب الصوم - مثلا - عند الشكّ في الضرر ، والعقل لصرافته يحكم بالوجوب ، فلا بدّ من توجيه وتوفيق.

والذي يظهر لي في الجواب - على ما أفاده الأستاذ - أن يقال : إنّ الضرر المنفيّ في الشريعة المقيّد لموضوعات أحكام الشرع عبادة ومعاملة هو الضرر الدنيوي ، كما يظهر من ملاحظة حكمهم بسقوط الصوم والوضوء في موضوع الضرر وعدم لزوم العقد الضرريّ مثلا. ولا يصحّ أن يكون الضرر الأخرويّ مقيّدا لإطلاق ما دلّ على ثبوت الحكم الشرعي ؛ لأنّ المراد بالضرر الأخرويّ - على ما يستفاد من كلمات المتكلّمين وجملة من الأخبار - ليس إلاّ العقاب ، وهو من توابع الحكم الشرعي ، فلو فرض تقييد موضوعه بهذا الضرر لزم الدور.

والعقل وإن كان مستقلاّ في لزوم دفع الضرر ولو كان دنيويّا إلاّ أنّه بعد ملاحظة انضمامه بحيثيّة تجريديّة لا مطلقا ، ففيما لو عارضه ما هو أقوى منه لا قبح في عدم الاجتناب. والموارد التي لا يجب الاجتناب فيها بأجمعها إنّما هو بواسطة تعارض الضرر بما هو أقوى منه (1) ولو كان الكاشف عن التعارض وجود ما يعارضه حكم الشرع ، كيف! والشارع يحكم بوجوب شيء ولو كان مشتملا على ضرر قطعيّ كما صرّح به جماعة منهم الشهيد في القواعد (2) في مقام نفي التقيّة

ص: 418


1- لم ترد عبارة « لا قبح - إلى - أقوى منه » في ( ش ).
2- انظر القواعد والفوائد 2 : 58 ، القاعدة (208).

عن الدماء وإظهار كلمة الكفر ، فإنّه ربما يكون مباحا ، وقد يكون حراما فيحرم على المكلّف إظهار كلمة الكفر ولو انجرّ إلى قتله يقينا ، لكن فيما لو كان المأمور بإظهار الكفر ممّن يعتدّ بشأنه بحيث لو أظهر كلمة الكفر احتمل وقوع ثلمة في الدين مثلا.

وبالجملة ، فبعد ما لاحظنا طريقة الشرع من عدم الاعتبار بالضرر المقطوع ولو في بعض المقامات مع قطع العقل بلزوم الاحتراز فيه - ولا يذهب وهم إلى تناقض بين حكمي الشرع والعقل ، لظهور أنّ حكم العقل إنّما هو في صورة الانفراد وعدم التعارض - لا إشكال ولا تنافي أيضا في المقام ، بل بطريق أولي ، فيجوز أن يحكم الشارع بعدم ترتيب (1) آثار الضرر المشكوك بأصالة عدم الضرر ونحوها من الأمارات الشرعيّة في مواردها.

وحكم العقل بلزوم الاجتناب أيضا في محلّه. ولا ينافيه ما تقدّم من التطابق أيضا ، لاختلاف الأحكام باختلاف الموضوعات كما لا يخفى ؛ ولذا تراهم يتمسّكون في مقام نفي الحكم المشتمل على الضرر بأدلّة شرعيّة من غير أن يلتفتوا إلى حكم العقل بوجوب الاجتناب. فرفع الضرر الدنيوي ولزوم الاجتناب عنه في الأحكام الشرعيّة حكم شرعيّ ، ولا مانع من تخصيص الشارع حكمه باعتبار اختلاف مصالح الحكم بمورد دون آخر.

ومن هنا يعلم وجه لزوم الاجتناب فيما إذا اشتمل أحد الإنائين على السمّ في الشبهة المحصورة ، حيث إنّه لا دليل شرعا على جواز الارتكاب من الاصول العمليّة كما يظهر ذلك في محلّه إن شاء اللّه. والعقل لصرافته يحكم بلزوم الاجتناب من غير ما يقضي بخلافه ولو بواسطة اختلاف الموضوع. كما أنّه يظهر لزوم

ص: 419


1- في ( ش ) : « ترتّب ».

الاجتناب فيما نحن فيه ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر ولو في صورة الشكّ ممّا لا يعارضه شيء ، فأكل الفاكهة وشمّ الورد وإن اشتمل على أمارة المنفعة وخلا عن أمارة المفسدة ، إلاّ أنّه ليس عدم الضرر به في الدنيا مقطوعا به والعقل مستقلّ بوجوب الاجتناب ، وحيث إنّه لا شرع كما هو المأخوذ في العنوان - أي عنوان المسألة - فلا تعارض أيضا.

ثمّ إنّ المراد من قولهم : « قبل الشرع » - بعد ما عرفت من أنّ الكلام في حكم العقل - ظاهر ، يعنون به قبل ملاحظة الشرع ، فلا حاجة إلى بعض التطويلات الواقعة في كلام جملة منهم في المقام.

تذنيب

قد ذكر المحقّق القمّي في آخر المبحث كلاما طويلا (1) مرجعه إلى أنّ اعتبار أصالة الإباحة على القول بها في أمثال زماننا الذي قد كشف الشارع الحكيم عن حال جملة من الأشياء المشتملة على أمارة المنفعة الخالية عن أمارة المضرّة (2) - كشرب الفقّاع واستماع الغناء وأمثال ذلك - ظنّي فالقول بحجّيّتها موقوف على اعتبار الظنّ واستقلال العقل بحجّيّته. وفرّع عليه الحكم بكونها من المستقلاّت العقليّة ، وعلى ذلك بنى الأمر في الردّ على الفاضل التوني والسيّد الشارح - رضوان اللّه عليهما - حيث حكم الأوّل : بأنّ النزاع في الملازمة قليل الجدوى بل عديمها ، إذ ما من مورد لحكم العقل إلاّ وقد ورد من الشارع فيه آثار كثيرة

ص: 420


1- القوانين 2 : 12.
2- في ( ط ) : « المفسدة ».

وأخبار وافرة (1) واستجوده الثاني (2). فزعم أنّ أصالة حجّيّة كلّ ظنّ إنّما هي من ثمرات مسألة الملازمة ، إذ بعد إحراز حكم العقل بحجّيّة الظنّ وتطابق الحكمين - كما هو المقصود بالبحث في الملازمة - فالظنّ حجّة شرعيّة وأيّة ثمرة أعظم منها ، إذ عليها تدور رحى الفقه من الطهارات إلى الديات.

واعترض عليه بعض من تأخّر عنه (3) بمنع مقدّمات الانسداد على ما قرّره المورد.

ولعمري! إنّه اعتراض بارد ومنع فاسد ، إذ لا يناط ترتّب الثمرة على صحّة المذهب كما لا يخفى ، بل إن كان ولا بدّ من الاعتراض فليعترض : بأنّ جماعة - منهم السيّد علم الهدى (4) والعلاّمة (5) رحمه اللّه (6) - نقلوا الإجماع على حجّيّة الظنّ في مورد الانسداد ، فلا ثمرة أيضا. إلاّ أنّه أيضا (7) بمعزل عن الصواب ، كما لا يخفى.

والتحقيق فيه يتوقّف على تمهيد مقدّمة فيها تتميم لما تقدّم أيضا.

فنقول : قد تقدّم وجوب دفع الضرر الدنيوي عقلا ، وقد مرّ فيه الكلام على وجه يليق بالمقام. وأمّا الضرر الأخروي فلا شكّ في كونه واجب الدفع أيضا ،

ص: 421


1- الوافية : 174.
2- شرح الوافية : 222.
3- انظر الفصول : 351.
4- لم نعثر عليه ، نعم اعترف بالعمل بالظن عند تعذّر العلم ، كما حكى عنه الشيخ في الفرائد 1 : 388 ، وانظر رسائل الشريف المرتضى 3 : 39.
5- انظر المختلف 3 : 26.
6- في ( ط ) بدل « رحمه اللّه » : « آية اللّه ».
7- لم يرد « أيضا » في ( ش ).

بل العقل حكمه فيه أشدّ والنقل إبلاغه أبلغ ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « ألف ألف ضربة من السيف أحسن من الموت على الفراش » (1) في مقام الجهاد ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى (2) ، ولا يصلح لمعارضته شيء مع وجوده - بخلاف الضرر الدنيوي - فإنّه مع احتمال العقاب لا يعقل معارضته بشيء آخر ، إلاّ أن يرتفع العقاب ، فلا كلام في أنّ العقل يستقلّ بوجوب دفع الضرر سيّما إذا كان أخرويا ، إلاّ أنّ الحكم العقلي في المقام وأمثاله إنّما هو مجرّد إرشاد وإراءة للمصلحة (3) إذ لا تشريع منه (4) وطلب وجوبيّ أو ندبيّ على اختلاف مراتب المصالح.

والحكم الشرعي المطابق لحكم العقل أيضا هو إرشادي ، إذ لا حكم تشريعيّ كما هو توهّمه بعضهم ، وإذ هو فاسد ؛ لأنّ المراد من الإرشاد في الأوامر والنواهي المسوقة لبيان ذلك (5) ليس إلاّ بيان حقيقة الفعل وآثاره المترتّبة عليه من مدح أو ذم أو نحوهما من غير أن يكون مفيدا لإيجاب أو استحباب أو تحريم (6) ،

ص: 422


1- الوسائل 11 : 11 ، الباب الأوّل من أبواب الجهاد ، الحديث 23 ، وفيه : « ألف ضربة ... ».
2- في ( ش ) : « ممّا لا يخفى ».
3- في ( ش ) : « إرادة لمصلحة ».
4- في ( ط ) : « أو تشريع منه ».
5- العبارة في ( ط ) هكذا : « والحكم الشرعي المطابق لحكم العقل أيضا هو حكم إرشادي أو حكم تشريعي. قد يتوهّم - كما عن بعضهم - أنّ حكم العقل في أمثال المقام وكذا حكم الشرع حكم تشريعيّ. وليس على ما توهّمه ؛ لأنّ المراد بالإرشاد في الأوامر والنواهي المسوقة لبيانه ليص. .. ».
6- في ( ش ) : « للإيجاب أو الاستحباب أو التحريم ».

فلا يترتّب على مخالفة الأوامر الإرشاديّة إلاّ ما يترتّب على نفس الفعل من آثاره ، ولا على إطاعتها إلاّ ما يترتّب عليه في (1) نفسه من دون أن يترتّب على الإطاعة والعصيان فيهما (2) ما يترتّب عليهما في الأوامر (3) التشريعيّة من الفوائد المنوطة بهما ، والعقل في مقام الحكومة لا يزيد حكمه على هذا القدر كما لا يخفى (4) إذ ليس له سلطان المالكيّة. وأمّا الشرع وإن كان له سلطنة التشريع. إلاّ أنّ في بعض الأفعال ما يمنع عنه وبعضها ممّا لا يقبله كما في الأوامر الواردة في مقام الإطاعة والعصيان كقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (5) مثلا ، وفي مقام الاتّقاء عن النار كقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (6) وفي مقام طلب القرب (7) إليه ورفع الدرجة في الجنّة وأمثالها ؛ فإنّ تلك الامور غايات (8) في الأوامر الشرعيّة ، فالأمر بها لا يزيد على إفادة حسنها في نفسها من غير أن يحتاج إلى غاية أخرى فيها. وعلى هذا فلا يصحّ أن (9) يكون الأمر بها في الشريعة أمرا تشريعيّا.

ص: 423


1- لم يرد « في » في ( ش ).
2- كذا ، والظاهر : فيها.
3- لم يرد « الأوامر » في ( ش ).
4- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
5- النساء : 59.
6- البقرة : 24.
7- في ( ط ) زيادة : « بالنسبة ».
8- في ( ش ) زيادة : لسائر الأوامر الشرعيّة مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ونحوه من التكاليف.
9- في ( ط ) : « فلا يصلح لأن ».

وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : لو كان الأوامر المترتّبة على تلك الامور وما يقاربها تشريعيّة يلزم التسلسل ، وبطلان التالي كالملازمة ضروريّ ، فلا يترتّب على مخالفة النهي عن معصية الرسول إلاّ ما يترتّب على معصية الرسول ، ولا عصيان في تلك المخالفة ؛ لما عرفت من لزوم التسلسل على تقديره.

فظهر من جميع ما مرّ : أنّ حكم العقل بوجوب شيء إنّما هو مجرّد إرشاد منه ، وحكم الشرع المطابق له قد يكون تشريعيّا كما في كثير من الشرعيّات ، وقد يكون إرشاديّا كما في وجوب دفع الضرر الاخروي المنتهى إلى العقاب وما يماثله ؛ وإذا تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : قد تقدّم في مباحث الظنّ اختلاف مشارب القائلين بالانسداد في كيفيّة الاستنتاج منه ، فتارة بالحكومة كما هو مشرب التحقيق ، واخرى بالكشف على ما مرّ تفصيل القول في بيان المراد منهما. وعلى التقديرين لا وجه لتفريع مسألة الظنّ على مسألة الملازمة.

أمّا على الأوّل : فلأنّ حكم العقل تارة في مقدّماته كقبح التكليف بما لا يطاق ، واخرى في نفس النتيجة وعلى التقديرين لا يتمّ ما ذكره.

أمّا الأوّل ، فلأنّ قبح التكليف راجع إلى فعل اللّه تعالى وخروج أفعاله تعالى عن مسألة التلازم والتطابق ممّا لا يدانيه ريبة ، فإنّ أفعاله تعالى ليس ممّا يتعلّق به حكم شرعيّ. وأمّا الحكم العقلي فيها (1) فليس على ما هو المتراءى منه كما تخيّله جهّال الأشاعرة على ما تقرّر في محلّه.

ص: 424


1- في ( ش ) : « وأمّا العقلي فيهما ».

وأمّا الثاني ، فلأنّ حكم العقل بالعمل بالظنّ - على ما عرفت - مرجعه إلى الاحتياط في المظنونات ، وهو من فروع الإطاعة والعصيان وقد تقدّم (1) في المقدّمة الممهّدة عدم تعلّق حكم شرعيّ بهما. فالظنّ حال الانسداد كالعلم حال الانفتاح ، فكما أنّ العلم لا يقبل الجعل - كما ذكر في باب القطع - فكذا الظنّ ، فلا وجه لجريان مسألة التلازم فيه. سلّمنا كون الإطاعة والعصيان ممّا يقبل الحكم الشرعيّ على ما قد يتوهّم ، إلاّ أنّ الأدلّة الشرعيّة الآمرة بالإطاعة والناهية عن العصيان في الكتاب والسنّة فوق حدّ الإحصاء ؛ فلا ثمرة أيضا ، كما لا يخفى ذلك.

وأمّا على الثاني : فلأنّ مرجع الاستنتاج على القول بالكشف إلى قياس استثنائيّ مركّب من منفصلة مانعة الخلوّ ، فينتج رفع التالي وضع المقدّم ، كأن يقال : المرجع إمّا الظنّ أو العلم أو البراءة أو الاحتياط ، والتوالي فاسدة للمفاسد المترتّبة عليها - كما هو المقرّر في محلّه - فينتج مرجعية الظنّ مثلا. وهذا الحكم العقلي البرهاني وإن كان حجّة شرعيّة أيضا ، إلاّ أنّه خارج عن مسألة التلازم والتطابق ، فإنّ الفاضل التوني (2) إنّما هو في مقام دفع الثمرة في الأحكام العقليّة التي تثبت من جهة التحسين والتقبيح العقليّين ، دون الاستلزامات العقليّة كوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ وأمثالهما.

ولو لا أنّ الكلام في ثمرة الحسن والقبح - فالأحكام العقليّة ولو كانت شرعيّة ممّا لا تعدّ ولا تحصى - فلا وجه للاقتصار على مسألة الظنّ ، فإنّ كثيرا

ص: 425


1- في ( ط ) : « تقرّر ».
2- الوافية : 174.

ما ثبت الحكم الشرعي بأدلّة عقليّة صرفة كاجتماع النقيضين على تقدير عدمه أو وجوده ، وأمثال ذلك ممّا لا يخفى على المتدرّب في مطاوي كلماتهم ومجاري استدلالاتهم (1).

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المطلوب من حجّيّة الظنّ حال الانسداد هو كونه مناطا لجميع الأحكام الشرعيّة من الحكم بفسق المتخلّف عنه والحكم بعصيانه ونحو ذلك كما في الظنون الخاصّة ، فإنّ المتخلّف عن البيّنة (2) ولو كان مصادفا للواقع عاص في الظاهر. فالقائل بالظنّ المطلق لا بدّ له من التزام هذه الأحكام كما هو كذلك أيضا (3) فإنّهم ملتزمون بها ، كما لا يخفى على المطّلع بكلماتهم. والدليل الناهض بحجّيّة الظنّ لا يفي بذلك ، فإنّ غاية ما يتصوّر استفادته منه هو وجوب العمل بالظنّ بمعنى الاكتفاء بالامتثال الظنّي ، ولا دلالة فيه على حرمة التخلّف عنه ولو كان مصادفا للواقع ، فلا بدّ من إثبات كون الظنّ حجّة شرعيّة على ما هو الشأن في سائر الحجج الشرعيّة ولو بواسطة عنوان التجرّي والانقياد اللاحقين في حالتي المخالفة والموافقة ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يتمّ القول بكونها ثمرة للملازمة ، للأدلّة الكثيرة الواردة في مقام التجرّي والانقياد شرعا [ كما لا يخفى ](4) لو لم نقل بأنّ التجرّي والانقياد أيضا من فروع الإطاعة والعصيان على ما قد توهّمه بعضهم (5) ، فتدبّر.

ص: 426


1- لم ترد عبارة « في مطاوي كلماتهم ومجاري استدلالاتهم » في ( ش ).
2- في ( ش ) زيادة : « خبر الواحد بناء على كونه من الظنّ الخاصّ ».
3- لم يرد « أيضا » في ( ش ).
4- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
5- انظر تفصيل المسألة في فرائد الأصول 1 : 37 - 50.

تمّ الكلام في أصالة الإباحة ، والسلام على من اتّبع الهدى (1).

ص: 427


1- لم ترد « والسلام على من اتّبع الهدى » في ( ط ) ، وفيها زيادة ما يلي : « تمّ ما أفاده _ قدّس اللّه نفسه الزكيّة _ في مسائل الملازمة وأصالة الإباحة. ثمّ لا يخفى أنّه _ طاب ثراه _ قد خرج من قلمه الشريف ما يتعلّق بمسائل القطع والظنّ ، وما يتعلّق بمسائل البراءة والاستصحاب ، وكذا مسائل التعادل والتراجيح على النحو الأوفى. إلاّ أنّ المسائل المذكورة لمّا برز فيها ما أفاده بلا واسطة شيخه وأستاذه بل أستاذ الكلّ الشيخ مرتضى الأنصاري _ طيّب اللّه رمسه العالي _ واشتهر في غاية الاشتهار حتّى انحصر في عصرنا بحث المشتغلين في كلّ مجلس فيه أغنانا ذلك عن طبع ما برز منه رحمه اللّه بواسطة صاحب المطارح ، فصرفنا الهمّة من بعد ذلك إلى طبع مسألتي تقليد الميّت وتقليد الأعلم ، فإنّهما أنفع للمشتغلين ».

ص: 428

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الكلام في اشتراط الحياة في المفتي

اشارة

ص: 429

ص: 430

هداية

اختلفت كلمات أرباب النظر في اشتراط الحياة في المفتي.

فالمعروف بين أصحابنا الاشتراط.

والمنسوب إلى العامّة عدمه ، بل صرّح في المنهاج (1) بإجماعهم عليه ، حيث قال : جواز تقليد الميّت إجماعيّ في عصرنا.

وهو خيرة الأخباريّين من أصحابنا ، ومنهم أمينهم الأسترآبادي (2) والمحدّث الكاشاني في محكيّ السفينة (3) وفي مفاتيحه ظاهرا (4) والسيّد الجزائري (5) ، ووافقهم المحقّق القمّي (6) من المجتهدين.

وذهب بعضهم الى عدمه (7) مع عدم المجتهد الحيّ ، نقله فخر المحقّقين (8) عن والده واستبعده وحمل كلامه على محلّ آخر. وهو المحكيّ عن

ص: 431


1- لا يوجد لدينا.
2- الفوائد المدنيّة : 149.
3- سفينة النجاة المطبوع ضمن الأصول الأصيلة : 139.
4- مفاتيح الشرائع 2 : 152 ، المفتاح 491.
5- كشف الأسرار 2 : 77 - 92.
6- القوانين 2 : 265 - 273.
7- أي عدم اشتراط الحياة.
8- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100 ، وعنه في الوافية : 300.

الأردبيلي (1) والشيخ سليمان البحراني (2) والشيخ عليّ بن هلال (3).

قلت : ولعلّه ليس تفصيلا في المقام ، فإنّ الكلام - على ما ستعرف - إنّما هو في الجواز عند التمكّن من استعلام حال الواقعة من الحيّ ، وأمّا عند عدمه فلبيان الحكم فيه محلّ آخر ، كما لو انقرض الاجتهاد ، العياذ باللّه.

وذهب الفاضل التوني (4) الى عدم الاشتراط فيما إذا كان المفتي ممّن علم من حاله أنّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة كالصدوقين ومن شابههما من القدماء ، فإنّه يجوز الأخذ بفتاويهم حيّا وميّتا. وأمّا إذا كان ممّن يعمل بالأفراد الخفيّة للعمومات واللوازم الغير الظاهرة للملزومات فلا يجوز تقليده حيّا وميّتا.

وهو أيضا ليس من التفصيل في هذه المسألة وإنّما ذلك يعدّ تفصيلا في أصل التقليد. فالأولى عدّ الفاضل في عداد نظرائه من الأخباريّين.

ونقل السيّد صدر الدين في محكيّ شرح الوافية (5) عن بعض معاصريه التفصيل بين البدوي والاستمراري ، فلم يقل بالاشتراط في الثاني وقال به في الأوّل.

والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب. وقبل الخوض في المطلب ينبغي رسم مقدّمة :

وهي : أنّه لا إشكال في اختلاف الفتوى والرواية في الأحكام واللوازم المترتّبة عليهما. أمّا الرواية المنقولة لفظا فمغايرتها واختلافها للفتوى أمر لا يكاد

ص: 432


1- مجمع الفائدة 7 : 547.
2- حكاه عنهما السيّد الصدر في شرح الوافية :2. 471.
3- حكاه عنهما السيّد الصدر في شرح الوافية :2. 471.
4- الوافية : 307.
5- شرح الوافية : 471.

يستريب فيه العاقل فضلا عن الفاضل. وأمّا المنقولة معنى فهي وإن كانت مفاد اللفظ الصادر عن الإمام عليه السلام لكنّه بشرط العلم أو الظنّ المعتبر بمساواة الألفاظ في الأصل والمنقول في الإفادة ، ولا يجوز التعويل في النقل على أمر قد اعتقده اجتهادا ، والملحوظ فيه إنّما هو بيان المراد من حديث واحد. إلى غير ذلك.

وأمّا الفتوى فهي عبارة عن الإخبار بأحكام اللّه بحسب الاعتقاد ، ومنشأ الاعتقاد إنّما يكون الخبر تارة وغيره تارة أخرى ، فيجوز الفتوى عند توقّفها على إعمال الظنون الاجتهاديّة في الأحاديث الواصلة إلى المجتهد والأخذ بمجامعها وحمل بعضها على بعض. إلى غير ذلك من الاختلافات التي يطّلع بها الخبير المتتبّع بين الفتوى والنقل للرواية معنى.

ومن هنا منع من الفتوى بعض من لم يمنع من الرواية معنى ، بل لعلّ النقل بالمعنى ممّا لم يقل بالمنع منه أحد من أصحابنا ، فإنّ المخالف في هذه المسألة أبو بكر الرازي وأتباعه (1). بخلاف الفتوى ، فإنّ الأخباريّة بأجمعهم على المنع من الإفتاء ، فإنّه فرع الاجتهاد وهم ليسوا من أصحاب الاجتهاد كما هو المعروف من طريقهم. وكلمات جملة منهم ممّن اطلعنا عليها صريحة فيما ذكرنا ، فما يجوز عندهم من الفتوى عبارة عن نقل الحديث بالمعنى ، وما ليس كذلك فلا يجوّزونه ويلحقونه بالقول بالقياس والاستحسان ، ويعتقدون أنّ أرباب الفتاوى - بالمعنى الذي ذكرنا - خرجوا بذلك عمّا هو المأخوذ عن الأئمّة الأطهار ، وزعموا أنّهم في ذلك تبعوا العامّة في العمل بالرأي والاجتهاد المنهيّ عنه والاستحسان.

وليس المقام محلّ إبطال ذلك الزعم ، وإنّما المقصود أنّهم لمّا أرادوا الفرق بين الفتوى والنقل اعتقدوا فساد الأوّل زعما منهم أنّها داخلة في المنهيّ عنه.

ص: 433


1- انظر الإحكام للآمدي 2 : 115.

والكلام في المقام إنّما هو في جواز التقليد بعد الموت في هذه الفتاوى التي لا يقول الأخباري بها حال الحياة أيضا ممّا هي موقوفة على إعمال الاعتقادات في تشخيص مداليل الأدلّة.

ولا كلام لنا في الأخبار المنقولة بالمعنى على وجه لا يختلف الأصل والمنقول إلاّ في العبارة كما في الترجمة بالفارسيّة من مراعاة العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ، فإنّه لا يجوز نقل المطلق بالمقيّد وإن ظنّ الناقل أنّ المراد منه المقيّد ، فإنّ ذلك الظنّ منه اجتهاد لا يكون حجّة إلاّ له. ومن هنا يظهر أنّ خلاف الأخباريّين كما نقلناه ليس واردا في هذا المقام ، على ما عرفت من كلام التوني أيضا.

قال السيّد الجزائري (1) في مقام الاستدلال على ما ذهب إليه من عدم الاشتراط : إنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث ومن فوائدها تقريب معاني الأخبار إلى أفهام الناس ؛ لأنّ فيها العامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن ... إلى غير ذلك. وليس كلّ أحد يقدر على بيان هذه الامور من مفادها ، فالمجتهدون بذلوا جهدهم في بيان ما يحتاج إلى البيان وترتيبه على أحسن النظام والاختلاف بينهم مستند إلى اختلاف الأخبار أو فهم معانيها من الألفاظ المحتملة ، حتى لو نقلت تلك الأخبار لكانت موجبة للاختلاف ، كما ترى الاختلاف الوارد بين المحدّثين ، مع أنّ عملهم مقصور على الأخبار المنقولة ، وبالجملة فلا فرق بين التصنيف في الفقه والتأليف في الحديث ، انتهى.

ص: 434


1- قاله في بعض رسائله ، ولا توجد لدينا كما قاله القمي أيضا في شرح الوافية ( مخطوط ) : 471 - 472.

ويظهر منه أنّ تجويزهم لذلك ليس إلاّ من جهة أنّ الفتوى عندهم هي الرواية المنقولة بالمعنى على وجه لو اعتقد اختلافهما ما كان يقول بذلك ، كما هو ظاهر من مساق كلامه.

وبالجملة ، أنّ المجتهدين قد خالف طريقتهم طريقة الأخباريّين في العمل بالظنون الاجتهاديّة التي هي منتهية إلى القطع ، والأخباريّون لا يعتقدون العمل بالظنون وإن كان عملهم على خلاف معتقدهم ، فيتخيّلون أنّ الفتوى عبارة عن الرواية المنقولة ، فحسبوا جواز الاعتماد عليها بعد الموت وقبله كالرواية. بخلاف المجتهدين ، فإنّهم يعتقدون الاختلاف بين الرواية والفتوى بما عرفت ، فلا يرون الجواز.

ومن هنا يظهر أيضا : أن لا وجه لاستدلال بعضهم بطريقة السلف ، فإنّهم كانوا يعملون بفتاوى عليّ بن بابويه عند إعواز النصوص ، فإنّ تلك الفتاوى ليست بمنزلة الفتاوى المعمولة عندنا ، فإنّ أمثالها من فتاوى أصحاب الأئمة إنّما هي في الأغلب مضامين الروايات كما يرى الأخباريّون في مطلق الفتاوى ، فهي أخبار منقولة بالمعنى وهي حجّة للمجتهد والمقلّد ، ومن اطّلع على حال السلف وكيفيّة الاستفتاء والإفتاء يقطع بما ذكرنا.

ويكفيك شاهدا في المقام ما قاله العمري بعد ما سئل عنه عن كتب الشلمغاني ، فإنّه قال : أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » (1) فإنّه أفتى بنصّ الرواية.

ص: 435


1- كتاب الغيبة : 389 - 390 ، الحديث 355 ، والوسائل 18 : 72 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 79.

وليس ذلك راجعا إلى تفصيل التوني (1) ، فإنّه يعتقد ذلك في الفتاوى الموجودة. وهو خطأ وإنّما ذلك مختصّ في زمان الأئمة وما يقرب منه ، حيث إنّه لم يكن الفقه والاستنباط بهذه الصعوبة ، كما لا يخفى على المطّلع.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا في المقدّمة ، فالذي يدلّ على المختار وجوه :

الأوّل : أصالة حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم التي دلّت الأدلّة الأربعة بتمامها عليها ، خرج عنها فتوى الحيّ إجماعا ووفاقا منّا ومن القائلين بعدم الانسداد ، بقي الموارد المشكوكة تحت الأصل ومنها فتوى الميّت. ولا مخرج عن هذا الأصل سوى ما تخيله المجوّز ، وستعرف فساده.

فإن قلت : لا نسلّم أنّ الرجوع إلى الحيّ وفاقيّ ، فإنّ القائل بوجوب تقليد الأعلم إذا قال بجواز تقليد الميّت لا يحكم بالمساواة بل المقدّم هو الأعلم ولو كان ميّتا.

قلت : إنّ التخيير عند التساوي يلازم التخيير عند الأعلميّة ، لعدم القائل بالتفصيل ؛ مع أنّ القائل بوجوب تقليد الأعلم لا يقول بجواز تقليد الميّت غالبا ، لاتّحاد المناط.

ولا وجه لمنع الفاضل التوني عن عموم الأدلّة الدالّة عليه واختصاصها للاصول (2). كيف! وعمومها ممّا لا ينبغي إنكاره ؛ مع أنّ منع العموم يوجب خللا في أمره وأمر نظرائه من الأخباريّة في موارد كثيرة ، كما لا يخفى.

ص: 436


1- الوافية : 307.
2- الوافية : 304.

وبالجملة فقد قرّرنا في محلّه : أنّ الحجّية متن كانت مشكوكة يجب القول بعدمها ، والمقام منه ، فإنّ قول الميّت مع قول الحيّ مشكوك الحجّيّة والشكّ فيهما كاف في الحكم بعدم الحجّيّة.

وممّا ذكرنا تعرف فساد ما قد يقال : إنّ الأصل الجواز فإنّ ذلك في مقام الشكّ في الحجّيّة ممّا لم يقل به أحد.

الثاني : ظهور الإجماع المحقّق من الطائفة المحقّة. ويمكن الاطّلاع عليه واستعلامه من كلمات أصحابنا الإماميّة في المسألة ، فإنّ نقل الاتّفاق والإجماع فوق حدّ الاستفاضة.

فعن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة : لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحيّ بلا خلاف بين علماء الإمامية (1).

وعن المسالك : فقد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيرها باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله. قال : ولم يتحقّق إلى الآن خلاف في ذلك ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور (2).

وقال في محكيّ الرسالة المعمولة في المسألة : تحقّق بعد التتبّع الصادق لما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا من أصحابنا ممّن يعتبر قوله ويعتمد على فتواه مخالفا في ذلك ، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع. ثم قال : ولا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا

ص: 437


1- شرح الألفية ( رسائل المحقق الكركي ) 3 : 176.
2- المسالك 3 : 109.

الصالحين ، فإنّهم ذكروا في كتبهم الأصوليّة والفقهيّة قاطعين بما ذكرنا (1). وادّعى في محكيّ كتاب آداب العلم والتعلّم الإجماع على ذلك (2).

وعن المعالم العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ (3).

وعن شارع النجاة للمحقّق الداماد نفي الخلاف صريحا (4).

وهو الظاهر من العلاّمة في النهاية (5) ، حيث لم يذكر الخلاف بعد الفتوى ، مع أنّ عادته - سيّما في النهاية - على ذكر الخلاف.

وعن ابن أبي جمهور الأحسائي : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ووجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له ؛ وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة وبه نطقت مصنّفاتهم الأصولية ، لا أعلم فيه مخالفا منهم (6).

وعن المقدّس الأردبيلي نسبته إلى الأكثر (7).

ولا يدلّ على وجود الخلاف بعد ما علمت من ذهابه إلى التفصيل الذي قد قلنا بأنّه ليس تفصيلا. فالنسبة إلى الأكثر بواسطة خلاف العلاّمة على

ص: 438


1- رسائل الشهيد الثاني 1 : 44.
2- انظر منية المريد : 167.
3- المعالم : 248.
4- شارع النجاة ، المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : 10.
5- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 444.
6- راجع « رسالة التقليد » للشيخ الانصاري : 33.
7- مجمع الفائدة 7 : 549.

ما حكاه الفخر (1) والشيخ الجليل عليّ بن هلال (2).

وعن الوحيد البهبهاني في فوائده : أنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ الفقيه لو مات لا يكون قوله حجّة (3). وقال في موضع آخر : وربّما جعل ذلك من المعلوم من مذهب الشيعة (4).

وقال بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين بعد اختياره ذلك : للإجماع المحقّق (5).

ولعمري! إنّ الإنصاف يقضي بعدم غرابة هذه الدعوى منه بعد ما سمعت كلام الأساطين المتتبّعين الماهرين في البعد (6) والتحصيل. وأمّا ما ذكره الشهيد في الذكرى (7) من خلاف البعض ، فهو كما يراه الشهيد الثاني من أنّ « العلماء » يعمّ العامّة والخاصّة (8) ، وبعض الأعمّ أعمّ من بعض الأخصّ. وهذا هو الشهيد الثاني فقد نسب القول (9) إلى الأكثر ، مع ما عرفت من ادّعائه الإجماع.

ص: 439


1- حكاه عن الفخر المحقق الثاني في حاشية الشرائع الورقة : 100.
2- انظر شرح الوافية : 471 ، ومناهج الأحكام : 301.
3- انظر الرسائل الفقهية : 7 - 8 و 16.
4- انظر الرسائل الفقهية : 7 - 8 و 16.
5- لعلّه المحقق الكلباسي في الجزء الثاني من إشارات الأصول ، لا يوجد لدينا.
6- كذا ، ولا نعرف القصد من ذلك.
7- الذكرى 1 : 44.
8- رسائل الشهيد الثاني 1 : 47.
9- أي القول بالجواز المنقول عن العامة ، حيث نسبه إلى الأكثر في المنية : 167 ، والمقاصد العلية : 51 - 52.

وبذلك يندفع ما قد يستكشف من العلاّمة الخلاف في التهذيب (1) - على ما حكي - حيث إنّه عبّر أنّ الأقرب كذا ، فإنّ أمثال هذه العبارة لا تنافي الإجماع ، ألا ترى عبارة العلاّمة في متابعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله للشرع السابق ، فإنّه يقول في التهذيب : الأقرب أنّه لم يكن متعبّدا بشرع (2) مع ظهور قيام الضرورة عندنا على عدم المتابعة.

وأمّا مخالفة الأخباريّين فقد عرفت أن ذلك بواسطة تخيّلهم أنّ الجائز من الفتوى لا يفارق النقل بالمعنى ، كما عرفت من كلام السيّد الجزائري (3) ، حيث إنّه صريح فيما ذكرنا. كما أنّ خلاف العامّة أيضا لا ينبغي أن يعدّ خلافا ، لاستقرار طريقتهم على بطلان الاجتهاد الخارج من الأربعة.

وبالجملة ، دعوى الإجماع على عدم الجواز من أصحابنا الإماميّة - سيّما على طريقة الحدس - ليس بعيدا. ومجرّد كون المسألة رباعيّة الأقوال لا ينافي الإجماع بعد ما عرفت من رجوع التفصيل إلى المنع كما في تفصيل العلاّمة (4) وإلى الجواز كما في تفصيل التوني (5) وكون القول الآخر للعامّة.

فما يظهر من بعض عوام الأخباريّة تقليدا لبعض الآخر منهم : من أنّه أين الإجماع في مثل المسألة؟ ممّا لا يصغى إليه ، لا سيّما بعد اعتراف بعض الأعاظم (6)

ص: 440


1- تهذيب الوصول : 289.
2- تهذيب الوصول : 178.
3- راجع الصفحة : 434.
4- راجع الصفحة : 432.
5- راجع الصفحة : 432.
6- لعل المراد منه الشهيد الثاني في كلامه المحكي عن الرسالة كما تقدم في الصفحة : 437.

بأنّه بعد الفحص الأكيد لم يطّلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط.

ولو سلّمنا عدم حصول القطع بالحكم على وجه يقطع في الموارد الإجماعيّة فيكفي في المسألة هذه الإجماعات المنقولة مع الشهرة المحقّقة قطعا ، فإنّ المسألة يكفي فيها ما يكفي في المسائل الفرعيّة ، لكونها ملحقا بها ، لاشتراكها معها فيما هو الخاصّة للمسائل الفرعيّة ، وهو أنّ المقلّد يعمل بها بعد أخذها من المفتي من دون حاجة إلى مقدّمة أخرى ، فهو ينتفع من المسألة لو كانت معلومة.

ولو سلّم كونها من المسائل الأصوليّة - كما يظهر من المحقّق القمّي (1) - فلا نسلّم أنّ الظنّ لا يكفي في الأصول بعد دلالة الدليل على اعتباره فيما إذا كان من الظنون الخاصّة. وأمّا الظنون المطلقة فقد حقّقنا في محلّه أنّها غير مختصّة بالفروع ، فإنّ قضيّة الانسداد هو لزوم تحصيل الظنّ بفراغ الذمّة الحاصل بالعمل بالظنّ في نفس الحكم الشرعي أو في المسألة الأصوليّة.

ولو سلّمنا عدم كفاية الظنّ في الأصول ، فنقول : إنّ هذه الإجماعات يستكشف منها - على وجه لا ينبغي الارتياب فيه - أنّ عند المجمعين دليلا معتبرا يدلّ على ذلك. وذلك يكفي في المقام ، إذ لا يلزم أن يكون الدليل معلوما على وجه التفصيل ، بل يكفي وجوده ولو إجمالا.

والعجم من القائلين بالظنون المطلقة كيف ساغ لهم ترك التعويل على مثل هذه الإجماعات في هذه المسألة مع أنّهم يكتفون في الفروع بما هو أدنى من ذلك!

ص: 441


1- القوانين 2 : 405.

الثالث : ما احتجّ به ثاني المحقّقين في حاشية الشرائع (1) - تبعا للعلاّمة (2) - وهو أنّ المفتي إذا مات سقط قوله بموته بحيث لا يعتدّ به ، وما هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

أمّا الأولى فللإجماع على أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع انعقاد الإجماع ؛ اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد الإجماع وصار قوله غير منظور إليه شرعا ولا معتدّا به.

أمّا الثانية فظاهرة.

ثم أورد على نفسه اعتراضا بقوله : إنّما انعقد الإجماع بموت الفقيه المخالف ، لأنّ حجّيّة الإجماع إنّما هي بدخول المعصوم في أهل العصر من أهل الحلّ والعقد ، وبموت الفقيه المخالف في الفرض يتبيّن أنّه غير الإمام ، فتعيّن دخول الإمام في الباقين ، ومن ثمّ انعقد الإجماع بموته ، ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى للميّت قول شرعا.

فأجاب عنه : بأنّه على هذا يلزم من موت الفقيه المخالف انكشاف خطأ قوله ، فلا يجوز العمل حينئذ من هذا الوجه (3).

أقول : وليس هذه الحجّة ممّا يعوّل عليها.

أمّا أوّلا : فلاختصاصها بما إذا كان قول الميّت مخالفا لأقوال معاصريه في حال حياته ، فإنّ انكشاف خطأ قوله بعد موته إنّما يكون فيما إذا كان جميع أهل عصره مخالفا له حتّى ينعقد الإجماع بعد موته على خلافه فيكشف عن خطأ قوله.

ص: 442


1- حاشية الشرائع ، الورقة : 99.
2- انظر نهاية الوصول : 444.
3- حاشية الشرائع : 99.

وأمّا إذا كان أهل عصره مختلفين في الفتوى فلا دليل على خطأ قوله ، إذ المفروض أنّ الموت لم يثبت كونه مبطلا لقوله ، وإنّما اتّفق كشف الموت عن بطلان قوله في الفرض السابق باعتبار تحقّق الإجماع وانعقاده على خلاف فتوى الميّت ، فيختصّ بصورة الكشف. بل وذلك ممّا لا كلام فيه ، حتّى أنّ الحيّ لو فرض كشف خطائه في فتواه ، فلا يجوز تقليده.

ومن هنا يظهر : أنّه لا سبيل إلى التمسّك بالإجماع المركّب في إتمام الدليل ، فإنّه لا مسرح له فيما إذا كان الحكم مستفادا من علّة معلوم الانتفاء في الطرف الآخر. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ تقليد الميّت تظهر الثمرة فيه فيما إذا لم يكن فتواه مطابقا لأحد من الأحياء ، إذ على تقدير المطابقة فلا تظهر الثمرة إلاّ على القول بلزوم تعيين المفتي في التقليد. ولعلّه لا دليل على التعيين عند مطابقة العمل للواقع ، فيقرّر الدليل حينئذ : بأنّ الأخذ بقول الموتى إذا كان موافقا لأقوال الأحياء ولو واحدا منهم فلا كلام فيه ، إذ ليس ذلك اعتمادا على الميّت ، لعدم دليل على التعيين ، وإذا لم يكن موافقا فهو خلاف الإجماع ، إمّا بسيطا كما إذا كان الكلّ على خلافه مع اتّفاقهم ، أو مركّبا (1) كما إذا كان أقوالهم مع اختلافها مخالفة له.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره مبنيّ على طريقة خاصّة في الإجماع يظهر ممّا ذكره فخر المحقّقين في بعض الفروع وغيره ، ولعلّها قريبة من طريقة اللطف في الإجماع ، ولذلك يمنع عن تحقّق الإجماع خلاف الواحد وينعقد بعد ارتفاع الخلاف. وهذه الطريقة ممّا لا دليل يقضي بها - كما هو المحرّر في محلّه -

ص: 443


1- في هامش المطبوع ما يلي : مبنيّ على القول بتحقّق الإجماع المركّب على هذه الطريقة بمجرّد انحصار القول في الموجودين ، منه رحمه اللّه.

بل المختار في الإجماع هو الوجه الذي لا ينافي فيه خلاف البعض ولا يحصل بالاجتماع أيضا.

لا يقال : إنّ الاحتجاج إنّما هو في قبال العامّة وهم يعتبرون في الإجماع الاجتماع ولا ينعقد مع مخالفة البعض ، ويدلّ على ذلك : أنّ المستدلّ يعتقد عدم الخلاف بين أصحابنا في ذلك.

لأنّا نقول : إنّه صرّح في الجواب عن الاعتراض : بأنّ الكلام إنّما هو في الإجماع على طريقة الإماميّة ، فراجعه (1).

واعترض في الوافية على الحجّة المذكورة بقوله : بأنّه منتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل ، وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر (2) ، انتهى.

أقول : إمّا أن يكون مراد المستدلّ إبطال قول الميّت بموته بواسطة إمكان انعقاد الإجماع على خلافه بعد موته ، بخلاف قبل الموت ، فإنّه لا يمكن انعقاد الإجماع على خلافه اعتدادا بقوله كما هو صريح الاستدلال قبل الاعتراض. وإمّا أن يكون مراده إبطال قول الميّت بواسطة كونه على خلاف الإجماع ، كما هو ظاهر الجواب عن الاعتراض. وعلى التقديرين لا وجه للنقض بمعلوم النسب.

أمّا على الأوّل : فلأن مفروض المستدلّ أنّ خلاف الواحد مضرّ في حصول الإجماع ولو كان معلوم النسب ، فلا يمكن انعقاد الإجماع على خلافه حتّى يقال : بأنّ اللازم من الدليل المذكور عدم الاعتداد بقول معلوم النسب أيضا ، لإمكان انعقاد الإجماع على خلافه.

ص: 444


1- انظر حاشية الشرائع : 99.
2- الوافية : 301.

وأمّا على الثاني : فلأنّ مناط الفساد إنّما هو ظهور بطلان القول ، فإن فرض وجود المناط في قول معلوم النسب فهو أيضا باطل ولا ينافي المطلوب. وإن لم يكن المناط موجودا فلا وجه للنقض ، لعدم الاشتراك حينئذ.

وأمّا ما أورده من حديث الجرح والتعديل وقبول شهادته بعد الموت ، فان أراد المعارضة بنفس قبول الشهادة مع قطع النظر عن إعمال فتواه في الشهادة ، فعلى التقريب الثاني فهو ممّا لا يرتبط بالمقام ، وعلى الأوّل فالفرق بين الشهادة والفتوى هو : أنّ المناط في الشهادة موجود بعد الموت مثل الرواية ، بخلاف الفتوى ، فإنّ الكلام في ذلك.

وإن أراد أنّ قبول شهادته يوجب الاعتماد على قوله في عدد الكبائر وفيما هو مناط التعديل من الملكة وحسن الظاهر إلى غير ذلك من الامور الاجتهاديّة ، ففيه : أنّ التعويل على شهادته في الجرح والتعديل ليس اعتمادا على مذهبه في عدد الكبائر ، بل إنّما هو بواسطة أنّ الألفاظ الواردة في مقام الشهادة تحمل على الواقع من غير ملاحظة مذهب الشاهد. نعم ، لو علم أنّ الجرح إنّما هو بواسطة شيء مبنيّ على مذهبه فعند المخالفة لمذهب المجتهد لا نسلّم وجوب الأخذ بشهادته في الجرح والتعديل.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة اعترض على الدليل - بعد النقض بمعلوم النسب - : أنّ عدم الاعتداد بقوله في تحقّق الإجماع لا يلازم عدم الاعتداد به في مقام التقليد (1).

وفيه : أنّه لا مساس له بكلام المستدلّ على الثاني ، وعلى الأوّل فيمكن ادّعاء الأولويّة أو عدم القول بالفصل ، فتأمل.

ص: 445


1- الفصول : 421.

الرابع : أنّ الحجّة في حقّ المجتهد والمقلّد أمر واحد ، فإنّه نائب عنه في فهم النتائج المستفادة من الأدلّة التي هي موارد التقليد والبناء على القواعد والفحص عن المعارضات والترجيح بينها ، ومن المعلوم أنّ المعتبر في حقّ المقلّد ليس قوله وفتواه ، بل إنّما هو سبيل في الوصول إلى ما هو المعتبر في حقّه وهو فهمه وظنّه ، والإدراكات المتعلّقة بالقوى المتعلّقة بالبدن لا تبقى بعد خراب البدن ، فيرتفع ما هو الحجّة بعد الموت ، فلا وجه للاعتماد على قول الميّت وهو المطلوب.

أمّا المقدّمة الأولى - وهي اتّحاد الحجّة - فظاهرة ، فإنّ مجرّد القول ولو عند انتفاء الظنّ وزواله بواسطة زوال الملكة لهرم أو نحوه لا يكون مناطا لعمل المقلّد ، بل لا بدّ من مقارنته للظنّ الفعلي في حقّه. بل لو اطّلع على ظنّ المجتهد بدون توسّط القول كان ذلك حجّة له ومناطا لعمله. ولا ينافي ذلك عدم الالتفات إليه بواسطة عروض غفلة وذهول حاصل حال الإغماء والنوم ونحوه ، لوجود الظنّ في تلك الحالة في الخزانة.

وأمّا المقدّمة الثانية : فاستدلّ الوحيد البهبهاني عليها : بأنّ الظنّ هي الصورة الحاصلة في الذهن ، ولا يبقى تلك الصورة حال النزع لشدّتها وكثرة الاضطراب الواقع فيها ، بل ولا تبقى حال النسيان والغفلة أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت حيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه (1)!

أقول : وهذا الاستدلال مبنيّ على أن يكون الذهن جزءا من البدن ويكون الصورة العلميّة محفوظة فيه على وجه لو حاول النفس إدراك تلك الصورة والالتفات إليها كان الذهن وسيلة في نيلها إليها. وهو غير معلوم لا وجدانا ولا

ص: 446


1- الرسائل الفقهيّة : 15.

برهانا ، بل المعقول عندنا هو : أنّ الذهن قوّة من قوى النفس الناطقة بها يدرك المعلومات ، وليس من أجزاء البدن ، فخراب البدن وانقطاع الروح منه لا يلازم ارتفاع الصور العلميّة ؛ ولا نضايق من القول بأنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري له دخل في حصول الإدراكات والملكات في هذه النشأة ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب القول بزوال تلك الإدراكات عند انخلاع النفس وخروجها من البدن ، إذ يحتمل أن يكون ذلك معدّا وانتفاء المعدّ لا يوجب انتفاء المعلول ، كيف! والقول به على وجه الإطلاق يوجب القول بما لا أظنّ أن يلتزم به أحد ، وهو زوال الصور العلميّة الثابتة للنفس في هذه النشأة ، مع أنّ المقصود الأصليّ من الإيجاد ربما يكون تحلية النفس بالصور العلمية من المعارف والاعتقادات الحقّة ، فإنّها كمال لقوّتيها - النظريّة والعمليّة -.

أمّا الأولى ، فظاهر. وأمّا الثانية ، فلأنّ تحصيل الملكات الفاضلة وتجريد النفس عن الصفات الرذيلة موقوف على الصور العلميّة ، كما لا يخفى. ولو سلّم فتلك الملكات أيضا في عرض الصور العلميّة ، فإنّها أيضا من الأعراض الحالّة في الحيوان الناطق في الظاهر ، فانقطاع الروح كما يقضي بارتفاع الأولى يقضي بارتفاع الثانية أيضا ، مع أنّ ذلك ظاهر الفساد.

اللّهم بالقول بالفرق بين الظنون الحاصلة من النظر والعلوم التي يقتضيها الفطريّة الإلهيّة التي فطره اللّه عليها. وهو كما ترى لا يساعده دليل ولا يوافقه اعتبار ، فإنّ النفوس الإنسانيّة في بدو الفطرة قبل حدوث العلقة بينها وبين أبدانها - كما صرّح به غير واحد من أرباب المعقول والمنقول (1) ونطقت به الآثار

ص: 447


1- راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 231 وشرح المنظومة : 303.

المعصوميّة (1) - خالية عن جميع الصور العلميّة ، ضروريّة كانت أو نظريّة علميّة أو ظنيّة ، ثمّ بواسطة قواها الظاهرة والباطنة يتحلّى بالعلوم الأوّليّة المستتبعة للعلوم النظريّة إلى أن يصل إلى حدّ يكون في ذلك الحدّ عقلا بالفعل ، فكلّ العلوم التي افيض عليها من المبدأ الفيّاض إنّما هي حادثة بعد تعلّق النفوس بالأبدان في هذه النشأة ؛ ولهذا كانت مزرعة للنشأة الآخرة.

وبالجملة ، فنحن لا نسلّم أنّ محالّ هذه الأعراض هي الأجسام الحيوانيّة بل يحتمل احتمالا قويّا أن يكون النفس محلاّ لها ، والمفروض بقاء النفس بعد خراب البدن ، فلا يلزم بقاء العرض مع ارتفاع الموضوع وهو الحيوان الناطق ، فعلى المستدلّ إقامة دليل على ذلك. ولا ينافي ما ذكرنا أن يكون للآلات الجسمانيّة مدخل في حصولها على وجه الإعداد ، غاية الأمر عدم حصولها بعد الموت ، وأين ذلك من زوال الحاصل؟ فلا أقلّ من الشكّ في بقاء تلك الصور ، والأصل قاض ببقائها.

وقد يظهر من بعضهم دعوى زوال الظنّ بعد الموت لا بواسطة أنّ الموت يوجب خراب البدن ، بل بواسطة كشف حجاب النفس عن الواقع واطّلاعها على اللوح المحفوظ بعد الموت. وهو الظاهر من المحقّق الداماد رحمه اللّه في توجيه كلام جدّه المحقّق الثاني حيث أراد السيّد دفع الاستصحاب القاضي بالبقاء ، حيث قال : إنّ الظنّ لمّا جاز أن يكون مخالفا للواقع والموت الجسماني الذي حقيقته انقطاع النفس عن البدن ورجوعها إلى عالم الملكوت الذي هو ميقات حقيقة الحقّ وانكشاف بطلان الباطل ، فيمكن أن يتحقّق به انكشاف خطأ ظنّه الذي كان

ص: 448


1- منها قوله تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) ، النحل : 78. وراجع الميزان 12 : 312.

حاصلا في الحكم في هذه النشأة ، فلا يبقى اعتقاده القائم بنفسه الذي وجب اتّباعه ، فاستصحاب بقاء الظنّ الحاصل له في الحياة بنحو حصوله فيها غير معقول ، إذ من شرائط الاستصحاب بقاء الموضوع على حاله ، فقياس حال الموت بحال الحياة غلط ناش عن عدم البصيرة (1) ، انتهى.

وظاهره تسليم أنّ الظنّ يمكن بقاؤه بعد الموت وإنّما يناقش في جريان الاستصحاب بواسطة احتمال انقلابه إلى خلافه لاحتمال مخالفته للواقع. وهذا الاحتمال لا يجدي في العلوم المطابقة للواقع والمعارف الحقّة ، كما هو ظاهر.

ثم إنّ ما ذكره إلى آخره لا ينهض بدفع الاستصحاب ، فإنّ مجرّد إمكان انقلاب الظنّ بخلافه لا يكون موجبا لعدم جريان الاستصحاب ، بل هو محقّق لجريانه كما لا يخفى. والقول : بأنّ الموت يوجب زوال الظنّ قطعا إمّا بواسطة كونه مخالفا للواقع وإمّا بواسطة انقلابه علما مطابقا للظنّ فلا يجري الاستصحاب مبنيّ على عدم جريان الاستصحاب في الأمور المختلفة شدّة وضعفا كالسواد المردّد بين انقلابه بياضا أو اشتداده ، والظاهر مساعدة العرف على جريان الاستصحاب في مثل المقام وإن كان الوجه عدم جريانه بملاحظة الدقّة.

إلاّ أنّه مع ذلك لا وجه للاستصحاب في المقام ، فإنّ جواز التقليد ربما يقال مترتّب على الظنون الحاصلة للمجتهد في حال الحياة ولم يدلّ دليل على جواز الرجوع إلى ظنّ المجتهد ولو كان باقيا بعد الموت.

وتوضيحه : أنّ جريان الاستصحاب في الظنّ باعتبار مطلق الاعتقاد الحاصل في ضمن العلم أو الظنّ إنّما يثمر في جواز التقليد بعد الموت فيما لو كان جواز التقليد ثابتا لمطلق الاعتقاد ، وليس كذلك ، بل المعلوم إنّما هو ثبوته للظنّ

ص: 449


1- انتهى ما قاله الميرداماد ، انظر شارع النجاة ، المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : 10 - 11.

الحاصل حال الحياة بشرط بقائها ، فإنّ الوجه في المنع هو عدم العلم بالجواز فيما عدا الظنّ الحاصل في زمان الحياة ، بل ولو فرض بقاء الظنّ بعينه بعد الموت ما كنّا نقول بجواز اتّباعه كما عرفت في تقرير الأصل.

ثم إنّه ربما يستدلّ أيضا على ارتفاع الظنّ بعد الموت : بأنّ الإدراك إنّما هو من مقتضيات الصفراء ، وبعد الموت ترتفع جميع الأخلاط.

وهو على تقدير تسليمه لا يقضي بارتفاع الإدراك الحاصل وإنّما يقضي بعدم حصوله بعد ارتفاع ما يقضي به.

وقد يدّعى بداهة عدم بقاء الظنّ وزواله بعد الموت كما هو الظاهر من الوحيد البهبهاني رحمه اللّه (1).

ولعلّ مراده : أنّ من المشاهد المحسوس صيرورة العالم عاميا بعد اندراس علومه وانطماس ملكته بواسطة الهرم والكبر الموجبين لضعف القوى الحيوانيّة سواء كانت من القوى الإدراكيّة أو غيرها ، فكلّما يتزايد الهرم فيه يزداد الضعف في قواه إلى أن يصل إلى حدّ لا يقدر على الكسب ، ثم يزداد إلى أن يصل إلى حدّ لا يقدر على حفظ مدركاته في السابق ، وكلّ ذلك بواسطة اختلال يقع في البدن ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) (2) فلو لا أنّ القوى الجسمانيّة التي ترتفع بعد الموت قطعا لها مدخل في الصور العلميّة حدوثا وبقاء لا معنى لزوال تلك الصورة بعد حدوث الضعف في تلك القوى. وتوضح ذلك ملاحظة حال من اختلّ دماغه بواسطة حدوث حادثة في هامّته كالضرب الشديد مثلا ، فإنّه يختلّ إدراكه ومدركاته أيضا.

ص: 450


1- انظر الرسائل الفقهية : 9 - 10.
2- النحل : 70.

وبالجملة ، فمدخليّة الأمور الجسمانيّة في حدوث الإدراك وبقائه على الوجه المذكور ظاهر ، إلاّ أنّه مع ذلك لا نجد من أنفسنا الحكم بارتفاع الصور العلميّة بعد الموت بعد ما عرفت من الأمارات المقتضية للبقاء ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد استدلّ المحقّق الثاني بما يقرب من الوجه المذكور ، وهو : أنّ دلائل الفقه لمّا كانت ظنّية لم تكن حجّيتها إلاّ باعتبار الظنّ الحاصل معها ، وهذا الظنّ يمتنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند فيخرج عن كونه معتبرا شرعا (1).

وتوضيحه : أنّ الأمارات الظنّية بنفسها لا تستلزم النتائج ، وإلاّ لكانت أدلّة ، فلا يجوز التعويل عليها ما لم يقترن معها ظنّ الفقيه على وجه الاستدامة الحكميّة كما في حال النوم والغفلة ؛ ولهذا لا يجوز العمل بها لمن لم يبلغ درجة الفقاهة ولا له بعد زوال ظنّه وتبدّله إلى نقيضه ، فالمعتبر حقيقة هو ظن الفقيه الحاصل من الأمارة ، ويمنع بقاء الظنّ بعد الموت.

واعترض عليه في الوافية (2) - بعد تسلّم زوال الاعتقادات - بمنع خلوّ الحكم عن السند ، قال : وهل هذا إلاّ عين المتنازع فيه؟ إذ نقول : إذا حصل للمجتهد العلم أو الظنّ بالحكم من دليل أو أمارة اقترن به علمه أو ظنّه فلم لا يجوز العمل بذلك الحكم؟

وحاصله : أنّه لا دليل على استدامة مقارنة الظنّ للحكم ، لم لا يكتفى باقترانه له في الجملة في حال الحياة؟ فدعوى لزوم المقارنة الدائميّة في مرتبة نفس المدّعى أو عينه.

ص: 451


1- حاشية الشرائع : 99.
2- الوافية : 302 - 303.

أقول : لا إشكال في أنّ القدر المعلوم حجّيته - على ما قلنا في تقرير الأصل - هو الظنّ على الوجه الّذي أفاده المحقّق الثاني فإنّه على تقدير البقاء أيضا قلنا : بأنّه ليس مناطا للعمل ، لكونه مشكوكا فيه. وعلى هذا التقرير لا وجه للمنع المذكور ، فإنّ من يقول بخلافه لا بدّ له من إقامة الدليل ، فإنّه موافق للأصل. لكن الكلام في إتمام هذا الدليل مع قطع النظر عن الأصل على وجه لو كان الأصل بخلاف ذلك يكون كافيا في قطع الأصل ، فاعتراض الفاضل التوني في محلّه كما هو قضيّة الإنصاف.

الخامس : ما استند إليه المحقّق المذكور ، وهو أنّه لو جاز العمل بفتوى الفقيه بعد موته لامتنع في زماننا الإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف لأهل هذا العصر عليهما بالنسبة إلى الأعصر السابقة كاد أن يكون ممتنعا (1).

أقول : إنّ معرفة الأعلم في السابقين ليس بأشكل من معرفته في الموجودين ، بل لعلّه أسهل. وعلى تقدير ذلك لا دليل على ثبوته فيكون ساقطا ، لامتناع التكليف بما لا يطاق ، وعلى تقدير السقوط لا يدلّ على عدم جواز تقليد الميّت.

والأولى أن يقال : إنّ وجوب تقليد الأعلم مع جواز تقليد الميّت يوجب عدم جواز تقليد الأحياء في الغالب ، إذ قلّ ما يتّفق أن يعلم بالأعلميّة في الأحياء حتى بالنسبة إلى الأموات ، فالإجماع على وجوب تقليد الأعلم في الأحياء دليل على أنّ الأموات لا عبرة بأقوالهم.

ص: 452


1- حاشية الشرائع : 99.

قال الشهيد (1) في رسالته المعمولة في المسألة : لو صحّ جواز تقليد الميّت يلزم من ذلك التزام شنيع ، وهو أنّه يتعيّن الرجوع حينئذ إلى الأعلم من الأحياء والأموات عملا بما قرّرناه من القاعدة ، فلو فرض مجتهد حيّ يعلم قصور رتبته عن بعض من سلف من الفقهاء الأموات ولكن ليس في العصر سواه أو فيه غيره ولكنّه أعلم الأحياء ، يلزم على هذا عدم جواز الرجوع إليه والأخذ بقوله ، لوجوب تقليد الأعلم والفرض أنّ بعض الأموات أعلم منه وأنّ قولهم معتبر ، وهذا خلاف الإجماع.

لا يقال : هذا الفرض منفيّ بالإجماع على خلافه ، فبقي الكلام فيما لا إجماع عليه ، فإنّ مثل ذلك كاف في تخصيص العامّ والتمسّك بما عدا المخرج بالدليل.

لأنّا نقول : هذا باطل محال لزم من جواز تقليد الميّت من حيث اتّفق أو على وجه مخصوص ، وكلّ حكم لزم منه [ المحال ] فهو محال ، فيكون جواز تقليد الميّت على ذلك الوجه محالا ، وبه يتمّ المطلوب (2).

أقول : لمانع أن يمنع لزوم ذلك من تقليد الميّت ، فلعلّه ناش من لزوم تقليد الأعلم ، إلاّ أنّه خلاف الإنصاف ؛ لأنّ وجوب تقليد الأعلم عندهم مفروغ عنه ، فالإجماع المحكيّ على وجوب تقليد الأعلم لا بدّ من تخصيصه بالأحياء على وجه يظهر منه عدم الاعتداد بتقليد الأموات ، فيكون هذا الإجماع مثل الاجماعات المنقولة على عدم جواز تقليد الميّت ، إلاّ أنهما مختلفان بالصراحة والظهور.

ص: 453


1- أي الشهيد الثاني.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 40.

السادس : ما تمسّك به المحقّق المذكور أيضا (1) : من أنّ المجتهد إذا تغيّر اجتهاده وجب العمل بالآخر ولا يعلم الأخير في الميّت.

وفيه : أنّه إن اريد أنّه لا يمكن العلم بالتقديم والتأخير في الميّت على وجه الإطلاق فهو غير سديد ، ضرورة إمكان العلم بذلك في كثير من الموارد ، كما أنّه إذا علم تأخير تأليف الكتاب الموجود فيه الفتوى ونحوه. وإن اريد أنّه قد لا يمكن ذلك فهو لا ينهض مانعا من التقليد ، فإنّ الحيّ قد لا يمكن العلم بذلك في فتواه أيضا. وطريق الحلّ فيهما واحد ، وهو عند عدم إمكان العلم أو ما يقوم مقامه بالتعيين إمّا أن يكون متمكّنا من الرجوع إلى فتوى لا معارض لها من ذلك المفتي فلا بدّ من الرجوع إليه ، وإلاّ كان مخيّرا بحكم العقل.

ومنه يظهر الجواب عمّا أورده الشهيد الثاني رحمه اللّه : من أنّ كثيرا من الفتاوى المنقولة من الكتب غير مستند إلى أحد من المجتهدين فلعلّ المفتي بها ليس مجتهدا (2) ؛ فإنّ انحصار المانع في أمثال هذه الموانع دليل على الجواز على تقدير تسليم وجودها ؛ مع أنّ الظاهر أنّ أحدا من أرباب الكتب المتداولة لا ينسبون القول إلى من ليس مجتهدا.

لا يقال : إنّ تعيين المفتي من الشروط ، لأنّا نقول : لا دليل على ذلك كما يبيّن في محلّه.

ثم إنّهم قد ذكروا وجوها أخر كلّها مزيّفة. والعمدة في المقام هو الوجهان المقدّمان ، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

ص: 454


1- حاشية الشرائع : 99.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 28.

هداية

في ذكر احتجاج المجوّزين :

وهي كثيرة لا تحصى ، أقواها أمور ، منها : العقل والكتاب والسنّة والإجماع.

أمّا الأول فتقريره من وجوه :

أحدها : ما عوّل عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه (1) ومحصّله : أنّ رجوع العامي إلى المجتهد ليس تعبّدا كما يومئ إليه تعليلهم في وجوب الأخذ بالأعلم بأنّ الظنّ في طرفه أقوى ، مضافا إلى أنّه لا دليل على التعبّد. أمّا السيرة والإجماع فلا جدوى فيهما. أمّا الأولى ، فلأنّ السلف المعاصرين للإمام كان باب العلم في حقّهم مفتوحا وعملهم إنّما هو بعلمهم. وأمّا الإجماع فهو موهون بذهاب فقهاء حلب على وجوب الاجتهاد عينا (2) وإنكار جملة من أصحابنا الأخباريّين للتقليد (3) ممّا لا يقبل الإنكار ، فأين الإجماع؟ بل التقليد اعتباره في حقّ العامي إنّما هو بواسطة الظنّ الثابت اعتباره بعد الانسداد على وجه العموم والكلّية بالبرهان العقلي ، ولا فرق بين الظنّ الحاصل من قول الحيّ وغيره ، كما هو قضيّة ضرورة العقل ، فمناط

ص: 455


1- القوانين 2 : 270.
2- كابن زهرة في الغنية 2 : 414 ، وابي الصلاح في الكافي : 511.
3- انظر هداية الأبرار : 203 - 204 ، والفوائد المدنيّة : 40 ، وانظر مفاتيح الأصول : 589 أيضا.

العمل بقول الحيّ موجود في قول الميّت ، بل ربما يكون الظنّ الحاصل من قول الميّت أقوى. وبالجملة ، فلا فرق بين المجتهد والمقلّد في جواز العمل بالظن ، فإنّ المسوّغ للمجتهد هو موجود بعينه في حقّ المقلّد ، فلو دار أمره في الفروع بين حيّ وميّت وحصل له الرجحان في أنّ متابعة ذلك الميّت أقرب إلى حكم اللّه يجب اتّباعه ، بل وكيف يجوز للعالم الذي لا يجوّز ذلك منعه عنه إذا لم يحصل من قوله الظنّ بعدم الجواز؟ وعلى تقدير حصوله فلا يوجب ارتفاع الظنّ في المسألة الفرعيّة ، فيدور الأمر بينهما. ومن هنا يظهر : أنّه لا وجه للقول : بأنّ الإجماع المنقول والشهرة المحقّقة كلّ منهما أمارة ظنّية على عدم جواز الاعتماد على الميّت في الفروع ، إذ بعد تسليم إمكان انعقاد الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تكن متداولة في زمان المعصوم وإفادة المنقول منه - كالشهرة - الظنّ لا ترجيح لهذا الظنّ بالنسبة إلى الظنّ الحاصل في المسألة الفرعيّة لو لم نقل بأنّ الظنّ بالواقع أقوى ؛ لأنّ المقصود هو الوصول إلى الواقع.

أقول : فيه وجوه من النظر :

أمّا أوّلا : فلأنّ منع السيرة استنادا إلى انفتاح باب العلم في حقّ الموجودين في زمان الأئمّة عليهم السلام ممّا لا يصغى إليه ، فإنّه إن أراد من الانفتاح إمكان الوصول لهم إلى الأحكام الواقعية علما فهو ممّا لا سبيل إلى إثباته بل المنصف يقطع بخلافه ضرورة. وإن أراد ما هو الأعمّ من العلم ومن الأمارة المعلومة الاعتبار فهو حقّ ، لكنّه ينهدم معه بنيان الكلام ، إذ ليست تلك الأمارة إلاّ قول العالم للجاهل وفتواه في غير مورد الرواية المنقولة لفظا ومعنى.

وأمّا منع الإجماع بخلاف الحلبيّين والأخباريّين فليس في محلّه ، لانقطاع الأوّل ، وقد عرفت أنّ إنكار الأخباريّ إنّما هو بواسطة حسبانه أنّ الفتوى أمر

ص: 456

مغاير لما هو جائز عنده ، ولذلك لو لم يكن الفتوى مبنيّة على الأنظار الدقيقة التي ما جعل اللّه لهم في ذلك حظّا ونصيبا لا نراهم مانعين منه.

وبالجملة ، فجواز تقليد العاميّ في الجملة معلوم بالضرورة للعاميّ وغيره ، وليس علم العاميّ بوجوب الصلاة في الجملة أوضح من علمه بوجوب التقليد مع اتّحاد طريقهما في حصول العلم من مسيس الحاجة وتوفّر الدواعي عليه واستقرار طريقة السلف المعاصرين للأئمة عليهم السلام والخلف التابعين لهم إلى يومنا هذا ، وذلك ظاهر جدّا لمن تدبّر.

هذا بالنسبة إلى أصل مشروعيّة التقليد وعلم المقلّد بوجوبه عليه.

وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّات التقليد : من أنّه هل يجب تقليد الحيّ أو الميّت أو الأخباريّ أو الاصوليّ إلى غير ذلك من الامور المختلف فيها ، فإمّا أن يكون ذلك العاميّ مرجّحا لأحدهما بواسطة اجتهاده في هذه المسألة على وجه اطمأنّ بأنّه هو الواقع في حقّه فلا كلام ، وإلاّ فإن لم يلتفت إلى ما هو القدر المتيقّن وتردّد بين الخصوصيّتين فحكمه التخيير عنده لو لم يسأل عن حاله في حال التردّد عن المجتهد مع عدم التفاته إلى وجوب السؤال ، وإن سأل فالمجتهد يفتيه بما هو الواقع عنده. وإن التفت إلى ما هو القدر المتيقّن

فعقله من باب الاحتياط يهديه ويرشده إلى الأخذ بالقدر المتيقّن.

فعقد المسألة إنّما هو لبيان تكليف المقلّد لو التفت إلى جهله في هذه المسألة مع عدم طريق ظاهريّ له فيها وسأل عن المجتهد. وإلاّ فالمقلّد لا مناص له من الرجوع إلى الحيّ فيما لو علم الاختلاف بين العلماء وتردّد بين الخصوصيّتين مع التفاته بالقدر المتيقّن ووجوب السؤال كما هو الحال في الأغلب. ولا ينافي ذلك فيما لو رجع إلى المفتي الواجد للمشكوك فيه وأفتاه بكفاية الفاقد للشرط ،

ص: 457

فإنّه بعد ما صار (1) عالما بواقع المسألة ، بل هداية العقل له إلى الواجد إنّما هو طريق ظاهري علاجا للشكّ في نفس الواقعة دفعا لما يلزم عليه الدور فيما لو رجع إلى الفاقد.

وأمّا ثانيا : فلأنّ القول بمساواة المجتهد والمقلّد في أمثال زماننا الذي يتوقّف الاستنباط على مقدّمات لا ينال إليها إلاّ الأوحديّ من الناس يكاد يلحق بإنكار الضروريّات ، كيف! لو كانا متساويين لزم على المقلّد تحصيل الظنّ بعدم المعارض ، كالمجتهد ، فإنّ مناط العمل بالظنّ فيهما هو الدليل العقلي ، وهو لا يقتضي حجّيّة الظنّ مطلقا ولو كان قبل الفحص ، فإن قلت بوجوب الفحص فيهما يلزم منه تفسيق عامّة المقلّدين ، وإن قلت بعدمه فيهما فهو مخالف لما اعترف به الكلّ. وإن قلت بالفرق بينهما بواسطة الإجماع على العدم في المقلّد والوجوب في غيره ، قلنا : لعلّ اتّفاقهم على العدم بواسطة اعتقادهم أنّ العاميّ لا يقاس حاله بحال المجتهد لانفتاح باب العلم الشرعيّ في حقّه وهو الفتوى.

والإنصاف : أن القول بأن التقليد من باب الدليل العقلي في غاية الركاكة ، لأنّ هذا الدليل العقليّ وإن لم نقل بلزوم الاطّلاع على تفاصيل مقدّماته - كما أورده بعض الأفاضل (2) - وقلنا بأنّ مقدّماته ثابتة في الواقع ، فلا ينافي اعتقاد بعض العلماء خلافها ، فإنّ ذلك غير ضائر فيما هو الواقع كما أورده المورد المذكور ممّا ليس مستندا للعاميّ في عمله ورجوعه إلى المفتي ، فإنّ الداعي إلى ذلك ليس إلاّ ما هو المفطور في جميع الناس من رجوع الجاهل إلى العالم ، وذلك

ص: 458


1- كذا ، والظاهر : بعده صار.
2- لم نعثر عليه.

وإن كان بواسطة تحصيل المعرفة بالحكم ، إلاّ أنّ الأغلب عدم حصولها منه ، بل ولا يحصل الظنّ أيضا كما هو ظاهر لمن راجع وجدانه ، ومع ذلك فهو المقرّر من الأئمة عليهم السلام والمطابق لما عليه العمل من الأمّة قديما وحديثا ، فصار بذلك طريقا للجاهل. وهذا هو المسوّغ للمجتهد في ردعه العاميّ عن العمل بالظنّ الحاصل من قول الميّت.

كيف! ولو قيل بأنّ الظنّ هو الطريق في حقّ المقلّد يلزم منه إمّا تخريب أساس الشريعة ، أو فرض العاميّ مجتهدا ؛ لأنّ ذلك الدليل العقليّ لا يختصّ بالتقليد ، بل يعمّ سائر الأمارات الظنّية.

والقول بأنّ الإجماع إنّما قام على عدم جواز العمل بغير التقليد من الأمارات الظنّية مع أنّ المناط هو الظنّ بعد أنّه تناقض في حكمي العقل والشرع على وجه لا مصحّح له - كما بيّنا في وجه استثناء القياس - ممّا لا سبيل إلى إثباته ، فإنّ الإنصاف : أنّ المنع من غير التقليد إنّما هو بواسطة أنّ التقليد طريق خاصّ في حقّه ، وأمّا على تقدير الظنّ فلا نسلّم انعقاد الإجماع على عدم جواز العمل بما يستفاد للعاميّ من الأخبار على وجه ظنّي ، ومن المعلوم : أنّ ذلك يوجب بناء فقه جديد ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : إنّه يجب ردعه عن مثل هذه الظنون.

قلت : كيف يجوز للعالم ردعه مع عدم حصول الظنّ من قوله وكون الحكم مظنونا في حقّه؟ سلّمنا الإجماع على عدم جواز العمل بتلك الأمارات حتّى على تقدير كون التقليد ظنّيا لكنّه لا ينفع ؛ لأنّه ليس بديهيّا يعرفه العاميّ ، والاطّلاع على الإجماع ممّا يمنعه المستدلّ كما يظهر منه ، وإخبار المجتهد له ربما لا يوجب الظنّ.

ص: 459

وأمّا ثالثا : فلأنّ الظنّ الحاصل من الإجماع المنقول والشهرة المحقّقة بين العلماء الماهرين المطّلعين على الأسرار الإلهيّة أقوى من الظنّ الحاصل من قول الميّت في المسألة الفرعيّة ، بل لا يكاد يقاس أحدهما بالآخر.

قوله (1) : إن الظن بالواقع يقدّم على الظن بالحكم الظاهري.

قلنا : قد فرغنا عن إبطال هذا القول - كالقول بلزوم الأخذ بالظنّ في الحكم الظاهري - في محلّه ، فإنّ نظر العقل في دليل الانسداد الذي هو العمدة في الأدلّة هو الحكم بلزوم تفريغ الذمّة ، ولا فرق في ذلك بين الواقع وبين أبداله.

لا يقال : إنّ أقربيّة هذا الظنّ في نظر المقلّد أوّل الكلام ، وعلى تقديره فلا دليل على لزوم الأخذ بهذه الأقربيّة.

لأنّا نقول : إنّ أقربيّة هذه الظنون في نظر المجتهد هو المعيار ، فإنّ نظر المقلّد قد عرفت عدم انضباطه وعدم اعتباره ، ولا يمكن إلقاء عنانه في عنقه لئلاّ يتّبع كل ناعق وناهق. وأمّا لزوم الأخذ بهذه الأقربيّة ، فلأنّ دليل الانسداد لا يمكن أن يكون مفاده حجّيّة كلّ واحد من هذين الظنّين اللذين يقتضي اعتبار أحدهما عدم اعتبار الآخر.

فإمّا أن يقال : بأنّ كلّ واحد من هذين الظنّين خارج عن الدليل وهذا بعد كونه محالا - لأنّ الدليل العقلي غير قابل للتخصيص - مثبت للمطلوب ، وهو عدم اعتبار قول الميّت إذا صار مظنونا.

وإمّا أن يقال : بأنّ الأولى استعماله للظنّ في المسألة الأصولية لكونه بمنزلة المزيل للظنّ في المسألة الفرعيّة ، وهو أيضا مثبت للمطلوب.

ص: 460


1- أي المحقّق القمي قدس سره ، راجع القوانين 2 : 269.

وإمّا أن يقال : بأنّ اللازم هو الأخذ بالأقرب إلى الواقع وهو المدّعى ، وأمّا التخيير بين الظنّين عند الأقربيّة فممّا لا وجه له ، إذا العقل يحكم بالأخذ بأقوى الظنّين بالبديهة عند التعارض.

فإن قيل : إنّ الإجماع في المسألة الأصوليّة بعيد التحقّق ، فلا يحصل الظنّ من منقوله ، سيّما إذا لم يكن المسألة معنونة في زمان الأئمّة.

قلت : لا ريب في إمكان تحقّق الإجماع في الأحكام الشرعيّة أصوليّة كانت أو فروعيّة ، فإنّ كثيرا من المسائل الأصوليّة إجماعيّة ، مع أنّك قد عرفت أنّ المسألة فرعيّة لوجود المناط فيها وهو انتفاع المقلّد منها فيما لو كانت معلومة. وأمّا عدم تداول المسألة في زمان الأئمّة فستعرف أنّ كثيرا من المجوّزين إنّما استندوا في إثبات مقصودهم إلى السيرة المستمرّة في زمان الأئمة ، ونحن عند الإيراد على هذه الحجّة نبرهن على أنّ هذه المسألة ممّا كانت متداولة في زمن الأئمة عليهم السلام.

الثاني : من وجوه تقرير العقل : ما أفاده السيّد الجزائري في محكيّ منبع الحياة (1) وهو : أنّ قضيّة المنع صحّة إحدى صلاتي المقلّد وبطلان الأخرى إذا مات المجتهد بين الصلاتين ، ولازم هذا أن يكون شريكا للشارع في الأحكام الشرعيّة. وهذا لا ينطبق على أصولنا ؛ لأنّ علماءنا يحكون كلام الشارع ويعملون به ، فلا تفاوت في اتّباع أقوالهم بين حياتهم وموتهم ، وإنّما يناسب هذا لو كان صادرا من رأيه كما كان الكوفي كذلك ، حيث قال في مسجد الكوفة : قال علي عليه السلام كذا ، وأنا أقول كذا.

ص: 461


1- حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : 472.

والجواب عنه من وجهين :

الأوّل : النقض بحال الحياة فيما لو عرض للمجتهد الفسق أو الجنون أو الكفر أو تغيير الرأي إلى غير ذلك من أسباب العدول.

والثاني : الحلّ بأنّ هذا الكلام مبنيّ على أن يكون الفتوى هي الرواية المنقولة بالمعنى ، وقد قرّرنا الفرق بينهما ، ولذلك لا يجوز التقليد فيما طرأ الفسق بعد الفتوى مع جواز الأخذ بروايته حال العدالة كالأخذ بها حال الإفاقة فيما لو جنّ ، فالمجتهد تارة يكون أهلا لأن يطاع وتارة لا يكون ، وليس ذلك شراكة للشارع ، فإنّ هذه أحكام مأخوذة منه.

نعم ، من لا يبالي بالطعن على العلماء الصالحين - الّذين ينبغي أن يقال في حقّهم : لو لا هؤلاء لانطمست آثار الشريعة - والتعريض عليهم بما عرفت في ذيل كلام لا يبعد في حقّه دعوى اشتراكه للشارع. أترى أنّ الإمام عليه السلام يرضى بمقايسة حال مثل الشهيدين والمحقّقين وغيرهما من العلماء العاملين والفضلاء الكاملين بحال الكوفي ، حاشاهم! ثم حاشاهم!

الثالث : الاستصحاب وتقريره من وجوه ، فإنّه تارة يراد انسحاب الحكم المستفتى فيه ، وأخرى يراد انسحاب حكم المستفتي ، وثالثة يراد انسحاب حكم المفتي.

فعلى الأخير يقال : إنّ المجتهد الفلاني كان ممّن يجوز الأخذ بفتواه والعمل مطابقا لأقواله وقد شكّ بعد الموت أنّه هل يجوز اتّباع أقواله أو لا فيستصحب كما أنّه يستصحب ذلك عند تغيّر حالاته من المرض والصحّة والشباب والشيب ونحوها.

وعلى الثاني يقال : إنّ للمقلّد الفلاني كان الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني حال الحياة وبعد الموت نشك فيه ، فنستصحب الجواز المعلوم في السابق.

ص: 462

وعلى الأوّل يقال : إنّ هذه الواقعة كان حكمها الوجوب بفتوى المجتهد الفلاني ونشكّ في ذلك فنستصحب ... إلى غير ذلك من وجوه تقريراته ، فإنّه يمكن أن يقال : المكتوب في الرسالة الفلانيّة كان جائز العمل ، فنستصحب جواز العمل به بعد الموت.

والجواب عن هذه الوجوه في الاستصحاب يحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّه قد قرّرنا في مباحث الاستصحاب : أنّ جريانه موقوف على بقاء الموضوع على وجه اليقين ، إذ بدون العلم ببقاء الموضوع ليس من النقض من الموارد المنهيّ عنها في قوله : « لا تنقض » فإنّ عدم ترتيب أحكام « زيد » على ما لا يعلم أنّه « زيد » لا يعدّ من النقض في أحكامه بوجه ، فالقضيّة المعلومة في مورد الاستصحاب لا بدّ وأن تكون متّحدة مع القضيّة المعكوسة موضوعا ومحمولا حتّى يمكن انسحاب أحكام الموضوع من المحمول ونحوه في الزمان الثاني. وليس المراد بالموضوع مسندا إليه وموضوعا لتلك القضيّة ، بل المراد كلّ ما يمكن أن يجعل مبتدأ في العبارة ، إذ المناط من عدم صدق النقض عند عدم العلم بوجود ذلك مشترك في الكلّ. وهذا المعنى هو الداعي لأمين الأخباريّة حيث أنكر حجّية الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة (1) فالتمسّك بالاستصحاب من بعض الأخباريّين من دون ملاحظة وجود المناط فيه إنّما هو خيانة منه للأمين. ونحن وإن قلنا بعدم استقامة ما ذكره على وجه الكلّية لجريانه على الوجه المذكور في الأحكام فيما إذا كان الشكّ في الرافع - كما أوضحنا سبيل ذلك في مباحث الاستصحاب - إلاّ أنّ إحراز ما ذكرنا من المناط من اتّحاد القضيّتين ممّا لا مناص عنه في صدق الأخبار الدالّة على الاستصحاب.

ص: 463


1- انظر الفوائد المدنيّة : 17 و 141.

وبالجملة ، فكما أنّ العلم باختلاف الموضوع يضرّ في جريان الاستصحاب ، كذا عدم العلم بوجوده أيضا يضرّ في جريانه ، إذ كما أنّ نفي الوجوب عن غير الصلاة مثلا ليس نقضا لوجوب الصلاة ، فكذلك نفي الوجوب عمّا لا يعلم أنّه صلاة أيضا ليس نقضا ، ولعلّه ظاهر.

وإذ قد عرفت هذه المقدّمة نقول : إنّ هذه الوجوه متقاربة جدّا ، كما لا يخفى على من أمعن النظر فيها. وجريان هذه الاستصحابات موقوفة على العلم ببقاء الموضوع ، ونحن لو لم ندّع العلم بارتفاع الموضوع في هذه الاستصحابات نظرا إلى أنّ المناط هو الظنّ وهو مرتفع بعد الموت ، فلا أقلّ إمّا من الشكّ في بقائه أو ارتفاعه على تقدير تسليم كون الموضوع هو الظنّ ، وإمّا من الشكّ في تعيين الموضوع ، وعلى التقديرين لا مسرح للاستصحاب.

فإن قلت : لا نسلّم أنّ الظنّ هو الموضوع حتّى يمكن القول بعدم العلم ببقائه بعد الموت مع أنّه غير مسلّم أيضا ، بل الموضوع هو القول الذي لا يعقل فيه القول بالارتفاع والبقاء ، ضرورة أنّه من الأمور الغير القارّة التي وجودها عبارة عن حدوثها ولا بقاء لها ، وكذلك لا وجه للنزاع في بقاء الرواية والعبارة ، فإنّها في وجه غير معقول البقاء ، وفي وجه غير معقول الارتفاع.

قلت : لا إشكال عند القائلين بالفتوى والتقليد والاجتهاد أنّ المدار في الفتوى هو الظنّ ، ولذلك لو زالت الملكة أو تغيّر اجتهاده وإن لم يكن هناك قول لا يجوز التعويل على القول السابق.

وتوضيحه : أنّ الأحكام الاجتهاديّة إنّما هي أحكام ظاهريّة - على ما صرّح به جميع أرباب الأصول - والظنّ في الأحكام الظاهريّة إنّما يكون موضوعا لما يترتّب على المظنون والبقاء ، فإنّه هو المقصود بحجّية الظنّ في الأمور الشرعيّة

ص: 464

والأحكام الفرعيّة ، فإنّه يكون وسطا في القياسيات التي يطلب فيها ترتيب آثار متعلّقات تلك الظنون التي قد كانت طرقا إليها في حدود أنفسها. مثلا : إنّ شرب الخمر المظنون حرمته بواسطة أمارة ظنّية معتبرة إنّما يستفاد الحكم فيه في مقام العمل والظاهر بواسطة الظنّ ، كأن يقال : إن شرب الخمر ممّا يظنّ حرمته بواسطة أمارة كذائيّة وكلّ ما يظنّ حرمته فيجب ترتيب آثار الحرمة الواقعيّة الّتي كان الظن طريقا إليه على ذلك المظنون ، فينتج وجوب ترتيب الآثار على هذه الحرمة المظنونة ، من لزوم الاجتناب عنها وغيرها من الأحكام ، وذلك ظاهر في الغاية.

نعم يتمّ كون القول موضوعا في المقام فيما إذا قلنا : بأنّ الفتوى هي عبارة عن نقل الحديث على وجه المعنى - كما زعمه الأخباريّ - وهو خلاف الواقع كما لا يخفى على المطّلع.

وأمّا حديث بقاء الظنّ بعد الموت وارتفاعه فالإنصاف - كما عرفت - أنّه [ لا ] مسرح للعقل فيه ؛ لتعارض الأمارات من الطرفين ، إلاّ أنّ المقصود في المقام غير منوط به أيضا ، إذ على القول بالبقاء أيضا لا يعلم سريان الحكم فيما إذا كان مستندا إلى الظنّ بعد الموت ، إذ القول به موقوف على أن يكون الظنّ موضوعا على وجه الإطلاق سواء كان بعد الموت أو قبله ، وذلك أيضا غير معلوم ؛ لأنّ دليل التقليد - على ما هو التحقيق - منحصر في الإجماع والضرورة والسيرة ، ولا ينفع شيء منها في تشخيص الموضوع.

وأمّا الإطلاقات الدالّة على التقليد - كما ادّعاها بعضهم - فلا دلالة فيها على التقليد أوّلا ، وعلى تقديره فلا يستفاد منها أنّ الموضوع هو الظنّ على وجه الإطلاق ، بل الظاهر من جملة من الأدلّة الخاصّة بل العامّة الآمرة بالرجوع إلى أهل العلم اعتبار الحياة ، كما ستعرف تفصيل القول في ذلك إن شاء اللّه.

ص: 465

فإن قلت : إنّ منع الاستصحاب في المقام بواسطة الإشكال في أمر الموضوع إنّما لا يلائم كلماتهم في جملة من الموارد ، فإنّهم يحكمون باستصحاب جواز نظر الزوج أو الزوجة لأحدهما بعد الموت ، مع أنّ الموضوع إنّما هو « الحيوان الناطق » وليس موجودا بعد الموت قطعا ، فإنّه جماد صرف. ويحكمون باستصحاب الملكيّة فيما لو انقلب الخمر المقلوب من الخلّ خلاّ في المرتبة الثانية ، مع أنّ الخلّيّة في الثانية ليست الخلّيّة الأولى ؛ لامتناع إعادة المعدوم. وكذا فيما لو فرض حياة المملوك بعد موته ، فإنّه [ ليست ] الملكيّة السابقة [ القائمة ](1) بالرقبة الأولى مع ظهور الاختلاف. وكذا يحكمون باستصحاب الكرّية بعد القطع باختلاف الموضوع ، فإنّ المشار إليه في قولك : « إنّ هذا الماء كان كرّا في السابق » قطعا يغاير الماء في السابق ، فلا منع في جريان الاستصحاب في المقام ، كأن يقال : « إنّ ذلك الرجل كان قبل موته جائز التقليد وبعد الموت يستصحب » وليس الاختلاف الحاصل في المقام أشدّ من الاختلاف في الموارد المذكورة.

قلت : بعد الغضّ عن جريان الاستصحاب في الموارد المذكورة ، أنّ ذلك يتمّ بناء على المسامحة العرفيّة في أمر الموضوع ، ولا نضايق نحن من جريان الاستصحاب في المقام على هذا التقدير ، إلاّ أنّ الكلام في ثبوت ذلك التقدير ، فإنّ الإنصاف أنّ التسرّي إلى جميع موارد التسامح في العرف ممّا لا يجترى عليه ، سيّما في الموارد التي لا يساعدها المشهور أو أمارة أخرى من الأمارات.

وبالجملة ، فالاعتماد على الاستصحاب إنّما يشكل فيما إذا لم يكن القضيّة المعلومة متّحدة مع المشكوكة بحسب الدقّة.

ص: 466


1- العبارة في النسخ هكذا : « فانه بسيطة الملكية السابقة الفاقة ... ».

فإن قلت : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما إذا لم يجر الاستصحاب في أصل الموضوع ولا مانع منه ، وبعد الاستصحاب الموضوعي لا مجال للشكّ أصلا.

قلت : إن أريد من استصحاب الموضوع وجريانه تصحيح الاستصحاب الحكمي - كما يظهر عن بعض الأجلّة في بعض الموارد - فهو كلام فاسد مختلّ النظام.

أمّا أولا : فلأنّ استصحاب الموضوع لا يجدي في ترتيب الأحكام الغير الشرعيّة ، وجريان الاستصحاب الحكمي ليس من الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الموضوع حتّى يصحّ الاستصحاب على تقدير استصحاب الموضوع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الاستصحاب الموضوعي بعد جريانه لا حاجة إلى إجراء الاستصحاب الحكمي ، فإنّه بمنزلة المزيل. على أنّه لا معنى لاستصحاب الموضوع إلاّ ترتيب الأحكام التي منها الحكم المشكوك.

وإن أريد من استصحاب الموضوع ترتّب الحكم وهو جواز التقليد لا استصحابه ، فهو إنّما يجدي فيما إذا لم يكن من الأصول المثبتة - كما حرّر في محلّه - وما نحن بصدده منه.

وتوضيحه : أنّ استصحاب موضوع وجوب التقليد أو جوازه من دون أن يقصد ارتباطه بفتوى الميّت لا يجدي في الاعتماد على فتوى الميّت ، ومع إرادة إثبات الارتباط بوجه من الوجوه إلى الفتوى فهو من الأصول المثبتة ، فإنّ استصحاب الموضوع المطلق لا يتعيّن في شيء خاصّ إلاّ بعد إعمال مقدّمة عقليّة أو عاديّة ، وذلك نظير استصحاب وجود الكرّ المطلق في الحوض لإثبات كرّية الماء المخصوص ، فإنّه لا يجدي في ذلك إلاّ بعد العلم بأنّ ذلك المطلق غير متحقّق إلاّ في الفرد الموجود.

ص: 467

وبالجملة ، الأحكام الثابتة للموضوع المطلق في الشريعة لا بدّ من حملها وترتيبها على الموضوع المستصحب ، وأمّا أحكام الموضوع الخاصّ فلا يترتّب على استصحاب الموضوع المطلق.

فإن قلت : إنّ جواز العمل وترتيب الأحكام السابقة إنّما هو من أحكام مطلق الموضوع ، إذ لا يراد في المقام إثبات أنّ القول هو الموضوع أو الشخص هو الموضوع أو غير ذلك ، ضرورة أنّ الاستصحاب لا يقضي بذلك ، بل المراد الأخذ بالأحكام السابقة حال الحياة المتفرّعة على موضوعها الواقعي وإن لم يكن معلوما لنا بالخصوص إلاّ أنّه معلوم على وجه الإجمال حال الحياة ، وبعد الموت نشكّ في وجود ما يترتّب عليه الأحكام فيستصحب ذلك المعلوم الإجمالي ويترتّب عليه أحكامه ، نظير استصحاب وجود الكرّ المطلق فيما إذا كان ممّا يترتّب عليه حكم ، كما لو نذر أن يعطي فقيرا درهما لو كان الكرّ مثلا موجودا.

قلت : نعم ، إلاّ أنّه يمكن القول بأنّ الموضوع هو الظنّ ، لعدم ترتيب هذه الأحكام على غيره في الشريعة عند انتفائه ، وهو غير معلوم الوجود ، وعلى تقدير الوجود فلا عبرة به أيضا ، لاحتمال مدخليّة الحياة فيه ، وأصالة عدم مدخليّة الحياة في الموضوع لا يجدي ؛ لأنّ ذلك لا يشخّص أنّ الموضوع هو الظنّ المطلق. وبعبارة ظاهرة : أنّ عدم جريان الاستصحاب موقوف على عدم العلم ببقاء الموضوع واحتمال ارتفاعه في الواقع ، وأصالة عدم المدخليّة لو كان مفاده في الشرع وجود الموضوع كان مجديا ولكنّه لا يترتّب على عدم المدخليّة وجود الموضوع إلاّ بواسطة مقدّمة عقليّة ، فتأمّل في المقام ، فإنّ الأمر بمكان من الغموض والخفاء.

وهذا تمام الكلام في الوجوه العقليّة. ولهم أيضا بعض الوجوه الأخر ، إلاّ أنّ الإنصاف إن التعرّض لها يوجب التعطيل فيما هو الأهمّ.

ص: 468

وأمّا الكتاب :

فالّذي يدلّ منه على مطلوبهم على ما زعموا آيات :

الأولى : قوله تعالى ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

والتقريب : أنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر بعد الإنذار الواجب ، إمّا لأنّ الحذر لا يعقل جوازه بعد وجود المقتضي وعند عدمه لا يحسن. وإمّا لأنّ وجوب الإنذار المفروض في الآية مقدّمة للحذر يدلّ على وجوبه ؛ لأنّ وجوب المقدّمة دليل على وجوب ذيها. وإمّا لأنّ عدم وجوب الحذر على تقدير وجوب الإنذار يوجب اللغو ، نظير ما تمسّك في المسالك من قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ) على وجوب اتّباع قولهنّ (2) ، والإنذار عبارة عن الإبلاغ مع التخويف ، وهو كما يصدق في الرواية ، فكذلك يصدق في الفتوى.

بل الظاهر أنّ دلالتها على وجوب قبول الفتوى أظهر من دلالتها على قبول الرواية ؛ لأنّ الحكاية بدون التخويف لا يسمّى إنذارا ومع التخويف لا دليل على اعتباره ؛ لأنّ التخويف موقوف على اجتهاد المنذر في الحكاية ، ولا دليل على لزوم متابعة الراوي إذا لم يكن فهمه في حق المنذر - بالفتح - حجّة. بخلاف المفتي ، فإنّ اعتقاده حجّة في حقّ المستفتي ، فلو قال : « أيّها الناس! اتّقوا اللّه في شرب الخمر » فإنّه يترتّب عليه المؤاخذة الإلهيّة فقد حصل التخويف ووجب التخوّف والحذر ، إمّا لوجود المقتضي ، وإمّا لوجوب الإنذار ، وإمّا للزوم اللغو. ويتمّ فيما لا يحصل معه التخوّف - إمّا لعدم التخويف أو لغيره - بعدم القول بالفصل.

ص: 469


1- التوبة : 122.
2- المسالك 9 : 194 ، والآية من سورة البقرة : 228.

وبالجملة ، فالآية ظاهرة في وجوب التفقّه ووجوب الإنذار ، وهما يستتبعان وجوب الحذر والقبول على أحد الوجوه الشامل بإطلاقه للرواية والفتوى كما عرفت. والإنذار كما يصدق في فتوى الحيّ ، فكذلك يصدق في فتوى الميّت بواسطة التخوّف الحاصل من مراجعة ما جعله علامة للتخويف كالرجوع إلى كتابه ، فإنّه يصدق أنّه « أنذر » ولو في زمان حياته وحصل للمقلّد « التخوّف » ولو بعد مماته ، فيجب اتّباعه ، فالآية بإطلاقها تدلّ على وجوب اتّباع فتوى الميّت لصدق الإنذار.

وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : لو فرضنا أنّ المجتهد قد أنذر في حال حياته ولم يتبعه المقلّد عصيانا ثمّ بدا له بعد موته اتّباعه ، فهل ترى عدم صدق « الإنذار » في مثله؟ وليس ذلك من التقليد الاستمراري بل هو تقليد بدويّ ، إذ المفروض عدم الأخذ بالفتوى في حال الحياة وعدم العمل أيضا.

فإن قلت : إنّ الآية ظاهرة في النفر إلى الجهاد كما تشهد به الآيات التي قبلها وبعدها ، فلا يدلّ على وجوب التفقّه والإنذار. نعم ربما يترتّب على النفر التفقّه من ملاحظة آثار رحمة اللّه على أوليائه وظهورهم على أعدائه وغير ذلك. ولا دليل على وجوب ما يترتّب على الفعل إذا لم يؤخذ الفعل الواجب مقدّمة له بل كان الترتّب اتّفاقيا ، كما هو ظاهر.

قلت : إنّ سوق الآية في آيات الجهاد لا ينافي ظهورها في وجوب التفقّه والإنذار الموقوف عليه الاستدلال ، مع ورود الأخبار الدالّة على إرادة وجوب التفقه من الآية (1) كما يستفاد من استدلال الإمام عليه السلام به ، كرواية الفضل

ص: 470


1- انظر تفسير نور الثقلين 2 : 282 ، وكنز الدقائق 4 : 312 ، ذيل الآية.

عن الرضا عليه السلام قال : إنّما أمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّه وطلب الزيادة - إلى أن قال - ونقل أخبار الأئمّة إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال عزّ وجلّ : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ ... ) الآية (1).

ولا يخفى : أنّ اختصاص الأخبار بالذكر لا يدلّ على اختصاص الآية بالرواية دون الفتوى ، فلا ينافي ما هو مناط الاستدلال من دعوى الإطلاق.

والاستدلال بالآية في بعض الروايات على وجوب تحصيل معرفة الإمام بعد موت الإمام السابق (2) ، لا يدلّ على اختصاصه بمثله حتّى لا يشمل ما نحن فيه ، وهو ظاهر جدّا.

هذا غاية ما يمكن الانتصار للمستدلّ بالآية ، ومع ذلك فلا دلالة فيها على المطلوب.

وتوضيح المقام بعد تمهيد ، وهو : أنّ اعتبار التقليد يحتمل أن يكون من وجهين :

أحدهما : اعتباره من حيث إنّه طريق إلى الواقع وإنّ قول العالم هو المرجع للجاهل ، فإنّه يكون طريقا لما هو المطلوب في الأمور الغير المعلومة ، مثل رجوع الجاهل بصناعة إلى أهل تلك الصناعة في استعلام ما يتعلّق به غرضه منها.

الثاني : أن يكون معتبرا من حيث إنّه حكم ظاهريّ تعبّد به المولى وإن لم يحصل منه العلم ، ولا ينافي ذلك كون الحكمة في جعله طريقا هو كونه طريقا ظنّيا في العرف والعادة ، فيكون من الظنون النوعيّة أي الأمارات التي لا تدور مدار حصول الظنّ الفعلي منها وإن كان الوجه في جعله إفادته ذلك في الأغلب.

ص: 471


1- الوسائل 8 : 7 ، الباب الأوّل من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الحديث 15.
2- انظر الكافي 1 : 378 ، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.

ولا ريب أنّ هذين الوجهين مختلفان ، فالكلام المسوق لبيان أحدهما يغاير سوق الآخر ، فإنّ الأوّل غير محتاج إلى جعل وحكم سوى الإخبار عمّا هو ثابت في الواقع. بخلاف الثاني ، فإنّه لا بدّ فيه من إنشاء حكم ظاهريّ في موارد تلك الأمارة. ولعلّ ذلك غير خفيّ على الفطن.

فإن أريد من التمسّك بالآية إثبات الوجه الأوّل فهو حسن ، فإنّ في الآية دلالة على تقرير ما عليه العقلاء في استكشاف مطالبهم من الأمارات المفيدة لها ، إذ لا يستفاد من الآية إلاّ مطلوبية الحذر عقيب الإنذار في الجملة. وأمّا وجوب البناء على الإنذار فهو مبنيّ على ما هو المناط فيه عندهم من حصول المنذر فيه أو ما هو يقوم مقامه عندهم كالظنّ المتاخم للعلم على وجه لا يعتنى باحتمال خلافه في وجه ؛ ولذا صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلم ، فلا تكون الآية مخصّصة لما يدلّ على حرمة العمل بما وراء العلم ؛ ولذلك استشهد الإمام عليه السلام بالآية على وجوب النفر ليحصل معرفة الإمام ، كما في رواية عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول العامّة : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : « من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة قال عليه السلام : حقّ واللّه! قلت : فإنّ إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك؟ قال : لا يسعه ، إنّ الإمام إذا مات رفعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد وحقّ النفر على من ليس بحضرته ، إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... ) الآية » (1) فإنّ من المعلوم : أنّ إمامة الإمام إنّما يطلب فيها العلم ولا يكفي فيها متابعة الغير من غير حصول العلم ، فلا دلالة في الآية إلاّ على لزوم التفقّه والإنذار من حيث إنّ الإنذار يوجب الحذر عند حصول العلم أو ما يقوم مقامه في العادة ، وهو ظاهر. لكن التقليد المطلوب إثبات جوازه للحيّ والميّت لا

ص: 472


1- الكافي 1 : 378 ، الحديث 2.

يراد منه ذلك الطريق العلمي أو ما يقوم مقامه ؛ وذلك ظاهر لمن أنصف من نفسه وراجع موارد التقليد وكلمات العلماء ، حيث إنّهم مطبقون على أنّ التقليد طريق خاصّ للمقلّد ونحن أيضا نتكلّم في مثل هذا التقليد.

وإن أريد إثبات الوجه الثاني - كما هو المفيد فيما نحن فيه - فالإنصاف عدم نهوض الآية على ذلك ، فإنّ المنساق منها هو المنساق من جميع الأدلّة الدالّة على لزوم إبلاغ الأحكام لاهتداء الناس إلى الواقع ، وليس مفاد الآية إلاّ مثل مفاد قول القائل : « أخبر زيدا بقيام عمرو لعلّه يقبل » ولا يستفاد من هذا الكلام إنشاء حكم في الظاهر لوجوب العمل بخبره وإن لم يوجب العلم.

وممّا يؤيّد ذلك ملاحظة لفظ « الحذر » في الآية ، فإنّ ذلك ليس من الأمور الاختياريّة ، بل هو أمر قهريّ ، لكنّه بعد حصوله فالعقل يحكم بوجوب دفعه وعلاجه في الموارد التي يحكم بوجوبه.

وبالجملة ، فالظاهر منها وجوب الإنذار الّذي يترتّب عليه الحذر الموجب لتحصيل العلم بالتكليف أو رفعه كما هو قضيّة حقيقة الحذر ، فتدبّر.

سلّمنا دلالة الآية على التقليد التعبّدي ، لكن لا يدلّ على تقليد الميّت ؛ لأنّ الظاهر على ذلك التقدير جواز الأخذ بإنذار الحيّ. وما يبدو في بعض الأنظار من الإطلاق فلعلّه مبنيّ على قاعدة اشتراك التكليف وليس المقام منه ، إذ ليس الشكّ في العموم والخصوص ، بل الشكّ في الحكم الشرعيّ كما هو ظاهر. وأمّا صدق الإنذار فيما إذا كان المنذر أوجد السبب ونصب العلامة فهو على خلاف الظاهر ، فإنّ السبب ليس إنذارا حقيقة.

وأمّا فيما لو عصى المكلّف بعد إنذاره في زمن الحياة ، فإن أخذه العاصي للعمل ثم لم يعمل به عصيانا فعلى القول بأنّ التقليد هو الأخذ يكون من التقليد

ص: 473

الاستمراري ، وعلى القول بأنّه العمل فلم يتحقّق تقليد سواء أخذه أو لم يأخذه. ولا نسلّم وجوب الحذر بعد الموت في الصورة المفروضة ، فإنّ الظاهر من الآية ترتّب الحذر على الإنذار فيما يصحّ انتزاع وصف « المنذريّة » من المنذر ، ولا يصحّ ذلك بعد الموت ، فتأمّل.

سلّمنا الإطلاق أيضا ، لكن الإنصاف أنّ الإجماعات المنقولة في صدر المسألة يكفي في تخصيص الآية وتقييدها بصورة الحياة.

ثم إنّ ما ذكرنا من تسليم الإطلاق إنّما هو مبنيّ على أن يكون وجه الاستدلال بالآية هو ما أفاده في المعالم (1) : من أنّ بعد انسلاخ كلمة الترجّي عن معناها تكون ظاهرة في محبوبيّة مدخولها للمتكلّم ؛ لأنّ ذلك يمكن أن يكون علاقة في المقام ، وإذا تحقّق حسن الحذر وجب ؛ لأنّ مع وجود المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن ؛ لأنّ العقاب إمّا معلوم الوجود فيجب الحذر ، أو معلوم العدم - إذ لا يعقل الشكّ في العقاب - فلا يحسن الحذر. ولا ينافي ذلك حسن الاحتياط ؛ لأنّه مع الأمن كما لا يخفى ، إذ بدونه فالاحتياط واجب.

وأمّا بناء على أن يكون وجه الاستفادة هو الملازمة العرفيّة بين وجوب الإنذار وحرمة الردّ ووجوب القبول فظاهر انتفاء الإطلاق ، وستعرف توضيحه في الآيات الآتية.

الثانية : قوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) لأنّه لو فرض السؤال ومات المسئول بعد الجواب يلزم القبول لئلاّ يلغو وجوب السؤال ،

ص: 474


1- المعالم : 190.
2- النحل : 43 ، والأنبياء : 7.

كما عرفت في استدلال الشهيد بحرمة كتمان ما في الأرحام على وجوب قبول قولهنّ (1). والإنصاف : أن لا دلالة في الآية على التقليد أصلا.

أمّا أوّلا : فلأنّ الظاهر من سياق الآية هو إرادة علماء اليهود ، كما رواه علماء التفسير (2) ، فإنّ الآية واردة في مقام معرفة النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ومن الظاهر أنّ ذلك لا يكفي فيه غير العلم ، ففي الآية إراءة طريق إلى ما يوجب العلم ، وهو الظاهر من قوله : ( إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فإنّه ظاهر في أنّ الوجه في وجوب السؤال هو تحصيل العلم.

ولئن أغمضنا عن ذلك ولم نأخذ بما هو اللائح من سياقها ، فهناك أخبار عديدة مشتملة على الصحيح وغيرها يدلّ على أنّ أهل الذكر هم الأئمّة عليهم السلام على وجه الحصر (3).

وأمّا ثانيا : فلأنّ بعد فرض الدلالة لا إطلاق فيها على وجه يشمل الميّت ، إذ من الظاهر ظهورها في الحيّ ، إذ لا يعقل السؤال من الميّت. وأمّا وجوب القبول فالمفروض أنّه مدلول التزامي لوجوب السؤال ، ولا يعقل الإطلاق والتقييد في المداليل الالتزامية ، إذ الموجب هو لزوم اللغويّة لولاه ويكفي في دفعه القبول حال الحياة في الأغلب.

الثالثة : آية الكتمان وهو قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ

ص: 475


1- راجع الصفحة : 469.
2- انظر مجمع البيان 3 : 362 و 4 : 40 ذيل الآية في سورتي النحل والأنبياء.
3- الكافي 1 : 210 باب أهل الذكر ، والوسائل 18 : 41 ، الباب 7 من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث 3 و 4 و 6 و 8 و 9 و 12 و 13 و 27 و 31.

وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1) دلّت الآية على وجوب الإظهار وحرمة الكتمان ، وهو يلازم وجوب القبول.

وفيه :

أولا : أنّ المورد ممّا لا يمكن تخصيصه في العمومات ، ومورد الآية كتمان اليهود لعلامات النبيّ صلى اللّه عليه وآله ومن المعلوم : أنّ ذلك لا بدّ فيه من العلم ، فلا دلالة فيها على التقليد التعبّدي.

وثانيا : سلّمنا لكنّه لا إطلاق بالنسبة إلى الميّت ، لعدم ما يوجبه.

الرابعة : آية النبأ (2) ، ويدلّ على دلالتها على التقليد استدلال العلماء بها على عدالة المفتي ، فلولا دلالتها لم يكن له وجه.

وفيه : أنّ النبأ هو الإخبار عن الواقع ، لا الإخبار عن الاعتقاد.

وأمّا وجه الاستدلال بها : فهو من حيث إنّ الإخبار عن الرأي ربما يكون كذبا ، فالعدالة معتبرة فيه من هذه الجهة.

وأمّا السنّة :

فما يمكن الاستيناس بها على المدّعى صنفان :

الأوّل : الأخبار الخاصّة الواردة في مقامات خاصّة ، مثل ما دلّ على الأمر بالرجوع إلى زرارة بقوله : « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » مشيرا إلى زرارة (3).

ص: 476


1- البقرة : 159.
2- الحجرات : 6.
3- الوسائل 18 : 104 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 19.

وقوله عليه السلام حينما سأل ابن أبي يعفور عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة : « فما يمنعك عن الثقفي؟ » يعني محمّد بن مسلم (1).

وقوله للعقرقوفي : « عليك بالأسدي » يعني أبا بصير (2).

وقوله لعليّ بن مسيّب : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (3).

وقوله لمّا قال له عبد العزيز بن المهدي : « ربما أحتاج ولست في كلّ وقت ألقاك أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فقال : نعم » (4). وفيه دلالة واضحة على أنّ قبول قول الثقة مفروغ عنه وإنّما السائل سأل عن الصغرى.

وفي الكافي عن أحمد بن إسحاق ، قال : « سألت أبا الحسن عليه السلام وقلت له : من أعامل أو عمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له : العمري ثقة ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون » (5).

وقال الصادق عليه السلام لأبان بن تغلب : « اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك » (6).

ص: 477


1- الوسائل 18 : 105 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 23.
2- المصدر السابق : 103 ، الحديث 15.
3- المصدر السابق : 106 ، الحديث 27.
4- المصدر السابق : 107 ، الحديث 33 ، مع تفاوت يسير.
5- الكافي 1 : 330 ، الحديث الأوّل ، والوسائل 18 : 100 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 4.
6- المستدرك 17 : 315 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 14.

وقوله : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا » (1).

وجه الدلالة في هذه الأخبار : أنّ بعضها مختصّة بالفتوى وبعضها شاملة للرواية أيضا ، فيكون هذه الروايات أدلّة على التقليد وبإطلاقها تدلّ على جواز تقليد الميّت أيضا.

والجواب : أنّ قضية الإنصاف عدم دلالة جملة من هذه الأخبار على قبول قول المفتي. وعلى تقدير الدلالة فلا دلالة فيها على قبول قول الميّت وفتواه.

أترى أنّ الأمر بالرجوع إلى « أبان » مع كونه حيّا يدلّ على أنّ الميّت ممّا يمكن الرجوع إليه؟ وعلى تقدير الدلالة فلا دلالة فيها على ما هو المطلوب في زماننا ، فإنّ جواز الرجوع إلى الأموات فيما إذا كانوا مثل هؤلاء الأجلاّء الذين يكون فتاويهم بمنزلة رواياتهم ، كما يستفاد من قول الشيخ أبي القاسم العمري في كتب الشلمغاني : « أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال » (2) فإنّه ينادي بأنّ فتاويهم إنّما هي متون الروايات ، فلا عبرة بقياس حال غيرهم بهم.

وأمّا الثاني : فهي الأخبار العامّة ، وهي كثيرة.

منها : ما يدلّ على وجوب قبول الحكم عند الترافع ، مثل رواية عمر بن حنظلة الواردة في الترجيحات : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه بحكم اللّه استخفّ » (3) الحديث. ومثل مشهورة أبي خديجة

ص: 478


1- الوسائل 18 : 107 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 107.
2- المصدر السابق : 103 ، الحديث 13.
3- المصدر السابق : 99 ، الحديث الأول.

« انظروا إلى رجل يعرف شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم حكما » (1) ودلالتهما على التقليد إمّا من الأولويّة - كما قيل (2) - وإمّا لعدم القول بالفصل ، وإمّا بواسطة أنّ رفع الخصومة المترتّب (3) على القضاء فيكون موقوفا على قبول فتواه ويتمّ بالإجماع المركّب.

ومنها : ما يدلّ على وجوب الرجوع إليهم الشامل للرواية والفتوى بإطلاقه مثل قوله الحجّة - عجّل اللّه فرجه - على ما رواه المشايخ الثلاثة في الغيبة وإكمال الدين والاحتجاج في التوقيع الشريف لاسحاق بن يعقوب : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه » (4).

وجه الدلالة : أنّه عليه السلام أمر بالرجوع إلى رواة الأحاديث وهو بإطلاقه شامل للرواية والفتوى ، وعلى التنزّل فقوله عليه السلام : « فإنهم حجّتي عليكم » يوجب ذلك ؛ لأنّ الحجّة يقبل قوله وفتواه أيضا ، وهو دليل على اعتبار قوله بعد موته أيضا فإنّ الحجّة قوله معتبر مطلقا. ويؤيّده قوله : « وأنا حجّة اللّه » فإنّ ذلك يفيد أنّ حجّية من جعله حجّة إنّما هو من قبيل حجّية نفسه عليه السلام الموجب لاعتبار قولهم بعد موتهم أيضا.

ص: 479


1- الوسائل 18 : 4 الباب الأول من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.
2- قاله السيد المجاهد في مفاتيح الأصول : 598.
3- كذا والمناسب : « مترتب ».
4- كتاب الغيبة : 291 ، الحديث 247 ، وكمال الدين : 484 ، الحديث 4 ، والاحتجاج 2 : 283 ، وعنها في الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.

ومنها : ما هو صريح في جواز التقليد ، كرواية الاحتجاج عن تفسير الإمام عليه السلام في قوله تعالى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ) (1) والرواية طويلة لا بأس بإيرادها ، وهو أنّه :

قال رجل للصادق عليه السلام : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم ، فإنّ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال عليه السلام : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة. أمّا من حيث استووا ، فإنّ اللّه تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علماءهم. وأمّا من حيث افترقوا فلا. قال بيّن لي يا بن رسول اللّه ، قال عليه السلام : إنّ عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام من وجهها بالشفاعات والتعصّب الشديد الذي يفارقون إليه أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم وعرفوهم يتعارفون (2) المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّه ولا على الوسائط بينهم وبين اللّه ، فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل فيما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم. وكذلك عوام أمّتنا

ص: 480


1- البقرة : 78.
2- في التفسير المنسوب إلى العسكري عليه السلام : « يقارفون ».

إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حلال الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، وبالترفرف والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا. من قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منها عنّا شيئا ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره بجهلهم ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم. وأخرى (1) يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو يذرهم (2) في نار جهنّم. ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون عند شيعتنا وينتقصون بنا عند أعدائنا ثم يضعون أضعافه (3) من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها فيتقبّله (4) المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا فضلّوا وأضلّوا ، أولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد لعنه اللّه على الحسين بن عليّ عليهما السلام (5) ، انتهى الحديث الشريف.

ص: 481


1- في التفسير : « آخرين ». والظاهر : آخرون.
2- في التفسير والاحتجاج : « زادهم ».
3- في التفسير والاحتجاج : يضيفون أضعافه وأضعاف أضعافه.
4- في المطبوعة فيقبلوا ، وما أثبتناه من التفسير والاحتجاج.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 299 ، الحديث 143 ، والاحتجاج 2 : 262.

وجه الدلالة : أنّ الإمام عليه السلام حكم بجواز تقليد من كان متّصفا بالصفات المذكورة من الصيانة لنفسه والحفظ لدينه ومخالفة الهوى وإطاعة المولى ، وحيث إنّه عليه السلام كان في مقام بيان الصفات التي يدور عليها جواز التقليد ولم يذكر الحياة فيها دلّ ذلك على عدم اعتبار الحياة في المفتي.

ثم إنّ في تقرير الإمام عليه السلام للسائل أيضا دلالة على جواز التقليد ، إذ لو لم يكن جائزا كان الوجه في الجواب عدم التزام أصل التقليد من غير حاجة إلى بيان الفرق.

ويؤيّد هذا الحديث ما عن المحاسن في محكيّ البحار قال أبو جعفر عليه السلام : وبقول العلماء فاتبعوا (1).

ومنها : ما يستظهر منه جواز الرجوع إلى فتوى الميّت بخصوصه مثل ما سبق (2) من قول العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » فإنّ الأمر بعدم اتّباع ما رأوا لو كان بعد موتهم يشير إلى جواز الأخذ بما يراه غيرهم بعد موتهم ، وإلاّ لم يكن وجه لاختصاصهم بالحكم.

ومثل ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى ب- « يوم وليلة » عن أبي الحسن بعد أن نظر فيه وتصفّحه قال : « هذا ديني ودين آبائي » (3) وقول أبي جعفر عليه السلام : « رحم اللّه يونس! رحم اللّه يونس! » (4).

ص: 482


1- البحار 2 : 98 ، الحديث 51 ، وفيه فانتفعوا ، والمحاسن 1 : 419 ، الحديث 363.
2- سبق في الصفحة : 435.
3- الوسائل 18 : 71 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 75.
4- المصدر السابق ، الحديث 74.

ومنها : جميع الروايات التي تدلّ على عدم تغيّر أحكام اللّه تعالى بمرور الدهور وبمضيّ الأعوام والشهور ، كقوله عليه السلام : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (1) فإنّ موت المجتهد لو كان مؤثّرا في عدم جواز الأخذ بفتواه كان ذلك موجبا لتحريم ما أحلّ اللّه وتحليل ما حرّم اللّه ، وهل هذا إلاّ مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان؟!

ومنها : الأخبار الدالّة على أنّ العلماء ورثة الأنبياء (2) ، وأنّ مدادهم أفضل من دماء الشهداء (3) ، وأنّ العلماء أفضل من انبياء بني اسرائيل (4) ... وغير ذلك ، فإنّ عموم المنزلة في الأخير وترجيح المداد على الدماء وكونهم ورثة الأنبياء ينافي سقوط قولهم عن درجة الاعتبار بعد مماتهم ... إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على ترحيم العلماء كقوله : « رحم اللّه خلفائي » (5).

فهذه جملة من الأخبار التي تدلّ على التسوية بين الحيّ والميّت في الفتوى. وأنت بعد ما أحطت بما تقدّم في وجه التقريب في هذه الأخبار تقدر على القول بأنّ المناط في هذه الروايات إنّما هو القول الّذي لا ينبغي التشكيك في بقائه ؛ لأنّ ذلك شكّ في أصل وجوده كما في غيره من الأمور الغير القارّة.

ص: 483


1- الكافي 1 : 58 ، الحديث 19 ، وانظر الوسائل 18 : 124 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 47.
2- الكافي 1 : 32 ، الحديث 2 و 34 ، الحديث الأول ، والوسائل 18 : 53 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 2.
3- البحار 2 : 16 ، الحديث 35.
4- لم نعثر على هذا المضمون ، نعم جاء في البحار 2 : 22 ، الحديث 67 « علماء امتي كأنبياء بني إسرائيل » وراجع المستدرك 17 : 32 ، الحديث 30.
5- البحار 2 : 25 ، الحديث 83.

وبعد ذلك فلا فرق قطعا في حالتي الموت والحياة كالرواية. وعلى تقدير الشكّ فلا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ الموضوع وهو « القول » غير مرتفع قطعا وإنّما الشكّ في ارتفاع الحكم عن ذلك الموضوع ، فيستصحب الحكم.

وبالجملة ، فالرجوع إلى هذه الإطلاقات على تقدير عدم إجدائه في الحكم الواقعي فهو يجدي في الحكم الظاهري وجريان الاستصحاب.

والجواب :

أمّا عن أخبار الحكومة : فبأنّ بعد تسليم دلالتها على اعتبار الفتوى لا دلالة فيها على جواز الأخذ بقول الميّت ؛ لأنّ ذلك إمّا أن يكون مستفادا من الأولويّة أو بعدم القول بالفصل أو بواسطة التوقّف وعلى التقادير لا إطلاق فيها ، فإنّها كالأدلّة اللبيّة والقدر المتيقّن منها هو في صورة الحياة.

وأمّا عن التوقيع :

فأوّلا نقول : إنّ الظاهر اختصاص الرواية بالرواية كما عساه يظهر من قوله : « إلى رواة أحاديثنا » فإنّ أخذ عنوان الراوي لعلّه يومئ إليه ، والرواية لا بدّ من العمل بها بعد الموت وقبله ؛ مضافا إلى أنّ الظاهر من التعليل هو الاختصاص بالأحياء. والتشبّه لا يجدي ، ضرورة عدم المساواة في جميع الأحكام العقليّة بل الشرعيّة أيضا. وقبول قول الإمام بعد الموت بواسطة العلم بصدقه لدليل العصمة ، وليس من الأحكام الشرعيّة ، كما هو ظاهر.

وثانيا نقول : لا إشكال في أنّ قول الإمام عليه السلام : « وأمّا الحوادث الواقعة » ليس كلاما ابتدائيّا في المقام ، بل الظاهر أنّ هذه الفقرة إنّما كانت مذكورة في السؤال ، فحاول الإمام عليه السلام جواب جميع الفقرات على وجه التفصيل ، فقال : « وأمّا الحوادث الواقعة » ولا ريب أنّ عموم هذه الفقرة وخصوصها موقوف على العموم

ص: 484

والخصوص في كلام السائل ، فلو فرضنا أنّ قائلا يقول : « عندي من مال زيد كذا وكذا ، وهل يجب ردّه إلى وارثه - مثلا - أو لا؟ » فيقال في جوابه : « وأمّا أموال زيد فادفعها إلى وارثه » - مثلا - لا وجه للأخذ بعموم « الأموال » المستفادة من إضافة الجمع ، لاتّحاد المراد منها في السؤال والجواب. ولا وجه لاستكشاف مراد السؤال من عموم الجواب وخصوصه ، فلعلّ « الحوادث الواقعة » في السؤال عبارة عن قضايا مخصوصة لا ينبغي الحكم بتسرية حكمها إلى غيرها ، فيكون الرواية حينئذ من المجملات.

بل لقائل أن يقول : إن ظاهر حال السائل وهو « إسحاق بن يعقوب » الذي هو من الأجلّة ، كجلالة الواسطة وهو « الشيخ الجليل ابو القاسم بن روح » أحد الأبواب الأربعة : أن لا يكون السؤال عمّا هو الظاهر منها ، فإنّ ذلك ليس أمرا يخفى على مثل السائل والواسطة حتى يحتاج إلى إرسال التوقيع.

وربما يمكن الاستيناس لذلك ببعض فقرات السؤال الواردة في التوقيع كقوله عليه السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها السحاب عن الأبصار » وقوله عليه السلام : « وأمّا ما سألت عنه - أرشدك اللّه وثبّتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين اللّه وعزّ وجلّ وبين أحد من قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي وسبيله سبيل ابن نوح » (1) ... إلى غير ذلك.

وكيف كان ، فلا تطمئنّ النفس بأنّ « إسحاق بن يعقوب » ما كان مطّلعا على أحكام عباداته ومعاملاته حتى احتاج ذلك إلى المكاتبة إلى الحجّة مع شيوع التقليد والفتوى في ذلك الزمان ؛ وذلك ظاهر.

ص: 485


1- الاحتجاج 2 : 283 - 284.

وأمّا عن رواية الاحتجاج : فبأنّه لا ريب في شمول الرواية لأصول الدين ، فإنّ مورد السؤال إنّما هو فيه لو لم نقل باختصاصها بذلك ، كما هو الظاهر منها على ما هو قضيّة الإنصاف ، فلا يجوز حمل التقليد على ما لا يجوز في الأصول لاستلزامه تخصيص المورد ، وهو قبيح في الغاية ، بل لا بدّ من حملها على ما يوجب الاعتقاد ، وهو عند التحقيق ليس تقليدا بل هو اجتهاد. نعم ، مقدّماته حاصلة بواسطة حسن الظنّ بالعالم الذي أفاد متابعته ذلك الاعتقاد ، ولا يتفاوت في مثل ذلك الموت والحياة ، والكلام إنّما هو في التقليد التعبّدي ، وليس بين التقليدين قدر جامع يصحّ استعمال اللفظ فيه على وجه لا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فلا وجه لما يتوهّم : من أنّه يحمل اللفظ على العموم ، وعلى تقديره فليس فيه إطلاق بالنسبة إلى حال الموت ، إذ التفصيل بين الموردين لا بدّ أن يعلم من دليل خارج من هذا الكلام ، كقيام الإجماع على كفاية التقليد التعبّدي في الفروع ؛ ومع ذلك لا وجه للإطلاق ، كما هو ظاهر. ولا يلزم خلاف الظاهر في لفظ « التقليد » فإنّ ذلك من الاصطلاحات المتأخّرة ، كما لا يخفى.

وأمّا عن الأخبار الدالّة على جواز فتوى الميّت.

أمّا عن الرواية الأولى : فبأنّ « الرأي » لا يراد منه الفتوى ، بل يحتمل إرادة ما رواه من مذاهب العامّة. سلّمنا ذلك كما لعلّه الظاهر ، لكنّه لا يدلّ على جواز الأخذ بفتاويهم بعد موتهم ، إذ لم يدلّ دليل على انقطاعهم في ذلك الزمان.

وأمّا عن الأخيرتين : فعدم دلالتهما على المطلوب أوضح ، إذ ترحيم يونس لا دلالة فيه على ما نحن فيه بوجه. نعم ، لو علم أنّ المكتوب في الكتاب إنّما كان من فتوى يونس وكان المقصود من عرضه على الإمام استعلام جواز العمل به كان ذلك دليلا. وأمّا قوله « هذا ديني ودين آبائي » أيضا ممّا لا دلالة فيه على المدّعى كما هو غير خفيّ.

ص: 486

وأمّا عن الروايات الدالّة على عدم تغيّر الأحكام - بعد أنّ الأولى الإعراض عن مثل هذه الاستدلالات الواهية - : أنّ التمسّك بأمثال هذه الروايات إنّما يتمّ إذا كان الشكّ في رفع الحكم الشرعي في موضوع ثبت فيه. وأمّا إذا كان الشكّ في ثبوت الحكم الشرعي في موضوع فالتمسّك بها يكون مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان! وهو ظاهر ، وإلاّ فاللازم أن يكون جميع الأمور المغيّرة لأوصاف الموضوعات التي بها تبدل حكمها محلّلا للحرام وبالعكس ، وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا عن أخبار المنزلة والتفضيل : فإنّ الظاهر منها أنّها واردة في مقام بيان الفضيلة وذكر علوّ درجاتهم ورفع مراتبهم ولا دخل لها بحجّية أقوالهم حتى يقال : بأنّ التنزيل يوجب الأخذ بأقوالهم بعد الموت أيضا.

ولعمري! أنّ أمثال هذه الاستدلالات توجب الوهن في الاعتماد على التمسّك بها ، فالأولى الإعراض عنها.

وأمّا دعوى معلوميّة المناط من هذه الأخبار ، فقد عرفت فسادها ، إذ لم يدلّ شيء منها على أصل التقليد ، فكيف يمكن تنقيح المناط منها؟ كدعوى تشخيص موضوع الحكم لترتيب الأحكام الظاهريّة ، فإنّ الظاهر أنّ ذلك ممّا لا يمكن الوصول إليه ، فإنّ دونه خرط القتاد!

وأمّا الإجماع :

فالمنقول منه لم نقف عليه. وأمّا المحقّق فيمكن استعلامه من أمور :

منها : الاعتداد بأقوال العلماء في الإجماع ولو كان بعد موتهم ، وذلك دليل على عدم سقوطها عن درجة الاعتبار عند العلماء ، وذلك أمر معلوم لمن راجع الكتب الفقهيّة وغيرها.

ص: 487

ومنها : حرص العلماء على ضبط أقوالهم ومصنّفاتهم ، كما يظهر ذلك من تدوين الكتب وتسطير الأساطير. ويؤيّده أنّ ذلك طريقة السلف والخلف حتى أنّ في بعض الأخبار حثّ على ذلك (1).

ومنها : متابعة بعضهم في المطالب للآخر في الاستدلال والفتوى ، وهو أمر معلوم ، كما يظهر من قولهم : « وتبعه في ذلك غيره » وأمثال ذلك. ونقل بعضهم (2) أنّ جماعة ممّن تأخّر عن الشيخ كانوا يقلّدونه إلى أن بدا للحلّي الاعتراض على الشيخ في مطالبه ، ففتح باب الاجتهاد بعد ذلك.

ومنها : أنّ المحمدين الثلاث انتزعوا هذه الجوامع العظام من الأصول الأربعمائة وغيرها من الكتب ، ولم يستوفوا ما جاء في كلّ مسألة ولا ذكروه على نحو ما جاء ، بل كانوا إذا أرادوا الاستدلال على مسألة عمدوا إلى بعض ما جاء فيها وبعض ما يعارضه ممّا كان أخصر طريقا ، فذكروه وتركوا ما عدا ذلك قائما على أصوله وإن كان صحيح الإسناد. ومن تتبّع ما بقي من الأصول كالمحاسن عرف صحّة ذلك ، فإنّا وجدناه إذا عنون بابا من الأبواب وذكر فيه مثلا نحوا من عشرين خبرا وكان أكثرها من الصحاح عمد الكليني والشيخ إليها وانتزعوا بعضها وتركوا الباقي مع صحّتها محافظة على الاختصار ، ولو نقلوها برمّتها ، ربما فهموا منها غير ما عقلوه ، وربما عمدوا على الخبر الطويل يشمل على مسائل شتّى من أبواب متفرّقة فقطّعوه ووضعوا كلّ قطعة في الأبواب التي يناسبها ، وربما أرسلوا ما هو مسند اختصارا كما يقع كثيرا ، ومن هنا جاء الإضمار والقطع والإرسال وأنواع الاختلال ، فكان ما صنعوه من أقوى أنواع الاجتهاد ، ومع ذلك فعلماؤنا

ص: 488


1- انظر البحار 2 : 144 ، باب فضل كتابة الحديث وروايته.
2- انظر لؤلؤة البحرين : 276 ، الرقم 97.

قبلوا رواياتهم وعملوا بها واعتمدوا عليها وسكتوا عن الفحص عن الأصول القديمة والكتب السالفة ، وذلك من أعظم أنواع تقليد الأموات ، ولم نقف على أحد من أرباب العلم أنكر عليهم ، وذلك إجماع منهم على جوازه.

ومنها : اتّفاق المتأخّرين من أصحابنا على الاعتماد بالجرح والتعديل من علماء الرجال من دون فحص عن السبب ، وكم من أمر يكون سببا للوثاقة أو الجرح ولا يكون عند غيره. وإن شئت فانظر إلى « محمّد بن سنان » فإنّه اشتهر عندهم بالضعف ونقل السيّد الجليل ابن طاوس عن المفيد توثيقه (1) ؛ لأنّ السادة الأطهار عليهم السلام خصّوه بغرائب الأسرار التي لم يطلعوا عليها غيره. وإلى « عمر بن حنظلة » فإنّه لم يوثّق حتى وصلت النوبة إلى الشهيد ، فقال : « إنّي تحقّقت توثيقه من محلّ آخر » (2) وبعد التفتيش علم أنّ الشهيد رحمه اللّه إنّما استفاد توثيقه من رواية ضعيفة قاصرة السند حيث سأله رجل أنّ عمر بن حنظلة قد أتانا ، فقال عليه السلام : « إذن لا يكذب علينا » (3) وذلك دليل على أنّ تقليد الأموات من شعار المجتهدين أيضا فكيف بالمقلّدين؟ إلى غير ذلك ممّا يفيد إطباقهم على الأخذ بأقوال الأموات.

والجواب : أنّ دعوى الإجماع على هذه المسألة التي قد نقل غير واحد من الأساطين المهرة عدم (4) الخلاف فيها ليس إلاّ اجتراء على اللّه وافتراء على أمنائه فعهدتها على مدّعيها.

ص: 489


1- فلاح السائل : 12.
2- الرعاية : 131.
3- الوسائل 18 : 59 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 30.
4- كذا ، والظاهر أنّ كلمة « عدم » زائدة.

وأمّا الأمور التي يقفها (1) المدّعي فهي ممّا لا يزيح علّته ولا ينفع في غلّة (2) وإنّما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، فإذا قربت منها تراها موقدة لنار الغلّة ومزيدة للداء والعلّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإجماع على طريقة الحدس غير متوقّف على الاجتماع ، وعلى طريقة اللطف والبرهان فهو موقوف على الاجتماع ، إمّا في عصر واحد ، فلا حاجة أيضا إلى الاتّفاق في جميع الأعصار ، وإمّا في جميع الأعصار ، فلا بدّ من عدم الخلاف في جميعها لصدق الاجتماع. وذلك إنّما هو لأجل تحصيل الاتّفاق ولا ربط له بشيء من التقليد ، وذلك ظاهر لمن له عين البصارة فضلا من البصيرة.

وأمّا الثاني : فلأنّ فائدة تدوين الكتب لا تنحصر في التقليد بل منها يعرف مواقع الإجماع وكيفيّات الاستنباطات وأطوار الاستدلالات وأنواع الاستخراجات من الأدلّة وإشارات الأخبار والالتفات إلى الأسرار. نعم من لم يذق حلاوة التحقيق وما شمّ من رائحة التدقيق يعتقد أنّ مثل هؤلاء الأجلّة الذين لهم القدح المعلّى من قداح الفضل كان بعضهم يقلّد بعضا ، وإنّما هو قياس غير جائز ؛ ولنعم ما قيل : « كار پاكان را قياس از خود مگير » كيف! وهم صرّحوا في كتبهم الأصوليّة والفروعيّة بعدم جواز التقليد على ما عرفت فيما تقدم.

وأمّا الثالث : فلأنّ الموافقة في الرأي والدليل ليس تقليدا. وأمّا قولهم : « وتبعه في ذلك غيره » فلا دلالة فيه على التقليد كما لا يظنّ ذلك ذو مسكة ، بل المراد أنّه وافقه في ذلك ولفظة « المتابعة » إنّما هو بواسطة تقدّم زمانيّ بينهما ،

ص: 490


1- كذا ولعلها : « يقولها ».
2- الغلّ : شدّة العطش.

وأين ذلك من التقليد؟ ومن هذا القبيل حال اتّباع الشيخ والسيّد وغيرهما. ولعمري! إنّها حكاية معجبة مضحكة ، كيف زعموا في حقّ الفحول؟

وأمّا الرابع والخامس : فلأنّ الاعتماد على الروايات المنقولة أو الجرح والتعديل ليس تقليدا كما هو ظاهر.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاعتماد على النقل فيما لا يظهر لنا خلافه من العدل والثقة لا ارتباط له بالتقليد. وأمّا احتمال الإرسال والقطع والإضمار وغيرها ممّا لا يعقل مدخليّته فيما نحن بصدده ، كما ذكره المستدلّ.

وأمّا الثاني : فقد أشرنا في الاعتراض على الفاضل التوني - حيث حاول نقض دليل المحقّق الثاني - إليه.

وتوضيحه : أنّ الاعتماد على الجرح والتعديل إمّا أن يكون وجه التوهّم فيه : أنّه اعتماد على اعتقاد المعدّل والجارح (1) فيما يصير سببا لهما عنده ، فلو اعتقد أحد خمريّة مائع وشرب بقصد أنّه الخمر يحكم بفسقه بحسب اعتقاده أو اعتقد حرمة الماء فشربه فإنّه يحكم بفسقه ، وذلك اعتماد على اعتقاده بعد موته ، وهو يوجب تقليد الأموات بل ولو كانوا فسّاقا ، وهل هذا إلاّ عار وشنار! وإمّا أن يكون وجه التوهّم فيه : أنّه اعتماد على الشهادة بعد موته ، مع أنّ الموت لو كان مسقطا لقوله لم يكن وجه لاعتبار الشهادة. وإمّا أن يكون وجه التوهّم : أنّ العدالة والفسق موقوفتان على مسائل اجتهاديّة كعدد الكبائر أو معناها ومعنى العدالة ، وكلّ ذلك من الأمور المختلف فيها ، وذلك معلوم قطعا ، فتارة يكون واحد عند بعضهم فاسقا بواسطة ارتكابه ما هو كبيرة عنده دون غيره ، وتارة يكون عدلا بواسطة اعتقاده أنّ العدالة عبارة عن حسن الظاهر ، إلى غير ذلك. فالاعتماد على

ص: 491


1- في المطبوعة : « المجروح ». وهو سهو.

الجرح والتعديل من هؤلاء المختلفين في المسألة يوجب تقليدهم فيما اعتقدوا ، بل ويوجب ذلك مع عدم علمهم بفتواهم وأنت خبير بأنّ شيئا من ذلك ممّا لا يقبل التفوّه به.

أمّا الأوّل : فلأنّ مداره ليس على الواقع وإنّما هو منوط باعتقاده ، وما يحكم به من الأمور المترتّبة على ذلك ليس مربوطا بالتقليد كما لا يكاد يخفى على أوائل العقول.

وأمّا الثاني : فلأنّ المناط في الشهادة هو القول الموجود بعد الموت أيضا ، إذ حدوثه يكفي عن بقائه في الأزمنة المتأخّرة.

وأمّا الثالث : فهو مبنيّ على حمل العبارة الواقعة من المعدّل والجارح على الواقع ، أو على معتقده. فعلى الأوّل يعتمد عليه من هذه الجهة ، وعلى الثاني فالموافق له في الاعتقاد ربما يوافقه والمخالف له لا يوافقه ، ولعل إطباقهم على عدم الفحص عن حال المعدّل ورأيه إنّما هو دليل على حمل العبارة الواقعة في مقام التعديل والجرح على الواقع ، فلا وجه لحسبان أمثال ذلك دليلا على المطلوب. على أنّ ذلك يوجب التعويل على قول الفاسق على الأوّل كما أشرنا إليه ، والاعتماد على ما ليس معلوما على الثاني ، وهل هذا إلاّ بهت؟

وأمّا استفادة التوثيق من الأمور الاجتهاديّة فلا نسلّم أنّهم يعوّلون عليه من دون مراجعة إلى ما هو السبب في ذلك بعد علمهم بأنّ التوثيق إنّما نشأ من الاجتهاد ، كما يظهر من حال « عمر بن حنظلة » فإنّ جماعة من الأصحاب (1) أنكروا على الشهيد في توثيقه المستفاد من الخبر ، ونحن أيضا قد اعتمدنا على ما ذهب إليه الشهيد ، لاعتقاد الدلالة في الرواية.

ص: 492


1- انظر منتقى الجمان 1 : 19 ، ومنتهى المقال 5 : 128 - 129.

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما ذكره الشريف الجزائري في « منبع الحياة » : من أنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث ، كما ذكرناه في صدر الباب (1). ولقد أجاد المولى البهبهاني في فوائده فيما أورد عليه بقوله : أوّلا ما تقول لو لم يكن كتب الفقه موجودة أو كانت موجودة لكن لم يوجد من يفهم كتبهم ، إذ فهم كتبهم على وجه الصحّة والإصابة لا يتحقّق للفضلاء فضلا عن العوامّ ؛ على أنّ الذي يفهمها لا يكاده أن يعثر على خلافاتهم ، مثل أنّ الماء القليل ينجس بالملاقاة وأنّ الكرّ ما ذا ... وهكذا إلى آخر كتبهم ، إذ لا يكاد يتحقّق مسألة وفاقيّة لا تكون من ضروري الدين أو ضروريّ المذهب ، والضروريّ لا تقليد فيه. أو تكون من غير الضروريّ لكن تنفع المقلّد من حيث عدم ارتباطها في مقام العمل بالمسائل الخلافيّة ، إذ جلّها لا يتمّ العمل إلاّ بضميمة الخلافيّات. مع أنّ الأخباريّين يمنعون عن العمل بفتاوى المجتهدين مطلقا والمجتهدون بالعكس. وأيضا ما يقولون في الوقائع الخاصّة والحوادث الجزئيّة التي ليست مذكورة في كتب الفقهاء بخصوصها؟ وغالب ما يحتاج الناس إليه من هذا القبيل ولا يستنبط من الكتب ، أو يستنبط لكن لا يقدر على استنباطه كلّ أحد ، بل ربما لا يقدر على استنباطه سوى المجتهد ، سيّما إذا تعلّق الواقعة بالوقائع المشكلة مثل القصر والإتمام والرضاع ، وغير ذلك من المعضلات. وأيضا العدالة مثلا يحتاج إليها في غالب الأحوال في المعاملات والعبادات والإيقاعات ، فلو لم يكن [ العادل ] موجودا أو لم يكن ممّن يعرف العدالة بأنّها هي الملكة أو عدم ظهور الفسق وأنّها هل تتحقّق باجتناب

ص: 493


1- لا توجد الرسالة عندنا ولكن حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : 472 كما سلف الاشارة إليه في الصفحة : 434.

الكبائر أو الصغائر أيضا وأنّ من الكبائر الإصرار بالصغائر وأنّ الاصرار بما ذا يتحقّق؟ وأنّه هل يعتبر فيه اجتناب المنافيات للمروّة أم لا؟ وعلى تقديره فأيّ شيء هي؟ وأنّه لا بدّ من المعاشرة الباطنيّة أو تكفي الظاهريّة. وبالجملة ، لو لم يكن العادل أو من يعرف العدالة أو العادل ما ذا يصنعون؟ وهذه هي الشبهة المذكورة في لسان العامّة : « حسبنا الروايات والاجتهادات » (1).

وأطال رحمه اللّه في النقض والإبرام عليهم. وما أفاده وإن لم يكن خاليا عن النظر كما لا يخفى على من أمعن فيها (2) ، إلاّ أنّ فيه الجواب أيضا ، فتدبّر.

وقد يستدلّ على الجواز بالعسر والحرج ، وستعرف الكلام فيه.

ص: 494


1- الرسائل الفقهية : 24 - 26.
2- كذا ، والمناسب : « فيه ».

هداية

قد عرفت نسبة التفصيل إلى الفاضل التوني. ولا بأس بنقل كلامه ليتّضح مرامه ، قال بعد المنع عن عموم النهي عن التقليد واختصاصه بالأصول ، والمنع من انعقاد الإجماع في جواز التقليد (1) بزعم أنّها مسألة غير معهودة من أيّام الأئمة عليهم السلام ، والتمسّك بإطلاق الأخبار الخاصّة ، واندفاع العسر والحرج الموجبين للتقليد بمتابعة الميّت أيضا : والّذي يختلج في الخاطر في هذه المسألة : أنّ من علم من حاله أنّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة - كابني بابويه وغيرهما من القدماء - يجوز تقليده حيّا كان أو ميّتا ، ولا يتفاوت حياته وموته في فتاويه. وأمّا من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل باللوازم الغير البيّنة والأفراد والجزئيّات الغير البيّنة الاندراج فيشكل تقليده حيّا كان أو ميّتا ، فإنّ من تتبّع وظهر عليه كثرة اختلاف الفقهاء في الأحكام يعلم أنّ قليل الغلط في هذه الأحكام قليل ، مع أنّ شرط صحّة التقليد ندرة الغلط.

والسرّ فيه : أنّ مقدّمات هذه الأحكام لمّا لم يوجد فيها نصّ صريح كثيرا ما يشتبه فيها الظنّ بالقطعيّ. وربما يشتبه الحال فيتوهّم جواز الاعتماد على مطلق الظنّ فيها فيكثر فيها الاختلاف ، ولهذا قلّما يوجد في مقدّمات هذا القسم مقدّمة غير قابلة للمنع ، بل مقدّمة لم يذهب أحد إلى منعها وبطلانها. بخلاف الاختلاف الواقع في القسم الأوّل ، فإنّه يرجع إلى اختلاف الأخبار.

ص: 495


1- الصحيح : « المنع من انعقاد الاجماع على منع تقليد الميت ... » ، كما في الوافية :306- 307.

فإن قلت : فعلى هذا يبطل جواز اعتماد المجتهد في هذا القسم الثاني.

قلت : لا يلزم ذلك ؛ لأنّه إذا حصل له الجزم باللزوم والفرديّة يحصل له الجزم بالحكم الشرعيّ ومخالفة الحكم المقطوع به غير معقول ، فتأمّل.

قال : إذا عرفت هذا ، فالأولى والأحوط للمقلّد المتمكّن من فهم العبارات أن لا يعتمد على فتوى القسم الثاني من الفقهاء إلاّ بعد العرض على الأحاديث ، بل لو عكس أيضا كان أحوط (1) ، انتهى.

أقول : أمّا منع عموم النهي عن التقليد واتّباع غير العلم فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، كيف! وذلك من الأمور الضرورية وقد دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة.

فيكفي من الكتاب قوله تعالى ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (2) ولا سبيل لتوهّم الاختصاص فيه حيث إنّ الإنكار على مجرّد عدم الإذن كما هو ظاهر.

ومن السنّة رواية القضاة أربعة (3).

ومن الإجماع ما حكاه الوحيد البهبهاني من ضرورة صبيان الإماميّة ونسائهم على عدم الجواز (4).

وأمّا العقل ، فلا ريب أنّ في ذلك تقوّلا على اللّه العليم ، وهو ظلم في

ص: 496


1- الوافية : 307 - 308.
2- يونس : 59.
3- الوسائل 18 : 11 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.
4- لم نعثر عليه بعينه ، نعم قال في الرسائل الاصولية : 12 ، إنّ الأصل عدم حجيّة الظن وهو محلّ اتفاق جميع أرباب المعقول والمنقول.

حقّه تعالى المحرّم عقلا ؛ مضافا إلى قوله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1) ومرّ ذلك مفصّلا على وجه لا مزيد عليه في مباحث الظنّ.

مع أنّ دعوى اختصاص تلك النواهي يوجب هدم أساس الأخباريّين ( فإنّهم ) هم الذين يعتمدون على هذه العمومات عند إثبات كلّ مجهول ولو كان بينهما بعد المشرقين! كما هو ظاهر على من تدبّر كلماتهم في مطاويها.

وأفسد من ذلك ما قاله المحقّق القمي رحمه اللّه : من أنّ الاستدلال بعمومات حرمة العمل بالظنّ استدلال بالظنّ ، فمعنى قولنا : الأصل حرمة العمل بالظنّ إلاّ ظنّ المجتهد وإلاّ تقليد المجتهد الحيّ معناه أنّا نظنّ حرمة العمل بالظنّ ، فإذا حصل الظنّ للمقلّد بأنّ ما قاله الميّت هو حكم اللّه فكيف يقول : إنّي أظنّ أنّه ليس حكم اللّه (2)؟

فإنّ بعد الغضّ عمّا زعمه من أنّ ظواهر الكتاب غير معلوم جواز العمل بها إلاّ من حيث اندراجها تحت مطلق الظنّ - فإنّ ذلك قد فرغنا عن إبطاله في مباحث الظنّ - أنّ دليل ذلك الأصل لا ينحصر في الكتاب في آية منها ، بل وذلك يستفاد من الكتاب علما بواسطة تعاضد الظواهر ، بل الأخبار في ذلك متواترة حتى أنّ بعض المتأخّرين (3) قد تصدّى بجمعها. وقيل : إنّها خمسمائة رواية (4) ، والضرورة الدينيّة أيضا قد ادّعوها كالضرورة العقليّة. مع أنّ كلامه يناقض

ص: 497


1- الحاقّة : 44 - 46.
2- انظر القوانين 2 : 269 - 270.
3- لم نعثر عليه.
4- لم نعثر عليه.

ما أفاده في بعض إفاداته : من أنّه لا منافاة بين حصول الظنّ مع الظنّ بعدم جواز العمل به ، فلا منافاة بين حصول الظنّ من قول الميّت مع الظنّ بعدم جواز العمل بهذا الظنّ (1) كما عرفت فيما أفاده في الجواب عن الإجماع المنقول على عدم الجواز.

وأمّا المنع من انعقاد الإجماع على جواز التقليد فهو ممّا لا يسمع منه بعد ما ترى من إطباق الخلف والسلف على ذلك على وجه لا يستراب فيه المنصف.

وأمّا عدم تداولها بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام فهو أفسد من سابقه ، لما اعترف به من إطلاق الأمر بالرجوع إلى أصحاب الأئمّة عليهم السلام وإن كان دعوى الإطلاق فيها بعيدا عن الإنصاف ، لظهورها في الحياة كما عرفت. فقوله (2) : « لكن تخصيص الحي وإخراج الميّت يحتاج إلى دليل » مدخول : بأنّ ذلك على تقدير الإطلاق وليس في الأدلّة الخاصّة والعامّة بأسرها دلالة على التقليد التعبّدي فكيف بإطلاقها للميّت؟

وأمّا ما أفاده من التفصيل ، فهو ذهاب إلى ما ذهب إليه الظاهريّون ورجوع عمّا أسّسه العلماء الإلهيّون وهدم لبنيان الاجتهاد والفتوى ، كما نبّهنا عليه في أوّل المسألة ؛ مضافا إلى أنّ الحكم بقلّة الغلط في القسم الأوّل وكثرته في القسم الثاني غلط خارج عن حدّ الإنصاف ، فهل ترى أنّ مثل المفيد والشيخ وغيرهما من أصحاب القسم الثاني أكثر خطأ عن غيرهم من أصحاب القسم الأوّل على ما زعمه! والحكم بذلك إنّما هو رجم بالغيب.

ص: 498


1- لم نعثر عليه.
2- أي قول الفاضل التوني في الوافية : 306.

وأمّا اشتباه الظنّي بالقطعيّ وتوهّم الاعتماد على مطلق الظنّ وغير ذلك ، فهو ممّا ليس بضائر فيما نحن بصدده بعد ثبوت مشروعيّة التقليد بالضرورة ؛ مع أنّ باب الاشتباه غير منسدّ على القسم الأوّل ، فإنّ المستدلّ يعدّ نفسه منهم مع ما ترى في كلماته من الاشتباه ما لا يوجد في كلام غيره كما لا يخفى.

وأمّا قوله : « فالأولى والأحوط » (1) فهو يشعر بجواز تقليد غير القسم الأوّل أيضا. ولا وجه له بعد زعمه كثرة الخطأ في القسم الثاني ، فإنّ النادر عند العقل كالمعدوم ؛ مضافا إلى أنّ المتمكّن من فهم الخطابات كيف يعتمد على عرضه حتّى يأخذ بالموافق ويرفض المخالف؟ مع جواز أن يكون الخبر الموافق مقرونا في الواقع بمعارض أقوى أو مقيّد أو مخصّص ؛ مضافا إلى أنّه يجوز عنده أن يكون الموافق قد رفضه الأصحاب المطّلعون على دقائق أسرار الشريعة الذين وصل إليهم الأحكام الشرعيّة بواسطة العدول والثقات يدا بيد ، فإنّ علومهم مأخوذة من أفواه هؤلاء الرجال. أو يكون ذلك المعروض عليه مخالفا لما عليه الإماميّة ، إذ ليس ذلك أمرا عزيزا في أخبارنا كما هو ظاهر ، فلا خير في موافقته ، كما أنّه لا ضير في مخالفته ، إذ مع عدم سدّ هذه الاحتمالات لا يجوز الاعتماد ، ومع السدّ لا حاجة إلى ملاحظة الخبر ، إذ لا وجه للسدّ إلاّ بالقول برجوعه إلى المجتهد من دون ملاحظة دليل الواقع.

وبالجملة : أنّ ملاحظة العامّي - يعني الغير القادر على استنباط المسائل من المدارك - وجودها كعدمها. ولعلّ ذلك قول بوجوب الاجتهاد علينا ، إذ بدونه لا ينفع ما ذكره ، ثم إنّه إذا لم نجد موافقا أو مخالفا فما ذا نصنع؟

فإن قلت : لا بدّ من الرجوع إلى المفتي.

ص: 499


1- الوافية : 308.

قلت : ما الّذي دلّ على جواز رجوعه؟

فإن قلت : أدلّة التقليد من الإجماع والضرورة.

قلت : ذلك آت عند الوجود أيضا.

وإن قلت : إنّه لا يرجع إلى المفتي بل هو يعمل بما يريد.

قلت : ذلك خروج عن طاعة اللّه ورجوع إلى طاعة الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.

ثم إنّ قوله : بل « لو عكس كان أحوط » (1) ، فإن أراد منه تقديم الملاحظة وتأخيرها في الأخبار فهو ممّا لا يؤثّر فيما حكم به من الاحتياط ، وهو ظاهر. وإن أراد به أن يرجع إلى الأخبار أوّلا فما وجده صريحا أخذ به وما أشكل عليه رجع إلى فتاوى العلماء - لما زعمه الشريف الجزائري (2) : من أنّ كتب الفقه شرح لكتب الأخبار - فهو يجدي فيما لو فرض المقلّد صاحب الاقتدار على الاستنباط في تلك الأخبار الصريحة ، وإلاّ فالإشكال أيضا باق بحاله.

بقي الكلام فيما ذكره (3) : من أنّ العسر كما يندفع بالرجوع إلى الأحياء كذلك يندفع بالرجوع إلى الأموات. وهو ناظر إلى ما أفاده في المعالم (4) : من أنّ التقليد إنّما ساغ للإجماع المنقول والعسر والحرج بتكليف الخلق بالاجتهاد. وكلاهما لا يصلح دليلا في موضع النزاع ، لصراحة الأوّل في الاختصاص بتقليد الأحياء ، والعسر والحرج يندفعان بتقليد الأحياء.

ص: 500


1- الوافية : 308.
2- تقدّم في الصفحة : 434.
3- ذكره الفاضل التوني في الوافية : 306.
4- المعالم : 243.

ومحصّل مراده الاستناد إلى الأصل في الاستدلال على المطلب. وتقريره : أنّ تجويز الرجوع إلى الميّت لا بدّ له من دليل ، إذ بدونه يكون قولا بغير علم ولا دليل عليه ، إذ الإجماع مختصّ بالأحياء ، والعسر والحرج يكفي في دفعهما الرجوع إلى الأحياء. وما أدري كيف يقابل ذلك باندفاع العسر بالرجوع إلى الأموات؟ وهل هذا إلاّ خروجها عن قانون التوجيه؟

ص: 501

ص: 502

هداية

حكي عن ركن الدين محمّد بن عليّ الجرجاني (1) أنّه قال في هذا الباب : الأشبه أن يقال : إنّ المستفتي إن وجد المجتهد الحيّ لم يجز له الاستفتاء من الحاكي سواء كان عن حيّ أو ميّت ؛ لأنّه مكلّف بالأخذ بأقوى الظنّين ، فيتعيّن عليه كالمجتهد ، فإنّه يجب عليه الأخذ بأقوى الدليلين ، فإن لم يجده فلا يخلو إمّا أن يجد من يحكي عن الحيّ أو لا ، فإن وجده تعيّن أيضا. وإن لم يجد فإما أن يجد من يحكي عن الميّت أو لا ، فإنّ وجده وجب الأخذ من كتب المجتهدين الماضين.

أقول : وجه التفصيل أمران :

أحدهما : لزوم الأخذ بالمشافه مع الإمكان وعدم الاعتداد بنقل الواسطة أو الرجوع إلى الرسالة ونحوها. ولم يظهر لنا وجه ذلك ، فإنّ عموم وجوب الأخذ بالشهادة ممّا لا ينكر لو أغمضنا عن أصالة حجّية قول العادل مطلقا ، أو في خصوص المقام بواسطة جري السيرة المستمرّة الكاشفة عن رضى المعصوم على ذلك ، فغاية الأمر اعتبار التعدّد أيضا كما في الشهادة. وأمّا عدم الاعتداد إلاّ بالمشافه فلا وجه له.

الثاني (2) : جواز الرجوع إلى الميّت على تقدير عدم الحيّ. ولا مانع منه ،

ص: 503


1- حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : 470.
2- وهو المنسوب إلى العلاّمة والمحقّق الأردبيلي ، انظر حاشية الشرائع للمحقق الكركي ، الورقة : 100 ومفاتيح الأصول : 625 ، ومجمع الفائدة 7 : 547.

نظير ما نبّهنا عليه في بعض مباحث الظنّ : من أنّ الواجب هو الرجوع إلى الوهميّات فيما لو فرض - العياذ باللّه - انسداد باب الظنون المطلقة أيضا.

ولا ينافي ذلك ما قلنا : من أنّ المناط هو الظنّ ، فإنّه يختلف موضوعات المكلّفين باختلاف الأوقات والأحوال. وقد عرفت أنّ ذلك ليس تفصيلا في الحقيقة ، إذ كلام المانعين إنّما هو في مقام وجود الحيّ. وليس من ذلك أثر في كلامهم ، كما هو ظاهر.

ومن هنا تعرف فساد الاستدلال على الجواز : بأنّه ربما لا يوجد مجتهد حيّ أو الاقتصار على الأحياء ربما يوجب العسر والحرج ، لانتشار المكلّفين في البلاد النائية مع انحصار المجتهد في واحد لا يصل أيدي الأغلب أو الغالب أو البعض إليه ، فإنّ هذه الفروض لو سلّم وقوعها - نظرا إلى ما هو المتنازع فيه مع إمكان خلوّ العصر عنه مجتهد حيّ على وجه الكفاية - لا ينافي ما نحن بصدده. كما لا وجه لما قد يوجد في كلام المحقّق القمي رحمه اللّه (1) بأنّ الدليل لا يفيد تمام المطلوب ، فتدبّر.

ص: 504


1- لم نعثر عليه.

هداية

في بيان التفصيل بين الاستدامة والابتداء في قبال قول المشهور بالمنع مطلقا.

قال السيّد الصدر في شرح الوافية - بعد ما نقل قول الشيخ سليمان والشيخ عليّ بن هلال وركن الدين الجرجاني - ما لفظه : ومال بعض المتأخّرين إلى عدم بطلان التقليد بموت المجتهد الذي قلّده في حياته وعدم جواز تقليد الميّت ابتداء بعد موته. وهو قريب (1) ، انتهى.

وهو صريح في أنّ ظاهر المشهور هو المنع مطلقا ، وإلاّ لا وجه لعدّ القول بالاستدامة تفصيلا في المسألة. ومراجعة الأدلّة التي قدّمناها قاضية بذلك أيضا ، ألا ترى أنّ قول السيّد الجزائري رحمه اللّه (2) في ما زعمه من الدليل : من « أن الحكم بصحّة صلاة من مات مجتهده بعد ما صلّى الظهر وبطلان صلاة عصره يوجب الشراكة مع الشارع » صريح في الردّ على الاستدامة. وكذا جواب القوم عنه - كالسيّد الكاظمي رحمه اللّه (3) بالنقض بطريان الفسق وأمثاله مثل ما إذا تغيّر الرأي في أثناء العمل. فلو كان البقاء على التقليد خارجا عن حريم النزاع كان الوجه في الإيراد على الدليل المذكور أنّ ذلك خروج عن محلّ النزاع.

ص: 505


1- شرح الوافية : 471.
2- قاله في الرسالة التي لا توجد عندنا ، ونقله منها السيد الصدر في شرح الوافية : 472.
3- الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) مبحث الاجتهاد والتقليد ، ذيل الدليل الثامن للمجيزين.

ومثل ذلك في الدلالة على أنّ التفصيل بين الاستدامة والبقاء إنّما هو من أقوال المسألة التي نحن بصددها ما ذكره المحقّق الكاظمي رحمه اللّه في الجواب عن استدلال المجوّزين من العامّة وغيرهم : بأنّ موت الشاهد لا يبطل شهادته وكذا فتواه ، حيث قال أوّلا : إنّ الشاهد إذا شهد عند القاضي ثم مات قبل الحكم فيحكم بعد ذلك بمقتضى تلك الشهادة ، فليس ذلك من القاضي اعتدادا بقول الميّت وشهادته ، بل بما أصاب من العلم المحرّر عنده.

ثم قال : وأقرب من ذلك وأسلم منه هو أنّ الكلام في تقليد الميّت واقتفاء أثره واتّباعه فيما ظنّه واستنبطه ، لا في اعتبار خبره. وذلك أنّ الأوّل قد يعارض بتقليد الميّت فيما تناوله منذ حيّا ، انتهى.

وهذا الكلام من الصراحة بمكان لا يقبل الإنكار ؛ وكذا أكثر الأدلّة التي أقامها المانعون ممّا بيّنا على بقاء الظنّ يعمّ البدوي والاستمراري.

وقد يتوهّم : أنّ المشهور الذاهبين إلى عدم جواز تقليد الميّت إنّما كلامهم يختصّ بالابتداء ولا يتوجّه نظرهم إلى الاستمرار.

وهو وهم ناش عن قلّة التدبّر في كلمات المانعين والمجوّزين ، كما عرفت.

وأغرب من ذلك : أنّه قد يذكر في ذلك أقوال ، منها : القول بوجوب البقاء (1). ومنها : القول بحرمته ووجوب العدول (2). ومنها : القول بالتخيير بين البقاء والعدول (3). ومنها : القول بوجوب العدول لو كان الحيّ أعلم وإلاّ فالبقاء لازم (4).

ص: 506


1- ذهب إليه القزويني في ضوابط الأصول : 421.
2- وهو الظاهر من المحقق الثاني في حاشية الشرائع : 99 - 100 ، كما نسبه في المفاتيح : 624 ، إليه وإلى والده.
3- ذهب إليه صاحب الجواهر في الجواهر 21 : 402.
4- لم نعثر عليه.

والحقّ أنّه منحصر في هذه المسألة في قولين : قول باشتراط الحياة في الاستدامة ، وقول بعدم الاشتراط ، فإذا قلنا بالاشتراط فلا وجه لمسألة العدول لبطلان التقليد بواسطة انتفاء شرط آخر مثل تبدل الرأي أو عروض الفسق أو الجنون. وإذا قلنا بعدمه فيكون من موارد العدول وعدمه.

والأقوال في مسألة العدول لا ينبغي عدّها في أقوال هذه المسألة ، كما أنّ القول بوجوب تقليد الأعلم لا ينبغي عدّه في أقوال هذه المسألة ؛ مع أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا صار الحيّ أعلم بعد الموت ، إذ لو كان قبله لم يجز تقليده رأسا. وذلك نظير التفصيل المنقول عن العلاّمة الجرجاني ، حيث أخذ فيه القول بوجوب الأخذ مشافهة. وكيف كان ، فالمختار أيضا هو مختار المشهور ، إلاّ أنّ الأصل في المقام يخالف الأصل في التقليد البدوي.

وتوضيحه : أنّ قضيّة الأصل - على ما عرفت سابقا - هو المنع مطلقا ، لكونه قدرا معلوما. وليس في المقام كذلك إلاّ على القول بجواز العدول ، فإنّ الرجوع إلى الحيّ لا غائلة فيه على التقادير. بخلاف ما إذا قيل بعدم جواز العدول ، فإنّه يدور الأمر بين الغير الجائز والبقاء الغير الجائز ، فيكون قضيّة الأصل هو التخيير بين الاحتمالين عند عدم المرجّح لأحدهما ، وعلى تقديره فالأخذ بما فيه الترجيح.

ولا سبيل إلى القول بلزوم الأخذ بالبقاء على تقدير حرمة العدول ، فإنّ حرمة العدول في الصورة المفروضة ليست معلومة بل محتملة. كما أنّه لا سبيل إلى القول بلزوم العدول ؛ لأنّ جواز العدول وعدمه إنّما يتكلّم فيه ويبحث عنه فيما لو فرضنا صحّة التقليد. وأمّا فيما لو احتمل فساد التقليد أصلا لا وجه لاحتمال حرمة العدول ، فيكون قضيّة الأصل أيضا هو المنع ؛ وذلك : لأنّ احتمال حرمة العدول موجود بعد ، فلا يكون تقليد الحيّ معلوم الصحّة ،

ص: 507

فإنّ احتمال فساد أصل التقليد لا ينافي احتمال صحّة الملازم لاحتمال حرمة العدول الموجب للتخيير العقليّ.

ثم إنّه ذهب جماعة (1) من المعاصرين ومن قاربهم في العصر إلى التفصيل المذكور ، بل ربما يدّعي بعضهم كونه من المسلّمات. واستدلّوا على المنع في البدويّ بما عرفت من الأدلّة السابقة وعلى الجواز في الاستمراريّ بوجوه :

الأوّل : الاستصحاب وتقريره بوجوه :

منها : استصحاب الأحكام الثابتة في ذمّة المقلّد ، كحرمة العصير العنبي مثلا بواسطة التقليد قبل موت المجتهد.

ومنها : استصحاب الأحكام المتعلّقة بوجوب القصر عند ذهاب أربعة فراسخ مثلا. ومرجعه إلى استصحاب الملازمة الفعليّة ، فيكون من الاستصحاب التنجيزي كما حرّر في محلّه.

ومنها : استصحاب صحّة التقليد ، كما إذا شكّ في صحّة البيع مثلا.

ومنها : استصحاب حرمة العدول على القول بها.

والجواب : هو ما قدّمناه في استدلال المجوّزين على الإطلاق. وحاصله :

أنّا قد بيّنا في محلّه : أنّ من شرائط جريان الاستصحاب العلم ببقاء الموضوع وهو غير حاصل ، إمّا للعلم بارتفاعه على القول بارتفاع الظنّ أو عدم العلم ببقائه.

والعمدة في الاستدلال بهذه الاستصحابات الغفلة عمّا يدور عليه رحى الاجتهاد والميل عن طريق المجتهدين بسلوك سبيل وعر سلكه الظاهريّون الأخباريّون من أصحابنا ، وإن كان هؤلاء لا يرضون أيضا بالتمسّك بالاستصحاب ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 508


1- مثل الأصفهاني في الفصول : 422 ، والسيد المجاهد في مفاتيح الأصول : 624.

وبيانه إجمالا : أنّ مناط الأحكام الظاهريّة عندنا معاشر المجتهدين هو الظنّ ، والقدر المعلوم من استتباعه الأحكام الظاهريّة هو ظنّ الحيّ سواء قلنا ببقاء الظنّ بعد الموت أو قلنا بارتفاعه ، وبعد ارتفاع الوصف لا يصحّ جريان الاستصحاب الحكمي ، والموضوعي أيضا غير مفيد كما حرّر في محلّه سابقا.

الثاني : إطلاقات الأدلّة كتابا وسنّة ، فإنّ شمولها لوجوب الأخذ بقول المفتي فيما لو أخذه أوّلا ممّا لا ينبغي إنكاره.

والجواب عنه :

أوّلا : فبمنع دلالتها على أصل التقليد ، كما مرّ الوجه في ذلك مفصّلا.

وثانيا : لو سلّمنا دلالتها على التقليد فيمنع إطلاقها. أمّا فيما عدا آية النفر من الآيات الكتابية فلأنّ دلالتها من باب الملازمة العرفيّة ، ولا إطلاق في المداليل الالتزاميّة.

وأمّا فيها (1) ففي وجه تلحق بغيرها ، وفي وجه آخر فلو سلّم نهوضها على جواز التعويل على قول الأموات بعد موتهم فلا بدّ من تخصيصها - كغيرها من الأدلّة - على تقدير الدلالة بمعاقد الإجماعات التي قد عرفت فيما تقدّم زيادتها عن حدّ الاستفاضة ، مع كفاية ذلك بعد موافقته (2) للمتتبّع في كلمات الأصحاب ، مع عدم ظهور المخالف في المسألة ؛ لأنّها ملحقة بالفرعيّات ، ولم نقف من هؤلاء المجوّزين الاجتراء على مخالفته في الفروع الفقهيّة.

ص: 509


1- أي : آية النفر.
2- كذا ، وفي العبارة نقص.

فإن قلت : إنّ الإجماعات المتقدّمة مختصّة بالتقليد البدوي وليس إطلاقها في بيان حال التقليد الاستمراري ؛ لأنّها وقعت في قبال العامّة القائلين بالجواز ابتداء ؛ مضافا إلى أنّ التقليد هو البدويّ منه ، فلا ينصرف إطلاق لفظ « التقليد » إلى الاستمراري ، بل قد يقال : لا يمكن شمولها إلاّ مجازا ؛ لأنّ البقاء على التقليد ليس تقليدا بالمعنى المصدريّ.

قلت : أمّا كون هذه الإطلاقات في غير مقام بيان الاستمرار إنّما يظهر خلافه بملاحظة كلمات القائلين بعدم الجواز ، حيث إنّهم لا يظهر منهم جواز الاستمرار ولو واحدا ، ولو كان كذلك لكان ذلك شايعا في كلامهم ، وقد عرفت أنّ حدوثه إنّما هو من بعض المتأخّرين ، كما نصّ عليه السيّد الصدر (1). فالقول بأنّ هذه الاطلاقات ليست في مقام بيان الاستمرار إنّما هو قول بلا داع.

وأمّا دعوى عدم الشمول وضعا أو انصرافا ، فلا وجه لها ، وبيان ذلك يتوقّف على الإحاطة بمعاقد الإجماعات سواء كان الإجماع مصرّحا به في كلماتهم أو لا ، فنقول :

منها : ما ادّعي على عدم جواز التقليد ، ولا ريب في استواء صدق التقليد على الابتداء والاستدامة سواء فسّر بالعمل كما هو الظاهر ، فإنّه هو المعقول منه بعد عدم إرادة ما هو المراد منه في غير المقام من الاعتقاد ، الغير الثابت ، لعدم حصوله في الأغلب.

ولا يستلزم ذلك بطلان العمل الأوّل أو الدور ، نظرا إلى توقّف صحّة العمل على التقليد ، فالعمل الأوّل إمّا أن يكون صحّته بنفسه فهو دور ، وإمّا أن لا يكون

ص: 510


1- شرح الوافية : 471.

صحيحا فهو باطل. والوجه في ذلك هو ما أشرنا في محلّه ، وحاصله : أنّ التقليد من كيفيّات العمل وأنحائه ، وإنّما يصحّ انتزاعه من العمل فيما إذا كان العمل مطابقا لفتوى المجتهد من دون حاجة إلى سبق العمل ، فالمفروض يكون صحيحا بواسطة صحّة انتزاع التقليد من العمل الأوّل بعد وجود ما هو المعيار والمناط في الصدق المذكور ، فلا محذور ، إذ لم يفسّر به بل فسّر بالأخذ ، كما يراه البعض.

أمّا على الأوّل : فلأنّه يصدق على من يبقى على التقليد أنّه عامل بقوله ولو كان بعد موته ، فلو نهى المولى عبده عن العمل بقول زيد لا نرى فرقا بين العمل بقوله ابتداء في الحياة والممات وبين استدامة العمل بقوله حيّا وميّتا ، وذلك أمر مجزوم به. فدعوى عدم الشمول وضعا أو انصرافا غير مسموعة.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأخذ بقول الغير يصدق مع الاستمرار أيضا ، فإنّ استمرار الأخذ ليس خارجا عن حقيقة الأخذ ، بل هو أخذ ، كما أنّ استمرار الجلوس جلوس ، واستمرار القيام قيام.

وتوضيحه : أنّ الأفعال القابلة للامتداد في الوجود لا وجه للقول بأنّ الآن الثاني من وجوده ليس من حقيقة ذلك الفعل مع عدم ما يقضي بذلك عقلا ولا نقلا ، كما يشهد بذلك استقراء المصادر التي هي حقايق الأفعال.

وأمّا القول بأنّ « الأخذ » من الأفعال الآنيّة التي لا تقبل الامتداد ، فيكفي في بطلانه مراجعة الوجدان ومقايسة الأفعال الممتدّة معه ، فلا يصغى إليه. إلاّ أنّه لم نعثر على اشتمال معاقد الإجماعات على لفظ « التقليد » سوى ما ذكره الشهيد في الرسالة (1) ، على ما تقدّم.

ص: 511


1- رسائل الشهيد الثاني 1 : 41 ، راجع الصفحة : 453.

ومنها : الإجماع على أنّ الميّت لا قول له كما عن الأحسائي (1) ، حيث قال : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ، فوجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة. ودلالته على نفي القول على عدم جواز التعويل بقوله ابتداء واستدامة ظاهرة لا تقبل الإنكار ، فإنّ الظاهر من نفي القول بعد العلم بثبوته قطعا هو نفي الآثار. ولا فرق في ذلك بين الاستدامة والابتداء.

ومنها : الإجماع على بطلان القول ، كما عن الشهيد في الرسالة (2). ودلالته صريحة في الغاية.

ومنها : ما أفاده في المسالك (3) : من أنّه صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا. وهذا نظير ما في المعالم : من أنّ العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق أصحابنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ (4).

والإنصاف أنّ أمثال هذه المناقشات إنّما تنشأ من ضيق المجال في الاستدلال ، فإنّ شمول هذه العبارات للمطلوب على منار لا ينكره إلاّ العسوف ، بل لو كان ولا بدّ من المناقشة فليقل : بأنّه لا دليل على اعتبار هذه الإجماعات في المقام.

ص: 512


1- راجع رسالة « التقليد » للشيخ الأنصاري : 33.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 41.
3- المسالك 3 : 109.
4- المعالم : 248.

فنقول : إنّ الكلام في المقام إنّما هو في قبال من ذهب إلى عدم الجواز في الابتداء نظرا إلى هذه الإجماعات ، فإنّ لم يسلّم البرهان على اعتبارها فلا بدّ من تسرية المنع إلى هناك ، وإلاّ فالواجب الأخذ بإطلاق معقد الاجماع في المقام أيضا بعد وضوح فساد المنع المذكور. ويوضح ذلك ما ذكرنا في صدر الهداية من شمول الأدلّة وكلماتهم للاستمراريّ والبدويّ فراجعها.

الثالث : دعوى استقرار السيرة على البقاء على تقليد الأموات. ويظهر ذلك بملاحظة أحوال أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، فإنّ من المعلوم عدم التزامهم مع وفور قدسهم بالرجوع عمّا أخذوه تقليدا عمّن له الإفتاء بعد عروض موت المفتي ، ولو كان ذلك لكان بواسطة عموم البلوى منقولا معلوما ، ومثله يعطي العلم برضاء الإمام عليه السلام وتقريره الشيعة على البقاء.

والجواب عن ذلك المنع من استقرار السيرة في وجه وعدم جدواها فيما نحن فيه في وجه آخر. وتوضيحه : أنّ الناس في زمن أصحاب الأئمّة عليهم السلام بين أصناف ، فإنّهم بين العامل بما يسمعه شفاها عن المعصوم ، وبين العامل بالأخبار المنقولة عنهم مثل الفتاوى المنقولة عن المجتهدين ، وبين العامل بفتاوى المجتهدين في تلك الأزمنة ، ك- « أبان بن تغلب » و « محمّد بن مسلم » وأضرابهما ممّن له أهليّة الاجتهاد والإفتاء.

ولا ريب أنّ القسمين الأوّلين ليس عملهم من التقليد في شيء. وذلك هو الغالب في الموجودين في تلك الأزمنة وإن كان بلدهم بعيدا عن بلاد الأئمّة عليهم السلام كما يظهر من ملاحظة أحوالهم ومقايستها بأحوال المقلّدين النائين عن بلد المجتهد في الفتاوى المنقولة إليهم.

وأمّا القسم الثالث : فهم المقلّدون. ولا ريب في قلّة هذا القسم بالنسبة إليهم ، بل وفي نفسه أيضا ؛ لتيسّر الاجتهاد في تلك الأزمنة وعدم احتياجه إلى

ص: 513

ما يحتاج إليه في أمثال زماننا. فإن أريد استقرار سيرة القسمين الأوّلين على عدم الرجوع فمسلّم ذلك ولكن لا يرتبط بالمقام ، إذ لا إشكال في أنّ موت الإمام لا يوجب بطلان قوله كموت الراوي مثل موت الناقل لفتوى المجتهد في زماننا. وإن أريد استقرار سيرة القسم الثالث فلا نسلّم ذلك ، فإنّ الإنصاف أنّ دون إثبات استقرار سيرة المقلّدين بالمعنى المصطلح عليه على البقاء خرط القتاد! بل ولا يبعد دعوى السيرة على خلافه كما يشاهد في أمثال زماننا ، فإنّ بعد موت المرجع نرى اضطراب المتشرّعين من أهل تقليد ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فلا يقاس حال الموجودين في هذه الأزمنة وما يضاهيها من زمن الغيبة بحال أصحاب الأئمة عليهم السلام لما عرفت من افتراقهم الفرق الثلاث ، بخلافهم فإنّ الغالب فيهم التقليد ، كما ذكرنا. نعم ، يصحّ مقايسة حالهم بحالهم في الفتوى المنقولة إليهم مع عدم سماعهم من المجتهد بواسطة الثقات والعدول.

الرابع : أنّ الأمر بالرجوع عن الفتاوى المقلّد فيها يشمل على عسر أكيد وحرج شديد ، وهما منفيّان في الشريعة السمحة السهلة.

والجواب عن ذلك : أنّه إن أريد لزوم العسر والحرج في تعليم المسائل التي أفتى فيها الحيّ. ففيه : أنّه لا عسر فيه ، إذ لو كان كذلك لكان ساقطا عن البالغ في أوّل بلوغه ، على أنّ المخالفة ليست في جميع المسائل بل ولا في الغالب ، فإنّها قليلة جدّا ، وذلك يحصل بمطابقة الرسالة في أيّام معدودة ونحوها ممّا لا يعدّ عسرا إلاّ ممّن جبلت طبيعته على الاعتذار في انتهاضه على الأحكام الشرعيّة والقيام بوظائف الشريعة.

ص: 514

وإن أريد لزوم العسر في انتقاض الآثار المترتّبة على الأعمال الواقعة بمقتضى التقليد الأوّل عند المخالفة ، فذلك لو سلّم لزوم العسر فيه ، فنلتزم بعدم النقض في الآثار السابقة. وأمّا الأعمال اللاحقة ، فلا بدّ من أن يكون على مقتضى التقليد اللاحق.

مثلا : لو فرض أنّ الميّت كان يقول بطهارة الغسالة والمقلّد أيضا إنّما بنى على طهارتها في جملة من الأعوام والسنين ، ثمّ بعد ذلك رجع إلى تقليد الحيّ القائل بنجاستها ، فإنّه يقع في العسر فيما لو أراد إعمال هذه الفتوى بالنسبة إلى ما بنى على طهارته بمقتضى الفتوى الأولى. ولكنّه لا عسر في لزوم الاجتناب عن الغسالة بعد ذلك ، وأين ذلك من لزوم البناء على التقليد السابق على وجه الإطلاق؟ وقد فرغنا عن إبطال هذه الكلمات فيما قدّمنا في مسألة الإجزاء.

ثم اعلم أنّ القول بوجوب البقاء أردأ من القول بجواز البقاء ، فإنّ الوجه في عدم جواز العدول إمّا الإجماع ، وإمّا قاعده الاحتياط فإنّه هو القدر المعلوم ، وإمّا استصحاب وجوب الأخذ بالعمل السابق ، أو استصحاب وجوب نفس العمل ، أو غيره من تقادير الاستصحاب.

أمّا الأخير ، فقد عرفت ما فيه من وجوه المناقشة.

وأمّا الثاني ، فقد عرفت أيضا أنّ الاحتياط لا يقضي بالأخذ بقول الميّت ، فإنّ المسألة من موارد التخيير بناء على حرمة العدول ، وقضيّة الاحتياط هو الرجوع على تقدير جوازه.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ الإطلاقات المتقدّمة على تقدير صلوحها وشمولها للأخذ بقول الميّت على وجه الاستدامة لا يصلح دليلا في المقام ؛ لأنّ المفروض

ص: 515

شمول تلك الأدلّة لقول الحيّ أيضا ، فقضيّة المعارضة هو الرجوع إلى وجوه التراجيح المعمولة بين المتعارضين وهي مع الرجوع (1) لما عرفت من ذهاب المشهور إليه.

وبالجملة ، ففي مقام التعارض لا وجه للأخذ بالإطلاق ، فإنّ صورة المعارضة غير مشمولة للإطلاق ، كما ستعرف تفصيل ذلك بعيد المقام.

وأمّا الإجماع فعدم تحقّقه في المقام ظاهر.

ص: 516


1- كذا ، والعبارة ناقصة ظاهرا.

هداية

اشارة

إذا مات المجتهد ولم يكن في الأحياء من يجوز التعويل على قوله بواسطة عدم تدبّره في العلوم الشرعيّة أو بواسطة فقدان شرط من شروطه ، فهل الحجّة قول الميّت؟ أو لا حجّة فيه أصلا؟ وجهان بل قولان ، ذهب إلى الثاني المحقّق الثاني وتبعه في الرياض على ما نقل (1). وقد سبق في صدر الباب نسبة الأوّل إلى جماعة منهم المقدّس الأردبيلي.

ويمكن ابتناء الخلاف في ذلك على أنّ الحياة من الشروط المطلقة التي لو فرض انتفاؤها يسقط معه وجوب المشروط ، أو من الشروط عند الاختيار.

فعلى الأوّل لا يجوز أصلا ، بل ينقلب التكليف إلى أمر آخر. ولا ينافي ذلك أن يكون مقتضى الدليل في الفرض المذكور هو الرجوع إلى فتاوى الموتى ، فإنّ ذلك بواسطة اندراجه تحت عنوان آخر كما هو ظاهر في الغاية.

وعلى الثاني فلا وجه لسقوط المشروط ، فإنّ الاشتراط إنّما هو في حال الإمكان وعند التعذّر فالشرط باق بحاله. وعلى ذلك لا بدّ من ملاحظة التراجيح لو دار الأمر بينه وبين فقد سائر الشرائط كالإيمان والعدالة. ولعل الترجيح مع الأخذ بقول الميّت ، لوجود القائل ابتداء ، بخلاف قول الكافر والفاسق ونحوهما.

ص: 517


1- نقله السيّد المجاهد في المفاتيح : 625.

والأقرب هو الأوّل ، لإطلاق معاقد الإجماعات التي هي العمدة في دليل الاشتراط. وعلى ذلك فيجب إنكار حجّية قول الميّت من هذه الجهة والمصير إلى الأمارات المفيدة للظنّ بعد العجز عن الاحتياط أو فرض الإجماع على عدم وجوبه.

وأقرب الأمارات هي الشهرة لو أمكن تحصيلها كما إذا كان المقلّد من أهل تحصيلها. ثمّ بعد ذلك بالمنقولة منها بواسطة شهادة العدلين أو العدل لو لم يمكن العدلان. ثم الأخذ بأوثق الأموات كالمحقّق والشهيد وأضرابهما من أساطين الفقه. ثمّ الأخذ بمطلق الأموات. ثمّ الأخذ بمطلق الظنّ.

والوجه في ذلك جريان الدليل العقلي القاضي بالعمل بشيء يحتمله موضوع المكلّف على حسب اختلاف مراتب تكليفه ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم إجمالا ، وقد سبق تحقيقه في مباحث الظنّ.

فإن قلت : إنّ فرض انسداد باب العلم يوجب الرجوع إلى ما هو مفيد الظنّ بالنسبة إلى المقلّد ، ولعلّه يوافق الشهرة ، فلا وجه للترتيب المفروض.

قلت : إنّ المقلّد بعد اندراجه تحت موضوع الانسداد ، فإمّا أن يستقلّ عقله بالعمل بالظنّ أو لا يستقلّ ، فعلى الأوّل فلا حاجة إلى المسألة عمّا هو العالم ، فإنّه يعمل على حسب ما يستقلّ عقله. وعلى الثاني فلا بدّ من الرجوع إلى غيره. والترتيب المذكور إنّما يفيده بعد الرجوع ، والغير إنّما يلزم عليه الرجوع إلى الأمور المذكورة لكونها الأقرب فالأقرب. لكنّه خلاف الفرض ، إذ المفروض عدم استحقاق الإفتاء للغير ، فتأمّل.

واستدلّ في محكيّ مجمع الفائدة للقول الثاني بلزوم الحرج والضيق - المنفيّان عقلا ونقلا - والاستصحاب وبتحقّق الحكم وحصوله من الدليل ولم

ص: 518

يتغيّر بموت المستدلّ ، وقال بعد ذلك : والظاهر أنّ الخلاف ظاهر - كما صرّح به في الذكرى (1) والجعفريّة (2) وكتب الأصول - وليس بمعلوم كون المخالف مخالفا لبعد ذلك عن الذكرى المخصوص ببيان مسائل الأصحاب وعدم اختصاص دليل الطرفين بالمخالف ، ولكن مع ذلك لا تحصل الراحة به (3) ، انتهى ما أفاده رحمه اللّه. أقول : هو كما أفاد لا تحصل به الراحة ، بل الظاهر أنّ الاستدلال المذكور لا يسمن ولا يغني ، ويظهر الوجه فيه ممّا ذكرنا في الهدايات على وجه التفصيل. وأمّا إجمالا فلزوم الأوّلين ممنوع. والثالث لا مجرى له. والرابع لو تمّ لدلّ على الجواز حال وجود الحيّ ؛ مضافا إلى ما عرفت من ابتنائه على مقدّمات لا يساعدها دليل ، كما هو ظاهر.

تنبيهان :

الأوّل : قال المحقّق الثاني في محكيّ تعليقاته على الشرائع : متى عرض للفقيه العدل الفسق - العياذ باللّه - أو جنون أو طعن في السنّ كثيرا بحيث اختلّ فهمه امتنع تقليده ، لوجود المانع. ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ؛ لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ ، وقد خرج عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان (4) ، انتهى.

أقول : وما أفاده في غاية الجودة ، لإطلاق ما دلّ على اشتراطها في الابتداء. وكذا الكلام في جميع ما يعتبر في الابتداء ، كالإسلام والإيمان والعلم.

ص: 519


1- الذكرى 1 : 44.
2- الرسالة الجعفرية ( رسائل المحقّق الكركي ) 1 : 80.
3- مجمع الفائدة 7 : 547.
4- حاشية الشرائع : 99 - 100.

فإنّ زوال أحدها يوجب زوال التقليد وبطلانه. وهو الظاهر ممّن أطلق القول في الشروط المذكورة أيضا.

ويدلّ على ذلك الأخبار الدالّة على اعتبار الإيمان والعدالة ، كرواية الاحتجاج على ما تقدّم الكلام في دلالتها (1) كالرضويّ (2) الصريح في النهي عن غير الشيعة. ويؤيّده قول الشيخ أبي القاسم في جواب من سأل عن كتب الشلمغاني حيث نقل عن العسكريّ عليه السلام أيضا ذلك القول (3). فإنّ النهي عن الأخذ بما رأوا من غير استفصال بين الابتداء والاستمرار دليل على العموم.

ولا طعن في سند الرواية ، فإنّ « عبد اللّه الكوفي » يكفي في وثاقته كونه من خدّام الشيخ. ودلالتها أيضا ظاهرة. ولا عبرة باحتمال إرادة النهي عما رأوا من الاعتقاد الفاسد ، فإنّ ذلك خلاف الظاهر ، فإنّه لا يتوهّم وجوب الأخذ بذلك ، فلا يكون موردا للسؤال ، بل الظاهر هو الآراء المنبعثة عن اجتهادهم. ولا يدلّ على جواز التقليد بالنسبة إلى الموتى ، لعدم العلم بموت جميع بني فضّال أو خصوص الشلمغاني حين السؤال ، فتأمّل في المقام.

الثاني : إذا قلّد الشخص في مسألة البقاء والعدول مجتهدا فعمل على مقتضاه ، ثم مات مجتهده ، فإن قلّد مجتهدا آخر يوافق قوله قول الأوّل بقاء وعدولا فلا إشكال ؛ وكذا إذا كان مقتضى التقليد الأوّل البقاء والثاني الرجوع ، فإنّ هذه الواقعة كإحدى الوقائع التي لا بدّ فيها من التقليد ولا بدّ من الرجوع عن

ص: 520


1- تقدم في الصفحة : 484.
2- انظر الوسائل 18 : 109 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 42 ، والظاهر أن الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام.
3- تقدم في الصفحة : 435.

التقليد الأوّل فيها. ويتفرّع على رجوعها الرجوع عن سائر الوقائع المقلّد فيها. ولو فرض الرجوع عنه في غيرها كان ذلك رجوعا عنها التزاما ، إذ لا محلّ لها بعد الرجوع عن غيرها جميعا.

وإنّما الإشكال فيما إذا كان مقتضى الأوّل الرجوع ومقتضى الثاني البقاء ، فإنّه يرجع إلى التناقض في مقتضاهما ، فإنّ البقاء في هذه الواقعة يوجب الرجوع ولو عن هذه الواقعة.

والذي يسهّل الخطب عدم الأخذ بعموم الفتوى الثانية بالنسبة إلى مسألة البقاء والعدول ، للزوم تخصيص الأكثر لولاه ، ولأدائه إلى وجوب العدول مع أنّ المفتي لا يقول به. فالتعبير المذكور يكون في غاية الركاكة ، وبذلك نبّهنا في بعض مباحث الظنّ ، فراجعه.

ص: 521

ص: 522

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الكلام في اشتراط الأعلمية في المفتي

اشارة

ص: 523

ص: 524

هداية

إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة ، فمع علم المقلّد بالاختلاف على وجه التفصيل هل يجب الأخذ والعمل بفتوى الفاضل أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضا؟ قولان : المعروف بين أصحابنا وجماعة من العامّة هو الأوّل ، كما هو خيرة المعارج (1) والإرشاد (2) ونهاية الأصول (3) والتهذيب (4) والمنية (5) والدروس (6) والقواعد (7) والذكرى (8) والجعفريّة (9) وجامع المقاصد (10) وتمهيد القواعد (11) والمعالم (12) والزبدة (13) وحاشية المعالم (14) للفاضل الصالح ، وإليه

ص: 525


1- معارج الأصول : 201.
2- إرشاد الأذهان 2 : 138.
3- نهاية الأصول : 447.
4- تهذيب الوصول : 105.
5- منية المريد : 166.
6- الدروس 2 : 67.
7- قواعد الأحكام 3 : 419 - 420.
8- الذكرى 1 : 43.
9- الجعفريّة ( رسائل المحقّق الكركي ) 1 : 80.
10- جامع المقاصد 2 : 67.
11- تمهيد القواعد : 321 ، قاعدة 100.
12- المعالم : 246.
13- زبدة الأصول : 120.
14- لم نعثر عليه في الحاشية.

ذهب في الرياض (1) ، بل هو قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليّين كما عن النهاية (2) ، وفي المعالم : هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم (3) ، وصرّح بدعوى الإجماع المحقّق الثاني (4) ، ويظهر من السيّد في الذريعة (5) كونه من مسلّمات الشيعة.

وحدث لجماعة (6) ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير بين الفاضل والمفضول تبعا للحاجبي (7) والعضدي (8) والقاضي (9) وجماعة من الأصوليّين والفقهاء فيما حكي عنهم (10) وصار إليه جملة من متأخّري أصحابنا (11) حتى صار في هذا الزمان قولا معتدّا به. والأقرب ما هو المعروف بين أصحابنا وقبل الخوض ينبغي رسم أمرين :

أحدهما : أنّه لا يعقل الخلاف في وجوب رجوع العامي الغير البالغ رتبة الاجتهاد في هذه الواقعة إلى الأعلم والأفضل ، بل لا بدّ أن يكون الخلاف في مقتضى الأدلّة الشرعيّة. وتوضيحه : أنّ المقلّد إمّا أن يكون ملتفتا إلى الخلاف في

ص: 526


1- رياض المسائل 13 : 47.
2- نهاية الوصول : 447 ، وفيه : وهو قول جماعة من الأصوليّين.
3- المعالم : 246.
4- حاشية الشرائع : 99.
5- لم نعثر عليه بل الموجود فيه صريح في وجود الخلاف ، انظر الذريعة 2 : 801.
6- كالمحقق الاردبيلي حيث جوز ذلك في المحاكمات. انظر مجمع الفائدة 12 : 21 كما نسب إليه في القوانين ، والمحقق القمي في القوانين 2 : 246.
7- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
8- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
9- حكى عنهم العلامة في نهاية الوصول : 447.
10- حكى عنهم العلامة في نهاية الوصول : 447.
11- مثل الاصفهاني في الفصول : 424 ، والنراقي في المناهج : 300.

هذه الواقعة أو لا. وعلى الثاني فلا كلام فيه في المقام ، وإنّما يبنى الكلام فيه على مسألة عمل الجاهل على الخلاف فيها. وعلى الأوّل فإمّا أن يستقلّ عقله بالتساوي فلا كلام أيضا ، إذ لا يعقل تكليفه بخلاف علمه ، وإمّا أن يكون متردّدا كغيرها من الوقائع المشكوك فيها ، فإذا حاول استعلام حال هذه الواقعة بالتقليد فلا يعقل لرجوعه إلى غير الأعلم على وجه التقليد وجه ؛ لأنّ استعلام حال هذه الواقعة من غير الأعلم لعلّه غير مفيد ، إذ لم يثبت جوازه بعد ، فإن كان ذلك منه على سبيل عدم المبالاة بأحكام الشريعة فالعياذ باللّه! وإن كان الاعتماد في الاستعلام المذكور هو قول غير الأعلم فهو دور ، فالمقلّد إذا كان ملتفتا لا بدّ له من الرجوع إلى الأعلم.

نعم ، المجتهد إنّما يجوز له الإفتاء بما ظنّه من الأدلّة الشرعيّة جوازا أو منعا ، فالكلام في المقام إنّما هو فيما يظهر من الأدلّة الشرعيّة للناظر فيها.

فالمجتهد لو بنى على الجواز يفتي به لو راجعه المقلّد ، كما أنّه يفتي بعدمه فيما لو بنى على عدمه.

الثاني : في تأسيس الأصل في المسألة فنقول :

إنّ الظاهر من كلّ من تعرّض المسألة ووصل كلامه إلينا أنّ الأصل مع المانعين. وتقريره : أنّه لا شك أنّ العمل بقول الغير ومطابقة العمل بقوله - وهو المعبّر عندهم بالتقليد - عمل بما وراء العلم ، سواء كان اعتباره بواسطة حصول الظنّ كما يراه البعض ، أو بواسطة التعبّد كما هو الظاهر على ما ستعرف الكلام فيه إجمالا ، وذلك ظاهر. والأصل المستفاد من الأدلّة القطعيّة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا - على ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه - هو حرمة العمل بغير العلم ، خرج منه متابعة الفاضل بالاتّفاق من المجوّزين والمانعين ، فإنّه هو المجمع عليه ، فيبقى متابعة المفضول في عموم حرمة العمل بما وراء العلم.

ص: 527

ولم نقف (1) من لا يذعن بهذا الأصل سوى المحقّق القمي رحمه اللّه حيث إنّه أفاد في بعض إفاداته بأنّه لا أصل لهذا الأصل واشتغال الذمّة لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون أيضا ، والأصل عدم لزوم الزيادة (2).

وهذا الكلام منه رحمه اللّه ليس في محلّه ، ولذلك ترى المجوّزين مطبقين على أنّ ذلك إنّما هو بواسطة الدليل الوارد على هذا الأصل من استصحاب أو إطلاق ونحوهما. فإن أراد بذلك منع قيام الدليل على حرمة العمل بالظنّ فلا بدّ له من الرجوع إلى الكتاب والسنّة وكلمات العلماء ، فإنّ ذلك هو الحاكم بين مدّعي وجود الدليل وبين المنكر. وإن أراد أنّ انسداد باب العلم إنّما اقتضى جواز العمل بالظنّ ، فذلك يوجب الإغناء عن البحث في المسألة ، لدوران الأمر مدار الظنّ فربّما يحصل من الأعلم وربما يحصل من غيره ؛ مع أنّ المعلوم ممّا سبق عدم استقامة الكلام المذكور بواسطة عدم جريان مقدّمات الانسداد في حقّ المقلّد ، لقيام الضرورة الدينيّة على وجوب رجوع العامي إلى المجتهد. وعلمه بذلك ليس بأخفى من علمه بوجوب متابعة أحكام الشريعة ولو على الإجمال.

فإن قلت : إنّ مرجع الأصل المذكور إلى ملاحظة الاحتياط في هذه المسألة التي هي بمنزلة المسائل الأصوليّة من حيث ترتّب المسائل الفرعيّة عليها ، وقد يعارض ذلك بالاحتياط في المسألة الفرعيّة كما إذا كان فتوى الأدون موافقا للاحتياط ، والاحتياط في المسألة الفرعيّة مقدّم على الاحتياط فيما هو بمنزلة المدرك لها.

ص: 528


1- كذا ، والظاهر : على من لا يذعن.
2- القوانين 2 : 247.

قلت : إنّ بعد إعمال الاحتياط في المبنى لا يبقى الشكّ في المسألة الفرعيّة شرعا ، مثل استصحاب المزيل حيث يحكم بتقديمه على المزال ، فتدبّر.

وقد يدّعى أنّ الأصل هو الجواز من وجوه :

الأوّل : أنّ أصالة حرمة العمل بما وراء العلم قد انقطع بما دلّ على مشروعيّة التقليد في الجملة ، ولا ريب أنّه إذا كان المجتهدان متساويان في العلم كان كلّ منهما حجّة وكان المكلّف مخيّرا بينهما ، ويستصحب التخيير الثابت عند حدوث الشكّ في زواله بواسطة حصول الترقّي لأحدهما ، فيتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل.

ولا وجه لما يتوهّم من القلب لفرض من هو واجب التقليد عينا ثم تساوى مع غيره ، فإنّه يستصحب وجوبه التعييني ثمّ يتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، فإنّ استصحاب المثبت مقدّم على النافي ، كما قيل (1).

وفيه : أنّ مناط التخيير قبل التفاضل هو حكم العقل به بواسطة جريان مقدّماته وبعد حصول التفاضل يرتفع ما هو مناط الحكم بالتخيير قطعا ، ولا يجري في أمثال هذه الموارد الاستصحاب ، لارتفاع مناط الحكم قطعا.

وتوضيحه : أنّ مناط حكم العقل بالتخيير هو اجتماع أمور : أحدها عدم إمكان الجمع. وثانيها عدم إمكان الطرح. وثالثها عدم الأخذ بأحدهما على وجه التعيين لانتفاء المعيّن واستحالة الترجيح بلا مرجّح. فإذا فرض وجود أمر يحتمل أن يكون مرجّحا يرتفع الأمر الثالث فلا وجه للحكم بالتخيير لا حقيقة ولا استصحابا. أمّا الأول فظاهر ، وأمّا الثاني فلمّا قرّرنا في محلّه من عدم جريان

ص: 529


1- لم نعثر عليه.

الاستصحاب في الأحكام العقليّة ، لاختلاف الموضوع ، إذ على تقدير عدم الاختلاف في موضوع الحكم العقلي لا يعقل الشكّ فيه ؛ لأنّ العقل لا يحكم إلاّ بعد الإحاطة بحدود الموضوع وأطرافه وذلك أمر ظاهر.

الثاني (1) : أنّ الأمر دائر في المقام بين كون المكلّف به الرجوع إلى مطلق الفقيه حتى يكون المكلّف مخيّرا بينهما ، وبين أنّ يكون هو الرجوع إلى الأعلم ، ولا شكّ أنّ الثاني فيه كلفة ليست في الأوّل ، فمع عدم ما يلزمه من الدليل لا يجب الالتزام ؛ لأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون (2) ؛ وذلك كالشكّ في أنّ المطلوب هو مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة مع انتفاء الإطلاق في البين.

وفيه : منع كون المقام ممّا دار الأمر فيه بين الإطلاق والتقييد على وجه يجري فيه البراءة.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في التعيين والتخيير يتصوّر في مقامات :

أحدها : ما عرفت من دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، ومرجعه إلى الأمر بالكلّي المردّد بين أفراده المخيّر فيها بحسب حكم العقل.

الثاني : أن يكون ذلك التخيير بحسب حكم الشرع كالتخيير بين الخصال.

الثالث : أن يكون التخيير عقليّا بواسطة المزاحمة ، والفرق بينه وبين الأوّل ظاهر فإنّ الأمر لم يعلم تعلّقه بغير الكلّي في الأوّل ، بخلاف الثالث فإنّ تعلّق الأمر بكلّ واحد منها معلوم مع قطع النظر عن المزاحمة ، وإنّما قلنا بالتخيير بواسطة المزاحمة مع اشتمال كلّ واحد من طرفي التخيير على المصلحة الفعليّة.

ص: 530


1- من وجوه أصالة جواز تقليد المفضول.
2- المستدرك 18 : 20 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 61 ، وفيه : « في سعة ما لم يعلموا. »

الرابع : أن يكون التخيير بين فعل الشيء وتركه بواسطة دوران حكمه بين الوجوب والحرمة مع عدم المرجّح في البين.

وإذ قد عرفت ذلك فلا بدّ من بيان أنّ ما نحن بصدده من أيّ هذه الأقسام؟

فنقول : لا إشكال في أنّ التخيير بين الأعلم وغيره ليس من القسم الثاني ، إذ لا دليل في الشرع بكون مفاده التخيير الشرعي بين الأعلم والأدون. ولا من القسم الأوّل ، إذ من المعلوم اعتبار الأدون عند عدم المعارضة ، وليس وجوب عتق الرقبة المؤمنة عند عدم تعارضه بوجوب المطلق معلوما. فلا بدّ أن يكون من القسم الثالث أو القسم الرابع ، ونحن لو سلّمنا جريان البراءة في القسمين الأوّلين فلا نسلّم أنّ القسمين الأخيرين يجري فيهما البراءة ، والوجه في ذلك عدم وفاء أدلّة البراءة به. وبيانه تفصيلا موكول إلى محلّه.

وأمّا إجمالا : فلأنّ الشكّ في المقام راجع إلى تعيين المكلّف به المردّد بين الشيئين ، ولا شكّ في لزوم الأخذ بما يحتمل معه الترجيح بحكم العقل ؛ مضافا إلى أنّ الأخذ بأصالة البراءة فيما نحن فيه ليس في محلّه ، نظرا إلى أنّ الأصل المقرّر في الأمارات الغير العلميّة هو عدم جواز التعويل عليها.

وتوضيحه : أنّ قياس ما نحن فيه مع المثال المعهود من دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد - كالعتق المردّد بين المؤمنة ومطلق الرقبة - قياس مع الفارق. والوجه فيه : أنّ عدم وجوب الزائد هناك موافق لأصل البراءة. بخلاف المقام ، فإنّ الشك الزائد لا يطابق الأصل ، بل الشكّ فيه إنّما يرجع إلى عروض التخصيص في عمومات النهي عن العمل بما وراء العلم ، وأصالة الحقيقة فيهما تقضي بالتحريم فيما لم يعلم تخصيصه بدليل قطعيّ ، كما هو المفروض في مقام تأسيس الأصل.

ص: 531

وممّا يدلّ على أنّ المقام ليس من موارد البراءة بواسطة دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد هو أنّه من لوازم ذلك تعلّق الأمر بالمطلق القدر المشترك ، وهو إنّما يجدي في التكاليف الواقعيّة ، وأمّا فيما هو طريق إليها - كالتكليف فيما نحن فيه - فلا يعقل تعلّق الأمر بالقدر المشترك ، فإنّ القدر المشترك بين ما مفاده الوجوب وبين ما مفاده الحرمة لا يعقل أن يكون هو الطريق إلى الواقع.

وأمّا التخيير الشرعيّ بين الأخبار مع كونها طرقا إلى ما يستفاد منها فليس على القاعدة التي قرّرنا في الطرق ، فإنّ الأصل يقضي فيها بالتوقّف دون التخيير ، كما هو مذكور في بحث التعادل والتراجيح. بل وذلك لا يناسب الطريقة في الأخبار ، فإنّما هو يلائم القول بوجوب الأخذ بقول العادل في الأخبار والعالم في المقام تعبّدا شرعيّا من دون ملاحظة كونها طرقا موصلة إلى الواقع وإن كان ذلك بعيدا في الغاية كما يومئ إليها أمارات قد استوفيناها في مباحث الظنّ.

الثالث (1) : أنّ مقتضى الأصل في المقام هو التخيير ، لرجوع الأمر إلى الشكّ في كون الأعلميّة هل هي من المرجّحات أو لا ، والأصل عدم كونها منها.

وتوضيحه : أنّ المراد من عدم حجّية قول غير الأعلم لا وجه لأنّ يكون عدم الحجّية بحسب الشرع في حدّ ذاته ، ضرورة اعتباره عند عدم الأعلم ، بل المراد عدم الحجّية عند دوران الأمر بين الأخذ بفتوى الأعلم وقول غيره ، ووقوع التعارض بينهما بعد العلم بالحجّية في الجملة ، ولا ريب أنّ الحكم بتقديم الأعلم يحتاج إلى مرجّح والمرجّحية ليست من الأمور التي تطابق الأصل كنفس الحجّية ، فمتى ما شكّ فيها فالأصل عدمها ، ومعه يثبت التخيير ، وهو المطلوب.

ص: 532


1- من وجوه أصالة جواز تقليد المفضول.

وفيه : أنّ رجوع أصالة عدم الترجيح في المقام إلى تخصيص العموم الذي دلّ على حرمة العمل بما وراء العلم بدون مخصّص ، فلا وجه لجريانه.

والوجه فيه : أنّ التخيير المطلوب في المقام إثباته إمّا التخيير العقلي أو الشرعي ، ولا سبيل إليهما. أمّا الأوّل : فلأنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو فرع التساوي في نظره ، والمفروض حصول الترجيح لأحدهما ولا سبيل إلى القول بعدم اعتبار هذا الترجيح ، إذ المدار هو حكم العقل ومع احتمال الترجيح لا حكم للعقل ، وأصالة العدم لا ترفع نفس الاحتمال الذي من لوازمه العقليّة عدم استقلال العقل بالتخيير لاحتمال الترجيح. وأمّا الثاني : فلعدم وفاء شيء من الأدلّة الشرعيّة بالتخيير بين قول الأعلم وغيره. وأمّا حكم الشرع بالتخيير بعد محكم العقل فهو إنّما هو في موضوع حكم العقل على الوجه الذي حكم به العقل ، فلا وجه لما عسى يتوهّم : من أنّ قضيّة الملازمة هو وجود الحكم الشرعي في مورد حكم العقل بالتخيير.

وكيف كان ، فلا محيص عن الالتزام بأنّ الأصل عدم اعتبار قول المفضول عند تعارضه بقول الفاضل ؛ لما عرفت في طيّ الكلمات المذكورة ، ولذلك تراهم مطبقين على الأصل المذكورة وإنّما زعم من زعم بواسطة الأدلّة الواردة القاطعة للأصول ، وإذ قد عرفت الأصل في المقام فلنذكر أدلّة الطرفين في هداية مستقلّة.

ص: 533

ص: 534

هداية

في ذكر احتجاج القائلين بالجواز.

وهو وجوه :

الأوّل : الأصل بتقريراته الثلاث كما عرفت فيما مرّ (1) ، مع ما فيها من عدم الاستقامة.

الثاني : إطلاقات الأدلّة كتابا وسنّة ، إذ لا أثر فيها على اشتراط الأعلميّة ، فيكون هذه الإطلاقات قاطعة للأصل على تقدير تسليم اقتضائه المنع.

الثالث : دعوى استقرار سيرة أصحاب الأئمّة عليهم السلام على الأخذ بفتاوى أرباب النظر والاجتهاد من دون فحص عن الأعلميّة مع القطع باختلافهم في العلم والفضيلة. ويكفي في ذلك ملاحظة تجويز التكلّم بهشام (2) وأضرابه (3) دون غيرهم.

الرابع : في وجوب تقليد الأعلم عسرا لا يتحمّل في العادة ، فيكون منفيّا في الشريعة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأعلم في الأغلب منحصر في واحد أو في اثنين ، ومن المعلوم أنّ رجوع جميع أهل الاسلام إليه فيه عسر عليه وعليهم كما هو ظاهر (4).

ص: 535


1- راجع الصفحة : 529 و 530 و 532.
2- كذا ، والظاهر : لهشام.
3- انظر الكافي 1 : 171 ، الحديث 4 ، ورجال الكشي 2 : 554 ، الحديث 494.
4- لم يتعرض للثاني وهو نفي العسر في الشريعة ؛ لوضوحه.

الخامس : ما زعمه بعض الأجلّة (1) ، وهو : أنّه لو كان تقليد الأعلم واجبا لما كان الأخذ بفتاوى أصحاب الأئمّة مع إمكان الاستفتاء منهم عليهم السلام جائزا ، فإنّهم أولى بأن يؤخذ منهم من الأعلم.

السادس : ما استند إليه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2) وحاصله : الاستناد إلى دليل الانسداد القاضي بوجوب الأخذ بقول العالم للعامّي ، من غير فرق بين الأعلم وغيره ، ضرورة حصول المناط وإمكانه في غير الأعلم أيضا.

والكلّ ممّا لا يجوز الاعتماد عليه.

أمّا الأوّل : فقد عرفت.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإطلاقات المذكورة بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعيّة أصل التقليد - كما عرفت الوجه في ذلك فيما مرّ - أنّ هذه الإطلاقات بين أصناف :

صنف منها يكون دالاّ على جواز الأخذ بقول العالم على وجه يكون المراد به الجنس ، كآية السؤال (3) فإنّ المأمور به فيها هو وجوب السؤال عن جنس العالم ، كما هو ظاهر على من لاحظها. ونظيره قوله : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا (4).

وصنف منها ما يدلّ على وجوب الأخذ بكلّ عالم على وجه العموم كآية النفر (5) فإنّها على ما هو المقرّر في توجيه الاستدلال بها يدلّ على وجوب

ص: 536


1- الفصول : 424.
2- القوانين 2 : 246.
3- النحل : 43.
4- الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.
5- التوبة : 122.

الأخذ بقول المنذرين ، ونظيره قوله : « من عرف أحكامنا » (1) وقوله : « وأمّا من كان من العلماء صائنا لدينه فللعوام أن يقلّدوه » (2).

وصنف منها ما يدلّ على وجوب الأخذ بقول كلّ عالم على أيّ وجه اتّفق على وجه العموم البدلي ، مثل قوله : « اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا » (3) فإنّ مفاده وجوب الرجوع إلى العلماء على وجه يستفاد منه التخيير ، مثل الرواية المنقولة عند الجمهور : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (4).

لا ريب في أنّ الاستناد إلى الصنفين الأوّلين ممّا لا يجدي في المقام ، فإنّ المستفاد منها مشروعيّة جواز الرجوع إلى العلماء في أصل الشريعة ، ولا كلام لنا فيه ، إذ لا إشكال في أنّ قول الغير الأعلم حجّة وأنّه يجب الأخذ به في حدّ ذاته عند عدم معارضته بقول الأعلم ، وإنّما الكلام في أنّ من الجائز الأخذ به عند معارضته بقول الأعلم أو لا؟ ولا إشكال في أنّ هذه الواقعة خارجة عن مفاد الدليل المذكور فلا بدّ لها من دليل يوافقها.

وأمّا الصنف الثالث : فيمكن أن يكون دليلا للخصم ، لما عرفت من أنّه يستفاد منه التخيير ، فيمكن الاستناد إليه عند الشكّ في رجحان قول الأعلم على غيره.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ ذلك لا يجدي أيضا ، والوجه فيه : أنّ مجرّد إمكان الاستفادة لا يجدي في التمسّك بالإطلاق ، بل لا بدّ وأنّ يكون المطلق في مقام بيان الحكم المذكور.

ص: 537


1- الوسائل 18 : 99 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.
2- الوسائل 18 : 95 ، الباب 10 ، الحديث 20.
3- الوسائل 18 : 110 ، الباب 11 ، الحديث 45.
4- معاني الأخبار : 156 ، وانظر ميزان الاعتدال : 607 ، الرقم 2299.

والظاهر أنّ هذه الأقسام كلّها مسوقة لبيان جواز نفس التقليد من دون ملاحظة أمر آخر ، كقولك : فارجع إلى الأطبّاء ، أو إلى الطبيب ، أو إلى كلّ من يعالج مثلا ، فإنّ المفهوم منها بيان أصل المرجع ، وأمّا الواقعة المترتّبة على هذه الواقعة من وقوع التعارض بين أقوال الأطبّاء ، فلا يستفاد منها ؛ ولذلك لا يعدّ بيان المرجع عند التعارض قبيحا كما هو كذلك في المقبولة ، فإنّه بعد الأمر بالرجوع إلى العارف بالأحكام يصدى (1) لبيان المرجع عند التعارض ولذلك حسن استفسار السائل أيضا ، نعم يصحّ التعويل على هذه الاطلاقات عند عدم العلم بالاختلاف والتعارض ولا بأس به.

وأمّا الأخبار الخاصّة : فالاستناد إليها يتوقّف على دعوى العلم بوجود الاختلاف بين هؤلاء المفتين في العلم والفضيلة ، والعلم باطّلاع الناس على اختلافهم فيه ، والعلم باختلافهم في الفروع الفقهيّة. والإنصاف : أنّ إثبات ذلك فيمن أمر الإمام عليه السلام بالاستفتاء منهم في غاية الصعوبة ، بل لا يكون ذلك إلاّ تخرّصا على الغيب.

وأمّا السيرة (2) : فالمسلّم منها أنّهم مع عدم علمهم بالاختلاف في الفتاوى كانوا يرجعون بعضهم إلى بعض ، وأمّا مع العلم بالاختلاف إجمالا فلا نسلّم عدم فحصهم عن الفاضل وعدم رجوعهم إليه ، فكيف بما إذا علموا بالفضيلة والاختلاف تفصيلا! بل يمكن دعوى ندرة الاختلاف بين أصحاب الأئمّة أيضا. ولا ننكر أصل الاجتهاد في حقّهم ، بل نقول بالفرق بيننا وبينهم من [ حيث ](3) وجود أسباب الاختلاف في حقّنا دونهم ، فإنّ حالهم - كما مرّ مرارا - حال

ص: 538


1- كذا ولعلّه : يتصدّى.
2- وهو ثالث حجج القائلين بالجواز.
3- اقتضاها السياق.

المقلّدين في أمثال زماننا حيث إنّهم لا يختلفون في الفتاوى المنقولة عن مجتهدهم ، فإنّه كلّما يزداد بعد عهدنا عن مشكاة الإمامة ومصباح الولاية يزداد الحيرة والاختلاف فينا ؛ ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « أصحابي كالنجوم » (1) فإنّ فيه دلالة على خلاف مراد المتمسّكين به.

أمّا أوّلا : فلأنّ لفظ « الاهتداء » يخالف اختلاف الهادين ، فلا بدّ من أن يكون الكلّ متّفقا في الكلمة. وأمّا ثانيا : فلأنّ التشبيه بالنجوم يفيد ذلك ، فإنّها طرق قطعيّة يتوصّل بكلّ واحد منها إلى المقصود على اختلاف أوضاع المقاصد وهيئات الكواكب.

وكيف كان : فالإنصاف أنّ دعوى استقرار السيرة على جواز الرجوع إلى غير الأعلم عند العلم بالاختلاف وإمكان الرجوع إلى الأعلم - على وجه يكون شايعا معلوما للأئمّة بالعلم المعتاد المعتبر في حجّية السيرة - غير بيّنة ، ولم يقم دليل عليها أيضا ، فعهدتها على مدّعيها.

وأمّا لزوم الحرج (2) : فإن أريد لزومه في تشخيص موضوعه ، ففيه : أنّ تشخيص الأعلم ليس بأخفى من تشخيص نفس الاجتهاد فيما هو الموصل فيه أيضا. وإن أريد لزومه من حيث الانحصار ، ففيه : أنّ الواجب حينئذ الرجوع إلى الأعلم فيمن لا يلزم منه العسر. ولا يمكن إلحاق الغير بالإجماع ، لما عرفت مرارا من أنّ التفضيل بواسطة لزوم العسر ليس تفصيلا في الحقيقة ، لحكومة الأدلّة الدالّة على نفسه على جميع الأدلّة في الأحكام الواقعية. وإن أريد أنّ فتوى الأعلم فيها عسر. ففيه : أنّ فتوى غيره أيضا قد يكون فيه العسر.

ص: 539


1- المتقدم في الصفحة : 225.
2- وهو رابع حجج القائلين بالجواز.

وبالجملة : فلا وجه للاعتماد على هذه الوجوه كما هو ظاهر.

وأمّا الخامس : فهو من غرائب الاستدلال في المقام! إذ المقصود على ما عرفت عند العلم بالاختلاف ، والعلم بمخالفة الإمام مع غيره يوجب العلم ببطلان الغير ومع ذلك لا يجوز التقليد ، مضافا إلى أنّ قياس الإمام بغيره مما يشمئزّ منه أصحاب الإنصاف ، كما هو ظاهر.

وأمّا السادس : فهو مبنيّ على مقدّمات لم يساعد عليها بداهة ولا برهان ، بل قامت الضرورة الدينيّة على خلافه كما أومأنا إلى ذلك مفصّلا. ولو سلّم فالواجب هو الأخذ بالأعلم أيضا ، لما ستعرف في أدلّة المانعين.

وقد يستدلّ أيضا : بأنّ إهمال الغير الأعلم عند معارضته بالأعلم يوجب الحكم بمساواته بغير العالم أصلا. وقد قال تبارك وتعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وفيه : أنّ مساواة الأعلم وغيره أيضا يوجب الحكم بمساواة العالم وغيره. مع أنّ التمسّك بالآية في أمثال المقام ممّا لا وجه له أصلا كما لا يخفى ، إذ نفي المساواة من جميع الجهات ممّا لا سبيل إليه ولا ظاهر في البين يجدي في المقام ، فيكفي في نفي المساواة الاختلاف في بعض الجهات ، ولم يثبت كون المقام منها ، فتدبّر.

ص: 540


1- الزمر : 9.

هداية

في ذكر احتجاج المانعين :

وهو بعد الأصل - كما عرفت (1) تقريره - وجوه :

الأوّل : الإجماعات المنقولة صريحا في كلام المحقّق الثاني (2) - كما حكاه الأردبيلي عن بعضهم أيضا (3) - وظاهرا في كلام الشهيد الثاني (4) المؤيّد بنقل عدم الخلاف عند أصحابنا ، كما يظهر من السيّد في الذريعة (5) ، والبهائي حيث قال : وتقليد الأفضل معيّن عندنا (6) ، وفي المعالم : وهو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم (7) المعاضدة بالشهرة المحقّقة بين الأصحاب. وهو الحجّة في مثل المقام الملحق بالفرعيّات ، بل ولا يجوز الاجتراء في الإفتاء في مثل هذه المسألة التي بمنزلة الإفتاء في جميع الفقه بخلاف المنقول

ص: 541


1- انظر الصفحة : 527.
2- حاشية الشرائع : 99.
3- مجمع الفائدة 12 : 21.
4- انظر منية المريد : 166.
5- لم نعثر عليه بل الموجود فيه صريح في الاختلاف حيث قال : وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض ... فقد اختلفوا ، انظر الذريعة 2 : 801.
6- زبدة الاصول ( مخطوط ) : 120.
7- المعالم : 246.

من الأصحاب ، كيف! ولا نرى منهم الاختلاف مع وجود ذلك فيما هو أهون من المقام ، كما لا يخفى على من تتبّع فتاويهم.

ولا وجه للوسوسة بعدم حجّية الإجماع المنقول في المقام كما عرفت ، والتعليل الفاسد في كلام المجمعين ليس بضائر بعد الاتّفاق الكاشف مع ما تعرف من صحّة التعليل أيضا.

الثاني : الأخبار الدالّة على ترجيح الأعلم على غيره.

منها : مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال فيها : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر » (1).

ومنها : رواية الصدوق عن داود بن الحصين عن الصادق عليه السلام : « في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف ، واختلف العدلان بينهما عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال عليه السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا » (2).

ومنها : قول أمير المؤمنين عليه السلام المنقول في نهج البلاغة : « اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك » (3) والتقريب في الكلّ ظاهر ، فإنّ الإمام قدّم قول الأفقه والأعلم على غيره عند العلم بالمعارضة والمخالفة ، وهو المطلوب.

لا يقال : إنّ ظاهر المقبولة هو اختصاصها بالقضاء كما هو المصرّح به في صدرها ، حيث سأل الراوي عن رجلين بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فلا يستقيم الاستدلال بهما في الفتوى.

ص: 542


1- الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 18 : 80 ، الباب 9 ، الحديث 20.
3- نهج البلاغة : 434 ، الكتاب 53 من رسائله عليه السلام.

لأنّا نقول أوّلا : يتمّ المطلوب بالإجماع المركّب ، إذ لا قائل بالفصل بين وجوب قضاء الأعلم وتقليده ، وإن احتمل عدم تحقّقه في العكس.

وتوهّم : اختصاص الرواية بظاهرها بصورة تقارن الحكمين ولم يثبت الإجماع حينئذ ، مدفوع : بأنّ ذلك يوجب حمل الرواية على النادر ، إذ التقارن قلّما يتّفق مع إمكان دعوى الإطلاق أيضا. وثانيا : أنّ ظاهر المقبولة صدرا وذيلا فيما إذا كان الاشتباه في الحكم الشرعي الّذي مرجعه إلى الاختلاف في الفتوى ، دون الأمور الخارجية التي لا يكون رفع الاشتباه فيها بالرجوع إلى الأحاديث ، فتكون الرواية دليلا على الترجيح بالأعلميّة عند اختلاف أرباب الفتوى. ويرشد إلى ذلك : أنّ رفع الاشتباه في غيرها إنّما هو بالأمارات المفيدة للأمور الخارجيّة كالأيمان والبيّنات ونحوها. بخلاف الاشتباه في الحكم الشرعي ، فإنّ مرجع الاشتباه فيها بالرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة التي منها الأحاديث الواردة بينهم.

وتوضيح ذلك أيضا : أنّ المرجّحات المذكورة بعد ذلك أيضا من مرجّحات الاستنباط للحكم الشرعي ، مثل موافقة الكتاب ومخالفة العامّة ونحوها. ويؤيّده :

أنّ النزاع في الأمور الخارجيّة لا وجه لاختلاف الحكمين فيه ، إذ لا يجوز نقض حكم الحاكم الأوّل للثاني ، فلا يعقل الاختلاف بينهما.

فإن قلت : لا وجه لحمل الرواية على التقليد أيضا ، فإنّ إعمال هذه المرجّحات ليس من مثال المقلّد أيضا ، ضرورة أنّ اللازم في حقّ المقلّد هو الأخذ بالفتوى من دون مراجعة إلى دليل الواقعة حتى يحتاج إلى إعمال المرجّحات.

قلنا : ذلك مبنيّ على اختلاف حال المقلّدين الموجودين في ذلك الزمان والموجودين في زماننا ، إذ يمكن أن يكون المقلّدون في ذلك الزمان من أرباب

ص: 543

الاجتهاد. ولا ينافي ذلك تقليدهم لحصول الاطمئنان لهم بأنّ المذكور في مقام الفتوى هو مضمون الرواية المسموعة عن الإمام ، ألا ترى أمر الصادق عليه السلام بعبد اللّه بن أبي يعفور - مع كونه من أصحاب الرواية - بالرجوع إلى الثقفي (1). فالظاهر أنّهم كانوا يعتمدون بما عندهم من الروايات ، وإذا احتاجوا في واقعة إلى حكم كانوا يسألون بعضهم بعضا فيعتمدون على جوابه وإن لم يكن لفظ الرواية ، تنزيلا لفتواهم منزلة رواياتهم ، مثل المقلّدين في زماننا.

وأمّا اجتماع الأوصاف المذكورة في الرواية ، فالظاهر من مساقها اكتفاء بعضها أيضا ؛ مضافا إلى انعقاد الإجماع على خلافه ولا يوجب نقضا في الاستدلال. كما أنّ مخالفة ترتيب المرجّحات أيضا للعمل لا يضرّ ما نحن بصدده.

فلا وجه للمناقشة في دلالة المقبولة ، كما لا وجه للمناقشة في سندها ، فإنّها مقبولة معمول بها. مثل المناقشة في الرواية الثانية.

نعم ، لو كان ولا بدّ من المناقشة فليناقش في الرواية المنقولة في نهج البلاغة (2) فإنّ الظاهر من مساقها الاستحباب.

الثالث (3) : أنّ فتوى الأعلم أقرب من غيرها فيجب الأخذ بها عند التعارض ؛ لأنّ الأخذ بالأقرب لازم عند التعارض. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلقضاء صريح العقل به.

واعترض عليه (4) تارة في الصغرى وأخرى في الكبرى.

ص: 544


1- الوسائل 18 : 105 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 23.
2- تقدمت في الصفحة : 542.
3- من وجوه احتجاج المانعين.
4- لم نعثر عليه.

أمّا الأوّل : فبأنّ الأقربيّة على وجه الإطلاق ممّا لا وجه لها ، إذ ربما يكون فتوى غيره أقرب بواسطة اعتضادها بالأمور الخارجيّة ، كموافقتها المشهور أو لفتوى أعلم الأموات أو غير ذلك ، فإذا فرض اطّلاع المقلّد على هذه المرجّحات يكون فتوى غير الأعلم أقرب.

وأمّا الثاني : فبأنّه لا دليل على اعتبار الأقربيّة في الأمارات التعبّدية التي منها قول المفتي في حقّ المستفتي. نعم ، لو كان اعتباره من باب الظنّ كان ذلك وجها. ولكنّه قد اعترف (1) مرارا بفساد هذه الدعوى.

ويمكن الجواب ، أمّا عن الأوّل : فبأنّ الأقربيّة تارة تكون بواسطة المرجّحات الداخليّة في ذات الأمارة ، نظير قوّة الدلالة في تعارض الأخبار وقوّة السند فيها. وتارة تكون بواسطة أمور خارجيّة عن ذات الأمارة ، مثل موافقة المشهور وأمثاله ممّا لا ربط له بنفس الأمارة وإن كان يوجب أقربيّة مضمونها إلى الواقع. والفرق بينهما ظاهر مذكور في محلّه في باب التعارض.

لا كلام في اعتبار المرجّح الداخلي في حقّ المجتهد. وأمّا المرجّحات الخارجيّة فقد تحقّق في محلّها أنّها معتبرة في حقّ المجتهد أيضا. وأمّا المقلّد فالإجماع بل الضرورة قضت على عدم اعتبار المرجّح الخارجي في حقّه. والسرّ فيه ظاهر ، حيث إنّه لو قلنا بذلك يلزم تديّن كلّ واحد من المقلّدين بغير ما تديّن به الآخر. بخلاف المرجّح الداخلي الذي منه الأعلميّة ، فإنّه معتبر في حقّه قطعا لانضباطه وعدم لزوم المحذور على تقديره ، مع حكم العقل بلزوم الأخذ بالأقرب. ولا يقاس ذلك بالشهرة ونحوها.

ص: 545


1- في النسخ : اعترفت.

والحاصل : أنّ الإجماع قام على عدم اعتبار ظنّ المقلّد في مقام الترجيح فيما إذا لم يكن مستندا بنفس الأمارة. نعم ، في المقام شيء آخر ، وهو أنّ فتوى غير الأعلم قد يكون بنفسها أقوى من فتوى الأعلم بواسطة زيادة حاصلة فيها من زيادة فحص وكثرة تتبّع لأقوال العلماء بعد اشتراكهما فيما هو المصحّح للاجتهاد والفتوى ، فلو لم نقل بأنّ ذلك يوجب الأعلميّة في هذه الواقعة الخاصّة لا يستقيم الاستناد إلى الدليل المذكور ، بل ولا يجري غيره من الأدلّة أيضا. أما الإجماعات المنقولة ، فلعدم الاطمئنان بشمولها للمقام. وأمّا الأخبار ، فيمكن دعوى عدم انصرافها إلى مثل المقام.

وهل يتخيّر بينهما نظرا إلى عدم الترجيح بينهما بواسطة اشتمال كلّ منهما على مرجّح داخليّ ، أو يقدّم الفاضل الأقوى نوعا نظرا إلى إطلاق معاقد الإجماعات والأخبار ، أو يقدّم المفضول نظرا إلى كونه أوثق شخصا؟ وجوه ، أوسطها الأوسط لو لم نقل : بأنّ ذلك يوجب أعلميّة المفضول في الواقعة الخاصّة ، فتدبّر.

وأمّا عن الثاني : فبأنّ التقليد إنّما هو ليس من الأمارات التعبّدية المحضة التي لا يلاحظ فيها حال الواقع بوجه - كأن يكون مفادها في عرض الواقع على وجه يكون موضوعا لما يترتب عليها حتى لا يكون الأقربية إلى الواقع موجبا للأخذ بها عند المعارضة - ولا من الأمارات الثابتة بواسطة دليل الانسداد حتى يؤخذ بالطرف الراجح ولو كان من الأمور الخارجية ، بل المتحقّق : أنّ اعتبار التقليد في حقّ العاميّ إنّما هو من باب التعبّد لكن على وجه الطريقيّة ، فالملحوظ فيه هو الكشف عن الواقع قطعا. ولا إشكال في أنّ الأخذ بما هو الأقوى في هذه الأمارات لازم لحكم العقل.

ص: 546

والحاصل : أنّ التقليد إنّما هو معتبر من حيث إنّه يطابق الواقع في الأغلب وإن لم يكن مداره على حصول الظنّ في خصوصيّات الموارد ، وذلك يوجب الأخذ بالأقرب الأقوى نوعا إذا كان الأقربيّة مستندة إلى ذات الأمارة.

وقد يدّعى في المقام : أنّ بناء العقلاء على الرجوع إلى الأعلم. وهو في محلّه ، لما عرفت من أنّ بناء التقليد ليس على التعبّدية الصرفة ، فإنّ من المعلوم أنّ وجه بنائهم في أمورهم إنّما هو بواسطة إناطة أمورهم بالواقع المستكشف عندهم في الغالب بالإدراكات الظنّية.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : الظاهر من لفظ « الأعلم » على حسب الاشتقاق في اللغة هو اختلاف الفاضل والمفضول في مراتب الإدراك المختلفة شدّة وضعفا. ولكنّه ليس بمراد قطعا ، بل المراد منه : إمّا من هو أقوى ملكة أو أكثر خبرة من غيره ، وإمّا من هو أكثر معلوما من غيره.

والظاهر هو الأوّل وإن قيل بانفكاكه عن الثاني في الغالب. والوجه في ذلك : أنّ كثرة المعلومات مع ضعف الملكة الحاصلة منها الاستنباط ربما يكون موجبا لمزيد البعد عن الواقع ، كما نشاهد في أغلب أبناء زماننا من الغلبة. ويشير إلى ذلك تفسير « الفقه » بالعلم بالملكة (1) مع شيوعه في العرف والعادة ، وفي بعض الآثار ما يرشد إليه حيث قال : « أنتم أعلم الناس إذا علمتم وفهمتم معاني كلامنا » (2).

ص: 547


1- كذا ، ولعلّ المراد : العلم الحاصل بسبب الملكة.
2- الوسائل 18 : 84 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 27 ، وفيه : « أفقه الناس » بدل « أعلم الناس ».

وبالجملة ، « الأعلم » من الأمور الخفيّة التي لا يعرفها العرف والعادة ، ولا مدخليّة لكثرة المعلومات في ذلك. نعم ، لو كان ذلك سببا لوثاقة فتواه بناء على الاختلاف (1) بين الأعلميّة والأوثقيّة كان الوجه ما عرفت من الوجوه.

فلو علم المقلّد بواسطة مراجعة أهل الخبرة إتقان أمر المفتي في الاستنباط واستحكام مباني اجتهاده على وجه يكون ذلك زائدا على ما هو المعتبر في الاستنباط ، فالواجب الرجوع إليه.

وهل الظنّ بذلك يقوم مقام العلم؟ الأقرب نعم ، لا لما يتوهّم من اعتبار الظنّ في أمثاله ، بل لما عرفت من كفاية احتمال وجود ما يحتمل المرجحيّة بين المتعارضين ، فكيف بالظنّ بوجوده!

وهل يجوز التعويل على الظنّ مع إمكان تحصيل العلم؟ الأقرب نعم إذا لم يحتمل أعلميّة الموهون بل يحتمل مساواتهما ، فإذا احتمل الأعلميّة فاللازم هو الفحص على القول بوجوبه كما ستعرف ، وعلى القول بعدمه فلا فحص.

الثاني : هل اللازم هو الأخذ بالأورع عند تساويهما في العلم والفضيلة أو يتخيّر بينهما؟ قولان :

ظاهر المنقول (2) من النهاية (3) والتهذيب (4) والذكرى (5) والدروس (6)

ص: 548


1- في النسخ : « اختلاف ».
2- نقله السيد المجاهد في المفاتيح : 630.
3- نهاية الوصول : 447.
4- تهذيب الوصول : 105.
5- الذكرى : 43.
6- الدروس 2 : 67.

والجعفريّة (1) والمقاصد العليّة (2) والمسالك (3) والتمهيد (4) وشرح الزبدة للفاضل الصالح (5) هو الأوّل.

وهو الأقوى ، لما عرفت من الأصل وبعض الأخبار ، ويزداد قوّة إذا فرض وثاقته بواسطة شدّة ورعه وبذل جهده ، فإنّه يندرج في عنوان الدليل العقلي أيضا.

وهل يتخيّر بين الأعلم والأورع؟ أو يقدّم الأوّل أو الثاني؟ وجوه.

الأقرب الثاني ؛ لأنّ المناط في الاستفتاء والعمل بقوله آكد فيه من غيره وإن كان أورع. اللّهم إلاّ أن يكون ذلك سببا لوثاقة فتواه بواسطة إعمال الفكر زائدا على ما هو المعتبر ، لو لم نقل بخروجه عن الفرض.

الثالث : إذا علم المقلّد كون زيد أعلم وعلم موارد الاختلاف تفصيلا بينه وبين غيره ، فقد عرفت وجوب الأخذ بالأعلم.

وإذا علم بالأعلم تفصيلا وبالاختلاف إجمالا ، فهل يجب تمييز المسائل المختلف فيها عن غيرها أو لا؟ وجهان :

الأظهر الوجوب إذا كان المعلوم بالإجمال غير ملحق بالشبهة الغير المحصورة ، فإنّ العلم الإجمالي على الوجه المذكور كالعلم التفصيلي من غير فرق. وأمّا إذا كان ملحقا بالشبهة الغير المحصورة فهو نظير ما إذا علم التفاضل ولم يعلم الاختلاف أصلا ، ولا دليل على وجوب الفحص عن الاختلاف سوى الأصل

ص: 549


1- الرسالة الجعفرية ( رسائل المحقّق الكركي ) 1 : 80.
2- المقاصد العليّة : 51.
3- المسالك 13 : 345.
4- تمهيد القواعد : 321 ، قاعدة 100.
5- شرح الزبدة ( مخطوط ) : 261.

المنقطع بالسيرة المستمرّة على ما مرّ الوجه فيها ، فيجوز الأخذ بفتوى المفضول مع العلم بالتفاضل ؛ مضافا إلى أصالة عدم المعارض الغير المعارضة بأصالة عدم غيره ، إذ لا يترتّب عليها حكم مع جواز الرجوع إلى بعض الإطلاقات عند القائلين بدلالتها ، فتدبّر.

وإذا علم الاختلاف واحتمل الفاضل فهل يجب الفحص أو لا؟ وجهان ، بل لعلّه قولان ، يدلّ على عدم الوجوب أمران :

أحدهما : أنّهما أمارتان تعارضتا لا يمكن الجمع بينهما ولا طرحهما ولا تعيين أحدهما ، فلا بدّ من التخيير بينهما.

وفيه : أنّ احتمال التعيين موجود ولا يندفع بأصالة عدم التفاضل ؛ لأنّها بعد كونها أخذا بالأصل في تعيين الحادث لا يتمّ ، حيث إنّ التخيير العقلي عدمه من اللوازم العقليّة لوجود الاحتمال ، والأصل لا يجدي في رفع الاحتمال حقيقة.

وثانيهما : أصالة البراءة عن وجوب الفحص.

وفيه : أنّ وجوب الفحص في المقام بمنزلة الفحص عن نفس المرجع في الأحكام الشرعية. ويدلّ على الوجوب أمور :

منها : الأصل ، حيث إنّ قبل الفحص لا يعلم البراءة ، بخلافه بعد الفحص ، فالواجب هو الفحص.

ومنها : قوله في رواية داود بن الحصين « تنظر إلى أفقههما » (1) فإنّه في قوله : « تنظر » دلالة واضحة على وجوب الفحص ؛ مضافا إلى كونه معمولا به في جميع الطرق المتعارضة. ولعلّ وجوب الفحص موافق للقاعدة أيضا ، فإنّ التكليف معلوم إجمالا وإنّما الشكّ في كونه على وجه التعيين على تقدير التفاضل ، أو على

ص: 550


1- الوسائل 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20 ، وفيه ينظر.

وجه التخيير على تقدير عدمه ، ومنشأ الشكّ هو الاشتباه في المصداق مع انتفاء ما يشخّصه من الأصول وإمكان استعلامه ، فلا بدّ من الفحص حتّى يعلم المكلّف به أو ظنّ (1) به ، سواء كان من مطلق الظنّ أو غيره ، لكفاية احتماله على ما عرفت.

ومن هنا يعرف وجوب الفحص فيما لو علم بالتفاضل إجمالا بعد العلم بالاختلاف. وإن علم بالاختلاف إجمالا مع الشكّ في التفاضل ، فاللازم الفحص عن التفاضل ثمّ الأخذ بموارد الاتّفاق والتميز عن موارد الاختلاف فيما إذا كان كثيرا.

وإذا شكّ في التفاضل والاختلاف معا فلا يجب الفحص ؛ لأنّه مع العلم بالتفاضل قد عرفت عدم الوجوب ففي المقام أولى. فلو علم التفاضل والاختلاف إجمالا فالواجب هو الفحص ؛ لما عرفت. ولو علم بالتفاضل إجمالا مع الشك في الاختلاف فلا فحص.

والحاصل : أنّ مجموع الصور تسعة لا يجب الفحص مع الشكّ في الاختلاف ، سواء علم التفاضل تفصيلا أو إجمالا أو لم يعلم. ويجب الفحص من التفاضل فيما إذا علم الاختلاف تفصيلا أو إجمالا على وجه يعتدّ به سواء علم التفاضل إجمالا أو لم يعلم به.

الرابع : لو قلّد أحد المجتهدين بواسطة التفاضل ثمّ تعاكست النسبة بينهما - أو كانا متساويين في العلم - إمّا لاشتغال أحدهما بالمباحث العلمية دون الآخر أو لغير ذلك ، فهل يجب الرجوع عن تقليد الأوّل ، أو يجب البقاء عليه ، أو يتخيّر بينهما؟ وجوه :

ص: 551


1- كذا والمناسب : يظنّ.

والتحقيق : أنّه إن قلنا بجواز العدول فلا إشكال في وجوب الرجوع ، لوجود المقتضي - وهو التفاضل - وعدم المانع ، إذ لا مانع إلاّ احتمال حرمة العدول ، والمفروض جوازه فيجري فيه الأدلّة السابقة. وإن قلنا بحرمة العدول - كما لعلّه الأوفق ؛ لأنّه مقتضى الأخذ بالأصل - فيشكل الأمر ، نظرا إلى تعارض ما هو العمدة في المقامين : من الأصل والإجماعات المنقولة وعدم انصراف الأخبار إلى مثل المقام المسبوق بالتقليد ، فيحكم بالتخيير بينهما. إلاّ أنّه مع ذلك فالأقوى الرجوع إلى الأعلم ، والوجه أمران :

الأوّل : أنّ العمدة في دليل حرمة الرجوع هو الأصل المتعاضد بنقل الإجماع من العلاّمة (1) والعميدي (2). ولم يظهر عموم مقالتهم للمقام ، حتّى أنّ بعض مدّعي الإجماع هناك قد اختار الرجوع في المقام ، كالعميدي (3).

فالأظهر : أنّ الاجماعات المنقولة في وجوب تقليد الأعلم تشمل المقام من دون معارض ، فإنّ المعتمد من الإجماعات في العدول هو إجماع العلاّمة والعميدي وقد اختارا القول بالعدول في المقام. مع إمكان دعوى انعقادها فيما لو أريد العدول في الواقعة الّتي قلّد فيها ، مثل ما إذا عمل بقول المفتي في جواز البيع بالفارسيّة ثمّ باع على الوجه المذكور ، فإنّه يحرم عليه العدول عن التقليد الخاصّ وإن جاز له العدول في مبيع آخر. وأمّا إجماع العضدي والحاجبي (4) فعلى تقدير عمومه ممّا لا يزيح علّة. ومن هنا ينقدح جريان الأصل في المقام ، لأنّ احتمال حرمة البقاء أقوى من احتمال حرمة العدول.

ص: 552


1- نهاية الوصول : 447.
2- منية اللبيب : 369 - 370.
3- منية اللبيب : 370.
4- المختصر وشرحه : 485.

الثاني : أنّ الأمر وإن كان دائرا بين المحذورين ، إلاّ أنّه دائر في الحكم الظاهري بين التخيير والتعيين ، والأصل هو التعيين ، فتأمّل.

ومن هنا يظهر : أنّه لو قلّد المفضول بواسطة تعذّر الوصول إلى الفاضل فبعد التمكّن منه يجب الأخذ بالفاضل والعدول عن تقليده ، فكيف بالمسائل الّتي ما قلّد فيه المفضول!

الخامس : هل يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الفاضل؟ فيه تفصيل ، فإنّ القضاء إمّا أن يكون باستعمال أمور اجتهاديّة يلزم منه عمل المترافعين بقوله ، كترجيح البيّنة الداخلة على غيرها والحكم بردّ اليمين ، وكما إذا كان وجه النزاع هو اختلاف المجتهدين ، كما إذا ادّعى أحدهم ملكيّة عين مشتراة بالفارسيّة والآخر عدمها ونحوه. وإمّا أن لا يكون كذلك ، كما إذا كان رفع التشاجر بينهما موقوفا على سماع البيّنة من المدّعي أو حلف المنكر.

لا إشكال في جواز الترافع إلى المفضول في الثاني. وأمّا الأوّل : فإن كان بين الفاضل وغيره اختلاف في الفتوى فمع العلم بالاختلاف على جواز (1) الترافع إلى المفضول ، للأدلّة السابقة الدالّة على عدم جواز الأخذ بالمفضول مع وجود الفاضل. ولا دليل على أنّ القضاء لا يجوز من المفضول ولو عند الوفاق أو عدم احتياج الواقعة إلى إعمال الفتوى ، لإطلاق أدلّة القضاء. وذلك لا ينافي كون القضاء منصبا فيحتمل اعتبار الأعلميّة فيه تعبّدا لعدم كونه طريقا ، إذ مجرّد الاحتمال لا يكفي بعد وجود الدليل على وجه الإطلاق.

ص: 553


1- كذا ، والعبارة ناقصة ، ولعلّها في الأصل : فالمشهور - أو المعروف - عدم جواز الترافع ....

وهل للمفضول سائر الولايات : من التصرّف في أموال الأيتام والأوقاف الراجعة إلى الحاكم الشرعي ونحو ذلك؟ الأقرب نعم ، لإطلاق ما دلّ على ثبوت تلك المناصب. ويحتمل اختصاصها بالفاضل ، نظرا إلى كونها نيابة عن الإمام فلا بدّ من الاقتصار على مورد العلم بالإذن والفاضل معلوم النيابة والأصل عدم نيابة المفضول على الفاضل. إلاّ أنّه مدفوع بالإطلاق. نعم لو تحقّق مورد التفصيل كان ذلك وجها.

السادس : إذا ثبت فتوى الفاضل بطريق مفيد للعلم أو ما يقوم مقامه من الأمارات المقرّرة في الشريعة بالخصوص لإثبات أمثال ذلك كالبيّنة ونحوها لا إشكال في وجوب الأخذ بها وترك التعويل على فتوى المفضول المخالفة لها ، سواء كانت فتوى المفضول معلومة أو لا.

وهل يلحق بتلك الأمارات الخاصّة الظنون المطلقة على القول بها فيما إذا كان فتوى المفضول معلوما ، أو يؤخذ بها ، أو يتخيّر بينهما لوجود المرجّح في الطرفين؟ وجوه :

الأقرب العدم ؛ لأنّ حجّية مطلق الظنّ إنّما هو فرع عدم وجود الظنّ الخاصّ ، والمفروض اطّلاعه على فتوى المفضول التي هي الحجّة الشرعيّة على عدم تقدير المعارض. وفتوى الفاضل الثابت بالظنّ لا يصلح معارضا إلاّ على تقدير عدم اعتبار فتوى المفضول. وهو بعد غير ثابت ، فيرجع إلى عموم ما دلّ على وجوب الأخذ بها لو كان.

فإن قلت : إنّ ذلك يوجب طرح الظنون المطلقة عند معارضتها بالأمارات الثابتة من باب الظنون الخاصّة ؛ لأنّ اعتبار مطلق الظنّ في مورد الظنّ الخاصّ موقوف على انتفاء الظنّ الخاصّ ولا يرتفع إلاّ بعد المعارضة ولا يصلح للمعارضة إلاّ بعد حجّية الظنّ المطلق الموقوف على ارتفاع الظنّ الخاص.

ص: 554

قلت : إنّ الأخذ بالشهرة مثلا في قبال الخبر الواحد إمّا بواسطة خروج الخبر عن موضوع الحجّة كما إذا ارتفع الوثوق به بواسطة المخالفة ، وإمّا بواسطة العلم الإجمالي بتخصيص الأمارة الخاصّة بمضامين الأمارات الظنّية ، وأين ذلك من اعتبار الظنّ في قبال قول المفضول المعلوم حجّيته بالفرض؟

ولا يقاس ذلك بالظنّ بالأعلميّة ، فإنّه ظنّ بالمرجّح وهذا ظنّ بالحجّة. نعم ، لو تساويا في ذلك تعيّن الأخذ بالفاضل ، لكونه القدر المتيقّن. ومنه يظهر الكلام في غير الأعلميّة من المرجّحات.

السابع : إذا رجع المقلّد إلى الأعلم ، فإن أفتاه بوجوب تقليده فلا إشكال. وإن أفتى بجواز تقليده فهل للمقلّد الرجوع إلى غيره أو لا؟

حكى الأستاذ المحقّق دام مجده عن بعض معاصريه عدم الجواز ، ولم يظهر لنا وجه. فإن كان بواسطة أنّ غير الأعلم ربما يفتي بوجوب تقليد الأعلم فيلزم من وجوده عدمه ، فقد عرفت أنّه لا يجب أن يقلّد في هذه المسألة. وإن كان بواسطة أنّ العقل إنّما هداه إلى الأعلم فلا وجه للحكم بخلاف ما هداه إليه العقل ، ففيه : أنّ ذلك ليس اجتهادا منه في هذه الواقعة ، بل الرجوع إلى الأعلم في هذه الواقعة إنّما هو حكم ظاهريّ من العقل ، وليس مدركا للحكم الواقعي ، وبعد الفتوى يستعلم حكمه الواقعي ، فلا مانع من الرجوع إلى غير الأعلم.

الثامن : لا دليل على وجوب تعيين المجتهدين في العمل بقولهم إذا كانوا متوافقين في الفتوى وإن كان بينهم تفاضل ، بعد كون كلّ واحد منهم حجّة شرعيّة مع انتفاء ما يوجب التعدية بالنسبة إلى قول الأعلم.

التاسع : المعتبر في الفحص هو الفحص عن حال العلماء الذين تيسّر للمقلّد الرجوع إليهم ، فلا يجب الفحص عن حال الموجودين في مشارق الأرض ومغاربها ، عملا بالسيرة ، واعتمادا على نفي العسر والحرج.

ص: 555

وهل الواجب هو الفحص عن حال من يدّعي الأعلميّة ولو لم يعلم قابليّته ، أو لا بدّ من الفحص فيمن يعلم قابليّته؟ الأقوى هو الأوّل ، ولكن الأقرب هو الثاني ، لعدم الاعتناء بمن لم يثبت قابليّته بعد ، كما يظهر ذلك بالسيرة. وإن كان ربما يقال : إنّ ذلك في الغالب بواسطة العلم الإجمالي بانتفاء الأعلميّة فيمن لم يعلم قابليّته ، وإذا يعتبر الرجوع إلى الأعلم فاللازم هو الرجوع إلى من هو أعلم من غيره فالأعلم ، فإنّ ذلك مقتضى الأدلّة السابقة.

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه المسألة المهمّة على ما أفاده الأستاذ المحقّق المدقّق العليم العلاّمة - مدّ اللّه ظلّه على رءوس أرباب العلم والعمل - بمحمّد وآله الطاهرين.

ص: 556

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مسألتان ملحقتان : تقليد الميت وتقليد الأعلم

اشارة

ص: 557

ص: 558

بسم اللّه الرحمن الرحيم

واعلم أنّ مسألتي تقليد الميّت وتقليد الأعلم اللتين ليستا بعنوان « الهداية » خارجتان عن أجزاء كتاب مطارح الأنظار وإن كانتا أيضا من إفادات المحقّق الثالث والعلاّمة الثاني ، الشيخ مرتضى الأنصاري ، التي حرّرها بعض الأساطين من تلامذته. ولعمري أنّهما في غاية الجودة والإتقان في الإفادة والتحرير ، ومن هنا أجبنا (1) التكرير ، هو المسك ما أكررته يتضوّع (2).

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير خلقه محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين.

[ الأقوال في اشتراط الحياة في المفتي ] :

وبعد فقد اختلف العلماء - بعد اتّفاقهم على جواز التقليد عند تعذّر العلم ، عدا بعض من فقهاء الحلب (3) ، كابن زهرة (4) وجملة من المعتزلة (5) - في اشتراط

ص: 559


1- كذا ، ولعله : « أحببنا ».
2- كذا ، والمناسب : كرّرته يتضوّع.
3- كذا ، والمناسب : حلب.
4- الغنية 2 : 414.
5- انظر الإحكام للآمدي 4 : 234 ، والمعتمد في اصول الفقه 2 : 360.

حياة المفتي في الاستفتاء والتقليد ، فالمعروف عند الإمامية والمشهور فيما بينهم - شهرة دعت جماعة من أجلاّء الأصحاب إلى نفي الخلاف ، أو دعوى الاجماع عليه (1) - هو الاشتراط ، فعن شرح الألفية (2) للمحقّق الثاني : لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحي بلا خلاف بين علماء الإمامية. وعن المسالك : قد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيرهما ، باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممن يعتدّ بقوله من أصحابنا ، وإن كان للعامّة في ذلك خلاف (3) مشهور. وبمثله قال في آداب العلم والمتعلّم (4). وقال في محكي الرسالة المنسوبة إليه : نحن بعد التتبّع الصادق فيما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين مخالفا في ذلك ؛ فإنّهم قد ذكروا في كتبهم الاصوليّة والفقهيّة قاطعين فيه بما ذكرنا : من أنّه لا يجوز تقليد الميّت ، وأنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف أحد فيه (5). وفي المعالم (6) نسبه إلى ظاهر الأصحاب ، ثمّ قال : والعمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع عن الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحي. وعن القاساني (7) الذي ستعرف خلافه في المسألة : الاعتراف بأنّه مختار

ص: 560


1- راجع مفاتيح الاصول : 618 - 624.
2- رسائل المحقق الكركي 3 : 176.
3- المسالك 3 : 109.
4- منية المريد : 167.
5- رسائل الشهيد الثاني 1 : 44.
6- المعالم : 248.
7- مفاتيح الشرائع 2 : 52.

أكثر المجتهدين ، بحيث كاد أن يكون إجماعا بينهم. وعن صريح شارع (1) النجاة : نفي الخلاف في ذلك. وكذا عن ظاهر النهاية (2) ؛ بناء على أنّ عدم ذكر الخلاف هنا بعد الفتوى ذكر لعدم الخلاف في مثل المقام ، خصوصا من مثل الفاضل ، المتعرّض للخلاف في جميع المسائل ، سيّما في النهاية. وعن الكفاية (3) : نقل الاتفاق عن بعضهم. وبالإجماع صرّح ابن أبي جمهور الأحسائي (4) فيما حكي عنه ، حيث قال : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله فوجب الرجوع إلى غيره ؛ إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإمامية وبه نطقت مصنّفاتهم الاصوليّة والفروعيّة. ونسبه في محكي الذكرى (5) إلى ظاهر العلماء ، وفي محكي الجعفرية (6) ومجمع الفائدة (7) إلى الأكثر (8).

وبالجملة : لا يخفى على المتتبّع أنّ كلمات الأوائل والأواسط متّفقة في منع العمل بقول الموتى وأنّ القول به من الخصائص العامّة ، فمن ادّعى إجماعهم على ذلك - كما ادّعاه المحقّق النراقي في المناهج (9) والمولى البهبهاني (10)

ص: 561


1- شارع النجاة المطبوع ضمن اثني عشر رسالة : 10.
2- انظر رسائل الشهيد الثاني 1 : 47 - 48.
3- كفاية الأحكام 1 : 413.
4- راجع رسالة « التقليد » للشيخ الأنصاري : 33.
5- الذكرى 1 : 44.
6- رسائل المحقق الكركي 1 : 80.
7- مجمع الفائدة 7 : 549.
8- حكى عنهم مفاتيح الاصول : 618 - 619
9- المناهج : 301.
10- الرسائل الفقهيّة : 7 و 14.

على ما حكي عنه - لم يكن مغربا ، وإنّما المغرب من أنكره تمسّكا بصراحة بعض الكلمات - كما ستعرفه - وظهور الآخر في ثبوت الخلاف ؛ لأنّ الخلاف المصرّح به في بعض العبائر والمستظهر عن البعض الآخر لم يعلم كونه من أصحابنا ، بل الظاهر - كما اعترف به الشهيد الثاني في محكي الرسالة (1) - : أنّ الخلاف إنّما هو من العامّة ، وأغرب من ذلك إنكار حجيّة هذه الاجماعات - كما صدر عن الفاضل القمي (2) رحمه اللّه - بدعوى عدم إفادتها إلاّ الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره في المسائل الاصولية ، سيّما مثل هذه المسألة التي حدوث ابتلاء الناس بها وعدم تداولها في الصدر الأوّل ، تأييد لصدق دعوى الاجماع فيها ؛ لأنّ الدالّ على اعتبار الظنّ في الفروع إنّما يدلّ على اعتباره في التكاليف الفعليّة التي يعتقد بها المكلّف في الوقائع ، ومن الواضح أنّ الظنّ بحكم شيء من مدارك الفروع يؤول بالأخرة إلى الظنّ بالتكليف الفعلي ، وتحقيق ذلك مطلوب من محلّه.

وعلى تقدير عدم حجّيته مطلقا أو في مسألتنا - على فرض كونها أصوليّة - نقول : إنّ هذه الاجماعات - الشاهد على صدقها التتبّع واعتراف بعض الأعاظم (3) : بأنّه بعد الفحص الأكيد لم يطّلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط - تفيد القطع بوجود دليل عند القدماء متّفق عليه بينهم في الحجيّة. ولا أقل من الأصل السالم عن معارضة ما توهّم دليلا على الجواز من الآيات والأخبار ، وذلك فإنّ عثورهم على تلك الأخبار والآيات التي نتلوها عليك مع عدم اعتدادهم بشأنها ومصيرهم إلى ما تقتضيه الاصول

ص: 562


1- رسائل الشهيد الثاني 1 : 47.
2- القوانين 2 : 268.
3- لم نعثر عليه.

والضوابط من المنع مما يقتضي بعدم انقطاع حكم الأصل عندهم ، فيتطرّق الوهم في دلالتها على جواز تقليد الميّت بعد فرض دلالتها على أصل التقليد.

فهذه الإجماعات تعدّ من الحجج في المسألة ، كلّ ذلك مع الاعتراف بكون مسألتنا هذه - أعني وجوب تقليد الحيّ عينا - من المسائل الاصولية ، والحقّ : أنّها مسألة فرعيّة ؛ لأنّها ممّا ينتفع به المقلّد على تقدير كونها من القطعيّات ، ولا ينتفع بها في الاجتهاد أصلا ورأسا وقد تقرّر في غير موضع أنّه المعيار في تميز (1) مسائل الأصول عن الفروع ، فلا عذر لمن أنكر حجيّة هذه الاجماعات مع كونه ممّن يقول بحجيّتها في الفروع ، فتأمّل.

بقي الكلام في نقل خلاف جملة من المتأخّرين ، وأشدّهم خلافا هم الأخبارية ، فذهب الاسترابادي (2) والقاساني (3) فيما حكي عنهما إلى الجواز مطلقا ، ونسبه الشهيد في محكي الذكرى (4) إلى بعض ، وهو المحكي عن القمّي (5) في حجّة الاسلام ، والجزائري في منبع الحياة (6) ، ووافقهم التوني (7) إذا كان المجتهد ممّن لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة أو الظاهرة كالصدوقين ، وإن كان يفتي بالمداليل الالتزامية الغير البيّنة فمنع عن تقليده حيّا

ص: 563


1- كذا ، والمناسب : تمييز.
2- الفوائد المدنية : 149.
3- مفاتيح الشرائع 2 : 52.
4- الذكرى 1 : 44.
5- لم نعثر عليه.
6- لا يوجد لدينا.
7- الوافية : 307.

كان أو ميّتا. وذهب الأردبيلي (1) والعلاّمة - فيما حكى (2) عنهما - إلى الجواز عند فقد المجتهد الحي مطلقا أو في ذلك الزمان والفاضل القمي رحمه اللّه (3) أناط الحكم مناط حصول الظن الأقوى ، سواء حصل من قول الميّت أو الحي ، فهو من المجوّزين مطلقا ولم أجد غيره من المجتهدين وافقه في كتابه ممّن يعتد بشأنه.

[ وجوه القول بعدم جواز تقليد الميت ] :

والحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه : هو المنع مطلقا. لنا على ذلك وجوه :

منها : ما سمعت من الإجماعات المعتضدة بظهور اتفاق الامامية على ذلك ؛ إذ قد عرفت أنّه لا خلاف بين قدماء الأصحاب والمتوسّطين بحكم التتبع وشهادة جملة من الفحول ، فانّ جريان عادتهم - سيّما العلاّمة - على ذكر المخالفين في المسائل مع عدم ذكر مخالف واحد معا في المسألة ممّا يعطي الجزم باتفاق كلمتهم في ذلك ، ودعوى صراحة الذكرى في خلاف بعض الأصحاب ، يدفعها ما عن رسالة (4) الشهيد الثاني : من أنّ العلماء يعمّ العامّة والخاصّة ، وبعض الأعم أعم من بعض الأخص ، مع أنّ خلاف نادر من أصحابنا غير قادح فيما ادعينا من الإجماع على طريقة المتأخّرين. ومنه يظهر ضعف توهّم الخلاف من كلام من جعل الحكم

ص: 564


1- مجمع الفائدة والبرهان 7 : 547.
2- حكاه المحقّق الثاني في حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100 ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 625.
3- راجع القوانين 2 : 267 و 268.
4- حكى عنه في مفاتيح الاصول : 619.

- أي المنع - الأقرب ، كالعلاّمة في محكي التهذيب (1) ، أو نسبته إلى الأكثر (2) ؛ لأنّ المسألة إذا كانت من الخلافيات بين العامّة والخاصّة ، ونحو هذه الكلمات مما لا صراحة بل لا ظهور لها في تحقّق الخلاف بين الخاصّة ، وقد نسب الشهيد الثاني قول المشهور إلى الأكثر في المنيّة والمقاصد (3) ، ومع ذلك فقد اعترف بعدم الخلاف من الخاصّة في الرسالة (4) والمسالك (5) وآداب المعلّم (6) والمتعلّم ، وهذا ممّا يؤكّد كون هذه الكلمات إشارة إلى خلاف العامّة ، وأمّا الخلاف الذي نقلوه من العلاّمة - وقد سمعته - فلعلّه على فرض ثبوته - مع أنّه ممّا أنكره في الدين الشيخ السعيد (7) والمحقّق الثاني (8) فيما حكي عنهما (9) - نحمله على الاستعانة بكتب أموات من المتقدمين عند فقد المجتهد الحيّ ممّا لا يضرّنا ؛ لأنّ كلامنا الآن في قبال من أجاز العمل بقول الموتى مع وجود الحي. وأمّا المتأخّرون ، فلم ينقل منهم الخلاف أيضا سوى من عرفته (10) من الأخباريين وبعض المجتهدين. وخلاف الأخباريين ومن يقرب منهم في المشرب - أعني إنكار طريقة الاجتهاد

ص: 565


1- تهذيب الوصول : 103.
2- كما تقدّم عن الجعفريّة ومجمع الفائدة في الصفحة : 561.
3- منية المريد : 167 ، ومقاصد العلية : 51 - 52.
4- كما تقدم في الصفحة : 562.
5- المسالك 3 : 109.
6- منية المريد : 167.
7- حكاه عنه المحقق الثاني في حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100.
8- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100 ، وحكى عنهما في الوافية : 300.
9- حكاه عنهما الفاضل التوني في الوافية : 300.
10- في الصفحة : 563.

والتقليد - غير قادح في اتّفاق المجتهدين ؛ نظرا الى اختلال طريقتهم وعدم قولهم بالاجتهاد والتقليد رأسا ، واقتصارهم في استنباط الأحكام على الأخذ من كتب المحدّثين أحياء كانوا أو أمواتا ، وعدّهم الفتوى نقلا لمضمون الأخبار. ومن هنا اعتبر التوني (1) في التقليد كون المجتهد ممّن لا يعمل إلاّ بمداليل الأخبار الواضحة دون الالتزاميات الغير البيّنة التي يعمل بها المجتهدون ويفتون على حسب مقتضاها. وسوّى بين الحياة والممات كما هو الشأن في العمل بالأحاديث ، فإنّ نظره إلى تسويغ العمل بفتوى تكون نقلا لمضمون الأخبار حتى يكون العمل بها عملا بالخبر ، لا إلى عدم اشتراط حياة المفتي على فرض جواز العمل بالفتوى ، مثل ما يقول المجتهدون.

وكذا لا يقدح في الاتفاق المزبور خلاف الأردبيلي (2) لما ظهر وجهه في خلاف العلاّمة رحمه اللّه (3).

فبقي من المخالفين المجتهد الفاضل القمي رحمه اللّه وهو باعتبار فساد مستنده وعدم مشاركة غيره له في ذلك وإن شاركه في أصل الحكم في الجملة ، مما لا يقدح خلافه ، وليس هذا الكلام إلاّ في الردّ عليه.

وبالجملة : هذا الاتفاق ممّا ادّعاه غير واحد من الأتقياء الفحول وأعاظم أهل الاصول بعد أن بلغوا في الفحص والتتبّع ما هو المأمول ، فهو إمّا حجّة واضحة في المسألة ، أو يدفع مانعية ما يتوهّم مانعيته عن العمل بالأصل من الإطلاقات وعلى التقديرين ففيه الحجة.

ص: 566


1- الوافية : 307.
2- مجمع الفائدة والبرهان 7 : 549.
3- مبادئ الوصول الى علم الاصول : 248.

ومنها الأصل ، وتقريره :

تارة بأنّ حجّية قول الغير حكم يحتاج الى دليل معتبر ، والمقدار الثابت منها إنّما هو حجّية قول الحي لكونه متفقا عليه بين الفريقين ، وأمّا قول الميّت فالأصل عدم حجّيته.

لا يقال : لا نسلّم تسالم الفريقين حجّية قول الحي : لأنّ القائلين بجواز تقليد الميّت : منهم من يرى وجوب اتّباع الظن الأقوى ، فقد يكون حاصلا من قول الميّت ، ومنهم من يوجب تقليد الأعلم. فإذا فرض كون الميّت أعلم لم يجز تقليد الحي عنده ، فتقليد الحي والميّت متساويان في الاحتياج إلى الدليل وعدم الإجماع ، وإجراء الأصل في أحدهما معارض باجرائه في الآخر.

لأنّا نقول : نفرض الكلام فيما إذا تساوى الحي والميّت من جميع الجهات ، فيتمّ الدليل فيه. وفي صورة رجحان الميّت في العلم أو في إفادة قوله الظن ، يتمّ المدّعى بعدم القول بالفصل ؛ لأنّ كلّ من يرى وجوب تقليد الميّت الأعلم أو الذي يفيد قوله الظن الأقوى عينا قال بوجوبه تخييرا في صورة المساواة ، والتفصيل بين الصورتين قول لا يقول به أحد من الفريقين.

وربما اجيب عن هذا الإيراد : بمنع وجوب تقليد الأعلم عند هؤلاء القائلين بجواز تقليد الميّت ، فإنّ صريح بعضهم عدم الوجوب (1). وأمّا وجوب متابعة الظن الأقوى فالقائل به إنّما هو بعض معاصري المجيب - أعني الفاضل القمي - ليس إلاّ ، فلا يقدح اختيار هذا المذهب في دعوى الإجماع على خروج قول الحي مطلقا - حتى في صورة كون الظنّ الحاصل من قول الميّت أقوى - من تحت الأصل.

ص: 567


1- مثل المحقّق القمي في القوانين 2 : 246 و 267.

وما ذكرنا في الجواب أحسن ؛ لأنّا لو بنينا على عدم قدح مخالفة هذا القائل في الإجماع على حجّية قول الحي مطلقا لم يبعد دعوى الإجماع المحقّق على بطلانه ؛ فانّ الظاهر أنّه لم يقل غيره بوجوب اتباع الظنّ الأقوى ، وتعيّن العمل بقول الميّت إذا كان الأقوى منه في نظر المقلّد ، فيخرج الكلام عن كونه استدلالا بالأصل ، فليتدبّر.

واخرى : بأنّ التقليد عمل بما وراء العلم وهو منفي بالآثار والاعتبار خرج قول الحي بالإجماع وبقي الباقي تحت الأصل.

وأجاب عنه صاحب الوافية : بمنع كون العمل بما وراء العلم منهيّا إلاّ في اصول العقائد (1) ، وهو عجيب! وليس من مشاكلته (2) وطريقة الأخبارية عجيبا ؛ لأنّ العقل القاطع عندهم ليس بحجّة.

وثالثة : بأنّ التقليد طريق جعلي للمكلّف بحيث لو لا دليل دلّ على اعتباره لما جاز الأخذ به كما عرفت ، ولا ريب أنّه إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين في الطريق ولا يدري أنّه يجب الأخذ بهذا عينا أو مخيّرا بينها وبين غيره وجب الأخذ بما يحتمل وجوب الأخذ به عينا بحكم الاحتياط القاضي به العقل ؛ لأنّه لا ينافي احتمال كونه أحد فردي الواجب التخييري.

لا يقال : هذا الأصل إنّما يتمّ على مذهب من يبني على الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين ، وأمّا على مذهب من يبني على البراءة فلا يتم ذلك الأصل ؛ لأنّا نقول فرق بين الطريق وغيره ؛ فإنّ الأصل الأوّلي في الطرق الغير العلمية هي الحرمة إلاّ ما خرج بالدليل ، وفي غيره هي البراءة ، فمتى حصل الشكّ

ص: 568


1- الوافية : 304.
2- كذا في الأصل.

في حكم شيء من الطرق فالمرجع فيه هو المنع بخلاف ما إذا حصل الشك في حكم سائر الأشياء ، فإنّ المرجع فيها هي البراءة ، ومن هنا ينقدح كون الأصل مقتضيا للاشتراط عند فقد الإطلاق إذا شككنا في شرطيّة شيء لكون الشيء طريقا ، بخلاف ما إذا شككنا في شرطيّته في غير الطرق. وبالجملة : الأصل في الطرق الجعليّة غير الأصل في سائر الأشياء.

لا يقال : الاحتياط في هذه المسألة ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا كان قول الميّت موافقا للاحتياط.

لأنّا نقول : إنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعيّة بقاعدة المزيل والمزال كما يظهر بالتأمّل.

ورابعا (1) : بأنّ الذمّة مشغولة بالعبادة - كالصلاة مثلا - ولا يتفق الخروج من عهدتها إلاّ بتقليد الحي ؛ لأنّ تقليد الميّت معركة للآراء. فقاعدة الشغل واستصحابه يقتضيان المنع من تقليد الميّت.

هذا في العبادات ، وأمّا في المعاملات ، فأصالة عدم ترتّب الأثر محكّمة.

ويمكن تقرير أصول أخر تظهر بالتأمّل. ولا وارد على هذه الأصول من الأدلّة سوى الاستصحاب وظاهر الأخبار والآيات التي قد يتمسّك بها في إثبات جواز التقليد. وستعرف إن شاء اللّه فساد الاستدلال بها وبقاعدة الانسداد التي تمسّك بها الفاضل القمّي (2).

ومنها (3) : أنّ المفتي إذا مات سقط قوله عن درجة الاعتبار ولا يعتدّ بقوله أصلا ، ومن هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

ص: 569


1- عطف على ثالثة.
2- القوانين 2 : 265 - 270.
3- أي الأدلة الدالّة على عدم جواز تقليد الميت.

بيان الملازمة : أنّ مخالفة الحي لسائر أهل عصره يمنع عن انعقاد الاجماع على خلافه إجماعا ، بخلاف مخالفة الميّت ، فإنّها غير قادحة في انعقاده ، فلو كان قوله نحو قول الحي معتبرا شرعا لكان مخالفته قادحة أيضا كمخالفة الحي.

وهذه الحجة ذكرها المحقّق الشيخ علي في حاشية الشرائع (1) ، ثمّ اعترض على نفسه بما يرجع إلى منع الملازمة الثانية ، وحاصله :

أنّ انعقاد الإجماع على خلافه بموته ليس لأجل سقوط اعتبار قوله بموته ، بل لحصول العلم حينئذ بدخول المعصوم عليه السلام في الباقين الذي هو الباعث على حجيّة الإجماع عندنا. فلا دلالة في انعقاد الإجماع على خلافه بموته على أنّ الموت يوجب عدم اعتبار قوله بعد أن كان معتبرا في حال الحياة.

ثمّ أجاب عنه بما أجاد ، وحاصله : أنّ موت الفقيه حينئذ يكشف عن خطأ قوله في حال الحياة ، فلا يجوز العمل به.

وخلاصة الفرق بين هذا الجواب وبين الاستدلال : أنّ مقتضى الاستدلال : كون الموت مسقطا لاعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، وقضيّة الجواب : كونه كاشفا عن خطأ القول رأسا ، باعتبار حصول العلم بكون قوله خلاف قول المعصوم. فالتفت ولا تغفل.

وربما يتوهّم اختصاص هذا الدليل بما إذا كان قول الميّت مخالفا لإجماع علماء العصر ، فلا يقتضي عدم جواز التقليد فيها إذا لم يكن كذلك ، كما إذا كانوا مختلفين ، وكان قول بعضهم موافقا لقول الميّت.

وليس كذلك وإن كان بناء الاستدلال على فرض الكلام فيما إذا كان رأي المجتهد مخالفا لآراء سائر أهل العصر فمات ، فإنّ ممانعة قوله حال الحياة في هذا

ص: 570


1- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99 - 100.

الفرض عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وعدم المسابقة بعد الموت ، دليل واضح على كون الموت موجبا لسقوط اعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، فالدليل وإن كان من مقدّماته فرض مخالفة قوله لسائر أهل العصر إلاّ أنّ النتيجة الحاصلة منها سقوط اعتبار القول بالموت مطلقا كما يظهر بالتأمّل.

هذا ، ولك أن تقرّر الدليل على وجه آخر ، وهو : أنّ قول الميّت إذا وافق قول أحد الأحياء فالعمل بقوله ليس تقليدا للميّت ، بل تقليد للحي ؛ بناء على عدم اعتبار تعيين المفتي في التقليد الذي هو شرط لصحّة العمل ، كما لعلّه الأقوى. وإن لم يوافق قول أحدهم كان مخالفا لأقوال أهل العصر ، ومعلوم البطلان بالإجماع بناء على حجيّته من باب اللطف ، فالتقليد للميّت دون الحيّ لا ينفكّ عن مخالفة الإجماع قطعا فتأمّل.

ثمّ إنّ صاحب الوافية بعد أن نقل هذا الدليل قال : وضعف هذا الوجه ظاهر ؛ لأنّه بعد عدم حجّيته على أصولنا ينتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا بشهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر ، فتأمل. انتهى (1).

وتبعه في النقض بمعروف النسب غير واحد ممّن تأخّر عنه (2) ، وصورته واضحة ، وهي : أنّ انعقاد الاجماع على الخلاف مشترك الورود بين الحي والميّت بناء على ما هو التحقيق عند الإمامية في الإجماع : من كون حجّيّته من باب الكشف عن قول المعصوم لعدم منافاته لمخالفة الحي المعلوم النسب أيضا.

ص: 571


1- الوافية : 301.
2- منهم المحقّق القمي في القوانين 2 : 272 ، وانظر مفاتيح الأصول : 620.

والظاهر ، أنّه بعد التأمّل في جواب الشيخ علي رحمه اللّه عن الاعتراض الذي أورده على نفسه يظهر جواب هذا النقض أيضا ، فإنّ كون مخالفة معلوم النسب غير قادحة في انعقاد الاجماع لا ينافي كون الموت كاشفا عن خطأ قوله ، وهو الباعث لعدم الاعتداد بقوله.

توضيح المرام : أنّك عرفت أنّ الاستدلال بالدليل المزبور يتصور على وجهين :

أحدهما أن يقال : إنّ المجتهد ما دام كونه حيّا يعتبر قوله وإذا مات سقط اعتبار قوله بنفس الموت ، وذلك لأنّ المجتهد المخالف لأهل عصره في الرأي ما لم يمت يمنع مخالفته عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وإذا مات فبموته يتحقّق الإجماع على خلافه ، وهذا يدلّ على اعتبار قوله في حال الحياة وعدم اعتباره في حال الممات ، إذ لو كان معتبرا أيضا مثل اعتباره قبل الموت لكان مانعا عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وحيث لا يمنع علم أنّ قوله ميّت مثله لا اعتداد بشأنه.

وإن قرّر الاستدلال كذلك ، فهذا مبنيّ على كون الإجماع اتّفاق الكل ، بحيث يقدح في ثبوته مخالفة بعض آحاد الامّة ، سواء كان معلوم النسب أو مجهوله ، كما عليه العامّة. وحينئذ فالجواب عنه : بأنّ هذا الدليل لا يلائم مذهبنا في الإجماع : من عدم قدح خلاف مجهول النسب حيّا كان أو ميّتا جيّد ، إلاّ أنّه ليس من النقض في شيء ، بل هو منع لمبنى الاستدلال ، أعني قدح خلاف الحيّ في انعقاد الإجماع ، فتضعيف صاحب الوافية له : أوّلا بعدم حجّيته على أصولنا. وثانيا : بالنقض ، ضعيف خارج عن رسم الإيراد ، وراجع إلى إيراد واحد.

ص: 572

ثمّ إنّ هذا الجواب إنّما يناسب إذا كان المحجوج عليه بهذه الحجّة الخاصّة ، والمستدلّ إنّما احتجّ بها على العامّة القائلين بحجيّة الإجماع من جهة اتّفاق الامّة كلّها تعبّدا إذ لم يكن معتقدا بخلاف أحد من الخاصّة إلى زمانه ، بل كان معتقدا بوفاقهم كما اعترف به في شرح الألفيّة (1).

والثاني أن يقال : إنّ المجتهد المخالف لآراء أهل عصره ما دام كونه في الحياة لا يحصل العلم ببطلان قوله ؛ لاحتمال كونه معصوما ، وإذا مات كشف موته عن خطئه ؛ لظهور دخول المعصوم في الباقين.

فإن بني الاستدلال على ذلك كما يصرّح به الجواب عن الاعتراض الذي أورده على نفسه ، كان النقض المزبور أجنبيّا ؛ لأنّ إمكان تحقّق الإجماع مع خلاف بعض الأحياء المعروف النسب لا يمنع شيئا من مقدّمات الدليل من الصغرى أو الكبرى ؛ لأنّ المستدلّ غير منكر لذلك ، بل يعرف أنّ مناط حجيّة الإجماع إنّما هو القطع بدخول المعصوم عليه السلام كما هو صريح اعترافه (2) في تقرير الاعتراض ، وأنّه لو حصل القطع بدخوله عليه السلام في آحاد معيّنين كان الحجّة فيهم ، وإن كان بعض الأحيان على خلافهم ، لكن يقول : إنّ موت المجتهد المخالف دائم الكشف عن خطئه ، فلا يجوز الاعتماد بقوله.

قولك : إنّ خلاف الحيّ المعلوم النسب أيضا معلوم البطلان لمكان الإجماع على خلافه.

قلنا : لا يجوز الاعتماد على قوله أيضا ، ولا يلزم من منع تقليد نحو هذا الحي منع تقليد مطلق الحي.

ص: 573


1- انظر رسائل المحقّق الكركي 3 : 176.
2- أي اعتراف المحقّق الثاني ، وانظر حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100.

نعم يرد على هذا التقرير : أنّ مفاد الدليل حينئذ ليس إلاّ عدم تقليد الميّت الذي كشف موته عن خطئه بأن كان سائر أهل عصره مخالفين له في الرأي وكان موته موجبا لكشف خطئه باعتبار حصول العلم بدخول المعصوم في الباقين ، وأمّا الميّت الذي لم يكشف موته عن خطئه بإمكان (1) الأحياء بعضهم موافقين له في الرأي ، فلا دلالة له على عدم جواز تقليده حينئذ ، ويمكن دفعه بما أشرنا إليه : من أنّ رأي الميّت إذا وافق رأي أحد الأحياء لم يكن العمل على طبق رأيه تقليدا له ؛ بل للحيّ. ولعلّه لذا فرض الكلام في أصل الاستدلال فيما إذا كان الميّت مخالفا لسائر أهل عصره ، فإنّ صورة موافقة بعض الأحياء يمكن إخراجها من محلّ البحث ؛ لقلّة جدواها ؛ بناء على عدم اختلاف التقليد باختلاف نيّة المقلّد ، ولا يخفى أنّ الاستدلال على الوجه الأوّل لو تمّ فإنما يفيد عدم الاعتداد بقوله مطلقا حتّى فيما إذا وافق بعض الأحياء ، كما بيّنا وجهه عند تقرير الدليل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الوافية (2) بعد النقض بقوله مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في الكبائر مع عدم ارتباطه بالجواب اشتباه واضح ؛ فإنّ مناط الجرح والتعديل على قبح أفعال المجروح وحسن أفعال المعدّل في نظره لا بحسب الواقع ، فلا يلزم من قبول الجرح والتعديل إلاّ الحكم بارتكاب المجروح والمعدّل ما رآه قبيحا وعدمه ، وهذا لا يستلزم قول الجارح والمعدّل في عدد الكبائر بعد أن لم يكن مناط الفسق والعدالة بمباشرة ما هو كبيرة في نظره ، ولعلّ وجه الاشتباه : أنّه زعم أنّ مناط الجرح والتعديل والفسق والعدالة ارتكاب الكبيرة الواقعيّة

ص: 574


1- كذا ، والأنسب : لإمكان أن يكون.
2- الوافية : 301.

والاجتناب عنها ، فتخيّل أنّ قبول شهادته في ذلك يستلزم قبول قوله : « إنّ هذه كبيرة » وعدم اعتبار قوله في كونها كبيرة يستلزم ردّ شهادته كما هو واضح.

واعترض صاحب الفصول (1) على هذه الحجّة - مضافا إلى ما عرفته من النقض - : بأنّ غاية ما يلزم منها عدم اعتبار قوله في انعقاد الإجماع ولا يلزم منه عدم اعتباره مطلقا حتى بالنسبة إلى جواز التقليد.

وهذا الاعتراض مبنيّ على تقرير الاستدلال بالوجه الأوّل ؛ فإنّ قضيّة التقرير الثاني : كشف الموت عن خطأ قوله رأسا.

وقد ظهر ممّا تلونا ضعف هذا الاعتراض على التقرير الأوّل أيضا ؛ فإنّه لو تمّ فإنّما يقتضي إسقاط الموت اعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، من دون اختصاص له بمسألة انعقاد الإجماع ؛ نظرا إلى أنّ أقلّ مراتب اعتبار قول المجتهد ممانعته عن انعقاد الإجماع على خلافه ، فحيث لم يمنع من ذلك علم بفقدانه لجميع مراتب الاعتبار التي من جملتها - بل أعظمها - جواز التقليد.

وأيضا القائل باعتبار قول الميّت يدّعي : أنّ الموت من حيث هو لا مدخليّة له في اعتبار القول وعدمه ، وهذا الدليل يقتضي مدخليّة الحياة في الاعتبار في الجملة ، وبعدم القول بالفصل بين الموارد في ذلك يتمّ المدّعى ، فتأمّل.

ثمّ قال (2) : ولو قرّر الدليل : بأنّ الإجماع قد ينعقد على خلاف الميّت فيكون قوله معلوم البطلان من الدين ، والعامي لا خبرة له بمواقع الإجماع ، فقد يؤدّي تقليده الأموات إلى التقليد في أمر معلوم البطلان فيجب التحرّز عن ذلك ، لكان أولى.

ص: 575


1- الفصول : 421.
2- أي صاحب الفصول.

وفيه نظر واضح ؛ لأنّ الإجماع قد ينعقد على خلاف الحي أيضا باعترافه ، فيجب التحرّز عن قول الحي أيضا إلاّ بعد العلم بأنّه غير مخالف للإجماع ، وكلّ ما يقال هنا يقال في تقليد الميّت حرفا بحرف.

ومنها (1) : أنّ دلائل الفقه لما كانت ظنّية لم تكن حجّيتها إلاّ باعتبار الظن الحاصل معها ، وهذا الظن يمنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند ، فيخرج عن كونه معتبرا شرعا.

وهذا الدليل أيضا نقل عن المحقّق الشيخ علي رحمه اللّه في حواشي الشرائع (2) ، وأورده غير واحد ممّن تأخّر عنه بتقريرات مختلفة ، منهم : الشهيد الثاني (3) في رسالته ، والمير محمد باقر الداماد في بعض رسائله (4).

واعترض عليه صاحب الوافية (5) :

أوّلا : بمنع زوال الظن بعد الموت.

وثانيا : بمنع خلوّ الحكم عن السند على تقدير الزوال ، فلم لا يكفي اقتران الظن بالحكم في السابق سندا له.

ويدفع الأوّل : بأنّ الظن من الأعراض القائمة بالذهن ، وهو قوّة من قوى الحيوان الناطق ، وخاصّة من خواصّه متقوّم بالحياة كتقوّم أصل الحيوانيّة بها ، ويتقوّى بقوّة البدن ويضعف بضعفه ، فإذا عرض الموت الذي يفني جميع القوى

ص: 576


1- من الوجوه الدالة على عدم جواز تقليد الميت.
2- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99 ، وحكا عنه في الوافية : 302.
3- رسائل الشهيد الثاني 1 : 43.
4- أورده في رسالة شارع النجاة المطبوعة ضمن « اثني عشر رسالة » : 10 - 11.
5- الوافية : 302.

الحيوانية حتى القوى الدرّاكة انعدم تلك القوّة أيضا ؛ ولذا ترى أنّ الهرم وزيادة الطعن في السنّ يذهب بالسامعة والباصرة والمدركة وغيرها من القوى ، بحيث لا يبصر ولا يسمع ولا يفهم شيئا ، كما أخبر اللّه تعالى به في محكم كتابه : ( ... وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ... ) (1).

واستدلّ المولى البهبهاني رحمه اللّه (2) على زوال الظن - فيما حكي عنه - :

أوّلا : بالبداهة.

وثانيا : بأنّ الظنّ إنّما هو الصورة الحاصلة في ذهنه ، فحين الشدّة والاضطراب حالة النزع لا تبقى تلك الصورة قط ، بل وحين النسيان والغفلة أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت حيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه.

وهذا الاستدلال مبنيّ على كون الظنّ جزءا من الأجزاء البدنيّة. وهو غير واضح وإنّما الذي نتعقله ويساعد عليه الوجدان ، بل البرهان أيضا ، هو الذي ذكرنا : من كونه قوّة من قوى الحيوان الناطق يدرك بها الأشياء النظرية ، وبه قوامها وتعيّنها بالحياة ، وبقاء تركيب الأخلاط الأربعة في هذا البدن. ووجه ذلك ، أنّه قد تقرّر : أنّ لكلّ خلط من الأخلاط الأربعة أثر في النفس الناطقة ، مثل أنّ أثر الصفراء هو الإدراك وسرعة الانتقال وجودة الذهن ، وأثر البلغم هو البلادة وسوء الفهم وبطء الانتقال ، وأثر الدم هو الشهوة والغضب وهكذا ... ولا ريب أنّ هذه الآثار إنّما تظهر من الأخلاط الأربعة في حال الحياة ، فإنّ الموت عبارة عن فناء هذه الأخلاط كلّها في البدن وتجرّد النفس وخروجها عن الجسمانيات.

ص: 577


1- النحل : 70.
2- حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : 620 ، وانظر الرسائل الفقهية : 15.

وبالجملة : لا خفاء ولا إشكال عند المحقّقين ، مثل المير (1) والثانيين (2) وأمثالهم : أنّ الموت يوجب زوال الظن ، وأنّه من الأعراض المشروطة بالحياة ، فدعوى بقائه بعد الموت واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

وزعم صاحب الفصول (3) - وفاقا لبعض من تقدّمه (4) - : أنّ سبب زوال الظن إنّما هو انكشاف حقائق الامور بعد الموت. ومنع عن قيام دليل قاطع على ذلك قبل قيام الساعة.

وأنت قد عرفت أنّ زوال الظنّ ليس لأجل انكشاف الواقع وانقلابه بالعلم ، بل لأجل فناء محلّه الذي هو الذهن المتقوّم بتركيب الأخلاط والقوى في البدن.

وأمّا انكشاف الأشياء عند النفس بعد الموت وعدمه فهو مقام آخر لا يتوقّف على أحد الطرفين بفوت المطلوب ، لأنّا لو لم نقل بالانكشاف لقلنا بزوال الظنّ أيضا ، لما ذكرنا.

ثمّ قال : سلمنا - يعني زوال الظنون وانكشاف واقع الأحكام للمجتهد - لكنّ الاعتقاد الراجح المحقّق في ضمن الظن ممّا يمكن بقاؤه بموافقة العلم الطارئ فيستصحب بقاؤه ، لعدم القطع بزواله ، إذ التقدير تجويز موافقة علمه لظنه وزوال تجويز النقيض (5) انتهى.

وفيه :

أولا : ما عرفت ، لا ملازمة بين زوال الظن بعد الموت وانكشاف الوقائع ،

ص: 578


1- أي المحقّق الداماد.
2- أي المحقق الثاني والشهيد الثاني ، كما تقدم في الصفحة : 576.
3- الفصول : 420.
4- مثل الوحيد البهبهاني ، انظر الرسائل الفقهية : 9 - 15.
5- أي كلام الفصول.

فنقول : إنّ الظن قد زال قطعا ؛ لما ذكرنا. وحصول الاعتقاد الجديد الذي حصل له بعد الموت على فرض كونه موافقا للظن بحكم الاستصحاب - بناء على حجّيته في مثل المقام ، مع أنّ الاعتقاد الظنّي والاعتقاد الجزمي مرتبتان متضادّتان مختلفتان ، والأول قد ارتفع جدّا ، والثاني حادث جديد ، وإجراء الاستصحاب فيه مبنيّ على المسامحة وعدم التدقيق في البقاء والحدوث كما في استصحاب الألوان الضعيفة مع القطع بتكاملها [ و ](1) انقلابها إلى حالة الشدة على فرض بقائها - اعتقاد نشأ لا عن دليل ؛ لأنّ اعتقادات الموتى وعلومهم تحصل بالمكاشفة والشهود ، ولم يقم دليل على أنّ جواز التقليد حكم من أحكام هذا النحو من الاعتقاد الخارج عن عالم الاجتهاد ، وقد تقرّر : أنّ استصحاب الموضوعات الغير الشرعيّة : كالحياة والعلم والظنّ ونحوهما ، إنّما هي عبارة عن إجراء أحكامها الشرعيّة عليها التي يعلم ثبوتها لها على فرض بقائها ، كحرمة نكاح الزوجة على فرض حياة بعلها مثلا ، فحيث كان المستصحب على فرض بقائه ممّا لم يقم دليل شرعيّ على ترتيب الحكم عليه ، لم يكن فائدة في استصحابها.

فبعد اللتيا والتي صار نتيجة كلامه : أنّ الاعتقاد الظنّي الحاصل للمجتهد في حال الحياة قد تكامل بالموت وبلغ حدّ الجزم ؛ بحكم الاستصحاب.

ومن الواضح : أنّ مجرّد ذلك لا يتمّ به المدّعى ، بل لا بدّ أن يكون دليل دلّ على أنّ جواز التقليد حكم من أحكام الاعتقاد الراجح ، كسبيّا كان أو كشفيّا. ثمّ إثبات بقاء الاعتقاد بعد الموت ليترتّب عليه حكمه الشرعي. ونحن نقول - كما ستعرف في ردّ الاستصحاب الذي يتمسّك به المجوّزون - : إنّ هذا الدليل مفقود ، وحينئذ فلا ينفع استصحاب بقاء الاعتقاد الراجح بعد الموت جدّا.

ص: 579


1- اقتضاها السياق.

ومن هنا ينقدح : أنّه لا يضرّنا الاعتراف ببقاء الظنّ نفسه من دون تكامل وتقلّب بالقطع أيضا ، وإن كان بناء أهل الاستدلال على الزوال ؛ ولعلّه لأجل معلوميّة ذلك عند المستدلّ بحيث لم يخطر بباله أنّ عاقلا يذهب إلى بقاء الظن.

فالأولى أن يقال : إنّ الدلائل الظنّية حجّيتها إنّما هي باعتبار الظنّ الحاصل منها للمجتهد الحي ، لكنّه لا يخلو عن مصادرة.

ويدفع الثاني (1) : بأنّ مناط الحجّية إذا كان هو الظنّ كان الحكم يدور مداره ؛ لأنّه يقع وسطا لقياس نتيجته القطعيّة المطلوبة ، ومن الواضح المقرر : أنّ الاستنتاج يحتاج إلى ثبوت الملازمة بين النتيجة وبين الوسط بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن انتفائه انتفاؤه.

بيان ذلك : أنّ الدليل ما كان بينه وبين مدلوله ملازمة واقعية بحيث يلزم من العلم به العلم به ، وهذا في غير الأدلّة الشرعيّة واضح ، وأمّا فيها ففي القطعيات منها أيضا لا إشكال في ثبوت الملازمة بينها وبين نتائجها واقعا ، وأمّا الظنّيات ، كخبر الواحد والشهرة وأمثالها ، فهي في أنفسها ليست من الأدلّة حقيقة ؛ لانتفاء الملازمة بينها وبين المطلوب منها ؛ لكنّها بملاحظة الدليل الثانوي الدالّ على حجيتها من العقل أو النقل صارت حجّة شرعيّة ، إمّا تعبّدا أو باعتبار ما فيها من الظنّ الذي يحصل للمجتهد. ومعنى صيرورتها حجّة دوران النتيجة معها على قياس دوران المطلوب مدار الحدّ الوسط في سائر القياسات مثل ما يقال : زيد متعفّن الأخلاط ، وكلّ متعفّن الأخلاط محموم. فكما أنّ الحكم بالحمّى في زيد يتوقّف على بقاء تعفّن الأخلاط ، كذلك الحكم بحرمة ما ظنّه المجتهد

ص: 580


1- أي الاعتراض الثاني لصاحب الوافية المذكور في الصفحة : 576.

واعتقده باجتهاده حراما يتوقّف على بقاء الظن ؛ لأنّه بمنزلة تعفّن الأخلاط في قولنا : هذا مظنون الحرمة ، وكلّ مظنون الحرمة حرام.

لا يقال : لا كلام في أنّ الحجّة عبارة عن الوسط الذي يستلزم المطلوب وجودا وعدما ، وإنّما الكلام في أنّ ذلك الوسط ما ذا؟ وأنت تدّعي : أنّه الظنّ المستمرّ إلى آن الحكم ، ونحن نقول : إنّه تعلّق الظنّ بالحكم في الجملة ، ونقول فيما إذا زال الظنّ بعد أن كان موجودا : إنّ هذا ممّا تعلّق بحرمته ظنّ المجتهد قبل ، وكلّ ما كان كذلك فهو حرام. والصغرى معلومة والكبرى يستدلّ عليها بما يستدلّ به على كبرى دليلك ، أعني : كلّ ما هو مظنون الحرمة بالظنّ الفعلي فهو حرام ؛ إذ لا فرق بين قولنا وقولك إلاّ أنّك تدّعي : أن ظنّ المجتهد وإخبار العدل مثلا علّة لحدوث حكم اللّه الثانوي وبقائه ، فيرتفع بارتفاعه ، ونحن ندّعي : أنّه علّة للحدوث خاصّة ، وأمّا البقاء ، فلا يكفي أصل حدوث الظنّ آناً ما في بقاء الحكم الثانوي ، فإن طالبتني بدليل لأطالبنّك به ، فقولك : إنّ الحكم بعد زوال الظنّ بالموت يبقى خاليا عن السند ، مصادرة واضحة كما قاله المعترض.

لأنّا نقول : دليلنا على كبرى قياسنا - يعني على بقاء اشتراط الظن مثلا في بقاء الحكم الثاني - عدم الدليل على أزيد من ذلك ، كما ستعرف في قدح مدارك التقليد ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ الظنّ بالحرمة مثلا غير مستلزم لها في ذاته ، والقدر الثابت من الملازمة الشرعيّة التي دعتنا إلى الاستدلال بها على الحكم الثانوي إنّما هي بينه وبين الظنّ بالحكم الأوّلي فعلا ، ومن ادّعى ثبوتها بينه وبين الظنّ بحكم اللّه الواقعي الأوّلي في أحد الأزمنة فهو مطالب بالدليل ؛ لأنّ كلامنا مبنيّ على الأخذ بالقدر المتيقّن فيما هو مخالف للأصل.

ص: 581

ومن هنا ظهر : أنّ الاعتراض الثاني ليس من آداب المناظرة ؛ لأنّ مطالبة الدليل من المنكر مع عدم إقامة الحجّة على الإثبات خروج عن قاعدة الاعتراض.

نعم ، يمكن أن يناقش على (1) الدليل المزبور : بأنّ تماميّته تتوقّف حينئذ على إعمال الأصل في المسألة ، فلا يكون استدلالا مع الإغماض عنه ، كما هو الشأن في كلّ مقام يجمع فيه بين الاستدلال بالأصل والدليل.

ومنها (2) : ما ذكره المحقّق (3) والشهيد (4) الثانيان : من أنّه لو جاز العمل بفتوى الفقيه بعد موته لامتنع في زماننا الإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف بالنسبة إلى الأعصار الماضية في هذا العصر غير ممكن.

وهذا الدليل بعين عباراته نقل (5) أيضا عن المحقّق المزبور ، والظاهر بل المتعيّن : أنّ الفقير المضطر امتنع أن يرجع إلى العمل بفتوى الميّت دون مطلق التقليد.

ووجه الملازمة على فرض واقعيّة الإجماع الذي ادعاه واضح ؛ لأنّ تقليد الميّت مشروط بأعلميّته ، ولا سبيل للمكلّف إلى العلم.

وأمّا المناقشة في ذلك : بإمكان تحصيل العلم بالأعلميّة والأورعيّة

ص: 582


1- كذا والظاهر زيادته.
2- أي من أدلّة منع جواز تقليد الميت.
3- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99.
4- انظر رسائل الشهيد الثاني 1 : 40 - 41.
5- نقله في الوافية : 301 ، ومناهج الاصول : 621.

بالرجوع إلى الكتب والتصانيف الباقية ، كما في الوافية (1) وتبعه غيره (2) ؛ لأنّ الكتب والتصانيف كثيرا ما تقصر عن كشف مقدار فضيلة (3) ، ونحن قد رأينا فضل المصنّف على مصنّفه في زماننا وبالعكس.

وقد يستدل بالإجماع المزبور على المدّعى بعكس طريقة الاستدلال المذكور ، وهو : أنّ تربية الزمان مثل بعض الأموات الأعلام ، كالشيخ والمرتضى والعلاّمة والشهيد والكركي وأمثالهم من أجلاّء أهل التحقيق وكشف دقائق الفقه ودرك خفيّاته في كلّ عصر نادر ، بل معدوم ، فلو جاز تقليد الميّت وجب الاقتصار على فتاويهم ، وينسدّ باب الفتوى بين الأحياء له كما في ما بين العامة ، وهذا ممّا يمكن بالحدس الصائب القطع بعدم رضا صاحب الشريعة به ، وربما يكون في استقرار طريقة الخاصة على الاجتهاد دلالة واضحة على عدم الاعتداد بقول الميّت كائنا من كان ، فإنّ هذا ليس من مجرّد فضيلة الاجتهاد من دون مساس حاجة إليه.

ومنها : أنّ العمل بالفتوى المتأخّرة عند تعدّدها واختلافها واجب بالإجماع ، ولا يتميّز في الميّت فتواه الأول عن الأخيرة.

وهذا الدليل أيضا منقول (4) عن المحقّق ، وأجاب عنه صاحب الوافية (5) :

ص: 583


1- الوافية : 302.
2- انظر مفاتيح الأصول : 622 ، كذا والعبارة ناقصة ، ولعل سقط منها كلمة « مندفعة » ونحوها ، ليقع ما بعدها تعليلا له.
3- كذا ، والمناسب : الفضيلة.
4- نقله السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : 622 ، وانظر حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99.
5- الوافية : 302.

بأنّه يمكن العلم بتقديم الفتوى وتأخّره في الميّت من كتبه وأنّه لا يتمّ إلاّ في ميّت تغيّر فتواه في مسألة واحدة.

ومنها : أنّ اجتهاد الحي أقرب إلى الواقع عن اجتهاد الميّت ؛ لأنّ الحي يقف غالبا على فتوى الميّت وعلى ما هو مستنده فيها ، فإذا أفتى بخلافها علم أنّه قد بلغ نظره إلى ما لم يكن قد بلغ إليه نظر الميّت. ولأنّ الرجوع من الخطأ إلى الصواب ممكن في حقّ الحي دون الميّت ؛ فيكون الأخذ بقول الحي أوثق.

ولا ينافي الأوّل كون الميّت أفضل وأحوط من الحي بالمدارك ، كما توهّم ؛ لأنّ أثر الفضل إنّما يظهر في الإمكان الابتدائية ، فيمكن ظهور خطئه في الاستدلال للمفضول ولو من جهة الإصابة بالمعارض الذي خفي على الفاضل.

وأمّا ما قيل (1) في الثاني : من أنّ الرجوع من الفتوى قد يكون من الحقّ إلى الباطل ، وهذا الباب مسدود في حق الأموات بخلاف الأحياء فلا يكون في إمكان الرجوع دلالة على أقربية القول عن الواقع إذا لم يرجع ؛ لأنّ عدم الرجوع مع إمكانه إنّما يقتضي تأكّد الظن بالواقع إذ كان الرجوع دائما عن الخطأ إلى الصواب. وحيث يمكن أن يتعاكس الأمر لم يكن فيه زيادة ظن ، فيمكن الجواب عنه :

بأنّ المدار على ما هو الغالب في رجوع المجتهدين ، ولا ريب أنّ أغلب موارد الرجوع رجوع عن الباطل ، وأمّا الرجوع عن الحق ففي غاية القلّة فليتأمّل.

ص: 584


1- لم نعثر عليه.

وقد استدل على المطلوب بوجوه أخر أعرضنا عن ذكرها ؛ لعدم اعتمادنا في إثبات المدعى على غير الأوّلين من الأصل والإجماعات المعتضدة بظهور الاتفاق ، ولابتنائها على أنّ الموت يوجب زوال الظن وقد عرفت الكلام في ذلك ، وأنّه لا بدّ وأن يرجع فيه بالأخرة إلى الأصل.

فقد تحقّق وتبيّن مما ذكرنا : أنّه على فرض عدم تماميّة حجج القول بالمنع لا يثبت دعوى المجوّزين أيضا إلاّ باقامة ما يعتمد عليه من الدليل.

[ وجوه القول بجواز تقليد الميّت ومناقشتها ] :

وللقول بالجواز أيضا وجوه :

فمنها : الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

ومنها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت لما أجمعوا على النقل إلى السلف ، وعلى وضع الكتب.

بيان الملازمة : أنّه لا فائدة في هذين إلاّ العمل بأقوال السلف والاعتماد عليها في العبادات والمعاملات ، وليس هذا إلاّ التقليد. ولا ينافي ذلك كون الراجعين إلى كتبهم هم العلماء ؛ فإنّ العمل بقول الموتى على تقدير حرمته يساوي فيه العامي والعالم.

ومنها : أنّ كثير البلاد وكثير الأزمنة فاقدة للمجتهد الحي ، فلولا جاز العمل بقول الميّت لزم العسر والحرج (1).

ص: 585


1- لا يخفى ما في التعبير من الضعف.

وضعف هذين الوجهين ظاهر وجوابهما واضح ، ولقد أطال الكلام المولى البهبهاني (1) في تزييفهما. والظاهر أنّ إطالة الكلام في بقيّة الأدلّة أحسن منها فيهما ؛ لأنّ الرجوع إلى كتب السلف ليس للعمل بأقوالهم تعبّدا ، بل للاستعانة على فهم مدرك المسألة ، وأيّ نفع أعظم من ذلك؟ وأمّا لزوم العسر والحرج على تقدير الاقتصار على فتوى الأحياء فمنه (2) في غاية الوضوح ، وعلى فرض لزومهما أحيانا لا يقتضي فتح باب تقليد الأموات مطلقا بل يتقدّر بقدره كما هو الشأن في سائر الأحكام والتكاليف.

ومنها : الاستصحاب ويقرر : تارة بالنسبة إلى حال الفتوى ، واخرى بالنسبة إلى حال المفتي ، وثالثة بالنسبة إلى حال المستفتي لأنّ المجتهد في حال حياته كانت فتواه معتبرة وجائز التقليد فيها ، وكان هو ممّن يجوّز تقليده والأخذ منه ، وكان المقلّد ممن يصح له الاعتماد على قوله في عباداته ومعاملاته ، ويقتضي الاستصحاب بقاء الأحكام الثلاثة كلها إلى حال الموت ؛ للشك في ارتفاعها بالموت بعد القطع بثبوتها حال الحياة.

وهذه الاستصحابات يرجع بعضها إلى بعض يفيد كلّ واحد مفاد الباقي ؛ لأنّ الاستصحاب الثاني الراجع إلى حال المفتي ربما توهّم أنّه لا يفيد كون المفتي ممّن لا يجوز العمل بقوله إلاّ في حقّ من عاصره ؛ لامتناع تحقّق الجواز في حقّ المعدومين ، فيمتنع الاستصحاب لتعدّد الموضوع.

وفيه : أنّ أهليّة المفتي لجواز العمل بفتواه صفة ثابتة له ولو لم يوجد عامل فعلا فإنّه ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة وهي : « من دخل في عداد المكلّفين

ص: 586


1- انظر الرسائل الفقهية : 23 - 24.
2- كذا ، ولعلّه : فضعفه.

بأحكام اللّه تعالى فله الأخذ منه » وصدق الشرطيّة لا يتوقّف على فعليّة الشرط ، وهذه الأهليّة كانت متيقّنة الوجود في حال الحياة ، فلا يصار عنها بالشك الطارئ بعد الموت.

وكيف كان ، فالجواب عنها كلّها : أنّ من شرائط حجّية الاستصحاب أو جريانه (1) على ما قرّر في موضعه وإلاّ لزم الحكم بوجود العرض لا في موضوع ، وموضوع المستصحب في المقام ، أعني جواز التقليد ، قد بيّنا أنّه الظن الفعلي القائم بنفس المجتهد الذي لا شبهة في زواله بالموت ، ونزيد هنا في البيان على سبيل الإيجاز ونقول - إن شاء اللّه - : إنّ في مجاري الأدلّة الظنّية حكمان (2) : حكم واقعيّ تعلّق به ظن المجتهد ، ثابت للأشياء الواقعيّة كالخمر والعصير ونحوهما ، من غير مدخليّة ظنّ المجتهد فيها وإلاّ لزم التصويب ، وحكم ظاهريّ قطعيّ جاء من الدليل الدال على اعتبار ذلك الظن ، ثابت للأشياء الخارجيّة من غير تعلّق الظنّ بحكمها الواقعي ، وهو وجوب العمل بمؤدّى الظن ، فالحكم الواقعي الأوّلي موضوعه ذات العصير والخمر مثلا ، وأمّا موضوع الظاهري الثانوي فهو العصير لا من حيث ذاته ، بل من حيث كونه مما ظن بنجاسته المجتهد ، ولا ريب أنّ الناس من العوام والخواصّ من المجتهد والمقلّد إنّما يتعبّدون في موارد الأدلّة الظنّية بذلك الحكم الثانوي الذي موضوعه حقيقة ظنّ المجتهد ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم الأصلي الأوّلي ليس بمعلوم ، وإنّما ظنّ به المجتهد ببعض الأمارات ، والتعبّد بأمر غير معلوم غير معقول ، فكما أنّ مدار عمل المجتهد على

ص: 587


1- الظاهر أنّ في العبارة سقطا وهو : « بقاء الموضوع » ؛ ليكون اسما ل- « أنّ » ، ويتم المقصود.
2- المناسب : حكمين.

ظنّه ، كذلك مدار عمل المقلّد على ظنّ مجتهده ؛ إذ لا فرق بينهما في التعبّد بذلك الحكم الظاهري القطعي الذي موضوعه الظنّ إلاّ أنّ المقلّد يجب عليه الرجوع إلى المجتهد لمعرفة موضوع ذلك الحكم.

فإن قيل :

لا نسلّم أوّلا : أنّ المقلّد متعبّد بظنّ المجتهد ، وأنّ موضوع حكمه الثانوي إنّما هو الظنّ ، بل هو متعبّد بقوله وفتواه أعني : إخباره عن حكم اللّه ، فيكون موضوع ذلك الحكم الثانوي هو قول المجتهد ، وهو لا يتغيّر ولا يتبدّل بموت القائل كالرواية. نعم ، إذا فرض رجوع المجتهد عن قوله كان الموضوع منتفيا.

وثانيا : على فرض كونه متعبّدا بظنّه ، لا نسلّم زوال الظنّ بعد الموت لإمكان بقائه ، بأن لا ينكشف له حقيقة الحال.

وانكشف وظهر جوابه ، قلنا : التعبّد بظنّ المجتهد أو بقوله كلاهما مخالفان للأصل محتاجان إلى الدليل ، وقد ذكرنا غير مرّة : أنّ التعبّد بالظنّ ممّا لا كلام فيه ولا إشكال ، فيكون ثابتا من باب التعبّد المتيقّن. وأمّا التعبّد بمجرّد القول والإخبار عن حكم اللّه ولو مع زوال الظنّ ، فلم يقم عليه دليل معتبر ؛ لأنّ أدلّة مشروعيّة التقليد غير وافية بذلك كما ستعرف.

وأمّا ما ذكرت من إمكان بقاء الظنّ فنحن لا نتحاشى من ذلك ، ولكن نقول : إنّ المقلّد متعبّد بظنّ المجتهد الحي دون الميّت ، ومن ادّعى أكثر من ذلك طولب بالدليل ، وأنّى له بذلك بعد عدم قيام دليل معتبر على مشروعيّة أصل التقليد سوى الإجماع والسيرة والضرورة التي لا يحصل منها أمر يرتفع منه الاشتباه.

ص: 588

لا يقال : إذا كان موضوع الحكم هو الظنّ القائم بنفس الحي ، فالأمر كما تقول : من انتفاء موضوع الحكم بالموت ، لكنّه ليس ممّا دلّ عليه قاطع (1) سوى الأصل ، ومن المحتمل أن يكون الموضوع مطلق الظنّ إذا قلنا ببقائه بعد الموت أو بمجرّد القول ، فيبقى الموضوع. والمانع عن جريان الاستصحاب إنّما هو القطع بزواله ، فلا مانع من جريانه عند الشكّ في البقاء ، فإنّ الاستصحاب يحكم بوجوده ، وقد أشار صاحب الوافية (2) إلى هذا الكلام في جواب المير (3) ، حيث منع من استصحاب جواز التقليد باعتبار انتفاء الموضوع.

لأنّا نقول :

أوّلا : أنّ الدليل على أنّ التقليد عبارة عن التعبّد بقول الحي موجود ، وهو ظاهر كلّ ما جعلوه دليلا على مشروعيّة التقليد من الكتاب والسنّة ؛ فإنّ الظاهر منها حجيّة قول الحي ؛ ولذا تمسّك بعض (4) بآية السؤال على عدم جواز تقليد الميت.

وثانيا : نقول : إنّه قد ثبت في محلّه أنّه إذا شكّ في موضوع الحكم ولم يظهر من دليله ما يدور الحكم مداره امتنع استصحاب ذلك الحكم عند زوال ما يتحمّل كونه موضوعا أو اعتباره في الموضوع. والسرّ في ذلك : أنّه متى حصل الشكّ في موضوع الحكم لم يعلم كون الحكم السابق الذي يراد استصحابه ما ذا ، والاستصحاب عبارة عن انسحاب اليقين السابق ، أي ما تيقّن به سابقا إلى زمان

ص: 589


1- كذا ، ولعله : « دليل قاطع ».
2- الوافية : 302.
3- أي : الداماد ، انظر الوافية : 302.
4- استدلّ به النراقي في مناهج الأحكام : 301.

الشك ، وإذا لم يحصل اليقين بالحكم السابق ولم يعلم أنّ القضيّة المتيقّنة ما ذا فلا مجرى للاستصحاب على ما هو التحقيق ، فلو شككنا مثلا في أنّ موضوع النجاسة هل هو « الماء » لكن التغيّر صار سببا لنجاسته كالملاقاة ، أو أنّه « الماء المتغيّر » أمّا يحكم بنجاسته للاستصحاب بعد زوال التغير على ما هو الحقّ المقرّر في محلّه ؛ لأنّ الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك غير شاملة لذلك ؛ إذ لو بنينا على طهارة ذلك الماء بعد زوال التغير لم نكن ناقضين لليقين بالشك ، وإنّما يكون كذلك لو كنّا متيقّنا (1) بأنّ هذا الماء كان نجسا ومع احتمال كون النجس هو المتغيّر دون الماء ، فإنّه لا يحصل يقين بذلك ، فلو لم يحكم بالنجاسة حينئذ لم يكن فيه نقض يقين بالشك. نعم إذا حصّلنا موضوع الحكم من دليله ثمّ شككنا في بقائه وارتفاعه باعتبار الشك في مقدار استعداد علّة ذلك الحكم تمّ الاستصحاب ، وذلك مثل أن كان دليل نجاسة الماء نحو قوله : « ينجس الماء إذا تغيّر » لا نحو قوله : « الماء المتغيّر نجس » فانّ الماء نفسه جعل في هذه القضيّة موضوعا للنجاسة ، واحتمال كون التغيّر علّة محدثة ومبقية حتى يرتفع الحكم بارتفاعه يدفع باستصحاب نجاسة الماء.

فإن قلت : هل يبقى عندك شيء من موارد الشك من حيث المقتضي تقول بجريان الاستصحاب فيه أم لا؟

قلنا : على كلامنا هذا لا يبقى من مواردها أصل إلاّ ما عرفت ممّا يكون الشك مسبّبا من الشك في كيفية عليّة العلّة ومقدار استعداده بعد إحراز موضوع الحكم من الدليل ، ومثل ما إذا كان سبب الشك احتمال مدخليّة خصوصيّة الزمان ، مثل أن أمر المولى بالقعود في المسجد - مثلا - ولا يدري أنّ المطلوب منه مقدار

ص: 590


1- كذا ، والمناسب : متيقّنين.

ساعة أو ساعتين ، فإنّ الظاهر جريان الاستصحاب فيه أيضا ؛ بناء على أنّ الزمان شيء لا يعتبر قيدا لموضوع الحكم وإن كان نظر الدقيق يجعله مثل سائر مقامات الشك من حيث الاقتضاء. وتحقيق كلّ ذلك مطلوب في محلّه.

نعم ، هنا كلام آخر قد ذكرنا [ ه ] (1) هناك وهو : أنّ القائل بجريان الاستصحاب في أمثال المقام ، المبهم فيها موضوع المستصحب في نظر الدقيق ، له أن يقول : إنّ العبرة في بقاء الموضوع وانتفائه إنّما هو بالصدق العرفي ، وأهل العرف يتسامحون في الحكم بالبقاء والانتفاء ، حتى أنّهم يشيرون إلى الكلب المستحيل ويقولون : إنّه كان نجسا والأصل بقاء النجاسة ، مع أنّ المشار إليه في الحالة اللاحقة إنّما هو الجماد الذي لا يطلق عليه الكلب الذي هو موضوع للنجاسة في الأدلة. وهكذا يشيرون إلى ميّت الإنسان ويقولون : إنّه كان يجوز النظر إلى عورته لزوجته في حال الحياة والأصل بقاؤه ، مع أنّ الحلّية كانت ثابتة للنظر إلى عورة الزوج الذي لا ريب في كونه إنسانا لا جمادا إلاّ أنّ المعتمد عندنا - كما قلنا في محله (2) - عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام.

وبالجملة : متى حصّلنا موضوع المستصحب من دليله وعلمنا تغيّره أو انتفاءه في الحالة الثانية أو لم نحصّل الموضوع وكنا في اشتباه في ذلك - كما إذا كان دليل الحكم لبيّا كالإجماع ونحوه - امتنع عندنا جريان الاستصحاب.

وامّا ما تخيّله التوني : من أنّ عدم العلم بتغيّر الموضوع يكفي في جريان الاستصحاب فلا يعتبر إحراز البقاء ، فبعيد من التحصيل في الغاية ؛ لأنّ وجود الموضوع ممّا لا بدّ منه في وجود المحمول حدوثا وبقاء إذ لا يتعقل الحكم بقيام

ص: 591


1- اقتضاها السياق.
2- انظر فرائد الاصول 3 : 157 ، و 292 - 300.

زيد مثلا مع عدم وجود زيد في الخارج فلا بدّ أوّلا من إحراز وجوده ثمّ الحكم ببقاء الحكم ، أي المحمول فيه ؛ للاستصحاب.

فإن قيل : إنّ وجود الموضوع نثبته بالاستصحاب أيضا فلا يقدح في استصحاب حكمه الشك في بقائه.

قلنا : استصحاب الموضوعات الخارجيّة لا يرجع إلى محصّل إلاّ الحكم بترتّب أحكامها عليها شرعا وجواز استصحاب الحكم ليس من أحكام الموضوع حتّى يترتّب عليه ، بل إنّما هو من أحكامها العقليّة ؛ لأنّ اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب أمر جاء من قبل حكم العقل بامتناع وجود المحمول لا في موضوع ، فليس حكما من أحكام موضوع الحكم حتى يترتّب على وجوده بالاستصحاب ، سلّمنا كونه مما يترتّب عليه بعد استصحابه باعتبار كونه حكما شرعيّا له ، لكن نقول : إذا كان موضوع الحكم ما يجري فيه الاستصحاب كان الحكم مترتّبا عليه من دون حاجة إلى استصحاب آخر يجري في نفس الحكم ، بل لا يبقى مع استصحاب الموضوع محلاّ (1) لجريان الاستصحاب في نفس الحكم ، فإجراء الاستصحاب في الحكم والموضوع ممّا لا يجتمعان في محلّ واحد.

فإن قلت : إذا كان الأمر كذلك ، فنحن نقول : إنّ جواز التقليد ثابت ، إمّا لقول المجتهد أو لظنّه مطلقا أو لظنّه ما دام حيّا ، ولا ندري زوال ذلك الموضوع بعد الموت ؛ لاحتمال كونه أحد الأوّلين فيستصحب ذلك ؛ إذا الأصل بقاء ما قد ثبت له جواز التقليد وباستصحابه يثبت جواز التقليد في حال الموت لكونه حكما من أحكامه شرعا.

ص: 592


1- كذا ، والمناسب : محلّ.

قلنا : كون الأصل بقاء موضوع الحكم لا يثبت كون الباقي من الامور المحتمل كونها موضوعا هو الموضوع إلاّ على الأصل المثبت الذي لا نقول به ، والذي يفيد في المقام هو الحكم بموضوعيّة ذلك القول الذي هو الباقي بعد الموت.

وأمّا بقاء الموضوع في العالم من غير إثبات كون الباقي أعني القول موضوعا فلا فائدة فيه جدّا ؛ إذ إثبات كون القول هو الموضوع مثلا بذلك الاستصحاب ، أعني استصحاب الموضوع أخذ بالأصل المثبت فتدبّر في المقام وراجع ما حرّر في الاستصحاب في نفي الأصول المثبتة.

ومنها : الآيات التي استدلّ بها على مشروعيّة التقليد غير واحد من الأصحاب (1) ، فإنّها تدلّ بإطلاقها على حجيّة قول الميّت للمقلّد نحو قول الحي.

الاولى : أية النفر المذكورة في سورة براءة ( ... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (2).

دلّت على وجوب الحذر عقيب الإنذار الواجب المراد به الفتوى خاصّة أو الأعمّ منها ومن الرواية من وجهين :

أحدهما : أنّ كلمة « لعلّ » بعد انسلاخها عن الترجّي تفيد مطلوبيّة مدخولها ومحبوبيّتها (3) ، وهو : الحذر عقيب الإنذار في المقام. وإذا ثبت رجحان الحذر وحسنه ثبت وجوبه ، إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لا يحسن على وجه الاستحباب أيضا ، بل لا يكاد يتحقّق موضوع الحذر مع انتفاء ما يكون سببا

ص: 593


1- مثل آيتي : السؤال والنفر ، انظر الفصول : 411 ، ومفاتيح الأصول : 594 - 597.
2- التوبة : 122.
3- كذا ، والمناسب : محبوبيّته.

للخوف والوجل مع أنّ ثبوت رجحان الحذر يكفي في إثبات وجوبه بالإجماع المركّب ، فإنّ من قال بجوازه قال بوجوبه.

وثانيهما : أنّ وقوع الإنذار غاية للنفر الواجب بدلالة كلمة « لو لا » يقتضي وجوبه وعدم رضا الآمر بانتفائها ، كما هو الشأن في جميع الغايات المترتّبة على فعل الواجبات ، سواء كانت من الأفعال أم لا ، كما في قولك : « تب لعلّك تفلح » وقوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) (1) وقوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (2) وحينئذ ، فالحذر أيضا واجب لوقوعه غاية الإنذار الواجب.

هذا ، مع أنّ وجوب أصل الإنذار في ذاته يقتضي وجوب الحذر عقبه وإن لم يصرّح بكونه غايته ، وإلاّ كان الإنذار لغوا. وهذا مثل ما عن المسالك (3) : من الاستدلال على وجوب قبول قول النساء في العدّة بقوله تعالى : ( ... وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ... ) (4) بناء على أنّ حرمة الكتمان عليهنّ يقتضي وجوب قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام ، وإلاّ كان الإظهار لغوا ، وإذا دلّت الآية على وجوب الحذر عقيب الإنذار فيستدلّ بإطلاقها على وجوبه عقيب الإنذار الصادر من الموتى في حال حياتهم ، فإنّ مماتهم لا يوجب انتفاء صفة الإنذار عن الفتاوى الصادرة عنهم في حال الحياة ، بل كلّ من يبلغه تلك الفتوى يدخل في عنوان « النذر » (5) بالفتح فيجب الحذر لما ذكر.

ص: 594


1- طه : 44.
2- نور : 56.
3- المسالك 9 : 194.
4- البقرة : 228.
5- كذا ، والظاهر : « المنذر ».

والجواب عنها :

أولا : أنّ المراد بالنفر الواجب المشتمل عليه الآية إنّما هو النفر إلى الجهاد بقرينة قوله تعالى قبلها : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) (1) ومن المعلوم أنّ المقصود من النفر إلى الجهاد ليس هو التفقّه والإنذار حتّى يجبان فيجب لأجل وجوبهما الحذر ، نعم قد يترتّبان عليه لما فيه من مشاهدة آيات اللّه وغلبة أوليائه على أعدائه وسائر ما يشتمل عليه حرب المؤمنين مع الكفّار ممّا يوجب قوّة الإيمان وتأكّد اليقين ، فيحصل بسببها بصيرة لهم في الدين فيخبرون بما شاهدوه قومهم المتخلّفة (2) إذا رجعوا إليهم ، فيكون التفقّه والإنذار المشتمل عليهما الآية من قبيل الفوائد المترتّبة على فعل الواجب لا الغاية حتى يجب بوجوب ذيها.

وثانيا : بأنّا لو سلّمنا كون المراد بالنفر الواجب هو النفر للتفقّه لا للجهاد ، أنّ المراد بالتفقّه هنا هو أخذ الأحكام من الحجّة ، ويحتمل الروايات ، فالحذر الواجب ما كان عقيب الإنذار بطريق الرواية لفظا أو معنى ، فلا دلالة فيها على وجوبه عقيب الإنذار بالفتوى ؛ ولذا تمسّك الأصحاب بهذه الآية على حجيّة الخبر ، والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : أنّ الاجتهاد لم يكن متعارفا زمن نزول الآية ، بل المتعارف فيه إنّما هو الرجوع إلى الحجّة ، فتحمل الآية على الغالب المتعارف ، وربما يؤيّده بآية (3) النفر ، فانّ الظاهر منها النفر إلى الحجّة خاصّة ، فلا يندرج فيها النفر إلى الرواة للاجتهاد.

ص: 595


1- التوبة : 122.
2- كذا في الأصل.
3- كذا ، والمناسب : وربما يؤيد بآية ... ، أو : يؤيّده آية ....

والثاني : استدلال الإمام عليه السلام بهذه الرواية على وجوب نقل الأخبار في بعض الروايات :

منها : ما عن فضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السلام (1) في حديث قال : « إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّه تعالى وطلب الزيادة والخروج عن كلّ ما اقترف العبد - إلى أن قال - : ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمة على (2) كلّ صقع وناحية ، كما قال اللّه تعالى عزّ وجل : ( ... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ... ) » ونحوها غيرها ، فإنّ المستفاد من التعليل المزبور انحصار المراد بالتفقّه في تحمّل الأخبار ونقلها ، فلا يرد : أنّه على تقدير كون المراد به ما يشمل الفتوى تمّ الاستدلال أيضا.

وثالثا : لو سلّمنا كون المراد بالتفقّه ما يشمل الاجتهاد ، أنّ القدر المستفاد منها هو وجوب الحذر عند العلم بصدق المنذر ، وذلك لأنّ التفقّه عبارة عن معرفة الامور الواقعيّة ، وحيث لا يعلم أنّ الإنذار هل وقع في محلّه بمطابقة الامور الواقعيّة أم لا؟ لم يتحقّق موضوع الإنذار حتى يجب الحذر والقبول ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة. فإنّ قلت : لا نسلّم توقّف صدق الإنذار على علم المنذر واعتقاده بمطابقة الواقع ، فإنّ الإنذار نوع من الإخبار ، ومن الواضح أنّه لا يتوقّف على اعتقاد السامع بصدق الخبر ، فإطلاق قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) يقتضي وجوب الحذر عقيب الإنذار في صورتي العلم وعدمه.

ص: 596


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 119 ، والوسائل 8 : 7 ، الباب الأوّل من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، الحديث 15.
2- كذا ، والمناسب : إلى ، كما في الوسائل.

قلنا : دعوى الإطلاق ممنوعة :

أمّا أوّلا ، فلأنّ الغالب في إنذار المنذر من أهل العلم وإخبارهم عن الأحكام حصول العلم للمنذرين ، فتنزّل الآية على ما هو الغالب المتعارف.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ مثل هذا الكلام عرفا وارد مورد (1) مقام آخر غير إنشاء حكم تعبّدي ظاهري ، أعني العمل بقول المنذر تعبّدا ، وهو إهداء الناس إلى الحقّ وتبليغ الجاهل إلى ما هو الصواب. وأما وجوب قبول الجاهل من المبلّغ مطلقا أو فيما إذا أفاد العلم ، مقام آخر يرجع فيه إلى ما تقتضيه القواعد. وهذا نظيره في المحاورات كثير ؛ فإنّ المقصود العرفي من الأمر تبليغ الحقّ إلى الجاهل وإرشاده ، والملازمة إلى ما كان في جهل منه ، وعلى ذلك ينزّل جميع ما ورد في حقّ الأنبياء والحجج من الأمر ببيان الحقّ وإظهار الأحكام ؛ فإن المقصود منها ليس إلاّ بلوغ الأحكام إلى الناس وخروجهم عن الجهالة ، لا تأسيس أساس التعبّد والعمل والتقليد.

وممّا يوجب وهن الإطلاق : أنّه لا شكّ في اشتمال التفقّه على معرفة الأصول والفروع ، كما يدلّ عليه استدلال المعصوم بهذه الآية في غير واحد من الروايات (2) على وجوب معرفة الحجّة إذا حدث على إمام العصر حادثة ولا يجوز الحذر عقيب الإنذار في الأصول بدون حصول العلم إجماعا إلاّ من قليل.

ورابعا : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا ، سواء تحصّل العلم أم لا ، أنّك قد عرفت أنّ الإنذار الواجب إنّما هو الإنذار العلمي بالامور المعلومة

ص: 597


1- كذا ، وعلى كلمة « مورد » حرف « ظ ».
2- مثل ما ورد في الكافي 1 : 378 و 380 ، باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام ، الحديث 1 - 3.

الواقعيّة ، ضرورة كونه غاية للتفقّه المراد به معرفة حقائق الأحكام. والعلم بها كما ذكرنا ، فغاية ما تدلّ عليه حينئذ هو وجوب الحذر إذا كان المنذر عالما في إنذاره ، فالإنذار الظنّي خارج من تحتها ، والمهمّ إنّما هو إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنّية ، فإنّ الفتوى التي تكون عن علم ، غالبا - مع ندرته - من قبيل الضروريّات والإجماعات التي تفيد العلم للمقلّد أيضا ، فلا موضع يكون المفتي فيه عالما بما يفتي ولم يحصل للمقلّد ، ولو فرض إمكان ذلك ، فالقدر الثابت حينئذ جواز التقليد تعبّدا في حصول الفتوى التي تكون عن علم ، فيبقى جواز التقليد في الفتاوى الظنّية خاليا عن الدليل. اللّهم إلاّ أن يدفع ذلك بالإجماع المركّب ، فإنّ كلّ من أجاز التقليد في صورة كون المفتي عالما أجازه في صورة الظنّ أيضا.

وخامسا : لو سلّمنا جميع ذلك وقلنا : إنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر عقيب الإنذار مطلقا ، سواء كان الإنذار أي الفتوى علميّا أو ظنّيا ، وسواء أفاد العلم للمنذر أو لا ، أنّ ظاهرها اختصاص الحكم بإنذار الأحياء ؛ لأنّ الحياة لها مدخلية في حقيقة الإنذار والأمر بالتفقّه والإنذار متوجّه إلى الأحياء.

وسادسا : لو أغمضنا عن جميع ذلك ، وسلّمنا دلالة الآية على جواز تقليد الميّت ، أنّ ما تلونا من الإجماعات الشاهد على صدقها التتبّع كما عرفت ، مخصّصة لها.

فقد تلخّص مما ذكرنا : أنّ الآية لا دلالة لها على مشروعيّة أصل التقليد التعبّدي الذي نحن في صدد بيانه ، وعلى فرض دلالتها عليه فهي قاصرة الدلالة على جواز تقليد الأموات ، وعلى فرض تسليم دلالتها على ذلك فهي مخصّصة بما سمعت من الإجماعات.

ص: 598

الآية الثانية : آية الكتمان : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1).

والتقريب فيه نظير ما بيّنا في آية النفر : من أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار ، وهذا هو التقليد.

ويرد عليها جميع ما أوردنا على آية النفر عدا الأوّلين ؛ فإنّ الآية ساكتة عن وجوب التقليد التعبّدي ، وواردة في مقام بيان الحقّ وحرمة الكتمان ، وأمّا وجوب القبول على السامعين مطلقا حتى في غير صورة حصول العلم لهم فلا دلالة فيها على ذلك.

أو نقول : إنّ ظاهرها اختصاص وجوب القبول بصورة العلم تنزيلا على ما هو الغالب المتعارف في تبليغ الحقّ وإظهار الصواب من أهل العلم والخبرة. ويؤيّده : أنّ مورد الآية كتمان اليهود علامات النبي صلى اللّه عليه وآله بعد ما تبيّن لهم ذلك في الكتاب ، أعني التوراة ، ومن المعلوم أنّ آيات النبوّة يعتبر فيها حصول العلم. ولا يكتفى بالظن فيها. نعم لو وجب الإظهار على الظانّ وجب القبول منه تعبّدا ، وكذا لو وجب الإظهار على العالم الذي لا يفيد قوله العلم ؛ فإنّه أمكن جعل الآية حينئذ دليلا على وجوب القبول تعبّدا ، لكن وجوب القبول المستفاد التزاما من وجوب الإظهار المستفاد من حرمة الكتمان لا إطلاق فيه بحيث يشتمل (2) ما نحن فيه ؛ إذ يكفي في خروج وجوب الإظهار عن وجوب القبول في الجملة ، كما في قبول الروايات مطلقا وقبول الفتاوى من الأحياء.

ص: 599


1- البقرة : 159.
2- كذا ، والمناسب : يشمل.

الثالثة : آية السؤال ( ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1). والاستدلال بها موقوف على صدق السؤال على مراجعة كتب الأموات ، والقول بدلالتها على وجوب العمل بقول العلماء ابتداء من غير وساطة السؤال ، بناء على كون وجوبه مقدّميا ذريعة إلى العمل بقولهم ؛ لكونه حجّة ، فإنّ الواضح : أنّ حجيّة القول توجب وجوب السؤال ؛ لا أنّ وجوب السؤال يوجب الحجيّة ، فيكون الانتقال من وجوب السؤال إلى حجيّة القول من باب الاستدلال الإنّي.

وأوّل ما يرد على الاستدلال بهذه الآية هو : أنّ ظاهرها بشهادة السياق إرادة علماء اليهود كما عن ابن عباس وقتادة وغيرهما (2) ؛ فإنّ المذكور في سورة النحل ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ... ) (3) ، ومثله في سورة الأنبياء (4) من غير ذكر البينات والزبر.

وإن قطع النظر عن السياق ، فقد ورد في عدّة روايات (5) مشتملة على الصحيح والموثق تفسير « أهل الذكر » بالأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فإرادة وجوب الرجوع في أمر الدين إلى مطلق العلماء خروج عن قول المفسّرين وعن النصوص الواردة في تفسيرها.

ص: 600


1- النحل : 43 ، والأنبياء : 7.
2- انظر تفسير مجمع البيان 3 : 362 ، ذيل الآية ، و 4 : 40 ذيل الآيتين من النحل والأنبياء.
3- النحل : 43 - 44.
4- الأنبياء : 7.
5- انظر الكافي 1 : 210 ، باب أنّ أهل الذكر ... هم الأئمة عليهم السلام.

ذكره بعض الأصوليّين (1) في مسألتي حجيّة الخبر الواحد وقول المفتي ، إغماضا عن سوق الآية وما ورد فيها.

وثانيا : أنّ الظاهر من الأمر بالسؤال عند عدم العلم إرادة تحصيل العلم لا وجوب السؤال للعمل بما يجيب المسئول تعبّدا ، وهو واضح ، فلا دلالة لها على أصل التقليد التعبّدي فضلا عن تقليد الميت.

وثالثا : أنّ الذكر عبارة عن العلم ، فلا دلالة فيها على وجوب السؤال عن المجتهدين المعتمدين على الظنون إلاّ في الفتاوى التي تكون عن علم ، والمدّعى هو إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنّية خاصّة أو مطلقا ، اللّهم إلاّ أن يدفع بالإجماع كما عرفت في آية النفر.

ورابعا : أنّ المراد ب- « العلماء » الأحياء ، ودعوى صدق « العلماء » على الأموات ممنوعة في الغاية ، إمّا لزوال العلوم والاعتقادات القائمة بالنفس بالموت وإن حصل بعده اعتقادات اخرى حضورية موافقها أو مخالفها ، أو لظهوره في الأحياء لعلّه لأجل ذلك استدلّ بعض الأصوليين (2) بهذه الآية على عدم جواز تقليد الميّت وإن كان ليس في محلّه ، نظرا إلى أنّ ظهور « العلماء » في الأحياء لا يوجب دلالة الآية على المنع من الرجوع إلى الأموات.

والإنصاف أنّ الآية تدلّ على وجوب عمل السائل بالتقليد.

ومن جملة الأدلّة إطلاق السنّة التي وردت في مشروعيته ، وهي طائفتان : طائفة منها ورد (3) في رجوع آحاد الناس إلى الأشخاص المعيّنين. والاخرى قد وردت في حجّية أقوال العلماء والرواة والمحدّثين.

ص: 601


1- انظر الفصول : 276 - 277.
2- استدلّ بها في الفصول : 419.
3- كذا ، والمناسب : وردت.

أمّا الاولى ، فهي أيضا قسمان : قسم دلّ على الرجوع إلى رواياتهم ، بحيث يظهر منه عدم الفرق بين الفتوى والرواية ، مثل ما ورد في حقّ زرارة من الأمر بالرجوع إليه ، كقوله عليه السلام : « إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس » (1) يشير إلى زرارة ، وقوله عليه السلام : « وأمّا ما رواه زرارة عن أبي [ جعفر عليه السلام ] فلا يجوز ردّه » (2) وفي حقّ محمد بن مسلم ، كقوله بعد السؤال عنه عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة : « فما منعك عن الثقفي - يعني محمد بن مسلم - فإنّه قد سمع عن أبي عليه السلام أحاديث وكان عنده وجيها » (3) وفي حقّ أبان كقوله : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا فما روى لك منّي فاروه عنّي » (4) وغير ذلك ممّا ورد في أمثال هؤلاء الأجلاّء في الدين الذين نطقت بعض النصوص في حقّ بعضهم : بأنّه لولاهم لاندرس آثار النبوّة ، مثل قول أبي محمّد في حقّ العميري (5) وابنه اللذين هما من النواب : « إنّهما ثقتان فما (6) أدّيا اليك عني - مخاطبا لأحمد بن إسحاق - فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (7).

ص: 602


1- الوسائل 18 : 104 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 19.
2- نفس المصدر ، الحديث 17.
3- نفس المصدر ، الحديث 23.
4- نفس المصدر ، الحديث 30.
5- كذا في النسخ ، وقد أكثر هذا الاستعمال فيما يأتي ، والصحيح هو « العمري » إشارة إلى « عثمان بن سعيد العمري » وابنه « محمد بن عثمان بن سعيد العمري » رحمه اللّه. انظر معجم رجال الحديث 16 : 5. ترجمة محمد بن عثمان بن سعيد.
6- في النسخ : « فيما » وهو سهو.
7- الوسائل 18 : 100 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 4.

وقسم منهما دلّ على جواز الأخذ بفتواهم ، مثل قول الباقر عليه السلام لأبان : « اجلس في المسجد وأفت للناس فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك » (1). ونحوها ما ورد في النهي عن الإفتاء بغير علم وغير اطّلاع بالناسخ والمنسوخ ضرورة دلالتها على الجواز إذا كان المفتي جامعا لشرائط الفتوى.

وقسم يشتمل (2) الفتوى والرواية مثل قوله عليه السلام لشعيب العقرقوفي بعد السؤال عمّن يرجع إليه : عليك بالأسدي ، يعني أبا بصير (3) ، وقوله لعلي بن المسيب بعد السؤال عمّن يأخذ منه معالم الدين : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (4) ، وقوله عليه السلام لعبد العزيز بن المهدي (5) لمّا قال : ربما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ قال : نعم (6). وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع ، ومنه قول أبي [ محمد ] لعميري (7) وابنه ما سمعت ، وإن كان ظاهره في الرواية دون الفتوى.

وأمّا الطائفة الثانية ، فمنها ما يدلّ على وجوب قبول الحكم عند الترافع مثل قول الصادق عليه السلام - في خبر عمر بن حنظلة المتلقّى بالقبول - : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فارضوا به

ص: 603


1- المستدرك 17 : 315 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 14.
2- كذا ، والمناسب : يشمل.
3- الوسائل 18 : 103 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 15.
4- الوسائل 18 : 106 ، الحديث 27.
5- كذا ، والصحيح : « المهتدي ».
6- الوسائل 18 : 107 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 33.
7- كذا ، والصحيح : « للعمري ».

حاكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه بحكم اللّه استخفّ ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه عزّ وجلّ » (1) ، ومثل قوله أيضا في خبر أبي خديجة : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم [ بعضا ] إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم حكما ، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه » (2).

ووجه الاستدلال بها على التقليد : إمّا لأنّ قبول الحكم يستلزم قبول الفتوى بالإجماع المركّب أو بالأولويّة كما قيل (3) ، فتأمّل.

أو لأنّ الترافع قد يكون من جهة اختلاف المتحاكمين في حكم اللّه ( تعالى ) فيكون قبول الحكم حينئذ متوقّفا على اعتبار فتواه في بيان الحكم الشرعي ؛ إذ لو لا ذلك لما حصل فصل للخصومة وهو واضح.

ومنها : ما يدلّ على جواز الرجوع إليهم من غير تقييد بالرواية أو الفتوى ، فيكون بإطلاقه دليلا على جواز التقليد لأهله كما يكون دليلا على جواز العمل بالرواية لأهله ، مثل قول الحجّة ( عجّل اللّه فرجه ) - في التوقيع الشريف لإسحاق بن يعقوب على ما عن كتاب الغيبة للشيخ ، وإكمال الدين للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي - : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه » (4) حيث إنّ الأمر بالرجوع إلى الرواة لو سلّم ظهوره

ص: 604


1- الوسائل 18 : 99 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 18 : 40 ، الباب الأول ، الحديث 5.
3- انظر مفاتيح الأصول : 598.
4- كتاب الغيبة : 291 ، الحديث 247 ، وكمال الدين : 484 ، الحديث 4 ، والاحتجاج 2 : 283 ، وعنها في الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.

في العمل بالرواية فمقتضى التعليل : « بأنّهم حجّة على الناس من قبل الإمام » وجوب الأخذ بفتاويهم أيضا ؛ لأنّ المجتهد يجب اتباعه في كلّ ما يخبر به ، سواء كان نفس الحكم الشرعي أو دليله ، بل يقتضي ذاك التعليل وجوب الرجوع إلى أقوالهم بعد موتهم أيضا ؛ لأنّ موت الحجّة لا يوجب سقوط اعتبار قوله ، ويدل عليه أيضا قوله عليه السلام : « وأنا حجّة اللّه » عقيب التعليل المزبور الدالّ على كون حجّيتهم مثل حجّيته عليه السلام ، فإنّ حياة الحجّة ومماته سيّان في اعتبار قوله.

ومنها : ما نصّ على جواز تقليد الفقيه الجامع لسائر شرائط الفتوى كالعدالة ، مثل ما في محكي الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه السلام في قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ ... ) (1) الآية الواردة في ذمّ عوام اليهود والنصارى في متابعة علمائهم في إنكار آيات النبوّة وآثارها ، وهو طويل لا بأس بذكره على طوله تيمّنا وتبرّكا بذكره ، وهو : أنّه « قال رجل للصادق عليه السلام : وإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ ما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟

فقال عليه السلام : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة :

أمّا من حيث استووا فإنّ اللّه تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم [ بتقليدهم علماءهم ](2) وأمّا من حيث افترقوا فلا.

ص: 605


1- البقرة : 78.
2- لم يرد في المصدر.

قال : بيّن لي يا بن رسول اللّه.

قال عليه السلام : إنّ عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح (1) ، وبأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات [ والعنايات ](2) وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون [ به ](3) أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه [ من ](4) تعصّبوا له من أموال غيرهم [ وظلموهم من أجلهم ](5) وعرفوهم يقارفون المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّه تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه تعالى ؛ فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في [ حكايته ](6) ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم ، وكذلك عوام امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، [ و ] بالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه تعالى

ص: 606


1- في المصدر : « الصراح ».
2- في الأصل : « والنسيانات ».
3- في الأصل : « اللّه ».
4- في الأصل : « لمن ».
5- في الأصل : « وظلمهم ».
6- من المصدر.

بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ، مخالفا لهواه (1) ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح [ والفواحش ](2) مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة.

وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل [ عنّا ](3) أهل البيت (4) [ لذلك ](5) ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون به عند شيعتنا ، وينتقصون بنا عند أعدائنا (6) ثمّ يضعون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها فيتقبّله المسلّمون [ المستسلمون ](7) من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا. اولئك (8) أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد [ لعنه اللّه ](9)

ص: 607


1- في الأصل والاحتجاج : « على هواه ».
2- من المصدر.
3- في الأصل : « منّا ».
4- في الأصل زيادة : « صلوات اللّه عليهم أجمعين ».
5- في الأصل : « لتلك ».
6- في المصدر : « نصّابنا ».
7- من المصدر.
8- في المصدر : « وهم ».
9- لم يرد في المصدر.

على الحسين بن علي عليهما السلام (1). انتهى الحديث الشريف ، دلّ بموضعيه على مشروعية التقليد في حقّ العوام.

أحدهما : لمّا أشكل عليه ظاهر الآية الواردة في ذمّ تقليد عوام اليهود لعلمائهم لما وجده من المسلّمات عند الشيعة من تقليد عوامهم لعلمائهم ، أجاب عليه السلام بابداء الفرق بين التقليدين لا بإنكار أصل التقليد الذي كان هو الأولى بالجواب لو كان التقليد أمرا فاسدا من أصله ، وهذا تقرير منه عليه السلام لما اعتقده من مشروعيّة التقليد.

والثاني : قوله عليه السلام : فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ... الخ فإنّه صريح في حجّية قول الفقهاء في حقّ العوام وجواز اعتمادهم على أقوالهم ، ومطلق في الدلالة على الحجّية في حال الحياة والممات.

ومثل ما عن المحاسن في محكي البحار قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « فبقول العلماء فاتبعوا » (2) إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبّع ، فإنّ المستظهر من جميع هذه الأخبار هو : أنّ فتوى الفقيه وقوله حكم ثانويّ في حق غيرهم من العوام الغير البالغين حدّ الفقاهة ، فلا يتفاوت حينئذ بين حال الحياة والممات.

وقد يستدلّ على ذلك بدعوى استفادة المناط القطعي من هذه الأخبار ، وبيانه : أنّه قد ثبت من هذه الأدلّة حجّية قول الحي في حق المقلّد ، وهذا

ص: 608


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 299 ، وحكاه عنه الطبرسي في الاحتجاج 2 : 262 ، مع اختلاف أشرنا إلى أهمّ موارده.
2- المحاسن 1 : 419 ، الحديث 961 ، وعنه في البحار 2 : 98 ، الحديث 51 ، وفيه : « فانتفعوا ».

ليس إلاّ لأجل كون قوله خبرا عن الواقع وكاشفا عنه. ولا يخفى أنّ صفة الحكاية غير زائلة عنه بمفارقة الحياة.

والفرق بين هذا وبين الاستدلال الأوّل : أنّ الاستدلال الأوّل مبنيّ على اندراج تقليد الميّت تحت إطلاق الأدلّة ، وهذا مبنيّ على اختصاصها بتقليد الحيّ مع اشتراك تقليد الميّت له في المناط المستظهر من عمومها ، وظاهر الوافية (1) أو صريحها هو الأول والثاني مما ذكره بعض الأصوليين.

وقد يستدل أيضا بما دلّ : على « أنّ حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (2) بعد ملاحظة هذه الأخبار وغيرها ممّا دلّ على أنّ قول الفقيه حكم ثانويّ في حق المقلّد ؛ إذ لا فرق في تأييد الأحكام وعدم تغيّرها بتغيير الأحوال والأزمان بين الحكم الأوّلي والثانوي ، وقد استدلّ أيضا (3) زيادة على الأخبار المزبورة بخصوص ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى ب- « يوم وليلة » بعد موته ، من قول أبي الحسن عليه السلام - بعد أن عرضه أبو جعفر الجعفري عليه ونظر فيه وتصفّحه كلّه - : « هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحق كلّه » (4) ، وقول أبي جعفر عليه السلام بعد التصفّح من أوله إلى آخره : « رحم اللّه يونس » (5). فإنّ الأوّل نصّ في جواز العمل بكتابه وهو ميّت ، والثاني ظاهر في التقرير على العمل به.

ص: 609


1- انظر الوافية : 305 - 306.
2- يدلّ عليه ما في الوسائل 18 : 124 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 47.
3- انظر الوافية : 305.
4- الوسائل 18 : 71 ، الباب 17 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 75.
5- الوسائل 18 : 71 ، الباب 17 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 74.

وهذه الأخبار معظم ما يتمسّك بإطلاقها على جواز تقليد الميّت ، وبقيّة الوجوه لشدّة ضعفها ليس ممّا يصلح لتوهّم الخروج عن أصالة حرمة التقليد بسببها قوة (1) الوجه العقلي الذي ستسمع.

والإنصاف : أنّها غير ناهضة في إثبات المدّعى ؛ إذ قد عرفت في الجواب عن الآيات : أنّ المقصود المتعارف من الأمر بالرجوع إلى الرواة والمحدّثين والعلماء والموثّقين ليس إلاّ بلوغ الحقّ إلى الجاهل وعلمه بما كان في جهل منه ، وأمّا إنشاء حكم ثانويّ تعبديّ ، وهو العمل بقولهم من دون حصول العلم والاعتقاد ، فهو بمراحل عن ذلك ، فلا دلالة لها على شرعيّة أصل التقليد فضلا عن تقليد الميّت ، ولذا قال صاحب المعالم : إنّ المعتمد من أدلّة التقليد إنّما هو الإجماع والضرورة ، وهما قاصران عن الدلالة على جواز تقليد الميّت (2) ، وقد حقّقنا هذا المعنى في مسألة أخبار الآحاد ، ومما يؤكّد ما قلنا : من كون المقصود منها تعليم الجهّال بالأحكام الشرعيّة زيادة على ما هو الغالب المتعارف في أمثال هذه الخطابات اشتمال بعض الروايات الخاصّة ، مثل ما ورد في حقّ يونس (3) وزكريا بن آدم (4) على لفظ « الثقة » و « الأمانة » ؛ فانّ اعتبار وصف الوثاقة والأمانة في المسئول عنه والمأخوذ منه - كما يقتضيه سوق الرواية ولو بملاحظة سؤال عبد العزيز الراوي عن كون يونس ثقة ليؤخذ عنه معالم الدين ، لا عن أصل جواز الأخذ - ممّا يشعر أو يدلّ على أنّ المقصود من

ص: 610


1- في العبارة خلل.
2- معالم الدين : 247 - 248 ، نقلا بالمعنى.
3- مرّ في الصفحة : 603.
4- مرّ في الصفحة : 603.

الرجوع إلى الرواة والموثّقين هو الوصول إلى الواقع ، لا تحصيل موضوع حكم ثانويّ تعبديّ ، أعني : قول المفتي من حيث نفسه وكذا يؤكّد مورد رواية الاحتجاج (1) المصرّحة بجواز تقليد الفقهاء التي هي أوضح الأخبار وأصرحها دلالة بما هو من أصول الدين ، أعني : أمر النبوّة ، مع اتفاق الأصحاب على عدم جواز التقليد فيها.

ومع التنزّل عن جميع ذلك نجيب عن الأخبار الخاصة : بأنّ أمر الإمام عليه السلام بالأخذ من زرارة وأبان وإسحاق ويونس وزكريّا والعميري ونحوهم ممّن أدركوا شرافة حضوره عليه السلام وأخذوا معالم الدين عنه بالسماع والشفاهة لا يدلّ على جواز الأخذ بقول كلّ من يفتى باجتهاده تعبّدا ؛ لأنّهم كانوا وسائط بين الإمام وبين سائر الخلق ، مثل وسائط عصرنا بين المجتهدين والمقلّدين من العدول والموثّقين. والأخذ من الواسطة ليس من التقليد له في شيء. نعم ربما يفتي الواسطة باجتهاده مثل قول الشيخ أبي القاسم بن روح الجليل حين سأله (2) عن كتب الشلمغاني : « أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب ابن (3) فضّال ، حيث قالوا : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » (4). لكن اجتهاد مثل هذه الأشخاص مستند إلى السماع عن الإمام عليه السلام عموما أو خصوصا قطعا ، فالعمل باجتهادهم ورواياتهم في مرتبة واحدة

ص: 611


1- مرّ في الصفحة : 607.
2- كذا ، والمناسب : سئل.
3- كذا ، والصحيح : بني.
4- انظر البحار 2 : 252 ، الحديث 72 ، والوسائل 18 : 103 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 13.

يجب على المقلّد والمجتهد على حدّ سواء ، فلا يقاس بهم غيرهم من المفتين الذين يفتون بغير سماع عن المعصوم.

ومن هنا يظهر أنّ ما ورد في حق عمري مثلا : من « أنّ قوله قولي وكتابه كتابي » (1) وأمثال ذلك في حقّ أمثاله لا يفيد حجّية الفتوى من كلّ من يفتي باجتهاده. كما يظهر : أنّ أمر أبان بالإفتاء بين الناس لا يقتضي جواز تقليد غير الوسائط ، ومن هذا الباب ما قيل (2) في حقّ علي بن بابويه : من أنّ الأصحاب كانوا يعملون بفتاويه عند إعواز النصوص.

ومع تسليم جميع ما ذكر منه لا دلالة فيها على جواز تقليد الميّت ابتداء كما لا يخفى.

وأمّا الأخبار العامة ، فيرد على أخبار الحكومة - بعد تسليم دلالتها على حجّية الفتوى - : أنّها بالدلالة على عكس المقصود ، أعني عدم جواز تقليد الميّت أولى ؛ لأنّ الحكومة لمّا كانت من المناصب الزائلة بالموت فتشاركه الفتوى في المنصبية والارتفاع بما يوجب ارتفاعها ، وعلى ما في التوقيع من قوله : « والحوادث الواقعة فارجعوا فيها ... الخ » إنّ الاستدلال به موقوف على كون المراد بالحوادث الواقعة مواضع التقليد من المسائل العمليّة ، وهذا غير معلوم ؛ لأنّ « اللام » في الحوادث « لام » عهد ، إشارة إلى الحوادث التي سأل عن حكمها إسحاق ، وسؤاله ليس بيدنا حتّى ننظر في المراد بها. ومن هنا ينقدح امتناع حمل « اللام » على الاستغراق الموقوف عليه تماميّة الاستدلال ؛ لأنّ عموميّة الجواب وخصوصيّته تابعان لعموم السؤال وخصوصيّته ، فإذا جهلنا عبارة السؤال ولم نعلم

ص: 612


1- كمال الدين وتمام النعمة : 485.
2- قاله الشهيد السعيد في الذكرى 1 : 51.

أنّ المراد به ما ذا من العموم أو الخصوص من بعض الحوادث؟ امتنع حمل الجواب على شيء منهما ، بل قد يتقوّى كون المراد بالحوادث شبه المسائل الاعتقادية من الامور المشكلة ، وذلك لأن إسحاق بن يعقوب يقول : « سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ » وإسحاق من أجلاّء الأصحاب ، وشأنه أجلّ من أن يشكل عليه أمر المسائل العمليّة التي هي موارد التقليد ولا يعرف تكليفه فيها حتى يسأل عن حكمها زمن الغيبة ، ويكون ذلك عنده من المشكلات ، مع أنّ الرجوع إلى العلماء في العمليّات كان ضروريّا لأغلب العوام فضلا عن الخواص ، ومما يؤيّده : أنّ التوقيع الشريف يتضمّن جملة من المسائل العلميّة : منها : قوله عليه السلام : « وأمّا ما سألت عنه - أرشدك اللّه وثبّتك - : من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين اللّه عزّ وجل وبين أحد من قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي ، وسبيله سبيل ابن نوح » (1).

ومنها : قوله عليه السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها السحاب عن الأبصار » (2) إلى غير ذلك مما اشتمل عليه التوقيع وليس من المسائل العملية مثل تكفير من قال : بأن الحسين بن علي عليهما السلام لم يقتل. فإنّ ملاحظة هذه الفقرات وأمثالها مضافا إلى جلالة قدر إسحاق عن أن يجهل التكليف في المسائل العمليّة التي يبتلي بها في كلّ ساعة أو يوم ممّا يفيد الظنّ بأنّ المراد ب- « الحوادث الواقعة » شيء وراء موارد التقليد ، قد خفي علينا باعتبار عدم ظفرنا بأصل السؤال وعبارته.

فإن قلت : سلّمنا بأنّ « الحوادث الواقعة » مجمل لكن عموم التعليل بقوله : « فإنّهم حجّتي عليكم » يدلّ على اعتبار قول الرواة والمحدّثين.

ص: 613


1- كمال الدين وتمام النعمة : 485.
2- كمال الدين وتمام النعمة : 485.

قلنا : لو سلّمنا ذلك ، فمن الواضح اختصاصه بقول الأحياء ؛ لأنّ مرجع الضمير هم الأحياء ، كما لا يخفى. وعلى ما في رواية الاحتجاج من قوله عليه السلام : « فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه (1) ... » : إنّ الاستدلال به موقوف على ثبوت الإطلاق بحسب الأحوال فيه ، بحيث يندرج فيه حالتا الحياة والممات ، وهو ممنوع :

أمّا أولا - فلأنّ كلمة « من » الموصولة ظاهرة في الأحياء ، فلو كان فيه إطلاق فإنّما هو بحسب حالات الأحياء ، فلا يتعدّى منها إلى حالة الموت.

وأمّا ثانيا - فلورود هذا الكلام [ في ](2) مقام بيان مشروعيّة أصل التقليد ردّا لتوهّم الرجل السائل من ظاهر الآية حرمة التقليد رأسا ، فلا إطلاق فيه بحيث يقتضي حجّية فتوى الميّت.

كل ذلك مع الغضّ عمّا في سند أكثر ما في هذه الأخبار من الضعف والإرسال ، خصوصا رواية الاحتجاج التي هي في أعلى مراتب الضعف ، وإلاّ فمن الواضح أنّ الخروج عن تحت الأصل المسلّم بين الكلّ بمثل هذه الضعاف سندا ودلالة مع مخالفة جلّ الأصحاب أو كلّهم ممّا لا يندرج تحت شيء من القواعد.

فقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ بعض هذه الأخبار - وهو الأكثر - لا دلالة له على مشروعيّة أصل التقليد رأسا ، والبعض الآخر على فرض دلالته عليه لا إطلاق فيه يشمل حالتي الحياة والممات ، بل إمّا مختصّ بظاهره بالأحياء ، أو ساكت من حيث الحياة والممات ، فلو تمسّك حينئذ بالاستصحاب ، فقد ظهر جوابه بما لا مزيد عليه.

ص: 614


1- تقدّم في الصفحة : 607.
2- اقتضاها السياق.

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عمّا ورد في كتاب يونس إذا نظر إليه : « هذا ديني ودين آبائي » فإنّ شيئا منهما لا يدلّ على كون ما في الكتاب حقّا صوابا مطابقا للواقع ، وأين هذا من الدلالة على جواز العمل بكتاب كلّ من أفتى في كتابه حسب الظنون الاجتهادية بامور يحتمل الصواب والخطأ ، وأيضا الظاهر أنّ ذلك الكتاب كان كتاب الرواية دون الفتوى.

وأمّا استدلال بعض (1) بما سمعت من أخبار « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » فهو أضعف من جميع الاستدلالات المزبورة لأنّ الحلال والحرام اسمان للحلال والحرام الواقعيين ، فلا يندرج فيهما التقليد التعبّدي الذي هو حكم ظاهري ، ولو سلّم صدقهما على ذلك فلا ريب أنّ تأبيد الأحكام لا يقتضي بقاءها بعد تغيّر العنوان وتبدّل المتعلّق ، فالوجوب الثابت للعمل بقول الحي لا يدلّ على وجوب العمل بقول الحيّ بحيث يدور مدار قول الحيّ ؛ فإن وجب العمل بقول الميّت أيضا فهو حكم آخر ثابت لموضوع آخر يحتاج إلى دليل آخر. ودعوى تنقيح المناط من هذه الأخبار : بأنّ المستظهر منها حجيّة قول الحيّ من حيث كونه حكاية عن الواقع ، وهذه الحيثية لا تفارق القول المزبور بمفارقته ، ففيه من الضعف الواضح ما ترى ؛ لأنّ مدخليّة الحياة في الحجيّة إمّا مظنون أو محتمل أو لا دافع لهذا الاحتمال لا من عقل ولا من نقل.

هذا تمام الكلام في الأدلّة اللفظية.

وقد استدلّ على الجواز بدليل عقلي وهو : أنّ قول الميّت مفيد للظنّ وكلّ ما يفيد الظنّ فهو حجّة في حقّ المقلّد.

ص: 615


1- مرّ في الصفحة : 609.

أمّا الصغرى فوجدانيّة ، وأمّا الكبرى فلدليل الانسداد : من أنّ التكاليف باقية وباب العلم منسدّ في حق المقلّد ، والظنّ الخاصّ مفقود ؛ لأنّ الدليل على جواز الأخذ بقول المجتهد تعبّدا مفقود ؛ إذ الأدلّة اللفظية من الكتاب والسنّة غير واضحة الدلالة ؛ لما فيها من المناقشات إلى ما شاء اللّه كما ظهر جملة منها ، ولو سلّم فلا يحصل منها إلاّ الظنّ المعلوم عدم حجّيته في إثبات الطريق الشرعي ، والأدلّة اللبّية من الإجماع والضرورة والسيرة غير ثابتة ؛ لأنّ السلف المعاصرين للإمام كان باب العلم في حقّهم مفتوحا ، وكانوا يعملون به ، والإجماع موهون بخلاف جملة من الأصحاب كفقهاء الحلب (1) والأخباريّين ، فلا مناص للعامي إلاّ الاعتماد على الظنّ كالمجتهد ؛ لأنّ الاقتصار على القدر المعلوم من الضرورة والإجماع من التكاليف يقتضي الخروج عن الدين ؛ لكونه في غاية القلّة. وإلزام الاحتياط يستلزم العسر والحرج.

وهذا الدليل احتجّ به الفاضل القمّي رحمه اللّه (2) على مختاره من جواز تقليد الميّت أو وجوبه إذا كان الظن الحاصل من قوله أقوى.

وفيه :

أولا : أنّه لو تمّ فانّما يقتضي تقليد الميّت إذا كان الظنّ الحاصل من قوله أقوى من قول الحيّ. وأمّا في صورة التساوي فلا إلاّ بضميمة دعوى عدم القول بالفصل ، لأنّ العمل بقول الميّت مع وجود الحي المساوي موقوف على حكم العقل بالتخيير بينهما ، والتخيير العقلي لا يجتمع مع احتمال المرجّح. وما ذكر من الأدلّة لو لم يقتض تعيّن قول الحيّ وترجّحه على قول الميّت ،

ص: 616


1- كذا ، والمناسب : حلب.
2- القوانين 2 : 265 - 270.

فلا أقلّ من قيام الاحتمال ، ومع قيامه لا يحكم العقل بالتخيير جدّا ، بل يأخذ بالقدر المتيقّن.

ودعوى الاجماع المركب أو عدم القول بالفصل إنّما يناسب ممّن يعترف بكون جواز أصل التقليد إجماعيّا ، وإلاّ فاتفاق طائفة من الأصحاب القائلين بجوازه على عدم القول بالفصل مع خلاف من يقدح خلافه في انعقاد الإجماع على أصل التقليد لا حجّية فيه ، مثل عدم حجّية اتّفاقهم على أصل التقليد ، والمفروض أنّ المستدلّ أحد مقدّمات دليله عدم ثبوت الإجماع على جواز التقليد. وحينئذ فلنا قلب الإجماع المركّب ؛ لأنّ الأخذ بقول الحيّ عند التساوي قضيّة الأصل الأوّلي المسلّم بين الكلّ فيتمّ في صورة الاختلاف في مقدار الظنّ بالإجماع المركّب من قول المجمعين على أصل التقليد ؛ لأنّ مخالفة نادر ممّن سبق إلى ذهنه الشبهة لا يقدح في ثبوت الإجماع عندنا معاشر المانعين ، فليتدبّر جيّدا.

وثانيا : أنّ إنكار الظنّ الخاصّ يمنع قيام الدليل على حجيّة قول المفتي في حق المقلّد تعبّدا مكابرة واضحة ؛ لأنّ جواز تقليد العامي في الجملة معلوم بالضرورة من المذهب بل من الدين ، كسائر الأحكام الضروريّة ، مثل وجوب الصلاة والصوم يتحقّق موجبها من مسيس الحاجة وتوفّر الدواعي واستقرار طريقة السلف المعاصرين للإمام عليه السلام ، والخلف : من العالم والجاهل والشريف والوضيع إلى يومنا هذا عليه ، فإنكار نادر ممّن اختلّ طريقته كالأخباريين ليس إلاّ كإنكار من منع عن ثبوت التكاليف الشرعيّة في حقّ الواصلين إلى درجة اليقين من حيث عدم القدح في انعقاد الإجماع ، وأمّا إنكار بعض فقهاء حلب ، فمع عدم منافاته لانعقاد الإجماع في هذا اليوم على طريقة المتأخّرين من دورانه مدار الكشف ، فلعلّه لأجل بعض الشبهات السابق إلى أذهانهم.

ص: 617

ثمّ اعلم ، أنّه إذا فرغنا من وجوب التقليد على العامي واختلفنا في وجوب تقليد الحي وعدمه ، فوظيفة العامي أوّلا الرجوع إلى الحيّ حتّى على القول بجواز تقليد الميّت ، فلا يجوز له الرجوع إلى الميّت ابتداء ، وقد أشار إلى ذلك صاحب المعالم (1). والسرّ في ذلك هو : أنّ العامي إذا علم أنّ تكليفه هو التقليد ، ولم يعلم أنّه مكلّف بتقليد الحي ، أو يجوز له تقليد الميّت وجب عليه بحكم العقل الأخذ بالقدر المتيقّن المعلوم ؛ لأنّ العمل بالمشكوك فيه لا بدّ له من دليل ، ولا دليل للعامي عليه من إجماع أو ضرورة أو نحو ذلك من القطعيّات ، وهذا واضح.

وثمرة البحث في جواز تقليد الميّت إنّما هي للمجتهد إذا سأله العامي عن حكم تقليد الميّت. وهذا الكلام في جميع الشروط الخلافية في المفتي.

ولو اختلفا في وجوب أصل التقليد ودار تكليف العامي بينه وبين العمل بالظنّ ، وجب عليه أوّلا : النظر في أدلّة التقليد ؛ لأنّ ذلك الدليل العقلي يتوقّف على فقد طريق شرعيّ له إلى الأحكام ، فلا يجوز له العمل بذلك الدليل إلاّ بعد الفحص واليأس عن قيام الدليل القطعي على حجيّة بعض الطرق ، كما لا يجوز العمل بأصل البراءة قبل الفحص عن المعارض ، ومن الواضح أنّ المقلّد ليس من أهل النظر في الأدلّة ، فينحصر تكليفه في الاحتياط أو الرجوع إلى الأحياء في أخذ مدارك التقليد ، ثمّ النظر فيها ، فإن بقي له بعد ذلك شكّ أخذ بالظنّ في هذه المسألة الأصوليّة.

فهذا الدليل على فرض تماميّته إنّما يجدي للمجتهد في الفتوى بتقليد الموتى مع حصول الظنّ ، دون العامي القاصر.

ص: 618


1- معالم الدين : 247 - 248.

وثالثا : أنّ غاية ما يلزم من تماميّة هذا الدليل : أنّ تكليف العامي هو العمل بالظنّ ، ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل من فتوى المعظم بعدم جواز تقليد الميّت ، ومن الإجماعات والشهرة والأخبار والآيات مانع بالنسبة إلى الظنّ الشخصي الحاصل له في خصوص المسألة الفرعيّة من قول الميّت ، وقد اشتهر بين الاصوليين : أنّه إذا تعارض الظنّ المانع والممنوع وجب الأخذ بظنّه المانع مطلقا ، سواء كان أضعف من الظنّ الممنوع أم أقوى ، وعلى القول بوجوب الأخذ بأقوى الظنّين منهما نقول : إنّ الظنّ المانع هنا أعني الظنّ الحاصل من الإجماعات ومصير الجلّ أو الكلّ المتعلّق بحرمة تقليد الموتى أبدا أقوى من الظنّ الحاصل من فتوى الحيّ فضلا عن الميّت.

وبالجملة : هذا الدليل على فرض تماميّته يقتضي وجوب الأخذ بفتوى الحيّ لأنّ الظنّ الحاصل من قول الميّت مظنون عدم اعتباره بملاحظة الإجماعات بالظنّ الأقوى.

ورابعا : أنّ مفاد هذا الدليل ، أعني : وجوب العمل بالظنّ على العامي ، سواء كان حاصلا من قول الحيّ أو الميّت ، مما لم أجد قائلا بها (1) سوى الفاضل القمّي رحمه اللّه ولذا ادعى غير واحد (2) من المطّلعين على قوله الإجماع المحقّق على خلافه ، ولعلّ سرّه : أنّ هذا القول منع لأصل التقليد رأسا مثل قول الأخباريين. فإنّ العمل بقول الميّت لأجل الظنّ الحاصل منه ليس تقليدا للميّت تعبّدا كما لا يخفى ، فهذا القول يمكن إبطاله باتّفاق كلّ من أجاز التقليد من حيث كونه تقليدا.

ص: 619


1- كذا ، والمناسب : به.
2- انظر الفصول : 415 ، ومناهج الأحكام والأصول : 301.

ثمّ من أعجب العجائب أنّ صاحب الوافية (1) استدلّ على جواز تقليد الميّت : بالعسر والحرج المنفيّين ، فهما يندفعان به ، قائلا : بأنّ العسر كما يندفع بتقليد الحيّ كذلك يندفع بتقليد الميّت.

وجوابه من الواضحات يعرفه القروي والبدوي.

هذا فراغ كلامنا عن وجوب تقليد الحي ، ومن شاء فليتخذ مع الحق سبيلا.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّه لا فرق عندنا وعند المشهور في اشتراط حياة المجتهد بين التقليد الابتدائي والاستمراري ، ولكن حدث لبعض مشايخنا في الأصول - كصاحب الفصول (2) وبعض من يقاربه في الزمان (3) - قول بالفصل بينهما ، فذهبوا إلى عدم الاشتراط في الثاني زاعمين أنّه غير مندرج تحت إطلاق كلمات المانعين ، ولم نجد لهذا التفصيل مصرّحا من الأوائل والأواسط ، غير أنّ شارح الوافية (4) نسبه إلى ميل بعض المتأخرين ثمّ استقربه ، بل الظاهر من كلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات عدم الفرق بينهما كما ستعرف ، حتّى أنّ سوق كلام صاحب الوافية مما يشعر بحداثة ذلك التفصيل الذي مال إليه بعض المتأخّرين

ص: 620


1- الوافية : 305 - 306.
2- الفصول : 422.
3- مفاتيح الاصول : 624.
4- شرح الوافية : 471.

حيث لم ينسبه إلى أحد من المتقدّمين ، مع أنّ بناءه كان على استيفاء الأقوال ، كما يرشد إليه نقل قول الشيخ سليمان والعلاّمة الجرجاني والشيخ علي بن هلال (1) بجواز الأخذ من كتب المجتهدين بعد الأخذ بقول الحيّ أو قول من يحكي عنه ، وإن أردت أن تطمئن نفسك بصدق كلامنا هذا ، فعليك بالمراجعة إلى أدلّة المثبتين والمانعين تجد بعضها مطلقا بالنسبة إلى الابتداء والاستدامة وبعضها مصرّحا بعدم الفرق بينهما.

قال السيّد الجزائري - فيما حكي عن بعض رسائله في مقام الاستدلال على الجواز مطلقا - : الخامس - يعني من أدلة الجواز - : إذا أخذ المقلّد مسألة من الفقيه الحيّ ، وكان مصاحبا لذلك الفقيه مطّلعا على أحواله وتبدّل آرائه فأفتاه بحكم مستنده النصّ والإجماع ، فعمل به واستمرّ عليه إلى بعد صلاة المغرب ، فمات ذلك الفقيه بين الصلاتين فعمل بتلك الفتوى في صلاة العشاء ، فتكون بناء على ما قلتم صحيحة وصلاة العشاء باطلة ، فنحن نسأل من بطلان هذه الصلاة الموافق حكمها للنصّ والإجماع؟ ولا يستندون في إبطالها إلى شيء سوى موت ذلك الفقيه ، فحينئذ فاللازم كونه شريكا في الأحكام الشرعيّة ، وهذا لا ينطبق على أصولنا. نعم ، يوافق ما ذهب إليه الكرخي ، حيث يقول في مسجد الكوفة : قال علي وأنا أقول ، يعني خلافا لقوله. وأمّا علماؤنا ( رضوان اللّه عليهم ) فإنّهم يحكون كلامه ويعملون به ، فلا تفاوت في اتّباع أقوالهم بين حياتهم وموتهم (2). انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

ص: 621


1- نقله السيّد الصدر في شرح الوافية : 470 - 471.
2- حكاه السيّد الصدر في شرح الوافية : 472.

وفيه من الصراحة في دخول البقاء على تقليد الحيّ بعد موته تحت النزاع ما ترى ، إذ لو لا ذلك لكان الاستدلال أجنبيّا حيث لا يلزم ذلك إلاّ جواز تقليد الميّت استدامة ، ومع خروجه عن تحت كلام المانعين كان التقريب ممتنعا.

وأصرح منه كلام السيّد المحقّق الكاظميني في شرحه على الوافية ، حيث تصدّى لجواب هذا الدليل بالنقض بما إذا تغيّر رأي المجتهد بين الصلاتين ، فلو كان البقاء على التقليد خارجا عن محلّ النزاع غير مشمول لإطلاق كلام المانعين ، كان الأولى (1) تسليم البقاء على التقليد ومنع استلزامه ثبوت المدّعى ، أعني التقليد الابتدائي.

ومثلهما في الصراحة ، بل وأصرح ما ذكره السيّد أيضا في الشرح المزبور في جواب استدلال المجوّزين من العامة : « بأنّ موت الشاهد لا يبطل شهادته ، وكذا فتواه » حيث قال :

أولا : أنّ الشاهد إذا شهد عند القاضي ثم مات قبل الحكم فحكم بعد ذلك بمقتضى تلك الشهادة فليس ذلك من القاضي اعتدادا بقول الميّت وشهادته ، بل بما أصاب من العلم المحرز عنده.

ثمّ لمّا رأى عدم نهوض هذا الجواب في الفرق بين قبول الشهادة والتقليد الاستمراري ، عدل عنه فقال : وأقرب من ذلك وأسلم منه هو : أنّ الكلام في تقليد الميّت واقتفاء أثره واتباعه فيما ظنّ واستنبطه لا في اعتبار خبره وذلك أنّ الأوّل قد يعارض بتقليد الميّت فيما تناوله حيّا (2) انتهى.

ص: 622


1- في الأصل : « أولى ».
2- لا يوجد لدينا.

فانّ هذا الكلام في غاية الصراحة في دخول الاستمراري تحت النزاع كالابتدائي.

وكيف كان ، فالحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه هو القول المشهور من عدم الجواز مطلقا.

لنا على ذلك أمران :

الأصل المقرّر فيما تقدّم بوجوه ثلاثة.

وإطلاق الإجماعات المزبورة الشاهد على صدقها التتبع في كتب السلف والخلف على ما سنبيّن من فساد توهّم عدم تناولها للاستمراري ، مضافا إلى بعض الوجوه المتقدمة : مثل انعقاد الإجماع على خلاف الميّت دون الحي ، ومثل دوران حجيّة قول المفتي مدار ظنّه الزائل بالموت على ما اتّضح هناك وغيرهما ، كما يظهر بالتأمّل ؛ فإنّ هذه الوجوه على فرض تماميّتها شاملة لمحلّ البحث بل لو سلّم عدم تماميّتها في نفسها فهي ما تشهد باندراج محلّ البحث تحت قول المانعين ؛ لأنّ عموم الحجيّة وإطلاقها دليل على عموم المحجوج له.

وللقول بالجواز أيضا وجوه :

منها : الاستصحاب ، وقد يقرّر تارة بالنسبة إلى نفس المسألة التي نحن فيها ، ويقال : إنّ المقلّد كان له تقليد مجتهده حال حياته ، وارتفاع هذا الحكم بموته غير معلوم ، والأصل يقتضي البقاء.

أو يقال : إنّ المجتهد كان ممّن يجوز الاعتماد على قوله ، والأصل البقاء إلى القطع بطروّ المزيل.

وهذان الاستصحابان قد ظهر جوابهما فيما تقدّم (1) بما لا مزيد عليه : من أنّ

ص: 623


1- راجع الصفحة : 587.

الجائز في حقّ المقلّد إنّما كان الأخذ بظنّ المجتهد الحي ، وإذا مات تغيّر الموضوع ، إمّا لزوال الظنّ ، كما حقّقنا وبرهنّا عليه ، أو لزوال الحياة. وتفصيل ذلك مطلوب من هنالك (1).

واخرى بالنسبة إلى الحكم الشرعيّ الثابت في حقّه للواقعة المعيّنة الفرعيّة ، مثل حرمة العصير ونجاسة الغسالة وأمثالهما. ويقال : إنّ العصير قد كان محرّما عليه قبل موت مجتهده. والأصل بقاء الحرمة ؛ لعدم العلم بالمزيل. وهكذا الكلام في نجاسة الغسالة وسائر ما قلّده فيه من المسائل الفرعيّة ، مثل وجوب السورة ونحوها.

وجوابه أيضا يظهر من التأمّل في جواب الأوّل ؛ لأنّ حرمة العصير في حال حياة المفتي لمّا كانت مستندة إلى ظنّه فلا جرم من زوال موضوعها بالموت.

وبيان هذا الإجمال زيادة على ما سبقت إليه الإشارة الإجماليّة في التقليد الابتدائي : أنّ الحكم الثابت للموضوع كالعصير ، تارة يكون من جهة كونه عصيرا واخرى من حيث كونه ممّا تعلّق بحرمة ظنّ المجتهد الحي.

فإن كان الأوّل ، فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه عند الشك في طروّ ما يزيله ، ولكنّه منحصر في القطعيّات التي نعلم بالحكم الشرعي فيها من ضرورة أو إجماع ، إذ لا ملازمة بين الظنّ بالحكم وبين ثبوته في الواقع حتّى في نظر الظانّ إلاّ بعد قيام دليل قطعيّ يفيد الملازمة التي مرجعها إلى وجوب العمل بالظنّ تعبّدا. وحينئذ فالحكم يدور مدار ذلك الظنّ الذي دلّ ذلك الدليل القطعي على اعتباره.

ص: 624


1- كذا ، والأنسب : هناك.

وإن كان الثاني ، فإجراء الاستصحاب فيه ممتنع عند تغيّر الحيثيّة التي كان الحكم ثابتا للعصير من جهتها ؛ لأنّ المتيقّن في الزمان الأوّل - يعني قبل ممات المجتهد - إن كان حرمة العصير من حيث كونه متعلّق ظنّ الحيّ لا من حيث كونه عصيرا ، فإن أردت بقولك : « إنّ العصير قد كان حراما » : أنّه كان حراما من حيث ذاته ، فقد كذبت ؛ لأنّ حكم ذات العصير من حيث كونه عصيرا غير معلوم ، وإنّما ظنّ به المقلّد من قول المجتهد. وإن أردت به أنّه كان حراما من حيث تعلّق ظنّ المجتهد الحيّ به ومن جهة كون الاجتناب عنه من جزئيّات اتّباع ظنّ المجتهد الحيّ ، فمسلّم معلوم متيقّن في الزمان السابق ، لكن الموت يوجب تبدّل موضوع هذا الحكم الظاهر إمّا بزوال أصل الظنّ ، كما هو الحقّ ، أو بزوال الحياة إلى موضوع آخر ، ومن الواضح أنّ حكم شيء من الموضوعات لا ينسحب بسبب الاستصحاب إلى موضوع آخر ، وبعبارة اخرى : إن أردت استصحاب الحكم الواقعي فلا يقين به في الزمن السابق ، وأن : أردت استصحاب الحكم الظاهري الذي موضوعه ظنّ الحيّ ، إمّا بدعوى كونه قول المفتي ، يعني إخباره عن الواقع كالرواية التي هي موضوع لوجوب عمل المجتهد بها ، أو بدعوى كونه مظنون المجتهد في أحد الأزمنة ، أو كونه ظنّ المجتهد سواء كان حيّا أو ميّتا مع دعوى بقاء الظنّ بعد الموت ، فمع قيام أدلّة واضحة على بطلان كلّ من هذه الاحتمالات - كما ظهر طائفة منها من تضاعيف الكلمات الماضية - نقول مماشاة : إنّ هذه الدعاوي ليست ممّا قام على شيء منها دليل واضح ، بل مقتضى أدلّة التقليد كون الموضوع ما قلنا : من ظنّ الحيّ ولو من جهة التمسّك بالأصل الذي قد عرفت عدم قيام دليل وارد عليه ، فغاية ما في الباب صيرورة حكم السابق مشكوكا ، وقد قرّرنا واخترنا في محلّه عدم حجّية الاستصحاب عند الشك في الموضوع.

ص: 625

ومنها : ظواهر الآيات والأخبار الدالّة على جواز التقليد ؛ فإنّ المستفاد منها ثبوت الحكم المقلّد فيه في زمن المقلّد ؛ إذ لم يشترط في وجوب الحذر الإنذار ، والمدلول عليه بآية النفر بقاء المنذر. ولم يقيّد إطلاق الأمر بالتعويل على أقوال العلماء بصورة بقائهم.

وفيه :

أوّلا : منع دلالتها على أصل التقليد ، وسند المنع بالنسبة إلى كلّ واحد منها قد مرّ سابقا (1).

وثانيا : منع إطلاقها بالنسبة إلى صورة البقاء وعدمه ، لأنّ ما عدا آية النفر لا يدلّ على وجوب [ قبول ](2) قول العالم إلاّ من باب الاستلزام العرفي ، من حيث إنّ الأمر بالسؤال والرجوع إلى العالم لو لم يقصد منه القبول بعد السؤال لكان لغوا. وهذا الاستلزام أمر معنويّ لا إطلاق فيه بالنسبة إلى شيء من الأحوال فضلا عن حالتي الحياة والموت.

وأمّا آية النفر فغاية ما يفيده ذيلها من قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وجوب القبول من المنذرين الأحياء ، فإمّا يدلّ على اشتراط وجوب الحذر ببقاء المنذرين كما نقول ؛ نظرا إلى تقدير الحذر مقدار الإنذار القائم بنفس الأحياء ، فهو المدّعى أو لا يدلّ على شيء من الاشتراط وعدمه ، بل على ثبوت الحكم في حال حياتهم في الجملة ، فإن كان الأوّل ، كانت الآية دليلا على اشتراط الحياة. وإن كان الثاني ، فلا بدّ في إثبات الحكم عند تغيّر هذه الحالة من التمسّك بالاستصحاب الذي قد عرفت جوابه ؛ لأنّ احتمال مدخليّة بعض الأحوال

ص: 626


1- راجع الصفحة : 593 - 615.
2- الزيادة اقتضاها السياق.

في الموضوع ما لم يدفع بالدليل يكفي في عدم جريانه عند تغيّر تلك الحالة.

والحاصل : أنّ الآية إنّما تدلّ على اشتراط الحياة أو ساكتة عنه ، وعلى التقديرين يسقط الاستدلال بالإطلاق.

وثالثا : أنّها على فرض دلالتها على جواز البقاء مخصّصة بما سمعت : من إطلاق معاقد الإجماعات التي هي على فرض حجّيتها يحتجّ بإطلاقاتها مثل إطلاق الرواية ؛ لأنّ البقاء على تقليد الحيّ بعد موته عمل بقول الميّت واستناد إليه ، كما هو ظاهر ، فيندرج تحت ما انعقد على بطلان العمل بقوله من الإجماعات الصريحة أو المستفادة من نفي الخلاف المستظهر بالتتبع ، مثل ما سمعت عن المسالك والمعالم وابن [ أبي ] الجمهور الأحسائي وغيرها ، ومنع كون البقاء على التقليد بعد الموت عملا بقوله مكابرة واضحة ، فإنّ العمل بقول الغير في العبادات عبارة عن تطبيقها على ما يقتضيه قوله من الكيفية فالانطباقات العارضة لأشخاص الأعمال المختلفة بتشخّصاتها يصدق على كلّ واحد منها : أنّه عمل بقول الغير ، كما يصدق العمل على كلّ واحد من معروضات تلك الانطباقات.

ومن هنا يظهر الكلام في الأخذ الذي اشتمل عليه بعض العبائر ، النافي للخلاف في عدم جوازه من الميّت ، كعبارة الألفيّة (1) المتقدّم إليها الإشارة ، لأنّ الأخذ والعمل والاعتماد والاستناد ونحوها من الأفعال القابلة للاستمرار ، مثل العقود والجلوس ابتداؤها واستمرارها سيّان في الاندراج تحت أساميها ؛ إذ ليست هي من الامور الآتية التي انحصر مصاديقها فيما يوجد منها في الآن الأوّل ، ألا ترى أنّه لو نهى عن الجلوس في دار الميّت وجب عليه الخروج

ص: 627


1- الألفية والنفليّة : 39.

عنها إذا كان قد جلس فيها حال حياة صاحبها ، وإلى هذا ينظر حكم الفقهاء بالضمان لو انقلبت يد الأمانة إلى العدوان.

ومما ذكرنا ظهر أيضا فساد ما في الفصول (1) : من منع صدق عنوان التقليد على البقاء بدعوى انصرافه إلى الابتدائي أو دعوى كونه حقيقة فيه ، فإنّ دعوى الانصراف لا مستند لها من غلبة ونحوها ، ودعوى التجوّز في الاستمراري يدفعها : أنّ التقليد إمّا عبارة عن نفس العمل أو الأخذ للعمل ، وقد عرفت : استمرار الأخذ أخذ ، واستمرار العمل عمل ، مضافا إلى قلّة جدوى هذه الدعوى بعد ندرة ما اشتمل على لفظ « التقليد » من العبارات الظاهرة أو الصريحة في دعوى الإجماع ، كما قدّمنا ذكر طائفة منها في صدر المسألة ، فإنّها بين ما يدلّ على بطلان العمل وما يدلّ على عدم جواز الاستناد ، وما يدلّ على عدم جواز الأخذ.

نعم في محكي الرسالة المنسوبة إلى الشهيد الثاني : أنّه لا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين ، فإنّهم ذكروا في كتبهم الأصولية والفقهيّة قاطعين فيه بما ذكرنا : من أنّه لا يجوز النقل عن الميّت ، وأنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف أجد فيها (2).

ولم أجد غيره ما (3) اشتمل على لفظ « التقليد » غير ما سمعت من القاساني (4) : من نقل الإجماع عن ظاهر الاصوليين على عدم جواز تقليد الميّت.

ص: 628


1- الفصول : 422.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 44.
3- كذا ، والمناسب : ممّا.
4- مفاتيح الشرائع 2 : 52.

فإن قلت : سلّمنا أنّ البقاء على التقليد تقليد ، وأنّ استمرار الأخذ أخذ ، لكن ندّعي أنّ القول ليس قول الميّت ، بل الحيّ ، فإنّ صدور القول عنه لمّا كان في حال الحياة فلا جرم من كونه منتسبا إلى الحيّ ؛ إذ الميّت ليس بقائل بصدور شيء عنه.

قلنا : فلا معنى حينئذ لقولهم : لا يجوز العمل بقول الميّت حتى في الابتداء ؛ لأنّ القول ينحصر على هذا التقدير في قول الحي. وأيضا ، لا وجه حينئذ لمنع شمول أدلّة التقليد لتقليد الميّت ابتداء ؛ فإنّ الأخذ بقول الميّت حقيقة أخذ بقول الحي مع أنّ المفصّلين معترفون بعدم الشمول.

والحاصل : هذا كلّه في دلالة الإجماعات وأمّا اعتبارها وحجّيتها في المقام ، فقد ظهر ما يدلّ عليه بما لا مزيد عليه : من أنّ هذه الإجماعات الشاهد على صدقها التتبع واعتراف أمثال الشهيد : بأنّه لا قائل من أصحابنا السابقين بجواز تقليد الميّت ، يوجب الكشف القطعي إمّا بدليل دلّ على دعوى واحد من المعتبرين الإجماع في المسألة ، فكيف عن هذه الإجماعات المستفيضة.

ومنها : السيرة فإنّ جريان عادة السلف والخلف على بقاء تقليد المجتهدين بعد موتهم أمر معلوم لا ينبغي أن ينكر وإلاّ لوصل إلينا العدول لتوفّر الدواعي من كثرة ابتلاء الناس بموت المجتهدين ، ولم يعهد إلى الآن من أهالي أعصار الأئمة العدول إلى تقليد الحي بعد موت المجتهد.

وفيه من المنع ما ترى ، لأنّ الناس في زمن الأئمة كانوا بين أصناف ثلاثة :

فمنهم من كان يأخذ معالم دينه من الإمام بلا واسطة.

ومنهم من كان يأخذ بروايات الموثّقين من أصحابهم وبفتاويهم التي هي بمنزلة الرواية ويجتهد فيها.

ومنهم من كان يأخذ منهم الفتوى ويعمل بها تعبّدا.

ص: 629

ونحن ندّعي أنّ أغلب الناس - لو لم يكن كلّهم - كانوا بين القسمين الأوّلين ، وإن كان الثاني منهما أغلب ؛ لسهولة الاجتهاد في ذلك الزمان ، وإمكان تحصيل العلم أو الظنّ المعتمد ، وأيّ دليل دلّ على أنّ الفرقة الثالثة قد استمرّوا على تقليد مجتهديهم بعد موتهم وعلمه الامام ولم يردعهم؟

مضافا إلى أنّ تقليد هؤلاء أيضا ربما يفارق تقليد عوامنا لعلمائنا من حيث إنّ ذلك التقليد كان أخذا من الواسطة ، فلا يقاس به الأخذ ممّن يفتي بظنونه الاجتهادية من دون الاستناد إلى السماع عن الإمام ؛ لأنّ الأخذ ممّن سمع عن الإمام عليه السلام أو ممّن سمع عن المجتهد من عدول زماننا ليس من التقليد له في شيء ، كما أوضحناه فيما تقدّم.

ومنها : لزوم العسر والحرج الشديدين لو الزم على (1) المقلّد بالعدول ، فإنّ تعلّم المسائل أمر صعب وموت المجتهد أمر ذائع ، فلو وجب العدول عن التقليد بموت المجتهد لزم العسر الواضح والحرج البيّن المنفيّان في الشريعة.

وجوابه : المنع ؛ لأنّ وجوب الرجوع مخصوص بموارد الخلاف ، وهي ليست بمثابة توجب العسر والحرج.

وأمّا الاطّلاع على الخلاف والوفاق فربما يمكن تحصيله في يوم أو يومين بمطالعة الرسالة أو السؤال ونحوهما وأيّ فرق بينه وبين من أراد التقليد في ابتداء بلوغه ، مع أنّ ابتداء التقليد فيه من الصعوبة ما ليست في العدول ، فلو كان في العدول حرج مسقط للتكليف لكان في ابتداء التقليد أشدّ وأولى. نعم لو ألزمنا عليه نقض الآثار السابقة الواقعة على حسب فتوى الأوّل التي تخالفها فتوى الثاني ، وتجديد الأعمال قضاء أو إعادة كما هو الحقّ عندنا - على ما سبق بيانه في

ص: 630


1- كذا ، والظاهر زيادة « على ».

مسألة الإجزاء - فإن اقتضى العدول العسر والحرج سقط التكليف به بالنسبة إلى خصوص نقض الآثار ، وأمّا البقاء على التقليد في تلك المسألة في مستقبل الزمان فلا ، لأنّ العسر الثابت في نقض الآثار لا يقتضي سقوط التكليف بالعدول بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة ، ومن هنا يظهر : أنّ الاستدلال بلزوم العسر والحرج بناء على وجوب نقض الآثار على تقدير العدول على جواز البقاء على التقليد ليس في محلّه.

وأمّا ما يقال : من أنّ عسر العدول ليس لما فيه نفسه بل في تكراره مقدار تكرار موت المجتهد لإمكان موت المجتهد الثاني الذي اختاره في التقليد أيضا ، ثمّ الثالث ، ثمّ الرّابع إلى ما شاء اللّه ، وأنّه الفارق بينه وبين الشروع في التقليد ابتداء ، ففيه :

أوّلا : أنّ العدول لكونه أمرا هيّنا يمكن الالتزام به في كلّ سنة مرّة أو مرّتين من غير أن يكون فيه حرج ، فكيف عن الالتزام به في تمام العمر كذلك.

وثانيا : أنّ العسر حينئذ يدور مدار شيء لا يعلمه إلاّ اللّه ، أعني موت المجتهد ، فليس للمقلّد ترك العدول الذي فيه مقتضى الوجوب ، لاحتمال أدائه إلى الحرج بسبب احتمال موت مجتهده الثاني والثالث.

ثمّ اعلم أنّ القائلين بالبقاء اختلفوا في وجوبه وجوازه ، وأكثرهم على الأوّل ، والتحقيق - على تقدير عدم وجوب العدول - : هو الثاني ، لأنّ عدم جواز العدول عن تقليد مجتهد إلى آخر لا دليل عليه معتدّا به سوى الإجماع وقاعدة الاحتياط التي مرجعها إلى الأخذ بالمتيقّن فيما خرج عن تحت أصالة حرمة التقليد ، وشيء منها لا يجيء في المقام ، أمّا الإجماع فظاهر ؛ لأنّ الإجماع - قد عرفت - على وجوب العدول هنا ، وأمّا الاحتياط - فلدوران

ص: 631

الأمر بين المحذورين - وجوب البقاء ، ووجوب العدول. ولو تمسّك باستصحاب الوجوب حينئذ ففيه ما عرفت في نظائره غير مرّة.

واستدلّ صاحب المفاتيح (1) على الجواز بالاستصحاب ، ثمّ أورد على نفسه : بأنّ هذا الجواز كان في ضمن الوجوب ، فإذا ارتفع الفصل ارتفع الجنس. ثمّ أجاب عنه : بأنّ الجواز حكم وضعيّ عبارة عن صحّة التقليد ، بمعنى كونه مجزيا عن اشتغال الذمّة. والوجوب حكم تكليفيّ ، ولا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر.

ثمّ أورد عليه أيضا : بأنّ الحكم الوضعي هنا إنّما استفيد من الحكم التكليفي ، فلا يتفاوتان.

ثمّ أجاب عنه :

أوّلا : بالمنع ، قائلا : بأنّ مجرّد الشك يكفينا في التمسّك بالاستصحاب.

وثانيا : بأنّ التبعيّة إنّما هي في ابتداء التقليد ، ونمنعه في التقليد الاستمراري.

وأنت إذا تأمّلت في أطراف هذا الكلام تجدها مواضع للنظر.

الثاني : الظاهر أنّ سائر شروط الإفتاء من الإيمان ، والإسلام ، والعدالة ، والعقل ، والعلم مثل الحياة في كونها شرطا في الابتداء والاستدامة ، وبه نصّ المحقّق الثاني في محكي حاشية الشرائع ، قال : ومتى عرض للفقيه العدل فسق - العياذ باللّه - أو جنون أو طعن في السن كثيرا بحيث اختل فهمه امتنع تقليده ؛ لوجود المانع. ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ؛ لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ ، وقد خرج

ص: 632


1- مفاتيح الأصول : 624.

عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان (1) ، انتهى.

واستظهر صاحب الفصول (2) جواز التقليد بقاء في الجنون الإطباقي ومطلقا في الأدواري ، واستشكل في صورة اختلال الفهم وهو بعيد عن الصواب ؛ لأنّ قضيّة الأصل عند الشك في الطريقية والحجّية هو الاشتراط ، ولا معارض لهذا الأصل ممّا يدلّ على عدم اشتراطها في البقاء سوى ما قد تخيّل : من عدم صدق التقليد على الاستدامة ، وعدم كون القول قول غير مجتهد أو قول مجنون ، وكلاهما قد ظهر جوابهما في البقاء على تقليد الميّت ؛ ولأنّ ظاهر الشرطيّة عند إطلاقها يقتضي ذلك ؛ إذ ليس في كلام الأصحاب المشترطين لهذه الامور في المفتي ما يظهر منه اختصاص الاشتراط بابتداء التقليد ، ولأنّ إطلاق ما دلّ على اعتبار بعض هذه الشروط - كالعدالة - من الأخبار نحو قوله عليه السلام في رواية الاحتجاج : « وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ... الخ » يتناول الحالتين.

كما يتناولهما الرضوي الدالّ على اشتراط الإيمان : « لا تأخذوا معالم دينكم من غير شيعتنا ؛ فانّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا اللّه ورسوله ، وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب اللّه فحرّفوه وبدّلوه ... » (3) وإن كان دعوى ظهوره في اشتراطه زمن الفتوى ممكنة.

ومثله الدالّة على اشتراطه مطلقا ، باستثناء دعوى الظهور المزبور ، ما عن كتاب الغيبة بسنده الصحيح إلى عبد اللّه الكوفي - خادم الشيخ أبي

ص: 633


1- حاشية الشرائع ( مخطوط ) الورقة 99 ، وحكاه عنه في مفاتيح الأصول : 625.
2- الفصول : 423.
3- رجال الكشي 1 : 7 ، الحديث 4 ، والوسائل 18 : 109 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 42 ، والحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام.

القاسم بن روح الذي هو من (1) أحد النوّاب - حين سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني بعد ارتداده ، فقال الشيخ : أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال حيث قالوا : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال : « خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » (2) فإنّ النهي عن الأخذ بآراء الشلمغاني مع ترك الاستفصال بين الأخذ الابتدائي والاستمراري يدلّ بعمومه على اعتبار الإسلام مطلقا.

وهذه الرواية ليس في سندها على ما اعترف به شيخنا - دام حراسته - من يتأمّل فيه سوى عبد اللّه الكوفي الذي يكفي في مدحه كونه خادم الشيخ أبي القاسم ، فيكون حسنا مع اعتضادها بإطلاق كلام الأصحاب.

وأمّا المناقشة في دلالتها : بأنّ المراد : ب- « ما رأوا » اعتقادهم الفاسد الذي أوجب خروجهم عن الحقّ بناء على كون كلمة « ما » مصدرية لا موصولة ، فلا تدلّ على حرمة الأخذ بفتاويهم في كتبهم ، فيدفعها غلبة الموصول مع أنّ المصدريّة أيضا تقتضي الحكم بعدم جواز أخذ جميع آرائهم المندرج فيها الفتوى ؛ لأنّ قرينة العهد مفقودة في المقام ، ثمّ في قول العسكري عليه السلام : « وذروا ما رأوا » دلالة على اشتمال كتبهم على الفتوى والرأي أيضا ؛ فلا يتوهّم اشتمالها على الروايات خاصّة ، كما أنّ فيه دلالة أيضا على أنّ العبرة في الرواية اتصاف الراوي بالإيمان حين تحمّلها ، فإنّ بني فضّال اختاروا الضلالة بعد أن كانوا على الهداية ، وفي الفتوى باتصاف المفتي حين العمل.

ص: 634


1- كذا ، والظاهر زيادة : « من ».
2- كتاب الغيبة : 389 ، الحديث 355 ، والوسائل 18 : 103 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 13.

لا يقال : قول الشيخ أبي القاسم : « أقول فيه ما قال العسكري صلوات اللّه عليه » ليس من الرواية في شيء ، بل إنّما هو قول صدر منه بالرأي والمقايسة ، فلا حجّية فيه حينئذ.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ فتاوى مثل هذا الشيخ الجليل حجّة مثل روايته ، كما عرفت غير مرّة ؛ لأنّه لم يكن يقول بغير سماع عن الإمام عليه السلام كما قال حين سئل عمّا يفتي به من المسائل : إنّك تقول فيها بالرأي أو سمعت عن الإمام عليه السلام؟ : « لئن أقع من السماء فتخطفني الطير خير من أن أقول ما لا أسمع » (1).

وثانيا : أنّ موضع الاستشهاد (2) قول الإمام عليه السلام في حقّ كتب بني فضّال الذي رواه الشيخ المزبور ، فيسقط الإيراد من رأسه.

والثالث : إذا مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا قائلا بالبقاء والعدول ، ثم إذا مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا قائلا بالبقاء والعدول ، ثمّ إذا مات أيضا ذلك المجتهد ، فإن رجع إلى من يوافقه في الفتوى فيهما فهو ، وإن رجع إلى من يخالفه ، فإن كان مختار الثاني البقاء ومختار الثالث العدول ، عدل إلى تقليد الميّت في جميع المسائل الفرعيّة التي كان بانيا فيها على تقليد الأوّل بحكم الثاني ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، وإن كان العكس ، بأن كان مختار الثاني العدول ومختار الثالث البقاء ، ففي رجوع الأمر بالبقاء إلى خصوص المسألة الأصولية التي كان مختار الثاني فيها هو العدول ولازمه العدول في جميع المسائل الفرعيّة التي عدل فيها من تقليد الأوّل إلى الثاني أو إلى الثالث

ص: 635


1- كتاب الغيبة : 322 ، الحديث 269 و 326 ، الحديث 273 ، والبحار 44 : 274 ، ذيل الحديث الأول.
2- في الأصل : « الاشتهار » ، وهو من سهو النساخ.

ثانيا ، أو إلى ما عداها خاصّة من تلك المسائل الفرعيّة وقضيّة البقاء فيها خاصّة دون المسألة الأصوليّة ، إشكال ، من حيث امتناع رجوع الأمر بالبقاء إليهما معا ؛ للتناقض وعدم وجود ما يرجّح أحدهما على الآخر ، لكنّ الذي يقوى في النظر ويقتضيه البداهة بعد التأمل إرجاع الأمر بالبقاء إلى خصوص المسائل الفرعيّة ، حذرا من لزوم تخصيص الأكثر اللازم على تقدير رجوعه إلى خصوص مسألة البقاء والحدوث ، فإذا قيل : إنّ الأمر بالبقاء يرجع إلى ما قلّده فيه في هذه المسألة الأصولية - وهو العدول - لزم اختصاص إطلاق الأمر بالبقاء بمسألة واحدة وخروج بقيّة المسائل عن تحته ، واستهجان هذا القسم من التخصيص واضح ؛ لأنّ العام إذا كان بينه وبين بعض أفراده مضادّة ومناقضة ، فمن دخوله تحته يلزم اجتماع النقيضين. مثلا إذا دلّ الدليل على أنّ كلّ خبر عدل حجّة ، فدلّ بعض الأخبار على عدم حجّية الأخبار ، فمن دخول هذا الخبر تحت عموم ذلك الدليل يلزم أن يكون هذا الخبر حجّة ولا حجّة.

أمّا الأوّل : فمن جهة كونه مشمولا للدليل الدالّ على حجّية الخبر.

وأمّا الثاني : فمن جهة كونه نافيا لحجّيته مطلقا التي هي من جزئيّاتها ، فهو حجّة من حيث كونه خبرا ، وغير حجّة من هذه الحيثية أيضا. فلا بدّ من إخراج هذا الخبر عن تحت ذلك الدليل فتأمّل جيّدا.

وأيضا لا خفاء في أنّ مراد من يأمر بالبقاء ، هو البقاء على كيفيّات ما صدر عنه من الأعمال ، لا البقاء على ما يلزم منه تغيير تلك الكيفيات.

ومن هذا الباب ما يجاب به عن الإشكال في دلالة الآية على حجّية الأخبار : بأنّه يلزم من حجّيتها عدم الحجّية ؛ لصدق النبأ على دعوى الإجماع الذي ادّعي على عدم حجّيتها ، كما عن السيّد (1).

ص: 636


1- انظر رسائل الشريف المرتضى 1 : 24 و 3 : 209.

أو في حجّية الشهرة : بأن حجّيتها توجب عدم حجّيتها ؛ لقيام الشهرة على عدم الحجّية.

أو في حجّية الكتاب : بأنّه ظاهر جملة من الآيات حرمة العمل بالظن ، فيلزم من حجّيتها عدم حجّية الظنون الكتابيّة أيضا. إلى غير ذلك من نظائر المقام ، التي يلزم من الحكم باندراج بعض أفراده فيها خروج بقيّة الأفراد. فإنّ ذلك الفرد ممّا ينبغي القطع بعدم اندراجه تحت إطلاقه أو عمومه ، فالظاهر أنّ البقاء على تقليد المجتهد الثاني متعيّن.

الرابع : قد عرفت في صدر المسألة أنّ الأردبيلي ذهب - فيما حكي عنه - وكذا العلاّمة - على اختلاف فيه - إلى جواز تقليد الميّت مع فقدان الحي مطلقا أو في ذلك الأفق ، واستدلّ في محكي مجمع الفائدة (1) : بالضيق والحرج ، والاستصحاب ، وبحصول الحكم من الاستدلال ولم يتغير بموت المستدل ...

ثمّ قال : والظاهر أنّ الخلاف ظاهر كما صرّح به في الذكرى والجعفرية وكتب الأصول ، وليس بمعلوم كون المخالف مخالفا ؛ لبعد ذلك عن الذكرى المخصوص ببيان مسائل الأصحاب ، وعدم اختصاص دليل الطرفين بالمخالف ، ولكن مع ذلك لا يحصل الراحة به ، انتهى.

والتحقيق هو : أنّ وظيفة المقلّد بعد العجز عن الأخذ بقول الحي هو الاحتياط ؛ لأنّه طريق القطع بالبراءة بعد انسداد باب العلم وتعذّر العمل بالظنّ الخاص الذي هو قول الحيّ ، فإنّ أدلّة اشتراط الحياة : من الأصل ، وإطلاق الإجماعات ، وغيرها من الوجوه المتقدّم إليها الإشارة كما يقتضي عدم الفرق بين الابتدائي والاستمراري ، كذلك يقتضي عدم الفرق بين صورتي الاختيار والاضطرار من غير فرق أصلا ، مضافا إلى اقتضاء قاعدة الشرطيّة ذلك ،

ص: 637


1- مجمع الفائدة والبرهان 7 : 547.

فإن امتنع الاحتياط - لدوران الأمر بين المتباينين ونحوه كالحرج الشديد مثلا - أخذ بالشهرة المحقّقة ، ثمّ بالشهرة المحكيّة ، ثمّ بما دونها من الأمارات الظنّية مراعاة للأقوى فالأقوى ، حتى إذا انحصر أمره في العمل بقول الأموات لزم اتباع أعلم الأموات ؛ لأنّ وظيفة المقلّد حينئذ الاجتهاد ؛ لقضية الانسداد ، وبقاء التكليف بالبداهة ، كما اعترف به المولى البهبهاني (1).

والمراد بالأقوى ما حكم مجتهده بكونه أقوى ، لا ما هو أقوى في نظره ؛ لأنّه ليس له أهليّة لمعرفة أقوى الأمارات بحسب النوع ، فإن كان قد سأل عن مجتهده قبل أوان الاضطرار من حكم حالتها وأخذ منه المرجع : من الاحتياط ، أو الشهرة ، ونحوها ، لم يتعدّ عنه ولو كان الظنّ الشخصي الحاصل في المسألة على خلافه ؛ لأنّ الظنون الخارجيّة المستندة إلى امور أخر خارجيّة اتفاقيّة ، التي تحصل للمقلّد قبال ما جعله المرجع لمجتهده من الأمارات المفيدة للظنون نوعا وبحسب الذات لا عبرة بها جدا ، كما يأتي توضيحه في تقليد الأعلم.

وإن لم يكن قد سأل مجتهده قبل عروض الاضطرار عن حكمها ، ولم يكن في يده شيء من الأمارات التي عيّنه مجتهده في تلك الحالة ، فلا محيص له عن الاعتماد على ظنونه الشخصيّة بحكم العقل.

والحاصل : أنّ حكم المقلّد في حال الاضطرار هو العمل بأقوى الأمارات في نظر المجتهد من الشهرة المحققة ، ثم الإجماع المنقول ، ثمّ الشهرة المحكيّة ، ثمّ أعلم الأموات ، حافظا للترتيب بينها. فإن اقتدر على تعيينه بأن كان قد سأله قبل الاضطرار أو تمكّن من السؤال عن تشخيص أقواها لم تبعد عنها جدّا وإن ظنّ بخلافه. وإن عجز عن تعيين ذلك ، فالمتّبع هو الظنّ الشخصي من أي شيء حصل.

ص: 638


1- انظر الرسائل الفقهيّة : 27.

فهذا الحكم - أعني وجوب الأخذ بأقوى الأمارات على العامي - إنّما ينتفع به المجتهد إذا سأله العامي عن حال العجز من الأخذ بقول الحيّ ، وأمّا العامي فلا ينفع (1) بهذا ؛ لعدم تمكّنه من تميز (2) أقوى الأمارات الفرعيّة. وقد اعترف المحقّق الثاني والمولى البهبهاني بأكثر ما عيّنا من الأمارات عند فقد الحي على ما حكاه عنه صاحب المفاتيح (3) ، فراجع وتأمّل واللّه العالم.

الخامس : لا يجوز الرجوع إلى الفاسق ، أو الكافر ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد عند فقد المستجمع للشرائط ؛ للأصل وإطلاق كلام الأصحاب الشامل لحالتي الاختيار والاضطرار ؛ ولأنّ قضيّة الشرطيّة ذلك ، بل يجب عليه الاحتياط ، ثمّ العمل بالشهرة المحقّقة أو المحكيّة على قياس ما عرفت في تقليد الميّت عند تعذّر الأخذ من الحيّ ، لكن إن أدّى الأمر إلى العمل بقول أحدهم ففي تقديم قول الميّت ، أو تقديم قول الفاسق ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد ، احتمالات ليس عندي ما يرجّح إحداها على الآخر ، إلاّ أنّ إطلاق النواهي الدالّة على عدم الأخذ بقول الفاسق والمخالف من الأخبار يقتضي تعيين قول الميّت أو العامي ، وأمّا بالنسبة إليهما فالمتّبع هو الظنّ الشخصي إن كان ، وإلاّ فالتخيير. واللّه العالم.

السادس : إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة فهل يتعيّن تقليد الأفضل أو يتخيّر بينه وبين تقليد المفضول؟ حدث لجماعة ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير بعد اتفاق من تقدّم عنه ظاهرا على تعيين الفاضل ، وهو خيرة

ص: 639


1- كذا ، والمناسب : فلا ينتفع.
2- كذا ، والمناسب : تمييز.
3- انظر مفاتيح الأصول : 625 - 626 ، والرسائل الفقهيّة : 27.

المعارج (1) والإرشاد (2) ونهاية الاصول (3) والتهذيب (4) والمنية (5) للعميدي والدروس (6) والقواعد (7) والذكرى (8) والجعفريّة (9) للمحقق الثاني وجامع المقاصد (10) وتمهيد الشهيد الثاني (11) والمعالم (12) والزبدة (13) وحاشية المعالم للفاضل المازندراني (14) ، وإليه ذهب صاحب الرياض (15) فيما حكي عنهم جميعا ووافقنا في ذلك جماعة من العامة (16) ونسبه في محكي المسالك (17) إلى الأشهر بين أصحابنا ،

ص: 640


1- معارج الأصول : 201.
2- إرشاد الأذهان 2 : 138.
3- نهاية الأصول ( مخطوط ) : 447.
4- تهذيب الوصول : 293.
5- منية اللبيب : 369.
6- الدروس 2 : 67.
7- القواعد والفوائد 1 : 321 ، القاعدة 114.
8- الذكرى 1 : 43.
9- رسائل المحقق الكركي 1 : 80.
10- جامع المقاصد 2 : 76.
11- تمهيد القواعد : 321 ، القاعدة 100.
12- معالم الدين : 246.
13- زبدة الاصول : 120.
14- لم نعثر عليه في الحاشية ، وحكاه في المفاتيح : 626.
15- رياض المسائل 13 : 50.
16- نسبه في فواتح الرحموت المطبوع ذيل المستصفى ( 2 : 404 ) إلى أحمد وكثير ممّن بعده.
17- المسالك 13 : 343.

وجعله في محكي التمهيد (1) هو الحق عندنا ، وفي المعالم (2) هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم ، وادّعى على ذلك الإجماع صريحا المحقق الثاني في محكي حاشية الشرائع (3) ، وكذا علم الهدى في محكي الذريعة (4) بناء على أنّ « عندنا » صريح من مثله في دعوى الإجماع.

وذهب صاحب الفصول (5) إلى القول الثاني ، أعني التخيير ، وفاقا للحاجبي (6) والعضدي (7) والقاضي (8) وجماعة من الاصوليين والفقهاء على ما حكي عنهم (9).

والحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه هو الأوّل (10) ... عن لزوم تقليد الأفضل ، لكن العنوان الذي يتكلّم فيه الآن هو ما إذا علم اختلاف الفاضل والمفضول ، ثمّ التكلّم بعد الفراغ عن المسألة في أطرافها التي منها صورة الجهل بالاختلاف.

[ تقرير الأصل في المسألة ] :

وينبغي أوّلا تقرير الأصل في المسألة ، فنقول : لا شبهة في أنّ المسألة اصوليّة يبحث فيها عن الطريق الموصل إلى الأحكام الشرعيّة في حقّ المقلّد ،

ص: 641


1- تمهيد القواعد : 321 ، القاعدة 100.
2- معالم الدين : 246.
3- حاشية الشرائع ( مخطوط ) ، الورقة 99.
4- الذريعة 2 : 801 ، وليس فيه لفظ « عندنا ».
5- الفصول : 423.
6- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
7- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
8- حكى عنه الغزالي في المستصفى 2 : 391 ، وذهب نفسه إلى الأوّل.
9- حكى عنهم العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : 447.
10- لا يخفى ما في الكلام من الاختلال ، ولعلّ في الكلام سقطا.

فإنّ كون التقليد من الامور التعبّدية كما حقّقناه قبال من أنكره وجعل قول المجتهد واجب العمل باعتبار كونه أحد الامور المفيدة (1) ... كالفاضل القمّي لا ينافي كونه جعليّا إلى الواقع ، ولا ريب أنّ مرجع الطريق التعبّدي إلى العمل بما وراء العلم وترك تحصيل اليقين بالبراءة عن الشغل الثابت ، فإذا شككنا في أنّ هذا الشيء طريق تعبّديّ أم لا؟ كان قضيّة الأصل الأوّلي فيه العدم ، وقد أشرنا إلى ذلك في صدر المسألة. ولعلّ هذا الأصل اتّفاقيّ بين الأصحاب كما اعترف به شيخنا ( دام ظلّه العالي ) ولم أجد نكيرا له ، غير أنّ الفاضل القمّي رحمه اللّه - بعد أن أجاب عن الدليل العقلي الذي استدل به على تعيين الأعلم : « من أنّ الظن الحاصل من قوله أقوى » : بأن مدار التقليد إن كان على الظنّ ، فيدور مداره من قول أيّ شخص حصل ، وإن كان مبناه على التعبّد ، فلا معنى لملاحظة الأقوائيّة من الواقع - اعترض على القول بالتخيير : بأنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ خرج الأقوى بالإجماع ولا دليل على العمل بالأضعف ، ثمّ أجاب عنه : بأنّا قد بيّنا سابقا أنّه لا أصل لهذا الأصل ، واشتغال الذمّة أيضا لا يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون ، والأصل عدم لزوم الزيادة (2).

وهذا الكلام لعلّه من متفرداته رحمه اللّه إذ لم أجد على (3) من يقول بكون مقتضى الأصل الأوّلي جواز العمل بمطلق الاعتماد الشامل للظن ، فإنّ كلّ من دخل في المسألة ذكر الأصل الذي قرّرنا ، مرسلا إرسال المسلّمات ، ولم يناقش أحد من

ص: 642


1- الظاهر وجود سقط في هذا المورد أيضا ، وفي الأصل على كلمة « المفيدة » علامة سقط من المتن لكن لم يذكر المقدار الساقط في الهامش.
2- القوانين 2 : 247.
3- كذا ، والمناسب : لم أعثر على ، أو : لم أجد من.

المجوّزين في هذا الأصل ، بل ادّعوا قيام الدليل الشرعي على خلافه ، ولعلّه رحمه اللّه أراد به الأصل الثانوي المستفاد من دليل الانسداد ، وقد عرفت في تقليد الميّت : أنّ بعض مقدّماته مثل انتفاء الظن الخاص في حق المقلّد ممنوع ، وأمّا ما ذكره أخيرا : من أنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون - فمع ابتنائه على كون التقليد حكما تعبّديا ثابتا من الأدلّة الشرعيّة مخالفا للأصل ، وهو مناف لما توهّمه : من أنّ الأصل هو جواز العمل بالظن - يعرف جوابه من الجواب عن الأصل الثاني من الاصول التي قد يتمسّك بها في إثبات التخيير.

ثمّ لا يتوهّم أنّ الاحتياط في هذه المسألة الاصولية ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا كان قول المفضول موافقا للاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعيّة بقاعدة « المزيل والمزال » كما يظهر بالتأمّل.

إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ للقائلين بالتخيير وجوه (1) :

[ وجوه القائلين بالتخيير ] :

الأوّل : الأصل المقرّر تارة باستصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم أوّلا ثمّ فضل أحدهما على الآخر ، فإنّ زوال ذلك التخيير بحدوث الفضل في أحدهما غير معلوم فيستصحب.

واخرى بأنّ الشكّ في المسألة دائر بين التخيير والتعيين فيما علم وجوبه في الجملة ، أعني التقليد ، فيرجع إلى أصالة البراءة على القول بها في أمثال ذلك ، مثل ما إذا ثبت وجوب عتق الرقبة في الجملة وشكّ في وجوب عتق المؤمنة عينا ، أو التخيير بينها وبين الكافرة.

ص: 643


1- كذا ، والصحيح : وجوها.

وثالثة : بأنّ المرجحيّة أمر توقيفيّ كالحجيّة ، فلا بدّ في ثبوتها لشيء من قيام دليل شرعيّ عليها ، فمقتضى الأصل عدمها حتى ثبت (1).

وأنت إذا تأمّلت في الأصل الذي قرّرنا علمت أنّ هذه الاصول ممّا ليس في محلّها.

أمّا الأوّل ، فلأنّ التخيير الثابت في حال التساوي إنّما كان باعتبار القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم ، ونحوه مما يشكّ في كونه مرجّحا ، فحيث زال القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم ونحوه ممّا يشكّ في كونه مرجّحا ، فحيث زال القطع المزبور بحدوث ما يحتمل كونه مرجّحا ، أعني الفضل في أحدهما ، امتنع الاستصحاب ، نظير الحكم بنجاسة الحيوان المشكوك في طهارته ونجاسته شرعا باعتبار استصحاب النجاسة الحاصلة له حين التولّد بملاقاة الدم.

فان قلت : نحن لا نستصحب التخيير ، بل نستصحب جواز الرجوع إلى المفضول الثابت له قبل حدوث الفضل للآخر ، فإنّ هذا الجواز كان مناطه صفة الاجتهاد والعلم القائمين به ، وهما باقيان بعد حدوثه كما لا يخفى.

قلنا : هذا الجواز الإباحي المقابل للأحكام الأربعة (2) ، بل المراد به الوجوب التخييري ، وتسميته جوازا إنّما هو باعتبار الرخصة في تركه إلى بدل ، فالمحذور باق بحاله كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الشك في التعيين والتخيير يتصوّر في مقامات : أحدها : أن يكون التخيير المشكوك فيه التخيير العقلي العارض للأفراد عند

ص: 644


1- كذا ، والصحيح : يثبت.
2- المعنى غير مستقيم ، ولعلّه كان هكذا : هذا الجواز ليس الإباحي ....

تعلّق التكليف بالطبيعة ، ومرجعه إلى الشك في الإطلاق والتقييد ، مثل ما إذا ثبت وجوب طبيعة العتق وشكّ في تقييدها بالمؤمنة وعدمه.

والثاني : أن يكون التخيير شرعيّا مثل ما في الصوم والعتق والكفّارات.

والثالث : أن يكون التخيير عقليّا ناشئا من جهة تزاحم الواجبين العينيّين (1) ، ومرجع الشك في التعيين والتخيير حينئذ الشك في ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر وعدمه بعد القطع باشتمالها (2) على مصلحة الوجوب العيني لو خلا عن المعارضة والمزاحمة.

والبناء على التخيير للأصل على القول به ، إنّما هو في القسمين الأوّلين. وأمّا القسم الثالث ، فأصالة الاشتغال فيه محكّمة ، فإذا وجب انقاذ كلّ غريق عينا ودار الأمر بين إنقاذ العالم والجاهل وشكّ في رجحان العالم لم يكن الرجوع إلى أصل البراءة بالنسبة إلى تعيين العالم ؛ لأنّ الشك ليس في وجوبه العيني حتى يدفع بالأصل كما في عتق المؤمنة أو الصوم مثلا ؛ إذ المفروض أنّه لا شبهة في كونه واجبا عينيّا مثل إنقاذ الجاهل ، بل في ترجيح أحد العينيين على الآخر باعتبار تضمّنه شيئا يحتمل المرجحية ، فالمرجع حينئذ إلى الاحتياط أو التخيير العقلي الناشئ من جهة التساوي ، وحيث لا سبيل إلى التخيير لعدم حكم العقل به مع احتمال وجود المرجّح في أحد الجانبين تعين الاحتياط المبرئ للذمّة الحاصل في ضمن الأخذ بواحد (3) الاحتمالين.

ص: 645


1- كذا ، والمناسب : « التعيينيّين » ، وقد جرى المقرّر على هذا فيما يأتي كثيرا ، ولذلك لم نشر إلى كل مورد بخصوصه ، وإنما على القارئ الالتفات إليه.
2- كذا ، والمناسب : باشتمالهما.
3- كذا ، والمناسب : أحد ، أو : بواحد من ....

ثمّ إنّ الشكّ في التعيين والتخيير قد يرجع أيضا إلى الشكّ في ترجيح أحد الاحتمالين اللذين لا ثالث لهما على الآخر إذا لم يوافق أحدهما أصلا من الاصول ، مثل ما إذا دار حكم الشيء من (1) الوجوب والحرمة ، وكان في أحد الاحتمالين ما يحتمل كونه مرجّحا مثل موافقة الشهرة ، وهذا غير الشك في التعيين والتخيير الناشئ من التزاحم ، وعدم جريان أصل البراءة هنا أوضح من عدم جريانه في باب التزاحم ؛ لإمكان القول فيه : بأنّ الواجب بعد تزاحم الواجبين إنّما هو القدر المشترك بينهما ؛ لعدم إمكان الجمع ولا الطرح وانتفاء ما ثبت كونه مرجّحا في أحدهما ؛ بخلاف المقام ؛ فإنّ إرجاع التكليف إلى القدر الجامع بين الاحتمالين - أعني القدر المشترك بينهما - ممتنع ، فلا بدّ حينئذ من الأخذ بالقدر المتيقّن في مقام الامتثال بالحكم الظاهري الذي هو التخيير النقلي ، أعني اختيار ما يحتمل ترجيحه لموافقة الشهرة ونحوها.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الشك في التخيير والتعيين في مسألتنا هذه ليس من القسم الأول الراجع إلى الإطلاق والتقييد ، ولا من القسم الثاني الراجع إلى التخيير الشرعي ؛ لأنّ ثبوت الحكم ولو شأنا ليس مقطوعا به لكلّ واحد من الفردين المحتمل تعيين أحدهما في هذين القسمين ، بخلاف المقام فإنّ الحجّة الشأنيّة مقطوع ثبوتها لقول كلّ من المتعارضين.

وأيضا أنّا نعلم قطعا أنّ غير محتمل التعيين فيهما كالكافرة ليس بواجب عيني ، وقول كلّ واحد من المجتهدين المتخالفين مما يحتمل كونه هو الواقع

ص: 646


1- كذا ، والمناسب : بين.

المفروض وجوبه عينا ، فتعيّن كونه من أحد القسمين الأخيرين اللذين عرفت اقتضاء الأصل منهما (1) التعيين.

وهل هو من القسم الراجع إلى التزاحم أو القسم الراجع إلى تعارض الاحتمالين؟ والظاهر هو الأخير ؛ لأنّ حقيقة التقليد عبارة عن انجعال قول المجتهد طريقا تعبديّا للمقلّد إلى الواقع ، فعند اختلاف المجتهدين يقع المعارضة بين الطريقين ، فأحدهما يعيّن الواقع في الوجوب والآخر في الحرمة ، فالتخيير الذي يحكم به العقل حينئذ ليس من باب التخيير الناشئ من اشتمال كلّ من المتزاحمين لمصلحة التكليف ، كإنجاء النفس من الهلاك ؛ للقطع باختصاص المصلحة المقتضية لجعل الطريق أعني إصابة الواقع بأحدهما ، بل هو من باب التخيير الناشئ من تعارض احتمال مؤدّى أحد الطريقين كالوجوب لاحتمال مؤدى الآخر كالحرمة ، فالتخيير الذي يضطرّ إليه العقل بعد اليأس عن التوقّف الذي كان على وفق القاعدة في تعارض الأمارات والحجج - لو لا قيام الإجماع على خلافه - ليس إلاّ التخيير الذي يحكم عند دوران الأمر بين مؤداهما مع عدم موافقة الأصل لشيء منهما. وقد عرفت : أنّ القاعدة تقتضي في المسألة (2) الوقوف على ما يحتمل فيه الترجيح.

والحاصل : أنّه إذا تعارض الحجّتان علم بأنّ الطريق أحدهما ليس إلاّ ؛ لأنّ الطريق عبارة عمّا يجب الأخذ به فعلا ، ولا يمكن الاتّصاف بالوجوب الفعلي إلاّ أحد (3) المتعارضين ، وحيث لا سبيل للعقل إلى تعيينه فيتخيّر بينهما عند القطع

ص: 647


1- كذا في الأصل.
2- في الأصل : « مسألة ».
3- كذا ، والمناسب : لأحد.

بالتساوي ، فإذا قام احتمال الترجيح في أحدهما وقف عنده فلا يحكم بالتخيير ؛ لأنّه طريق للقطع بالبراءة عن التكليف الظاهري ؛ نظرا إلى عدم منافاة الأخذ به التخيير (1) ، ولا يجوز له البناء على البراءة كما بيّنا سرّه. ولعلّ هذا هو الوجه في اتّفاق ظاهر الأصحاب على أنّ الأصل الأوّلي هنا يقتضي الأخذ بقول الأفضل مع أنّ جماعة من المحقّقين ذهبوا في مسألة دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، أو التخيير والتعيين إلى الإطلاق والتخيير. فهذا من الشواهد الواضحة على خروج ما نحن فيه - أعني وجوب تقليد الأعلم وجوازه - عن تحت المقامين ، فإنّ قضيّة الاندراج تحتهما حكمهم بأنّ قضيّة الأصل هنا الجواز كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر ما في كلام الفاضل القمّي رحمه اللّه المتقدّم إليه الإشارة (2) : من أنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك ، أو الوجود في ضمن الأدون ؛ ضرورة انتفاء القدر المشترك هنا بحيث يكون جعله موضوعا للحجيّة نظير انتفائه في دوران الأمر.

ولعلّ نظره في هذا الكلام إلى إرجاع التقليد إلى أمر تعبّدي غير مربوط الحجّية (3) والطريقية ، كمتابعة قول العالم من حيث هو من حيث كونه طريقا إلى الواقع ، فزعم أنّ التقليد حينئذ واجب من الواجبات التعبديّة المحضة مثل إكرام العالم والإعانة عليه (4) ، وأنّ الشك في وجوب متابعة الفاضل عينا أو مخيّرا بينه وبين المفضول مثل الشك في وجوب عتق المؤمنة عينا أو مخيّرا بينها وبين الكافرة.

ص: 648


1- كذا ، والأنسب : للتخيير.
2- تقدّم في الصفحة : 643.
3- كذا ، والمناسب : بالحجيّة.
4- كذا ، والمناسب : وإعانته ، ولعلّ المراد : والإعانة على إكرامه.

وهو سهو بيّن ؛ لأنّ متابعة المقلّد للمجتهد ليست إلاّ كمتابعة المجتهد للراوي في الرواية ، فالفتوى والرواية طريقان للواقع الذي هو المطلوب من انجعالها طريقا ، فإذا تعارض الفتويان اشتبه الطريق والحجّية بغيره ، وقضيّته القياس حينئذ على ما قدّمناه في التعادل والتراجيح عند تعارض الطريقين هو التوقف ، لكن قام الإجماع على بطلانه فانحصر المناص في مطالبة الترجيح ثمّ الأخذ ولو احتمالا ، وإلاّ فالتخيير.

ثمّ اعلم : أنّ هذا الجواب عن الأصل المزبور إنّما يناسب مذهب من يعتمد على كلّ ظنّ في مقام ترجيح أحد الاحتمالين ولو لم يعتمد عليه في مقام ترجيح أحد الخبرين في التخيير الشرعي ، فمن أبى عن ذلك فليس في محلّه ، فالجواب عنه : أنّ البناء على التخيير لأصالة البراءة إنّما يتّجه عند الشك في ثبوت التكليف ، وأمّا إذا كان الشك في ارتفاع التكليف الثابت باعتبار الشك في طروّ التخصيص على دليل ذلك التكليف انعكس الأصل فيقتضي التعيين ، والكلام في وجوب تقليد الأعلم عينا أو تخييرا كلام في قدر الخارج عن تحت ما دلّ على عدم جواز العمل بما وراء العلم ، فالقدر المتيقّن الذي يجب الاقتصار عليه ليس إلاّ العمل بقول الأعلم وهذا واضح.

وأمّا الأصل الثالث فقد ظهر ضعفه أيضا ممّا بيّنا ؛ لأنّ الشكّ في ترجيح إحدى الحجّتين المتعارضتين على الاخرى شكّ في حجّية المرجع فعلا ، وأصالة عدم الحجّية حينئذ محكّمة بعد عدم قيام دليل عليها من نقل أو عقل.

أمّا النقل ؛ فلأنّ الدليل الدالّ على حجّية العالم لا يمكن تناله لصورة التعارض ؛ للقطع بمخالفة أحد المتعارضين للواقع وتعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فلولا قيام الاتّفاق على بطلان الطرح والتوقّف لكان مقتضى القاعدة ذلك ، لكن بعد ملاحظة ذلك الاتّفاق فالعقل قاض بالتخيير.

ص: 649

وأمّا العقل ، فلأنّ العقل لا يذهب إلى جواز الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح الظنّي في التخييرات التي تستند إلى حكمها لأجل التخيير ، خصوصا فيما كان الشكّ في ارتفاع التكليف الثابت بالأصل والعمومات ، أعني حرمة العمل بقول الغير وما قرع سمعك من أنّ المرجحيّة كالحجّية محتاجة إلى الدليل فإنّما هو في التخيير الشرعي الثابت بالدليل ، وستعرف أنّ مثل هذا الدليل موقوف في المقام.

وبالإحاطة بما ذكر تقدر إبطال كلّ أصل يتمسّك به في المقام على حجّية المفضول.

ومنها - أي من أدلة المثبتين - : إطلاقات الكتاب والسنّة الواردتين في مشروعيّة التقليد ؛ بناء على دلالتها عليها ، مثل آية السؤال ، وآية النفر ، وآية الكتمان. فإنّ « أهل العلم » (1) عام يتناول الفاضل والمفضول ، فالأمر بالسؤال منهم يدلّ على وجوب قبول كلّ واحد على حدّ سواء خصوصا بعد ملاحظة غلبة تفاوت مراتب العلم وندرة مساواة أهله فيه وشيوع الاختلاف بينهم ؛ فإنّ الأمر بالرجوع إلى الطائفة المختلفين في الآراء والعلم دليلا (2) آخر على اشتراك الجمع في مصلحة الرجوع. وهكذا آية النفر ؛ فإن إيجاب الحذر عقيب الإنذار المتفقين من دون ما يدلّ على اختصاصه بإنذار الأفقه مع جريان العادة بتفاوت مراتبهم يفيد حجّية إنذار كلّ منذر سواء كان أفضل أو مفضولا ، وهكذا الكلام [ بالنسبة ](3) إلى سائر ما سمعت في تقليد الميّت من الأخبار ، كرواية الاحتجاج ، والتوقيع

ص: 650


1- لعلّ المراد : أهل الذكر.
2- كذا ، والصحيح : دليل.
3- اقتضاها السياق.

الشريف ، وروايات الحكومة ، وخصوص ما ورد في حق زرارة وأبان والثقفي والعميري ويونس وأمثالهم ؛ فإنّ المستفاد منها وغيرها مما ورد في حجّية العلماء كقوله صلى اللّه عليه وآله : « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » (1) وقوله صلى اللّه عليه وآله : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (2) عدم تعيين الأفضل ، فتخيّر (3) بينه وبين المفضول ، وبها يخرج عن حكم الأصل القاضي بالاقتصار على الأفضل.

وجوابها - بعد الغضّ عمّا في دلالتها على جواز أصل التقليد من المناقشات الواضحة المتقدم إلى جملة منها الإشارة - : أنّه ليس في شيء منها دلالة على مساواة الأفضل والمفضول عند اختلافهما في حكم المسألة ، لا من حيث الإطلاق ولا من حيث العموم ، ولا من حيثيّات اخرى ؛ فإنّ منها ما ورد في مقام جعل طائفة من العلماء مرجعا للجهّال القاصرين عن إدراك معالم الدين بأنفسهم ، فلا يدلّ إلاّ على انحصار الحجّة في هذه الطائفة وعدم جواز الرجوع إلى غيرهم ، وأمّا أنّ كلّ واحد منهم حجّة مطلقا أو عند فقد المعارض ، فهو بمعزل عن بيان ذلك.

ومن هذا القبيل قول اللّه عزّ وجل : ( ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (4) ، [ فإنّ ](5) إضافة اسم الجمع إلى الجمع لا يفيد إلاّ تعلّق الحكم بجنس الجمع ، فلا يستفاد منها إلاّ ثبوت الحجّية لجنس العلماء ، حتّى لو احتملنا اشتراط اتّفاقهم في أصل المرجعيّة وأنّهم إذا اختلفوا كان المرجع غيرهم لم يكن دفع هذا

ص: 651


1- البحار 2 : 22 ، الحديث 67.
2- معاني الأخبار : 156.
3- كذا ، والمناسب : فيتخيّر.
4- النحل : 43 ، والأنبياء : 7.
5- الزيادة اقتضاها السياق.

الاحتمال بالإطلاق أو العموم فضلا عمّا لو التزمنا بالحجّية عند الاختلاف واحتملنا ترجيع أحد المتخالفين على الآخر باعتبار ما فيه من المزيّة التي ليست في الآخر ، ألا ترى أنّه إذا قيل للمرضى : ارجعوا إلى أهل الطبّ في مقام بيان المرجع لم يستفد منه إلاّ عدم جواز الاستعلاج من غير هذا الجنس ، بحيث لو اختلف الأطبّاء في المعالجة فربما يتوقّف حينئذ في أصل مرجعيتهم رأسا ، فضلا عن مرجعيّة كلّ واحد على سبيل التخيير. وهذا مثل المطلقات الواردة في بيان حكم آخر التي لا يرتفع منها شيء من جهات الشكّ. ويؤيّده : أنّ السؤال ثانيا عن حكم اختلاف المرجع حينئذ ليس ممّا علم جوابه من الحكم الأوّل ، بحيث لو حكم بعدم كونهم مرجعا رأسا أو بمرجعيّة خصوص أحد المتخالفين عينا لم يكن منافيا لما تقدّم من الأمر بالرجوع إليهم كما لا يخفى.

ومنها : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى كلّ واحد واحد عينا على قيام العام الاصولي ، فيستفاد منه : أنّ كلّ واحد من العلماء حجيّته شأنيّة لو لا المعارض ، وأمّا معه فلا دلالة فيه أيضا على حكم ؛ لأنّ الحكم بدخول المتعارضين معا تحته ممتنع ، وتعيّن أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، مثل ما إذا وجب إنقاذ كلّ غريق عينا ووقع المزاحمة بين الإنقاذين ، فإنّ الدليل الدالّ على إنقاذ الغرقى ممّا لا سبيل إلى تناوله لهما معا ، ولا لأحدهما المعيّن ، بل الغير المعيّن ، فيرجع الأمر في الترجيح أو التخيير إلى ما رآه العقل ، وقد عرفت فيما تقدّم آنفا أنّ شغل العقل في مثل هذا التخيير الوقوف عند ما يحتمل رجحانه على الآخر ، ولو سلّم حكمه بالتخيير حينئذ فهذا خروج عن الاحتجاج بالإطلاقات كما لا يخفى ، ومن هذا الباب آية النفر (1) وآية الكتمان (2) وقول الحجة - صلوات اللّه

ص: 652


1- التوبة : 122.
2- البقرة : 159.

عليه وعجّل اللّه فرجه - في التوقيع الشريف : « فارجعوا إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه » (1) ؛ فإنّ قضيّة الآيتين وجوب الحذر والقبول عقيب كلّ إنذار وإظهار ، وكذا قوله عليه السلام : « فإنّهم حجّتي » يدلّ على حجّية كلّ واحد من الرواة عينا بحسب الشأن الملحوظ فيه عدم المعارض ، وأمّا معا فلا يستفاد حجّية أحد المتعارضين منه تعيينا ولا تخييرا. نعم يحكم العقل فيه بالتخيير إذا علم بالتساوي في الاهتمام.

وبالجملة : هذا القسم والقسم الأوّل لا يتفاوتان في إفادة التخيير الشرعي بين الحجّتين المتعارضتين حتى يتناولا بإطلاقهما موضع النزاع ، أعني تعارض الفاضل والمفضول.

ومنها : ما لا يأبى عن الدلالة على التخيير الشرعي بينهما في نفسه لو لم يكن قد ورد في مقام بيان حكم آخر ، فالفرق بينه وبين الاولتين أنّهما قاصرتان عن إفادة التخيير شأنا بخلاف هذا القسم ؛ فإنّ له أهلية لذلك لو كان المقام مقتضيا له. ومن هذا القبيل قوله عليه السلام في خبر أبي خديجة المتقدم إليه الإشارة : « ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ... » (2) فإنّ إطلاق « الرجل » يتناول كلّ واحد من المتعارضين ، فيكون دليلا على التخيير الشرعي ؛ فإنّ امتثال الأوامر المطلقة يحصل بإتيان بعض الأفراد مخيّرا بينهما ؛ لأنّ قاعدة الإطلاق وقبح الإغراء بالجهل يقتضيان البناء على التخيير في مقام الامتثال ، ولا ينافي كونه تخييرا شرعيّا تسميته تخييرا عقليّا أيضا ؛ لأنّ المراد به استناد التخيير إلى حكم العقل المستند إلى الإطلاق وقبح الإغراء بالجهل.

ص: 653


1- الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.
2- الوسائل 18 : 4 ، الباب الأوّل ، الحديث 5.

ومثله ما في مقبولة عمر بن حنظلة : « لكن انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ... » (1) وقول العسكري ( صلوات اللّه عليه ) في رواية الاحتجاج المرويّة عن تفسيره عليه السلام : « وأمّا من كان من الفقهاء صائنا لدينه وحافظا لنفسه كاسرا لهواه تابعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه » (2) فإنّ الظاهر من الموصول جنس للفرد دون الجمع والاستغراق. والمعنى : أنّ للعوام تقليد أحد من الفقهاء الموصوفين بالأوصاف المزبورة ، وهذا يشمل بإطلاقه صورة الاختلاف كما مرّ. وروي : أنّ أبا الحسن عليه السلام كتب جوابا عن السؤال عمّن يعتمد عليه في الدين : « اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا كثير القدم في أمرنا » (3). وهذا أيضا يدلّ على التخيير ، مثل قوله : « انظروا إلى رجل ... » ؛ لأن الاعتماد على كلّ واحد من أفراد « الرجل » عينا لا يجوز الأمر به جدّا ، فينزّل على التخيير.

والجواب عن هذه الأخبار ونحوها مما يشاركها في إفادة التخيير : أنّها قد وردت نهيا عن الرجوع إلى فقهاء المخالفين ورواتهم وحكّامهم ، فلا يستفاد منها سوى جعل فقهاء الشيعة مرجعا لعوامهم ؛ لعدم ورودها على هذا التقدير في مقام بيان الحجّية العقليّة حتى يتمسّك بإطلاقها ، بل في مقام تشخيص طائفة المرجع من غيرها في الجملة. وممّا يدلّ على ذلك : أنّ عمر بن حنظلة سأل ثانيا عن حكم صورة الاختلاف ، فقال : « فإن اختار كلّ منهما - أي المتحاكمين -

ص: 654


1- الوسائل 18 : 99 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- الاحتجاج 2 : 263 ، وانظر التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 143 ، الحديث 143.
3- الوسائل 18 : 110 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 45.

رجلا من أصحابكم فاختلفا في حكمكم ... » (1) ؛ إذ لو كان في قوله : « انظروا إلى من كان منكم » إطلاق متناول لصورة التعارض ، لم يكن لهذا السؤال ثانيا وجه ، ولكان تعيين الإمام عليه السلام الأعدل والأفقه عند المعارضة مخصّصا ، ولا يذهب إليه ذاهب.

وأولى بعدم الإطلاق من الجميع ما في رواية الاحتجاج الواردة في مقام بيان الفرق بين علماء اليهود وعلمائنا ، لا في مقام بيان التكليف الفعلي المحتاج إليه ؛ لأنّ الرجل السائل كان يعلم أنّ تكليف عوامنا هو الرجوع إلى علمائنا ، أشكل عليه ذمّ اللّه تعالى عوام اليهود على الرجوع إلى علمائهم ، فلا شيء فيه يقتضي الأخذ بإطلاق قوله : « أمّا من كان ... » بعد وروده في ذاك المقام.

وبالجملة ، الإنصاف أنّ الاستناد في حكم مخالف للأصل وللإجماعات المعتضدة بالشهرة إلى مثل هذه الإطلاقات التي كانت بمرأى من أصحابنا السابقين القائلين بعدم التخيير في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم اجتماعها لشرائط الحجيّة ؛ فإنّ رواية أبي خديجة ضعيفة - كما قيل - بسببه ، وعمر بن حنظلة لم يصرّح بكونه ثقة غير الشهيد الثاني (2) آخذا وثاقته من مكان آخر غير كتب الرجال ، ورواية الاحتجاج في أعلى مراتب الضعف ؛ لكونها من تفسير العسكري عليه السلام الذي لا يعمل بما فيه الأخباريّون ، وإن كان فيها شواهد الصدق موجودة.

ص: 655


1- العبارة في الوسائل هكذا : « ... فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما ، واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ... » الوسائل 18 : 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- انظر الرعاية في علم الدراية : 131.

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عن الأخبار الواردة في نقل العلماء مثل النبوي صلى اللّه عليه وآله : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل » (1) وأما النبوي المروي عن طرق العامة : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (2) ، فالاستدلال به بعد فرض حجّيته موقوف على العلم باختلاف أصحابه صلى اللّه عليه وآله في حكم المسألة ، وأنّى للمستدل بإثباته مع إمكان دعوى العلم أو الظنّ القوي بعدم الاختلاف ، كما هو الشأن في حقّ كلّ جماعة يأخذون معالم دينهم من شخص واحد سماعا من نبيّ أو وصيّ أو مجتهد ، بل في موضعين منه دلالة على اتفاق الصحابة : أحدهما مادة « الاهتداء » ؛ فإن الاهتداء إلى الحق والصواب عند اختلاف المعتمد عليهم لا يتيسّر إلاّ في متابعة أحدهم ، مع أنّه صلى اللّه عليه وآله أخبر بحصول الاهتداء بمتابعة الجميع. والثاني « التشبيه بالنجوم » ؛ فإنّها طرق قطعيّة يتوصّل بكلّ واحد منها السالك إلى المقصد ، فكما أنّ الوصول إلى الموضع المقصود ممكن في متابعة كلّ واحد من النجوم ، كذلك ينبغي أن يكون شأن الصحابة أيضا كذلك ، وإلاّ لعرى التشبيه عن المعنى فضلا عن الفائدة ، ولا ريب أنّ ذلك لا يتصوّر ولا يتعقّل عند اختلافهم في الأحكام ، وهذا واضح.

وأمّا الأخبار الخاصة الواردة في حقّ المعدومين من أصحاب الأئمة ( صلوات اللّه عليهم ) فبما ذكرنا ظهر الجواب عنها أيضا ؛ إذ لم يثبت أنّ معاصري الثقفي مثلا من أصحاب الأئمة عليهم السلام كان فيهم من يخالف قوله قول الثقفي فيما يفتي به من المسائل ، وكان أعلم وأفقه ، حتّى يثمر إطلاق قوله عليه السلام : « عليك بالثقفي » في جواز الاعتماد على قوله حينئذ. وهكذا الكلام في سائر

ص: 656


1- البحار 2 : 22 ، الحديث 67.
2- كنز العمال 1 : 199 ، الحديث 1002.

أصحابهم المأمور بالرجوع إليهم ك- : أبان ، وزرارة ، وزكريّا ، وعمري ، ويونس ونحوهم ، بل الظاهر من وثاقتهم واعتماد الإمام عليه السلام عليهم وتعيينهم المرجع كونهم أفضل من غيرهم أو مطابقة قولهم للواقع ، ومن هنا قال في الشرائع (1) وغيرها (2) : إنّ نصب المفضول للقضاء جاز من الإمام عليه السلام ؛ لأن نقصانه مجبور بنظره ( روحي وروح العالمين له الفداء ) : وفيه أيضا دلالة واضحة على أنّ المفضول من حيث هو لا يليق بشيء من مراتب القضاء والفتوى مع وجود الأفضل.

والحاصل : أنّ أصحاب الأئمة وإن لم يكونوا كأصحاب النبي في اتّفاق الكلمة واتّحاد القول ؛ نظرا إلى مساس الحاجة أحيانا إلى اختلافهم لتقيّة ونحوها دون اختلاف أصحابه صلى اللّه عليه وآله ، إلاّ أنّه كان في غاية القلّة ، فلو سلّمنا حينئذ مخالفة بعض هؤلاء المرجع لغيره الأفضل من الصحابة ، نقول : إنّ مجرّد المخالفة الواقعيّة لا يكفي في التمسّك بإطلاق الأمر لإثبات حجّية قوله عند علم المستفتي بالخلاف ، بل لا بدّ مع ذلك من ثبوت العلم بالخلاف ، لأنّا لا نقول بتعيين الأعلم عند الجهل بالخلاف كما ستعرف ، فحيث لم يثبت علم مقلّدي (3) لأن مثلا بالاختلاف بينه وبين غيره لم ينفع الإطلاق في شيء. نعم لمّا كان صورة الجهل بالاختلاف في الجملة مقطوعا بها ، كما يشهد به عدم جريان عادات المقلّدين بالفحص والبحث عن المعارض ، فلا جرم من دلالة هذه الأوامر على جواز تقليد المفضول عند الجهل بالاختلاف واللّه العالم.

ص: 657


1- الشرائع 4 : 69.
2- مثل العلاّمة في القواعد 3 : 420.
3- كذا في الأصل.

ومنها - يعني من أدلة المثبتين - : أنّه إذا لم يكن المفضول قابلا للتقليد كان مساويا للجاهل ، وقد دلّ الاعتبار والآثار في غير موضع من الكتاب على نفي الاستواء ، واجيب بأنّها بالدلالة على العكس أولى ؛ لأنّ المفضول جاهل في مقابل الأفضل في مقدار من العلم ، فلو جاز تقليده كما يجوز تقليد الأفضل ، كانا متساويين.

ولا يرد : أنّ المراد من قوله تعالى : ( ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... ) (1) نفي مساواة العالم بكلّ شيء والجاهل عن كلّ شيء ، فلا ينفي مساواة العالم بالكلّ والجاهل بالبعض ؛ لأنّ سلب العلم بالكل تارة يتحقّق في ضمن السلب الكلّي واخرى في ضمن السلب الجزئي ، فالمراد بقوله ( لا يَعْلَمُونَ ) عدم العلم بما يعلمه العالمون بالكلّ سواء حصل العلم بالبعض أيضا أم لا ، مع أنّ العلم المطلق والجهل المطلق ممّا لا يكاد يوجد في شخصين من المكلّفين ، وتنزيل الآية على نفي المساواة بينهما تنزيل على الفرض المعدوم والنادر ، فالظاهر إرادة العلم والجهل الإضافيين ، وعليه يتمّ الجواب.

لكن الإنصاف عدم تماميّة شيء من الاستدلالين ؛ لأنّ الظاهر كون المراد بنفي السماوات نفيها من جميع الجهات ؛ لا من كلّ جهة. فلا يلزم تفاوت العالم والجاهل في كلّ شيء ، بل يكفي اختلافهما في بعض الأشياء كالفضل والمرتبة أو أكثرها ، فليتدبّر في المقام.

ومنها : ما أشار إليه صاحب الفصول (2) : من أنّ تقليد المفضول لو لم يكن جائزا لما جاز لمعاصري الإمام عليه السلام تقليد أصحابه ، بل كان عليهم الأخذ منه عليه السلام

ص: 658


1- الزمر : 9.
2- انظر الفصول : 424.

بلا واسطة أو العمل برواياته ؛ لأنّ القائلين بوجوب تقليد الأعلم يوجبون الرجوع إلى الرواية عنه أيضا ، أمّا الملازمة فثابتة بالأولويّة ؛ لأنّ الإمام أولى بالاتباع عينا عن المجتهد الأعلم. وإلاّ بطلان التالي بالضرورة والبداهة ؛ لأن عوام زمن الإمام عليه السلام كانوا يأخذون معالم دينهم من الصحابة ولم يكونوا مقتصرين على الأخذ عن الإمام عليه السلام ، ورواية أبان بن تغلب كالصريحة في نفي ذلك والسيرة المستمرّة شاهدة عليه.

وجوابه : أنّ رجوعهم إلى الصحابة في الجملة مسلّم لكنّه غير مجد وإنّما المجدي الرجوع إليهم مع العلم بالاختلاف ، وهذا غير معلوم ، بل معلوم عدمه ، كيف لا مع أنّ مخالفة الإمام عليه السلام توجب القطع ببطلان الفتوى ، ولم نسمع أحدا يدّعي جواز التقليد مع العلم بالبطلان فضلا عن وقوعه.

هذا مع أنّ قياس المجتهد الأعلم بالإمام عليه السلام فيه ممّا يشمئز منه النفس كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره : من أنّه كان عليهم العمل بالرواية ، ففيه : أنّ المقلّد ليس له أهلية لذلك ، ولو فرض الكلام فيمن كان له التقليد والعمل بالرواية بناء على جوازهما في حقّ أصحاب الأئمة ؛ لعدم الفرق بين الفتوى والرواية في ذلك الزمان ، نقول : إنّ الأخذ بالفتوى المعارضة بالرواية حينئذ أخذ بأحد المتعارضين ، وهذا غير مربوط بالمقام كما لا يخفى.

ومنها : السيرة المستمرّة بين أهل التقليد من السلف إلى هذا الآن ، إذ من المعلوم : أنّ عوام كلّ عصر في كلّ مصر من يومنا هذا إلى زمن الأئمة عليهم السلام لم يكونوا ينادي (1) الرجل في طلب المجتهد الأعلم إلى الأطراف والجوانب ، بل

ص: 659


1- كذا في الأصل.

كانوا يعتمدون على قول كلّ فقيه جامع لشرائط الفتوى واختلاف مراتب العلم والآراء في طائفة الفقهاء والمجتهدين والرواة والمحدّثين لا يزال كان ثابتا. وكذلك إفتاء المفضولين من الصحابة ، ولم نسمع أنّ أحدا من الأئمة والصحابة منع من الأخذ بقول الفقيه وألزمهم بالرجوع إلى الأعلم ، مع أنّ التقليد من الامور المهمّة التي ينبغي كمال الاهتمام بشأنها. وقد تمسّك بها الحاجبي (1) والعضدي (2) وجماعة على ما حكي عنهم (3).

وجوابه أيضا يظهر ممّا قدّمنا في الأخبار الخاصّة (4) ؛ لأنّ اختلاف صحابة النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمة عليهم السلام كان نادرا في الغاية ، ومع ذلك فصورة العلم بالاختلاف كان أندر ، ومن أين ثبت أنّ الإمام عليه السلام أو بعض أصحابه قد علم بتقليد المفضول مع علم المقلّد بمعارضة قوله مع قول الأفضل منه ، ولم يمنعه كيف؟ مع أنّ العلم بذلك في زماننا مشكل ؛ فإنّا لم نجد أحدا يقلّد فقيها مع اعترافه وعلمه بأنّ غيره الأفقه مخالف له في الفتوى ؛ إذ الغالب الشائع في تقليد المفضول إنكار مقلّده أفضلية غيره عنه ، أو عدم اختلافهما فيما يفتيان لمقلّديهم ، أو عدم علمهم باختلافهما ، وإلى ما ذكرنا يشير ما عن النهاية (5) والمنية (6) من منع السيرة.

ص: 660


1- انظر المختصر وشرحه : 484.
2- انظر المختصر وشرحه : 484.
3- حكاه العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : 447 ، والسيّد العميدي في المنية : 349 ، وانظر مفاتيح الاصول : 628.
4- راجع الصفحة : 657.
5- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 447.
6- منية اللبيب : 447 ، وحكى عنها السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 628.

ومنها : لزوم العسر والحرج في الاقتصار على تقليد الأفضل ، خصوصا إذا كان المراد به من كان أفضل عصره ، كما لعلّه الظاهر من كلام المانعين.

وفيه : أنّ العسر المدعى به إمّا أن يكون في تشخيص الأعلم ، أو في الرجوع إليه من البلدان النائية ، أو في العمل بفتاويهم. والجميع كما ترى قول ظاهريّ غير أصيل :

أمّا الأول ، فلأنّ تشخيص الأعلم ليس إلاّ كتشخيص أصل المجتهد ، فكما أنّ معرفة أصل الاجتهاد في تشخيص المجتهد ليس فيها العسر والحرج ، كذلك معرفة أعلميّته من غيره. وحلّه : أنّ الأعلميّة موضوعة (1) من الموضوعات المعروفة كالاجتهاد ، يمكن إحرازها بالرجوع إلى أهل الخبرة ، خصوصا بعد ملاحظة اعتبار مطلق الظن في تشخيص الأعلميّة دون الاجتهاد ، كما سيأتي.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الرجوع إلى الأعلم يتقدّر بقدر الإمكان الغير البالغ حدّ العسر والحرج ، فإن اقتدر على أخذ فتاوى الأعلم المطلق من غير عسر بلا واسطة الرسالة أو العدول - كما هو الغالب بعد فتح باب تأليف الرسائل وإيصالها إلى البلدان النائية - تعيّن الأخذ بها ، وإلاّ تعيّن الرجوع إلى غيره مراعاة للأفضل فالأفضل.

والحاصل : أنّ المراد بالأفضل وإن كان أفضل أهل عصره إلاّ أنّ المناط مطّرد في الأفضل الإضافي بعد تعذّر الأخذ من المطلق ، فلا حرج حينئذ في شيء.

ص: 661


1- كذا ، والمناسب : الموضوع.

وأمّا الثالث ، فلأنّ الأعلميّة لا تقتضي صعوبة العمل بالفتوى ، بل ربّما يكون العمل بفتاوى غير الأعلم أصعب ، لكثرة إفتائه بالاحتياط باعتبار عدم اقتداره على استخراج حكم المسألة مثل الأعلم ، خصوصا إذا كان خائضا في بحر التقوى والورع ، وهذا واضح.

وقد استدلّ على الجواز بوجوه أخر ضعيفة أعرضنا عنها ؛ لأنّ فيما ذكرنا غنية عن غيره.

[ وجوه القول بوجوب تقليد الأفضل ] :

حجّة المختار - زيادة عمّا سمعت من الأصل السالم عن المعارض ، والإجماعات - : الأخبار والاعتبار :

أمّا الأخبار : فمنها مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة ، « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث - إلى أن قال - : فإنّ كلّ واحد منها اختار رجلا من أصحابنا فتراضيا أن يكونا ناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر ... » (1).

دلّت على تقديم قول الأفقه والأصدق في الحديث على قول غيرهما عند الاختلاف في حكم اللّه تعالى.

لا يقال : المراد بالحكم هو فصل الخصومة بقرينة السؤال في منازعة الرجلين في دين أو ميراث ، فلا دلالة لها على تقديم فتوى الأفقه.

ص: 662


1- الكافي 1 : 67 ، الحديث 10 ، ومن لا يحضره الفقيه 3 : 8 ، الحديث 3233 ، والتهذيب 6 : 301 ، الحديث 845 ، وعنها في الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

لأنّا نقول :

أوّلا : أنّ الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم والفتوى ، فكلّ من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه أيضا. وقد اعترف بهذا الإجماع صاحب المفاتيح (1) في ظاهر كلامه ؛ لأنّه اقتصر في المناقشة عليها : بأنّها لا تناول (2) غير صورة اختلاف الحكمين فلا بدّ من ضميمة الإجماع المركّب ، وهو ممنوع. فلو كان التفصيل بين الفتوى والحكم ممكنا عنده لكان منع دلالتها على المدّعى في اختلاف الفتوى أولى بالمناقشة. اللّهم إلاّ أن يكون الحكم المشتمل عليه الرواية عنده أعمّ من الفتوى ، فالمسألتان حينئذ من باب واحد متساويتا الأقدام في الاندراج تحت الحديث ، غير أنّ صورة عدم الاختلاف في الحكم الأعم من الفتوى يحتاج في ثبوت الحكم فيه إلى الإجماع المركّب الذي منعه. نعم ظاهر صاحب الإشارات (3) عدم ثبوت الاجماع المركّب ، حيث حمل الحكم على الحكم المصطلح أعني القضاء. ثمّ استدلّ في تعارض الفتوى بالفحوى وتنقيح المناط ، وفي غير هذه الصورة لعدم (4) القول بالفصل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ إنكار هذا الإجماع مكابرة واضحة اعترف به شيخنا ( دام ظله العالي ) وهو كذلك. نعم ، الظاهر أنّه لا عكس ، فإنّ من يقول بوجوب تقليد الأعلم لعلّه لا يقول بوجوب المرافعة عند الأعلم وإن كان الحق خلافه كما ستعرف.

ص: 663


1- مفاتيح الاصول : 628 ، وانظر الصفحة 632 أيضا.
2- كذا ، والأنسب : تتناول.
3- لم نعثر عليه.
4- كذا ، والمناسب : بعدم.

وثانيا : أنّ المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عليه عند الفقهاء أعني القضاء ، بل الظاهر أنّ المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى مثل قوله تعالى في غير موضع : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ ) (1) الآية. يدلّ على ذلك - زيادة على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « الحكم » - : قول الراوي : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » فانّ المتبادر كونه بيانا لاختلاف الحكم ، ومن الوضح : أنّ الاختلاف في نفس القضاء ليس اختلافا في الحديث. نعم الاختلاف في فتوى رواة عصر الإمام اختلاف في الحديث ؛ نظرا إلى اشتراك الفتاوى ورواياتهم في الاستناد إلى السماع عن الإمام عليه السلام عموما أو خصوصا ، فيكون الاختلاف في الفتوى اختلافا في الحديث ، وكذا يدلّ عليه قول الإمام عليه السلام : « الحكم ما حكم به أصدقهما في الحديث » فإنّ صدق الحديث إنّما يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث ، دون القضاء. ودلالة في منازعة المتحاكمين على كون المراد به القضاء ؛ لأنّ المتنازعين ربما ينشأ نزاعهما من جهة الاشتباه في الحكم المشروع ، فيرجعان إلى من يحكم بينهما بالفتوى دون القضاء. والظاهر أنّ نزاع الرجلين كان من هذه الجهة ، لا من جهة الاختلاف في الموضوع ومرجعه إلى الادّعاء والإنكار ، وإلاّ لما كان لاختيار كلّ منهما حكما وجه ؛ فإنّ فصل الخصومة حينئذ يحصل من حكم واحد.

واعلم أنّ جمع الحكمين والحكّام في مسألة أو نزاع يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون المقصود من اجتماعهم صدور الحكم منهم أجمع.

والثاني : أن يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم ، ويكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدّمات الحكم لئلاّ يخطأ.

والثالث : أن يكون الحكم مقصود الصدور من بعض ، ومن الباقين إنفاذ

ص: 664


1- سورة المائدة : 44 و 45 و 47.

حكمه وإمضائه ، ولا ريب أنّ الفرض الغالب المتعارف من جميع الحكّام دائر بين الصورتين الأخيرتين.

وأمّا الصورة الاولى فبعيدة في الغاية ، ولم نسمع وقوع ذلك في شيء من الأزمنة.

ولو جهلنا الحكم في الرواية على الحكم المصطلح لم تكد تنطبق على شيء من الصور.

أمّا على الأخيرتين فواضح ؛ لأنّ صريح الرواية صدور الحكم من كلّ من الحكمين والمفروض في هاتين الصورتين عدم صدور الحكم إلاّ من أحدهم.

وأمّا على الصورة الاولى ، فمع ما فيه من تنزيل الرواية على فرض نادر ، ينافيه ما فيها بعد ذكر المرجّحات « قال : فقلت : إنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه عند أصحابك » فإنّ الأمر بالنظر إلى مدرك الحكمين من الروايات والأخذ بالمشهور لا يلائم تعارض الحكم المصطلح من وجهين :

أحدهما : أنّ شغل المترافعين ليس النظر في مدرك الحكمين ، والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر إجماعا.

والثاني : أنّه إذا تعارض الحكمان ولم يكن في أحد الحاكمين مزيّة على الآخر في شيء من الأوصاف المزبورة ، فالمرجع حينئذ هو أسبق الحكمين ، بل لا يبقى في صدور الحكم من أحد الحكّام محلّ لحكم الآخر. ولو حمل الرواية على ما إذا كان الحكمان يتساقطان حينئذ فلا وجه للأخذ بالمرجّحات.

ومن هنا ظهر أنّ ما حكاه شيخنا ( دام ظلّه العالي ) عن الشهيد : من حمل الرواية على هذه الصورة إنكارا على من تمسّك بها لتقديم حكم الأعلم والأورع

ص: 665

ليس في محلّه مع أنّه قدس سره اعترف في محكي المسالك (1) بدلالة الرواية نصّا على تقديم الأعلم في الفتوى لا بدّ من حمل الحكم المذكور على المعنى اللغوي ، أي الحكم بما أنزل اللّه ، وهو الفتوى ؛ فإنّها تنطبق على جميع الصور المزبورة في غاية الوضوح ، فإنّ اختلاف الفتاوى لا ينافي شيئا من المقاصد الثلاثة ، كما أنّ السبق واللحق في الفتاوى المتعارضة لا عبرة بهما جدّا ؛ ولذا تمسّك بهذه الرواية غير واحد من الأعاظم على تعيين الأعلم ، مثل الفاضل الهندي (2) والفاضل المازندراني (3) على ما حكي عنهما (4).

ومنها : رواية داود بن حصين عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى قول أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا ، وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر » (5).

ومنها : خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « عن رجل يكون بينه وبين آخر منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما؟ قال : وكيف يختلفان؟ قلت : كلّ منهما الذي اختاره الخصمان. فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه » (6).

والتقريب منهما ما قدّمناه في المقبولة.

ص: 666


1- انظر المسالك 13 : 344 - 345.
2- كشف اللثام ( الطبعة الحجرية ) 2 : 320 - 321.
3- شرح الزبدة : 261.
4- حكاه عنهما في مفاتيح الاصول : 627.
5- الوسائل 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20.
6- الوسائل 18 : 88 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 45.

ومنها : المروي عن نهج البلاغة (1) عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في كتابته (2) إلى مالك الأشتر ، نقله صاحب المفاتيح وكان الذي يحضرني من نسخته مغلوطا ؛ ولذا أعرضنا عن ذكره ، والقدر المعلوم منه أمر المالك (3) باختيار الأبصر والأفضل للحكم بين الناس.

وأمّا الدليل الاعتباري العقلي ، فهو أنّ الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى من قول غيره ، فيجب العمل به عينا ؛ لأنّ العدول من أقوى الأمارتين إلى أضعفهما غير جائز.

أمّا الصغرى فوجدانيّة ؛ لأنّ لزيادة العلم تأثيرا آخر في إصابة الواقع.

وأمّا الكبرى ، فمع إمكان دعوى الاتّفاق عليها - كما يظهر من تتبع أقوال العلماء في تعارض الأخبار - يشهد بها بداهة العقل. وقد يتمسّك بهذه الحجّة في محكي النهاية (4) والتهذيب (5) والمنية (6) والمعالم (7) وكشف اللثام (8) وشرح الزبدة للفاضل المازندراني (9).

ص: 667


1- نهج البلاغة : 434 ، الكتاب 53.
2- كذا في المصدر.
3- كذا ، والأنسب : مالك ، ولعلّه اخذ بمعناه الوصفي ، كما هو المألوف في تعبيراتهم : كالتقي والمحسن والمرتضى ، ونحوها.
4- نهاية الوصول : 447.
5- تهذيب الوصول : 105.
6- منية اللبيب : 369.
7- معالم الدين : 246.
8- كشف اللثام ( الطبعة الحجرية ) 2 : 320 - 321 ، حكاه عنه في المفاتيح : 626.
9- شرح الزبدة ( المخطوط ) : 261.

واورد عليه :

تارة بمنع الصغرى ، واخرى بمنع الكبرى.

أمّا منع الصغرى ، فقد صدر عن جماعة من المحقّقين : كالنراقي (1) ، والقمّي (2) ، وصاحب المفاتيح (3) ، والفصول (4). وقد سبقهم على ذلك الشهيد الثاني في محكي المسالك (5) ، حيث قال - بعد تقرير الدليل المزبور - :

وفيه نظر ؛ لمنع كون الظن بقول الأعلم مطلقا أقوى ؛ فإنّ مدارك الظن لا تنضبط ؛ خصوصا في المسائل الشرعيّة ، فكثيرا ما يظهر رجحان ظنّ المفضول على ظنّ الفاضل في كثير من المسائل الاجتهادية. وفرق بين أقوال المفتين وأدلّة المستدل ؛ لأنّ المستدلّ يمكنه ترجيح بعض الأدلّة على بعض ، بخلاف العامي بالنسبة إلى الأقوال ، انتهى.

وربّما يلوح ذلك من الأردبيلي أيضا في محكي مجمع البرهان ، حيث قال : لا شكّ أنّه لو قطع النظر عن جميع الامور الخارجيّة يحصل الظن بقول الأعلم (6) ؛ فإنّ التقييد بقطع النظر عن الامور الخارجيّة يدلّ على أنّه بملاحظتها ربّما يتعاكس الأمر فيحصل القوّة في الظنّ الحاصل من قول غير الأعلم ، ولعلّ هذا مراد غيره من النافين أيضا ، فإنّهم لا ينكرون كون الأعلميّة مستلزمة للظن الأقوى في ذاتها

ص: 668


1- مناهج الأحكام والاصول : 300.
2- القوانين 2 : 246 - 247.
3- مفاتيح الاصول : 626.
4- الفصول : 423 - 424.
5- المسالك 13 : 344 - 345.
6- مجمع الفائدة والبرهان 12 : 21.

مع قطع النظر عن الامور الخارجيّة ، قال في محكي المفاتيح (1) : إنّ إطلاق كون الظنّ بقول الأعلم ممنوع إذ مع كون قول غير الأعلم موافقا لقول مجتهد آخر حيّ أو ميّت أو أكثر سيّما إذا زعمهم المقلّد أعلم ، فكيف يحصل الظنّ الأقوى من قول الأعلم ، بل مع تجويزه موافقة بعض المجتهدين للأدون لا يصير الظنّ بقوله أدون. وكذلك لو لم يكن ذلك الموافق للأدون أعلم من الأعلم ، بل ولا المتساوي أيضا. ومن هذا يظهر عدم ترتّب فائدة على التمسّك بعدم أعلميّة الغير ، مع أنّه لا يمكن هذه الدعوى إذا لوحظت فتاوى الأموات ، انتهى.

ويقرب منه ما ذكره رحمه اللّه في القوانين (2) ، حيث قال - بعد أن ذكر الدليل المزبور وادّعى كون تشبيههم المقام بأمارتي المجتهد قياسا - : والتحقيق : أنّهم إن أرادوا أنّ عمل المقلّد بظنّ مجتهده إنّما هو لأجل أنّه محصّل للظن بحكم اللّه الواقعي ، والمجتهدان المختلفان أمارتان على ذلك الحكم كأمارتي المجتهد عليه.

ففيه : أنّه لا يتمّ على الإطلاق ؛ فإنّ مقلّدا كان في بلده مجتهدان : أحدهما أعلم من الآخر وهما مختلفان في الفتوى وفرض في عصره وجود مجتهدين آخرين في بلاد آخر ، فكيف يحصل الظنّ بأنّ قول أعلم المجتهدين في بلده هو حكم اللّه الواقعي دون من هو أدون منه؟ مع احتمال أن يكون بعض المجتهدين الذين في البلاد الآخر مخالفا لذلك الأعلم وموافقا للأدون مع كونه مساويا للأعلم

ص: 669


1- لم نعثر عليه في المفاتيح ، بل هو موجود في مناهج الأحكام والاصول : 300 ، والظاهر أنّه سهو القلم ويؤيّد ذلك ما جاء في الصفحة : 671 ، قال : وأمّا ما ذكر الفاضلان النراقي والقمّي ...
2- القوانين 2 : 246.

في العلم ، أو أعلم منه؟ إلى آخر ما قال وأطال في إثبات هذا المرام ، أعني : إمكان حصول الظنّ الأقوى من قول الأدون بملاحظة المرجّحات الخارجيّة ، كموافقة أعلم آخر ، أو المشهور ، أو غير ذلك.

وقال في الفصول : إنّ المقلّد قد يقف على مدارك الفريقين فيترجّح في نظره فتوى المفضول (1).

والجواب : أنّهم إن أرادوا من منع الصغرى إثبات التسوية بين الأعلم والأدون من حيث الظنّ في حدّ ذاتهما مع قطع النظر عن الامور الخارجيّة ، فهذه مكابرة واضحة تشهد بخلافها البداهة والوجدان ؛ إذ لا شكّ في أنّ لزيادة العلم والبصيرة بمدرك المسألة ومعارضاتها وطريق الاستنباط زيادة تأثير في إصابة الواقع ، كما اعترف به المولى الأردبيلي ، وإلاّ لم يتفاوت بين العالم والجاهل أيضا ، كما لا يخفى.

وإن أرادوا أنّ قول الأدون ربما ينضمّ إلى الظنّ الحاصل منه بعض الظنون الاخرى المستندة إلى امور خارجيّة فيقوى لأجل ذلك ، بحيث يفوق على الظنّ الحاصل من قول الأعلم ويساويه.

ففيه : أنّ الظنون التي تحصل للمقلّد بملاحظة الامور الخارجيّة ممّا لا عبرة به أصلا على القول بكون التقليد من الظنون الخاصّة الثابت حجّيتها من الأدلّة الشرعيّة ؛ وذلك لوجوه :

الأوّل : أنّه لا دليل على اعتبار هذه الظنون في مقام تقوية الأمارة وترجيحها على معارضها بعد أن كان مقتضى الأصل عدم الاعتبار ؛ فإنّ قوة

ص: 670


1- الفصول : 424.

الأمارة إمّا تحصل باعتبار ما فيها نفسها من الأوصاف المقربة للواقع كالأعلميّة والأورعيّة والأوثقيّة ونحوها من المرجّحات الداخليّة والمفروض عدم كون هذه الظنون كذلك ، أو باعتبار تعاضدها بمثلها ، أو بأقواها من الأمارات المعتبرة الثابت حجّيتها بدليل قاطع ، والمفروض عدم كونها كذلك أيضا ؛ فإنّ الشهرة مثلا على القول بأنّ وظيفة المقلّد هو التقليد دون العمل بمطلق الظنّ ، ليس من الأمارات المعتبرة في حقّ المقلّد فمن أين يحصل بسببها قوّة في قول الأدون تتكافأ قوّة الظنّ الموجودة في قول الأعلم.

وأمّا ما ذكره الفاضلان النراقي (1) والقمّي (2) رحمهما اللّه : من أنّ موافقة قول المفضول أحيانا لقول المجتهدين الآخر ربّما توجب القوّة في الظنّ الحاصل من قوله.

ففيه : أنّ ذلك المجتهد المفروض موافقة قوله لقول الأدون إن كان أعلم ممّن فرض أعلميّته عن الأدون أو لا تعيّن عليه العمل بقوله ، وإلاّ فلا أثر في موافقته جدّا ؛ لأنّ توافق أقوال المجتهدين ليس كتعارض الأخبار في الغلبة على المعارض ؛ لأنّ مناط القوّة والضعف في كلّ منهما شيء وراء المناط في الآخر ، فالمدار في قوّة الأقوال حسن نظر صاحبها ومهارته في تميّز (3) الصواب والخطأ في الامور الاجتهادية ، ومناط قوّة الرواية تحرّز الراوي عن الكذب واكتناف الرواية بما يؤكّد الظنّ بصدورها ، فإذا توافق الأدونان لم يترتّب على موافقتهما شيء لا يترتّب على صورة المخالفة ، فالظنّ الحاصل من قول الأعلم المعارض

ص: 671


1- المناهج : 300.
2- القوانين 2 : 246.
3- كذا ، والمناسب : تمييز.

لهما حينئذ باقى أيضا على قوته الشأنية الذاتية والسرّ في ذلك : أنّ الأنظار المتقاربة والأفهام المتشابهة لا يحصل من توافقها ظنّ يترجّح على الظنّ الحاصل من قول أصوبهم في الإنكار.

ومن هنا انقدح الفرق بين تعاضد الأخبار وتوافق الأقوال ؛ فإنّ الأوّل ربّما يوجب تقديم المتعاضدين على معارضهما الأصحّ ، بخلاف الثاني ؛ فإنّ وجوده وعدمه سيّان في وجوب الأخذ بغيرهما إذا كان أقوى.

فإن قلت : قد ذكرت فيما تقدّم : أنّ الأصل في التخييرات العقليّة الأخذ بكلّ ما يحتمل كونه مرجّحا وإن لم يقم دليل دلّ على مرجّحيته ، وعليه بنيت تقديم قول الأعلم ، ولا ريب أنّ موافقة قول الأدون ؛ للامور الخارجيّة المفيدة للظنّ ممّا يحتمل كونه مرجّحا ، فلا وجه لعدم الأخذ بها.

قلنا : ما ذكرنا إنّما هو فيما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين ، لا بين المتباينين كما في المقام.

فإن قلت : بناء الأصحاب في التعادل والتراجيح على ترجيح الأخبار بالمرجّحات الخارجيّة التي لم يقم دليل على حجّيتها إذا لم يكن قد قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس ، وقول المجتهد أيضا طريق ظنّيّ للمقلّد ، فما الفارق بينهما؟

قلنا :

أوّلا : أنّ ترجيح الأخبار بمطلق المرجّحات أمر مستفاد من إشارات أخبار التراجيح وتلويحاتها ، ومثل هذه الأخبار مفقودة في المقام.

وثانيا : أنّ حجّية الأخبار إنّما هي لأجل إفادتها الظنّ في نظر العاملين بها كالمجتهدين ، وحيث اعتبر نظرهم في جعل الطريق الظنّي اعتبر نظرهم في طلب المرجّحات عند التعارض.

ص: 672

وأمّا حجيّة أقوال العلماء للعوام فليست لأجل إفادتها الظنّ في نظر القاصرين ، بل لأجل غلبة مصادفتها للواقع نوعا ، فلا وجه لاعتبار نظرهم في طلب المرجّحات.

والحاصل : أنّ الشارع لمّا وجد العوام قاصري النظر في الامور العلميّة جعل لهم أقوال العلماء طريقا تعبّديا باعتبار ما فيها من غلبة المطابقة للواقع وأمرهم بالرجوع إليهم من غير النظر والفحص عن شيء ، فكأنّه صار نظرهم عنده ساقطا عن الاعتبار في جميع المقامات.

والثاني : أنّ ظنون المقلّد التي تحصل له من غير الطريق الشرعي المعيّن له ممّا لا يكاد ينضبط بضابط ، فربما يحصل له الظنّ من قول عاميّ آخر ، أو من الرمل والجفر والنجوم ونحوها ، وربّما يترجّح في نظره المفضول بملاحظة حسبه ونسبه واشتهاره بين العوام ، فإما نجوّز له الاعتماد على كلّ ظنّ خارج عن الطريق المخصوص في مقام الترجيح ، أو نمنع عن الاعتماد عليها مطلقا ؛ لأنّ المناط منقّح ، والفارق مفقود ولا سبيل إلى الأوّل لأدائه [ إلى ](1) مفاسد عظيمة في هذا الدين ، وإلى الهرج والمرج كما لا يخفى على المنصف فتعيّن الثاني.

والحاصل : أنّ تأكّد الظن الموجود في طرف الأعلم لا يعارضه شيء من الظنون الداخليّة ؛ لأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض تساوي الفاضل والمفضول في جميع الجهات غير الفضل ، فيجب اتباعه بحكم العقل القاطع بوجوب العمل بأقوى الأمارتين.

ص: 673


1- الزيادة اقتضاها السياق.

الثالث : إمكان دعوى الاتّفاق على سقوط إنكار العوام والمقلّدين عن درجة الاعتبار في جميع المقامات ، حتّى الترجيح. نعم ، قضية ما أسّسه الفاضل القمّي رحمه اللّه من الأصل كون المقلّد كالمجتهد في الأخذ بالأمارات كائنا ما كان ، ولكنّه لم أجد موافقا له في ذلك ، كما مرّ غير مرّة ؛ فإنّ كلّ من أجاز التقليد جعله من الظنون الخاصّة الثابت حجيتها بالدليل ، لا من الظنون المطلقة الناشئة من الدليل الرابع في حق المقلد.

وبالجملة ، ما ذكره الجماعة في منع صغرى الدليل المزبور بعد تسليمه مما لا يقدح في تماميّته ؛ لأنّ حصول الأقوى من الأدون بملاحظة موافقته لبعض الامور وعدمه سيّان في عدم مصادمته ومقاومته لقول الأعلم. نعم ، يمكن المناقشة في الصغرى بوجه آخر ؛ لأنّ قول المفضول ربما يكون مفيدا للظنّ الأقوى من حيث الأمور الداخلية ، مثل أن يكون قوّة الظن مستندة إلى فحصه وبذل جهده زيادة عمّا يعتبر في اجتهاد المجتهدين من الفحص ؛ فإنّ هذا الظن مستند إلى قول المفضول نفسه ، فيكون معتبرا لحصوله من الطريق الشرعي.

ولا يتوهم : أنّ الأعلميّة تنافي نقصان فحص الأعلم عن فحص المفضول ؛ لأنّ التعدّي عن المقدار المعتبر من الفحص ليس بواجب على المجتهد ؛ فقد يقتصر الأعلم على ذلك المقدار ويتعدّى المفضول عنه فيحصل الظن من قوله أقوى من الظن الحاصل من قول الأعلم المقتصر على القدر الواجب من الفحص ؛ لأنّ ذلك غير مناف أيضا للأعلميّة ؛ فإنّ زيادة العلم إنّما تجدي عند التساوي من جميع الجهات الداخلية المفيدة للظن. وستعرف الكلام في هذا الفرض وأنّه يحتمل فيه وجوه ثلاثة.

وربّما اجيب عن منع الصغرى :

ص: 674

أوّلا : بأنّ فرض حصول الظن من قول الأدون نادر في الغاية وإن كان ممكنا سيّما في حقّ المتجزّي ومن دونه من المحصلين البالغين رتبة من العلم ، وبناء الشرع على الغالب ، فينزل عليه ما دلّ على وجوب الأخذ بأقوى الأمارتين.

وفيه : أنّ دليله المعتمد عليه إنّما هو العقل ، وهو غير فارق بين الغالب والنادر.

وثانيا : أنّه إذا ثبت وجوب تقليد الأعلم يحصل الظنّ الأقوى من قوله ، فيثبت فيما عداه من الصور ؛ لعدم القول بالفصل. ثمّ قال : لا يقال : يمكن معارضة هذا بمثله فيما لو حصل الظنّ الأقوى من قول المفضول.

لأنّا نقول : هذا حسن لو لم ينعقد الإجماع على عدم تعيين تقليد المفضول مطلقا ، وأمّا معه كما هو الظاهر ، فلا.

سلّمنا ، لكن نقول : حيث حصل التعارض وجب الرجوع إلى الترجيح ، ومعلوم أنّه (1) مع ما دلّ على وجوب العمل بقول الأعلم.

وأمّا منع الكبرى ، فهو صريح القوانين والمفاتيح ، وربّما نقل عن مناهج النراقي (2) أيضا.

وحاصله : أنّ تعيين الأعلم لقوّة الظنّ الحاصل من قوله ، إنّما يتمّ إذا كان المناط في التقليد حصول الظنّ لا التعبّد ، فعلى تقدير كونه تعبّدا محضا راجعا إلى نحو من السببيّة المطلقة - كالعمل بالبيّنة عند القائلين بها تعبّدا - فلا وجه لملاحظة قوّة الظن وضعفه ، بل بحسب الاعتماد على أحدهما تخييرا كما في البيّنة

ص: 675


1- أي الترجيح.
2- انظر القوانين 2 : 246 - 247 ، ومفاتيح الأصول : 626 ، ومناهج الأحكام والاصول : 300.

المتعارضة. وإلى هذا أشار في القوانين حيث قال بعد منع الصغرى : ودعوى كون المدار على ظنّ المقلّد الحاصل من أيّ شيء وإن أرادوا أنّ ذلك - مشير (1) إلى التقليد - حكم آخر ينوب مناب الحكم الواقعي تجوّز العمل بالظنّ وإن لم يحصل الظن بالحكم الواقعي كالتقيّة النائية عن مرّ الحق ، فلا دليل على وجوب الترجيح ؛ فإنّ الذي ثبت من الدليل : أنّه إذا لم يكن للمقلّد العلم بحكم اللّه الواقعي يجوز العمل بظن كلّ من تمكّن من استنباط الحكم من هذه الأدلّة ، وأمّا إن ظنّ هذا الشخص هل هو كاشف عن الواقع أم لا فلا يحتاج إليه على هذا الفرض ، وحينئذ فلا دليل على اعتبار الأقوى ، بل لا معنى لاعتبار الأقوى والأقرب والأرجح ؛ لأنّ قولنا : « حكم اللّه الظاهري هو ما كان أرجح » لا بدّ له من متعلّق ومن بيان أرجحيّته في أيّ شيء (2) ، انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

وجوابهم : ثبوت الواسطة بين ما زعموه من الظنّ الشخصي والتعبّد المحض ؛ لأنّ حجّية الأمارات تارة تناط بحصول الظنّ الشخصي واخرى بحصول الظنّ النوعي.

وأيضا أنّ كلّ الأمارات الشرعيّة أو جلّها حجّيتها إنّما هي من أجل إفادتها الظنّ شأنا ونوعا ، لا شخصا وفعلا ، ولا تعبّدا محضا ، يدلّ على ذلك في المقام :

أوّلا : الأصل المقرّر في نظائر المقام ، كما مرّ غير مرّة ؛ لأنّ البناء على التعبّد المحض يقتضي البناء على التخيير فيما إذا اختلفت الأمارتان بحسب الظنّ النوعي ؛ بخلاف البناء على كون حجّيتها من جهة الظن النوعي ؛ فإنّ مقتضاه متابعة الأقوى خاصّة اقتصارا فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن ، كما ظهر وجهه غير مرّة.

ص: 676


1- كذا ، والمناسب : مشيرا.
2- القوانين 2 : 246 - 247.

وثانيا : اشتمال جملة من الأخبار الخاصة التي هي عمدة أدلة شرعيّة التقليد على قدح المفتي بالوثاقة وصدق الحديث ، وهذا يفصح عن كون اعتبار الفتوى من جهة إفادتها الظنّ نوعا.

والحاصل : أنّه لا إشكال في أنّ بناء التقليد ليس على السببية المحضة والتعبّد المحض ، وما ذكروه : من عدم ملاحظة مراتب الظنون ، إنّما يتّجه في الامور التعبّدية المحضة الراجعة إلى السببية المطلقة ، وأمّا في الطرق المعتبرة من حيث إفادتها الظنّ نوعا لا شخصا ؛ فلا ضرورة قضاء بداهة العقول بمراعاة أقوى الأمارتين التي حجّيتهما من جهة الظن النوعي.

وبالجملة : ليس الأمر كما توهّمه الفاضل القمّي رحمه اللّه من كون التقليد أحد الظنون المطلقة الشخصيّة حتّى يتّجه الأخذ بقول الميّت والمفضول إذا كان الظن الحاصل منه أقوى من الحيّ الأعلم ، ولا كما زعمه المانعون عن الكبرى : من كونه تعبّدا محضا حتّى ينهدم أساس الأخذ بأقوى الأقوال نوعا ؛ بل أمر بين الأمرين ، وقصد بين الإفراط والتفريط. واللّه العالم.

وربما استدلّ على وجوب تقليد الأعلم بأمور أخر زيادة عمّا ذكرنا :

منها : ما عن كشف اللثام وشرح الزبدة للفاضل الصالح (1) : من أنّ تقليد المفضول مع وجود الأفضل يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح. وهذا في الحقيقة دليل من الأدلّة المستدل بها على كبرى القياس المزبور ، ويحتاج في تقريبه إلى فرض سقوط الظنون الخارجيّة التي تحصل للمقلد عن الاعتبار ، كما هو الحقّ ، وإلاّ فمن الواضح عدم جريانه إذا تساوى الظنّان أو كان الظنّ الحاصل

ص: 677


1- حكاه عنهما في مفاتيح الاصول : 626 ، وانظر كشف اللثام ( ط. الحجريّة ) 2 : 320، وشرح الزبدة ( المخطوط ) : 261.

من قول الأدون أقوى ؛ لأنّ المناط في الرجحان والمرجوحيّة في حكم العقل هو الرجحان الشخصي متى لم يقم دليل قطعي عنده على عدم الاعتداد به ، ومن ذلك يظهر : أنّ منع الأردبيلي في محكي المجمع (1) عن الملازمة المزبورة استنادا إلى إمكان وجود الرجحان في قول المفضول أحيانا ليس بقادح في الاستدلال.

ومنها : ما عن الفاضل في النهاية (2) من أنّ الأعلم له مزية ورجحان على الأدون ، فيقدّم كما قدّم في الصلاة. وهذا إن رجع إلى قاعدة الأخذ بأقوى الأمارتين فهو ، وإلاّ - كما هو الظاهر من التنظير بالصلاة - فلا نرى له وجها. ومع ذلك فلا يفيد إلاّ الاستحباب.

ولو قال مكان قوله : « كما قدم في الصلاة » ، « كما قدم في الإمامة » لكان أولى.

ومنها : أنّ تجويز تقليد المفضول تسوية بينه وبين الأفضل وينفيها قوله تعالى : ( ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... ) (3). وربما عكس الاستدلال به على الجواز ، كما أشرنا إليه في ذكر حجج المثبتين ، وإلى ما فيه من المناقشة.

وهذا ختم الكلام في تنقيح أصل المسألة. بقي الكلام في أطرافها ويتمّ في بيان امور :

الأوّل : لا يذهب عليك أنّه على فرض تماميّة أدلّة المجوّزين يجوز للعامي الرجوع إلى الأدون ابتداء من دون الرجوع إلى الأعلم ؛ لأنّ المسألة من الخلافيّات التي وظيفتها الاجتهاد أو التقليد ، ولا سبيل للمقلّد إلى الأوّل ؛

ص: 678


1- مجمع الفائدة 12 : 21.
2- نهاية الوصول : 447.
3- الزمر : 9.

لقصوره عن فهم أدلّة القولين ، فتعيّن الثاني. وتقليد أحد المفضولين بتقليد المفضول الآخر يؤدّي إلى الدور والتسلسل كما لا يخفى ، فثمرة البحث في تقليد الأعلم إنّما تعود إلى المجتهد إذا سأله العامي عن جواز تقليد المفضول. نعم ، إذا كان المقلّد غافلا عن الخلاف في المسألة فيرجع (1) إلى الأدون ، صح (2) عمله على القول بجواز تقليده ؛ بناء على صحة عبادات الجاهل.

ومثله من تمكّن عن نيّة القربة في العبادات من الملتفتين إلاّ أنّه فرض لم نتحقّق إمكانه ؛ فإنّ الالتفات إلى الخلاف يستلزم الشكّ في صحّة العبادة التي قلّد فيها الأدون ، فكيف يتحقّق الجزم بالقربة.

والثاني : الأعلم من كان أقوى ملكة وأشدّ استنباطا بحسب القواعد المقرّرة ، ونعني به من أجاد في فهم الأخبار مطابقة والتزاما إشارة وتلويحا ، وفي فهم أنواع التعارض وتميّز (3) بعضها عن بعض ، وفي الجمع بينهما بإعمال القواعد المقرّرة لذلك مراعيا للتقريبات العرفيّة ونكاتها ، وفي تشخيص مظانّ الاصول اللفظية والعمليّة ، وهكذا إلى سائر وجوه الاجتهاد وأمّا أكثر (4) الاستنباط وزيادة الاستخراج الفعلي مما لا مدخليّة له.

كتبه العبد الحقير الفقير زين العابدين بن محمّد شريف القزويني في دار الخلافة طهران ، في شهر رجب المرجب 1308 ه ، قد يرجى من الناظرين أن يطلبوا المغفرة لباني هذا الكتاب وكاتبيه ووالديهم.

ص: 679


1- كذا ، والأنسب : فرجع.
2- كذا ، ولعله : وصحّ ....
3- كذا ، والمناسب : تمييز.
4- كذا ، والمناسب : أكثريّة.

ص: 680

الفهرس

ص: 681

ص: 682

الفهرس

القول في المفهوم والمنطوق

7 - 126

هداية - في بيان امور ترتبط بالمقام ... 9

الأوّل : أن المفهوم والمنطوق وصفان منتزعان من المدلول من حيث هو مدلول... 9

الثاني : هل المدلول منحصر في المفهوم والمنطوق أو لا؟ ... 10

الثالث : هل يدخل المدلولات الثلاث في المنطوق أو المفهوم؟ ... 11

الرابع : تعريف المنطوق والمفهوم ... 12

الخامس : تقسيم المنطوق إلى صريح وغيره ... 18

هداية - الكلام في مفهوم الجملة الشرطية ... 21

ذكر احتجاج القائلين بالمفهوم ... 28

ذكر احتجاج منكري المفهوم ... 30

ص: 683

هداية - هل النزاع في ثبوت المفهوم مختص بموارد الوصايا والأوقاف والأقارير أو يشمل الأعمّ منها؟ 37

هداية - وجوب تطابق المفهوم والمنطوق في جميع القيود المعتبرة في الكلام والاعتبارات اللاحقة له ، إلاّ في النفي والاثبات 41

هداية - حكم تعدّد الشرط ... 47

هداية - حكم تعدّد الأسباب واتحاد الجزاء ... 51

وجه القول بعدم التداخل والتفصّي عمّا يرد على مقدمات هذا الوجه ... 58

فائدتان - الأولى : حكم تعدّد الفعل في الخارج في التداخل السببي أو المسبّبي... 75

الثانية : حكم توارد الأسباب الشرعية على مسبّب واحد غير الفعل ... 76

هداية - الكلام في مفهوم الوصف ... 79

ذكر احتجاج منكري المفهوم ... 85

ذكر احتجاج المثبتين ... 86

تنبيهات - الأوّل : يشترط في ثبوت المفهوم عدم كون الوصف واردا مورد الغالب 88

الثاني : اللازم في أخذ المفهوم الأخذ بجميع مجامع الكلام وقيوده سوى النفي والإثبات 91

الثالث : التفصيل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره ... 91

هداية - الكلام في مفهوم الغاية ... 93

المقام الأوّل : هل تدخل الغاية في المغيّا أم لا؟ ... 96

المقام الثاني : هل ينتفي الحكم المغيّا بعد حصول الغاية أم لا؟ ... 98

ص: 684

هداية - الكلام في مفهوم ما يفيد الحصر ... 105

هداية - الكلام في مفهوم اللقب ... 121

هداية - الكلام في مفهوم العدد ... 123

تذنيب - صور أخذ العدد في متعلق الحكم ... 125

القول في العموم والخصوص

127 - 238

هداية - الكلام في حجية العام المخصّص في الباقي ... 131

هداية - عدم صحة التعويل على العام عند عروض الاشتباه في أفراد المخصّص لو أخذ عنوانا 135

هداية - صحة التعويل على العام عند عروض الاشتباه في أفراد المخصص لو لم يؤخذ عنوانا 143

تنبيهات ... 148

هداية - تسرية إجمال المخصّص إلى العام ... 151

هداية - هل يجوز الأخذ بالعام قبل الفحص عن المخصّص ... 157

احتجاج القائلين بعدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص ... 161

احتجاج المجوّزين ... 172

تذنيب - الكلام في مقدار الفحص ... 179

هداية - إمكان شمول الخطاب للمعدومين على وجه الحقيقة ... 183

توضيح المرام بعد رسم امور : ... 183

الأول : تحرير العنوان ... 183

ص: 685

الثاني : معنى الخطاب ... 184

الثالث - هل النزاع عقليّ أو لغويّ؟ ... 186

الأقوال في المسألة ... 189

هل تشمل الخطابات القرآنية المعدومين والغائبين؟ ... 191

تنبيهات - الأوّل : عدم الفرق بين المعدوم والغائب عن مجلس الخطاب في عدم تحقّق المخاطبة 192

الثاني : هل تترتّب ثمرة عملية على هذه المسألة؟ ... 194

الثالث : شرطية اتحاد الصنفين في اشتراك المشافهين وغيرهم ... 198

الرابع : الكلام في اشتراك كل الامّة في الخطابات الشرعية ... 200

هداية - تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ... 205

هداية - تخصيص العام بمفهوم الموافقة وبلحن الخطاب ... 213

هداية - تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ... 219

هداية - الخاصّ المخالف لحكم العام قد يكون بيانا له وقد يكون ناسخا ... 227

التنبيه على امور مهمّة ... 231

القول في المطلق والمقيّد

239 - 291

هداية - تعريف المطلق ... 241

هداية - هل التقييد يوجب مجازا في المطلق أم لا؟ ... 249

تذنيب - عدم الفرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة أو النهي بها في تشخيص مداليل اللفظ 258

ص: 686

هداية - طريق إثبات الشياع والسريان في معنى اللفظ ... 259

هداية - شروط حمل المطلق على الإطلاق ... 263

هداية - صور حمل المطلق على المقيّد وعدمه ... 271

تنبيه : طريق استفادة اتحاد التكليف في المطلق والمقيد وتعدّده ... 274

تذنيبان - الأول : الكلام في دعوى انصراف المطلق إلى بعض الأفراد ... 277

الثاني : الكلام في الفرق بين الواجب والمستحبّ في حمل المطلق على المقيّد ... 281

هداية - حكم المطلق والمقيّد في الأحكام الوضعيّة ... 287

تذنيب يشتمل على فوائد ... 288

القول في المجمل والمبيّن

293 - 315

هداية - تعريف المجمل والمبيّن ... 295

تقسيمات المجمل ... 296

هداية - عدم الإجمال في آية السرقة ... 301

هداية - هل التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان يلازم الاجمال أم لا؟ ... 303

هداية - الكلام في أن مثل قوله « لا صلاة إلاّ بطهور » مجمل أم مبيّن؟ ... 307

تذنيبان - الأوّل : عدم الإشكال في بيان خصوص قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » 313

الثاني : وجوه التصرّف في ما لو تعذّر الحمل على نفي الذات ... 314

ص: 687

القول في الأدلّة العقليّة

317 - 427

أصل - تعريف الدليل العقلي ... 319

أصل - الكلام في حجية الحكم العقلي المبنيّ على القول بالحسن والقبح العقليين... 327

تنقيح البحث في مقامين :

الأول : في إدراك العقل الحسن والقبح ... 333

الثاني : في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ... 335

المراد من قضيّة « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع » ... 344

أدلّة صاحب الفصول على نفي الملازمة الواقعيّة بين حكم العقل والشرع والتفصّي عنها 346

بيان أدلّة صاحب الفصول في إثبات الملازمة الظاهريّة وما يرد عليها ... 365

الوجوه الدالّة على الملازمة الواقعيّة بين حكمي العقل والشرع ... 371

التحقيق في الكلّية القائلة بأن « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل »... 375

الاستدلال بآية « التعذيب » في نفي الملازمة والجواب عنه ... 378

أصل - هل الحسن والقبح ذاتيّان أو لا؟ ... 391

الأقوال والمختار في المسألة ... 391

تنبيهان - الأوّل : منشأ النزاع ... 396

الثاني : ثمرة النزاع ... 397

أصل - الكلام في أنّ الأصل في الأفعال الاختياريّة عقلا هل هو الإباحة الخطر أو الحظر؟ 399

ص: 688

ينبغي رسم امور :

الأوّل : الفرق بين هذه المسألة ومسألة أنّ الأصل العملي في مقام الشكّ في التكليف هو البراءة أو الاحتياط؟ 399

الثاني : تحرير محلّ النزاع ... 403

الثالث : بيان الأقوال في المسألة ... 411

حجج المبيحين وما يرد عليها ... 411

حجج القائلين بالحظر وما يرد عليها ... 415

تحقيق المسألة ... 416

تذنيب - هل القول بحجّية أصالة الاباحة موقوف على اعتبار الظن؟ ... 420

الكلام في اشتراط الحياة في المفتي

429 - 521

هداية - هل يشترط الحياة في المفتي؟ ... 431

احتجاج القائلين بعدم جواز تقليد الميت ... 436

هداية - في ذكر احتجاجات المجوّزين وما يرد عليها ... 455

العقل ... 455

الكتاب ... 469

السنة ... 476

الإجماع ... 487

هداية - الكلام في التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني في المقام ... 495

ص: 689

هداية - الكلام في تفصيل الجرجاني في المسألة ... 503

هداية - في بيان التفصيل بين الاستدامة والابتداء ... 505

احتجاجات القائلين بهذا التفصيل وما يرد عليها ... 508

هداية - إذا مات المجتهد ولم يكن في الأحياء من يجوز التعويل على قوله فهل الحجّة قول الميّت أو لا؟ 517

تنبيهان - الأول : بطلان التقليد من الفقيه الذي عرض له الفسق أو ... 519

الثاني : حكم من قلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا فعمل على مقتضاه ثم مات مجتهده 520

الكلام في اشتراط الأعلمية في المفتي

523 - 556

هداية - هل يجب الأخذ بفتوى الفاضل أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضا؟... 525

ينبغي رسم أمرين :

الأول : الكلام في مقتضى الأدلة الشرعيّة لا في وجوب رجوع العامي إلى الأعلم 526

الثاني : تأسيس الأصل في المسألة ... 527

هداية - في ذكر احتجاج القائلين بالجواز ... 535

هداية - في ذكر احتجاج المانعين ... 541

تنبيهات - الأول : المراد من لفظ « الاعلم » ... 547

الثاني : هل اللازم هو الأخذ بالأورع عند تساويهما في العلم والفضيلة؟ ... 548

ص: 690

الثالث : إذا علم بالأعلم تفصيلا وبالاختلاف إجمالا هل يجب تمييز المسائل المختلف فيها؟ 549

الرابع : حكم ما لو قلّد أحد المجتهدين بواسطة التفاضل ثم تعاكست النسبة بينهما 551

الخامس : هل يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الفاضل؟... 553

السادس : حكم المقلّد في ما لو اطلع على فتوى الفاضل بالظن المطلق وعلى فتوى المفضول بالعلم 554

السابع : لو أفتى الأعلم بجواز تقليده فهل للمقلّد الرجوع إلى غيره أو لا؟... 555

الثامن : لا دليل على وجوب تعيين المجتهدين في العمل بقولهم إذا كانوا متوافقين في الفتوى وإن كان بينهم تفاضل 555

التاسع : ما يعتبر في الفحص عن حال العلماء ... 555

مسألتان ملحقتان : تقليد الميت وتقليد الأعلم

557 - 679

الأقوال في اشتراط الحياة في المفتي ... 559

وجوه القول بعدم جواز تقليد الميّت ... 564

وجوه القول بجواز تقليد الميّت ومناقشتها ... 585

تنبيهات - الأول : الكلام في التفصيل بين التقليد الابتدائي والاستمراري ... 620

الثاني : الكلام في كون ساير شروط الإفتاء أيضا شرطا في الابتداء والاستدامة 632

ص: 691

الثالث : الكلام في من مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا فمات ذلك المجتهد أيضا 635

الرابع : في كلام الاردبيلي في جواز تقليد الميّت مع فقدان الحيّ مطلقا أو في ذلك الافق 637

الخامس : عدم جواز الرجوع إلى الفاسق أو الكافر ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد عند فقد المستجمع للشرائط 639

السادس : إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة فهل يتعيّن تقليد الأفضل؟... 639

تقرير الاصل في المسألة ... 641

وجوه القائلين بالتخيير بين تقليد الفاضل والمفضول والكلام فيها ... 643

وجوه القول بوجوب تقليد الأفضل وهو المختار ... 662

الفهرس ... 681

ص: 692

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

المحقق: علي الفاضلي

الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية

المطبعة: مؤسسة العروج

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-964-7986-36-6

المكتبة الإسلامية

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الثالث

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم (1)

القول في المظنّة واعتبارها ، وتفصيل الكلام على وجه يكشف اللثام ، عن وجه المرام ، يستدعي تمهيد (2) مقدّمة ، فنقول :

المكلّف إمّا أن يكون ملتفتا ومستشعرا بالتكليف ، أو لا يكون بل هو ذاهل ، ولا شكّ في أنّه في هذه الحالة معذور على ما تقتضيه قواعد (3) العدلية لكنّه بالنسبة إلى الأحكام التكليفية.

وأمّا الأحكام الوضعية ، فتفصيل الكلام فيها له محلّ آخر ، والأوّل إمّا أن يكون شاكّا ، أو ظانّا ، أو قاطعا ؛ لأنّ المدرك تارة يدرك بحيث لا يحتمل الخلاف في نفسه من حيث هو مدرك ، وأخرى على وجه يحتمله ، فمرّة يحتمل احتمالا مرجوحا ، وأخرى احتمالا مساويا.

والأوّل : هو الإدراك العلمي ، وينقسم بأقسامه المعهودة من التقليد واليقين والجهل المركّب.

والثاني : هو الإدراك الظنّي ، ويختلف باختلاف مراتبه شدّة وضعفا.

والثالث : هو الشكّ ، وقد يسمّى غير الأوّل به إلاّ أنّه خلاف المعهود.

ص: 1


1- « ل » : + وبه نستعين وبه نثق.
2- « ل » : رسم.
3- « ل » : القواعد.

ثمّ إنّه لا شكّ في عدم اعتبار الشكّ ، وكفاك شاهدا نفي الشكّ فيه ، وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : إنّه لو كان حجّة ومعتبرا ، لزم الترجيح من غير مرجّح ؛ إذ لا نعني باعتباره إلاّ أنّ الشيء بمجرّد كونه مشكوكا يحكم فيه بأحد طرفي الشكّ وهو المراد من اللازم كما لا يخفى إلاّ أنّ المكلّف في حالة الشكّ لا يخلو عن أحد الأصول الأربعة من البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير بحسب اختلاف أحواله من الشكّ في التكليف ، أو في المكلّف به ، أو وجود الحالة السابقة وليس ذلك من جهة اعتبار الشكّ بل هو موضوع لتلك الأحكام ، والمتكفّل لبيان هذه الأصول ومواردها مباحث الأدلّة العقلية.

وأمّا الظنّ ، فعقد الباب فيه ، وسيجيء تحقيق القول فيه بما لا مزيد عليه.

ص: 2

[ في القطع ]

اشارة

وأمّا العلم ، فلا ريب أنّه على تقديره لا مجال للشكّ في وجوب العمل به واعتباره ، كما يدلّ عليه نفي الريب عنه بل هو معتبر بنفسه ، ودليل اعتباره ليس خارجا عن نفسه بل لا يحتاج إلى دليل ؛ إذ هو مع إفادة الظنّ لا يغني من جوع ؛ لاستلزامه إثبات الأخصّ بالأخسّ ، ومع إفادة العلم يدور أو يتسلسل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى دليل هو حجّة بنفسه وهو المطلوب ، ومعنى حجّيته أنّه لا حجّة على عامله معه لا أنّه حجّة وواسطة في إثبات آثار متعلّقه عليه كما هو الشأن في غيره من الحجج الاصطلاحية ، ففي إطلاق الحجّة عليه تسامح.

وتوضيح ذلك : أنّ الحجّة في مصطلح أهل العلم - على ما هو المبيّن في علم (1) الميزان - ما يقع وسطا لإثبات أحكام الموضوعات من المحمولات لها ، ويستكشف منها آثارها المترتّب عليها في القضايا المطلوبة والنتائج كما يظهر ذلك بالرجوع إلى البرهان السائر على ألسنتهم في إثبات حدوث العالم ، فإنّ المتغيّر هو الحجّة والواسطة في إثبات الحدوث الأكبر للعالم الأصغر ، ففي الحقيقة تسمية البرهان حجّة إنّما هي لأجل اشتماله عليها ، ويكشف عن ذلك إتيانها بعد لام التعليل مفردا ، فالعلم بحدوث

ص: 3


1- « ش » : - علم.

العالم إنّما يستند إلى العلم بالتغيّر ، فهو من حيث إنّه متغيّر حادث ؛ لأنّ التغيّر طريق ومرآة لحدوثه على ما لا يخفى.

إذ قد عرفت المراد من الحجّة ، ظهر أنّ العلم ليس بهذه المثابة ؛ فإنّ العلم مرآة وطريق إلى الواقع ، وليس واسطة في ترتّب أحكام متعلّقه عليه بل هو آلة للوصول إليه واقعا عند العالم ، فكما أنّ السراج - مثلا - ليس واسطة لثبوت الأحكام الواقعية الثابتة بواسطة عللها الواقعية للأشياء المختفية لعارض الظلمة ، ولا لإثباتها لها بل به يمكن الوصول إلى تلك الآثار الثابتة لها ، فكذا العلم ليس واسطة في ثبوت آثار المعلوم له ، ولا في إثباتها له ، ففي ترتّب حكم من الأحكام على المعلوم - لو طالبنا أحد بدليل - لا يصحّ تعليله بالعلم ، فلا بدّ من بيان ما هو المستند في ترتّب ذلك الحكم على المعلوم من جعل جاعل كما في الأحكام الجعلية وغيره في غيرها كما يظهر ذلك عند ملاحظة قولك : « البول نجس » فإنّ النجاسة لا تترتّب على العلم بها ؛ لاستنادها إلى جعل الشارع مثلا ، فهو من حيث علّتها الواقعية نجس ، لا من حيث إنّه معلوم كما هو الشأن في الواسطة العلمية ، وليس سائر الأمارات الظنّية مثل فتوى المجتهد والاستصحاب والخبر كذلك ، فإنّها أوساط في الأدلّة التي يستدلّ بها على إثبات الآثار على متعلّقاتها كما ترى في قولك : صلاة الجمعة واجبة ، لأنّها ممّا أخبر العادل بوجوبه ، فهي - من حيث إنّها قد أخبر العادل بوجوبها - واجبة.

وقس عليه سائر الأمارات من ظنّ المجتهد وغيره ، فإنّه يقال : هذا ما أدّى إليه ظنّي ، وكلّ ما أدّى إليه ظنّي ، فهو حكم اللّه في حقّي ، فالموضوع في النتيجة من حيث كونه مظنونا صار موضوعا لمحمولها ؛ وكذا يقال في الاستصحاب : هذا ممّا علمنا طهارته قبل ، وكلّ ما علمنا طهارته قبل ، فلا بدّ من إجراء أحكام الطهارة عليه ، فهذا ممّا لا بدّ من إجراء أحكام الطهارة عليه ، فالاستصحاب واسطة في إثبات أحكام المستصحب له وترتّب آثاره عليه ، ولهذا ما لم يدلّ دليل على اعتبار الاستصحاب أو

ص: 4

خبر الواحد أو غيرهما لا يصحّ الاستدلال بها ، فظهر الفرق بين العلم وسائر الأمارات ؛ فإنّها أوساط وحجج دونه.

والسرّ في ذلك : أنّ دلالة شيء على شيء لا بدّ أن تكون بواسطة ملازمة بينهما من العلّية لأحد الطرفين للآخر ، أو لاشتراكهما في علّة ثالثة - وإن كانت العلّية تعبّدية شرعية لا عقلية كما في الأمارات التي ثبت حجّيتها بالشرع - ولا ملازمة بين العلم ومعلومه ، كيف وهو متأخّر عنه زمانا ، والآثار المترتّبة على المعلوم وإن كانت متأخّرة عنه ذاتا وفي نفس المرتبة (1) إلاّ أنّها مقارنة للمعلوم زمانا ؛ لعدم الانفكاك بينهما ؛ فإنّها مجعولات بجعل ماهيّة الملزوم والمعلوم ، ولا يتعقّل تأثير العلم المتأخّر بحسب الزمان في المتقدّم بحسبه (2) ؛ ضرورة استلزامه وجود الشيء قبل وجوده وهو محال.

لا يقال : فعلى ما ذكرت لا يجوز أن يكون الظنّ واسطة أيضا ؛ فإنّه متأخّر عن المظنون وتابع له ، فتأثير المتأخّر في المتقدّم - كما قرّرت - يوجب تقديم المتأخّر وهذا خلف.

لأنّا نقول : إنّ الظنّ تابع للحكم في (3) نفس الأمر (4) وهو ليس (5) واسطة في إثباته (6) بل هو واسطة في إثبات الحكم الظاهري (7) وهو متأخّر عنه ، فلا محذور.

وتوضيحه : أنّ هناك قضيّتين : إحداهما أنّ الخمر نجس ، والظنّ في هذه القضية كالعلم تابع ، وثانيهما : القضية الكلّية القائلة بأنّ كلّ ظنّ حجّة ، المتكفّلة لبيان النجاسة الظنّية ، فلا شكّ في تأخّر الحكم المستفاد منها عن الظنّ ، فلا يلزم المحذورات.

فإن قلت : مثل ذلك نقول (8) بعينه في العلم ؛ فإنّ ما يتوقّف (9) عليه العلم هو نفس

ص: 5


1- « ل » : النفس المترتّبة.
2- « ل » : بحسب الذات.
3- شطب في « ل » على « في ».
4- « ل » : النفس الأمري.
5- شطب في « ل » على « ليس ».
6- شطب عليها في « ل » وكتب فوقها : « إثبات ».
7- لم ترد « بل هو واسطة في إثبات الحكم الظاهري » في ل.
8- « ل » : فنقول.
9- « ل » : ما لا يتوقّف.

الحكم الواقعي المدلول عليه بقولنا : « الخمر نجس » وما يتوقّف حصوله على حصول العلم هو القضية الكلّية القائلة بأنّ العلم حجّة ، المستتبعة لبيان النجاسة المعلومة ، فالقضيّتان متغايرتان ؛ لتغاير طرفيهما ؛ فإنّ الموضوع والمحمول في الأولى غيرهما في الثانية.

قلت : نعم ، إلاّ أنّ القضية الثانية لا تغاير الأولى ؛ فإنّ العلم بالحكم الواقعي هو العلم بنجاسة (1) الخمر بل المعلوم الواقعي عين الواقع.

وإن شئت زيادة توضيح ، فاعلم أنّ العلم في القضية تارة يؤخذ قيدا (2) للحكم والإدراك التصديقي كما في قولنا : « زيد قائم علما » فإنّا قيّدنا الحكم بالقيام على زيد بكونه علميا ؛ دفعا لاحتمال أن يكون التصديق بقيام زيد ظنّيا مثلا ، وقد يؤخذ جزءا لموضوع أو محمول ، فهو حينئذ (3) كنفس الموضوع أو المحمول ، ولا يكون مرآة وآلة لملاحظة حال المحمول ، ثابتا للموضوع ، والقضية القائلة بأنّ كلّ ما هو معلوم الخمرية - مثلا - نجس إنّما يراد بها ثبوت المحمول للموضوع ثبوتا علميا ، ولا مدخل للعلم في الموضوع ؛ فإنّه قيد للحكم ، فالموضوع والمحمول في القضيتين ليسا بمتغايرين كما هو مبنى الاعتراض ، وذلك نظير ما لو علمنا الإنسان حيوانا (4) دائما ، فالدوام في القضية مثلا جهة للنسبة ، فلو جعلناه جزءا للمحمول ، لم يصحّ ، وهذا هو منشأ الخلط في المقام من أخذ ما هو قيد للحكم أو جهة للنسبة جزءا للموضوع والمحمول ، ولا يجري مثل هذا الكلام في الظنّ حيث إنّ جريان تلك الأحكام في العلم إنّما هو من جهة عدم حاجة (5) جعل العلم طريقا للواقع بخلاف الظنّ ؛ فإنّه محتاج إلى جعله طريقا ، ويستتبعه أحكام ظاهرية بها يصير الظنّ واسطة في إثباتها كما عرفت في الأقيسة المذكورة.

ص: 6


1- « ل » : بنجاسته.
2- « ل ». حدّا.
3- « ل » : - حينئذ.
4- « ش » : حيوان؟
5- « ل » : الحاجة.

لا يقال : هذا يناقض ما تقدّم في بعض المباحث السالفة من عدم الإجزاء بالأمر الظاهري إذا انكشف الخلاف حيث إنّ الظنّ - على هذا التقدير - حكم ثانوي جعل (1) في مرحلة الظاهر بدلا (2) عن الواقع ، وظاهر أنّ البدل يكفي وجوده في محلّه عن المبدل منه.

لأنّا نقول : البدل يكفي وجوده عن المبدل منه فيما لو كان في عرض المبدل منه كما في خصال الكفّارة ؛ فإنّ العتق فيه مصلحة تكافئ مصلحة الصوم مثلا ، وأمّا فيما لو كان مرتّبا على المبدل منه ، وكان جعله من جهة عدم الوصول إلى المبدل منه ، فمن المعلوم عدم كفاية البدل عن المبدل منه فيما لو انكشف الخلاف ، فلا تنافي بين المقامين ؛ للفرق الظاهر بين أن يكون الجعل في مرحلة بدلا عنه (3) في مرحلة أخرى ، وبين أن يكون المجعول بدلا عنه في مورد كما هو كذلك في الخصال.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ العلم له حالات ثلاثة :

أحدها : أن يكون طريقا للوصول إلى متعلّقه كما في العلم بالنجاسة (4).

الثاني والثالث : أن يكون موضوعا أو جزء موضوع للآثار الشرعية أو العقلية الخارجة عن متعلّقه ، فهو بالنسبة إلى متعلّقه أيضا طريق ، وموضوعيته بملاحظة الآثار المترتّبة عليه شرعا أو عقلا.

فمن أمثلة الأوّل (5) الثواب والعقاب المترتّبان على نفس العلم في صورتي التجرّي والانقياد ؛ فإنّ من اعتقد وعلم بوجوب شيء ، فيجب عليه الإتيان بالواجب المعتقد انقيادا ، وكذا فيما علم حرمته ، فالإتيان به محرّم للتجرّي ، فالشارع قد جعل العلم موضوعا لترتّب الثواب والعقاب في صورة الإتيان بما يعتقد وجوبه والاحتراز عمّا

ص: 7


1- « ش » : جعلي.
2- « ش » : بدل.
3- « ل » : منه.
4- « ل » : بنجاسة.
5- أي نفس الموضوع. « منه ».

يعلم حرمته ، أو ترك الواجب وفعل المحرّم المعلومين ، وإن لم يكن هو في الواقع كذلك.

و (1) ممّا يترتّب على نفس العلم شرعا جواز الإفتاء بالمعلوم ولو بالمعنى الشامل للظنّ المعلوم حجّيته بالخصوص كأخبار الآحاد على القول به ؛ فإنّه لا يجوز شرعا فيما إذا لم يعلم.

ومن أمثلة الثاني (2) العلم بالحكم الواقعي عند الإطاعة والامتثال أو المخالفة ، فالعقل يستقلّ بإدراك الثواب والعقاب المترتّبين على العلم في الصورة المفروضة ، فالعلم في المقام جزء موضوع عقلي للآثار المترتّبة عليه.

ثمّ إنّ الظنّ أيضا قد يعتبر موضوعا لترتيب آثار شرعية.

ومن أمثلته جواز التيمّم عند حصول الظنّ الغالب على عدم وجود الماء لا مجرّد عدم الماء (3) ، ولذا لا يصحّ التعويل على أصالة عدم الماء ؛ إذ المدار شرعا في الجواز وعدمه على الظنّ وعدمه ، والأصل المذكور لا ينهض بإثباته.

نعم ، لو كان مرتّبا على عدم الماء ، فله وجه في وجه ، فهو كالعلم - على ما عرفت - طريق لمتعلّقه ، ولا يتعقّل الموضوعية بالنسبة إليه ، وموضوع بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة عليه ، فلا معنى للطريقية (4) بالنسبة إليها (5) كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا فرق في اعتبار العلم إذا كان طريقا بين أفراد العلم ، ولا بين أفراد العالم (6) والمعلوم ، فكلّ علم - عقلي أو شرعي عن كلّ عالم فقيه أو عامي على أيّ شيء من أصلي وفرعي - حجّة بنفسه لا يحتاج إلى جعل ، فهو منجعل بذاته ، والذاتي لا يتخلّف ولا يختلف كما يشهد به الوجدان ، فضلا عمّا (7) هو المقرّر في محلّه من البرهان ، وذلك بخلاف ما إذا كان موضوعا لحكم ؛ إذ المناط في عمومه وخصوصه هو جعل الجاعل ،

ص: 8


1- « ل » : وكذلك؟
2- أي جزء الموضوع. « منه ».
3- « ل » : - لا مجرّد عدم الماء.
4- « ل » : لطريقته.
5- « ش » : إليهما؟
6- « ل » : طريقا بين أفراد العلم والعالم.
7- « ل » : على ما.

فربّما يجعله عامّا كما إذا كان الجاعل هو العقل أو الشرع ، وربّما يجعله خاصّا كالعلم الحاصل من الإحساس مثلا من عالم خاصّ كالمجتهد مثلا في مورد خاصّ كالفقه مثلا ، وربّما يجعل موضوع الحكم ما يكشف عن الواقع سواء كان ظنّيا أو علميا.

وبالجملة ، فالجاعل على حسب اختلاف الأغراض يختلف جعله ، والمدار في تميزه عموما وخصوصا على الدليل الدالّ على موضوعيته إن عامّا فعامّ ، وإن خاصّا فخاصّ.

ثمّ العلم لو كان طريقا ، يقوم مقامه سائر الأمارات الشرعية التي جعلها الشارع بمنزلة الواقع ، فكما أنّ العلم طريق وجداني فالاستصحاب أيضا في محلّه ومجراه طريق شرعيّ.

وإن اعتبر العلم موضوعا ، فتارة يعتبر على وجه يكون لوصف العلم مدخل فيه ، وأخرى على وجه عامّ لا مدخل لخصوص وصف العلم القائم بالنفس فيه ، فعلى الأوّل لا يصحّ قيام دليل غير علمي مقامه ؛ لانتفاء موضوع الحكم على تقديره ، وعلى الثاني يصحّ.

ويظهر الثمرة فيما لو نذر شخص على تقدير علمه بحياة زيد إعطاء درهم ، فعلى الأوّل لا يجب عليه التصدّق لو علمه بالاستصحاب ، أو قامت له البيّنة مع انتفاء العلم حقيقة في الصورتين كما أنّه لا يجب عليه التصدّق فيما لو اعتبر العلم خاصّا كالحاصل من الإبصار على تقدير عدمه.

وعلى الثاني يجب عليه التصدّق في الصورة المذكورة ؛ لحصول موضوع الحكم على تقديره ، فالمعيار في التميز (1) بين الموضوعات المترتّبة عليها الآثار الشرعية هو الدليل ، فلا بدّ من الرجوع إليه في تميزها.

وقد يشكّ في كون العلم طريقا أو موضوعا بواسطة اشتباه جهة القضية بموضوعها

ص: 9


1- « ل » : التمييز.

على ما أشرنا إليه ، وعلى تقدير كونه موضوعا ، في (1) أنّه موضوع على الوجه الأوّل ، أو على الوجه الثاني فكثيرا ما يقع لفظ العلم واليقين في الدليل الذي يدلّ على الحكم الشرعي ، فيتردّد الأمر بين أنّ ذكر الشارع له هل هو من جهة تأكيده لحكم العقل من كونه طريقا إلى الواقع ، أو من جهة اعتباره موضوعا؟ وعلى تقديره لا يعلم الوجه في موضوعيته على الاحتمالين المذكورين.

مثلا قد ورد في بعض أخبار الاستصحاب لفظ اليقين من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ ». وكذا ورد في بعض الروايات (2) تعليق جواز الصلاة على استيقان دخول الوقت. وكذا ورد في بعض أخبار الشهادة « على مثل هذا فاشهد أودع » (3) مشيرا عليه السلام به إلى الشمس ، فربّما يشتبه الأمر بين اعتبار العلم فيها على وجه الطريقية أو على الوجه الموضوعية ، وعلى تقديرها بين وجهيها ، والترجيح فيها موكول على نظر المجتهد فلا ينضبط.

والثمرة بين الوجوه تظهر فيما عرفت من جواز التعدّي إلى سائر الأمارات ، ففي الشهادة لو قلنا بأنّ اعتبار العلم إنّما هو من جهة خصوصية في نفس العلم طريقا وموضوعا ، فلا يجوز التعدّي إلى غيره ، فلا يجوز الشهادة بالاستصحاب ، ولا يجوز بالحدس ؛ إذ لعلّها تختصّ بالحسيّات ، ولو قلنا بعدمه ، فهو مؤكّد لحكم العقل ، فيجوز على تقديره الشهادة بالاستصحاب والحدس إلى غير ذلك من الثمرات على ما لا يخفى.

ص: 10


1- أي يشكّ في أنّه.
2- انظر الوسائل 4 : 166 ، باب 13 ، باب بطلان الصلاة قبل تيقّن دخول الوقت وإن ظنّ دخوله من أبواب المواقيت.
3- انظر الوسائل 27 : 342 ، ح 3 ، باب 20 ، باب أنّه لا تجوز الشهادة إلاّ بعلم من كتاب الشهادات.

وينبغي التنبيه على أمور :

[ الأمر ] الأوّل :

قد تقدّم (1) تبعا لجماعة أنّ العلم بوجوب شيء أو حرمته بمجرّده يوجب الثواب والعقاب في صورتي الانقياد والتجرّي وإن لم يكن ما علمه موافقا لما في نفس الأمر وحاقّ الواقع ، وقد يظهر من بعضهم (2) خلاف ذلك مطلقا ، وعن بعض آخر (3) التفصيل بين ما إذا قطع بوجوب شيء محرّم ، أو حرمة شيء واجب ، فقال بعدم ترتّب الثواب والعقاب ، وبين ما إذا قطع بوجوب شيء مباح أو حرمته ، فحكم بترتّبه مستندا في ذلك إلى تعارض مصلحة ترك التجرّي مع المفسدة المترتّبة على فعل الحرام فيما إذا علم بوجوب شيء محرّم مثلا ، وأمّا إذا لم يكن في الفعل مفسدة كأن يكون مباحا أو مكروها ، فلا معارض لمصلحة ترك التجرّي ، فيترتّب الثواب.

ولعلّه سهو ؛ إذ لا ينبغي الفرق المذكور بعد ما فرض من أنّ الاعتقاد يوجب (4)

ص: 11


1- تقدّم ص 7.
2- صرّح به العلاّمة في التذكرة 2 : 391 وفي موضع من النهاية وعنه في مفاتيح الأصول : 308 واستقربه.
3- في هامش « ش » : صاحب الفصول [ في الفصول : 431 - 432 ].
4- « ش » : + مصلحة لوجود ، وفي « ل » : « مصلحة الوجود » ثمّ شطب عليهما.

المصلحة الفعلية الناشئة عن (1) اعتقاد الوجوب في الفعل ، وحيث إنّ التكليف بالواقع بعد اعتقاد الخلاف ساقط ، فلا مفسدة في فعله فعلا ، فلا يصلح معارضا ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لا ريب في عدم ترتّب الثواب والعقاب المترتّبين على نفس فعل الواجب والحرام الواقعيين في صورتي الانقياد والتجرّي ؛ إذ المفروض ترتّبهما على الواجب والحرام الواقعيين ، وانتفاؤهما معلوم بالفرض أيضا ، كما أنّه لا ريب في استحسان فعل المنقاد عند العقلاء ، وعدّهم في عداد المحسنين ، ومدحهم إيّاه ؛ لكشفه عندهم عن حسن سريرته وصفاء طينته ، واستقباح فعل المتجرّي عندهم ، وذمّهم له مستكشفين بذلك عن سوء السريرة وخبث الباطن ، كيف وقد استقرّ طريقتهم في التحسين والتقبيح فيما لو عزم على الفعل والترك إذا اعتقد وجوبه أو حرمته ، ولا إشكال فيه.

وإنّما الشأن في أنّ الإتيان بفعل علمنا وجوبه علما غير مطابق للواقع من حيث كونه معلوما هل يوجب فعله ثوابا ، و (2) تركه عقابا أم لا؟ وحينئذ يمكن منعه ؛ لعدم الدليل على ترتّبه ، وإنّما المسلّم منه هو ما عرفت من المدح والذمّ والتحسين والتقبيح.

وقد يستند (3) للقول بحرمة التجرّي إلى تساوي فاعل الحرام واقعا ، وفاعل الحرام اعتقادا من كلّ جهة إلاّ فيما ليس مقدورا للمكلّف وهو مصادفة الواقع في الأوّل وعدمها في الثاني ، وحينئذ فإمّا أن يتعلّق العقاب بهما جميعا ، أو بالأوّل دون الثاني ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني باطل ؛ لمنافاته لما تقرّر عند العدلية من عدم جواز الظلم.

ويمكن الجواب عنه باختيار الشقّ الثاني (4) ، ولا ينافي ما هو المقرّر عندنا ؛ فإنّ الإتيان بالمحرّم الواقعي يستند إلى اختياره ، فيصحّ العقاب عليه دون الآخر ؛ لعدم

ص: 12


1- « ل » : من.
2- « ل » : أو.
3- المستند هو السبزواري في الذخيرة : 209 - 210.
4- « ش » : التالي.

صدور المحرّم الواقعي منه وإن كان مستندا إلى أمر خارج عن إرادته ، ولنعم ما قيل بالفارسية :

چگونه شكر اين نعمت گذارم *** كه دست مردم آزارى ندارم (1)

فإنّ عدم القدرة أيضا نوع من العصمة ، وعلى مثل هذا الوجه يبنى في الجواب عن الإشكال المشهور بينهم في أنّ للمصيب أجرين ، وللمخطئ أجرا واحدا.

وقد يجاب عن الاستدلال بوجه آخر بأنّ اللازم على ذلك التقدير مساواتهما في كيفية العقاب وكمّيته ، بل اللازم على هذا التقدير مساواة الفاعل مع العازم كما لا يخفى ، مع أنّ فساد اللازم ممّا لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، وقد أشعر بذلك مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه المنقول في نهج البلاغة أنّ : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى الداخل إثمان : إثم العزم ، وإثم الدخول » (2) اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط طريق النجاة ، فيحسن الإتيان (3) بالفعل عند اعتقاد وجوبه ، وتركه في العكس ، إلاّ أنّه لا يغني من جوع ؛ إذ غاية ما في الباب إثبات الاستحباب وليس الكلام فيه.

وقد يستدلّ أيضا على حرمة التجرّي بأنّه على تقديره فاستحقاق الذمّ والعقاب ممّا لا ريب فيه كما يشهد به الوجدان ، واستقرّ بناء العقلاء عليه أيضا وفيه الكفاية.

مضافا إلى ما ورد في جملة من الأخبار الدالّة على حرمة العزم على المعصية ، وفي النبوي منها : « ملعون من همّ بها » (4) والروايات (5) الدالّة على العفو عن العزم المحرّم ؛ إذ العفو فرع الاستحقاق ، ففي المقام يثبت الاستحقاق بطريق أولى ، وبعد الثبوت لا دليل

ص: 13


1- كلّيات سعدى ، مثنويات : 866.
2- نهج البلاغة ، قصار الحكم ، رقم 154 وفيه : وعلى كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به وإثم الرضى به.
3- « ل » : الاحتياط.
4- الوسائل 15 : 351 ، باب 50 ، باب تحريم طلب الرئاسة مع عدم الوثوق بالعدل ، ح 6 عن الصادق عليه السلام.
5- انظر الوسائل 1 : 51 ، باب 6 باب استحباب نيّة الخير والعزم عليه ، ح 6 و 7 و 8 و 10 و 20.

على العفو فيه وهو المطلوب.

لا يقال : إنّ المتجرّي لم يصدر منه ما يزيد على العزم ؛ إذ المفروض عدم تحقّق الحرام في فعله ، فأخبار العفو ناهضة في المقام.

لأنّا نقول : إنّ (1) مجرّد عدم تحقّق الحرام لا يكفي في عدم تحقّق فعل منه غير العزم ؛ فإنّه يحتمل ترتّب العقاب على تشبيهه بالعاصي كما هو الوجه أيضا ، ولذلك ترى الشهيد رحمه اللّه في القواعد مع حكمه بالعفو في العزم تنظّر في المقام حيث قال :

فائدة : لا تؤثّر نيّة المعصية ذمّا ولا عقابا ما لم يتلبّس بها ، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه ، ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية ، فظهر بخلافها ، ففي تأثير هذه النيّة نظر من أنّها [ لمّا ] لم تصادف المعصي فيه ، صارت كنيّة مجرّدة وهي غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاكه الحرمة والجرأة على المعاصي.

قال : وقد ذكر بعض الأصحاب أنّه لو شرب المباح متشبّها بشارب المسكر ، فعل حراما ، ولعلّه ليس بمجرّد النيّة بل بانضمام فعل الجوارح.

قال : ويتصوّر محلّ النظر في صور :

منها : لو وجد امرأة في منزل غيره فظنّها (2) أجنبية فأصابها ، فتبيّن أنّها زوجته ، أو أمته.

ومنها : لو وطئ زوجته مظنّة (3) أنّها حائض ، فبانت طاهرا.

ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره ، فأكل منها ، ثمّ تبيّن أنّه ملك الآكل.

ومنها : لو ذبح شاة بظنّها ملك الغير ، فظنّ العدوان ، فظهرت ملكيّته (4).

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّها معصومة ، فبانت مهدورة.

ثمّ بعد ذلك أفاد قدس سره بأنّه قد قال بعض العامّة : يحكم بفسق متعاطي ذلك ؛ لدلالته

ص: 14


1- « ل » : إنّ.
2- « ل » : فظنّ أنّها.
3- « ش » : فظنّه ، وفي المصدر : لظنّها.
4- المصدر : بقصد العدوان ... ملكه.

على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة ما لم يتب عقابا متوسّطا بين عقاب الكبيرة والصغيرة. وكلاهما تحكّم وتخرّص (1) على الغيب (2). انتهى كلامه رفع مقامه.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ القول بالعقاب على المتجرّي لا يخلو من (3) قوّة ، وكذا القول بترتّب الثواب على المنقاد ، مضافا إلى الأخبار الواردة (4) في التسامح ؛ فإنّ العمل بما بلغه لو كان ممّا يوجب الثواب وإن لم يكن كما بلغه ، فالمعتقد على وجه لا يحتمل الخلاف لو أتى بما اعتقده ، فهو أولى بأن يثاب ، أو يعاقب.

بقي الكلام في العزم على المعصية والطاعة ، والرضا بالمعصية والطاعة إذا وقعتا (5) من الغير فنقول :

أمّا الروايات ، فهي ظاهرة في أنّ العزم أيضا معصية ، فمنها ما مرّ آنفا.

ومنها : ما رواه الكليني عن أبي هاشم قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار ؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا ، وإنّما خلّد أهل

ص: 15


1- هذا هو الصواب ، وفي النسخ : تعرّض. قال المامقاني في بشرى الوصول 17 / ب : فسّر شيخنا الإمام المرتضى رضي اللّه عنه في مجلس البحث قوله : « وكلاهما تحكّم وتخرّص على الغيب » بأنّ الحكم بفسق المتعاطي في الدنيا وكونه معاقبا على الكيفية التي ذكرها تحكّم على ما عرفته من تفسيره بذلك في شرحه. ثمّ أورد عليه بأنّ كون الثاني تحكّما مسلّم لكن لا نسلّم كون الأوّل تحكّما ؛ لأنّه على القول بكون العدالة عبارة عن الملكة - كما هو المشهور ، بل ربما يدّعى الاتّفاق عليه وأنّ الخلاف إنّما هو في كشفه عن الظاهر وظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق - لا يخلو إمّا أن يتجرّى بما لا يوجب الفسق كالصغيرة ، أو يتجرّى بما يوجبه ، فعلى الأوّل وإن كان لا يلزم الفسق ؛ لعدم كون التجرّي أعظم من الأصل ، لكن على الثاني يلزم الفسق قطعا ؛ لكشفه عن انتفاء الملكة الرادعة. أقول : لا بدّ من تقييده بأن لا يكون في مورد تكون الكبيرة مع الندم غير موجبة للفسق ؛ لندرة وقوعها من الفاعل.
2- القواعد والفوائد 1 : 107 - 108 فائدة 21.
3- « ل » : عن.
4- انظر الوسائل 1 : 81 ، باب 18 ، باب استحباب الإتيان بكلّ عمل مشروع روي له ثواب عنهم عليهم السلام.
5- « ل » : وقعا.

الجنّة في الجنّة ؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا أن يطيعوا اللّه [ أبدا ] ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء » (1).

ومنها : ما دلّ على أنّ المرء مجزيّ بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ (2) ، إلى غير ذلك إلاّ أنّها تنافي ظواهر جملة من الأخبار الدالّة على العفو.

فمنها : ما ورد عن الفضيل (3) بن عثمان المرادي سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « [ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أربع من كنّ ] فيه ، لم يهلك على اللّه عزّ وجلّ (4) بعدهنّ إلاّ هالك : يهمّ العبد [ ب- ] -الحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها ، كتب اللّه عزّ وجل له حسنة [ بحسن نيّته ] فإن هو عملها ، كتب اللّه له عشرا ، ويهمّ [ ب- ] -السيّئة [ أن يعملها ف- ] -إن لم يعملها ، لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها ، أمهل (5) سبع ساعات » (6) الحديث.

ويمكن الجمع بأنّ ما يتعلّق بأصول الدين لا يغتفر فيه نيّة المعصية ، وما يتعلّق بغيرها من الفرعيّات يغتفر. وبوجه آخر هو أنّ القاصد للمعصية لو نواها وكان تركها لأجل أمر خارج عن مقدرته (7) كالموت ونحوه ، فلا يغتفر ، وإن تركها باختياره ، فيغتفر. ومنه يعلم الحال في قاصد الطاعة.

وأمّا الرضا على فعل المعصية والطاعة ، فهو كما عرفت فيما نقلناه عن نهج البلاغة (8) ، فحاله حال العاصي والمطيع ؛ ويؤيّده بعض فقرات الزيارات المأثورة عنهم عليهم السلام.

ص: 16


1- الكافى 2 : 85 ، باب النيّة ، ح 5 ؛ عنه في الوسائل 1 : 50 ، باب 6 ، باب استحباب نيّة الخير والعزم عليه ، ح 4.
2- الوسائل 1 : 57 ، باب 7 ، باب كراهة نيّة الشرّ ، ح 1.
3- « ل » والكافى : الفضل ، وفي رجال الطوسى : الفضل بن عثمان المرادي ويقال : الفضيل.
4- « ل » : تعالى.
5- في المصدر : أجلّ.
6- الوسائل 16 : 64 ، باب 85 ، باب وجوب الاستغفار من الذنب والمبادرة به قبل سبع ساعات ، ح 1.
7- « ل » : قدرته.
8- نقله في ص 13.
الامر الثاني :

قد تقرّر فيما تقدّم أنّ العلم فيما لو كان طريقا إلى الواقع ، فهو حجّة بنفسه لا يحتاج إلى جعل بل هو منجعل بنفسه ، فلا فرق بين أفراد العلم ، ولا المعلوم إلاّ أنّه قد يظهر من جماعة من أصحابنا المنتسبين إلى الأخبار ما يخالف ذلك ، فقد قال أمين الأخبارية في الفوائد المدنية في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل فيما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهم السلام :

الدليل التاسع مبني على دقيقة (1) شريفة تفطّنت بها بتوفيق اللّه وهي أنّ العلوم النظرية قسمان :

قسم ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا (2) علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ، والسبب فيه أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة ، أو من جهة المادّة (3) ،

ص: 17


1- « ش » : مقدّمة دقيقة.
2- المصدر : هذا القسم.
3- في هامش « ش » : قوله : « من جهة المادّة ». أقول : ولعلّ مراده من مادّة البرهان هو الوسط ؛ فإنّه هو المناط في إثبات الأكبر للأصغر على ما قدّمنا ، فإن كان محسوسا أو قريبا منه ، فلا يحتمل الخطأ بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، ولعلّ الوجه في عدم تكفّل المنطق لقاعدة بها تستعلم حال المادّة صحّة وفسادا هو أنّه قد تقدّم منّا أنّ دلالة شيء على شيء لا بدّ وأن تكون بواسطة ملازمة بينهما من علّية فيهما ، أو لاشتراكهما في علّة ثالثة ، فلو حاولنا إثبات محمول لموضوع في واقعة ، فلا بدّ أوّلا من ملاحظة ما يلازم أحد طرفي الحكم من الأكبر والأصغر ، فإن تنبّهنا لما هو لازم للأصغر ويستلزم الأكبر - كما هو الغالب في الاستنتاج - فهو الشكل الأوّل ، أو العكس فهو الرابس. أو لما هو لازم لهما ، فهو الثاني ، أو بعكس ذلك ، فهو الثالث ، وعلى تقدير عدمه فيشكل الاستدلال وإن كان القياس استثنائيا أيضا كما لا يخفى ، والعلم بلوازم الأشياء أو ملزوماتها بحسب المصاديق ممّا هو خارج عن مقدرة البشر لاستحالة إيفاد قاعدة بها تستعلم حال المادّة صحّة وفسادا ، وذلك ظاهر لا سترة عليه ، فتدبّر وتبصّر « منه ».

والخطأ في الصورة (1) لا يقع من العلماء ؛ لأنّ معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة (2) ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم ؛ لقرب مادّة الموادّ فيها إلى الإحساس.

وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن (3) الإحساس ، ومن هذا القسم : الحكمة الإلهية ، والطبيعية ، وعلم الكلام ، وعلم أصول الفقه ، والمسائل النظرية الفقهية ، وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق (4) ، ومن ثمّ وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية ، وبين علماء الإسلام في أصول الفقه والمسائل الفقهية وعلم الكلام وغير ذلك (5).

والسبب في ذلك أنّ القواعد هي (6) عاصمة في (7) الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة (8) ، وليس في المنطق قاعدة بها يعلم أنّ كلّ مادّة (9) داخلة في [ أيّ ] قسم من الأقسام ، ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك.

ثمّ إنّه قدّس اللّه روحه بعد ما استظهر وجوها من التأييد أورد على نفسه بأنّه لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات ، واستشهد على ذلك بكثرة الاختلافات المشاهدة بين أهل الشرع في الأصوليين وفي الفروع الفقهية.

فأجاب عن ذلك بقوله : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة باطلة بالمقدّمة النقلية الظنّية

ص: 18


1- المصدر : من جهة الصورة.
2- بعده في المصدر : ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقية وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة.
3- « ش » : من.
4- بعده في المصدر : كقولهم : « الماهية لا تتركّب من أمرين متساويين » وقولهم : « نقيض المتساويين متساويان ».
5- بعده في المصدر : من غير فيصل.
6- المصدر : القواعد المنطقية إنّما هي.
7- المصدر : عن.
8- بعده في المصدر : إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام وليست ...
9- المصدر : مادّة مخصوصة.

أو القطعية ، ومن الموضحات لما ذكرناه - من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر - أنّ المشّائين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخص (1) ، وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والإشراقيين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل ، وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال.

ثمّ قال : إذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم عليهم السلام ، فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيره ، لم نعصم منه (2) إلى غير ذلك ممّا ذكرناه في المقام ، والمستفاد من كلامه رحمه اللّه عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما يكون مباديه قريبة من المحسوسات بل وفيما يقطع به على سبيل البداهة إذا لم يكن محسوسا أو قريبا منه (3) إذا لم يكن ممّا توافقت عليه العقول ، وتسالمت فيه الأنظار ، وقد استحسنه في ذلك جماعة ممّن تأخّر عنه.

فمنهم السيّد الجزائري في أوائل شرح التهذيب بعد نقله (4) كلام الأمين بطوله قال : تحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه ، ثمّ أورد على نفسه سؤالا بأنّه بعد ما عزلت العقل عن الحكم في الأصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟

فأجاب عنه بقوله : أمّا البديهيات ، فهي له وحده [ وهو الحاكم فيها ] ، وأمّا النظريات ، فإن وافقه النقل وحكم بحكمه (5) ، قدّم حكمه على النقل وحده ، وأمّا لو تعارض هو والنقلي ، فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى حكم العقل.

ثمّ فرّع على هذا الدليل فروعا كثيرة وقضية كلامه حجّية العقل في البديهيات ،

ص: 19


1- المصدر : لشخصه.
2- الفوائد المدنية : 256 - 259 ، وفي ط الحجري : 129 - 131.
3- « ل » : من الحسّ.
4- « ل » : نقل.
5- في المصدر : بحكم.

وعدمها في النظريات إلاّ أن يعاضده حكم النقل ، فيرجّح به على الآخر (1).

ثمّ إنّ مراده من البديهي في المقام غير معلوم فإن أراد به ما يكون كذلك بحسب معتقده - وإن لم يكن كذلك عند غيره أو لا يعلم حال الغير فيه - فقد صرّح فيما اختاره من التحقيق في كلام الأمين بعدم حجّيته ، وإن أراد به البديهي عند جميع العقلاء ، فهو - مع أنّ العلم بتحقّقه متعذّر غالبا إلاّ بطريق الحدس الذي هو أيضا من العلوم الضرورية التي حجّيتها موقوفة على الاتّفاق عليها فيما زعمه - مدفوع بأنّه ليس في اتّفاق الكلّ على بداهة شيء مزية اختصاص في الحجّية إلاّ من جهة توافق الأفهام ، والحدس بموافقته للواقع على ما هو طريق الكشف في الإجماع وحصوله في العلوم العقلية ممنوع ، ولو سلّم ، فليس أقوى من سائر العلوم الضرورية ، فهو في عرض غيرها ، فلا يصحّ جعلها معيارا في حجّية غيرها كما لا يخفى.

وقد تبعه في ذلك المحقّق البحراني في الحدائق حيث حكى عنه كلاما أورده في الأنوار النعمانية يشبه كلامه المتقدّم ، فاستحسنه إلاّ أنّه يظهر منه تفصيل آخر فيما صرّح بحجّية العقل الفطري الصحيح ، وقال بالقضية المشهورة في المقامين.

ثمّ نصّ على أنّه لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها وقال : لا سبيل إليها إلاّ السماع عنهم لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها.

ثمّ قال : نعم ، يبقى الكلام بالنسبة إلى ما يتوقّف على التوقيف ، فأفاد في ذلك بأنّه إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين ، فلا ريب في صحّة العمل به ، [ وإلاّ فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ] ، وإن عارضه دليل عقلي آخر ، فإن تأيّد أحدهما بنقلي ، كان الترجيح للمؤيّد بالدليل العقلي ، وإلاّ فلا إشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيّد ذلك العقلي ، أيضا بنقلي ، كان

ص: 20


1- غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام ( مخطوط بخطّ المؤلّف ) 61 وما بين المعقوفين منه ، وعنه في هداية المسترشدين 443.

الترجيح للعقلي إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ، وإلاّ فالترجيح للنقلي.

قال : وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ، وخلافا للأكثر ، ثمّ قال بعد ذلك : هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق ، أمّا لو أريد بمعنى الأخصّ - وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، الذي هو حجّة من حجج الملك العلاّم وإن شذّ وجوده بين الأنام (1) - ففي ترجيح النقلي عليه إشكال (2). انتهى كلامه.

ومواضع النظر فيه وفي سابقه ما لا يحصى :

الأوّل : إن أرادوا من عدم اعتبار العلم فيما قالوا به من الموارد عدم حجّيته - مع كونه علما والمكلّف عالما بحسب معتقده وإن لم يكن كذلك في الواقع - فلا شكّ في كونه تكليفا بما لا يطاق ، وفساده ممّا نطق به الكتاب الكريم بل هو مذكور في عداد المسلّمات بين الشيعة والمعتزلة ، فلا مجال لإنكاره ؛ فإنّ التكليف بشيء فرع العلم بذلك الشيء ، ولا أقلّ من احتماله والمفروض عدمه أيضا.

وإن أرادوا أنّ بعد ملاحظة ما يعارضه من الدليل النقلي أو ملاحظة الاختلاف الواقع في العلوم العقلية ، فلا يبقى علما ، فبعد الغضّ عن الصغرى ووجود الاختلاف في النقلي أيضا ، فهو خلاف ما هو المفروض في المقام.

وإن أرادوا أنّ الدليل النقلي في محلّ تعارضه أيضا قطعي ، فهو يستلزم اجتماع المتناقضين.

وإن أرادوا عدم حجّيته من جهة الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في النهي عن الخوض في العلوم العقلية - فإنّ بعد النهي لو لم يصادفوا الواقع ، فيجري عليهم حكم المقصّر ، ويعاقب نظرا إلى أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا - فلا نسلّم ورود النهي عنهم عليهم السلام في ذلك بل قضية العمومات الآمرة بطلب

ص: 21


1- « ش » : الأوهام.
2- الحدائق 1 : 126 - 133 وما بين المعقوفين منه.

العلم ولو بالصين (1) خلاف ذلك.

لا يقال : قد ورد في جملة من الأخبار : من أنّ « دين اللّه لا يصاب بالعقول » (2) ، ومن أنّ « من دان اللّه بغير سماع [ من صادق ] ، ألزمه اللّه [ التيه ] يوم القيامة » (3) ومن أنّ « من قام جميع ليله ، وصام جميع نهاره ، وحجّ جميع دهره ، وتصدّق بجميع ما له ولم يعرف وليّ اللّه فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته ، لم يكن له على اللّه حقّ ولا هو من أهل الإيمان » (4) ومن أنّ « ما من شيء أبعد في دين اللّه من عقول الرجال » (5) إلى غير ذلك.

مضافا إلى أنّ كثرة الاختلاف - الواقعة في العلوم العقلية المستندة إلى اختلاف مراتب إدراكاتهم المنتهية إلى اختلاف استعداداتهم وملكاتهم في فنون الاكتساب - توجب اختلالا فيما هو صونه مطلوب ، وبقاؤه مرغوب.

لأنّا نقول : أمّا الأخبار الواردة في هذا المضمار ، فستعرف تحقيق القول فيها بما لا مزيد عليها. وأمّا حديث الاختلاف ، فهو لا يختلف في المقامين ؛ فإنّ أسباب الاختلاف لو لم يكن في العلوم النقلية أكثر - كما هو كذلك أيضا كما يشاهد ذلك في المسائل المرتبطة بالكتاب والسنّة والمباحث المنتسبة إلى الأدلّة العقلية - فلا أقلّ من تساويهما.

الثاني : إن أرادوا من عدم حجّية العقل عدم حجّيته - ولو كان بديهيا - فالضرورة

ص: 22


1- الوسائل 27 : 27 ، باب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح 20 ؛ بحار الأنوار 1 : 177 و 180 ، باب 1 ، ح 55 و 65 ، و 2 : 32 ، باب 9 ، ح 21.
2- بحار الأنوار 2 : 303 ، باب 34 ، ح 40.
3- الوسائل 27 : 75 و 128 ، باب 7 و 10 من أبواب صفات القاضي ، ح 37 و 12. وسيأتي في ص 76.
4- الوسائل 1 : 119 ، باب 29 من أبواب مقدّمة العبادات ، ح 2 ، و 27 : 42 و 65 - 66 ، باب 6 و 7 من أبواب صفات القاضي ، ح 11 و 13.
5- الوسائل 27 : 192 و 203 - 204 ، باب 13 من أبواب صفات القاضي ، ح 41 و 69 و 73 و 74 وفيها : ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن تفسير القرآن وفي بعضها عن القرآن.

قاضية بخلافه ، وإن أرادوا من عدم حجّيته إن كان نظريا ، فالضرورة قاضية أيضا بلزوم انتهائه إلى ضروري ، دفعا للدور والتسلسل ، واحتمال عدم كونه بديهيا في الواقع موجود فيما اختاروه من حجّية البديهي أيضا. وأمّا ما يقال - من عدم اعترافهم لمطلق البديهي بل خصوص ما تسالمت فيه الأنظار - مردود بأنّ النظري لا بدّ وأن ينتهي إلى بديهي كذلك لا محالة.

الثالث : أنّ ما زعموه على تقدير تماميته ، فهو بعينه موجود في الأدلّة العقلية التي يستدلّ عليها بوجود الصانع ولزوم إرسال الرسل وغير ذلك من الأمور الاعتقادية التي يستعمل فيها البراهين النيّرة (1) العقلية ؛ فإنّا لا نجد فرقا في الأدلّة المستندة إليها فيها وفيما يستند إليها في عدم جواز اجتماع الأمر والنهي مثلا.

ثمّ إنّ ما أشكل على صاحب الحدائق من تعارض العقل الفطري والدليل النقلي - على ما نقله عنه في ذيل كلامه - فهو ممّا لا يعقل له وجه صحيح إلاّ أن يرجع النزاع معه لفظيا كما لا يخفى.

ثمّ إنّ السيّد الفاضل شارح الوافية بعد ما سلّم إدراك العقل أورد كلاما حاصله منع إناطة الإطاعة والعصيان بالواقع بل المدار عليه فيما لو أخبر به الرسول صلى اللّه عليه وآله ، أو أحد الأئمّة عليهم السلام قال : ألا ترى أنّ من نام فرأى في نومه أحدا من أهل العصمة أخبر بحكم فقطع به ، لا يجب إطاعته ، وقد استند في ذلك بالأخبار المتقدّمة (2).

والجواب أنّ ما ادّعاه من الأخبار ممّا يتحقّق به موضوع الإطاعة والعصيان موقوف على دلالة دليل الإطاعة والعصيان على ذلك ، ولا ريب (3) أنّهما من الآثار العقلية المترتّبة على مطلق حكم اللّه الواقعي المعلوم على أيّ وجه ، ولا يمكن فيه التخصيص بالنسبة إلى أفراد العلم ، أو العالم على ما عرفت ، مع أنّ المفروض حصول

ص: 23


1- « ل » : المنيرة.
2- شرح الوافية ( مخطوط ) : 88 / أ - 88 / ب.
3- « ل » : فلا ريب.

القطع بأنّ المدرك هو حكم اللّه تعالى ، فلا يجامع احتمال حرمته الأخبار فيه ؛ لأدائه إلى خلاف الفرض المستلزم لاجتماع النقيضين على ما لا يخفى ، فالأخبار الواردة في المقام على ما زعموه مخالفة (1) للقطع ، فلا بدّ من حملها على ما كانوا يتعاطونه في تلك الأزمنة من استنباط الأحكام الشرعية من القياسات العاميّة مضافا إلى أنّه هو الظاهر من مساقها ؛ لوضوح عدم نهوضها على النهي عن طريقة الاستدلال بالبراهين العقلية القطعية في استنباط الأحكام الشرعية مع ظهور معارضتها بالأخبار الدالّة على حجّية العقل كقوله عليه السلام : « به يثاب ويعاقب (2) » (3) وقوله عليه السلام : « العقل ما عبد به الرحمن » (4) وقوله عليه السلام في رواية هشام المروية في الكافى : « أنّ لله حجّتين حجّة في الظاهر وهي الرسل وحجّة في الباطن وهو العقل » (5) سيّما بعد اعتضادها بعمل الكلّ وخصوصا مع حمل الكلّ لها على ما عرفت.

وقد يقال في وجه الحمل باختصاص الأخبار الناهية في العقل الغير الصافي ، والآمرة بالعقل الصافي. وهو تحكّم لا شاهد عليه.

والحاصل أنّه لا فرق في ترتّب أحكام القطع عليه بين حصوله من دليل عقلي ، أو نقلي - سواء كانت تلك الأحكام قبل حصوله كوجوب تحصيله في المطالب الاعتقادية ، أو مقارنة لحصوله كاستحالة التكليف بخلافه ، أو بعد حصوله كأحكام الطهارة والنجاسة والكفر والإيمان والقضاء والإعادة إلى غير ذلك - فعلى مدّعي الفرق كالأخباري إقامة دليل بيّن في الفرق بينهما ، وتخصيص ما يدلّ على عدم الفرق مع امتناع تخصيصها عقلا بل شرعا ، فإنّه من بديهيات المعلومات.

ص: 24


1- في النسختين : مخالف.
2- « ل » : وبه يعاقب.
3- انظر الوسائل 15 : 204 و 208 ، باب 8 ، باب وجوب طاعة العقل ومخالفة الجهل ، ح 1 و 10.
4- الوسائل 15 : 205 ، باب 8 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ح 3.
5- الكافى 1 : 16 ، كتاب العقل والجهل ، ح 12 ؛ عنه في الوسائل 15 : 207 ، باب 8 من أبواب جهاد النفس ، ح 6.

ودعوى أصالة عدم الحجّية في غير النقلي - بعد ما مرّ من بداهة اعتبار العلم - ظاهرة الوهن ، بيّنة الفساد.

ثمّ إنّه يمكن أن يفصّل في المقام بأن يقال : العلوم العقلية قسمان :

قسم يكون من طريق المصالح والمفاسد التي هي علل للأحكام الشرعية عند العدلية كأن يستدلّ على الحكم استدلالا لمّيّا مثل ما استدلّ بعضهم في لزوم عدالة الولي للصغير بأنّه يستحيل في حكمة الشارع تسليط من لا يأتمن على مال الطفل الذي لا يقدر على القيام بمصالحه ومفاسده.

وقسم ليس كذلك بل استدلال إنّي كالاستدلال على وجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ ، فيقال بحرمة القسم الأوّل تنزيلا للأخبار الناهية عليه ، وبصحّة الثاني حملا للأخبار الدالّة على حجّية العقل عليه ، والشاهد على ذلك دلالة سياقها عليه.

مضافا إلى تعارف الاستدلال اللمّي في زمنهم ، ولا مانع من حملها على العقل القطعي نظرا إلى جواز التكليف بما لا يطاق وبخلاف المعلوم إذا كان ناشئا عن سوء الاختيار على ما يراه بعضهم ، ولا ينافيه تداول الاستدلالات العقلية بين علمائنا ؛ لكونها من الدليل الإنّي دون اللمّي ، فإنّ الوسط في البراهين المتداولة بينهم مأخوذ من الشرع كما في الحكم بوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ بخلاف اللمّ ؛ فإنّ الوسط فيه مستنبط من العقل ولو ظنّ المستنبط كونه قطعيا.

لا يقال : في الأحكام المأخوذة من العلم كحرمة الظلم ونحوها لا يمكن أن يقال : إنّ الوسط مأخوذ من الشرع.

لأنّا نقول : أمثال ذلك مأخوذة (1) من العقل المستقلّ من الضروريات ، ولو لا ذلك ، لما كان من اللمّي ، ويشهد بذلك ملاحظة خبر أبان (2) أيضا في وجه دون وجه ؛ لأنّه يمكن

ص: 25


1- في النسختين : مأخوذ.
2- في هامش « ش » : روى المشايخ الثلاثة [ في الكافى 7 : 299 ، باب الرجل يقتل المرأة ، ح 6 ؛ والفقيه 4 : 118 / 5239 باب الجراحات والقتل ؛ والتهذيب 10 : 184 باب 14، ح 16 ] في صحيح أبان بن تغلب قال للصادق عليه السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة : كم فيها؟ قال : « عشرة من الإبل ». قال : قلت : قطع اثنين؟ قال : « عشرون ». قلت : قطع ثلاثا؟ قال : « ثلاثون ». قلت : قطع أربعا؟ قال : « عشرون ». قلت : سبحان اللّه! يقطع ثلاثا فيكون [ عليه ] ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون [ عليه ] عشرون؟ إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ منه ونقول : إنّ الذي جاء به الشيطان ، فقال : « مهلا يا أبان ، إنّ هذا حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إنّ المرأة تعادل الرجل في ثلث الدية فإذا بلغ [ ت ] الثلث رجعت ( في النسخة رجعت المرأة ، ولم ترد المرأة في مصادر الحديث ) إلى النصف ، قال : « يا أبان ، إنّك قد أخذتني بالقيار. والسنّة إذا قيست محق الدين ». « منه ».

أن يقال : إنّ أبانا (1) كان ظانّا بالظنّ القوي ، وإنكار المعصوم عليه إنّما هو لتعجّبه بعد كشف الواقع له ، فإنّه لا معنى للتعجّب بعد ذلك ، أو يجعل ظنّه الشخصي معارضا لكلامه عليه السلام ، فحينئذ تخرج الرواية عن الشهادة ، بل يمكن دعوى أنّ الأظهر في جميع ذلك النهي عن العقل الظنّي ، فالحقّ عدم التفصيل بين أفراد العلم.

ص: 26


1- في النسختين : أبان.
الامر الثالث :
اشارة

قد يستفاد من تضاعيف كلمات جماعة من متأخّري المتأخّرين - ومنهم الشيخ الأجلّ فيلسوف القوم الشيخ جعفر في مقدّمات كتابه الموسوم بكشف الغطاء (1) - عدم حجّية قطع القطّاع. ولعلّ المراد منه ما لا يستند قطعه بأمارة تفيده غالبا ، وأمّا إذا استند إلى سبب مفيد له كالإجماع ، فلا ينبغي الارتياب في اعتباره.

ثمّ إنّهم إن أرادوا من عدم اعتبار قطعه عدم ترتّب أحكام القطع على قطعه فيما يعتبر فيه العلم الموضوعي بالنسبة إلى غير القاطع من عدم جواز تقليده وعدم قبول شهادته ، فهو في محلّه ، كما لو أريد ذلك بالنسبة إلى القاطع كذلك كالإفتاء والشهادة ، فلا يجوز له الإفتاء وإن كان يجوز له العمل به لكنّ الكلام على تقديره في انصراف الدليل الدالّ على اعتبار العلم في موضوع الإفتاء والشهادة إلى مثل المقام وعدمه على ما عرفت فيما سبق.

وإن أرادوا أنّ قطعه غير معتبر في حقّه بالنسبة إلى أحكام ما علمه المترتّبة عليه بواسطة عللها الواقعية على أن يكون طريقا إليه ، فسقوطه واضح ؛ لاستلزامه خلاف الفرض في وجه ، واجتماع النقيضين في وجه آخر ، والتكليف بما لا يطاق مرّة ، وتخصيص عمومات الأدلّة من غير مخصّص أخرى ، واللوازم بيّنة البطلان.

وأمّا الملازمة ، فلأنّه لو حصل له القطع بموضوع من الموضوعات (2) للأحكام الشرعية كأن قطع بأنّ اليوم الفلاني من أيّام شهر رمضان ، فلا يخلو إمّا أن يجب عليه الصوم فيه ، أو لا يجب ، والأوّل هو المطلوب.

وعلى الثاني إمّا أن يكون مكلّفا بخلاف ما قطعه ، أو لا يكون مكلّفا به.

ص: 27


1- كشف الغطاء 1 : 308 ، وفي ط الحجري : 64.
2- « ش » : موضوعات.

وعلى الأوّل إمّا أن يقطع بتكليفه بخلاف ما قطعه أوّلا مع بقاء قطعه ، أو يقطع بخلافه مع زوال قطعه ، والرابع هو الأوّل ، والثالث هو الثاني كما هو ظاهر ، والثاني هو الرابع ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب الصوم في شهر رمضان بعمومه يشمل القطّاع ولا مخصّص كما في المسافر والمريض ، والأوّل هو الثالث ، إذ شرط التكليف لو لم يكن هو العلم به ، فلا أقلّ من الاحتمال ، والمفروض أنّ بعد العلم لا يتصوّر الاحتمال بخلافه ، فكيف بالعلم بخلافه ، وظهوره ممّا يأبى عن إطالة الكلام ؛ فإنّ عدم الجواز والجواز فرع احتمالهما.

وإن أرادوا وجوب تنبيهه على خلاف قطعه ، ففيه : أوّلا عدم جريانه فيما لو علم بمطابقة قطعه للواقع أو شكّ فيها ؛ إذ لا دليل على وجوبه مضافا إلى وجوده على عدم جوازه فيما لو علم بمطابقته.

وثانيا إن أريد من وجوب التنبيه وجوبه فيما لو علمنا باشتباهه في الحكم الشرعي - كأن يقطع بوجوب شيء محرّم أو عكس ذلك - فلا ينحصر ذلك في القطّاع ؛ لعموم ما دلّ على وجوب الإرشاد ، فيجري في غير القطّاع أيضا كآية النفر وأمثالها.

وإن أريد وجوب تنبيهه فيما إذا اشتبه في موضوع من موضوعات الأحكام الشرعية كأن اعتقد الخمر خلاّ ، أو مال الغير مالا له ، فإن قلنا بوجوب الأمر بالمعروف فيه ، فلا اختصاص له فيه ، فيجري في غيره أيضا ، وإلاّ فلا يجب مطلقا.

والحقّ فيه أن يقال : إن كان الإقدام في الموضوع المشتبه يوجب فسادا في العرض كما إذا اعتقد الأجنبية زوجته ، فالإقدام في وطئها يوجب فسادا في العرض ، أو في النفس كأن اعتقد غير القاتل قاتلا ، أو فسادا في العقل كأن اعتقد الخمر خلاّ ، يجب على قاطبة الناس إرشاده وردعه إلى خلاف معتقده ؛ أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، ففي الأمثلة المذكورة يجب ردعه بخلاف ما إذا حسب مال غيره ملكا لنفسه ، أو اعتقد النجس طاهرا فاستعمله أو نسي صلاته إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلا يجب ردعه.

ص: 28

تذييل :

تذييل (1) :

قد تمسّك بعض (2) من يرى عدم حجّية القطع فيما لم يرد فيه (3) دليل شرعي بقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (4).

وأورد عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه (5) بأنّ بعد التسليم من دلالة الآية على ما زعمه المستدلّ لا بدّ من تأويله في مقابلة ما دلّ على وجوب اتّباع حكم العقل القطعي ، لعدم مقاومة الدليل الظنّي للدليل القطعي.

فاعترضه بعض الأجلّة حيث قال :

وهذا الجواب على إطلاقه غير مستقيم عندي ؛ لأنّ استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي - واقعيا كان أو ظاهريا - مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي عنده من جواز تعويله عليه.

قال : ولهذا يصحّ عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده : لا تعوّل في معرفة أوامري وتكاليفي على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدّي إليه حدسك بل اقتصر في ذلك على ما يصل منّي إليك بطريق المشافهة أو المراسلة أو نحو ذلك.

ثمّ أفاد طاب ثراه : ومن هذا الباب ما أفتى به بعض المحقّقين من أنّ القطّاع - الذي يكثر قطعه بالأمارات التي لا توجب (6) القطع عادة - يرجع إلى المتعارف ولا يعوّل على قطعه الخارج عنه.

قال : فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا علم القطّاع ، أو احتمل أن يكون حجّية (7) قطعه مشروطة (8) بعدم كونه قطّاعا ، فيرجع إلى ما ذكرنا من اشتراط حجّية القطع بعدم المنع ،

ص: 29


1- « ل » : « الأمر الرابع » بدل : « تذييل ».
2- هو الفاضل التوني في الوافية : 172.
3- « ل » : - فيه.
4- الإسراء : 15.
5- القوانين 2 : 6.
6- « ش » والمصدر : لا يوجب.
7- « ل » والمصدر : حجّيته؟
8- المصدر : مشروطا.

لكنّ العقل قد يستقلّ في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ؛ لمنافاته لحكمة فعلية قطعية ، وقد لا يستقلّ بذلك لكن حينئذ يستقلّ بحجّية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع ، والاحتجاج بالآية على تقدير دلالتها إنّما يقتضي منع حجّية القسم الثاني ، والجواب المذكور إنّما يقتضي منع دلالتها على القسم الأوّل (1). انتهى كلامه.

وأنت - بعد ما أحطت خبرا بما قدّمنا لك - تطّلع على أنّه لا مساس للاعتراض المذكور على الإيراد المزبور حيث إنّه يمتنع (2) تكليف العالم على خلاف ما علمه حين ما علمه إلاّ أن يزول علمه هذا خلف. نعم ، ما ذكره - من اشتراط حجّية القطع بعدم ورود حكم الشرع على خلافه - قد يتصوّر قبل حصول العلم ، وأمّا بعد حصوله ، فلا يعقل فتدبّر ، ولا تغفل.

ص: 30


1- الفصول : 343.
2- « ل » : لا يمتنع.
الأمر الرابع :

الأمر الرابع (1) :

قد عرفت فيما سبق أحكام العلم التفصيلي تفصيلا ، فلا بأس بالإشارة إلى الأحكام الثابتة للعلم الإجمالي إجمالا.

فنقول : إنّ العلم عبارة عن حالة بين العالم والمعلوم ، بها ينكشف المعلوم عنده ، فلا ريب في كونها أمرا بسيطا غير قابل للإجمال والتفصيل ، ففي توصيفه بهما تسامح من جهة اتّصاف متعلّقه بهما.

نعم ، قد يقال بأنّ العلم لو كان من العلوم التصوّرية ، وقلنا بأنّ (2) العلم هو الصورة الحاصلة ، فيصحّ اتّصاف نفس العلم بالوصفين المذكورين إلاّ أنّه خارج عمّا نحن بصدده ؛ فإنّ العلم المبحوث عنه في المقام هو العلم التصديقي لا التصوّري كما لا يخفى.

وكيف (3) كان ، فالبحث فيه تارة يقع من حيث ثبوت التكليف به بمعنى أنّه بعد حصول العلم إجمالا بوجوب شيء ، فهل يتنجّز التكليف به مثل ما إذا علمه تفصيلا ، أو لا ، كما إذا علمنا بوجوب صلاة مردّدة بين الظهر والجمعة ، وأخرى يقع من حيث كفايته في الامتثال بمعنى أنّه كما يمتثل مع الإتيان بالمأمور به مثلا تفصيلا ، فهل يكفي في الامتثال إتيان المكلّف بعدّة أمور يعلم إجمالا وقوع المأمور به فيها أو لا ، كما إذا اشتبهت جهة القبلة ، فيأتي بأربع صلوات في أربع جهات ، أو لا بدّ من تعيين جهة القبلة تفصيلا؟ فهاهنا مقامان :

أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فيقع في موردين : الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه ، الثاني في أنّه على تقدير عدم جواز المخالفة القطعية ، فهل الواجب تحصيل الموافقة القطعية ، أو يكفي فيه الفرار من المخالفة القطعية؟ والمتكفّل لبيان هذا المورد هو

ص: 31


1- « ل » : - الأمر الرابع.
2- « ل » : إنّ.
3- « ل » : فكيف.

الأدلّة القطعية ، فليطلب منها ، وأمّا الكلام في المورد الأوّل ، فسيجيء إن شاء اللّه.

فلنشرع لبيان المقام الثاني لقلّة أبحاثه ، فنقول : إذا دلّنا دليل شرعي على وجوب شيء خاصّ ، فلا يخلو إمّا أن نتمكّن من الامتثال تفصيلا كأن نعلمه بالخصوص ، أو لا نتمكّن منه ، فعلى الثاني فلا ريب في كفاية الامتثال الإجمالي بل لا كلام لأحد فيه عدا ما يظهر من الحلّي ، فإنّه قال في المحكي عنه : من (1) وجد ثوبين يقطع بنجاسة أحدهما دون الآخر عليه الصلاة عاريا ، ولا يجوز تكرار الصلاة فيهما (2). وهو ضعيف جدّا لا ينبغي الالتفات إليه.

وعلى الأوّل فالتحقيق في المقام التفصيل بين العبادات وغيرها ، فعلى الأوّل يحكم ببطلان العبادة كأن يأتي بالصلاة في أربع جهات مع إمكان تحصيل العلم بالقبلة تفصيلا ، أو مع حصول العلم تفصيلا ، وفي الثاني يحكم بصحّة المعاملة كأن يأتي بالبيع مشتملا على جميع ما يحتمل اشتراطه فيه.

أمّا الثاني ، فلأنّ المقصود فيه حصول ما هو في نفس الأمر معتبر في تأثيره وهو حاصل ولو مع عدم علمه به ، فيقع مؤثّرا في محلّه. ودعوى اشتراط صحّة العمل - ولو كان معاملة أيضا بالاجتهاد والتقليد - واهية جدّا ، ولا فرق في ذلك بين علمه بالوجه الصحيح إجمالا لكن مع اشتباهه بعده وجهله به رأسا ، فإنّه لو طابق الواقع ، يؤثّر أثره المطلوب منه على أيّ وجه اتّفق ، ولا مدخل للعلم والجهل فيه بل قد نفى الخلاف عن ذلك بعضهم إلاّ عن بعض متأخّري المتأخّرين (3) القائلين باشتراط صحّة العمل بالاجتهاد و (4) التقليد.

ولا فرق في ذلك أيضا بين أن يقع العمل مكرّرا كما إذا تكرّر الصيغة المعتبرة في العقود فيما إذا كان مختلفا فيها وبين أن يقع العمل واحدا جامعا لجميع ما يحتمل تأثيره

ص: 32


1- « ش » : إنّ من.
2- السرائر 1 : 184 - 185 ، نقله بالمعنى.
3- انظر بحث البراءة : ص 592 - 593.
4- « ل » : أو.

فيه وجودا وعدما كما هو ظاهر.

وأمّا الأوّل فتفصيل الكلام فيه أن يقال : إنّ العبادة - التي يراد الامتثال بها على وجه إجمالي - تقع على وجهين ، فتارة على وجه يتكرّر العمل كأن يصلّي إلى أربع جهات مع التمكّن به من استعلام حال القبلة الواقعية ، وأخرى على وجه لا يتكرّر بل العمل مع وحدته يشتمل على جميع ما يحتمل اعتباره فيه كالصوم فيما إذا أمسك المكلّف عن جميع ما يحتمل كونها مفطرا ، ضرورة عدم خروج العمل عن وحدته حينئذ ، فعلى الأوّل لا شكّ في بطلان العمل كما هو المأخوذ من طريقة الشرع وسيرة العلماء ، وقد نفى الخلاف عنه المحدّث البحراني ؛ فإنّه بعد ما حكى عن العلاّمة (1) عدم جواز الصلاة في الثياب المشتبه طاهرها بنجسها على وجه التكرار مع التمكّن من الصلاة في الثوب الطاهر يقينا قال : هذا وإن كان حسنا إلاّ أنّ وجهه لا يبلغ حدّ الوجوب (2).

وعلى الثاني فالمشهور - على ما حكي أيضا - على عدم جوازه مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي باستعمال ما يوجبه من غير لزوم عسر على تقديره إلاّ أنّ الدليل لا يساعد عليه بل قضية صدق الإطاعة في الصورة المفروضة عرفا من دون تزلزل في النيّة جواز الامتثال الإجمالي حينئذ.

لا يقال : نيّة الوجه وقصده - على ما ذهب إليه المعظم - واجب فلا يصدق الإطاعة بدونها.

لأنّا نقول : مع الغضّ عن وجوبه ، فلا ريب في كفايتهما ولو على وجه إجمالي ، فإنّ المفروض قطع العامل باشتمال عمله على جميع أجزائه وشرائطه ، فينوي على هذا

ص: 33


1- منتهى المطلب 3 : 301 ، وفي ط الحجري 1 : 182 ؛ نهاية الاحكام 1 : 282.
2- الحدائق 5 : 407 قاله صاحب المدارك 2 : 358 واستجوده صاحب الحدائق كما سيأتي أيضا في بحث البراءة : 579.

الوجه ، وبعد صدق الإطاعة التي عليها المدار لا ضير في عدم النيّة تفصيلا كما لا يخفى.

ودعوى وجوب العلم بوجه وجوب العمل ومعرفة الواجب والمندوب عهدتها على مدّعيها ؛ فإنّه إن كان من جهة عدم صدق الإطاعة بدونه ، فقد عرفت صدقها بدونه ، وإن كان من جهة وجوب نيّة الوجه ، فقد عرفت آنفا ما فيه.

فإن قيل : قد ادّعى السيّد رضي الدين (1) - فيما سأل عن أخيه علم الهدى من إتمام الجاهل بالحكم في السفر - الإجماع على بطلان صلاة من لم يعرف (2) أحكامها ، فأجاب السيّد علم الهدى - مع تسليمه الإجماع على المسألة الكلّية - بأنّه أيّ مانع من الحكم بالصحّة في خصوص المورد من جهة دليل خاصّ؟ فالإجماع على ما ادّعاه السيّد ، وقرّره علم الهدى (3) منعقد على بطلان العمل فيما لم يعرف وجه العمل.

قلنا : يحتمل دعوى الإجماع من السيّد على بطلان عمل الجاهل من غير استناده فيه إلى تقليد أو اجتهاد كما هو الحال في أكثر عوامّ العباد (4) ، وهو كذلك لكن لا ربط له بالمقام ، فإنّا ندّعي كفاية الامتثال الإجمالي ؛ لانتهائه إلى الاجتهاد أو التقليد.

ومن هنا يظهر ضعف ما قد (5) يمكن الاستناد إليه في المقام ممّا اشتهر بينهم (6) « الناس صنفان : مجتهد ومقلّد » ولكن مع ذلك ينبغي مراعاة جانب الاحتياط ، فإنّه طريق

ص: 34


1- حكاه في الذكرى 4 : 325 - 326 ، وفي ط الحجري : 261 ؛ وروض الجنان 2 : 1058 وفي ط الحجري : 398 ؛ وعن الذكرى في مدارك الأحكام 4 : 472 - 473 ؛ وذخيرة المعاد : 414 ؛ والحدائق 11 : 429 ؛ انظر رسائل الشريف المرتضى 2 : 383 - 384. وسيأتي عنه أيضا في ص 579.
2- « ش » : لا يعرف.
3- « ش » : - علم الهدى.
4- « ل » : أكثر العوامّ.
5- « ل » : - قد.
6- ذهب إليه الشهيد الأوّل في الألفية والنفلية : 39 ؛ والشهيد الثاني في روض الجنان 2 : 663 ، وفي ط الحجري : 248 ؛ والقمّي في القوانين 2 : 140 ونسبه إلى المشهور من فقهائنا ، ونسب إلى المشهور أيضا النراقي في المناهج : 317 ؛ وشريف العلماء كما في تقريراته للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : 35. انظر أيضا بحث البراءة : 577.

النجاة وتحصيل العلم التفصيلي كما رآه المشهور فيما يمكن تحصيله.

فإن قلت : لا معنى للاحتياط في المقام ؛ فإنّه يصحّ فيما لم يكن الشكّ في وجوده كافيا في الحكم بعدم وجوده كأن (1) يكون هنا إطلاق يرجع إليه ومثل ذلك ، وأمّا في المقام ، فلا يصحّ ؛ لأنّ الإطاعة والامتثال من المفاهيم المنتزعة من وقوع فعل المأمور به على وجهه ، فمع انتزاع العقل لها لا معنى للحكم بالاحتياط فيها ، ومع عدم الانتزاع لا شكّ في عدم وقوع الفعل على وجهه ، ولا مناص عن العمل به ، فلا احتياط ، وكذا ما يتعلّق بكيفية الإطاعة والامتثال من كونها تفصيليا أو إجماليا وذلك ظاهر لا سترة عليه.

قلت : نعم ، ولكنّ الشارع في أوامره قد يعتبر حصول الإطاعة والامتثال على وجه خاصّ ، فيشكّ في حصوله مع حصول الامتثال على وجه يعمّه ، فالاحتياط يقضي بتحصيل الإطاعة على ذلك الوجه ؛ لاحتمال أن يكون الداعي في الأمر حصولها على وجه خاصّ.

وتوضيحه : أنّ الشارع تارة يأمر أمرا توصّليا غير مقيّد بحصول الإطاعة والامتثال ، وأخرى يأمر أمرا تعبّديا مقيّدا بحصول الإطاعة ، فلا بدّ من تحصيلها ، فمرّة على وجه خاصّ كأن يعتبر الامتثال التفصيلي مثلا ، وأخرى على وجه يعمّ الإجمالي أيضا ، فيمكن حصول الإطاعة العامّة بانتزاعها العقل مع الشكّ في وجود الإطاعة الخاصّة مع احتمال مطلوبيّتها على هذا الوجه ، فيحسن في العقل الاحتياط وتحصيل العلم بالمأمور به الواقعي بتحصيل الامتثال التفصيلي ، فلا إشكال ، هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين الامتثال الاجمالي والتفصيلي العلمي.

وأمّا فيما لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي الظنّي بالظنّ الخاصّ كالتقليد - على ما رآه الجماعة من كونه من الظنون الخاصّة - فالكلام بعينه هو الكلام تقسيما وحكما على إشكال.

ص: 35


1- في هامش « ش » : مثال للنفي لا المنفي.

أمّا فيما لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي المظنون بالظنون المطلقة ، فلا ريب في تقدّم الامتثال الإجمالي ؛ لأنّ القول باعتبار الامتثال الظنّي موقوف على بطلان الامتثال الإجمالي والاحتياط على ما سيجيء إن شاء اللّه ، وذلك بخلاف الظنون الخاصّة ؛ فإنّها بمنزلة العلم.

وأمّا الظنون المطلقة ، فبعد لم يثبت حجّيتها في قبال الامتثال الإجمالي والمفروض عدم التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ؛ لانسداد باب العلم ، فلا مناص من الامتثال الإجمالي كما تقدّم عدم الخلاف فيه إلاّ المنقول عن ابن إدريس (1).

وتوضيحه : أنّ كفاية الظنّ في الامتثال - على ما هو مفاد دليل الانسداد - موقوفة (2) على بطلان الاحتياط ، أو كونه مستلزما للحرج الشديد ، فما لم يثبت بطلان الاحتياط والامتثال الإجمالي لا يثبت كفاية الامتثال الظنّي ؛ فإنّ العقل رجّحه على العمل بالظنّ ما لم يستلزم محذورا ؛ لأنّ المدار عند العقل على حصول الواقع والوصول إليه ، ولا شكّ أنّ الاحتياط هو الأقرب من غيره.

ثمّ إنّه لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي ومثله لكن كان أحد الإجمالين أقلّ إجمالا وأقرب إلى التفصيل من الآخر ، يقدّم ما هو الأقرب إلى التفصيل وجوبا أو احتياطا على حسب اختلاف المذاهب كما عرفت من صاحب المدارك والعلاّمة.

ومن فروعه ما (3) لو دار الأمر بين الصلاة في أوّل الفجر في أربع جهات وبين تأخير الصلاة إلى انتشار ضوء النهار ليعلم أنّ القبلة ليست إلاّ في جهات ثلاثة مثلا فيقلّ تكرار الصلاة ، ونظائره كثيرة.

ص: 36


1- تقدّم في ص 32.
2- في النسختين : موقوف.
3- « ل » : - ما.
تتمّة

لو كان عند المكلّف تكليفان يتمكّن من الامتثال في أحدهما تفصيلا ولا يتمكّن منه في الآخر ، ولكنّه يقلّ إجماله فيما لو ترك الامتثال تفصيلا في الأوّل ، فهل له تركه (1) تقليلا لإجمال الآخر ، أو لا؟ وجهان : أقواهما العدم ؛ فإنّ ترك التفصيل في الأوّل لتحصيل قلّة الإجمال في الثاني يوجب ترجيح المرجوح على الراجح ، وظهور قبحه يكفي عن إظهاره.

ومن هنا يظهر وجاهة ما ذهب إليه العلاّمة في النهاية من أوّل احتماليه ؛ فإنّه أورد فيه كلاما على ما حكي عنه حاصله : أنّه لو نذر شخص لكلّ صلاة من صلاته اليومية تيمّما ، فاتّفق نسيان صلاتين من يوم واحد له ، فللخروج عن عهدتهما طريقان :

أحدهما : أن يتيمّم أوّلا ويأتي بأربع صلوات مردّدة بين الفجر والظهرين والمغرب ، ثمّ يتيمّم ثانيا ويأتي أيضا (2) بأربع صلوات مردّدة بين الظهرين والعشاءين فيمتثل التكليف بالتيمّم تفصيلا ، والتكليف بالصلاة في كلّ واحدة منهما مجملة مردّدة بين الأربع ، فالمجموع الحاصل منه تيمّمان وصلاة ثمانية ، فتلك عشرة كاملة.

وثانيهما : أن يتيمّم لكلّ صلاة من الصلوات الخمس (3) ، فيقطع بخروج ذمّته عن الصلاتين الفائتتين والتيمّمين في ضمن تيمّمات خمسة وصلوات خمس (4) ، ولا شكّ في (5) أنّ الأوّل أولى ؛ لأنّ ترك التفصيل في الأوّل إلى قلّة الإجمال في الثاني يوجب ترجيح المرجوح على الراجح ، وقس عليه صورا أخر لذلك ، فلا حاجة في التعرّض لها بعد العلم بالقاعدة.

ص: 37


1- « ش » : تركه إليه.
2- « ل » : - أيضا.
3- « ش » : الخمسة.
4- « ش » : خمسة.
5- « ل » : - في.

أمّا الكلام في المورد الأوّل من المقام الأوّل الباحث فيه عن جواز المخالفة القطعية وعدمها بعد العلم الإجمالي ، فاعلم أنّ الإجمال إمّا في نفس التكليف - كدوران الأمر بين الواجب والحرام أو المستحبّ أو المكروه ، وكلّ واحد منها مع الآخر وغيرها من صور الدوران - أو في موضوع التكليف بعد العلم به كالواجب المردّد بين الظهر والجمعة ، أو فيهما معا.

ثمّ العلم الإجمالي تارة يتعلّق بالحكم الشرعي الكلّي كالأمثلة المتقدّمة ، وأخرى يتعلّق بموضوعاته (1) الخارجية كما في الشبهة المحصورة واشتباه جهة القبلة أو اشتباه المرأة المنذور وطؤها بالأجنبية إلى غير ذلك ، أو في نفس المكلّف ، فتارة من جهة دوران موضوع - كالجنابة - بينه وبين غيره ، وأخرى من جهة دورانه بين موضوعين كالخنثى المردّد بين موضوعي الذكورة والأنوثة. وقبل الخوض في بيان أحكامها ، فلنذكر أمرين :

أحدهما : أنّ الكلام في المقام وجودا وعدما إنّما هو من جهة أنّ العلم الإجمالي هل هو طريق إجمالي إلى الواقع ، أو لا؟ كما أنّ العلم التفصيلي طريق تفصيلي (2) إليه ، فكما أنّ الأحكام الثابتة بواسطة عللها الواقعية تترتّب على متعلّقاتها عند العلم التفصيلي ، فهل تترتّب تلك الأحكام على موضوعاتها عند العلم الإجمالي ، أو لا؟ وأمّا من جهة الموضوعية ، فلا يتعلّق غرض بالبحث عنه ، لعدم دخولها تحت ضابطة وقاعدة.

وثانيهما : أنّه لا ريب في أنّه إذا تولّد من (3) العلم الإجمالي في واقعة علم تفصيلي في واقعة أخرى فهو ممّا لا مناص عن العمل به في محلّه ، فكأنّه هو خارج عمّا نحن فيه ؛ لما تقدّم من أنّه معتبر بنفسه لا يحتاج إلى جعل ، والذاتي لا يتخلّف ولا يختلف ، فلو لاقى ثوبه لكلّ من الإناءين فيما إذا علم بنجاسة أحدهما إجمالا ، يجب الاجتناب عنه ،

ص: 38


1- « ل » : بموضوعات.
2- « ل » : - طريق تفصيلي.
3- « ل » : عن.

وكذا لا يجوز الاقتداء في الصلاة لمن وجد في ثوب مشترك بينه وبين غيره المنيّ (1) ؛ للعلم التفصيلي بنجاسة ثوبه في الأوّل ، وبطلان صلاته في الثاني ، فإنّه لو كان منه ، فهو ظاهر ، وكذا لو كان من الإمام ؛ لإناطة صحّة صلاته بصحّة صلاة الإمام.

لكن قد يظهر من بعضهم (2) صحّة الصلاة في الفرض بل قد يلوح منهم في موارد أخر عدم الأخذ بالعلم التفصيلي الحاصل من العلم الإجمالي.

فمنها : ما قد يستفاد من جملة منهم (3) عدم لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة ولو لم يضع قدر المحرّم من المشتبهات.

ومنها : ما عن العلاّمة في التهذيب (4) من جواز خرق الإجماع المركّب ، وترك القولين إلى الرجوع إلى أحد (5) الأصول ، وعن الشيخ (6) من (7) القول بالتخيير الواقعي ، ولا ريب أنّها مخالفة للعلم التفصيلي من حيث الوقوع في المحرّم قطعا تفصيلا في الأوّل ، وطرح

ص: 39


1- « ش » : المني به.
2- التذكرة 1 : 224 ، وفي ط الحجري 1 : 23 ؛ منتهى المطلب 2 : 179 ، وفي ط الحجري 1 : 81 ؛ قواعد الأحكام 1 : 208 ؛ نهاية الإحكام 1 : 101 ؛ تحرير الأحكام 1 : 90 ، وفي ط الحجري 1 : 12 ؛ مدارك الأحكام 1 : 270 ؛ ذخيرة المعاد : 52 ؛ مشارق الشموس : 163 ؛ الحدائق 3 : 26 - 28. انظر مفتاح الكرامة 3 : 28.
3- مدارك الأحكام 1 : 108 و 2 : 252 ؛ المفاتيح للفيض الكاشاني كما عنه في الحدائق 1 : 148 ؛ الأربعين حديثا للمجلسي : 582. قال في الحدائق 1 : 502 بعد نقل كلام صاحب المدارك : وقد تقدّمه في هذا الكلام شيخه المولى الأردبيلي وقد جرى على هذا المنوال جملة ممّن تأخّر عنه من علمائنا الأبدال. وقال أيضا في الحدائق 5 : 276 - 277 : الأوّل بالنسبة إلى المحصور ؛ فإنّ الحكم فيه ما ذكرناه كما عليه كافّة الأصحاب إلى أن انتهت النوبة إلى السيّد السند السيّد محمّد والشيخ حسن وقبلهما شيخهما المحقّق الأردبيلي فنازعوا في الحكم المذكور ، وتبعهم جمع ممّن تأخّر عنهم.
4- التهذيب : 205 ، والأمر عكس ذلك ظاهرا فلاحظ.
5- « ل » : - أحد.
6- العدّة 2 : 637.
7- « ل » : عن.

قول الإمام في الثانيين.

ومنها : ما ذكره غير واحد (1) في كتاب الصلح من أنّه لو أودع شخصان عند أمين ثلاثة دراهم أحدهما لأحدهما والباقي للآخر ، فاشتبهت الدراهم ، فتلف درهم منها ، ثمّ ادّعى أحدهما والآخر كلاّ منهما ، كان لصاحب الدرهمين درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم ، فإنّ قضية ذلك على ما قلنا عدم جواز التصرّف في النصفين لغيرهما فيما لو اجتمعا عنده ؛ للعلم التفصيلي بأنّ أحد النصفين لأحدهما ، وأنّه تصرّف في ملك الغير.

ونظيره ما ذكروه (2) في كتاب القضاء من أنّه لو تداعيا عينا في يدهما ولا بيّنة ، قضي بها بينهما نصفين إمّا مع الحلف ، أو بدونه على الخلاف المزبور في محلّه ، ومقتضاه جواز تصرّف غيرهما فيما لو اجتمع النصفان عنده على حدّ تصرّفه في ملكه مع العلم تفصيلا بتصرّفه في ملك الغير من غير رضاه.

ومنها : ما ذكروه أيضا من أنّه لو اختلف البائع والمشتري في أنّ المبيع ثوب أو عبد ، أو في الثمن كذلك أنّهما يتحالفان ، ورجع الثمن إلى المشتري ، والمبيع إلى البائع مع أنّ أحدهما عالم بأنّه متصرّف في مال الغير بدون إذنه.

والجواب عن ذلك كلّه (3) أمّا إجمالا ، فبما عرفت مرارا من أنّ العقل يستقلّ في أنّ العلم التفصيلي من أيّ سبب حصل ينهض طريقا إلى الواقع ، ويستقيم دليلا عليه

ص: 40


1- المقنع : 398 ؛ العويص للمفيد : 48 - 49 ؛ النهاية : 314 ؛ السرائر 2 : 69 ؛ الجامع للشرائع : 306 ؛ تذكرة الفقهاء 2 : 195 ط الحجري ؛ تحرير الأحكام 3 : 14 - 15 ، وفي ط الحجري 1 : 231 وفيه ناقش في الحكم ؛ الدروس 3 : 333 ؛ جامع المقاصد 5 : 436 ؛ مجمع الفائدة 9 : 344 ؛ كفاية الأحكام : 117 ؛ الحدائق 21 : 102 ؛ الرياض 9 : 47 ، وفي ط الحجري 1 : 601 - 602 ؛ مستند الشيعة 17 : 349 ؛ جواهر الأحكام 26 : 226 ؛ كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : 245 - 246.
2- قواعد الأحكام 3 : 468 ؛ ارشاد الأذهان 2 : 149 ؛ تحرير الأحكام 2 : 194 ط الحجري ؛ ايضاح الفوائد 4 : 379 ؛ الدروس 2 : 100 ؛ مسالك الأفهام 14 : 78 ؛ مجمع الفائدة 12 : 225 ؛ كشف اللثام 2 : 353 ط الحجري.
3- « ل » : - كلّه.

وكاشفا عنه ، فلا بدّ من طرح ما يخالفه ، أو تأويله إلى ما لا ينافيه بتصرّف في صغرى القضية أو في كبراها.

وأمّا تفصيلا ، فنقول : أمّا فتوى غير واحد من العلماء بصحّة صلاة المقتدي في الصورة المفروضة [ ف- ] -لعلّها مبنية على أنّ الطهارة ليست من الشروط الواقعية بل هي من الشروط العلمية ولو بأحد الأسباب الشرعية كالاستصحاب مثلا.

وأمّا حديث الشبهة المحصورة ، فواضح السقوط ؛ لعدم كونه من موارد النقض ؛ لأنّ العلم التفصيلي إنّما يحصل بعد الارتكاب ، والانتقاض إنّما هو فيما لو ارتكبها دفعة ولا قائل به ، ومن هنا يظهر عدم الانتقاض فيما لو اقتدى شخص ثالث بكلّ منهما في الفرض السابق في صلاتين ؛ فإنّ العلم بالفساد يحصل بعد الاقتداء ، فلا يصلح نقضا ، ولو فرض أحد (1) من العلماء قال [ ب- ] -جواز الارتكاب في الشبهة المحصورة دفعة واحدة ، فلعلّه مبني على عدم تسليمه الوجوب في الاجتناب عن مطلق النجس ولو في مفروض المسألة.

وأمّا ما هو المنقول عن الشيخ ، فيمكن حمل كلامه على التخيير ولو في مرحلة الظاهر كما صرّح به المحقّقون ، وبهذا يندفع ما قد يورد عليه ، والتعرّض له يوجب الخروج عن الوظيفة.

وأمّا كلام العلاّمة ، فلم نقف له على وجه صحيح إلاّ ما قد يتخيّل من حمل كلامه على خصوص الموارد التي لا يلزم من فرق القولين فرق عمل (2) الفريقين كما لو اختلف الأمّة على قولين في وجوب شيء وحرمته ، فالرجوع إلى الإباحة - كما هو مقتضى الأصل - لا ينافي عمل الفريقين في صورتي الترك والفعل ؛ لتوافقه في الحالتين أحد القولين.

نعم ، هو مخالف لهما في مجرّد الفتوى ، ولا ضير فيه بادّعاء عدم شمول ما دلّ على

ص: 41


1- « ش » : أحدا.
2- في هامش « ل ، خ ل » : خرق.

عدم جواز الإفتاء (1) بغير ما أنزل اللّه به في المقام.

وأمّا إذا كان القول بالفصل ينافي القولين في العمل أيضا كأن يفتي المجتهد مثلا في الظهر والجمعة بعدم وجوبه ، فالأدلّة الناهية عن الفتوى بغير ما أنزل اللّه به قائمة فيه ، ولا يجوز قطعا ، ويحتمل حمل كلامه على جوازه فيما لو كان أحدهما موافقا للأصل وإن كان بعيدا في الغاية ، وغريبا في النهاية.

وأمّا ما ذكروه في كتاب الصلح ، فهو لو اقتضى ما ذكر ، فلا بدّ من القول بالصلح القهري بينهما بمعنى أنّ الشارع قد تعبّدنا بالحكم بالتنصيف بينهما على وجه يكون ذلك سببا لإدخال ملك الغير في ملكه حسما لمادّة النزاع ؛ ومن هنا يظهر الوجه في مسائل التداعي أيضا.

وأمّا مسألة التحالف ، فإن قلنا بأنّ التحالف يوجب فسخ العقد ، فالأمر واضح لكنّه شاذّ جدّا ، وإلاّ فلا بدّ من أن يكون التصرّف فيه من جهة التقاصّ إلاّ أنّه يشكل فيما يزيد قيمة الثمن أو المثمن عن الآخر ؛ فإنّ قضيّة التقاصّ جواز التصرّف في ملك (2) الغير على قدر ماله لا فيما يزيد عليه.

فنقول حينئذ : إن قام الإجماع على إمضاء الشارع تصرّف أحدهما في مال الآخر مطلقا ، فلا إشكال أيضا ؛ لجواز أن يجعل الشارع ما يزيد عوضا عمّا ينقص ؛ لحكمة تقتضيه ، وإلاّ فلا بدّ من القول بوجوب الدّس في ماله على ما يزيد عن (3) ماله.

وإذا عرفت ما تقدّم من الأمرين ، فاعلم أنّ المخالفة القطعية في العلم الإجمالي على قسمين :

أحدهما : أن يخالف ما علم استقرار فتواهم عليه وإن لم يلازم المخالفة في العمل على حذو ما قرّره فيما نقل عن العلاّمة من جواز الخرق في الإجماع المركّب ، ولا فرق

ص: 42


1- « ل » : الإنشاء؟
2- « ش » : مال.
3- « ل » : في.

في ذلك بين أن يكون الواجب تعبّديا أو توصّليا إلاّ من جهة قصد القربة المعتبرة (1) في الأوّل دون الثاني ، ففي المقام لو قصد القربة في فعله ، يوافق في (2) العمل القائل بالوجوب (3) ، وإلاّ فيوافق القول بالحرمة مطلقا على ما مرّ فرضه.

والثاني : أن يخالفه من حين العمل أيضا كما فيما لو اختلف الأمّة على قولين في وجوب الظهر والجمعة ، فالقول بعدم وجوبهما جميعا (4) مخالف لما علم إجمالا من (5) وجوب أحدهما حتّى في العمل ، وكذا القول بعدم وجوب الصلاة لا قصرا ولا تماما في أربعة فراسخ ، وكلاّ من القسمين تارة يلاحظ بالنسبة إلى الموضوع الخارجي ، وأخرى بالنسبة إلى الحكم الشرعي ، فهاهنا أقسام أربعة لا بدّ لنا من بيانها :

القسم (6) الأوّل : يجوز المخالفة القطعية في الفتوى فقط في الموضوعات الخارجية مع موافقة العمل لأحد طرفي العلم الإجمالي إجماعا (7) على ما ادّعاه أستادنا المرتضى ، وأمثلته كثيرة في الفقه جدّا.

منها : لو شكّ في مائع معلوم هل هو ماء أو بول؟ فلو توضّأ منه ، يحكم بطهارة بدنه وبقاء حدثه مع العلم إجمالا بتلازم الطهارة ورفع الحدث في الواقع وجودا وعدما لكنّ العمل ليس بخارج عنه كما لا يخفى.

ومنها : لو (8) أقرّ واحد بأخوة الآخر أو بزوجية امرأة ، وأنكر الآخر والزوجة أخوّته وزوجيته ؛ فإنّه يؤخذ بإقراره فيهما دونهما مع أنّ العلم الإجمالي يخالفه.

ومنها : تعارض الاستصحابين فيما لم يكن أحدهما مزيلا ، والآخر مزالا.

ص: 43


1- « ش » : المعتبر.
2- « ل » : - في.
3- « ل » : للوجوب.
4- المثبت من « ل » و « خ ل » بهامش « ش » وفي « ش » : وجوب جميعهما.
5- « ل » : عن.
6- لم يرد « القسم » في « ش » وكذا في الموارد الآتية.
7- « ل » : - إجماعا.
8- « ش » : ما لو.

القسم الثاني : هل يجوز المخالفة العملية في الموضوعات أو لا؟ فيه تفصيل بين ما يلزم من المخالفة طرح خطاب تفصيلي يتوجّه إلى المخاطب ، فلا يجوز ؛ للزوم الإطاعة شرعا وعقلا بعد التكليف ، وبين ما لا يلزم ، فيجوز.

و (1) من أمثلة الأوّل الشبهة المحصورة كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ؛ فإنّ قضيّة النهي عن استعمال النجاسة الظاهرة في الواقعية منها لزوم (2) الاجتناب ، فيحرم المخالفة القطعية ، فيجب الموافقة القطعية ؛ فإنّ بعد ما فرض من (3) أنّ المطلوب الاجتناب عن النجاسة الواقعية المشتبهة في الخارج ، فلا ريب في وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة بتمامها ، وإلاّ فلا بدّ من القول بجواز الارتكاب مطلقا ، أو فيما سوى مقدار المحرّم ، فظهر أنّ القول بحرمة المخالفة القطعية يلازم القول بوجوب الموافقة القطعية في المقام ، والمنكر مكابر.

ومن أمثلته لو جهل جهة القبلة ، فلا بدّ من الإتيان بالصلاة مكرّرا على الجهات على حسب ما يقتضيه الجهل فيها ، وإلاّ فيلزم طرح خطاب تفصيلي يدلّ على وجوب الصلاة على جهة القبلة الواقعية.

ومن الأمثلة ممّا لو علم بأنّ الموجود المعلوم إمّا خمر أو بول ، فمقتضى لزوم الاجتناب عن النجس لزومه فيه.

ومن الأمثلة ما لو تزوّج أحد امرأة واشترى أمة ، فعلم حريّة الأمة أو مرضعية الزوجة ، فيلزم الاجتناب عنهما في لوازمهما ؛ لئلاّ يلزم طرح خطاب تفصيلي متوجّه إليه وهو قوله تعالى : ( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (4) فإنّ المفروض في صورة عدم الاجتناب القطع بأنّه مقدم على الابتغاء بما وراء ما ذكره في صدر الآية ، فلا بدّ من الاجتناب.

ص: 44


1- « ل » : - و.
2- « ش » : للزوم.
3- « ل » : - من.
4- المؤمنون : 7 ؛ المعارج : 31.

فظهر أنّ المناط في الجواز وعدمه لزوم طرح الخطاب تفصيلا لا كون طرفي العلم الإجمالي من الأمور المتجانسة كما تخيّله صاحب الحدائق (1) ، وبنى عليه في الردّ على صاحب المدارك (2) حيث استدلّ الأخير على عدم لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة مطلقا بأنّه لو كان واجبا ، لوجب الاجتناب أيضا لو علم بوقوع نجاسة من الميزاب مثلا ، وشكّ في أنّه وقع في الثوب أو القدح ؛ فإنّه أيضا شبهة محصورة ، واللازم باطل ؛ لوضوح عدم لزوم الاجتناب عن مثله ، فكذا الملزوم ولو كان من غير الفرض ؛ لعدم تعقّل الفرق بين الأقسام ، فأورد عليه الأوّل بإحداث الفرق وإبداء الفارق بين المفروض وغيره بأنّ طرفي الشبهة فيه ليسا (3) بمتجانسين ، فلا يتمّ التقريب ، وعلى ما قلنا يظهر الوجه في ضعف الدليل والإيراد كليهما.

وقد يوجّه كلام صاحب الحدائق بوجه يرجع إلى ما بنينا عليه كأن يقال إنّ مراده أنّ مرجع لزوم الاجتناب عن الأرض النجسة إلى النهي عن الصلاة فيها بخلاف لزوم الاجتناب عن القدح ، فإنّه ينحلّ إلى النهي عن شربه مثلا ، فالخطابان مختلفان لا يعلم مخالفة أحدهما تفصيلا كما في الفرض الأوّل ، فالأصل براءة الذمّة عنهما معا مع عدم المعارض على ما ستعرفه إن شاء اللّه إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه أيضا ، فإنّ تحليل الخطاب إلى ما ذكر يوجب التفصيل في المتجانسين أيضا في بعض الأحوال كما إذا كان هناك قدحان أحدهما من جنس المأكول ، والآخر من جنس المشروب ، فإنّ الاجتناب عن كلّ منهما في ظرف التحليل يرجع إلى (4) النهي عن أكله وشربه ، ومثل ذلك لا يلتزم به أحد لا هو ولا غيره ، فتأمّل.

هذا تمام الكلام فيما يلزم عند عدم الاجتناب طرح خطاب تفصيلي ، وأمّا إذا لم

ص: 45


1- الحدائق 1 : 517 ، وسيأتي عنه وعن المدارك أيضا في البراءة 472.
2- مدارك الأحكام 1 : 108.
3- « ل » : ليس.
4- « ل » : عن.

يلزم ، فلا يجب الاجتناب وإن لزم العلم بمخالفة أحد الخطابين - لو لم يجتنب - إجمالا في كلتا الواقعتين للأصل السالم عن معارضة خطاب تفصيلي ، والعلم بمخالفة أحد الخطابين إجمالا لم يعلم تأثيره في قطع الأصل ؛ لعدم الدليل عليه ، فالأصل عدم انقطاعه به (1).

ومن أمثلته لو اشترى دارا وتزوّج امرأة ، ثمّ علم إجمالا أنّ أحد العقدين فاسد إمّا لأنّ الزوجة مرضعة له ، أو أنّ الدار وقف على الفقراء والمساكين ، ولا فرق في ذلك بين علمه بذلك قبل الإقدام أو بعده بإحدى الواقعتين.

لا يقال : إنّ قضيّة تعليق (2) أدلّة البراءة موردها بحصول العلم عدم جريانها عند حصوله مطلقا إجماليا كان أو تفصيليا كما في الشبهة المحصورة ، فلا وجه للاستناد إليها في مثل المقام.

لأنّا نقول : مرجع العلم الإجمالي في المقام إلى شكّين تفصيليّين عند التحليل بخلاف الشبهة المحصورة ، فلو لم يكن فيها خطاب تفصيلي يجب الأخذ به ، لما قلنا بالاجتناب فيها أيضا ، فإنّ أدلّة البراءة عقلا ونقلا في مورد الشكّ محكّمة ، والعلم المردّد بين الواقعتين لا يوجب العلم بخصوصية إحداهما ، فكلّ منهما مشكوك تفصيلا ، ولا يجب امتثال خطابات الشارع ما لم يعلم (3) تعلّقها بالخصوص ، ولو كان مجملا في محلّه كأن نعلم في المثال المفروض تعلّق الخطاب إجمالا بحرمة الزوجة ، وعدمه على هذا الوجه في المقام أيضا معلوم ؛ إذ الإجمال يكون بين الواقعتين ، فتدبّر.

فإن قلت : في المقام أيضا خطاب تفصيلي يلزم طرحه عند طرح العلم الإجمالي في الواقعتين وهو ما دلّ على وجوب الانتهاء عن المحرّمات وحرمة ارتكابها.

قلت : لو سلّمنا ذلك ، فلا يكفي ولا يجدي فيما نحن فيه ؛ فإنّه على تقديره أمر

ص: 46


1- « ل » : - به.
2- « ل » : تعلّق.
3- « ش » : نعلم.

إرشادي عقلي لا يورث ثوابا ولا عقابا ، وإلاّ يلزم أنّ من ترك واجبا ، أو أتى بمحرّم أن يعاقب بعقابين ولم يقل به أحد.

ودعوى استقرار بناء العقلاء على الاجتناب عن (1) مثل المقام عهدتها على مدّعيها ، بل لنا أن ندّعي أنّ بناءهم على الخلاف ؛ ألا ترى قبول عذر المرتكب لإحدى الواقعتين بعدم العلم؟

والقول بعدم الفرق (2) بين المعلوم بالإجمال في المقام وغيره فيما يجب الاجتناب بعد وضوح الفرق واه جدّا ، وكفاك شاهدا في الفرق جواز تصريح الشارع بعدم اعتبار العلم الإجمالي في مثل المقام دون غيره كما لا يخفى.

ومنه ظهر أنّ اعتبار مثل العلم يحتاج إلى جعل فما لم يثبت فالأصل عدمه ؛ لأنّا نقول : لا يجوز ذلك مع توجّه الخطاب التفصيلي على المكلّف وبقائه على ظاهره كما هو كذلك.

نعم ، يجوز ذلك مع ارتكاب تأويل في ظاهر الخطاب كأن يقول : يجب عليك الاجتناب عن النجس إذا كان معلوما بالتفصيل.

وبالجملة ، إنّ مبنى هذا التحقيق أمران :

أحدهما : إبقاء الأوامر الشرعية على ظواهرها ، وعدم تقييدها بالعلم التفصيلي كما فعله البعض.

وثانيهما : عدم الاعتماد بالخطابات المنتزعة من الخطابات الشرعية الواردة في مقام بيان الأحكام ، فلا يصحّ في الفرض المذكور أن يقال : إنّ التكليف بالاجتناب المنتزع عن إحدى الواقعتين موجود إجمالا ؛ فإنّه ليس من الأدلّة الشرعية ، والقول باعتبار مثله يتوقّف على دعوى استقلال العقل - ولو بعد ملاحظة خطاب الشارع مجملا - بلزوم الاجتناب ، فيكون الخطاب التفصيلي خطابا عقليا وإن لم يكن شرعيّا ، ولا أظنّ

ص: 47


1- « ل » : من.
2- « ل » : تفرّق.

صدقها بل والمدّعي بذلك (1) لا يدّعيها أيضا كما لا يخفى.

فظهر الفرق بين الشبهة المحصورة وبين المقام ؛ فإنّه يجب الاجتناب فيها دون المقام ، فلو ارتكب أحد إحدى الإناءات المشتبهة ، وصادف النجس الواقعي ، ترتّب عليها ما يترتّب عليه من الأحكام الواقعية من الثواب والعقاب والمفسدة والمصلحة وغير ذلك ، فلم لم (2) يصادف ينعطف الحكم إلى ما ذكرناه في التجرّي ، ولا يلزم من عدم التفطّن (3) بالخطابات كون الشاكّ مكلّفا ولو لم يكن عالما إجمالا كما قد يتوهّم ؛ فإنّ عدم التكليف إنّما هو من جهة جهل المكلّف لا من قصور في الخطاب.

لا يقال : إنّ اتّصاف الأعيان بالحلّ والحرمة ، والنجاسة والطهارة راجع إلى ملاحظة حال فعل المكلّف ، فحرمة الخمر راجعة إلى حرمة شربه وإن كان ذلك ممّا تقتضيه الحكمة الكامنة (4) في نفس تلك الأعيان بأنفسها من غير ملاحظة العلم والجهل فيها إلاّ أنّ إضافتها إلى المكلّف تقضي بلزوم العلم فيها.

لأنّا نقول : إن أريد باعتبار العلم في معاني تلك الأعيان ، فسقوطه واضح ؛ لأنّ ما ذكر لا يصلح وجها للتصرّف في معنى اللفظ (5) ، وإن أريد بقيد الخطاب بمطلق العلم ، فلا جدوى فيه ؛ لأنّه موجود في صورة الإكمال أيضا ، وليس كذلك فيما لم يكن هناك خطاب تفصيلي كما في المثال المفروض ؛ إذ وجود كلّ من الخطابين مشكوك بالشكّ التفصيلي ، والعلم الإجمالي لا ينتج شيئا إلاّ بعد ضمّ كبرى كلّية إليه إمّا بأن يدلّ على اعتباره في المقام دليل ، أو يكون في الشرع دليل خاصّ تفصيلي ينهض كبرى للقياس ، ومن المعلوم انتفاؤها (6) ، والخطاب الانتزاعي قد مرّ حاله. ثمّ إنّ هاهنا أقوالا أخر في المسألة لا بأس بالتنبيه عليها.

ص: 48


1- كذا في النسختين ، والأظهر : لذلك.
2- « ل » : - لم.
3- المثبت من « خ ل » بهامش « ل » وفيها و « ش » : تخصيص.
4- « ل » : الكائنة.
5- « ل » : - اللفظ.
6- « ش » : انتفاؤهما.

الأوّل : جواز الارتكاب مطلقا ، ومبناه دعوى ظهور الألفاظ في المعلومة منها تفصيلا وضعا أو إطلاقا ، وعموم أدلّة البراءة القاضية برفع ما حجب اللّه علمه عن العباد (1).

ويدفعه ما قلنا من عدم جواز التصرّف في الظواهر الظاهرة في معانيها الواقعية ، ومنع عمومها الشامل للمقام مطلقا بعد وجود الخطاب التفصيلي على ما قلنا.

الثاني : لزوم الاجتناب مطلقا سواء استلزم طرح خطاب تفصيلي على ما اخترناه أوّلا.

والجواب عنه عدم دليل على لزومه فيما لم يستلزم طرح دليل تفصيلي إلاّ ما قد ينتزع من الخطاب ، ثمّ (2) بانضمام كبرى كلّية - مأخوذة من طريقة العقلاء ، أو الحكم العقلي القاطع ، أو غير ذلك ممّا استوفينا الكلام فيه - إلى صغرى انتزاعية يتمّ المطلوب ؛ ونحن قد فرغنا عن إبطال صغراه وكبراه على حسب اختلافها.

الثالث : التفصيل على ما اختاره صاحب الحدائق ؛ وقد مرّ الكلام فيه بجوابه (3).

الرابع : ما عزي إلى بعضهم من التفصيل بين أن يكون طرفا الشبهة حكما واحدا كالحرمة أو الوجوب ، أو حكمين مختلفين ، فقضى بالاجتناب في الثاني دون الأوّل ، فلو علمنا إجمالا إمّا أنّ المرأة الفلانية مرضعة ، أو في القدح الفلاني خمر ، يجب الاجتناب كما لو علمنا بأنّ اليوم هذا من شهر رمضان ، أو سلّم علينا شخص ، يجب ردّ السلام ويحرم عليه الإفطار ؛ ولعلّ مبنى هذا القول تخيّل عدم إمكان الاحتياط فيما لو دار الأمر بين موضوعي الوجوب أو الحرمة كما لو دار الأمر بين كلّ منهما مع الآخر ؛ وهو بمكان من الضعف.

الخامس : التفصيل بين الشبهة الوجوبية كاشتباه جهة القبلة بين الجهات ، فيجب

ص: 49


1- زيادة هنا في « ش » : منهم؟
2- « ل » : - ثمّ.
3- مرّ في ص 45.

الاحتياط ، أو التحريمية كاشتباه أحد الإناءين بالآخر ، فيحرم لو قصد ارتكاب الجميع في أوّل الأمر ، وإلاّ فلا وإن ارتكب الجميع أيضا ، ومبناه في الشبهة الوجوبية ظاهر ، وفي الشبهة التحريمية أنّه على الأوّل تعلّق قصده بارتكاب المحرّم فيحرم ، وعلى الثاني لم يقصده وإنّما ارتكبه (1) من غير اختيار واستناد إليه.

وتوضيحه يحتاج إلى مقدّمة وهي أنّ الألفاظ وإن قلنا بوضعها للمعاني الواقعية من غير استنادها إلى الاختيار وعدمه إلاّ أنّ وقوعها تلو الأمر والنهي يقضي (2) بكونها ألفاظا للمعاني المستندة إلى الاختيار ، فقولنا : اضرب ، معناه طلب ضرب اختياري من المخاطب ، فلو ضرب وهو نائم ، لا يعدّ ممتثلا ، وعلى قياسه قولنا : لا تضرب مثلا (3).

وإذ قد تمهّد هذه ، فنقول : إنّ المفصّل أراد أنّه عند عدم القصد والاختيار لا يكون منهيّا عنه ، فلا يحرم ، وكما أنّه لو أراد ضرب اليتيم تأديبا ، فضربه ، فبان مقتولا ، فإنّه لا يقال : إنّه قتل الطفل المنهيّ عنه اختيارا ، فكذا لو شرب أحد الإناءين لا بعنوان نجاسته بل رجاء (4) منه بأنّ النجس إنّما هو الآخر ، ثمّ بان أنّ المشروب هو النجس ، لا يقال عرفا : إنّه قصد شرب النجس ، فليس منهيّا عنه ؛ لما تقدّم.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ المقدّمة المزبورة هي المسألة المعنونة في كلماتهم بأنّ الأصل في الأوامر أن يكون متعلّقها تعبّديا لا توصّليا ، و (5) ليس على ما توهّم ؛ فإنّ الكلام في المقام من جهة اعتبار القصد والاختيار مطلقا (6) ، وفيها من حيث قصد القربة وعدمها ، فالقاعدة المزبورة تغاير المسألة المذكورة ، وحينئذ يمكن منع الثاني ؛ لعدم الدليل على اعتبار أمر زائد على مطلق القصد بخلاف الأوّل كما هو ظاهر.

والجواب عنه أنّ ما ذكره من تعلّق الطلب بالأمور الاختيارية ممّا لا يدانيه شائبة

ص: 50


1- « ل » : ارتكب.
2- « ل » : يقتضي.
3- « ل » : - مثلا.
4- « ش » : برجاء ( ظ ).
5- « ل » : - و.
6- « ل » : لا مطلقا.

الارتياب إلاّ أنّه لا يجدي ؛ فإنّ قضيّة مراعاة قواعد اللفظ حصول المقصود من الأمر ، وترتّب ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد على كلّ من الاختياري وغيره ، لما قد نقل عليه إجماع السكّاكي (1) من أنّ المصادر المجرّدة عن اللام والتنوين - التي هي متعلّقات الأوامر والنواهي - موضوعة للماهية (2) المعرّاة عن جميع اللواحق ، ومدلول الهيئة لا يزيد على طلب تلك المادّة من غير تقييدها (3) باختيار ولا غيرها ، غاية الأمر أنّ الطلب الصادر من الآمر لا يتعلّق بغير الاختياري (4) ، وذلك لا يوجب تقييد (5) مدلول المادّة به (6).

والحاصل : أنّا نفرّق بين المقصود والمطلوب ، ففي الأوّل يكفي اختيارية الفعل نوعا ، وفي الثاني لا بدّ من كونه اختياريا شخصا ، والمدار على الأوّل في الامتثال ؛ إذ لا يقضي لفظ الأمر بأمر زائد عليه ؛ وعدم الكفاية في الثاني إنّما هو من جهة قصور في الطلب لا من جهة عدم صلوح اللفظ ؛ فما ذكره المفصّل - من عدم الامتثال فيهما لو ضرب نائما بعد الأمر به - في معرض المنع.

نعم ، ذلك الضرب ليس مطلوبا ، واختلاف أحكام الطلب وما تعلّق به الأمر ممّا لا يخفى على أحد ، وعلى مثل ذلك يبنى في صحّة الصلاة في الدار المغصوبة ؛ فإنّ الصلاة الصادرة على وجه (7) المحرّم تنافي كونها مطلوبة لكن لا تنافي التوصّل بها إلى مقصود المولى ، فإنّ الماهيّة بجميع أفرادها من حيث إطلاقها متعلّقة للأمر ، ومتصوّرة في أوّل (8) الأمر ، وعدم كون الفرد المحرّم مطلوبا - كما لو (9) قلنا - إنّما هو من جهة قصور في الطلب

ص: 51


1- عنه في القوانين 1 : 91 ، 121 ، 200 - 201 ، 202 ؛ وفي هداية المسترشدين : 178 و 212 ؛ وفي الفصول : 71 ؛ وفي كفاية الأصول : 77 ؛ وتهذيب الأصول 1 : 129 و 272.
2- « ش » : للماهية.
3- « ش » : تقيّدها؟
4- « ل » : لا يتعلّق إلاّ بالاختياري.
5- « ش » : تقيّد؟
6- « ل » : المادّية؟
7- كذا في النسختين ، والصحيح : الوجه.
8- « ل » : - أوّل.
9- « ش » : - لو.

لا من جهة عدم تعلّق القصد به ، فتأمّل.

وقد يجاب أيضا بأنّ المرتكب في الصورة المفروضة لا يعدّ عرفا غير قاصد ، ولا فرق في ذلك بين قصده شرب الكلّ والبعض.

نعم ، قد يمكن القول بذلك فيما لو قطع بالخلاف ، فانكشف الخلاف ؛ فإنّه يلحقه أحكام الاضطرار (1).

[ القسم ] الثالث : من أقسام المخالفة هو المخالفة القطعية الحكمية في مجرّد الفتوى كما إذا اختلفت الأمّة في وجوب شيء وحرمته على قولين ، فالحكم بأصالة البراءة والقول بالإباحة مخالف لفتوى الفريقين في نفس القول ، وأمّا العمل ففي صورة اختيار الفعل يوافق القول بالوجوب ، وفي صورة اختيار الترك يطابق القول بالحرمة ، فلا مخالفة في العمل فلا ريب (2) في جوازها كما تقدّم منّا في توجيه كلام العلاّمة نظرا إلى عدم انصراف الحكم على خلاف ما أنزل اللّه تعالى إلى مثله.

بل قد يقال : إنّه أخذ بمقتضى الأدلّة الظاهرية بعد امتناع الوصول إلى الواقع إلاّ أنّه يظهر من الأصحاب فيما إذا دار الأمر بين المتباينين - كما في المقام - التخيّر بين الحكمين والتديّن بأحد الوجهين تخييرا بدويا أو استمراريا على الخلاف المقرّر كما في أخذ المقلّد وتديّنه بفتوى أحد المجتهدين عند اختلافهما في الحكم بوجوب شيء وحرمته.

وليس على ما ينبغي ؛ فإنّ مبناه تخيّلهم اعتبار العلم الإجمالي في مثل المقام ولا دليل عليه ، وعلى تقديره ، فاللازم منه بعده هو التخيير (3) بين الفعل والترك المساوق للإباحة لا التخيير (4) بينهما على جهة استنادهما إلى أحد الحكمين.

ص: 52


1- في هامش « ش » : ثمّ لا يخفى أنّ الأقوال المسطورة أقواها ما عرفت من التفصيل المختار ثمّ بعد ذلك فالأقوى القول بالمنع في الجميع وبعده التفصيل الأخير ، فتدبّر. « منه ».
2- « ش » : ولا ريب.
3- في النسخ : التخيّر.
4- في النسخ : « التخيّر ».

والسرّ في ذلك أنّ مقتضى العلم الإجمالي فيما دار الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة أوّلا تحصيل الموافقة القطعية ، فلا بدّ في المقام من الفعل والترك حيث إنّ ذلك غير ممكن ، فلا بدّ من المصير إلى ما لا يلزم معه المخالفة القطعية ، وهذه لا تقضي بأزيد من التخيير (1) بين الفعل والترك المساوق للإباحة ، وأمّا أنّ الفعل أو الترك لا بدّ وأن يقع على أحد الوجهين ، فلا دليل عليه إلاّ أن يقال : إنّ حكمهم بالتخيير (2) على هذا الوجه مبني على دليل آخر كأدلّة وجوب الإطاعة نظرا إلى عدم تحقّقها إلاّ على الوجه المذكور ولو احتياطا ، وللأخبار الواردة في علاج المتعارضين الحاكمة بالتخيير (3) بينهما بدعوى ظهورها فيه على وجهها.

القسم الرابع : من أقسام المخالفة هو المخالفة الحكمية في الفتوى والعمل أيضا وهي أيضا - كما في الموضوعية - تنقسم إلى قسمين ؛ فإنّه تارة يلزم فيها طرح خطاب تفصيلي ، وأخرى لا يلزم ، مثال الأوّل اختلافهم في وجوب الظهر والجمعة ، فلو قيل بعدم وجوبهما رأسا ، يلزم مخالفة العلم الإجمالي فتوى وعملا ، ويلزم طرح خطاب الصلاة المتوجّه على المكلّف تفصيلا.

لا يقال : خطاب صلاة الجمعة يغاير خطاب صلاة الظهر ، فليس من المفروض.

لأنّا نقول أوّلا : يتوجّه على المكلّف وقت الظهر في الجمعة خطاب واحد وإن كان مردّدا بين الصلاتين ، ومجملا بالنسبة إليهما.

وثانيا : وإن سلّمنا تعدّد الخطاب إلاّ أنّهما (4) في حكم الواحد بعد العلم بأنّ البراءة في أحدهما تقضي (5) بها في الآخر ، وتعدّد الخطاب إنّما يجدي فيما إذا لم يكن بين الخطابين

ص: 53


1- « ش » : التخيّر.
2- « ش » : التخيّر.
3- « ش » : التخيّر.
4- « ل » : أنّها؟
5- « ل » : تقتضي.

علقة يرتفع أحدهما بارتفاع الآخر (1).

وثالثا : قوله (2) تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (3) إنّما يراد منه الصلاة الوسطى في يوم (4) الجمعة ، إمّا الجمعة وإمّا الظهر وهو خطاب واحد ، كيف كان (5) ، ففي المفروض التحقيق عدم جواز المخالفة ؛ إذ لو بنينا في أمثال المقام على جوازها ، يلزم الخروج من الدين.

ومثال الثاني كما لو فرضنا وجود رواية على وجوب الصلاة عند سماع اسم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ورواية أخرى تدلّ على وجوب قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، وعلمنا أنّ إحدى الروايتين إجمالا مطابقة للواقع ، فإنّه لا يلزم من طرحها والرجوع إلى البراءة طرح خطاب تفصيلي ولا ضير فيها على ما مرّ مفصّلا في الشبهة الموضوعية مع جريان أقوالها إلاّ التفصيل الأخير ؛ فإنّه يختصّ بها كما لا يخفى.

وقد يفصّل في المقام أيضا بما لا يجري فيها وهو أن يقال : إن كان متعلّق العلم الإجمالي في الأحكام انتقاض أحد الأصلين العمليين ، فلا عبرة به كما لو ثبت جواز شرب العصير العنبي بأصالة البراءة وجواز شرب التتن بها أيضا ، فعلمنا بانتقاض أحدهما إجمالا بغيره (6) ، وإن كان تعلّق العلم الإجمالي بانتقاض أحد الأصلين اللفظيّين فنعتبره كما إذا دلّ دليل على عدم جواز الصوم في السفر ، ودليل آخر على أنّ مسافة القصر أربعة فراسخ ، ثمّ علمنا (7) بأنّ المعصوم عليه السلام صام في يوم عرفة ، فنعلم إجمالا بأنّ أحد الدليلين لا يراد منه ظاهره ، فيسري الإجمال منه إلى الآخر (8) ، فيحتاط فيهما.

وأيضا قد يوجد في بعض الأخبار ما يستفاد منها بطلان الصلاة من المرأة المقتدية

ص: 54


1- من قوله : « وتعدّد الخطاب » إلى هنا سقط من « ل ».
2- « ل » : في قوله.
3- البقرة : 238.
4- « ش » : - يوم.
5- « ش » : - كان.
6- « ش » : نعتبره.
7- « ش » : علمناه.
8- « ل » : آخر.

بالإمام إذا كانت محاذية للرجال ، وكذا لو كانت صلاتها مخالفة لصلاة الإمام نوعا ؛ فإنّه يعلم إجمالا أنّ جهة الفساد إمّا التحاذي ، وإمّا التخالف ، فلا بدّ من التصرّف في أحد الدليلين الدالّ أحدهما على جواز التحاذي ، والآخر على جواز التخالف ، فلا يراد من أحدهما ظاهره فيسري منه الإجمال إلى الآخر.

لا يقال : لا فرق في المقام بين الأصلين اللفظيّين والعمليّين ، فلا وجه للتفصيل بينهما.

لأنّا نقول : فرق واضح بين المقامين ، فإنّ الأصول العملية معتبرة من باب التعبّد والسببية المطلقة ، والظاهر من أدلّتها انقطاعها بعد وجود العلم التفصيلي في مجراها كما يشهد بذلك قوله : « إلاّ بيقين مثله » في بعضها ، فالعلم الإجمالي لا ينقطع بشيء منها في مجراها بخلاف الأصول اللفظية ، فإنّ اعتبارها من جهة الكشف ، وبعد ما فرضنا من تعلّق العلم الإجمالي بما يخالف أحدهما لا يحصل الكشف ، فلا يعتبر.

وفيه نظر يطلب من محلّه ؛ لجواز انقطاع الأصل بالعلم الإجمالي ، والتطويل في بيانه يوجب الخروج عن الوظيفة. هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الشكّ في التكليف والمكلّف به (1).

وأمّا الكلام في الشكّ في المكلّف ، فيرجع إجمالا إلى ما تقدّم من الاجتناب فيما يلزم طرح خطاب تفصيلي ، وعدمه فيما إذا لم يلزم.

وتفصيل الكلام فيه أنّه ينقسم إلى (2) قسمين :

الأوّل : أن يتردّد (3) موضوع من الموضوعات الشرعية - المترتّب عليه الأحكام الشرعية - بين المكلّفين فصاعدا كما لو علم حصول الجنابة ولم يعلم تعلّقها بشخص بالخصوص.

ص: 55


1- « ل » : في المكلّف به والتكليف.
2- « ش » : - إلى.
3- « ل » : أن يردّد. وكذا في المورد الآتي.

الثاني : أن يتردّد مكلّف واحد بين موضوعين من الموضوعات الشرعية كالخنثى المردّد بين الصنفين بعد العلم بعدم خروجه عنهما ، فالكلام في القسم الأوّل يقع في موارد ؛ فإنّه تارة يتكلّم من حيث أحكام كلّ واحد منهما بالنسبة إلى نفسه ، وأخرى بالنسبة إلى آخر ، ومرّة من حيث أحكام غيرهما بالنسبة إليهما أو أحدهما.

أمّا الكلام بالنسبة إلى الأحكام الراجعة إلى نفسهما ، فالظاهر جريان البراءة في كلّ منهما (1) ، والحكم بالطهارة في المفروض بل قد يقال بنفي الخلاف فيه بعد جهل التكليف ، ولا يلزم من جريانها طرح خطاب تفصيلي.

وأمّا الكلام بالنسبة إلى كلّ منهما مع الآخر كاقتداء أحدهما بالآخر ، فإن قلنا بأنّ الطهارة شرط في الاقتداء واقعا كما هو الظاهر ، فلا يصحّ قطعا ؛ لما عرفت من اعتبار العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي ، وإن قلنا بأنّها من الشروط العلمية ، فيمكن القول بالصحّة وعدم اعتبار العلم حسبما فصّل فيما تقدّم.

وربّما يتوهّم أنّه لو استأجر أحدهما الآخر لقراءة العزائم حتّى يتبعه في القراءة من أمثلة المقام ، وليس كذلك ؛ فإنّ القراءة فيهما راجعة إلى نفسهما ، ولا علقة بين عملهما كالاقتداء.

ولو قيل بأنّ الموجر مثلا يعلم بأنّه إمّا (2) فاعل للحرام من جهة قراءة نفسه (3) على تقدير جنابته ، أو استأجر الآخر لعمل يحرم عليه (4) على تقدير جنابة الآخر ، لكان أوجه إلاّ أنّه أيضا لا وجه له ؛ لعدم الدليل على عدم جواز استيجار الجنب لقراءة العزائم أيضا.

نعم ، لو علم بجنابته واقعا ، يحرم الاستيجار ، وليس المقام منه كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر حكم ما لو حمل أحدهما الآخر في دخول المسجد ، فإنّه جائز ، أمّا

ص: 56


1- « ل » : كلّ حكم منهما.
2- « ل » : يعلم إمّا أنّه.
3- « ل » : - نفسه.
4- « ش » : « محرّم » بدل : « يحرم عليه ».

دخوله ، فلأنّه طاهر بالأصل ، وأمّا إدخاله الغير ، فلأنّ الغير طاهر أيضا بالأصل ، وعلى تقدير جنابته ، فلا دليل على عدم جواز إدخال الجنب في المسجد ؛ لأنّ الدخول غير الإدخال.

وأمّا الكلام بالنسبة إلى الخارج منهما معا ، فمثل ما مرّ آنفا من عدم جواز الاقتداء بهما في صلاتيه لو قلنا بالطهارة الواقعية ، وجوازه لو قلنا بالمعلومة ، وينبغي أن يعلم أنّ الإجارة وإن لم تكن حراما إلاّ أنّ الموجر لا يملك عملهما ؛ لكونه محرّما ، ولا يجوز للثالث التصرّف في أجرتهما كما لا يخفى.

والكلام في القسم الثاني أيضا يقع في موردين :

الأوّل : في بيان حكم الغير بالنسبة إليه ، والمرجع في ذلك إلى ما تقتضيه الأصول فيعمل به (1) ، وإن خالف العلم الإجمالي فيما لم يلزم (2) طرح خطاب تفصيلي ، فتزويج الغير ممّا لا يترتّب عليه الأثر ؛ لأصالة عدم الصحّة ، ودعوى عموم وجوب الوفاء بالعقد واهية ، لاختصاصها فيما إذا (3) كان المحلّ قابلا ، فلا يصحّ التمسّك به في الشبهة الموضوعية. وأمّا وطؤها ، ففي صورة الشبهة (4) ممّا (5) لا إشكال في عدم جوازه ، وأمّا بدونها ، فيحتمل الجواز نظرا إلى أنّ ثقبتها غير معلومة فرجيّتها. وأمّا النظر إليها ، فيحتمل الجواز عملا بأصالة البراءة بعد عدم لزوم طرح الخطاب التفصيلي (6) ؛ لأنّ الناظر لو كان رجلا ، فيحتمل كونها مماثلا له في الرجولية ، فلا علم بتعلّق الخطاب ، وكذا لو كانت الناظرة أنثى ، ويحتمل عدم الجواز نظرا إلى عموم الأمر بالغضّ للمؤمن والمؤمنة ، خرج ما علم رجوليته للأوّل وأنوثيّته للثاني بقي الباقي تحت العامّ على الخلاف المقرّر من جواز التمسّك بالعامّ في الموضوعات وعدمه ولو اشترى الخنثى

ص: 57


1- « ش » : بها.
2- « ل » : لا يلزم.
3- « ش » : - إذا.
4- « خ ل » بهامش « ش » : الشهوة؟!
5- « ل » : - ممّا.
6- « ش » : خطاب تفصيلي.

أخوها ، فهل ينعتق عليه أم لا؟ الأصل عدم الانعتاق ، وأمّا في الإرث فالأصل عدم استحقاقها ممّا (1) يزيد على حصّة النساء وإن كان قد يعارض بأنّ الأصل عدم زيادة حصّة الغير عنها.

الثاني : في بيان حكمها بالنسبة إلى نفسها وإلى غيرها في المثال المفروض ، فالمرجع فيه أيضا إلى ما فصّلناه من طرح الخطاب وعدمه ، فلا يجوز لها النظر إلى الغير نظرا إلى علمه بوجوب الغضّ تفصيلا ، وجهل المتعلّق لا يسري في الحكم ، فيجب الاحتياط.

وقد يتمسّك للجواز بلزوم العسر المنفيّ على تقدير عدمه ، وأمّا وطؤه الغير ، فالأصل جوازه ؛ لاحتمال زيادة الآلة.

ولو دخل الخنثى بالأنثى ، والرجل على الخنثى ، وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأنثى ؛ لحصول العلم التفصيلي بالنسبة إلى الخنثى دون الرجل والأنثى ، وأمّا تزويجها الغير فكما تقدّم الأصل عدم ترتّب الآثار عليه ، وكذا مسألة العتق.

وأمّا حكمها في العبادات فيختلف الموارد ، فلو رجع شكّها إلى ما هو شرط لها أوّلا كوجوب تغطية الرأس ، فيجب على القول بالاشتغال ، ولا يجب على البراءة ، ومثله الجهر والإخفات لو (2) قلنا بجواز الإخفات لها في موضع الجهر ، وأمّا لو قلنا بوجوبه ، فيحتمل لزوم تكرير العمل بأن يقرأ حمدين وسورتين ، ويلتزم بجواز التكرير في المقام أو تكرير الصلاة ، ويحتمل التخيير بينهما كما عن الشهيد في الذكرى مع أنّ طريقها الاحتياط في غير المورد. قال : الخنثى يتخيّر في الجهر والإخفات ، وإن جهرت في موضع الإخفات (3) فهو أولى إذا لم يستلزم سماع من يحرم سماعه (4).

ص: 58


1- « ش » : عمّا.
2- « ل » : ولو؟
3- في المصدر : مواضع الجهر ، وهو الصواب.
4- الذكرى 3 : 322 ، وفي ط الحجري : ص 190.

وقد أورد عليه المحقّق القمّي (1) بأنّ ذلك ينافي إلحاقه الخنثى في مسألة الستر. وأجاب عنه بعض الأجلّة (2) بأنّ الحكم بالتخيير إنّما هو لخصوصية قاضية وهو معذورية الجاهل بالحكم فيه.

وفيه نظر ؛ فإنّ المسلّم من العذر فيما لو كان الحكم والموضوع معا مجهولا ، وأمّا إذا كان عالما بالحكم جاهلا بالموضوع ، فلا دليل على معذوريته كما في المقام ، فتدبّر جيّدا.

ص: 59


1- القوانين 2 : 41.
2- الفصول : 363.

ص: 60

[ في الظنّ ]

اشارة

وإذ قد عرفت تحقيق القول في العلم بقسميه : الإجمالي والتفصيلي تفصيلا ، فلنعطف الكلام إلى ما هو عقد الباب له وهو حجّية الظنّ ، ويقع الكلام فيه في مقامين : الأوّل :

في إمكان التعبّد به ، والثاني : في وقوع التعبّد به فنقول :

أمّا المقام الأوّل

أمّا المقام (1) الأوّل

في جواز التعبّد بالظنّ (2)، فالمشهور بين أصحابنا ومخالفينا على ما نقل عنهم جواز التعبّد ، والمنقول عن بعض أصحابنا عدمه ، ومال إليه جملة من مخالفينا ، ثمّ المشهور حكاية هذا القول في أصحابنا عن ابن قبة (3) ومقالتهم في العنوان وإن اختصّت بخبر الواحد إلاّ أنّ الاحتجاج المنقول منهم في دعواهم صريح في عدم جواز التعبّد بالظنّ مطلقا ، فلا بدّ من تنزيل المذكور في العنوان على المثال ، وهل النزاع في الإمكان والامتناع الذاتيين ، أو فيهما ولو بملاحظة ما يلزم على تقديره من القبيح؟

والظاهر هو الثاني ، والحقّ ما ذهب إليه المشهور.

لنا على الجواز وقوع التعبّد كثيرا كما يظهر من طريقة الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.

وقد يستند في المقام وأمثاله إلى أصالة الإمكان كما في مسألة جواز التجزّي

ص: 61


1- « ل » : - المقام.
2- « ل » : في الظنّ.
3- نقل عنه في معارج الأصول : 203.

واجتماع الأمر والنهي ، والأصل فيها - على ما هو المصرّح به في كلام بعض الأعيان - هو الغلبة ، وليس على ما ينبغي ، لوضوح أنّ المناط فيها ليس على الموجودات فقط ، وأمّا المعدومات ، فمع ملاحظتها غلبة الممكن على الممتنع ممنوعة ، كيف ولم نعلم وجه العدم فيها ، ولعلّه لا امتناع فيها.

فالتحقيق فيها أنّ قضيّة جبلّة كلّ عاقل فيما لم يدلّ على ضرورة وجود شيء ، أو ضرورة عدمه دليل يحكم (1) بالإمكان فيه ، فيعامل معه (2) معاملة الممكن كما لو شكّ في وجود شيء يعامل معاملة المعدوم ، فكما أنّ بناء العقلاء على الحكم بالعدم عند الشكّ فيه ، فكذلك عند الشكّ في ضرورة العدم ، فيحكمون بعدمها أيضا ، ففي الحقيقة هذه شعبة من أصالة العدم ، وكأنّه إلى هذا ينظر ما هو المنقول عن عبارة الشيخ الرئيس (3) من أنّه كلّ ما قرع سمعك ولم يدلّ دليل على وجوبه وامتناعه ، فذره في بقعة الإمكان إلاّ أنّه مع ذلك غير مفيد ؛ فإنّ الإمكان إن قيس إلى الواقع ، فالأصل لا يقضي (4) به ، وإن قيس إلى الظاهر ، فلا جدوى فيه إلاّ إثبات آثار الواقع له ، وليس الإمكان والامتناع موضوعين لحكم شرعي حتّى يترتّب عليهما مثلا (5).

لا يقال : قد يثمر أصالة الإمكان فيما إذا دلّ الدليل على الإمكان فيقبل على الإمكان ، ولا يقبل على الامتناع.

لأنّا نقول : إن كان الدليل علميا ، فلا مجال لعدم القبول على التقديرين ، وإلاّ فلا مجال للقبول كذلك. نعم ، يثمر في مقام الاحتجاج ، فلمدّعي الامتناع إقامة الدليل عليه.

واحتجّ القائل بالامتناع بوجوه : أقواها لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وبطلان

ص: 62


1- « ل » : الحكم.
2- « ل » : فيه.
3- انظر الإشارات والتنبيهات 3 : 418 ، نمط 10 في أسرار الآيات.
4- « ل » : لا يقتضي.
5- « ل » : « الآثار » بدل : « مثلا ».

اللازم كالملازمة ظاهر.

وأجيب عنه تارة بالنقض بسائر الأمارات الغير العلمية في الأحكام كالفتوى والموضوعات كيد المسلم والبيّنة وأصالة الطهارة ، وبالقطع أيضا لجواز تخلّفه عن الواقع واقعا وإن لم يكن كذلك في نظر القاطع كما هو الوجه في النقض في الكلّ ؛ إذ من المعلوم جواز التخلّف في الجميع عن الواقع فيلزم تحليل الحرام ، وتحريم الحلال.

وأخرى بالحلّ وحاصله : أنّ الحلّ والحرمة في المضاف والمضاف إليه إن قيسا إلى الواقع كأن يقال : على تقدير تجويز العمل بالظنّ يلزم تحليل الحرام الواقعي واقعا ، وتحريم الحلال كذلك ، أو إلى الظاهر ، كأن يقال في المفروض : تحريم الحلال الظاهري في مرحلة الظاهر ، وتحليل الحرام كذلك ، فبطلان التالي في الشرطية مسلّم لكنّ الملازمة ممنوعة ؛ لجواز التخلّف في مرحلة الظاهر (1).

وإن قيس أحدهما إلى الواقع ، والآخر إلى الظاهر ، فالملازمة ظاهرة مسلّمة إلاّ أنّ بطلان التالي ممنوع جدّا.

والتحقيق في المقام على وجه يكشف اللثام ، عن وجه المرام يتوقّف على أنّ القائل بالامتناع إنّما يتمّ مقالته حالتي الانسداد والانفتاح أو لا ، بل يختصّ بالانفتاح وهو الظاهر.

أمّا أوّلا ، فلأنّ السيّد مع تأخّر زمانه من ابن قبة ادّعى الانفتاح ، وجماعة من متقدّمي أصحابنا كالشيخ في أوائل أمره إنّما كانوا يرون وجوب اللطف على الإمام حتّى أنّ كلّ ما [ لا ] يصل عليه دليل علمي كانوا يحكمون فيه بالتخيير الواقعي ، فكيف عمّن تقدّم عليه سيّما بمدّة طويلة ، فإنّ تلك الأزمنة لم تكن أزمنة الانسداد.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ جلالة شأن القائل على ما يستظهر في ترجمته المذكورة في كتب

ص: 63


1- سقط من قوله : « وتحليل الحرام كذلك » إلى هنا من نسخة « ل ».

أصحابنا الرجاليين ، فإنّه كان شيخ الإمامية في زمانه يمنع صدور مثل (1) هذه المقالة منه ، مع وضوح فسادها وظهور كسادها ، فإنّه على تقدير الانسداد - كما ادّعاه البعض - يجب على اللّه تعالى نصب أمارة ظنّية ، فكيف لا يجوز العمل بها؟ فإنّه بعد الانسداد ، فإمّا يحكم ببقاء التكليف كما عليه المشهور ، أو لا يحكم كما عليه البعض على ما حكي ، فعلى الأوّل يجب نصب أمارة ظنّية كما عرفت حيث إنّه لطف. وعلى الثاني لا وجه للقول باللازم بعد انتفاء جنس التكليف ، فتعيّن حمل كلامه على صورة الانفتاح ، وعلى تقدير الانفتاح وإمكان الوصول إلى الواقع مع أنّ المطلوب هو الوصول إليه ، فلا شكّ في قبح نصب طريق يتخلّف عنه ولو في وقت ؛ لاستلزامه خلاف الغرض في وجه ، ونقض الغرض في آخر إلاّ أن يكون العمل به من جهة ملاحظة وصف به يصير موضوعا مستقلاّ آخر ذا مصلحة متداركة لما يلزم في بعض صوره من المفسدة المترتّبة على عدم مصادفته للواقع كما إذا لاحظ الشارع احترام العادل ، فقال باعتبار خبره نظرا إلى أنّ التعبّد بخبره فيه مصلحة زائدة على مفسدة تخلّفه عن الواقع ، فعلى هذا التقدير فالواقع أحد الأمرين ، لكنّه لمانع أن يمنع غلبة مصلحة احترام العادل على مصلحة مصادفة (2) الواقع.

مضافا إلى لزوم التصويب على تقديره ، فظهر ممّا مرّ عدم ورود النقوض المذكورة على المستدلّ.

أمّا الفتوى ، فلأنّ مشروعيتها في حالة الانسداد ، فلا وجه للانتقاض ، وعلى قياسه (3) القطع فيما إذا تخلّف عن الواقع فإنّ باب العلم بالواقع للقاطع حينئذ منسدّ (4) ؛ إذ المحتمل قد يحتمل الواقع ولو احتمالا مساويا بل ولو احتمالا مرجوحا بخلاف القاطع حينئذ.

ص: 64


1- « ل » : - مثل.
2- « ش » : مصادفته.
3- « ل » : حالة؟
4- « ش » : انسدّ.

وأمّا اليد والاستصحاب وسائر الأمارات الشرعية ممّا لا يتوقّف اعتبارها على الانسداد بل يعمّ الحالتين ، فلعلّه يلتزم بأنّ نصب الطريق لا من حيث هو طريق بل بواسطة حصول مصلحة متداركة فيه بها يصير موضوعا مستقلاّ ممّا لا ضير فيه إلاّ أنّ الإشكال في لزوم التصويب على تقديره ، فإنّ الخمر مثلا من حيث إنّ العادل أخبر بحلّيته مشتملة على مصلحة تزيد على المفسدة الكامنة على تقدير عدم إخبار العدل بكونه حلالا ، فالخمر من حيث نفسه لا حكم له في الواقع ؛ فإنّ حكمه يناط بالإخبار وعدمه ، ولا نعني بالتصويب إلاّ هذا.

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ التصويب الباطل المجمع على فساده هو أن يكون أحد الحكمين في الواقعة في عرض الآخر ، ولا يكون مرتّبا عليه ، وأمّا لو جعل الشارع المقدّس لأصل الواقعة من حيث هي حكما من دون ملاحظة الظنّ وجودا وعدما فيها ولها من حيث تعلّق الظنّ بها حكما آخر على أن يكون حكما ثانويا ، فلا يلزم التصويب.

وتفصيل الكلام أنّ التصويب في ألسنة أهله يستعمل في معنيين :

الأوّل : أن يكون حكم الواقعة موكولا إلى ظنّ المجتهد ، فما ظنّه المجتهد حراما (1) بظنّه يصير حراما ، ولا يكون هناك حكم مجعول في الواقع ، ولذلك قد أورد عليهم العلاّمة في النهاية بأنّ الظنّ كالعلم لا بدّ وأن يتعلّق بموضوع مقدّم عليه طبعا ، فما لم يكن هناك حكم مجعول في الواقع لا يصحّ الحوالة إلى الظنّ.

وأمّا ما أجاب عنه العضدي (2) بأنّ متعلّق الظنّ هو الحكم الشأني بمعنى أنّه هناك شيء لو حكم الشارع به ، لحكم به ، فالمظنون (3) هو الأليق بالقواعد ، والأشبه بالأصول ، فعلى إطلاقه غير مستقيم ؛ لاختصاصه بمقالة من يقول بالحكم الشأني من

ص: 65


1- « ل » : حرام.
2- شرح مختصر منتهى الأصول : 470.
3- « ل » : في المظنون.

المصوّبة ، وأمّا من لا يعتمد عليه - كما هو المحكي عن جملة منهم - فلا وجه له.

الثاني : أن لا يكون حكم الواقعة موكولا إلى الظنّ بل الشارع إنّما جعل على تقدير تعلّق الظنّ بالحرمة مثلا حكما ، وعلى تقدير عدم تعلّقه حكما آخر ، فالحكم يدور مدار الظنّ وخلافه في الواقع ، فكان موضوع الجهل يغاير موضوع العلم (1) ، فهو في عرضه.

والفرق بينه وبين الأوّل على زعمهم أنّ الحكم في القسم الأوّل يتّبع ظنّ المجتهد ، ولا يكون متقدّما عليه ، وفي القسم الثاني الحكم الواقعي يختلف باختلاف حالتي العلم أو تعلّق الظنّ به وعدمهما ، هذا ما بنوا عليه في الفرق بينهما ، وإلاّ فالتدبّر يقضي بعدم الفرق ؛ لخلوّ الواقعة في الحقيقة مع قطع النظر عن الحالتين عن الحكم ، فالالتزام بما ألزمهم العلاّمة في القسم الأوّل جار في القسم الثاني أيضا ، وهو بشيء من المعنيين لا يجري في المقام.

أمّا الأوّل ، فواضح.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم فيما إذا دخل الشيء تحت عنوان قول العدل ليس في عرض الحكم في الواقع ، فللواقعة من حيث نفسها مع قطع النظر عن دخولها (2) تحت عنوان حكم ، وعلى تقدير دخولها تحت العنوان حكم ثانوي مترتّب على الحكم الواقعي.

وبالجملة ، فللواقعة في حدّ ذاتها وفي مرتبة يرتفع فيها النقيضان - التي ليست فيها إلاّ هي - حكم واقعي باعتبار ما يقتضيه من المصلحة الكامنة ، ولها من حيث دخولها تحت عنوان باعتبار مصلحة كامنة فيها من تلك الحيثية حكم ثانوي مترتّب على

ص: 66


1- في هامش « ش » : فلكلّ من العالم والجاهل حكم خاصّ به ، وليس هناك حكم يشتركان فيه على ما ورد به الأخبار والآثار كما هو عند المخطّئة كذلك لذلك. « لمحرّره ».
2- في النسختين : دخوله ، وكذا في المورد الآتي.

الحكم الأوّلي ، ولذلك لا يجزي عند انكشاف الخلاف ، والتصويب بكلا معنييه يغاير ما ذكرنا ، فتأمّل ؛ فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

وقد يجاب عنه أيضا بتعارض المصلحة الحاصلة في قول العادل للمفسدة الكامنة المقتضية للحرمة في الخمر إذا أخبر العادل بحلّيته ؛ وهو بظاهره غير سديد ؛ لاستلزامه اجتماع المصلحة والمفسدة الفعليتين في واقعة خاصّة شخصية ، وقد تقدّم منّا في بعض المباحث السابقة ما يقضي بخلافه إلاّ أن يوجّه بإرجاعه إلى ما مرّ.

ثمّ إنّه قد يعزى في المقام إلى بعضهم القول بوجوب التعبّد بالخبر الواحد أو الظنّ على ما مرّ من أوله إليه ، والظاهر أنّه أراد (1) من الوجوب لزوم جعله طريقا عليه تعالى من حيث إنّ الإخلال به إخلال باللطف قبالا لما صار إليه المانع منه.

ويؤيّده تحريرهم ذلك في المقام ، وإلاّ فلا وجه لعدّه قولا آخر في قبال مقالة المشهور ، ومنشأ الاشتباه فيه تعليل القائل ذلك بوجوب دفع الضرر ، فقد يتخيّل منه وجوبه على العباد وليس كذلك ، وعلى هذا التقدير.

فالتحقيق في دفعه أن يقال : إنّه لو أراد أنّ الإلزام بالعمل بالظنّ ، و (2) إمضاءه بعد الانسداد وعدم الرجوع إلى الأصول العملية لازم عليه تعالى نظرا إلى كونه لطفا (3) ، فهو في محلّه.

وإن أراد أنّه يجب عليه تعالى جعله حجّة وطريقا ، أو امضاؤه للعمل به في حالة الانفتاح نظرا إلى العلّة المذكورة ، فلا يخلو إمّا أن يكون الظنّ موافقا للاحتياط ، أو لا - سواء كان مخالفا أو لا مخالفا ولا موافقا إذ النسبة بين الاحتياط والظنّ هو العموم من وجه - فالاجتماع ظاهر كالافتراق في الاحتياط.

وأمّا وجه الافتراق في الظنّ ، ففيما لو ظنّ بوجوب شيء مع احتمال الحرمة ولو

ص: 67


1- « ل » : أنّه إن أراد؟
2- « ل » : أو.
3- « ل » : قطعا.

وهما ، فإنّ الاحتياط ليس في العمل بالظنّ (1) بل الاحتياط يقضي بتحصيل العلم التفصيلي كما لا يخفى ، ففي صورة افتراق الظنّ عن الاحتياط لا وجه للقول بوجوب العمل به ؛ إذ لا قبح فيه عند العقول ، وفي صورة الاجتماع لا يبعد دعوى الوجوب التخييري بينه وبين العمل (2) بالعلم التفصيلي ، لما عرفت فيما تقدّم فيما إذا دار الأمر بين الامتثال التفصيلي والإجمالي في بعض الوجوه على ما مرّ تفصيله.

ص: 68


1- « ش » : بظنّ.
2- « خ ل » بهامش « ل » : العلم.

وأمّا المقام الثاني

وأمّا (1) المقام الثاني

في وقوع التعبّد به شرعا ، فاختلف القائلون بالإمكان على قولين : فالسيّد وأتباعه (2) على العدم والمشهور على الوقوع ، وقبل الخوض في الاحتجاج ينبغي تأسيس أساس ، وتأصيل أصل يرجع إليه عند الشكّ ، فنقول : الأصل الأصيل حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق (3) ما وراء العلم ؛ فإنّ للعمل بالظنّ معنيين :

أحدهما : التديّن به وجعله مستندا في العمل من حيث هو ظنّ.

وثانيهما : جعل أفعاله مطابقا (4) للظنّ وإن لم يستند إليه ، وفي الحقيقة ليس هذا عملا بالظنّ بل إنّما هو مجرّد مطابقة خارجية.

وعلى الأوّل ، فلا شكّ في أنّه بدعة محرّمة وتشريع غير مجوّز ، وقد اتّفقت الأدلّة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا على حرمتها بل عدّه جملة من الأعلام من الضروريات.

أمّا الكتاب ، فمنها : قوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (5) وجه الدلالة

ص: 69


1- « ش » : - وأمّا.
2- قال في الوافية : 158 : فالأكثر من علمائنا الباحثين في الأصول على أنّه ليس بحجّة كالسيّد المرتضى وابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس وهو الظاهر من ابن بابويه في كتاب الغيبة والظاهر من المحقّق بل الشيخ الطوسي أيضا بل نحن لم نجد قائلا صريحا بحجّية خبر الواحد ممّن تقدّم على العلاّمة.
3- « ش » : وبمطلق.
4- كذا.
5- يونس : 59.

حصر الأمر في الإذن (1) والافتراء ، فغير الأوّل هو الثاني ، وبقرينة المقابلة والتشريع هو الافتراء.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ) (2) فإنّه تعالى في مقام التوبيخ من القول بالتحريم من دون جعل.

ومنها : قوله تعالى : ( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (3).

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) (4) وجه الدلالة ظاهر فيهما.

وأمّا الأخبار ، فكثيرة :

منها : ما دلّ على أنّ العبد إنّما يكفر ربّه إذا سمّى النواة حصاة والحصاة نواة (5).

ومنها : عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « القضاة أربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة - إلى أن قال - رجل قضى بجور وهو لا يعلم ، فهو في النار ، ورجل قضى بحقّ وهو لا يعلم ، فهو في النار » (6).

ومنها : رواية تحف العقول : « من أفتى الناس بغير علم فليتبوّأ مقعده في النار » (7).

ومنها : ما عن أبي جعفر عليه السلام لأخيه زيد : « إنّ اللّه حلّل حلالا ، وحرّم حراما ، وفرض فرائض ، وضرب أمثالا ، وسنّ سننا - إلى أن قال عليه السلام - فإن كنت على بيّنة من ربّك ، ويقين

ص: 70


1- « ل » : بالإذن.
2- الأنعام : 143 و 144.
3- الأنعام : 143.
4- الأنعام : 145.
5- الكافى 2 : 397 ، باب الشرك ، ح 1 ؛ بحار الأنوار 2 : 301 ، باب 34 ، ح 33 ، و 69 : 220 ، باب 110 ، ح 6.
6- الوسائل 27 : 22 ، باب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح 6 ، و 27 : 173 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 66.
7- تحف العقول : 41 وعنه في الوسائل 27 : 30 ، باب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح 33 وفيهما : بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض.

من أمرك ، وتبيان من شأنك ، فشأنك ، وإلاّ فلا ترو من أمرا أنت في شكّ منه وشبهة » (1). إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى كثرة.

وأمّا الإجماع نقلا وتحصيلا فموجود لا مخالف في البين (2).

قال المحقّق البهبهاني في جملة فائدة من فوائده : أصالة حرمة العمل بالظنّ من البديهيات عند الصبيان والنسوان (3).

وأمّا العقل : فكلّ من أنصف من نفسه وراجع وجدانه ، يحكم حكما ضروريا - لا يدانيه ريبة ولا يعتريه شبهة - بحرمة التشريع والبدعة فإنّها فرية بلا مرية. ومن هنا يظهر فساد القول (4) بأنّ الأصل هو الإباحة ؛ فإنّ أصالة الإباحة فيما لو لم يكن العقل مستقلاّ بإدراك حكمه وقد عرفت استقلاله في الحكم بالحرمة.

فإن قلت : قضيّة ما قرّرنا سابقا اعتبار العلم والإرادة والاختيار فيما يتلوه الأمر والنهي ، فلا يصدق على العمل المزبور أنّه تشريع ما لم يقصد الإدخال في الدين لما ليس منه ، فإنّه عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه ، فالإدخال في الدين لا يصدق إلاّ عند القصد وهو فرع العلم ولو كان كذلك واقعا ، والمقام ليس منه ، لعدم العلم بأنّ العمل بالظنّ ليس من الدين ، فلا يحرم.

قلت : وممّا لا ينبغي أن لا يرتاب فيه صدق التشريع على العمل المذكور ، وتفصيل الكلام في أقسام التشريع أن يقال : إنّه تارة يعلم بخروج ما أدخل في الدين ، فالمبدع

ص: 71


1- الوسائل 27 : 157 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 10.
2- « ل » : فيه في البين.
3- قال في الرسائل الأصولية ( رسالة الاجتهاد والأخبار ) : 12 : إنّ الأصل عدم حجيّة الظنّ وهو محلّ اتّفاق جميع ارباب المعقول والمنقول ؛ إذ كلّ من قال بحجّية ظنّ في موضع ، قال بدليل أتى به له ، كما لا يخفى على المطّلع. وعنه في مفاتيح الأصول : 457.
4- القائل به السيّد المحقّق الكاظمي كما عنه في الرسائل 1 : 128 انظر أيضا مفاتيح الأصول : 452. وسيذكره أيضا في ص 73 مع إشكالات أخر عليه.

يدخله فيه بقصد أنّه من الدين تشريعا ، وهذا ممّا لا شكّ في كونه تشريعا وبدعة محرّمة ، والأدلّة المذكورة ناهضة بحرمتها.

وأخرى يدخله فيه مع جهله بالحكم ، فهذا تشريع اسما لا حكما ؛ إذ لا معنى لعقاب الجاهل قبل تقصيره ، لكنّ الكلام في الصغرى كما عرفت من استقلال العقل بقبحه وكونه ظلما ؛ فإنّ حرمة الظلم ممّا لا يجهله عامّة المكلّفين.

ومرّة يدخله مع جهله بالموضوع كأن يدخله في الدين جاهلا بكونه من الدين ، فهناك تحقّق التشريع حقيقة ؛ لأنّ المناط على الواقع في صدق موضوعه وإن لم يتحقّق حكمه وهو الحرمة.

ورابعا يدخل في الدين ما هو منه بقصد أنّه ليس من الدين ، ولا شكّ في كونه تشريعا وافتراء على اللّه تعالى أيضا عند العقل والعرف بالنسبة إلى التكليف الواقعي بل الظاهري ، فإنّ عند الشكّ لا بدّ من العمل بالأصول المقرّرة في الشريعة في موضوع الشكّ (1).

ويدلّ عليه قوله عليه السلام في عدّ القضاة الأربعة التي ثلاثة منها في النار : « من قضى بالحقّ وهو لا يدري » وجعله فيه أيضا « من قضى بالجور وهو لا يدري » يدلّ على حرمة القسم الأوّل كما هو ممّا نحن بصدده. هذه تمام الكلام فيما لو كان العمل بالظنّ من جهة التديّن به.

وعلى الثاني كأن لا يكون العمل بالظنّ من حيث التديّن به ، فهو حرام أيضا ؛ فإنّ الشاكّ لا بدّ وأن يعمل بالأصول المقرّرة في الشريعة من الاستصحاب فيما له حالة سابقة ، والبراءة فيما شكّ في التكليف ، والاشتغال فيما شكّ في المكلّف به مع إمكان الجمع ، والتخيير مع عدم إمكانه ، فطرح تلك الأصول محرّم وإن كان لا يسمّى هذا القسم عملا بالظنّ لكن يختصّ حرمته فيما إذا يلزم من العمل بالظنّ (2) طرح أصل منها ،

ص: 72


1- « ل » : - الشكّ.
2- « ل » : - بالظنّ.

وأمّا فيما لا يلزم فلا ، كأن يكون الظنّ موافقا للأصل المعمول في الواقعة ؛ لانتفاء ما يقضي (1) بالحرمة لا تشريعا ولا طرحا.

نعم ، لو كانت الواقعة من الوقائع التي يجب تحصيل العلم فيها ، فيكون حراما من جهة ترك الواجب ، والنسبة بين الوجهين هو العموم من وجه ؛ إذ التديّن قد يجتمع في مورد مع طرح الأصول وقد يفترقان ، فظهر أنّ العمل بالظنّ قد يحرم من جهتين في المعنى الأوّل ، وقد لا يحرم أصلا في المعنى الثاني.

ثمّ إنّه قد يقرّر الأصل بوجوه أخر لا يخلو كلّها عن حزازة ، فمنها : ما قد أشرنا إليه سابقا من أنّ الأصل فيه الإباحة ؛ إذ الأصل في الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة المشتملة على أمارة المنفعة هو الإباحة ، وقد عرفت ما فيه سابقا (2) ، ونزيدك توضيحا في إبطاله أوّلا بأنّ مجرى أصالة الإباحة هو الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة كما اعترف به ، والعقل حاكم بوجود المفسدة فيه ، فجريانها يختصّ بما لا يستقلّ (3) العقل بحكمه ، فلا شكّ حتّى يجري الأصل فيه ، فظهر أنّ الأصل هو الحرمة ؛ لأنّ الأصل قد انقلب حرمة بعد أن كان هو الإباحة ؛ إذ العقل يحكم بالحرمة قبل كلّ شيء.

وثانيا : أنّه إذا كان مؤدّى الظنّ هو وجوب شيء ، أو حرمته ، فلا معنى لإباحة العمل بالظنّ ، أو استحبابه ، أو كراهته ؛ لأوله في الحقيقة إلى إباحة العمل بالواجب ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا ، والحرام عن كونه حراما.

وغاية ما يمكن أن يوجّه أن يقال : إنّه إذا أدّى الظنّ إلى وجوب شيء ، أو حرمته يجوز العمل بمقتضى ظنّه ، أو الرجوع إلى أصالة البراءة ، أو أصل آخر غيرها على أن يكون العمل بالظنّ من جهة أنّه أحد فردي الواجب التخييري ، فإباحته من هذه الجهة ، ونظيره استحبابه ، أو كراهته ومع ذلك فلا يخلو عن إشكال ؛ لخروجه عمّا هو

ص: 73


1- « ل » : يقتضي.
2- عرفت في ص 71.
3- « ش » : لم يستقلّ.

الظاهر من مقالة القائل بالإباحة كما هو ظاهر ، وعدم مساعدة أصل من الأصول المقرّرة عليه على تقديره ؛ فإنّ الأصل عدم الوجوب مطلقا سواء كان عينيا أو تخييريا.

ومن هنا يظهر وجاهة ما أفاده المحقّق القمّي في ردّ من زعم باستحباب الحذر في آية النفر حيث قال : وحاصل الكلام أنّ القول باستحباب العمل بخبر الواحد المفيد للوجوب مع بقاء الوجوب على معناه الحقيقي ممّا لا يتصوّر له معنى محصّل ؛ فإنّ استحباب الواجب لا يتصوّر إلاّ في أفضل فردي الواجب التخييري (1). انتهى.

وهو جيّد جدّا وإن أورد عليه بعض الأجلّة (2) بوجوه لا طائل تحتها.

ومنها : ما ذكره بعض الأواخر من أنّه لا أصل في البين ؛ لدوران الأمر بين الحرمة والوجوب ، إمّا لأنّ معنى الجواز في المقام هو الوجوب تجوّزا ، أو لأنّ الجواز يستلزم الوجوب للإجماع المركّب على ما هو المدّعى في كلام بعض الأعيان.

وفساده ممّا لا يخفى على أحد ؛ إذ دوران الأمر بين الحرمة والوجوب إنّما يقضي (3) بانتفاء الأصل وثبوت التخيير فيما لو كانت الحرمة في عرض الوجوب من غير حصول علقة بينهما ؛ إذ العقل لا يمكن له الالتزام بأحدهما دون الآخر ؛ لامتناع الترجيح بلا داع كما في الجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتية.

وأمّا إذا لم يكن في عرض الوجوب بل كان مسبّبا عن عدم العلم به ، فمن الضروريّ أنّ العقل يلتزم (4) بالمسبّب عند وجود السبب كما فيما نحن فيه حيث إنّ الحرمة في المقام على ما مرّ حرمة تشريعية ، ويكفي في العلم بها عدم العلم بالوجوب ، والمفروض عدم ثبوته ؛ لأنّ الكلام في الظنون المشكوكة الاعتبار ، فيحكم العقل بالتحريم كما هو واضح.

ص: 74


1- القوانين 1 : 435.
2- الفصول : 273.
3- « ل » : يقتضي.
4- « ل » : مستلزم؟

فالتحقيق أنّ الأمر دائر بين الوجوب وعدمه ، والأصل عدمه ، فيحرم كما عرفت ، وهو الشأن في أمثاله من التوقيفيات.

ومنها : ما استدلّ به (1) بعض الأفاضل (2) من أنّ أصالة الاشتغال تقضي بعدم كفاية الظنّ.

وبيانه أنّه لا ريب في توقّف تكاليفنا الواقعية في حصول الامتثال بها بإدراكها ، فتارة بالعلم بها ، وأخرى بالظنّ ، والأوّل مسقط قطعا ، والثاني مشكوك ، فمقتضى الاشتغال تحصيل القطع ، فيحرم العمل بالظنّ.

وفيه أوّلا : أنّ وجوب تحصيل الاعتقاد مقدّمي إمّا عقلا أو شرعا ، فليس من

ص: 75


1- « ش » : استند إليه.
2- لعلّ المراد به شريف العلماء كما في تقريراته للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) 34 حيث قال : إنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم كفاية الظنّ ، أي عدم كونه مبرئا للذمّة لأنّه لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه أنّا مكلّفون بعد ورود الشرع بشيء لا محالة ولكن لم ندر أنّ المكلّف به ما ذا؟ يحتمل أن يكون المكلّف به هو تحصيل الاعتقاد المطلق والعمل بمقتضاه ، ويحتمل أن يكون المكلّف به هو تحصيل الأحكام الواقعية ويكون تحصيل الاعتقاد العلمي أو تحصيل الاعتقاد في الجملة ولو ظنّا واجبا من باب المقدّمة ، وإن قلنا بالأوّل أو الثالث فكفاية الظنّ لا يخفى ، وإن قلنا بالثاني فلا بدّ من تحصيل العلم وأنت خبير بأنّ القطع بالبراءة مع كون المكلّف به مجملا ومحتملا بين هذه الاحتمالات لا يحصل إلاّ بعد تحصيل العلم بالحكم الواقعي لأنّ تحصيل العلم يقتضي البراءة على جميع الاحتمالات بخلاف ما لو اكتفى بتحصيل الاعتقاد بالحكم الواقعي ولو ظنّا ؛ لاحتمال أن يكون المكلّف به هو نفس تحصيل العلم بالحكم الواقعي. ثمّ قال : فإن قلت : سلّمنا أنّ المكلّف به ليس إلاّ تحصيل الحكم الواقعي لكن نمنع أنّ الخروج عن عهدة هذا التكليف مستلزم للقطع بعدم المخالفة بالنسبة إلى الواقع حتّى يجب تحصيل العلم بالأحكام الواقعية بل القدر الواجب على المجتهد أن يحصل أمرا يحصل به عدم القطع بالمخالفة ولا ريب أنّ هذا ممّا يحصل له بعد تحصيل الاعتقاد ولو ظنّا. قلت : هذا الكلام في غاية الركاكة ؛ لأنّ كلّ أحد أذعن بأنّ القطع بالاشتغال مستلزم للقطع بالامتثال ولا يكفيه الظنّ بالامتثال لا يرضى بذلك الكلام كما لا يخفى. وكذا قال في ضوابط الأصول : 274 - 275.

الأمور التوقيفية بل هو موكول إلى العقل وهو يستقلّ في وجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ وحرمته (1) ، فلا ترديد بين الأقلّ والأكثر على ما توهّم ، فلا مجرى للقاعدة المزبورة.

وثانيا : أنّ جعل الظنّ أحد طرفي الاحتمال في تحصيل المقدّمة ممّا لا وجه له ؛ فإنّ الواقعة لا تخلو عن أصل ، والعمل بالظنّ فيما يخالفه يكفي في حرمة مخالفته لذلك الأصل ، فلا وجه للاحتمال بعد قطع العقل من هذه الجهة بعدم الامتثال.

ومنها : ما أفاده بعض المعاصرين (2) من أنّ الأصل في الظنّ عدم الحجّية فإنّها أمر حادث يحتاج وجودها إلى سبق علّتها وهو جعله حجّة ، والأصل عدمه.

وفيه : أنّ الاحتياج في إحراز العدم بالأصل في ترتّب آثار عدم العلم عليه ممنوع ؛ لترتّبه على نفس الشكّ وعدم العلم بالحجّية من غير حاجة إلى إحراز العدم.

وتوضيحه : أنّه يترتّب على عدم حجّية الظنّ آثار شرعية من الحرمة التشريعية وطرح الأصول العملية من غير علم يرتفع به موضوعها ، ويترتّب هذه الآثار على نفس الشكّ في الحجّية كما عرفت ، فلا حاجة (3) إلى الأصل.

وبوجه أوضح إذا شكّ في حجّية الظنّ - كما هو المفروض - يصحّ القول بحرمة العمل به للتشريع ، ولقوله (4) عليه السلام : « من دان اللّه بغير سماع من صادق ألزمه اللّه [ التيه ] يوم القيامة » (5) وغير ذلك ، ولا يحتاج إلى توسيط أنّ الأصل عدم الحجّية ، فيحرم العمل به للتشريع ، فالتعويل على ما شيّدنا (6) أركانه إلاّ أنّه أيضا إنّما يستقيم بناء على ما هو التحقيق في الأصول العملية من اعتبارها تعبّدا.

ص: 76


1- « ل » : - وحرمته.
2- « ش » : المتأخّرين.
3- إلى الاستناد ( ظ ).
4- « ش » : وقوله.
5- الوسائل 27 : 75 ، و 128 - 129 ، باب 7 و 10 من أبواب صفات القاضي ، ح 37 و 12 و 14 ، وتقدّم في ص 22.
6- من أصالة الحرمة ( هامش « ش » ).

وأمّا على ما يراه بعضهم من حجّيتها من جهة إفادتها الوصف (1) ، أو السّببية المقيّدة (2) - كما عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه على ما يظهر منه في بعض مواضع كتابه - فلا مناص من القول بأنّ الأصل هو وجوب العمل بالظنّ إمّا عينا أو تخييرا في حالة الانسداد ، فإنّه على ذلك التقدير إذا تعارض الأصل بالظنّ ، فلا يفيد الأصل ظنّا ، فلا يجب العمل به ، وثبوت التكليف إجمالا يوجب العمل بأحدهما ، فإن رجّحنا الظنّ لقربه إلى الواقع ، فيجب العمل به عينا ، وإن لم نقل بالترجيح لكون الظنّ في مرتبة الأصل في الشكّ في الحجّية ، فلا بدّ من التخيير ، ولا فرق فيما ذكر بين الأصول اللفظية والعملية.

فظهر ممّا قرّرنا صحّة ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه في تعريف الاجتهاد من عدم الحاجة إلى إدراج قيد الظنّ فيه حيث قال : وإذ قد عرفت أنّه لا حاجة إلى إدراج قيد الظنّ في تعريف الاجتهاد ، فيظهر أنّ ما يحصل من الاجتهاد قد يكون قطعيا ، وقد يكون ظنّيا ، وكلاهما حجّة على المجتهد ومقلّده.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض انسداد باب العلم (3) ، ولا دليل على حرمة العمل به حينئذ مع بقاء التكليف جزما لو لم ندّع ثبوت الدليل على الجواز (4).

ويندفع ما أورده عليه بعض الأجلّة (5) من أنّه لا وجه له أصلا ، فإنّ الوجه فيه ظاهر بعد القول بحجّية الأصول من باب الظنّ ، وأمّا إذا انفتح باب العلم ، وقلنا بعدم كفاية الظنّ في الامتثال ، فيحرم العمل بالظنّ بالمعنيين ، وأمّا على القول بالكفاية - كما هو المنقول عن المحقّق الخوانساري والقمّي - فلا حرمة في العمل بالظنّ بل هو أحد

ص: 77


1- أي الظنّ الفعلي ( هامش « ش » ).
2- أي بعدم الظنّ على خلافها ( هامش « ش » ).
3- المصدر : + غالبا بالفرض.
4- القوانين 2 : 100 ، وفيه : على جواز العمل به.
5- الفصول : 387 - 388.

فردي الواجب التخييري : من تحصيل العلم ، والكفاية بالظنّ (1).

وبالجملة ، على ما هو التحقيق في الأصول من اعتبارها تعبّدا وعدم كفاية الظنّ بالامتثال ، بعد القطع بالاشتغال ، فلا شكّ في حرمة العمل بالظنّ على المعنيين المزبورين ؛ لإطباق أهل العقل عليه.

مضافا إلى ما ذكره بعض الأواخر (2) من أنّه يدلّ على الأصل المزبور مائة آية قرآنية وخمسمائة رواية إمامية ، فلا إشكال فيه ، وإنّما الشأن في أنّه هل خرج من الأصل المذكور شيء ، أو لا؟ والحقّ هو (3) الأوّل وهو أمور نذكرها مع ما يقتضي تخصيص الأصل بها :

[ في حجّية الظواهر ]

الأوّل : الظنّ المستند إلى ظواهر الألفاظ ، المنتهى إلى إحدى الدلالات الثلاث ولو بمعونة القرائن الحالية أو المقالية المتعارفة في المحاورات لدى الإفادة والاستفادة ولو كانت بسبب سبق عهد بين المتكلّم والمخاطب ، أو اشتهار المشترك في أحد معانيه ، بخلاف غيرها ممّا لا تعويل عليها في العرف والعادة في استكشاف مقاصدهم من الألفاظ كالرمل ونحوه ، وبخلاف الظنون التي قد تستفاد من اللفظ ، ومن ينتسب إليه بواسطة أمر (4) خارج عنه بالمرّة مثل فهم الأصحاب أو اشتهار مضمون اللفظ ، فإنّها في الحقيقة ليست من الظنون المنتهية إلى إحدى (5) الدلالات بل هو ظنّ بمضمون اللفظ ، ويبنى اعتباره على اعتبار مطلق الظنّ ، وبخلاف الظنّ بواسطة الظنّ بالوضع (6) كالظنّ بالوجوب المستند إلى الظنّ بكون الأمر موضوعا له ، وكالظنّ بوجوب التيمّم على

ص: 78


1- سقط من قوله : « بل هو أحد » إلى هنا من نسخة « ل ».
2- في هامش « ش ، ل » : آقا السيّد عبد اللّه شبّر.
3- « ل » : - هو.
4- « ل » : إليه بأمر.
5- « ل » : أحد؟
6- « ل » : بالموضع؟

التراب الخالص المستند إلى الظنّ بوضع الصعيد له ، فإنّ الكلام في الظهور وعدمه إنّما هو بعد أن كان الوضع مفروغا عنه ثابتا بالأدلّة المعتبرة علما أو ظنّا قام القاطع - ولو بملاحظة الانسداد - على اعتباره ، والوجه في ذلك هو الإجماع تحصيلا ونقلا على لسان غير واحد من الفحول ، وإطباق العقلاء كافّة بل ولولاه لانسدّ سبيل المحاورة ، وانفتح طريق المكابرة ، وعليه جرت العادة ، من لدن آدم إلى يوم القيامة ، بل ربما ينسب القائل بخلافه إلى أصحاب السوداء والجنون.

مضافا إلى أنّه تعالى أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمونه ، وأنّه تعالى ما أرسل من رسول إلاّ بلسان قومه ، وقوله صلى اللّه عليه وآله لابن الزبعرى : « ما أجهلك بلسان قومك » (1) مع تقريرهم عليهم السلام أصحابهم فيما يفهمونه من الألفاظ المتداولة في محاوراتهم ، ومع ذلك كلّه فقد ينسب الخلاف في ذلك إلى بعضهم وهو شاذّ لا يلتفت إليه كما أنّه قد خالفت الأخبارية (2) في خصوص ظواهر القرآن ما لم يرد عن أحدهم عليهم السلام نصّ في بيانهم ، وسواء في ذلك المشافهون وغيرهم.

وقد يظهر من المحقّق القمّي رحمه اللّه (3) التفصيل بين المشافهين وغيرهم ، فقال بالاعتبار في حقّهم وعدمه في حقّ غيرهم ، ولقد وافق في ذلك صاحب المعالم (4) حيث يظهر منه اختيار ما أفاده المحقّق القمّي في مقام بيان الدليل الرابع على حجّية أخبار الآحاد وإن كان قد يحتمل كلامه إرادة عدم الحجّية مطلقا ؛ حيث إنّه قد أورد في دفع الاعتراض على مظنونية الأحكام المستنبطة من الكتاب الكريم باختصاص الخطاب (5)

ص: 79


1- انظر : المناقب لابن شهرآشوب 1 : 49 ؛ الصراط المستقيم 1 : 47 ؛ بحار الأنوار 18 : 200 ؛ القوانين 1 : 193 ؛ الإحكام للآمدي 2 : 209 ، و 3 : 39.
2- الفوائد المدنية : 269 - 271 وفي ط الحجري : 135 ؛ هداية الأبرار : 155 ؛ الفوائد الطوسية : 186 ؛ الأنوار النعمانية 1 : 308 ؛ الدرر النجفية : 169 - 174 ؛ الحدائق 1 : 27 - 35.
3- القوانين 1 : 229 و 393 و 403 و 450 و 453 ، و 2 : 101.
4- المعالم : 193 و 108.
5- « ش » : خطاب.

المشافهة بالحاضرين بعد أنّ الكتاب منه (1) ، وثبوت الحكم للمتأخّر إنّما هو بواسطة أدلّة الاشتراك في التكليف ، وحينئذ فمن الجائز اقتران الخطاب بما يفيد خلاف ما هو الظاهر عندنا ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ، فإنّ تجويز هذا الاحتمال لا يختصّ بالمشافهة وغيرهم أيضا ، ومن هنا قد يورد عليه بعدم اتّجاه تفريعه على الخطاب ، فتدبّر.

وكيف كان ، فلنا في المقام دعويان : إحداهما : الحجّية مطلقا قبالا للأخباريين ، وثانيتهما : كذلك قبالا لصاحب المعالم والمحقّق القمّي ، فلنا على الأولى منهما وجوه من الأدلّة :

الأوّل : اتفاق الأمّة قديما وحديثا وإجماعهم خلفا عن سلف عامّة وخاصّة ، حكيما وفقيها على حجّية ظواهره ويكشف عن ذلك استدلال الكلّ في الكلّ بها من غير نكير منهم ، ويرشدك إليه النظر في مصنّفاتهم ، والرجوع إلى مؤلّفاتهم بل كادت أن تكون من ضروريات الدين وأن ينسب الخلاف فيه إلى القاصرين بل ربما يعدّ المنكر من الكافرين.

لا يقال : لا جدوى في التمسّك بالإجماع في المسائل الأصولية.

لأنّا نقول : لا ضير فيه لو كانت لها جهة فرعية كما فيما نحن فيه حيث إنّ جواز الاتّكال على الظنّ الخاصّ توقيفي منوط بالرخصة من أهل الذكر.

نعم ، لو كانت متمحّضة في جهة العقل كاجتماع الأمر والنهي مثلا ، فلا وجه للاستناد إليه فيها.

الثاني : السيرة القطعية الكاشفة المستمرّة على ما يشهد بها ملاحظة (2) أحوال المسلمين من زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله إلى زماننا هذا.

ص: 80


1- سقط « منه » من « ل » واستدرك في هامشها : « من قبيل الخطاب المشافهة ».
2- « ل » : - ملاحظة.

لا يقال : لعلّ الوجه في العمل (1) بها انسداد باب العلم ، فلا دلالة فيها على اعتبارها بالخصوص كما هو المطلوب.

لأنّا نقول : يمكن دعوى استقرار طريقتهم في العمل بها حتّى في صورة الانفتاح أيضا ؛ فإنّ أصحاب الأئمّة مع تمكّنهم عن تحصيل العلم كانوا يستدلّون بظواهر القرآن على جلّ مطالبهم.

ولو سلّم ، فكان الانسداد من جهة عدم التمكّن غالبا من استفادة المطالب من الألفاظ بالعلم ، ولا ينافي ذلك اعتبار الظواهر بالخصوص بل هو الوجه في اعتماد العقلاء عليه فيصير ظنّا خاصّا كما لا يخفى.

سلّمنا الانسداد من جهة عروض السدّ كما في أمثال زماننا ؛ لعدم إمكان الوصول غالبا إلى المعصوم لكنّه لا يخفى في انفتاح باب العلم ولو في بعض الأوقات ، فلا بدّ لهم من السؤال ، وإلاّ فلا بدّ من الحكم بتفسيقهم حاشاهم عن ذلك ، فإن أجاب المعصوم بالعمل بها ، فهو وإن لم يجبهم ووكلهم إلى ما هو طريق عندهم (2) من الاعتماد على مطلق الظنّ ، فهو خلاف اللطف منهم ، وهو لا يجوز عليهم ، فإنّ السؤال ناظر إلى الواقع ، فهو كتأخير البيان عن وقت الحاجة.

ومن هنا يظهر عدم جواز الإحالة على الاستصحاب وغيره من الأصول العملية إذا سألوا عن المسألة الفرعية كنجاسة القليل بمجرّد ملاقاة النجاسة.

ولو سلّم فغاية ما هناك عدم العلم بجهة عملهم بظواهر الكتاب ولا ضير فيه ؛ إذ الجهل بالجهة إنّما يضرّ فيما لو احتملنا استناد العمل إلى جهة لم نكن واجدا لها ، وأمّا لو كنّا واجدين للجهة المحتملة أيضا من الاضطرار ونحوه مثلا ، فلا شكّ في اعتبار العمل عندنا ، غاية ما في الباب عدم العلم بخصوص الجهة على تقديره ، ولا ثمرة في العلم بها إلاّ عند التعارض ، فيقدّم على غيره لو كان من جهة الظنون الخاصّة ، ويتوقّف على

ص: 81


1- « ش » : وجه العمل.
2- « ل » : طريقهم.

المرجّح لو كان من غيرها كما ستعرف.

وعلى التقديرين لا بدّ من تقديم الظنون الاجتهادية على الظنّ الحاصل من استعمال الأصول اللفظية من أصالة الحقيقة ونحوها في الكتاب الكريم ؛ إذ بعد ما فرض - من كونها حجّة ولو من جهة مطلق الظنّ - لا مجرى لأصالة الحقيقة عند معارضتها لها.

والحاصل : أنّ الإجماع العملي من الصحابة والتابعين - المعبّر عنه بالسيرة المستمرّة - حاصل على اعتبار أصالة الحقيقة المعمولة في الكتاب الكريم ، ولا وجه للاحتمال (1) المذكور من أنّه لعلّ العمل المذكور من جهة الانسداد.

أمّا أوّلا ، فلأنّ الانسداد في المقام - على تقدير تسليمه لما عرفت من التمكّن لتحصيل العلم ولو بالنسبة إلى بعضهم ولو في بعض الأوقات - إنّما هو (2) حكمة (3) لجواز العمل بالظنون اللفظية لا علّة كما هي قضية دليل الانسداد ، فالداعي في تشريع الحكم وجواز الاعتماد عليها - كما دلّ عليه الإجماع - هو الانسداد.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه لا وجه لتعيين الوجه إلاّ التقدّم في التعارض ، أو التوقّف إلى حصول مرجّح ، والظنون الاجتهادية تقدّم على الظنون اللفظية مطلقا ، فلا ثمرة في التعيين.

الثالث : الأخبار الواردة في هذا المضمار ، عن السادة الأطهار ، عليهم صلوات الجبار ، وهي صنفان :

صنف منها دالّ على وجوب الأخذ بما وافق الكتاب وطرح ما خالفه (4) ، وإنّ الفتن إذا غلبت كقطع الليل المظلم ، لزم الرجوع إليه ؛ لأنّ فيه تفصيلا (5) ، وأنّ ما وجدتم فيه أو في السنّة ، لزمكم العمل به ، ولا عذر لكم في تركه (6) ، وأنّ كلّ شيء مردود إلى

ص: 82


1- « ل » : لاحتمال؟
2- « ل » : - هو.
3- « خ ل » بهامش « ش » : مؤكّد.
4- الفصول المختارة : 177.
5- الوسائل 6 : 171 ، باب 3 من أبواب قراءة القرآن ، ح 3.
6- الوسائل 27 : 114 - 115 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 21.

الكتاب (1) ، وأنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما لم يوافق من الحديث القرآن ، فهو زخرف (2) ، وأنّ ما جاءكم منّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله (3) ، وأنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند الجميع ، وأنّهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون (4) ، وأنّه صلى اللّه عليه وآله قال : « تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي » (5) حيث إنّه جعله كالإمام في جواز الرجوع إليه مستقلا ، فاحتمال إرادة الاجتماع لا يناسب مذهبنا في العترة بعد أنّه خلاف الظاهر من اللفظ كما لا يخفى.

وصنف آخر هي الأخبار الخاصّة الآمرة باستنباط الأحكام من الكتاب الكريم والفرقان العظيم قولا أو فعلا أو تقريرا ، كرواية عبد الأعلى بن أعين عند السؤال عن الجبيرة عن الصادق عليه السلام من أنّه رجل عثر ، فوقع (6) ظفره ، وجعل عليه مرارة ، فما ذا يصنع في الوضوء؟ فأجاب بأنّ « ذلك وأشباهه يعرف من كتاب اللّه ، قال اللّه تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (7) فامسح عليه » (8) ، فالمستفاد من الرواية جواز استنباط أمثال ذلك من الأحكام مع خفائها من الكتاب ، فكأنّه عليه السلام قد بيّن لنا قاعدة أيضا من الجواب المذكور فيما إذا دار الأمر بين سقوط المقيّد رأسا وسقوط قيده لعذر ، يقدّم الثاني ؛ فإنّ السؤال عن المسح المقيّد بالرجل وسقوطه رأسا ، أو بقائه بلا مباشرة الماسح للممسوح.

ص: 83


1- الوسائل 27 : 111 ، باب 7 من أبواب صفات القاضي ، ح 14.
2- الوسائل 27 : 109 - 110 و 119 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 10 و 34.
3- الوسائل 27 : 111 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 15.
4- البحار 2 : 225 ، باب 29 ، ح 3 ، و 5 : 20 ، باب 1 ، ح 30 ، و 5 : 68 ، باب 2 ، ح 1.
5- الحديث من المتواترات.
6- « ش » : فوضع.
7- الحج : 78.
8- الوسائل 1 : 464 ، باب 39 من أبواب الوضوء ، ح 5. وسيأتي في البراءة : 570.

ودعوى اختصاص جواز الاستنباط للعارف لا ضير فيها بعد أنّ الفرض ظهوره (1) في المراد كما لا يخفى.

وكقوله مستشهدا بعدم جواز نكاح العبد بدون إذن المولى : أنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء (2) ، وقوله في سماع الجواري : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (3)(4) فإنّ الاستشهاد بشيء فرع ظهوره في المطلب (5) ، ولو لم يستند إليه المستشهد كقوله فيما سأله زرارة عن كيفية الصلاة في السفر بأنّها ركعتان ، فقال زرارة : إنّ في القرآن الحكيم نفى الجناح عن القصر ، ولا يدلّ على تعيّنه ، فعارضه الإمام عليه السلام بما ورد في الطواف من نفي الجناح (6) إلى غير ذلك من الأخبار بل هي (7) بالغة حدّ التواتر ، فعلى الطالب الرجوع إليها في محالّها.

الرابع : أنّ المقتضي للحجّية موجود ، والمانع منها مفقود ؛ لما ستعرف من بطلان ما تخيّله الخصم مانعا ، فلا مناص منها.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الأصل في كلّ كلام من كلّ متكلّم - على ما هو مستفاد من طريقة أهل العقول - أن يكون مسوقا لبيان ما هو المتعارف في الاستفادة منه إن حقيقة فحقيقة ، وإن مجازا فمجاز كما يكشف عن ذلك ملاحظة طريقتهم في استفادة مقاصدهم من الألفاظ أحياء وأمواتا ، مكاتبة ومراسلة ، قديما وحديثا ، فإنّ مجرّد انطباق لفظ بلغة - عربية أو غيرها - يقضي بإرادة المعاني المستفادة منه في العادة شخصا أو نوعا ،

ص: 84


1- « ش » : ظهور؟
2- الوسائل 21 : 158 ، باب 49 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 2.
3- الإسراء : 36.
4- الوسائل 3 : 331 ، باب 18 من أبواب الأغسال المسنونة ، ح 1. وسيأتي في ص 224 وفي بحث البراءة ص 499 و 584.
5- « ش » : المطلوب.
6- الوسائل 8 : 517 - 518 ، باب 22 من أبواب صلاة المسافر ، ح 3.
7- « ش » : بل وهي.

مادّة وهيئة بل وأطباعهم مجبولة على ذلك حتّى لو ورد بخلاف ذلك لفظ ، فإنّما هو لا بدّ وأن يكون بعد دلالة دليل عليه ، وذلك مثل ما فطرهم اللّه في حمل الألفاظ على المعاني الحقيقية عند الترديد بينها وبين مجازاتها ، وعليه يبنى (1) جملة من الأحكام الشرعية في الأقارير والوصايا والأوقاف ونحوها ، فلو أقرّ زيد لعمر وبمال ، يؤخذ بإقراره ، ولو استند إلى إرادة معنى لا يتعارف استفادته منه ، لم يسمع منه ، كما أنّه كذلك فيما لو أنكر إرادة المعنى الحقيقي أو المعنى رأسا منه ، وليس ذلك كلّه إلاّ للقاعدة المزبورة ، وقضيّتها أن يكون كلّ كلام من كلّ متكلّم مسوقا لبيان ما هو المتعارف في الاستفادة منه ، وأن لا يكون واردا على سبيل التعمية والإلغاز ، فمتى شكّ في ذلك على أحد الوجهين ، يحكم بالأوّل إلى دلالة دليل على التعمية والإلغاز ، ومنه يستعلم حال أرباب التصانيف من ذوي الملل الفاسدة ، والمذاهب الكاسدة ، فوضوحه يمنع من (2) إطالة الكلام.

ومن هنا يظهر ضعف مقالة البعض (3) في الردّ على الأخبارين بقبح التكليف وإرادة ما هو خلاف ظاهر الكلام منه ، فإنّ الكلام في أصل الإرادة والخطاب فربما يدّعي الخصم انتفاءها ، ويلتزم بأنّ الكتاب كلّه من الإلغاز والرموز مثل فواتح السور ، ولكن على ما قلنا ظهر وجود المقتضي ، فليس ظواهر الكتاب إلاّ كظواهر غيره من الكتب.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما يتوهّم كونه مانعا - سواء استند إليه أو لا - وجهان :

الأوّل : الأخبار الدالّة على أنّ علم القرآن مخصوص بالأئمّة ، وعلى حرمة تفسيره بالرأي ، وهي كثيرة مذكورة في مجمع البيان (4) ، ويجمعها ما عرفت.

ص: 85


1- « ش » : يبتني.
2- « ش » : عن.
3- انظر مفاتيح الأصول : 11.
4- انظر مجمع البيان 1 : 75 ( مقدّمة الكتاب ) و 80 ( الفنّ الثالث ).

الثاني : أنّ ورود التقييدات المتوافرة ، والتخصيصات (1) المتكاثرة إنّما أوجب عدم العمل بها بواسطة إحداثها وهنا فيها بل ربّما اختصّ بفرد واحد ومورد متّحد كما في قوله : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) (2) فإنّه قد اختصّ بقراءة الإمام في الجماعة.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبعد الإغماض عمّا في إسناده بدعوى التواتر فيها إجمالا أنّ التفسير - كما نصّ عليه جماعة - عبارة عن كشف الغطاء ، واختصاص مورده عرفا ولغة بما إذا لم يكن منكشفا في نفسه ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.

وتوضيح الحال فيه : أنّ هناك أشياء : اللفظ ، والمعنى ، والمتكلّم ، والسامع ولا ريب في اختفاء المعنى في ذهن المتكلّم ، فيظهره باللفظ ، فتارة على نحو هو منكشف بنفسه ، وأخرى على وجه يحتاج إلى منكشف غيره ، فبعد ما يرتفع النقاب عن وجه المطلوب بواسطة اللفظ على الوجه الأوّل لا يحتاج في فهم المراد إلى شيء آخر بعد العلم بالوضع ، فقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) عند أهل اللسان أو (3) العارف بالبيان المقرّر عندهم منكشف في نفسه لا يحتاج في بيانه إلى شيء آخر ، وإنّما انكشف عنه تكلّم المتكلّم به وتلفّظه كما هو ظاهر بعد الرجوع إلى العرف الحاكم في تميز معاني الألفاظ وصدقها ، فلا يصدق التفسير في مثله ؛ إذ المعنى لا خفاء فيه بعد التّلفظ.

نعم ، إنّما يصدق التفسير فيما لم يكن المعنى بعد التلفّظ منكشفا ، ولو فسّره من لا يروي في تفسيره عنهم عليهم السلام ، فلا شكّ في حرمته ، فلا دلالة في الأخبار المذكورة على المطلوب بل نحن أيضا نلتزم بمفادها ، وإنّما نمنع كون العمل بالظواهر منه.

وربما يتوهّم أنّ الترجمة أيضا من التفسير المحرّم ، وليس بشيء ؛ لأنّه لو كان تفسيرا ، فهو إنّما هو بالنسبة إلى المعاني اللغوية لا بالنسبة إلى المراد من اللفظ ، وظاهر

ص: 86


1- « ش » : التقيّدات ... المخصّصات.
2- الأعراف : 204.
3- « ل » : « و» بدل : « أو ».

أنّ مساق الآيات ممّا لا ربط له بمثل المفروض ، ولو سلّمنا ، فهذه معارضة بما هو أوضح سندا ، وأقوى دلالة ، ومع التساوي فلا بدّ من الحمل على ما ذكر جمعا بينهما.

وأمّا الجواب عن الثاني ، فأوّلا : النقض بالأخبار ، فإنّها ممّا قد نالها يد التخصيص والتقييد بكثير بحيث لا يكاد ينكر.

وثانيا : الحلّ (1) ، فإنّ ورود التخصيص والتقييد كثيرا أو (2) قليلا لا يقضي بإهمال الأدلّة وإجمال المراد بعدهما ؛ لأنّ العمل بالعامّ إنّما هو بعد الفحص ، ولا ضير فيه ؛ لما قد تقرّر من حجّية العامّ المخصّص في الباقي لو لم يكن مخصّصا بمجمل ، وعلى تقديره فعدم حجّيته إنّما هو من (3) جهة إجماله.

ثمّ إنّ للفاضل السيّد صدر الدين في المقام كلاما لا بأس بنقله وذكر ما يرد عليه قال رحمه اللّه بعد جملة كلام له : والقول الفصل مع تفصيل وتوضيح يظهر بعد تمهيد مقدّمتين :

الأولى (4) : أنّ بقاء التكليف إلى الانقراض الذي (5) ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على إفهام المكلّفين ما كلّفوا به ، وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالة القول على المراد منه لا تكون قطعية إلاّ بضمّ أمور خارجية (6) وكثيرا ما تكون ظنّية إذ مدار الإفهام وقطبه في كلّ لغة إنّما هو إلقاء الحقائق المجرّدة عن القرينة ، وإبقاء المجازات معها ، فيبني (7) المخاطبون الاعتقاد أو العمل على ما يفهمونه ، وإن كان احتمال التجوّز في الأوّل وخفاء (8) القرينة وأشباهها (9) على المخاطب في الثاني باقيا ؛ لأنّه لا بعد في أن ينصب متكلّم قرينة لإرادة معنى مجازي آخر ؛ لكون القرينة مناسبة للمعنيين ، والذي

ص: 87


1- « ل » : بالحلّ.
2- « ل » : « و» بدل : « أو ».
3- « ش » : في.
4- في المصدر : + هي.
5- في المصدر : « الدهر » بدل : « الذي ».
6- في المصدر : قد يكون قطعية ولو بضمّ أمور خارجية.
7- « ش » : فيبتني.
8- « ل » : إخفاء.
9- « ل » : أشباهه.

يكشف عمّا قلناه أنّا لو فرضنا كون صيغة الأمر للوجوب لغة ، فأمر لغوي عبده فأبطأ عن المسارعة إلى الامتثال معتذرا باحتمال التجوّز ، لذمّه العقلاء ، وكذا يذمّون المولى لو عذّب العبد ؛ لأنّه سارع (1) إلى الامتثال بعد فراغ المولى من التكلّم ، ولم يصبر حتّى يظهر عليه القرينة ولو بعد حين.

فإن قلت : تأخير القرينة عن وقت الخطاب جائز على المشهور ، وعن وقت الحاجة أيضا كذلك إذا كان لأحد مصلحة (2) داعية إلى التأخير ، راجحة عند العقل والشرع على العمل بخلاف ما أريد من الكلام ، مثلا لو فرضنا أنّ أحدا قال لعبده : أكرم كلّ من دخل داري غدا وهو يريد غير زيد ، فأخّر البيان إلى الغد ، فلمّا حضر زيد وكان المولى خائفا من زيد على نفسه أو على العبد ، فترك البيان فأكرم العبد زيدا أيضا ، فلا ريب في رجحان مصلحة التقية والاتّقاء (3) على ترك إكرام زيد ، فكيف يسوغ للعقلاء الذمّ إذا أبطأ العبد معتذرا بهذا الاحتمال الواقع في المحاورات ، وكذا كيف يجوز ذمّ المولى على العقاب مع مسارعة العبد إلى الامتثال إذا قال المولى : لم لم تصبر حتّى يظهر لك حقيقة (4) الحال؟

قلت : ما ذكرت نادر لا سيّما الأخير ، ولا عبرة بمثله عند العقلاء ، ولهذا يتسارعون إلى الذمّ مع قيام هذا الاحتمال عندهم.

الثانية (5) : أنّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كاشتراك اللفظ (6) ، كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل أن يقول أحد : إنّي استعمل العمومات كثيرا وأنا أريد الخصوص من غير ضمّ قرينة متّصلة ، وأطلق المطلقات وأريد المقيّدات ، وربّما أحكم

ص: 88


1- « ل » : مسارع.
2- « ل » : كان لمصلحة.
3- « ل » : الإبقاء!
4- في المصدر : جلية.
5- في المصدر : + هي.
6- في المصدر : لفظي.

حكما يدلّ ظاهرا (1) على الاستمرار ، ولكن أنسخه (2) من بعد (3) ، وربّما أخاطب أحدا وأنا أريد غيره ، أو أخصّص قوما بالخطاب وأنا أريدهم مع غيرهم ، أو نرى نحن أمثال ذلك في كلام متكلّم (4) وإن لم يصرّح هو به مع علمنا بعدم غفلته ومسامحته ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل الظنّ به.

اللّهمّ إلاّ أن يكون العامّ الباقي على عمومه ، والمطلق الباقي على إطلاقه كثيرا بالنسبة إلى المخصّص (5) والمقيّد ، وكذا غيرهما ، والقرآن من هذا القبيل ؛ لأنّه وإن كان عربيا لكن نزل على اصطلاح جديد (6) ، لا أقول على وضع جديد بل أعمّ من أن يكون كذلك ، أو يكون فيه مجازات لا يعرفها (7) العرب ، ومع ذلك وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها أصلا كالمقطّعات في أوائل السور ، ثمّ إنّ اللّه تعالى لم يدع المكلّفين حتّى أنزل إلى رسوله قوله : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) (8) الآية ، فذمّهم على اتّباع المتشابه ولم يبيّن لهم المتشابه (9) ما هي؟ وكم هي؟ بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ (10) ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبيّ صلى اللّه عليه وآله نهى الناس عن التفسير بالآراء وكذا الأوصياء (11) عليهم السلام ، وكذا جعلوا لنا الأصل عدم جواز (12) العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

ثمّ أفاد : إذا تمهّدت هاتان المقدّمتان ، فنقول : مقتضى المقدّمة الأولى هو العمل بالظواهر ، ومقتضى الثانية عدم جواز (13) العمل بها (14) ؛ لأنّ ما صار منها (15) متشابها لا

ص: 89


1- في المصدر : ظاهره.
2- في المصدر : ولكنّي سأنسخه.
3- في المصدر : - من بعد.
4- في المصدر : كلامه.
5- في المصدر : المخصوص.
6- في المصدر : خاصّ.
7- في المصدر : لم يعرفنا.
8- آل عمران : 7.
9- في المصدر : المتشابهات.
10- في المصدر : هذه اللفظة.
11- في المصدر : أوصيائه.
12- في المصدر : - جواز.
13- في المصدر : - جواز.
14- في المصدر : - بها.
15- « ل » : - منها.

يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقي على ظهوره وحصل منه الظنّ (1) مندرج في الأصل المذكور ، فنطالب العامل به بدليل جواز العمل [ به ] ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة (2) هو عدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل (3) مثل عمل أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام بالظنّ المستفاد من الأخبار إذا سمعوها منهم من غير فحص وتحصيل قطع بالمراد وتقريرهم على ذلك.

لا يقال : إنّ الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم إجماعي.

لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا ، كيف و [ هم ] قد عرّفوه بتعريفات مختلفة ، ولم يقيموا دليلا على أنّ المعنى الشامل للظاهر هو المراد منه في القرآن والأخبار.

وأيضا لا يظهر من الأحاديث الواردة في تفسيره هذا الشمول بل ادّعى الشيخ الفاضل المحدّث حسين بن شهاب الدين العاملي في كتابه أيضا أنّ الذي يظهر من الأخبار مساواة المحكم للنصّ حيث قال : إنّ المفهوم من الأحاديث هو أنّ المحكم ما لا يحتمل غير ما يفهم منه مع (4) بقاء حكمته على حاله والمتشابه ما عداه (5). انتهى.

ثمّ ذكر ما دلّ على أنّ المتشابه يعمّ النصّ والظاهر من النصوص وكلمات الأصحاب ، ثمّ أورد سؤالا على نفسه بقوله : لا يقال : إنّ ما ذكرتم في عدم جواز العمل بظواهر القرآن إن تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ؛ لأنّ فيها أيضا محكما ومتشابها ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا أريد منه الخاصّ ، ومطلقا أريد منه المقيّد.

ص: 90


1- في المصدر : - الظنّ.
2- المثبت من المصدر وفي النسختين : الحاجة وهو تصحيف.
3- في المصدر : - الدليل.
4- « ل » : من.
5- هداية الأبرار : 155.

وأجاب عنه بقوله : لأنّا نقول قد سبق ما يستفاد منه الجواب ، ونقول هنا تأكيدا وتوضيحا : إنّا لو خلّينا وأنفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة عند عدم نصب القرينة العقلية والفعلية والقولية المتّصلة على خلافها ، ولكن منعنا عن ذلك وعن (1) العمل بالقرآن ؛ إذ منعنا اللّه من اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن حقيقته لنا ، ومنعنا رسول اللّه (2) صلى اللّه عليه وآله عن تفسير القرآن ، ولا ريب أنّ (3) غير النصّ محتاج إلى التفسير لتحقيق الإجمال (4) فيه ، وأوصياؤه عليهم السلام أيضا منعونا ، وأيضا ذمّ اللّه سبحانه من اتّبع (5) الظنّ وكذا رسوله صلى اللّه عليه وآله وأوصياؤه ، ولم يستثنوا (6) ظواهر القرآن لا قولا ولا تقريرا ، وليس هناك دليل قطعي بل ظنّي ، ولا إجماع على الاستثناء ، وأمّا (7) الاعتذار في العمل بالظنّ بأنّا لمّا ظننّا كون حكم مستفاد (8) من آية أنّه (9) مراد اللّه ، علمنا به ؛ لأنّ (10) تركه مورث لخوف المؤاخذة الأخروية (11) ورفع الخوف المظنون واجب ، فيجاب عنه بأنّ عقلك دلّك أيضا على قبح المؤاخذة مع النهي المطلق عن اتّباع الظنّ وعدم بلوغ المخرج ، وكيف يسمع هذا الاعتذار مع أنّ القائس أيضا يعتذر بمثل عذرك وأنت تمنعه من القياس ، وسيأتي لهذا مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى في مبحث حجّية الإجماع [ المنقول ] بخبر الواحد.

وأمّا الأخبار ، فقد سبق في مبحث جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص أنّ أصحاب الأئمّة كانوا عالمين بأخبار تبلغهم عن (12) واحد منهم ، وما كان في قريب

ص: 91


1- « ش » : - عن. في المصدر : في.
2- « ل » : رسوله.
3- في المصدر : في أنّ.
4- في المصدر : لتحقّق الاحتمال.
5- في النسختين : اتباع.
6- في المصدر : ولم يستثنا.
7- في المصدر : « واقعا » بدل : « وأمّا ».
8- « ل » : مستفادة.
9- المصدر : - أنّه.
10- « ل » : لأنّه.
11- في المصدر : في الآخرة.
12- في المصدر : من.

من خمسين سنة فصاعدا (1) أصل أو كتاب يراجعون إليه ، وكانوا إذا حدثت (2) حادثة وروى ثقة فيها خبرا من المعصوم [ المتقدّم ] ، يعملون بخبره من غير تربّص وسؤال عن أنّه هل هناك عند أحد مخصّص أو معارض أو ناسخ أو مقيّد؟ وكانوا يعملون إلى أن يجيء من عند الإمام الحيّ معارض (3) أو غيره ، ثمّ بعد جمع جلّ الأحاديث في الأصول والكتب ما كان عند كلّ واحد من فضلائهم إلاّ أصل (4) لا غير ، أو مع أصل واحد من غيره.

وبالجملة ، ما كان مجموع الأحاديث مجتمعا (5) عندهم ، وما كان لهم مثل التهذيب بل مثل الفقيه والأئمّة عليهم السلام يعلمون (6) هذه الطريقة منهم ، ولا ينكرونهم بل يحثّونهم على العمل بالأصول وكتابة (7) الأحاديث.

وبالجملة ، قد حصل لنا علم قطعي من التتبّع بتجويز العمل من أئمّتنا عليهم السلام بخبر العدل الإمامي من غير فحص ، ولهذا عملنا بظواهر الأخبار مع ما قلنا من أنّ مدار التكاليف في كلّ اللغات على الظواهر من لدن آدم إلى يومنا هذا ، ولو لا هذا الذي قلنا ، لكنّا في العمل بظواهر الأخبار متوقّفين (8) ، واللّه الموفّق والمعين (9). انتهى كلامه رفع مقامه (10).

وإنّما نقلناه (11) بطوله ليعلم موارد النظر فيه بعد ما قدّمنا لك من وجود المقتضي ورفع المانع ، وكفاك ردّا عليه ما قلنا من إجماع الأمّة على العمل به من لدن زمن النبيّ

ص: 92


1- في المصدر : « وما عدا عندهم » بدل : « فصاعدا ».
2- « ش » : أحدثت.
3- في المصدر : المعارض.
4- في المصدر : أصله.
5- « ل » : مجموعا.
6- في المصدر : يعملون.
7- « ل » : كتب.
8- في المصدر : + أيضا.
9- شرح الوافية ( مخطوط ) : 57 / ب - 60 / أ.
10- « ل » : - رفع مقامه.
11- « ش » : نقلنا.

صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام الذي به يستعلم عدم كون المعمول به (1) متشابها ، وبه ينقطع الأصل الذي أجمعت الفرقة عليه من حرمة العمل بالظنّ كما في غيره من الظواهر ، ومنه يعلم عدم الافتراق بين الأخبار والقرآن في ذلك ، وأنت بعد الإحاطة بما مرّ في دليل المختار تقدر على استخراج وجوه النظر فيه.

مضافا إلى أنّ عدم حجّية الظواهر القرآنية قد يفضي إلى الدور الباطل ؛ فإنّه لا شكّ في إعجازها من جهة الفصاحة ، وقد تقرّر في محلّه أنّ وصف الفصاحة إنّما يلحق اللفظ باعتبار معناه ، فالإعجاز من الجهة المذكورة فرع فهم المراد منها ، وهو على ما تخيّله الأخباري فرع الإخبار به ، واعتباره فرع نبوّته صلى اللّه عليه وآله ، فلو توقّف نبوّته عليه ، لزم توقّف الشيء على نفسه وهو المراد باللازم وبالجملة ، فالمطلوب ممّا لا خفاء فيه.

فوائد

الأولى : قيل (2) : لا ثمرة في النزاع في حجّية الظواهر القرآنية ، فإنّ آيات الأحكام قليلة ، وجملة منها مكرّرات ، وجملة أخرى إنّما تثبت الأمور الإجمالية الضرورية مع إمكان استفادتها من الأخبار الواردة فيها أيضا.

أقول : يمكن تحقّق الثمرة فيما إذا لم نقل بحجّية الأخبار الآحاد ، أو قلنا واستنبطنا منه ما لم نستنبطه من الأخبار كما قيل : إنّ الفخر الرازي قد استنبط من آية مائة حكم (3) مع ظهور الثمرة في المتعارضين من الأخبار ، فإنّ موافقة الكتاب من المرجّحات المنصوصة ، وقد تعرّض بعضهم لبيان مورد من الكتاب لم يوافق الخبر لقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (4) وليس بشيء ، فإنّ قوله صلى اللّه عليه وآله : « المؤمنون عند

ص: 93


1- « ل » : - به.
2- النراقي في مناهج الأحكام : 169 ( الفائدة الثالثة ).
3- في النسختين : حكما.
4- المائدة : 1.

شروطهم » (1) أوضح دلالة منها على المطالب التي يستدلّ بها عليها ؛ لمكان لفظ الشرط مع تصريح الفيروزآبادي في القاموس (2) بوضعه للإلزام والالتزام ، وأمّا ما خصّصه بالبيع (3) ، فالظاهر أنّه من جهة المثال.

الثانية : قد ورد في جملة من الآثار أنّ في القرآن سقطا حتّى أنّ في بعضها سقوط الثلث ، ومن ثمّة فقد يستشكل الاتّكال عليه والأخذ بظواهره ؛ لعدم الوثوق ، ولكنّه مدفوع أوّلا بمنعه ، وبعد تسليم ذلك وجوده في خصوص آيات الأحكام غير مسلّم ، وعلى تقديره فالشبهة غير محصورة ، وعلى تقديرها فلا نسلّم سريان ذلك في الموجود من القرآن ، فإنّ سقوط فقرة لا يقضي بإهمال فقرة أخرى مطلقا إلاّ أن يحصل العلم بالارتباط بينهما ، والأصل يدفعه ، فيحتمل أن يكون الفقرة المحذوفة والساقطة مثل سقوط القرينة الموضحة أو المؤكّدة ، وأمّا ثانيا ، فالإجماع بقسميه على ما عرفت يغني عن ذلك كلّه.

الثالثة : قد يتوهّم أنّ القول بحجّية الظواهر القرآنية يلازم القول بعدم حجّيتها ؛ لقوله : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (4) فإنّ الوقوف عليه وقوف على غير العلم ، فيلزم من وجوده عدمه.

ويمكن التفصّي عنه بتخصيص أمثال ذلك بأصول الدين ، على أنّ العمل بالقرآن بعد قيام الإجماع عليه عمل بالعلم ، مع أنّا لا نسلّم انصراف الآية إلى نفسها وما اشتمل عليها من الكتاب كما لا يخفى بعد الرجوع إلى العرف في أضرابه ، وعليه يبنى

ص: 94


1- الوسائل 18 : 16 و 17 ، باب 6 من أبواب الخيار ، ح 1 و 2 و 5 ، و 21 : 68 ، باب 32 من أبواب المتعة ، ح 9 ، و 21 : 276 ، باب 20 من أبواب المهور ، ح 4 ، و 21 : 299 و 300 ، باب 40 من أبواب المهور ، ح 2 و 4 ، و 23 : 142 ، باب 4 من أبواب المكاتبة ، ح 3 ، و 23 : 155 ، باب 11 من أبواب المكاتبة ، ح 1 ، و 26 : 55 ، باب 21 من أبواب موانع الإرث ، ح 1 ، وورد في كثير من المصادر « المسلمون » بدل : « المؤمنون ».
2- القاموس 2 : 542.
3- « ل » : في البيع.
4- الإسراء : 36.

في توجيه الاستدلال بإجماعي الشيخ والسيّد في حجّية الأخبار وعدمها عند من يرى اعتبار المنقول من الإجماع من جهتها.

الرابعة : قد اختلفوا (1) في تواتر القراءات السبع وعدم تواترها ، والمعروف بينهم هو الأوّل ، وخالف فيه جملة من الأواخر ، وهم بين القائل بحجّية جميعها وجواز قراءتها في الصلاة ، وبين المنع منها في غير المتواتر ولو جاز قراءتها في الصلاة ، ولا حاجة إلى إثبات أحد الوجهين بعد ما أطالوا في بيانه.

ولكنّه شيء هنا ينبغي التنبيه عليه وهو أنّه إذا اختلفت القراءات على وجه يختلف باختلافها المعنى ، فعلى تقدير تواتر الجميع أيّهما المقدّم فيما تعارضا كما في قوله : « يطّهرن » و « يطهرن » بالتشديد والتخفيف ، فإنّه على الأوّل لا بدّ من الاغتسال في جواز الوطء ، وعلى الثاني يجوز وطؤها بمجرّد انقطاع الدم ولو قبل الاغتسال؟ فقيل بالأوّل ، وقيل بالثاني (2).

والتحقيق أن يقال : إنّه على تقدير القول بتواتر السبع لا بدّ أوّلا من إعمال قواعد المعارضة بين الأدلّة القطعية بحسب السند ، ثمّ الرجوع إلى الأصل إن أمكن ، كأن كان موافقا لأحدهما ، وإن لم يمكن بواسطة مطابقة الأصل الثالث غيرهما ، فالتخيير لكن بين الاحتمالات الواقعية ، وأمّا الآيتان فرجوعهما في الحقيقة إلى المتشابهات ممّا لا ريب

ص: 95


1- انظر مدارك الأحكام 3 : 338 ؛ ذخيرة المعاد : 273 ؛ نور البراهين للسيّد نعمة اللّه الجزائري 1 : 531 ؛ الفوائد الحائرية : 286 ؛ الحدائق الناضرة 8 : 95 ؛ القوانين 1 : 406 ؛ غنائم الأيّام 2 : 501 ؛ مفاتيح الأصول : 322 ؛ كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري 1 : 357 و 363 و 590 ؛ البيان للسيّد الخوئي : 123 وما بعدها و 151 وما بعدها.
2- حمل المحقّق في المعتبر 1 : 235 التضعيف على الاستحباب توفيقا بين القراءتين ، وهو أحد وجهي كلام العلاّمة في منتهى المطلب 2 : 397 وفي ط الحجري 1 : 117. وحمل التضعيف على الطهر كما في جامع المقاصد 1 : 333 ؛ وروض الجنان 1 : 216 وفي ط الحجري 78 وكلاهما في مدارك الأحكام 1 :336- 337. انظر الحدائق 3 : 244 والجواهر 3 : 207 وكتاب الطهارة للشيخ الأنصاري : 237 ط الحجري.

فيه في الفرض ، وقد نهى الشارع عن العمل بها وذلك مثل ما قاله بعض الأفاضل في تعارض الحجّة واللاحجّة كالقياس والخبر الصحيح ، وكان الظنّ في طرف القياس ، فإنّه قال بالتخيير بينهما ، ثمّ قال : ولا يلزم منه التخيير بين العمل بالقياس وغيره.

ثمّ المراد من إعمال قواعد المعارضة أنّه لا بدّ أوّلا أن يلاحظ النسبة بينهما وإن كان من العامّين من وجه ، فإن كان أحدهما نصّا بالنسبة إلى الآخر ، فهو وإلاّ فيرجع إلى المرجّحات الخارجية وإن كان بينهما العموم والخصوص مطلقا لا من وجه ، فيحمل أحدهما على الآخر كما هو المرجع في غير المقام ، ومثل ذلك بعينه الكلام فيما لو لم نقل بتواتر السبع لكن قلنا بحجّية الجميع في مقام استنباط الأحكام كما يجوز القراءة في الصلاة بكلّ وجه من وجوه القراءة بلا خلاف وإشكال.

وأمّا لو لم نقل بحجّية غير المتواتر ، فلا وجه للرجوع إلى المرجّحات فيما إذا كان المتعارضان عامّين من وجه ، بل يكون من باب اشتباه الحجّة بغيرها ، وحكمه التوقّف بعد العجز عن التمييز والرجوع إلى ما يطابق الأصل في صورة المطابقة لأحدهما ، ثمّ التخيير بين الاحتمالين على ما عرفت. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

[ في حجّية ظواهر الكتاب لغير المشافهين ]

وأمّا المقام الثاني فقد يظهر من المحقّق القمّي وصاحب المعالم فيما نقلنا كلامه إجمالا (1) عدم حجّية الظواهر القرآنية لغير المشافهين ، ويمكن الاستدلال لهما بوجهين :

الأوّل : حصول الاطمئنان للمشافه بعد إعماله أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة وغيرهما من الأصول المعمولة في استخراج المطالب عن الظواهر اللفظية عند العرف والعادة ، ولا أقلّ من حصول الظنّ القويّ للمشافه بواسطة علمه بالقرائن المحفوفة

ص: 96


1- تقدّم في ص 79 ، وانظر البحث أيضا في العموم والخصوص من مطارح الأنظار 2 : 183 وما بعدها.

بالكلام وسوق المقام ، فيعمل بمضمونه بخلاف غير المشافه ، فإنّه لا يحصل له الاطمئنان بواسطة احتمال اختفاء القرائن ، فإنّ المتعارف في أغلبها هو القرائن اللفظية وأمّا القرائن الحالية فلا ، مضافا إلى أنّه قد لا يمكن بيان الحال كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد يمكن دعوى العلم الإجمالي بسقوط جملة من الأمارات المفيدة للظنّ بالمراد والاطمئنان فيها لغير المشافه فيما لم يكن القصد إعلام غير المشافه بالمراد كما في كتب المصنّفين والوصايا والمراسلات ، فإنّ القصد فيها تعلّق بإعلام غير المشافه أيضا ، فالقرائن المعتبرة في إفادة المطالب موجودة فيها ومعتبرة عند المصنّف والكاتب والمراسل بخلاف ما إذا لم يتعلّق القصد بإعلام غير المشافه ، أو لم يكن معلوما كما في المقام ، فإنّه لا وجه للاستناد إلى أصالة الحقيقة في المقام ، لعدم حصول الاطمئنان بل الظنّ الشخصي أيضا.

لا يقال : لا يجوز العمل بالظواهر إلاّ بعد الفحص ، وبعده لا نسلّم العلم الاجمالي بسقوط القرائن بل يحصل الظنّ الشخصي بالمراد لو لم نقل بحصول الاطمئنان.

لأنّا نقول : كلاّ ، فإنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود القرائن الحالية القابلة لصرف اللفظ عن ظاهره ، وبأنّ الغائب عنّا والمخفيّ علينا إنّما يساوي أضعاف ما هو بأيدينا ، ومعه لا يحصل الظنّ الشخصي فضلا عن الاطمئنان ، وغاية الأمر إفادة الظنّ النوعي ، ولا دليل على اعتباره بالخصوص كما هو المراد في المقام.

الثاني : أنّ احتمال خلاف الظاهر من الخطاب للمشافه ليس إلاّ من جهة احتمال الاشتباه في المتكلّم ، أو تقصيره في عدم نصب القرينة ، أو اشتباه المخاطب ، أو قصوره عن فهم القرينة ، والأصل المجمع عليه الفريقان يقضي بعدم الخطأ والتقصير كما أنّ الأصل قصد المتكلّم مدلول الكلام إجماعا.

ص: 97

مضافا إلى إلغاء احتمال خلاف ذلك في النصوص (1) ، فإنّه سئل عن امرأة أحلّت جاريت [ ها ] لزوجها فأمضاها عليه السلام ، فقال السائل : فلعلّه لمزاح بينهما ، فأجاب عليه السلام بعدم اعتبار الاحتمال بخلاف غير المشافه ، فإنّ احتمال إرادة خلاف الظاهر لا ينحصر فيما عرفت دفعه بالإجماع بل يحتمل بواسطة سقوط قرينة وأمثاله ، ولا دليل على اعتبار أصالة عدم القرينة في حقّنا إلاّ من جهة مطلق الظنّ.

لا يقال : إنّ بناء العقلاء في استكشاف مطالبهم على التعويل بالأصول المعمولة في استخراج المراد من الظواهر ، والعلماء الأعلام مطبقون على ذلك.

لأنّا نقول : أمّا بناء العقلاء ، ففيما لم يفد الاطمئنان ، ولا أقلّ من الظنّ الشخصي فغير مسلّم كما عرفت في الوجه الأوّل ، وأمّا عمل العلماء ، فيحتمل أن يكون بواسطة مطلق الظنّ ، فلا دلالة فيه على المدّعى.

والجواب عن كلا الوجهين ما ذكرناه في أدلّة المختار من إثبات حجّية الظواهر منه مطلقا ، فإنّ الإجماع من لدن زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة على العمل بها إلى زماننا ، ولم يظهر مخالف في ذلك ، ولذلك نرى عدم عنوان المسألة في كلام القدماء مع العلم الإجمالي بأنّ جملة منها ممّا لا يفيد الظنّ الشخصي فضلا عن الاطمئنان ، واحتمال التعويل عليها من جهة مطلق الظنّ نظرا إلى انسداد باب العلم في تلك الأزمنة ممّا لا يستقيم أصلا في زمن إمكان تحصيل العلم ، مع أنّ أوائل زمن الغيبة كزمن المرتضى على ما ادّعاه زمن انفتاح باب العلم ، فلا وجه للقول بالظنّ المطلق ، فإنّ السيّد كان يستنبط الأحكام من الأدلّة القطعية ، وعدّ منها المتواترات ولا سيّما بعد ملاحظة تحريمهم للعمل بالظنّ المطلق وحصرهم الأدلّة في الأربعة غالبا أو الخمسة بزيادة الاستصحاب عليها كما عن بعضهم.

ص: 98


1- الوسائل 20 : 301 ، باب 24 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 2 ، و 21 : 128 ، باب 32 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1 و 3.

سلّمنا انسداد باب العلم بالأحكام لهم ولكن لا نسلّم انسداد باب العلم في طريقها أيضا لهم ، فالعلم في المسألة الأصولية كان ممكنا لهم ، ولعمري كيف يجوّز العاقل من أمثالهم إهمالهم في مثل هذه المسألة العظيمة مع أنّ أهل بيت العصمة والطهارة بيّنوا لهم أحكام دينهم ودنياهم حتّى أرش الخدش وآداب الأكل والشرب والنوم والخلوة والمقاربة ونحوها ، وهل هذا إلاّ للعلم برضاهم عليهم السلام بالعمل بظواهر الكتاب؟

ثمّ إنّ المحقّق القمّي قد بنى القول بحجّية الكتاب على أنّه من الظنون الخاصّة التي قام القاطع على اعتبارها ، وعدمها على القول بعموم الخطاب لغير المشافهين وعدمه ، وعلى ما عرفت لا وقع له ، فإنّ الإجماع منعقد على اعتباره ولو لغير المشافه كما مرّ ، مع أنّا لو سلّمنا العموم وقطعنا النظر عن الإجماع على العمل به ، فلا نسلّم حجّيته من باب الخصوصية ، فإنّ مجرّد القول بعموم الخطاب لا يقضي بارتفاع احتمال الخلاف في ظواهر الألفاظ ، ولذا يجب الفحص عن المعارض على القول بالظنون الخاصّة أيضا ، ومع ذلك لا يحصل الاطمئنان بإرادة ما هو الظاهر من اللفظ.

ثمّ إنّ لصاحب المعالم كلاما في المقام لا بأس بنقله ، قال بعد الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بالدليل الرابع :

لا يقال : الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، وذلك بواسطة ضميمة مقدّمة خارجية وهو (1) قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر وإرادة (2) خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر ، سلّمنا ولكنّه ظنّ مخصوص ، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل.

لأنّا نقول : أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه في حقّنا (3) إنّما هو بالإجماع وقضاء

ص: 99


1- المصدر : هي.
2- المصدر : وهو يريد.
3- المصدر : حقّ من تأخّر.

الضرورة بالاشتراك في التكليف (1) ، وحينئذ فمن الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا بسائره (2) على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ ، وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم الشرعي (3) ، ويستوي حينئذ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا وقد تبيّن خلافه ، ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة - الدالّين على المشاركة في التكليف (4) المستفادة من ظاهر الكتاب - بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية ، المفيد (5) للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف ذلك الظنّ الظاهر ، ومثله يقال في أصالة البراءة لمن التفت إليها بنحو ما ذكر أخيرا في ظاهر الكتاب (6). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه من وجوه النظر ما لا يخفى سؤالا وجوابا :

أمّا على الأوّل ، فلأنّ الواجب على الحكيم سوق الكلام ، على ما يقتضيه المقام باختلافه باحتفافه على القرائن المفيدة للمطلوب من غير تقصير له في البيان ، وأمّا قصور فهم المخاطب عن إدراك القرائن بواسطة غباوته أو سهوه أو نسيانه وأمثال ذلك (7) ممّا لا دخل له بالحكيم ، فلا يجب عليه رفعه ، فعلى هذا لا يفيد ضمّ المقدّمة الخارجية في إفادة القطع كما هو ظاهر السؤال ، مع أنّا نقطع بأنّ كثيرا من خطابات المشافهة - الصادرة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام للمخاطبين المشافهين - لا يزيد على إفادة الظنّ كما لا يخفى ، فلا يصحّ دعوى الفرق بين خطابات الحكيم وغيره في ذلك فتأمّل.

ص: 100


1- المصدر : باشتراك التكليف بين الكلّ.
2- المصدر : بسائرها.
3- المصدر : - الشرعي.
4- المصدر : التكاليف.
5- في النسختين : المفيدة.
6- معالم الدين : 193 - 194.
7- في هامش « ش » : كاختفاء بعض القرائن بسبب الفناء.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ دعوى الإجماع منه على إرادة خلاف الظاهر من الكتاب تنافي دعواه بامتناع الاطّلاع على الإجماع في تحرير الدليل.

مضافا إلى أنّ حكمه بفقد السنّة المتواترة فيه لفظا ومعنى غير موافق للواقع ؛ لوجودها كثيرا في الفقه مع أنّ تقدير الوجود في اللفظي منها لا يضرّ بما هو في صدده من انسداد باب العلم ، إذ لا يفيد العلم كالكتاب ، فكما أنّ وجود الكتاب غير مضرّ في مطلوبه ، فكذلك السنّة المتواترة اللفظية ، والمستفاد من كلامه تسليم إفادة القطع على تقدير وجودها ، وسيجيء إن شاء اللّه ما يظهر به بطلان ما أبطل به البراءة الأصلية.

ثمّ إنّ قوله : « ويستوي الظنّ الحاصل من ظاهر الكتاب والظنّ المستفاد من غيره » يستقيم لو جاز تعارض الظنّين ، وظاهر بطلانه إلاّ أن يراد من أحدهما الظنّ النوعي ، أو يراد من التسوية بينهما تساويهما من حيث الحجّية بمعنى أنّ الظنّ الحاصل من الخبر مثلا كما يكون حجّة من جهة الظنون الخاصّة ، فكذلك الظنّ الحاصل من الكتاب فتأمّل.

ثمّ ابتناؤه على الوجه المزبور ممّا لم نقف له على ابتناء في زبر الأوّلين ، فإنّ غرضه لو كان من جهة حصول القطع للمشافه دون غيره ، فقد عرفت عدم اطّراده في المشافه أيضا ، وإن كان من جهة حجّيته من باب الظنون الخاصّة ، فقد مرّ ما يعمّ بالنسبة إلى المشافه وغيره ، ولو لا الإجماع قديما وحديثا ، لكفى في الحجّية لغير المشافه.

وأمّا ما قد يمنع من صحّة الإجماع ؛ للزوم الفحص لغير المشافه دون المشافهين ، فواضح الضعف ، فإن لزوم الفحص لا يلازم عدم الحجّية من جهة الظنون الخاصّة ، كيف؟ ومنشأ الفحص العلم الإجمالي بكثرة المتعارضات ، ومبنى عدم الحجّية عدم الدليل على الحجّية ، وأين أحدهما من الآخر؟

وأمّا قوله : « ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة الدالّين على اشتراك التكليف » ففيه عدم اختصاص الإجماع في صورة عدم وجود الخبر الجامع عليه ، بل الإجماع

ص: 101

قائم عليه في الصورتين كما عرفت ، وعدم جواز العمل بظاهر الكتاب في صورة المخالفة مع حجّية الخبر المخالف لا يقدح في حجّية الكتاب لو لم نقل بتعاضده كما هو الشأن في جميع المتعارضات.

ثمّ إنّ صالح العلماء قد وجّه كلام صاحب المعالم بتوجيه ، وكذا جمال المحقّقين قد وجّهه بتوجيه آخر ، ونحن أيضا نوجّهه بتوجيه لعلّه أوجه ، وبه يندفع جملة من الإيرادات المذكورة في كلامهم.

قال الأوّل : « قول صاحب المعالم : ويستوي ... » لمّا دفع بقوله : « فيحتمل » ما ذكره المورد أوّلا من أنّ الظنّ (1) المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، دفع بهذا ما أورده ثانيا بعد التسليم من أنّ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب ظنّ مخصوص ، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره.

ثمّ قال : وتوضيح الدفع أنّه إذا ثبت جواز حمل الظاهر على خلافه عند معارضة الخبر إيّاه ، صار الظاهر ظنّيا ويساوي (2) غيره ممّا يفيد غيره (3) في إفادة الظنّ وفي إناطة التكليف [ به ] ، وليس المراد أنّهما متساويان من جميع الوجوه ، فلا يرد أنّ هذا ينافي ما مرّ من الخبر الراجح (4).

ثمّ أفاد أنّ وجه مساواتهما في ذلك أمران :

أحدهما : ابتناء الفرق والحكم بأنّ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب من قبيل الشهادة ، فلا يعدل عنه إلى غيره ممّا يفيد الظنّ على كون الخطاب متوجّها إلينا ؛ إذ الصارف حينئذ هو الخبر وقد مضت (5) ذلك ، ولكن [ قد ] عرفت بحكم المقدّمة الثانية أنّ الخطاب ليس بمتوجّه إلينا ، بل إلى الموجودين في زمانه ، ويجوز أن يقترن به ما

ص: 102


1- في المصدر : الحكم. وما في المتن مطابق أيضا لنقل المفاتيح.
2- في المصدر والمفاتيح : ساوى.
3- في المصدر والمفاتيح : « ظنّا » بدل : « غيره ».
4- في المصدر : من أنّ الخبر أرجح منه. وكذا في المفاتيح من دون لفظة « أنّ ».
5- في المصدر والمفاتيح : منعت.

يدلّ (1) على إرادة خلافه قطعا ، والخبر حينئذ معرّف لا صارف.

وثانيهما : أنّ الإجماع والضرورة - الدالّين على مشاركتنا لهم في التكليف بظاهر الكتاب ممّا (2) تقتضيه المقدّمة الثانية - مختصّان بظاهر غير معارض للخبر (3) الجامع للشرائط الآتية ، المفيدة للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف الظنّ المستفاد بظاهر (4) الكتاب ، لأنّه لا إجماع ولا ضرورة على تلك المشاركة عند المعارضة فينتفي القطع به ، وينتفي كون الظنّ المستفاد منه من قبيل الشهادة أيضا فليتأمّل (5). انتهى.

وقال الثاني بعد الإشارة إلى ما ذكره في المعالم : فلا بدّ لنا من تحقيق الحال فيما ذكره في الجواب عن ذلك الإيراد لا يخلو عن تشويش ، وكأنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه بعد ما أبطل الإيراد [ الأوّل ] - من « لا يقال » وهو كون الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوما لما ذكره من الوجه - بما ذكره من كون أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وأنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه فيمن تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف من (6) الكلّ ، فيكون حاصل جوابه أنّ الإجماع والضرورة إنّما هو بالاشتراك (7) بيننا وبينهم فيما علمنا [ كانوا مكلّفين ] به لا في وجوب العمل بظواهر القرآن ، وحينئذ نقول : إن نحن (8)

ص: 103


1- في المصدر : يدلّهم. وفي المفاتيح : دلّ.
2- في المصدر والمفاتيح : كما.
3- في المصدر والمفاتيح : بالخبر.
4- في المصدر والمفاتيح : من ظاهر.
5- شرح معالم الدين : 232 ، هامش المعالم ( الطبعة الحجرية ) : 183. وعنه في مفاتيح الأصول : 474 قال بعد نقل كلام صاحب المعالم : ويظهر من سلطان المحقّقين رضاه بما قاله حيث إنّه أشار إليه ولم يجب عنه وكذلك يظهر ذلك من جدّي الصالح المازندراني في الحاشية ومن جمال الدين الخوانساري حيث إنّهما حقّقا ما ذكره مقتصرين عليه غير متعرّضين لردّه على ما ينبغي فقال الأوّل ... ثمّ ذكر كلامهما.
6- في المفاتيح : بين.
7- في المفاتيح : هما في الاشتراك.
8- في المفاتيح : « إنّا » بدل « إن نحن ».

لا نعلم كونهم مكلّفين بها (1) فيما لم يقترن به قرينة صارفة عنه ، وأمّا فيما اقترن بها ، فكانوا مكلّفين بمقتضى القرينة لا بالظاهر ؛ لاحتمال (2) أن يكون لهم قرينة صارفة عنه ، ولم تصل تلك القرينة إلينا ، فغاية الأمر أنّه لمّا لم يظهر تلك القرينة ، فيجوز أن يحصل لنا ظنّ بعدمها وبكونهم مكلّفين فيه بالظاهر ، وهذا ليس إلاّ مجرّد الظنّ ، ولم يقم على اعتباره بخصوصه (3) دليل قطعي حتّى يقال به : لأنّه (4) ظنّ مخصوص لا يلزم من اعتباره اعتبار كلّ ظنّ.

ثمّ قال : ولا يخفى أنّه لا يلائم الجواب (5) عند قوله : « فيحتمل » ولا حاجة إلى ضميمة ذلك ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى جواب آخر وهو أنّه يحتمل أن يكون من جملة تلك القرائن الموجبة للانتقال (6) عن الظاهر خبر الواحد ، وحينئذ ففيما وجد فيه خبر الواحد على خلاف ظاهر القرآن لا علم لنا بكونهم مكلّفين بظاهر القرآن حتّى يعلم منه كوننا أيضا مكلّفين به بل يحتمل أن يكونوا مكلّفين بمقتضاه في مثلهم (7) ، فلا يمكن لنا في مثله طرح الخبر والعمل بالظاهر بناء على إفادة (8) العلم ، أو لكونه مفيدا للظنّ (9) ؛ إذ قد ظهر انتفاء كليهما.

وثانيهما : أن يكون المراد وقوع الإجماع وقضاء الضرورة بكوننا أيضا مكلّفين بظاهر القرآن مثلهم وإن لم يشمل الخطاب لنا بكونه عامّا ، لكنّه يقول : إنّهم لم يكونوا مكلّفين بالظواهر مطلقا بل إذا لم تكن قرينة صارفة عنها كما ذكرنا ، فنحن أيضا بحكم

ص: 104


1- في المفاتيح : كونهم مكلّفين بظواهر القرآن في الجميع حتّى يعلم بضميمة الإجماع والظاهر كوننا أيضا مكلّفين بها.
2- في المفاتيح : لا بالظاهر وقد علمنا ذلك في مواضع بالإجماع ونحوه وعلى هذا ففيما لم نجد قرينة أيضا لا علم لنا بكونهم مكلّفين فيه بالظاهر لاحتمال.
3- في المفاتيح : اعتبار خصوصه.
4- في المفاتيح : يقال إنّه.
5- في المفاتيح : أنّه على هذا يتمّ الجواب.
6- في المفاتيح : الموجبة لهم الانتقال.
7- في المفاتيح : مكلّفين بمقتضى الخبر ويكون أيضا مكلّفين بمقتضاه مثلهم.
8- في المفاتيح : إفادته.
9- في المفاتيح : لظنّ مخصوص.

الإجماع والضرورة المزبورين نكون مكلّفين بالظواهر ، إذا لم تكن قرينة صارفة مطلقا ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون من جملة تلك القرائن خبر الواحد المفيد للظنّ ، ففيما وجد فيه ذلك ليس لنا علم بكوننا مكلّفين بالظواهر وطرح الخبر ، فما يستفاد من الظنّ فيه ليس علما ولا ظنّا مخصوصا قام على وجوب العمل به دليل ، وعلى هذا يكون تمام الكلام جوابا [ واحدا ].

لكن لا يخفى أنّه على هذا لا حاجة إلى التمسّك بحديث خطاب المشافهة واختصاصه بالموجودين ، بل يكفي فيه أنّ التمسّك بالظواهر لا ريب في اختصاصه بما إذا لم يقم قرينة صارفة عنها ، ويحتمل أن يكون أخبار الآحاد من جملة تلك القرائن ، فعلى هذا فمع وجود الأخبار الصارفة لا يحصل لنا العلم بالظواهر والظنّ (1) المخصوص فتدبّر (2). انتهى.

وأنت خبير بما فيهما بعد التدبّر لا سيّما الأخير منهما ، والتحقيق في التوجيه لكلام صاحب المعالم هو أن يقال : قوله : أحكام الكتاب كلّه من قبيل خطاب المشافهة ، وقوله : وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف ، إشارة إلى الجواب عن الشقّ الأوّل من الإيراد وهو كون الخطابات علميا (3) ؛ إذ من الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها كما ذكره.

وقوله : « وقد وقع ... » شروع في الجواب عن الشقّ الثاني من الاستدلال وهو كون الكتاب من الظنون الخاصّة ، فإنّ الأوّل لا ينهض بذلك بل إنّما هو منع إجمالي ، وهذا

ص: 105


1- في المفاتيح : من الظواهر ولا الظنّ.
2- عنه في مفاتيح الأصول : 474 - 475 ، وما بين المعاقيف منه ، ولم تذكر لآقا جمال الدين الخوانساري حاشية على المعالم وذكرت لوالده آقا حسين كما في الذريعة 6 : 206 ويحتمل أنّها وردت في بعض كتبه الأخر كحاشيته على شرح مختصر الأصول.
3- كذا. والصحيح : علمية.

بيان تفصيلي لبعض الأقسام بأنّه قد يعلم قيام القرينة بسبب الإجماع ونحوه ، وقد يشكّ كما في معارضة الخبر الجامع للشرائط المقرّرة في محلّه لها ، وكان الأنسب إلحاق قسم آخر وهو ما يعلم عدم صارف عنه أصلا ، ثمّ يبيّن بعده الحكم في صورة الشكّ ، وحكم بانتفاء القطع والتساوي في كونهما من الظنون المطلقة ، ثمّ علّل انتفاء القطع بما ذكره من الابتناء والتساوي باختصاص الإجماع والضرورة بغير صورة المعارضة مع الخبر الجامع للشرائط الآتية.

ص: 106

[ القول في الإجماع المنقول ]

اشارة

[ القول في الإجماع المنقول ] (1)

الثالث من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن تحت الأصل هو الإجماع المنقول ، واعلم أنّ النزاع في الإجماع المنقول - من أنّه هل هو من الظنون الثابتة بالدليل ، أو لا - إنّما يتأتّى لو قلنا بحجّية أخبار الآحاد بادّعاء عموم أدلّة الخبر وشمولها له ، أو بعدم شمولها له بدعوى أنّ الظاهر منها إنّما هو حجّية الأخبار الحسّية دون الحدسية كما هو التحقيق ، وأمّا لو لم نقل بحجّية أخبار الآحاد ، فلا ينبغي التوهّم في عدم خروجه عن تحت الأصل بواسطة قيام القاطع عليه.

والحقّ أن يقال : إنّ خروج هذا الإجماع موقوف على مقدّمتين :

إحداهما : عموم أدلّة الأخبار وشمولها له كما قلنا.

وثانيتهما (2) : أن يكون الإجماعات المنقولة في كتب أصحابنا التي يستدلّ بها في المسائل الفرعية موافقة لما اصطلح عليه علماؤنا وهو الاتّفاق الكاشف عن دخول الإمام عليه السلام في المجمعين أو عن رضائه عليه السلام ، وكلتاهما بمكان من المنع عندنا ، سواء كان الإجماع المذكور محكيّا بطريق القدماء ، أو المتأخّرين ، فإنّ الأوّل منهما إخبار عن دخول قول المعصوم عليه السلام في أقوال المجمعين بطريق الحدس. والثاني منهما إخبار برضاه عليه السلام بطريق الحدس أيضا ، وتفصيل ذلك موكول إلى بحث الأخبار والإجماع ، فلا وجه

ص: 107


1- العنوان من هامش « ش ».
2- « ش » : ثانيهما.

للتعرّض لهما (1) فيما نحن فيه إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم إجمالا أنّ شمول أدلّة الأخبار للأخبار الحدسية يلازم جواز تقليد المجتهدين ، فإنّ المراد من الخبر حينئذ ما يقابل الإنشاء ، وفتوى المجتهد خبر عن قول الإمام ، أو عن رضاه عليه السلام وبطلان اللازم كالملازمة واضح.

ولا دليل على لزوم حمل الإجماعات في كلمات أصحابنا كالشيخ والسيّد وأضرابهما على المعنى الاصطلاحي إلاّ ما قد يتخيّل من أصالة إرادة كلّ متكلّم عن كلّ لفظ له فيه اصطلاح المعنى الذي اصطلح عليه (2) ما لم يدلّ على خلافه دليل ، وهذا أيضا غير مقيّد في المقام ؛ لوجود موهنات كثيرة للحمل على هذا المعنى مثل أنّ جملة من الإجماعات المنقولة مخالفة لما اشتهر بينهم بل بعض مدّعي الإجماع قد ناقضه بنفسه في كتاب آخر ، بل في باب آخر ، وبعض آخر منهم قد صرّحوا بأنّ دعوى الإجماع مبنيّة على كون مدارك المسألة إجماعية ، فقد ذكر المحقّق (3) في بعض الموارد أنّ دعوى الإجماع فيه لكون دليل المسألة البراءة واعتبارها إجماعي ، ولا ريب أنّ بعد ملاحظة هذه الموهنات لا يبقى بعد وثوق بإرادة المعنى المصطلح منها.

لا يقال : فيلزم فسقهم من جهة تدليسهم و (4) حاشاهم عن ذلك.

لأنّا نقول : إنّما يلزم ذلك لو علمنا أنّ مقصودهم من الإجماع أن يكون دليلا لمن تأخّر عنهم ولم يعلم.

ثمّ [ إنّ ] لبعض أفاضل متأخّري المتأخّرين - وهو الشيخ الأجلّ الشيخ أسد اللّه الدزفولي (5) - مسلكا آخر في اعتبار الإجماع المنقول ، وحاصله الفرق والتفصيل بين الإجماع الكاشف عن رضا المعصوم ونقله ، وبين نقل المنكشف ، وتحقيقه أنّ الإجماع

ص: 108


1- « ل » : لها.
2- « ل » : فيه.
3- الرسائل التسع : 216 في توجيه كلام السيّد المرتضى.
4- « ل » : - و.
5- كشف القناع : 400.

المدّعى على أمر يتضمّن أمرين :

أحدهما : إخبار مدّعي الإجماع باتّفاق العلماء وإطباقهم عليه.

وثانيهما : إخباره برضا المعصوم عليه السلام من حيث الاتّفاق في وجه ، أو بدخول المعصوم في وجه آخر.

والأوّل إخبار من العادل على (1) أمر حسّي وهو موافقة فتاوى المجمعين جميعا ، والثاني إخبار منه على أمر حدسي.

ودعوى عدم انتهاض أدلّة قبول خبر العدل إنّما هو (2) في الثاني ، وأمّا الأوّل فمن المعلوم اندراجه في دليل اعتبار خبر العادل على تقدير دلالته عليه وحيث إنّ الخبر المذكور معنى قبوله ترتيب (3) آثاره الواقعية على ما أخبر به ، فلا مناص من القول باعتباره ، فإنّ من جملة اللوازم العادية للاتّفاق كشفه عن رضا الإمام ومطابقته لقول المعصوم ، فلا بدّ من الالتزام بلوازمه ، فإنّ الأخذ بشيء أخذ بلوازمه ولو بحسب العادة فلكلّ إجماع منقول في لسان عدل جهتان : جهة إخباره عن الاتّفاق الملزوم عادة ، لمطابقته لقول الإمام عليه السلام مثلا ، وجهة إخباره عن رضا المعصوم ، أو عن قوله بواسطة حدس ، أو تخمين منه ، فيقبل منه من الجهة الأولى كما فيما لو أخبر مائة عدل بسماعه عن مائة عدل أنّ زيدا مثلا قد مات ، وقضيّة حجّية إخبار العدل تنزيله منزلة الواقع ، والأخذ بلوازمه العادية والعقلية والشرعية ، ومن اللوازم العادية لإخبار مائة عدل (4) مطابقة الخبر مثلا للواقع ، فيترتّب عليه آثار موت زيد ، ولا يقبل من الجهة الثانية ؛ لأنّ مرجعه إلى حجّية قطع الغير لغيره ولا دليل عليه. مضافا إلى لزوم الهرج والمرج على تقديره.

ومن هنا ينقدح لك أنّ جريان هذا الوجه إنّما هو فيما لو عبّر عن المقصود بلفظ

ص: 109


1- « ل » : في.
2- كذا. والأنسب : هي.
3- « ل » : ترتّب.
4- « ل » : عادل.

الإجماع ونحوه من الألفاظ الدالّة على الاتّفاق كاتّفقت العصابة ، أو أجمعت الأمّة ونحوها ، وأمّا لو قال مثلا بلفظ آخر لا يدلّ على الاتّفاق ، فلا عبرة به قطعا كما فيما لو قال : « قطعا » ونحوه.

فإن قلت : إنّ مقتضى التعبّد بخبر الواحد لا يزيد على الأخذ بنفسه ، وأمّا إجراء أحكامه العادية ولوازمه العقلية فلا ، كما في الأصول المثبتة على ما سيجيء تحقيقه إن شاء اللّه.

قلت : ذلك في الاستصحاب وأمثاله - من الأمور التعبّدية التي من الطرق الظاهرية - كذلك ، فإنّ نظر الشارع في جعل تلك الطرق ليس إلى الواقع ، وأمّا في الأدلّة الاجتهادية كخبر الواحد وأمثاله ، فليس كذلك ، فلو أخبرنا عدل (1) بوجود النار في محلّ ، لا بدّ من الأخذ بلوازمه العادية كالإحراق ، والعقلية كالحرارة مثلا كما لو أخبرنا بطلوع الشمس فنحكم باستضاءة العالم ونحوه ، إلاّ أنّه لا بدّ وأن يعلم بأنّ العامل بالإجماع إذا لم يأخذ بما ادّعاه العدل من الانكشاف ، وأخذ (2) بمجرّد الكاشف ، فتارة على وجه يحصل له الكشف من الكاشف المنقول ، وأخرى لا يحصل.

وعلى الأوّل ، فلا إشكال في حجيته لو كان الكاشف والكشف قطعيا ، وإلاّ فهو طريق ظنّي مبنيّ حجّيته على اعتبار مطلق الظنّ ، وستسمع الكلام فيه عن قريب بما لا مزيد عليه إن شاء اللّه.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل (3) : أنّه بناء على هذا المسلك ينبغي أن لا يكون فرق بين نقل الإجماع والشهرة كما لا يخفى سيّما بعد ملاحظة انطباق فتاويهم بالنصوص غالبا ؛ فإنّ السلف

ص: 110


1- « ل » : عادل.
2- « ل » : الأخذ.
3- « ل » : الأمر الأوّل.

كانوا يأخذون بفتاوى الشيخ أبي الحسن عليّ ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ، فإنّ الشهرة قد تكون أدخل في كشفها عن وجود أمارة قطعية على الحكم خصوصا فيما إذا كان الحكم على خلاف الأصول والقواعد ، ولا سيّما إذا كانت المسألة مشهورة بين قدماء أصحابنا كالشيخ ومن قبله ، ولا سيّما إذا كانت عظيمة تكاد تبلغ حدّ الإجماع ، وكان المخالف فيها معدودا في زمرة الشذوذ ، بل قد يمكن الكشف على تقدير نقل اتّفاق جماعة كثيرة ، وتحصيل اتّفاق جماعة أخرى على أن يكون الكشف مستندا إلى المنقول والمحصّل ، فتأمّل ؛ فإنّ الشهرة المحكية قد يحتمل أن تكون أقوى من الإجماع المنقول.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المسلك إنّما يتمّ على تقدير عموم أدلّة الخبر الواحد بنقل فتاوى العلماء لا انحصاره فيما إذا حصل من النقل الاطمئنان.

وقد يفهم من كلام القائل هذا لزوم الأخذ بالكاشف تعبّدا ؛ ثمّ الاستكشاف فقد يورد عليه بأنّ الكشف لا يتأتّى فيه التعبّد كما لا يخفى ، ولذلك وجّهنا كلامه بما مرّ من الأخذ باللوازم العادية للخبر على تقدير قبول الخبر تعبّدا كما في البيّنة ، فإنّه يؤخذ بلوازم الموضوع الثابت بها.

الثاني : قد حكي عن ثاني الشهيدين والمحقّقين في شرح الألفية وجامع المقاصد (1) ثبوت التواتر فيما كان التواتر فيه معتبرا لو كان منقولا بخبر الواحد العدل ، فإنّ قضية الأدلّة الدالّة على وجوب اتّباع قول العادل ذلك ، ومن هنا قد حكما بصحّة القراءة بقراءة ما عدا السبعة من القرّاء العشرة ، وهم مشايخ القراءة : أبو جعفر وخلف

ص: 111


1- المقاصد العلية في شرح رسالة الألفية : 244 - 245 ، وفي ط الحجري : 137 ؛ جامع المقاصد 2 : 246 نقلا ذلك عن الشهيد فقط دون العلاّمة وسيأتي نصّ كلامه في مخالفة ذلك في التعليقة التالية. وقال في هامش فرائد الأصول 1 : 229 : ويبدو أنّ المصنّف اعتمد في ذلك على ما نقله السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : 326.

ويعقوب ، مع عدم كون قراءتهم متواترة لنقل العلاّمة والشهيد في الذكرى تواترها (1).

قال الشهيد الثاني في روض الجنان بعد نقل الشهرة عن المتأخّرين وشهادة الشهيد على التواتر قال : ولا يقصر ذلك عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد ، فيجوز القراءة بها (2).

واعترض عليه (3) في المدارك (4) بأنّ ما اشترط فيه التواتر لا يكفي فيه نقل التواتر ، إذ النقل لا يجعل المنقول متواترا بل هو تواتر منقول.

والتحقيق أنّ اعتبار التواتر المنقول يتوقّف على أمرين :

أحدهما : أن يكون ناقل التواتر مصرّحا بعدد المخبرين من حيث إنّ التواتر أيضا كالإجماع يشتمل على خبر حسّي ، وعلى خبر حدسي والأوّل معتبر دون الثاني ؛ لعدم انصراف الأدلّة إليه ، فيقبل منه في جهة الكاشف دون المنكشف ، وإن حصل الكشف ، فهو ، وإلاّ فيحكم به من جهة أنّ الكشف من جملة اللوازم العادية لإخبار مائة مخبر.

وثانيهما : أن يكون ما دلّ على اشتراط التواتر فيما اشترط به دالاّ على اشتراط التواتر ولو لم يكن معلوما بالعلم الوجداني بل لو كان معلوما بالعلم الأعمّ من الوجداني والشرعي ، لكان أيضا كافيا ، فإنّه بعد تحقّق هذين الأمرين لا شكّ أنّه ممكن الاكتفاء بالتواتر المنقول ، وأمّا إذا لم يكن أحد الأمرين متحقّقا ، فلا يكتفى ،

ص: 112


1- الذكرى 3 : 305 ، وفي ط الحجري : 187 وخالف ذلك العلاّمة قال في تذكرة الفقهاء 3 : 141 وفي ط الحجري 1 : 115 : يجب أن يقرأ بالمتواترات من القراءات وهي السبعة ، ولا يجوز أن يقرأ بالشواذّ ، ولا بالعشرة ، وجوّز أحمد قراءة العشرة. قال في منتهى المطلب 1 : 273 ط الحجري : يقرأ بما نقل متواترا في المصحف الذي يقرأ به الناس أجمع ، ولا يقول على ما يوجد في مصحف ابن مسعود ؛ لأنّ القرآن ثبت بالتواتر ومصحف ابن مسعود لم يثبت بتواتر ، ولو قرأ به بطلت صلاته خلافا لبعض الجمهور ... يجوّز أن يقرأ بأيّ قراءة شاء من السبعة ؛ لتواترها أجمع ، ولا يجوّز أن يقرأ بالشاذّ ، وإن اتّصلت روايته تواترها. ونحوه قال في تحرير الأحكام 1 : 245.
2- روض الجنان 2 : 700 وفي ط الحجري : 264.
3- « ش » : عليهما.
4- المدارك 3 : 338.

وبهذا العلم وجد الاختلاف الحاصل بين هؤلاء الأعلام ، فتأمّل.

الثالث : أنّ الإجماع المنقول على القول بحجّيته يجري عليه أحكام الخبر من حيث المتن والسند والمعارض ، فبملاحظة السند ينقسم إلى الصحيح والضعيف ، ومن حيث المتن إلى المطلق والمقيّد ، ومن حيث المعارض إلى أقسام التعارض الحاصلة من اختلاف النسب بين المتعارضين.

الرابع : الظاهر من قدماء أصحابنا بل وجماعة من المتأخّرين أنّهم لم يصطلحوا في الإجماع اصطلاحا جديدا بل إنّما اتّبعوا في ذلك ما اصطلحوا (1) العامّة عليه ؛ حيث عرّفوه بأنّه اتّفاق المجتهدين. ولقد صرّح بذلك في أصول الغنية (2) حيث حصر الأدلّة في غير الإجماع ، ثمّ أورد بأنّ الحصر لا يصحّ مع أنّ الإجماع أيضا منها.

ثمّ أجاب عنه بأنّ الإجماع كان من الأدلّة عند العامّة ، ولمّا عرضوه علينا [ و ] رأينا أنّه لا بدّ أن يكون حجّة من جهة الكشف عن دخول الإمام عليه السلام أو رضاه ، قلنا (3) به ، فعلى هذا ، فما يوجد كثيرا - من الإجماع المنقول في لسان السيّد والشيخ وأضرابهما ممّا يكون المخالف موجودا - لا يمكن أن يحمل على ما هو المصطلح عندهم إلاّ إذا كان المخالف في غاية الشذوذ بل لا بدّ من الحمل على أنّ مدار الحكم ومدركه إجماعي ، أو نحو ذلك.

نعم ، يمكن الحمل على المعنى المصطلح عندهم إذا فرض الغفلة والاشتباه وأمثال ذلك ممّا هو مدفوع بالأصل وعلى تقديره لا يمكن العمل به.

ص: 113


1- على لغة « أكلوني البراغيث ».
2- الغنية ( المطبوع في الجوامع الفقهية ) : 478.
3- جواب « لمّا ».

ص: 114

[ القول في الشهرة ]

[ القول في الشهرة ] (1)

الرابع من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن الأصل المذكور الشهرة.

قال الشهيد : وألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه ، فإن أراد في الإجماع ، فهو ممنوع ، وإن أراد في الحجّية ، فهو قريب (2) لمثل ما قلناه ، ولقوّة الظنّ في جانب الشهرة (3).

والمراد بقوله (4) : « لمثل ما قلناه » ما علّله به حجّية ما « لو أفتى جماعة ولم يعلم لهم مخالف من أنّ عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم ، ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل خصوصا ، وقد تطرّق التغيّر (5) إلى كثير من الأحاديث ، لمعارضة الدول المخالفة ، ومباينة الفرق المنافية ، وعدم تطرّق الباقين إلى الردّ له مع أنّ الظاهر وقوفهم عليه مع أنّهم لا يقربون (6) ما يعلمون خلافه - إلى أن قال - : وقد كان الأصحاب يتمسّكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ، لحسن ظنّهم به وأنّ فتواه كروايته ، وبالجملة تنزّل فتاويهم منزلة رواياتهم » (7).

ص: 115


1- العنوان من هامش « ش ».
2- في المصدر : في الحجّة فقريب.
3- الذكرى 1 : 51 - 52 وفي ط الحجري : 5 ( الخامس ).
4- « ش » : من قوله.
5- في الذكرى : الدروس.
6- في الذكرى : لا يقرّون.
7- الذكرى 1 : 51 ( الرابع ).

وأورد عليه في المعالم بقوله : وهذا الكلام عندي ضعيف ؛ لأنّ العدالة إنّما يؤمن معها تعمّد الإفتاء بغير ما يظنّ بالاجتهاد دليلا ، وليس الخطأ بمأمون على الظنون (1).

وفيه نظر ؛ لأنّ (2) الظاهر أنّ مراد الشهيد ما يكون كاشفا كشفا قطعيا عن مدرك قطعي بقرينة الاستشهاد بأنّ الأصحاب كانوا يتمسّكون بها ، وتنزيل الفتاوي منزلة النصوص ، فإنّ المعهود من القدماء موافقة فتاويهم غالبا لألفاظ النصوص ، ولا ريب في حجّية مثل هذه الشهرة ، فإنّ الاعتماد حينئذ على المدرك المعلوم بالإجمال من طريق الشهرة ، ولا فرق بين أن يكون المدرك معلوما تفصيلا ، أو إجمالا كما أنّه لا ريب في إمكان هذا الكشف سيّما إذا كانت المسألة مخالفة للأصول والقواعد المقرّرة في المذهب ، وخصوصا فيما إذا كان المخالف شاذّا نادرا مع ظهور اختلاف مشارب العلماء في كيفية الأحكام ، وربّما يشعر بذلك عدّه قوّة الظنّ دليلا آخر ، فسقط ما زعمه صاحب المعالم ، فإنّ بعد المقدّمات المذكورة لا يحتمل تطرّق الخطأ بظنونهم.

ثمّ إنّه لا كلام في حجّية الشهرة من حيث الكشف كما أنّه لا كلام من حيث دخولها تحت الدليل الرابع ، وبرهان الانسداد على تقدير تماميته ، بل الكلام في المقام في أنّه هل دلّ دليل خاصّ على اعتبار الشهرة ، أو لا؟ فقد توهّم بعضهم (3) ذلك مستندا إلى وجهين :

الأوّل : فحوى ما دلّ على حجّية أخبار الآحاد ، فإنّ الشهرة قد تكون أقوى ظنّا منه ، ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، وقد وقع نظير ذلك للشهيد (4) في الحكم بحجّية الذياع والشياع بفحوى ما دلّ على حجّية الشهادة ، وقد سمّاه بعضهم بمفهوم الموافقة.

وفساده أظهر من أن يخفى على ذي مسكة ؛ لأنّ الدليل الدالّ على حجّية الخبر لو

ص: 116


1- معالم الدين : 176.
2- « ش » : فإنّ.
3- انظر مفاتيح الأصول : 498 - 499.
4- روض الجنان 2 : 1025 وفي ط الحجري : 384 ؛ مسالك الأفهام 14 : 230 وفي ط الحجري 2 : 327.

كان من باب الظنّ ، فليس الاقتصار على الشهرة في محلّه ، وإلاّ فلا وجه للاستناد إليه ، مضافا إلى ما في دعواه الإجماع المركّب من الوهن.

وأمّا تسمية ذلك بمفهوم (1) الموافقة ، فإنّما هو مجرّد تغيير في العبارة ، فإنّها أولوية صرفة ومفهوم الموافقة ما يكون مستفادا من اللفظ كآية التأفيف ، ومنه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني أيضا.

الثاني : ظواهر جملة من الروايات ، فمنها : مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق عليه السلام في اختلاف الحاكمين قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند (2) أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (3).

والتقريب أنّ قوله عليه السلام : « ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور » دالّ على لزوم أخذ الشهرة وحينئذ لا بدّ أن يكون قوله : « فإنّ المجمع عليه » (4) هو المشهور.

ومنها : مرفوعة زرارة عن الباقر عليه السلام قال : سألت الباقر عليه السلام : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟ فقال : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر ... » (5).

تقريب الاستدلال (6) أنّ لفظة « ما » في الحديث عامّ ، فيلزم الأخذ (7) لكلّ مشهور ؛ لمكان الأمر به.

ص: 117


1- في النسختين : بالمفهوم.
2- في النسختين : من.
3- الوسائل 27 : 106 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 2. وستأتي بتمامها في ج 3. ص 576.
4- « ل » : + لا ريب فيه.
5- عوالى اللآلى 4 : 133 / 21413 وعنه في بحار الأنوار 2 : 245 ، باب 29 ، ح 57 ، ومستدرك الوسائل 17 : 303 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 2. وستأتي بتمامها في ج 5. ص 582.
6- « ش » : والتقريب.
7- « ش » : - الأخذ.

والجواب : أمّا عن الأولى منهما أنّ صدر الرواية وذيلها يعطي أن يكون الشهرة على معناها لغة ، يقال : سيف شاهر أي عار ، وشهر سيفه أي أعراه ، فالرواية المشهورة حينئذ ما لا يخفى على أحد ، فيصحّ إطلاق المجمع عليه عليها ، ولا احتياج إلى ارتكاب مثل ذلك التأويل البعيد ، والرواية الغير المشهورة ما لا يكون بهذه المثابة ، فيكون في العمل بها ريب ، فظهر وجه التوصيف والتعليل أيضا.

وأمّا عن الثانية ، فبعد الغضّ عن ضعفها عدم عموم لفظة « ما » بالنسبة إلى الفتاوى كما هو محل الكلام ، وعلى تقدير التسليم فمعناها قد عرفت في الأولى ، مضافا إلى أنّ التمسّك بأمثال الروايات في أمثال المقام قد يكون دوريا على بعض الوجوه إلاّ أن يقال : إنّها من الظنون الخاصّة ، فتأمّل.

ثمّ إنّ بعض (1) من ادّعى انطباق الرواية على حجّية الشهرة فسّر الفقرة الموجودة في الرواية الأولى - وهي قول الراوي : كلاهما مشهوران - بأنّها من جهة التعارض بين شهرة القدماء وشهرة المتأخّرين ، ولعمري إنّه كلام سخيف يكاد تضحك منه الثكلى.

ص: 118


1- وسيأتي عن البعض في بحث التعادل والتراجيح : ج 4 ، ص 588.

[ القول في حجّية خبر الواحد ]

اشارة

[ القول في حجّية خبر الواحد ] (1)

الخامس : من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن الأصل المذكور هو خبر الواحد.

واعلم أوّلا أنّه قد يتوهّم أنّ التركيب (2) في قولهم : « خبر الواحد » توصيفي كقولهم : « الخبر المتواتر » و « الخبر المستفيض » ونحو ذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل الحقّ (3) أنّه تركيب إضافي ، ويشهد على ذلك صحّة قولهم : « تواترت الأخبار واستفاضت الآثار » دون قولهم : « اتّحدت » فالتواتر وصف للرواية نفسها بخلاف الوحدة ، فإنّها وصف لها باعتبار راويها ، وعلى هذا فلا بدّ من التخريج على بعض الوجوه ما قد يتراءى على خلاف ذلك ، كقولهم الرواية من الآحاد.

وكيف كان ، فالكلام في خبر الواحد يقع في جهات ثلاثة ، وكذا في كلّ دليل لفظي :

الأولى من حيث صدوره عن الحجّة.

الثانية من حيث جهة صدوره كأن يكون على وجه التقية أو لا على وجهها.

الثالثة من حيث الدلالة.

وقد سبق الكلام في الجهة الثالثة في الكتاب والسنّة بأقسامها وغيرهما ، فلا نطيل بإعادته.

ص: 119


1- العنوان من هامش « ش ».
2- « ل » : التركّب.
3- « ش » : التحقيق.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية ، فالكتاب والأخبار النبوية معلومة جهة صدورهما ؛ حيث إنّه لا معنى للتقية هناك.

وأمّا الأخبار الإمامية - ولو كانت متواترة - فيحتمل صدورها على وجه الاتّقاء إلاّ أنّ التقية هي التورية على ما اقتضته المصلحة ، ولا يصار إليها إلاّ بعد دلالة دليل عليها ، وعلى تقدير عدمه فالأصل عدمها.

مضافا إلى أنّ الظاهر من الكلام على ما تقدّم أن يكون مسوقا لبيان ما هو المتعارف استفادته منه في العادة.

وأمّا الكلام في الجهة الأولى ، فالكتاب قطعي الصدور ، ولا حاجة إلى تجشّم استدلال كما قد ارتكبه البعض ، وكذا السنّة المتواترة على تقدير وجودها.

وأمّا أخبار الآحاد ، فهي العمدة في المقام ، فذهب بعض قاصري الدراية من الأخبارية إلى أنّ صدورها قطعي ، واستند في ذلك الفاضل المحدّث الحرّ العاملي (1) إلى وجوه تبلغ ثلاثة وثلاثين.

وأورد أمينهم في فوائده (2) وجوها عديدة متقاربة لا دلالة في كلّها فضلا عن بعضها على المدّعى.

واستقربه المحدّث البحراني (3) ، وحيث إنّ فساد الدعوى بمكان من الوضوح ، فلا غائلة في الانصراف عنها إلى ما هو أهمّ.

وذهب جملة منهم إلى أنّها قطعية اعتبارا بواسطة شهادة المؤلفين على صحّة مؤلّفاتهم ، وتبعهم في ذلك بعض الأصوليين (4) إلاّ أنّه اشترط شرطين :

ص: 120


1- لم أجده. انظر وسائل الشيعة ( الخاتمة ) 30 : 193 وما بعدها ؛ تحرير وسائل الشيعة : 138 و 209.
2- انظر الفوائد المدنية : 136 وما بعدها ، 174 - 178. وفي ط الحجري : 63 وما بعدها ،2. 89.
3- انظر الدرر النجفية : 166 - 169.
4- كالتوني في الوافية : 166.

أحدهما : أن لا يكون الرواية مخالفة لما ذهب إليه المشهور.

وثانيهما : أن تكون الرواية مأخوذة من الأصول المعتمدة.

وذهب جملة من أرباب الأصول إلى أنّها حجّة من جهة الظنون الخاصّة وهم جماعة كثيرة بين من يعتبر أوصاف الراوي ، ومن يعتمد على أوصاف الرواية كالمحقّق (1) على ما حكي عنه من اعتباره كون الرواية معمولا بها بين الأصحاب.

فالفرقة الأولى افترقوا على فرق ، فمنهم من يقتصر على الصحاح الأعلائية ، ومنهم من يتجاوز إلى المشهورية منها ، ومنهم من أضاف إليها الموثّقات ، ومنهم من زاد عليها الحسان ، وذهب جماعة من المتأخّرين إلى أنّها حجّة من حيث اندراجها تحت مطلق الظنّ ، وهم أيضا بين فرق كثيرة تعرف وجوه التفصيل فيما سيأتي ، ولا بدّ لنا من التكلّم في مقامين :

أحدهما : في بيان أصل الحجّية قبالا لمن أنكرها رأسا كالسيّد ونحوه.

وثانيهما : في بيان اكتفاء الحجّة في الاستنباط وعدم الحاجة إلى التعدّي إلى الظنون المطلقة.

فنقول في المقام الأوّل : إنّه ذهب جماعة من القدماء كالسيّد المرتضى وابن زهرة وابن برّاج وابن إدريس (2) إلى عدم الحجّية بل ادّعى السيّد الضرورة من مذهب الإمامية على عدم جواز الاتّكال عليه ، وعزى إلى ظاهر الشيخ في أوائل التهذيب وإلى ابن بابويه ، وإلى المحقّق أيضا بل في محكيّ الوافية (3) للفاضل التوني عدم تصريح الطائفة بحجّيته قبل زمان العلاّمة ، والمشهور بين المتأخّرين هو الحجّية.

ص: 121


1- انظر معارج الأصول : 212 - 213 ؛ المعتبر 1 : 29.
2- الذريعة 2 : 528 ؛ رسائل السيّد المرتضى 1 : 24 وما بعدها 210 ، و 3 : 125 و 269 و 309 ؛ غنية النزوع : 329 ؛ جواهر الفقه : 267 ؛ السرائر 1 : 51 و 267 و 271 و 309 و 330 و 334 و 382 و 394 و 431 و 447 ، و 2 : 53 و 58 و 96 و 223 و 520 ، وعنهم في معالم الدين : 189 وزبدة الأصول : 91 والوافية : 158.
3- الوافية : 158.

حجّة المانعين وجوه :

الأوّل : الأخبار والآيات الناهيتان (1) عن العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم.

وجوابه أنّه على تقدير عمومهما وعدم اختصاصهما بأصول الدين ، أو ما يتّهم المسلمين مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة الساطعة والبراهين القاطعة.

الثاني : الإجماع المحكي ، في لسان السيّد وابن إدريس (2).

وجوابه : أنّه (3) بعد ما ستعرف من الوجوه لا يفيد الظنّ فضلا عن العلم ، فلو لم ندّع الإجماع على خلافه ، فلا أقلّ من دعوى عدم قيام الإجماع عليه ، كيف؟ والشيخ مع حذاقته في الأخبار وخبرته بالفقه قد ادّعى الإجماع على خلافه (4) وإن أمكن التوفيق بين الإجماعين ، فإنّ السيّد (5) قد فسّر القطع بما يفيد سكون النفس والاطمئنان الذي هو علم عرفي ، فلعلّه قد خصّ حجّية الأخبار بصورة حصول الظنّ الاطمئناني المسمّى عنده بالعلم كما يعلم من مطاوي كلماته (6) ، فإنّ العلم قد يتسامح فيه عند أهل العرف فيستعمل في الاطمئنان وإن احتمل الخلاف عقلا أو عادة ، والعلم الحقيقي هو ما لا يحتمل الخلاف ، فتارة بالعقل كأن يستلزم فرض وقوعه محالا عقليا كالعلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، والعلم بأنّ الممكن في وجوده يفتقر إلى موجب موجد له ، ففرض وقوع الخلاف يوجب اجتماع النقيضين فيهما. وأخرى بالعادة بمعنى أنّ فرض الخلاف لا يستلزم محالا عقليا إلاّ أنّه ينافي ما هو المعهود في العادة منه كانقلاب الجبل العظيم ذهبا ، فإنّ فرض وقوعه لا يوجب محالا لكنّه غير محتمل عادة ، فالعلم العادي كالعلم العقلي في عدم احتمال الخلاف عقلا في الثاني وعادة في الأوّل بل قد يمكن أن

ص: 122


1- « ل » : الناهيات.
2- رسائل السيّد المرتضى 1 : 24 و 203 و 211 ، و 3 : 309 ؛ السرائر 1 : 330 ، و 2 : 96.
3- « ل » : أنّ.
4- عدّة الأصول 1 : 126.
5- الذريعة 1 : 20.
6- « ل » : كلامه.

يقال إنّ العلم العادي أقوى من العلم العقلي ، لوضوح المعلوم فيها من حيث وصوله مرتبة البداهة كما لا يخفى.

وأمّا العلم العرفي المسمّى بالاطمئنان ، فلا ينافي احتمال الخلاف لا عقلا ولا عادة.

وقد يتمسّك في الجمع بين الإجماعين بوجوه ضعيفة سيجيء ذكرها في محلّه.

الثالث : أصناف من الروايات ، فمنها : ما دلّ على اشتراط العلم في العلم بخبر الواحد مثل ما رواه [ محمّد بن ] الحسن الصفّار في بصائر الدرجات وابن إدريس في مستطرفات السرائر وأوّله والعلاّمة المجلسي في البحار على ما هو المحكيّ عنهم عن أبي الحسن الثالث عليه السلام قال الراوي : وسألته عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك ، ثمّ (1) قد اختلف علينا فهمه (2) ، كيف العمل به على اختلاله فيما اختلف منه؟ قال عليه السلام (3) : « ما علمتم أنّه قولنا ، فالزموه ، وما لم تعلموه فردّوه إلينا » (4).

وجوابه أنّه خبر الواحد غاية ما يستفاد منه الظنّ ولم يعلم أنّه من قولهم عليهم السلام ، مضافا إلى أنّه مرسلة مع أنّها مكاتبة ، فلا ينهض بإثبات المدّعى (5).

ومنها : ما دلّ على اشتراط وجود شاهد أو شاهدين من كتاب اللّه أو سنّة رسوله صلى اللّه عليه وآله على صدق الرواية في جواز العمل به كما في رواية جابر [ عن الباقر عليه السلام ] قال : « انظروا إلى (6) أمرنا وما جاءكم منّا ، فإن وجدتموه للقرآن موافقا ، فالزموه ، وإن اشتبه الأمر عليكم ، فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم [ من ذلك ] ما شرح لنا » (7).

ص: 123


1- في المصادر : - ثمّ.
2- في المصادر : فيه.
3- في البصائر ونقل البحار عنه : على اختلافه إذا نردّ إليك فقد اختلف فيه فكتب وقرأته. وفي السرائر ونقل البحار عنه : على اختلافه أو ( البحار : و ) الردّ إليك فيما اختلف فيه فكتب.
4- بصائر الدرجات : 524 ، باب 20 ، ح 26 ؛ السرائر 3 : 584 ؛ بحار الأنوار 2 : 241 و 245 ، باب 29 ، ح 33 و 55. وسيأتي في ج 4، ص 649 - 650.
5- « ش » : الدعوى.
6- في المصادر : - إلى.
7- الوسائل 27 : 120 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 37.

والتقريب أنّ المانعين من العمل بخبر الواحد إنّما يعمل (1) بالأخبار المحفوفة بقرائن تدلّ على صدقها ، فهم إنّما يمنعون منها (2) ما لم تكن محفوفة بالقرينة ، ولا شكّ أنّ المراد بالقرينة إنّما هو أحد الأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ، والرواية المذكورة تنفي الحجّية عمّا لم يكن شاهدا (3) عليها من الكتاب والسنّة.

وأمّا الإجماع والعقل ، فالإهمال فيهما إنّما لوضوح الحال فيهما حيث إنّ المسألة بعد ما كانت من المستقلاّت العقلية أو معقدا للإجماع ، فلا حاجة إلى التمسّك بالرواية فضلا عن قطعيتها والعلم بمطابقة مفادها للواقع.

ومن هذا الصنف موثّقة ابن بكير عن أبي جعفر (4) عليه السلام قال : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه ، فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثمّ ردّوا إلينا حتّى يستبين لكم » (5).

ومقبولة عمر بن حنظلة (6) وروى الشيخ السعيد قطب الدين الراوندي عن ابن بابويه قال : أخبرنا سعد بن عبد اللّه ، عن يعقوب بن [ ي ] زيد ، عن محمّد ابن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ لكلّ (7) حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف فدعوه » (8) إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المدّعى تواترها.

ص: 124


1- كذا. والصحيح : يعملون.
2- « ش » : عنها.
3- « ش » : شاهد.
4- في المصادر : ابن بكير عن رجل عن أبي جعفر.
5- الوسائل 27 : 112 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 18. وسيأتي في ج 5. ص 650.
6- الوسائل 27 : 106 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 1. وسيأتي في ج 6. ص 576 - 578.
7- في المصادر : على كلّ.
8- الفوائد المدنية : 382 وفي ط الحجري : 187 ؛ الوسائل 27 : 119 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 35 نقلا من رسالة الراوندي التي ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها. وسيأتي في ج 8. ص 589.

ومنها : الأخبار الآمرة بطرح ما خالف الكتاب ، وأنّها زخرف واضربوه على الجدار ممّا قد سبق بعضها (1).

والتقريب في هذه الأخبار بالنسبة إلى الأخبار المخالفة للكتاب ظاهر ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها ، فلا يتمّ إلاّ بدعوى أنّ الكتاب الكريم ولو على نحو العموم إنّما اشتمل على جميع الأحكام كقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) وقوله : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (3) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (4) إلى غير ذلك من العمومات المشتملة على جلّ الأحكام أو كلّها ؛ إذ ليس المراد من المخالفة خصوص التباين ، وإلاّ لم يبق للأخبار المزبورة مورد ، فلا يناسب كثرة ورودها والتأكيدات الأكيدة الواقعة فيها والتشديدات (5) الشديدة الموجودة فيها.

والجواب عنه هو أنّ بعد العلم الإجمالي بأنّ هذه العمومات الكتابية والمطلقات القرآنية مخصّصة بمخصّصات كثيرة في أخبار الآحاد ، ومقيّدة بمقيّدات عديدة فيها لا يعلم مخالفة الكتاب لها ، على أنّ التحقيق عدم منافاة المقيّد للمطلق ؛ لعدم كونه مجازا ، فالأخبار المزبورة لا تنهض على إبطال العمل بالأخبار من حيث إنّها أخبار.

مضافا إلى استلزامها لزوم ردّ ما يخالف كتاب اللّه ولو علمنا بصدوره عن أهل العصمة الطاهرة عليهم السلام ولو بالسماع منهم ، فكيف بما إذا تواتر.

والقول بتخصيص هذه الأخبار بغيره يخالفه ما هو المستفاد من سياقها فكأنّها كالقواعد العقلية الآبية عن التخصيص ، فهي إذا أخبار متشابهة لا ملزم لنا في تأويلها ، وأقرب المحامل على تقدير التأويل هو حملها على الروايات الواردة في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنّة كالأخبار الدالّة على الجبر والتفويض والقضاء والقدر

ص: 125


1- سبق في ص 82 - 83.
2- المائدة : 1.
3- البقرة : 29.
4- الطلاق : 7.
5- « ش » : التسديدات.

ونحوها.

وأمّا الأخبار الدالّة على اعتبار الشاهد ، فقد يلتزم بمفادها في غير خبر العادل لما دلّ على حجّيته كما سيجيء ، وقد يحمل على أصول الدين لموافقة مضمونها في الغالب لهذه الأخبار واتّحاد سياقهما.

وقد يستدلّ على المنع بقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) (1) وجه الدلالة أنّ الجهالة باقية عرفا ولغة في موارد أخبار الآحاد ولو كانت من عدل ، وقد حقّق في محلّه أنّ عموم التعليل لا يخصّص بخصوص المورد.

لا يقال : إنّ بعد ثبوت الحجّية بالنسبة إلى أخبار العدل لا جهالة.

لأنّا نقول : ثبوتها في المقام أوّل الكلام.

لا يقال : عموم التعليل عليل بعد خصوص المفهوم من صدر الآية.

لأنّا نقول : المدار عرفا على عموم التعليل ولا يعارضه خصوص المفهوم ألا ترى أنّه لو قال المولى : اجتنب عن خبر الفاسق ؛ لاحتمال الكذب ، يفهم عرفا لزوم الاجتناب عن كلّ ما يحتمل الكذب ولو كان من العادل ، وسيظهر لك الحال في فساد هذه الحجّة أيضا في عداد أدلّة المجوّزين ، هذا خلاصة ما احتجّ به المانعون في المقام وأجوبتها.

واحتجّ المجوّزون أيضا بوجوه عديدة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.

أمّا الأوّل : فبآيات (2) منها : قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) الآية وقد احتجّ بها الشيخ في العدّة (3) واقتفى المتأخّرون أثره فيه ، واستند إليها شيخنا الطبرسي في مجمع البيان (4) للمنع. وكيف كان فتقريب الاستدلال بوجهين :

ص: 126


1- الحجرات : 6.
2- « ش » : فآي منه.
3- ناقش في دلالتها انظر العدّة 1 : 110 - 113.
4- مجمع البيان 9 - 10 : 199 حيث قال : وفي هذا دلالة على أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل ؛ لأنّ المعنى : إن جاءكم من لا تؤمنون أن يكون خبره كذبا فتوقّفوا فيه ، وهذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه كاذبا في خبره ، قد استدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث إنّ اللّه سبحانه أوجب التوقّف في خبر الفاسق فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه وهذا لا يصحّ لأنّ دليل الخطاب لا يعوّل عليه عندنا وعند أكثر المحقّقين.

أحدهما : ما في المعالم (1) ومحصّله أنّ وجوب التبيّن معلّق على شرط ، فينتفي على تقدير انتفائه ، فيكون مفاد الآية إن جاءكم عادل بنبإ ، فلا يجب التبيّن. ثمّ إنّه إمّا يجب الردّ ، أو يجب القبول ، والأوّل باطل ؛ لما يلزم من كونه أسوأ حالا من الفاسق ، فتعيّن الثاني وهو المطلوب.

وثانيهما : أنّ تعلّق الحكم على الفاسق يقضي بانتفائه عند انتفاء وصف الفسق كما هو الشأن في أمثال المقام ممّا تعلّق الحكم فيه على ذات موصوفة ، وإلاّ لوجب أن يقترن الحكم بالذات العارية عن الوصف ، هذا مضافا إلى فهم العرف في خصوص المقام ؛ إذ لا كلام في اعتبار المفاهيم بقول مطلق (2) في مقامات خاصّة وموارد مخصوصة من جهة الاحتفاف بالقرائن المعيّنة الدالّة على اعتبارها ، فمقتضى الوصف في الآية عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل ، فيجب القبول دون الردّ لما (3) سبق.

ويرد على الأوّل أنّ المعتبر في أخذ المفهوم - كما قرّر في محلّه - هو اتّحاد موضوعي المنطوق والمفهوم ، وكذا سائر الوحدات المعتبرة في التناقض ، فالمفهوم من الآية إن لم يجئ الفاسق بنبإ لا يجب التبيّن لا أنّه إن جاءكم عادل بنبإ لا يجب كما هو المقصود.

لا يقال : إنّ الاستدلال بالمفهوم إنّما هو من حيث عموم المفهوم فإنّ عدم مجيء الفاسق بالنبإ يعمّ ما إذا لم يكن هناك نبأ (4) أصلا لا من العادل ولا من الفاسق ، وما إذا

ص: 127


1- المعالم : 191.
2- « ش ل » : + فيها ثمّ شطب عليها في « ل ».
3- « ش » : القبول لردّ الردّ فيما؟
4- « ش » : بنبإ؟

كان الجائي بالخبر هو العادل ، فإنّ السالبة قد ينتفي (1) بانتفاء موضوعه (2) ، وأخرى بانتفاء محموله (3) ، والظاهر هو الثاني ؛ لأنّ السالبة مجاز في انتفاء الموضوع ، فموضوع الحكم في المقامين متّحد باعتبار العموم.

لأنّا نقول : إنّ قضية الاشتراط في القضية الشرطية لا تزيد على انتفاء التالي عند فقد المقدّم ، فوجوب التبيّن مرفوع عند عدم إخبار الفاسق ، ولا عموم فيه بالنسبة إلى إخبار العادل ، فإنّه ليس من أفراده بل إنّما هو حال من الأحوال التي قد يقارن عدم إخبار الفاسق كموت زيد وحياته ، وأكله ولبسه مثلا هل ترى أحدا يقول بأنّ الحالات المقارنة اتّفاقا لفقدان الشرط في الجملة الشرطية من أفراد فقدان الشرط؟ نعم ، لو كان الكلام في قولنا : إن كان المخبر فاسقا يجب التبيّن ، صحّ الاستناد إليه في حجّية خبر العادل بمفهوم الشرط ، لأنّ كون المخبر عادلا من أفراد عدم كون المخبر فاسقا كما لا يخفى. وظاهر عدم جري الآية مجرى هذا القول كان (4) هذا هو (5) منشأ الخلط في الاستدلال بهذه الآية.

ومن هنا يظهر أنّ المناط في القضية الشرطية إنّما هو على انتفاء نفس الشرط ، ولا مدخل للوصف (6) الواقع تلوه ، ولا للّقب فيه كما لا يخفى.

ويرد عليه أيضا أنّ الترديد بين الردّ والقبول بعد عدم وجوب التبيّن ممّا لا حاجة إليه في وجه ، ولا وجه له في آخر ؛ فإنّ التبيّن إمّا أن يكون واجبا غيريّا مقدّميا - كما هو صريح التعليل ، وهو الظاهر من الأمر في خصوص المقام كما يشهد به العرف ، ويعاضده ظهور الإجماع كما حكي عن البعض - أو واجبا نفسيا - كما هو قضية الجمود على ظاهر الأمر بناء على أنّ الأصل هو ذلك - فعلى الأوّل لا حاجة إليه في

ص: 128


1- كذا.
2- كذا.
3- كذا.
4- « ل » : وكان.
5- « ل » : - هو.
6- « ش » : للواصف.

وجه ؛ لأنّ عدم وجوب التبيّن هو حينئذ عين القبول كما أنّ الأمر بالتبيّن ليس إلاّ ردّ الخبر والوقوف عنده إلى ظهور الحال ، فالحكم بعدم وجوب التبيّن يلازم جواز العمل قبله ، فهو كناية عن القبول ، فالترديد ليس في محلّه.

وعلى الثاني لا وجه له ؛ لأنّ الردّ (1) - على تقدير أن يكون وجوب التبيّن وجوبا نفسيا - لا يلازم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، فإنّ الوجه فيه - على ما هو مصرّح به في كلامهم - هو لزوم ردّ خبر العادل قبل التبيّن وخبر الفاسق بعده ، وهذا هو عين مراعاة حقّ العادل وملاحظة احترامه ، لاحتمال أن يكون وجوب التبيّن في خبره بواسطة إفشاء أمره وتشييع فاحشته وظهور كذبه ، وأمّا في العادل ، فلا يجب التبيّن من جهة لزوم إخفاء أمره وحفظ سرّه وستر عيبه.

وبالجملة ، فبعد قيام مثل هذا الاحتمال لا دلالة في ردّ خبر العادل قبل التبيّن وخبر الفاسق بعده على كونه أسوأ حالا منه كما هو ظاهر لا سترة عليه.

ويرد على الثاني - بعد تسليم حجّية مفهوم الوصف مطلقا ولو فيما لم يتقدّمه موصوف لفظا أو تقديرا - تعارضه بما يقتضيه التعليل في ذيل الآية ، فإنّ قضيته تعمّ خبر العادل أيضا ، لوجود الاحتمال فيه بعده ، واللازم حينئذ التساقط كما هو الشأن في غيره ممّا يكون النسبة بين المتعارضين عموما من وجه لو لم نقل بتقديم التعليل ؛ لكونه أقوى من المفهوم دلالة ، ولأنّ المستفاد من مثله عرفا هو القضية الكلّية كما في قولهم : « لأنّه حامض » بعد النهي عن أكل الرمّان (2).

ص: 129


1- « ل » : المراد.
2- في « ل » زيادة ما يلي. وفي نسخة « ش » قدر نصف صفحة بياض : واحتجّ القائلون بحجّية أخبار الآحاد بوجوه : الأوّل الآيات ، منها قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) وهذه الآية قد تمسّك بها جمع كثير في حجّية أخبار الآحاد التي رواها العدول ومن علمائنا من تمسّك بها لعدم حجّية خبر الواحد وإن كان عدلا كأمين الإسلام الطبرسي والشيخ رحمه اللّه ، أمّا الطبرسي رحمه اللّه فبنى وجه الاستدلال على أنّ الآية لا مفهوم لها ، وعموم التعليل بخوف الندم جار في خبر الواحد العدل أيضا ، فتدلّ على عدم جواز العمل به. وأمّا الشيخ رحمه اللّه ، فإنّه وإن سلّم كون الآية ممّا له مفهوم إلاّ أنّه قال : إنّ دليل الخطاب يعني المفهوم لا يقاوم عموم التعليل ؛ لأنّه أظهر من المفهوم والظاهر يترك بالأظهر قطعا. وأمّا المتمسّكون بها بحجّية خبر العدل الواحد ، فلهم في ذلك طرق : أحدها : الاستدلال من باب مفهوم الشرط كما عليه جماعة. ثانيها : الاستدلال من باب مفهوم الوصف. ثالثها : الاستدلال بالعلّية التي يشعر بها تعليق الحكم على الوصف المناسب للعلّية وكثيرا ما يعبّر عنه في كلماتهم بالمناسبة والاقتران كما احتمل التمسّك به جمال المحقّقين رحمه اللّه في حواشي العضدي فإنّه ذكر ما نصّه : لا يخفى أنّ في الآية الكريمة مفهومين : أحدهما : مفهوم الشرط. وثانيهما : مفهوم الفاسق ومفهوم الشرط المختار اعتباره لكن اعتباره لا يفيد هاهنا ؛ إذ لا يفيد إلاّ عدم وجوب التبيّن عند عدم المجيء وهو كذلك ومفهوم الفاسق الظاهر أنّه من قبيل مفهوم اللقب كقوله « في الغنم زكاة » واعتباره ضعيف ؛ لأنّ بناءه على أنّ تخصيصه بالذكر يوهم أنّ غيره على خلافه وهو ضعيف كما سيجيء تحقيقه. ويمكن أن يقال : إنّه من قبيل ترتيب الحكم على الوصف المناسب للعلّية فيشعر بعلّيته أي بأنّ علّة وجوب التبيّن هو كون الجائي فاسقا ، فلو كان كون الخبر خبر واحد موجبا له ، لما صحّ ذلك. وفيه : أنّ علل الشرع معرّفات لا يمتنع اجتماعها ، ويجوز أن يكون التخصيص به لكون الحكم فيه آكد ، وكون الوجه فيه أظهر ، فتدبّر. انتهى. رابعها : أنّ نفس المنطوق يكفي في الاستدلال به على حجّية الخبر ولا حاجة إلى التمسّك بمفهومها. خامسها : التمسّك بالتعليل المذكور في الآية وهو قوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) نظرا إلى أنّ علّة وجوب التبيّن عن خبر الفاسق هو أنّ الإقدام على مقتضى قوله عمل بجهالة حتّى كان العامل به في ظلمة ، ولهذا قال اللّه تعالى ) فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ( إشارة إلى انكشاف الحال بعد ذلك كالإصباح عن ظلمة الليل ، ولا ريب في انتفاء الجهالة عن مقتضى خبر العادل ؛ لكونه موثوقا به صادرا عن روية وبصيرة في الدين ناشئا عن الجريان على مقتضى الشرع ، فينتفي وجوب التبيّن عن خبره بانتفاء علّته التي هي الجهالة المؤدّية إلى الندم. أمّا الأوّل ، فقد سلكه الأكثر ، ومنهم صاحب المعالم رحمه اللّه حيث قرّر وجه الدلالة بأنّه سبحانه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق فينتفي عند انتفائه عملا بمفهوم الشرط. وعدم مجيء الفاسق بالنبإ له فردان : أحدهما : أن لا يتحقّق هناك إخبار أصلا ، وهذا لا ينبغي التكلّم فيه ؛ لظهور عدم وجوب التبيّن حينئذ. والآخر : أن يتحقّق الإخبار لكن من العادل لا الفاسق وحينئذ نقول : إذا لم يجب التبيّن عند مجيئه بالخبر بحكم الآية ، فإمّا أن يتحقّق عدم وجوب التبيّن عن خبره حينئذ في ضمن القبول فيكون ذلك لكونه واجب القبول وهو المطلوب ، أو في ضمن الردّ وهو باطل ؛ لأنّه يلزم أن يكون أسوأ حالا من الفاسق ، وفساده بيّن ، فقد تحصل حجّية من مفهوم الشرط بضميمة مقدّمة أخرى وهي أنّه لو ردّ خبر العدل بغير تبيّن ، لزم كونه أسوأ حالا من الفاسق. هذا ، ولكن قد منع من الافتقار إلى ضميمة المقدّمة الأخرى صاحب الفصول رحمه اللّه فإنّه بيّن وجه الاستدلال بها من دون ضميمتها ، ثمّ أشار إلى فساد ما ذكروه. قال رحمه اللّه : وجه الدلالة أنّه تعالى علّق وجوب تبيّن النبأ على مجيء الفاسق به ، فيدلّ بمفهومه على عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل به ، ومقتضاه جواز القبول ؛ لأنّ الأمر بطلب البيان إمّا كناية عن عدم جواز القبول أو مجاز عنه أو مخصوص بما لو أريد العمل بمقتضى نبئه ، فيكون وجوبه شرطيا ، ويرجع إلى الوجه السابق أو بمواضع خاصّة لا بدّ من التبيّن فيها : منها الواقعة التي نزلت الآية فيها حيث يجب فيها طلب البيان بمطالبتهم بالصدقات ، فإن انقادوا إلى الحقّ وأدّوها ، تبيّن كذب النبأ قضاء بظاهر الحال ، وإن استنكفوا عنها وأظهروا التمانع والمعاداة ، تبيّن صدقه ووجب التهجّم على جهادهم ، لكن هذا في الحقيقة راجع إلى طلب أمر مخصوص يحصل به البيان ، وليس بطلب نفس البيان حقيقة. وبالجملة ، فلا بدّ من حمل الأمر بالتبيّن على أحد هذه الوجوه للإجماع على عدم وجوب التبيّن عند خبر الفاسق مطلقا وعلى هذا ، فما تداول في كتب القوم في بيان وجه الاستدلال في أنّه تعالى علّق وجوب تبيّن النبأ على مجيء الفاسق به ، فعلى تقدير مجيء العادل به إمّا أن يجب القبول وهو المدّعى ، أو يجب الردّ ، فيلزم أن يكون العادل أسوأ حالا عن الفاسق غير مستقيم ؛ إذ مرجع الأمر بالتبيّن فيما عدا الوجه الأخير إلى ردّ نبئه وفي الوجه الأخير يجب التبيّن في نبأ العادل أيضا وإنّما يتمّ ما ذكروه إذا حمل الأمر بالتبيّن على وجوبه مطلقا وهذا ممّا لا ذاهب إليه. هذا كلامه رحمه اللّه ومحصّله أنّه قام الإجماع على أنّه ليس الواجب هو التبيّن عن حال خبر الفاسق مطلقا حتّى في صورة عدم إرادة العمل به بل الوجوب مختصّ بحال إرادة العمل ، فلا بدّ من التصرّف في إطلاق الآية لئلاّ يكون مخالفا للإجماع ، فلا بدّ من حملها إمّا على إرادة عدم القبول من التبيّن ، فيصير منطوق الآية إن جاءكم فاسق بنبإ ، فلا تقبلوا قوله ، فيكون مفهومه إن جاءكم عادل بنبإ جاز لكم قبول قوله ، أو كون وجوب التبيّن شرطيا ، فيصير المعنى أنّ قبول قول الفاسق مشروط بالتبيّن ، فيصير مفهومه أنّ قبول قول العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، أو حمل وجوب التبيّن على مواضع خاصّة يجب فيها التبيّن لكنّه اعترف بأنّ هذا الوجه لا يفيد في الاستدلال ؛ لأنّه يلزمه التبيّن عن خبر العادل أيضا على هذا التقدير ، فلا بدّ من حمل الآية على ما عداه ، وحينئذ لا يبقى حاجة إلى ضميمة المقدّمة الأخرى هذا. وأمّا الثاني ، فهو مسلك جماعة ، وليعلم أنّه ربّما يتّجه على القول بثبوت الواسطة بين العادل والفاسق وليس هو المجهول الحال كما زعمه بعض من لم يمعن النظر ؛ لأنّه إمّا عادل في الواقع ، أو فاسق وليس واسطة بينهما بحسب الواقع ، وإنّما هو من أسلم ولم يصدر منه ذنب بعد إسلامه بالنسبة إلى مقدار زمان لا يتحقّق فيه الملكة ، وكذلك من بلغ ولم يصدر منه ذنب بالنسبة إلى ذلك المقدار ، فيتحقّق الواسطة بين العادل والفاسق على القول بكون العدالة عبارة عن الملكة. وأمّا على القول بغيرها ، فيدخل ما عدّ واسطة على القول المذكور تحت العادل ، فعلى القول بثبوت الواسطة لا يفيد مفهوم الآية عند من يقول بثبوته تعيّن قبول قول العادل بل يفيد قبول غير الفاسق مطلقا الشامل للواسطة ؛ لأنّ مقتضى قاعدة المفهوم إنّما هو دفع الموجود في المنطوق ، ورفع الفاسق يعطي ثبوت القسمين من العادل والواسطة إلاّ أن يقال : إنّ مبنى المفهوم على إقامته ما هو ضدّ للمذكور في المنطوق بحسب التعارف مقامه لا على إقامة نقيضه ، وحينئذ يتمّ المطلوب لكون العادل بالنسبة إلى الفاسق ضدّا متعارفا لكن بناء المفهوم على ذلك لا يخلو عن تأمّل. وأمّا الثالث ، فقد عرفت أنّه احتمله المحقّق جمال الدين الخوانساري رحمه اللّه وعزاه السيّد المحقّق الكاظمي رحمه اللّه في شرح الوافية إلى العلاّمة رحمه اللّه بعد أن ذكر أنّ للعلماء في الاستدلال بالآية المذكورة مسالك وجعل أوّلها الاستدلال بمفهوم الشرط ، وثانيها الاستدلال بمفهوم الوصف ، وثالثها الاستدلال بالتعليل المستفاد من تعليق الحكم على الوصف ، لكن أورد عليه الأستاد سلّمه اللّه تعالى بأنّ ذلك ممّا لا يعقل له معنى محصّل سوى اعتبار مفهوم الوصف. وأقول : إنّ ما ذكره السيّد رحمه اللّه في جعل المسلك الثالث قسيما للثاني في محلّه ، ولا بأس بأن نأتي بكلامه بعينه ، ثمّ نبيّن الوجه في إتقانه. قال رحمه اللّه بعد الإشارة إلى اختلاف مسالك العلماء رضوان اللّه تعالى عليهم وذكره ما لا يهمّنا نقله : وكيف كان فمفهوم الشرط هاهنا غير مراد ؛ إذ الشرط إنّما هو مجيء الفاسق لا الفسق ، ولم يبق بعد هذا إلاّ تخصيص الفاسق بالذكر ، ومن ثمّ ذهب جماعة منهم المصنّف إلى أنّ دلالتها على قبول خبر غير الفاسق من باب الوصف كما في قوله : « في الغنم السائمة زكاة » وهو المسلك الثاني. والتحقيق أنّه مفهوم لقب إذ أقصى ما فيه تخصيص الفاسق بالذكر كما في قولك : إن جاءك زيد بنبإ فتبيّن لا وصف مذكور بالفسق كما في إن جاءكم نبأ فاسق. المسلك الثالث ما سلكه العلاّمة - وهو التحقيق - أنّ دلالتها على الطلب إنّما جاء من تعليق الحكم وترتيبه على الوصف المناسب للعلّية ، فيشعر بأنّ علّة وجوب التبيّن هو كون الجائي فاسقا ، وذلك يقتضي عدم وجوب التبيّن عند انتفاء الفسق ؛ لأنّ انتفاء العلّة قاض بانتفاء معلولها ، وإلاّ فلا علّية. فإن قلت : أقصى ما يقتضي تعليق الحكم على الوصف المناسب الإشعار بكون هذا الوصف علّة لذلك الحكم ، أمّا أنّه لا علّة له سوى هذا الوصف فلا ، وإن شئت فانظر إلى قولك : وأكرم العلماء ، فإنّه يشعر بكون العلم علّة للإكرام ، ولا يمنع من ثبوت علّة أخرى كالأدب والإحسان وغير ذلك. قلت : يختلف ذلك بحسب المقام فربّ مقام يقتضي انحصار العلّة في الوصف المذكور وما نحن فيه من هذا القبيل ، وذلك لأنّ عادة الناس لمّا كانت جارية في قبول الأخبار في معاملاتهم وسياساتهم ومعاشراتهم ، ولم ينكر اللّه عليهم من ذلك إلاّ قبول خبر الفاسق ، علم اختصاص الإنكار به ، فإنّه لو كان هناك قسم آخر من الأخبار ، لا يجوز قبوله والتسارع إلى الأخذ به ، لأنكره. هذا كلامه رحمه اللّه وحينئذ نقول : لا بدّ من تصحيح جعل السيّد رحمه اللّه المسلك الثالث قسيما للثاني على مذهبه وعلى مذهب العلاّمة رحمه اللّه. أمّا الأوّل ، فبيانه أنّه رحمه اللّه يرى أنّ مفهوم الوصف عبارة عن المفهوم المستفاد من الوصف الذي ذكر معه الموصوف ، وأنّ محلّ النزاع في مبحث حجّية مفهوم الوصف ذلك كما أشار إليه في طيّ كلامه المذكور ، وصرّح به في ذلك المبحث ، فقال : اعلم أنّهم إنّما يريدون من مفهوم الصفة ما يفهم من التقييد بها ، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا جيء بالموصوف والصفة معا ، فإن اقتصر على الصفة كادع لي صالحا كان من مفهوم اللقب كما نصّ عليه غير واحد ، والذي يدلّ على ذلك أنّهم لا يشترطون في مفهوم اللقب الجمود وكثيرا ما يشتبه هذا. ثمّ قال رحمه اللّه : ثمّ اعلم أنّ الوصف إذا كان لتمييز المسمّى عمّا شاركه في الاسم دون تقييد الحكم كان الموصوف مع صفته بمنزلة الاسم الخاصّ ، فلا يكون له مفهوم وصف بل من أثبت اللقب مفهوما ، قال به ، وبهذا يندفع ما أورده السيّد رحمه اللّه على مفهوم الوصف وكثيرا ما يشتبه هذا ، ولله درّ العميدي حيث قال في عنوانه : اختلفوا في الخطاب الدالّ على حكم متعلّق باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ، فكان فيه إشارة إلى كلا الأمرين ، ثمّ استشهد رحمه اللّه على ما ذكره بغير ذلك ، وعلى هذا فلا يكون دلالة آية النبأ عنده من باب مفهوم الوصف لعدم ذكر الموصوف مع لفظة فاسق ، ويكون من باب التعليل المستفاد من تعليق الحكم بالوصف المناسب. وأمّا ما نسبه إلى الفاضل التوني من كونه يرى أنّ دلالة الآية من باب مفهوم الوصف ، فذلك لتصريح الفاضل المذكور في ردّ الاستدلال بالآية المذكورة بأنّه استدلال بمفهوم الصفة على أصل علمي ، فهذا الردّ من ذلك الفاضل مبنيّ على إنكاره حجّية مفهوم الوصف. وأمّا الثاني ، فبيانه أنّه وإن لم يقع التصريح من العلاّمة رحمه اللّه بما ذكره السيّد رحمه اللّه من معنى مفهوم الوصف بل ذكر في باب المنطوق والمفهوم في النهاية أقسام مفهوم المخالفة ، وجعل أوّلها تقييد المطلق بالوصف كقوله عليه السلام : « في الغنم السائمة زكاة » وجعل خامسها التخصيص بالأوصاف التي تفرّد بالذكر كقوله : « في السائمة زكاة » فجعل كلاّ منهما قسيما للآخر ، وأفردهما في العنوان إلاّ أنّه يظهر منه في التهذيب أنّ البحث عن مفهوم الوصف من حيث هو وصف لا لأمر خارج ، ولهذا قال فيه : عدم الوصف لا يقتضي عدم الأمر المعلّق به مثل زكّوا عن الغنم السائمة لانتفاء الدلالات الثلاث. أمّا المطابقة والتضمّن ، فظاهر ، وأمّا الالتزام ، فلأنّ ثبوت المعلّق على الوصف يصدق مع ثبوته عند عدم الوصف ومع عدمه ، ولا يستلزم العامّ الخاصّ وقال رحمه اللّه في آخر البحث : تذنيب : إن كان الوصف علّة ، لزم من نفيه نفي الحكم تحقيقا للعلّية ، انتهى. فقد اختار عدم حجّية مفهوم الوصف في حدّ ذاته لكنّه التزم بأنّه لو أفاد الوصف العلّية في مورد ، لزم من انتفائه انتفاء الحكم ، فهذا ليس من الوصف بل من العلّية المستفادة كما أشار إليه قوله : « تحقيقا للعلّية ». إذا عرفت ذلك ولاحظت كلام العلاّمة في الاستدلال بآية النبأ ، علمت أنّه ليس من مفهوم الوصف على مذاقه لأنّه قال في التهذيب بعد ذكر الآية : أوجب التبيّن عند خبر الفاسق لكونه فاسقا للمناسبة والاقتران ، ولانتفاء الفائدة في التقييد لولاه ، إذ تعليق الحكم على الذاتي وهو كونه خبر واحد أولى من تعليقه على العرفي ، فمع الانتفاء إن وجب الترك كان العدل أسوأ حالا من الفاسق هذا خلف. انتهى. وقال في النهاية : أمر بالتبيّن عند إخبار الفاسق وقد اجتمع فيه وصفان : ذاتيّ هو كونه خبر واحد ، وعرضي وهو كونه فاسقا ، والمقتضي للتبيين هو الثاني للمناسبة والاقتران ، لأنّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل للعلّية ، وإلاّ لوجب الاستناد إليه ؛ إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّية أولى من التعليل بالعرضي ؛ لحصوله قبل حصول العرضي ، فيكون الحكم قد حصل به قبل حصول العرضي ، وإذا لم يجب التبيّن عند إخبار العدل ، فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ فيكون حاله أسوأ من حال الفاسق وهو محال. انتهى. فقد تمسّك بالمناسبة والاقتران وذلك غير مفهوم الوصف من حيث هو الذي قد أنكره ، ومن هنا يظهر أنّ عدّ السيّد عميد الدين ممّن استند إلى مفهوم الوصف - كما وقع من الأستاد سلّمه اللّه تعالى لا وجه له ؛ لأنّه ذكر ما ذكره العلاّمة في النهاية ، ولم يذكر ما يدلّ على أنّ الاستدلال من جهة مفهوم الوصف ، فقد تحصّل أنّ إفادة تعليق الحكم على الوصف المناسب العلّية مغاير لحجّية مفهوم الوصف ، ويشهد بذلك أنّه تمسّك به في الاستدلال بالآية بعض من لا يرى حجّية مفهوم الوصف. وأما الرابع : فيظهر من كلام الفاضل القمّي رحمه اللّه في طيّ كلماته المتعلّقة بأخبار الآحاد وحجّية الظنّ ، وصوّره بصورة الوضوح بعض من تأخّر عنه. وبيان ذلك أنّ التبيّن أعمّ من التبيّن الإجمالي والتفصيلي ، ودعوى اختصاصه بالتفصيلي مكابرة ، وحينئذ نقول : إنّ من المعروف المشهور أنّ الخبر على أربعة أقسام : الصحيح والحسن والموثّق والضعيف ، وأنّ الأخير ينقسم إلى قسمين : منجبر بالشهرة وعمل الأصحاب ، وغير منجبر ، فهذه خمسة ، وأنّ الآية الكريمة تعطي عدم قبول الضعيف الغير المنجبر قطعا ، لعدم تحقّق التبيّن فيه ، وجواز قبول الضعيف المنجبر لتحقّق التبيّن التفصيلي ، وكذلك جواز قبول الموثّق من حيث كون رواته ثقاة في مذهبهم ، وكون العلم أو الظنّ بأنّ الراوي ثقة في مذهبه تبيّن إجمالي لخبره ، وكذلك جواز قبول الحسن من حيث كون رواته إماميّين ممدوحين وإن لم يبلغ مدح بعضهم أو جميعهم درجة العدالة ؛ لأنّ في تحقّق المدح - مثل كون الراوي شيخ الإجازة مثلا وإن لم ينصّ عليه بالعدالة - تبيّنا إجماليا بالنسبة إلى غيره كما قيل في إبراهيم بن هاشم : إنّه وإن لم ينصّ عليه في كتب الرجال بالتوثيق إلاّ أنّ كونه قد نشر أحاديث الكوفيّين بقمّ مع كون أهلها ممّن يقدح في اعتبار قول الراوي بأدنى صفة مرجوحة فيه دليل على جلالة شأنه ، فقد اندرج اعتبار الأقسام الثلاثة في منطوق الآية من جهة تعميم التبيّن إلى التبيّن الإجمالي ، وبقي حال الصحيح ، وحينئذ نقول : إمّا أن يحكم بحجّيته من جهة [ أنّه ] إذا تحقّقنا أنّ مناط حجّية ما أفادت الآية حجّيته من الأقسام الثلاثة إنّما هو الظنّ والوثوق بصدوره وهو موجود في الصحيح أيضا أو تحكم بحجّيته بالأولوية القطعية نظرا إلى أنّ الأقسام الثلاثة إذا اعتبرت من جهة الظنّ والوثوق مع كون رواتها ليس بأسرهم إماميّين عدولا ، فالصحيح الذي رواته بأسرهم إماميّون عدول يكون أولى بالقبول قطعا بل ربّما يزاد على هذه الجملة ، فيقال : إنّ الآية الكريمة أفادت أنّ المناط في القبول هو التبيّن ، فكلّ تبيّن يكون حجّة ، ومن هنا يعتبر الشهرة والإجماع المنقول وغيرهما ممّا أفاد الظنّ فيكون مفاد الآية حجّية مطلق الظنّ. وأمّا الخامس - وهو الاستدلال بالتعليل بقوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) - فلا بدّ من إيضاح المقصود به ، فنقول : إنّ المقصود بالتبيّن هو تحصيل الوثوق والاطمئنان بقول الفاسق حيث جاء بالخبر ، والمراد بالجهالة خلاف الوثوق. وإن شئت قلت : المراد بالتبيّن هو تحصيل العلم العرفي أطلق عليه لفظه ، لجريان عادة العقلاء على الاعتماد في أمورهم على ما يحصل به الوثوق والاطمئنان حتّى عبّروا عنه بالعلم في محاوراتهم ، فوقع الخطاب على طريقة أهل العرف ، وعلى هذا يكون اعتبار الوثوق والاطمئنان بقول العادل مستفادا من منطوق الآية الكريمة من جهة أمر اللّه تعالى بتحصيل الاطمئنان بقول الفاسق وتعليله بأنّ في ترك الاطمئنان إصابة قوم بجهالة مستعقبة للندم حتّى كان تلك الجهالة ظلمة يتبعها الندم بعد الإصباح منها. ولا ريب أنّ معنى العلّية ليس إلاّ الانتفاء عند الانتفاء فينتفي وجوب التبيّن عن خبر العادل من جهة انتفاء علّته التي هي الإصابة بالجهالة والوقوع فيما يستعقب الندم عند انكشاف حقيقة الحال. فالحاصل ، أنّ الآية ناطقة بعلّية الإصابة من دون وثوق ، وتعرّض ما يستعقب الندم من غير اطمئنان للتبيّن ، ومعنى العلّية هو وجود المعلول عند وجود العلّة وانتفاؤه بانتفائها ، فتدلّ على عدم وجوب التبيّن عمّا يوثق به. ولا ريب أنّ استعمال التبيّن في الوثوق ، واستعمال الجهالة في خلافه أمر شائع لا يأبى من الحمل عليه لفظ الكتاب ، وممّا يؤيّد هذا المعنى وقوع الإجماع على اعتبار الخبر الضعيف للوثوق بصدوره المفيد للاطمئنان. وتوضيحه : أنّ استعمال التبيّن في الاطمئنان يلزمه اندراج الخبر الضعيف المذكور تحته ، واستعماله في العلم الوجداني يستلزم التخصيص في الآية ؛ إذ لا بدّ من أن يقال : إنّ خبر الفاسق يجب تحصيل العلم فيه إلاّ إذا كان مفيدا للاطمئنان ، فلا يلزم تحصيل العلم حينئذ وهو تخصيص في لزوم تحصيل العلم بقول الفاسق إذا جاء بنبإ. فالأولى أن تحمل الآية على ما لا يستلزم التخصيص لكن لا يخفى ما في هذا التأييد ؛ لدوران الأمر فيه بين المجاز والتخصيص ؛ ضرورة كون استعمال التبيّن في الاطمئنان مجازا وقد تقرّر في محلّه أنّ التخصيص أولى من المجاز إلاّ أن يقال : إنّ ما ذكروه إنّما هو بحسب النوع ، وإلاّ فقد يتّفق كون شيء من المجاز أظهر من التخصيص بحسب المتعارف ، فيقدّم على التخصيص ؛ لأنّ ما ذكروه من تقدّمه على المجاز إنّما هو بحكم العرف ، وإذا وجدنا حكم العرف في شيء من الموادّ على خلاف ما بنوا عليه في الغالب ، لزم اتّباعهم ، وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لكون استعمال التبيّن في الاطمئنان تجوّزا شائعا ، فيقدّم على التخصيص هذا ، ولازم هذه الطريقة ترك الجمود على قبول نوع الصحيح والحسن والموثّق بل لا بدّ من تنويعها والعمل بما أفاد الوثوق منها دون غيره ، فيعتبر بالصحيح الأعلى مثلا ، أو ما أفاد الوثوق من غير من [ كذا ] قسم الصحيح ، وكذلك الحسن ، فيعتبر منه ما بلغ مدح رواته أعلى المراتب ككونه شيخ الإجازة ، وكالمدح الواقع في إبراهيم بن هاشم من كونه قد نشر أحاديث الكوفيّين بقمّ مع كونهم ينفون من بلادهم من كان يروي عن الضعفاء. وبالجملة ، فيعتبر منه ما أفاد الاطمئنان دون غيره ، وكذلك الموثّق فيعتبر منه ما كان راويه مع كونه ثقة في مذهبه ممدوحا بما يفيد الوثوق به مثل ما حكي عن عليّ بن الحسن بن فضّال مع كونه فطحيا أنّه لم يرو عن أبيه شيئا قال : وكنت أقابله بكتبه وسنّي ثماني عشرة ( في النسخة : ثمانية عشر ) سنة ، ولا أفهم إذ ذاك ، ولا أستحلّ أن أرويها عنه. وعن النجاشي : أنّه لم يعثر له على زلّة في الحديث ولا ما يشينه ، وقلّ ما روى عن ضعيف وقد شهد له بالثقة الشيخ والنجاشي. وأمّا ما لا يفيد الوثوق ، فلا يعتبر. فالحاصل أنّ المراد بالآية هو الأمر بتحصيل الوثوق بالخبر. فإن قلت : ما ذكرت من استقرار طريقة العقلاء على العمل بالخبر المفيد للاطمئنان يمنع من حمل التبيّن في الآية عليه ؛ لأنّ لازم الأمر بالتبيّن بمعنى تحصيل الاطمئنان أن يكون المخاطبون بالآية قد عملوا بقول وليد من دون اطمئنان حتّى أمرهم اللّه تعالى بتحصيل الاطمئنان ، وذلك ينافي كونهم عقلاء وهو معلوم البطلان ، فظهر أنّ لازم كونهم عقلاء - على ما قرّرت من القاعدة - أنّهم قد أخذوا بقول وليد ؛ لاطمئنانهم به إلاّ أنّه لمّا كان لا يكفي في العمل بقول الفاسق أمرهم اللّه تعالى بتحصيل العلم الوجداني. قلت : إنّ وليدا ربّما كان بحسب الظاهر عادلا عندهم كما هو مقتضى كونه عامل الصدقات بأمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وإن كان سرّه محجوبا عنهم ، فلذلك وثّقوا واكتفوا بعدالته إلاّ أنّ اللّه نبّه على فسقه ولزوم التبيّن عن قوله. فذلك الوثوق كان مبنيّا على زعمهم من عدالته ، فيزول بالتنبيه على انتفائها ، فيلزم التبيّن ، أو يقال : إنّ وثوقهم بقوله وإن لم يكن عندهم عادلا ربّما كان ابتدائيا يزول بالالتفات وقد اشتبه عليهم بالوثوق التامّ ، فجروا على مقتضاه ، ثمّ إنّ اللّه تعالى نبّههم وأمرهم بالوثوق التامّ المستقرّ. إذا عرفت ذلك كلّه ، نقول : أمّا التمسّك بالمفهوم الذي قد تقدّم أنّ فيه مسلكين : أحدهما : مسلك حجّية مفهوم الشرط ؛ وثانيهما : مسلك مفهوم الوصف ؛ فيرد على الأوّل منهما المنع من جهة الصغرى. وعلى الثاني منهما المنع من جهة الكبرى. أمّا الأوّل - وهو المنع على المتمسّكين بحجّية مفهوم الشرط - فيقرّر تارة من جهة حزازة كيفية الاستدلال ، وأخرى من جهة المنع على نفس الاستدلال. أمّا الأوّل : فبيانه أنّه لا ريب في أنّ وجوب التبيّن ليس نفسيا بل شرطي لوجوه : أحدها : أنّ نفس مادّة التبيّن كالفحص والبحث والتجسّس ممّا أخذ فيه كون معناه للوصول إلى غيره ، فلا يعقل أن يكون التبيّن مطلوبا لنفسه كالصلاة والصيام وأخواتهما. ثانيهما : أنّ التعليل المذكور في الآية - وهو قوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) - يفيد ذلك للدلالة على أنّ وجوب التبيّن إنّما هو لأجل التحرّز عن الندم من قبول قول الفاسق. ثالثها : الإجماع على أنّ التبيّن ليس واجبا نفسيا. وحينئذ نقول بعد تسليم إفادة الآية الكريمة للمفهوم - وهو قول : إن جاءكم عادل بنبإ ، فلا يجب تبيّن خبره - : لا حاجة إلى ضمّ المقدّمة الأخرى ، وهي أنّه إمّا أن يجب القبول ، فيثبت المطلوب. وإمّا أن يلزم الردّ ، فيلزم كونه أسوأ حالا من الفاسق ، وذلك لأنّ التبيّن قد كان شرطا لقبول قول الفاسق ، فيسقط بانتفاء المشروط به ، ومقتضاه جواز قبول قول العادل ، فلا حاجة إلى المقدّمة المذكورة ، فيكون الإتيان بها لغوا. وإن أبيت إلاّ عن كون وجوب تبيّن خبر الفاسق نفسيا ، قلنا : إنّ ذلك يضرّهم ولا ينفعهم ، وضمّ المقدّمة المذكورة لا يفيد ؛ لأنّ مقتضى المفهوم حينئذ نفي ذلك الوجوب النفسي عن تبيّن خبر العادل ، ولا يلزم منه قبول خبره. وقولهم : إن ردّ خبر العادل بدون تبيّن ، لزم كونه أسوأ حالا من الفاسق ممّا يقابل بالمنع ، لأنّ التبيّن عن خبر المخبر ربّما أدّى إلى ظهور خلاف ما أخبر به ، وحينئذ يهتك ستره ، وينحطّ عن القلوب محلّه ، وحيث كان الفاسق ليس له خطر عند اللّه - جلّ شأنه - أمر بالتبيّن عن حال خبره المؤدّي أحيانا إلى ظهور خلاف ما أخبر به الموجب لانحطاط قدره. وأمّا الثاني ، فتوضيح المقال فيه هو أنّ أهل هذه الصناعة قد قرّروا في باب المفاهيم أنّ طريقة أخذ المفهوم هو أن يترك القيود المعتبرة في المنطوق على حالها ، وتبدّل الكيفية ، فمن ذلك يحصل المفهوم المعتبر من الكلام الذي في شأنه إفادة المفهوم ، وحينئذ نقول : إنّ الجملة الشرطية في الآية الكريمة بعد إبراز ما اعتبر فيها من القيود ليست إلاّ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا نبأ ذلك الفاسق ( في النسخة : والفاسق؟ ) وليس مفهومه حينئذ إلاّ ما يعبّر عنه بأنّه إن لم يجئكم فاسق بنبإ ، فلا يجب عليكم تبيين نبأ ذلك الفاسق ، وهذا المعنى ممّا لا مساس له بخبر العادل أصلا ، فيكون مسكوتا عنه نفيا وإثباتا. فإن قلت : إنّ مثل هذا المفهوم ممّا لا فائدة فيه أصلا ، وقصده بالكلام لغو لا مساغ للالتزام به في كلام الحكيم على الإطلاق جلّ شأنه. قلت : ليس الغرض إثبات أنّ مقصوده تعالى ذلك ، بل المراد أنّ مثل هذه الجملة الشرطية لا يليق به مفهوم سوى ما ذكر ، وإلاّ فليس الكلام هنا مفيدا للمفهوم ، لعدم قابليته لإفادته ، وليس الكلام إلاّ مسوقا لإفادة الربط بين الشرط والجزاء في الوجود ، بمعنى وجود الثاني عند وجود الأوّل ، وليس مسوقا لإفادة الانتفاء عند الانتفاء. وإن شئت قلت : إنّ الكلام مسوق لبيان حال الموضوع بحسب الوجود فقط ، وهذا القسم في الجملة الشرطية ليس ممّا يعزّ وجوده ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) فإنّه ليس مسوقا إلاّ لبيان تحقّق الموضوع ، وليس المقصود منه أنّه إذا لم يتوجّه إليكم تحيّة ، فلا يجب مقابلتها بأحسن منها أو ردّوها ، وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وكذلك قول القائل : فإن رزقت ولدا ، فاختنه ؛ وإن ركب زيد ، فالزم ركابه ؛ وإن قدم من السفر ، فاستقبله ؛ وإن تزوّجت ، فلا تضيّع حقّ زوجتك ؛ وإن آخيت أحدا ، فراع حقّه ، وأمثال ذلك ممّا لا يحصى ، وهذا النوع من الجملة الشرطية ليس مجازا إلاّ على القول باعتبار التقييد بالمفهوم في أصل الوضع ، على أن يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وقد تقدّم تفصيل القول في وجه دلالة اللفظ على المفهوم في محلّه ، فراجع هكذا ينبغي أن يجاب عن الاستدلال. وقد وقع للفاضل القمّي رحمه اللّه في مقام الجواب عنه ما ينبغي التعرّض لما فيه ، وتمييز كدره من صافيه ، وذلك أنّه رحمه اللّه بعد أن قرّر وجه الاستدلال على الوجه الذي حكيناه عن صاحب المعالم قدس سره ، قال : هكذا ذكره كثير من الأصوليين ، والوجه عندي أنّه ليس من باب مفهوم الشرط ؛ لأنّ غاية ما يمكن توجيهه على ذلك أن يكون المعنى إن جاءكم خبر الفاسق فتبيّنوا ، ومفهومه إن لم يجئكم خبر الفاسق ، فلا يجب التبيّن سواء لم يجئكم خبر أصلا ، أو جاءكم خبر عدل ، فالمطلوب داخل في المفهوم ولم يكن هو هو. وفيه : أوّلا : أنّ ظاهر الآية إن جاءكم الفاسق بالخبر ، ومفهومه إن لم يجئ الفاسق بالخبر لا إن لم يجئ خبر الفاسق. وثانيا : أنّ المراد بالتبيّن والتثبّت طلب ظهور حال خبر الفاسق والثبات والقرار حتّى يظهر حال خبر الفاسق ، فكأنّه قال : تبيّنوا خبر الفاسق ، فالمفهوم يقتضي عدم وجوب تبيّن حال خبر الفاسق لا خبر العادل ؛ للزوم وحدة الموضوع والمحمول في المفهوم والمنطوق في الشرط والجزاء. نعم ، لمّا كان مقدّم المفهوم إن لم يجئكم خبر الفاسق بحيث يشمل عدم خبر أصلا ، أو كان ولكن كان خبر العادل ، فيندرج فيه خبر العادل ، ولكن لا يدلّ على عدم وجوب تبيّنه مع أنّ ذلك خروج عن حقائق الكلام وترك للعرف والعادة بمجرّد احتمال كون السالبة منتفية الموضوع ، ولا ريب أنّه مجاز لا يصار إليه ، وقسمة المنطقيين السالبة إلى الموجود الموضوع ، والمنتفي الموضوع لا توجب كونه معنى حقيقيا لها ، أو عرفيا ، والكتاب والسنّة إنّما وردا على مصطلح أهل اللغة والعرف لا مصطلح أهل الميزان. هذا كلامه رحمه اللّه. قوله رحمه اللّه : « ولكن لا يدلّ على عدم وجوب تبيّنه » أي على عدم وجوب تبيين خبر العادل كما هو مدّعى المستدلّ بمفهوم الشرط ، وذلك لأنّه وإن سلّم أنّ عدم مجيء خبر الفاسق وعدم وجوب تبيين خبره في مثل هذه القضيّة التي هي إن لم يجئكم خبر الفاسق ، فلا يجب عليكم تبيين خبر ذلك الفاسق سواء كان هناك خبر عادل أم لا. ولا ريب أنّ حكم عدم وجوب التبيّن مختصّ بالفاسق ، وخبر العادل مسكوت عنه وإن كان عدم مجيء خبر الفاسق ووجوب التبيّن عنه أعمّ بالنسبة إلى حالتي مجيء خبر العادل وعدم مجيئه. وقوله : « مع أنّ ذلك » يعيّن الاستدلال بمفهوم قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) وهو إن لم يجئكم فاسق بنبإ ، فلا يجب عليكم التبيّن « خروج عن حقائق الكلام وترك للعرف والعادة بمجرّد احتمال كون السالبة منتفية الموضوع » ومراده بالسالبة هي إن لم يجئكم فاسق بنبإ ، ولا ريب أنّ موضوعها هو الفاسق ، ويتصوّر كونها منتفية الموضوع بأن ينتفي الفاسق مع بقاء وجوب بناء المذكور في القضية السالبة التي هي المفهوم ، وكذا عدم وجوب التبيّن ، ولا ريب أنّ ثبوت البناء وتحقّق عدم التبيّن مع انتفاء الفاسق الذي هو موضوع لا يكون إلاّ بأن يكون هناك عادل جاء بالنبإ وأراد بالخروج عن حقائق الكلام حمل تلك السالبة على معنى يتحقّق فيه انتفاء الموضوع ، وكذلك المراد بترك العرف والعادة ذلك ؛ لعدم مساعدة العرف إلاّ على حمل السالبة على الموجود الموضوع ؛ لأنّ ذلك معناها الحقيقي عندهم ، وحاصل مراده أنّهم حملوا السالبة على المنتفية الموضوع بمجرّد الاحتمال مع وضوح أنّ حمل اللفظ على معناه المجازي بمجرّد احتماله لذلك من دون قيام قرينة ممّا لا مساغ له. هذا وفي كلامه رحمه اللّه مواقع للنظر : أحدها : أنّ ما ذكره من تعميم مجيء نبأ العادل وعدم مجيئه ليس شيء منهما من أفراد عدم مجيء نبأ الفاسق ، ولا يقصد أحد من المتكلّمين التعميم في أمثاله ، ألا ترى أنّ قولك : إن جاءك زيد فأكرمه ، وكذلك قولك : إن لم يجئك زيد ، فلا تكرمه لا تقصد بشيء منهما التعميم بالنسبة إلى مجيء عمرو وعدم مجيئه ولا يعدّ شيء منهما من أفراد مجيء زيد وعدم مجيئه ، فالالتزام بالعموم كما صدر منه رحمه اللّه ليس في محلّه. ثانيها : أنّ ما ذكره - من عدم جواز المصير إلى حمل السالبة على المنتفي الموضوع بمجرّد الاحتمال - يعطي أنّه يسلم جريان احتمال كون السالبة منتفية الموضوع خصوصا بملاحظة دفعه بكونه مجازا بغير قرينة ، وذلك بمكان من البعد من مثله ؛ لأنّ السالبة في كلامه لا يمكن أن تكون إلاّ عبارة عن المفهوم ، ولا ريب أنّ المفهوم ليس إلاّ أمرا لبّيا وهو رفع المنطوق ، فكيف يعقل فيه إرادة انتفاء الموضوع مجازا. وتوضيح ذلك أنّ قولك : إن جاءك نبأ الفاسق فتبيّن ، يفهم منه معنى لازم يعبّر عنه في المحاورات بقولك : إن لم يجئك نبأ الفاسق ، فلا يجب عليك التبيّن ، وأين هو من السالبة بانتفاء الموضوع بالمعنى الذي يريده ممّا بيّنّاه من انتفاء الفاسق وبقاء الخبر مع عدم وجوب تبيّنه؟ أم كيف يعقل فيه الخروج عن الحقيقة وليس من قبيل الألفاظ؟ مضافا إلى ما عرفت من أنّه لا يقصد المفهوم بأمثال هذه الخطابات أصلا حتّى يجري احتمال ما ذكره. ثالثها : أنّ ما ذكره في صدر كلامه - من كون غاية توجيه ما ذكروه أن يكون المراد بالآية : إن جاءكم خبر الفاسق ، فتبيّنوا ومفهومه : إن لم يجئكم خبر الفاسق ، فلا يجب التبيّن سواء لم يجئكم خبر أصلا ، أو جاءكم خبر عدل - لا يظهر وجه لكونه توجيها ، فإن كان الوجه هو التعميم بالنسبة إلى عدم مجيء خبر أصلا ومجيء خبر العادل ، فذلك ممكن في نفس مفهوم الآية بدون صرفها عن ظاهرها ، فيقال : إنّ مفهومها : إن لم يجئكم فاسق بنبإ ، فلا يجب التبيّن سواء لم يكن هناك خبر أصلا ، أو كان هناك خبر أصلا ، أو كان هناك خبر العادل ، وإن كان أمرا وراء ذلك ، فلا نعقله إلاّ أن يقال : وما يعقله إلاّ العالمون هذا. وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الجملة الشرطية المذكورة في الآية ممّا لا يفيد جواز قبول قول العادل ، نعم لو كان سبحانه قد قال بدل هذه الجملة الشرطية : إن فسق الجائي بالنبإ ، فتبيّنوا نبأه ، كان مفهومه إن لم يفسق الجائي بالنبإ بل هي على عدالته ، فلا يجب عليكم تبيين نبئه. ودعوى أنّ الآية مسوقة لبيان حال المنبئ ، فالمراد فيها ما ذكر - من أنّه إن فسق الجائي إلخ فيفيد بالمفهوم جواز قبول قول العادل - ممّا لا وجه لها ( في النسخة : له ) ، ضرورة أنّ إمكان تحويل صورة قضيّة إلى أخرى لا يقتضي أن يكون مفاد الأولى هو مفاد الثانية ، هذا. وأمّا الثاني - وهو المنع على المتمسّكين بمفهوم الوصف - فيقرّر بوجهين : أحدهما : إنّما نمنع من حجّية مفهوم الوصف من أصله ، مضافا إلى ما ذكره بعضهم من أنّا لو سلّمنا ذلك ، فإنّما نسلّمه فيما لو كان الموصوف مذكورا ، وأمّا ما لم يكن الموصوف مذكورا معه ، فهو من قبيل مفهوم اللقب لكن هذا غير مرضيّ عندنا ، لعموم النزاع هناك وكون ما استفيد فيه المفهوم واستدلّ به ممّا لم يذكر معه الموصوف مثل قوله : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته » هذا. وقد تمسّك بعضهم في الاستدلال بالآية من باب مفهوم الوصف بوجه آخر وهو أنّ مفهوم الوصف وإن لم يكن حجّة إلاّ أنّه لا ريب في حجّيته إذا وقع في سياق الشرط ، وبذلك يتمّ المطلوب. وأنت خبير بأنّ ذلك دعوى لا شاهد عليها فتوجّه المنع إليها جليّ. فافهم. وتمسّك الفاضل القمّي رحمه اللّه بوجه آخر أشار إليه بعد ردّ الاستدلال بمفهوم الشرط بقوله : فالاعتماد على مفهوم الوصف ، فإنّا وإن لم نقل بحجّيته في نفسه لكنّه قد يصير حجّة بانضمام قرينة المقام كما أشرنا إليه في مباحث المفاهيم. انتهى. وأورد عليه صاحب الفصول رحمه اللّه بعد حكايته عنه بما لفظه : أقول : وفيه نظر ؛ لأنّ مساعدة المقام على استفادة حكم من التعليق على الوصف - بناء على عدم دلالته عليه في نفسه - إمّا أن يكون لقرائن حالية وثبوتها في المقام ممنوع قطعا ، أو لقرائن لفظية راجعة إلى انحصار فائدة التعليق في الاحتراز ، أو ظهورها بحسب مقام التعليق من بين الفوائد ، فهذا إنّما جريانه بحسب تحصيل الوثوق والاعتداد به فيما إذا تعقّب الوصف الخاصّ للموصوف العامّ كما في قولك : إن جاءك بخبر فاسق أو رجل فاسق بنبإ ونحو ذلك ممّا يشتمل على التقييد اللفظي المقتضي اعتباره في الكلام لفائدة زائدة على فائدة بيان الحكم ، وظاهر أنّ المقام ليس من بابه بل من باب ترجيح التعبير عن موارد الحكم بعنوان خاصّ على التعبير عنه بعنوان عامّ ومثل هذا لا يستدعي فائدة ظاهرة تزيد على فائدة بيان الحكم في المورد الخاصّ ، ومع الإغماض عن ذلك ، فلا نجد لتعليق الحكم على الوصف في المقام مزيد خصوصية لا يوجد في غيره ، فإنّ ما ذكروه في منع دلالته على حكم المفهوم في غير المقام من عدم انحصار الفائدة فيه ، وأنّ من جملة الفوائد كون محلّ الوصف محلّ الحاجة متّجه في المقام أيضا ، مضافا إلى أنّ له في المقام نكتة أخرى أيضا وهي التنبيه على أنّ المخبر المتّصف بالفسق بعيد عن مقام الاعتماد والاستناد جدّا ؛ إذ يحتمل في حقّه ما يحتمل في حقّ المخبر العادل من السهو والنسيان مع زيادة وهي احتمال تعمّده الكذب ، أو تعويله في خبره على أمارات ضعيفة وأوهام سخيفة ناشئين من انتفاء صفة العدالة عنه الحاجزة عن الاقتحام في مثل ذلك ، وهذا ظاهر لا سترة عليه هذا كلامه رحمه اللّه. وربّما يوجّه كلام الفاضل القمّي رحمه اللّه بما لا يرد عليه المنع من قيام قرينة في المقام ، فيقال : إنّ الآية بملاحظة نفس الحكم بالتبيّن المأخوذ فيه كونه للغير مع تعليق الحكم بالوصف وتعليله بقوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) تفيد باعتبار انضمام بعض الأمور المذكورة إلى بعض أنّ مقصوده تعالى بيان أنّ خبر الفاسق ليس طريقا إلى الواقع ، وأنّ خبر العادل طريق إليه. وبالجملة ، إنّ تلك الأمور بملاحظة انضمام بعضها إلى بعض قرينة في المقام تفيد أنّ مقصوده تعالى بيان ما هو طريق إلى الواقع ، وما ليس طريقا إليه هذا. ولكنّ الإنصاف أنّ ما ذكره وإن كان فيه إشعار بما ذكره إلاّ أنّه ليس نصّا في ذلك ، ولا ظاهرا ظهورا يصحّ الركون إليه ؛ إذ يحتمل أن يكون المراد توجيه الذمّ إلى من قبل خبر وليد واعتمد عليه مع كونه فاسقا ، فيكون سياق الكلام للذمّ على ذلك لا لبيان طريق إلى الواقع. ثانيهما : أنّه لو سلّم ثبوت مفهوم الوصف في المقام إمّا بتسليم حجّية مفهوم الوصف مطلقا ، أو بتسليم ثبوت مفهوم الوصف إذا وقع في سياق الشرط ، أو بتسليم ثبوته بقرينة المقام كما عرفته من الفاضل القمّي رحمه اللّه. قلنا : إنّه وإن كان مقتضى المفهوم من الآية عدم وجوب تبيّن خبر العادل لكنّه معارض بعموم التعليل بلزوم التحرّز عن الندم مطلقا المقتضي للتحرّز عن كلّ خبر موجب له مطلقا سواء كان خبر الفاسق أم غيره ، فالمفهوم وإن اقتضى حجّية خبر العادل إلاّ أنّ التعليل بعمومه يقتضي عدم جواز قبول كلّ خبر موجب للندم ، ومنه خبر العادل الغير المفيد للعلم ، وما ذكرنا من حديث المعارضة ليس مبنيا على كون النسبة بين نبأ العادل الذي تضمّنه المفهوم ، والنبأ الموجب للندم أعمّ من أن يكون نبأ العادل ، أو يكون [ نبأ ] الفاسق ليتعارضا في مورد الاجتماع وهو خبر العادل الغير المفيد للعلم ، فيلزم التماس المرجّح لوجهين : أحدهما : أنّ النسبة بين المفهوم والتعليل ليست هي العموم من وجه لكون الخبر المفيد للعلم خارجا عن المنطوق والمفهوم جميعا ، لكونه حجّة بالاتّفاق حتّى لو كان راويه فاسقا ، وعلى هذا فيرتفع العموم من جانب المفهوم ويكون التعليل أعمّ منه مطلقا. والثاني : أنّه لو فرض كون كلّ منهما أعمّ من الآخر من وجه لم يكن وجه لإعمال قاعدة تعارض العامّين من وجه في مثل المقام الذي وقع فيه التعارض بين الصدر والذيل من كلام واحد ، بل اللازم حينئذ ملاحظة الأظهر منهما وتقديمه على الظاهر منهما كما في قولك : رأيت أسدا يرمي ، ولو سلّم جواز إعمالها في الكلام الواحد ، منعناه في العلّة والمعلول ؛ فإنّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص ، فالعلّة تارة تخصّص مورده المعلول وإن كان عامّا بحسب اللفظ كما في قول القائل : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ، فيخصّصه بالأفراد الحامضة ، فيكون عدم التقيّد في الرمّان لغلبة الحموضة فيه ، وقد يوجب عموم المعلول فإن كان بحسب الدلالة اللفظية خاصّا كما في قول القائل : لا تشرب الأدوية التي تصفها لك النسوان ، أو إذا وصفت لك امرأة دواء فلا تشربه ؛ لأنّك لا تأمن ضرره ، فيدلّ على أنّ الحكم عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضرره من أيّ واصف كان ، ويكون تخصيص النسوان بالذكر من بين الجهّال لنكتة خاصّة ، أو عامّة لاحظها المتكلّم ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فلعلّ النكتة فيه التنبيه على فسق الوليد ، فتحصّل أنّ التعارض ليس مبنيّا على كون النسبة بين المفهوم والتعليل هي العموم من وجه بل مبنيّ على أنّ التعليل يفيد عدم جواز قبول كلّ خبر يورث الندم سواء كان خبر العادل أم خبر الفاسق ، وهو أقوى من المفهوم ، فيكون الحكم له ، فلا يجوز قبول خبر العادل أيضا إذا احتمل الندم. وإلى ما ذكرناه أشار في الغنية حيث ذكر - بعد حكاية الاستدلال بالآية والمنع منه بأنّه مبنيّ على دليل الخطاب وهو باطل - ما نصّه : على أنّ ظاهر الآية يمنع من العمل بخبر العدل ؛ لأنّه سبحانه علّل المنع من قبول قول الفاسق بعلّة هي قائمة في خبر العدل بقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) وهذه العلّة ثابتة في خبر العدل ؛ لعدم العلم بحقيقة الأمر فيه وارتفاع الثقة بصدقه فيما يرويه ، وإذا شارك الفاسق في علّة المنع وجب الوقف في خبره كالفاسق. انتهى. فإن قلت : ليس احتمال ذكر الندم في خبر الفاسق المذكور في الآية علّة حتّى يدور الحكم مداره بل هو حكمة في النهي عن قبول قول الفاسق ، فلا يسري إلى القول العادل. قلت : لا ريب أنّ قوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا) ممّا حذف فيه الصدر المعلّل به الحكم مثل مخافة أو كراهة وأقيم ما أضيف إليه مقامه وهو ظاهر بل نصّ في التعليل ، فلا يجوز العدول عنه إلاّ بدليل. ثمّ إنّها لو تنزّلنا عن كون التعليل أقوى من المفهوم ، فلا أقلّ من المساواة ، فيتعارضان ولا معوّل إلاّ أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فلا تفيد الآية اعتبار خبر العادل المفيد للظنّ ، وقد يختصّ حكم الآية بالتحرّز عن الندم بخصوص الخبر الموجب له ، أم يجري في كلّ ما أوجبه وإن لم يكن خبرا؟ الوجه هو الثاني ؛ لظهوره في العموم ، فيندرج فيه مثل الشهرة والإجماع المنقول وغير ذلك من الأمارات الظنّية فيكون مؤدّى الآية الكريمة مؤدّى قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ [ عِلْمٌ ].) فإن قلت : المشهور جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة وهو المختار عندكم ، وإذا كان التعليل أعمّ مطلقا من المفهوم ، كان اللازم تخصيص عموم عدم جواز قبول النبأ الموجب للندم من حيث كونه أعمّ من نبأ الفاسق ونبأ العادل الظنّيين بالمفهوم الذي مقتضاه جواز قبول نبأ العادل وعدم وجوب التبيّن فيه ، وحينئذ فلا يبقى تحت عموم التعليل سوى النهي عن قبول نبأ الفاسق الظنّي من دون تبيين. قلت : يندفع هذا السؤال بنظير ما ذكرناه في العامّين من وجه ، وكأنّه مبنيّ على الغفلة عن ذلك. وتوضيح ذلك : أنّ البحث عن جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة وجملته من مباحث التخصيص كمبحث ورود العامّ والخاصّ إذا تنافى ظاهرهما ناظرة إلى المخصّصات المنفصلة بأن يكون هناك دليلان متعارضان أحدهما عامّ والآخر خاصّ ، وأمّا ما لو كان أحد جزءي الكلام عامّا والآخر خاصّا ، فهو خارج عن المباحث المذكورة ، وإنّما هو مندرج في مبحث تعارض الأحوال المعتورة على كلام واحد مثل ما لو دار أمره بين ارتكاب التخصيص فيه أو المجاز أو غير ذلك من الأمور المذكورة في بابه ، فإذا عارض أحد جزءي الكلام الآخر ، كان المناط فيه تحرّي الأظهر منهما وتقديمه على الظاهر سواء كان هو الصدر أو الذيل ، ولا ريب أنّ التعليل أقوى من سائر أجزاء الكلام بحكم أهل التعارف قاطبة ، فيقدّم على غيره عامّا كان أو خاصّا ولو سلّمنا كون النزاع في مبحث تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة.

ص: 130

ص: 131

ص: 132

ص: 133

ص: 134

ص: 135

ص: 136

ص: 137

ص: 138

ص: 139

ص: 140

ص: 141

ص: 142

ص: 143

ص: 144

ص: 145

ص: 146

الثالث من وجوه تقرير الإجماع على حجّية أخبار الآحاد هو أنّ العقلاء بأجمعهم قد أجمعوا على الاتّكال بالخبر الواحد في أمور معادهم ومعاشهم وإن لم يكن محفوفا بقرائن الصدق بل إنّما وجدنا بعد الرجوع إلى طريقتهم والعثور على شريعتهم أنّ جبلّة كلّ عاقل لو خلّي وطبعه يقضي بذلك حتّى أنّ الزوجة ترجع في أخذ أحكامها إلى زوجها ، والصبيان إلى معلّميهم ، وليس ذلك من حيث عدم مبالاتهم بل هو قضية ما أودعه اللّه فيهم من السليقة القويمة والطريقة المستقيمة ، كيف ولولاه لاختلّ أمور دينهم ودنياهم ، ولم يعتمد أوّلهم على آخرهم (1).

لا يقال : إنكار جماعة من العقلاء جواز التعبّد به ينافي ما ذكر من إطباقهم على

ص: 147


1- « ل » : أولاهم لأخراهم.

العمل به كما هو المحكي عن ابن قبة (1) وتابعيه.

لأنّا نقول : إنكارهم ذلك مستند (2) إلى شبهة حصلت لهم ، قاضية بذلك بزعمهم ولا ينافي ذلك اعتمادهم عليه من حيث رجوعهم إلى ديدنهم البسيطة الخالصة من شوائب الريب والشبهات كما هو الشأن في أمثال المقام من الأمور الوجدانية المتنازع فيها كالتبادر ونحوه.

فإن قلت : غاية ما يمكن أن يستفاد ممّا ذكر تقرير المعصوم عليه السلام على العمل بخبر الواحد حيث لا دليل على اعتبار الاتّفاق المذكور إلاّ ما قد (3) عرفت وهو بمكان من الضعف بعد ما أسلفنا لك من الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بما وراء العلم ، فإنّها ردع منهم عليهم السلام عن العمل المذكور.

قلت : قد تقدّم أنّ الأدلّة المذكورة مرجعها إلى أمرين :

أحدهما : أنّ التشريع محرّم مثل ما دلّ على عدم جواز الافتراء على اللّه سبحانه.

وثانيهما : أنّ طرح الأصول العملية المقطوع بها من غير علم يرتفع به موضوعها غير جائز كما هو قضية تعليقها على العلم ، وعلى التقديرين لا ينهض ردعا.

أمّا الأوّل ، فلأنّ بعد التسليم عن استقرار بناء العقلاء على شيء لا ينبغي الارتياب في انتفاء التشريع ، وأنّه يعلم طريق الإطاعة والامتثال ، فإنّه بعد ما فرضنا من أنّ هذا هو طريق امتثال العبيد بالنسبة إلى مواليهم فهو في الحقيقة محقّق لموضوع لم يكن قبل.

وأمّا الثاني ، فلأنّ البراءة والاحتياط والتخيير منها (4) وإن كان قد ورد من الشرع ما يدلّ على اعتبارها إلاّ أنّ العمدة فيها هو حكم العقل المستقلّ القاطع بها على حسب مواردها كما سيأتي إن شاء اللّه ، ومن المعلوم أنّ بعد ما فرضنا من إطباقهم على ذلك لا

ص: 148


1- حكى عنه المحقّق الحلّي في معارج الأصول : 203.
2- « ل » : مستندة.
3- « ش » : - قد.
4- « ل » : منهما؟

وجه لجريان البراءة وأختها كما هو ظاهر.

وأمّا الاستصحاب ، فلم يدلّ دليل على اعتباره إلاّ عدّة من أخبار (1) الآحاد ، ولا سبيل إلى الاستناد إليها في مثل المقام كما لا يخفى ، وبعد الغضّ عن ذلك والتزام قطعية الأخبار الواردة فيه (2) - إمّا بدعوى تواترها ، أو باحتفافها بقرائن تدلّ على صدق إسنادها إليهم عليهم السلام كما ادّعي - الإشكال في ظنّية دلالتها ، غاية ما في الباب الاستناد إلى الأصول اللفظية من أصالة الحقيقة ونحوها ، وقد عرفت أنّ المرجع فيها في الحقيقة هو بناء العقلاء ، ففي مقام استقرّ بناؤهم على أمر (3) - كما هو المفروض - كيف يتمشّى الأخذ بأصالة الحقيقة كما لا يخفى؟

وبالجملة ، أنّا نمنع من اعتبار الأصول اللفظية فيما انعقد (4) إطباق العقلاء على خلاف مفادها سواء كان المرجع فيها إلى حكم العقل ، أو بناء العقلاء.

ومن هنا يظهر عدم جواز التمسّك بإطلاقات الآيات الناهية عن العمل بمطلق ما وراء العلم في قبال ما ذكر.

فإن قيل : إنّ (5) حجّية الاستصحاب لو كانت (6) من جهة ما يحصل منه الظنّ بالمستصحب ، جاز القول بعدم اعتباره فيما انعقد بناء العقلاء على خلاف مقتضاه ، وأمّا لو كانت (7) من جهة التعبّد به ، فلا وجه لترك الاستصحاب في قباله ؛ إذ مقتضى التعبّد اعتباره مطلقا غير مقيّد بشيء ، وذلك ظاهر فيما لو كان الظنّ على خلاف الاستصحاب ، هذا غاية ما عندنا من البيان إلاّ أنّه مع ذلك لا ينطبق على الدعوى ، ولا ينهض بتمام المدّعى ؛ فإنّ النسبة بين الدليل والمدّعى في المقام هي العموم من وجه ؛ إذ ليس بناؤهم على العمل بكلّ خبر وإن لم يكن ممّا يعتمد عليه ويوثق به ، ويخرج به

ص: 149


1- « ل » : الأخبار.
2- « ل » : فيها.
3- « ل » : - على أمر.
4- « ل » : اعتقد؟
5- « ل » : - إنّ.
6- في النسختين : كان.
7- في النسختين : كان.

العامل من الحيرة ، كما أنّ بناءهم على العمل بكلّ ما يعتمد عليه وإن لم يكن خبرا وذلك ظاهر ، فإن أراد المستدلّ استقرار بنائهم على هذا العنوان أعني الخبر ، فهو في محلّ المنع (1) وإن أراد أنّهم يعملون بما هو موثوق به ، فلا يتمّ التقريب.

الرابع من وجوه تقرير الإجماع هو إطباق أصحاب الأئمّة عليهم السلام على العمل بخبر الواحد الكاشف عن رضا رئيسهم ، وهذا ممّا لا يدانيه ريب بعد ملاحظة حالاتهم المنقولة والتتبّع في كلمات أصحابنا الرجاليّين ، وقرّر العلاّمة هذا الإجماع في النهاية على ما حكي بإجماع أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ولعلّه ينظر إلى دفع مقالة من لا يتعبّد بخبر الواحد من العامّة ، وإلاّ فلا يستقيم وجها للمدّعى لعين ما يراه المرتضى على الهدى بعد اعتراضه على نفسه بمثل ما ذكر (2) من أنّ العمل من الأخيار (3) منهم بالأخبار غير معلوم ، ولا عبرة بعمل غيرهم من المتّفقين للأمارة ، والمتكلّفين للخلافة ، الذين ما كان لأحدهم أن يردعهم كما يظهر من الأمثلة الواردة في النهاية للمقام.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الردع لطف ، وإظهار الحقّ لطف آخر ، وعدم ارتداعهم بذلك غير مضرّ في مقام الإظهار ، فسكوت الحجّة عن عملهم وعدم إظهار بطلان الطريقة المذكورة من العمل بخبر الواحد يدلّ على رضاه بالعمل المذكور ولا غبار عليه.

ثمّ اعلم : أنّ الأدلّة المذكورة كتابا وسنّة وإجماعا مختلفة المفاد حيث إنّ برهة منها تدلّ على أنّ العبرة بخبر الواحد ، وجملة منها (4) يظهر منها الاعتماد على الوثاقة ، وفرقة يكشف عنها الاتّكال على المظنّة كما أنّ فتاوى المجمعين أيضا تحتمل وجوها ، فمنهم من يحتمل اعتماده على عنوان الخبر ولو عن فاسق كما هو المنسوب إلى الحشوية ، ومنهم من يعتبر اشتهار الرواية وضبطها في الأصول المشهورة ، ومنهم من يقتصر على الأخبار الموثوق بها ، ومنهم من يتجاوز عن ذلك إلى الأخبار المظنون صدورها ،

ص: 150


1- « ش » : من المنع.
2- « ل » : ذكرنا.
3- « ش » : عمل الأخيار.
4- « ش » : - منها.

ومنهم من يشترط في قبول الرواية عدالة راويها ، ومنهم من يعمل بالأخبار المروية المسموعة عنهم عليهم السلام شفاها ولا يبالون بترك المكاتبات إلى غير ذلك من الوجوه والاحتمالات.

ثمّ إن كان بعض هذه الوجوه أخصّ مطلقا من بعض ، فالمتيقّن هو الخاصّ كما في من يشترط الوثاقة ومن يعتبر المظنّة ، فإنّ القول بالوثاقة هو القدر المتيقّن وإن كان أعمّ وأخصّ من وجه ، فالمتيقّن من الوجوه المحتملة هو مورد الاجتماع كما فيمن يقول بالعدالة ، ومن يعتمد على الأخبار الشفاهية ، فإنّ القول بالخبر العدل المروي شفاها متيقّن ، وأمّا مورد الافتراق ، فلا ، فالقدر المتيقّن المعلوم اعتباره وحجّيته من الأدلّة المعهودة هو (1) الخبر الجامع لجميع القيود المذكورة ، و (2) على تقدير وجوده ، فلا شكّ في قلّته.

هذا ما اقتضاه النظر الجليّ ، وأمّا النظر الدقيق ، فما اقتضاه القول باعتبار الخبر الموثوق به الذي يحصل منه الاطمئنان ، فإنّ آية النبأ الآمرة بالتبيّن عن خبر الفاسق تقيّد الآيات المطلقة كآيتي النفر والكتمان ، فإنّ التبيّن على ما مرّ ظاهر في التبيّن العرفي سيّما بعد ملاحظة إقرانه بما يوجب الحمل عليه وإن كان بحسب اللغة حقيقة في خصوص العلم.

وتوضيح المقال بأن يقال : يحتمل أن يكون المراد بالتبيّن طلب العلم بحقيقة الحال في خبر الفاسق على أن يكون المناط في الحكم هو العلم من غير اعتماد على إخبار الفاسق له بعد ظهور صدقه وعدم خفاء مدلول خبره كما هو الظاهر من لفظه عند تجرّده عمّا يوجب حمله على خلافه ، وحينئذ يتّجه القول باعتبار العدالة تعبّدا ، ويحتمل أن يكون المراد به هو التبيّن العرفي بحيث يعدّ في العرف تبيّنا بأن يكون المناط هو وثاقة الخبر كما هو الظاهر في خصوص المقام ؛ للزوم حمل الخطابات على متفاهم

ص: 151


1- « ل » : وهو.
2- « ل » : - و.

العرف ، وكثيرا ما يستعمل لفظ التبيّن عند العرف ويراد به الظهور وعدم الخفاء ، ولا نعني بالوثاقة إلاّ هذا المعنى ، مع أنّ التعليل المذكور في الآية - وهو خوف إصابة القوم بجهالة والإصباح على الندامة - ممّا يرتفع به نقاب الشكّ عن وجه المطلوب حيث لا خوف مع حصول الوثاقة ، ولو رام الخصم دفع هذا الاحتمال رأسا بأن يلتزم بلزوم تحصيل العلم بانتفاء خوف الإصابة ، يلزمه (1) عدم اعتبار خبر العادل أيضا ؛ فإنّ طريق احتمال خوف الإصابة والندامة لا ينسدّ بالعدالة ، فيناقض صدر الآية الدالّة على اعتبار خبر العادل ذيلها (2) لما عرفت ، فمقتضى الجمع هو حمل التبيّن على التبيّن العرفي كما ذكرنا.

فظهر ممّا ذكر تقييد الآية المذكورة بحصول الوثاقة ، فلا بدّ من حمل مطلقات الآيات على مقيّداتها كما هو الشأن في غيرها من الأدلّة المطلقة مع المقيّدة. هذا هو الكلام في الآيات.

وأمّا الأخبار ، فالمستفاد منها حقيقة هو الاعتماد على الخبر الموثوق به وإن لم يكن من عادل ، فإنّ جملة منها وإن كانت مطلقة إلاّ أنّ بعضها كما مرّ مقيّدة بالوثاقة ، فيقيّد مطلقها ، وإذ قد عرفت عدم اعتبار العدالة تعبّدا ، فلا سبيل إلى تقييد مطلقاتها بالعدالة.

وأمّا الإجماع ، فالإنصاف انعقاده على مطلق الخبر الموثوق به على وجه تسكن إليه النفس ، ولا يحتاج في تحصيل هذا الإجماع إلى ضمّ فتاوى جماعة يعتبرون العدالة ، فإنّ الرجوع إلى أحوال أصحاب الأئمّة وكلمات أصحاب الرجال وملاحظة ما يستفاد من مطاوي عبائرهم كاف في التحصيل (3) غاية الكفاية.

فإن قلت : هذا مناف لما انعقد عليه إجماعهم من اشتراط قبول خبر الواحد

ص: 152


1- « ل » : - بلزوم تحصيل ... يلزمه.
2- « ل » : وذيلها.
3- « ل » : تحصيله.

بالعدالة على ما ادّعاه جماعة.

قلنا : أمّا شيخنا أبو جعفر الطوسي قدس سره القدوسي فقد فسّر العدالة بالتحرّز عن الكذب (1) ، وهذا المعنى ممّا لا ريب في اشتراطه ، ولا يضرّ لما نحن بصدده ، وأمّا من فسّرها بالملكة أو بغيرها ممّا ينافي ما ذكرنا ، فالتحقيق أنّه ناش من اجتهادهم في آية النبأ ، وذهابهم إلى أنّ المراد من التبيّن هو التحقّق والتثبّت العلمي ، وبعد ما عرفت من فساد المبنى ، فلا وجه للاتّكال على البناء ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ شرط العمل بخبر الواحد في نفسه - مع (2) قطع النظر عمّا يوجب الوثاقة من القرائن الخارجية والاكتفاء بالقرائن الداخلية - العدالة كما هو صريح المحقّق في المعتبر (3) ، وليس ما قلنا حديثا مستحدثا أخبرناه من عند أنفسنا بل هذا هو بعينه ما اعتمد عليه القدماء من أصحابنا الإمامية من الأخبار الموثوق بها على ما صرّح به جماعة من أنّ الصحيح عندهم ليس على مصطلح المتأخّرين بل كلّ ما كان معمولا عند الأصحاب ، مقبولا لديهم - ولو باكتنافه بالقرائن المفيدة لذلك - فهو صحيح عندهم.

وأمّا المتأخّرون من أصحابنا أيضا اضطرّوا إلى تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة المعهودة بعد اختفاء القرائن المكتنفة بها ؛ تحصيلا لما يمكن استناد الوثوق إليها ، ولم يبق لنا قرينة تدلّ على الوثاقة إلاّ ما دوّنوها أصحابنا الرجاليين (4) في تراجمة رواة الأخبار ، وما تكرّر من مضامين جملة من الآثار في الكتب المتداولة وسوى ما يوجّه من انطباق الخبر بعمل الأصحاب ، فجزاهم اللّه عن الإسلام خير الجزاء ، فلولا

ص: 153


1- قال في العدّة 1 : 152 : فأمّا من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرّزا فيها ، فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره ، ويجوز العمل به ؛ لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه ، وإنّما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته ، وليس بمانع من قبول خبره. ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم.
2- « ش » : ومع.
3- انظر المعتبر 1 : 29.
4- منصوب بالتخصيص.

تدوينهم أحوال رجال الرواية وما نصّهم الأخبار الموجبة للهداية ، وتصنيفهم الكتب الفقهية المورثة للدراية ، لاندرست آثار الشريعة.

وبالجملة ، بعد ملاحظة الآيات المذكورة ، والأخبار المسطورة والإجماعات المحكيّة ، عن الشيخ (1) وابن طاوس (2) والعلاّمة (3) لنا (4) يحصل القطع - بحيث لا يشوبه ريب ، ولا يدانيه شكّ - برضا المعصوم عليه السلام على العمل بالأخبار الموثّقة المعمولة المقبولة التي تسكن النفس لدى العمل بها ولو من فاسق بل وكافر ، ولا ينبغي الجمود على ظاهر العدالة بعد ما قرّرنا من أنّها تكشف عن وثاقة الرواية.

قال الأستاذ دام ظلّه : ولست أوّل من اخترع هذا المذهب ، فإنّه بعينه هو المنقول من (5) القدماء ، فهذا شيخنا البهائي قد أورد في مشرق الشمسين (6) على ما حكاه المحقّق الثالث رحمه اللّه عنه ما فيه غنية عن غيره ، فراجعه.

وقد يستدلّ للقول باشتراط العدالة بوجوه :

منها : ظاهر آية النبأ وقد مرّ وجه التقريب والمناقشة.

ومنها : الإجماعات المنقولة في جملة من (7) كلمات أساطين الفنّ وقد مرّت (8) الإشارة إليها بجوابها.

ومنها : جملة من الأخبار المأثورة في الباب ، وبرهة من الآثار المسطورة في أحوال الأصحاب مثل ما روي عنهم عليهم السلام بعد ما سئل عنهم : « خذوا [ ب- ] -ما رووا وذروا ما رأوا » (9) فإنّه بظاهره يعطي اشتراط العدالة ، وإلاّ فلا وجه للسؤال كما لا يخفى.

ص: 154


1- العدّة 1 : 126.
2- فرج المهموم : 42.
3- قاله في نهاية الوصول كما عنه في المعالم : 191 ؛ الوافية : 159 ؛ فرائد الأصول 1 : 333.
4- « ل » : - لنا.
5- « ل » : عن.
6- انظر مشرق الشمسين : 26.
7- « ش » : - من.
8- « ش » : مرّ.
9- الوسائل 27 : 102 و 142 ، باب 8 و 11 من أبواب صفات القاضي ، ح 79 و 13. وسيأتي في - ص 211.

وما نقل في ترجمة إبراهيم بن عبد الحميد من أنّه لم يعتمد عليه بعض مشايخ أصحابنا معلّلا بأنّه لم يرو عن الرضا عليه السلام مع إدراكه الصحبة (1) إلى غير ذلك من الوجوه الغير الخفية على المتتبّع إلاّ أنّ الظاهر منها هو بيان طريق الوثاقة والاجتهاد فيه ، مع أنّ الرواية يمكن قلبها عليهم حيث أمر بالأخذ بروايتهم مع ظهور فسقهم مضافا إلى ما ادّعيناه من (2) الإجماع.

وبالجملة ، فالأمارات وإن تعارضت من الطرفين إلاّ أنّ المتدبّر المتفطّن المتدرّب بالأخبار وأحوال الرجال وفقه أصحابنا الأخيار يظهر له ما قلنا كما يكشف عنه ما ورد في بعض الأخبار العلاجية (3) من الأمر بالأخذ بما قال به أوثق الراويين ، فتدبّر في المقام ؛ فإنّه من (4) مزال الأقدام ، ومهابط الأوهام ، ومطارح الأفهام ، وعليك بالإنصاف ، وترك الاعتساف في تحصيل الوثاقة التي اعتبرناها ، فإنّها بعد إمعان النظر ممّا لا يقبل الإنكار ، فإنّ أكثر الأخبار المودعة في كتب أصحابنا ممّا تركن النفس إليه من جهة صدوره من الإمام ، واحتمال السهو والنسيان والإرسال ممّا يندفع بالأصول المتّفق عليها ، ولا يضرّ في تحصيل الوثاقة على ما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الآيات والأخبار والإجماع.

وأمّا العقل ، فقد يقال : إنّه تارة يحكم باعتبار أخبار الآحاد بالخصوص ، وأخرى يحكم بعنوان كلّي كالظنّ مثلا وهو يشمل بعمومه أخبار الآحاد أيضا ، فلنذكر كلاّ منهما في مقام خاصّ به.

المقام الأوّل في بيان الأدلّة التي تدلّ على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص :

ص: 155


1- « ش » : لصحبته.
2- « ل » : مع؟
3- مستدرك الوسائل 17 : 303 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 2 ؛ بحار الأنوار 2 : 245 ، باب 29 ، ح 57.
4- « ل » : - من.

فمنها : أنّا بعد ما وجدنا وثاقة رواة الأخبار واجتهادهم في تصحيح الآثار مع وفور علمهم وكثرة ورعهم وزيادة حذاقتهم ، علمنا علما ضروريا - لا ريب يدانيه ، ولا شكّ يعتريه - بصدور جملة كثيرة من الأخبار المودعة في كتب أصحابنا مثلا من معادن الوحي ومهابط التنزيل.

وكفاك شاهدا في المقام مراجعة ما قيل في بعض مشايخ الرواية وهو العيّاشي صاحب التفسير من بذله ثلاثمائة ألف دينار في تنقيح الأخبار ، فكان بيته كالمسجد بين قار أو كاتب ومقابل ومصحّح ، وكيف لا مع أنّا لو حاولنا كتابة كتاب يشتمل (1) على أحوال معاصرينا - وإن لم يرتبط بأمر ديني - نبذل الجهد في تنقيحها وتحصيل ما هو الواقع من حالهم والاحتراز عن الأكاذيب بل عمّا لا نثق به ، ولا نعتمد عليه ، ولعمري إنّ مؤلّفي كتب الأخبار لا يقصر حالهم عن أصحاب النقل ، وأرباب التواريخ وأئمّة اللغة ، فكما أنّا نعتمد عليهم في نقلهم ، ويحصل لنا العلم بل القطع بمطابقة جملة ما ألّفوها ، فكذا يحصل لنا العلم في المقام بصدور جملة من الأخبار ولو بألفاظ مترادفة تفيد مفادها من مخازن العلم ، وبعد إحراز هذا الموضوع نقول : يجب العمل بما علمنا أنّه قول المعصوم من أمر أو نهي مثلا ، فإن علمناه بخصوصه ، فهو ، وإلاّ فلا بدّ إمّا (2) من العمل بجميع المحتملات عند إمكان الاحتياط ، أو تعيين القول الصادر بطريق ظنّي لقضاء العقل القاطع به وهو المطلوب.

وفيه أوّلا : أعمّية الدليل عن المدّعى ، فهو في الحقيقة ينهض على المقام الثاني ؛ فإنّ مناط وجوب العمل بقول المعصوم ليس هو قوله من حيث قوله بل من جهة كشفه عن الواقع ، ومع التنزّل ، فالعبرة بمطلق رضائه ونحن نعلم علما إجماليا بمطابقة جملة من الأمارات الظنّية كالإجماع المنقول والشهرة وعدم الخلاف ونحوها للواقع ، فيلزم رضا المعصوم به ، فالدليل المذكور لو تمّ ، يدلّ على اعتبار مطلق الأمارات الظنّية حيث

ص: 156


1- « ل » : يشمل.
2- « ل » : - إمّا.

ما عرفت من تنقيح مناطه وحصوله في غير المدّعى أيضا.

لا يقال : حصول العلم بمطابقة بعض مضامين الشهرات مثلا ممنوع ، فلا يستقيم دفعا.

لأنّا نقول : بعد الإغماض عن ادّعاء حصول العلم فيها إذ كما أنّ الأخبار حكايات عن الواقع ، فالشهرات أيضا كذلك ، فلا أقلّ من حصول العلم بانضمام أمارة ظنّية أخرى كالإجماع المنقول إليها.

ولو سلّمنا عدم حصول العلم بانضمام الأمارات جميعها إليها ، فلا أقلّ من حصول العلم بانضمام الأخبار إليها ، وليس ذلك من جهة انضمام الأخبار إليها بحيث لم يكن لها مدخل في حصول العلم كما قد يتوهّم بل يحصل العلم بملاحظتها أيضا.

وممّا يدلّك على ذلك أنّه لو ضمّ إليها صنف من الأخبار كالضعاف مثلا بحيث لم يحصل فيه العلم بملاحظة نفسه ، يحصل العلم بمطابقة جملة مردّدة بملاحظة (1) المضموم والمضموم إليه بالواقع على ما لا يخفى.

وبالجملة ، فالمناط في لزوم العمل بالخبر هو كشف الواقع مع اقترانه برضا المعصوم ، والعلم المدّعى بمطابقة جملة من الأخبار بالواقع أيضا حاصل في غيرها من الأمارات ، فلا وجه لتخصيص الدعوى بها دون غيرها بعد قضاء البرهان في غيرها أيضا.

وثانيا : سلّمنا عدم حصول العلم في غيرها من الأمارات ولو بانضمامها إليها - كما هو المفروض سابقا - لكنّ الدليل مع ذلك يعمّ غير المدّعى ؛ فإنّ المدّعى اعتبار الأخبار المظنون صدورها ، وبعد ما عرفت من أنّ مناط الدليل هو مطابقة الواقع ، يلزم القول باعتبار الخبر الموهوم صدوره فيما لو طابق أمارة ظنّية كاشفة عن الواقع مثل انجباره بالشهرة ، أو بالإجماع المنقول وغير ذلك ، فإنّه حينئذ مفاده ظنّي يورث

ص: 157


1- « ش » : بين.

الظنّ بالواقع مع وهم سنده وصدوره ، لكنّه يلزم العمل به بمقتضى الدليل المذكور.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مطابقة (1) مضمون الخبر بأمارة ظنّية ، وانجباره بها مثلا (2) يوجب الظنّ بصدور الخبر ولو بلفظ يؤدّي مؤدّاه ، فالموهوم هو صدور تلك الألفاظ الخاصّة وهو لا ينافي ظنّية صدور مرادفاتها ، فيصدق عليه أنّه خبر مظنون الصدور ولو بلفظ مرادفه كما لو (3) أخبر من لا يظنّ بصدقه من إمام بأنّه قال مثلا : الهرّة طاهر ، وكان موافقا لما عليه الأصحاب ، يظنّ بصدوره عن (4) المعصوم ولو بلفظ آخر كالسنّور ونحوه.

وثالثا : إنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، فإنّ قاعدة الشغل يقضي بوجوب العمل بالأخبار المثبتة للتكليف.

وأمّا الأخبار النافية له كقوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (5) وما يدلّ على عدم لزوم الاجتناب عن المباحات العقلية والأخبار النافية لأجزاء الماهية (6) وشروطها بخصوصها أو عمومها ، فلا دلالة في الاحتياط على لزوم العمل بها والاستناد إليها بل ومقتضى الاحتياط (7) ترك العمل بها (8) مثلا قوله : « كلّ شيء مطلق » (9) قد دلّ بعمومه على نفي العقاب في شرب التتن عند فقد نصّ فيه بالخصوص أو مع وجوده ، وإجمال الدلالة والاحتياط لا يقضي بالأخذ بل ربّما كان الاحتياط على خلافه وترك الشرب

ص: 158


1- « ل » : مطابقته؟
2- « ش » : مثلا بها.
3- « ل » : - لو.
4- « ش » : من.
5- مستدرك الوسائل 18 : 20 ، باب 12 من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 4 عن عوالى اللآلى. وسيأتي في ص 355 و 528 و 586.
6- « ش » : الماهيات.
7- في هامش « ل » : المراد بهذا الاحتياط هو الاحتياط في المسألة الفرعية.
8- « ل » : به؟
9- الوسائل 6 : 289 ، باب 19 من أبواب القنوت ، ح 2 ، و 27 : 173 - 174 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 67.

والإتيان بالمحتملات في مقام الشكّ في الشرط أو الجزء مثلا.

لا يقال : يمكن إتمام الدليل والتقريب بعدم القائل بالفرق وانتفاء القول بالفصل.

لأنّا نقول : الاستناد إلى مثل ذلك إنّما يصحّ فيما لو احتملنا اتّحاد طريق الحكم في طرفي الإجماع ، وأمّا فيما لو علمنا باختلاف جهتي الحكم في طرفي الإجماع ، فلا وجه للاستناد إليه.

وبالجملة ، فالإجماع المركّب إنّما يكشف عن اتّحاد علّة الحكم فيما إذا كان الحكم توقيفيا موقوفا على بيان الشارع ، وأمّا بعد ما فرضنا من العلم بعدم وجود شيء يجمعهما فلا.

ومنها : ما استند إليها الفاضل الكامل الملاّ عبد اللّه التوني في محكيّ الوافية (1) بعد ذهابه إلى اعتبار الأخبار المودعة في الكتب المعتبرة المعمولة عند جماعة بحيث يخرج عن وصف الشذوذ من (2) أنّا نعلم علما ضروريا بكوننا مكلّفين بأصول كلّية ضرورية كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها من العبادات والأحكام والعقود والإيقاعات مثلا ، ونعلم علما إجماليا بأنّ بيانات أجزاء تلك الأصول والكلّيات وشرائطها إنّما اشتملت عليها جملة من أخبار (3) الآحاد وحيث لا نعلمها بالخصوص فلا بدّ من العمل بالأخبار في بيان تلك الحقائق ، وإلاّ لخرجت عن كونها تلك الحقائق ، بل ولا محيص عن ذلك ، فإن كان من ينكره باللسان فقلبه مطمئن بالإيمان.

ويرد عليه أنّ الدليل يعمّ الدعوى في وجه ، ويخصّها في وجه آخر ، فلا يتمّ التقريب.

أمّا أوّلا ، فلأنّ تلك الحقائق الكلّية إمّا أن تكون مجملة أو مطلقة ، ولا يكاد يشتبه الفرق بينهما عند أولي الأنظار المستقيمة ، فإنّها على الثاني تستقيم دفعا لبعض

ص: 159


1- الوافية : 159.
2- « ل » : - من.
3- « ش » : الأخبار.

المحتملات أخذا بالإطلاق بعد إحراز ما هو المتيقّن اعتباره فيها بخلاف الأوّل ، فلا ينهض برفع جزء محتمل ، أو شرط مردّد حيث إنّها من أصلها غير معلومة المراد على هذا التقدير ، فلا مناص من الإتيان بجميع المحتملات ، وذلك على حذو قولهم فيما لو قلنا بأنّ أسامي العبادات إنّما هي للصحيحة ، أو قلنا بأنّها للأعمّ لكن كثرة المخصّصات والمقيّدات قد أجملها (1) ، فلا ينهض بإطلاقه في دفع المحتملات في غير المتيقّن.

وبالجملة ، فلو كانت تلك الحقائق مجملات ، فلا بدّ إمّا من الإتيان بجميع ما يحتمل كونه شرطا ، أو جزءا في بيان تلك الماهيات المجملة الثابتة بالضرورة لو قلنا بأنّ المعتمد بعد عدم التمكّن من الوصول إلى حقائق أجزاء تلك الحقائق وشروطها هو الاحتياط ، ولا فرق في ذلك في نظر العقل بين الأمارات من (2) حيث إنّ اعتبار الأخبار أوّل المدّعى ، فلو احتملنا من الشهرة جزئية شيء لحقيقة الصلاة المجملة ، نقول بلزوم الإتيان به إلى غير ذلك من الموارد ، فلا وجه لتخصيص الاعتبار على هذا التقدير بالأخبار بعد جريان الدليل في غيرها أيضا كما أنّه لا وجه للتخصيص المذكور لو قلنا بأنّ المرجع في بيان المجمل في الفرض المذكور على الأجزاء المظنونة ؛ إذ لا فرق أيضا في نظر العقل بين الأمارات الظنّية فالقول باعتبار بعضها دون غيره مع اتّحاد المناط في الكلّ ممّا لا يصغى إليه ، ولو كانت الحقائق الثابتة بالضرورة مطلقة مع العلم بأنّ جملة من شرائطها وأجزائها تشتمل عليها الأخبار ، فليعمل في إحراز الشرائط والأجزاء بصنف (3) خاصّ من الخبر مع دفع المحتملات الأخر بأصالة الإطلاق ، أو أصالة البراءة على القول بها.

فإن قلت : وبعد ذلك يعلم أيضا بوجود التقييدات في صنف آخر غير ما علمنا به ،

ص: 160


1- في هامش « ل » : بل ربّما يحكم بالإجمال العرضي أيضا على هذا التقدير لأجل ورود المطلقات في مورد الحكم الآخر.
2- « ش » : - من.
3- « ل » : لصنف.

فلقائل أن يقول : إنّا نعلم أيضا بوجود التقييدات في غير الخبر من سائر الأمارات.

ودعوى وجود العلم في الأخبار ولو فرضنا منها صنفا يبلغ مائتين مثلا ، أو أقلّ ، أو أكثر وعدمه في غيرها من (1) الأمارات ولو بعد انضمام بعضها إلى الآخر مكابرة واضحة ، ومجازفة بيّنة ، وعهدتها على مدّعيها ، فإن استند إلى (2) عدم الكفاية في الاكتفاء بالخبر الصحيح مثلا ، فلقائل أن يقول : يمكن الاستناد إليه في الاكتفاء بمطلق الخبر ، فلا بدّ من التعدية بحسب الدليل ، مع أنّ الدعوى خاصّة بالخبر.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الدليل المذكور يقضي بلزوم الإتيان بجميع ما يحتمل كونه جزءا ، وكان ممّا يستفاد من الخبر سواء كان ممّا اجتمع فيه القيدان المأخوذان في الدعوى ، أو لم يشتمل عليهما معا ، أو أحدهما لو لم يحكم بلزوم تعيين المقيّدات المثبتة للأجزاء والشرائط بطريق ظنّي كما أنّه يقضي بالاقتصار على الأخبار المظنونة في الظنّ ، مع أنّه لا يلازم القيدين المعتبرين في العنوان ، فيلزم اعتبار قيد الظنّ أيضا وهو ممّن لا يقول به.

وبالجملة ، فالمرجع في الدليل إن كان هو الدليل الرابع ، فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها.

وأمّا ثالثا : فلأنّ محصّل الدليل هو الأخذ بالاشتغال ، ومقتضاه لا يزيد عن العمل بالأخبار المثبتة للتكاليف دون غيره كما عرفت تفصيل القول فيه في الردّ على الوجه الأوّل في المقام.

وأمّا الاستناد إلى الإجماع المركّب ، فكما مرّ لا وجه له بعد العلم بانتفاء العلّة المستندة إليها الحكم في أحد جزءي الإجماع.

ومنها : ما أفاده بعض أعاظم محقّقي المتأخّرين في تعليقاته على المعالم (3) في ضمن

ص: 161


1- « ش » : مع.
2- « ل » : فإن استدلّ على.
3- هداية المسترشدين : 397 ( السادس ).

كلام طويل ، فلنقتصر على بيان الملخّص منه وهو أنّ الضرورة الدينية قاضية بوجوب الرجوع في الكتاب في جميع الأعصار والسنّة ، مضافا إلى الأخبار الواردة في هذا المضمار البالغة حدّ التواتر ، وحيث علمناها (1) بالخصوص ، فلا إشكال كما أنّه لا إشكال فيما لو قام قاطع على نفيها (2) ، وأمّا فيما لو انسدّ باب العلم أو ما قام مقامه إليهما ، فلا بدّ من إعمال الظنّ في طريق نفيهما (3) كما هو الشأن في كلّ ما انسدّ فيه باب العلم على ما يقضي به العقل القاطع ، فيلزم لزوم العمل بالسنّة المظنونة وهو المطلوب.

ويرد عليه إجمالا : أنّ هذا الدليل مرجعه في الحقيقة إلى دليل الانسداد ، فلا ينهض بإثبات لزوم (4) العمل بالأخبار كما هو المناط في المقام ، وتفصيلا أنّ المستدلّ إن أراد من السنّة قول المعصوم وفعله وتقريره - كما يشعر إليه دعواه بقيام الضرورة عليه ، واقترانه بالكتاب وبقاء التكليف بالعمل به - فهو في محلّه إلاّ أنّه غير مختصّ بما زعمه من أخبار الآحاد حيث إنّ الشهرة والإجماع المنقول أيضا من السنّة المظنونة بهذا المعنى ، وغيرهما من الأمارات التي تكشف عن السنّة بالمعنى المذكور.

وتوضيح ذلك : أنّ الحاصل من المقدّمات المذكورة وجوب الأخذ بما ظنّ كونه سنّة بعد انسداد طريق العلم إليها ، فلنا أن نقول : إنّ الشهرة أيضا ممّا يظنّ كونه سنّة على ما هو المفروض من السنّة بل قد يمكن أن يقال : إنّها أقوى في استكشاف السنّة عنها من (5) غيرها ؛ إذ ابتذال مدلوله واشتهار مفاده عند الأصحاب مثلا ممّا يؤكّد صدور قول أو فعل أو حصول تقرير منهم فيه ، وهكذا نقول في غيرها من الأمارات الظنّية.

لا يقال : غاية ما هناك لزوم الأخذ بالشهرة والإجماع وغيرهما من الأمارات الكاشفة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وأمّا غيرها من الأمارات - التي هي في

ص: 162


1- « ل » : علمناهما.
2- « ل » : تعيينهما؟
3- « ل » : تعيينهما؟
4- « ل » : - لزوم.
5- « ل » : عن.

عرض قول المعصوم أو فعله أو تقريره ما يستكشف بها من المصلحة الكامنة (1) والحكم الواقعي كالأولوية والاستقراء ونحوهما - فلا دليل على اعتبارها.

لأنّا نقول : أوّلا : لا يهمّنا البحث فيها ؛ فإنّ لها مقاما سيأتي ؛ إذ يكفي في الردّ على المستدلّ في المقام جريان دليله في غير مدّعاه بعد ما زعمه من الاختصاص ولو في مورد.

وثانيا : أنّ الأولوية أيضا كاشفة عن السنّة ؛ إذ ليس الكلام فيما حجب اللّه علمه عن العباد ، وجعله من مخزون العلم عنده بل الكلام في الأمور العادية التي بيّنوا أحكامها ، فالأولوية في واقعة كذائية تورث الظنّ بالواقع وهو يلازم ظنّ صدور سنّة منهم عليهم السلام عليه كما لا يخفى.

وثالثا : إنّ العمل بالسنّة وجوبه ليس وجوبا نفسيا من جهة اعتبارها من حيث هي هي ؛ إذ الأدلّة التي دلّت على وجوب العمل بالسنّة لا يزيد مفادها على لزوم الأخذ بها من جهة كشفها عن الواقع والأولوية لو لم نقل بالأولوية من جهة كشفها عن الواقع ، فلا أقلّ من عدم اقتصارها عن غيرها ، فلا مناص من الاتّكال عليها وورودها على المستدلّ هذا ، وإن أراد المستدلّ من السنّة المدّعى على لزوم العمل بها ضرورة الدين والإجماع بالخبر الخالي عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فإن أريد بالخبر القطعي ، فمسلّم لكنّه غير مفيد ؛ إذ هو على تقدير معلوميّته ممّا لا ينبغي التكلّم فيه ، وعلى تقدير عدم معلوميّته والعلم به إجمالا يرجع الدليل إلى الوجه الأوّل ، وإن أريد الخبر الظنّي فالضرورة قضت بعدم ضرورة لزوم العمل به ، كيف وهو المعركة العظمى وأوّل المدّعى.

وبالجملة فإن آل إلى رابع الأدلّة ، فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل من وجوه الأدلّة التي يمكن الاستناد إليها في حجّية أخبار الآحاد

ص: 163


1- « ل » : الكاشفة؟

بالخصوص نقلا وعقلا ، وحاصلها اعتبار الأخبار الموثوق بها ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ الوثوق أمر إضافي لا ينضبط غالبا بل هو موكول إلى نظر المجتهد ، فربّما يتخيّل من لا خبرة له بأمر الأخبار والرواة أنّ شيئا من الروايات المودعة في كتب أصحابنا كالكافى والتهذيب والوافى والفقيه مثلا ممّا لا وثوق بها بل إنّما هو مجرّد سواد على بياض ، كما أنّه قد يتوهّم أنّ جلّ الأخبار بل كلّها أخبار موثوقة ، ولا اعتبار بما تخيّل ، ولا بما توهّم بل لا بدّ من العامل بذل جهده في تشخيص غثّها عن سمينها ، وصحيحها عن سقيمها ، ولنشرع في بيان الوجوه التي تدلّ بعمومها على حجّية الخبر وهي لعموم قضيتها وإن كانت تشمل غير الخبر من الأمارات الظنّية إلاّ أنّ بعد ما قرّرنا من اعتبار الأخبار الموثوقة يمكن استرجاع الدليل هذا إلى الخبر بدعوى كفايته في الفقه حيث إنّه لا يختصّ صنفا خاصّا دون غيره وكونه القدر المتيقّن.

ثمّ إنّا لمّا نفترق بين المسائل الأصولية والموارد الفقهية في العمل بالظنّ الموثوق به ، فلو ظنّنا ظنّا موثوقا به باعتبار أمارة ظنّية غير (1) موثوق بها ، نلتزم بالعمل (2) بها كما لو حصل لنا الظنّ الذي يسكن إليه النفس باعتبار الشهرة مثلا أو الأولوية الظنّية مثل ما لو حصل الوثوق في الحكم الفرعي من نفس الأولوية التي لا ترجع إلى دلالة اللفظ كما نرى في الحكم بحرمة امرأة ذات عدّة على من دخل بها في أيّام العدّة احتراما للفروج ، فإنّها أولى من امرأة ذات بعل (3) أولوية لا تكاد تنكر بل لا يستبعد (4) أن يستند إليها القائل بالظنّ الخاصّ أيضا كالأولوية التي تكون في أفعال الصلاة بالنسبة إلى ركعاتها مثلا ، لو قلنا بكفاية الظنّ في إحراز ركعات الصلاة عند الشكّ فيها ، نقول : إنّه (5) أولى في الكفاية عن إحراز (6) الركعات - وهي الأفعال - أولوية موثوقة بها كما هو

ص: 164


1- « ل » : - غير؟
2- « ل » : من العمل.
3- « ل » : البعل.
4- « ل » : لا يبعد.
5- « ل » : إنّها.
6- هنا زيادة استدركت في هامش « ل » : ما يجب في.

ظاهر ، بخلاف ما لو لم تفد الوثوق كما زعم بعضهم أولوية الماء المختلط بالدم في الحكم بكونه معفوّا عنه عن نفس الدم مثلا ، فتدبّر.

المقام الثاني في بيان الوجوه التي تعمّ الخبر من الأدلّة العقلية وهي أربعة :

الأوّل : ما استند إليه جماعة من أصحابنا وجملة من الجماعة (1) وهو أنّ في مخالفة ما ظنّه المجتهد مظنّة ضرر ، وكلّ ما فيه مظنّة الضرر يجب الاحتراز عنه ، فيجب الاحتراز عن مخالفة ما ظنّه المجتهد وهو المطلوب.

أمّا الصغرى ، فلأنّ المخالفة تلازم إمّا خوف إصابة العقاب اللازم للأمر ، أو المفسدة القائمة المقتضية للأمر على ما هو قضية القواعد للطائفة العدلية على سبيل منع الخلوّ بناء على ما زعمه الأشاعرة من انتفاء المفسدة إلاّ أنّه لا أقلّ من مظنّة العقاب في صورة المخالفة على تقديره ، ولا ريب في أنّ العقاب والمفسدة ضرر ، فخوف إصابتهما خوف إصابة الضرر ، مثلا لو ظنّ المجتهد بوجوب واقعة من أمارة ، فلا شكّ أنّ العمل بخلافها حينئذ يلازم العقاب (2) ، أو الوقوع في مفسدة كامنة فيها وهو المراد بالصغرى.

ويمكن تقرير الصغرى بوجهين : بجعل خوف إصابة الواقع تارة محمولا ، والوقوع في المفسدة أخرى كما عن العلاّمة في النهاية إلاّ أنّ فيما ذكرنا غنية عنه ، وأمّا الكبرى ، فضرورة العقل تقضي بها بل وهي من أجلى الضروريات بل عليها مدار جملة من الأصول الدينية ، ولولاه لانسدّ طريق النبوّات ، وانفتح سبيل الهفوات بل يمكن القول بلزوم دفع الضرر الموهوم ، فكيف بالمظنون ، وإنّ من البديهي استقرار طريقة العقلاء في الاجتناب عن إناء يحتمل السمّ فيه لو لم يكن معارضا بما هو أقوى منه ، أو مساو

ص: 165


1- استدلّ به العلاّمة في مبادئ الوصول : 205 والتهذيب : 230 والنهاية كما سيأتي عنه والقمّي في القوانين 1 : 447 ونقل ذلك كلّ من المرتضى في الذريعة 2 : 534 والطوسي في العدّة 1 : 107 والحلّي في معارج الأصول : 207 كما نقل عن جماعة في مفاتيح الأصول : 484.
2- « ش » : بالعقاب.

له.

ودعوى انتساب (1) المجتنب عن الموهوم إلى أصحاب السوداء والجنون إنّما يسلّم في صورة المعارضة دون غيرها.

واعترض على الدليل بوجوه يرجع إلى منع الصغرى بعضها ، وإلى الكبرى بعضها الآخر ، وإلى عدم ترتّب النتيجة بعضها الثالث.

أمّا الثاني ، فوجوه : منها : ما أورده الحاجبي (2) ، وأمّا لو قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين على ما رآه العدلية ، فالعقل إنّما يحكم بأولوية دفع الضرر المظنون ، ولا يحكم بوجوبه.

وفيه أوّلا : أنّه لا فرق في العقول بين الضرر القطعي والظنّي ، فكما أنّ العقل يستقلّ بإدراك وجوب دفع الأوّل ، فكذا في الثاني ، كيف وهو من مباني أصول المعرفة كوجوب معرفة اللّه ولولاه ، لزم إفحام (3) الأنبياء على ما قرّر الوجه في الجميع في محلّه ، وهذا القول منه وأضرابه - الذين ختم اللّه على قلوبهم وأبصارهم - ليس بعجب بعد إنكارهم أصل التحسين والتقبيح ، ولنعم (4) ما قيل : من لا يعرف الفقه ، فقد صنّف فيه.

وثانيا : أنّ الأدلّة الشرعية قاضية أيضا بوجوب دفع الضرر ، فلا يتأتّى منه أيضا إنكار الكبرى كقوله تعالى : ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) (5) وقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (6) وقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (7).

ص: 166


1- « ل » : استناد.
2- شرح مختصر منتهى الأصول : 163 ؛ المتن لابن الحاجب والشرح لعضد الدين عبد الرحمن الإيجي ، ويعبّر عنه ب- « العضدي ».
3- « ش » : انفحام.
4- « ل » : نعم.
5- النحل : 45.
6- النور : 63.
7- الحجرات : 6.

والتقريب في الكلّ واضح بعد ما ترى من (1) الأمر بالتبيّن والحذر لخوف إصابة الفتنة والجهالة والندامة ، فالكبرى على أنّها ضرورية مبيّنة مبرهنة متبيّنة (2) أيضا.

الثاني : ما وجدناه في كلام بعض الأجلّة (3) وهو أنّ العقل إنّما يستقلّ في إدراك وجوب دفع الضرر الدنيوي الذي (4) له تعلّق بأمور المعاش (5) دون الأخروي الذي يرجع إلى المعاد وهو بظاهره غير سديد ؛ إذ بعد ما فرضنا من الصغرى - سواء كان متعلّقا بأمر الدين أو الدنيا - فإنكار الكبرى ممّا لا ينبغي لذي مسكة اللّهمّ إلاّ أن يوجّه بإرجاعه إلى إنكار الصغرى حيث إنّ الأمور الأخروية مبنيّة على دليل علمي ، فمتى لم نجد يحكم العقل بعدم التكليف ولو في مرحلة الظاهر ، فلا تكليف قطعا ولو بملاحظة أدلّة البراءة ، فلا عقاب.

الثالث : ما أفاده المحقّق في المعارج (6) من النقض بالخبر الفاسق والقياس وغيرهما ممّا قام القاطع على عدم حجّيته.

ويمكن التفصّي عنه أوّلا بما قد يستفاد من تضاعيف كلمات الفاضل القمّي رحمه اللّه (7) من الالتزام به مرّة ، وإنكار حصول الظنّ أخرى ، وليس في محلّه كما سيجيء.

وثانيا : أنّ مخالفة الظنّ الحاصل من القياس وإن كان يوجب خوف إصابة الفتنة إلاّ أنّه لا قبح في العقل أن يحكم الشارع بإلغاء ذلك نظرا إلى احتمال وقوع العامل بالقياس من جهة عمله به في محذور أشدّ مفسدة ، وأقوى فسادا.

وتوضيحه : أنّه لو ظنّ المجتهد بواسطة قياس ظنّي بحكم ، فلا شكّ أنّ مقتضى لزوم

ص: 167


1- « ل » : من أنّ.
2- « ل » : أمّا الكبرى على أنّها من الضروريات المبيّنة المبرهنة مثبتة.
3- الفصول : 287 ، انظر الذريعة 2 : 549 ؛ عدّة الأصول 1 : 107 ؛ القوانين 1 : 447.
4- « ش » : - الذي.
5- « ل » : تعلّق بالمعاش.
6- معارج الأصول : 207 ولم يذكر القياس.
7- القوانين 1 : 448.

التحرّز عن الضرر المظنون - كما هو مفاد الكبرى - وجوب متابعة القياس والعمل بمفاده حيث (1) إنّ العمل بالقياس أيضا واقعة من الوقائع ، فيحتمل أن يكون فيها مفسدة أشدّ من المفسدة التي تكون في الحكم المستنبط من القياس ، لأجلها قد ألغى الشارع العمل ، مثلا لو ظنّ بحرمة العصير العنبي قياسا له على الخمر ، ففي استعمال العصير بحكم الظنّ الحاصل من القياس مظنّة ضرر ، فكذا في العمل بالقياس والاجتناب عنه من حيث استناده إلى القياس ، ويجوز للشارع في مقام الجعل طرح الأوّل والحكم بأخذ الثاني متى ما كانت المفسدة الكامنة فيه أقوى ، وليس ذلك من التخصيص في حكم العقل حتّى يقال : إنّ حكم الشرع ليس موافقا لحكم العقل بل كلّ منهما يلازم الآخر بل هو تخصيص وتقييد لمورد حكم العقل.

وبالجملة ففيما نحن بصدده نلتزم بعدم لزوم دفع الضرر المظنون في مخالفة المسألة الفرعية نظرا إلى لزوم دفع الضرر المظنون في المسألة الأصولية ؛ لاحتمال أن يكون الضرر المحتمل فيها أقوى ، وأمّا ما قد يجاب (2) عن مثله بقيام الإجماع على خروجه ، فممّا لا يصغى إليه بعد ما عرفت من أنّ الكلام في جعل الشارع كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ بعد ما استكشفنا من نهي الشارع مفسدة كامنة في العمل بالقياس لأجلها منعنا عن (3) العمل به ، وحاولنا إنكار العمل به لاحتمال أن يكون المفسدة فيه أقوى من المفسدة في الحكم المستخرج منه ، فلا يجوز العمل بكلّ أمارة حيث إنّ الشارع قد نهى عن العمل بها لعموم ما دلّ على حرمة العمل بمطلق ما وراء العلم ، فبعد ملاحظة نهي الشارع عنها يحتمل أن يكون المفسدة الموجبة للنهي عن العمل بالظنّ زائدة على المصلحة المقتضية للعمل به ، وأشدّ من المفسدة المترتّبة على ترك العمل به ، فلا يلتفت إلى دفع (4) الضرر الحاصل عن الترك دفعا للضرر الحاصل من

ص: 168


1- « ل » : وحيث.
2- انظر معارج الأصول : 207 ؛ القوانين 1 : 447.
3- « ل » : - عن.
4- « ش » : لما وقع.

الفعل لاحتمال كونه أقوى.

قلت : فرق بين المقامين ، فإنّ القياس حرمته حرمة ذاتية كما يستفاد من الأدلّة الدالّة على حرمته من أنّ العامل به والمتّكل عليه وإن أصاب الواقع ، فهو مخطئ في الواقع ، فيجري فيه الاحتمال المذكور بخلاف العمل بالظنّ ، فإنّه قد تقدّم أنّ مرجع الأدلّة الدالّة على حرمته إلى أمرين : أحدهما لزوم التشريع ، وثانيهما لزوم طرح الأصول القطعية بلا دليل يرتفع به موضوعها ، فإنّ العامل به تارة يعمل على أنّه هو المرجع في عمله المستند في فعله ، وأخرى يجعل عمله موافقا لما ظهر له ، ومطابقا لإدراكه من غير أن يستند إليه وأخذه مبنى (1).

وعلى الأوّل يلزم التشريع وهو البدعة المحرّمة بالعقل والنقل.

وعلى الثاني فإمّا يكون ظنّه موافقا لأصل من الأصول العملية أو مخالفا لها ، أو لا موافقا ولا مخالفا ، فعلى الأوّل والثالث ، فالمرجع في الحقيقة إمّا الأصل ، أو التخيير ، فلا عمل بالظنّ ، وعلى الثاني يلزم طرح الأصل المخالف من غير دليل علمي يرتفع به موضوعه ، ولا يلزم شيء من المحذورين فيما لو استندنا إلى الظنّ بعد حكم العقل بواسطة لزوم دفع الضرر لوجوب الاستناد كما لا يخفى ؛ إذ العمل به حينئذ عين الشرع ، فلا يلزم التشريع ونفس العلم ، فلا يلزم طرح الأصل من غير علم.

ويمكن الجواب عنه بأنّ العمل بالقياس - من حيث استناد العامل إليه من حيث هو - قياس ، ومن غير ما يوجبه من الاحتياط عمل بالباطل ، وأمّا بعد ملاحظة الاحتياط دفعا للزوم الضرر ، فلا شكّ أنّه أمر مستحسن عقلا بل وشرعا أيضا ، فإنّ المدار في الحكم بالتسامح في أدلّة السنن في المكروهات عليه كما ستعرف إن شاء اللّه حيث إنّ المناط حينئذ في العمل هو الاحتياط وهو ليس من القياس في شيء بل القياس محصّل لموضوع يحكم العقل فيه بالاحتياط ، ومحقّق لعنوان يلتزم بلزوم دفع

ص: 169


1- « ش » : مبنى له.

الضرر فيه ، أما ترى أنّ العقل في صورة الشكّ والاحتمال إنّما يلتزم بإتيان المحتملات كما في الشبهة المحصورة مع أنّه ليس من العمل بالشكّ والاحتمال في شيء ، وهل هذا إلاّ مثل اعتضاد القياس بالخبر الصحيح في عدم اتّكال العامل بالقياس وإن كان بينه وبين ما نحن بصدده (1) فرق من جهة أخرى كما لا يخفى.

اللّهمّ إلاّ أنّ من المستفاد من طريقة المذهب وسبيل المشرب إلغاء الشارع الاحتياط هذا (2) نظرا إلى غلبة مصلحة تركه على مصلحة فعله.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت من أنّ مبنى الدليل على الاحتياط ، فممّا لا ينبغي الارتياب فيه بوجه ما وجّهنا مثله على الوجوه العقلية السابقة من أنّه (3) غاية ما يستفاد من (4) لزوم الاحتياط في الأجزاء المشكوكة الثابتة بالأمارات الظنّية.

وأمّا الأمارات التي مفادها نفي التكليف ، فلا دلالة فيه (5) على لزوم الإتيان بها مع أنّ الدعوى بعمومها تشملها أيضا ، ولا سبيل إلى الاستناد بالإجماع - كما مرّ سابقا - لظهور المبنى ووضوح عدمه في أحد طرفي الإجماع ، وهل هذا إلاّ مثل أن يقال : يجب إنفاق المال على الواقع في المخمصة بمظنّة فوته ، فيجب في غير تلك الحالة استنادا إلى الإجماع.

وأمّا الأوّل ، فلأنّه لا يخلو إمّا أن يكون الضرر المظنون في مخالفة ما ظنّه المجتهد حكما (6) هو العقاب اللازم لترك الواجب ، أو فعل الحرام ، أو المفسدة الموجبة للوجوب ، أو الحرمة على ما أورده المستدلّ ، وليس على التقديرين على ما ينبغي.

أمّا الأوّل ، فلأنّه لا ملازمة بين الظنّ بالعقاب وبين ترك الحكم المظنون (7) ، إذ ليس

ص: 170


1- « ل » : « فيه » بدل : « بصدده ».
2- « ل » : - هذا.
3- « ل » : أنّ.
4- نسخة بدل بهامش « ل » : هو.
5- كذا. ولعلّ الصواب فيها.
6- في النسختين : حكم.
7- « ل » : بالمظنون.

علّة له ولا معلولا منه ، ولا بمشتركين في علّة ثالثة.

أمّا الأوّل ، فظاهر وفي ظهوره غنية عن التنبيه عليه كالثالث.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لو كان ترك الحكم المظنون علّة للظنّ بالعقاب ، لكان ترك الحكم المشكوك (1) علّة للشكّ في العقاب ، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة ؛ لاستقلال العقل في الحكم بعدم العقاب عند الشكّ في الحكم ، فإنّه ممّا اتّفقت فيه كلمة الأخبارية والأصولية من الحكم بالبراءة ، كيف والقطع بترك الحكم في الواقع لا يوجب القطع بالعقاب ، كما إذا كان حين الترك غافلا أو جاهلا على ما يقتضيه قواعد العدلية ، فالعقاب إنّما يلازم التكليف ، وعدم الامتثال ومجرّد ترك المشكوك بل المظنون بل المقطوع لا يورث عقابا ولا ظنّا بالعقاب بل ولا شكّا حيث إنّ العقاب دائما إمّا يكون وجوده مقطوعا ، أو عدمه في صورتي التكليف وعدمه ، فالنسبة بين العقاب وترك الحكم الواقعي تباين جزئي قد يجتمعان في مورد واحد كما لو خالفه مع تنجّز التكليف به وتعلّق العلم به ، وقد يتحقّق العقاب من دون تحقّق الترك في صورة التجرّي على ما سبق ، وقد يتحقّق الترك من دون عقاب كما لو ترك غافلا أو جاهلا ، وعدم العقاب في صورة الجهل ليس من جهة مانعية الجهل بل لعدم وجود مقتضي العقاب وهو العلم بالوجوب والعلم بتعلّق التكليف على المكلّف ، إذ لا تكليف إلاّ بعد البيان ولا سبيل إلى دعوى أنّ أدلّة وجوب دفع الضرر بيان عامّ ولو بلسان العقل ، فإنّ الكلام في أصل الضرر.

وبالجملة ، فالذي يؤمننا من الضرر في صورة الشكّ في الحكم مع ترك المشكوك يؤمننا منه عند ترك الحكم المظنون ؛ لاتّحاد سبيل الحكم فيهما قطعا ، فالعقاب إنّما يلازم مخالفة التكليف.

نعم ، لو قلنا بأنّ الظنّ أيضا مناط تنجّز التكليف بالنسبة إلى المكلّف كالعلم ،

ص: 171


1- « ل » : بالمشكوك.

فالظنّ بالمخالفة يلازم الظنّ بالعقاب ، أو قلنا بأنّ العقاب من توابع الإدراك ، فيختلف بحسب اختلاف مراتبه علما وظنّا ، يتّجه الملازمة المذكورة ، وبطلانه ظاهر ، فالمستدلّ إن أراد إثبات إناطة التكليف بالظنّ أيضا ، فلا يخفى فساده ، إذ هو من الدور المحال حيث إنّه قد احتاج في إثبات مطلوبه وهو اعتبار الظنّ إلى اعتبار الظنّ.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لا ملازمة أيضا بين الظنّ بالحكم وبين الظنّ بالمفسدة عند المخالفة وإن كانت المفسدة مقتضية للحكم ؛ لاحتمال الحبط والتكفير ، فلو ظننّا بحرمة العصير العنبي وخالفنا حكم الظنّ فيه ، فلا يلازم حصول الظنّ بالوقوع في المفسدة المقتضية للحرمة ؛ لاحتمال صدور فعل منّا رافع لها على ما قال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (1) وذلك ظاهر لكنّه لا يخفى ما فيه ؛ فإنّ المعلوم من طريقة العقلاء في جلب المنافع ودفع المضارّ - سواء كان متعلّقا بأمور معاشهم أو أمور معادهم - إحراز مقدّماتها وعدم الاعتناء باحتمال حصول شيء رافع لها ، فمتى ما حصل لنا الظنّ بوجوب شيء أو حرمته ، وقلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد - كما هو المفروض - فيكفي في الحكم بلزوم التحرّز عن تلك المضارّ المترتّبة على مخالفة الحكم المظنون ، ولا عبرة باحتمال حصول شيء يكفرها كما يظهر من ملاحظة حال العقلاء في احترازهم عن أكل السمّ مع احتمال حصول ترياق يعالجه.

فإن قلت : مع ذلك كلّه فلا يتمّ (2) الاستدلال حيث إنّ الكلام في المقام ليس إلاّ من جهة دفع العقاب في مخالفة الظنون ، وأمّا الوقوع في المضارّ التي لا ترجع إلى العقاب ، فلا نبالي (3) به بعد ما لم يكن ممّا يترتّب عليه العقاب ، وقد عرفت آنفا عدم ترتّبه عند المخالفة بما لا مزيد عليه.

فإن قلت : قد طابق حكم العقل حكم الشرع في وجوب دفع الضرر ، ألا ترى أنّ

ص: 172


1- هود : 114.
2- « ل » : لا يتمّ.
3- « ل » : فلا يبالي.

المريض لو ظنّ في مضرّة غذاء محرّم (1) عليه ، أكله ، فالعقاب إنّما يترتّب على مخالفة وجوب الدفع وإن لم يترتّب على حكم المظنون ، فيعود المحذور.

قلت : لا نسلّم وجوب دفع كلّ مضرّة لا يرجع إلى العقاب شرعا ، وإنّما المسلّم منه فيما لو كان مرجعها إلى البدن كما فيما فرضه من التمثيل ، أمّا فيما لا يرجع إلى البدن بل كان مرجعه إلى انحطاط الرتبة وعدم الارتقاء إلى العالم الأعلى والبعد عن ساحة القرب - كما هو كذلك في أغلب الأحكام الشرعية - فلو لم نقل بقيام الإجماع على عدم لزوم تداركها وتحصيل ما يعالجها ، فلا أقلّ من عدم دليل على لزومه كما لا يخفى فتدبّر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقل يستقلّ في الحكم بلزوم دفع بعض المضارّ المترتّب على غير البدن أيضا لو لم يزد حفظ العقل على النفس ، فلا أقلّ من عدم نقصه عنه ، وهذا ظاهر لا سترة عليه.

ثمّ إنّه لا يخفى عدم استقامة الكبرى على عمومها ؛ فإنّ الشارع قد ألغى الظنّ في جملة من الموارد كما في صورة الظنّ بالنجاسة والظنّ بالطهارة مثلا.

وأمّا ما أوردناه في دفعه في الجواب عن النقض (2) بالقياس والخبر الفاسق والكافر على ما هو المنقول من (3) المعارج (4) من احتمال وجود مصلحة في الترك تغلب على المفسدة المترتّبة عليه ، فهو بظاهره ينافي القول بالتخطئة على ما هو الصواب عندنا كما يظهر وجهه ممّا قدّمنا في الانتصار عن ابن قبة.

ومحصّله أنّ بعد انسداد باب العلم وحكم العقل بقيام الظنّ مقامه حيث إنّه هو الأقرب للعلم ، فلو قلنا بجواز إلغاء بعض الظنون وترك العمل به ، يلزم نقض الغرض في وجه ، وخلاف الفرض في وجه آخر ، فلو رام في دفع ذلك إلى جعل الظنّ جزء الموضوع وعدم أخذه مرآتا ، لزم التصويب وهو خطأ عندنا ، فتأمّل ؛ فإنّه لا يخلو عن

ص: 173


1- « ل » : يحرم.
2- « ش » : البعض.
3- « ل » : في.
4- تقدّم في ص 167.

نوع خفاء وغموض ، فعلى ما ثبت (1) من عدم استقامة الكبرى ، يلزم إفحام الأنبياء وإلزام الأولياء وغيرهما من اللوازم إن بنينا على ما هو مصرّح به فيما سبق.

لأنّا نقول : فرق بيّن بين الأصول والفروع ؛ إذ في الأوّل يحكم العقل بلزوم التحرّز دون الثاني.

وتوضيحه : أنّ البيان في الأحكام الشرعية من وظيفة الشارع ، ففيما لم يبيّن لنا (2) حكما نلتزم (3) بعدمه في حقّنا بخلاف الأصول ، فإنّ البيان فيه من وظيفة العقل ؛ لإفضائه إلى الدور لو كان موكولا إلى (4) بيان الشرع ، فالعقل يلتزم (5) بوجوب دفع الضرر وإن كان في مقام الشكّ في التكليف.

وبالجملة ، فنحن لا نجد في عقولنا عذرا لمن لم (6) يتحرّز الضرر في مقام إقامة النبيّ المعجزة الدالّة على نبوّته ، ويعدّ قوله في هذا المقام : « لا تكليف إلاّ بعد البيان » سفها ، بل ينسب القائل به إلى أصحاب السوداء والجنون بخلاف الغير المتحرّز عن الضرر في الفروع ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فإنّه قد يتعاكس فيهما الأمر كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في منع المقدّمتين وإثباتهما وتنقيحهما وتصحيحهما إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يترتّب عليهما النتيجة المطلوبة من اعتبار كلّ ظنّ ومطلق المظنّة ؛ إذ مبنى الدليل ومرجعه إلى لزوم الاحتياط وهو لا يلازم الظنّ ، فإنّ مقتضى الاحتياط الإتيان بكلّ ما يحتمل جزئيته ، أو شرطيته في مقام الشكّ في الأجزاء والشرائط مع ثبوت أصل التكليف بالنسبة إلى كلّ مهمل ، ومقتضى الظنّ عدم الإتيان بما ليس جزءا ولو بحسب الظنّ ، فلا تلازم بينهما ، ولا يكاد يصحّ الاستناد في إتمام المرام إلى الإجماع لما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام.

ص: 174


1- « ش » : بنيت.
2- « ل » : - لنا.
3- « ل » : يلتزم.
4- « ش » : على.
5- « ل » : يلزم.
6- « ل » : - لم.

اللّهمّ إلاّ أن يوجّه الدليل المذكور بأوله إلى الدليل الرابع وبرهان الانسداد وأخذ المقدّمات المعتبرة فيه : من بقاء التكليف ولزوم التكليف بما لا يطاق لو كان المرجع بعده إلى تحصيل العلم ، ولزوم العسر لو كان المعتبر هو الاحتياط ، والخروج من الدين لو كان المعتمد هو البراءة ، فيتعيّن التبعيض بين الأمارات الموهومة والمشكوكة والمظنونة ، ولا ريب أنّ العمل بالظنّ في تلك التكاليف المجملة وبيانها بالمظنونات أولى من العمل بغيرها وإن كان لا يخلو من الضعف أيضا.

الثاني (1) من الوجوه العقلية الناهضة على وجوب العمل بمطلق الظنّ أنّ بعد ما أطبق أصحابنا الإمامية على التحسين والتقبيح العقليين والعلم بأنّ تشريع الأحكام إنّما هو لأجل الوصول إلى الواقع ، فلو ظنّ المجتهد بوجوب شيء ، فإمّا يعمل به ويطرح الطرف الموهوم ، أو لا يعمل بمظنونه بل يحمل عمله على موهومه ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني يستلزم ترجيح المرجوح وهو الموهوم على الراجح وهو المظنون ، وذلك ممّا لا شكّ في قبحه وكذا بالنسبة إلى الشارع لو جوّز له العمل بالموهوم وطرح المظنون.

فإن قلت : إنّا نرى بالعيان ، ونشاهد بالوجدان ، تجويز الشارع لنا العمل بالموهوم ولا قبح.

قلت : ولعلّه لخصوصية في الموهوم ليست في المظنون ، وإلاّ لو فرضنا عدمها بل جوّز العمل به من حيث إنّه موهوم من غير خصوصية زائدة بها يصير راجحا على الطرف الراجح وهو المظنون ، فلا ريب في قبحه وعدم جواز صدوره من الشارع الحكيم ، ألا ترى أنّا لو حاولنا سلوك سبيل يوصلنا إلى مطلوب ، ولم يكن هناك (2) مصلحة توجب الأمر بالموهوم مثل العلم بموافقته للواقع وغير ذلك ، وكان الطريق

ص: 175


1- استدلّ به العلاّمة في النهاية وغيره كما في القوانين 1 : 443 ؛ الفصول : 286 ؛ هداية المسترشدين : 411.
2- « ل » : هنا.

الموصل غير علمي ، فلو جوّز لنا العمل بالموهوم ، يلزم عليه القبح ؛ لأدائه إلى نقض غرضه ، وهذا ظاهر.

فإن قلت : لو قلنا بلزوم الترجيح ، يلزم ما ذكر ، وأمّا في صورة عدم الترجيح والتوقّف ، فلا محذور.

قلت : التوقّف في المقام أيضا ممّا لا (1) يستقلّ العقل بصحّته كما يظهر من ملاحظة المثال المذكور لو بنينا على التوقّف كما لا يخفى.

وقد يجاب عنه (2) بأنّ ترك المظنون والعمل بالموهوم على خلافه لا يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح كما إذا ظننّا إباحة شيء مع احتمال وجوبه وهما ، فلا شكّ أنّا لو عملنا بالموهوم وتركنا المظنون ، لا يلزم ما ذكر من الترجيح حيث إنّ الاحتياط أمر مرغوب في نفسه ، ففي المقام العمل المزبور وإن كان (3) بالنظر إلى تعلّق الإدراك به موهوما ، لكنّ العمل به ليس ترجيحا للمرجوح بملاحظة الاحتياط.

ولكن لا يخفى ما فيه ؛ فإنّه إن أراد أنّ (4) العمل بالموهوم المذكور والإتيان بما يحتمل الوجوب ليس ترجيحا مع عدم قصد الوجوب في العمل وعدم تعيين وجهه ، فهو كذلك إلاّ أنّه غير مجد ؛ إذ مرجعه إلى اختيار أحد طرفي المباح ، وجوازه ممّا لا ريب فيه كما هو قضية الإباحة ، وإن أراد أنّ الإتيان بما يحتمل الوجوب على أنّه واجب و (5) بقصد الوجوب لا يستلزم ترجيح المرجوح ، فلا شكّ في بطلانه ؛ ضرورة لزوم المحذور على تقديره ، والاحتياط لا يقضي به أيضا.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الدليل إن آل إلى رابع الأدلّة ودليل الانسداد ، فهو وإلاّ فلا نعرف له وجها ؛ إذ يحتمل دفع المظنونات بأصالة البراءة ، والاقتصار على

ص: 176


1- « ش » : - لا.
2- هداية المسترشدين : 411.
3- « ش » : - كان.
4- « ش » : - أنّ.
5- « ل » : - و.

الأحكام الظاهرية ، فلا ترجيح ، فإن أسند (1) في دفعها إلى ادّعاء القطع ببقاء التكليف بالنسبة إلى الواقع والخروج من الإسلام على تقديرها ، فهو بعينه ما يستند إليه في دفع احتمال البراءة في دليل الانسداد كما اعتبره المستدلّ أيضا كما أنّه يحتمل القول بلزوم الاحتياط الكلّي في جميع الأمارات ، فلا محذور على تقديره أيضا حيث لا ترجيح ، ولو رام إلى لزوم العسر في رفع الاحتياط ، فهو المرجع في دفعه في دليل الانسداد.

وبالجملة ، فلا يتمّ الاستدلال إلاّ بعد إبطال الاحتمال من البراءة والتخيير والاحتياط والتوقّف وغيرها ممّا ستقف عليها ، فما من مقدّمة يحتاج إليها في إتمام دليل الانسداد إلاّ وهي (2) ممّا لا بدّ منها في إتمام الدليل هذا ، فعدّه في مقابله دليلا آخر ليس على ما ينبغي.

وقد يظهر من بعضهم في مثل المقام من أنّ بطلان الوجوه المحتملة في المقام لا يعيّن العمل بالظنّ ؛ لاحتمال أن يكون هناك طريق آخر لا نعرفه ؛ ولعلّه سهو (3) ، وإلاّ فلم نقف له على معنى محصّل حيث لا يتعقّل العمل بالشكّ ، والشكّ في وجوده يكفي في الحكم بعدمه ، ووجود الظنّ يكفي عن جعله طريقا ، ولذلك زيادة توضيح فيما سيأتي إن شاء اللّه.

الثالث من الوجوه العقلية القائمة على حجّية مطلق الظنّ ما عزاه الأستاذ المرتضى إلى السيّد الطباطبائي صاحب الرياض (4) ، وحاصله : أنّا نعلم علما ضروريا - لا يمازجه شبهة ، ولا يعتريه ريب - بوجود واجبات كثيرة ، ومحرّمات عديدة بين الأمارات الموجودة عندنا من الأخبار والشهرات والإجماعات ونحوها في جميع سلاسلها

ص: 177


1- « ل » : استند.
2- « ل » : وإلاّ وهي. « ش » : إلاّ وهي.
3- « ل » : معهود؟
4- في فرائد الأصول 1 : 382 : حكام الأستاذ [ شريف العلماء ] من أستاذه السيّد الطباطبائي. وقاله صاحب الرياض في مجلس المذاكرة على ما في بحر الفوائد 1 : 189.

مظنونا ومشكوكا وموهوما ، فقاعدة الشغل والاحتياط تقضي بالعمل بها جميعا إلاّ أنّ لزوم العسر والحرج يقضي بخلافها ، فيجمع بينهما بالعمل بالمظنونات نظرا إلى الشغل وترك المشكوكات والموهومات نظرا إلى العسر.

وفيه إجمالا ما عرفت مرارا من أوله في الحقيقة إلى دليل الانسداد ؛ إذ لا يتمّ إلاّ بعد الأخذ بجميع مقدّماته ، وتفصيلا أنّ المستدلّ لو حاول حصول الموافقة القطعية بعد العلم بالتكاليف المجملة كما في الشبهة المحصورة ، فلا ريب في عدم خروجه عن عهدة التكليف في صورة الاقتصار على المظنونات ، فليعمل بالمشكوكات أيضا والإجماع المدّعى على عدم لزوم الإتيان بالمشكوكات غير مسلّم ؛ ودعوى لزوم العسر على تقدير العمل بالمشكوكات بعد العمل بالمظنونات واهية إذ ندرة المشكوكات في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ظاهرة ، ولو أراد عدم لزوم المخالفة القطعية في العمل بسلسلة المظنونات وترك الموهومات بعد العلم بثبوت التكليف إجمالا على ما هو المدّعى في كلامه ، فليكتف بصنف خاصّ من (1) سلسلة الظنون ، وليدافع الباقي بأصالة البراءة حيث إنّ الشكّ على تقديره يرجع إلى نفس التكليف ، فلا ينتج المطلوب ، ولا سبيل إلى الاستناد بالإجماع المركّب في إلحاق سائر الأمارات الظنّية بعد الاكتفاء بأمارة منها ؛ لما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام ، فإنّ العلّة في أحد طرفي الإجماع معلومة ، وانتفاءها في الآخر ضروري.

ص: 178


1- « ل » : عن.

[ في دليل الانسداد ]

اشارة

[ في دليل الانسداد ] (1)

الرابع من الوجوه العقلية دليل الانسداد ، وتحريره على ما ينبغي غير ممكن إلاّ بعد بسط في الكلام ، لينكشف ظلمات الأوهام ، فنقول : إنّه مركّب من مقدّمات خمس :

الأولى : أنّ باب العلم بالمعنى الأعمّ من الوجداني والشرعي في معظم الأحكام الشرعية منسدّ.

الثانية : أنّه تعالى لم يتركنا سدى ، وليس حالنا حال البهائم ، فنحن مطلوبون بشيء في الجملة ولو بالأحكام الظاهرية.

الثالثة : أنّ من المعلوم أنّ المطلوب منّا - ولو في مرحلة الظاهر في جميع الموارد - ليس العمل بالبراءة الأصلية وأصالة العدم الشاملة لأبواب المعاملات والعبادات ، بل نعلم بأنّه (2) تعالى قد ألزمنا بشيء في الجملة.

الرابعة : أنّه ليس المطلوب منّا إلاّ تحصيل الموافقة القطعية ، والإتيان بجميع المحتملات.

الخامسة : أنّ المرجع في أعمالنا الخاصّة ليس هو الأصول الخاصّة في الموارد الخاصّة من الاشتغال في محلّه ، والاستصحاب في مجراه ، والبراءة في موردها ، والتخيير في مقامه ، فانحصر الطريق في المظنون والموهوم والمشكوك ، والعقل يستقلّ في تعيين

ص: 179


1- العنوان من هامش « ش ».
2- « ل » : أنّه.

الأوّل وهو المطلوب.

والثاني والثالث بعمومهما يشملان سائر الاحتمالات ، وسيجيء تفاصيلها (1) إن شاء اللّه ولا كلام في الحقيقة لأحد من العلماء الأعلام ، والفضلاء العظام ، في شيء من المقدّمات عدى الأولى منها ، ولا ينبغي الارتياب فيها أيضا.

ولقد أجاد من قال (2) : إنّ بعد إجراء صغرى الانسداد ، فلزوم العمل بمطلق المظنّة (3) إجماعي ، ولعلّه ضروري لا ينكر ، فمن ينكره باللسان فقلبه مطمئن بالإيمان ، وحيث إنّ بعض متأخّري المتأخّرين (4) قد أورد شبهة في بعض المقدّمات المذكورة ، وتجشّم في دفعها جملة ممّن تأخّر عنه (5) ، فنحن أيضا (6) نقتفي آثارهم في إثبات المقدّمات المزبورة ، فنقول :

أمّا المقدّمة الأولى ، فانسداد باب العلم الوجداني ممّا يقضي به الوجدان ، فلنكتف به عن البرهان ، ولا يوجد في ذلك مخالف أيضا إلاّ شرذمة قليلة (7) من أهل الباطن ، مع

ص: 180


1- « ل » : تفصيلها.
2- مفاتيح الأصول : 459.
3- « ل » : العمل بالظنّ.
4- هو آغا جمال الدين الخوانساري كما عنه في القوانين 1 : 441 ؛ فرائد الأصول 1 : 400 وسيأتي عنه ص 188.
5- كصاحب القوانين 1 : 441 ، انظر هداية المسترشدين : 405.
6- « ل » : - أيضا.
7- « ل » : قليلون. وفي هامشها : منهم ميرزا محمّد الأخباري المقتول في المشهد الكاظمي القائل بتعدّد الأحكام المجعولة في كلّ واقعة بحسب تعدّد الأنفس والخلائق الذي سمّى مسمّى تلك الأحكام بالأحكام الواقعية المصرّح بذلك في رسالته المكتوبة في ردّ المجتهدين. ومنهم ملا خليل القزويني الذي قيل في حقّه : إنّه يعترف بالمقدّمات وينكر النتيجة بل ربّما ينسب ذلك القول إلى من تمسّك في حجّية الإجماع بقاعدة اللطف كالشيخ رحمه اللّه ، لكنّه ليس في محلّه ؛ لأنّه يقول بتسديد جميع الأمّة في مورد اتّفاقهم ، وأين هذا من القول بكون كلّ واحد منهم مسدّدا؟

أنّهم ليسوا من أهل الظاهر أيضا حيث زعموا أنّ المجتهد في مقام الاجتهاد بعد الفحص والبحث ما فهمه من الدليل هو حكم اللّه الواقعي في حقّه ، وليس هناك حكم واحد واقعي يصل إليه تارة ، ولا يصل إليه أخرى مستندين في ذلك إلى قاعدة اللطف على حذو ما استند إليها (1) جماعة من قدماء أصحابنا في تحصيل الإجماع كالشيخ والسيّد في أوّل أمره وغيرهما.

مضافا إلى جملة من الروايات الدالّة على أنّ لله تعالى في كلّ زمان حجّة كي إن زاد المؤمنون شيئا يردّهم ، وإن نقصوا شيئا أتمّه لهم (2) ، وذلك منهم بمكان من الضعف والوهن ؛ للزوم التصويب في وجه ، وعود النزاع لفظيا في وجه آخر.

مضافا إلى إطباق أصحابنا على خلافه ، واستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى حيث إنّ الخطاب واحد ، والأحكام المستفادة منه متعدّدة (3) على هذا التقدير ، مع انتفاء الجامع قطعا في أكثر الموارد وعدم دلالة دليل عليه ، ومع الغضّ عن ذلك كلّه ، فلا يضرّنا في المقام ؛ إذ غاية ما في الباب أنّ المجتهد بعد استفادة الحكم من الدليل يعلم بالحكم الواقعي على ما هو المدّعى في كلامهم ، والكلام في المقام في تعيين الدليل الذي يمكن استفادة الحكم الواقعي منه كما لا يخفى ، ولعمري بطلان المذهب يكفي لنا عن إبطاله (4) ، فهو بالإعراض عنه أجدر.

وأمّا انسداد باب العلم الشرعي ، فهو موكول إلى ما سبق ، فإن قلنا بحجّية أخبار (5) الآحاد - كما هو المشهور بين أصحابنا بل ومخالفينا أيضا - فلا شبهة في انفتاح باب العلم على هذا التقدير ، وإن قلنا بعدم حجّيتها لعدم وجود دليل عليها ، فالانسداد الأغلبي ممّا لا يدانيه ريب.

ص: 181


1- « ل » : إليه.
2- بحار الأنوار 23 : 21 و 24 و 26 ، باب 1 ، ح 19 و 31 و 35 و 36.
3- في النسختين : متعدّد.
4- « ل » : بطلانه.
5- « ش » : الأخبار.

وأمّا على ما نراه من اعتبار الأخبار الموثوق بها ، فهو موكول على حصول الوثاقة ، فربّما يحصل الوثاقة لأحد دون غيره لاعتماده على القرائن الموجودة الخفيّة الغير الظاهر دلالتها ، فهو في المقام كالقطّاع في مقامه ، فباب العلم الشرعي على تقديره منفتح ، وربّما لا يحصل الوثاقة إلاّ في أقلّ من الموارد ، أو في جملة كثيرة منها لكنّه لا يبلغ حدّ الانفتاح ، فالانسداد على تقديره غير خفيّ.

وأمّا المقدّمة الثانية ، فضرورته (1) لا تكاد تخفى على أوائل العقول ، مضافا إلى الأخبار الواردة في مقام إثبات التكاليف ولو في الجملة ، مع أنّها مدلول عليها بجملة من الآيات الظاهرية الصريحة في ذلك ولا سيّما بعد كونها ممّا يسلّمها الخصم أيضا ، فلا نطيل الكلام فيها.

وأمّا المقدّمة الثالثة القائلة بأنّ المرجع بعد الانسداد في معظم الأحكام ليس هو البراءة ، فيدلّ عليها وجوه :

الأوّل : الإجماع القطعي ؛ فإنّا نعلم علما ضروريا حدسيا بأنّ أحدا من العلماء لا يفتي بذلك ، فلا ينافيه عدم كون المسألة معنونة في كلامهم.

الثاني : لزوم المخالفة القطعية على وجه قد عبّر عنها بعض (2) متأخّري المتأخّرين (3) بالخروج عن الدين بمعنى أنّ كلّ من تديّن بهذا الدين بل المنتحلين إليه يحكم حكما ضروريّا بأنّ العامل بها في عمله غير متديّن بهذا الدين بل المنتحلين إليه يحكم حكما ضروريّا بأنّ العامل بها في عمله غير متديّن بهذا الدين ، وعمله ليس منه ، والمنكر في ذلك بين مكابر معاند ، ومانع للصغرى وهو الانسداد الأغلبي كما هو المفروض زعما منه خلافه ، وقد تقدّم منّا ما يكفي عن ذلك.

ولا يذهب عليك أنّ بعد انسداد باب العلم وملاحظة الأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ لا سبيل لنا في الأحكام الشرعية إلى العمل بأصالة البراءة ، فإنّ من المعلوم

ص: 182


1- « ل » : فضرورية.
2- « ل » : - بعض.
3- انظر هداية المسترشدين : 393 و 402 ؛ مفاتيح الأصول : 468.

ضرورة ورودها في مقام احتمال عدم إدراك الواقع عند التعويل عليه حتّى أنّ القياس في موارده - وإن قلنا بأنّه محرّم أصليّ - إلاّ أنّ المستفاد من جملة من الأخبار الناهية عنه هو دفع هذا الاحتمال ، ولا شكّ في أنّ الوقوع في هذا الاحتمال على تقدير العمل بالبراءة بل الوقوع واقعا و (1) في نفس الأمر ممّا لا مجال لإنكاره ، سيّما بعد العلم الإجمالي بمخالفة عمله كثيرة (2) من موارد البراءة للواقع.

وإن شئت توضيح ذلك ، فراجع العرف والعقلاء أنّ المولى قد كتب طومارا لعبده بعد نهيه عن العمل بالظنّ ، فأصابه المطر بحيث لا يكون كلماته معلومة ، فهل ترى أحدا في المقام يجوّز لنفسه العمل بالبراءة وترك العمل بالظنّ ، وهذا ممّا لا يكاد يخفى على أولي الأنظار المستقيمة ومقصّر في التتبّع لكلمات الأصحاب حيث إنّه قد تنبّه (3) لذلك جماعة من متقدّمي أصحابنا ، ومتأخّريهم وجملة من مخالفينا :

فمنهم الصدوق طاب ثراه (4) في باب [ أحكام السهو في الصلاة في ذيل أخبار ] جواز السهو على النبيّ صلى اللّه عليه وآله بعد ما استند فيه إلى جملة من الأخبار ، فأورد على نفسه بأنّها أخبار آحاد لا يجوز التعويل عليها ، ثمّ أجاب عنها بأنّه على تقدير ترك العمل بالأخبار ، فبم يعمل العامل معرضا عن احتمال البراءة.

ومنهم الشيخ في العدّة في مقام الردّ على من احتمل أن يكون عمل الطائفة بالأخبار من جهة اقترانها بالقرائن فإنّه قال :

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليه لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها بل إنّما عملوا [ بها ] بقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ، ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت ، لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يكن (5) الاعتماد على عملهم بها.

ص: 183


1- « ل » : - و.
2- « ش » : كثرة ( ظ ).
3- « ل » : نسبه.
4- الفقيه 1 : 359.
5- « ل » : لم يمكن.

قيل لهم (1) : القرائن التي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنّة والإجماع والتواتر - إلى أن قال - فعلم أنّ ادّعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة ، ومن ادّعى القرائن في جميع ذلك ، كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم من الضرورة خلافه ، ومدافعا (2) لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه.

ثمّ قال : ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن ، حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك كثير (3) الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا هو حدّ يرغب عنه أهل العلم ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ؛ لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه (4).

ومنهم السيّد علم الهدى (5) فإنّه أورد على نفسه سؤالا في مقام (6) دعوى الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى الأخبار الآحاد ، لأنّه قال (7) : لو قيل : إذا سددتم طريق العمل بالأخبار ، فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟

فأجاب عنه بما حاصله دعوى انفتاح باب العلم حيث إنّه لم يلتفت إلى احتمال البراءة في صورة الانسداد ، والتزم بلزوم العمل بالأخبار الآحاد كما هو المنساق من السؤال والجواب.

ولقد أجاد الفاضل السيّد شارح الوافية في قوله بعد نقل كلام السيّد بأنّه قد اصطلح مع المتأخّرين العاملين بالأخبار ومنهم : العلاّمة في نهج المسترشدين على ما حكي عنه في بحث صفات الإمام عليه السلام ووجوب عصمته ما لفظه : ولأنّه حافظ للشرع

ص: 184


1- في المصدر : له.
2- المثبت من « ش » وهو موافق للمصدر وشطب عليها وكتب فوقها : « مدّعيا » وكذا في « ل ».
3- في المصدر : أكثر.
4- عدّة الأصول 1 : 135 - 136.
5- رسائل الشريف المرتضى 3 : 312.
6- « ل » : - مقام.
7- « ش » : - قال.

لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به والإجماع ؛ لأنّه إن استند إلى أمارة ، فالخلق لا يتّفقون على أمارة ، وإن لم يستند كان باطلا ، والقياس باطل في نفسه ، والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام ، فلم يبق سوى الإمام عليه السلام ولو جاز خطؤه ، جاز أن يزيده (1). انتهى.

ومنهم : المحقّق الخوانساري في مسألة جواز الاكتفاء بالواحد في التعديل ردّا على صاحب المعالم على ما هو المنقول في كلام السيّد المذكور ، قال : إنّ اعتباره - يعني به اعتبار تعدّد المزكّي والمعدّل - يصير سببا لخلوّ أكثر الأحكام عن الدليل ؛ لندرة التعدّد (2).

ومنهم : العضدي تبعا للحاجي في مقام الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بأنّها لو لم تكن حجّة ، لخلت أكثر الوقائع عن الأحكام (3).

ومنهم : المحقّق البحراني في الحدائق في طعنه على ابن إدريس عند طرحه الأخبار الدالّة على اتّحاد الشعير والحنطة جنسا ، فلا يجوز التفاضل بينهما ، معلّلا في ذلك بأنّها آحاد قال : الواجب عليه - يعني به ابن إدريس - مع ردّه هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدين والتديّن بدين آخر غيره (4) ، فترى هذه

ص: 185


1- نهج المسترشدين : 63 ، وبما أنّه نقله بالمعنى نذكره حرفيا : ولأنّه حافظ للشرع ؛ لقصور الكتاب والسنّة على تفاصيل الأحكام ، والإجماع لا بدّ له من دليل ؛ إذ صدوره عن غير دليل ولا أمارة يستلزم القول في الدين بمجرّد التشهي ، والأمارة يمتنع الاشتراك فيها بين العقلاء ، ولا نحيط بالأحكام ؛ إذ أكثرها مختلف فيها. والقياس ليس بحجّة. أمّا أوّلا ، فلأنّه يفيد الظنّ الذي قد يخطئ غالبا. وأمّا ثانيا ، فلأنّ مبنى شرعنا على جمع المختلفات وتفريق المتماثلات ، وحينئذ لا يتمّ القياس. والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام. فلو جاز عليه الخطأ لم يؤمن حفظه للشرع.
2- قاله في حاشيته على شرح مختصر الأصول كما في هامش فرائد الأصول 1 : 393.
3- شرح مختصر منتهى الأصول : 163 - 164.
4- الحدائق 19 : 231 ونقل كلامه في الجواهر 23 : 346.

الكلمات من هؤلاء الجماعة منادية (1) بأعلى صوتها على عدم جواز التعويل على البراءة حيث (2) إنّهم أعرضوا عن هذا الاحتمال.

ومن هنا يظهر الوجه في الإجماع المدّعى أيضا ، فبطلان العمل بالبراءة والاقتصار على المعلومات - كما هو المفروض من قلّتها حال الانسداد - ممّا لا ريب فيه.

وممّا يدلّك على هذا أنّهم مطبقون بأجمعهم في الحكم برجوع العامي إلى فتوى الميّت بعد انسداد باب رجوعه (3) إلى الحيّ ، ولم يحتمل أحد اختيار رجوعه إلى البراءة ، وحال المجتهد بعد الانسداد واختفاء الحجّة العلمية مثل حال المقلّد عند فقدان المجتهد الحيّ ، فبعد العلم بالاشتغال لا مناص من تحصيل الامتثال ، فتارة بالعمل بالمعلوم على وجه التفصيل ، وأخرى بالمعلوم ولو إجمالا في طيّ احتمالات عديدة ، ومرّة يمتثل (4) امتثالا ظنّيا بعد انسداد باب الامتثال على أحد الوجهين الأوّلين كما هو المفروض ، وأخرى امتثالا احتماليا ، ويكشف عن ذلك حكمهم برجوع العامي الغير المتمكّن من تحصيل أحكامه تقليدا لوجوب العمل (5) بظنّه بل واحتماله فرارا من (6) المخالفة القطعية ، وبالجملة ، فظهور المرام ، يأبى عن إطالة الكلام.

الثالث : إنّ المخالفة القطعية وإن لم تبلغ حدّ الخروج عن الدين ، فهي في حدّ ذاتها باطلة يكفي جعلها تاليا في قياس شرطي ، فلزومها على تقديره كاف في بطلان المقدّم ، ولا دليل على اعتبار الأصل فيما لو خالف العلم الإجمالي كما هو كذلك فيما لو خالف العلم التفصيلي.

فإن قلت : المحاذير المفروضة مشتركة الورود على تقديري العمل بالبراءة والمظنّة أمّا على الأوّل ، فكما هو المقرّر ، وأمّا على الثاني ، فلاحتمال مطابقة الظنّ في جميع

ص: 186


1- « ش » : متنادية.
2- « ل » : بحيث.
3- « ل » : امتناع رجوعه؟
4- « ش » : يمثل.
5- « ل » : تقليدا إلى العمل.
6- « ل » : عن.

الموارد للبراءة.

قلت : أمّا أوّلا ، فلا شكّ في أنّها دعوى محالة ، فإنّ العلم بالموجبة الجزئية كما هو المفروض ينافي الظنّ بالسالبة الكلّية ؛ لاستلزامه اجتماع المتنافيين كما لا يخفى.

وأمّا ، ثانيا فلو سلّمنا إمكان الفرض ، فهو غير واقع ؛ لأنّ الظنّ إنّما يحصل من الأمارات الحاصلة عندنا من الأخبار والشهرات والإجماعات ، ومن المعلوم بالضرورة عدم موافقتها في جملة من الموارد للبراءة ، فإنّ الغالب فيها ، ولا أقلّ من التساوي ، ولا أقلّ من جملة كثيرة إثبات الأحكام المخالفة لأصالة البراءة.

وأمّا ثالثا ، فبعد الغضّ عن وقوعه أيضا نلتزم بعدم جواز عمله بظنّه وعدم جواز العمل بفتواه لمقلّديه لوجود المخالفة القطعية على تقديره في جملة كثيرة ، فليعمل بما يقتضيه الاحتياط والاشتغال ، أو العمل ببعض مظنوناته من الظنون القوية ، أو يختار ما يريد من موارد ظنّه هذا.

ثمّ إنّ صاحب المعالم والمحقّق البهائي (1) وجماعة ممّن تقدّم قد قالوا في دفع احتمال البراءة بأنّ أصالة البراءة ضعيفة بعد ورود الخبر ، وكأنّهم أرادوا أنّ الظنّ الحاصل من البراءة بعد ورود الخبر الواحد على خلافه ضعيف لا يقاوم الظنّ الحاصل من الخبر ، ولعلّ ذلك منهم مبنيّ على القول بحجّية البراءة من جهة إفادتها الظنّ وهو بمكان من الضعف كما قرّر في محلّه من أنّها حجّة قطعية في مجراها تعبّدا شرعيا بل (2) وعقليا ، فإنّه لا تكليف إلاّ بعد البيان ، فإن أرادوا الظنّ بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، فلا ريب في عدم حصوله ، وعلى تقديره لا حجّية (3) فيه ، وإن أرادوا الظنّ بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، فسقوطه واضح حيث إنّها بالنسبة إليه دليل قطعي لا مجال لإنكاره.

ص: 187


1- معالم الدين : 192 - 193 ؛ زبدة الأصول : 92.
2- « ل » : - بل.
3- « ل » : حجّة.

ومن هنا قد اعترض (1) عليهم المحقّق الجمال في تعليقاته على العضدي بعد منعه من إنتاج الدليل الرابع النتيجة المطلوبة بجواز العمل بالبراءة بعد الانسداد قال : لا لأنّها ظنّية بل لحكم العقل عليها (2).

وأمّا ما أفاده المحقّق القمّي (3) في دفع الاستناد إلى البراءة من منع الإجماع عليها لمخالفة الأخبارية فيها ، وعدم استقلال العقل بالحكم بها ولو بعد ورود الخبر الواحد بخلافها ، فممّا لم نقف له على وجه.

أمّا أوّلا ، فلأنّ منع الإجماع عليها مكابرة محضة ، ومجازفة صرفة ، ومخالفة الأخبارية إنّما هو لمنعهم من جريانها زعما منهم لورود (4) البيان في محلّ جريانه من أخبار الاحتياط ، ولذا تراهم حاكمين بالبراءة في مقام الشبهة الوجوبية لعدم جريان أدلّة الاحتياط فيها ، ولا ريب لأحد منهم أيضا في وجوب العمل بها فيما لم يرد فيه بيان كما هو المفروض من المعترض.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ أصالة البراءة محكّمة عقلا فيما لم يرد على خلافها دليل علمي أو منته إليه ، و (5) ورود الخبر على خلافها بعد أن لم تكن حجّة لا جدوى فيه ، فإنّ حجّيته في المقام أوّل الكلام.

نعم ، يتوجّه على المورد أنّ البراءة على إطلاقها لا تنهض حجّة في جميع الموارد ، فإنّ مرجعها إلى نفي التكليف وهو في العبادات في محلّها ، وأمّا في المعاملات ، فلا وجه للاستناد إليها في دفعها إلاّ أن يقال برجوع الأحكام الوضعية إلى الأحكام التكليفية كما يراه المورد أيضا ، فيصحّ التعبير بالبراءة ، أو يقال بأنّ المراد منها أصالة العدم كما نبّهنا عليه فيما تقدّم إلاّ أن يقال : إنّ أصالة العدم أيضا لا تعمّ جميع الموارد ، فإنّ

ص: 188


1- « ش » : تعرّض.
2- تقدّم عنه في ص 180.
3- القوانين 1 : 442.
4- « ش » : بورود.
5- « ش » : - و.

الاشتغال على القول به وكذا الاستصحاب قد يخالف حكم البراءة ويقدّم عليها على ما هو المقرّر في محلّه ، فلا سبيل إلى القول بأنّ الاستصحاب ظنّي حيث إنّه (1) قد قرّرنا قطعيّته في محلّه.

وأمّا المقدّمة الرابعة القائلة بأنّ المرجع في أحكامنا (2) بعد الانسداد ليس هو الاحتياط ، فيدل عليها وجوه - وإن قلنا بأنّ بعد العلم الإجمالي على التكليف لا بدّ من الاحتياط وتحصيل الموافقة القطعية ، وأمّا على القول بكفاية الاحتراز عن المخالفة القطعية في مثل المقام ، فالأمر أسهل ، ثمّ إنّه ليس المراد في المقام إبطال الاحتياط على حذو ما مرّ من إبطال البراءة وامتناعها بل يكفي في إثبات المطلوب عدم وجوبه وإن كان جائزا ، وجوازه يلازم جواز العمل بالظنّ وهو المطلوب - :

الأوّل : الإجماع القطعي ، فإنّا ندّعي أنّ جميع العلماء خلفا عن سلف مطبقون على عدم وجوب الاحتياط ، وليس ذلك من جهة انفتاح باب العلم لهم ، فيختلف الموضوع بل المدّعى اتّفاقهم على عدم وجوب الاحتياط في موضوع الانسداد على ما هو المفروض وإن لم يكن من أهل الإجماع من انسدّ له باب العلم ، كما أنّهم مطبقون بأنّ الحكم في موضوع المسافر القصر والإفطار وإن لم يكونوا مسافرين على حذو ما مرّ في الإجماع المدّعى في إبطال احتمال البراءة.

الثاني : لزوم العسر والحرج على تقديره ، واللازم منفيّ إجماعا في الشريعة السمحة السهلة ، وبيان اللزوم في العبادات واضح ؛ للزوم الإتيان بجميع ما يحتمل الوجوب ولو وهما ، وترك جميع ما يحتمل الحرمة كذلك وهو لو لم يكن في حدّ التكليف بالممتنع ، فلا أقلّ من لزوم العسر على تقديره.

وتوضيحه : أنّ المجتهد لو حاول الاحتياط في واقعة جزئية مثل الماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره بنفسه ، فيوجّه عليه في مثل الواقعة فروع كثيرة ، ففي مقام

ص: 189


1- « ل » : إنّا.
2- « ل » : أحكامه.

شربه لا بدّ من أن لا يشربه ، وفي مقام الوضوء مع انحصار الماء فيه ، فلا بدّ له من الجمع بين التيمّم وبينه في صلاتين ، فقد يعارضه الاحتياط في واقعة أخرى ، فيتوقّف (1) في ترجيح أحد الاحتياطين على الآخر ، ويتفرّع على كلّ من فروعه فروع متشتّتة مختلفة قد لا يمكن الجمع بينها إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل البصير ، هذا كلّه مضافا إلى لزومه في تعليم المجتهد وجوه الاحتياط وتعلّم المقلّد منه ، فقد لا يشتمل (2) كتاب حكم واقعة جزئية بجميع وقائعها المترتّبة عليها ، وذلك يوجب اختلال نظامهم في أمور معادهم ومعاشهم ، وبخلاف ما إذا علمنا بالظنّ ، ففي الواقعة المفروضة على تقدير تعلّق الظنّ بنجاسة يترتّب عليه جميع أحكامها ، فلا تنحلّ إلى وقائع ، ولا تختلف بحسب الموارد ، وليس في الاحتياط حكم كلّي يرجع إليه في جميع الموارد ، فهو في كلّ مقام يقتضي شيئا ، فالمقلّد لو حاول تعلّم أحكام الواقعة المفروضة لا بدّ له من تعلّمها على جميع مراتب اختلافها بالنسبة إلى ملاحظتها في وقائع كثيرة ، ولا عسر في كونه عسرا وهو المراد باللازم.

لا يقال : لزوم العسر على المقلّد ممنوع ؛ لجواز رجوعه إلى مجتهد لا يرى وجوب الاحتياط ، فلا عسر له في تعلّمه ، ولا في تعليم المجتهد له.

لأنّا نقول : أوّلا : قد ينحصر المجتهد ، فيمن يرى وجوب الاحتياط ، فلا مفرّ له من تقليده.

وثانيا : لا مساس للوجه المذكور لما نحن بصدده ، فإنّ (3) الكلام في أنّ الحكم الواقعي الثابت في اللوح المحفوظ في موضوع الانسداد كما هو المدّعى ، هل هو الاحتياط أم لا؟ ولا مدخل لعمل المقلّد في ذلك أصلا ، فإنّه قد لا يقلّد أصلا ، فإنّ المستدلّ بدليل الانسداد إنّما هو في بيان حكمه واقعا ، فيحكم بأنّ المرجع في الواقع

ص: 190


1- « ش » : فتوقّف.
2- « ل » : لا يشمل.
3- « ل » : من أن.

ليس هو الاحتياط ، وانفتاح باب العلم على ما يزعمه غيره لا يضرّه ، فإنّه يراه في سبيل باطل ، وطريق عاطل ، وذلك نظير ما قد قيل من أنّ تقليد الأعلم على القول به يوجب العسر في تمييز (1) الأعلم عن غيره ، فلا ينافيه اعتقاد المقلّدين أعلمية فقيه دون فقيه ؛ إذ لا يناط الحكم الواقعي باعتقادهم ، والكلام إنّما هو في الجعل الواقعي المتعلّق بموضوع كذائي ، فيتوجّه عليه أنّه لو كان كذلك ، يلزم العسر وذلك ممّا لا يكاد يخفى.

نعم ، قد يتوجّه هذا الكلام في المقام فيما لو فرضنا انفتاح باب العلم لواحد من المجتهدين واقعا يتمكّن من الوصول إلى معدن العلم ، فيلتزم بلزوم رجوع المقلّد إليه ، فلا يلزمه عسر على ما فرضناه إلاّ أنّه خارج عمّا هو مفروض المستدلّ. هذا تمام الكلام في لزوم العسر على تقدير الاحتياط في العبادات (2) ، وأمّا في المعاملات ، فيظهر من ملاحظة ما قرّرنا في غيرها كما لا يخفى.

فإن قلت : قد يؤدّي ظنّ المجتهد إلى ما يوجب العسر مثل ما (3) إذا ظنّ بوجوب الترتيب في الفوائت ، فإنّ لزوم العسر فيما إذا لم يعلم ترتيب الفائتة خصوصا مع كثرتها ممّا لا ريب فيه ، وكذا إذا ظنّ بفورية القضاء ، وكذا إذا ظنّ بوجوب الغسل فيما لو أجنب المكلّف عمدا وإن أصابه ما أصابه ، وكذا إذا ظنّ بواجبات كثيرة في وقائع عديدة ترد عليه دفعة مثلا ، فالمحذور على تقديره مشترك الورود بين الاحتياط والعمل بالظنّ.

قلت : إن أريد أنّ ما دلّ على نفي العسر والحرج يعارضه الأدلّة الخاصّة الدالّة على لزوم ملاحظة الترتيب بين الفوائت ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين الدليلين ، فسقوطه واضح حيث إنّ من المقرّر في محلّه حكومة الأدلّة الدالّة على نفي العسر بالنسبة إلى

ص: 191


1- في النسخ : تميّز؟
2- هنا زيادة استدركت في هامش « ل » : المحذور جاز لظنّ أيضا كما؟
3- سقط قوله : « وأمّا في المعاملات » إلى هنا من نسخة « ل ».

غيرها من الأدلّة ، فهو معيار لغيرها ، وميزان لما عداها ، فلا يعارضها دليل ، ولو كان في أعلى درجات الخصوصية كما يظهر ذلك بعد ملاحظة العرف فيما يماثله ، وإن أريد النقض بالفرض المذكور ليلتفت إلى الحلّ في الصورة المفروضة ، فنقول : إن كان الدليل الدالّ على لزوم الترتيب قطعيّا غير قابل للطرح أو التأويل ، فيقدّم على أدلّة العسر كما في أدلّة الاجتهاد الأكبر والأصغر ، وإن كان ظنّيا قابلا للتأويل ، فلا بدّ منه كأن يحمل الأمر الوارد فيه على الاستحباب ونحوه وما نحن بصدده من هذا القبيل ، فإنّ لزوم تحصيل الموافقة القطعية والحكم بوجوب الإتيان بجميع المقدّمات العلمية بعد الانسداد فيما (1) يوجب العسر غير معلوم حتّى يقدّم على أدلّة نفي العسر ، فيكشف ذلك من أنّ مطلوب المولى ليس الإتيان بالواقع على ما هو عليه.

وأمّا ما أورده أخيرا من المثال من جواز تعلّق ظنّ المجتهد بواجبات توجب العسر ، فهو ممّا لا محصّل له ؛ لاستلزامه اجتماع المتناقضين ، فإنّ بعد ما علمنا مع ملاحظة أدلّة نفي العسر عدم جعل (2) حكم أو أحكام يوجب العسر ، فكيف يصحّ تعلّق الظنّ بوجوب أمور توجب العسر؟ فإنّ العلم بالسالبة الجزئية - كما هو مفاد نفي العسر - ينافي الظنّ بالموجبة الكلّية كما هو مفروض المعترض عكس ما مرّ في المقدّمة السابقة.

فإن قلت : إنّ قضية أدلّة نفي العسر لا يزيد على نفيه في أصل الشرع حيث إنّه تعالى ما جعل في الدين من حرج ، وأمّا لو لزم الحرج من جهة (3) عروض سانحة ، وحدوث واقعة لا يرجع إلى جعله كما في المقام ، فإنّه يلزم بواسطة إخفاء قادة الهدى ، ومصابيح (4) الدجى بواسطة ظلم الظالمين وعناد المعاندين ، فلا دليل على بطلانه ، وحيث إنّه ليس في مرتبة التكليف بما لا يطاق ، فلا ضير في لزومه على تقدير أن

ص: 192


1- « ش » : + لو ، وشطب عليها في « ل ».
2- « ل » : وجوب.
3- « ل » : جهته.
4- « ش » : مصباح.

يكون الغير سببا في لزومه كما في المقام ، فلا يتّجه الفرق بذلك.

قلت : لا نسلّم انحصار دلالة الأدلّة المذكورة في نفيه من أصل الشرع فقط ؛ فإنّها بعمومها شاملة للمقام أيضا بل و (1) فيما لو كان سبب لزومه إدخال المكلّف نفسه في موضوع حكم معسور ، فكيف بالمقام؟

وتوضيح ذلك : أنّ العسر تارة يلزم من أصل الشرع كأن يجعل الشارع حكم المكلّف مع قطع النظر عن عروض حادثة عسرا ، وأخرى يلزم من جهة عروض سانحة من غير أن يجعله الشارع عسرا ، فمرّة سبب عروضها غير المكلّف كما إذا صار جريحا بواسطة غيرها ، وأخرى يصير المكلّف بنفسه سببا لحدوثها ، فدفعه بواسطة إدخال نفسه في موضوع يعسر عليه أحكامه كما لو أجنب عمدا مع وجود العسر في استعمال الماء ، وأخرى بواسطة إلزامه على نفسه حكما معسورا كما إذا نذر صوم دهره أو استأجر نفسه لأمر عسر إلى غير ذلك.

فعلى الوجوه الثلاثة الأول تنهض أدلّة العسر بنفيها بلا إشكال ، وأمّا الصورة الأخيرة ، فلا نضايق القول بعدم (2) قيام الأدلّة المذكورة بنفيها نظرا إلى ما هو المعروف من قوله عليه السلام : « ما غلب اللّه شيئا على العباد إلاّ وهو أولى به » (3) وقوله : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) (4) انتهى. إلاّ أنّه أيضا لا يخلو عن إشكال ، فإنّ في

ص: 193


1- « ل » : - و.
2- « ل » : فلا تطابق القول بعد.
3- الوسائل 4 : 80 ، باب 20 من أبواب أعداد الفرائض ، ح 2 ، و 4 : 373 ، باب 12 من أبواب لباس المصلّي ، ح 7 ، و 8 : 259 - 261 و 263 ، باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 3 ، و 10 : 226 و 227 ، باب 24 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، ح 3 و 6 ، 10 : 338 ، باب 25 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 8 ، و 10 : 374 - 375 ، باب 3 من أبواب بقية الصوم الواجب ، ح 12. في كثير من المصادر : « كلّ ما غلب اللّه فاللّه أولى بالعذر ». وفي بعضها : « كلّ ما غلب اللّه عليه فليس على صاحبه شيء ».
4- الأنفال : 25. وفي النسختين : واتقوا فتنة لأنفسكم.

إمضائه الإلزام أيضا نوع جعل للعسر (1) كما لا يخفى.

فإن قلت : الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ يعارض العامّين من وجه ، فلا بدّ من ترجيح أدلّة نفي العسر في تقديمها عليها والمفروض عدم المرجّح ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول والأصل عدم حجّية الظنّ ، فلا مناص من الاحتياط وهو المطلوب.

قلت : قد تقدّم آنفا أنّ أدلّة نفي العسر حاكمة عرفا على غيرها من وجوه الأدلّة ، لتعارض غيرها بها ، فيحتاج في الترجيح إلى المرجّح ، وفي صورة انتفائه يرجع إلى الأصل.

الثالث : أنّا لا نسلّم أنّ بعد ثبوت الاشتغال لا بدّ من تحصيل الموافقة القطعية بل يكفي فيه عدم لزوم المخالفة القطعية وهو يحصل بالعمل بسلسلة المظنونات ، فلا وجه للاحتياط.

وفيه : أنّ من المقرّر في محلّه أنّه لا مناص من الاحتياط بعد ثبوت الاشتغال (2) ، فلا وجه للجواب المذكور.

الرابع قد لا يمكن الاحتياط كما إذا دار الأمر بين المتباينين سيّما في الموضوعات.

وفيه : أنّه لا يضرّ فيما هو المناط في المقام ؛ إذ من الجائز التزام المحتمل للاحتياط بالتخيير بينهما ، أو العمل بالظنّ في ترجيح أحدهما على الآخر.

لا يقال : إذا جوّز العمل بالظنّ فيما لا يمكن فيه الاحتياط ، فيتمّ المطلوب بعدم القول بالفصل.

ص: 194


1- « ل » : العسر.
2- سقط من نسخة « ل » من قوله : « فلا وجه للاحتياط » إلى هنا.

لأنّا نقول : قد مرّ مرارا بطلان الاستناد (1) إلى مثل الإجماع في أمثال المقام كما لا يخفى.

الخامس أنّ الاحتياط قد يؤدّي إلى ترك الاحتياط فإنّ معرفة الوجه ممّا أوجبه جماعة من الأصحاب (2) حتّى ادّعى بعضهم عليه الإجماع (3) ، وهو ينافي الاحتياط حيث لا يعلم وجه العمل فيه.

وفيه أوّلا : أنّ العلاّمة وإن أرسل هذا الحكم إرسال المسلّمات في أوائل الإرشاد (4) إلاّ أنّ المستفاد من بناء أهل العرف والعقلاء وسيرة أصحاب الأئمّة والعلماء عدم لزوم معرفة الوجه ، فلا وجه لما ذكره.

وأمّا ثانيا : سلّمنا لزوم معرفة الوجه في العبادات مثلا لكن لا ريب في عدم كونها واجبا أصليا كوجوب معرفة اللّه مثلا بل إنّما هو واجب توصّلي للوصول به إلى الغير ، وهو إمّا أن يكون تحصيل الامتثال التفصيلي ، أو قصد الوجه ، وعلى التقديرين لا محصّل له.

أمّا على الثاني ، فلأنّ من المقرّر في محلّه عدم لزوم قصد الوجه أوّلا ، وعدم تعقّله ثانيا ؛ لأنّ القصد لا يتحقّق في غير صورة العلم ، فلو فرضنا عدم لزوم الاحتياط وجواز العمل بالظنّ أيضا لا يتحقّق القصد إلاّ أن ينتهي إلى العلم وهو خارج عمّا نحن بصدده ، أو يغيّر القصد قصدا صوريا لا حقيقة له ، فيحتاج على تقديره إلى دلالة دليل على لزوم القصد الصوري ، والمعلوم انتفاؤه في المقام.

وأمّا على الأوّل ، فلما مرّ في مباحث العلم الإجمالي من احتمال عدم وجوب

ص: 195


1- « ل » : الإسناد.
2- ذكر الجماعة العاملي في مفتاح الكرامة 2 : 314.
3- نقل ذلك عن ظاهر التذكرة في مفتاح الكرامة 2 : 315.
4- ارشاد الأذهان 1 : 251.

الامتثال التفصيلي مع الإتيان في ضمن احتمالات عديدة إلاّ بالمأمور به مثلا وإن نقل الإجماع على عدم جوازه صاحب الحدائق.

سلّمنا لكنّ الامتثال الإجمالي والعمل بالاحتياط فيما لو أمكن الامتثال التفصيلي العلمي غير جائز على ما ادّعاه صاحب الحدائق (1).

وأمّا لو دار الأمر بين الامتثال التفصيلي الظنّي - ولو كان ظنّه حجّة أيضا - وبين الامتثال الإجمالي والعمل بالاحتياط ، ففي ترجيح الأوّل على الثاني تأمّل كما نبّهنا عليه في ما تقدّم ، فكيف بما إذا كان التفصيلي بظنّ لم يقم (2) دليل على اعتباره كما في المقام.

وبالجملة ، فلا وجه لتقديم العمل بالظنّ على العمل بالاحتياط لتحصيل الامتثال التفصيلي ، فإنّ ذلك يسلّم (3) فيما لو كان التفصيل علميا أو ظنّيا قام الدليل على اعتباره كما هو ظاهر بأدنى تدبّر في العرف وطريقة العبيد في امتثالهم لأوامر مواليهم.

ومن هنا ينقدح أنّ العامل بالظنّ المطلق ليس له نفي الاحتياط في مقام انحصار طريق العمل في الاجتهاد والتقليد والحكم ببطلان عبادة الجاهل المطابقة للواقع بواسطة الاحتياط ، فإنّ دليل الانسداد لا ينهض بتعيين (4) العمل بالظنّ على وجه لو لم يعمل به ، بطل عمله بل غاية ما يستفاد منه عدم لزوم الاحتياط وهو لا ينافي الجواز كما قيل ، وليس بين المسلكين واسطة يسلكها السالك إلاّ الحائطة فتدبّر.

وأمّا ثالثا : فلأنّه بعد ما سلّمنا أنّ الاحتياط يقضي بتعيين العمل ومعرفته ولو كانت معرفة ظنّية فلا نسلّم منافاة العمل بالاحتياط للعمل بالظنّ ؛ حيث إنّه بعد الاحتياط في هذه المرتبة والإتيان بالمظنون وتعيين العمل بالظنّ لا بدّ له من الإتيان

ص: 196


1- الحدائق 5 : 407. تقدّم عنه في ص 33.
2- « ش » : لم يقل.
3- « ل » : تسليم.
4- « ل » : بتعيّن.

بسائر المحتملات تحصيلا للاحتياط في تلك المرتبة ، مثلا فيما لو دار الأمر (1) بين وجوب صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، فهناك احتياطان :

أحدهما : تعيين الواجب منهما تعيينا ظنّيا.

وثانيهما : الإتيان بغير المظنون بعد الإتيان به منهما ، ولا ينافي الاحتياط في الأوّل الاحتياط في الثاني حيث إنّ الظنّ بعد غير حجّة.

وأمّا رابعا : سلّمنا جميع ذلك لكنّه في الاحتياط وجه العمل - ولو في مرحلة الظاهر - معلوم على ما تقتضيه قاعدة الشغل وهو كاف في المعرفة وقصد الوجه ، إذ لا دليل على أنّ وجه العمل في الواقع من حيث حكمه الواقعي المتعلّق عليه - مع قطع النظر عن تعلّق العلم والجهل به - واجب بل ولا أظنّ أحدا يدّعيه أيضا ، فلو شكّ في وجوب شيء في حالة بعد العلم بوجوبه في حالة سابقة ، يحكم بوجوبه استصحابا ، ويأتي به واجبا مع أنّ وجوبه ظاهري ، فلا يتّجه الجواب المذكور في وجه كما لا يخفى.

نعم ، بقي في المقام شيء وبيانه يستدعي تمهيد مقدّمة وهي أنّه لو علمنا إجمالا بوجوب شيء ولم نعلمه بالخصوص ، فمقتضى القاعدة على ما قرّرنا في المقدّمة تحصيل الموافقة القطعية بالإتيان بجميع المحتملات حتّى يحصل العلم بالامتثال ، فإنّ الاشتغال اليقيني يقضي بالبراءة اليقينية ، فإن منع من تحصيل الامتثال اليقيني مانع عقلي أو شرعي ، فإن كان يمنع من احتمال معلوم معيّن ، فلا بدّ من الامتثال فيما عداه جزما ، وإلاّ فإن كان في المقام ما يرجّح أحد الاحتمالات ، فلا مناص من الترجيح ، وإلاّ فالتخيير في الاحتمالات ، مثلا لو اشتبهت جهة القبلة بجهات قضية الشغل أوّلا (2) الصلاة على الجهات المشتبهة جميعا ما لم يمنع مانع ، وعلى تقديره فإن منع من جهة خاصّة ، فلا بدّ من تركها إلى غيرها من سائر الجهات ، وإلاّ فلا بدّ من الترجيح بين الجهات ، وإلاّ

ص: 197


1- « ش » : أمره.
2- استدرك هنا في هامش « ل » بخطّ آخر « إتيان ».

فالتخيير فيها لرفع المانع ، فالمانع إنّما يؤثّر فيما يمنعه ، ولا يقضي باختلاف الموضوع وتبديله ، فتغيّر الحكم ، فالاشتغال (1) فيما لا مانع بعد العلم الإجمالي بالحكم.

وإذ قد تقرّر هذا فاعلم أنّه قد سبق في بعض الوجوه العقلية التي أقاموها على اعتبار مطلق المظنّة من أنّ مقتضى الاشتغال العمل بكلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة إلاّ أنّ العسر يمنع من ذلك ، فالجمع بين القاعدتين يقتضي ترك الموهومات والمشكوكات نظرا إلى العسر ، والعمل بالمظنونات نظرا إلى الاحتياط ، وقد سبق أيضا ما فيه من الضعف.

ويزيدك توضيحا : أنّ لزوم العسر لا يقضي بتعيين (2) العمل بالظنّ بل الضرورة إنّما تتقدّر بقدرها على ما عرفت في المقدّمة ، فإنّ التكليف بالاحتياط ثابت ، والعسر مانع ، وحيث إنّ العسر لا يمنع من الاحتياط (3) في سلسلة خاصّة من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، فلا بدّ من الترجيح ؛ لأنّ الحكم بالاحتياط إنّما هو في جهة إدراك الواقع ، وظاهر أنّ ترك الموهوم أولى من ترك المظنون والمشكوك حينئذ ؛ لاستقلال العقل بذلك ، وأمّا المشكوك ، فلا بدّ من العمل به أيضا حيث إنّ المانع من الاحتياط قد ارتفع في ترك الموهوم ، فالاحتياط فيما لا مانع منه محكّم ، فالدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة.

لا يقال : على تقدير العمل بالمشكوك على أن نفعل كلّ ما نشكّ في وجوبه ونترك كلّ ما نشكّ في حرمته ، يلزم المحذور أيضا ، فدفعا للعسر لا بدّ من ترك المشكوك والأخذ بالمظنون فقط وهي النتيجة المطلوبة.

لأنّا نقول : أوّلا : لا خفاء لمن له أدنى خبرة في الفقه قلّة المشكوكات جدّا ، فإنّ

ص: 198


1- « ل » : فتعيّن الحكم بالاشتغال.
2- « ش » : بتعيّن.
3- استدرك هنا في هامش « ل » بخطّ آخر « إلاّ ».

المجتهد دائما إمّا (1) يظنّ بوجوب شيء ، أو حرمته ، أو بعدمهما ، وأمّا (2) تساوي طرفي إدراكه في حكم وعدم ترجيح أحد طرفيه على الآخر - ولو في الجملة - على وجه يخرج من الشكّ ، فإن كان ، فهو أقلّ قليل لا يلزم من العمل بها وانضمامها إلى المظنونات محذور.

وثانيا : إنّ إلحاق المشكوكات بالموهومات ممّا لا يكاد يتمّ ؛ لأنّ العامل بالظنّ المطلق إنّما يعمل بالأصول الخاصّة في الموارد المخصوصة في المشكوكات ، مثلا فيما لو شكّ في حرمة العصير العنبي بعد الغليان بعد العلم بعدمها قبلها ، يحكم بعدمها استصحابا للحالة السابقة ، وفيما لو شكّ في وجوب السورة يستند إلى قاعدة الشغل مثلا ، وليس كذلك في الموهومات ، فإنّ الأصول الجزئية نطرحها في مقابل الظنون المطلقة مع أنّ إلحاق المشكوك بالموهوم يقضي بخلافه ، فإنّ اعتبار الظنون المطلقة لم يثبت بعد ، ولا ينافي ذلك لزوم العسر في العمل بالموهومات كأن يقال : إنّ العسر قد ارتفع به العلم الإجمالي الحاصل بين الموهومات ، فلا وجه للعمل بمقتضى الأصول فيها ؛ لأنّ العسر إنّما ارتفع به العلم الإجمالي الموجود بين جميع سلاسل التكاليف مظنونها وموهومها ومشكوكها ، وأمّا الأصول ، فلا دلالة في العسر على ارتفاعها كما أنّ العسر لا يقتضي طرح الأصول في المشكوكات ، فكذا في الموهومات.

والحاصل أنّ العامل بالظنون المطلقة يجعلها بمنزلة العلم في مقابل الأصول في الموهومات الخاصّة كما أنّ العامل بالظنون الخاصّة يجعلها كذلك ، وذلك منهم لا يلائم إلحاق المشكوك بالموهوم ؛ إذ على تقديره ، فلا بدّ لهم إمّا من طرح الأصول في المشكوكات وعدم العمل بها فيها كما في الموهومات أو العمل بها في الموهومات أيضا ، فإنّ العسر كما ألغى العلم الإجمالي في الموهومات رأسا ولو في الموارد الخاصّة ، بحسب الأصول الخاصّة فكذلك في المشكوكات على تقدير إلحاقها بالموهومات ، فلا وجه

ص: 199


1- « ش » : « لا » بدل : « إمّا ».
2- « ش » : « لا » بدل : « أمّا ».

للعمل بالأصول فيها دونها.

وببيان أوضح أنّه لا شكّ أنّ العامل بالظنّ قد يعتمد على بعض الأصول في الموارد الجزئية كما في المثالين المذكورين في سلسلة المشكوكات ، ولا يعتمد عليها في الموهومات نظرا منه إلى أنّ الظنّ القائم بخلاف الأصل دليل علميّ به ينقطع الأصل ، ويرتفع به موضوعه المعلّق على عدم العلم ، وسرّه (1) على هذا التقدير الوارد على قاعدة الاحتياط محكّمة (2) في الموهومات ، فكأنّه لم يكن من أطراف العلم الإجمالي ، فلا عبرة بها من جهة أنّها موهومات ، ولا من جهة ( أنّها من ) (3) الأصول ( المعتمد ) (4) إليه (5) في مواردها ، وحينئذ فلو كان قاعدة العسر محكّمة في المشكوكات أيضا ، فلا بدّ فيها من أن يعامل معاملة الموهومات حيث (6) إنّه يطرح الأصول في مقابلة الظنّ ، فلا بدّ من طرحها في مقابلة الشكّ نظرا إلى اتّحاد المناط فيهما ، والعامل بالظنّ المطلق لا يلتزم (7) بذلك ، اللّهمّ إلاّ أن يوجّه بما ستعرفه في إبطال المقدّمة الخامسة من أنّه لا يمكن أن يعامل المشكوك معاملة الموهوم نظرا إلى لزوم العسر كما سيجيء.

وأمّا بطلان المقدّمة الخامسة القائلة بأنّ المرجع بعد انسداد باب العلم وبقاء التكليف في الجملة ليس إلى الأصول الجزئية في الموارد الجزئية على حسب اختلاف المقامات وهي العمدة ، فإنّ الرجوع إليها بعد انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ هو الذي تقتضيه القواعد المعمولة عندنا في أمثال المسائل ، فإنّها في محالّ جريانها علوم شرعية تفصيلية لا مناص من الاستناد إليها.

وإذ قد انجرّ الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بتجديد المقال ، لتوضيح الحال ، فنقول - وهو اللّه الموفّق والمعين - : إذا انسدّ لنا باب العلم ولو بالمعنى الأعمّ ، وعلمنا بقاء التكليف

ص: 200


1- كذا.
2- كذا.
3- من « ل » استدركت في هامشها.
4- من « ل » استدركت في هامشها.
5- كذا.
6- « ش » : « فكما » بدل : « حيث ».
7- « ل » : لا يلزم.

إجمالا ، وقلنا بأنّه لا يعقل الاستناد إلى طرق احتمالية كالقرعة والرمل والاستخارة لكونها شكّية مفادا واعتبارا ، فتلك في عرض الوقائع المشكوكة ، والاستناد إليها لا يزيد المستند إلاّ شكّا ، فلا بدّ لنا من الرجوع إلى الأصول العملية الدائرة بين الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير بالحصر العقلي ؛ لأنّ المكلّف تارة يعلم بالحالة السابقة ، وأخرى لا يعلم ، والأوّل مجرى الاستصحاب على القول به ، وعلى الثاني فتارة يعلم بالتكليف ولو إجمالا ، وأخرى لا يعلم ، والأخير مجرى البراءة عند القائل بها ، وعلى الثاني فتارة يمكن الاحتياط ، وأخرى لا يمكن ، والأوّل مورد الاشتغال على القول به ، والثاني محلّ التخيير عند من يراه ، وحينئذ فالمستدلّ بدليل الانسداد إن كان ممّن لا يرى حجّية تلك الأصول حيث إنّه يعتمد على الأوّلين من باب الظنّ والوصف أو السببية المقيّدة بعدم قيام الظنّ على خلاف الاستصحاب والبراءة ، ولا يقول بوجوب الإتيان بجميع المقدّمات العلمية والاحتياط بل يكفي بعدم لزوم المخالفة القطعية كما رآه الفاضل القمّي (1) في بعض وجوه المسألة ، ولا يلتزم بالتخيير ؛ لاختصاص مورده بتساوي الطرفين ، ومفروضه رجحان طرف الظنّ ، فإثبات حجّية الظنّ عند ذلك القائل في غاية السهولة كما لا يخفى ، وإنّما الشأن إثبات حجّية الظنّ لمن يقول باعتبار الأوّلين تعبّدا شرعيّا ، ويحكم بوجوب تحصيل الموافقة القطعية ، وعلى تقديره قلنا أيضا : إنّ المرجع ليس إلى أصالة البراءة ؛ لاستلزامه الخروج من الدين ، ولا الاحتياط ؛ لاستلزامه العسر والحرج إلاّ أنّه قلنا أيضا : إنّ العسر والحرج لا يعيّن العمل بالظنّ فقط ، وقلنا بأنّ العامل بالظنون المطلقة ليس له إلحاق المشكوك بالموهوم كما تقدّم آنفا إلاّ أن يتمسّك أيضا بلزوم العسر كما يظهر من المقام ، فللمعترض أن يستند إلى التبعيض في الأصول السابقة حذرا من المحاذير اللازمة على تقديرها ، ففي كلّ مسألة جزئية لا بدّ من الاعتماد على أصل خاصّ

ص: 201


1- انظر القوانين 1 : 442 و 443.

موجود في تلك المسألة من الأصول السابقة ، فإنّها في مفروض المسألة علوم تفصيلية كما مرّ من اعتبارها تعبّدا في البعض ، وعقلا في آخر ، فعلى المستدلّ إبطال هذا الاحتمال أيضا ، فنقول :

أمّا الاستصحاب منها في مواردها ، فتارة يرجع إلى إثبات التكليف فيما إذا كانت الحالة السابقة كذلك ، وأخرى إلى نفي التكليف فيما كانت الحالة السابقة كذلك ، وعلى التقديرين لا مجرى له.

أمّا أوّلا ، فلأنّ العلم الإجمالي لنا حاصل في جميع مواردها نفيا وإثباتا بل وفي كلّ منهما بالخصوص بانتقاض جملة كثيرة من مواردها ، فلا يجري.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه على الأوّل يوافق مفاد الاحتياط ، وعلى الثاني يطابق مضمون البراءة ، وما يدلّ على بطلان الوجهين يدلّ على بطلانه في الوجهين أيضا.

وأمّا البراءة منها فمرجعها إلى نفي التكليف في محلّ جريانها ، وما نحن فيه ليس محلّها للعلم الإجمالي بوجود واجبات كثيرة ومحرّمات عديدة في تلك الموارد ، فلا تجري البراءة ، وحينئذ فلا بدّ من الإتيان بما نقطع معه سقوط التكليف بالنسبة إلى تلك الواجبات المردّدة ، والترك لما يحتمل الحرمة امتثالا لتلك النواهي الدالّة على حرمة تلك المحرّمات المردّدة ، فيرجع إلى الاحتياط في جميع الموارد ، وقد عرفت ما فيه من انعقاد الإجماع على عدم وجوبه ، ولزوم العسر والحرج على تقديره ، وأمّا إبطال سائر المحتملات في المقام من القرعة والاستخارة وغير ذلك ، فيكفي الشكّ في اعتبارها في عدم اعتبارها حيث إنّه على تقديره لا يوجب إلاّ الشكّ ، ولا يعقل الاستناد إلى الشكّ مع وجود الظنّ فيما نعلم (1) أنّ المطلوب هو الوصول إلى الواقع ، وكان منشأ التوهّم في هذه هو أنّ الدليل هذا لمّا كان عقليا ، فيظنّ بعضهم أنّ إتمامه يتوقّف على إبطال جميع ما يحتمل كونه طريقا ، ولذلك أورد أنّ بعد تسليم المقدّمات المذكورة ،

ص: 202


1- « ل » : فما يعلم.

فالدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة ، لجواز أن يكون هناك طريق لا نعلمه ، وكأن غفل عن أنّ إبطال الاحتمال إنّما يحتاج إليه فيما لم يكن نفيه كافيا في بطلانه (1) ، وفي المقام يكفي في بطلان الطرق المحتملة المشكوكة كونها مشكوكة مع وجود الظنّ.

وبالجملة ، أنّ مجرّد وجود الطريق في الواقع احتمالا بل وظنّا بل وعلما أيضا ممّا لا يجدي بعد انسداد الطريق في وصوله إلينا ، مثلا لو فرضنا أنّ هناك طريقا علميا (2) كما هو كذلك في الواقع ، ولا يمكننا الوصول إليه ، فلا شكّ أنّ ذلك لا يفيدنا شيئا ؛ فإنّ العمل في مرحلة الظاهر لا بدّ وأن يستند إلى دليل وطريق علمي ، أو ما يقوم مقامه ، والاستناد إلى الطرق المشكوكة لا يفيدنا شيئا ؛ حيث إنّه يعارض احتمال الوجود فيها باحتمال العدم ، فكأنّه لم يستند إليها ؛ لعدم تفاوت الحال في الحكم قبل الاستناد وبعده ، فالشكّ في حجّية هذه يكفي في عدم حجّيتها كما أنّ استقلال العقل في جعل الظنّ طريقا يكفي في حجّيته بعد وضوح أنّ المراد هو الوصول إلى الواقع بل هو حينئذ طريق منجعل بذاته لا يحتاج إلى جعل (3) كالعلم عند انفتاح بابه ، فظهر بما ذكرنا أنّ الاحتمالات المتصوّرة في المقام كلّها وجوه باطلة يكفي في بطلانها قيام الإجماع عليه ، ولذلك لم يحتمله أحد من الأعلام ، ولا اعترض بها على المقام إلاّ أنّ هنا احتمالا قد يتوهّم كونه طريقا بعد الانسداد ؛ لكونه من الطرق التي دلّ عليها العقل والنقل وإن كان لا يخفى بطلانه أيضا على من له خبر بالفنّ ، ومع هذا لا بأس بالتنبيه عليه وهو أنّ المجتهد بعد انسداد باب العلم له لا مناص من تقليده غيره ممّن يرى انفتاح باب العلم كما أنّه يجب عليه التقليد إذا لم يتمكّن من الاجتهاد كأن كان محبوسا ، أو نحو ذلك نظرا إلى إطلاق أدلّة التقليد.

ولا يخفى على من له مسكة فساد هذا الاحتمال وبطلانه.

ص: 203


1- « ل » : إبطاله.
2- في النسختين : طريق علمي.
3- « ل » : جعلي؟

أمّا أوّلا ، فلانعقاد الإجماع على خلافه.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ التقليد إنّما هو مشروع لمن لم يتمكّن من الفحص في الحكم الشرعي ؛ لاختصاص أدلّته به.

أمّا الإجماع ، فظاهر.

وأمّا الآيات ، فظاهرها كالأخبار فيمن لا يعلم الحكم من جهة عدم تمكّنه من الفحص والمفروض أنّه تمكّن من الفحص وبذل الجهد ، فعلم (1) بانسداد طريق العلم في الأحكام الشرعية ، فهو يعتقد بطلان ما يراه القائل بانفتاح باب العلم ، أو الظنون الخاصّة ، وقياسه على المحبوس مع الفارق لما عرفت من أنّ المحبوس فيما يرجع إلى المجتهد غير عالم ، فيشمله قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) بخلاف ذلك ؛ فإنّه عالم بالانسداد ، وذلك مثل ما لم يعلم المجتهد حكم مسألة جزئية بعد الفحص بواسطة إعواز النصّ عنده ولو كان من العاملين بالظنون الخاصّة ، فكما أنّه لا يتوهّم جواز تقليده لمن يعتقد وجود نصّ منها ، فكذلك في المقام.

نعم ، لو كان هناك مجتهد يعلم بانفتاح باب العلم في الواقع له لتمكّنه من الوصول إلى معادن الوحي أو لوجود الأصول المدوّنة في زمنهم عنده بحيث يصير جلّ الأخبار المودعة في الكتب الأربعة وغيرها قطعية إمّا صدورا ، وإمّا (3) مضمونا ، فلا محيص عن التقليد كما أنّهم يعملون بفتاوى عليّ ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ؛ لتنزيلهم فتاويه منزلة النصوص وهو نوع من الاجتهاد بل وأعلى مرتبة منه على بعض الوجوه.

وأمّا الاحتمالات الأخر من العمل بالموهوم والتبعيض في الموارد والتخيير والتوقّف ، فمع أنّها مخالفة للإجماع ، فقد يردّه بعض ما أسلفنا لك في إبطال الوجوه

ص: 204


1- « ل » : فيعلم.
2- النحل : 7 ؛ الأنبياء : 7.
3- « ل » : « أو » بدل : « وإمّا ».

المتقدّمة ، فلا نطيل الكلام بذكرها ، وأنت بعد ما أحطت خبرا بما تقدّم تقدر على دفعها تفصيلا بل قد يقال إنّها كلام خارج عن قانون المناظرة.

نعم ، التبعيض - في الاحتمالات الظنّية والشكّية والوهمية ، أو في مراتب كلّ واحد منها من العمل بأقوى الظنون وترك ما سواه نظرا إلى العسر ، أو العمل بجميعها عدى الموهومات الضعيفة التي كادت أن يكون مقابلها معلوما - كلام يوافق قواعد المجادلة في إثبات المطالب إلاّ أنّه باطل أيضا إجماعا كما عرفت في إبطال التبعيض بين الأصول والأخذ في كلّ مورد بأصل موجود فيه ، فظهر من جميع ما تلوناه عليك أنّ بعد الانسداد وبقاء التكليف في الجملة وعدم جواز الرجوع إلى الأصول بعضا أو (1) كلاّ المرجع بحكم العقل القاطع هو الظنّ ، فتدبّر.

وما قد يتوهّم في المقام - من أنّ أدلّة حرمة العمل بما وراء العلم ينفي حجّية الظنّ - فواضح الوهن ، معلوم السقوط بعد ما عرفت مرارا من أنّ مرجعها إلى نفي التشريع ، أو طرح الأصول المعلومة ، المعلّق على العلم ارتفاعها ، فإنّ بعد استقلال العقل بطريقيتها واعتبارها لا مجال لكلّ واحد منهما ، فإنّ العامل به يجعله بمنزلة العلم ، فلا يلزم تشريع ولا غيره.

ثمّ إنّه ينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ بعد ما عرفت من انسداد باب العلم وبقاء التكليف - ولو في الجملة - وعدم جواز الرجوع إلى الأصول كلاّ أو بعضا على ما عرفت تفاصيله ، فهل النتيجة اعتبار الظنّ في نفس الأحكام الشرعية فقط ، أو في الطرق إليها كذلك ، أو فيهما معا؟ أقوال : المشهور بين القائلين بالانسداد هو الأوّل ، وذهب بعض الأعاظم في تعليقاته على المعالم إلى الثاني ، وتبعه في ذلك بعض الأجلّة في فصوله (2) والحقّ هو الثالث.

ص: 205


1- « ل » : « و» بدل : « أو ».
2- سيأتي نصّ كلام صاحب الفصول في الصفحة الآتية وحاصل كلام صاحب هداية المسترشدين في ص 223.

ولنذكر أوّلا وجوه القولين لينقدح حقيقة الحال ، فيما هو التحقيق في المقال ، ( فنقول ) (1) : إنّ القائل بانحصار الاعتبار في الطريق تارة يدّعي بأنّ المقدّمات المذكورة تنتج حجّية الظنّ في الطريق من غير تغيير فيها ، وأخرى يقرّر دليل الانسداد بوجه آخر غير ما هو المعروف من تحريره.

قال في الفصول الغروية في تقرير الدليل على هذا الوجه : إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا قطعيا (2) بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان ، وشهادة الوجدان ، إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق يقطع (3) من السمع بحكم الشارع على قيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل غالبا إلى تعيينها (4) بالقطع ، ولا بطريق يقطع بالسمع (5) بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه ، كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب (6) أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين الطريق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على عدم حجّيته ؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه.

ثمّ قال : وإنّما اعتبرنا في الظنّ أن لا يقوم دليل معتبر (7) على عدم جواز الرجوع إليه حينئذ ؛ لأنّ الحكم بالجواز هنا ظاهري ، فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه ومع تعذّر هذا النوع من الظنّ ، فالرجوع إلى ما يكون أقرب إليه مفادا من المدارك التي لا دليل

ص: 206


1- ما بين الهلالين من هامش « ل » استدرك بخطّ آخر.
2- في المصدر ونقل فرائد الأصول 1 : 438 : فعليا.
3- في المصدر : أو بطريق معيّن يقطع.
4- في المصدر : تحصيلها.
5- في المصدر : من السمع.
6- « ش » : ولا ريب.
7- في المصدر : « معه » بدل : « معتبر ».

على عدم حجّيتها حينئذ مع الاتّحاد ، ومع التعدّد والتكافؤ فالتخيير (1) ؛ لامتناع الأخذ بما علم عدم جواز الأخذ به كما مرّ ، أو ترجيح المرجوح ، أو الترجيح مع عدم المرجّح.

ثمّ أفاد بعد ذلك : وممّا يكشف عمّا ذكرنا [ أنّا ] كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفادت الظنّ الفعلي [ بها ] كالقياس والاستحسان والسيرة الظنّية والرؤيا ، وظنّ وجود الدليل ، والقرعة وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له ، كذلك نجد عليها (2) أمارات أخر نعلم أنّ الشارع قد اعتبرها كلاّ أو بعضا طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعلي بها ولو بمعارضة الأمارات السابقة ، وهذه أمارات محصورة ، فمنها : الكتاب والسنّة الغير القطعيين والاستصحاب والإجماع المنقول والاتّفاق الغير الكاشف والشهرة وما أشبه ذلك ، فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعية في حقّنا أمارة أخرى خارجة عن هذه الأمارات.

قال : ومستند قطعنا في المقامين هو الإجماع ، مضافا في بعضها إلى مساعدة الآيات والأخبار حتّى أنّ القائلين بحجّية مطلق الظنّ - كبعض متأخّري المتأخّرين - نراهم لا يتعدّون في مقام العمل عن هذه [ الأمارات ] إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظنّ فعلي بمؤدّاها ، وحيث إنّ النزاع قد وقع في تعيين ما هو المعتبر من هذه الأمارات في نفسه وفي صورة التعارض ، ولا علم لنا بالظنّ (3) ، ولا طريق علميا إليه مع علمنا ببقاء التكليف بالعمل بها ، كان اللازم في ذلك الرجوع إلى ما يستفاد اعتباره (4) من هذه المدارك الاحتمالية لتقدّمها في نظر العقل حينئذ على المدارك المعلوم عدم اعتبارها شرعا مقدّما للأقرب منهما (5) في النظر على غيره مع تحقّقه.

ص: 207


1- في المصدر : التخيير.
2- في المصدر : علينا؟
3- في المصدر : بالتعيين.
4- في المصدر : اعتبارها.
5- في المصدر : منها.

قال : فيثبت ممّا قرّرنا جواز التعويل في تعيين ما يعتبر من تلك الطرق التي هي أدلّة الأحكام على الظنّ (1) ، ثمّ على ما هو أقرب كذلك (2). انتهى.

وفيه نظر من وجوه :

الأوّل : أنّ أساس هذا البرهان وبناء هذا البنيان - على ما هو الظاهر - على وجود العلم الإجمالي بنصب طريق يوصلنا إلى مطلوب المولى ، وذلك في محلّ من المنع ؛ إذ من المحتمل أنّ الشارع قد وكلنا في الوصول [ إلى ] أحكامه المجعولة على الطرق المنجعلة عندنا التي قد استقرّ بناء العقلاء في تحصيل الإطاعة بالرجوع إليها من العلم ، أو ما يقوم مقامه عندهم ولو مع التمكّن منه ، أو مع عدم التمكّن منه ، وما ادّعاه من العلم الإجمالي ، فهو إمّا ناش عن (3) أنّ عدم النصب ينافي اللطف ؛ فإنّ فيه تقريبا للعباد إلى الطاعة مثلا ، أو يستند إلى دليل سمعي شرعي إن (4) لم يجب نظرا إلى اللطف.

فإن أراد من أنّه يلزم على الشارع الحكيم نصب طريق علمي للعباد في تحصيل الامتثال والإطاعة بعد جعل الأحكام للعمل بها نظرا إلى اللطف ، وأنّه لولاه يقبح التكليف ، فلا ريب في بعده عن سبيل السداد ، فإنّ (5) بعد ما يستكشف طريقة الإطاعة والامتثال من بناء العقلاء في أوامر مواليهم بالنسبة إلى عبيدهم من العمل بالعلم - فيما إذا كان تحصيله ممكنا - والتعويل على ما يقوم مقامه من الظنّ ولو في أعلى درجاته التعبّد (6) للاطمئنان ، لا يلزم على الحكيم قبح على تقدير عدم النصب ؛ لعدم الاحتياج إليه ، فإنّ العقل يستقلّ في تحصيل الطريق ولو بمعاونة بناء العقلاء في ذلك ، والنظر في أحوال السلاطين في نصب ولاتهم للبلاد يعطي ما ذكرنا ، فإنّ البيان مقصور عندهم (7)

ص: 208


1- في المصدر : على الظنّ الذي لا دليل على عدم حجّيته.
2- الفصول : 277 - 278 وما بين المعاقيف منه.
3- « ش » : من.
4- « ل » : وإن.
5- « ش » : قال.
6- كذا.
7- « ل » : عندهم مقصور.

على نفس الأحكام المجعولة لهم ، وذلك ظاهر لا سترة عليه ، وظنّي أنّ المدّعي أيضا لا يدّعي بذلك (1) كما يظهر من قوله : ومستند قطعنا في المقامين هو الإجماع.

وإن أراد أنّ الدليل قد دلّنا على ذلك وإن لم يكن واجبا في نظر العقل كالإجماع مثلا ، ففيه أوّلا : منع الإجماع كيف؟ وجماعة من متقدّمي أصحابنا كابن قبة ومتابعيه (2) يقول بامتناع جعل الطريق الظنّي منه تعالى.

وأمّا العلم ، فقد عرفت فيما سبق أنّه بنفسه منجعل غير محتاج إلى الجعل ، وجملة منهم كالسيّد وأتباعه لا يرون وقوعه شرعا بل هم مكتفون في ذلك على الطرق المعمولة عند العقلاء في تحصيل الامتثال والإطاعة ، فأنّى لك بدعوى الإجماع والقطع به؟ فإنّ السيّد يعتمد على أصالة الحقيقة في الألفاظ ، ولا ريب أنّها ليست من الطرق المجعولة ، غاية ما في الباب أنّ الشارع قد أمضاها ، وذلك لا يقضي بجعل فيها كما لا يخفى.

وثانيا : أنّه قد تقدّم في بعض المباحث السابقة في الإجماع والتواتر أنّ ما نرى من اتّفاق جماعة على أمر واختلافهم في تعيينه على إطلاقه لا يلازم وجود قدر مشترك بين المجمعين والمخبرين ، فإنّه (3) يتحقّق على وجهين :

أحدهما : أن يكون (4) إطباقهم على قدر مشترك بين جميع الخصوصيات حقيقة ، و (5) كان الاختلاف فيها كذلك ، كاتّفاقهم على موت واحد واختلافهم في الميّت هل هو زيد أو عمرو مثلا ، ومثل اتّفاقهم على وجوب الصلاة في الجمعة واختلافهم في أنّها الظهر أو الجمعة ، فإنّ الاتّفاق المذكور يكشف عن أنّ الموت في الجملة واقع ، والصلاة على إجمالها واجبة.

ص: 209


1- كذا. والظاهر زيادة الباء.
2- « ل » : تابعيه.
3- « ل » : + قد. وشطب عليها في « ش ».
4- « ل » : يكونا.
5- « ش » : - و.

وثانيهما : أن يكون الاختلاف في الخصوصيات من جهة الاختلاف في الأدلّة القاضية عند المخالف بها وبالقدر المشترك أيضا ، فلا يكشف عن القدر المشترك ، مثلا لو اختلفت الأمّة في وجوب شيء وحرمته نظرا إلى اختلافهم في الدليل الوارد في المقام من أنّه أمر أو نهي لا يكشف عن أنّ الإلزام في الجملة متحقّق ، فإنّ القائل بالحرمة كما ينفي خصوصية الإلزام الوجوبي ينفي نفس الإلزام أيضا ، وكذلك القائل بالإلزام الوجوبي ينفي الحرمة رأسا ، واختلاف الأصحاب في خصوصيات الأخبار من هذا الوجه ، ولا أقلّ من احتماله ، فإنّ بعضا منهم قد اعتمد على صنف خاصّ من جهة دليل خاصّ ، وصنف آخر منهم قد عوّل على بعض آخر كذلك كما ترى في اختلاف مداركهم من الآيات والإجماع والأخبار مثلا ، فيمكن تخطئة الجميع ، فلا يحصل الكشف.

وبالجملة ، إنّ المجمعين والمخبرين تارة يعلم من حالهم وكلماتهم اتّفاقهم في القدر المشترك ، وأخرى لا يعلم ، فمجرّد ما يرى من نفي الخصوصيات في كلماتهم لا يكشف عن كون المشترك بينهما مسلّما عندهم هذا ، ولئن أغمضنا عن ذلك ، فغاية ما هناك إطباقهم على أنّ القدر ( المشترك ) (1) من الطرق القطعية ، وأمّا أنّه مجعول ومنصوب للشارع بحيث قد جعله طريقا كما قد جعل في الموضوعات مثلا وفي القضاء كذلك ، فهو أوّل الكلام ؛ لاحتمال أن يكون ذلك من إمضاء الشارع للطريق المعمول عند العرف والعقلاء.

وأمّا ما استند إليه أخيرا من أنّه « كما نجد على الأحكام أمارات يقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طرقا إلى معرفة الأحكام مثلا كالقياس » فواضح الضعف والسقوط ؛ لاحتمال أن يكون ذلك منهم ردعا موضوعيا ، ومنعا صغرويّا ، إمّا من حيث إنّ القياس وأضرابه من الأمارات الظنّية الغير المعتبرة ممّا لا يجوز الاعتماد عليه عند

ص: 210


1- ما بين الهلالين استدرك في « ل » بخطّ آخر.

الانفتاح وحضور الإمام عليه السلام ، وإمّا من حيث إنّ القياس غالبا لا يصادف الواقع لعلمهم بالعواقب مثل ما نرى من اعتبار قول الثقة في المطالب العرفية عند أهله ، فلو قيل : إنّ المخبر الفلاني مثلا ممّا لا يجوز العمل بقوله ؛ لعدم الوثوق بقوله ، فكما أنّ ذلك لا ينافي الحكم بالكلّية القائلة باعتبار قول الثقة مثلا بل إنّما هو طرد موضوعي ، فكذلك فيما نحن بصدده.

ومن هنا يظهر عدم اتّجاه ما قد يتخيّل التعويل عليه في إثبات جعل الطريق منهم من الأخبار الآمرة بأخذ معالم الدين عن جملة من أصحابهم ، كقوله عليه السلام : « خذوا [ ب- ] -ما رووا وذروا ما رأوا » (1) وقوله عليه السلام : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (2) وقوله عليه السلام : « نعم » بعد قول الراوي : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ (3) إلى غير ذلك ؛ لظهور الجميع فيما قلناه من بيان الطرق المعمولة عليها عند العقلاء وإمضائها كما هو مقتضى صحيح النظر في قول الراوي إنّه ثقة آخذ منه [ معالم ديني ] فإنّه سأل عن الصغرى بعد فرض الكبرى مسلّمة ، وفي قول الإمام عليه السلام : « المأمون على الدين » ولا أقلّ من الاحتمال ، فيقطع الاستدلال لعدم ظهوره فيما استدلّ عليه قطعا ، فدعوى القطع بأنّه اعتبر في حقّنا طريقا جعليا مجازفة بيّنة ، ومكابرة هشّة (4) على ما عرفت من عدم دليل على ذلك بل الإنصاف أنّ احتمال عدم جعل الطريق في الأحكام بعيد في الغاية ، وغريب في النهاية.

وممّا يكشف عمّا ذكرناه أنّ عموم البلوى في مثل المقام يقضي بعدم الخلاف في ذلك بل لا بدّ وأن يكون معلوما بالتفصيل كما أنّ التقليد في المقلّد كذلك ، فلو كان كما ذكر ،

ص: 211


1- الوسائل 27 : 102 ، باب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 79 ، و 27 : 142 ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، ح 13. وتقدّم في ص 155.
2- الوسائل 27 : 146 ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، ح 27 نحوه.
3- الوسائل 27 : 147 و 148 ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، ح 33. وسيأتي في ص 256.
4- « ل » : - هشة.

لكان الواجب أوّلا أخذ الطريق ومعرفته ، ثمّ الحكم بعد ذلك بالعمل بمؤدّاها ، وعلى تقديره يصير معلوما كما لا يخفى ، فليتأمّل.

فإن قلت : إنّ منع العلم الإجمالي بنصب الطريق مكابرة ؛ إذ من المعلوم أنّا لو تشرّفنا بحضور الإمام ، وسألنا من أنّ المرجع لنا في الأحكام بعد انسداد باب العلم أيّ شيء؟ وعلى أيّ طريق نرجع ، فلا حجّة يهدينا إلى سبيل ، ويوصلنا إلى طريق؟ ولو كان مطلق الظنّ أيضا ، فنحن نعلم إجمالا أنّ الطريق في الأحكام موجود إمّا الظنون الخاصّة أو مطلق الظنّ ، فيعمل في طريقه الظنّ ، ويتمّ المطلوب.

قلنا : لا يخفى على المتأمّل في المقام ، فساد هذا الكلام ، فإنّ القول بطريقية الظنّ المطلق ليس في عرض القول بطريقية غيره من الظنون الخاصّة حتّى يصحّ القول بالعلم الإجمالي بهما ، فإنّه يترتّب على انسداد باب الظنون الخاصّة ، والترديد لا يتصوّر بينها وبين الظنّ مطلقا كما أنّ الأصول العملية ليست في مرتبة الأدلّة الاجتهادية ، فإنّ فرض وجودها ينافي وجود الظنّ ؛ إذ على تقديرها يرتفع القول بالظنّ المطلق ارتفاعا موضوعيا فكما أنّ المجتهد لا يتردّد أمره بين الأخذ بالأصول وبين الأدلّة الاجتهادية فكذا في المقام لا يتعقّل الترديد بينهما ؛ إذ على تقدير جريان دليل الانسداد نعلم علما تفصيليا بطريقية مطلق الظنّ ، وعلى تقدير عدم جريانه بواسطة وجود الظنون الخاصّة نعلم علما تفصيليا بطريقية غيره.

نعم ، يصحّ هذا فيما إذا لم يدخل المجتهد في المسألة ، فإنّه يعلم أنّ مرجعه بعد الدخول إمّا الأصل ، أو الظنّ المطلق ، وإمّا الأدلّة الاجتهادية ، أو الظنون الخاصّة.

وأمّا بعد دخوله في المسألة ، فلا ترديد له كما عرفت ؛ إذ بعد وجود الدليل فالأصل أو الظنّ لا مجرى لهما قطعا ، وعلى تقدير عدمه ، فالمرجع إليهما قطعا ، فتدبّر.

الثاني : سلّمنا وجود العلم الإجمالي بنصب الطريق من جهة العلم بأنّ الشارع مثلا قد أمضى بعض الطرق العرفية ، ونهى عن بعض آخر ، فتصرّف فيها جرحا وتعديلا ،

ص: 212

فيكشف ذلك عن أنّه لم يرض لنا بالعمل بما في أيدينا مطلقا بادّعاء كفاية مثل ذلك في نصب الطريق ، وعدم افتقاره إلى أمر آخر غير ما ذكر ، فلا نسلّم وجود المنصوب منه عندنا ؛ لاحتمال انتفاء موضوعه ، فإنّه يحتمل أن يكون المنصوب منه هو الخبر العادل الواقعي ، أو الخبر المستفيض ، أو الخبر العدل من غير واسطة مثلا ، ومصاديقه ليست بموجودة عندنا بواسطة حدوث السوانح ، وعروض الحوادث ، فيقطع التكليف به ؛ لارتفاع موضوعه.

وبالجملة : إنّ مجرّد العلم الإجمالي ونصب الطريق على تقديره لا يلازم بقاءه في زمننا ، فيحتمل أن لا يكون الطريق المنصوب في الطرق الموجودة عندنا بواسطة انتفاء مصاديقه لدينا ، فلا تكليف به ، فيقطع الاستدلال بواسطة قيام الاحتمال.

الثالث : سلّمنا العلم الإجمالي بطريق منصوب من الشارع موجود عندنا لكنّه مع ذلك لا يقضي بإعمال الظنّ فيها لوجود القدر المشترك المتّفق عليه بين الكلّ في البين ، فهو معلوم تفصيلا ، وغيره مشكوك كذلك ، فلا وجه للعمل بالظنّ.

توضيحه : أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر إذا كانا غير مرتبطين كأن دار الأمر بين وجوب ثلاثة أمور ، أو أربعة ، فلا شكّ في أنّ الأقلّ معلوم الوجوب ولو بالنسبة إلى الأكثر حينئذ ، بخلاف ما (1) إذا كانا متباينين كما إذا دار الأمر بين وجوب أمر ووجوب غيره ، فعلى الأوّل ، فلا وجه للعمل بالظنّ فيه ، وعلى الثاني ، فقد يحتمل على بعض الوجوه كما يظهر ممّا سيجيء ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، فإنّ كلّ من قال باعتبار الشهرة ، فقد قال باعتبار الإجماع المنقول ، ومن قال باعتبارهما ، فقد قال باعتبار الحسان والموثّقات من الأخبار ، ومن قال باعتبارها ، فقد قال باعتبار الصحاح على ما هو المشهور فيها ، ومن قال باعتبارها ، فقد قال باعتبار الصحاح بالمعنى المختار عند صاحب المعالم والمدارك ، وعلى قياسه الكلام فيما إذا لاحظناها

ص: 213


1- « ل » : « بخلافها » بدل : « بخلاف ما ».

متنازلة إلى أن يصل إلى أقوال متباينة كما في الشهرات والضعاف مثلا ، فإنّ البعض منهم من قال باعتبار الأوّل دون الثاني ، وبعض آخر قال بالعكس مثلا ، وحينئذ نمنع حصول العلم الإجمالي بوجود (1) طريق منصوب من الشارع في الأمارات المتباينة ، فهي طرق مشكوكة صرفة ، وما عداها معلومة محضة لا ترديد فيها ، فيجب العمل بها دونها ؛ لأصالة البراءة الخالية عمّا يصلح رافعا لها ، فإنّ أدلّتها عقلا ونقلا محكّمة في مقام الشكّ في التكليف كما في المقام.

الرابع : سلّمنا العلم الإجمالي في الطرق الموجودة المتباينة لكنّه مع ذلك كلّه لا ينهض على المدّعى ؛ فإنّ قضية العلم الإجمالي بالاشتغال في دوران الأمر بين المتباينين - كما هو المفروض - هو تحصيل البراءة القطعية من الإتيان بجميع المحتملات ، فإنّ القطع بالاشتغال ، يقضي بالقطع بالامتثال ، فلا يتمّ ما ذكره من استعلام حال (2) المعلوم المردّد بإعمال الظنّ.

لا يقال : لا وجه للاحتياط في مثل المقام ؛ لدوران الأمر بين الواجب والحرام ؛ إذ كما نعلم بوجود طريق منصوب يجب العمل بمؤدّاه في الأمور المتباينة ، فكذا (3) نعلم بوجود أمارة باطلة يحرم العمل بها فيما بينها.

لأنّا نقول : إنّ العلم بوجود أمارة باطلة غير منصوبة من الشارع كالقياس فيها لم يحصل لنا بعد ، واحتمال وجودها لا يجدي بعد جريان البراءة الأصلية.

فإن قلت : إنّ غاية ما هناك وقصارى ما يتوهّم في المقام منع العلم بحرمة العمل بأمارة ظنّية حرمة ذاتية كما في القياس ، وأمّا حرمة العمل بها ولو بواسطة العمومات الناهية عن العمل بمطلق ما وراء العلم ، فممّا لا يكاد ينكر دفعه وهي تكفي (4) في المقام كما لا يخفى.

ص: 214


1- « ش » : لوجود.
2- « ل » : « ما هو » بدل : « حال ».
3- « ل » : - فكذا.
4- « ل » : وهو يكفي.

قلت : قد عرفت فيما تقدّم مرارا أنّ مرجع الأدلّة الناهية إلى نفي التشريع ، وعدم جواز طرح الأصول المعلّقة على العلم في مقابلة الظنون الغير المعتبرة ولا شيء منهما فيما نحن بصدده.

أمّا الأوّل ، فواضح ، فإنّ التشريع هو إدخال ما ليس من الدين فيه على أنّه منه ، وفي صورة الاحتياط ليس كذلك ، فإنّه يعمل بالمحتمل لرجاء أنّه من الدين ولإدراك الواقع ، فالاحتياط شرّع طريقا ظاهريا ، فيجب الأخذ به في أمثال المقام ، فعلى تقديره يرتفع التشريع بانتفاء موضوعه وارتفاع محلّه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الأصول العملية واللفظية إذا لم تكن مخالفة لمؤدّيات الطرق المحتملة كأن دلّت الأصول على وجوب شيء ، والشهرة أيضا دلّت عليه مثلا ، فلا إشكال ، وأمّا إذا كانت مخالفة لها ، فالأصول تارة نافية للتكليف كالبراءة والاستصحاب في بعض موارده والتخيير ، وأخرى مثبتة له كالاشتغال والاستصحاب في بعض آخر من موارده.

وعلى الأوّل ، فلا منافاة بينهما أيضا ، فإنّ البراءة والاستصحاب مفادهما حينئذ لا يزيد على الرخصة وهي لا تنافي العزيمة فعلا وتركا كما يستفاد من الطرق المحتملة ، فلو قامت الشهرة على وجوب شيء يقتضي الأصل العملي واللفظي كأصالة الحقيقة إباحته ، فلا شكّ في عدم منافاة الإباحة للوجوب في العمل كما إذا قامت على حرمته ؛ فإنّ وجوب الترك لا ينافي جواز الترك ؛ إذ له الترك دائما.

وعلى الثاني أيضا ، فلا منافاة فيما إذا كان مفاد الطريق كالشهرة إباحة شيء ، ومفاد الأصل كالاستصحاب أو الاشتغال وجوب شيء ؛ لما قد عرفت من عدم منافاة الرخصة للعزيمة ، وأمّا إذا قامت الشهرة على حرمة شيء والأصل يقتضي وجوبه ، فإن كان هو الاستصحاب ، فلا يجري قطعا ؛ لانتقاض مورده بالعلم الإجمالي ، بخلاف جملة من موارده كما تقدّم في إبطال الرجوع إلى الأصول الجزئية ، وإن كان الأصل هو

ص: 215

الاشتغال كأن قامت الشهرة على وجوب شيء والاشتغال يقضي بحرمته ، فتردّد الأمر بين الاحتياط في المسألة الأصولية كأن يعمل بمفاد (1) الشهرة لاحتمال كونها طريقا ، والاحتياط في المسألة الفرعية كأن يأخذ بمفاد الاشتغال ، وحينئذ فالحقّ وإن كان الأخذ بالاحتياط في الفرعيات على ما ستعرفه إلاّ أنّه مع ذلك لا يقضي بالعمل بالظنّ في تعيين الطريق كما هو مطلوب المستدلّ ؛ إذ لا مناص من الاحتياط ، أمّا في المسألة الأصولية فيما إذا لم يخالف مفاد الطريق مفاد الأصل ، وأمّا في المسألة الفرعية فيما إذا خالف مفاد أحدهما مفاد الآخر كما عرفت ، ولا يلزم العسر على هذا التقدير ، فإنّ الاحتياط في الأصول لا يلازم إثبات التكليف ، فإنّ بعد العمل بالشهرة فهي مختلفة المفاد ، فتارة ينفي التكليف ، وأخرى يثبته ، والاحتياط في الفرعيات يختصّ في موارد الاشتغال فيها كما إذا دار الأمر بين المتباينين مثلا أو غيره على وجوه اختلافهم في تعيين محلّ الاحتياط ، فكما (2) لا يلزم على العامل بالظنون المطلقة عسر في العمل بهذه الأمارات المختلفة المتشتّتة ، فكذلك لا يلزم على العامل بها من جهة الاحتياط.

الخامس : سلّمنا جميع ذلك ، وأغمضنا عن كلّه لكنّ الدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة التي هي حصر الحجّة في الظنّ في الطريق.

وبيان ذلك : أنّ الطرق المنصوبة إمّا أن تكون طرقا حالتي الانسداد والانفتاح ، أو في حالة الانسداد فقط وإن كان جعلها في حالة الانفتاح ، وعلى التقديرين لا ملازمة بين المقدّمات التي ذكرها والنتيجة التي قصدها.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ مؤدّى الطريق على ما هو المفروض في عرض الواقع ، فعند التمكن من العلم بالواقع ، والعلم بمؤدّى الطريق ينحصر الأمر بين الأخذ بالواقع والأخذ بمؤدّى الطريق ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر كما إذا قامت البيّنة مثلا على ذهاب الحمرة في المغرب مع التمكّن من تشخيص الواقع لنا علما بالرؤية ونحوها ، فلا

ص: 216


1- « ل » : مفاد.
2- « ل » : كما.

يتعيّن العمل بأحدهما.

نعم ، لو انسدّ باب العلم في أحدهما ، تعيّن الأخذ بالآخر كما في الواجب المخيّر ، فإنّ بعد التعذّر عن العتق في الكفّارات يتعيّن غيره ، وقضية ذلك حجّية الظنّ فيهما لو انسدّ باب العلم فيهما معا كما في الواجب المخيّر أيضا ، فيحكم بالتخيير بين العمل بالظنّ في الأحكام الواقعية وبين العمل به في الطريق ، فكما أنّ الشكّ فيهما حينئذ ممّا لا عبرة به فيهما ، فكذلك يعتبر الظنّ فيهما.

وبالجملة ، إنّ الطريق والواقع إمّا أن يكونا مشكوكين ، أو مظنونين ، أو معلومين ، وقضيّة تساويهما في الطرفين من اعتبارهما في الأخير وعدمه في الأوّل تساويهما في الوسط أيضا ، فكما أنّ العلم بالطريق ينزّل منزلة العلم بالواقع عند التمكّن ، و (1) العلم به يغني عن العلم به ، فكذلك في صورة الظنّ ، فإنّه لو لم نقل بأولوية الأخذ بالظنّ المتعلّق بالواقع ، فلا أقلّ من تساويهما.

وأمّا على الثاني ، فلا يخلو إمّا أن يكون نصب الطريق في حالة الانسداد على وجه الانحصار - كأن يكون الاعتبار منحصرا في طرق معلومة مخصوصة ، وكان المرجع فيما عداها إلى الأصول - أو لا على وجه الانحصار وعدمه كأن عيّن العمل بطرق مخصوصة مع قطع النظر عن اعتبار طريق آخر وعدمه ، ويرجع الأخير إلى الأوّل ، فإنّ العمومات الناهية عن العمل بغير العلم تقضي بانحصار الطريق فيما عيّنه ، فلا بدّ من الرجوع فيما عداه إلى الأصول العملية ، غاية ما في الباب أنّ عدم جواز الرجوع في صورة الانحصار إلى (2) الطرق الأخر معلوم بالخصوص ، وفي صورة عدم الانحصار معلوم بواسطة العمومات ، وعلى التقديرين فبعد الإغماض عن ذلك ، فإنّ الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد - كآية النبأ والإجماع (3) المدّعى في كلام الشيخ وغيرهما (4) كما

ص: 217


1- « ل » : « من » بدل : « و».
2- « ل » : على؟
3- في النسختين : إجماعي.
4- « ش » : غيرها.

لا يخفى - بإطلاقها يشمل حجّيتها في صورة الانسداد والانفتاح ، فلا ملازمة أيضا ، فإنّ الأحكام الشرعية بأسرها فروعها وأصولها إذا انسدّ باب العلم فيهما يتعيّن العمل بالظنّ ، فكما أنّ خطاب الشارع قد تعلّق بوجوب حكم فرعي ، وعند تعذّر العلم فيه يستعلم بإعمال الظنّ ، فكذلك إذا تعلّق بطريقية طريق ، ولا تتفاوت الحال فيهما ، فكما أنّ التكليف بالواقع شأني في صورة عدم العلم به ، فكذلك التكليف بالأخذ من الطريق أيضا ، ولا تتنجّزان على المكلّف فعلا إلاّ بعد العلم ، فكما يجوز بعد الانسداد إعمال الظنّ فيه ، يجوز فيه أيضا.

فإن قلت : إنّما يسلّم ما ذكر لو كان كلّ من التكليف بالواقع والطريق مستقلاّ لا علقة بينهما بإطلاق وتقييد وليس كذلك ؛ فإنّ التكليف بالواقع قد قيّده الشارع بالطريق ، فالمكلّف به في المقام هو الإتيان بمؤدّيات تلك الطرق ، ويكشف عن ذلك الإتيان بالطريق عند الانفتاح فيها والانسداد في الأحكام كما عرفت واعترفت فيما سبق آنفا ، وقد صرّح القائل بذلك فيما نقل عنه حيث قال (1) : ومرجع القطعين في الحقيقة إلخ ، فلا بدّ عند انسداد باب العلم فيهما من إعمال الظنّ في الطريق.

قلت : من الأمور الواضحة الجليّة التي لا يكاد يعتريها ريب أنّ قوله : « أقيموا الصلاة » مطلق ، وكذلك قوله : « اعمل بخبر العدل » يحكم أيضا بالامتثال ، فيقيّد حكمه الأوّل حكمه الثاني ، فيحكم بوجوب إقامة الصلاة على ما أخبر بها العدل ، وقضيّة ذلك بحكم العقل لا تزيد على التخيير بين العلم والأخذ بالطريق عند الانفتاح فيهما ، والأخذ بالطريق عند انفتاح باب العلم فيه دون الواقع ؛ لأولويّة الامتثال العلمي على الامتثال الظنّي ، وأمّا (2) عند الانسداد ، فالعقل لا يقضي بتقييد في الامتثالين ؛ إذ لو لم نقل بأولويّة الامتثال الظنّي بالنسبة إلى الواقع ، فلا أقلّ من تساويهما ، فالحكم بتقديم العمل

ص: 218


1- أي صاحب الفصول ، تقدّم كلامه في ص 206.
2- « ل » : وإنّما.

بالطريق في صورة انفتاح باب العلم فيه وانسداد باب العلم في الأحكام الواقعية لا يقتضي (1) بالحكم بتقديم الامتثال الظنّي في الطريق على الامتثال الظنّي في الحكم ؛ إذ كما عرفت علّة الأولويّة ووجهها في صورة الانفتاح في الطريق هو صريح حكم العقل بها بواسطة تقيّده الحكم بالامتثالين فيهما من جهة تقدّم (2) الامتثال التفصيلي العلمي على الامتثال الظنّي ، والعلم الإجمالي بالأحكام الواقعية بعد إحراز جملة منها بالطريق العلمي ينقلب بالنسبة إلى البعض المحرز بالطريق العلمي علما تفصيليا ، وبالنسبة إلى الآخر شكّا تفصيلا ، فيجري فيه البراءة الأصلية في محلّ جريانها وغيرها في غيره ، وليس هناك تقيّد لفظي كما قد يتوهّم كأن قال الشارع : اعمل بالواقع من الطريق الفلاني على وجه لو انتفى الطريق انتفى الواقع.

ثمّ لو سلّمنا أنّ هناك تقييدا لفظيا ، فلا ملازمة (3) أيضا بين المقدّمات المذكورة والنتيجة المطلوبة ، فإنّ مناط جعل الطريق من الشارع معلوم ؛ إذ لا يخلو إمّا أن يكون بواسطة غلبة مطابقته للواقع ، أو بواسطة اشتماله على خصوصية متداركة لمصلحة الواقع في صورة التخلّف عنه ، وعلى التقديرين لا يوجب التقيّد في صورة الانسداد.

أمّا (4) على الأوّل ، فلأنّ بعد الانسداد في الطريق وإعمال الظنّ في الطريق يلزم إحراز الطريق المطابق للواقع غالبا بطريق لا يلازم المطابقة غالبا ، فالمناط في الجعل مفقود في المقام.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ الخصوصية الموجبة لجعله طريقا لو كانت موجودة في غيرها ، فلا وجه لتخصيصها بالجعل ، ولو لم يكن ، فيلزم أيضا إحراز الخصوصية بما لا يلازم وجود الخصوصية ، وهل هذا إلاّ كرّ على ما فرّ ، والتقييد لا بدّ وأن يكون عند العلم بالطريق.

ص: 219


1- « ل » : يقضي.
2- « ل » : تقديم.
3- « ش » : فلازمة.
4- « ل » : وأمّا.

وتوضيحه : أنّ الشارع لو قال : اعمل بخبر العدل ، فما يصل إليك من الأحكام الواقعية فقط ، فلا شكّ أنّ جعل قول العدل دليلا إنّما هو عين مراعاة الواقع إمّا بواسطة غلبة المطابقة له ، أو بواسطة اشتماله على الخصوصية كما عرفت ، فلو علمنا قول العادل بخصوصه ، فلا إشكال في جواز الاعتماد عليه عند التمكّن من الواقع ، ووجوبه عند عدم التمكّن منه ، ولو لم نعلمه بالخصوص وعلمنا في طريق تعيينه (1) بالظنّ المطلق الذي لا يلازم المطابقة واقعا ، فلا شكّ في انتقاض الغرض على هذا التقدير وانتفاء وجه التقييد ، فيرجع الأمر إلى التساوي بين الأخذ بالظنّ في الطريق ، أو الواقع ؛ إذ المفروض أنّ جعل الطريق إنّما هو بواسطة مراعاة الواقع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الأخذ بالظنّ في الطريق إنّما هو بواسطة أنّه مجمع الظنّين ومرجع المصلحتين ، وفيه أيضا أنّ مذاق المستدلّ لا يوافق هذا المشرب ، فإنّه إنّما يراعي الظنّ بالطريق ولو لم يفد الظنّ بالواقع ، وأنّه إنّما يناسب مقالة من يقول بأنّ النتيجة بعد الانسداد هو حجّية الظنّ في الجملة على نحو القضية المهملة كما ستعرفه ، وعلى تقديره فيرد عليه ما سنورده في ردّها من عدم كلّيته ؛ لجواز أن يكون الظنّ بالواقع في أعلى مراتب الظنّ ، والظنّ المظنون اعتباره في أدنى مراتبه موضوعا وحكما ، فلا يقاومه كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ سقوط ما قد يستند إليه من قياس المقام بلزوم إعمال الظنّ في طريق القضاء للقاضي ، وعدم جواز الاتّكال على ما يفيد الظنّ بالواقع للمقلّد ، فالقاضي لا يجوز له إعمال الظنّ (2) في صدق المتخاصمين بل يجب عليه إحراز الطرق المقرّرة في الشريعة بقطع التحارب (3) ورفع التنازع وتحصيل موازين القضاء ولو بظنون

ص: 220


1- « ش » : تعيّنه.
2- سقط قوله : « في طريق القضاء » إلى هنا من « ل ».
3- « ل » : لقطع التجازب.

اجتهادية من أنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز وغيرها ممّا اشتمل عليه كتاب القضاء ، وكذا لا يجوز للمقلّد إعمال الظنّ في نفس الأحكام الواقعية بل كما يكشف عن ذلك عدم جواز رجوعه إلى تقليد الميّت الأعلم بواسطة غلبة ظنّه بتطابق رأيه إلى الواقع عن تقليد الحيّ المظنون اجتهاده وعدالته بل الواجب عليه تشخيص المجتهد الذي هو طريق بالنسبة إليه بظنونه المتداولة بين أمثاله في تعيين الموضوعات من الرجوع إلى أرباب الخبرة في الاجتهاد والمصاحبة التامّة في العدالة مثلا ، وذلك للفرق الواضح بين المقامين.

أمّا إجمالا ، فلانعقاد الإجماع من المسلمين على عدم حجّية (1) ظنون المقلّد في الأحكام الواقعية والمجتهد في الموضوعات الخارجية في مقام القضاء بل الضرورة الدينية قاضية بذلك ، فالتقليد والقضاء إنّما شرّعا في أصل الشرع على وجه لا يجوز الرجوع فيهما إلى الظنّ في الأحكام في الأوّل والموضوعات في الثاني ، فإنّهما متعاكسان كما لا يخفى ، فعدم جواز الرجوع فيهما إلى غير ما هو المقرّر فيهما ليس من جهة الأصل والعمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم بل بواسطة ثبوت حرمته بالخصوص كالقياس وأضرابه ، وذلك لا يقضي بعدم جواز إعمال الظنّ في غير الطريق والاتّكال عليه في الأحكام فيما ليس كذلك على ما هو ظاهر.

وأمّا تفصيلا ، فلأنّ الظنون المعمولة في تمييز (2) الموضوعات للمقلّد والأحكام للقضاء ظنون مضبوطة معلومة مندرجة تحت قاعدة مقرّرة في تعيين الموضوعات عندهم من قول أهل الخبرة ونحوه ، وفي تمييز (3) موازين القضاء من الشهرات والإجماعات المنقولة وأخبار الآحاد ونحوها من الأمارات التي تصادف الواقع غالبا بخلاف الظنّ المعمول في الموضوعات للقضاء ، فإنّه غالبا من الأمور التي لا عبرة بها ،

ص: 221


1- « ل » : حجّة.
2- « ش » : تميّز ، « ل » : غير؟
3- « ش » : تميّز.

وقلّما يتّفق مطابقتها للواقع كحسن الظنّ بالمدّعي مثلا ولا سيّما بالنسبة إلى خصوص آحاد المكلّفين المختلفين بحسب قوّة تخيّلاتهم ، وضعفها المنتهية إلى اختلاف مراتب أغراضهم ، وبخلاف الظنون المستعملة في الأحكام للمقلّدين من الحدسيات والتخمينيّات المختلفة بحسب اختلاف آرائهم ، ولعمري لو أنّه يجوز للمقلّد إعمال ظنّه في تشخيص الأحكام ، لكان كلّ واحد منهم متديّنا بغير ما تديّن به الآخر ، وينجرّ ذلك إلى اضمحلال الدين وفساد شريعة خاتم النبيّين وكساد طريقة سيّد المرسلين ، وهل هذا إلاّ هرج ومرج.

نعم ، لو فرض تمكّن المقلّد من تشخيص الأحكام بمثل ما يشخّص به الموضوعات من الظنون المنضبطة ، لقلنا بجواز إعماله فيها ولا ضير فيه إلاّ أنّه خارج عن مفروض الكلام في المقام.

وأمّا ما ذكره (1) من عدم جواز رجوع المقلّد إلى الميّت الأعلم من جهة ، فمع أنّه ليس بذلك المعلوم ، فإنّه طالما تشاجروا فيه ، فهذا هو المحقّق القمّي (2) وضرب (3) من الأخبارية (4) مجوّزون لذلك ، فالوجه فيه ما عرفت من قيام الإجماع عليه ، ولولاه لما كان القول بتلك المكانة من البعد.

وبالجملة ، فكما أنّ أسباب تمييز (5) الواقع والطريق إليه فيما نحن فيه متّحدة فإنّها في المقامين هي الإجماعات والأخبار والشهرات مثلا ، فكذا (6) لو كان في المثالين المقيس

ص: 222


1- « ش » : ذكر.
2- القوانين 2 : 265 وما بعدها.
3- « ل » : حزب.
4- الفوائد المدنية : 299 وفي ط الحجري : 149 ؛ سفينة النجاة المطبوع مع الأصول الأصيلة للفيض : 139 ؛ مفاتيح الشرائع 2 : 152 ؛ المفتاح : 491 ؛ كشف الأسرار للسيّد نعمة اللّه الجزائري 2 : 77 - 92. انظر هداية الأبرار : 303 ؛ مطارح الأنظار ( بحث اشتراط الحياة في المفتي ) 2 : 431 وألّف السيّد نعمة اللّه الجزائري كتابه منبع الحياة فى حجّية قول المجتهد من الأموات في ذلك.
5- « ش » : تميّز.
6- سقط قوله : « بالجملة فكما » إلى هنا من « ل ».

عليهما أمارات التشخّص متّحدة نوعا في مورديهما ، لقلنا بجواز عمل القاضي بتلك الأمارات في تشخيص الموضوعات ، والمقلّد في تشخيص الأحكام ، فظهر أنّ قياسها على المقام قياس مع الفارق هذا تمام الكلام في الوجه الذي أورده بعض الأجلّة في فصوله.

وأورد بعض الأعاظم في التعليقة وجوها متقاربة حاصلها يرجع إلى دليل الانسداد بتغيير ما في إحدى مقدّماته ، فإنّ المطلوب في المقدّمة القائلة بعدم الرجوع في تعيين الحكم الثابت في الجملة في المقدّمة الثالثة إلى البراءة الأصلية كما احتملها محقّق الجمال (1) عدم جواز الرجوع إليها في نفس الأحكام الواقعية الثابتة في اللوح المحفوظ التي نزل بها جبريل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله في دليل الانسداد ، و (2) وعلى ما قرّره عدم جواز الاستناد إليها في مؤدّيات الطريق ، والفرق بينه وبين ما تقدّم نقله من (3) الفصول (4) أنّه زاد في الدليل مقدّمة وهي العلم الإجمالي بنصب من الشارع بخلافه ، فإنّه قد اعتبر عدم جواز إعمال البراءة في مؤدّيات الطريق وإن أمكن إرجاع كلّ منهما إلى الآخر ، وكيف كان فمناط هذا الوجه أنّ ما يتنجّز في حقّنا وفي حقّ غيرنا ممّن تقدّم علينا أو يتأخّر عنّا ولو في أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام ليس إلاّ التكليف بمؤدّيات الطرق المقرّرة ، والتكليف بالواقع إنّما هو شأنيّ محض ، واستكشف عن ذلك بالرجوع إلى أحوال المقلّدين في أخذ الفتاوى عن المجتهدين ، وأصحاب الأئمّة عنهم ، وبعضهم عن بعض ، فإنّ المرأة تراجع زوجها في أخذ أحكامها ، والصبيان بمعلّميهم (5) من غير احتمال الخطأ في الدلالة أو في السند أو في جهة الصدور ، فيعملون فيها بأصالة الحقيقة وأصالة عدم السهو والنسيان ، وأصالة عدم التقيّة ونحوها من الأصول المعمولة عند

ص: 223


1- تقدّم كلامه في ص 188.
2- « ل » : - و.
3- « ل » : عن.
4- تقدّم كلامه في ص 206.
5- « ش » : بتعليمهم.

العقلاء في استنباط مداليل الكلمات ، ومؤدّيات الأخبار والطلبات ، فالخطاب المتوجّه إلينا فعلا ليس إلاّ مثل هذه الأحكام ، ثمّ استظهره أيضا بجريان أصالة البراءة ، فإنّ وجود الحكم في الواقع لا ينافيها بل فيما لو كان الدليل مفقودا عندنا على الحكم ، فمن حيث عدم تنجّز التكليف بمفاد الدليل تجري أصالة البراءة في محلّ جريانها ، وتقضي عمّا لو حصل العلم بالواقع بأنّ بعد حصول العلم بالواقع ، فلا تكليف إلاّ به حيث إنّه لا يتصوّر طريقية طريق (1) بعد العلم ، فلا تكليف بمفاده لا فعلا ولا شأنا فإنّ السالبة قد تنفى بانتفاء موضوعها ، وأطال في بيان مرامه كما هو دأبه في غير المقام أيضا ، وفرّع عليه النتيجة المطلوبة من إعمال الظنّ في تشخيص الطريق لتحصيل الأحكام التي تتنجّز (2) في حقّنا ، ويتوجّه علينا فعلا بعد انسداد باب العلم إليها (3).

والجواب عن ذلك بعد تمهيد مقدّمة وهي أنّه لا ريب في أنّ لله أحكاما واقعية في كلّ واقعة والدليل على ذلك بعد الإجماع من المخطّئة هو تسلّم (4) الخصم هنا وأنّها لا تنجّز في حقّنا إلاّ بعد العلم بها تفصيلا أو إجمالا مع التمكّن من الامتثال ، ولو لا أنّ العلم الإجمالي كاف في تنجّز التكليف مع تمكّن المكلّف مثلا ، لما صحّ تكليف الكفّار بالفروع مع أنّ الإجماع منعقد منّا (5) على التكليف فيها بالنسبة إليهم ، ويدلّك على هذا ظواهر بعض الآثار المرويّة عن الهداة الأبرار عليهم السلام. (6)

فمنها : ما قد رواه بعضهم فيما سألهم عن سماع غناء الجواري ، فأجابه عليه السلام بأنّه « ما أسوأ حالك فيما لو تموت على مثل هذه الحالة » فإنّ من الظاهر أنّ العلم التفصيلي لم يكن له حاصلا ، ولو لا العلم الإجمالي أيضا ، فلا وجه لبقائه كما يظهر من قوله عليه السلام : « ما أسوأ ».

ص: 224


1- « ل » : طريقة.
2- « ش » : تنجّز.
3- انظر هداية المسترشدين : 384 - 385.
4- « ل » : تسليم.
5- « ل » : - منّا.
6- الوسائل 3 : 331 ، باب 18 من أبواب الأغسال المسنونة ، ح 1. وتقدّم في ص 84 وسيأتي في ص 499 و 584.

ثمّ إنّ جعل الطريق ونصبه من الشارع تارة في حال الانفتاح ، وأخرى في حال الانسداد.

وعلى الأوّل ، فقد يجعل الطريق لا من حيث اشتماله على مصلحة متداركة لمصلحة الواقع عند التخلّف عنها (1) بل الوجه في الجعل إنّما هو بواسطة غلبة مطابقته للواقع تسهيلا للعباد عند التخلّف ، وقد يجعل من حيث اشتماله على المصلحة المتداركة.

والفرق بينهما أنّه على الأوّل رخصة ، فيحسن تحصيل الواقع بالاحتياط بعد الإتيان على وجه يوافق الطريق ، وعلى الثاني عزيمة يجب الاعتماد عليه ، فلا يحسن الاحتياط ، وتحصيل الواقع ؛ إذ هو في عرض الواقع حينئذ.

وعلى الثاني ، فقد يجعل الطريق من حيث هو مرآة للواقع ، وآلة للوصول إليه من غير اشتماله على مصلحة عدا كونه مرآة وآلة ، وقد يجعل من حيث اشتماله على المصلحة التسهيلية ، ولا وجه لجعل الطريق حال الانسداد من جهة اشتماله على المصلحة المتداركة كما لا يخفى.

وعلى التقادير الأربعة ، فتارة على وجه الجعل حقيقة ، وأخرى على وجه الإمضاء في طرقهم المعمولة عندهم في استكشاف مطالبهم ، وإذ قد عرفت هذا فنقول :

إن أراد أنّ هناك طرقا جعلية تعبّدية مشتملة على المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في صورة التخلّف ، و [ أنّ ] المتداول في الإفادة والاستفادة للشارع وأصحابه إنّما هو في هذه الطرق ، فغير سديد ؛ للعلم القطعي بأنّ المجعول من الشارع على تقديره ليس من هذا القبيل ، ويكذّبه ملاحظة أحوال ما استكشف منه مطلوبه ، فإنّ من المعلوم أنّ مراجعة الزوجة والصبيان لزوجها ومعلّمهم ليس إلاّ من جهة استكشاف الواقع ، وكذا اعتماد العقلاء على الأصول التعبّدية كأصالة الحقيقة ونحوها ليس إلاّ بواسطة أنّه لو لم يعتمد على تلك الأصول ، لكان التخلّف اللازم على تقديره أكثر من

ص: 225


1- « ش » : منها.

التخلّف على تقدير الاعتماد عليها ، فنحن - كما نراجع وجداننا مرّة بعد أخرى ، وكرّة بعد أولى - لا نرى في نفوسنا عند الاعتماد على الطرق المقرّرة إلاّ من حيث إنّها كاشفة عن الواقع مبيّنة له ، ولا يكاد ينكره إلاّ مكابر ، أو من لا حظّ له من الفهم في شيء.

وإن أراد أنّ المتداول في الإفادة والاستفادة إنّما هو الطرق المقرّرة الكاشفة عن الواقع لا من حيث إنّها طرق تعبّدية مشتملة على المصلحة المتداركة ، فغير مفيد فيما هو بصدده.

أمّا أوّلا ، فلأنّ الطرق المقرّرة عند العقلاء إنّما هي الطرق التي فطرهم على الاعتماد عليه ، وخلقهم معتمدين به ، فكلّ ما راجعوا إليه ، فهو طريقهم ، إن علما فعلم ، وإن ظنّا فظنّ ، فلا وجه للقول بانسداد باب العلم فيها.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الطرق المعوّلة (1) عليها عند العقلاء ليس (2) إلاّ من جهة المرآتية والطريقية ، فلو فرضنا انسداد باب العلم فيها ، فلا بدّ من تحصيل مقدّمة أخرى غير المقدّمة المنسدّ فيها باب العلم ، ولا يقضي انسداد باب العلم فيها بإعمال الظنّ فيها كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الإمضاء من الشارع لا يزيد على حكم العقل بالامتثال من جهة الإرشاد ، ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرشاد والإمضاء ، فكما أنّ العقل بعد ملاحظة الأمر من الشارع يحكم على جهة الإرشاد بالامتثال ، فكذا الشارع إمضاؤه للطريق معناه إرشاده بالامتثال من الطريق ، فقد يتخيّل أنّ مجرّد هذا الإرشاد يقيّد (3) للأحكام الواقعية فكأنّها (4) لم تكن مجعولة أصلا ، غير منجّزة في حقّنا ؛ لما تقدّم في الردّ على الوجه الأوّل المنقول من الفصول.

وبالجملة ، إنّ القول بشأنية الأحكام الواقعية بأسرها إنّما يتمّ بعد انتفاء العلم رأسا

ص: 226


1- كذا. والصحيح : المعوّل.
2- كذا. والصحيح : ليست.
3- في النسختين : تقيّد.
4- « ش » : فكأنّه.

لا إجمالا ولا تفصيلا ، والقول بالتقييد إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ التعبّد شرعي لا عقلي ، وقد ظهر ممّا مرّ فساده بما لا مزيد عليه ، مضافا إلى أنّ التقييد على تقدير ثبوته أيضا ممّا لا يخيّل كما مرّ.

ثمّ إنّ ممّا مرّ في بيان هذا الوجه يظهر وجه آخر في عدم جواز اعتماد القاضي على الظنون المستعملة في استكشاف حكم الواقعة التي ترافع المتخاصمين إليه ، فإنّ القاضي لا بدّ وأن يعتمد على مداليل الطرق الخاصّة المقرّرة عنده ، ولا يجوز له التوصّل إلى الواقع ؛ لقوله : « نحن نحكم بينكم (1) بالظاهر ، واللّه أعلم بالسرائر » (2) ولما روي أنّ عالما من علماء بني إسرائيل قد ناجى إلى اللّه : يا ربّ ، كيف أقضي بين الناس بما لم تره عيني ، وسمعه أذني؟ فألهمه اللّه : اقض بين الناس بالبيّنات ، وأضفهم إليها باسمي (3).

وقد أورد في التعليقة أيضا وجهين آخرين لا بأس بنقلهما وبيان ما يرد عليهما.

الأوّل منهما تحريره موقوف على تمهيد مقدّمات بعد توضيح منّا (4) :

الأولى : أنّ مجرّد العلم الإجمالي كاف في تنجّز التكليف على المكلّف كما تقدّم ، ويدلّك عليه - مضافا إلى ما عرفت - إجماع الفرقة مع قضاء ضرورة العقل به ، ولم نعرف في ذلك مخالفا إلاّ ما قد يظهر من المقدّس الأردبيلي (5) ومن اقتفى أثره (6) في أنّ الواجب بعد العلم هو الفحص وتحصيل المعرفة بالواجب وتشخيص الحرام لا

ص: 227


1- « ل » : - بينكم.
2- لم يرد في الجوامع الروائية من الخاصّة والعامّة ، وحكم جماعة من العامّة بأنّه لا أصل له كما في كشف الخفاء 1 : 192 / 585. وورد مرسلا في غيرها ، ومن كتب الخاصّة ورد في مختلف الشيعة 6 : 99، و 9 : 307 ؛ ايضاح الفوائد 3 : 486 ، و 4 : 321 ؛ جواهر الكلام 40 : 498 وغيرها.
3- الوسائل 27 : 229 ، باب 1 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1 ، وفيه : أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء ... وأضفهم إلى اسمي يحلفون به.
4- « ل » : ما.
5- مجمع الفائدة والبرهان 2 : 110.
6- مدارك الأحكام 2 : 344 - 345 ؛ ذخيرة الأحكام : 167 ، ونقله عنهم في بحث مقدّمة الواجب من المطارح 1 : 417 ، وسيأتي عنهم في بحث البراءة : 500 و 580.

الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال.

ومن هنا قد أورد عليه المحقّق الجمال (1) بأنّ اللازم على تقديره وجوب المقدّمة دون ذيها إلاّ أن يلتزم بوجوبها نفسا وأصلا كما احتمله المستدلّ هذا في بحث المقدّمة (2) ، وبالجملة ، فلا (3) فرق في تنجّز التكليف بين أن يكون المكلّف عالما بالإجمال أو بالتفصيل إلاّ أنّ جعل البدل في الظاهر على الثاني غير معقول بخلاف الأوّل ، فيجوز للشارع أن يجعل في مرحلة الظاهر عند العلم الإجمالي بدلا من الأحكام الواقعية كالبراءة ونحوها من الاكتفاء بواحد من المعلومات الإجمالية في الشبهة المحصورة والاحتياط ، وهذا هو منشأ النزاع في البراءة والاحتياط.

الثانية : أنّ العقل بعد ما علم بالتكليف وقطع به ، وتنجّزه في حقّه يحكم حكما أوّليا بوجوب تفريغ الذمّة وتحصيل فراغها ، والتخلّص عن العقاب اللازم على تقدير المخالفة ولو بإسقاط الأمر كإدخال نفسه في موضوع غير موضوع المكلّفين كاختيار السفر عند وجوب الصوم وإحراق الثوب عند وجوب الغسل مثلا (4) ، ولا يتفاوت في ذلك مراتب العقول ، فإنّ هذا هو الذي فطرهم اللّه عليه حتّى أنّ ضعفاء العقول أيضا لايرتابون في ذلك بل الحيوانات العجم أيضا تقضي به.

نعم ، قد يزيد على ذلك في العقول الكاملة بواسطة علوّها في مدركاتها ، فإنّها تحكم بلزوم الإطاعة والامتثال والإتيان بالمأمور به من حيث كونه محبوبا للآمر ، وكون الآمر حقيقا لأن تمتثل أوامره ، أو كون المأمور جديرا لأن يتعبّد (5) بأوامر مولاه إلى غير ذلك من اختلاف مراتب الإطاعة والامتثال.

ص: 228


1- الحاشية على شرح اللمعة : 345.
2- هداية المسترشدين : 218 ، في بحث هل يتصوّر وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها؟ وسيأتي نصّ عبارته في بحث البراءة تعليقة ص 501.
3- « ل » : لا.
4- « ل » : - مثلا.
5- « ش » : + بأوامره.

الثالثة : أنّ العقل يستقلّ بقيام الظنّ مقام العلم بعد تعذّره وحيث إنّ الواجب في المقام هو العلم بالفراغ على ما عرفت آنفا ، فلو تعذّر العلم به ، قام الظنّ مقامه ، والظنّ بالفراغ لا يحصل إلاّ بالظنّ المتعلّق بالطريق دون الظنّ بالواقع ؛ لعدم الملازمة بين الظنّ بالواقع والظنّ بالفراغ ، ألا ترى أنّ القياس يحصل منه الظنّ بالواقع مع أنّا نعلم بانتفاء الاشتغال فضلا عن الظنّ بالفراغ ، وإذا تمهّد هذا ، تعيّن حجّية الظنّ في الطريق دون الواقع لتلازمه للظنّ بالفراغ وهو المطلوب.

والجواب عنه : أمّا أوّلا ، فبالنقض بما إذا كان الطريق مظنونا بظنّ غير معتبر ، فكما أنّ الواقع لو كان مظنونا بواسطة القياس مثلا ، لا يلازم الظنّ به الظنّ بالفراغ ، فكذا لو ظنّنا طريقية طريق من جهة القياس ، فلا يلازم الظنّ به الظنّ بالفراغ كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وبيانه أنّ المقدّمات المذكورة كلّها مسلّمة إلاّ أنّها لا تترتّب عليها النتيجة المطلوبة ، فإنّ التكليف بالواقع وبالطريق تارة يكون تكليفا فعليا كأن علمنا الواقع بخصوصه ، أو الطريق كذلك ، ولا ريب في الاجتزاء بكلّ واحد منهما حينئذ تعيينا عند حصول أحدهما خاصّة ، وتخييرا عند التمكّن منهما جميعا ، وأخرى يكون تكليفا شأنيا كأن لم نعملها كذلك ، فحينئذ لو كان الجهل سببا لسقوط التكليف ، فلا فرق بين الواقع والطريق ، وإلاّ فالظنّ يقوم مقام العلم فيهما من غير فرق بينهما حينئذ مع حصول الظنّ بالفراغ فيهما.

وتحقيق ذلك : أنّ الظنّ المتعلّق بالواقع والطريق لو كان من الظنون المعتبرة ، فالظنّ بالفراغ يحصل فيهما جزما ، ولا ينبغي الارتياب فيه ، ولو كان من الظنون الغير المعتبرة كالقياس مثلا ، ففي مورد القياس مثلا لنا حكمان :

أحدهما : الحكم الواقعي المطابق للمصالح والمفاسد ، الذي (1) تعلّق به القياس ، ولا ريب في عدم تنجّزه في حقّنا فعلا ، وكونه شأنيا بالنسبة إلينا.

ص: 229


1- « ل » : التي.

وثانيهما : الحكم الظاهري المتنجّز في حقّنا فعلا وهو الرجوع إلى الأصول في مورد القياس مثلا لو ظننّا بوجوب الصلاة الفلانية من جهة القياس ، فالتكليف المتوجّه علينا في تلك الواقعة هو الأخذ بأصالة عدم الوجوب ، أو غير ذلك من الأصول التعبّدية ، ولو ظننّا بحجّية أمارة بواسطة القياس ، فاللازم في حقّنا هو الرجوع إلى عدم الحجّية مع أنّ المظنون بالنسبة إلى الواقع في الأوّل هو وجوب الصلاة ، وفي الثاني هو الحجّية (1).

فإن أراد أنّ الظنّ بالحكم الواقعي من جهة القياس لا يستلزم الظنّ بالفراغ من التكليف الواقعي الشأني ، فمن المعلوم حصول الظنّ بالفراغ منه ، ولا ينبغي الارتياب فيه من غير فرق بين الواقع وطريقه.

وإن أراد أنّ الظنّ بالحكم الواقعي لا يلازم الظنّ بالفراغ في الحكم الظاهري ، فهو كذلك إلاّ أنّه لا مزية اختصاص له بالواقع ، فالظنّ الحاصل بطريقية طريق قياس له على غيره لا يلازم الظنّ بالفراغ من حيث حكمه الظاهري في (2) لزوم العمل بأصالة عدم الحجّية في مورد القياس ، فتدبّر في الغاية ، فإنّه حقيق به في النهاية.

الثاني : أنّه كما قرّر الشارع أحكاما واقعية ، كذا قرّر طريقا للوصول إليه : إمّا العلم بالواقع ، أو مطلق الظنّ ، أو غيرهما قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحا ، فالواجب الأخذ به ، والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا نقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف بين الفريقين ، وإن انسدّ سبيل العلم به ، تعيّن الرجوع إلى الظنّ به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشارع طريقا قطعيا إلى الواقع نظرا إلى القطع (3) ببقاء التكليف بالرجوع إلى الطريق ، وقطع العقل بقيام الظنّ حينئذ مقام العلم حسبما عرفت.

ص: 230


1- « ل » : الحجّة.
2- « ش » : من.
3- « ش » : الواقع.

وفيه : ما عرفت أوّلا فيما تقدّم من أنّ حال مطلق الظنّ بالنسبة إلى سائر الأمارات إنّما هو حال الأصل بالنسبة إلى دليل اجتهادي ، فكما لا يجوز الترديد بين الأصل والدليل بأن يقال : المرجع في المسألة الفلانية إمّا الأصل ، وإمّا الدليل ، فكذا لا يجوز الترديد بين مطلق الظنّ وسائر الأمارات ، فإنّ كون الظنّ طريقا إنّما هو بجعل العقل ، ولا حكم له إلاّ بعد فرض انتفاء سائر الطرق الجعلية أو المنجعلة.

وثانيا سلّمنا ذلك ، لاحتمال كون مطلق الظنّ أيضا طريقا توقيفيا ، لكنّه يرد عليه ما أوردنا على الوجه الأوّل المنقول من الفصول ، فراجعه ، ولا نطيل بإعادته.

وقد يتمسّك في دفع هذا القول بالإجماع المركّب ، فإنّ كلّ من قال بحجّية الظنّ في الأصول ، فقد قال بحجّيته في الفروع أيضا وهو كلام قشري لا لبّ فيه أصلا ؛ لما قد عرفت مرارا أنّ التمسّك بالإجماع المركّب مثلا إنّما يصحّ فيما لم تكن المسألة ممحّضة في العقليات بأن كانت لها جهة توقيفية ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان الحكم ثابتا في أحد شطري الإجماع بواسطة علّة عقلية غير موجودة في الشطر الآخر - كما يدّعيه الخصم في المقام - فلا وجه للاستناد إليه قطعا ، وأمّا سائر الوجوه التي أوردها في التعليقة ، فمرجعها إلى لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن من اعتبار الظنون المظنون حجّيتها ، وستعرف فسادها فيما سيأتي بعيد (1) ذلك ، هذا تمام الكلام في إبطال قول من يرى حجّية الظنّ في الأصول فقط.

وأمّا ما ذهب إليه المشهور من القائلين بالانسداد من حجّية الظنّ في الفروع فقط ، فنظرهم على جريان دليل الانسداد في نفس الأحكام الواقعية ، وقضيّة ذلك لا تزيد على حجّية الظنّ فيها.

وأمّا الظنّ في الأصول ، فيبقى مندرجا تحت الأصل.

وفيه أوّلا : جريان دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعية ، والعمل بخبر

ص: 231


1- « ل » : بعد.

الواحد أيضا حكم شرعي بل هو أعظم الأحكام الشرعية ، فلو جوّزنا إعمال الظنّ فيها بواسطة جريان دليل الانسداد فيها ، فلا مناص من القول بحجّية الظنّ فيه أيضا.

وثانيا قد عرفت أنّ الواجب أوّلا وبالذات - الذي يحكم العقل بعد علمه بالتكليف ولو إجمالا - هو تفريغ الذمّة وهو كما يحصل بإعمال الظنّ في الواقع ، فكذا يحصل بإعمال الظنّ في نفس الطريق ، فلا وجه للاختصاص ، بل العمل بالطريق في الحقيقة لا يزيد على العمل بالواقع ، فإنّ العمل بخبر الواحد إنّما هو من جهة بدليّته عن الواقع يلازم الظنّ بتفريغ الذمّة عن الواقع كما لا يخفى.

فظهر من جميع ما ذكر في الردّ على الوجهين وجه القول (1) المختار أيضا ، وإنّما أطنبنا الكلام في المقام ؛ لأنّه من مزالّ الأقدام ، ومطرح الأوهام.

الثاني من الأمور التي ينبغي التنبيه عليه أنّه هل النتيجة الحاصلة من المقدّمات المذكورة عامّة كلّية ، أو مطلقة مهملة؟ وبعبارة : أخرى هل الحجّة بعد الانسداد كلّ ظنّ ، أو الظنّ في الجملة؟ ذهب إلى كلّ فريق ، والعموم والإهمال يؤخذان تارة بالنسبة إلى الأسباب كالظنّ الحاصل من الشهرات والإجماعات المنقولة ونحوهما ، وأخرى بالنسبة إلى الموارد أيضا كالظنّ في المسائل الفرعية والأصولية والاعتقادية والعملية والموضوعات الصرفة ونحوها (2) وسيأتي الكلام في الثانية مستوفى إن شاء اللّه.

وأمّا الكلام في الأولى (3) فتحقيق القول فيه أنّ دليل الانسداد تارة يقرّر في كلّ جزئيات المسائل المنسدّ فيها باب العلم كما عليه المحقّق القمي وصاحب المعالم ، فيتوقّف على إبطال البراءة والاحتياط في جميع الموارد الجزئية على نحو ما مرّ في إبطالهما من عدم الدليل على أصالة البراءة فيما لو خالفه خبر الواحد ، أو أمارة ظنّية

ص: 232


1- في النسختين : قول.
2- في هامش « ل » : من الموضوعات المستنبطة لمفهوم الصعيد ونحوه والمسائل المشتبهة.
3- « ل » : الأوّل.

أخرى ؛ لابتناء اعتبارها على الظنّ عندهم وعدم الدليل على الاحتياط ؛ للاكتفاء بعدم المخالفة القطعية فيما لو علمنا بالتكليف إجمالا عندهم أيضا ، وعلى هذا التقدير لا بدّ من القول بحجّية الظنّ مطلقا من أيّ سبب حصل ؛ إذ مناط الاعتبار حينئذ هو هذا الوصف الراجح ، ولا فرق في نظر العقل بين خصوص الأسباب ، ففي كلّ ما انسدّ فيه باب العلم من المسائل الخاصّة يجب التعويل على الظنون الجزئية الناشئة عن خصوصيات الأسباب ، فعلى هذا لا وجه لكثير ممّا أورد عليه بعض من تأخّر عنه من الاكتفاء ببعض الظنون حيث إنّ في البعض الآخر أيضا (1) تجري (2) ما عرفت من الدليل إلاّ أنّ الكلام في أصل المبنى كما عرفت في مقدّمة إبطال البراءة والاحتياط.

وأخرى يقرّر على وجه الكلّية كما مرّ تقريره منّا ، فلا حاجة في تتميمه حينئذ إلى إبطال البراءة والاحتياط بالكلّية بل إبطال كلّيتها كاف في جريان الدليل كأن يقال : إنّ الرجوع إلى البراءة الأصلية يلازم الخروج من الدين والاحتياط يوجب الحرج كما عرفت ، وحينئذ فإمّا أن يكون العقل حاكما في النتيجة ، أو كاشفا فيها عن حكم شرعي.

فعلى الأوّل - كما هو الحقّ - فالنتيجة كلّية ؛ لأنّ حكم العقل لا بدّ وأن يكون دائما في موضوع متصوّر تفصيلا ، فإنّ العقل ما لم يحط بجميع جهات موضوع حكمه ومدركه لا حكم له ، ولا فرق في نظر العقل في الأسباب الظنّية إلاّ فيما قام القاطع على عدم اعتباره كالقياس في وجه ، فإنّه يحتمل أن يكون مثل القياس ؛ حيث إنّ الشارع قد كشف عن خطائه ، وأفصح عن عدم تطابقه للواقع غالبا ؛ إذ (3) العالم بالعواقب قد نهى عن سلوكه بواسطة أنّ في سبيله مفسدة عظيمة تساوق مصلحة الواقع لو لم يرد عليها خارجا عن موضوع حكم العقل ، فحكمه إنّما يخصّ ابتدائيا غير (4) هذا الموضوع

ص: 233


1- « ل » : - أيضا.
2- كذا. والظاهر : يجري.
3- « ل » : وإذ ( ظ ).
4- « ل » : بغير.

المنهيّ عنه مثلا وإن كان قد يحتمل عدم الفرق في نظر العقل من هذه الجهة أيضا ، وسيجيء في إخراج الظنّ القياسي وأضرابه زيادة توضيح لذلك فانتظر.

نعم ، لا ينبغي الارتياب في أنّ العقل يفرّق مراتب الظنون في الشدّة والضعف ، فالظنّ القويّ والشديد من أيّ سبب حصل هو موضوع حكم العقل ، ولا غائلة فيه.

وعلى الثاني فالنتيجة مهملة ، فإنّ (1) العقل حينئذ كاشف عن جعل طريق ظنّي من الشارع في الجملة من غير بيان للسبب فيه ، فيحتمل أن يكون الطريق بعد الانسداد مطلق الظنّ ، أو بعض أقسامه باعتبار السبب أو المرتبة ، فيحتاج القائل بمطلق الظنّ على هذا التقدير إلى مقدّمة أخرى تعمّ جميع الظنون إلاّ أنّ التحقيق هو حكومة العقل بعد الانسداد ، فإنّ مرجعها إلى تحصيل طرق الإطاعة والامتثال ، والعقل في أمثاله مستقلّ ، فكما أنّ طريق الامتثال في صورة الانفتاح هو العلم ، ولا فرق في نظر العقل في أسباب حصول العلم ، فكذلك طريق الامتثال بعد المقدّمات المذكورة في صورة الانسداد في نظر العقل هو الظنّ ، ولا يمكن افتراق أفراده بواسطة اختلاف أسبابه إلاّ على ما عرفت من الوجهين.

على أنّه لا ملازمة بين المقدّمات والنتيجة على تقدير الكشف ؛ إذ من المحتمل عدم جعل الشارع طريق الامتثال بعد الانسداد ، فلعلّه قد وكلنا على ما يستقلّ عقولنا بطريقيته كما هو كذلك في الواقع ، فيحمل ما قد يدلّ بظاهره على الجعل على مجرّد الإرشاد كالأمر بالإطاعة ، فإنّ وجوب الإطاعة ممّا لا يحتاج في إظهارها إلى أمر وإيجاب من الشارع ؛ لاستقلال حكم العقل فيها ، وإلاّ فيدور أو يتسلسل.

ويكشف عن ذلك إيراد إشكال القياس في المقام ، فإنّه على تقدير إهمال النتيجة ممّا لا يرتاب عدم اتّجاهه.

وبالجملة ، الإهمال والإجمال إنّما هما من صفات الألفاظ ، وأمّا العقل ، فليس فيه

ص: 234


1- « ل » : لأنّ.

شائبة منهما ، وعلى تقديره يصحّ الإيراد ؛ لعدم قبول حكم العقل التخصيص ، فيشكل إخراج القياس ، بخلاف ما لو كان الحكم شرعيّا ولو كان الحكم بترتّب النتيجة على المقدّمات عقليّا ؛ إذ لا كلام فيه بواسطة عمومه في جميع الاستدلالات ، فإنّه قابل للتخصيص ، فلا إشكال ، ولا حاجة في إخراج القياس إلى ارتكاب مثل هذه المحتملات والتكلّفات الباردة التي تضحك منها العجائز.

ثمّ لو قلنا بالكشف أيضا ، فهناك أمور تدلّ على التعميم سماّها (1) بعضهم بالمقدّمات المعمّمة :

فمنها : قاعدة بطلان الترجيح بلا مرجّح كأن يقال : إنّه بعد ما استكشفنا بطريق العقل اعتبار بعض الظنون شرعا إجمالا فإمّا أن يكون ذلك البعض هو الظنّ المعيّن في الواقع غير المعيّن عندنا ، أو العكس ، أو المعيّن عندنا والواقع ، أو العكس والكلّ باطل ، والأخذ بالبعض دون البعض ترجيح بلا مرجّح ، فوجب أن يكون الكلّ هو المطلوب ، ويتمّ هذا الوجه لو أبطلنا ما يحتمل كونه مرجّحا لبعض الظنون بالنسبة إلى الآخر وهو أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : كون بعض أفراده يقيني الاعتبار إمّا حقيقة (2) - كالصحيح الأعلائي المفيد للوثوق المعمول به عند جماعة كثيرة من الأصحاب - وإمّا بالنسبة إلى الآخر كالصحيح المشهوري المفيد للوثوق بالنسبة إلى الحسان ، أو الموثّقات مثلا.

الثاني : كون بعض أفراده أقوى من الآخر ، وأشدّ من غيره.

الثالث : كون بعض الأفراد مظنون الاعتبار ، ووجه الترجيح في هذا الوجه يحتمل أن يكون من حيث إنّ بعد ما تعلّق الظنّ لبعض أفراده ، فهو مجمع الظنّين ، وحائز المصلحتين ، فعلى تقدير احتمال التخلّف في الواقع قد يبقى احتمال بدليّة له في الواقع ،

ص: 235


1- « ل » : مما عبّر.
2- في « ل » زيادة : « إمّا حكما » وسقط منها قوله : « كالصحيح الأعلائي » إلى قوله : « إلى الآخر ».

وعلى تقدير احتمال التخلّف في بدليته قد يبقى احتمال اشتماله على مصلحة الواقع بخلاف ما إذا لم يكن الظنّ مظنون الاعتبار ، ويحتمل أن يكون من حيث جريان دليل الانسداد فيه كأن يقال : إنّ العمل بالظنّ حكم من الأحكام الشرعية التي (1) قد انسدّ فيها باب العلم ، فلا بدّ من تعيين المعتبر شرعا بالظنّ لانسداد باب العلم بالتعيين (2) فيه ، والكلّ لا يصلح مرجّحا : أمّا إجمالا ، فلأنّه بين غير مجد في الترجيح وبين غير كاف في العمل ، وأمّا تفصيلا ، فلأنّ القدر المتيقّن الحقيقي كالخبر الجامع لصفات الراوي كأن يكون عدلا إماميّا ضابطا ، والجامع لصفات المظنون كأن يكون موثوقا به ، ولصفات الاعتبار كأن يكون معمولا به عند الأصحاب في غاية الندور ، ولو فرض وجوده بين الأخبار ، فهو من الظنون الخاصّة المعتبرة بإجماع الفرقة المحقّة كما تقدّم ؛ إذ على تقدير انتفاء أحد القيود ينتفي اليقين قطعا ، فإنّه على تقدير انتفاء الخبر يحتمل حجّية غيره ؛ إذ لعلّ مناط الاعتبار هو الظنّ ، وعلى تقدير انتفاء العدالة يحتمل حجّية غيره ؛ لاحتمال إناطة الحجّية بالوثوق ، ولو انتفى الوثوق يحتمل اعتبار مطلق الخبر العدل ؛ لاحتمال ارتباط الاعتماد بالعدالة.

وأمّا القدر المتيقّن الإضافي ، فهو وإن كان كثيرا كما نبّهنا عليه في الردّ على بعض الأجلّة فيما تقدّم لكنّ الإنصاف ، أحسن الأوصاف ، ومقتضاه عدم وجود القدر المتيقّن بين الأمارات سوى ما عرفت سيّما فيما لو فرضنا أمارة ظنّية أخرى معارضة لها كما يظهر بالتأمّل.

وأمّا قوّة الظنّ ، فلأنّ المرتبة المنضبطة منها (3) - وهو الوثوق والاطمئنان وسكون النفس عندها وركونها إليها - فهو في غاية الشذوذ بحيث لو فرضنا الاعتماد عليه ، يلزم أحد المحذورين المزبورين : من الخروج عن الدين على تقدير إعمال البراءة ، والعسر

ص: 236


1- « ل » : - التي.
2- في النسختين : بالتعيّن.
3- « ل » : - منها.

والحرج على تقدير الرجوع إلى الاحتياط ، وأمّا غيره ، فهي غير منضبطة بين مراتب لا تتناهى ، فإنّ مجرّد رجحان أحد الطرفين في مرتبة الإدراك يسمّى ظنّا إلى أعلى مدارج كماله إلى أن ينتهي إلى العلم ، ولذا لا فرق بين أفراد العلم في الحجّية وعدمها من العلوم القوية الشديدة ، والعلوم الضعيفة ، فأيّ مرتبة منها تكون حجّة مع أنّه قد يتراءى في النظر أنّ القول بتقيّد الحجّية بأقوى الظنون وإطلاق الأسباب قد يكون خلاف ما استقرّ عليه طريقتهم ؛ حيث لا قائل بالفصل ظاهرا بين أقسام الشهرة ، وأنواع الإجماع ، وأفراد الاستقراء مثلا ، فتأمّل.

مضافا إلى أنّ الترجيح بالأقوائية ينافي ما قد بيّنّا عليه من الكشف ؛ لأنّه - كما هو ظاهر - لا يكاد ينكره إلاّ مكابر إنّ منشأ الترجيح بالأقوائية إنّما هو قرب الأقوى إلى الواقع وهو إنّما يتمّ لو كان الحاكم بالرجوع إلى الظنّ هو العقل ، وأمّا لو لم يكن ، فليس للعقل ترجيح أحد الظنّين على الآخر ممّا يتخيّله (1) مرجّحا ، كيف؟ ويحتمل في الأمور التوقيفية جعل الحجّة أدون مراتبه.

نعم ، هو كذلك في الواقع ؛ لما عرفت من أنّ التحقيق حكومة العقل ، فإنّا بعد ما فرضنا حكومة الشرع فيه وكشف العقل عنه ، فلا وجه للترجيح بالأقوائية ؛ لاستلزامه خلاف الفرض.

وأمّا كون الظنّ مظنون الاعتبار ، فعلى الأوّل من وجهي تقرير ترجيحه نقول :

أمّا أوّلا ، فلأنّا نفرض أمارة ظنّية أخرى تساوق ظنّه من جهة زيادة قوّة الظنّين : المتعلّق بالواقع ، والأمارة فيه بواسطة ضعفها مثلا حيث إنّ المناط في الترجيح على تقديره هو الأقربية وهو حاصل في الظنّ القويّ أيضا لو لم نقل بكونه أزيد.

وتوضيحه : أنّ كون الظنّ مظنون الاعتبار إنّما هو جهة ترجيحه على ما قرّرنا أنّه مجمع الظنّين وحائز المرتبتين ، وعلى تقديره يكون أقرب الوصول إلى الواقع ؛ لأنّ

ص: 237


1- « ل » : بما يحتمله.

احتمال الخلاف فيه موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال الخلاف في الظنّ بالواقع فقط ؛ فإنّه موهوم في مرتبة لأحدها (1) ، وعلى هذا لو فرضنا الظنّ بالواقع ظنّا قويّا دون مرتبة العلم ، أو الاطمئنان حصل (2) ، والظنّ في الواقع والطريق كليهما ظنّا ضعيفا في أوّل مراتبه ، فحينئذ لو لم يقل برجحان الأخذ بالظنّ القويّ فلا أقلّ من التساوي.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الترجيح به ممّا لا يكاد ينضبط في مقام ، ويستقرّ في مرتبة ؛ لأنّ قضيّة ذلك اعتبار الظنّ المظنون اعتباره بظنّ آخر هو أيضا مظنون الاعتبار ، مثلا لو قام أمارة ظنّية مظنونة الاعتبار كالخبر مثلا على حجّية أمارة ظنّية أخرى كالإجماع المنقول مثلا وهكذا وإن استند (3) إلى انتهائه إلى ظنّ لم يكن اعتباره ظنّيا ، فيستند إليه أوّلا (4) من غير حاجة إلى مثل هذا التجشّم ، وإلاّ فيدور لو أعيد ، أو يتسلسل لو لم يعد ، وهذا ظاهر لا سترة عليه.

و [ أمّا ] ثالثا ، فلأنّ الترجيح بالظنّ - على ما عرفت في الوجه الأوّل - كاشف عن حكومته ، فلا حاجة إليه ، وإلاّ فلا وجه للترجيح ؛ إذ لعلّ في نظر الحاكم هو غير ما ذكر.

وأمّا على الثاني من وجهي ترجيحه - كما زعمه بعض الأعاظم في التعليقة - كأن يقال : إنّ انسداد باب العلم وبقاء التكليف يكشف عن حجّية طريق من الطرق الظنّية ، وباب العلم بتعيّن (5) ذلك الطريق منسدّ ، والتكليف به باق ، فلا بدّ من إعمال الظنّ في الطريق بحكم دليل الانسداد ، فلا مناص من الأخذ بالطرق المظنونة كالأخبار ، فإنّها بعد ما أفتى عليها الأدلّة القطعية كما عرفت لو لم تكن قطعية ، فلا أقلّ من كونها ظنّية بخلاف غيرها كالشهرة ، فإنّ عدم اعتباره مظنون بواسطة إعراض

ص: 238


1- « ل » : لأحدهما.
2- « ش » : يقبل ( ظ ).
3- « ل » : وهكذا إن استدلّ.
4- ما جاء قسيمه وهو قوله : وثانيا.
5- « ل » : بيقين.

المشهور عنه وهو المطلوب ، فبعد أنّه مبنيّ على مقدّمة فاسدة وهي كون العقل كاشفا عن حجّية ظنّ في الجملة ، ولا ملازمة عقلا ولا عرفا ولا شرعا بين المقدّمات المذكورة التي منها انسداد باب العلم وعدم جواز الرجوع إلى الأصول الكلّية والجزئية على ما تقدّم تفاصيلها ، وبين النتيجة على هذا التقدير وهي حجّية ظنّ معيّن واقعا غير معيّن عندنا ؛ لجواز الرجوع إلى الطرق المقرّرة عند العقلاء ؛ لأنّه من فروع الإطاعة والامتثال ، والعقل مستقلّ في طريقه ، فلو كان نتيجة الانسداد هي هذه ، فلا ريب في بطلانها.

ويرد عليه وجوه :

أمّا الأوّل ، فلأنّ المعهود المسلّم والقدر المحقّق من الأدلّة السابقة هو بين إفادة القطع باعتبار الأخبار كالصحاح المعمول بها عند الأصحاب الموثوق ، وبين عدم إفادته في وجه ، فلا وجه للتمسّك بها في ظنّية عنوان الخبر مطلقا ليتمّ ما رامه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الدليل المعمول في النتيجة المهملة الحاصلة من الدليل الأوّل إمّا أن يكون مستلزما لنتيجة كلّية فليكن الأوّل أيضا مستلزما لها ، وإمّا أن يكون مستلزما لنتيجة مهملة مثل ما انتجه الأوّل ، وحينئذ فإن استند في تعميمها إلى دليل آخر ، فنقل (1) الكلام إليه ، وهكذا إلى أن يتسلسل أو يدور ، وإن لم يستند إلى دليل آخر ، فلا يجدي شيئا ، فإنّه إهمال في إهمال ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ العقل في النتيجة حاكم ، والمنكر إنّما يلجأ إليه عند ضيق خناقه ، ويلتزم بالحكومة من حيث لا يشعر ، ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه ؛ لأنّه هو نعم الوكيل.

ثمّ إنّ المحقّق النراقي قد احتمل وجها ثالثا لتقديم مظنون الاعتبار بين سلسلة الظنون غير الوجهين المذكورين ، وحاصله يرجع إلى أنّه لا معنى لمطالبة الدليل على ترجيح المظنون على غيره ، فإنّه بعد ما أورد على الدليل بوجوه عليلة قال في المقام :

ص: 239


1- « ل » : فننقل.

وللخصم أن يختار شقّا ثالثا وهو العمل بالظنّ المظنون الحجّية (1) ، فيختار خصوصية ظنّ (2) من جهة الظنّ بالحجّية ، ولا شكّ أنّه لا يلزم حينئذ الترجيح بلا مرجّح.

ثمّ أورد على نفسه بما (3) حاصله : أنّ ترجيح الظنّ بالظنّ لا يتمّ إلاّ بعد القول بأصالة حجّية كلّ ظنّ ، فإنّ الظنّ المتعلّق بمثله لا بدّ وأن يكون حجّة حتّى يصحّ به الترجيح.

وأجاب عنه بأنّه خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ، وناش عن عدم الفرق بينهما ، فمهّد لبيان مطلبه في الفرق بينهما مقدّمة ، ثمّ فرّع عليها ما نحن بصدده ، ومحصّله : أنّ الترجيح بلا مرجّح الذي يحكم العقل ببطلانه وامتناعه هو الكون مع أحد الطرفين والميل إليه والأخذ به من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا ، وأمّا الحكم بذلك ، فهو أمر آخر وراء أصل الترجيح ، والحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، وشتّان ما بينهما ، فالمرجّح غير الدليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل ، والثاني في مقام التصديق والحكم ، وليس المراد من الأخذ بالظنّ المظنون الحجّية أنّه يجب العمل به ، والحكم بأنّه واجب العمل والتصديق به حتّى يلزم ما ذكره ، بل غرض المورد أنّه بعد ما يلزم على المكلّف ببقاء التكاليف (4) وانسداد باب العلم العمل بظنّ في الجملة ، لو عمل بالظنّ المظنون حجّية ما تقرّر فيه ، وأيّ نقض يلزم عليه؟ واستوضح ذلك بأمثلة عرفية :

منها : أنّه لو حضر طعامان عند أحد أحدهما ألذّ من الآخر ، فلو أكل هذا الشخص الألذّ ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح وإن لم يلزم أكل الألذّ ، ولكن لو حكم بلزوم أكله ، لا بدّ من تحقّق دليل عليه ، ولا يكفي مجرّد الأولويّة (5). نعم ، لو كان أحدهما

ص: 240


1- بعده في المصدر : أي يختار أنّ خصوصية هذا الظنّ من جهة الظنّ بالحجّية.
2- في المصدر : الظنّ.
3- « ل » : ما.
4- « ل » : التكليف.
5- في المصدر : الألذّية.

مضرّا ، يصحّ له الحكم باللزوم.

ومنها : أنّه من أراد المسافرة إلى بلد كان له طريقان متساويان من جميع الجهات ولكن يسافر بعض أحبّائه من أحدهما ، فلو اختاره أيضا المسافر ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح ، ولكنّه لو حكم بتعيّن (1) هذا الطريق المسلوك (2) ، احتاج إلى دليل. قال :

وبالجملة ، جميع الموارد كذلك ، والحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح (3). انتهى ملخّصا ومحرّرا.

وأنت خبير بفساده في الغاية ، وكساده في النهاية ، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي أنّ من الأمور الجلية - التي لا يكاد يعتريها ريب - بطلان ترجيح الفاعل أحد طرفي الفعل الممكن صدوره منه ، وعدمه على الآخر بدون مرجّح خارج عن الفعل والإرادة في نظره ، والمراد من المرجّح هو ما يخصّص ويعيّن وجود الفعل ، أو عدمه بالوقوع فلو لم يصل الترجيح حدّ الوجوب على وجه يمنع من الطرف الآخر ، فلا محالة (4) يجوز مع هذا الترجيح الطرف الآخر ، فعلى هذا لم يتعيّن الأوّل بالوقوع ، فالطرفان مع وجود المرجّح لم يخرجا عن حدّ إمكانهما ، ولم يبلغا درجة الوجود ، أو العدم ، فيحتاج في أحدهما إلى مرجّح آخر ، فما (5) فرضناه مرجّحا يلزم أن لا يكون مرجّحا ، هذا خلف. ومع ذلك فنقل الكلام إلى المرجّح الآخر ، وهكذا إلى أن يتسلسل ، فالمرجّح في وجود الفعل وصدوره عن الفاعل لا بدّ وأن يكون بحيث يجب معه صدور الفعل منه ، ويمتنع جميع أنحاء عدمه ، ويمتنع معه صدور الفعل منه ، فإنّ الشيء ما لم يجب في نظر الفاعل لم يوجد في الخارج ولو وجودا علميا ، وما لم يمتنع لم يعدم ، وهذا ممّا قد اتّفقت عليه كلمة العدلية ، والمخالف في ذلك لا يعدّ في زمرة العقلاء

ص: 241


1- المصدر : بتعيين.
2- في المصدر : للسلوك.
3- عوائد الأيّام : 395 - 397 ، عائدة 41 في بيان بطلان حجّية مطلق الظنّ.
4- « ل » : فلا حجّة.
5- « ل » : ما.

كالأشعرية ، فإنّ مرجع الترجيح من غير مرجّح إلى الترجّح من غير مرجّح (1).

فتارة من حيث وجود أصل الفعل في الخارج ، فإنّ نسبة الإرادة بالنسبة إلى الوجود والعدم متساوية ، وكذا الفاعل وغيره ، فلو صدر مع ذلك الفعل ، لزم ترجيح أحد طرفي الفعل الممكن وجوده وعدمه من غير مرجّح يقتضيه ، وبدون مخصّص يعيّنه بالصدور ، فإنّ الجزء الأخير من العلّة التامّة المقتضية لصدور الفعل بعد لم يوجد ، وبوجه آخر الترجيح في المقام عبارة عن وجود الفعل في الخارج بمعنى أنّ ما يحاذيه في الخارج ، وينتزع منه الترجيح هو نفس الفعل ووجوده كما في أضرابه من المفاهيم المنتزعة عن الفعل باعتبارات مختلفة كالشروع في الفعل ، ألا ترى أنّ فعل الأكل والشروع فيه غير الأكل في الخارج ، فترجيح الأكل معناه إيجاد الأكل في الخارج ، فلو جوّزنا الترجيح بلا مرجّح ، فقد جوّزنا وجود الفعل وترجيحه من غير مرجّح وهو فطريّ الاستحالة ، وضروريّ البطلان.

وأخرى من حيث نقل الكلام في الإرادة ، فإنّ وجود نفس الإرادة مع أنّها فعل اختياري لا بدّ له من مرجّح خارج عنها ، وإلاّ فيلزم وجود الإرادة وترجيحها بدون المرجّح ، وكيف كان ، فلا ريب في أنّ مرجع صدور الفعل لا بدّ وأن يكون بحيث يجب معه الفعل ، ويمتنع عدمه ، وإلاّ لم يوجد.

وإذ قد عرفت هذه ، فنقول : إنّ ما ذكره في الفرق بين المرجّح والدليل بأنّ المرجّح غير الملزم في دفع ما قيل عليه ممّا لا محصّل له عند التحقيق ، فإن أراد في المثال المذكور أنّ مرجّح أكل الطعام الألذّ والعمل به لا يجب وأن يكون ملزما في صدور هذا الفعل من الآكل (2) ، فهذا الكلام باطل ؛ لأوله في الحقيقة إمّا إلى عدم صدور الأكل والفعل منه (3) ، أو إلى جواز الترجيح بلا مرجّح ، وهو راجع إلى الترجيح بلا مرجّح ،

ص: 242


1- سقط قوله : « إلى الترجّح » إلى هنا من نسخة « ل ».
2- « ل » : هذا الآكل.
3- « ل » : فيه.

وتجويزه يوجب انسداد باب إثبات الصانع.

وإن أراد أنّ مرجع الحكم والاعتقاد بأكل الألذّ لا يلزم أن يكون ملزما ، فهذا أيضا كسابقه ظاهر البطلان ، فإنّ العلم أيضا موجود من الموجودات الإمكانية ، وجميع سلسلة الإمكان في وجوداتها (1) محتاج إلى سبق عللها ، وما لم يكن مرجّح وجود العلم موجودا ، أو ملزما بحيث يمتنع معه جميع أنحاء عدمه ، يمتنع وجوده على قياس المثال (2) ما نحن فيه ، فإنّ مرجّح اختيار الظنّ المظنون لا مناص من أن يكون ملزما له ، وإلاّ فيلزم المحذور السابق ، وكذا مرجّح الاعتقاد والحكم بأنّ بعد الانسداد المرجع هو الظنّ المظنون اعتباره لا بدّ وأن يكون مستندا إلى دليل يورث له ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فإنّ مجرّد تعلّق الظنّ بالظنّ لا يصير مرجّحا للعمل بالظنّ ما لم يكن ملزما ، فالظنّ لو جوّزنا أن يكون ملزما لشيء ، فلم لا يكون ملزما للحكم الواقعي أيضا؟ وإلاّ فلا وجه في التزامه العمل بالظنّ أيضا ، فما أورد على نفسه في محلّه ، وما أجاب عنه غير مستقيم ، وكان منشأ الخلط أحد الأمرين :

أحدهما : ما قد يقال من أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح ، فإنّه قد يتراءى منه أنّ المرجّح ما به يصير أحد طرفي الفعل أولى من الآخر ، فيجوز صدور الآخر إلاّ أنّ الأولى هو صدور الطرف الراجح من الفاعل كما يظهر من تمثيله بالمسافر والأكل.

وثانيهما : ما قد يظهر منهم في باب التعارض والتراجيح من أنّ المرجّح غير الدليل ، وكلّ منهما لا دلالة له على ما ذكره.

أمّا الأوّل ، فلأنّ معناه أنّ ترجيح أحد المتساويين وإيجاده (3) على الآخر بمرجّح وملزم لا يعدّ في نظر العقلاء مرجّحا وملزما قبيح ، لا أنّه يمكن ترجيح أحد المتساويين على الآخر وإيجاده ووجوده من غير مرجّح ومخصّص لإحدى كفّتي ميزان وجوده

ص: 243


1- « ل » : في وجود ذاتها.
2- « ل » : أمثال.
3- « ل » : - وإيجاده.

وعدمه ، وعلى قياسه الكلمة المشهورة على لسانهم من قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وتفضيل المفضول على الفاضل ، فإنّ أمثال ذلك لا تخفى عن العاقل فضلا عن الفاضل.

وأمّا الثاني ، فلأنّ قولهم : المرجّح غير الدليل كما في الشهرة ؛ حيث يقولون بأنّها مرجّحة (1) لا دليل عند تعاضده بأحد الاحتمالين ، معناه أنّها توجب مزيّة لأحد الاحتمالين لم يكن قبل ، فإن أحدثت فيه المزيّة على وجه قطعي بأنّ المرجع هو هذا الاحتمال ، فلا شكّ أنّ المرجّح حينئذ دليل للحكم ، فإنّه جزء أخير للعلّة التامّة لحصول العلم المعبّر عنها بحسب الاصطلاح بالدليل وإن لم يوجب العلم بكون الموافق للمرجّح هو المرجّح ، فلا بدّ في إثبات كونه مرجّحا من دليل معتبر ، فإن قام على كونه مرجّحا دليل ، فهو دليل أيضا ؛ لأنّه جزء أخير لعلّة العلم بالحكم ، وإلاّ فيبقى عاطلا لا مرجّحا ، ولا دليلا ، مثلا لو احتملنا وجوب صلاة الجمعة وحرمتها بواسطة أمارة عليها ، ووافق إحدى الأمارتين الشهرة ، فإن حصل لنا القطع بحجّية ما وافق الشهرة من حيث موافقتها لها ، فلا كلام ، وإلاّ فإن دلّ دليل على اعتبار الشهرة عند تعارض الأمارتين كقوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (2) فلا شكّ في أنّ المرجّح هو الدليل ، وإلاّ فوجود الشهرة كعدمها لا يوجب علما ولا شيئا آخر فيما هو المقصود.

وحاصل الكلام في المقام أنّ نتيجة دليل الانسداد أنّه يجب العمل بظنّ في الجملة على تقدير إهمالها ، وترجيح الظنّ وتعيين الواجب منه بالظنّ يرجع في محصّل معناه إلى الحكم والتصديق بأنّ المرجع بعد الانسداد إلى مظنون الاعتبار في سلاسل الظنّ ، والحكم والتصديق موجود من الموجودات الإمكانية التي تحتاج في وجودها إلى سبق عللها ، وعلّة التصديق في الاصطلاح هو الدليل ، ودليلية الظنّ المتعلّق بالظنّ لتعيين الواجب ليس بيّنا (3) ، وإلاّ لكان في مطلق الظنّ أيضا كذلك كما هو المفروض ، ولا مبيّنا ،

ص: 244


1- في النسختين : مرجّح.
2- قطعة من مرفوعة زرارة الآتية في ج 4 ، ص 582.
3- « ل » : مبيّنا.

فالمرجّح في أمثال المقام لا بدّ وأن يكون دليلا وهو المطلوب ، فسقط ما زعمه من الفرق بينهما.

ثمّ إنّ في المقام مسلكا آخر في بيان عدم حجّية مطلق الظنّ بل لو كان حجّة ، فالظنّ الذي لم يقم على عدم حجّيته ظنّ كما يظهر من بعض الأعاظم من أنّ الحجّة بعد الانسداد هو الظنّ الذي لم يتعلّق الظنّ بعدم حجّيته لا مطلق الظنّ.

وأورده المحقّق النراقي على وجه الاعتراض على الدليل مع اختلاف في بيانه ، وكيف كان فتحريره أن يقال : إنّ نتيجة البرهان على ما ستعرف في إخراج القياس هو كلّ ظنّ لم يقم دليل قطعي على عدم اعتباره ، والمفروض أنّ دليل الانسداد أوجب القطع بحجّية كلّ ظنّ (1) ، فلو قام ظنّ على عدم حجّية ظنّ ، فقد قام القاطع على عدم حجّية الظنّ (2) الممنوع ، فإنّ المفروض اعتبار الظنّ (3) المانع قطعا ، فالحجّة بعد الانسداد هو الظنّ الذي لم يتعلّق الظنّ بعدم حجّيته كالخبر الواحد مثلا بخلاف الشهرة والأولوية ؛ لقيام الشهرة على عدم حجّيّتهما.

ودعوى اختصاص حجّية الظنّ بالفروع قد فرغنا عن إبطالها وسيجيء ما يزيد التحقيق فيه.

فإن قلت : إنّ نسبة دليل الانسداد بالنسبة إلى الظنّ المانع والممنوع متساوية ، فلا وجه لترجيح الظنّ المانع بدخوله تحت الدليل على الظنّ الممنوع بخروجه عنه كما إذا كان هناك عامّ كقولك : أكرم العلماء ، وكان الامتثال بالعامّ في أحد أفراده موقوفا على عدم الامتثال بالنسبة إلى فرد آخر كما إذا كان إكرام زيد العالم في الواقع مرتّبا على عدم إكرام عمرو العالم ، فإنّه كما لا يحكم بتقديم أحدهما على الآخر إلاّ بعد دلالة دليل ، فإنّ الحكم بإكرام زيد العالم معارض بالحكم بإكرام عمرو ، ولا ترجيح

ص: 245


1- سقط قوله : « لم يقم دليل » إلى هنا من نسخة « ل ».
2- في النسختين : ظن.
3- في النسختين : ظنّ.

لأحدهما على الآخر ، فكذلك في المقام لا وجه لترجيح الظنّ المانع على الممنوع كما لا يخفى.

قلت : فرق ظاهر بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ حكما موجبا لخروج الفرد الآخر حكما ، و (1) بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ حكما موجبا لخروج الآخر موضوعا ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإنّ دخول الظنّ المانع في دليل الانسداد يوجب خروج الممنوع موضوعا ، فإنّ موضوع الحكم هو الظنّ الذي لم يقم قاطع على عدم حجّيته ، فخروجه لا يستلزم تخصيصا في العامّ العقلي ، بخلاف ما لو فرضنا خروج المانع ، فإنّه تخصيص في الدليل العقلي ، ألا ترى أنّا قد قلنا بتقديم استصحاب السبب على استصحاب المسبّب عند تعارضهما بواسطة أنّ دخول استصحاب السبب في دليل الاستصحاب إنّما يوجب خروج الآخر موضوعا بخلاف ما لو قدّمنا استصحاب المسبّب عليه ، فإنّه يوجب التخصيص في العامّ اللفظي الدالّ على الاستصحاب بلا مخصّص.

وفيه أوّلا : أنّا لا نسلّم أنّ النتيجة هي الظنّ الذي لم يقم دليل قطعي على عدم اعتباره على وجه التقييد ، وأمّا إشكال القياس ، فسيجيء الجواب عنه ، ودفع إشكال القياس لا يقضي (2) بهذا التقييد (3) الفاسد لتوجّه (4) على الدليل إشكال آخر.

وأمّا ثانيا : سلّمنا التقييد ولكن لا نسلّم وجود ظنّ تعلّق الظنّ بعدم اعتباره ، وأمّا ما قد يتراءى في النظر من الشهرة والأولوية والاستقراء من حيث إنّ المشهور قد أعرضوا عنها ، فليس من جهة قيام دليل على عدم حجّيتها (5) بالخصوص كما في القياس ، فإنّ الكلام في المقام إنّما هو مع قطع النظر عن أصالة حرمة العمل بالظنّ ،

ص: 246


1- « ل » : أو؟
2- « ل » : « اللفظي » بدل : « لا يقضي »؟
3- « ش » : التقيّد.
4- كذا. والأولى : ليتوجّه.
5- « ل » : من جهة عدم قيام دليل على حجّيتها.

فعدم حجّية الشهرة عند المشهور أو الاستقراء إنّما هو من حيث عدم دليل على حجّيتها بالخصوص ، وعدم حجّيتها في مرحلة الأصل معلوم لا مظنون بل هو من أجلى الضروريات عند الإمامية كما ادّعاها الأستاذ الأكبر المحقّق البهبهاني (1).

نعم ، قد يتوهّم في الأولوية ورود دليل خاصّ على عدم حجّيته مضافا إلى الأصل كما ورد في خبر أبان بن تغلب (2) في دية الأصابع إلاّ أنّ لنا فيه كلاما يطلب في محلّه.

وأمّا ثالثا : سلّمنا وجود الظنّ المتعلّق بعدم اعتباره ظنّ لكن لا نسلّم أنّ دخول الظنّ المانع في الدليل أولى من دخول الممنوع ، وأمّا ما استند إليه من أنّ خروج الممنوع خروج موضوعي لا يوجب تخصيصا في الدليل بخلاف المانع ، فمشترك بينهما كيف؟ ولا يمكن خروج الحكمي في نظره.

وتوضيحه : أنّ مفاد الظنّ المانع ونظره وإن كان بحسب المطابقة مثلا عدم حجّية الممنوع وخروجه موضوعا إلاّ أنّ دخول الممنوع أيضا يوجب خروج المانع خروجا موضوعيّا التزاما مثلا ، فإنّ بعد ما فرضنا دخوله تحت العامّ ، فيلازم خروج المانع ؛ لأنّ القطع بدخول الممنوع ينافي القطع بدخول المانع ، وكذا ينافي الشكّ بدخوله ؛ إذ مع احتمال دخول المانع لا يقطع بدخول الممنوع ، فالقطع بدخوله يستلزم القطع بخروجه ؛ لأنّ دخوله دليل قطعي على خروجه ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.

وأمّا حديث تقديم (3) استصحاب المزيل على استصحاب المزال (4) ، فليس بمجرّد ما ذكره من أنّ تقديم المزيل يوجب خروج المزال موضوعا ، بل التحقيق فيه أنّ التقديم هناك إنّما هو بواسطة ترتيب طبيعي بين المزيل والمزال من جهة علّية بينهما ؛ فإنّ الشكّ في المزال معلول للشكّ في المزيل ، فيرتفع الشكّ في المزال بعد استصحاب المزيل ، ولا

ص: 247


1- انظر الرسائل الأصولية ( رسالة الاجتهاد والأخبار ) : 12 ؛ ومفاتيح الأصول : 457. وتقدّم عنه في ص 71.
2- تقدّم في ص 25.
3- « ل » : - تقديم.
4- في « ل » : « إلخ » بدل : « على استصحاب المزال ».

ينافي ارتفاع الشكّ في المزيل بعد استصحاب المزال وإن كانت قضية العلّية ارتفاعه من حيث إنّ رفع المعلول (1) يلازم رفع العلّة (2) ؛ لأنّ الأصل حينئذ يصير من الأصول المثبتة التي لا تعويل عليها عند التحقيق.

ومحصّل الفرق هو أنّ ارتفاع الشكّ في المزال - مع كون الشكّ معلولا بعد استصحاب المزيل - معتبر بواسطة أنّه من الأحكام الشرعية للمزيل ، فإنّ طهارة الملاقي من اللوازم الشرعية لطهارة الماء المستصحب طهارته في أمثال المزيل والمزال ، وأمّا استصحاب (3) نجاسة المحلّ الملاقي لا يلازمه لزوما شرعيّا نجاسة الماء بل يلازمه لزوما عقليا كما في المقام ، فإنّ دخول الممنوع يلازم لزوما عقليا خروج المانع خروجا موضوعيّا على ما عرفت ؛ لأنّ الأصل في استصحاب المزال لا ينهض بإثبات اللوازم العقلية بخلاف المقام ، فإنّه من الأدلّة الاجتهادية وهي تنهض بإثبات اللوازم العقلية والعادية والشرعية بأجمعها ، فتدبّر.

فإن قلت : إنّ القول بخروج الظنّ (4) المانع مخالف لما أطبق عليه الفريقان من القائلين بالظنّ المطلق وأرباب الظنون الخاصّة ، فإنّ أحدا منهم لم يفصّل بين أقسام أمارة واحدة ، فإنّ الشهرة لو كانت حجّة فهي حجّة مطلقا ، ولو لم تكن حجّة ، فهي كذلك ، ولا قائل بالفصل مثل هذا التفصيل كأن يقال : الشهرة مثلا حجّة ما لم يتعلّق على بطلان الشهرة ، أو الأولوية ، أو الاستقراء.

قلت أوّلا : إنّ التشبّث بعدم القول بالفصل ، أو الإجماع المركّب في أمثال المقام ليس إلاّ كتشبّث الغريق بكلّ حشيش.

وثانيا : إنّ دعوى الإجماع مقلوبة ، فيلتزم (5) بخروج جميع أقسام الشهرة في المثال

ص: 248


1- « ل » : المعلوم؟
2- « ل » : العلّية.
3- والاستصحاب؟
4- في النسختين : ظنّ.
5- « ل » : فنلتزم.

المذكور ، فتأمّل.

فإن قلت : إنّ الأصل في المسألة الأصولية موافق للظنّ المانع ، فلا بدّ أن يكون هو المرجع.

وبيانه : أنّ حجّية الاستقراء أو الشهرة مثلا مسألة أصولية ، ومقتضى برهان الانسداد هو حجّيته كما أنّ مقتضى الشهرة الثابت حجّيتها بدليل الانسداد عدم حجّيته ، فدليل الانسداد في المقامين متعارض ، فيسقط عن درجة الاستدلال ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول ، والأصل في مسألة حجّية الاستقراء التي هي من المسائل الأصولية عدم الحجّية ، فيوافق مضمون الأصل مضمون المانع من الظنّين ، وفي خروج الممنوع عن تحت الدليل وهو المطلوب قلنا : لا نسلّم سقوط الدليل بالنسبة إلى كلّ من المانع والممنوع ؛ إذ قد يحتمل جواز الرجوع إلى أقوى الظنّين من المانع والممنوع ، وستعرف ذلك ، هذا تمام الكلام فيما إذا قرّر هذا الوجه في بيان عدم كلّية نتيجة دليل الانسداد.

وقد يقرّر هذا الوجه في بيان حجّية الظنّ المظنون بناء على أنّه إذا علمنا وجود (1) أمارة قطعيّة بين الأمارات ، ثمّ ظننّا بأنّ بعضا منها ليست هي ، فنظنّ إجمالا بأنّ الأمارة القطعية إنّما هي في غير تلك الظنون التي ظننّا بأنّها ليست هي ، وحينئذ فالجواب عنه هو الجواب عمّا (2) تقدّم من الظنّ المظنون ، فراجعه.

وبوجه آخر أنّ نتيجة برهان الانسداد هو العمل بالظنّ من حيث إنّه يوجب الظنّ بتفريغ الذمّة ، وبعد ما تعلّق الظنّ بعدم حجّية ظنّ لا يحصل الظنّ بالفراغ ، فلا بدّ أن لا يكون الظنّ الموهوم حجّة.

وفيه ما قد عرفت سابقا من أنّ الظنّ بتفريغ الذمّة بالنسبة إلى متعلّق الظنّ وهو الحكم الواقعي يحصل قطعا ، وهو كاف في أمثال المقام ، وإذ قد عرفت بطلان ما يتخيّل

ص: 249


1- « ل » : بوجود.
2- « ل » : على ما.

كونه مرجّحا ، فيثبت التعميم كما أفاده بعضهم.

والحقّ أنّ بعد ما قلنا ببطلان المرجّحات لا يجب القول بالتعميم ، لاحتمال التخيير ، وليس المراد من التخيير هو التخيير بين الكلّ والبعض حتّى يتمسّك بالأخذ بالقدر المتيقّن في دفعه ؛ لأنّ احتمال الكلّ مدفوع بالأصل ، والأبعاض متعدّدة ، فيتوجّه التخيير بينهما أيضا ، فما لم يدلّ دليل على بطلان التخيير في المقام لا يثبت التعميم ؛ لجواز أن يكون المرجّح إلى أحد أسباب الظنّ من غير تعيين (1) شرعي على أن يكون المعيّن راجعا إلى الدواعي النفسانية في نظر المكلّف كما في سائر التخييرات ، وكيف كان ، فالإجماع - على ما ادّعى - قائم على بطلان التخيير بين الأمارات في مرحلة الظاهر بمعنى أنّ التجزئة في العمل بين الأمارات في مرحلة الظاهر لا تجزي عمّا يجب العمل به في الواقع سواء كان المكلّف به في الواقع هو الكلّ أو البعض ، فبالحقيقة إنّ بطلان المرجّحات إنّما هو مقدّمة لجريان قاعدة التخيير ، ومحقّق لموضوعها وبعد صلاحية جريان التخيير في موضوعه قام الإجماع على بطلانه ، فالمعمّم في الحقيقة (2) هو هذا الإجماع كما لا يخفى.

الثاني (3) من المعمّمات هو الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، فإنّ القائلين بالانسداد لم يفرّقوا بين أقسام الظنّ وأسبابه ، وهو كذلك إلاّ أنّ الكلام في اعتبار مثل الإجماع بعد ما نجد من نفوسنا من عدم حصول الكشف عنه (4).

الثالث منها قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ بعد ما ثبت بدليل الانسداد حجّية ظنّ في الجملة ، ولم نعلم الواجب منه بالخصوص (5) ، فلا بدّ من العمل بكلّ ظنّ ؛ لأنّ العلم بالاشتغال ، يقضي بالعلم بالامتثال ، فلا يحصل إلاّ بالعمل بالجميع.

ص: 250


1- « ل » : تعيّن.
2- « ل » : ففي الحقيقة فالمعمّم.
3- تقدّم الأوّل منها في ص 235 وهي قاعدة بطلان الترجيح بلا مرجّح.
4- « ش » : منه.
5- « ل » : بخصوصه.

لا يقال : لا يجري الاحتياط فيما دار الأمر بين المحرّم والواجب كما في المقام ، فإنّ بعض الظنّ إثم والعامل به آثم.

لأنّا نقول : إن أراد من الحرام الذاتيّ المنهيّ عنه بالخصوص كما في القياس ، فلا نسلّم حرمته ، لعدم دليل عليه ، وإن أراد من المحرّم ولو بعد اندراجه في عموم ما دلّ على حرمة العمل به ، فقد مرّ غير مرّة أنّ أوله إلى أمرين : أحدهما التشريع ، وثانيهما طرح أدلّة الأصول في مواردها من غير دليل يقضي به بعد (1) تعليقها بالعلم ، والاحتياط محقّق لموضوع لا يصدق عليه التشريع ، ولا يلزم طرح الأصول فيما إذا كانت نافية ، والظنّ مثبت للتكليف ؛ لعدم التنافي بينهما كما مرّ مفصّلا.

وأمّا الأصول المثبتة ، فالاستصحابات منها منقطعة بالعلم الإجمالي في مواردها بخلاف مقتضاها ، وأمّا الاشتغال ، فالاشتغال في المسألة الفرعية يعارض الاشتغال في المسألة الأصولية ، والأوّل مقدّم على الثاني كما تقدّم.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا يستقيم معمّما ؛ لأنّ تقديم الاشتغال في المسألة الفرعية عليه في المسألة الأصولية عين عدم العمل بالظنّ فيها ، والمقصود إثبات التعميم والعمل بالظنّ في موارد الاشتغال في الفروع أيضا.

ثمّ إنّه قد يتوهّم عدم تقديم (2) الاشتغال في الفروع نظرا إلى تعارضه بالاشتغال في الأصول وليس كذلك ؛ لأنّ الاشتغال في المسألة الفرعية لا ينافي الاشتغال في الأصول.

وتحقيقه يحتاج إلى مقدّمة وهي أنّ وجوب العمل بطريق وأمارة كخبر زيد مثلا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون الأمر بالعمل به موجبا لوجوب عرضي فيما أخبر به ولو كان من المباحات أو المكروهات أو المندوبات كما إذا جعل أحدهما متعلّقا للنذر مثلا.

ص: 251


1- « ل » : - بعد.
2- « ش » : تقدّم.

وثانيهما : أن يتعلّق الأمر باستناد العمل إلى قوله ، لا إلى نفس العمل كأن يكون الواجب استناد العمل إلى قوله ، والأخذ منه على أن يكون المدرك في اعتقاد الاستحباب أو الإباحة هو خبر زيد ، ولا شكّ أنّ هذا هو معنى وجوب العمل بخبر زيد لا الأوّل ، وإلاّ يلزم وجوب الحرام فيما إذا أخبر بحرمة شيء أو وجوب مباح ، كما أنّه لا شكّ في صدق الامتثال ولو بالنسبة إلى فعل المأمور به مع عدم الأخذ بخبر زيد وإن لم يصدق بالنسبة إلى الأخذ ، لأنّه واجب توصّلي يسقط بإتيان العمل ولو من غير هذا الطريق.

نعم ، لا يثاب بالنسبة إلى الأمر بالأخذ من قول زيد والعمل بخبره ؛ لأنّ قضية الوجوب التوصّلي لا تزيد (1) على رفع العقاب وهو لا يقضي بالثواب كما لا يخفى.

إذا عرفت هذه ، فاعلم أنّ الشهرة مثلا دلّت على خلاف ما يقتضيه الاشتغال في وجوب الصلاة مثلا ، فالعمل بالاشتغال لا ينافي العمل بالشهرة بخلاف العمل بها ، فإنّ العمل بها (2) قد يؤدّي إلى ترك الاشتغال ، فإنّ المفروض وجوب العمل على تقدير الاشتغال وعدم وجوبه على تقدير العمل بالظنّ ، والعمل بالأول عمل بالثاني ؛ لأنّ الأخذ به واجب توصّلي يحصل بالفعل ولو من غير جهة الاستناد إلى الظنّ.

نعم ، قد يتعارض الاشتغالان فيما لو كان كلّ منهما مثبتا للتكليف كما إذا كان الاشتغال في الفروع موجبا للعمل ، والظنّ قام على حرمته ، أو العكس ، فيحكم بينهما بالتخيير ، ومع ذلك فلا يطرد العمل بالظنّ كما هو المقصود من التعميم كما لا يخفى.

الرابع منها : ما عزي إلى السيّد الطباطبائي وهي قاعدة عدم الكفاية ، وبيانها - على ما قد يحكى عنه بعد تلخيص منّا - أنّه بعد ما فرضنا دلالة الدليل على حجّية ظنّ في الجملة على سبيل الإهمال ، فنقول : إنّ له سلاسل ثلاثة : من المظنون والمشكوك والموهوم ، والواجب أوّلا الاقتصار على الظنّ المظنون في الأحكام على تقدير الكفاية ،

ص: 252


1- في النسختين : لا يزيد.
2- « ل » : - فإنّ العمل بها.

وإلاّ فلا بدّ من إلحاق المشكوك ، ثمّ الموهوم ، وحيث إنّ الاقتصار على السلسلة الأولى غير كاف في الفقه كلّه لا من حيث قلّتها - كما توهّمه بعضهم - إذ قلّما يتّفق خلوّ واقعة عن ظنّ مظنون بل من حيث تعارضها كثيرا بسائر السلاسل وقيام الظنّ الشخصي على خلافها ، فلا مناص من التعدّي إلى مشكوك الاعتبار ، ثمّ منه بالبيان المزبور إلى موهومه ؛ لوجود العلم الإجمالي كثيرا في كثير بمطابقة جملة من الاحتمالات ولو بعد انضمام معارضاتها بالواقع على وجه يلزم من الطرح في المقامين أحد المحذورين من العسر والخروج من الدين أو المخالفة القطعية.

لا يقال : لا ضير في قيام الظنّ الشخصي في الظنون المشكوكة والموهومة ؛ لأنّ العبرة بالظنّ النوعي ، فلا بدّ من العمل بسلسلة المظنونات ولو لم يفد ظنّا شخصيا.

لأنّا نقول : إنّ قضية دليل الانسداد لا تزيد على حجّية الظنّ الشخصي ؛ إذ مناط حجّيته هو الاطمئنان وهو مفقود في غير الظنون الشخصية ، وحجّية الظنّ النوعي تناسب (1) القول بالتعبّد وهو خارج عن التقدير.

نعم ، لو انسدّ باب الظنون الشخصية كما انسدّ باب العلم - أعاذنا اللّه منه - يتّجه القول بحجّية الظنون النوعية ومرجعها في الحقيقة إلى اعتبار الشكّ كما لا يخفى ، فظهر وجوب العمل بمطلق الظنّ في جميع سلاسله في صورة التعارض ، وأمّا في غير المتعارضين ، فيجب العمل بالظنون الشخصية الحاصلة منها ، إمّا لعدم الكفاية ، وإمّا لعدم القول بالفصل ، وأمّا الأولوية القطعية ، فإنّه إذا كان الظنّ معتبرا فيما إذا تعارضه ظنّ نوعي آخر ، ففيما لم يعارضه شيء بطريق أولى.

وفيه أمّا أوّلا : أنّ الظاهر من وضع الترتيب بين السلاسل من الأخذ بالمظنون أوّلا ، ثمّ المشكوك ، ثمّ الموهوم هو الميل إلى ما يحتمله القائل بحجّية الظنّ في الطريق ، أو ترجيح الظنّ بالظنّ كما سبق ، وعلى هذا يرد عليه ما قد تقدّم في ردّه.

ص: 253


1- « ل » : يناسب.

وأمّا : ثانيا فلأنّ التعدّي من المظنون إلى المشكوك إن كان بواسطة عدم الكفاية في أبواب الفقه ، ففيه أنّه ليس من التعميم في شيء ؛ لأنّ الإهمال في النتيجة إنّما هو بالنسبة إلى الظنون التي قام الكفاية بغيرها ، وأمّا بالنسبة إلى ظنّ يقوم بالكفاية ، فلا إهمال فيها ؛ إذ النتيجة هو الظنّ الكفائي (1) في الفقه أوّلا ، فهو إذن تشخيص لذلك الإهمال ، وتعيين في هذا الإجمال ، لا تعميم في المقال ، وإن كان بواسطة عدم القول بالفصل ، ففيه ما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام ، وإن كان بواسطة الأولوية كأن يقال : إنّ الموثّق (2) عند تعارضه بالصحيح من جهة قيام الظنّ الشخصي فيه حجّة ففيما لا يعارضه شيء بطريق أولى ، ففيه أنّ الأولوية إنّما تنهض معمّما (3) فيما لو ثبت حجّية الموثّق في صورة التعارض وليس كذلك بل الالتزام بالعمل بالموثّق (4) عند التعارض إنّما هو من حيث وجود العلم الإجمالي فيهما ولو بملاحظة معارضاته على وجه لو يعمل به ، يلزم أحد المحذورين ، وأمّا عند عدم التعارض ، فالعلّة المذكورة القاضية بالعمل مفقودة ، فلا تتّجه الأولوية كما لا يخفى.

ثمّ إنّ لبعض المتأخّرين وجها آخر في بيان عدم الكفاية والتعميم به ، فأفاد أنّه لو لم يعمل بمطلق الظنّ من أيّ سبب حصل في أيّ مرتبة كان ، لما تمّ الفقه وأحال الملازمة إلى التدرّب في الفقه.

ولعمري إنّه وجه فاسد ، ومنشؤه عدم التدرّب في دليل الانسداد والأمارات الظنّية ؛ إذ القول بمطلق الظنّ قد لا يلازم تمامية الفقه ، فإنّ الأسباب الظنّية في إفادتها الظنّ ممّا يختلف باختلاف استعدادات النفوس الجزئية ، فقد يحصل منها لبعضهم ظنّ (5) ولا يحصل للآخر وهم ، فتمامية الفقه إنّما هو بواسطة مصاديق الظنون ، والقول بالظنّ

ص: 254


1- « خ ل » بهامش « ش » : الكافي.
2- « ل » : الموثوق.
3- « ل » : مع ما؟
4- « ل » : بالموثوق.
5- في النسختين : ظنّا.

المطلق إنّما هو قول به في مفهومه ، فربّما يحصل للقائل بالصحاح الأعلائية ظنون كثيرة لا يحصل على قدرها بل الأقلّ منها للقائل بمطلق الظنّ ، مثلا القائل بحجّية الاستقراء مع قلّة موارده على تقدير ترك العمل به لشبهة القياس مثلا قد يحصل له الظنّ من الأمارات الأخر أكثر ممّا يحصل في موارد الاستقراء.

وبالجملة ، فدعوى عدم تماميّة الفقه إلاّ بالعمل بمطلق الظنّ ناشئة إمّا عن سوء الفهم في دليل حجّية الظنّ ومناطه ، أو من عدم المبالاة في المكابرات.

وقد تمسّك بعض من لا دربة له في التعميم ببناء العقلاء.

ولم نقف له على محصّل ، فالأولى ترك التعرّض له هذا ، والذي ينبغي أن يقال في وجه التعميم على تقدير الإهمال في النتيجة هو أنّ الواجب أوّلا الأخذ بالأخبار الصحاح المعمولة عند الأصحاب ، المفيدة للاطمئنان ، فإنّها هو القدر المتيقّن من بين الظنون بجميع أقسامها ؛ إذ ما من خصوصية يتخيّل كونها مناطا في الحكم ، وملاكا في الاعتبار إلاّ وهي موجودة فيها ؛ إذ غاية ما يتصوّر في غيرها من الخصوصية هي إفادتها الاطمئنان (1) والمفروض حصوله فيها.

مضافا إلى الخبرية (2) وكونها معمولا بها عند الأصحاب ، ولو لم نقل بحجّية هذا القسم من الأخبار من جهة الظنون الخاصّة ، فلا أقلّ من احتمالها.

ومن هنا يظهر أنّ كونها قدرا متيقّنا لا يخصّ القول بالظنّ الخاصّ بل إنّما هو بحسب الدليل الرابع أيضا كذلك كما لا يخفى.

وفي حكمها كلّ أمارة دلّ على اعتبارها وحجّيتها هذا الصنف من الخبر بناء على ما حقّقنا سابقا من أنّه لا فرق بين إعمال الظنّ في الواقع ، وبين إعماله في طريقه كما مرّ مستوفى وهي (3) الأخبار الموثّقة التي تفيد الاطمئنان ، فإنّه قد دلّت أخبار كثيرة

ص: 255


1- « ش » : للاطمئنان.
2- « ل » : الجهة.
3- سقط قوله : « وبين إعماله » إلى هنا من نسخة « ل ».

صحيحة - دلالة واضحة صريحة كما لا يخفى على من له لطف قريحة - على حجّيتها.

فمنها : الرواية الصحيحة المذكورة في ترجمة يونس بن عبد الرحمن فإنّها بسؤالها وجوابها تدلّ على أنّ ملاك الاعتبار هو الوثاقة ، ومناط الحجّية هو الاطمئنان ، فإنّ السائل قال : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ فأجابه عليه السلام بقوله : « نعم » (1).

لا يقال : الرواية ظاهرة في الفتوى ، فإنّها الظاهر من معالم الدين ، فلا يدلّ على حجّية الرواية.

لأنّا نقول : لا نسلّم ظهورها بل ظاهرة فيهما جميعا كما هو ظاهر ، ولو سلّم ، فيتمّ المطلوب ؛ لعدم الفصل إذ كلّ من قال بحجّية الفتوى ، فقد قال بحجّية الرواية بل قد يمكن دعوى الأولوية بالنسبة إلى الرواية.

نعم ، ذلك لا يتمّ على مذاق (2) السيّد ومن يحذو حذوه في عدم حجّية رواية الواحد وحجّية فتواه ، ولكنّه على مشرب القائلين بحجّية الآحاد ، فلا قائل بالفرق.

فإن قلت : لا دلالة فيها على حصر الملاك والمناط في الوثاقة ، فلعلّه كان هناك شروط أخر كالعدالة ونحوها معلومة عنده ، وكان المجهول هو الوثاقة فقط كما يقال : فلان مجتهد يجوز تقليده ، فإنّه إنّما يقال بعد إحراز سائر الشرائط.

قلت : الظاهر من الرواية - كما يظهر لأولي الدراية - أنّ المعتبر هو الوثاقة ، فما لم يعلم باشتراط شيء آخر ، يؤخذ بظاهرها ، ولا عبرة بالاحتمال ، بعد ظهور المقال في غيره.

ومنها : ما رواه الكشّي في ترجمة محمّد بن مسلم ، عن محمّد بن قولويه ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد اللّه بن محمّد الحجّال ، عن العلاء بن رزين ، [ عن ] عبد اللّه بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّه ليس كلّ ساعة

ص: 256


1- تقدّم في ص 211.
2- « ل » : لا يتمّ إلاّ بمذاق.

ألقاك ، ولا يمكن القدوم ، ويجيء الرجل من أصحابنا ، فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، قال : « فما يمنعك عن محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه قد سمع من أبي ، وكان عنده وجيها » (1) خالف عموم التعليل بالوجاهة ممّا يرشدك بإناطة الأمر بها.

ومنها : ما رواه في الكافى في ذيل النصّ على أبي محمّد عليه السلام : أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : سألته : ومن أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي ، فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي ، فعنّي يقول ، فاسمع له ، وأطع ، فإنّه الثقة المأمون ».

وأخبرني أبو عليّ أنّه سأل أبا محمّد عليه السلام ، عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي ، فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك ، فعنّي يقولان ، فاسمع لهما ، وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (2) والمراد بالمعاملة إمّا المعاملة في الدين ، أو المعاملة في الأموال المتعلّقة بالإمام عليه السلام ، فإنّ عموم التعليل يفيد عموم العبرة بالوثاقة.

وقد يذكر في عداد ما ذكرناه من الأخبار الصحيحة ما رواه في البحار عن الاختصاص للشيخ المفيد ، عن ابن الوليد ، عن الصفّار ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن عبد السلام بن سالم ، عن ميسر بن عبد العزيز ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « حديث يأخذه صادق عن صادق خير من الدنيا وما فيها » (3) وليس كذلك ؛ لأنّ المفيد لم يعاصر

ص: 257


1- رجال الكشّى 161 / 273 وعنه في الوسائل 27 : 144 ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، ح 23.
2- الكافي 1 : 330 ، باب في تسمية من رآه عليه السلام ، ح 1 ، وعنه في الوسائل 27 : 138 ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، ح 4.
3- بحار الأنوار 2 : 150 ، باب 19 ، ح 26 ؛ الاختصاص : 61 ؛ ورواه البرقي في المحاسن : 229 / 166 باب 15 ، عن محمّد بن عبد الحميد العطّار ، عن عمّه عبد السلام بن سالم ، عن رجل ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضّة » وعنه في الوسائل 27 : 98 ، باب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 70.

ابن الوليد وإنّما لقي (1)(2) أحمد بن محمّد بن الوليد ولم ينقل منهم توثيقه إلاّ أنّه قيل فيه : إنّه كان من مشايخ الإجازة وإن كان الظاهر وثاقته ؛ حيث إنّ المفيد وأضرابه - كأحمد بن عبدون وابن الغضائري - أجلّ شأنا من أن يكون مخبرهم غير موثّق عندهم ، مضافا إلى أنّ الرواية موجودة في كتاب الصفّار ، والمقصود من ذكر ابن الوليد هو الاتّصال بالمعصوم سندا تيمّنا وتبرّكا ، والمقصود من القرابة عند الشيخ هو الاطّلاع على بعض المزايا في خفايا الزوايا التي لم يطّلع عليها إلاّ من ارتاض في الصنائع العلمية ، وإلاّ فيجوز أخذ الرواية من الكتاب كما في زماننا هذا ما نقلنا من الكافى والتهذيب والفقيه والوافى وغير ذلك ، لكنّه مع ذلك ليس بتلك المكانة من الصحّة بحسب الاصطلاح ، فإنّ بين المفيد وابن الوليد إرسالا كما عرفت ، ومحمّد بن عبد الحميد لم نجد فيه توثيقا صريحا إلاّ ما نقله في الوسائل عن النجاشي (3) ، وهو يحتمل أن يكون توثيقا له ، أو لأبيه ، ولهذا ترى الشهيد - كما عنه في تعليقاته على الخلاصة - قال بوثاقته (4) ، وفي تعليقاته على كتاب ابن الغضائري قال بعدم وثاقته ، وكذا في ميسر بن عبد العزيز إلاّ ما عن ابن فضّال وهو فطحي إلاّ أنّ في الروايات مدحا كثيرا له. قال العقيقي : أثنى عليه آل محمّد وهو ممّن يجاهد في الرجعة ، وحكاية الجبل معروفة (5).

وبالجملة ، فليس الخبر (6) كالأخبار المتقدّمة في السند ، وكذا في الدلالة كما هو ظاهر ، وكيف كان فالواجب أوّلا بعد إهمال النتيجة هو الأخذ بالقدر المتيقّن وما في حكمه على تقدير الكفاية بحيث لا يلزم المحاذير السابقة على تقدير الرجوع إلى الأصول الكلّية أو الجزئية في مواردها ، وعلى تقدير عدم الكفاية ، فلا بدّ من الاحتياط

ص: 258


1- « ش » : ألقى.
2- في النسختين : + من ، وشطب عليها في « ش ».
3- الوسائل 30 : 475 ؛ رجال النجاشى 339 / 906.
4- رسائل الشهيد الثانى ( حاشية خلاصة الأقوال ) 2 : 173 ، قال بعد نقل عبارة الخلاصة : هذه عبارة النجاشي ، وظاهرها أنّ الموثّق الأب لا الابن.
5- انظر الخلاصة 171 / 11.
6- « ل » : فالخبر ليس.

في الأمارات وقد عرفت فيما مرّ تعارض الاحتياط في المسألة الأصولية الاحتياط في المسألة الفرعية ، وقد مرّ أيضا تقدّم الاحتياط في الفرع إلاّ أن يقال : إنّ الرجوع إلى الاحتياط في الفروع يستلزم العسر والحرج من حيث إنّ الأمارات التي تثبت بها التكاليف في المسألة الأصولية ممّا لا مناص من العمل بها ، والأمارات النافية ممّا لا عبرة بها في مقابلة الاشتغال في الفروع ، وهو عين الاحتياط في جميع الموارد ، وعلى هذا التقدير فلا يمكن العمل بالاشتغال في الفروع بالكلّية ، ولا يمكن الاستناد إلى الأمارات النافية للتكليف في قبال الاشتغال في الفروع بالكلّية أيضا لما عرفت من التقديم ، فلا بدّ من الأخذ بالمظنون اعتبارا وهو الظنّ الاطمئناني ؛ لأنّ باب العلم فيها منسدّ ، والعلم الإجمالي بوجود أمارة واقعية فيها موجود ، والاحتياط غير ممكن ، والرجوع إلى البراءة غير جائز في الشكّ في المكلّف به بعد العلم الإجمالي ، فلا بدّ من إعمال الظنّ فيه.

لا يقال : إن كان دليل الانسداد منتجا لقضيّة كلّية ، فلا حاجة إلى مثل هذه النتيجات ، وإلاّ فلا مزيّة اختصاص للاستناد إليه في المقام كما مرّ في الردّ على بعض الوجوه المنقولة من التعليقة ، فإنّها أيضا قضيّة مهملة لا تعيين فيها وإن استند في رفعه إلى ثالث ، فنقل (1) الكلام إليه ، وإلاّ فلا فائدة فيه كما لا يخفى.

لأنّا نقول : الفرق بين المقامين ظاهر غير خفيّ ، فإنّ المسألة هناك كلّي متنوّع على أنواع عديدة بخلاف المقام.

وتحقيق ذلك أنّه قد سبق في بيان ما ذهب إليه المحقّق القمّي واختاره في تقريره دليل الانسداد - من جريانه في كلّ مسألة جزئية قد انسدّ فيها باب العلم كما في مسألة صلاة الجمعة مثلا - عدم تعقّل الإهمال في النتيجة بالنسبة إلى هذا الدليل ؛ لاختصاص كلّ مورد بظنّ واتّحاد المظنون على تقديره ، والمفروض جريان دليل الانسداد في جميع

ص: 259


1- « ل » : فننقل.

الموارد ، فكلّ ظنّ لا بدّ وأن يكون حجّة في مورده ، ففي كلّ مورد اتّحد المظنون - وإن تعدّدت الأسباب - لا وجه للإهمال في النتيجة بخلاف ما إذا تعدّد (1) المظنون من حيث اختلاف الموارد وإن كانت مجتمعة في عنوان واحد ، فإنّ الإهمال على تقديره ممّا لا مناص منه ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، وما نقلناه عن التعليقة من قبيل الثاني ؛ لأنّ الدليل المعمول في النتيجة تارة ينتج حجّية الظنّ المظنون اعتباره كما فيما نقلناه عن التعليقة ، وأخرى ينتج حجّية الظنّ الاطمئناني كما هو المقصود في المقام ، وهو على الأوّل متعدّد ؛ لاحتمال أن يكون الظنّ المظنون على قدر الكفاية هو الخبر كما هو ظاهر ، أو الإجماع المنقول بانضمام الحسان مثلا ، أو الشهرات بانضمام الإجماعات ، أو الموثّقات فقط ، أو الصحاح مع الحسان إلى غير ذلك من الاحتمالات ، فلم يعلم الحجّة منها ، وهذا هو عين الإهمال ، وعلى الثاني متّحد وهو الظنّ الاطمئناني وإن اختلفت أسبابه ، فإنّ مجرّد اختلاف أسباب الظنّ لا يفضي (2) بتعدّده بعد اتّحاد مورده ، فلا بدّ من إجراء دليل الانسداد في الأمارات النافية للتكليف حذرا من لزوم العسر على تقدير الاحتياط في الفروع ، والمخالفة القطعية على تقدير الرجوع إلى البراءة والعمل بكلّ ما هو مظنون الاعتبار وهي الظنون المفيدة للاطمئنان ، ولا اختلاف فيها ولو اختلفت أسبابه ، فلا حاجة إلى إعمال دليل ثالث ، فليتأمّل.

فإن قلت : إنّ العمل بالمظنون في الأمارات النافية للتكليف ممّا لا مخصّص له ، فإنّ المناط فيه لزوم العسر وهو لازم على تقدير العمل بالأمارات المثبتة والنافية جميعا ، فليعمل في الأمارات المثبتة بما هو مظنون اعتباره في رفع العسر.

قلت : ومرجع ذلك إلى الاحتياط في الموهومات ، وتركه في الموارد المظنونة بالظنون الفعلية الشخصية ، فإنّ الأمارات النافية في قبال الأصول الجزئية الخاصّة في الموارد الخاصّة لا تفيد ظنّا بواسطة ما عرفت من قضاء العقل بتقديم الاشتغال في

ص: 260


1- « ل » : تعذّر.
2- كذا. ولعلّه لا يقضي من القضاء.

الفروع على الاشتغال في الأصول ، بخلاف الأمارات المثبتة للتكليف ، فإنّها لا معارض لها ، فالظنون الفعلية غالبا فيها (1) ، وحيث إنّ القاضي في الاحتياط هو العقل ، فلا يحكم بترك الاحتياط في المظنونات ، وبالاحتياط في الموهومات كما أنّه لا يقضي بترك الاحتياط في السلسلتين بعد ارتفاع العسر الذي هو المانع في العمل بالاحتياط (2) بالعمل بمظنون الاعتبار في الأمارات النافية للتكاليف ، وذلك ظاهر لا سترة فيه كذا أفيد. وللتأمّل فيه مجال كما لا يخفى على المتأمّل ، هذا تمام الكلام في التعميم على تقدير الكشف.

وأمّا على ما هو التحقيق من الحكومة ، فهل العقل ابتداء يحكم بحجّية الظنّ من غير ملاحظة مقدّمة أخرى غير المقدّمات المأخوذة في أصل الدليل ، أو يحتاج في الحكم بالتعميم إلى ملاحظة مقدّمة أخرى لبطلان الترجيح بلا مرجّح وإن لم يكن شاعرا بالملاحظة ، فكثيرا ما يحكم في قضايا كثيرة (3) بواسطة مقدّمات خفية مع عدم العلم باستناد الحكم إليها ، وهو المسمّى بقضايا قياساتها معها.

والحقّ هو الثاني ، فإنّ مراتب إدراك العقل مندرجة بواسطة تدرّج مراتب مقدّمات الحكم ، ألا ترى أنّ العقل لا يدرك الإنسانية في الإنسان إلاّ بعد ملاحظة ما يفيدها من لوازمها ، أو ملزوماتها مع إدراك جسميّته بل وحيوانيّته أيضا ، فالعقل أوّلا بعد ملاحظة بقاء التكليف يحكم بالخروج عن عهدته ، وبعد سدّ باب العلم يحكم بتردّد بين الامتثال الإجمالي اللازم للاحتياط ، والخروج عن ربقة التكليف بالعمل بالبراءة والامتثال الظنّي بل ومطلق الامتثال ولو كان وهميّا ، وبعد ملاحظة عدم جواز الرجوع إلى البراءة بملاحظة المحاذير اللازمة على تقديرها يتعيّن الرجوع إلى الاحتياط والامتثال بغير العلم.

ص: 261


1- « ل » : فيهما.
2- « ل » : والاحتياط.
3- « ل » : القضايا الكثيرة.

ثمّ بعد ملاحظة عدم وجوب الاحتياط بواسطة لزوم العسر والحرج يتعيّن الامتثال بغير العلم ، وحيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، فتعيّن الظنّ ، فإنّه إذا تعذّرت الحقيقة ، فأقرب المجازات هو المتعيّن ، وحيث إنّه لا خصوصية في أفراد الظنّ ، فيحكم العقل بأنّ الحجّة بعد (1) هو ، أو مطلق الظنّ من غير فرق بين أفراده وأقسامه وأسبابه كما أنّه لا يحكم العقل بعموم اعتبار العلم في موارده إلاّ بعد ملاحظة انتفاء الخصوصيات المقتضية لجميعه علم خاصّ وإدراك مخصوص.

فظهر أنّ العقل لا يحكم ابتداء بأنّ المعتمد بعد الانسداد هو الظنّ مطلقا وإن كان لا يحتاج في الحكم بالعموم إلى ملاحظة المقدّمة القائلة ببطلان الترجيح بلا مرجّح تفصيلا ، فإنّها ممّا أودعه اللّه في خزائن نفوسهم.

ومن هنا يتّضح أنّ القائل بكلّية النتيجة والقائل بإهمالها لا نزاع لهما في الحقيقة ؛ لأول الأوّل إلى الثاني ، فإنّه يحكم بالعموم أوّلا من جهة مقدّمة مطويّة معلومة ، ويتوهّم عدم استناد الحكم إليها (2) ، فهي خفيّة لشدّة ظهورها ، ومجهولة لقوّة بروزها عند النفس.

ثمّ إنّه قد يمكن (3) أن يقال بأنّ القول بالتعميم إنّما يلازم بطلان الاحتياط على وجه التعميم من غير حاجة إلى انضمام مقدّمة أخرى.

وبيانه : أنّه قد تقدّم منّا في بطلان الاحتياط (4) أنّ الضرورة الداعية إلى رفع اليد عن الاحتياط - مع أنّه هو الذي يقتضيه القواعد المتداولة بيننا من تقدّم الامتثال العلمي - ولو إجمالا - على غيره من وجوه الامتثال بل قد يعدّ في عرض الامتثال العلمي التفصيلي كما مرّ تفاصيله في أوائل الباب - إنّما تتقدّر (5) بقدرها ، فقضية الاحتياط أوّلا

ص: 262


1- « ل » : بعده.
2- « ل » : إليهما ( ظ ).
3- « ل » : يتمكن؟
4- سقط من قوله : « على وجه التعميم » إلى هنا من نسخة « ل ».
5- « ل » : تقدّر.

من غير ملاحظة لزوم العسر على تقديره هو إتيان كلّ ما يحتمل الوجوب ولو وهما ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولمّا أنّ الاحتياط على هذا الوجه يوجب العسر الشديد ويورث الحرج الأكيد كما مرّ ، فاللازم هو التبعيض بين الاحتمالات التي يقع الاحتياط فيها على وجه يرفع العسر لا على وجه يبطل الاحتياط بالكلّية ، لعدم ما يقضي (1) بالإبطال لذلك ، فعلى هذا لا بدّ أوّلا من ترك الاحتمالات الوهمية التي خلافها مظنون بالظنّ الاطمئناني ، فإن بقي بعد ذلك محذور كما هو كذلك ، فلا بدّ من ترك الموهومات برمّتها ، فإنّها أولى بالترك ، كما يستقلّ به العقل ، فلا مناص حينئذ من إعمال الاحتياط في سلسلتي المظنون والمشكوك ، فإن لزم بعد ذلك عسر - كما ادّعاه بعضهم - كان الواجب ترك المشكوك أيضا إلاّ أنّه لا يخفى فساد هذا التوهّم ؛ إذ قلّما توجد واقعة مشكوكة يساوي (2) طرفاها من غير حصول مزيّة لأحد طرفيها للفقيه في مقام الاستنباط ، فدعوى لزوم العسر على تقدير إلحاق المشكوكات بالمظنونات في إتيان الواجب وترك الحرام مجرّد مكابرة بعد ما عرفت من أنّها موارد قليلة لا تكاد توجد.

اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك بالإجماع في عدم لزوم الاحتياط فيها كما يظهر من ملاحظة طريقة السلف ، ومزاولة وظيفة الخلف كما تقدّم ، فعلى هذا لا وجه لترك الاحتياط في سلسلة المظنونات بجميعها ؛ لوجود المقتضي للاحتياط ورفع المانع عنه ، فإنّ العسر إنّما كان مانعا عنه فيما يلزم الحرج ، وأمّا في غيره ، فلا وجه في منعه ، ويبقى على ما هو قضية القاعدة أوّلا ومقتضاه حجّية كلّ ظنّ حصل في كلّ مورد من الموارد الفرعية كما هو كذلك بناء على ما تخيّله المحقّق القمّي ، ونسب إلى صاحب المعالم والمحقّق البهائي ، فبطلان الاحتياط على وجه العموم يقضي بحجّية الظنّ في موارده على وجه العموم.

ص: 263


1- « ش » : يفضي.
2- في النسختين : تساوى.

فإن قلت : إنّ الوجه في لزوم العسر - على ما مرّ ذكره - هو عدم جريان الاحتياط على وتيرة واحدة في موارده ، فتارة يقضي بترك شيء في حالة ، وأخرى بفعله في أخرى ، ومرّة يقضي بالتوقّف إلى غير ذلك من اختلاف وجوه الاحتياط ، فكلّ واقعة ينحلّ إلى وقائع عديدة ، ويتشعّب بشعب جديدة ، بخلاف ما إذا كان الظنّ حجّة ، فإنّه يجري على طريقة واحدة ، فالاحتياط مطلقا يلازم العسر ، ولا وجه للتخصيص بإلحاق الموهومات مثلا بالمظنونات.

قلت : نعم ، فاللازم هو الأخذ بالظنّ في كلّ مورد وترك وجوه الاحتياط والعمل به ، والجري على مقتضاه في جميع الوقائع ، ولا نعني بالحجّة (1) غير هذا كما لا يخفى على أولي (2) الأنظار المستقيمة ، والأفهام القويّة.

ثمّ لا يخفى أنّه مع ذلك كلّه لا يعدّ من العمل بالظنّ على وجه يوجب طرح الأصول الخاصّة في مواردها في قبال الأمارات الظنّية كما هو المقصود من القول بحجّية الظنّ.

وتفصيل هذا الإجمال ، وتوضيح هذا المقال : هو أنّ القائل بالظنون المطلقة إنّما يتوصّل في سلسلة المظنونات بالظنون المثبتة للتكاليف بعد ادّعاء العلم إجمالا بأنّ جملة منها أمور واقعية ومطابقة لما هو في نفس الأمر ، وتطرح الأصول الخاصّة النافية للتكليف في قبالها ، ولا غائلة فيه بعد موافقته للاحتياط الذي توافق (3) في حسنه الشرع والعقل ، وهو المناط في العمل بالظنّ ، وأمّا الظنون النافية للتكليف ، فالاحتياط لا يقضي بالعمل بها بل إنّما هو في العمل بالأصول المثبتة للتكليف كما مرّ ذلك غير مرّة.

وأمّا في سلسلة المشكوكات ، فقضيّة الاحتياط كما عرفت إلحاقها بالمظنونات

ص: 264


1- « ل » : بالحجّية.
2- « ل » : - أولي.
3- « ل » : يوافق.

أيضا (1) إلاّ أنّه خرجنا منها للزوم العسر أو الإجماع كما ادّعي ، لكنّه إنّما هو بالنسبة إلى العلم الإجمالي الكلّي الموجود بين جميع السلاسل ، وأمّا بالنسبة إلى الموارد الخاصّة ، فيؤخذ بالأصول الخاصّة كما هو الموروث من غيرهم من القائلين بالظنون الخاصّة.

وأمّا في سلسلة الموهومات ، فالقائل بالظنّ المطلق إنّما ترك الاحتياط ، للزوم العسر بالنسبة إلى العلم الإجمالي الدائر في جميع السلاسل كما أنّه لم يلتزم به في الموارد الجزئية التي يقتضي الأصول الجارية فيها التكليف ، مع أنّه لا دليل عليه إلاّ دعوى لزوم العسر على تقدير الأخذ بالاحتياط فيها ، والإنصاف عهدتها على مدّعيها.

وبالجملة ، فالقول بحجّية الظنّ المطلق على تقدير الاستناد إلى دليل الانسداد يتوقّف على بطلان الاحتياط في الموارد الخاصّة بالنسبة إلى العلوم الإجمالية الجزئية الحاصلة فيها بدعوى لزوم العسر بالنسبة إلى جميع مراتبها.

وليس على ما ينبغي إلاّ أن يقال بأنّه لا دليل على وجوب الاحتياط مطلقا كما صنعه المحقّق القمّي ، ويستفاد من ظاهر المعالم ، ونسب إلى البهائي ، لكنّه ظاهر البطلان كظهور فساد القول بأنّ العقل يستقلّ بأنّ الطريق بعد سدّ باب العلم هو الظنّ - وإن لم يقم دليل على بطلان الاحتياط بوجه يوجب العمل بالظنّ بعده - يقضي بذلك بعد جواز الرجوع إلى الامتثال العلمي بالاحتياط غاية ما في الباب هو الخروج عن مقتضى الاحتياط فيما دلّ دليل عليه ، ويبقى الباقي على حسبه ، فإنّ الضرورة تتقدّر (2) بقدرها.

الثالث من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها أنّ قضية الدليل على تقدير التعميم ولو بملاحظة مقدّمة مطويّة معلومة عدم الفرق بين خصوصيات الظنّ من جهة الأسباب مع أنّ هناك أمورا لا يجوز الاستناد إليها في شيء قطعا كالقياس وأضرابه من الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها ولو كان خروجه بواسطة ظنّ قطعي

ص: 265


1- « ل » : - أيضا.
2- « ل » : تقدّر.

الاعتبار ، فيشكل الأمر في الحكم بخروجها عن الدليل ؛ لاستلزامه تخصيص الدليل العقلي مع عدم قبوله للتخصيص.

وقبل الخوض فيه ينبغي رسم مقدّمة وهي أنّه قد اشتهر بينهم عدم جواز تخصيص الدليل العقلي ، وربّما يتوهّم أنّ المراد منه ما يقابل الدليل الشرعي الذي قد استقلّ العقل بإدراكه كقبح الظلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، فيجوز التخصيص في الأدلّة الشرعية ، وليس كذلك بل التحقيق أنّ التخصيص لا يجري في كلّ دليل لا يحتمل الخلاف في مضمونه بحسب ما يفيده من العلم بعد الظنّ.

والسرّ في ذلك أنّ الدليل في الاصطلاح هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، فهو واسطة في ثبوت العلم ولو كان علما شرعيّا بانتهائه إلى العلم الوجداني للعالم وفي إثبات المعلوم لديه ، فإن قام في الفرد المخصّص دليل على ثبوت الحكم له أيضا ، فلا معنى للتخصيص ؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة المفيدة للعلم ، وإلاّ فلا معنى أيضا للتخصيص ؛ لعدم دليل دالّ عليه أوّلا ، فلا تخصيص ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل عقليا أو شرعيا.

أمّا الأوّل ، فواضح ؛ فإنّ العقل لا حكم له إلاّ بعد الإحاطة بجميع مراتب مدركه في مرتبة إدراكه ، فإن أدرك مثلا قبح الظلم ، فلا وجه للتخصيص ، وإلاّ فلا معنى له كما هو ظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّا لو فرضنا قيام الإجماع على نجاسة عنوان الكافر ، فإن قام على نجاسة اليهود أيضا ، فنجاسته إجماعية لا تخصيص فيها ، وإن لم يقم ، فلا دليل على نجاسته ، وعلى قياسه الشهرة لو قامت على نجاسة الكافر مثلا.

نعم ، يجري التخصيص في الأدلّة اللفظية الظاهرة في المعنى بحسب الدلالة الوضعية لا بحسب الدلالة التابعة للإرادة ، وبحسب إفادتها تصوّر المعنى الموضوع له لا من

ص: 266

حيث التصديق بكون المعنى مرادا للمتكلّم (1) ، وفي الحقيقة إطلاق الدليل عليها تسامح منهم من حيث إنّها ليست بعلّة تامّة للعلم بل لا بدّ فيها من إحراز عدم المانع ولو بأصالة عدم التخصيص والتقييد والمجاز ونحوها ، فإطلاق الدليل عليها إنّما هو صوريّ بواسطة أنّها مقتضيات للعلم.

ومن هنا يتّضح أنّ الدليل الحقيقي ولو كان لفظيّا لا يقبل التخصيص كما إذا كان عدم المانع مثلا معلوما إمّا بواسطة عدم قابلية المانع كما في العامّ اللفظي بالنسبة إلى مورده ، فإنّه حينئذ نصّ فيه ، ولا تخصيص ، وإمّا بواسطة أنّ عدمه معلوم وإن كان قابلا لمانعية المانع كما إذا ورد العامّ في مقام تأسيس قاعدة كلّية ، أو في مورد الامتنان.

فظهر أنّ الدليل على قسمين : حقيقي ، وصوري ، كما أنّ التخصيص أيضا على قسمين : حقيقي ، وصوري ، والدليل الحقيقي لا يقبل التخصيص بقسميه ، أمّا التخصيص الحقيقي ، فلأوله إلى التناقض المحال ، وأمّا التخصيص الصوري ، فلما عرفت. والدليل الصوري أيضا لا يقبل التخصيص حقيقة ؛ للتناقض ، فالتخصيص الصوري إنّما يختصّ عروضه بالدليل الصوري كأن يكون عنوان الحكم في الدليل بالصورة (2) يعمّ الفرد المخصّص ولو بحسب الإجمال ، فيعرضه التخصيص الصوري.

ويعلم منه خروج الفرد المخصّص من (3) العامّ الظاهر ولو بحسب التفصيل ، فلا تناقض أيضا ؛ لاختلاف محلّي الحكم إجمالا وتفصيلا ، ومحصّل الوجه في عدم جواز تخصيص الدليل الحقيقي يرجع إلى القول بعدم جواز تخلّف المقدّمتين في القياس عن النتيجة ، وذلك أمر واضح محقّق عند العدلية كما حقّق في محلّه.

وإذ قد عرفت هذه ، فاعلم أنّ الكلام في المقام تارة يقع في كيفية خروج الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها كالقياس والاستحسان والرمل والجفر ونحوها بعد

ص: 267


1- « ل » : « هو المراد » بدل : « مرادا ».
2- « ش » : بالصور.
3- « ل » : - من.

أنّ حكمها معلوم من عدم جواز الاتّكال عليها كما في الاستثناء ، فإنّ المستثنى حكمه معلوم إلاّ أنّ (1) الكلام في كيفية خروجه من المستثنى منه ، وأخرى يقع في حكمها أيضا كما في الظنون التي قام الظنّ على عدم اعتبارها ، فلا بدّ من تشخيص الخارج من الدليل فيهما ، وعلى تقدير الخروج ففي كيفية الخروج ، فالكلام يقع في جهتين :

الجهة الأولى في كيفية خروج القياس وأضرابه ممّا قام القاطع والدليل العلمي على فسادها ، فنقول : لا إشكال في خروج القياس على تقدير الكشف ؛ إذ محصّل الكلام على هذا التقدير يرجع إلى أنّ الدليل قد دلّ على حجّية ظنّ (2) في الجملة ، معلوم عند اللّه ، غير معلوم عندنا ، وذلك لا ينافي خروج القياس ، فإنّ أدلّة حرمة العمل به دليل شرعي علمي على أنّ الحجّة المجهولة المردّدة بين أسباب متعدّدة ليس هو القياس ، فإنّ الموجبة الجزئية لا تناقض السالبة الجزئية ، ولا فرق في ذلك بين أن يستند في التعميم إلى الوجوه المعمّمة ، أو لم يستند إليها ، وعلى الأوّل بين الاحتياط وغيرها.

أمّا فيما إذا لم يستند إليها فظاهر ، وأمّا في صورة الاستناد ، فلأنّ جميع ما ذكر من أدلّة التعميم لا يجري في مورد القياس. أمّا الاحتياط ، فلأنّ حكم العقل الذي هو المناط في الاحتياط بعد العلم الإجمالي بالتكليف لا يزيد على رفع العقاب والخروج عن ربقة التكليف ، فلو علمنا من المولى بأنّه قد أسقط عنّا الاحتياط في بعض الموارد ولم يلزم علينا الإتيان بكلّ المحتملات ، فقد علمنا بعدم ترتّب العقاب على ترك بعض المحتملات ، واحتمال كون الواقع في المحتملات المتروكة إنّما عهدته عليه ولا ضير فيه.

والحاصل أنّ العقل يحكم بإتيان الكلّ من باب المقدّمة العلمية لتحصيل الواقع والمكلّف به فرارا من العقاب وبعد ما علم بعدم العقاب في موضوع على تقدير الترك ، فلا يحكم بالاحتياط هذا إذا قلنا بأنّ القياس داخل في العلم الإجمالي الدائر بين

ص: 268


1- « ل » : - إلاّ أنّ.
2- « ل » : الظنّ.

الظنون ، وأمّا إذا لم نقل به كما هو التحقيق ، فإنّ القياس خارج عن أطراف الشبهة ، إذ قضيّة الدليل لا تزيد على اعتبار ظنّ في الجملة ، وبعد العلم بحرمته نعلم علما تفصيلا بأنّه ليس هو ، فالأمر أظهر.

وأمّا الترجيح بلا مرجّح ، فلا ينافيه أيضا خروج القياس ، فإنّه على تقدير الكشف حكم ظاهري مرجعه إلى عدم العلم بالمرجّح وهو لا ينافي بالمرجّح في خصوص مورد كالقياس ، فإنّ أدلّة حرمة العمل به مرجّح لعدم العمل به ، ومحصّل لموضوع لا يجري (1) فيه ذلك الدليل الظاهري كما لا يخفى.

وأمّا عدم الكفاية ، فواضح عدم جريانه فيه بل ربّما يقال بأنّ العمل به يلازم المحذور المدّعى في عدم العمل بغيره من الخروج من الدين هذا كلّه على تقدير الكشف.

وأمّا على تقدير الأخذ بالظنّ من باب لزوم الاحتياط كما قرّرناه أخيرا ، فلا إشكال أيضا كما عرفت ، ويكشف عن ذلك رفع اليد عن الاحتياط فيما يلازم العسر والحرج مع أنّ الاحتياط في تلك الموارد ممّا يحصّل الواقع ، ويظهر ذلك في الغاية عند ملاحظة وجوب تكرار الصلاة فيما اشتبهت القبلة في أربع جهات مع احتمال كون القبلة في جهة أخرى متوسّطة بين الجهات الأربعة ، فالواجب أوّلا هو الصلاة بكلّ نقطة من الدائرة التي يفرض المكلّف مركزا لها كما لا يخفى إلاّ أنّ الشارع قد عفى عنها ولو كان مؤدّيا إلى خلاف الواقع ، فظهر أنّه لا منافاة في وجوب الاحتياط وترك بعض المحتملات بعد دلالة دليل على وجوب الترك أو جوازه.

وينبغي أن يعلم أنّ الظنّ القياسي لو اقتضى شيئا ، فعلى تقدير عدم إلحاق الموهومات بالمشكوكات في عدم اعتبار الأصول الجزئية في مواردها لا بدّ من إلحاق موهومه بالمشكوك في اعتبار الأصول الخاصّة في مواردها ، فإنّ الظنّ حينئذ كالعدم ،

ص: 269


1- « ل » : لا يجدي.

فما هو المناط في الاعتبار في المشكوكات موجود في هذا الموهوم ، هذا ما يقتضيه الجليّ من النظر.

وأمّا النظر الدقيق ، فلا يفرق في ورود الإشكال بين هذا المشترك ومذاق الحكومة كما تعرفه بعيد ذلك لكن على اختلاف ما بينهما.

وتوضيحه : أنّ بعد ما قطعنا النظر عن الاحتياط في كلّ المحتملات من حيث لزوم العسر على تقديره ، فلا بدّ من التبعيض فيها دفعا للمحذور كما عرفت ، وحينئذ فقد قلنا بأنّ العقل يستقلّ في إسقاط الموهومات عن سلسلة المحتملات ؛ لعدم الاحتياط فيها بالنسبة إلى العلم الإجمالي الدائر في جميع السلاسل ، وبالنسبة إلى العلوم الجزئية الحاصلة في الوقائع الخاصّة ، فالحكم بسقوط الموهومات مطلقا عقلي ، ولا فرق في نظره القياس وغيره من الأسباب حتّى قيل بأنّ موهومه ملحق بالمشكوك ، فتدبّر.

أمّا على تقدير حكومة العقل ، فالإشكال متّجه سواء قلنا بأنّ العقل أوّلا يحكم حكما كلّيا من غير حاجة إلى ضمّ مقدّمة أخرى ، أو قلنا بأنّ الحكم بالكلّية إنّما هو بعد ملاحظة بطلان الترجيح بلا مرجّح حيث إنّ الحكم هذا حكم واقعي مرجعه إلى العلم بعدم المرجّح كما في العلم ، وكيف كان فقد أوردوا لدفع الإشكال وجوها :

الأوّل ما أفاده المحقّق القمي (1) من منع حصول الظنّ من القياس وأشباهه فأكشف (2) الشارع صراحة أو كناية عن حاله ، واستند في ذلك إلى وجهين :

أحدهما : أنّ مبنى الشرعيات على الجمع بين المختلفات والفرق بين المجتمعات ، فإنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول الضعيفة ، ولا يستفاد من الآراء السخيفة ، فإنّ الحكم المستتبعة للأحكام لا يعلمها إلاّ الحكيم ، أو من هو من ربّه على صراط مستقيم ، ويكشف عن ذلك ملاحظة منزوحات البئر ، فإنّ البعير مثلا يخالف البقر مع اجتماعهما في غير الواقعة ، ووجوب الغسل للمنيّ دون البول ، وقضاء الصوم على الحائض دون

ص: 270


1- القوانين 1 : 448 ، و 2 : 114.
2- كذا. ولعلّ الصواب : فكشف.

الصلاة إلى غير ذلك ، فبعد ملاحظة أمثال ذلك في الشريعة كيف يحصل الظنّ باتّحاد مناط الحكم في الواقعتين حتّى يستتبعه الظنّ بالحكم في المقيس.

وثانيهما : الأخبار الدالّة على أنّ السنّة إذا قيست محق الدين كما في خبر أبان بن تغلب (1) وفي غيره أيضا بطرق متعدّدة ، فإنّ هذه الروايات تدلّ على أنّ محق الدين في القياس ، فبملاحظة ذلك لا يحصل الظنّ بالحكم في المقيس.

وفيه إجمالا : أنّ منع حصول الظنّ من القياس مكابرة فإنّ الوجدان شاهد صدق على ذلك ، وتفصيلا : أنّ الجمع بين المختلفات كالتفريق بين المجتمعات لا يقضي بعدم حصول الظنّ منه ، كيف ويحصل العلم منه المعبّر عنه بتنقيح المناط ولو لم يحصل الظنّ منه ، يلزم الطفرة ولو على بعض الوجوه وهي ممّا قضت الضرورة ببطلانها مع أنّ الغالب هو الجمع بين المتقاربات والمؤتلفات بحيث يحكم المتدرّب في الشرعيّات بأنّ موارد الافتراق أقلّ قليل بالنسبة إليها ، ويرشدك النظر في الأحكام الثابتة في حقّ الرجال ، فإنّ الغالب اشتراك النساء لهم فيها ، ومشاركة أحكام الإماء للعبيد ولو في الأغلب ، وكيف لا مع أنّ جملة منهم ذكروا في عداد الأدلّة إلحاق الفرد المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب ، والمنكر لذلك مكابر لنفسه مع إمكان فرض البحث في فرض الحصول.

ودعوى امتناع حصول الظنّ منه بعد ما جاء من الخبر فيه أغرب من سابقه ، وأعجب من لاحقه ، إذ مفاده لا يزيد على وجوب الإعراض عنه وعدم الاستناد إليه ، ولا دلالة فيه على الامتناع لو لم يكن فيه تلويح بالإمكان.

نعم ، لا يبعد دعوى عدم حصول الظنّ منه في الغالب بعد ملاحظة موارد تخلّفه عن الواقع وعدم كشفه عنه كما يلاحظ ذلك في مراجعة حالات الفضلاء في أمور معاشهم.

ص: 271


1- تقدّم في ص 25.

الثاني : ما التزم به المحقّق المذكور (1) أيضا من جواز العمل بالقياس حال الانسداد فيما إذا أفاد الظنّ.

وتوضيحه : أنّه لا ريب في بطلان العمل بالقياس في مذهبنا ، فمن (2) مارس قليلا أهل هذا المذهب في الجملة ولا سيّما بعد ملاحظة الإجماعات المنقولة والأخبار المتكاثرة الواردة عن العترة الطاهرة بحيث يحتمل عدم جواز الملاقاة لمن أنكر ذلك في جميع الموارد ، إلاّ أنّه قد يظهر من جماعة الاستناد إلى الأولوية المستقرّة (3) الظنّية حتّى قيل : إنّها قوّة الفقيه ، ومن جماعة أخرى الاعتماد على الاستقراء الذي هو في حقيقة الحال مرجعه إلى القياس ؛ إذ من الواضح فساد الاستناد في إثبات حكم جزئي لجزئي مثله من غير أن يكون هناك جامعة بينهما ؛ لعدم الملازمة بين حكميها لولاها ، وإليه ينظر مقالة أهل الميزان من أنّ الجزئي ليس بكاسب ولا بمكتسب ، وذلك يكشف عن إمكان التخصيص في حكم القياس.

فعلى هذا نقول : إنّه لا دليل على حرمة العمل بالقياس وما يقاربه حال الانسداد ، لإطلاق معاقد الإجماعات المنقولة وإطلاق الروايات الواردة في المقام ، ضرورة عدم اشتمالهما حال الانسداد إلاّ بالإطلاق بضميمة أصالة الحقيقة وأصالة عدم التقييد وغير ذلك من الأصول التعبّدية التي لا تفيد العلم بل ، ولا الظنّ ، وبرهان الانسداد إنّما يدلّ على حجّية مطلق الظنّ حال الانسداد ، فمفاده خاصّ بالنسبة إليها ، والخاصّ يقدّم على العامّ كالمقيّد على المطلق ، ولا سيّما فيما كان الخاصّ عقليّا ، وحال أخبار القياس ليس أولى من حال الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ لا دلالة ولا كثرة.

بل وجملة منها إنّما وردت في مقام الردّ على الفرقة الهالكة حيث إنّهم نبذوا الكتاب (4) اختصّ علمه بهم (5) وراء ظهورهم مع تمكّنهم من الرجوع إلى باب العلم ،

ص: 272


1- القوانين 1 : 449 ، و 2 : 115.
2- كذا. ولعلّ الصواب : لمن.
3- « ل » : - المستقرّة.
4- « ش » : كتاب.
5- « ل » : - اختصّ علمه بهم.

ولأجل ذلك قد أكثروا في النهي عن اتّباعه كثيرة وقليله ، والتزم أصحابهم في الاجتناب عن سلوك سبيله.

وجملة منها وردت فيما إذا أمكن التوقّف والاحتياط في حكم المسألة ، فإنّه لا بدّ فيه من الوقف ، ولا يجوز الرجوع إلى القياس مثل ما رواه ثقة الإسلام في الكافى في الصحيح ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : قلت : أصلحك اللّه إنّا نجتمع ، فنتذاكر ما عندنا ، فما يرد علينا شيء إلاّ وعندنا فيه شيء مسطّر ، وذلك ما أنعم اللّه علينا بكم ، ثمّ يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء ، فينظر بعضنا إلى بعض ، وعندنا ما يشبهه ، فنقيس على أحسنه فقال عليه السلام : « فما لكم والقياس؟ إنّما هلك من هلك بالقياس » ثمّ قال : « إذا جاءكم ما تعلمون ، فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها » وأهوى بيده إلى فيه (1) الحديث.

وبالجملة ، لا حجّة على القول ببطلان القياس في حالة الانسداد إلاّ إطلاق بعض الروايات ومعاقد الإجماعات ، وبعد إعمال الأصول لا يفيد إلاّ الشكّ ، ودليل الانسداد قطعي فكما يقدّم على الأدلّة الناهية عن اتّباع مطلق ما وراء العلم ، كذا يقدّم على هذه الإطلاقات أيضا.

ودعوى الإجماع في حال الانسداد عهدتها على مدّعيها ؛ إذ المجمعين بعد قطع النظر عن مداركهم في الحكم بعدم الحجّية أغلبهم ممّن يرون انفتاح باب العلم الشرعي أو الوجداني ، فكلماتهم في الأغلب إنّما هو في بيان أحكام الانفتاح.

ومنه يظهر دعوى الضرورة المذهبية أو الدينية في وجه على حرمة الاستناد إليه ، فإنّ الإشكال في بيان ما يستند إليه تلك الضرورة ، إذ ليس يقبل كلّ ما يقال أو يدّعى إلاّ بإلقاء دليل قاطع ، وبرهان ساطع ، فمدّعي الإجماع أو الضرورة مطالب بوجههما (2) ، فعليه بالبيان ، فإن كان ممّا يستند إليه الإجماع أو الضرورة في العادة ، فيعمّ الاتّفاق ،

ص: 273


1- الكافى 1 : 57 ، باب البدع ، ح 13.
2- « ل » : بوجهيهما.

وإلاّ فلا يصغى إليه.

هذا غاية ما يمكن الانتصار (1) لهذا الوجه إلاّ أنّه لا يجدي أيضا بعد التحقيق والتدقيق ، فإنّ الأدلّة المتكثّرة الواردة في مقام وإن كان ممّا لا يفيد القطع كلّ واحد منها في حدود ذواتها إلاّ كلّ واحد منها لا يخلو عن إفادة ظنّ ولو في أضعف مراتبه وإن كان ممّا استند في دلالتها إلى تعبّدي ؛ إذ قد يفيدان الظنّ أيضا.

نعم ، لا يطّرد إفادة الظنّ فيه ، لأنّه يمنع حصول الوصف منه كما لا يخفى ، وبعد انضمام رواية أخرى إليه يزداد ذلك الظنّ قوّة إلى أن ينتهي إلى العلم ، وذلك باب شائع ، وطريق واسع يستند العلوم الحاصلة من اليقينيات غالبا إلى هذه الطريقة ، ولا بعد فيها.

ومنه يظهر الوجه في جملة من المسائل الكلامية للاعتقاد استناد المشهور إلى الروايات والآيات مع أنّ غاية ما يستفاد منها الظنّ ، وهم لا يقولون باعتبار الظنّ ولو كان حاصلا من الأمارات الخاصّة فيها ، فإنّ ازدياد الأسباب الظنّية يوجب تراكم الظنون ، فيزداد باشتداد كلّ بلحوق ظنّ آخر حتّى يصير علما ، ولو لا هذا ، لانقطع التواتر ولو في جهة اللفظ ، فإنّ الإخبار بصدور لفظ من لافظ من حيث هو لا يفيد إلاّ الظنّ بصدوره منه ، وبعد الإخبار به ثانيا يشتدّ ذلك الظنّ مرتبة إلى أن يصل إلى اليقين.

وبالجملة فمن المعلوم لكلّ واحد (2) من العلماء بل لا يبعد دعوى إلحاق العوامّ بهم عدم جواز الاستناد في زماننا هذا إلى القياس ، وليس هذا العلم ممّا لا (3) يستند إلى سبب يحصل منه العلم في العادة بل على الأمور النقلية من الاعتقاديات (4) وغيرها إلى مثل هذه الأسباب كما هو غير خفيّ على المتدبّر.

ص: 274


1- « ل » : الانتصار به.
2- « ل » : أحد.
3- « ل » : - لا.
4- « ل » : الاعتقادات.

الثالث من وجوه الدفع ما استند إليه المحقّق أيضا (1) ، ومحصّله : أنّ حجّية الظنّ إنّما هو (2) فيما انسدّ فيه باب العلم ، وفي مورد القياس باب العلم ليس بمنسدّ ، للعلم الضروري بحرمة العمل به في شريعتنا ، فخروج القياس إنّما هو من جهة خروج موضوع الحكم في دليل العقل.

وفيه : أنّ عدم انسداد باب العلم في مورد القياس بالرجوع إلى الأصول في موارده إن كان مع قطع النظر عن الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس ، فمن المعلوم أنّه غير سديد ؛ لتساوي أفراد ماهيّة واحدة في كلّ حكم لا يرجع إلى خصوصية خارجية ، وإن كان بعد ملاحظة ما دلّ على عدم جواز الاستناد إليه ، فغير مفيد ؛ فإنّه هو محلّ الإشكال ، ومحطّ فحول الرجال ، كيف؟ وهو لم يأت بما يشفي العليل ، ويروي الغليل.

نعم ، لو قلنا باختلاف موضوعي حكم العقل بحجّية الظنّ والشرع بحرمة العمل بالقياس إمّا حقيقة ، وإمّا اعتبارا كما ستقف عليها ، فله وجه إلاّ أنّه سيجيء عدم استقامتها أيضا.

الرابع ما تكلّفه أيضا (3) في المقام من أنّ الاستثناء إنّما هو ممّا دلّ على مراد الشارع ظنّا ، لا أنّ الظنّ الحاصل منها مستثنى من مطلق الظنّ.

ولعمري إنّه وجه غير معلوم المبنى بل والمعنى أيضا ، وغاية ما يتعسّف في بيان مرامه هو أنّه طاب ثراه بعد ما قرّر الدليل في كلّ المسائل الجزئية نظرا إلى بطلان الرجوع إلى الأصول فيها من غير حاجة إلى انضمام بعض الوقائع إلى أخر جعل مبنى الإشكال جزئية النتيجة ، فإنّه لا يعقل الاستثناء من الظنون الشخصية الحاصلة في الموارد المستندة إلى أسبابها الخاصّة ، فلهذا قد عدل إلى جعل الاستثناء من الأمارة دون (4) الظنّ الحاصل منها ، فكأنّه يلتزم بأنّ للعقل حكمين :

ص: 275


1- القوانين 1 : 448 - 449 ، و 2 : 114.
2- كذا.
3- القوانين 1 : 448 ، و 2 : 114.
4- « ل » : إلى دون.

أحدهما : ما يصير به الأمارات حجّة ، فيستثنى منها القياس ، ولا ضير فيه لتعدّدها ، فيجوز الاستثناء منها.

وثانيهما : ما به يصير الظنون الشخصية الحاصلة في الموارد الشخصية حجّة عند تعارضها للظنون النوعية التي تثبت حجّيتها ، وقد يساعد إلى هذا ما يظهر منه في بعض بياناته لهذا المطلب في ذيل مبحث حجّية الأخبار ، فراجعه.

وكيف كان ومع ذلك ، فلا يجدي شيئا ؛ لأنّ الدليل الدالّ على اعتبار الأمارة بعد التنزّل عن وجوده - لظهور عدم دلالة دليل على اعتبار الظنون النوعية والأمارات - إن دلّ على اعتبارها كلّية على نحو ما قد عرفت الكلام فيها ، فالإشكال باق بحاله ، وإلاّ كأن كان (1) مهملا ، ودالاّ عليه على سبيل الإجمال ، فيجوز الاستثناء ، والأمر في ذلك بالنسبة إلى كلّ من الظنّ والأمارة سيّان ، فلا وجه للعدول مع بقاء الإشكال بحاله.

الخامس : ما أفاده بعض الأعاظم في التعليقة (2) ، وتبعه بعض الأجلّة (3) ، وقد يستفاد من مطاوي كلمات الأستاذ الشريف أيضا وهو أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ في الأحكام الشرعية أو في الطرق إليها ليس حكما أوّليا واقعيا مطابقا لما اقتضته المصلحة الخاصّة الكامنة في الشيء من غير اندراجه تحت عنوان غير وصفه العنواني الذاتي بل هو حكم ظاهري ثانوي مطابق للمصلحة العامّة من حيث اندراجه تحت عنوان خارج عن وصفه (4) العنواني (5) الذاتي كما في حكم العقل بحجّية البراءة عند إعواز النصوص (6) ، فبملاحظة تغيّر العنوان (7) في موضوع حكم العقل يرتفع (8) حكمه بارتفاع

ص: 276


1- شطب على « كان » في نسخة « ل ».
2- هداية المسترشدين : 395.
3- الفصول : 285.
4- في النسختين : وصف.
5- « ل » : العنوان.
6- « ل » : النصّ.
7- « ل » : العنواني.
8- « ش » : ويقع.

موضوعه ، وليس ذلك تخصيصا في حكم العقل في شيء ، فحكم العقل بحجّية الظنّ معلّق على عدم ورود نهي عن العمل ، وبعد كشف الشارع عن حرمته ، فلا موضوع لحكم العقل ، فلا تناقض بين حكمي الشرع والعقل ؛ لاختلاف الموضوعين.

أقول : وكأنّ المجيب إنّما بنى على الجواب المذكور نظرا منه إلى بعض ما أسلفنا نقله منه في بحث حجّية قطع القطّاع من أنّ حجّية القطع أيضا حكم ظاهري موقوف على عدم ورود منع من الشارع عن العمل به ، وقد تقدّم فساده (1) بما لا مزيد عليه.

مضافا إلى وجهين آخرين :

أحدهما : أنّ معيار الفرق بين الحكمين وميزان التمييز بين الجهتين هو الرجوع إلى الوجدان ، ونحن كلّما نراجع وجداننا مرّة بعد أولى ، وكرّة بعد أخرى لا نجد منها الحكم على حجّية الظنّ بعد المقدّمات المعهودة إلاّ حكما جعليا واقعيا لا تمازجه حيثية زائدة على حيثية ذاته وجهة نفسه.

وتحقيق الحال هو أن يقال : إنّ حكم العقل بشيء يقع تارة على نحو لا تدانيه مخالطة عنوان غير نفسه كما في حكمه بقبح الظلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، وأخرى على وجه يلاحظ فيه اعتبار عنوان (2) آخر بحيث لو قطعنا النظر عن انضمام هذا العنوان ، لما كان العقل في إدراكه مستقلاّ كما في الحكم بالبراءة ، فإنّه مع قطع النظر عن كون التتن مجهول الحكم لا حكم للعقل في حلّيته ولا في حرمته ، فبملاحظة اندراجه تحت هذا الموضوع ليستقلّ العقل بإدراك حكمه ، وليس حكم العقل بحجّية الظنّ حين انسداد باب العلم من جهة تحيّر العقل في حكم الظنّ ، فيندرج تحت موضوع آخر معلّق على عدم وورد نهي من الشارع كما يظهر ، ولكن استفسار (3) حال من أراد سلوك سبيل بلدة مع انسداد باب العلم إليها ، فإنّه يأخذ بما يظنّ كونه سبيلا

ص: 277


1- تقدّم في ص 29 - 30.
2- « ل » : - عنوان.
3- كذا. والصحيح : استفسر.

إليها من حيث كشفه عن الواقع مثل ما لو كان السبيل علميا ، فالعقل إنّما يحكم بحجّية الظنّ في حال الجهل بالمظنون لا من حيث إنّ الظنّ مجهول الحكم يستند إليه.

وبالجملة ، فمع قطع النظر عن العنوان الزائد على نفس الظنّ وحيثية كشفه عن الواقع يحكم العقل بحجّيته ، وليس ذلك من الحكم الظاهري في شيء كما لا يخفى.

نعم ، ليس ممّن يرى حكم العقل بحجّية العلم حكما ظاهريا أشباه هذه الكلمات بعيدا ، فتدبّر.

وثانيهما : أنّه (1) مع الغضّ عن الوجدان ، فهو ممّا ينافيه البرهان.

أمّا إجمالا ، فلأنّ النهي الشرعي الوارد على خلاف ما حكم به العقل ظاهرا لا فرق فيه بين أن يكون علميا أو ظنّيا ينتهي إلى علمي كما اعترف به في مباحث البراءة من تقديمه الأدلّة الظنّية على الأصول العملية ، فعلى هذا لا فرق بين القياس وغيره من أسباب الظنّ سوى ما عرفت من أنّ خروج القياس قطعي وغيره ظنّي ، وظاهر أنّ مجرّد كونه قطعيا وغيره ظنّيا مع انتهائه إلى العلم لا ينهض فرقا بين المقامين.

وأمّا تفصيلا ، فلأنّ الوجوه الناهضة على حجّية الظنّ لا يخلو من أحد المشارب المتقدّمة صراحة وإشارة ، وعلى التقادير لا يعقل خروج القياس في وجه ، ولا وجه لتخصيصه بالخروج في وجه آخر.

وبيان ذلك : إنّ المستدلّ تارة يبطل الأصول العملية في مواردها بحجّية الظنّ فيها كما (2) يظهر من بعض العامّة في استنادهم إلى قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، واعتمادهم على لزوم دفع الضرر كما حرّر مفصّلا ، وأخرى يحكم ببطلان الأصول في مواردها ، إمّا لعدم جريانها ، أو لعدم اعتبارها بواسطة وجود مانع منه ، ثمّ بعد ذلك يحكم بحجّية الظنّ في مواردها.

ص: 278


1- « ل » : أنّ.
2- « ل » : - كما.

فعلى الأوّل لا وجه لاعتبار الظنّ إلاّ حيثية رجحانه على غيره ، وهذه جهة تعليلية إن صحّت ففي الكلّ ، وإن بطلت ففيه ، وعلى التنزّل ، فلا فرق بين القياس والشهرة إلاّ بأن يقال : إنّ الأوّل منهما قطعي الخروج ، فيحكم به بخلاف الثاني ، فإنّه بواسطة العمومات الناهية عن العمل بالظنّ ، ولا عبرة بالعامّ في قبال ما دلّ على اعتبار الظنّ ، وهو إخراج وخروج عن طريقه علمائنا الأعلام ، ومشايخنا الكرام.

وعلى الثاني ، فتارة نقول بجريان الدليل في كلّ المسائل الخاصّة كما هو مذاق المحقّق القمّي ، أو في المجموع كما هو مشرب التحقيق.

فعلى الأوّل لو قلنا بعدم حجّية أصالة البراءة فيما لم تفد ظنّا ، ولا دليل على وجوب الاحتياط شرعا ، ولا وجه للتخصيص إذ لا تعليق في حكم العقل بحجّية الظنّ في المقام ، ولو قلنا بأنّ العمل بالبراءة إنّما هو من جهة التعبّد بها شرعا ، فمرجعه إلى عدم ثبوت التكليف عند عدم العلم به ، وذلك في مورد القياس والشهرة سواء إلاّ بالاقتراح المذكور.

وعلى الثاني فإن قلنا بالإهمال في النتيجة ، فلا إشكال كما عرفت ، وإن قلنا بعدمه ، فلا وجه للخروج ، فإنّ رفع اليد من الاحتياط الكلّي في سلسلة الموهومات والاستناد إلى الظنّ ليس إلاّ لوصف (1) الظنّ الموجود في مورد القياس والشهرة ، وتجويز إخراج أحدهما يوجب خروج الآخر ، ولا تعليق في الحكم.

قلت : ولعلّ المجيب يستند في الفرق بين القياس وغيره من أسباب الظنّ إلى عدم ورود دليل على المنع في غيره أصلا ، ووروده فيه ، لا إلى العموم والخصوص حتّى يورد عليه بالاقتراح ، فإنّ العمومات الناهية عن العمل بالظنّ بناء على حجّية الظنّ ولو في الجملة ليس باقيا على ما هو الظاهر منها إمّا بتخصيصها بالأصول ، أو بإجمالها في المقام ، أو لعدم انصرافها إليه ، فالعمدة في المقام هو الرجوع إلى الوجدان ، وعدم

ص: 279


1- « ل » : بوصف.

تعليق في الحكم الحاصل من البرهان.

السادس : ما أفاده أستاذنا المرتضى دام علاه من أنّ حكم العقل بوجوب الأخذ بالظنّ حال الانسداد إنّما هو من حيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، وبعد أنّ الشارع الحكيم العليم بخفايا الأمور قد كشفه عن حاله بتخلّفه عن الواقع بأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، وبأنّ السنّة إذا قيست محق الدين ، أنّ مناط حكم العقل ليس موجودا في الظنون القياسية وغيرها من أشباهها ، كما يرشدك إلى هذا ملاحظة أحوال العقلاء فيما إذا اعتمدوا على أمارة غير معتبرة واقعا مع تخيّلهم بملازمتها له ، فإنّه بعد ما ظهر لهم الحال من كثرة التخلّف ، فلا يعتدّون بها.

وأورد عليه سلّمه اللّه بأنّا وإن سلّمنا كشف الشارع عن حال القياس ، وكثرة تخلّفه عن الواقع إلاّ أنّ ذلك لا يوجب عدم حجّية ظنّه بعد حصوله منه ؛ إذ حكم الشارع لا يزيد (1) على إفادة عدم مطابقته للواقع نوعا والظانّ يحتمل أن يكون هذه الظنون الحاصلة في موارد الأقيسة من الأفراد النادرة المطابقة للواقع.

نعم ، كشف الشارع إنّما يتمّ في عدم حصول الظنّ منه على نحو ما يحصل من غيره من الأمارات ، فإنّه أقلّ فائدة من غيره ، لا أنّه لا يحصل منه الظنّ في وقت كما زعمه المحقّق القمّي ، أو بعد حصوله ليس معتبرا.

وبالجملة ، الظنّ الحاصل من القياس مرجعه إلى الاستقراء غالبا ؛ لأنّ (2) استنباط الجامع إنّما هو منه غالبا ، وكشف الشارع عن عدم مطابقة هذه الغلبة للواقع نوعا لا ينافي مطابقة غلبة صنفه منها للواقع كما لا يخفى.

قلت : وهو كذلك نظير ما مرّ في حجّية القطع الحاصل من الأدلّة العقلية النظرية في قبال الأخباري ، فإنّ تطرّق الخطأ على ما استندوا إليه لا يوجب عدم الحجّية بعد حصوله ، وقد مرّ ذلك فيما مرّ بما لا مزيد عليه.

ص: 280


1- « ل » : - لا يزيد.
2- « ل » : « إلاّ أنّ » بدل « لأنّ ».

السابع : ما أفاده الأستاذ أيضا وهو أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ بعد الانسداد إنّما هو بواسطة نيل المكلّف بالمصالح الكامنة في الأشياء في موارده من حيث كشفه عن الواقع ، وكونه مرآة لملاحظة حال الواقع ، ولا ريب أنّ ذلك إنّما هو فيما لم يكن في سلوك سبيل الظنّ مفسدة فائقة على مصلحة الواقع ، وأمّا فيما كان فيه مفسدة فائقة عليها وعلمنا بها عقلا أو شرعا ، فلا شكّ في أنّ العقل حينئذ لا يلتزم (1) به بل يرى وجوب طرحه ، وترك التعويل عليه ، والركون إليه ، ولا تعارض بين الحكمين ، لاختلاف الموضوعين حقيقة عكس ما قلنا في قبال ابن قبة عند انفتاح باب العلم ، فكما أنّه لا قبح في العقول بتجويز سلوك سبيل ذي مفسدة ذاتية للوصول إلى مصلحة فائقة ، فكذلك لا قبح فيها يمنع اتّباع أمارة تفوق مفسدتها على مصلحتها تحرّزا عنها.

وفيه أوّلا : أنّ المستفاد من أخبار القياس التي هي العمدة في المقام هو المنع منه (2) بواسطة فقد المصلحة الواقعية وعدم الوصول إليها ، وليس فيها من المفسدة الفائقة على المصلحة على ما تقرّر في الجواب عين ولا أثر ، بل لو كان ولا بدّ فيها من المفسدة ، فهو فقدان الواقع ولا دلالة فيها بوجه على أنّه على تقدير الوصول إلى الواقع ، فيعارضه المفسدة الكامنة في سلوكه.

نعم ، جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار مطلقة يكشف عنها الأخبار المقيّدة المبيّنة لها كما هو غير عزيز في أمثال المقام ، فإن كنت في شكّ ممّا تلونا عليك ، فلاحظ قول الإمام عليه السلام دفعا لمقالة أبان : « يا أبان إنّك قد أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ، فإنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول » (3) ونحو ذلك ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

وثانيا : أنّه بعد ما عرفت من الاحتمال لا يستقلّ في إدراك حكم سائر الأدلّة الظنّية كالشهرة ، لاحتمال وجود المفسدة الفائقة على مصلحة الطريق فيه أيضا ، ولا يستقلّ

ص: 281


1- « ل » : لا يلزم.
2- « ل » : - منه.
3- تقدّم في ص 25.

العقل في حكمه ، فإنّ حكمه إنّما هو فيما لو أحرز وجود المقتضي ورفع المانع أيضا ، فمع احتمال وجود المانع لا يلتزم بوجود المقتضى ولو كان عالما بوجود المقتضي ، وأصالة عدم المانع إنّما تجدي (1) في الأحكام الظاهرية لا الأحكام الواقعية العقلية.

لا يقال : قد يكون للشيء حكم في نفسه وباعتبار لحوق عنوان آخر به وطريانه عليه حكم آخر ، فما لم يعلم بطريان الآخر ، وحدوث العنوان اللاحق يلتزم العقل بالأوّل ، ويحكم بترتيب آثار الأوّل ، ومجرّد احتمال الآخر لا يضرّ في حكمه كما يشاهد ذلك في حكم العقل - مثلا - بقبح الكذب في حدّ ذاته ، والظلم أيضا كذلك ما لم يلحق بالأوّل إنجاء نبيّ ، وبالثاني تأديب يتيم ، فلو علمنا بلحوق العنوان اللاحق ، فلا كلام ، ولو لم نعلم به ، يحكم العقل بالقبح فيهما قطعا من غير تردّد وتزلزل ، ففيما نحن بصدده أيضا كذلك ، فإنّ للعقل بعد انسداد باب العلم حكما بوجوب العمل بالظنّ فيما لم نعلم (2) بلحوق عنوان آخر به ، بخلاف ما إذا علمنا بلحوق العنوان ، فإنّه لا حكم للعقل فيه.

لأنّا نقول : حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، لوضوح الفرق بين المقيس والمقيس عليه ؛ حيث إنّ الحكم في مسألة التأديب والإنجاء إنّما هو على القصد فيهما ، فما لم يعلم بوجود العنوان المسوّغ ولحوقه ، يحكم العقل بحرمته ؛ لعدم تحقّق القصد ، وما يرى من التحسين فيما إذا ترتّب على الفعل العنوان اللاحق من غير قصد ، فهو إنّما يتعلّق بنفس الفعل ، ولا مدخل للفاعل فيه بناء على ما هو الظاهر من اختلاف حكمي الفعل والفاعل بخلاف مثل الظنّ ، فإنّ وجود المفسدة في الواقع من غير تعلّق بشيء آخر يعارض المصلحة التي لأجلها حكم العقل باعتباره ، فمتى احتمل وجود المفسدة لا بدّ من إحراز عدمها في الحكم.

والحاصل : أنّ جهل الكاذب والظالم بعنوان الإنجاء والتأديب يوجب عدم القصد بهما ، ومع عدم القصد لا يتّصف الفعل من حيث استناده إلى الفاعل وإن اتّصف به مع

ص: 282


1- في النسختين : لا يجدي.
2- « ل » : لم يعلم.

قطع النظر عنه ، وهو من هذه الجهة لا يتّصف بالحرمة أيضا ، وإنّما الفعل من حيث صدوره عن الفاعل حرام كما لا يخفى ، فحكم العقل بالحرمة والالتزام بها فيما لم يعلم لحوق العنوان الآخر لا يقضي بحكمه فيما ليس كذلك بل التحقيق فيه أنّ العقل لا يلتزم بوجود المعلول إلاّ بعد إحراز جميع أجزاء علّته التامّة من وجود المقتضي ورفع المانع ، واحتمال وجود المانع لا يجامع العلم بوجود المعلول ، فإنّ الاحتمال مبطل للاستدلال.

نعم ، فيما لو كان الدليل لفظيا مجرّد الاحتمال مع ظهوره في غيره غير مضرّ من حيث قيام الدليل على اعتبار الظواهر في الألفاظ ، فكأنّه لا احتمال في البين لأنّ (1) الاحتمال من حيث نفسه لا يضرّ بالاستدلال كما قد يتوهّم.

وقد يجاب عن الإشكال بتخصيص في الدعوى من إجراء الدليل في الظنون المشكوكة لا المعلومة حجّيتها وعدمها ، وليس ذلك إلاّ مثل ما يقال من أنّ « الغريق يتشبّث بكلّ حشيش » فإنّ خصوص الدعوى لا يجدي في عموم الدليل الذي هو منشأ الإشكال ، وليت شعري كيف يمكن إخراج القياس مع فرض حكومة العقل حكما واقعيا من غير ملاحظة جهل في حكم الظنّ.

والعجب أنّهم اتّفقوا على عدم تعقّل خروج فرد من أفراد العلم عن الحكم باعتباره لا عقلا ولا شرعا ، مع أنّ الظنّ بعد الانسداد مثل العلم كشفا وحكما ، فلو أمكن خروج فرد منه ، أمكن خروج فرد من الظنّ أيضا.

نعم ، لو قلنا بأنّ العقل يحكم به حكما ظاهريا ، اتّجه القول بالخروج من غير إشكال إلاّ أنّ الكلام فيه كما عرفت ، ولعلّ ثالث الوجوه التي أورده المحقّق القمّي في مقام الدفع ، وثاني الوجهين اللذين أفادهما الأستاد يرجع في محصّل المعنى إلى الوجه المنقول عن التعليقة والفصول ، فتدبّر.

ص: 283


1- « ش » : لا أنّ.

الجهة الثانية (1) في تشخيص الخارج من الظنّين عند تدافعهما ، فنقول : قد يظهر من بعضهم تقديم الظنّ المانع على الممنوع ناظرا إلى أنّ خروج الممنوع حينئذ خروج موضوعي لا يوجب تخصيص العامّ العقلي بخلاف خروج المانع ، وقد عرفت فيما سبق ما فيه من الضعف والفساد ، وبيّنّا ما هو أقرب إلى السداد من أنّ الخروج في كليهما موضوعي ، وقد يحتمل تقديم الممنوع ؛ لأنّ المانع من وجوده يلزمه عدمه وهو ليس بسبب لبطلان الممنوع منه أيضا كما لا يخفى ، وقد يحتمل التساقط فيهما وهو أيضا قول بلا دليل ، والأقوى هو الرجوع إلى أقوى الظنّين ممنوعا أو مانعا ؛ لأقربيته إلى الواقع الذي هو المناط في الحكم بحجّية الظنّ ، وقد تقدّم جملة الكلام فيه عند بيان وجوه الترجيح ، فراجعه.

الرابع من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها هو أنّ الظنّ في الموضوعات - المستنبطة منها الأحكام الكلّية الفرعية - حجّة بعد القول بحجّية مطلق الظنّ فيها سواء كان في تعيين الظواهر كالتبادر الظنّي والشهرة على وضع اللفظ لمعنى و (2) الإجماع المنقول عليه ، أو تعيين المراد منها لقاعدة الاستلزام مع عدم تخصيص ظنّ بالحجّية ، فلا فرق في ذلك بين كون الأمارة قائمة على نفس الحكم الكلّي الفرعي ، أو على ما يستنبط منها ، فإنّ بعد ما علمنا ظهور الأمر الوارد عقيب الحظر في الإباحة ، أو علمنا بظهور الصعيد في مطلق وجه الأرض استنادا إلى نقل قول منهم ، أو شهرة قائمة عليه ، أو أمارة ظنّية كالغلبة والاطّراد مثلا يظنّ بأنّ الحكم الكلّي في التيمّم هو جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض وإباحة الاصطياد بعد التحليل ، ولا فرق في ذلك بين كون الظاهر معنى حقيقيا للّفظ كما عرفت ، أو معنى مجازيا ظهورا ومرادا فيه كالشهرة القائمة على أنّ المجاز المشهور ظاهر في المعنى المجازي ، أو اللغوي مثلا ، أو المراد منه بواسطة أمارة ظنّية هو أحدهما بالخصوص ، وكلّ ذلك للاستلزام إلاّ أنّه ينبغي أن يعلم أنّ الاستلزام

ص: 284


1- مرّت الجهة الأولى في ص 268.
2- « ل » : - و.

إنّما هو ملاحظ بالنسبة إلى ذلك الظاهر من حيث نفسه وإن لم يكن الحكم الكلّي مظنونا لجهة أخرى مثل إعمال أصل تعبّدي كأصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة ونحوها ، مثلا لو ظنّنا بأنّ الصعيد موضوع للتراب الخالص للإجماع المنقول عليه ، نظنّ بعدم جواز التيمم بغيره لو لم يكن هناك أصل آخر يوجب إعماله رفع الظنّ كأصالة عدم التخصيص مثلا ، فالاستلزام بحاله سواء استلزم الظنّ بها الظنّ بالحكم الكلّي الفرعي فعلا ، أو لم يستلزم فعلا ، وإنّما استلزمه شأنا ، ولا ينافي القول بحجّية الظنّ في المسائل اللغوية ظهورا ومرادا ما تقدّم في تعداد (1) المستثنيات من الأصل الكلّي الأوّلي ، فإنّ عدم الحجّية (2) هناك مبنيّ على القول بالظنون الخاصّة ، والحجّية هاهنا (3) مبنيّة على القول بحجّية مطلق الظنّ ، ولا يذهب عليك أنّ اعتبار الظنّ في الدلالات إنّما يتأتّى بعد دعوى إجمال العمومات الواردة في الأخبار بواسطة وجود العلم الإجمالي كثيرا لورود مخصّصات كثيرة كما في العمومات الكنائية وإطلاقاتها والأخبار المتواترة على ما قرّر في محلّه ، وإلاّ فمجرّد عدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية من البراءة وما يشابهما لا يسوّغ طرح الأصول اللفظية في قبال الظنون الراجعة إلى الدلالة كما هو غير خفيّ على المتأمّل.

الخامس ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد يظهر من بعضهم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا دخل للأحكام الشرعية فيها مطلقا.

قال المحقّق الثاني حاكيا عن أبي الصلاح على ما حكي عنه : « تثبت النجاسة بكلّ ظنّ ؛ لأنّ الظنّ مناط الشرعيّات » (4). وقد ينسب إلى المحقّق القمّي أيضا ، والمشهور عدم حجّية الظنّ فيها وهو المنصور لنا : أصالة حرمة العمل بما وراء العلم مطلقا مع عدم ما يقضي بخلافها ، فإنّ الأدلّة القاضية بجواز الرجوع إلى الظنّ قد عرفت سابقا أوّلها

ص: 285


1- « ل » : تعدّد.
2- « ش » : الحجّة.
3- « ل » : هنا.
4- جامع المقاصد 1 : 153 وحكى عنه في مفتاح الكرامة 1 : 546 وفي مفاتيح الأصول : 493.

جميعا إلى برهان الانسداد من قاعدة دفع الضرر وغيرها كما حرّر مستوفى ، والانسداد غير جار فيما نحن بصدده ، لأنّ المناط فيه هو الانسداد الأغلبي ، وحيث إنّ الجزئيات الخارجة تختلف بحسب الموارد علما وجهلا ، وبالنسبة إلى الأشخاص المختلفة ، أو بالنسبة إلى شخص واحد في زمانين ، فلا ضابط في البين ، فلا يتوجّه القول بالانسداد فيها غالبا بل ونحن بعد ملاحظة حالات الأوائل نحكم بعدم الاختلاف بيننا وبينهم فيما نحن بصدده ، فإنّ القبلة كما قد تصير معلومة بواسطة وجود ما تقتضيه من الأمارات الدالّة عليها ، كذلك قد تصير مجهولة بواسطة فقدها ، ولا فرق في ذلك بين الأزمنة حتّى أنّ معاصري الأئمّة عليهم السلام قد يعلمون بالموضوعات التي علّقت عليها الأحكام الشرعية ، وقد لا يعلمون ، فالانسداد غالبا فيها (1) غير مسلّم ، فكيف بالأغلب ، والانسداد في غيره غير مسوّغ للعمل بالظنّ إلاّ بعد القول بعدم حجّية الأصول فيما لم يفد الظنّ في الموضوعات ، ولم نقف على قائل بذلك.

فإن قلت : إنّ ترك العمل بالظنّ فيها قد يوجب المخالفة القطعية ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول.

قلنا : إنّه لا دليل على بطلان اللازم مطلقا ، نعم فيما لو كان من الشبهة المحصورة على حذو ما فصّلنا سابقا لا يجوز العمل بالأصل ، ويجب الرجوع إلى غيره ، ولا فرق في ذلك بين الظنّ والشكّ.

لا يقال : قد سبق كفاية الظنّ بتفريغ الذمّة بعد العلم باشتغالها ، فكما أنّ إعمال الظنّ في نفس الأحكام يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، فكذلك إعمال الظنّ في موضوعات تلك الأحكام يوجب الظنّ بالتفريغ مثلا كما أنّ الظنّ بوجوب السورة في الصلاة يوجب الظنّ بفراغ الذمّة عن التكليف واقعا بعد قراءتها ، فكذا الظنّ بأنّ السورة الواجبة هي السورة الفلانية يوجب الفراغ ولو ظنّا.

ص: 286


1- « ل » : - فيها.

لأنّا نقول : لا دليل على كفاية الظنّ بالفراغ مطلقا ، فإنّ الضرورة تتقدّر (1) بقدرها ، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، وكفاية الظنّ في الأحكام الشرعية لا تقضي (2) بكفاية الظنّ في موضوعاتها بعد إمكان الرجوع إلى العلم فيها وعدم إمكانه فيها كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا يجوز الرجوع إلى الظنّ في الموضوعات الصرفة.

نعم ، هنا أمور خاصّة يجوز الرجوع فيها إلى الظنّ إمّا بواسطة أنّ الظنّ فيها يستلزم الظنّ في الحكم الكلّي (3) الفرعي الإلهي ، وإمّا لأنّ المناط موجود فيهما (4) من الانسداد الأغلبي.

فالأوّل كالظنون الرجالية سواء كانت متعلّقة بالوصف كما إذا حصل الظنّ بعدالة إبراهيم بن هاشم مثلا ، أو بالموصوف كما في غير المشتركات ، فإنّه لو حصل الظنّ بأنّ زرارة الواقع في سند الحديث الدالّ على وجوب السورة مثلا هو زرارة بن أعين يحصل الظنّ بوجوب السورة ، وحيث إنّه لا فرق في أسباب الظنّ ، فيجب الأخذ به كما سبق ، بل قد يقال بحجّية الظنون التي لم تستند إلى قول رجالي أيضا كالظنّ بأنّ الراوي لعلوّ مرتبته وارتفاع شأنه لا يسأل عن غير الإمام في المضمرات ونحوها كما في المقاطيع والمراسيل ، فكلّما يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الشرعي يجوز التمسّك بالظنّ فيه على القول بالظنون المطلقة.

وأمّا أرباب الظنون الخاصّة ، فليس لهم العمل بالظنّ في مباحث الرجال أيضا بل لأنّه من البناء على العلم في تعيين الوصف والموصوف ، أو على البيّنة ، وما قد يتوهّم في المقام من دعوى الإجماع على حجّية مطلق الظنّ في مباحث الرجال ، فواضح الضعف والسقوط بعد ملاحظة تشتّت مشارب كلّ العلماء في تعيين الأدلّة ، واختلافهم في تمييز الأحاديث ، فهذا صاحب المعالم (5) يترنّم بقول ليت في منزوحات البئر بعد ظهور

ص: 287


1- « ل » : مقدّرة.
2- في النسختين : لا يقضي.
3- « ل » : - الكلّي.
4- « ل » : فيها.
5- لم أجده في فقه المعالم وفي منتقى الجمان.

دلالته ، فقال : يا ليتها كانت صحيحة من جهة وقوع إبراهيم بن هاشم في سندها مع أنّ الرجل أوّل من نشر أحاديث الكوفيين بقمّ ، وحصول الظنّ بوثاقته منه ظاهر لا يقبل الإنكار ، ألا ترى أنّهم لا يعتمدون كثيرا على ما يراه بعض أهل الرجال كابن عقدة مع إفادة الظنّ من حيث إنّه من أهل الخبرة بهم ، ويظهر ذلك عند تأمّلهم فيما رواه حسن بن علي بن فضّال الفطحي مع كونه من الموثّقين إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدرّب بكلماتهم في مواردها ، فقاعدة الاستلزام إنّما تتمّ على مذاق أرباب الظنون المطلقة.

وأمّا أرباب الظنون الخاصّة ، فلا تتمّ على مذاقهم كيف؟ والقول بذلك يرجع إلى القول بحجّية مطلق الظنّ والمفروض خلافه ، فإنّ الدليل الدالّ على حجّية خبر العادل إنّما يقضي بحجّية هذا المفهوم الكلّي وهو غير معمول في الفقه ، وإنّما المعتمد فيه جزئياته ومصاديقه مع أنّها مشخّصة بالظنون المطلقة فمناط العمل في الحقيقة هو الظنّ المطلق ، وذلك هدم لما قرّروه من بطلان العمل بالظنّ المطلق ، فاللازم على هذا التقدير تحصيل العلم ، أو البيّنة ، أو ما يطمئنّ به النفس كما يظهر منهم الركون إليه في نفس الأحكام أيضا.

نعم ، يمكن الرجوع إلى الظنّ المطلق في الرجال وصفا وموصوفا بناء على ما هو التحقيق عندنا من حجّية الأخبار الموثوق بها فإنّه محقّق للموضوع ، ومحصّل للوثوق الذي هو المناط في الحجّية ، ولا ضير فيه كما لا يخفى ، ولا ينافي ذلك حجّية الخبر من جهة الظنون الخاصّة ، لأنّ مصاديقه وجدانية ، فتحصل بتحصيل الظنّ.

وبالجملة ، يجب العلم بتحقّق المصداق وحصول الوصف العنواني فيه ، فعلى مذاق القوم يجب تحصيل العلم بالعدالة ، وعلى ما نراه يجب تحصيل الوثوق ، وبالرجوع إلى أسباب الظنّ من الأمارات يحصل الوثوق قطعا ، ويحصل العدالة ظنّا ، ولا دليل على كفايته نظير عدم جواز الوضوء بماء ظنّ إطلاقه ، فإنّه يجب التيمّم ولا يجوز التوضّؤ

ص: 288

به ، فالقائل بحجّية خبر العدل بعد عدم إمكان إحراز العدالة بالعلم يجب له الرجوع إلى الأصول على حسب اختلاف الموارد فيها ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

الثاني في الموارد التي لو لم يعمل فيها بالظنّ يلزم إبطال الحقوق وتعطيل السوق.

فمنها العدالة على القول بكونها ملكة راسخة نفسانية ، فإنّ العلم بها في غاية الصعوبة بحيث لو لم يستند فيها إليه ، لما قام أمور المسلمين في معاشهم ومعادهم ، فإنّ مبنى الشريعة في الغالب على العدالة كما في الشهادة والحكم والفتوى والوصاية والتولية والطلاق والجماعة والجمعة ونحوها ، فالعلم بتحقّقها غير ممكن غالبا ، والاحتياط حرج أكيد ، وعسر شديد ، والرجوع إلى الأصول بعد العلم الإجمالي بخلافها غير سديد ، والتوقّف في مواردها غير مفيد ، فتعيّن العمل بالظنّ وهو المطلوب.

ومنها الضرر ، فإنّ العلم به غالبا لا يحصل إلاّ بعد الوقوع فيه ، وذلك خلاف ما قد بني عليه الشريعة السمحة السهلة ، والاحتياط بعد تصويره مدفوع بما مرّ مرارا ، والاستناد إلى الأصول يوجب اختلال سوق المسلمين كما هو واضح ، فيجب الرجوع إلى الظنّ.

ثمّ إنّه يظهر من كشف اللثام (1) ومن تأخّر عنه أنّ المناط في الضرر هو مجرّد الخوف نظرا إلى بعض الأخبار الدالّة صريحا على اعتبار الخوف موضوعا آخر غير الضرر ، والظاهر منها أنّ الخوف ليس موضوعا آخر بل هو طريق للضرر لئلاّ يلغو الخبر الدالّ صريحا على أنّ الخبر موضوع ، فتدبّر جدّا.

وبالجملة ، فكلّ مورد يجري فيه برهان الانسداد ، أو يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الكلّي الفرعي من الموضوعات الصرفة يحكم بحجّية الظنّ فيه بخلاف غيره ، فإنّ الأصل حرمة العمل بما وراء العلم.

ومن هنا يظهر أنّه كلّما تعارض الأصل والظاهر - كما في أصالة الطهارة وظهور

ص: 289


1- انظر كشف اللثام 4 : 272 ، و 5 : 118 و 181.

النجاسة في غسالة الحمّام وطين الطريق - فالمناط هو الأصل ، ولا عبرة بالظنّ مطلقا ، وهذا هو العنوان المذكور في كلماتهم من تعارض الأصل والظاهر ، فإنّ الظاهر في الأحكام والألفاظ حجّة كما صرّح السلطان بذلك في حاشية المعالم (1) ، به يرتفع موضوع الأصل على القول بحجّيتها ، فلا يقاومه.

وما قد يرى في تقديم الظاهر على الأصل في بعض المقامات (2) ، فإنّما هو لدلالة دليل عليه من إجماع أو سيرة أو أصل قطعي كأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ونحوها ، وذلك كما في حكمهم ببراءة ذمّة الزوج عن النفقة فيما لو ادّعت الزوجة مع إتلافها له في مدّة مديدة ، فإنّ الظاهر أنّ أصالة عدم الإنفاق إنّما تقدّم (3) لأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ، وقد صرّح الشهيد في المسالك (4) بأنّها من موارد تقديم الظاهر على الأصل مع اعترافه (5) بكونها قليلة.

السادس ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد ذهب جماعة كثيرة بل قد ينسب إلى المشهور عدم حجّية الظنّ في مسائل أصول الفقه ، والحقّ حجّيته فيها وفاقا لجماعة من المحقّقين.

لنا ما تقدّم سابقا من أنّ العقل بعد الانسداد والقطع (6) بالتكليف وعدم جواز الرجوع إلى الأصول التعبّدية يحكم حكما أوّليا بوجوب تفريغ الذمّة ، والخروج عن

ص: 290


1- لم أجده فيه.
2- انظر ايضاح القواعد 1 : 43 ، 3 : 122 ؛ الدروس 2 : 68 ، و 3 : 386 ؛ جامع المقاصد 12 : 479 ؛ تمهيد القواعد : 304 وما بعدها ؛ شرح اللمعة 2 : 113 ، و 4 : 146 ، و 5 : 128 و 376 ؛ مسالك الأفهام 4 : 225 ، و 6 : 191 ؛ العقد الحسينى : 16 و 19 ؛ حاشية مجمع الفائدة والبرهان : 403 ؛ غنائم الأيّام 3 : 370 - 371 ؛ جواهر الكلام 3 : 363 ، و 31 : 139 ؛ كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري 5 : 169 ؛ القواعد والفوائد 1 : 137 - 141 ؛ نضد القواعد الفقهية : 69 ؛ الوافية : 183 - 184.
3- في النسختين : يقدّم.
4- مسالك الأفهام 7 : 397 - 398. انظر أيضا ايضاح القواعد 3 : 273، انظر ج 4 ، ص 57.
5- اعترف في تمهيد القواعد : 301.
6- « ل » : العلم.

عهدة التكليف ولو ظنّا على ما قد عرفت ، والفراغ الظنّي كما يحصل بإتيان الواقع ظنّا ، فكذا يحصل بإتيان ما هو بدل عن الواقع كذلك ، وهذا (1) هو القدر المتّفق عليه بين جميع أرباب الإدراك وإن كان قد يزيد ذلك الحكم بحسب ازدياد العقل واشتداد القوّة العاقلة في الأشخاص ، فربّما يحكم الكامل في العقل بالامتثال لوجه الأمر كما لا يخفى ، والظنّ في المسائل الأصولية إنّما يوجب الظنّ بالفراغ في المرتبة الثانية ، ولا دليل على وجوب أزيد من ذلك هذا.

وقد يستدلّ على المطلوب بأنّ الأصول مقدّمة للفقه ، وبعد حجّية الظنّ في ذيها يحكم العقل بحجّيته في المقدّمة بطريق أولى.

وضعفه ظاهر ؛ فإنّ الاهتمام في المقدّمة أولى ، وبعد التسليم فلا يخفى أنّها أولوية ظنّية والاستدلال بها يفضي إلى الدور ، على أنّه منقوض بالكلام فإنّه من مقدّمات الاجتهاد ، ولا عبرة بالظنّ فيه.

حجّة المشهور وجهان :

الأوّل : أصالة حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم ، ولا مخرج عنها إلاّ قاعدة الانسداد ، أو الاستلزام بعد ما عرفت من أول الأدلّة العقلية إلى قاعدة الانسداد ، وكلّ منهما لا ينهض وجها للاعتبار.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الانسداد فيها ممنوع ؛ لأنّ مسائل الأصول لا تخلو عن ثلاثة أقسام ، فإنّ برهة منها متعلّقة بالألفاظ الموضوعات المستنبطة منها الأحكام التي يعبّر عنها بمشتركات الكتاب والسنّة كمباحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوها ، ولا ريب في حجّية الظنّ فيها كما عرفت ، وجملة منها بالحجّة ، فتارة من حيث الكشف عن الواقع ، وأخرى من التعبّد به شرعا كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوهما.

ص: 291


1- « ل » : - هذا.

ففي الأولى منهما لا يتعقّل الانسداد بعد إثبات حجّية الظنّ في الفرعيّات ، فإنّ انسداد باب العلم في الفروع دليل قطعي على حجّية الأمارات الشرعية ، فباب العلم فيها ليس منسدّا.

وفي الثانية ففي جملة منها يستقلّ العقل بإدراكها ، وفي بعض منها لو فرضنا انسداد باب العلم ، لا يلزم محذور من الرجوع إلى الأصول فيها ، لانتفاء العلم الإجمالي وانضمام مسائل الأصول بالفروع نظرا إلى أنّ كلّها أحكام شرعية وبعد الانضمام يحكم بحجّية الظنّ في الجميع لانسداد باب العلم في الأغلب ، لا جدوى فيه بعد ظهور خروج هذه الجملة عن أطراف العلم الإجمالي ، فباب العلم في الأغلب مفتوح في الأصول ، فلا يجري الانسداد.

وأمّا الثاني ، فلأنّ قاعدة الاستلزام إنّما هي مسلّمة فيما لو استلزم الظنّ بشيء الظنّ بالحكم الواقعي (1) ، فإنّه هو قضية البرهان ، والقدر المتيقّن من التبيان ، والاستلزام في الأصول لو سلّم ، ففي الحكم الظاهري ، ولا دليل على حجّيته في الحكم الظاهري.

الثاني أنّ الشهرة قامت على حجّية الظنّ في الأصول ، وقد نقل بعضهم الإجماع عليه ، ولا أقلّ من إفادة الظنّ ، فلو كان الظنّ حجّة ، يلزم عدم حجّية الظنّ فيها ، وما يلزم من وجوده عدمه باطل.

والجواب أمّا عن الأوّل ، فبما عرفت في توجيه المختار ، فإنّ الظنّ بالحكم الظاهري يكفي عن الواقع كما هو القضية الكائنة للبدلية مثلا بعد العلم باشتغال الذمّة بالصلاة يحكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة عنها ولو بإتيان ما يكفي عنها ، أو بإدخال نفسه في موضوع آخر غير مكلّف بها عند انسداد باب العلم ، كما يكتفى بالفراغ الظنّي منها ، كذلك يكتفى بما هو بدل منه ظنّا ، فإنّه أيضا يوجب الظنّ بالفراغ الذي قد حكم العقل به بعد الانقطاع عن العلم.

ص: 292


1- « ل » : بشيء الحكم بالظنّ الحكم الواقعي؟

وأمّا عن الثاني ، فبمنع قيام الشهرة على عدم حجّية الظنّ في الأصول أوّلا ، نعم أرباب الظنون الخاصّة بعد زعمهم انفتاح باب العلم لا يعوّلون على الظنّ مطلقا لا أصولا ولا فروعا ، وبمنع إفادة الظنّ منها ثانيا إذ مرجعها إلى أصالة حرمة العمل بالظنّ كما عرفت سابقا ، على أنّ مجرّد قيام الظنّ على عدم حجّية ظنّ آخر لا يوجب بطلانهما جميعا بل يجب الأخذ بأقوى الظنّين كما مرّ آنفا.

السابع ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد ذهب جماعة منهم المحقّق الطوسي قدس سره القدوسي (1) إلى كفايته في المسائل الكلامية والأصول الاعتقادية على ما حكي عنه (2) ، والمراد منها ما كان المقصود منها الاعتقاد وإن ترتّب عليه العمل - سواء كان ممّا يوجب إنكاره الكفر أو لا - كما أنّ المراد من الفرعيات ما كان المقصود منها العمل أو لا ، والفرق بينها وبين أصولها أنّ الأصول مبان ومآخذ لها ومداركها التي يستنبط منها ، ولا يذهب عليك أنّ هذه المسألة غير ما عنونوها في مباحث الاجتهاد والتقليد من كفاية التقليد وعدمه ، لعدم الملازمة بينهما ، إذ يمكن القول بكفاية التقليد مع عدم كفاية الظنّ وبالعكس نظرا (3) إلى جواز الاكتفاء بما يحصل من الأدلّة الظنّية بعد إفراغ الوسع في تحصيل الاعتقاد.

فما يظهر من المحقّق البهائي رحمه اللّه (4) من اتّحادهما ليس على ما ينبغي إلاّ أن يؤول بأنّ العلم غير التقليد نظرا إلى ما تقرّر في تقسيم الإدراك إلى العلم والتقليد وغيرهما ، فإنّ التقليد لا ثبات فيه ، بخلاف العلم ، فاشتراط العلم لعلّه (5) يلازم نفي التقليد ، فتدبّر.

وكيف كان ، فتحقيق المقام يستدعي بسطا في الكلام في طيّ عدّة من المقام :

ص: 293


1- قال الشيخ في فرائد الأصول 1 : 554 حكي نسبته إليه في فصوله ولم أجده فيه. أقول : الفصول النصيرية فارسي ، وعرّب وشرحه الفاضل المقداد المسمّى ب- « الأنوار الجلالية للفصول النصيرية » وراجعنا إليه ولم أجده فيه أيضا.
2- حكى عنه في القوانين 1 : 180.
3- « ل » : نظر.
4- انظر هامش زبدة الأصول : 165.
5- « ل » : - لعلّه.

المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ أو لا يجب؟ المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ نظرا إلى أنّ الظنّ يقوم مقام العلم مطلقا ، أو لا يجب؟ والكلام في المقام إنّما هو في الأمور التي يجب تحصيل العلم فيها لو لم يكن تحصيله متعذّرا.

وأمّا الأمور التي لا يجب تحصيل الاعتقاد فيها ، فهو خارج عن أصله لكنّه قد يقوى في النظر إطلاق القول بوجوب التحصيل في كلّ ما يمكن التحصيل فيه نظرا إلى إطلاق الأدلّة الآمرة بتحصيل العلم والقائلة بوجوب طلبه ، المنساقة غالبا في الأصول بخصوصها ، ولا أقلّ من شمولها لها قطعا ، كقوله : « طلب العلم فريضة على كلّ مؤمن ومؤمنة » (1) وآيتي النفر والسؤال وغيرها.

وبالجملة ، التحقيق عدم وجوب تحصيل الظنّ عند تعذّر العلم ؛ لعدم الدليل على وجوبه ، فإنّ الأدلّة بأجمعها صريحة في طلب العلم على وجه يستفاد منها أنّه هو المطلوب بنفسه على نحو الموضوعية ، والظنّ لا يكون بدلا عن العلم في مقام يكون العلم موضوعا.

نعم ، فيما لو كان العلم طريقا ومرآة يمكن القول ببدلية الظنّ للعلم.

ومن هنا يظهر فساد قياس المقام بالأحكام الفرعية ، فإنّ المقصود منها على ما عرفت هو العمل ، والعلم طريق له ، وحيث إنّ المكلّف لا يخلو عن عمل ، يحكم العقل ببدلية الظنّ للعلم عند تعذّره ، وأين هذا من وجوب تحصيل العلم موضوعا ، فكما أنّ الأمر بالصلاة لا دلالة فيه على وجوب الصوم عند تعذّر الصلاة فكذا قوله ، فاعلم أنّ الأدلّة الدالّة (2) لا دلالة فيها (3) على وجوب تحصيل الظنّ عند تعذّر العلم ، مضافا إلى الأخبار الناهية عن القول بما لا يعلم ، الآمرة بالتوقّف عند عدم العلم.

ص: 294


1- الوسائل 27 : 26 - 29 ، باب 28 من أبواب صفات القاضي ، ح 16 و 18 و 20 و 21 و 23 و 26 - 28 و 35 ، وفيه : فريضة على كلّ مسلم. وسيأتي في ص 300.
2- « ل » : - أنّ الأدلّة الدالّة.
3- في النسختين : فيه.

نعم ، ينبغي أن يعلم أنّ الإدراك الظنّي شيء من المعارف الحقّانية مثل ما لو ظنّ أحد بمرتبة من مراتب الإمام عليه السلام واقعا أحسن من عدم الإدراك كما أنّ العلم أحسن منه ، وأعلى مراتب العلم أحسن من غيره ، وذلك غير ما نحن بصدده من نيابة الظنّ عن العلم فيما لو تعذّر ابتداء ، فلا دليل على وجوب تحصيل الظنّ بدلا عن العلم.

أمّا إباحته أو استحبابه ، فلا يخلو عن إشكال أيضا سيّما الأخير وخصوصا فيما لو خالف الواقع ، هذا بالنسبة إلى حكمه التكليفي.

وأمّا حكمه الوضعي من حيث العقاب والنجاسة وسائر أحكام الكفر ، فالظاهر أنّه معذور من حيث العقاب ، لقبح التكليف بما لا يطاق ، فإنّه أرأف بعباده من أن يعاقبهم على أمر غير مقدور لهم.

وأمّا النجاسة ، فالظاهر نجاسته ظاهرا ، ولزوم ترتّب آثار الكفر عليه ، لأنّه غير مؤمن قطعا ؛ لتوقّف الإيمان على الاعتقاد بالجنان ، وحيث إنّه لا واسطة بين المؤمن والكافر ، فهو كافر.

ولا يخفى أنّ الكفر إنّما هو فيما يستلزم الكفر من أصول العقائد كالتوحيد والنبوّة ونحوها (1) ، وأمّا في غيرها كالشكّ في كيفية أبواب الجنّة والحشر ، فلا كفر فيه.

ولما ورد في جملة من الأخبار من أنّ الشاكّ كافر :

منها : ما رواه في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « من شكّ في اللّه وفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهو كافر » (2).

ومنها : ما رواه فيه أيضا عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صفوان ، عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : من شكّ في رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله؟ [ قال ] : « فهو (3)

ص: 295


1- « ل » : - نحوها.
2- الكافى 2 : 386 ، باب الكفر ، ح 10 ، وعنه في الوسائل 28 : 355 ، باب 10 من أبواب حدّ المرتدّ ، ح 52.
3- المصدر : - فهو.

كافر » [ قلت ] : ومن شكّ في كفر الشاكّ ، فهو كافر؟ فأمسك عنّي ، فرددت عليه ثلاث مرّات ، فاستبان (1) في وجهه الغضب (2) إلى غير ذلك من الأخبار (3) الدالّة على كفر الشاكّ.

ولا ينافي الاستدلال بالأخبار مع كونها ظنّية في المقام ؛ إذ المقصود إثبات جهة الفرعية بها من ترتّب آثار الكفر كما لا يخفى.

لا يقال : لا دليل على نفي الواسطة بين الكافر والمؤمن.

لأنّا نقول : يدلّ عليه قوله تعالى : ( خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (4) كما استدلّ المشهور في نفي الواسطة بين الصنفين بقوله تعالى : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) (5) فإنّ وجه الدلالة فيما نحن فيه أظهر.

فإن قلت : فعلى تقدير كفره لا مناص من كونه معذّبا في الآخرة ، فإنّه أعدّ للكافرين عذابا أليما ، والآيات في ذلك ممّا لا يستقصى ، وذلك ينعكس بعكس النقيض إلى « كلّ من ليس بمعذّب ليس بكافر ، وقد كان كلّ كافر معذّب » هذا خلف.

قلت : إنّ مفاد الآيات كلّها أنّ جميع الكفّار مصيرهم إلى النار ، وذلك لا ينافي فرض وجود (6) كافر قاصر لا يكون معذّبا.

نعم (7) ، كان موجودا ، فيستكشف عن العموم المذكور تقصيره ، ويحكم بدخوله وخلوده في النار ، أمّا الأفراد الفرضية التي لا وجود لها لا يضرّ بالعموم ، ولا يوجب تخصيصا فيه ، وذلك مثل قول المولى لعبده : « أضف جيراني ، وعلّم العبد بأنّ الحكم مخصّص بأصدقاء المولى » فلو شكّ في فرد منهم أنّه من الأصدقاء أو لا ، فبناء العموم

ص: 296


1- المصدر : فاستبنت.
2- الكافى 2 : 387 ، باب الكفر ، ح 11 ، وعنه في الوسائل 28 : 355 ، باب 10 من أبواب حدّ المرتد ، ح 53.
3- انظر الوسائل 28 : 346 ، باب 10 من أبواب حدّ المرتدّ ، ح 22.
4- التغابن : 2.
5- الشورى : 49.
6- « ل » : « كون » بدل : « فرض وجود ».
7- « ل » : نعم لو.

لا يضرّه الأفراد الفرضية ، فبالعموم يتمسّك في كون الموجودين مقصّرين.

وما قد يقال - بأنّ الوجه أنّ الحكم بوجود القاصر في الخارج فإنّ جملة من الكفّار الساكنين في البلاد النائية عن الإسلام ربّما لم يقرع سمعهم اسم ، الإسلام أو مع إسماعهم (1) لم يحتملوا عدم (2) حقّية طريقهم بعد رسوخهم فيما وجدوا عليه آباءهم وكثيرا ما (3) نجد آحادا منهم ليس لهم قوّة تمييز (4) الحقّ عن الباطل ، فكيف يتأتّى القول بأنّ كلّ كافر موجود في الخارج مقصّر - مدفوع بأنّ من المحتمل بل قد يقال : من الواجب أن يكون لهم في آن من الآنات التفات إلى الحقّ ، فإنّ اللّه تعالى لا يعذّب إلاّ بعد الإرسال ولو بلسان العقل ، فلم لا يجوز أن يمنّ عليه في آن من آناته بقوّة قويمة ، وسليقة مستقيمة يتمكّن بها من (5) تحصيل الحقّ ، وترك الباطل؟ وذلك ليس ببعيد.

وقد يؤيّد ذلك ما أجمعوا (6) عليه الفرقة الناجية من كفر الشاكّ والمعتقد بالخلاف ، فكلّ شاكّ كافر ، وكلّ كافر في النار ، فكلّ شاكّ في النار ، للعلم بعدم قصوره لا أنّه مع كونه قاصرا يكون في النار ، ولكن قد يتراءى من ظواهر بعض الآيات الدالّة على رفع العقاب عن ( الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ) الذين ( لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (7) وجود الواسطة بين المؤمن والكافر ، فيشكل الحكم فيما ذكرنا إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه ، فإنّ للمستضعف معنى على ما نطق به بعض أخبار (8) العترة الطاهرة ، و (9) بعض كلمات المفسّرين ، وشيء منهما لا يوافق الدعوى المزبورة.

أمّا الأوّل منهما ، فقد روى ثقة الإسلام في الكافى عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « من

ص: 297


1- « ل » : سماعهم.
2- « ش » : - عدم.
3- « ش » : - ما.
4- في النسختين : تميّز.
5- « ش » : عن.
6- والفصيح : أجمع.
7- النساء : 98.
8- « ل » : الأخبار.
9- « ل » : - العترة الطاهرة و.

عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (1).

وفيه أيضا عن أبي الحسن موسى عليه السلام أنّه كتب : « الضعيف من لم ترفع إليه الحجّة ، ومن لم يعرف الاختلاف ، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (2) فإنّ من المعلوم من سياق الخبرين أنّ المراد من الاختلاف هو الخلاف الواقع بين الفريقين ، فلا دخل له بالإيمان والكفر كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فصرّح بعضهم (3) بأنّ المراد من المستضعف (4) من لم يقدر على المهاجرة (5) مع النبي صلى اللّه عليه وآله ومن الواضح عدم ارتباطه بالكفر والإسلام ، هذا غاية ما يمكن الانتصار به لهذا القول.

ولكنّ الإنصاف أنّ المستضعف أعمّ ممّن لم يعرف الخلاف بين الفريقين وبين غيرهم من سائر المذاهب ، وورود الخبر فيهم لا ينافي عمومه لغيرهم ، وقد صرّح الإمام عليه السلام بوجود الواسطة في أخبار كثيرة :

منها : ما رواه في الكافى عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل قال : قلت : فهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة؟ فقال : « تصوم وتصلّي وتتّقي اللّه ولا تدري ما أمركم؟ » ، فقلت : قد قال اللّه تعالى : ( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (6) وأنّه لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر قال : فقال أبو جعفر عليه السلام : « قول اللّه أصدق من قولك يا زرارة أرأيت قول اللّه عزّ وجلّ : ( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (7) فلما قال : عسى؟ » قلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين ، قال : « فما تقول في قوله عزّ وجلّ : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ ...؟ » ) الآية فقلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو

ص: 298


1- الكافى 2 : 405 - 406 ، باب المستضعف ، ح 7 و 10 ؛ البحار 69 : 162 ، باب 102 ، ح 17 و 18.
2- الكافى 2 : 406 ، باب المستضعف ، ح 11.
3- انظر التبيان 3 : 303 ؛ مجمع البيان 3 : 132 و 170.
4- « ل » : بالمستضعف.
5- « ل » : الهجرة.
6- التغابن : 2.
7- التوبة : 102.

كافرين ، قال : « ما هم بمؤمنين ولا كافرين » ثمّ أقبل عليّ [ وقال : ] « ما تقول في أصحاب الأعراف؟ » فقلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين ، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون ، وإن دخلوا النار فهم كافرون ، فقال : « واللّه ما هم بمؤمنين ولا كافرين ، ولو كانوا مؤمنين ، لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين ، لدخلوا النار كما دخلها الكافرون ، ولكنّهم قوم قد استوى (1) حسناتهم وسيّئاتهم ، فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم لكما قال اللّه عزّ وجلّ » فقلت : أمن أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟ فقال : « اتركهم كما تركهم اللّه » فقلت : أفترجئهم؟ قال : « نعم أرجئهم كما أرجأهم اللّه إن شاء اللّه أدخلهم الجنّة برحمته وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم » فقلت : هل يدخل الجنّة كافر؟ قال : « لا » قلت : فهل يدخل النار إلاّ كافر؟ قال : فقال : « لا ، إلاّ أن يشاء اللّه ، يا زرارة إنّي أقول : ما شاء اللّه ، وأنت لا تقول : ما شاء اللّه ، أما [ إنّك ] إن كبرت رجعت ، وكللت (2) عنك عقدك » (3) ، وقريب منه ما ورد في أصحاب الأعراف (4).

ومنها : ما في الكافى أيضا عن محمّد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه ، فدخل عليه أبو بصير ، فقال : يا أبا عبد اللّه عليه السلام ، ما تقول فيمن شكّ في اللّه؟ فقال : « كافر يا أبا محمّد » قال : فشكّ في رسول اللّه؟ قال : « كافر » ثمّ التفت إلى زرارة وقال : « إنّما يكفر إذا جحد » (5).

ومنها : ما فيه عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا » (6).

ص: 299


1- في المصدر : استوت.
2- في المصدر : وتحلّلت.
3- الكافى 2 : 403 ، باب الضلال ، ح 2.
4- الكافى 2 : 408 ، باب أصحاب الأعراف ، ح 1.
5- الكافى 2 : 399 ، باب الشكّ ، ح 3 ، عنه في الوسائل 28 : 356 ، باب 10 من أبواب حدّ المرتدّ ، ح 56.
6- الكافى 2 : 388 ، باب الكفر ، ح 19 ؛ الوسائل 1 : 32 ، باب 2 من أبواب العبادات ، ح 8 ، و 27 : 158 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 11.

ومنها : ما فيه عن أبي جعفر عليه السلام فيمن سأله من المستضعف ، فقال : « هو الذي لا يهدي (1) حيلة إلى الكفر ، فيكفر ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان ، فلا يستطيع أن يؤمن ، ولا يستطيع أن يكفر ، فهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان فإنّه (2) مرفوع عنهم القلم » (3).

والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (4) ، فالمستضعف هو تابع كلّ ناهق وناعق ، فالحقّ مراعاة الأصل في كلّ مقام بالنسبة إلى الشكّ الغير الخاصّة.

المقام الثاني فيما لو أمكن له تحصيل العلم بعد إفراغ الوسع وبذل الجهد على ما هو المتعارف في تحصيله هل يجوز له الاكتفاء بالظنّ ، أو لا؟ التحقيق عدم الاكتفاء بالظنّ لوجوه :

الأوّل أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ، ولا مخرج عنها إلاّ ما عرفت من الانسداد والمفروض تمكّنه من تحصيل العلم ، فلا انسداد.

الثاني : الأدلّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم المصرّحة بلفظ العلم وما يؤدّي مؤدّاه من اليقين كقوله : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (5) و « اطلبوا العلم ولو بالصين » (6) ، و « طلب العلم فريضة » (7) ونحوها ممّا (8) لا يكاد يخفى على من له خبرة بالأخبار.

الثالث : الأدلّة الآمرة بالشهادة ، فإنّها على ما صرّح به بعض أهل اللغة هو الإخبار عن علم ، وأمثال ذلك كثيرة ، فالأمر واضح.

ص: 300


1- في المصدر : لا يهتدي.
2- « ل » : فانّهم ولم ترد في المصدر.
3- الكافى 2 : 406 ، باب المستضعف ، ح 1 ، ونحوه في ح 2 و 3 ؛ البحار 69 : 157 و 159 ، باب 102 ، ح 1 و 9.
4- في النسختين : أن يحصى.
5- محمد : 19.
6- الوسائل 27 : 27 ، باب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح 20 ؛ البحار 1 : 177 و 180 ، باب 1 ، ح 55 و 657 و 2 : 32 ، باب 9 ، ح 21.
7- تقدّم في ص 294.
8- « ش » : بما.

وإنّما الكلام في حكمه الوضعي فيما لو اكتفى بالظنّ ، فنقول : لا ريب في كفره ولزوم ترتيب آثاره من عدم جواز معاشرته رطبا ونحوه فيما لو كان ظنّه بخلاف الواقع كما إذا ظنّ بعدم كونه تعالى عالما ، أو واحدا ، أو قادرا مثلا ، وأمّا فيما لو كان ظنّه مطابقا للواقع ، فالظاهر أنّ ظنّه كعدمه ، فيرجع في تحقيق حاله إلى ما قد سبق في الشاكّ ، فإن كان مع جحود ، فهو كافر ظاهرا أيضا ، وإلاّ فيعمل بالأصل حسبما يقتضيه في كلّ مقام.

الثامن ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه على القول بعدم حجّية مطلق الظنّ ، أو على القول بها بعد خروج القياس وأمثاله هل يصحّ الاستناد إلى مطلق الظنّ على الأوّل ، أو إلى القياس على الثاني بجعله جابرا لكسر دليل ، أو معاضدا له ، أو مرجّحا عند تعارض دليل لآخر (1) ، أو موهنا ، أو لا يصحّ؟

وينبغي أوّلا تمهيد مقدّمة ، فاعلم أنّ كلاّ من الجبر والتعاضد والترجيح والوهن جهة مغايرة للأخرى ، وجهة مباينة لها ؛ فإنّ الجابر : عبارة عن انضمام أمر خارجي به يصير المجبور داخلا تحت عنوان كلّي قام الدليل على اعتباره ، سواء كان له مضمون يوافق مضمون الجابر أو لم يكن له مضمون أصلا.

فالأوّل كالشهرة الفتوائية فيما لو انضمّت (2) إلى خبر بها يصير صدوره عن الإمام مظنونا على القول باعتبار الظنّ في الصدور (3) ، وذلك إنّما يصحّ فيما لو كان المستند في الفتوى عند المشهور هو ذلك الخبر ، وإلاّ فلا ملازمة بين كون المضمون مشهورا وصدور الخبر عن الإمام ، كما لا ملازمة بين القطع بالمضمون وصدوره.

والثاني كالشهرة في الرواية ؛ فإنّها جابرة للخبر فيما لو كان سنده قاصرا إلاّ أنّه لا مضمون لها ، وإنّما هو كسائر القرائن الداخلية كالأعدلية.

والمعاضد : عبارة عن عبارة (4) تطابق مضمونها مضمون الآخر سواء كان جابرا كما

ص: 301


1- « ل » : الدليل الآخر.
2- في النسختين : انضمّ.
3- « ل » : بالصدور.
4- شطب عليها في « ل ».

فرضنا ، أو لم يكن ، كما إذا كان هناك شهرة في الفتوى من غير أن يحصل منه الظنّ بصدور الخبر مثلا.

والمرجّح : عبارة عمّا به يتزايد أحد الدليلين على الآخر (1) عند تعارضهما سواء كان جابرا ، أو معاضدا ، أو لا ، أمّا الأخير ، فكالأعدلية ، فإنّها مرجّحة فقط ، وأمّا ما كان جابرا ومرجّحا كالشهرة في الرواية ، فإنّها جابرة ومرجّحة أيضا ، وأمّا ما كان جابرا ومرجّحا ومعاضدا ، فكالشهرة في الفتوى على القول بكونها من المرجّحات أيضا.

والموهن : عبارة عمّا به ينقص أحد الدليلين عن الآخر سواء كان له جهات التعاضد والترجيح والجبر بالنسبة إلى دليل آخر ، أو لا ، وربّما يتخيّل أنّ رجحان أحد الدليلين بمرجّح إنّما هو موهن بالنسبة إلى الآخر ، وليس كذلك بل الموهن ما به ينقص أحد الدليلين المفروض تساويهما عن الآخر ، وأين هذا عن زيادة الآخر عليه.

نعم ، فيما إذا اجتمع الوهن والترجيح في دليلين بأن كان أحدهما موهنا بواسطة شذوذه مثلا ، والآخر مشهورا في الرواية ، فعدم تقدّمه على الراجح إنّما يستند إلى كونه موهونا ، فإنّ عدم المعلول في العادة إنّما يستند إلى عدم المقتضي عند اجتماعه مع وجود المانع كما لا يخفى.

فظهر أنّ النسبة بين الأمور الأربعة هو التباين بحسب المفهوم ، فإنّ جهة التعاضد تغاير جهة الترجيح ، والعموم من وجه بحسب المورد ، ويظهر الوجه في الكلّ بأدنى تأمّل.

وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّ الكلام تارة يقع في الظنون التي لم يعلم حجّيتها ؛ لعدم قيام دليل عليها ، وأخرى في الظنون التي قام الدليل على عدم حجّيتها بعد أنّ الأصل عدم الاعتداد بها جميعا ؛ لأنّ الانجبار والتعاضد وأخويه من الآثار الشرعية ، وما لم يقم دليل قطعي عليها الأصل يقتضي عدمها ، فلنذكر كلّ واحد منها في مقام :

ص: 302


1- « ل » : - على الآخر.

المقام الأوّل في أنّ الظنّ الذي لم يعلم اعتباره يمكن أن يكون جابرا للسند فيما إذا كان الكسر فيه أو للدلالة أم لا؟ ففيه جهتان :

الأولى في الجبر في السند ، فنقول : إنّ الظنّ المطلق - على القول بعدم حجّيته كالشهرة في الفتوى مثلا - إنّما يصير جابرا فيما لو كان المجبور به يصير داخلا تحت عنوان يثبت حجّيته نوعا مثلا ، لو قلنا بأنّ الخبر الموثوق به حجّة ، فإن وجدنا خبرا كذلك ، فلا كلام ، وإلاّ فإن انضمّ إليه شهرة فتوائية أو روائية - بحيث يحصل الوثوق بصدور الخبر عن الإمام - فهو حجّة أيضا باعتبار انجباره بها ، وإلاّ فلا حجّية فيه ، ولا ينافي ذلك عدم حجّية الشهرة في نفسها ، فإنّه لا اعتماد عليها حينئذ بل إنّما هي محقّقة لموضوع هي الحجّة ، ومحصّلة لمصداق قام الدليل على اعتباره عموما بخلاف ما لو قلنا بحجّية خبر العادل ، فإنّ الشهرة في الفتوى لا دخل لها في عدالة الراوي التي بها أنيطت الحجّية ، فالمعيار في الانجبار هو حصول مصداق الحجّة بعده ، فإن حصل فيصحّ ، وإلاّ فلا يصحّ ، هذا فيما إذا (1) قلنا بعدم حجّية الظنّ المطلق ، وأمّا على القول به ، فالشهرة هي بنفسها حجّة لا جبر فيها إلاّ على ما يراه السيّد الطباطبائي رحمه اللّه من عدم حجّية الشهرة لقيام الشهرة على عدم حجّيتها (2) ، فإنّه بعد انضمام الشهرة إلى الخبر يخرج عن مورد الشهرة في المسألة الأصولية ؛ إذ الشهرة لو لم تقم على حجّية الخبر المنجبر بالشهرة ، فلا أقلّ من عدم قيامها على عدم حجّيته ، فلا يخفى أنّ في إطلاق الانجبار في المقام نوع تسامح كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فالجبر في السند وعدمه إنّما يختلف بحسب اختلاف المذاهب في أخبار الآحاد ، فإن قلنا بحجّيتها من حيث الظنّ بالصدور ، فيصحّ الانجبار ، وإن قلنا بأنّ خبر العادل حجّة ، فلا يعقل الجبر كما إذا قلنا بأنّ الظنّ الحاصل من الخبر بالحكم الواقعي

ص: 303


1- « ل » : - إذا.
2- انظر القوانين 1 : 377 ؛ هداية المسترشدين : 416.

حجّة ، فإنّه لا معنى للانجبار ؛ إذ الشهرة مثلا إن أفاد [ ت ] الظنّ ، فإنّما هو من جهة إفادته بنفسها ، والخبر بعد الانجبار لا يصير مفيدا للظنّ بالحكم الواقعي ، لعدم الملازمة بينهما كما لا يخفى ، فإنّ الجبر إنّما يتصوّر في دليل ثبت حجّيته نوعا مع فقد بعض شرائطه على وجه به يصير واجدا له ، داخلا تحت عنوان الدليل كما عرفت ، والظنّ الحاصل من الشهرة لا ربط له بالظنّ الحاصل من الخبر كما هو واضح لا سترة عليه.

الثانية في الجبر في الدلالة بعد أن كانت قاصرة ، وقد يستشكل في قصور الدلالة حيث إنّ اللفظ لو لم يكن دالاّ كما إذا كان مجملا لتردّده بين معاني المشترك مثلا ، فلا وجه للجبر ؛ إذ بالشهرة لا يصير اللفظ دالاّ ، وداخلا تحت عنوان الدليل ؛ لعدم الارتباط بينهما ، ولو كان دالاّ ، فلا حاجة إلى الانجبار ؛ لأنّ القرائن المعتبرة في الدلالة - سواء كانت صارفة أو معيّنة - لا بدّ من كونها حجّة فيما يفيدها عرفا أو شرعا إلاّ أنّه على الأخير يقتصر في مجاري استعمالاته خاصّة في وجه ، فاللفظ لو اقترن بها ، فدلالته واضحة - سواء كان مشتركا أو غيره - وإن لم يقترن بها ، فلا عبرة به أصلا ، فلا واسطة بين دلالة اللفظ وعدمها حتّى يقال بالقصور ، لكنّه قد يتصوّر القصور على بعض الوجوه ، فتارة من حيث القصور في مقتضى الدلالة كما في الإشعارات والمفاهيم التي يتخيّل ظهورها كمفهوم الوصف مثلا ، فإنّ التعليق على الوصف يشعر بالعلّية ، وأخرى من حيث تخيّل وجود المانع عن الدلالة بعد إحراز المقتضي كما في العامّ المخصّص بتخصيصات عديدة ، فإنّه قد يتوهّم قصور دلالته فيما عدا الأفراد الخارجة نظرا إلى كثرة التخصيص على وجه يتخيّل ممانعتها لدلالته عليها ، وكيف كان ، فالمستفاد من مطاوي كلماتهم انحصار موارد الانجبار في ثلاثة :

الأوّل : حمل اللفظ على معنى غير معهود استعماله فيه بغير قرينة صارفة أو معيّنة.

الثاني : ترك المعنى المتعارف استعمال اللفظ فيه حقيقة أو مجازا من غير ما يقتضيه لفظ.

ص: 304

الثالث : إقدام على إعمال دليل موهون فيما يتوهّم وجود المانع عنه كما إذا كان عامّا نالت يد التخصيص إليه كثيرا ، وعلى التقادير ، فالجابر تارة فهم المشهور من اللفظ بعد استنادهم إليه ، وأخرى قيام الشهرة منهم موافقا لأحد الوجوه الثلاثة من غير استنادهم في فتاويهم إلى اللفظ.

فعلى الأوّل لا وجه للانجبار فيما إذا حمل اللفظ على معنى غير متداول الاستعمال فيه ؛ لأنّ الأصول اللفظية بعد قيام الدليل على اعتبارها كالأصول العملية لا يقاومها إلاّ ما ثبت كونه معتبرا ، والمفروض عدم ثبوت اعتبار فهم المشهور في قبال أصالة الحقيقة مثلا ، وكما أنّ أصالة البراءة لا تزيلها الشهرة ، فكذا أصالة الحقيقة لا تدفع بأمثالها.

فإن قلت : إنّ استناد المشهور إلى رواية غير ظاهرة الدلالة على ما أفتوا به يكشف عن قرينة قائمة دالّة عليه دلالة واضحة تامّة كما أنّ الشهرة فيما إذا انعقدت على فتوى تكشف عن أمارة دالّة عليه عند المشهور.

قلت : لا كلام فيما إذا كشفت (1) عن القرينة كشفا قطعيا ، فإنّه ليس وراء عبّادان قرية ، وإنّما الشأن فيما إذا كان ظنّيا ، فإنّ مرجع الظنّ بإرادة المعنى الذي فهمه المشهور إلى الظنّ بوجود القرينة ، ولا دليل على حجّية الظنّ كما هو المفروض سيّما بعد دلالة الأصول التعبّدية بخلافه ، هذا فيما إذا حمل اللفظ على معنى غير متعارف استعماله فيه.

وأمّا إذا ترك المعنى المتعارف بعد إعراض المشهور عنه فإن قلنا بأنّ الدليل الدالّ على حجّية الظواهر يعمّ ما إذا كان المشهور على خلافها أيضا ، فلا عبرة بالشهرة لعين ما عرفت آنفا ، وإلاّ يعوّل بعدم حجّية الظواهر بعد إعراض المشهور ، ولك إرجاع هذا القسم إلى القسم الأوّل كما لا يخفى.

وأمّا الإقدام على إجمال الدليل بعد ضعفه لاحتمال وجود المانع ، فلا نضايق القول

ص: 305


1- « ش » : انكشفت.

بأنّ الشهرة واستناد الأصحاب إليه يوجب كسر جبره ، فيصحّ التعويل عليه كما ترى في عمومات كثيرة مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) و « لا ضرر » ونحوهما إلاّ أنّه لا يخفى عدم تحقّق الجبر حقيقة في المقام ؛ لأنّ الجبر على ما عرفت ينبغي أن يكون بوجه يوجب اقتضاء المقتضي ، أو رفع المانع منه ، وفي المقام ليس شيء منهما.

أمّا الأوّل ، فواضح.

وأمّا الثاني ، فلأنّ كثرة التخصيص مثلا لو كان (2) على وجه يوجب إجمال اللفظ في محلّ الاستدلال ، فلا شكّ أنّ الشهرة بعد عدم اعتبارها لا تصير قرينة معيّنة ؛ لأنّ كون الشيء قرينة يحتاج إلى دليل قطعي عرفا أو شرعا والمفروض انتفاؤه ، وإلاّ فلا وجه لإهماله وللاستناد إلى فهم المشهور.

نعم ، ربّما يحدث في النفس نوع حزازة عند التمسّك به فيما لم يستند إليه المشهور ، وبعد الاستناد يكشف عن عدم الحزازة واقعا ، فيطمئنّ النفس عند التمسّك به كما لا يخفى ، ومنه يظهر الحال على التقيّد الثاني بأقسامه الثلاثة ، فتدبّر. هذا هو الكلام في الجبر بظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل.

وأمّا الجبر بما قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس عند من لا يرى حجّية مطلق الظنّ ، فالحقّ أنّه لا يصلح له ؛ لأنّ المستفاد من أخبار القياس ولو بعمومها وإطلاقها عدم جواز الركون إليه مطلقا وعدم ترتّب حكم شرعي بواسطته ، فإنّه عليه السلام قال : « من قاس شيئا من الدين ، قرنه اللّه مع إبليس في جهنّم » (3) ولا شكّ أنّ الجبر ممّا ترتّب عليه أثر شرعي ، كيف والمعلول إنّما يستند في العادة إلى الأخير من أجزاء علّته التامّة ، فالحكم المستند إلى المجبور بالقياس إنّما يتمّ بعد انجباره به ، فالاستناد إليه حقيقة سواء كان في جبر السند أو الدلالة.

ص: 306


1- المائدة : 1.
2- كذا.
3- الوسائل 27 : 47 ، باب 6 من أبواب صفات القاضي ، ح 26.

أمّا الأوّل ، فلأنّ القياس في واقعة النبيذ والخمر مثلا لا ربط له بصدور خبر النبيذ عن الإمام إلاّ بعد حصول الظنّ منه بأنّ النبيذ أيضا حرام قياسا على الخمر وهو يلازم الظنّ بصدور خبر عن الإمام يطابق مضمون القياس نظرا إلى أنّ الحكم في كلّ واقعة مثلا صادر عنهم ، والظنّ بصدور الخبر عن الإمام إنّما نشأ من الظنّ القياسي ، وإعماله يوجب إعمال القياس.

فإن قلت : القدر المتيقّن من الدليل هو عدم جواز الأخذ بالظنّ الحاصل من القياس بنفسه من غير واسطة ، ولا دليل على بطلان ما يتولّد منه ، فيصحّ التعويل عليه.

قلت : ذلك مجرّد تغيّر في العبارة مع العلم باتّحاد المطلب ؛ لأنّ المستند إلى المستند إلى الشيء مستند إلى ذلك الشيء سيّما بعد الإطلاق في منع العمل به ، ولو كان كما زعم ، لصحّ (1) التعويل عليه عند القائل بحجّية الظنّ مطلقا في نفس الأحكام الشرعية ؛ لأنّ قياس النبيذ على الخمر يكشف كشفا ظنّيا عن وجود خبر عن المعصوم كما في الإجماع المنقول ، أو الشهرة على تقدير الكشف ، مع أنّ من المعلوم عدم جواز الاستناد إليه عند الكلّ ، وبالجملة ، فالأمر واضح.

وأمّا الثاني ، فالأمر فيه واضح بعد ما عرفت من عدم الانجبار بالظنّ الذي لم يقم دليل على اعتباره بجميع أقسامه حتّى القسم الأخير كما عرفت من حرمة الاستناد إليه مطلقا ، وأمّا على القول بحجّية مطلق الظنّ ، فلا يعقل جبر القياس بشيء ؛ إذ بالقياس في واقعة النبيذ يصير الخبر الدالّ على حرمته مظنون الصدور إلاّ أنّه لا يفيد ظنّا آخر بعد ما صار نفس الحكم المدلول عليه بالخبر مظنونا ؛ لامتناع تحصيل الحاصل.

المقام الثاني في أنّ الظنّ على احتماليه يمكن أن يكون موهنا لدليل على وجه يخرجه عن الحجّية ، أو لا؟

ص: 307


1- « ل » : يصحّ.

فنقول : أمّا الظنون التي لم يعلم عدم اعتبارها كالشهرة وأضرابها ، فكونها موهنة للأدلّة الشرعية على القول بالظنون الخاصّة تبع عدم شمول الدليل الدالّ على حجّيتها لها وشمولها بعد ملاحظة الموهن ولحوقه لها ، فإن كان الدليل شاملا ولو بإطلاقه ، فلا عبرة بوجود الموهن وإن لم يكن شاملا لها.

إمّا لانتفاء موضوع الدليل بعد ما قام الدليل على اعتباره على تقدير وجود الموضوع كما في آية النبأ على تقدير دلالتها على حجّية الخبر الموثوق به فيما لو ارتفع الوثوق عنه بملاحظة الموهن مثل إعراض المشهور.

وإمّا لانتفاء أصل الدليل الدالّ على الحجّية كالإجماع على حجّية الصحيح مثلا على تقدير إعراض المشهور عن الرواية ، فيصير الظنّ كالشهرة موهنا.

وتوضيحه : أنّ الدليل الدالّ على حجّية أخبار الآحاد لا تخلو إمّا أن يكون هو العقل كبعض الوجوه العقلية التي تقدّم ذكرها في عداد الأدلّة على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ، وإمّا أن يكون هو الإجماع ، وإمّا أن يكون الأخبار المتواترة أو الآيات.

فعلى الأوّل لو كانت الشهرة القائمة على خلاف مضمون الخبر مفيدة للظنّ الشخصي أو مزيلة للظنّ الحاصل من الخبر لولاها ، فلا إشكال في كونها موهنة ؛ لأنّ العقل إنّما دلّ على حجّية الأخبار في سلسلة مظنوناتها ، وعند انعزالها عن الظنّ لا دليل على حجّيتها.

وعلى الثاني ، فيتبع المجمع عليه ، فلو كان المجمع عليه هو الخبر الموثوق به مثلا ، فبعد إعراض المشهور لا يبقى الإجماع في وجه أو الوثوق في وجه آخر ، وإن كان قد يمكن دعوى الإجماع على تقرير إعراض المشهور مثلا إلاّ أنّ الوثوق غير باق بعد ذلك ، ولو كان المجمع عليه هو الخبر الصحيح ، لا يضرّه انعقاد الاستقراء مثلا على خلافه ، كما أنّه لا يوهنه نقل الإجماع على خلافه فيما لو فرضنا تطابقه بالشهرة.

ص: 308

وعلى الثالث ، فيتبع المدلول الحاصل من الأخبار والآيات ، فلو كان مدلولها حجّية مطلق الخبر ولو فيما خالفه الشهرة ولو فيما لم يفد الظنّ ، فلا معنى للتوهين وإن انعقد الشهرة المفيدة للظنّ على خلافه.

وبالجملة ، فالأمر في الموهن على خلاف الجبر ، فكما لا يشمل الدليل بعد لحوق الوهن لدليل على وجه يخرج عن موضوع الدليل ، أو ينتفي الدليل عنه فيصير موهنا ، وإلاّ فلا ، والصغريات في ذلك مختلفة كما عرفت.

وأمّا على القول بحجّية الظنّ المطلق ، فلا يتصوّر للتوهين محلّ ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في توهين الظنون التي لم يقم على اعتبارها وعدم اعتبارها دليل ، وبعبارة أخرى في توهين الظنون المشكوكة ، وبناء على القول بحجّية مطلق الظنّ لا يكون هناك ظنّ مشكوك ؛ لاندراجه تحت ما دلّ على حجّية مطلق الظنّ لو كان ممّا لم يقم دليل على عدم حجّيته هذا هو الكلام في الظنون المشكوكة.

وأمّا الكلام في توهين الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها كالقياس ونحوه ، فتوضيحه أن يقال : إنّ هاهنا وجوها بل يمكن أن يقال أقوالا :

أحدها : أن يكون موهنا مطلقا سواء قلنا بالظنّ المطلق ، أو الخاصّ.

وثانيها : أنّه لا يكون موهنا مطلقا.

وثالثها : التفصيل بين ما كان لوصف الظنّ مدخل فيه موضوعا كالظنّ المطلق ، أو جزء موضوع كالخبر المفيد للظنّ ، وبين غيره كالتعبّديات مثل الأصول العملية.

ورابعها : التفصيل بين القول بالظنّ الخاصّ ، فيصير موهنا ، والقول بالظنّ المطلق ، فلا يصير موهنا.

ويمكن أن يستند من يرى أوّل الوجوه بأنّ حجّية كلّ دليل - سواء كان ممّا قام القاطع على حجّيته بالخصوص كأصالة الحقيقة في الدلالات ونحوها ، أو ممّا يندرج في مطلق الظنّ على القول به - موقوف على عدم قيام ظنّ بخلافه مطلقا سواء كان من

ص: 309

الظنون المعتبرة ، أو المشكوكة ، أو الغير المعتبرة كما يراه بعضهم في الظنون الدلالية التي هي أقوى الظنون الخاصّة على ما حكاه بعض مشايخنا ، وبعد ما قام الظنّ القياسي بخلافه يرتفع موضوع الحجّة ، فليس بمعتبر حينئذ.

فإن قلت : إنّ الظنون الغير المعتبرة كالقياس ونحوه إنّما هي ملغاة (1) بحكم الأدلّة الدالّة على عدم جواز الركون إليه والاعتماد عليه ، وترك الدليل بواسطة القياس إنّما هو ركون إليه ، فلا يصحّ ترك أصالة الحقيقة ، أو الخبر الصحيح أو الشهرة نظرا إلى قيام ظنّ قياسي بخلافها.

قلت : الأدلّة الناهضة على حرمة الاستناد إليه إنّما تنهض دليلا بالنسبة إلى جعله مرآة للحكم الواقعي ، وكاشفا عنه كما في العلم والظنّ المطلق على القول به ، وأمّا الآثار المترتّبة على موضوعية الظنّ الحاصل من القياس ، فهي آثار عادية أو عقلية ، ولا ربط للأدلّة الشرعية بها نفيا وإثباتا ، مثلا لو فرضنا موضوعية الخبر لحكم كما في أحكام العدّة للمرأة الغائب عنها زوجها ، فلا يلاحظ في الخبر صحّته وضعفه مثلا بل المدار على مجرّد صدق الأخبار ، فتحسب العدّة من حين صدور الخبر بعد العلم بموت الزوج.

وبالجملة ، فاختلاف أحكام الظنّ والعلم موضوعا ومرآة ممّا لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، فلو نذر واحد إعطاء دينار لمن ظنّ بالحكم الفلاني ، يجوز إعطاؤه لمن ظنّ بواسطة القياس وإن كان الظنّ الحاصل منه غير معتبر في مقام الكشف والمرآتية ، فعلى هذا نقول : إنّ الظنّ المأخوذ عدمه في الدليل عند هذا القائل إنّما هو معتبر على جهة الموضوعية بعد قيام الظنّ مطلقا على خلافه سواء في ذلك القياس وغيره.

ومنه يظهر وجه التفصيل بين ما أخذ الظنّ في دليله موضوعا ، أو جزء موضوع ، وبين غيره من الأدلّة التعبّدية ، فإنّ الأدلّة التعبّدية لا تناط بالظنّ مطلقا على تقدير

ص: 310


1- « ل » : متلقاة ( ظ ).

دلالة دليل عليها بخلاف غيرها ، فإنّ حصول الظنّ من القياس مثلا ينافي حصول الظنّ من الخبر ، أو الشهرة ، فمناط الحجّية منفيّ فيهما على تقدير قيام الظنّ القياسي بخلافها كما لا يخفى.

ويظهر وجه التفصيل بين الظنّ الخاصّ ومطلق الظنّ في طرف الإثبات في مطلق الظنّ ، فإنّ قيام القياس بخلافه يوجب انهدام أساسها من حيث الظنّ ؛ لامتناع تعارض الظنّين وقيامهما على النقيضين ، وبعد ما فرضنا حصول الظنّ (1) من القياس يمنع حصوله من الشهرة ، فيسقط عن الحجّية بسقوط مناطها.

وأمّا وجه هذا التفصيل في جانب النفي هو أنّ الظنّ وإن أخذ على جهة الموضوعية ظاهرا في الظنون الخاصّة إلاّ أنّه أيضا لا يخلو عن حيثية المرآتية والكاشفية واقعا ، فإنّ المناط في عدم جعل الظنّ معتبرا في حجّية دليل شرعا إنّما هو عدم انكشاف خلاف مدلوله بذلك الظنّ ، وبعد ما علمنا بأنّ انكشاف القياس ونحوه عن الواقع ممّا لا يجدي في الانكشاف شرعا ، ولا يجوز التعويل عليه ، نحكم بعدم كونه موهنا أيضا ، مثلا لو قلنا بحجّية الخبر فيما لو لم يقم ظنّ على خلافه ، فإنّما اشترطنا هذا الشرط من حيث عدم انكشاف حال الخبر بالظنّ القائم على خلافه ، فلو علمنا بعدم اعتبار انكشاف ظنّ شرعا ، فلا بدّ من الأخذ بالخبر وعدم الاعتناء بكشف هذا الظنّ.

وبالجملة ، فموضوعية الظنّ في أمثال المقام مرجعه إلى اعتباره مرآة لحال ما اشترط انتفاؤه فيه.

وقد يتخيّل القائل بالتوهين مطلقا حتّى بالنسبة إلى الظنون المطلقة جريان هذا الكلام بعينه في الظنون المطلقة ، فيشكل الأمر عليه من حيث إنّ الحجّة الشرعية على ما يراه هو الظنّ الحاصل من الأمارة المشكوكة ، وبعد انعزاله عن الظنّ فالعقل لا يلتزم باعتباره ، مثلا لو فرضنا قيام شهرة خالية عن المعارض ، مفيدة للظنّ في محلّ

ص: 311


1- « ش » : الظنّ الشهرة.

انعقادها ، وشهرة أخرى معارضة بالقياس ، خالية عن الظنّ في موردها - بناء على ما تخيّله - لا بدّ وأن يكونا في نظر العقل متساويين بدعوى أنّ العقل يحكم بحجّية الظنون الشخصية وإلقاء الظنون النوعية فيما لم يكن زوال ظنّها بواسطة معارضة القياس ، وأنّى له بإثبات هذا المطلب؟ فدونه خرط القتاد.

وبالجملة ، فقد يتخيّل عدم توهين القياس للظنون المطلقة نظرا إلى أنّ العقل بعد علمه بحال القياس - من أنّه لا شيء أبعد في دين اللّه من عقول الرجال - لا يبالي بمخالفة القياس ولو كان الظنّ فيه ، ويعمل بالظنّ النوعي زاعما تساويه مع الظنون الشخصية وهو بمحلّ من البعد.

وكيف كان ، فأقرب الوجوه هو التفصيل بين الظنون المطلقة والظنون الخاصّة ، فيقال بالتوهين في الأوّل ؛ لعدم (1) تعقّل عدمه فيها كما عرفت ، وبعدمه في الثاني لما عرفت أيضا من أنّ أخذ الظنّ في موضوع الدليل إنّما هو من باب التأييد وعدم كشف خلافه.

مضافا إلى رواية أبان بن تغلب (2) ، فإنّ الملاحظ في سياقها يرى تعرّض الإمام فيها من حيث إنّ الراوي ترك الرواية في قبال القياس وإن كان قد يحتمل أن يكون بواسطة معارضة الراوي له كما يستفاد من قوله عليه السلام : « إنّك قد أخذتني بالقياس » وقد يحتمل أيضا أن يكون بواسطة ترك التسليم الوارد في وجوبه أخبار كثيرة حتّى أنّ جملة منها دلّت على كفر الرادّ صريحا ، فإنّه لمّا قال : ونحن كنّا بالعراق ونقول إنّ من جاء به الشيطان ، تعرّض الإمام من عدم تسليمه للرواية ، لكنّه لا يبعد دعوى ظهور مساقها في الأوّل على أنّ السيرة المستمرّة من العلماء الأعلام في كلّ الأمصار ، في جميع الأعصار ، على العمل بإخبار الواحد المعارض بالقياس ، ولم يذكر أحد منهم اشتراط العمل به بالفحص عن الموهن القياسي كما اشترطوا بالفحص عن غيره والفحص عن

ص: 312


1- « ل » : بعدم.
2- تقدّم في ص 25.

المعارض ، فإنّه لا فرق بين الموهن والمعارض من جهة لزوم الفحص عنه ، ولا بين أقسام الموهن ، فلو كان مخالفة القياس للخبر موهنا له ، كان عليهم أن يشترطوا بالفحص عنه ، فالقياس وجوده كعدمه على القول بالظنون الخاصّة.

وأمّا القائلون بالظنون المطلقة ، فيحتمل أن يستندوا في العمل بالأمارة الموهنة بالقياس بجعل القياس في قبال الأدلّة الأخر مثل الاستصحاب في قبال الأدلّة الاجتهادية بناء على حجّيته من باب الوصف ؛ إذ به يشكل عليهم تقدّم الخبر الواحد عليه بناء على هذا القول ، لكنّه يمكن التفصّي عنه بأنّ سائر الأدلّة مقدّمة عليه إجماعا إلاّ أنّه خلاف الفرض كما لا يخفى.

المقام الثالث في التعاضد لا خفاء في حصول التعاضد بالنسبة إلى جميع الظنون سواء كان من الظنون المطلقة ، أو غيرها ممّا قام القاطع على عدم اعتباره ، ولا ضير فيه إلاّ أنّه لا يثمر في شيء ، إذ الاستناد حقيقة إنّما هو إلى الدليل الذي وافق الظنّ ، وحصوله ممّا لا مدخل له في الحكم ، ولذا تراهم يذكرون الوجوه الاعتبارية في عداد الأدلّة بعد إحكام المقصود بالتمسّك إلى دليل معلوم الاعتبار.

نعم ، قد يثمر فيما إذا فرضنا أوله إلى جبر دلالة ، أو سند ، أو توهين ، أو ترجيح فيعلم الحكم فيه ممّا مرّ وسيجيء إن شاء اللّه.

المقام الرابع في الترجيح ، فتارة بالظنون التي لم يقم دليل على عدم اعتبارها ، وأخرى بما قام القاطع على عدم اعتباره (1) ، فنقول أوّلا : لا شكّ أنّ الأصل عدم جواز الترجيح بما لم يدلّ دليل على جواز الترجيح به على نحو ما قرّرنا الأصل في حجّية الظنّ من لزوم التشريع في وجه ، وطرح الأصول القطعية في آخر سواء قلنا بأنّ الترجيح هو اختيار المكلّف أحد الدليلين المتعارضين ، أو قلنا هو تشريع إنشاء المكلّف تقدّم أحد الدليلين في مقام التعارض للمكلّفين.

ص: 313


1- « ل » : اعتبارها.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ التعبّد بأحد الدليلين من المكلّف إمّا بواسطة المرجّحات الحاصلة في نظره من المصالح النفسانية ، وإمّا بواسطة المرجّحات المجعولة الشرعية ، ولا ثالث في البين ؛ لانحصار وجه صدور الفعل عن الفاعل فيهما ، والمفروض انتفاء الثاني ، وعدم دليل على كفاية الأوّل.

وأمّا على الثاني ، فللزوم العبث عليه تعالى ؛ فإنّ الشيء ما لم يجب في نظر الفاعل ، لم يوجد في الخارج ، فالأصل بمعانيه عدم جواز الترجيح بالظنّ بمعانيه إلى أن يدلّ الدليل على جوازه ، فلا يذهب عليك بأنّ الترجيح إنّما يتصوّر في الأدلّة عند من يرى حجّيتها من باب الظنون النوعية.

وأمّا على القول بحجّية الظنّ الحاصل من الخبر ، أو مطلق الظنّ ، فالترجيح غير معقول ؛ لأدائه إلى انتفاء التعارض بعد امتناع قيام الظنّ على طرفي الخلاف ، والتعارض إنّما يتحقّق بين الدليلين ، فانضمام المرجّح إلى أحدهما يخرج الآخر عن الحجّية وقد مرّ فيما سبق أنّ تسمية هذا موهنا أولى من تسميته مرجّحا ؛ إذ عدم المعلول مستند إلى عدم المقتضي عادة مع اجتماعه لوجود المانع كما لا يخفى.

ولنقدّم الكلام في الظنون التي قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس (1) ؛ لقلّة أبحاثه ، فنقول :

الحقّ وفاقا للمعظم عدم كونه مرجّحا ، وعدم جواز الترجيح به ؛ لإطلاق الأدلّة الناهية عن استعمال القياس في الشريعة ، فإنّ الأخبار في ذلك قد تواترت عن أئمّتنا الأطهار عليهم السلام كما يشاهد ذلك بعد المراجعة إلى مظانّها ، وفي بعضها : « ليس على ديني من استعمل القياس » (2) ولا سبيل إلى منع الاستعمال بالنسبة إليه في مقام الترجيح نظرا إلى أنّ العمل به إنّما هو فيما إذا كان المستند في الحكم والفتوى هو القياس بنفسه ، وأمّا إذا

ص: 314


1- قارن هذا المبحث بمبحث الترجيح بالقياس في التعادل والترجيح : ج 4 ، ص 636 وما بعدها.
2- الوسائل 27 : 45 ، باب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح 22.

كان الدليل هو الخبر المقدّم على مثله بواسطة القياس ، فلا يصدق العمل به ، فإنّ العمل والاستعمال يعمّ ما إذا كان الحكم مستندا إليه ، أو كان له دخل فيه ؛ إذ العمل هو مطلق الاستناد ، على أنّ الحكم في الواقعة إنّما هو مستند إليه ؛ لما تقرّر في العادة من استناد الحكم إلى الأخير من أجزاء علّته ، وظاهر أنّ وجوب صلاة الجمعة المدلول عليه بخبر معارض بمثله إنّما يستند إلى الخبر بعد ترجيحه على الآخر بالقياس سواء كان القياس شرطا ، أو شطرا.

مضافا إلى أنّ الحكم في المسألة الأصولية - وهو تقديم أحد الخبرين المتعارضين على الآخر - إنّما هو مستند إلى القياس مستقلاّ من غير مدخليّة شيء آخر فيه.

وبالجملة ، فالقول (1) بأنّ الترجيح بالقياس يخالف العمل به منشؤه قلّة التدبّر ، وسوء الفهم ، والأخبار عن السادة الأطهار حجّة عليه ، ولو لا إلاّ انعقاد إجماعنا على ترك الترجيح به في العمل ، لكفى ؛ فإنّ سيرتهم المستمرّة الكاشفة القطعية على ترك التعويل عليه والركون إليه مطلقا حتّى في مقام الترجيح ، ويكشف عن ذلك عدم تعرّضهم في كتبهم الأصولية لأقسام القياس وأحكامه وطرقه ، ولو كان القياس ممّا يؤثّر في الترجيح عندهم ، كان عليهم - كما على الفرقة الهالكة - بيان ما يتعلّق به على حذو سائر المسائل ، ولقد شاع ذلك بينهم إلى حدّ لا ينكر.

نعم ، أورد المحقّق في المعارج ما يدلّ بظاهره على وقوع الخلاف فيه حيث قال : وذهب ذاهب إلى جواز الترجيح به نظرا إلى أنّ القياس إنّما كان منشأ لطرح الآخر لا موجبا للعمل بما يوافقه (2).

وفساد القول بهذا ممّا لا يكاد يخفى ؛ فإنّه إن أراد أنّ بعد موافقة القياس لأحد الخبرين وحصول الظنّ في طرفه ، فيطرح المعارض الآخر لابتنائه على الظنّ موضوعا ،

ص: 315


1- انظر الفصول : 445.
2- معارج الأصول : 261 - 262 نقلا حاصل كلامه ، ثمّ قال المحقّق : وفي ذلك نظر. وسيأتي كلامه بتمامه في ج 4، ص 636 - 637.

أو جزء موضوع ، فقد نبّهنا أوّلا بأنّ الترجيح إنّما يتأتّى على مذاق القائل بالظنون الخاصّة لا من حيث الظنّ كما عرفت ، وإن أراد أنّ الاستناد إلى القياس لا يصدق فيما إذا طرحنا المعارض بل يشخّصه صدق الاستناد في الاعتماد عليه في مقام الأخذ بموافقه ، أو به نفسه ، فظاهر البطلان ؛ إذ هو عين القول بالقياس فالأخبار حجّة عليه.

فإن قلت : إنّ الأخبار لا تمنع من ترتيب آثاره العقلية أو العادية وحصول الترجيح منه إنّما هو منها كما في غيره من الظنون ، فإنّ الخبر المظنون صدوره دليل قطعا مثلا ، والقياس محصّل لمصداق ما هو الحجّة ، ومحقّق لموضوع الدليل ، فلا ركون إليه حقيقة.

قلت أوّلا : قد عرفت فيما سبق أنّ الظنّ بصدور الخبر إنّما هو (1) بعد حصول الظنّ من القياس بالحكم ، فهو حقيقة مستند إليه لا إلى الخبر كما مرّ.

وثانيا : أنّه خروج عمّا نحن بصدده من الترجيح ، فإنّه إنّما يتصوّر فيما إذا كان المتعارضان حجّتين حتّى في حالة التعارض ، وإلاّ فغير الحجّة لا يعارض الحجّة وإن كان قد زعم بعض من لا تحقيق له اختصاص الأدلّة الدالّة على حجّية المتعارضين بغير صورة التعارض ، فإنّه ظاهر السقوط ؛ إذ التعارض إنّما هو من باب تزاحم الحقوق كما إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين ، فإنّ وجوب الإنقاذ بالنسبة إلى كليهما عقلا وشرعا باق ، وحيث إنّ الجمع بينهما والعمل بكلّ منهما غير ممكن ، فلا بدّ من الترجيح ، فعلى هذا نقول : إنّ بعد ما صار أحد الخبرين بواسطة القياس مظنون الصدور ، صار الآخر موهوما ساقطا عن درجة التعارض ، فلا ترجيح ؛ على أنّ قياس القياس بسائر الظنون مع الفارق ؛ لإمكان القول بترجيح ما عدا القياس لأحد المتعارضين من حيث قيام دليل على جواز الترجيح به عقلا أو نقلا كما سيجيء بخلاف القياس ، فإنّ النقل إنّما يدلّ على خلافه ، والعقل لا بدّ (2) من تمحّل في تخصيصه بغير القياس كما في حجّيتها على ما مرّ ، ولهذا تفرّد القياس بالبحث عن وقوع الترجيح به من سائر الظنون كما

ص: 316


1- « ل » : - هو.
2- « ل » : + له ( ظ )؟

لا يخفى.

والحاصل : لا شكّ بعد التأمّل في أخبار الباب في حرمة الاستناد إلى القياس مطلقا ، ولا شكّ أيضا أنّ الترجيح بالقياس استناد إليه في الأحكام الشرعية ؛ إذ الأصل لو كان في الطرف المخالف له يستند حقيقة إليه ، وكذلك طرح (1) الخبر المخالف له بعد وجوب الأخذ به مستند (2) إليه ، والحكم في المسألة الفرعية المدلول (3) عليه بالخبر الموافق له مستند إليه لأنّه جزء الدليل ، والحكم في المسألة الأصولية - وهو وجوب الأخذ بالموافق - مستند إليه ، فالحكم بوجوب صلاة الجمعة تعيّنا إنّما هو منه ، وذلك ظاهر ، وإنّما الإشكال فيما لو أحدث القياس الظنّ في غيره كما تخيّله بعضهم ، فنقول : إنّ إحداث الوصف في الغير يتصوّر :

تارة بأن لا يكون مفيدا للظنّ مطلقا ، وإنّما اقترانه بالغير يوجب ذلك كما في القرينة ، فإنّ قولنا : « يرمي » يوجب حصول الظنّ بإرادة الرجل من الأسد من غير أن يكون القرينة مفيدة للظنّ بإرادة هذا المعنى من هذا اللفظ.

وأخرى يتصوّر بأنّ الغير والمنضمّ إليه كلاهما (4) مفيدان للظنّ بوجه يحصل من اجتماعهما مرتبة أخرى من الظنّ ، أو (5) يحصل العلم كما هو المتداول في تحصيل المتواترات.

ولا يخفى أنّ حصول المرتبة الشديدة من الظنّ ، أو العلم إنّما هو من أحكام نفس الظنّ من غير أن يكون لحيثية كشفه عن الواقع دخل في حصول العلم ، فلا كلام في حجّية العلم الحاصل من الظنون القياسية.

ومرّة يتصوّر على وجه يستند الظنّ حقيقة إلى المنضمّ إليه من غير أن يكون الغير مفيدا للظنّ ، ولا شكّ أنّ القياس ليس من قبيل القسم الأوّل في مقام الترجيح ولا من

ص: 317


1- « ل » : - طرح.
2- « ل » : مستندا.
3- « ل » : المدلولة.
4- كذا. والصحيح : كليهما. أو كلاهما مفيد.
5- « ل » : « أن » بدل : « أو ».

القسم الثاني على ما هو ظاهر ، فهو من القسم الثالث ، ولا معنى للاستناد إلى القياس إلاّ هذا كما لا يخفى.

وأمّا حصول الظنّ بصدور الخبر من القياس ، فقد عرفت الكلام فيه في الجبر. هذا هو تمام الكلام في الترجيح بما علم عدم اعتباره.

وأمّا الكلام في ترجيح الظنون المشكوكة كالشهرة وأمثالها ، فتارة يقع في ترجيح الدلالة (1) ، وأخرى في ترجيح السند فهنا مقامان :

المقام الأوّل في ترجيح الدلالة بالظنّ المطلق ، فاعلم أنّ الكلام في ترجيح الدلالة مرجعها إلى ما هو المعروف بينهم من تعارض الأحوال ، وتقديم بعضها على بعض بواسطة الظنون الخارجة عن الألفاظ ، لكنّه في تعيين المراد من اللفظ لا في تشخيص الأوضاع ، كما قد يقال بتقديم الاشتراك المعنوي على اللفظي ، أو الحقيقة على المجاز مثلا فيما لو دار الأمر بين إرادة الخاصّ من العامّ ، أو حمل الأمر على الاستحباب ، هل يصحّ تقديم التخصيص على المجاز بواسطة قيام الشهرة على التخصيص ، أو تقديم المجاز لغلبة حمل الأمر على المجاز الاستحبابي في نظائره ، أو لا يصحّ؟ فالظاهر من بعضهم عدم الاعتناء بأمثال هذه الظنون في مقام ترجيح الدلالة كما يظهر من صاحب المدارك (2) حيث قدّم الخبر الدالّ على طهارة خرء الطيور على الرواية الدالّة على وجوب الغسل عن أبوال ما لا يؤكل لحمه ؛ لاعتضاده بالأصل ، وصريح بعض آخر الاتّكال على الظنّ الخارج من اللفظ في الدلالة كالسيّد الطباطبائي في الرياض (3)(4) حيث قدّم الرواية الدالّة على وجوب الغسل على الأخرى ؛ لانعقاد شهرة الأصحاب على النجاسة مثلا.

ص: 318


1- « ش » : الدلالات.
2- مدارك الأحكام 2 : 262.
3- « ل » : كصاحب الرياض.
4- رياض المسائل 2 : 344 ، وفي ط الحجري 1 : 83.

ولا يخفى أنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما كان جهة التعارض متمحّضة في الدلالة بالغضّ عن جهة السند ؛ إذ الفرض البحث في ألفاظ الكتاب والأخبار الواردة. والحقّ عدم جواز الترجيح بها في الدلالة ؛ لعدم دليل يقضي به لا عرفا ولا شرعا.

أمّا الثاني فواضح.

أمّا الأوّل (1) ، فلأنّ المسلّم من بناء العقلاء في استخراج مطالبهم من الظنون اللفظية إنّما هو فيما لو كان الظنّ حاصلا من نفس اللفظ مادّة وهيئة ولو بمعونة القرائن - لفظية ، أو معنوية حالية أو مقالية - بوجه يوجب اقترانها باللفظ حصول الظنّ من نفس اللفظ حقيقة ، فلا عبرة بالظنّ الحاصل من الشهرة ، أو الاستقراء ، أو غيرهما ؛ لعدم استناده إلى اللفظ ، والمفروض عدم حجّية الشهرة بنفسه أيضا ، وإلاّ فلا معنى للترجيح بعد وجود الدليل ، فالشهرة حينئذ ليست مرجّحة بل هو المرجع في المقام ، فالأصل المذكور محكّم في المقام من غير ما يقضي بخلافه.

لا يقال : لعلّ قيام الشهرة على وفق أحد الاحتمالين يوجب ظهور أحد الاحتمالين (2) في نفسه بحيث يستند الظهور إلى نفسه.

لأنّا نقول : إنّا بعد إمعان النظر نعلم عدم استناد الظنّ إلى اللفظ ؛ لأنّ قيام الشهرة من العلماء لا يصلح لأن يكون قرينة لإرادة المعنى الفلاني من اللفظ حتّى يعقل حصول الظنّ منه بعد قيام الشهرة على وفقه مثلا.

فإن قلت : فلعلّ الشهرة تكشف عن قرينة صارفة عن الاحتمال المخالف لها.

قلت : العبرة بالقطع في وجود القرينة ولو كانت ظنّية ولا عبرة بالظنّ بوجود القرينة ولو كان المستكشف عنها دلالته قطعية.

وبعبارة أخرى فيكشف الشهرة عن القرينة كشفا ظنّيا ممّا لا عبرة به ولو كان

ص: 319


1- سقط قوله : « والحقّ عدم » إلى هنا من « ل ».
2- « ل » : أحدهما.

القرينة المستكشفة قطعية ، وفي الحقيقة الظنّ الحاصل بوجود القرينة مرجعه إلى الظنّ الحاصل من نفس الشهرة ؛ لما عرفت من عدم تعلّقها باللّفظ كما لا يخفى ، وإنّما العبرة بالقطع بوجود القرينة ولو (1) كانت ظنّية.

ودعوى الإجماع على حجّية مثل هذه الظنون عهدتها على مدّعيها إن أريد به المحقّق منه ، وإن أريد المنقول منه ولو على إطلاقه ، فبعد الغضّ عنه لا بدّ من ملاحظة إفادته الظنّ بحجّية هذه الظنون ، وعلى تقديره يتوقّف على حجّيته في أمثال المباحث.

وبالجملة ، فالمعتمد في مقام الدلالات هو الطرق المستعملة في استخراج المطالب واستكشاف المعاني في العادة عند أهلها ككون أحد الاحتمالين نصّا ، والآخر ظاهرا ، أو كونه أظهر من الآخر نوعا على ما قرّره في محلّه ، ولا عبرة بفهم العلماء من اللفظ مثلا معنى بعد عدم استقرار العادة على العمل به. كيف؟ وقد قلنا بأنّ فهم المشافه المخاطب ممّا يعتنى به في استكشاف المراد بعد عدم مطابقته للعرف والعادة ؛ لاحتمال ابتنائه على اجتهاد منهم ، وظهوره في الاستفادة العرفية مسلّم إلاّ أنّ الكلام في اكتفاء مثل هذا الظهور في الدلالة ، فتدبّر.

المقام الثاني في ترجيح السند بظنون غير معتبرة ، ولنفرض الكلام فيما كان التعارض ممحّضا في السند ، فإنّا مع فرض التساوي بينهما على تقدير عدمه ، أو مع التساوي حقيقة ، فقد يقال بحجّية مطلق الظنّ في مقام الترجيح سندا لوجوه :

منها : قاعدة الاشتغال ؛ فإنّه كلّما دار الأمر بين التخيير والتعيين ، فالتعيين مقدّم.

ومنها : ظهور الإجماع من جميع أهل العلم خاصّة وعامّة خلفا عن سلف.

وقد يستكشف عنه بملاحظة تقديمهم الأخبار العالية السند (2) على غيرها ، ونحوه من المرجّحات الداخلة في الأخبار وليس على ما ينبغي ؛ لأنّ حجّية تلك المرجّحات ممّا لا كلام لنا فيه في المقام ، وإنّما المقصود (3) بالبحث هنا إثبات الترجيح بالظنون

ص: 320


1- « ل » : - لو.
2- « ش » : سندا.
3- « ل » : + لنا.

الخارجة (1) عن المتعارضين على وجه يحصل الظنّ بصدور الخبر ، مثلا من الظنّ الحاصل من تلك الأمارة والمرجّح كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية والاستقراء ونحوها بنفس الحكم ، والظنّ بالحكم في تلك المرجّحات إنّما يستند إلى نفس الخبر بعد اقترانه بها ، فهو خارج عمّا عقد المقام له بل التحقيق في استكشاف هذا الإجماع إنّما هو من (2) تعليلاتهم تقديم (3) بعض الأخبار على بعضها في مقام التعارض من غير ذكر الوجه في ذلك التعليل ، مثلا يحكمون بتقديم الرواية التي رواها أكثر على غيرها معلّلا في ذلك بقولهم : « لأنّه أرجح » من غير تعرّض للدليل في وجوب تقديم الأرجح على غيره ، فكأنّه كبرى إجماعية لصغرى وجدانية ، أو برهانية بحسب الاختلاف في الموارد.

قال المحقّق في المعارج ما حاصله : وجوب تقديم [ مضمون الخبر الموافق للقياس ؛ لأنّه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ](4).

وقال المحقّق البهبهاني الأستاذ الأكبر (5) في الفوائد الحائرية : [ وعند الأخباريين أنّ بناء المرجّحات على التعبّد ... وأمّا المجتهدون ، فلمّا كان بناؤهم على التحرّي وتحصيل ما هو أقرب في ظنّهم في السند والدلالة والتوجيه ، فلا يستشكلون في هذه الأخبار أيضا ، وكلّ يبني الأمر فيها على ما هو الأقرب عنده ](6). ويظهر ذلك عند المراجعة إلى

ص: 321


1- « ل » : الخارجية.
2- « ل » : عن.
3- « ل » : بتقديم.
4- لم يرد مقول قوله في النسختين وموضعه بياض ، استدركناه ما بين المعقوفين من معارج الأصول : 261 - 262 وعنه في الرسائل 1 : 609.
5- « ل » : - الأستاذ الأكبر.
6- لم يرد مقول قوله في النسختين وموضعه بياض ، استدركناه ما بين المعقوفين من الفوائد الحائرية : 212 - 213 وعنه في مفاتيح الأصول : 688. وقال أيضا في الفوائد الحائرية : 213 : وحيث ظهر أنّ بناء الترجيح على ما يورث الظنّ والرجحان فلا اعتداد ببعض المرجّحات التي ذكرها بعض.

طرقهم في التراجيح حتّى أنّ من المعلوم عندهم ذلك.

ويؤيّده ما يظهر من العامّة العمياء تقديمهم الرواية التي رواها أهل المدينة على غيرها معلّلين بكونها أرجح حيث إنّهم على زعمهم مهابط وحي اللّه ، ومنازل روح القدس ، وذلك مثل ما يستكشف الإجماع على اعتبار التعدّد في الشهادة ممّا تداول الاستدلال به عندهم (1) كما في مقام التقويم وغيره (2) بقولهم : لأنّه شهادة ، فالمهمّ عندهم بيان الصغرى ، فالكبرى مسلّمة لديهم وقد نقله بعض أساطين العلماء.

ومنها : دليل الانسداد ، وبيانه أنّه لا مناص من الترجيح في الأخبار المتعارضة لكثرتها بوجه يوجب المخالفة القطعية كثيرا لو قلنا بالطرح فيهما كما فيما لو قلنا بالتخيير بينهما ، والمرجّحات المعلومة من الأمور الراجعة إلى الدلالة في المتعارضين كالنصوص والظهور والظاهر والأظهر ممّا لا تفي بجميع أبواب الفقه بوجه ، يرتفع معها العلم الإجمالي ، فلا بدّ من الترجيح بمطلق الظنّ.

لا يقال : إنّ الأعدلية وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ونحوها من المرجّحات المنصوصة ممّا يكفي في مقام الترجيح مع كونها قدرا متيقّنا بالنسبة إلى غيرها من المرجّحات.

لأنّا نقول : لو سلّم الكفاية بها ، فلا ريب في استوائها لسائر الظنون ؛ لأنّ غاية ما دلّ على جواز الترجيح بها هو الخبران المأثوران ، والناظر فيهما بعد إمعان النظر في مواردهما من الاختلاف الواقع في الترتيب بينهما - والأمر تارة بالأخذ بما هو أوثق منهما (3) - يحكم حكما جزميا بأنّ المدار على مطلق الظنّ.

مضافا إلى المنقول من الإجماع والمحقّق من الشهرة ، فلا وجه للقول بكون المرجّحات المزبورة قدرا متيقّنا بالنسبة إلى غيرها.

ص: 322


1- المثبت من « ل » وهامش « ش » وفيها : عنهم.
2- « ل » : غيرهم.
3- « ل » : فيهما.

وفي كلّ من الوجوه المذكورة نظر :

أمّا في الأوّل ، فلأنّ الأصل لا يعارض إطلاق أدلّة التخيير بقسميها من الأخبار الواردة فيه (1) ابتداء ، أو بعد المرجّحات المنصوصة.

قلت : ولعلّ إطلاق الأخبار الآمرة بالأخذ بها ممّا ينافي الاشتغال أيضا ، فلا عبرة به في قبال الدليل.

وأمّا في الثاني ، فلأنّ غاية ما يفيد ظهور الإجماع وما نقله البعض هو الظنّ بجواز الترجيح ، والمفروض عدم حجّية الظنّ في المسألة الأصولية أيضا كما في الفروع على ما قرّرناه في أوّل الكلام.

وأمّا في الثالث ، فللمنع من لزوم المخالفة القطعية بعد إعمال المرجّحات المعلومة في الدلالات ، ألا ترى أنّ جملة من العلماء زعموا قطعية الأخبار ومع ذلك لا محلّ للتعارض السندي ، فوجه الترجيح عندهم منحصر في الدلالة ولا حرج فيه كما لا يخفى.

قال الأستاد : الإنصاف أنّ التعويل على الظنّ في مقام الترجيح لو كان مستندا إلى إجماع ، فلا كلام ، وإلاّ فهو في الحقيقة كلام لا يرجع إلى حاصل.

اللّهمّ إلاّ أن يرجع إلى توهين الطرف المخالف على وجه يخرج عن موضوع ما هو الحجّة بحسب الدليل ، لكنّه خلاف ما هو المفروض بالبحث في المقام ، فإنّ الكلام - على ما نبّهنا عليه في أوّل البحث - إنّما هو في المتعارضين بعد كونهما حجّتين ومشمولين لما دلّ على اعتبارهما نوعا ، والتوهين إنّما يتأتّى على القول بحجّية الأخبار المفيدة للظنّ ، أو على القول بحجّية الظنون المطلقة.

نعم ، يمكن القول بتقديم الخبر الموافق لخصوص الشهرة والإجماع المنقول المفيد للظنّ على القول بحجّية الأخبار تعبّدا ، أو نحوه نظرا إلى عدم انصراف الدليل الدالّ

ص: 323


1- « ل » : فيها.

على الحجّية إلى ما خالف الشهرة.

وبالجملة ، فالتخلّف عن الشهرة والإجماع المنقول في مقام التعارض ممّا دونه خرط القتاد وإن كان إثبات الإجماع عليه أصعب ، فتدبّر.

تذنيب

لو كان هناك خبران متعارضان من جهة الصدور ، وبعد الغضّ عن جهة الصدور علما أو ظنّا ، وعن الدلالة ، فهل يصحّ الشهرة وغيرها من الظنون للترجيح في مقام جهة التعارض من حيث جهة الصدور ، أو لا؟ وجهان : فإن قلنا بأنّ أصالة عدم التقية من الأصول التعبّدية كأصالة الحقيقة ، فلا عبرة بالشهرة ، وإلاّ فيؤخذ بها مرجّحا ولعلّ الأوّل أقوى.

ثمّ لو كان الشهرة موافقة لأحد المتعارضين وعلمنا بأنّها من مرجّحات الدلالة ، أو السند ، أو جهة الصدور ، فإن قلنا بأنّها مرجّحة في المقامات الثلاثة ، فلا كلام كما أنّه كذلك فيما لو قلنا بأنّها ليست مرجّحة فيها بأجمعها ، إنّما الإشكال فيما لو كان ممّا يقع بها الترجيح بالنسبة إلى بعض المقامات كالسند دون الدلالة ، أو جهة الصدور دون غيرها مثلا ، ولم يعلم أنّ الترجيح في أيّ منها ، فهل تعتبر تلك الشهرة مرجّحة لما وافقها من الخبرين ، أو لا؟ الأقوى عدم وقوع الترجيح به ؛ لعدم العلم بالترجيح فيما يعتبر فيه الترجيح ، فلا بدّ من الوقف. هذا آخر ما أردنا إيراده ( في هذا المجلّد ، ويتلوه مجلّد آخر إن شاء اللّه محرّرا في شهر رجب 1283 ) (1).

ص: 324


1- ما بين الهلالين من نسخة « ش » وفي هامشها : بلغ مقابلته مع نسخة الأصل بحمد اللّه تعالى ومنّه.

[ مباحث الأصول العملية البراءة والاشتغال ]

اشارة

ص: 325

ص: 326

أصل [ فى الأصول العقلية ]

[ البراءة العقلية ]
اشارة

ومن الأحكام العقلية التي يبتني ثبوتها (1) على القول بالتحسين والتقبيح العقليين الحكم بخلوّ الذمّة وفراغها عن عهدة التكليف عند الشكّ فيه سواء قلنا بالملازمة بين الحكمين - كما هو التحقيق على ما مرّ - أو لم نقل ؛ فإنّ الملازمة المبحوث عنها إنّما هو فيما إذا أدرك العقل الحسن والقبح في أفعال العباد التي هي محالّ للأحكام الشرعية وليس الأمر كذلك فيما نحن بصدده ؛ إذ مرجع الحكم في المقام إلى قبح التكليف بلا بيان والعقاب بلا برهان وليس شيء منهما بأفعال العباد ؛ فإنّ التكليف والعقاب من أفعاله تعالى ، وليس أفعاله ممّا يتعلّق بها حكم شرعي على ما هو المقرّر في مقامه ، وهذا الحكم العقلي المتوصّل به إلى نفي الحكم الشرعي والعقاب هو المعبّر عندهم بأصالة البراءة ، وقد يسمّى بالبراءة الأصلية وأصالة النفي.

وقد يستشكل في المقام بأنّ الدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي - على ما مرّ تفصيل القول فيه في أوائل المقصد - فعلى هذا لا وجه لعدّ البراءة من الأدلّة العقلية ؛ فإنّ غاية ما يمكن (2) التوصّل بها إليه هو نفي العقاب ودفع المؤاخذة ووضع التكليف - كما هو المستفاد من جملة من الأخبار الواردة فيها أيضا كما سيأتي

ص: 327


1- « س » : التي ثبوتها مبني.
2- « ج » : + به.

إن شاء اللّه - ونفي العقاب وأمثاله ليس من الأحكام الشرعية ، فلا يصير الموصل إليه دليلا عقليا اصطلاحا.

وأمّا الحكم بالإباحة الظاهرية ، فهو ممّا يدلّ عليه الدليل الشرعي كقوله : « كلّ شيء مطلق » (1) وأمثاله ، وليس ممّا يستفاد من العقل كما توهّمه بعض الأجلّة (2) تبعا لجماعة كثيرة منهم ؛ لما عرفت من أنّ العقل لا يزيد حكمه على نفي العقاب والمؤاخذة ، ولا يحكم حكما إنشائيا بالإباحة الظاهرية.

لا يقال : الأدلّة الشرعية كأخبار الآحاد مثلا قد تنهض على نفي الحكم الشرعي كالوجوب أو الحرمة ، فقضيّة ما ذكرت لا بدّ وأن لا يكون دليلا شرعيا.

لأنّا نقول : الكلام في المقام إنّما هو في حكم العقل بصرافته من غير ارتباط حكم شرعي به ، وما يستفاد من إثبات حكم آخر غير ما هو المنفيّ في الأدلّة الشرعية ، إنّما هو بواسطة العلم الحاصل شرعا بعدم جواز خلوّ الواقعة عن جميع الأحكام ، فنفي الوجوب مثلا يلازم شرعا ثبوت حكم آخر وذلك بخلاف الأحكام العقلية ؛ فإنّ في نظر العقل لا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم ، فالعقل يحكم بعدم الوجوب ، ولا ينافي عدم حكمه بالإباحة أيضا ؛ لجواز خلوّه عن جميع الأحكام كأفعال البهائم والصبيان والغافل والناسي وأمثال ذلك.

وبالجملة ، فالخبر النافي لوجوب شيء يدلّ بالالتزام على ثبوت حكم آخر فيه ، ولأجله يسمّى دليلا شرعيا بخلاف العقل كما لا يخفى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ (3) الحكم الشرعي أعمّ من الإثبات - كما في الحكم بالوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة - والنفي كما في الحكم بنفي أحدها ، ولكنّه لا يخفى على المتأمّل أنّه مع ذلك التعميم والتسامح في الحكم الشرعي لا وجه لعدّه (4) من

ص: 328


1- تقدّم في ص 159.
2- الفصول : 351.
3- « س » : بأنّ.
4- « ج » : لعدّها!

الأحكام الظاهرية ، فإنّ حكم العقل بقبح العقاب عند عدم البيان حكم واقعي لا يناط بالظاهر أصلا وقد مرّ فيما سبق من أنّ مناط انقسام الأحكام إلى الظاهرية (1) والواقعية هو إمكان الأحكام الشأنية مع إمكان عدم الوصول إلى المكلّفين وهذا منتف في الأحكام العقلية ولو كان في موضوع الجهل.

ثمّ إنّ المراد بالأصل في هذا التركيب يمكن أن يكون معناه اللغوي بحسب واحد من موارد استعماله كقولهم (2) : « أصل الإنسان التراب » أي (3) الحالة السابقة من الحالة اللاحقة الموجودة فيه هو هكذا كأن يكون المعنى البراءة التي كانت موجودة ثابتة قبل ، وكثيرا ما يراد منه هذا المعنى فيما لو كان التركيب توصيفيا كقولهم البراءة الأصلية.

ويمكن أن يكون المراد به القاعدة من معانيه الاصطلاحية أي القاعدة العقلية التي توجب الحكم بخلوّ الذمّة والبراءة عن التكليف عند الشكّ مثلا ، وأغلب ما يراد به (4) هذا فيما لو كان التركيب إضافيا.

وأمّا الدليل ، فيمكن إرادته فيه بتكلّف على أن يكون الإضافة بيانية. وما توهّمه بعض الأجلّة (5) من أنّ الكلام في المقام في نفس المدلول دون الدليل غير سديد على التقدير المذكور. وأمّا الراجح ، فيحتمل إرادته أيضا بالتكلّف (6) المذكور ولو كان في التركيب الإضافي ، وإلاّ ففي التركيب الحملي ممّا لا يدانيه ريب كما لا يخفى.

وأمّا الاستصحاب ، فلا يصحّ أن يراد بالأصل في المقام لا لما زعمه بعض الأجلّة (7) من اختلاف مدارك المسألتين والأقوال فيهما لإمكان القول بخروجه عن محلّ النزاع في مسألة الاستصحاب كما احتمله بعضهم بل لأنّ الجهة المبحوث عنها في البراءة تباين

ص: 329


1- « ج » : بالظاهرية.
2- « س » : استعمالهم كقوله.
3- « م » : هي.
4- « م » : منه.
5- الفصول : 351.
6- « م » : التكليف.
7- الفصول : 351.

الجهة المذكورة في الاستصحاب ؛ فإنّ الاستصحاب عبارة عن الحكم بوجود شيء في الزمن اللاحق تعويلا على ثبوته في السابق على ما عرّفه جماعة (1) ، فالحكم في الاستصحاب إنّما هو بواسطة ملاحظة وجوده في السابق ، وفي البراءة يكفي في نفي الحكم نفس الشكّ فيه ، ومجرّد عدم العلم بالتكليف كاف في الحكم بالبراءة من غير أن يكون منوطا بملاحظة ثبوت الحكم في الزمن السابق بل ولو فرض استناد الحكم بوجوده في السابق لا يسمّى من هذه الجهة بالبراءة ولهذا ترى صاحب المعالم (2) نسب إلى المحقّق قول المرتضى في الاستصحاب مع أنّه في المعتبر (3) يقول باعتبار البراءة الأصلية ، وعدم الدليل دليل العدم بعد تقسيم مطلق الاستصحاب إلى الأقسام الثلاثة.

وبالجملة ، فالحكم في البراءة إنّما هو باعتبار مجرّد الشكّ في التكليف ، فلو فرض عدم وجود الزمان أيضا ، جاز الاستناد إليها في محلّه.

وأمّا الاستصحاب ، فالحكم فيه إنّما هو بواسطة التعويل على ثبوته في الزمن السابق ، فلا وجه لإرادته في هذا المقام.

نعم ، موارد البراءة من موارد الاستصحاب أيضا وذلك لا يقضي بصحّة إرادته في هذا التركيب كما لا يخفى ، فإنّ الشيخ بنى في العدّة (4) على مثل ذلك في الردّ على من زعم الحكم بإمضاء الصلاة للمتيمّم فيما لو وجد الماء في الأثناء ، فإنّه يحكم بالإمضاء لعدم دليل على وجوب النقض لا للاستصحاب وإن كان المورد ممّا يصحّ التمسّك به على القول به.

وأمّا عدّهم البراءة الأصلية من أقسام الاستصحاب ، فإنّما هو بواسطة اتّحاد

ص: 330


1- عرّفه الخوانساري في مشارق الشموس : 76 ناسبا له إلى الأصوليين كما سيأتي في أوّل مبحث الاستصحاب.
2- معالم الدين : 235.
3- المعتبر في شرح المختصر 1 : 32.
4- عدّة الأصول 2 : 756.

الموردين فيه كما عرفت.

ثمّ إنّ هناك أصولا أخر كأصالة الأقلّ عند الشكّ بينه وبين الأكثر وأصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم لا بأس بالتنبيه على النسبة بينها ، فنقول :

أمّا أصالة الأقلّ ، فهو أخصّ مطلقا من أصالة البراءة لكونها من أفرادها ، وقد يؤخذ من أصالة العدم ، فهي إذا شعبة من شعبها.

وأمّا عدم الدليل دليل العدم ، فهو أعمّ مطلقا من البراءة ؛ لاختصاصها بالأحكام الشرعية التكليفية وجريانه في غيرها (1) أيضا ، فإنّ عدم الدليل على ثبوت الوضع في الألفاظ ، أو على النبوّة مثلا دليل على عدم (2) الوضع والنبوّة ، وعدم الدليل على الوجوب دليل على عدم الوجوب ، ولا فرق في ذلك بين موارده. وهذا (3) بناء على ما هو التحقيق من أنّ النافي يحتاج إلى دليل مثبت للنفي ؛ إذ القضايا المطلوبة إثبات نسبها في الواقع لا تنحصر في الموجبات ، فإنّ السوالب أيضا أحكام محتاجة إلى الإثبات (4).

نعم ، المانع المردّد الشاكّ الذي لا يجزم بأحد طرفي الخلاف لا يحتاج إلى الدليل ، وأمّا على ما توهّمه بعضهم من عدم الاحتياج إلى الدليل في النفي ، أو على التفصيل بين العقليات والشرعيات - كما نقله الشيخ في العدّة (5) وابن زهرة في أصول الغنية (6) - فلا مورد لهذا الأصل أصلا على أحد الوجهين ، ويختصّ بالشرعيات على الآخر كما لا يخفى.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ عدم الدليل دليل العدم قد (7) يفيد القطع كما إذا كان المدلول ممّا لا يتحقّق بدون دلالة دليل عليه كالأحكام التكليفية المنجّزة في رقاب العباد ، فإنّ الوجوب الفعلي تحقّقه مشروط بالعلم ، فعدم ما يدلّ عليه في الحقيقة دليل على عدمه

ص: 331


1- « س » : غيره.
2- « م » : العدم!
3- « ج » : - وهذا.
4- « ج » : إثباتها.
5- نقله عن قوم الطوسي في عدّة الأصول 2 : 752.
6- الغنية المطبوع في الجوامع الفقهية : 548.
7- « م » : « فلا » بدل : « قد »!

في الواقع ، وقد يفيد الظنّ كما إذا كان الحكم ممّا يعمّ به البلوى ، وقد لا يفيد شيئا منهما فلو كان هناك استقرار طريقة العقلاء على العمل به ولو بإرجاعه إلى قاعدة العدم ، فهو وإلاّ (1) فلا وجه للاستناد إليه.

وأمّا قاعدة العدم ، فأعمّ من الجميع كما عرفت ممّا مرّ ، فلا نطيل بالإعادة. هذا تمام الكلام في ملاحظة النسبة بين البراءة وسائر الأصول على حسب ما يقتضيه المقام.

[ قاعدة الاشتغال ]

وأمّا قاعدة الاشتغال المعمولة في قبال قاعدة البراءة ، فلا بأس بالتنبيه على بيان الحكم فيها وكيفيّة حكم العقل بها تتميما لما مرّ ، فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها ، على أنّ الموارد الآتية - المتنازع فيها جريان البراءة والاشتغال - ممّا لا مناص تحقيق الكلام فيها وتصوير النزاع من تصوير الاشتغال أيضا ، ويستتبعه الكلام في أصالة التخيير والاستصحاب على وجه يعلم به كيفية حكم العقل فيهما ، فنقول :

قولهم : قاعدة الاشتغال إنّما هو جزء من القضية القائلة بأنّ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى فراغ يقيني ، كقولهم : قاعدة « على اليد » فكأنّه عبارة عنها وكناية منها أقيمت (2) مقامها للاختصار ، والأصل في قولهم : أصل الاشتغال القاعدة يعني القاعدة المستفادة من حكم العقل بأنّ بعد العلم بالاشتغال لا يجوز الاقتناع بالشكّ ، ولا يكفي الشكّ في البراءة بل لا بدّ من تحصيل اليقين بالفراغ في قبال قاعدة البراءة ، فكما أنّ العقل يستقلّ بأنّ عند الشكّ في التكليف لا بدّ من إجراء أحكام عدم التكليف وعدم الالتزام به ، فكذلك يستقلّ بأنّ عند الشكّ في الفراغ لا بدّ من الحكم بعدم الفراغ وعدم الالتزام به ، ومن إجراء أحكام التكليف ، وهذا الحكم العقلي في المقامين إنّما يناط بنفس الشكّ في التكليف والفراغ ، وبمجرّد عدم العلم بهما ، ومن هنا يظهر أنّه لا

ص: 332


1- « س » : أو لا!
2- « م » : أقيم.

حاجة في إثبات الاشتغال أو البراءة إلى الاستصحاب بل لا يعقل الاستصحاب فيهما وفي نظائرهما.

وتوضيح ذلك وتحقيقه يتوقّف على تمهيد مقدّمة هي (1) أنّ المطلوب في الاستصحاب هو ترتيب أحكام مترتّبة على بقاء المستصحب عليه حال الشكّ في بقائه وارتفاعه ، وأمّا لو كان الأحكام ممّا يترتّب على حدوث شيء ، فعند الشكّ في بقائه لا وجه للاستصحاب ؛ لعدم ارتباط الشكّ في البقاء بترتّب أحكام الحدوث عليه ، فالحدوث حال الشكّ في البقاء قطعي ، ولا حاجة إلى استصحاب الحادث ليترتّب عليه أحكام الحدوث بل ولا يعقل ؛ لاختصاص مورد الاستصحاب بالشكّ اللاحق والمفروض هو العلم في اللاحق أيضا ، ولا يجدي في جريانه تقدير عدمه وفرض انتفائه ؛ إذ المقدّر أنّ الأحكام ممّا يترتّب على الحدوث ، والاستصحاب يحكم ببقائه ، ولا ملازمة بين الحدوث والبقاء في ترتيب أحكام أحدهما على الآخر ، مثلا لو فرضنا أنّ (2) جواز الدخول في الصلاة إنّما هو ممّا يترتّب على نفس الوضوء في السابق ولو لم يكن باقيا في اللاحق ، فعند الشكّ في البقاء لا وجه لاستصحاب الطهارة ليترتّب عليه جواز الدخول في الصلاة ، فإنّ جواز الدخول على الفرض قطعي في اللاحق ، فلا يجري الاستصحاب.

وإذ قد تمهّد هذه ، فنقول : إنّ العقل إنّما يستقلّ بإتيان الصلاة في أربع جهات عند اشتباه القبلة على القول بثبوت التكليف حال الجهل أيضا ، وأمّا على القول بعدم تعلّق التكليف حال الجهل باعتبار إجمال الدليل كما يراه بعضهم ، فالكلام المذكور ساقط عن أصله ، وحكمه هذا إنّما يستند إلى الشكّ في الفراغ ، والعقل (3) الحاكم بالصلاة في أربع جهات إنّما هو موجود قبل الفعل وبعده وفي أثنائه ، والعلّة التي استند إليها العقل في

ص: 333


1- « ج » : وهي.
2- « م » : - أنّ.
3- « م » : فالعقل.

ذلك هو الشكّ في الفراغ ، وهو موجود حتّى يحصل العلم بالفراغ فالاستصحاب إمّا أن يقول القائل به (1) بجريانه قبل الفعل ، أو في أثنائه ، وعلى التقديرين لا وجه له.

أمّا على الأوّل ، فظاهر ؛ لأنّ المفروض أنّ العقل بواسطة عدم العلم بالبراءة والشكّ في الفراغ حكم بالإتيان على أربع جهات.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ العقل الحاكم بالاحتياط موجود ولم يحدث بعد (2) شيء به يرتفع حكمه بوجود العلّة وهو الشكّ في الفراغ وعدم العلم بالامتثال.

فإن قلت : إنّ الاستصحاب قد يجري في موارد الأدلّة الاجتهادية مع العلم بوجود الحكم السابق في اللاحق باعتبار الدليل ولكن بعد فرض انتفاء الدليل غاية الأمر عدم الحاجة إليه وذلك لا ينافي جريانه ، ففي المقام أيضا لا مانع من القول بجريانه ولو بعد تقدير عدم حكم العقل بالاحتياط بواسطة الشكّ في الفراغ.

قلنا : ذلك في موارد الأدلّة الاجتهادية مجد بخلاف ما نحن بصدده ؛ فإنّ بعد فرض انتفاء حكم العقل بتحصيل العلم بالفراغ ، استصحاب الاشتغال لا يقضي بإتيان الصلاة في أربع جهات إلاّ بعد ملاحظة حكم العقل (3) بإتيانها فيها من حيث إنّها مقدّمة علمية ، فظهر ممّا ذكر أنّ الحكم بوجوب الإتيان بالمحتملات إنّما يترتّب على حدوث الاشتغال والشكّ في الفراغ ، وليس ذلك من آثار بقاء الاشتغال وأحكامه ، فيحرز بقاؤه بالاستصحاب ليترتّب عليه أحكامه كما هو المقصود في الاستصحاب في مجاريه ، وذلك نظير ما مرّ الإشارة إليه في مباحث الظنّ من أنّ الشكّ في الحجّية يكفي في نفيها ، ولا يصحّ التعويل في ترتّب (4) آثارها على استصحاب عدم الحجّية.

فإن قلت : إذا تعلّق الأمر بشيء تعيينا ، وشكّ في الإتيان بالمأمور به ، فلا مناص من استصحاب الأمر والاشتغال ، ولا ضير فيه أصلا ؛ فإنّ الإطاعة واجبة عند العلم

ص: 334


1- « ج » : - به.
2- « م » : بعده.
3- سقط قوله : « بتحصيل العلم ... » إلى هنا من نسخة « س ».
4- « م » : ترتيب.

التفصيلي ولو لم نقل بلزوم دفع الضرر المحتمل كما هو المناط في القاعدة المذكورة ، وعند الشكّ في بقاء الأمر وارتفاعه يستصحب الأمر ، فيصير معلوما تفصيلا (1) بالعلم الشرعي ، فيجب ترتيب آثار المتيقّن (2) عليه من لزوم الإطاعة والامتثال ، وهذا الحكم إنّما هو من آثار بقاء الأمر والاشتغال ولا مدخل لحدوثه فيه ، فإنّه لو فرض عدم البقاء ، لا يجب الإتيان والامتثال.

قلنا : فرق ظاهر بين ما ذكر وبين ما نحن بصدده ، فإنّ الكلام يقع تارة فيما إذا علم التكليف (3) وشكّ في الإتيان بالمكلّف به الذي هو معلوم تفصيلا - كما إذا أمر المولى بالصلاة مثلا وشكّ في إتيانها في وقتها - وأخرى فيما إذا شكّ في أنّ المكلّف به أيّ فعل من الأفعال المردّدة مثلا ، وما ذكر (4) إنّما يتمّ في المقام الأوّل ، وليس هناك ممّا يجري فيه قاعدة الاحتياط والاشتغال بل هو مجرى الاستصحاب ولا غائلة فيه لثبوت أحكام المتيقّن عند الاستصحاب على ما فرضه و (5) كما هو المطلوب بالاستصحاب في مجاريه بخلاف المقام الثاني كما هو محلّ الكلام في المقام ، فإنّه من مجاري الاشتغال ، والاستصحاب فيها (6) ممّا لا يجدي بعد عدم القول بوجوب دفع الضرر المحتمل ولزوم تحصيل العلم عند الشكّ في الفراغ ، فإنّ وجوب الصلاة في الجهات التي لم (7) يقع فيها الصلاة ليس ممّا يترتّب على استصحاب الاشتغال كما لا يخفى.

وتوضيحه : أنّ المكلّف بعد ما شكّ في المكلّف به فإمّا أن يقال بسقوط التكليف في حقّه كما يراه بعضهم ، وإمّا أن يقال ببقائه حال الجهل أيضا ، لا كلام على الأوّل ، وعلى الثاني فالحكم بالإتيان بجميع المحتملات ابتداء وفي أثناء العمل ممّا لا يجدي فيه الاستناد إلى الاستصحاب.

ص: 335


1- « ج » : تفصيليا.
2- « س » : المتّفق.
3- « س » : بالتكليف.
4- « ج ، م » : ذكره.
5- « ج » : - و.
6- « ج » : فهذا. « س » : فهما.
7- « ج » : - لم.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم بإتيان بعض المحتملات التي لم يأت بها المكلّف ممّا لا يترتّب على بقاء الاشتغال ؛ إذ غاية ما يفيده الاستصحاب هو بقاء الاشتغال ، ومقتضاه الإتيان بالمكلّف به واقعا ، ولا يزيد على ذلك كما إذا كان الاشتغال في أوّل الأمر قطعيا ، فإنّ الاستصحاب إنّما يوجب تنزيل المشكوك فيه منزلة المقطوع به ، ومن المعلوم أنّ الاشتغال القطعي لا يقضي (1) بالإتيان بالمحتملات لا في أوّل الأمر ولا في الأثناء إلاّ بعد انضمام مقدّمة خارجية هي (2) حكم العقل بتفريغ الذمّة عند العلم بالاشتغال وعدم العلم بالفراغ والشكّ في البراءة ، فالاشتغال الثابت بحكم الاستصحاب كيف يعقل اقتضاؤه للإتيان بالمحتملات مع كونه منزّلا منزلة الواقع؟!

اللّهمّ إلاّ أن يقال في المثال المذكور : استصحاب بقاء الاشتغال مثبت لكون الباقي من الجهات المحتملة هي (3) القبلة ، وهو - كما ترى - بمكان من الوهن والضعف سيّما إذا كان الجهة الغير المأتيّ بها متعدّدة ، فإنّ الأمر بالعكس إذ احتمال كون الباقية قبلة واقعية (4) يقضي بإتيانها لا أنّها قبلة واقعية ، فيجب إتيان الصلاة فيها كما لا يخفى.

فظهر ممّا مرّ أنّ استصحاب الاشتغال يجري فيما لا يجري فيه قاعدة الاشتغال والاحتياط ، وما يجري فيه الاشتغال وقاعدة الاحتياط لا يجري فيه الاستصحاب.

وما عسى يتوهّم - من تمسّك بعضهم باستصحاب الاشتغال كالمحقّق (5) في المتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة حيث أفاد أنّ استصحاب الصحّة يعارضه استصحاب الاشتغال - فإنّما هو مبنيّ على مجرّد المناقشة في الدليل وأمثاله ، وإلاّ فكيف يعقل التمسّك به مع وضوح فساده وظهور كساده من جهة أخرى أيضا؟ وهو عدم مقاومة استصحاب الاشتغال باستصحاب الصحّة لكونه واردا عليه ورود الاجتهادي على

ص: 336


1- « ج » : لا يقتضي.
2- « خ ل » بهامش « س » : بل.
3- « ج ، س » : هو.
4- « س » : - واقعية.
5- معارج الأصول : 289 ذكره في عداد أدلّة المانعين ثمّ أجاب عنه.

العملي كما لا يخفى ، وإلاّ فلم يبق هناك مورد للاستصحاب وهذا هو تمام الكلام في أصالة الاشتغال.

[ أصالة التخيير ]

وأمّا أصالة التخيير ، فمرجعها إلى حكم العقل بعدم تعيين واحد من الدليلين (1) عند تعذّر الأخذ بهما معا وطرحهما كذلك مع عدم ما يعيّن أحدهما بالخصوص.

وأمّا الاستصحاب ، فهو حكم العقل ببقاء الشيء عند الشكّ في وجوده في اللاحق بعد العلم بوجوده في السابق من حيث ثبوته في السابق ، فمستند حكم العقل بالبقاء في الاستصحاب هو الوجود السابق لكنّه ظنّي ، ولا ينافيه حصول الشكّ ؛ فإنّ العقل عند الشكّ بملاحظة وجوده في السابق يحكم حكما ظنّيا بوجوده في اللاحق على نحو حكم العقل في سائر الأدلّة العقلية الظنّية كالاستقراء مثلا.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ المرجع عند الشكّ للمكلّف ينحصر في الأصول الأربعة حصرا عقليا ؛ لأنّ الإنسان البالغ العاقل إمّا أن يكون ملتفتا ، أو لا.

وعلى الثاني ، فلا كلام لنا فيه في أمثال المقام.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون عالما بالحكم ولو علما شرعيا ، أو لا يكون بل يكون شاكّا ولو شكّا شرعيا.

وعلى الأوّل ، فلا كلام فيه أيضا.

وعلى الثاني إمّا أن يكون الحالة السابقة معلومة له ، أو لا.

فعلى الأوّل فهو مجرى الاستصحاب.

وعلى الثاني إمّا أن يكون شاكّا في التكليف خصوصا أو عموما مع عدم دوران الأمر بين المتنافيين ، أو لا.

ص: 337


1- « س » : الدليل!

فعلى الأوّل فهو مجرى البراءة ، ومع دوران الأمر بين المحذورين فهو مجرى التخيير.

وعلى الثاني ، فمع عدم دوران الأمر بين المحذورين وإمكان الجمع فهو مجرى الاشتغال ومع عدم إمكانه ودوران الأمر بين المتنافيين والمحذورين فهو أيضا مجرى التخيير.

والقوم إنّما جرت عادتهم في مدّ (1) الأصول الثلاثة الأخيرة في هذا المقام وانفراد الاستصحاب بالبحث نظرا إلى أنّ الحكم فيه ليس منوطا بنفس الشكّ بل لا بدّ فيه من ملاحظة ثبوت المشكوك في الحالة السابقة بخلاف غيره ، فإنّ الحكم فيها يناط بمجرّد الشكّ ، ولذلك قد اكتفوا بإيرادها في بحث واحد بحسب مواردها ، فلا بدّ من تشخيص مواردها وتميز مجاريها ؛ فإنّ عليها يدور رحى الفقه كلّه ، وبيان الاختلاف الواقع في تلك الموارد والتحقيق فيها فنقول :

الشكّ إمّا أن يكون في خصوص التكليف كما لو شكّ في وجوب شيء و (2) حرمته مع قطع النظر عن الترديد بينه وبين غيره ، أو مع ملاحظة الترديد كما لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته ؛ فإنّ مجرّد الترديد بين الحرمة والوجوب لا يجدي في عدم كون الشكّ هذا من أقسام الشكّ في التكليف بعد تقييده بالخصوصية.

وإمّا أن يكون في المكلّف به.

وعلى التقديرين إمّا أن يكون منشأ الشكّ هو الاشتباه في الحكم الشرعي كأن لا يعلم أنّ شرب التتن في القسم (3) الأوّل حرام في أصل الشريعة ، أو قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة أو لا ، أو لا يعلم أنّ الصلاة في يوم الجمعة بحسب أصل الشرع الواجب منها هو الظهر أو الجمعة ، أو الحرام في الشرع هو الشيء الفلاني أو غيره (4) في القسم الثاني ، وإمّا أن يكون منشأ الاشتباه والشكّ هو الاشتباه في الأمور الخارجية

ص: 338


1- المدّ هو البسط.
2- « م » : أو.
3- « ج » : تقسيم.
4- « ج » : « لا » بدل : « غيره ».

كأن لا يعلم أنّ الواجب هو الإتيان بالصلاة عند اشتباه القبلة بأيّ جهة من الجهات ، أو لا يعلم أنّ المانع الفلاني هو الخمر حتّى يكون مكلّفا بالاجتناب عنه أو الماء حتّى لا يجب الاجتناب.

وعلى التقادير الأربع إمّا أن تكون الشبهة تحريمية كأن يكون الأمر دائرا (1) بين الحرام وغير الواجب على سبيل منع الخلوّ ، أو وجوبية كأن يكون دائرا بين الواجب وغير الحرام على المنفصلة المانعة الخلوّ يشتمل (2) ما إذا كان الأمر دائرا بين الواجب والحرام أيضا.

وهذان القسمان إنّما يتصوّر أقسام كثيرة فإنّ غير الحرام في الشبهة الوجوبية قد يكون هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة أو الاثنان منهما أو الثلاثة ، وغير الواجب في الشبهة الوجوبية أيضا كذلك ، وعند دوران الأمر بين الواجب والحرام يتصوّر أقسام كثيرة ؛ لاحتمال غيرهما ثلاثية أو رباعية أو خماسية على اختلاف الصور في الأوليين أيضا كما لا يخفى.

فهذه أقسام ثمانية ، أربعة منها من الأقسام التي منشأ الشبهة فيها الشكّ في الحكم الشرعي ، وأربعة منها من صور الشكّ في الموضوع الخارجي ، والأربعة الأولى لا تخلو عن أقسام ثلاث :

الأوّل : أن يكون الشبهة باعتبار فقد النصّ.

الثاني : أن يكون باعتبار إجمال النصّ كاشتماله على لفظ مشترك مجرّد عن القرينة المعيّنة.

الثالث : أن يكون باعتبار تعارض النصّين وتوارد الدليلين. وهذه الأقسام الثلاثة وإن كان ممّا يختلف الحكم فيها باعتبار اشتمال بعض أخبار الباب على بعض الصور إلاّ

ص: 339


1- « س » : مردّدا.
2- « س » : يشمل.

أنّ (1) التحقيق أنّه لا فرق بينها فيما نحن فيه ، فكما أنّ تعارض النصّين يقضي (2) بالتخيير فكذا معارضة كلّ دليل مع الآخر يقضي بذلك (3).

وبالجملة ، فهذه اثنا عشر قسما : ستّة منها من أقسام الشكّ في التكليف ، والستّة الأخرى من صور الشكّ في المكلّف به ، وعلى الستّة الأخيرة إمّا أن يكون الأمر دائرا بين المتباينين كأن لا يعلم أنّ (4) المكلّف به هو الفعل الفلاني ، أو غيره من دون أن يكون هناك علم إجمالي بينهما أيضا ، أو دائرا بين الأقلّ والأكثر مع وجود العلم الإجمالي أيضا بينهما (5) كما إذا شكّ في جزئية شيء (6) للواجب النفسي كالسورة في الصلاة.

وأمّا إذا كان الأمر دائرا بين الأقلّ والأكثر من دون العلم الإجمالي كما فيما إذا شكّ في أنّ الدين أربعة دراهم أو خمسة ، وكما في منزوحات البئر ، فليس من أقسام الشكّ في المكلّف به بل الناقص الأقلّ معلوم تفصيلا ، والزائد مشكوك صرف ، فيرجع بالنسبة إلى الزائد إلى صور الشكّ في المكلّف به ، فهذه مع الستّة الأولى والأربعة التي منشأ الشكّ فيها الشبهة في الأمر (7) الخارجي اثنا [ ن ] وعشرون قسما ، ولنذكر أحكام هذه الصور والأقسام في طيّ أصول عديدة.

ص: 340


1- « ج ، م » : - أنّ.
2- المثبت من « م » في سائر النسخ : يقتضي وكذا في المورد الآتي.
3- « س » : ذلك. « ج » : كذلك.
4- « م » : - أنّ.
5- سقط قوله : « أيضا أو دائرا » إلى هنا من نسخة « س ».
6- « ج ، م » : الشيء.
7- « م » : أمر.

أصل [ في البراءة في الشبهة الحكمية الوجوبية ]

في الشكّ في التكليف من أقسام الشبهة الحكمية الوجوبية فيما لو كانت الشبهة مستندة إلى فقد النصّ بجميع أقسامه المذكورة عدا ما إذا كان الشكّ بين الوجوب والحرمة ؛ فإنّ لهذه الصورة في هذا المقام وفي المقام الآتي مقام (1) آخر ، فلا بدّ من ذكرها على حدّها (2) ، فنقول : لا شكّ في جريان البراءة في هذه الصورة بأقسامها ؛ للأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.

أمّا الأوّل ، فآي منه أقواها في النظر قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3).

والتقريب أنّ البعث في المقام هو تبليغ الأحكام (4) وبيانها ، وعند انتفائه لا بدّ وأن لا يكون هناك عقاب ، فالآية إنّما دلّت على نفي العقاب والعذاب عند عدم البيان والبعث وهو المطلوب.

لا يقال : قد مرّ فيما سبق ادّعاء ظهور الآية في نفي فعلية العقاب ووقوع العذاب ، وقد مرّ أيضا عدم تنافيه للاستحقاق ، فالوجوب المشكوك فيه يحتمل ثبوته.

لأنّا نقول : المقصود بالبراءة هو تفريغ الذمّة عن الأحكام الشرعية والخروج عن

ص: 341


1- كذا. والصواب : مقاما.
2- « ج » : حدة.
3- الإسراء : 15.
4- « ج » : في الأحكام.

عهدة التكليف ورفع العقاب فاحتمال الوجوب في الواقع مع القطع برفع العقاب عند الشكّ فيه وعدم البيان لا ينافي الحكم بالبراءة بل وهذا عين المطلوب كما لا يخفى.

وأمّا الوجوب الواقعي ، فأصالة العدم التي مرجعها إمّا إلى الاستصحاب ، أو إلى غيره ، فقد يقضى بعدمه بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة على عدم الوجوب الواقعي بواسطة إعمال الأصل المذكور يحكم بترتّبها على العدم المستصحب مثلا.

فإن قلت : فعلى ما ذكر يصحّ التعويل بأصالة البراءة في الموارد التي ثبت العفو فيها كالظهار (1) مثلا ، وكما في المستقلاّت العقلية بناء على عدم ثبوت الأحكام الشرعية فيها مع أنّ فساد ذلك ممّا لا يدانيه ريبة.

قلت : فرق ظاهر بين ما نحن فيه من الموارد المشكوكة وبين ما ثبت الاستحقاق شرعا أو عقلا ، فإنّ الاستحقاق فيها مشكوك عن أصله كما لا يخفى ، وسيرد عليك في المقامات الآتية ما يوضح ذلك.

وأمّا الثاني ، فستطّلع عليها فيما سيجيء.

وأمّا الثالث ، فالإجماع (2) حاصل لمن لاحظ كلمات الفقهاء في مقامات مختلفة وأبواب متفرّقة وموارد متشتّتة بحيث لا ينكره إلاّ المكابر العسوف ، وما قد يتوهّم من ذهاب بعض الأخبارية إلى الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، فليس فيما إذا كانت مستندة (3) إلى فقد النصّ بل إنّما هو مخالف فيما إذا كانت الشبهة باعتبار تعارض النصّين فالأخباريون والأصوليون - على ما نقله غير واحد منهم - مطبقون على البراءة في هذه الصورة بل ربّما يظهر من عدّها (4) الصدوق (5) في اعتقاداته (6) كونه ضروريا كما لا

ص: 342


1- « س » : كالطهارة!
2- « م » : فلإجماع!
3- « ج » : مشتهرة!
4- « ج » : عدّ.
5- « س » : + رحمه اللّه.
6- الاعتقادات ( المطبوع في مصنّفات الشيخ المفيد ) 5 : 114 قال في باب الاعتقاد في الحظر

يخفى.

وأمّا الرابع ، يقرّر بوجهين :

الأوّل : استقلال العقل بقبح التكليف بلا بيان ؛ ألا ترى أنّ المولى يذمّ عند العقلاء لو أخذ على عقاب العبد بتركه ما لم يعلم وجوبه منه وإن كان واجبا في الواقع ، واستناد المولى إلى احتمال الوجوب عندهم أقبح من أصل العقاب كما لا يخفى.

الثاني : ما قد يوجد في كلمات جملة منهم من أنّ التكليف في الصورة المفروضة يوجب التكليف بما لا يطاق ، وقد يتمسّك في نفي التكليف بالمجمل الذاتي أيضا بمثله كما يظهر من استناد المحقّق القمّي (1)(2) إليه هناك.

واعترض عليه بعض الأجلّة (3) بأنّ اللزوم غير ظاهر فيما يكون للمكلّف مندوحة في الامتثال بإتيان جميع المحتملات ، فإنّ الفعل في أمثال المقام ممّا يطيقه المكلّف.

وليس بسديد إذ المقصود في المقام هو القول بأنّ إتيان الفعل مع عدم العلم بالأمر بقصد الامتثال على وجه يكون الداعي فيه هو الأمر محال ، والتكليف به تكليف بما لا يطيقه المكلّف إذ مع عدم العلم بالأمر كيف يعقل الإتيان على أنّه مأمور به؟

فإن قلت : إتيان الفعل في الخارج لا يخلو من وجوه :

أحدها : أن يأتي المكلّف بالفعل لا بداعي الأمر والامتثال بل لدواعي النفسانية على اختلافها.

وثانيها : الإتيان به على أنّه مأمور به قاصدا فيه الامتثال.

وثالثها : الإتيان به لاحتمال الأمر.

ص: 343


1- « س » : + رحمه اللّه.
2- القوانين 2 : 16.
3- الفصول : 357.

لا شكّ في خروج الأوّل من (1) المقام.

وأمّا الثاني ، فهو تكليف بالمحال ، فالقائل بالوجوب لا يمكنه القول به.

وأمّا الثالث ، فلا مانع من القول به بل وهو محلّ الكلام في المقام ؛ لأنّ القائل بعدم الوجوب لا يمكنه إنكار الاستحباب ، فلو كان الكلام في المقام في إتيان الفعل على أنّه مأمور به ، لما صحّ القول باستحبابه إذ لا فارق بين الوجوب والاستحباب في امتناع تعلّقهما بما لا يطيقه المكلّف.

وبالجملة ، فالذي يمكن أن يكون محلّ تشاجر القائل بالوجوب مثلا والقائل بعدمه هو الإتيان بالفعل لاحتمال أن يكون ممّا تعلّق به الأمر ، وهذا ممّا يطيقه (2) المكلّف قطعا.

قلت : الكلام إنّما هو عند فقدان الدليل كما هو موضوع البحث عموما وخصوصا ، والإتيان بالفعل على الوجه المذكور أيضا ممّا لا دليل يدلّ عليه وجوبا كما ستعرف ، فالإتيان بنفس الفعل على أنّه مأمور به ولاحتمال الأمر به - بعد ما فرضنا فقدان الدليل خصوصا وعموما ولو من جهة الاحتياط - سواء فكما أنّ الامتثال به عند عدم الأمر به محال ، فكذا الامتثال بالاحتياط عند عدم الأمر بالاحتياط وعدم ما يدلّ عليه محال ، والتكليف به تكليف بما لا يطاق وهكذا.

فإن قلت : لا فرق في البيان بين أن يكون المبيّن هو العقل أو الشرع ، وبعد ما تقرّر في محلّه من استقرار طريقة العقلاء على لزوم دفع الضرر المحتمل وحكم العقل القاطع به لا وجه للقول بأنّ الاحتياط ممّا لم يعلم وجوبه ، فلا يساوي الإتيان به على أنّه مأمور لوجود (3) الأمر العقلي بالاحتياط وعدمه هناك.

قلت : لا خفاء في (4) أنّ مجرّد الاحتياط من غير أوله إلى عنوان آخر لا حكم للعقل بوجوبه كما لا يخفى بل العقل من حيث حكمه بلزوم دفع الضرر يحكم به ، ولا بدّ في

ص: 344


1- « م » : عن.
2- « س » : لا يطيقه!
3- « س » : بوجود.
4- « م » : - في.

حكم العقل هذا من وجود موضوعه وثبوت محلّه كما هو ظاهر أيضا ، فلا بدّ من إثبات أنّ المقام ممّا يحتمل الضرر لو لا الإتيان به مثلا وهو منتف ؛ لأنّ المراد بالضرر إمّا أن يكون هو الضرر الدنيوي ، أو الأخروي ممّا لا يرجع إلى العقاب بعد القول به ، أو العقاب الأخروي ، أو ما يؤول إليه.

أمّا الأوّل ، فستعرف الكلام فيه (1).

وأمّا الأخير ، فبعد قطع العقل واستقلاله بقبح التكليف بلا بيان لا احتمال له فإنّ العقل يقطع بعدم العقاب ولا ينافيه احتمال الوجوب إذ العقاب والثواب ليسا من آثار الوجوب ولوازمه ، ولا ملازمة بينهما ، وإنّما الملازمة بين العقاب والمخالفة والعصيان فاحتمال المخالفة يلازم احتمال العقاب لا الوجوب (2) ، والعصيان فرع الأمر والعلم به وعند عدمه يستقلّ العقل بعدمه فاحتمال الضرر منتف بعد الحكم العقلي بعدمه.

فإن قلت : كيف يصحّ التمسّك بالأصل في رفع احتمال العقاب مع أنّ جريانه فرع رفعه ، فإنّ الدعوى هي كون العقل بيانا ، فلا وجه للتمسّك به في دفع احتمال العقاب ، وبعد ما كان العقل بيانا فالأمر قطعي والمخالفة يقينية فالعقاب قطعي فإنّه على ما اعترفت من لوازم المخالفة وهي معلومة بعد الأمر ولو عقلا.

قلت : لا خفاء في أنّ في المقام أمرين :

أحدهما : احتمال العقاب على التكاليف التي لا بيان عليها كوجوب قراءة الدعاء مثلا عند الشكّ فيه.

وثانيهما : العقاب على ترك الاحتياط في الإتيان بما يحتمل الوجوب لاحتمال العقاب ، ولا شكّ أنّ الثاني فرع الأوّل ، فالمحتمل للعقاب إمّا أن يحتمل العقاب على تلك التكاليف ، فلا خفاء في بطلانه عند الكلّ ، فإنّه تكليف بلا بيان ، وعقاب بلا برهان ، ولا يكاد يلتزم به العاقل فضلا عن الفاضل ، فالعقل يستقلّ بعدم العقاب فلا

ص: 345


1- ستعرف في ص 415 - 416.
2- « م » : لا لوجوب.

احتمال وإمّا أن يحتمل العقاب على ترك الاحتياط الذي هو المبيّن بالعقل ، وهو أيضا فاسد إذ القول بقطع العقل بعدم العقاب على تلك التكاليف التي لا بيان عليها هو عين الالتزام بعدم (1) هذا الاحتمال أيضا فإنّه على ما عرفت هو فرع الأوّل ، وبعد القطع بعدم الأصل لا وجه لاحتمال الفرع.

فإن قلت : إنّ مجرى الأصل على ما مرّ في موضوع الشكّ وهو ينافي دعوى القطع بعدم العقاب.

قلت : إنّ القطع بعدم العقاب إنّما هو بعد ملاحظة قبح العقاب بلا بيان وحكمته تعالى ، وذلك ظاهر في الغاية.

هذا إذا كان المراد بالضرر الأخرويّ منه ، وأمّا إذا كان المراد منه الدنيويّ أو ما لا يرجع إلى العقاب على تقديره في الآخرة كأن احتمل عند الشكّ في وجوب قراءة الدعاء رمد العين (2) مثلا و (3) نحوه ، فلو كان مظنونا ، فلا بدّ من الاجتناب عنه لما مرّ في محلّه من حجّية الظنّ في الضرر لانسداد باب العلم فيه ، وإلاّ فهو إنّما يرجع إلى الشبهة في الموضوع الخارجي ؛ إذ العقل يحكم بحرمة الارتكاب فيما فيه ضرر قطعا ولا ترديد له في هذا الحكم بوجه ، وإنّما يشكّ (4) في أنّ الفعل الفلاني هل يوجب (5) ذلك ، أو لا كما إذا شكّ في أنّ هذا المائع الفلانيّ خمر ، أو خلّ فإنّ المدار في تميّز ذلك ظاهر كما لا يخفى على المتدرّب (6) في كلماتهم.

وممّا يؤيّد ذلك أنّ الشبهة الحكمية لا بدّ في رفع الشبهة فيها من الرجوع إلى الأدلّة الشرعية بخلاف الشبهة الموضوعية فإنّ منشأ الشكّ فيها هو الاشتباه في الأمور الخارجة ، فلا بدّ في رفعها من الرجوع إليها ولا ينافيه بيان الشارع في بعض الموارد على ما هو ظاهر.

ص: 346


1- « س » : لعدم.
2- « ج » : + على العقلاء.
3- « م » : أو.
4- « م » : الشكّ.
5- « م » : يوجبه.
6- « ج » : المتدبّر.

وبالجملة ، فالضرر لو كان أخرويا عقابيا ، فقد مرّ أنّه يقبح عند عدم البيان بل الثواب أيضا كذلك (1) اللّهمّ لتفضيل (2) خارج عن الاستحقاق ولو كان دنيويا ، فمرجعه إلى الشبهة الموضوعية وسيجيء الكلام فيه في الأصول الآتية (3).

ثمّ إنّه هل يحكم بالاستحباب فيما إذا دار الأمر بين الوجوب وغير التحريم بصورها ، أو لا بعد القول بعدم الوجوب؟ لا بدّ لتحقيق الكلام فيه من تفصيل في المقام ليتّضح (4) به المرام فنقول :

أمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والإباحة ، فيمكن القول بالاستحباب لأدلّة الاحتياط ، ولأخبار التسامح ولو في بعض موارده ، فإنّ بعض (5) الآخر منه ممّا لا يحتمل فيه تلك الأخبار كما إذا ورد نصّ مجمل (6) يحتمل الوجوب والاستحباب فإنّه يحكم بالاستحباب للاحتياط لا للتسامح ؛ لعدم صدق البلوغ المعتبر في أخباره ولا سيّما فيما إذا لم يكن المسألة معنونة في كلامهم.

وأمّا ما يتوهّم من اتّحادهما ؛ لأول الثاني إلى الأوّل ، فليس بسديد ؛ لأنّ الاحتياط إنّما يفيد الاستحباب الغيري تحصيلا لمطلوب المولى ومحبوبه ، ولا ينافيه عدم الدليل على وجوبه ، فإنّ المحبوبية تغاير الوجوب الفعلي المنفيّ بالأصل ، والتسامح إنّما يفيد الاستحباب النفسي ؛ فإنّ الثواب المترتّب عليه - كما هو صريح أخباره - هو الثواب المترتّب على ذلك الشيء بخلاف الاحتياط ، فإنّه من قبيل الانقياد ، ولا ينافي ما قلنا عدم احتمال الاستحباب - كما هو المفروض من دوران الأمر بين الوجوب والإباحة - إذ الاستحباب الواقعي - الذي هو من آثار (7) المصالح الكامنة في ذات الشيء مع قطع النظر عن هذا اللحاظ - قطعي العدم.

ص: 347


1- « س » : ذلك.
2- « ج » : لتفضّل.
3- « س » : - الآتية.
4- « س » : فيتّضح.
5- كذا. والصواب : البعض.
6- « ج ، م » : محتمل.
7- « س » : - آثار.

وأمّا الاستحباب ولو بملاحظة هذا الاعتبار ، فهو قطعي كما لا يخفى.

وأمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ، فيمكن القول بالاستحباب أيضا من وجهين :

الأوّل : أخبار الاحتياط (1) الآتية على ما سيجيء تفاصيلها.

الثاني : أنّ رجحان الفعل حينئذ قطعي وهو يكفي في أولوية الفعل ، وهذا وإن لم يكن من الاستحباب المصطلح فإنّه أحد الأحكام الخمسة ولا بدّ في تحقّقه (2) من تحقّق (3) جنسه وفصله كليهما ، ومجرّد ثبوت الرجحان الذي هو الجنس القدر المشترك بينه وبين الوجوب لا يقضي (4) بوجود فصله وإن كان فصل الوجوب منفيّا (5) بالأصل إلاّ أنّه يكفي في أولوية الفعل كما لا يخفى.

وأمّا ما قد يتوهّم من أنّ الاستحباب في المقام استحباب ظاهري ، فهو كلام ظاهري لا محصّل له بعد ما عرفت من لزوم تحقّق الفصل في تحقّق النوع ، وعدم كفاية الجنس فقط ، على أنّ الحكم الظاهري إنّما هو في موضوع الشكّ ، ولا شكّ في انتفائه في المقام ، فعلى ما ذكرنا لا نحكم بترتّب آثار الاستحباب عليه ، كما لا نحكم بترتّب آثار الوجوب عليه ، فبالحقيقة (6) نحكم (7) بعدم الاستحباب والوجوب معا ، وإنّما الفعل في مقام الظاهر بالنسبة إلى المكلّف كأفعال الصبيّ من جهة الفعل (8) لا يحسن (9) ، فإنّ الرجحان قطعي ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ومن هنا يظهر عدم اتّجاه الاستناد إلى الأخبار الواردة في مقام التسامح ؛ إذ لا محلّ لها بعد القطع بالثواب.

ص: 348


1- « س » : قطع أخبار الآحاد!
2- المثبت من هامش « س » وفي النسخ : تحقيقه.
3- « م » : تحقيق.
4- « ج » : لا تقضى.
5- « ج » : منتفيا.
6- « ج » : فبتحقيقه.
7- « ج ، م » : يحكم.
8- « س » : - الفعل.
9- « ج » : - من جهة الفعل يحسن.

وأمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والكراهة فقد يحتمل (1) عدم القول بالاستحباب إلاّ أنّ الأقوى ذلك للأخبار الآمرة بالاحتياط لا لأخبار التسامح على ما هو ظاهر لا سترة فيه.

هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية فيما إذا كانت الشبهة ناشئة عن فقد النصّ ، ومثله الكلام فيما إذا كانت لإجمال في الدليل من غير فرق بين نفي الوجوب وإثبات الاستحباب في الصورة المذكورة والغير المذكورة ممّا إذا دار الأمر بين الوجوب والاثنين من الأحكام غير الحرمة كما لا يخفى.

وأمّا إذا كانت من تعارض النصّين ، فمجمل الكلام فيه أنّه لا بدّ من التخيير فيما يجري فيه الأخبار الدالّة على التخيير ، وعلى تقدير عدم جريانها ، فلا بدّ من الأخذ بالأصل لا على وجه يكون مرجّحا للخبر (2) حتّى يصير مقرّرا بل على وجه يكون مرجّعا (3) على ما سيجيء تفصيل الكلام فيه في محلّه إن شاء اللّه.

ص: 349


1- « ج » : يتخيّل.
2- « س » : للتخيير!
3- « م » : مرجعها.

ص: 350

أصل [ في البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية ]

في الشبهة التكليفية التحريمية فيما إذا كانت الشبهة ناشئة عن فقد النصّ أو إجماله ، وأمّا إذا تعارض النصّان ، فتفصيل الكلام فيه في مباحث التعادل والتراجيح ، وملخّص الكلام فيه أنّ المرجع إلى التخيير فيما إذا دلّ عليه دليل شرعا ، وإلى الأصول فيما إذا خالف أحدهما لها ولم يكن ما يدلّ على التخيير الشرعي ، وإلاّ فالتخيير العقلي.

وبالجملة ، فالمجتهدون في المقام على البراءة وكثيرا ما يعبّر عنها (1) في لسانهم بالإباحة نظرا إلى ظهور البراءة في نفي الوجوب فقط في قبال الاشتغال ، وإنّما نظرهم في ذلك ليس إلى مجرّد حكم العقل فإنّه على ما عرفت لا يزيد حكمه على رفع العقاب والمؤاخذة ، ولذا يعبّر عنه بأصالة النفي بل الحكم بالإباحة في الشبهة التحريمية إنّما يستند إلى الأدلّة الشرعية كما نبّهنا عليه فيما تقدّم.

والأخباريون على الاحتياط جميعا وربّما ينسب إليهم (2) أقوال (3) كالقول بالحرمة الواقعية أو الظاهرية أو التوقّف أو الاحتياط ، وقد يستشكل في الفرق بينها بعد وفاقهم على التحريم وعدم جواز الإتيان بالفعل إلاّ أنّه يمكن أن يقال :

ص: 351


1- « س » : عنه.
2- نسبه إليهم الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية : 240 والرسائل الأصولية ( رسالة البراءة ) : 349 - 350 ، ونقله المحقّق القمّي في القوانين 2 : 27 والنراقي في مناهج الأحكام : 223.
3- المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : أقوالا!

أمّا الحرمة (1) الواقعية ، فالظاهر (2) أنّها غير مصرّح بها في كلامهم ، فلعلّها مأخوذة من ظاهر لفظ الحرمة بعد تقييدها في كلام بعضهم بالحرمة (3) الظاهرية ، ويحتمل أن يكون المراد بها أصالة الحظر المقرّرة في الأصل السابق.

وأمّا الحرمة الظاهرية فيفترق (4) من التوقّف والاحتياط بأنّ الحرمة فيها تشريعية ظاهرية بخلاف الحرمة فيهما فإنّها إرشادية محضة كما يشعر به قوله في الخبر الآتي « هلك من حيث لا يعلم ».

وأمّا التوقّف والاحتياط ، فلا يكاد تحقّق (5) الفرق بينهما إلاّ في عنوان الأخبار الواردة فيهما ؛ فإنّ جملة منها تشتمل (6) على لفظ التوقّف والوقوف ، وجملة أخرى على لفظ الاحتياط وإلاّ فبحسب المعنى لا فرق بينهما (7) ؛ فإنّ التوقّف (8) معناه عدم ارتكاب المكلّف الشيء المأمور بالتوقّف (9) فيه وهو بعينه الأخذ بالأوثق كما هو المراد بالاحتياط لكنّ الإنصاف أنّ المعنى في الكلّ واحد ، وليس في كلامهم ما يدلّ على خلاف ذلك بل إنّما هو مجرّد اختلاف في العبارة والمقصود ظاهر.

وكيف كان ، فالحقّ ما ذهب إليه الأصوليون المجتهدون لوجوه من الأدلّة :

الأوّل : الكتاب العزيز وهي آيات بيّنات :

منها : ما مرّ في الأصل السابق وهي آية التعذيب وقد مرّ وجه الدلالة فيها وصحّة التقريب على وجه يليق بالمقام.

ص: 352


1- « س » : أن يقال بالحرمة.
2- « ج » : أن يقال إمّا بحرمة الواقعية والظاهر.
3- « م » : - بالحرمة.
4- « س » : فتفرق.
5- « س » : يحقّق.
6- « ج » : يشمل.
7- لم يرد قوله : « إلاّ في عنوان الأخبار ... » إلى هنا في نسخة « س » وسيأتي بعد سطرين والظاهر وقع فيها سقط وتقديم وتأخير وتكرار بعض الكلمات فلاحظ ما سيأتي في التعليقة الآتية.
8- « ج » : التوقيف.
9- هنا في « س » زيادة ما يلي : وجملة أخرى على لفظ الاحتياط وإلاّ فبحسب المعنى لا فرق بينهما فإنّ التوقّف معناه عدم ارتكاب المكلّف الشيء المأمور بالتوقّف.

ومنها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1) وجه الدلالة أنّ التكليف التحريمي فيما اشتبه حكمه بواسطة فقد النصّ أو إجماله كشرب التتن مثلا ممّا لم يأت النصّ به ، ولا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها ، فلا تكليف فيه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ صدر الآية إنّما هو في الإنفاق بالأموال ، فلا يرتبط بالمقام.

ومنها : قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (2) والتقريب ظاهر إلاّ أنّ الاعتراض عليه أيضا ممكن ، فالأوضح من الكلّ هو آية التعذيب كما نبّهنا عليه.

الثاني : الإجماع نقلا في كلام جملة من الأعاظم ، وتحصيلا من غير الأخباري كما يظهر ذلك من استنادهم ذلك إلى المجتهد من غير استثناء كما لا يخفى.

الثالث : الأخبار وهي كثيرة جدّا ، فمنها قوله : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (3) وجه الدلالة أنّ الحرمة في واقعة شرب التتن مثلا ممّا حجب اللّه علمه عنّا وكلّ ما حجب اللّه علمه عنّا ، فهو موضوع عنّا ، فالحرمة في الواقعة المفروضة موضوعة عنّا وهو المطلوب.

فإن قلت : إنّ الرواية ظاهرة في ما إذا حجب اللّه علم شيء مخزون عنده أو عند أوليائه كأسرار القضاء والقدر ونحوهما كما يشتمل (4) عليه ذيل الخبر النبوي الآتي من أنّ رفع عن أمّتي إلخ فعلى هذا يصير مفادها بعينها مفاد قوله : « اسكتوا عمّا سكت اللّه

ص: 353


1- الطلاق : 7.
2- الأنفال : 42.
3- الوسائل 27 : 163 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 33 ؛ البحار 2 : 280 ، باب 33 ، ح 48 و 5 : 196 ، باب 7 ، ح 7 ؛ التوحيد للصدوق : 413 ، باب 64 ، ح 9 ، وورد من دون قوله : « علمه » في الكافى 1 : 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 3 ، وفي تحف العقول : 365 في حكم ومواعظ الصادق عليه السلام : وقال عليه السلام : كلّ ما حجب اللّه عن العباد فموضوع عنهم حتّى يعرّفهموه. ومثله في ارشاد القلوب 2 : 240.
4- « س » : كالمشتمل.

عنه » (1) فلا يصحّ الاستناد إليها في أمثال المقام للفرق الظاهر بين ما إذا كان الأسباب المفيدة للعلم (2) فيه موجودا (3) وبين ما إذا كان مفقودا (4) ، فالوضع - كما هو المستفاد من الرواية - إنّما في المقام الثاني ، والمطلوب إنّما يتمّ فيما إذا كان من الأوّل كما لا يخفى.

قلت : إسناد الحجب إليه تعالى لا يخلو من وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يكون هو العلّة للحجب من غير مدخلية للعبد فيه تسبيبا وغيره كما في الأسرار المخزونة في علمه والمكنونة عند أهلها ، فيكون المراد من الرواية على هذا ما حجب اللّه علمه عن العباد لعدم جعله طريقا يوصلهم إليه ، فهو موضوع عنهم.

وثانيها : أن يكون هو الحاجب تسبيبا منّا كأن يكون على وجه المباشرة منه تعالى ، ولكنّ السبب في الحجب منّا كما هو مفاد قوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (5) وذلك أيضا ظاهر كما في غيبة الإمام عليه السلام فإنّ الفاعل غيرنا ونحن السبب فيها.

وثالثها : أن يكون الحاجب غيره إلاّ أنّه أسند (6) إليه من جهة عدم رفعه للموانع بعد وضعه أسباب العلم كإرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر بالبيان والتبليغ ونحوه على وجه لا يستند (7) الحجب إليه إلاّ مجازا بعيدا لا يصار إليه إلاّ لقرينة مقتضية له ؛ لا شكّ في بطلان دعوى الانصراف إلى الأوّل فقط كما يظهر بالتأمّل في ذيل الحديث من قوله : « فهو موضوع عنهم » إذ لا امتنان فيه بعد ظهوره فيه كما لا يخفى فساد توهّم (8) التعميم بالنسبة إلى الثالث أيضا لما عرفت من بعده (9) من إسناد الحجب إليه تعالى ، فالأوسط أوسط الوجوه ، وبه يتمّ المطلوب فإنّه يصير حينئذ مثل قوله : « كلّ ما غلب

ص: 354


1- عوالى اللآلى 3 : 166 ، باب الحج ، ح 61.
2- « ج » : للعلّة!
3- كذا.
4- كذا.
5- الرعد : 11.
6- « ج » : مسند.
7- « س » : يسند.
8- « ج » : توهمهم.
9- « ج » : العلّة!

اللّه فيه فهو أولى بالعذر » (1) كما في الأمراض فإنّ السبب غالبا منّا إلاّ أنّ المباشر غيرنا ولا يجري ذلك فيما إذا كان المكلّف سببا على وجه لا يصحّ إسناد المرض إلى غيره إلاّ من جهة عدم رفعه للموانع كما إذا شرب المرقد أو المسكر.

وبالجملة ، ففيما إذا كان المكلّف سببا للحجب من اللّه تعالى دلّ الرواية على البراءة ولا قائل بالفصل فيتمّ المطلوب ، فتأمّل.

ومنها : قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (2) وجه الدلالة ظاهر سواء كانت « ما » زمانية أو موصولة مضافا إليها (3) للمجرور.

لا يقال : العلم بالتكليف أعمّ من أن يكون إجماليا أو تفصيليا ، وسعة الجهل وعدم العلم لا يجدي في العلم الإجمالي لوجوده فإنّا نعلم وجدانا بوجود محرّمات كثيرة وواجبات كثيرة ، فلا يصحّ التمسّك بالرواية بعد العلم ولو إجمالا.

لأنّا نقول : إنّ الأصل المذكور إنّما يجري بعد حجّية الأخبار الآحاد عند المجتهد أو ما يكفي (4) عن رفع العلم الإجمالي بالتكاليف المحرّمة ، أو الواجبة من غيرها من الأمارات وبعدها لا يبقى (5) العلم الإجمالي ، فعالم الجهل أوسع من الكلّ فيتمّ التقريب.

ومنها : ما رواه الصدوق في التوحيد في الصحيح عن حريز عن الصادق عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا (6) عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في

ص: 355


1- الوسائل 8 : 259 - 263 ، باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 3 و 7 و 8 و 13 و 16 و 24 و 10 : 226 - 227 ، باب 24 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، ح 3 و 6 مع تفاوت في بعضها.
2- مستدرك الوسائل 18 : 20 ، باب 12 من أبواب مقدّمات الحدود ، ح 4 عن عوالى اللآلى 1 : 424 / 109. وتقدّم في ص 158 وسيأتي في ص 528 و 586.
3- « م » : إليه.
4- « م » : تكفي.
5- « ج » : لا ينفى!
6- في المصدر : ما أكرهوا.

الخلق ما لم ينطقوا (1) بشفة » (2).

والتقريب : أنّ الحرمة المشتبهة ممّا لا نعلمها وقد رفع عن تلك الأمّة المرحومة المؤاخذة عمّا لا يعلمون والعقاب عليه وهو المطلوب.

وربّما يشكل الاستناد إلى الرواية من حيث إنّ (3) ظاهر السياق إرادة الموضوع والفعل من الموصول كما في « ما استكرهوا عليه » و « ما لا يطيقون » و « ما اضطرّوا إليه » فإنّ المراد منه الفعل المستكره عليه والفعل الذي لا يطيقونه ، فالمعنى رفع عن أمّتي الفعل والموضوع الذي لا يعلمونه على حذو (4) سائر الفقرات إلاّ أنّه يمكن أن يقال : أن ليس المراد ممّا لا يعلمون نفس الفعل وحقيقته فإنّه لا يترتّب على ذات الفعل والعلم بها حكم شرعي ، فلا بدّ من تقدير كأن يقال : إنّه رفع عن أمّتي المؤاخذة على فعل ما (5) لم يعلم حكمه ، ولا ينافي السياق أيضا إذ السياق لا يزيد حكمه على اعتبار الموصول كناية عن الفعل ، ولا بدّ من تقدير الحكم ليصحّ الرفع ، فإنّ ما للشارع أن يضعه له أن يرفعه في مقام التشريع ، وليس إلاّ الحكم المتعلّق بالأفعال ، فعدم العلم بحكمها ممّا قد منّ اللّه تبارك وتعالى برفع العقاب عنه وهو أعمّ من أن يكون بحسب أصل الشريعة كما في الشبهة الحكمية أو بواسطة أمر خارجي كما في الشبهة الموضوعية. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الظاهر اختصاص الرواية بالشبهة في الموضوع وهو في محلّ من المنع ، فتأمّل.

فإن قلت : المراد بما لا يعلمون إن كان مطلق العلم تفصيليا كان أو إجماليا ، فلا امتنان لاشتراط التكليف عقلا بالعلم على وجه يستحيل خلافه وهذا حكم يعمّ سائر الأمم ، فلا يختصّ تلك الأمّة المرحومة بالعفو عنه - كما هو ظاهر الرواية - والامتنان

ص: 356


1- في المصدر : لم ينطق وفي الوسائل كما في المتن.
2- التوحيد : 353 ، باب 56 ، ح 24 ورواه أيضا في الخصال : 417 ، باب التسعة ، ح 9 ، وعنهما في الوسائل 15 : 369 ، باب 56 من أبواب جهاد النفس ، ح 1 ، وسيجيء في ص 528 و 553.
3- « س » : - إنّ.
4- « س » : حدّ.
5- « ج ، س » : - ما.

وإن كان خصوص العلم التفصيلي وإن كان ممّا لا يعلمونه (1) ولو إجمالا ، فالرفع غير ثابت لا في تلك الأمّة ولا في غيرها.

قلت : لا خفاء في قبح العقاب على التكاليف الواقعية مع عدم العلم بها وهذا الحكم سواء في جميع الأمم ولكنّه لا قبح في إيجاب الشارع الاحتياط فيه كأن يقول : كلّما احتملت وجوب شيء أو حرمته يجب عليك الإتيان بالواجب المحتمل والاجتناب عن المحرّم المحتمل ، فلو حكم الشارع في تلك المحتملات بالإطلاق ورفع المؤاخذة عنها كما هو مدلول الرواية ، فقد منّ منّة عظيمة لا تسعها السماوات والأرض على تلك الأمّة المرحومة ، ويحتمل إيجاب الاحتياط في سائر الأمم فعلى هذا الرواية هذه معارضة لأخبار الاحتياط بخلاف مثل قوله : « الناس في سعة » ونحوه إذ يمكن القول بأنّ أخبار الاحتياط بيان وعلم.

وبالجملة ، فلا بدّ من القول بعدم وجوب الاحتياط امتنانا منه تعالى على عباده كما هو المستفاد من الرواية.

ثمّ اعلم أنّه قد يورد على الرواية بمثل ما أوردناه فيما لا يعلمون بالنسبة إلى الأحكام العقلية الأخر كرفع السهو والنسيان وما لا يطيقون ونحوها.

وقد يجاب بأنّ الامتنان حاصل بالمجموع من الأحكام العقلية وغيرها كالطيرة مثلا.

وركاكته ظاهرة إذ لا وجه لاختصاصه صلى اللّه عليه وآله بالتسعة إذ الأحكام العقلية كثيرة جدّا فقد يزيد على مائة ، فلا بدّ من توجيه آخر كأن يقال في النقض بالسهو (2) مثلا : إنّ حكم السهو مرفوع سواء كان من جهة القصور ، أو التقصير ، وفيما (3) لا يطيقون يعني ما

ص: 357


1- المثبت من « م » ، وفي « س » : « ممّا يعلمون » ولم يرد قوله : « وإن كان ممّا لا يعلمونه » في نسخة « ج ».
2- « ج ، م » : في البعض كالسهو.
3- « م » : ممّا!

لا يتحمّل عادة كما يفصح عن ذلك الآية في آخر البقرة (1) ، لكنّه يشكل الالتزام بما ذكر في السهو كما لا يخفى إلاّ أنّه غير ضائر (2) فيما نحن بصدده.

ومنها : قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (3) وجه الدلالة أنّ الرواية قد دلّت على إباحة كلّ شيء وإطلاقه ما لم نعلم بورود أمر فيه أو نهي (4) ، فشرب التتن ممّا لم نعلم بورود النهي فيه ، فهو مطلق في حقّنا ومباح لنا في مرحلة الظاهر حتّى نعلم فيه بالنهي.

فإن قلت : لا وجه للاستناد إلى الرواية في وجه ولا حاجة إليها في وجه آخر فإنّ المراد بورود النهي هو الورود الواقعي ، فعند الشكّ في ورود النهي لو لم يستند بأصالة عدم ورود النهي لا وجه للاستناد إليها ، فلعلّه وارد في الواقع ومعه (5) لا حاجة إلى الاستناد إليها فإنّه يترتّب آثار الإطلاق والإباحة بمجرّد جريان الأصل المذكور.

قلت : المراد بالورود هو العلم بالنهي ، ولا يلزم تحصيل الحاصل ، أو العبث وإظهار ما لا فائدة فيه ؛ لأنّ المراد بالإطلاق هو ما لا منع فيه فالمقصود بهذه القضيّة لو كان إفادة الإطلاق والإباحة قبل ملاحظة جعل الأحكام منه ، يلزم الأمر الأوّل لأنّ قبل هذه الملاحظة لا منع في شيء ، فيصير المعنى كلّ شيء لا منع فيه لا منع فيه وهو تحصيل للحاصل ؛ لأنّ المقصود بالخبر والقضيّة إثبات المحمول للموضوع والمفروض أنّ المحمول جزء من الموضوع أو معتبر فيه ، فلو حاولنا مع ذلك إثبات المحمول له ،

ص: 358


1- في الآية 286 : ( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. )
2- « ج » : ضارّ.
3- الوسائل 6 : 289 ، باب 19 من أبواب القنوت ، ح 3 ، و 27 : 173 - 174 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 67 وورد في مصادر الحديث : « يرد فيه نهي » من دون قوله : « أمر أو ».
4- سقط قوله : « وجه الدلالة ... » إلى هنا من نسخة « س ».
5- « م » : مع!

يلزم تحصيل الحاصل بغير حصوله ، ولو كان المقصود بها إفادة الإطلاق بعد جعل الأحكام ، يلزم الأمر الثاني لأنّ بعد الجعل وحصر الأحكام المجعولة في الخمسة يلزم من نفي الأربعة إثبات الأخير لمكان الحصر والتضادّ ، فيصير المعنى كلّ ما لا وجوب فيه واقعا ولا تحريم فيه كذلك ، أو لا استحباب ولا كراهة فيه - لو عمّمنا الأمر والنهي إليهما - فهو مباح ومطلق ، وهل هذا إلاّ بمنزلة أن يقال : كلّ ما لا حركة فيه ، فهو ساكن ، وليس (1) هذا إلاّ إظهارا لأمر بديهي يحترز عنه العقلاء ، ولا يصلح لحمل كلمات أرباب العصمة والحكمة عليه كما لا يخفى ، فتعيّن أن يكون المراد بالورود - [ و ] هو العلم بالأمر والنهي - ورودهما على المكلّف ، ولعمري إنّه دليل ساطع ، وبرهان قاطع لإثبات الإباحة الظاهرية لا يدانيه ريب كما لا يخفى بل لا يبعد القول بجواز الاستناد إليه في الشكّ في المكلّف به أيضا (2) كما استند إليه الصدوق (3) في الفقيه (4) في باب جواز القنوت بالفارسية ، فإنّ المحصّل في تلك الواقعة رجوعها إلى الشكّ في المكلّف به إذ الكلام في مانعية الفارسية للصلاة ، ومرجعها إلى اشتراط عدمها كما في جميع الموانع ، فيؤول الكلام إلى أنّ إتيان الصلاة على الوجه المخصوص يكفي عن الاشتغال اليقيني ، أو لا؟ وذلك ظاهر وسيزيد (5) ظهورا فيما سيجيء إن شاء اللّه تعالى.

ومنها : صحيحة عبد اللّه بن سنان رواها في الكافى في نوادر المعيشة عن الصادق عليه السلام : « كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال [ أبدا ] حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (6).

ص: 359


1- « س » : « إن » بدل : « ليس ».
2- « ج » : فيها. « س » : منعا!
3- « س » : + رحمه اللّه.
4- الفقيه 1 : 317 / 937.
5- « ج » : سنزيد.
6- الكافى 5 : 313 / 39 ؛ الوسائل 17 : 87 - 88 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1 ، و 24 : 236 ، باب 64 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 2 وسيأتي في ص 412 و 448 و 456 و 589 وج 4 ، ص 37 و 107.

واستند إليه الفاضل التوني في الوافية (1) ووجّهها السيّد الشارح صدر الدين (2) بتوجيه ، واعترض عليه المحقّق القمّي (3) ، ولا بدّ لنا من توضيح الحال ، وتحقيق المقال ، فنقول : الظرفية المستفادة من قوله : « فيه » تحتمل وجوها :

الأوّل : أن تكون (4) ظرفية اشتمال على حذو اشتمال الكلّ للأجزاء ، فينطبق على الشبهة الموضوعية المحصورة وغير المحصورة ، وعلى الشبهة الحكمية فيما لو انضمّ العنوان المشتبه إلى عنوان معلوم الحلّ والحرمة ، فإنّ الإناءات المشتبهات شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، والعناوين المنضمّ بعضها إلى الآخر شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

الثاني : أن تكون الظرفية ظرفية إحاطة وسريان على نحو ظرفية الكلّي للجزئيات فينطبق على الشبهة الحكمية فإنّ الغناء والغيبة له (5) أفراد محلّلة وأفراد محرّمة وهو شيء فلك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، وعلى الشبهة الموضوعية كاللحم فإنّ المذكّى منه حلال والميتة حرام ، فهو لك حلال عند الجهل والاشتباه حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

الثالث : أن تكون الظرفية توسّعية معنوية على وجه يتطرّق المظروف في الظرف يعني له أن يقال في حقّه : حلال وحرام ، ويمكن اتّصافه بالحلّ والحرمة فيعمّ القسمين.

أمّا الشبهة الحكمية ، فلأنّ شرب التتن ممّا يمكن اتّصافه بالحلّ والحرمة.

وأمّا الشبهة الموضوعية كاللحم المشترى من السوق فإنّه يمكن أن يقال في حقّه : حلال كما في اللحم المذكّى ، ويمكن أن يقال فيه : حرام كما في اللحم الغير المذكّى والميتة ، فشرب التتن كاللحم المشترى من السوق شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

ص: 360


1- الوافية : 181.
2- سيوافيك نصّ عبارته في التعليقة الآتية.
3- القوانين 2 : 19.
4- في النسخ : يكون وكذا في الموردين الآتيين.
5- كذا. والصواب : لهما.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ السيّد المذكور (1) قد سلك في تقريب الاستدلال

ص: 361


1- شرح الوافية ( مخطوط ) : 99 / ب - 100 / ب ، وبما أنّ الكتاب بعد مخطوط نذكر نصّ عبارته تتميما للفائدة ، قال : أقول : الموصوف بالذات للحكم الشرعي من الحلّ والحرمة هو بعض الأفعال الاختيارية التي ليس ممّا يضطرّ الإنسان إليه في بقائه ، وقد يوصف بعض الأعيان بالحلّ والحرمة والمراد حلّ الفعل المتعلّق به ( في هامش النسخة : فهذا وصف بحال المتعلّق ) وحرمته ، ولمّا كان هذا لبعض مشتملا على سب [ كذا ] حلّ الفعل أو حرمته يقال له الحلال أو الحرام فالحيوان والنبات والجماد كلّها إذا كان متعلّقا لفعل الإنسان يكون من الأمور التي فيه الحلال والحرام ، وأمّا ما ليس متعلّقا لفعله ، فليس كذلك وقد يكون نفس بعض الفعل أو الترك متّصفا بالحكم الشرعي من غير مدخلية متعلّقه مثلا ، يقال للآكل على التخمة : إنّه حرام ولا يلاحظ فيه حا [ ل ] المأكول فربما كان حلالا ، وللآكل مع الرغبة وصحّة البدن : إنّه حلال من غير ملاحظة حال المتعلّق ، وربما كان واجبا عند توقّف قيام البدن عليه مع حرمة المأكول كأكل الميتة للمضطرّ. ثمّ إنّ بعضا من هذا البعض من الأفعال إن لم يرد لحكمه نصّ لا بلفظ خاصّ ولا عامّ ، علم كونه فردا له يصدق عليه أنّه من جملة الأشياء التي تنقسم إلى الحلال والحرام سواء كان متعلّقه مندرجا تحت جنس له نوعان أو نوع له صنفان ، وعلم من النصّ حلّية أحد النوعين أو الصنفين وحرمة الآخر أم لا ، فالأوّل كأكل اللحم المشترى من سوق المسلمين مثلا ، والثاني كاستعمال الحشيشة التي اشتهرت في هذه الأزمنة مثلا لأنّ الشارع جعل أكل اللحم المذكّى حلالا ، وجعل أكل الميتة حراما ، وليس لنا نصّ في حكم اللحم الذي اشتريناه وهو يحتمل أن يكون فردا من الصنف المذكّى كما يحتمل أن يكون من الصنف الآخر ، وأمّا الحشيشة فلم نظفر بنصّ يدلّ على الحلّ والحرمة في نوعين أو صنفين يحتمل كونها فردا لواحد منهما حتّى ينقسم استعمالها من جهة متعلّقه إلى الحلال والحرام ولا ريب في أنّه يصدق على كلّ من القسمين أنّه شيء فيه حلال وحرام عندنا بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما للحكمين فنقول : هذا الشيء إمّا حلال ، وإمّا حرام وأنّه من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها وأصنافها حلالا وبعضها حراما ، واشترك القسمان أيضا في أنّ الحكم الشرعي المتعلّق بهما غير معلوم ، ويفترقان في أنّ الأوّل حكم متعلّقيه معلوم بخلاف الثاني ، فلو سألنا عن هذا اللحم المشترى المردّد بين الميتة والمذكّى : أهو حلال أو حرام؟ لقلنا لا نصّ فيه ولا نعلم حكمه بخصوصه ، ولكنّه إن كان من المذكّى فحلال ، وإن كان ميتة فحرام بالنصّ الوارد فيهما. ولو سألنا عن الحشيشة ، لقلنا مثل الأوّل من غير عقد القضيّة الشرعية والعقل لا يرجّح إباحة القسم الأوّل وحرمة الثاني والتوقّف فيه بل لو فرضنا حصر اللحوم مع القطع بأنّ فيها ميتة وأكلنا الجميع لجزمنا بأكل الحرام ، ولو فرضنا استعمال جميع أفراد تلك الحشيشة ما جزمنا بفعل محرّم. إذا عرفت هذه المقدّمات فنقول : قد ورد مضمون هذا الحديث أو قريب منه بألفاظ متقاربة كقوله عليه السلام : « كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم الحرام فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم لك البيّنة ». فقوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » يحتمل أحد معان ثلاثة : الأوّل : كلّ فعل من جملة الأفعال التي تتّصف بالحلّ والحرمة وكذا كلّ عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة إذا لم تعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ والحرمة ، فهو لك حلال ، فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطرارية والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف وما علم أنّه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه ، وليس الغرض من ذكر هذا الوصف مجرّد الاحتراز بل هو مع بيان ما فيه اشتباه. فصار الحاصل أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما ، فهو حلال سواء علم حكم لكلّيّ فوقه أو تحته بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته ، أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه أيضا ، أم لا. الثاني : أنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندك بمعنى أنّك تقسم إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ، أو لا تدري المعيّن منهما فهو لك حلال. الثالث : أنّ كلّ شيء تعلم له نوعين أو صنفين نصّ الشارع على أحدهما بالحلّ وعلى الآخر بالحرمة ، واشتبه عليك اندراج هذا الفرد فلا تدري من أيّ النوعين أو الصنفين هو ، فهو لك حلال ، فيكون معنى قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » أنّه ينقسم إليهما. ويمكن أن يكون المراد بالشيء الجزئي المعيّن وحينئذ يكون المعنى أنّه يحتمل الحلّ والحرمة للاشتباه في كونه فردا للحلال أو الحرام مع العلم بهما لنصّ الشارع عليهما ، وحاصل المعنيين أمر واحد ، والمعنى الثالث أخصّ من الأوّلين ، والثاني مرجعه إلى الأوّل وهو الذي ينفع القائلين بالإباحة ، والثالث هو الذي حمل القائل بوجوب التوقّف والاحتياط ، هذه الأحاديث عليه.

ص: 362

بالصحيحة المذكورة المسلك الأخير.

ولا يكاد يخفى فساده أمّا أوّلا ، فلأنّ حمل الظرفية على هذه الظرفية التي لا يكاد يوجد استعمال كلمة « في » فيها من غير ضرورة داعية إليه تعسّف بارد ، وتكلّف فاسد ، فصدر الرواية ممّا لا يقبل هذا التأويل ، وأمّا ثانيا ، فقوله (1) عليه السلام في ذيل الخبر : « حتّى تعرف الحرام منه بعينه » لا يصلح أن يكون غاية لما قبله بل المناسب حينئذ (2) أن يقول : حتّى تعلم أنّه حرام ، فإنّ ورود النهي بالنسبة إلى شيء خاصّ لا يؤثّر في تحريم غيره ، ومعرفة الحرام بعينه لا يجدي في حلّية مشتبه كما لا يخفى.

وتوضيح ذلك أنّ مقتضى كون الحكم مغيّا بغاية هو تبيّن حكمه بعد وصول الغاية لا ظهور حكم فرد منه ، فالحكم في حلّية شرب التتن مغيّا إلى معلومية حكمه بنفسه لا إلى معرفة الفرد المحرّم منه بعينه ، وذلك ظاهر في الغاية ، فلا وجه لحمل الرواية على هذا المعنى الآبي منه صدرها وذيلها.

وأمّا الوجه الأوّل ، فلا يذهب وهم إلى جواز حمل الرواية عليه فإنّ المتبادر من لفظ « الشيء » الواقع فيها هو كون الشيء واحدا وحدة حقيقية لا وحدة اعتبارية كما في الشبهة المحصورة ولا جعلية كما في انضمام العنوان المعلوم حكمه إلى ما ليس كذلك.

نعم ، ينطبق الحديث فيما إذا كان للشيء وحدة حقيقية عرفية كما في اللحم المشترى من السوق فإنّ فيه حلالا وحراما ، فاللحم لك حلال حتّى تعرف الفرد المحرّم منه.

وأمّا الوجه الثاني ، فهو وإن كان يناسبه صدر الرواية إذ الظرفية في الكلّي والأفراد ممّا لا غبار عليها إلاّ أنّ ذيل الرواية يأبى عن الحمل عليه فإنّه لا يعقل أن يكون معرفة الفرد المحرّم غاية لحلّية الفرد المشتبه.

ص: 363


1- في النسخ : قوله.
2- « س » : - حينئذ.

نعم ، لو كان ذيل الرواية « حتّى تعلم أنّه حرام » جاز التمسّك بها في الشبهة الحكمية كما في رواية أخرى [ عن مسعدة بن صدقة ] عن الصادق عليه السلام « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » (1) فيا ليتها كانت على وجه لا ينافي صدرها الحمل على الشبهة الحكمية ، وإلاّ فذيلها ممّا لا غبار عليه عكس الرواية التي نحن بصددها ، والحاصل أنّه (2) لا وجه للاستناد إلى الرواية في الشبهة الحكمية والموضوعية معا على الوجوه الثلاثة ، أمّا الوجهان اللذان استظهر السيّد المذكور أحدهما ، واحتمل الآخر بعضهم ، فظاهر ذلك فيهما.

وأمّا الوجه الثاني منها ، فلا يناسب ذيلها ذلك الحمل لمكان الغاية.

وتوضيحه وتحقيقه أن يقال : لا شكّ في أنّ الحرام المجهول قد يكون الجهل فيه باعتبار الوصف وهي الحرمة كما في الشبهة الحكمية ، وقد يكون باعتبار الموصوف بعد العلم بالوصف ، فلا يعلم أنّ الموصوف بذلك الوصف هذا الفرد أو غيره كما في الشبهة الموضوعية ، فالعلم بالوصف يصير غاية لحلّية ما لم نعلم بالوصف فيه من جهة الجهل بالحكم الشرعي ، ولا يصحّ أن يكون العلم بالحكم الشرعي غاية لحلّية ما لم نعلم بالموصوف وفرديته للحرام الشرعي ، والعلم بالموصوف غاية لحلّية الفرد المحرّم في الشبهة الموضوعية ، ولا يمكن أن يصير غاية لحلّية ما لم نعلم فيه الحكم الشرعي ، ووصف الحرمة مثلا في المثالين المذكورين في المقام العلم بحرمة غيبة الفاسق يمكن أن يكون غاية لحلّية المشتبه منها ، ولا يصحّ أن يكون العلم باندراج كلام خاصّ في غيبة الفاسق غاية لحلّية المشتبه ، ويمكن أن يكون العلم باندراج الفرد الخاصّ من اللحم في الميتة غاية لحلّية المشتبه من اللحم في (3) الموضوعات ، ولا وجه لكونه غاية لحلّية النوع المشتبه من اللحم في الشريعة.

ص: 364


1- الوسائل 17 : 89 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
2- « ج ، م » : أن.
3- « س » : « و» بدل : « في »!

والسرّ في ذلك أنّه ربّما يحصل العلم بالفردية أو الحكم الشرعي في المقامين ولا يترتّب على هذا العلم أحكام بعد الغاية وذلك ظاهر ، فلو حملنا الرواية على الأعمّ من الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، فإن (1) حملنا المعرفة المعتبرة في الغاية على الأعمّ من معرفة الموضوع ومعرفة الحكم ، يلزم أن يكون معرفة الموضوع غاية لحلّية المشتبه الحكمي ومعرفة الحكم غاية لحلّية المشتبه الموضوعي وبطلانه ظاهر ، وإن حملناها على المعنيين استقلالا من غير ملاحظة الجامع بينهما ، يلزم استعمال اللفظ في أكثر من المعنى الواحد لا من حيث إنّ سبب المعرفة في الحكم هو الدليل الشرعي ، وفي الموضوع الأمارات الشرعية كالبيّنة على ما توهّمه (2) بعضهم بل للجهة (3) المذكورة ، وهل ذلك إلاّ مثل أن يقال : اغتسل للجمعة والجنابة مريدا في الأوّل الاستحباب ، وفي الثاني الوجوب مع عدم ما يدلّ على التوزيع بينهما ، فظهر أن لا وجه لحمل الرواية على الأعمّ ولو بالنظر إلى الوجه الثاني أيضا.

لا يقال : بعد عدم إمكان الجمع بينهما فليحمل الرواية على الشبهة الحكمية.

لأنّا نقول أوّلا : فليحملها على الشبهة الموضوعية.

وثانيا : أنّ رواية صدقة (4) الواردة في بيان الموضوع قطعا لاشتمال صدرها وذيلها على الموضوع كما يرشدك قوله عليه السلام فيها : « سأخبرك عن الجبن وغيره » قريبة عن هذا بل لا يوجد بينهما اختلاف إلاّ فيما لا مدخل له في ذلك ، والأخبار يكشف بعضها عن بعض ، فيصير قرينة على إرادة الموضوع منها.

وثالثا : إنّ صدر الرواية ينافي حملها على الحكمية فإنّ قوله : « يكون فيه حلال

ص: 365


1- « س » : فلو. « م » : ولو.
2- « م » : توهّم.
3- « س » : من الجهة.
4- كذا في النسخ وتقدّمت رواية مسعدة بن صدقة في الصفحة السابقة ، والصواب : رواية عبد اللّه بن سليمان التي أورد قطعة منها في السطر الآتي وهي في الوسائل 25 : 117 - 118 ، باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 1. وسيأتي بتمامه في ص 589.

وحرام » على تقدير إرادة الموضوع يصير بيانا لمورد الشبهة وما به قوامها وإن لم يكن احترازية كما زعمه السيّد المذكور بخلاف ما لو حملناها على الشبهة الحكمية إذ يلغو التقييد عن أصله لأنّ (1) قوام الشبهة في الحكمية ليس على أن يكون هناك شيء يكون فيه حلال وحرام فإنّها يتحقّق في غيرها أيضا بل وهو الغالب كما في شرب التتن وأمثاله ، فظهر أنّه لا وجه لحملها على الشبهة الحكمية فقط كما لا وجه لحملها على الأعمّ منهما.

نعم يمكن أن يوجّه بتوجيهين على وجه يشمل النوعين :

أحدهما : أن لا يكون اللام في « الحرام » المأخوذ في الغاية للعهد بل للجنس سواء كان متعلّق المعرفة هو الوصف ، أو الموصوف إلاّ أنّه كما ترى خلاف ظاهر اللام.

وثانيهما : أنّ الغاية المستفادة من كلمة « حتّى » مثلا قد تكون غاية للحكم كما في قوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » (2) فإنّ غاية الحلّ هو العلم بالحرمة ، وقد تكون غاية لإطلاق الحكم وعمومه ، فيكون بمنزلة الاستثناء من العامّ كما في قولنا (3) : أكرم العلماء حتّى تعلم الأصولي منهم فإنّه بمنزلة قولك : أكرم كلّ عالم إلاّ الأصولي منه ، والرواية من هذا القبيل ، فيستفاد منها حلّية كلّ شيء مجهول إلاّ الفرد المعلوم حرمته سواء كان موضوعا (4) ، ولا يلزم أن يكون العلم بحرمة الموضوع مؤثّرا في الحكم كما لا يخفى فإنّ التوزيع هنا يستفاد من المقام كما في قولهم : ركب القوم دوابّهم ، بخلاف ما لو فرضنا كون كلمة « حتّى » غاية لنفس الحلّ لا لإطلاقه.

وبالجملة ، فلا إشكال في شمول قولنا : « كلّ شيء حلال إلاّ أن تعلم الحرام منه » (5) للموضوع والحكم ومعرفة كلّ منهما بحسبه ، فينطبق (6) على الشبهة الحكمية بأقسامها من المحصورة كما إذا علمنا إجمالا بحرمة عنوان ولا نعلمها بالخصوص ، وغيرها كما في

ص: 366


1- « ج ، م » : فانّ.
2- تقدّم في ص 364.
3- « م » : قوله.
4- كذا.
5- « ج ، م » : المحرّم.
6- « ج ، م » : فيطبق.

الغيبة ممّا اشتمل على عنوان الحلال والحرام ، وما لا يشتمل عليهما كشرب التتن فإنّه بعد ما حكمنا في الشكّ في المكلّف [ به ] بالبراءة كما في المحصورة ، فعند الشكّ في التكليف بطريق أولى ، وعلى الشبهة الموضوعية. وهذا هو غاية توجيه الكلام في تقريب المرام من الرواية المذكورة ، وإنّما أطلنا الكلام فيها لأنّها مطرح لأنظار العلماء وأفكار الفضلاء ، وإلاّ فنحن في غنى من ذلك بعد ما عرفته من الأدلّة السالفة (1).

وقد يستدلّ على البراءة بوجوه أخر كلّها قاصرة عن إفادتها كالعمومات الدالّة على حصر المحرّمات في أشياء مخصوصة كقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) (2) إلخ وكقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (3) ونحو ذلك فإنّ المقصود في المقام إثبات إباحة الأشياء والخلوّ من التكاليف فيها عند الشكّ كما عرفته في عنوان البحث فإنّه المراد بالأصل أيضا ، والأدلّة المذكورة إنّما نظرها إلى الواقع ولا ربط لها بما نحن بصددها أصلا على ما لا يخفى على الملاحظ في سياقها.

نعم ، هنا شيء يمكن الاستناد إليه بنوع من التقريب والعناية وهو قوله تعالى في مقام الردّ على اليهود : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) (4) إلخ وجه العناية أنّ في تلقين اللّه نبيّه الكريم في الاحتجاج على اليهود بعدم الوجدان دون عدم الوجود إيماء إلى (5) أنّ عدم الوجدان يصير دليلا على عدم الوجود كما هو المقصود وإن كان عدم وجدان النبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يتخلّف عن عدم الوجود في الواقع إلاّ أنّ التعبير به ممّا يمكن استفادة ذلك منه.

وبعبارة أخرى : إنّ نفس النبيّ صلى اللّه عليه وآله حيث إنّه اللوح المحفوظ فعدم وجدانه شيئا وإن كان هو عين عدم وجود ذلك الشيء إلاّ أنّه مع ذلك فلا يخلو من الإشعار بأنّ

ص: 367


1- « ج » : السابقة.
2- الأعراف : 33.
3- البقرة : 29.
4- الأنعام : 145.
5- « م » : على.

عدم الوجدان دليل عدم الوجود كما لا يخفى إلاّ أنّه بعد ذلك لا يصحّ التعويل عليها في إثبات البراءة.

أمّا أوّلا ، فلأنّ ما ذكر (1) إنّما يصلح نكتة للعدول إلى العبارة المذكورة ولا يزيد على إشعار كما اعترف به أيضا ، فلا يصحّ الاستناد إليها.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الآية المذكورة إنّما نزلت في مقام الردّ على اليهود حيث حرّموا على أنفسهم من عندهم أشياء كثيرة كما يفصح عنه صدر الآية بدعة منهم (2) وتشريعا في دين اللّه من غير استنادهم في ذلك إلى ما يدلّهم عليه ، ولا شكّ أنّ عدم وجدان الدليل على التحريم يكفي في الحكم بحرمة تحريم شيء ، ولا خصوصية في ذلك لوجدان النبيّ صلى اللّه عليه وآله فلا مدخل (3) لها في إثبات البراءة إذ القائل بالاحتياط لا يقول بحرمة الأشياء المشتبهة من غير دليل يدلّهم عليه في الواقع ، فلا يترك الفعل على أنّه من (4) الدين بل على احتمال أنّ الترك من الدين ولا بدعة فيه كما لا يخفى.

وما يمكن أن يحتجّ به الأخباري وجوه (5) كتابا وسنّة وعقلا أمّا الإجماع ، فلم ينعقد على الاحتياط ولم ينقله أحد ولا ادّعاه أحد منهم أيضا.

أمّا الأوّل ، فصنفان :

الأوّل : الآيات (6) الآمرة بالتقوى كقوله : ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (7) وقوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ ) (8) ونحوهما ممّا لا يعدّ ولا يحصى (9).

وجه الدلالة أنّ الاحتياط فيما يحتمل التحريم بالترك إنّما يعدّ تقى من اللّه ويجب الاتّقاء والاحتراز عن مناهيه والامتثال بأوامره ، فيجب الاحتياط وهو المطلوب.

ص: 368


1- « س » : ذكره.
2- « م » : منه!
3- « س » : ولا مدخل.
4- « م » : على المتارك ( ظ ) وفي « ج » : - أنّه من.
5- « س » : ويحتمل أن يحتجّ للأخباري بوجوه.
6- المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : آيات.
7- آل عمران : 102.
8- البقرة : 281.
9- « س » : ويحصى.

الثاني : الآيات الآمرة بالوقوف عند عدم العلم كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ونحوه والتقريب ظاهر ، والناهية عن العمل بما وراء العلم.

وأمّا الثاني ، فصنفان أيضا :

الأوّل : أخبار الاحتياط كقوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (2) وقوله : « أرى لك أن [ تنتظر حتّى تذهب الحمرة و ] تأخذ بالحائطة لدينك » (3) وقوله لكميل بن زياد : « أخوك دينك فاحتط لدينك [ ب- ] -ما شئت » (4).

والثاني : أخبار التوقّف وهي كثيرة جدّا يقرب من خمسين على ما جمعها بعض الأفاضل.

منها : قول الصادق عليه السلام في موثّقة حمزة بن طيّار : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى » (5).

ومنها : قول الكاظم عليه السلام في موثّقة سماعة : « ما لكم والقياس إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس » ثمّ قال : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها » وأهوى بيده إلى فيه (6).

ومنها : حسنة هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد اللّه : ما حقّ اللّه على خلقه؟

ص: 369


1- الإسراء : 36.
2- الوسائل 27 : 167 و 170 و 173 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 43 و 54 و 63.
3- الوسائل 4 : 176 - 177 ، باب 16 من أبواب المواقيت ، ح 14 و 10 : 124 ، باب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، ح 2 ، و 27 : 166 - 167 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 42.
4- الوسائل 27 : 167 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 46 ؛ بحار الأنوار 2 : 258 ، باب 31 ، ح 4.
5- الوسائل 27 : 25 و 84 - 85 و 155 ، باب 4 و 8 و 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 14 و 29 و 3.
6- الوسائل 27 : 38 ، باب 6 من أبواب صفات القاضي ، ح 3.

فقال : « أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون » (1).

ومنها : ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة في الأخبار المتعارضة في حديث طويل - إلى أن قال - : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات ، نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ، ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » - إلى أن قال - : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال الإمام عليه السلام : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (2) والأخبار في هذا المعنى فوق حدّ الاستفاضة بل لا يبعد دعوى تواترها إجمالا.

وجه الدلالة في الكلّ على وجه الاشتراك أنّ ما لا نصّ فيه ولو من جهة الإجمال ممّا لا نعلم حكمه ، فهو من الشبهات ولا بدّ فيما لا نعلمه من الوقوف والكفّ وعدم الارتكاب أداء لحقّ اللّه تعالى وتخلّصا عن المهالك لأخبار المعصومين عن الوقوع فيها على تقدير عدم الاجتناب والارتكاب ، على أنّ العلم العادي يحصل بالوقوع في المحرّمات فيما لو ارتكب الشبهات وإن فرضنا عدم إخبار المعصوم بذلك أيضا.

وأمّا الثالث ، فيمكن أن يقرّر بوجهين :

أحدهما : ما مرّ مرارا من أنّ في ارتكاب تلك الموارد المشتبهة احتمال ضرر ، ويجب دفع الضرر ولو احتمالا ، فيجب الاجتناب عنها.

ص: 370


1- الوسائل 27 : 24 و 155 و 168 ، باب 4 و 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 11 و 4 و ( 49 عن زرارة ).
2- الكافى 1 : 67 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10. وسيأتي بتمامه في ج 2. ص 576.

الثاني : أنّ الموارد المشتبهة من موارد الشكّ في المكلّف به ، ويجب الاحتياط بحكم العقل الصريح فيما إذا كان الشكّ في المكلّف به فيجب الاحتياط في الموارد الشبهة (1).

أمّا الكبرى ، فبعد صراحة حكم العقل فيها وفاقية مسلّمة بين الفريقين.

وأمّا الصغرى ، فبيانها يتوقّف على تمهيد فيقال : لا شكّ أنّ من ورد في الإسلام ابتداء يعلم بوجود تكاليف واجبة ومحرّمة بين الوقائع المشتبهة على وجه لا يجوز من نفسه إهمال تلك الموارد بأجمعها ، فلا بدّ له من الاحتياط فيها اتّفاقا من الأخبارية والأصولية ، فلو حصل له العلم بموارد جمّة بحيث يقرب من المحرّمات والواجبات المعلومة إجمالا ، فلا شكّ (2) في انقلاب الشبهة تكليفية صرفة ولا كلام فيها ، وإلاّ فإن قام مقام العلم دليل شرعي على وجه يكون طريقا إلى الواقع - بمعنى جعله مسقطا عن الواقع لا من حيث التسهيل ورفع العسر كما في بعض من الأدلّة الشرعية في بعض من تلك الموارد المشتبهة على وجه يحصل العلم بامتثال التكاليف المعلومة فيها - فلا كلام (3) أيضا ؛ لأنّ الوقائع المعلومة أو المدلول عليها لذلك الطريق معلوم تفصيلا ، والموارد الباقية تبقى (4) مشكوكة صرفة ، فلا بدّ من إجراء البراءة ، ولو لم يكن هناك دليل علمي بقسميه ، فالظنون المعمولة في مداليل الألفاظ وغيرها من الظنون المتعلّقة بسند الأخبار ودلالتها وغيرها في جميع الموارد المرخّص فيها العمل بالظنّ لا دليل على كونها حجّة شرعية على وجه يسقط عن الواقع في الموارد المشكوكة أو الموهومة بل غاية الأمر جواز العمل بها تسهيلا للأمر ، فيبقى (5) التكليف في الموارد المشتبهة في المشكوكات والموهومات باقيا وهو المطلوب.

وبعبارة أخرى إنّ جواز العمل بالظنون المعمولة في الأحكام الشرعية - سواء

ص: 371


1- سقط قوله : « من موارد الشكّ » إلى هنا من نسخة « س ».
2- « س » : فلا وجه!
3- « م » : ولا كلام.
4- « س ، م » : يبقى.
5- « م » : فبقي.

كانت متعلّقة بموضوعاتها اللغوية أو بأنفسها كما عليه الفريقان في (1) الأولى وعلى الثانية المجتهدون سواء كانوا من القائلين بالظنون الخاصّة أو من القائلين بمطلق الظنّ على اختلاف مشاربهم فيها - ليس إلاّ من جهة رفع العسر اللازم على تقدير لزوم الاحتياط الكلّي كما بيّنّا في مباحث الظنّ ، ويبقى الوجوب الثابت في أوّل الأمر بعد رفع العذر بارتفاع العسر بحاله فإنّ الضرورة تتقدّر بقدرها ، ولزوم العسر على تقدير الاحتياط في جميع الموارد بعد رفعه لا يفضي بانقلاب الحكم الأوّلي الثابت بالعقل إذ لا مزيل له ، مثلا بعد إسقاط الشارع مراعاة الاحتياط في جميع الجهات الممكنة عند اشتباه القبلة وحكمه بعدم وجوب الصلاة على الدائرة مثلا في كلّ نقطة منها ليس لك أن تتوهّم بسقوط الاحتياط في الجهات الباقية أيضا ، فإنّ المقتضي للحكم بالاحتياط أيضا بحاله كما فيما لم يكن هناك شيء.

وبالجملة ، فالموارد المشكوكة أو الموهومة مثلا من موارد الشكّ في المكلّف نظرا إلى لزوم الاحتياط الكلّي في أوّل الأمر ، وإلى أنّ الظنون المعمول بها في مواردها إنّما تسهيل منه تعالى على العباد وليس بطريق جعلي شرعي ، وبعد ارتفاع العذر بارتفاع العسر لا بدّ من الاحتياط وهو المطلوب ، وهذا أقصى ما يتخيّل في توجيه قاعدة الاشتغال والاحتياط وجريانها في الموارد المشكوكة المشتبهة ، فتبصّر.

والجواب أمّا عن الأوّل ، فمن (2) آيات التقوى فبأنّ الأمر بالاتّقاء من اللّه لا يعقل أن يكون أمرا تشريعيا فإنّه كالإطاعة والعصيان بل الأمر فيه إرشادي لا يترتّب عليه إلاّ خواصّ الاتّقاء ، ولو سلّم ، فالأمر دائر بين أمور ثلاثة : من حمل الأمر فيه على الوجوب ، أو على الاستحباب ، أو على مطلق الرجحان ، والأوّلان باطلان ، فتعيّن الثالث.

أمّا الأوّل ، فلأنّه وإن كان الأمر فيه حقيقة أو ظاهرا إلاّ أنّ الحمل عليه يوجب

ص: 372


1- « م » : - في.
2- « ج » : - الأوّل فمن.

تخصيصا كثيرا بل وتخصيص الأكثر ؛ فإنّ مراتب التقوى متفاوتة متكاثرة (1) لا يعلم لها حدّ ولا حصر ، ومن الضروري عدم وجوب جميع مراتبها بل لا يجب إلاّ في الواجبات و (2) المحرّمات ، فلو (3) حمل على الوجوب فلا مناص (4) من ارتكاب تلك التخصيصات المتكاثرة ، وهي مع كونها بنفسها شنيعة لا تتحمّل في كلمات من له أدنى مسكة ففي المقام ما يأبى عنها رأسا فإنّ سوق الآية - على ما هو ظاهر للمتدبّر فيها - ينافي التخصيص فإنّه يعدّ من الهزل قولك : اتّق اللّه إلاّ في مورد كذا وكذا ، وذلك ظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الاستحباب وإن كان أقرب للوجوب من استعمال الأمر في القدر المشترك لكثرة موارده إلاّ أنّه لا بدّ من تخصيص موارد وجوب التقوى ، فهو يستلزم مجازا وتخصيصا بخلاف ما لو حملنا على مطلق الراجح فإنّه مجاز واحد فقط من غير تخصيص ، والنظر في سياقها أيضا يعطي ذلك.

وأمّا عن آيات الوقوف عند عدم العلم وحرمة العمل بما وراء العلم ، فبالالتزام بمفادها ومنع مزاحمتها لما نحن بصدده ، فإنّ القول بالبراءة ليس عملا بغير العلم في مقام الاشتباه لقطع العقل بذلك.

مضافا إلى الأدلّة المذكورة فالحكم في مرحلة الظاهر معلوم لنا وإن أريد عدم العلم بنفس الحكم الواقعي ، فلا شكّ في أنّ المجتهدين فيه أيضا متوقّفون لعدم (5) العلم به ، وظنّي أنّ الاحتجاج بهذه الآيات في قبال الأصولي إنّما هو غفلة منهم (6) عن مرادهم ولذلك ترى المحقّقين منهم كصاحب الحدائق إنّما عدل منها إلى الآيات السابقة.

وأمّا الجواب عن الثاني ، فأمّا عن أخبار الاحتياط ، فقد أجاب المحقّق في المعارج (7)

ص: 373


1- في « س » : متغايرة وفوقها كما في المتن.
2- « س » : أو.
3- « ج » : ولو.
4- « م » : لا مناص.
5- « م » : بعدم.
6- « س » : مسلّم.
7- معارج الأصول : 299.

عن بعضها بأنّ إلزام المكلّف بالأثقل أيضا مظنّة ريبة بعد منعه من التمسّك بالأخبار الآحاد في المسألة الأصولية إلاّ أنّ ما أفاده يقصر عن الجواب حقيقة إذ لا ريبة في الاحتياط قطعا.

وأمّا كونه خبرا واحدا فغير مضرّ بعد تسليم كون المسألة أصولية كما لا يخفى.

وأمّا ما ينظره بعض الأجلّة (1) في كلام المحقّق من أنّ مفاد الرواية ترك ما فيه ريبة إلى ما ليس فيه ريب لا مطلقا ، فمقلوب عليه كما لا يخفى على المتدبّر.

فالأولى في الجواب عنها (2) أن يقال : إنّ بعد تسليم السند في تلك الروايات - إذ لم نقف عليها في الكتب الأربعة (3) وروى الشهيد بعضا منها (4) من غير إسناد إلى الإمام - لا دلالة فيها على وجوب الاحتياط للزوم التخصيص الأكثر الآبي عن مطلقه سوق الروايات لو حمل على الوجوب ، ولزوم المجاز أيضا لو حمل على الاستحباب ، فتعيّن

ص: 374


1- الفصول : 355.
2- « م » : عنهما.
3- إطلاق هذا الكلام محلّ نظر.
4- المراد بها ثلاث روايات كما نصّ الشيخ في فرائد الأصول 2 : 77 - 78 ، الرواية الأولى : « دع ما يريبك ... » التي قد تقدّمت وأورده الشهيد في الذكرى 2 : 444 وفي ط الحجري : 138 عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعنه في الوسائل 27 : 173، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 63 ؛ الحدائق 1 : 76. وأورده أيضا في الوسائل 27 : 167 و 170 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 43 و 54 ، عن التفسير الصغير للطبرسي وكنز الفوائد. الرواية الثانية : « أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك » التي قد سبقت ورواها الطوسي في التهذيب وهذه هي التي رواها الشهيد في الذكرى 2 : 445 وفي ط الحجري : 138 ونقل الشيخ الأنصاري في الفرائد والشيخ الحرّ في الوسائل 27 : 173 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 65 عن الشهيد ولفظه عندهما هكذا : لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك. الرواية الثالثة « ليس بناكب عن الصراط ... » الآتية بعد سطور.

الحمل على مطلق الرجحان كما يشاهد من سياقه أيضا ، ويشعرك (1) به أيضا قوله : « ليس بناكب عن (2) الصراط من سلك سبيل الاحتياط » (3). وهذا القدر أمر معلوم بديهي لا مجال للكلام فيه ، ولو سلّم دلالتها بعد سلامة سندها ، فهي معارضة ببعض أدلّة البراءة فيتعارضان ، ولا مجال للتخيير بينهما فتساقطان ، ولا بدّ من الرجوع إلى دليل ثالث.

وتوضيح ذلك : أنّ أدلّة البراءة على أقسام :

منها : العقل والإجماع المحصّل الحاكمين بعدم التكليف عند عدم البيان ، ولا خفاء في (4) أنّه لا قبح فيه على تقدير البيان ولو بالاحتياط ، فتلك الأخبار ترتفع موضوع (5) حكم العقل والإجماع.

ومنها : الأخبار المطابقة لحكم العقل والمساوقة لمعقد (6) الإجماع كقوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (7) ، ولا ريب في ورود أخبار الاحتياط عليها لأنّها مفيدة للعلم في مورد الشبهة.

ومنها : ما هو أعمّ من ذلك أيضا كقوله : « أيّما امرئ ركب بجهالة أمرا فليس عليه شيء » (8) وقوله : « لا » في جواب هل على من لم يعرف شيئا شيء (9)؟ فإنّ موضوع

ص: 375


1- « ج ، س » : يشعر.
2- « ج ، م » : على.
3- أورده عن الشهيد أيضا البحراني في الحدائق 1 : 67 قال : وما روي عنهم عليهم السلام : ليس بناكب ... وورد في بعض الإجازات من دون إسناد إلى الإمام انظر بحار الأنوار 105 : 12 و 183 و 187. وأورد في الذكرى 2 : 444 وفي ط الحجري : 138 : من اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، وعنه في الوسائل 27 : 173 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 65.
4- « م » : - في.
5- « س » : يقع موضع!
6- « ج » : لعقد!
7- تقدّم في ص 158 و 355.
8- الوسائل 12 : 488 - 489 ، باب 45 من أبواب تروك الإحرام ، ح 3 ، و 13 : 158 ، باب 8 من أبواب بقية كفّارات الإحرام ، ح 3 وفيه : أيّ رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه.
9- الكافى 1 : 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 2 ؛ التوحيد للصدوق : 412 ، باب 64 ، ح 8.

مسألة البراءة على ما عرفته في المكلّف الملتفت ، وعدم العلم والجهل أعمّ من الالتفات وعدمه والجهل المركّب ، ولا ريب في ورود أدلّة الاحتياط عليها أيضا.

ومنها : ما يدلّ بظاهره على إباحة الأشياء عند الشكّ فيها كقوله : « كلّ شيء مطلق » (1) وقوله : « ما لا يعلمون » بناء على التوجيه المذكور في وجه التقريب في الاستدلال به والإجماعات المنقولة عن الصدوق والمحقّق والعلاّمة (2) فإنّها أيضا دالّة على حكم الأشياء المشتبهة بالبراءة ، فتعارض الأخبار الآمرة بالاحتياط عند الشكّ ، ولو لم نقل برجحان أدلّة البراءة - لاعتضادها بمرجّحات كثيرة لقوّة سندها وصراحة دلالتها وموافقتها للكتاب (3) والاعتبار بملاحظة الشريعة السمحة - فلا أقلّ من التساوي ، ومعه لا بدّ من الحكم بالتساقط ؛ إذ التخيير إنّما هو فيما لم يكن هناك ما يشبه من إجمال الدليل والمقام منه لاحتمال ارتفاع موضوع كلّ منهما بالآخر بخلاف سائر الأخبار المتعارضة ، ومع التساقط لا مناص من الرجوع إلى دليل آخر وهو في المقام يقضي بالبراءة إذ بعد فرض الإجمال لا دليل على البيان ، وفي موضوع (4) عدم البيان يستقلّ العقل بالبراءة كما هو مفاد الإجماع أيضا ، على أنّه يمكن القول بأخصّية أدلّة البراءة فيخصّص عموم الاحتياط ، فتدبّر.

وأمّا عن أخبار التوقّف ، فيقع الكلام في الجواب عنها في مقامين : فتارة في غير خبر التثليث ، وأخرى فيه.

ففي الأوّل نقول : لا دلالة فيها على لزوم التوقّف في مقام الشبهة بعد ظهور جملة منها في ردّ العامل بالقياس كما هو ظاهر من مساقها ، ولا ينبغي الاستناد إليها فيما لو حمل على الوجوب لورود التخصيصات المتكاثرة كما عرفت نظيره في أخبار الاحتياط.

ص: 376


1- تقدّم في ص 159.
2- تقدّم ذكرها ص 342 - 343 وتعليقتها.
3- « ج ، م » : الكتاب.
4- « ج » : موضع!

نعم ، بعد تسليم الدلالة فيها لا يصحّ دعوى التعارض بينها وبين أخبار البراءة لكونها كثيرة جدّا فتصير أقوى سندا منها إلاّ أنّ دون إثبات (1) إفادتها الوجوب على ما هو الإنصاف خرط القتاد.

وفي المقام الثاني نقول : لا بأس بتجديد المقال في تقريب الاستدلال بالحديث المذكور على وجه يندفع به بعض الشكوك الواردة فيه ليتّضح الفرق بين هذه الرواية وغيرها أيضا ، فنقول : لا خفاء في ورودها في تلو المرجّحات في الأخبار المتعارضة عند قول الراوي للإمام عليه السلام : كلاهما عدلان مرضيّان فأمر الإمام (2) بأخذ المجمع عليه المشهور الذي لا سترة عليه يعرف روايته كلّ أحد معلّلا في ذلك بعدم الريب فيه وترك الشاذّ النادر.

وبعد ما تقرّر - من أنّ التعليل بعدم أمر وجودي دليل على أنّ وجود ذلك الشيء في محلّه مانع عن الحكم المذكور - يظهر أنّ العلّة في ترك الشاذّ ليس إلاّ وجود الريب لا العلم ببطلانه كما زعمه بعض الأجلّة (3) تبعا للمحقّق القمّي (4)(5) نظرا إلى قرينة المقابلة ، وأنّ الحكم المخالف للإجماع قطعي البطلان لأنّ المقابلة تقضي بما قلنا ، والإجماع في المقام بمعنى المشهور بالمعنى اللغوي في قولهم : سيف شاهر ، بحيث يراه كلّ أحد ، فهو بنفسه لا يقتضي بطلان خلافه كما في الإجماع المصطلح في الأحكام الشرعية.

على أنّ تثليث الإمام عليه السلام الأقسام المذكورة أدلّ دليل على أنّ المراد منه ومن التقسيم بيان حكم المشتبه تمثيلا للمقام ، ولو لا أنّ الرواية التي لا شهرة فيها من المشتبه ، لما صحّ ذلك فإنّ بيان القسمين المعلومين توطئة لبيان المشتبه وقضيّة التمثيل في المقام كما عرفت ذلك.

ص: 377


1- « م » : إلاّ أن كان إثبات.
2- « س » : + عليه السلام.
3- الفصول : 354.
4- « س » : + رحمه اللّه.
5- القوانين 2 : 23.

مضافا إلى أنّ القسمة حينئذ (1) ينبغي أن لا تكون ثلاثية بل ثنائية إذ احتمال كون ما لا يعلم أنّه من المجمع عليه أو من خلافه مشتبها كما احتمله بعض الأجلّة ممّا لا يعقل بعد ما عرفت معنى الإجماع والشهرة في المقام كما لا يخفى ، فالروايات على أقسام ثلاثة : ما يعلم بصحّته وهو المجمع عليه ، وما يعلم بفساده وهو ما ظهر كذبه ، وما لا يعلم بصدقه وصحّته وفساده وكذبه وهو الشاذّ النادر الذي أمر الإمام عليه السلام بتركه.

لا يقال : فبعد ما أمر الإمام عليه السلام بتركه (2) فهو من باب معلوم الغيّ فيرجع القسمة ثنائية.

لأنّا نقول : إنّ بالأمر صار معلوم الغيّ وظاهر البطلان والكلام مع قطع النظر عن الأمر بالترك ، وبعد ما ظهر أنّ الشاذّ الذي يجب تركه والأخذ بالمجمع عليه في قباله هو ما فيه الريب لا ما علم ببطلانه ، فظهر (3) أنّ كلّ ما فيه ريب كشرب التتن يجب تركه لعموم التعليل.

فإن قلت : الكلام في المقام إنّما هو في الشبهات الحكمية ، ولزوم طرح الأخبار الشاذّة لا دخل له فيما نحن بصدده ، لكونها من الشبهات الموضوعية ، إذ مرجع الشكّ إلى أنّ الصادر من الإمام أيّ من الخبرين المتعارضين وهي شبهة موضوعية ولا ينبغي قياس ما نحن فيه بما لا ربط له به.

قلت : نعم ، ولكنّ الشكّ في الصدور حقيقة يلازم الشكّ في نفس الحكم الشرعي المشتمل عليه الحديثان المتعارضان كما يظهر من ملاحظة قوله عليه السلام : « وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه ورسوله » فإنّ الشكّ في الشبهة الموضوعية إنّما يرتفع بارتفاع أسبابه من الأمور الخارجية ولا يناط إلى بيان الشارع حكمه (4) بخلاف الشبهات الحكمية فإنّ معيار التمييز (5) بينهما إلى أنّ الرافع للشكّ في الموضوع هو الرجوع إلى الأمور الخارجية ،

ص: 378


1- « ج » : - حينئذ.
2- « م » : تركه.
3- « م » : يظهر.
4- « ج » : وحكمه.
5- في النسخ : التميّز.

وفي الحكم إلى الأدلّة الشرعية ، فالردّ إلى اللّه في بيان حكم المشتبه يدلّ على أنّ المشكوك هو الحكم لا الغير.

فإن قلت : لا نسلّم وجوب ردّ حكم المشتبه إلى اللّه وإلى رسوله بل غاية ما هناك هو أولويته واستحبابه لعدم ما يدلّ عليه صراحة.

قلت : قد عرفت أنّ تثليث الأمور وتقسيمها إلى ما هو بيّن الرشد وإلى ما هو بيّن الغيّ وإلى أمر مشكل إنّما هو في مقام الأخذ بالمرجّحات في الأخبار المتعارضة ، ولا ريب أنّ العمل بوجوه التراجيح وترك ما لا يشتمل عليها واجب ، فحمل الأمر المستفاد من « يردّ » و « يترك » على غير الوجوب ممّا ينافي مورد الرواية ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ استشهاد الإمام عليه السلام بكلام الرسول صلى اللّه عليه وآله أيضا ليس إلاّ من الجهة التي تقرب إلى الاستدلال بكلامه صلى اللّه عليه وآله ، فلا بدّ من حمله أيضا على الوجوب كما هو ظاهره لئلاّ يخالف مورد الكلام فوجوه الدلالة في الرواية ثلاثة :

أحدها : لزوم طرح كلّ ما فيه ريب المستفاد من قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب ».

وثانيها : تثليث الإمام عليه السلام الأمور وتقسيمها إلى ما هو بيّن الرشد وبيّن الغيّ ، وإلى ما هو مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله.

وثالثها : كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّ ملاحظة ورود التثليث والاستشهاد في هذا المقام الخاصّ يقتضي حمل الأمر المستفاد فيهما (1) على الوجوب وهو المطلوب.

فإن قلت : الرواية ليست ممّا يصحّ الاستناد إليها باعتبار جهالة حال عمر بن حنظلة واشتمال السند على داود بن حصين.

قلنا : نعم ، ولكنّها مقبولة عند الأصحاب مع اشتمال السند على صفوان الذي أجمع الكلّ على تصحيح ما يصحّ عنه ، وأمّا داود ، فقد وثّقه النجاشي (2).

فإن قلت : إنّ معنى الردّ إلى اللّه ورسوله هو الكفّ عنه وبعد لزوم الأخذ بالرواية

ص: 379


1- « س » : منها.
2- رجال النجاشي 159 / 421.

المشهورة لا يتحقّق هناك إلاّ طرح الشاذّ وهو ليس من الكفّ في شيء.

قلت : الكفّ إنّما هو في مقام الصدور وعدمه وبالنسبة إلى الحكم المشتمل عليه الرواية الشاذّة ، والطرح في مقام العمل ليس بضائر فيه فلا منافاة.

وإذ قد تقرّر هذا (1) فاعلم لا بدّ لنا من بيان عدم دلالة الحديث على الاحتياط اللازم بشيء من الوجوه الثلاثة :

أمّا (2) الكلام في الاستشهاد ، فنقول أوّلا : معنى قوله : « وشبهات بين ذلك » يحتمل وجهين :

أحدهما : البيّنة الخارجية كأن يكون الشيء في الخارج بين حلال وحرام بمعنى اشتماله على كلا النوعين.

وثانيهما : البيّنة الذهنية العقلية (3) على وجه يكون الشيء في الذهن وعند العقل ممّا يحتمل (4) أن يكون حلالا أو حراما محكوما عليه بأحد العنوانين على وجه الترديد.

ويمكن تعميم الثاني للأوّل أيضا ، فلا وجه لإرادة الأوّل لاستلزامه أن لا يكون القسمة النبوية حاصرة (5) لخروج الثاني منه كما لا يخفى.

وقوله : « فمن أخذ الشبهات ارتكب المحرّمات » يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون الملازمة بين الأخذ بالشبهات وارتكاب المحرّمات واقعية من حيث علمه صلى اللّه عليه وآله بالواقع واطّلاعه على السرائر.

وثانيها : أن يكون الملازمة عادية بمعنى أنّ الآخذ بها يعلم علما عاديا بارتكابه بالمحرّمات من حيث كثرة المشتبهات وحصول العلم الإجمالي بحرمة جملة منها في الواقع فارتكاب الشبهة لا يكاد ينفكّ عن ارتكاب المحرّم في العادة.

وثالثها : أن يكون المراد بها الملازمة المجازية على نحو قوله : من قتل قتيلا من حيث

ص: 380


1- « س » : هذه.
2- « س » : وأمّا.
3- سقط قوله : « كأن يكون الشيء ... » إلى هنا من نسخة « س ».
4- « س » : لا يحتمل!
5- « م » : غير حاصرة.

مشارفة الآخذ بالشبهة إلى الوقوع في المحرّم.

ورابعها : أن يكون المراد بالملازمة على حدّ قولهم من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

والفرق بين الأخيرين أنّ في الأوّل منهما مخالفة الوقوع في المحرّمات المجهولة ، وفي الثاني مخافة الوقوع في المحرّمات المعلومة من حيث إنّ ارتكاب الشبهة يورث خبثا في الباطن ورذالة في النفس على وجه لا يبالي (1) ارتكاب المحرّم (2) المعلوم.

لا خفاء في أنّ في حمل الرواية على المعنيين الأخيرين ليس دلالة على مطلوب الخصم بوجه إذ أقصى ما يتوهّم هناك هو رجحان الترك في الشبهات كما في الموضوعات مثل أكل أطعمة الظلاّم وأخذ أموال العشّار فإنّه لإيراثه قساوة في القلب على وجه يقع صاحبها في المحرّم الآخر أو في الحرام المجهول فيها لا حرمة فيها كما لا يخفى.

وأمّا المعنى الأوّل ، فلا يصحّ حمل الحديث عليه لاستلزامه الكذب لاحتمال اختلاف الشبهات بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ شبهة لواحد يكون بيّنة لآخر ، فيحتمل أن يكون هناك شخص له وقائع مشتبهة كلّها حلال في الواقع ، فلا ملازمة في الواقع بين الأخذ بها وارتكابها.

نعم ، لو كانت الموارد المشتبهة متّحدة بالنسبة إلى الكلّ في كلّ موضع ، صحّ دعوى ذلك كما لا يخفى ، فتعيّن (3) أن يكون المراد بالملازمة هي الملازمة العاديّة من حيث ارتكاب الشبهة ، والأخذ بها يوجب العلم العادي بارتكاب المحرّمات المجهولة فيها من جهة (4) كثرة الموارد المشتبهة ، وحينئذ فلا بدّ إمّا من القول بارتكاب الشبهة في الأحكام والموضوعات يوجب العلم أو بانضمام موارد الظنون أو باعتبار الموارد التي لا فحص

ص: 381


1- « س » : لا تأبى.
2- « ج » : المحرّمات.
3- « س » : فيتعيّن.
4- « م » : - جهة.

فيها عن الدليل.

والأوّلان فاسدان ، أمّا الأوّل ، فباتّفاق من الخصم ، وأمّا الثاني ، فلما دلّ على حجّيتها ، فتعيّن الثالث ونحن لا ننكر ذلك فإنّ من شروط العمل بالأصل في موارده الفحص عن الدليل كما سيجيء إن شاء اللّه ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ الاستشهاد بقول الرسول صلى اللّه عليه وآله ليس إلاّ تقريبا وبيانا للمناسبة لا تحقيقا كما هو مبنى الاستدلال به.

وأمّا الكلام في التثليث ، فنقول : لا خفاء في أنّ الرواية الشاذّة التي عارضتها رواية مشهورة ليست من الأمور المشكلة التي يجب ردّ علمها إلى اللّه ورسوله ، فإنّ الظاهر من الأمر المشكل ما كان كذلك في حدّ ذاته مع قطع النظر عن معارضته بشيء آخر كما يشاهد ذلك في سائر وجوه التراجيح أيضا فإنّ موافقة الكتاب ومخالفة العامّة ممّا (1) هي (2) ثابتة للرواية (3) في حدّ نفسها وإن لم يكن هناك معارض لها ، والرواية الشاذّة ليست في نفسها كذلك لوجوب الأخذ بها فيما لم يكن معارضا بالمشهور وفيما لو كان الراوي فيها أعدل من الراوي في الرواية المشهورة كما هو ظاهر الترتيب المستفاد من ظاهر الخبر كما لا يخفى ، ولهذا قد نبّهنا عليه في بعض المباحث من أنّ الأخذ بظاهر الخبر ربّما يخالف الإجماع.

وتوضيح الحال : أنّ الرواية هذه لها حالات ثلاثة :

أحدها : قبل وجود المعارض.

وثانيها : بعد وجود المعارض ، فتارة بعد العلم بوجوب طرحه بواسطة هذا الخبر ، وأخرى قبل العلم بذلك ، لا شكّ في عدم إشكالها قبل التعارض (4) للزوم الأخذ بها والعمل بموجبها ، كما لا شكّ في عدم إشكالها في الحالة الأخيرة بعد العلم بلزوم طرحها فإنّها من هذه الحيثية بيّن غيّها ، فلا إشكال ، وكذلك لا إشكال في الحالة الثانية

ص: 382


1- « م » : - ممّا. « ج » : كما.
2- « ج » : - هي.
3- « س » : - للرواية.
4- « م » : المعارض.

قبل العلم بلزوم الطرح ، وإلاّ لكان المشهور أيضا من الأمر المشكل مع أنّه لا يتوهّمه أحد ، فظهر (1) أنّ الرواية الشاذّة ليست من الأمر المشكل في شيء.

فإن قلت : إنّ وجود الريب في الرواية لا يبتني على المعارضة كسائر وجوه التراجيح بل وفيها الريب ولو قطع النظر عنها ، وهذا موهن وعدمه مرجّح للخبر المشهور ، ولو سلّم فجملة من المرجّحات كالأقوائية والأظهرية ونحوهما (2) ممّا لا يتعقّل لا (3) مضافا إلى الغير ، فلا نسلّم كون المرجّح للرواية ثابتا في نفس الرواية مع قطع النظر عن التعارض.

قلت : ليس وجود الريب مطلقا موهنا ، وإلاّ لم يصحّ التعويل على المشهور أيضا كما عرفت.

وأمّا الأقوائية والأظهرية ، فالمرجّح في الحقيقة هي المرتبة الخاصّة من الظهور والقوّة الثابتة في نفس الأمر إلاّ أنّ إطلاق اللفظ عليه على صيغة اسم التفضيل لا يصحّ إلاّ بعد ملاحظة (4) تلك المرتبة مضافا إلى غيرها أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة ، فكون الرواية من الأمر المشكل أمر مشكل بل (5) بيّن البطلان والغيّ ، فلا مناص من حمل التثليث كالاستشهاد على مجرّد التقريب وبيان المناسبة ، وإلاّ فكيف يتصوّر انطباق الأمور الثلاثة على الروايات تحقيقا ، فظهر أنّه لا فرق بين الروايات الآمرة بالتوقّف في غير خبر التثليث ، وبين هذه الفقرة من هذه الرواية ، فنقول في الجواب :

أمّا أوّلا : إنّ بعد إعمال البراءة في الأمر المشتبه لا إشكال كما أنّه لا إشكال في الموضوعات بعد جريان البراءة فيها على ما هو المتّفق عليه بين الأصولية والأخبارية ، فبالجملة فكما أنّ أدلّة الأصول استصحابا وبراءة واردة على أدلّة القرعة

ص: 383


1- « س » : + أنّه.
2- « م » : نحوها.
3- « س » : - لا.
4- « م » : ملاحظته.
5- « م » : - بل.

مع أنّها لكلّ أمر مشكل ، والموضوعات قبل إعمال الأصول فيها من الأمر المشكل ، ولا يلتزم أحد بإعمال القرعة فيها فكذلك لا ضير في القول بورود أدلّة البراءة على مثل هذه الأخبار وارتفاع الإشكال بها كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فبأنّا لو سلّمنا عدم الورود ، فأخبار البراءة أخصّ مطلقا من وجوه :

أحدها : شمول أدلّة الاحتياط للشكّ في التكليف والمكلّف به واختصاصها بالأوّل.

وثانيها : شمولها لجميع الأحكام واختصاصها بالوجوب والحرمة.

وثالثها : ورود البراءة في مقام العذر والاحتياط أعمّ.

وأمّا الجواب عن الثالث ، فأمّا عن تقريره الأوّل ، فبأنّ المراد بالضرر إن كان الأخروي منه فبالبراءة ينتفي صغراه ، وإن كان المراد به الضرر الدنيوي ممّا يرجع إلى قساوة القلب والشقاوة النفسانية ، فقد مرّ أنّ المرجع فيها إلى الشبهة الموضوعية إذ المفروض معلومية حرمة الشيء المشتمل على الضرر ، والكلام إنّما هو في أنّ الشيء الفلاني هل يندرج فيه أو لا؟ وسيجيء الكلام في محلّه من أنّ الشبهة الموضوعية ممّا لا يجب الاجتناب عنه بالاتّفاق ، غاية الأمر أنّ الدليل العقلي لا ينهض فيها ونحن لا نضايق من ذلك كما قرّرنا في أصالة الإباحة من أنّ الأصل العقلي الأوّلي الحظر ، ولا منافاة لحكم الشارع بخلافه لاحتمال أن يتداركه بترياق ونحوه كما لا يخفى.

وأمّا عن تقريره الثاني ، فبوجوه : أمّا أوّلا : فبالنقض بالشبهة الوجوبية فإنّ قضية ما قرّره - من لزوم الاحتياط بعد إعمال الظنون المعمولة في مواردها لا من حيث إنّها طريق إلى الواقع بل من حيث رفع العسر وتسهيل الأمر على العباد - عدم الفرق بين الموارد فإنّها جهة واحدة إن صحّت ، صحّت في الكلّ مع ما عرفت من أنّ الأخباري أيضا لا يقول بالاحتياط فيها.

وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وبيان ذلك أنّ محصّل ما ذكر في تقريب الاستدلال هو أنّ الظنّ قد يكون طريقا إلى الواقع وقد يكون العمل بها تسهيلا للأمر ، وهما في طرفي

ص: 384

التعاكس فإنّه على الأوّل إنّما يحتاج إليها لإثبات التكاليف ، وأمّا في طرف نفي التكليف ، فلا يحتاج إليها فإنّ الأصل يكفي في رفع التكليف ، وعلى الثاني فحيث إنّ الحكم من جهة وجوب الاحتياط ففي مقام إثبات التكليف لا حاجة إليها ، وإنّما الحاجة إليها من جهة نفي التكليف تسهيلا للأمر ، ولا نسلّم جواز العمل بالظنّ حتّى في الألفاظ في تشخيص مداليلها إلاّ على الوجه (1) الثاني.

وعلى هذا فنقول : إنّ الأدلّة التي تدلّ على حجّية الظنون إنّما تدلّ على كونها طريقا للواقع على وجه يسقط عنه ، أمّا الظنون الدلالية ، فلأنّ المدرك فيها بناء العقلاء وهم يكتفون عن الواقع بالظنون الدلالية فيما لو أحرزوا الواقع بها ، مثلا لو أمر المولى بإتيان شيء فيتوقّف استخراج مراد المولى على إعمال الظنون الدلالية ، فلا شكّ في اكتفائهم بهذه (2) الظنون عن الواقع ولا ينافي ذلك اعتبار الظنّ في الدلالات من جهة التسهيل ورفع العسر فإنّ ذلك حكمة في الحجّية ، وعلّة لجعله طريقا كما مرّ في محلّه.

وأمّا الأخبار الآحاد فالأدلّة (3) الناهضة على حجّيتها إنّما تفيد كونها طريقا إلى الواقع على ما مرّ في محلّه.

نعم ، يشكل الأمر على القائل بحجّية الظنون المطلقة فإنّ مبنى حجّية الظنّ المطلق على ما عرفت هو الاحتياط الكلّي ولزوم العسر على تقديره وذلك كلّه ظاهر كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا ، فلأنّ الإتيان بالموارد المظنونة - ولو لم يكن من جهة الطريقية - فيكفي أيضا في رفع العلم الإجمالي.

وتوضيح ذلك : أنّا لو علمنا إجمالا بوجود محرّمات في جملة مشتبهات كثيرة تقرب تلك المحرّمات من مائة مثلا فحصل لنا الظنّ بحرمة جملة من تلك المشتبهات على وجه

ص: 385


1- « ج » : وجه.
2- « س » : بهذا.
3- في النسخ : فأدلّة.

يحصل العلم بإحراز المحرّمات المجهولة في ضمن تلك الموارد المظنونة ، فلا شكّ في كفاية ذلك عن الواقع ولو لم يكن على وجه الطريقية ، وهذا نظير ما أوردناه في بعض مباحث العامّ والخاصّ - من أنّ لزوم الفحص عن المخصّص إنّما يكون مستندا إلى العلم الإجمالي بوجود مخصّصات كثيرة في العمومات الواردة في الشريعة ، ومع العلم لو قلنا بإجمال العمومات ، فلا يثمر الفحص إذ بالفحص لا يرتفع الإجمال ، ولو لم نقل بإجمالها (1) ، فلا يجب الفحص عن أصله - ثمّ أجبنا عن ذلك بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود المخصّص في تلك الأمارات (2) المحتملة للتخصيص فقط ، وبعد الفحص يرتفع ذلك العلم فيبقى العامّ بحاله ظاهر الدلالة من غير إجمال.

وبالجملة ، فنحن نمنع العلم الإجمالي في أكثر ممّا أحرزناه في الموارد المظنونة ولو لم يكن طريقا بل جوّز العمل بها تسهيلا ، فيقلب الشكّ فيما يزيد عليها شكّا بدويا وهو محلّ البراءة فإنّ ملاك الأمر ومناطه في رفع العلم الإجمالي ولهذا لو كان الظنّ طريقا ولم يصل حدّا يرتفع فيه العلم الإجمالي ، فلا مناص من الاحتياط فيما بقي أيضا.

فإن قلت : لو تلف بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة ، فلا يكفي في رفع الاحتياط فيما بقي منها بل لا بدّ من الاحتياط وكذا في المقام.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين ، فإنّ الظنّ إنّما يتعلّق بالواقع دون التلف ، فهو يكفي في رفع العلم الإجمالي دونه.

وأمّا رابعا فيما سيجيء تفصيله في بعض المباحث الآتية من أنّ الموارد المشتبهة كما في الشبهة المحصورة لو طرأت فيها شبهة أخرى (3) ، وهذا هو تمام الكلام في الجواب عن احتجاج الأخباريين في المقام.

نعم ، بقي في المقام شيئان لا بأس بالتنبيه عليهما :

ص: 386


1- « م » : بإجماعها؟
2- « ج ، م » : الآيات.
3- هنا في نسخة « م » قدر ثلاثة أسطر بياض.

الأوّل : ما نسب (1) إلى المحقّق من التفصيل في موارد البراءة بين ما يعمّ البلوى به ، فقال بالبراءة وبين غيره فلم يعتبرها.

وتحقيق ذلك يتوقّف على إيراد عبارته في المقام ليندفع الأوهام ، فنقول : قد صرّح في كتابه في (2) الأصول بالبراءة كما هو مذهب المجتهدين من غير تفصيل فيها ، وقال في مقدّمات المعتبر بعد تثليثه لأقسام الاستصحاب ، وجعل الأوّل منها استصحاب حال العقل وفسّرها بالبراءة الأصلية :

« الثاني أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هناك دليل لظفر به - ثمّ قال - : أمّا لا مع ذلك فإنّه يجب التوقّف ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الحظر والوجوب » (3) انتهى كلامه رفع مقامه.

ولا يخفى على من أمعن النظر في كلامه أنّه ليس في صدد التفصيل في أصالة البراءة ولا في أصل آخر بل صريح كلامه إنّما هو حجّيتها مطلقا ، وكان من نسب إليه ذلك إنّما توهّم من قوله : « ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الحظر والوجوب » زاعما أنّ مفاد البراءة والإباحة واحد ، وليس كذلك بل البراءة - على ما تقدّم - لا تزيد على حكم عدمي يعبّر عنه بخلوّ الذمّة وعدم الاشتغال من غير أن يكون مفادها الإباحة (4) ، ولذلك قد يعبّر عنها في لسانهم بأصالة النفي.

وبالجملة ، فالمحقّق إنّما هو في بيان مورد القاعدة المعمولة عندهم من أنّ عدم الدليل دليل العدم ولا يفصّل (5) فيها أيضا بيان ذلك أنّ من المعلوم ضرورة عدم الملازمة بين وجود الشيء والعلم به فربّما يكون موجودا ولا نعلمه ، فقولهم : عدم الدليل دليل على العدم. لو كان بواسطة ما قد يتخيّل من أنّ النافي لا يحتاج في دعواه إلى الدليل ، فذلك

ص: 387


1- الناسب المحقّق القمي في القوانين 2 : 15.
2- « س ، م » : - في.
3- المعتبر في شرح المختصر 1 : 32.
4- « ج » : للإباحة.
5- « ج » : لا تفصيل.

ظاهر البطلان حيث قلنا : إنّ المحقّقين على عدم الفرق بين دعوى وجود شيء (1) وبين عدمه ، فكما أنّ القضية الموجبة لا بدّ في إثباتها إلى الدليل ، فكذلك القضية السالبة ضرورة عدم تعقّل الفرق بينهما ولو كان بواسطة أنّ مرجع الاستدلال إلى الحكم بوجود المعلول أو العلّة بعد العلم بوجود الآخر ، فلو لم يكن الشيء له آثار لازمة (2) لذاته أو علّة هو (3) من لوازمها ، فلا وجود لذلك الشيء لأنّ الموجود الخارجي لا ينفكّ عن الآثار المترتّبة عليه في الواقع وعن وجود العلّة كما لا يخفى ، فهذا حقّ لا محيص عنه إلاّ أنّ القضية المذكورة كما يظهر في موارد إطلاقاتهم لا دخل لها في ذلك فإنّ ملخّص ذلك أنّ عدم الدليل على وجود شيء واقعا دليل على عدمه في الواقع ، والمقصود من القضية هذه (4) هو القول بالعدم عند عدم وجدان الدليل لا عند عدم الدليل واقعا ، وعلى هذا فلو كان بين وجود الشيء والعلم به ملازمة عقلية أو شرعية أو عادية ، يصحّ الاستناد إليها ولو لم يكن بين وجود الشيء والعلم به ملازمة لا وجه للاستناد إليها مثلا التكليف الفعلي المنجّز وجوده يلازم وجوده وجود الدليل عليه لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، فعدم الدليل على التكليف الفعلي دليل على عدم التكليف للملازمة الواقعية بينهما ، وعدم الدليل على نبوّة مدّعي النبوّة ربّما يعدّ دليلا على عدم نبوّته عادة للملازمة (5) العادية وعدم الدليل على وجوب الصلاة وجوبا واقعيا مع عموم البلوى مثلا بها دليل على عدم وجوبها في الواقع ، غاية الأمر أنّ الحكم بالعدم الواقعي مظنون.

وبالجملة ، فكلّما كان وجود شيء ملازما للعلم بوجوده لزوما عقليا كتنجّز التكليف أو عاديا قطعيا كالنبوّة أو ظنّيا فعدم ما يفيد العلم دليل على عدم ذلك

ص: 388


1- « س » : + هو.
2- « س » : + له.
3- « ج » : هي.
4- « ج » : هذا.
5- « س » : ملازمة. « ج » : فالملازمة!

الشيء على حسب الملازمة الثابتة بينهما كما لا يخفى.

فظهر أنّ عدم الدليل في موارده دليل واقعي لا ينبغي أن يعدّ من الأدلّة الظاهرية كما ظهر أنّ المحقّق ليس بصدد التفصيل في هذه القاعدة ولا قاعدة البراءة.

وأمّا تفريع الحكم بالإباحة والحظر على ما ذكره (1) على ما هو المنشأ في هذا الاستناد (2) إليه ممّا لا دليل فيه عليه بعد ما عرفت من عدم التفصيل فيها أيضا ، على أنّ الإباحة لا دخل لها بالبراءة فإنّ الأولى حكم جعلي إنشائي بخلاف الثانية فإنّ مفادها لا يزيد على عدم الحرج ورفع التكليف وخلوّ الذمّة وذلك كلّه ظاهر لا سترة عليه.

الثاني : أنّ بعد ما عرفت من حجّية البراءة وجريانها في الشبهات الحكمية التحريمية فلا بدّ أن تعلم أنّ حجّية البراءة إنّما هو في مقام لا دليل على تلك الواقعة إلاّ البراءة ولو كان ذلك الدليل هو الاستصحاب ، أو أصل آخر أخصّ منها كما وقع ذلك في موارد كالدماء والفروج ، ومنها ما نبّه عليه الشهيد في محكيّ الذكرى (3) من أنّ الأصل في اللحوم الحرمة نظرا إلى أصالة عدم التذكية سواء كان الشكّ في قابلية المحلّ لها ، أو شكّ في اشتراط شيء كالتسمية ونحوها فيها بخلاف ما إذا علمنا بقابلية المحلّ ، وأحرزنا الشرائط والأجزاء ، وشككنا في اندراج اللحم الخاصّ في عنوانها فإنّ الأصل فيها الحرمة قطعا لأصالة عدم التذكية في الموضوع وسيجيء ، والأصل في ذلك أنّ التذكية أمر توقيفي جعلي منوط بحصول الترخيص من الشارع ، وكلّما شكّ في مثل ذلك فالأصل العدم فإنّ الحلّ في الأدلّة الشرعية كقوله تعالى بعد عدّ المحرّمات : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (4) وفي الخبر « حتّى علمت أنّه مذكّى » (5) من آثار التذكية على وجه هو الشرط

ص: 389


1- « م » : ذكر.
2- « ج ، م » : الإسناد.
3- ذكرى الشيعة 3 : 28 وفي ط الحجري : 143 ، وعنه في مصباح الأصول 2 : 311 و 314.
4- المائدة : 3.
5- الوسائل 3 : 408 ، باب 9 من أبواب النجاسات ، ح 6 ، و 4 : 345 ، باب 2 من أبواب لباس المصلّي ، ح 1.

فيه لا أنّ الميتة مانعة (1) عنه.

فإن قلت : إنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت (2) كون اللحم ميتة ومع ذلك لا يفيد وعلى تقديره لا تعويل عليه لأنّه من الأصول المثبتة.

قلت : قد قلنا إنّ الحلّ والحرمة على ما هو المستفاد من عنوان الأدلّة ممّا يترتّبان على التذكية وعدمها ، فلا يكون الأصل مثبتا ، ولو سلّم فالمذكّى والميتة ليسا من الأمور الوجودية التي بينها تضادّ كالفسق والعدالة بل أحدهما الملكة ، وثانيهما العدم ، فأصالة عدم الملكة عين إحراز العدم ، فمجرى الأصل وما أضيف إليه في المقام هو العدم فلا يكون من الأصول المثبتة وذلك مثل ما ورد في قوله تعالى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (3) بعد تحريم النكاح في عناوين خاصّة كالأمّ ونحوها فإنّ أصالة عدم تلك العناوين عين ما وراء تلك العناوين فالأجنبية وما يضادّها ليسا من المتضادّين (4) كما لا يخفى.

ثمّ إنّ مبنى القول هذا على أن لا يكون هناك إطلاق وارد ورود الاجتهادي على الأصل هذا كما في قوله : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (5) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (6) فإنّ النقل أمر توقيفي مبنيّ على ترخيص الشارع ولكن لمّا كان ما دلّ على سببية البيع للنقل مطلقا ، جاز التمسّك بإطلاقه في كلّ مورد يشكّ في سببيته وإن كان المسبّب توقيفيا.

فإن قلت : التذكية أمر عرفي ولا يدّعي أحد ثبوت الحقيقة الشرعية فيها فكلّ ما صدق التذكية فيه لا بدّ من الأخذ بالإطلاق والحكم بالحلّية.

قلت : لا منافاة بين كون التذكية أمرا عرفيا وبين أن يكون السبب في تحقّقها توقيفيا كما في النقل والانتقال فإنّه أمر عرفي إلاّ أنّ الشارع لم يعتبره إلاّ في ضمن البيع ونحوه وإن كان البيع مطلقا ، وليس في الأدلّة ما يدلّ بإطلاقه على سببية التذكية على

ص: 390


1- « ج ، س » : مانع.
2- « ج ، س » : لا يثبت.
3- النساء : 24.
4- « س » : العناوين.
5- البقرة : 275.
6- المائدة : 1.

وجه يأخذ بالإطلاق عند الشكّ في القابلية ، أو في الشرطية فإنّ الإطلاق في قوله : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (1) على تقديره ليس ممّا يستفاد منه الحكم مطلقا لوروده في غير المقام كما في قوله : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ ) (2) وذلك ظاهر كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني (3) حكم بطهارة الحيوان المتولّد من الحيوانين في الروضة (4) وحرمته معلّلا فيهما بقوله عملا بالأصلين فيهما ، أمّا أصالة الطهارة ، فظاهرة ، وأمّا أصالة الحرمة ، فالمراد بها غير ظاهر فإنّه على ما يظهر منه في عدّة موارد في كتبه ممّا يعوّل على الإطلاق في الدليل الدالّ على سببية التذكية كما يفصح عنه تمسّكه في الحيوانات المختلف فيها في كتاب الأطعمة والأشربة بأصالة الحلّ ، فلا يصحّ حمل قوله : « بالأصل فيهما » على الأصل على (5) ما أصّلناه ، فلا بدّ له من توجيه فنقول : حكي عن المحقّق الثاني والفاضل الهندي وبعض المعلّقين على الروضة والشهيد الثاني (6) أيضا في بعض تعليقات الأوّل على الشرائع (7) وشرح الثاني على

ص: 391


1- المائدة : 3.
2- المائدة : 4.
3- « س » : + رحمه اللّه.
4- الروضة البهية 1 : 285 - 286. حيث قال : أمّا المتولّد من أحدهما [ أي الكلب والخنزير ] وطاهر فإنّه يتبع في الحكم الاسم ولو لغيرهما ، فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته وإن حرم لحمه للأصل فيهما.
5- « ج » : - على.
6- « س » : + رحمه اللّه.
7- ذهب المحقّق الثاني بمثل ما ذهب الشهيد الثاني قال في حاشية الشرائع المطبوعة في حياة المحقّق الكركى وآثاره : ج 10 ، ص 102 عند قول المحقّق : « ولو نزا كلب على حيوان فأولده روعي في إلحاقه بأحكامه إطلاق الاسم » : هذا إنّما يكون إذا نزا الكلب على نحو الشاة ، فإنّه يراعى في نجاسته أغلبية أوصاف الكلب على الولد بحيث يقع عليه اسم الكلب ، فإن غلبت أوصاف الشاة عليه فهو طاهر حلال ، ولو انتفى عنه أمران فهو طاهر حرام. وقال أيضا في جامع المقاصد 1 : 166 - في ذيل العلاّمة : والمتولّد من الكلب والشاة يتبع الاسم - : تنقيحه أنّه إذا كان بصورة أحد النوعين بحيث استحقّ إطلاق اسم ذلك النوع عليه عرفا لحقته أحكامه ؛ لأنّه إذا سمّي بأحدهما اقتراحا تلحقه الأحكام ، ولو لم تغلب عليه صورة أحد النوعين فهو طاهر غير حلال ، تمسّكا بالأصل في الأمرين. انظر فرائد الأصول 2 : 109.

الروضة (1) وبعض تعليقات الثالث عليها (2) وتمهيد القواعد (3) أنّ الأصل فيه هو انحصار المحلّل في عناوين مخصوصة وعدم انحصار المحرّم في عنوان.

فإن أرادوا من ذلك أنّ الشارع قد حصر المحلّل من الأشياء في أشياء مخصوصة وحكم بحرمة ما سواها في دليل دالّ على الحكمين ، ففيه :

أوّلا : أنّه (4) لم يثبت ذلك.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك ، فليس من الأصل في شيء فإنّه دليل اجتهادي على حرمة ما وراء المحلّلات فلا يصحّ التعبير بالأصل الظاهر منه عند أرباب الصناعة (5) ما يعوّل عليه عند الشكّ في مقام العمل ، اللّهمّ إلاّ أن يراد به القاعدة في المقامين كما لا يخفى.

وإن أرادوا منه الغلبة بمعنى أنّ (6) الأغلب في اللحوم الحرمة والشكّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، ففيه :

أوّلا : منع الغلبة إن أريد بها الغلبة الشخصية فإنّ الأفراد المحلّلة تزيد على المحرّمة بكثير كما لا يخفى ، وإن أريد بها الغلبة النوعية فعلى تقدير تسليمها على وجه يكفي في حمل المشكوك عليها ، فلا جدوى فيها إذ الكلام في الحيوان المتولّد من الحيوانين ، وبعد لم يعلم مخالفته لنوعي والديه ، فربّما يكون من أفراد أحد النوعين واقعا وإن كان

ص: 392


1- المناهج السوية مخطوط ، نقل الشيخ في فرائد الأصول 2 : 110 نصّ عبارته ، فلاحظ.
2- هو الشيخ علي حفيد الشهيد الثاني في حاشيته على الروضة كما في هامش الطبعة الحجرية من الروضة ج 1 : ص 21 عند قول الشهيد : « للأصل فيهما » قال : أمّا أصالة الطهارة فلأنّ الأصل براءة الذمّة ، أمّا أصالة التحريم فلأنّ المحلّل محصور بشرط فما لم يتحقّق الشروط لم يحكم بحلّ لحمه.
3- تمهيد القواعد : 270.
4- « ج » : - أنّه.
5- « م » : + هو.
6- « م » : - أنّ.

يخالفهما (1) في الظاهر فمرجع الشكّ إلى الشخص ، وقد عرفت أنّ الغلبة بخلافها.

وثانيا : بعد الغضّ عن جميع ذلك لا دليل على اعتبار الغلبة مطلقا ولا سيّما بعد تلك الإطلاقات على ما هو مذاقهم كما لا يخفى.

وإن أرادوا أنّ الشارع إنّما حكم بانحصار المحلّل في عناوين خاصّة في أدلّة مخصوصة وسكت عن حال المحرّمات ومثل ذلك يعدّ في العرف من حصر المحرّمات فيما عدا المحرّم وإن لم يصرّح بالحصر كما أنّه حصر الحلال من الحيوانات البحرية في السمك ، ومنه فيما له فلس ، ومن الطيور فيما له حوصلة أو صيصة (2) ونحو ذلك ، فلو سلّم استفادة الحصر من ذلك ، فلا يجدي فيما نحن بصدده من الحيوانات البرّية لفقدان مثله فيه.

وقد يستند في ذلك إلى السيرة فإنّا نراهم لا يعوّلون على أصالة الحلّ والبراءة في اللحوم والحيوانات ، ولذلك يبادرون بالسؤال عنها ، ولا يجوّزون من أنفسهم ارتكاب (3) أكلها إلاّ بعد العلم بالحلّ.

وفيه : أنّ ذلك لعلّه إنّما بواسطة لزوم الفحص في مورد الأصل ولا ينكره أحد فإنّه لا مناص منه.

وأمّا ما يقال : من أنّ الفحص كما يجب في اللحوم فكذلك يجب في غيرها كما في البقول مثلا ، ومع ذلك يظهر منهم فيها من الجدّ والجهد ما لا يظهر فيها كما يظهر بالرجوع إلى ديدنهم فلعلّه يستند إلى كثرة المحرّمات فيها دون غيرها ، فلو فرضنا مثل ذلك في البقول ، لقلنا بمثله فيها أيضا على ما لا يخفى إلاّ أنّ الإنصاف أنّ اللحوم بعد لا يخلو من شيء ، فتدبّر.

ص: 393


1- « م » : مخالفهما.
2- هذا هو الصواب وفي النسخ : سيسة. والصيصة والصيصية : مخلب الديك الذي في ساقه. ( المعجم الوسيط : 531 ).
3- « س » : - ارتكاب.

وقد يوجّه الأصل في كلام الشهيد (1) بأنّ ارتضاع الحلال من الحرام يؤثّر في حرمة المرتضع وما يتولّد منه كما يستفاد ذلك من جملة من الأخبار الواردة فيه ، وعلى هذا فقد يمكن دعوى دلالة تلك الأخبار على حرمة الحيوان المتولّد من الحيوانين أيضا ولو بالفحوى إلاّ أنّ كلّ ذلك ممّا لا تعويل عليه وإن كان قد يستشمّ منها كما لا يخفى.

ص: 394


1- « س » : + رحمه اللّه.

أصل [ في دوران الأمر بين المحذورين ]

اشارة

فيما إذا دار الأمر بين المتباينين من الشكّ في التكليف في الشبهة الحكمية المستندة إلى فقد النصّ أو إجماله ، وأمّا تعارض النصّين ، فستطّلع على تفاصيله في التعادل والتراجيح ، ويتمّ الكلام فيه (1) في مقامات أربع يستعلم (2) منها التزام المكلّف بشيء عند دوران الأمر بينهما ، أو عدمه ، وعلى الأوّل فهل هو التعيين أو التخيير ، وعلى الثاني فهل هو بدوي أو استمراري؟ وعلى التقديرين فهل المفتي يفتي بالمختار للمقلّد أو بالتخيير؟

المقام الأوّل : [ في اللاحرجية العقلية ]

المقام الأوّل [ اللاحرجية العقلية ] في أنّ المكلّف إذا دار أمره بين المحذورين ، فهل هو ملتزم بشيء أم لا سواء كان ذلك هو التعيين أو التخيير؟

وبعبارة أخرى فكما أنّه لو شكّ في الوجوب فقط ، أو في الحرمة كذلك لا يلتزم بهما ويحكم بخلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعية ويبنى على البراءة ، فهل له ذلك بالحكم بخلوّ ذمّته عن كلّ منهما تخييرا ، أو تعيينا فيبنى على عدم الحكم والبراءة أو لا بل عليه

ص: 395


1- « س » : فيتمّ بدل : « فيه »!
2- « ج » : ستعلم.

أن يلتزم بشيء (1) ولو بالتخيير؟

قد يقال : إنّ القاعدة تقضي بالأوّل لأنّ الالتزام إمّا بأحدهما معيّنا أو بهما مخيّرا ، وعلى التقديرين لا دليل عليهما :

أمّا على الأوّل ، فلأنّ التكليف الواقعي بعد الجهل به لا يؤثّر في الظاهر بوجه لقبح (2) التكليف بلا بيان ، فلا وجه للقول بالتكليف بأحدهما في الواقع كما أنّه لا وجه للعقاب عليه.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ التخيير ليس من آثار الوجوب أو الحرمة الواقعية إذ لا يقتضي شيء منهما به ، ولا دليل على انقلاب التكليف التعييني في الواقع إلى التخيير فإنّ الواجب العيني أو الحرام العيني لا بدّ في انقلابهما إلى التخييري إلى دليل.

فإن قلت : الأدلّة الآمرة بانقياد العبد لأوامر المولى ونواهيه وأدلّة وجوب الإطاعة ناهضة في المقام ، وقضيّتها الالتزام في الجملة لا الحكم بالبراءة وخلوّ الذمّة والقول بعدم الحرج كما في أفعال البهائم والصبيان والحكم بخلوّ الواقعة عن الأحكام الظاهرية كما هو مفاد البراءة.

قلت : إن أريد من لزوم الانقياد والإطاعة التديّن بأوامره تعالى ونواهيه فإن أراد ذلك بالنسبة إلى ما هو الواجب أو (3) الحرام بخصوصه ، فلا إمكان فيه ، وإن أراد التديّن به ولو إجمالا ، فنحن لا ننكره بل نحن مؤمنون بكلّ ما جاء به الرسول ، وإن أراد التديّن بالتخيير بينهما والانقياد به ، فلا إمكان فيه إذ لم يثبت وجوبه حتّى ينقاد به ، وإن أريد العمل على طبق ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، فإن أراد العمل بالواجب والحرام الواقعيين مع قصد الوجوب والحرمة فلا إمكان فيه ، وإن أراد تطبيق العمل بهما فهو كذلك لأنّ التكليف لا يخلو من الفعل والترك دائما ، فالعمل إمّا على الوجوب ، أو على الحرمة إذ

ص: 396


1- « ج » : الشيء.
2- ظاهر نسختي « س ، م » : يصحّ!
3- « ج » : و.

لا واسطة بين الفعل والترك ، فالمكلّف دائما إمّا أن يفعل الفعل أو يتركه (1).

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بالتكليف منجّز له ولهذا تراهم يقولون بتكليف الكفّار بالفروع فأدلّة الإطاعة والانقياد بالنسبة إلى أوامره تعالى ناهضة محكّمة ، ومن هنا قلنا (2) فيما سبق بأنّ الموافقة القطعية لو لم تكن (3) ممكنة ، فلا بدّ من الموافقة الظنّية وهكذا متدرّجا إلى أن يصل إلى الموافقة الاحتمالية بعد ثبوت العلم الإجمالي بالتكليف.

وممّا يؤيّد ذلك أنّ الأصحاب - على ما يظهر من كلام صاحب المعالم (4) - مطبقون على عدم جواز طرح القولين بين الطائفة والرجوع إلى ثالث خارج منهما للقطع ببطلان الثالث فإنّه لا فرق في المقام وهناك إلاّ فيما لا يؤثّر فيما نحن بصدده.

على أنّه يمكن أن يقال بأنّ أخبار التخيير الواردة في تعارض الخبرين ربّما تدلّ على التخيير في المقام أيضا ولو بفحوى الخطاب بدعوى أنّ الحكم بالتخيير فيما إذا ورد خبران ليس إلاّ باعتبار اشتمالهما على الحكمين وهو موجود في المقام بل ربّما يستفاد من طريقة العقلاء التزامهم في أمثال المقام بشيء من الحكمين فإنّه يعدّ من المخالفة في نظرهم ، على أنّ المبالاة بالأوامر الشرعية والاعتناء بها واجبة قطعا ، وفي ترك الحكمين تخييرا أو تعيينا وعدم الالتزام بشيء منهما والحكم بأنّه لا حرج في الفعل والترك مع العلم بوجوبه أو حرمته من عدم المبالاة وترك الاعتناء ما لا يخفى على المتدبّر.

ولكنّ الكلّ بعد قاصر عن إفادة المطلوب ، أمّا حديث العلم الإجمالي وتنجّز التكليف به ولزوم الانقياد بأوامره تعالى ، فهو على إطلاقه لا ينهض بإثبات المطلوب

ص: 397


1- « ج » : + هذا.
2- « ج » : - قلنا.
3- في النسخ : لم يكن.
4- انظر معالم الدين : 177 - 178 في بحث الإجماع المركّب.

بل فيما يلزم (1) المخالفة العملية على تقدير عدم الالتزام.

وتوضيح ذلك أن ليس المقصود بالأوامر الآمرة بالانقياد والالتزام بأوامره والانزجار عن نواهيه التعبّد بها بل المراد بها وقوع الفعل المأمور به وترك الفعل المنهيّ [ عنه ] ، فالأمر بالالتزام إنّما هو للتوصّل إلى الفعل والترك ، فلو فرضنا حصول الفعل المأمور به وترك الفعل المنهيّ عنه دائما ، فلا فائدة في الإلزام (2) بالالتزام بمثل ذلك إذ المفروض حصول المقصود ، فالداعي للأمر شرعا مفقود كما أنّ العقل أيضا في هذه الحالة ممّا لا يحكم بالالتزام ، وذلك لا ينافي وجوبه أو حرمته بدون الفعل والترك كما هو الشأن في الواجبات التوصّلية فإنّها قبل الحصول واجبات ، وبعده لا أمر حتّى يكون هناك واجب أو غير ذلك ، غاية الأمر عدم ترتّب الثواب على الفعل والترك عند حصولهما في الخارج من غير قصد الإطاعة فإنّها لا تصدق فيما لم يقصد الفاعل أو التارك امتثال الأمر أو النهي ، ولا ضير في ذلك بعد ما فرضنا من أنّ المقصود من تلك الأوامر ليس إلاّ التوصّل إلى الأفعال المأمور بها والتروك.

وإذ قد تقرّر هذه فنقول : إنّ الواجب والحرام المحتمل كلاّ منهما فيما دار الأمر بينهما ، إمّا أن يكونا تعبّديين ، أو توصّليين ، أو أحدهما تعبّديا ، والآخر توصّليا ، فإمّا مع تعيين التعبّدي ، وإمّا مع الجهل به كأن يعلم أنّ أحدهما تعبّدي إجمالا ، والآخر توصّلي ، وحيث إنّ الغرض من التوصّلي على ما عرفت هو وقوع الفعل في الخارج على وجه لا يناط في تحقّقه صدق الامتثال وإن كان الفعل معلوما بالتفصيل ، ففيما لو كان الفعل موجودا وإن لم يكن امتثالا فيجزي عن الأمر بنفس الفعل فضلا عن الأمر بالالتزام ؛ إذ ليس المقصود به الاعتقاد تعبّدا كما في العقائد ، فعلى هذا فيما لو كان الواجب والحرام توصّليين ، لا يلزم مخالفة في العمل لحصول الفعل أو الترك دائما وبعد

ص: 398


1- سقط قوله : « الإجمالي وتنجّز التكليف ... » إلى هنا من « س ».
2- « س » : الالتزام.

حصوله يسقط الأمران ، وإن لم يكن الفاعل والتارك مثابا وممتثلا ، ويمتنع (1) الأمر به حينئذ لامتناع تحصيل الحاصل.

ولو كانا تعبّديين فلا شكّ في لزوم المخالفة العملية لوجود الواسطة بين الفعل والترك المطلقين وهو الفعل على وجه التعبّد والترك كذلك ، والمكلّف يصحّ خلوّه منهما.

ولو كان أحدهما تعبّديا والآخر توصّليا فإن كان التعبّدي معيّنا كالواجب بمعنى أنّ الواجب المحتمل على تقديره تعبّدي كما في دوران الأمر للحائض بين الصلاة وتركها والصوم وتركه فإنّهما على تقدير الوجوب تعبّديان ، فلا خفاء أيضا في أنّ العمل لا يلزم أن يكون دائما مطابقا لأحدهما لإمكان الإتيان بصورة الصلاة من دون التعبّد وهي ليس بالفعل لانضمام القيد إليه ولا بالترك (2).

وإن كان التعبّدي منهما غير معلوم ، فالموافقة العملية حاصلة لإمكان أن يكون المأتيّ به دائما هو غير التعبّدي.

وبالجملة ، فبعد عدم إمكان الموافقة القطعية والظنّية ، فلا مناص من الموافقة الاحتمالية ونحن لا ننكر ذلك إلاّ أنّ قضيّته لا يزيد على لزوم الإتيان والالتزام فيما لا يحصل إلاّ بعنوان خاصّ كالقربة والتعبّد مثلا ، وفي التعبّديات نحن نلتزم بوجوب الالتزام حذرا من المخالفة العملية القطعية ، وفي غيرها - كأن يكونا توصّليين أو أحدهما توصّليا مع عدم العلم بالتعبّدي على وجه التعيين - لا دليل على الالتزام بحصول الفعل المأمور به والترك دائما لعدم الواسطة في الأوّل وحصول الموافقة الاحتمالية في الثاني إذ كلّ من الفعل والترك يحتمل أن يكون توصّليا ولا يخلو المكلّف منهما ، فيحتمل دائما حصول المطلوب إذ المفروض أنّ الأمر بالالتزام توصّلي ، والأمر بنفس الفعل والمنهيّ عنه أيضا توصّليان ، وسقوط الواجب التوصّلي بحصول الفعل في الخارج - ولو على غير وجه الإطاعة - ممّا لا مجال لإنكاره حذرا من لزوم تحصيل

ص: 399


1- « ج ، م » : يمنع.
2- « م » : وما لا يترك.

الحاصل في وجه وخلاف الفرض في وجه آخر.

فتلخّص (1) من جميع ما مرّ من أنّ المخالفة القطعية لو صادفتها (2) الموافقة (3) العملية ، فلا دليل على فسادها كما في التوصّليات ، وإلاّ فلا بدّ من الالتزام أخذا بالأدلّة الدالّة على لزوم اتّباع حكم اللّه ورسوله.

وأمّا ما ادّعاه صاحب المعالم من إطباق الفرقة على لزوم الأخذ بأحد الحكمين المجمع عليهما إجمالا ، فمحمول على ما ذكرناه فيما لو لم يوافق العمل أحد القولين دائما ، على أنّ الشيخ (4) حكم بالتخيير الواقعي بين الحكمين ومن المعلوم توافقهما في نفي الثالث وإن كان هو التخيير ، وأمّا دعوى دلالة أخبار التخيير على لزوم الأخذ بمطلق الحكمين المتباينين تخييرا فعهدتها على مدّعيها.

ولو سلّم ، فلا نسلّم فيما وافق أحدهما العمل دائما ، وأمّا بناء العقلاء على لزوم الأخذ ، فمسلّم فيما لا يوافق العمل ، وأمّا الالتزام والاعتناء لا يقضي بذلك فإنّ المحرّم هو عدم المبالاة بالشرع وترك الاعتناء إليه واللزوم على تقدير الموافقة ممنوع.

ثمّ إنّ الإنصاف أنّ الأدلّة المذكورة وإن لم تكن على وجه يعوّل عليها في الحكم كما عرفت من وجوه الضعف فيها إلاّ أنّ المسألة بعد محلّ إشكال ، فلم يرتفع نقاب الشكّ عن وجه المطلوب على ما ينبغي كما لا يخفى ، فتدبّر.

المقام الثاني : [ في التخيير أو الترجيح ]

في أنّ بعد ما قلنا بأنّ الحكم فيما دار الأمر بين المحذورين ليس عدم الحكم والحرج بل لا بدّ من الالتزام ، فهل الحكم هو التخيير بين الوجوب والحرمة ، أو لا بدّ من

ص: 400


1- « ج ، م » : فيلخّص.
2- « ج ، م » : صادفها.
3- « س » : المخالفة.
4- عدّة الأصول 2 : 636 - 637 وعنه في فرائد الأصول 2 : 183 - 184.

ترجيح جانب الحرمة؟ قد يقال بالثاني لوجوه :

أحدها : الاستقراء وبيان ذلك أنّا تتبّعنا الموارد التي اجتمع فيها الوجوب والحرمة كالعبادة للحائض في أيّام استظهاره وعبادة المبتدأة والإناء المشتبه فوجدنا الشارع قد حكم فيها بغلبة جانب الحرمة على الوجوب ، وهذا يوجب العلم ولا أقلّ من الظنّ بأنّ مبنى الشرعيات على غلبة (1) جهة الحرمة على جهة الوجوب واعلم أنّه يمكن الفرق بين الغلبة المدّعى بها في كلامهم والاستقراء بأنّ الغلبة لا بدّ في تحقّقها من أن يكون هناك فرد نادر بخلاف الأفراد الغالبة ، ولا يجب ذلك في الاستقراء إذ قد لا يكون هناك (2) فرد نادر ؛ بل قد يقال بوجوب عدمه كما لا يخفى.

وثانيها : قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ الأمر في المقام دائر بين التعيين والتخيير بين الحرام والواجب ، فلو أخذنا بالتعيين - وهو الحكم بالحرمة فقط - قطعنا بالامتثال بخلاف ما لو أخذنا (3) بالتخيير إذ يحتمل أن يكون المطلوب هو التعيين فهو القدر المتيقّن ، ولا بدّ من الأخذ به ليرتفع العلم بالاشتغال.

وثالثها : أنّ مبنى الأمر والوجوب على إحراز المصلحة وجلب المنفعة ووجه النهي والحرمة على نفي المفسدة ودفع المضرّة ، والعقل بصرافته لو دار الأمر بين جلب المنفعة ودفع المضرّة ربّما يحكم بأولويّة الثاني من الأوّل.

لا يقال : قد يكون المنفعة كثيرة والمضرّة قليلة ، فكيف ينافي الحكم بالأولوية (4) على إطلاقها.

لأنّا نقول : لو علمنا بذلك صحّ ما ذكر ، وإلاّ فاحتمال الكثرة في كلّ منهما سواء ، والكلام في أولوية دفع المضرّة من جلب المنفعة لو جرّدا عن جميع ما يمكن احتفافهما به.

ص: 401


1- « س » : ظنّية!
2- « س » : - هناك.
3- « م » : أخذ.
4- سقط قوله : « من الأوّل لا يقال ... » إلى هنا من « ج ».

فإن قلت : في كلّ من الأمر والنهي كلّ من الأمرين متحقّق وجودا وعدما.

قلنا : نعم ، ولكن مبنى الأمر على ما قلنا عند العقلاء على إحراز المصلحة والنهي بخلافه ، فلا يضرّ في ذلك وجود الوجوب التبعي في النهي ، والحرمة التبعية في الأمر إذ الحكم التبعي فيهما مبنيّ على عدم المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

ورابعها : قوله : « كلّما اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال » (1).

ولكن في الكلّ نظر :

أمّا في (2) الأوّل ، فبمنع الاستقراء ، كيف ونحن لم نجد مثالا لما نحن بصدده ولو واحدا ، والعجب أنّه لم يكتف بدعوى الاستقراء عن الغلبة مع (3) أنّ الأمر في الاستقراء على ما نبّهنا عليه أصعب كما لا يخفى.

وأمّا الأمثلة المذكورة فممّا لا مساس لها بالمقام أصلا.

أمّا الأوّل منها ، فلأنّ الحكم فيها في أيّام الاستظهار إنّما هو بواسطة أمر اجتهادي وهو حكم المعصوم بحرمة الصلاة مثلا ، ويكفي في المقام عدم العلم بالوجه في حكم المعصوم ، فلعلّه لم يكن من حيث إنّه مجهول الحكم ، ومنه يعلم الحال في الثاني أيضا لأنّ الحكم بالحرمة من جهة القاعدة المقرّرة عندهم من أنّه « كلّ ما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض » وهذا في الحقيقة راجع إلى بيان الموضوع ، وإلاّ فكيف يعقل طرح الاستصحابات الكثيرة فيه من استصحاب وجوب الصلاة وجواز قراءة العزائم ونحوها كما لا يخفى.

والثالث أيضا فإنّ الحكم بإهراق الإناءين من جهة النصّ فلعلّه لا يناط بالجهل.

وأمّا في (4) الثاني ، فلأنّ قاعدة الاشتغال لا تجري (5) في المسائل العقلية إذ الحاكم

ص: 402


1- بحار الأنوار 2 : 272 ، باب 33 ، ح 6 ؛ مستدرك الوسائل 13 : 68 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 5. وسيأتي قريبه في ص 463 وقد بسطنا الكلام في مصادره.
2- « ج ، س » : - في.
3- « س » : « من » بدل : « مع ».
4- « س » : - في.
5- « ج ، س » : لا يجري.

فيها العقل وهو موجود في زمان الشكّ أيضا ، فلا بدّ من التحلية في تحصيل حكم العقل لو اشتبهت حكمه بواسطة ممازجته بالحجب الوهمانية ، واختلاطه بالأوهام النفسانية فإن حكم بالتعيين ، فهو المتّبع أو بالتخيير فكذلك ، وأمّا الشكّ فلا يتصوّر في أمثال المقام إذ كيف يعقل كون العقل حاكما مع الجهل بموضوع حكمه.

نعم ، يصحّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ العقل كاشف عن الحكم الشرعي ، وحيث إنّ الحاكم هو الشرع فيمكن حصول الجهل بموضوع حكمه ، فيحكم العقل بالتعيين فيما لو دار الأمر بينه وبين التخيير وذلك ظاهر ، وسيجيء تفصيله في غير المقام على وجه يندفع به الشكوك والأوهام.

وأمّا في الثالث ، فلأنّ الحكم بالأولوية ممّا لا يجدي في التعيين إذ غاية الأمر هو الحكم بالاستحباب وهو لا ينافي التخيير ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى بأنّ العقل لو جرّد النظر عن جميع الخصوصيات المختصّة بالمقام ، يحكم بالوجوب ، وليس ببعيد.

وأمّا في الرابع ، فلأنّ الظاهر منه هو اجتماع الحلال والحرام في شيء واحد على نحو الممازجة ، وكيف ما كان ، فلا يبعد دعوى التعيين في المقام نظرا إلى حكم العقل في الدليل الثالث كما لا يخفى.

المقام الثالث : [ في كون التخيير بدويا أو استمراريا ]

في أنّ بعد القول بالتخيير ، فهل هو بدوي ، أو استمراري؟ قد يقال بالأوّل لوجوه :

أحدها (1) : قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ الأمر دائر بين التخيير والتعيين وقد أطبق الكلّ على اختيار التعيين دون التخيير.

وثانيها : استصحاب بقاء الحكم في المسألة الفرعية.

ص: 403


1- « س » : الأوّل.

وثالثها : لزوم محذور عدم الالتزام بشيء من الحكمين على تقديره ، بيان ذلك أنّا قلنا بوجوب الالتزام بالأحكام الشرعية حذرا من المخالفة القطعية وترك الاعتناء بأوامر الشارع وعدم المبالاة بأحكامه ، وهذا هو بعينه موجود في التخيير الاستمراري ، غاية الأمر (1) استناد عمله في كلّ وقت إلى قصده الالتزام بأحد الحكمين على حسب اختلاف دواعيه النفسانية وذلك يقرب من الهرج والمرج بل وهذا مفوّت للّطف الباعث على التكليف.

وفي الكلّ نظر : أمّا في الأوّل ، فلما عرفت آنفا (2) من عدم جواز الاتّكال بالاشتغال في الأحكام العقلية إذ العقل بعد موجود ، ولا بدّ من الرجوع إلى كيفية حكمه من أوّل الأمر ، ولو سلّم فاستصحاب التخيير في المسألة الأصولية دليل اجتهادي بالنسبة إلى قاعدة الاشتغال وإن كنّا لا نعوّل عليه أيضا من الجهة المذكورة.

وأمّا في الثاني فلهذين الوجهين بعينهما.

وأمّا في الثالث ، فلأنّ للمكلّف أن يدخل نفسه في عناوين مختلفة على وجه يختلف الأحكام بحسب اختلافها كما أنّا تارة نقيم (3) في بلد ، ونسافر أخرى ، فربّما يختلف العنوان باختلاف يسير ، فالمكلّف في الحقيقة إنّما يوجد أسباب التكليف ولا غائلة فيه ، ويكفي في المبالاة بالأحكام (4) الشرعية استناد العمل بعد الاختيار إلى الحكم الشرعي ، وهذا هو عين المبالاة والاعتناء واللطف كما لا يخفى.

والتحقيق أنّ مدرك التخيير لو كان دليلا شرعيا كأخبار التخيير في الأخبار المتعارضة ، فلا يبعد القول بالتخيير الاستمراري نظرا إلى استصحاب التخيير ، ووروده على استصحاب الأحكام (5) الشرعية في المسائل الفرعية إلاّ أنّ المحقّق في مقامه عدم جواز التعويل على مثل هذا الاستصحاب لأنّ شرط جواز التعويل عليه

ص: 404


1- « س » : - الأمر.
2- « س » : « أوّلا » عرفت في الصفحة السابقة.
3- « م » : نقيم تارة.
4- « ج » : في الأحكام.
5- « م » : أحكام!

إحراز موضوعه علما وهو في المقام غير محرز ؛ لاحتمال أن يكون لوصف التخيير مدخلية فيه ، وبعد الأخذ يرتفع الوصف فيرتفع الموضوع ، فعلى ما ذكرنا قاعدة الاشتغال محكّمة لجريانها في الأحكام الشرعية وعدم ما يعارضها من الاستصحاب ، فلا بدّ من الحكم بالتخيير البدوي كما بيّنّا على مثل ذلك في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد ولو كان الدليل عقليا.

فإن قلنا بأنّ الفرار من المخالفة القطعية هو المنشأ في الحكم بالتخيير ، فالتخيير بدوي لحصولها ولو تدريجا في التخيير الاستمراري ، ولو (1) قلنا بأنّ الوجه في الالتزام بالتخيير هو لزوم الالتزام بالأحكام الشرعية وتقييده بها ، فهذا لا ينافي التخيير الاستمراري إذ في كلّ من الحالتين يلتزم المكلّف بالأحكام الشرعية ولا منافاة واللطف حاصل.

وإن قلنا بأنّ الوجه هو عدم المبالاة بالشرع ولزوم المخالفة القطعية أيضا على وجه يعدّ في العادة مخالفة ، فمقتضاه التفصيل بين ما إذا حصل المخالفة عن علم كما إذا كان بانيا على الاستمرار في التخيير في أوّل الأمر فإنّه يعلم بترتّب (2) المخالفة على العمل ابتداء فإنّه يعدّ من المخالفة فيحكم بعدم الاستمرار وبين غيره كما إذا كان في أوّل الأمر بانيا على الأخذ به دائما ، ثمّ بدا له اختيار الآخر لغرض آخر فإنّه يمكن القول بأنّه لا يعدّ في العادة من المخالفة كالمقيم في بلد الإقامة بعد ما سنحت له سانحة تقضي بمسافرته بعد الإقامة.

ص: 405


1- « م » : وإن.
2- « م » : ترتّب.
المقام الرابع : [ في كون التخيير أصوليا أو فقهيا ]

في أنّ المجتهد بعد القول بالتخيير - سواء كان بدويا أو استمراريا - فهل يفتي بالمختار مطلقا ، أو بالتخيير كذلك ، أو يفصّل بين ما إذا قال بالتخيير البدوي فبالمختار ، أو بالاستمراري فبالتخيير؟ وجوه :

ربّما يقال بالأوّل ؛ لأنّ الحكم المعلوم إجمالا (1) لا يصير حكما شرعيا إلاّ بعد الأخذ والاختيار ، فالمختار هو حكم اللّه لجميع الناس في نظره فباختياره يصير حكما شرعيا لا مطلقا ، فلو أفتى بالتخيير - والفرض أنّه لا يصير حكما شرعيا إلاّ بعد الاختيار - فقد أفتى بغير ما أنزل كما في الأخبار المتعارضة فإنّ الحكم المدلول عليه بإحدى الروايتين لا يكون حكما شرعيا إلاّ بعد تعيين المجتهد إحداهما للعمل.

وبالجملة ، فكما أنّ المجتهد لا بدّ له من تعيين الحكم فيما لو كان واجبا عينيا ، وما لم يعيّنه المجتهد لا يصير من الأحكام الشرعية ، فكذلك فيما لو كان واجبا تخييرا فإنّ تعيين أحد (2) فردي الواجب التخييري بمنزلة تعيين الواجب العيني.

وقد يقال بالثاني ؛ لأنّ المجتهد إنّما ينوب عن المقلّد في تعيين الأحكام الشرعية التي لا يناط إلى أفعال اختيارية راجعة إلى الدواعي (3) النفسانية ، فهو إنّما واسطة له في فهم الأحكام من حيث عدم قدرته له وعدم إمكان تحصيل العلم بها إلاّ من جهة المجتهد ، وإلاّ فالحكم الواقعي بالنسبة إلى المقلّد والمجتهد سواء ، فكيف يعقل مدخلية اختيار المجتهد - الراجع إلى دواعيه (4) النفسانية - في تكليف (5) المقلّد مع أنّه لو قلنا بذلك ، لزم وجوب إفطار المقلّد فيما لو سافر المجتهد ، فلو كان الحكم الواقعي هو التخيير ، فلا فرق

ص: 406


1- « ج ، م » : - إجمالا.
2- « ج » : واحد.
3- « م » : دواعي. « س » : الدعاوي.
4- « س » : دعاويه.
5- « ج » : بتكليف.

في ذلك بين آحاد المكلّفين ، ولم يقم (1) دليل على مدخلية اختيار المجتهد بعد عدم تأثيره في الحكم الشرعي الواقعي الذي هو التخيير في تكليف المقلّد ، فليس له الفتوى بالمختار لعدم كونه من الأحكام الشرعية ، ولا أقلّ من الشكّ ، والأصل عدمه.

فإن قلت : إنّ التخيير أيضا كذلك.

قلت : قد عرفت أنّ التخيير في الواقعة هو الحكم الواقعي الإلهي ، فلا مناص من الالتزام به دون المختار.

والتحقيق : أنّ دليل التخيير إن كان شرعيا لفظيا كما في الأخبار المتعارضة ، فلا بدّ من الفتوى بالمختار فإنّ الاختيار فيها من جملة ما يتمّ به الحكم الشرعي فإنّ مفاد التخيير هناك هو التخيير بين العمل بالدليلين المتعارضين ، ووجوب الأخذ بأحدهما إنّما هو مثل الأخذ بالخبر الغير (2) المعارض بمثله ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ الوجوب في الأوّل تخييري ، وفي الثاني عيني ، فبالحقيقة الحكم الشرعي هو مدلول أحد الدليلين ، والتخيير ليس فيه بل في نفس الدليلين وإن كان دليل التخيير عقليا كالفرار عن المخالفة القطعية والالتزام بأوامره تعالى كما فيما نحن فيه ، فالأقرب هو الفتوى بالتخيير لأنّ التخيير العقلي إنّما هو بين (3) نفس الحكمين كما في التخيير بين خصال الكفّارة فإنّ التخيير فيها بين الأحكام وإن كان بينها وبين ما نحن بصدده فرق من جهة أخرى.

وممّا مرّ (4) ذكره يظهر وجه التفصيل بين الاستمراري والبدوي فكأنّه في البدوي اختيار المجتهد للحكم من متمّمات نفس الحكم ، بخلافه في الاستمراري ، وللنظر فيه مجال واسع.

ص: 407


1- « م » : لم يقل!
2- « س » : - الغير.
3- « س » : - بين.
4- « س » : - مرّ.
وينبغي التنبيه على أمور :
الأوّل :

لا يكاد يخفى على من تبصّر فيما أوردنا له في الأصول المتقدّمة أن لا نزاع بين الأخباري والأصولي إلاّ في الشبهة التحريمية (1) فيما دار الأمر بين الحرمة وغير الوجوب. وأمّا في الشبهة الوجوبية ، فالكلّ مطبقون على البراءة إلاّ ما قد (2) يظهر عن أمينهم (3).

والتحقيق - على ما يظهر بالتتبع في كلماتهم مثل ما ذكره الشيخ الأجلّ رئيس جهابذة الأخبارية الشيخ الحرّ العاملي في كتاب القضاء (4) والسيّد صدر الدين في شرحه على الوافية - أنّه خانهم في ذلك حيث تفرّد فيه عنهم أيضا ، وأمّا فيما دار الأمر بين المتباينين ، فالأخباريون أيضا لا يقولون بوجوب الاحتياط ، فهم والمجتهدون سواء في ذلك ، وعلى هذا فما أورد بعضهم على الأخباريين بلزوم العسر والحرج لو وجب الاحتياط تارة ، وبعدم إمكان الاحتياط فيما لو دار الأمر بين المتباينين أخرى ، فكأنّه غفلة منه عن كلامهم (5) لما عرفت من أنّ الشبهات الوجوبية ممّا لا يلتزم فيها بالاحتياط فيها ، والشبهات التحريمية في غاية القلّة حيث إنّ الكلام بعد الفحص والفراغ عن إثبات حجّية الأمارات على حسب اختلاف المشارب في تعيين الحجّة ، وعلى تقديره فالتروك لا مشقّة فيها (6) في وجه ، وعدم إمكان الاحتياط في المتباينين بعد عدم القول به فيهما لا يؤثّر فيما يمكن الاحتياط فيه كما لا يخفى.

ص: 408


1- « م » : + بمعنى ، « س » : + فمعنى!
2- « س » : - قد.
3- الفوائد المدنية : 277 - 280 و 332 - 335 وفي ط الحجري : 138 - 139 و 162 - 163.
4- الوسائل 27 : 163 - 164 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ذيل ح 33 وعنه في مفاتيح الأصول : 510.
5- « ج » : مرادهم.
6- « م » : لها ، وخ ل بهامشها : فيها.
الثاني :

أنّ الكلام في دوران الأمر بين الواجب والمحرّم في المقام (1) إنّما هو فيما إذا كان الشكّ فيهما مسبّبا عن أمر ثالث خارج منهما كما إذا ورد هناك أمر فلم نعلم أنّه للوجوب أو للتحريم من جهة التهديد ، وأمّا إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الآخر ، فمرجعه في الحقيقة إلى أحد الأصلين السابقين إذ بعد ارتفاع الوجوب الناشئ منه الشكّ في الحرمة بالأصل يرتفع الشكّ في الحرمة لارتفاع المسبّب بارتفاع السبب ، وكذا بعد ارتفاع الحرمة بأصالة البراءة يرتفع احتمال الوجوب المنبعث عن احتمال الحرمة لعين ما مرّ من قضية العلّية والسّببية ، مثلا لو شكّ في وجوب الصلاة من جهة الشكّ في حرمة ترك إزالة النجاسة عن المسجد ، فبعد القول بجواز ترك الإزالة نظرا إلى أصالة البراءة فيها عن الحرمة ، فلا مجال للشكّ في وجوب الصلاة لعدم المانع ، وأيضا لو قلنا بحرمة الارتماس في نهار رمضان من غير أن يكون مفطرا ، ففي ضيق الوقت وعدم إمكان غير الارتماس نشكّ في وجوب الصلاة من جهة الشكّ في حرمة الارتماس في هذا الوقت ، فلو عملنا بأصالة البراءة فيها ، فاللازم الحكم بوجوب الصلاة من غير تزلزل فيه لارتفاع الشكّ بارتفاع سببه كما لا يخفى ، والمقصود من إيراد المثالين التنبيه على نفس الحكم ، وإلاّ فالحكم (2) فيهما بعد محلّ نظر.

الثالث :

أنّه يستفاد من تضاعيف كلماتنا في الأصل (3) المقدّم ، وهذا الأصل حكم ما إذا دار الأمر بين الحرام والاستحباب ، أو الكراهة ، أو الإباحة ، أو اثنين منها على اختلاف صورها ، أو الثلاثة وما إذا دار الأمر بين غير الواجب وغير الحرام كالإباحة والاستحباب ، وكالاستحباب والكراهة على اختلاف الأقسام المتصوّرة فيه ، فلا حاجة إلى تطويل المقام بانعطاف عنان الكلام إليه ، فعليك باستخراج أحكامها.

ص: 409


1- « م » : - في المقام.
2- « ج ، س » : في الحكم.
3- « ج » : هذا الأصل!

ص: 410

أصل [ في الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية ]

قد عرفت تفصيل القول في الشبهة الحكمية التكليفية وجوبية وتحريمية وغيرهما فيما دار الأمر بينهما ، وأمّا الشبهة الموضوعية التكليفية ، فالكلام فيها يقع في مقامات أيضا :

أحدها : ما احتمل الوجوب دون الحرمة.

وثانيها : ما احتمل الحرمة دون الوجوب.

وثالثها : ما دار الأمر بين الواجب (1) والحرام. ولنذكر الأوليين (2) في هذا الأصل ، ثمّ نتبعه بأصل آخر في بيان الثالث لعدم اختلاف الأوليين في الأحكام بخلافه في الشبهة الحكمية كما لا يخفى.

فنقول : لا بدّ أن يعلم أنّ الكلام في المقام ليس في جريان البراءة في كلّ موضوع فإنّ جملة منها لا يمكن جريان البراءة فيها لجريان أصل موضوعي فيها كالزوجية مثلا فإنّا لو شككنا في أنّ المرأة الفلانية هل هي معقودة أو لا؟ فلا يجوز (3) الاستناد إلى البراءة في حرمة وطيها التي تستند إلى الشكّ في كونها أجنبية أو لا؟ فإنّ أصالة عدم الزوجية محكّمة (4) في المقام ، وكالتذكية فإنّ اللحم المطروح من غير سبق يد المسلم

ص: 411


1- « ج » : الوجوب.
2- « ج ، س » : الأوّلين. وكذا في المورد الآتي.
3- « س » : فيجوز؟
4- « ج ، س » : ممكنة.

عليه محكوم بالحرمة والنجاسة لأصالة عدم التذكية ، وكالملكية فإنّ المستفاد من حصر الشارع أسباب الملك في أشياء مخصوصة كالبيع والصلح والهبة وغيرها من الأسباب الشرعية عدم جواز التصرّف في شيء إلاّ بعد إحراز عنوان (1) الملك ، ففي مقام الشكّ لا وجه للاستناد إلى أصالة البراءة في دفع الحرمة لأصالة عدم الملكية ويترتّب عليها الحرمة وعدم جواز التصرّف فيه.

ثمّ اعلم : أنّ الكلام في المقام إنّما هو في حكم ما اشتبه موضوع الحكم الشرعي وهو من الأحكام الشرعية التي لا بدّ من استعلامها من الأدلّة الشرعية كما هو الشأن في جميع الأحكام على ما هو ظاهر لا سترة عليه ، وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّ الأدلّة المذكورة فيما تقدّم بعينها ناهضة على عدم التكليف عند الشكّ فيه بواسطة الشكّ في موضوع الحكم والتكليف.

أمّا الآيات ، فظاهرة فإنّ قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (2) على ما فسّره بعضهم ب- « إلاّ ما أعلمها وأقدرها » تعمّ (3) الجميع حكما وموضوعا.

وأمّا السنّة ، فقوله (4) عليه السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (5) إمّا أن يكون مختصّا بالشبهة في موضوع الحكم ، أو يعمّه والحكم ، وكذا قوله : « كلّ شيء مطلق » (6) بعمومه يشمل (7) المقام.

وأمّا الإجماع ، فالأخباري أيضا يقول بالبراءة فيه كما هو أحد محاملهم لأخبار البراءة ، ونقله ربّما يعدّ مستفيضا كما لا يخفى.

وأمّا العقل ، فتقريره جار (8) في المقام أيضا : أمّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، فلأنّ عند الشكّ في التكليف بواسطة الشكّ في الموضوع الخاصّ وعدم العلم بالأمر لو كان

ص: 412


1- « س » : - عنوان.
2- الطلاق : 7.
3- « م » : يعمّ.
4- « ج ، م » : كقوله.
5- تقدّم في ص 359 وسيأتي في ص 589.
6- تقدّم في ص 159.
7- « م » : يشتمل.
8- « م » : فبتقريره جاز.

مكلّفا بالفعل على أنّه مأمور لزم التكليف بالمحال فإنّ حال عدم العلم بالأمر يمتنع إتيان الفعل لداعي الأمر وهو ظاهر ، وقد مرّ تفصيل ذلك في الشبهة الوجوبية الحكمية بما فيه من الأسئلة (1) والأجوبة ، وأمّا لزوم التكليف بلا بيان ، فلأنّ المفروض عدم العلم بالتكليف ولو بواسطة الشكّ في الموضوع ، ومع عدم العلم لو قيل بالتكليف والعقاب على الترك والفعل لزم التكليف من غير بيان والعقاب بلا برهان ، وذلك أيضا أمر (2) واضح يحكم به كلّ من يجد من (3) نفسه رائحة من المعنى ، فإنّ الرقيب العتيد (4) الذي يحاسبنا في حركاتنا الجزئية وسكناتنا الشخصية كيف يتأتّى منه التعذيب على الأمر المجهول مع ظهور حجّة العبد عليه.

فإن قلت : فرق ظاهر بين ما نحن بصدده وما مرّ من الشبهة الحكمية لعدم معلومية الحكم والتكليف فيها رأسا بخلاف المقام فإنّ التكليف بالاجتناب عن الخمر أو إكرام العالم مثلا معلوم ، والشكّ في اندراج الفرد لا يجدي في رفع الحكم المعلوم لأنّ المأمور بالاجتناب عنه وإكرامه هو الخمر الواقعي والعالم النفس الأمري ، والتكليف بالعنوان الواقعي يقضي بالاجتناب عن الخمر المشكوك وإكرام العالم المجهول.

قلت : إن أريد من (5) لزوم الاجتناب عن الخمر المشكوك وجوبه بواسطة الخطاب (6) العامّ الحاكم باجتناب الخمر ، فذلك ظاهر البطلان بل لا يكاد يلتزم به العاقل لما عرفت من [ أنّ ] التكليف ولو كان خاصّا في خصوص فعل جزئي يحتاج إلى العلم ، والعلم بالعنوان لا يجدي في الموضوعات الخاصّة بعد كون المقصود حقيقة من الأمر بالكلّي إيجاد الأفراد (7) كما لا يخفى ، ولو كان الاستناد إلى العنوان المعلوم كافيا في التكليف بالأفراد المشكوكة ، لصحّ الاستناد إليه فيها أيضا لو كان حكم العنوانين

ص: 413


1- « س » : الأدلّة.
2- « ج » : - أمر.
3- « م » : في.
4- « س » : الرقيب والعتيد.
5- « س » : - من.
6- « م » : خطاب.
7- « ج » : الفرد.

مختلفا ، مثلا لو قلنا بحرمة إكرام الجاهل ووجوب إكرام العالم وشكّ في زيد هل هو عالم أو جاهل ، فلو صحّ دعوى وجوب إكرامه نظرا إلى وجوب إكرام العالم الواقعي واحتمال أن يكون زيد منه ، لصحّ (1) دعوى حرمة إكرامه نظرا إلى حرمة إكرام الجاهل الواقعي فإنّ لكلّ مطلوب دليلا يستفاد ذلك المطلوب منه ، وهو لا مناص من تركه من مقدّمتين إحداهما يحكم فيها بثبوت (2) الملزوم ، والأخرى بالملازمة ، ففي وجوب إكرام زيد المشكوك كونه عالما لو صحّ الاستناد إلى وجوب إكرام مطلق العالم المعلوم بالخطاب العامّ ، لزم إثبات المطلوب بمقدّمة تكفل (3) لبيان الملازمة فقط وهي المسمّاة بالكبرى عندهم.

وإن شئت زيادة توضيح في (4) ذلك ، فانظر إلى قولك : « زيد قائم » مثلا بعد إحراز ما يستفاد منه ثبوت القيام لزيد كيف يدور العلم بالقيام له والظنّ والشكّ فيه أيضا مدار العلم بزيد والظنّ به والشكّ فيه ، فكما أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت ذلك الشيء ، فالعلم بثبوت شيء لشيء فرع العلم بذلك الشيء ، وهذا ظاهر معلوم لكلّ من راجع وجدانه بل وهو من أجلى الضروريات ، ولهذا تراهم (5) يرسلون اشتراط مطلق التكليف بمطلق العلم إرسال المسلّمات على ما لا يخفى.

وإن أريد (6) أنّ في موضوع الاحتمال دليل (7) آخر غير ما دلّ على وجوب إكرام العالم ولزوم الاجتناب من (8) الخمر من حيث وجود العلم الإجمالي بوجود الخمر الحقيقي الواقعي في سلسلة المشكوكات ، فهذا خارج عن مفروض الكلام في المقام حيث إنّ الكلام إنّما هو في الشكّ الابتدائي من غير سبق علم إجمالي بوجود الواجب والحرام في

ص: 414


1- « ج » : يصحّ.
2- في النسخ : ثبوت.
3- « س » : يكفل.
4- « س » : - في.
5- « س » : ترى.
6- عطف على « إن أريد » بعد قوله : « قلت ».
7- كذا. والصواب : دليلا.
8- « ج » : عن.

المشكوكات كما في الشبهة المحصورة ، فإنّ للكلام فيها مقاما آخر ستعرفه (1) فيما سيجيء.

وبالجملة ، فالمكلّف تارة يعلم تفصيلا بالموضوع والحكم ، وظاهر لزوم الامتثال حينئذ (2) ، وتارة يعلم بوجود الموضوع في جملة مشتبهة فله حكمه على ما سيجيء ، وأخرى يشكّ في الموضوع فيشكّ في نفس التكليف بالنسبة إليه بالخصوص ، ولا فرق بين الشكّ في التكليف الكلّي والجزئي بعد اتّحاد (3) المناط ولا سيّما بعد ما عرفت من أنّ المقصود حقيقة منه إتيان (4) الجزئيات كما لا يخفى ، وانضمام الأفراد المعلومة بالتفصيل إلى الأفراد (5) المشكوكة لا يؤثّر في جريان البراءة فيها ؛ للعلم بعدم مدخلية المعلوم في المجهول ، فالإتيان بالمشكوكات لو كان من جهة كونها مقدّمة للأفراد المعلومة بالتفصيل ، فلا يعقل له معنى ولو كان بواسطة الأفراد المعلومة بالإجمال ، فالمفروض خلاف ذلك ، ولو كان بواسطة تحصيل العلم بالأفراد الواقعية ، فالشكّ إنّما هو في كونها فردا واقعيا ولا بدّ في تعلّق التكليف بشيء من العلم به وبمتعلّقه (6) وبجميع ما له دخل فيه ، وإلاّ فالشكّ يرجع إلى نفس التكليف والبراءة محكّمة فيه.

نعم ، في المقام شيء آخر وهو القول بلزوم الاحتياط والإتيان بالمشكوكات نظرا إلى لزوم دفع الضرر المحتمل وليس المراد به الضرر الأخروي من العقاب المترتّب على ترك المأمور به وفعل المنهيّ عنه (7) كي يقال بأنّ قبح التكليف بلا بيان يؤمننا الضرر ، ولا ما يترتّب على ترك الاحتياط حتّى يقال بعدم وجوبه بعد عدم جواز العقاب على نفس التكاليف الواقعية كما مرّ تحقيقه في الشبهة الوجوبية ، بل المراد به الضرر الدنيوي من الآلام المحتملة عند ترك ما يحتمل الوجوب كاحتمال الرمد عند

ص: 415


1- « ج ، م » : ستعرف.
2- « س » : - حينئذ.
3- « س » : إيجاد.
4- « س » : حقيقة من إثبات!
5- « م » : أفراد.
6- « س » : بمتعلّقة؟
7- « س » : « النهي » بدل : « المنهي عنه » ، « م » : « الفعل المنهي » بدل : « المنهي ».

ترك قراءة الدعاء عند الاستهلال مثلا ، أو الأخروي فيما لا يرجع إلى العقاب على التكاليف الواقعية وإن كان بواسطة مخالفة حكم العقل ، وهذا هو الذي نبّهنا عليه في الشبهة الوجوبية ووعدنا توضيحه لك في هذا المقام (1).

فاعلم : أنّ جملة من الأعاظم قد تصدّوا لدفع الإشكال إلاّ أنّهم بعد لم يأتوا بشيء يشفي العليل ، ويروي الغليل ، فمن ذلك ما أفاده بعضهم من منع حكم العقل بدفع الضرر ولو احتمالا مرجوحا أو مساويا ، غاية الأمر لزوم دفع المظنون منه ، وزاد بعضهم على ذلك ، فمنع من وجوب دفعه شرعا أيضا نظرا إلى منع الملازمة بينهما بل إنّما هو حكم عقلي صرف لا يمازجه شوب الشرع ، فلا يثبت به الحكم الشرعي ووجوب الاحتياط.

وحكي عن المحقّق الوحيد البهبهاني الأستاذ الأكبر في رسالته المعمولة في البراءة والاحتياط (2) أنّ (3) حكم العقل بلزوم دفع الضرر إنّما هو مجرّد إرشاد من العقل وإراءة طريق لنا لا يصل حدّا يوجب العقوبة على تقدير المخالفة ، فالعقل يحكم بالاحتياط ودفع الضرر حذرا من وقوعه فيه لا أنّه عنوان يحكم العقل بحرمته في نفسه على وجه يستوجب المخالف للذمّ كما في الظلم ونحوه ، والكلّ كما ترى بسقوط (4) الأوّل ؛ لقضاء (5) الضرورة بخلافه ، والثاني بما مرّ فيما سبق من تحقّق (6) الملازمة الواقعية بين العقل والشرع ، وكيف لا وهو خالق العقل؟

وأمّا الثالث ، فبعد الإغماض عن مخالفته لما في الوجدان ، فهو هدم لما أسّسه (7) أكابر المتكلّمين من وجوبه على الوجه المزبور ، وكيف وهذا هو المبنى لأسّ مسائل الربوبية

ص: 416


1- نبّه عليه في ص 345.
2- الرسائل الأصولية ( رسالة البراءة ) : 350 - 352.
3- « ج » : بأنّ.
4- « س » : لسقوط.
5- « ج » : بقضاء.
6- « م » : تحقيق.
7- « ج » : استند.

والمعارف الإلهية كما لا يخفى ، فالأولى الالتزام به ومع ذلك فالمطلوب ثابت لما عرفت أنّ الأحكام العقلية على قسمين بل على أقسام :

فتارة يمنع تصريح الشارع بخلافها كما فيما لو كان الحسن والقبح من مقتضيات ذات الشيء كحسن المعرفة وقبح الكذب بالنسبة إليه.

وأخرى لا يمنع (1) التصريح بخلافها لكن لا من حيث عنوان الحسن والقبح بل بواسطة عنوان آخر طار على الأوّل ، وقد مرّ أيضا أنّ عدم العلم بطريان العنوان الطارئ لا يجدي في ظاهرية حكم العقل وإن كان في موضوع الجهل كما أنّ عدم العلم بلحوق عنوان الطارئ لا يوجب عدم استقلال العقل بالحكم عند احتماله إذ مع عدم العلم بالعنوان اللاحق لا حكم له قطعا لعدمه حقيقة لاشتراط وجوده بالعلم ، فعند عدمه يستقلّ العقل بالحكم ، فلو استقلّ العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي ، فللشارع أن يحكم بخلافه لكن لا على وجه التخصيص بل حكم (2) الشارع يكشف عن وجود مصلحة فائقة على المفسدة التي أحرزها العقل ، فالفعل حينئذ يعنون بغير العنوان الحسن أو القبح (3) ، فهو تخصيص موضوعي كقتل الكفّار وقطع يد السارقين ونحو ذلك.

وإذ قد تمهّدت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الشارع قد جوّز ارتكاب الضرر الدنيوي في صورة العلم في موارد عديدة كالجهاد والتمكين من القتل عند إظهار كلمة الكفر لمن يعتدّ بشأنه في الدين وأمثال ذلك ، فكيف بالضرر المظنون والمشكوك ، فلا ضير في حكم العقل بوجوب دفع الضرر من حيث هو هو حكم الشرع في موارد خاصّة لعدم وجوبه للمصالح الكامنة في ارتكاب الضرر ، ولهذا تراهم عند الشكّ في الضرر لا يحكمون بسقوط التكليف إلاّ عن جماعة قليلة لشبهة اختلجت في أذهانهم نظرا إلى عنوان الخوف في بعض الأدلّة ، ولا دخل له بما نحن بصدده إذ على تقدير كون الخوف عنوانا على حدة في الأدلّة الشرعية ، فعند الشكّ وجوده قطعي والحكم لا يناط أبدا

ص: 417


1- في النسخ : « لا يمتنع ».
2- في النسخ : « الحكم ».
3- « س » : القبيح.

بالشكّ عندهم.

والحاصل ، فلا مانع في العقل أن يحكم الشارع الحكيم بعدم (1) لزوم الاجتناب عن الضرر الدنيوي ترخيصا لنا في أفعال تحتمله (2) نظرا إلى عموم ترياق رحمته تعالى المصلح لسموم (3) الأفعال ، وبعد ما عرفت (4) من قيام الإجماع على عدم لزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل وورود الأخبار والآيات على جوازه لا مناص من الحكم بالبراءة فيه ، غاية الأمر عدم تمامية دليل العقل في الشبهة الموضوعية ولا ضير فيه بعد كفاية غيره عن المطلوب ، ولا يلزم الانفكاك بين حكمي العقل والشرع نظرا إلى اختلاف العنوانين في الحكمين ، ولا يلزم من جواز تبدّل العنوانين عدم استقلال العقل في حكمه قبل العلم بلحوق العنوان الآخر كما في الأصول الدينية ولا يكون الحكم بوجوب (5) الدفع قبل الشرع حكما ظاهريا من العقل لما عرفت من أنّ الاحتمال دليل على عدم تحقّقه ولا يعقل في الأحكام العقلية كونها ظاهرية وهذا كلّه ظاهر لا سترة عليه.

فإن قلت : قد تقدّم في مباحث الظنّ حجّيته في الضرر وإن كان من الموضوعات ، وغاية ما يثبت (6) في المقام هو إلغاء الضرر المشكوك نظرا إلى قيام الإجماع عليه ، ولا خفاء في أنّ الظنّ بالواجب يلازم الظنّ بالضرر الغير الأخروي ممّا يرجع إلى العقاب ، فاللازم من جميع ذلك حجّية مطلق الظنّ ، وهذا هدم لما تقرّر في محلّه من عدم حجّيته سيّما بواسطة الضرر المحتمل مع قطع النظر عن مقدّمات الانسداد.

قلت : لا نسلّم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا يرجع إلى أمر عرفي لا يجري فيها دليل الانسداد فإنّ المناط في الحجّية على ما قرّرنا في محلّه هو جريان الانسداد في نفس الموضوع وقاعدة الاستلزام ، وإن شئت زيادة توضيح لذلك ، فراجع مظانّه من مباحث الظنّ ، فتدبّر.

ص: 418


1- « م » : لعدم.
2- في النسخ : « يحتمله ».
3- « ج » : لشمول.
4- « ج ، م » : علمت.
5- « ج » : لوجوب!
6- « م » : ثبت.

أصل [ في اشتباه الواجب بالحرام ]

في الشبهة الموضوعية التكليفية فيما دار الأمر بين الحرام والواجب والكلام فيه كالكلام في الشبهة التكليفية من عدم الالتزام بشيء منهما وتحكيم البراءة فيهما بعد ما فرضنا كون الواقع مجهولا وعدم دليل على انقلاب التكليف التعييني (1) إلى التكليف التخييري عدى أنّ عدم (2) الالتزام في المقام أوضح إذ من طرح الحكمين - بمعنى عدم الالتزام بهما في الشبهة الموضوعية - لا يلزم عدم الالتزام بالحكم الإلهي الكلّي إذ الشكّ في تعلّق ذلك الحكم على المكلّف بواسطة الشكّ في اندراج الموضوع في موضوع الحكم ، فعدم الالتزام بتعلّق الحكم عين الالتزام بالحكم الكلّي كما لا يخفى.

ثمّ إنّهم قد أوردوا في المقام أمثلة :

منها : ما لو نذر شرب إناء معلوم من الخلّ ، ثمّ اشتبه بالخمر لعارض كالظلمة ، أو نذر شرب المشتبه بالخمر ابتداء فإنّ الموضوع المردّد بين الخلّ والخمر في الصورتين يحتمل أن يكون واجبا لتعلّق النذر به ، ويحتمل أن يكون (3) حراما لاحتمال الخمرية فيه ، فهو إمّا واجب وإمّا حرام.

ومنها : ما لو نذر وطي زوجته الخاصّة ، ثمّ اشتبهت بغيرها لعارض ، أو نذر وطي المشتبه بالأجنبية ابتداء فإنّ الوطي بالنسبة إلى الموضوع المشتبه في الصورتين إمّا

ص: 419


1- « م » : اليقيني!
2- « س » : - عدم!
3- سقط قوله : « واجبا لتعلّق ... » إلى هنا من نسخة « س ».

واجب ، وإمّا حرام بالنظر إلى النذر وحرمة وطي الأجنبية ، ومثل النذر ما لو اشتبهت في رأس أربعة أشهر كما لا يخفى.

ومنها : لو نذر أن يتصدّق بمال مخصوص ، ثمّ اشتبه بملك الغير ، أو تعلّق نذره بالمشتبه ابتداء فإنّ التصدّق بالعين (1) المعهودة إمّا أن يكون واجبا للنذر ، أو حراما لكونها ملك الغير.

والحقّ : أنّ شيئا منها ليس بوارد (2) على ما نحن فيه بعد ما عرفت فيما سبق من أنّ الكلام فيما إذا لم يكن أحد الشكّين مسبّبا عن الآخر كأن يكونا مستندين إلى علّة ثالثة خارجة منهما ، وفيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي به يتعيّن موضوع الحكم.

وتوضيح ذلك :

أنّ الأوّل منها يرتفع الإشكال فيه تارة بجريان أصل موضوعي فيه كما إذا اشتبه المنذور بغيره لأصالة عدم تعلّق النذر به ، فيجري البراءة من غير إشكال ، وأخرى بجريان أصل البراءة في الشكّ السببي فيرتفع الشكّ في المسبّب كما إذا تعلّق النذر (3) بالمشتبه فإنّ الشكّ في وجوب الشرب مسبّب عن الشكّ في حرمته ، وبعد جريان البراءة ، فلا إشكال فيجب الشرب من دون احتمال تحريم.

وأمّا الثاني ، فيرتفع الإشكال فيه تارة بجريان الأصل في الموضوع كما إذا تعلّق النذر بالمشتبه فإنّ أصالة عدم الزوجية محكّمة ، فيرتفع الشكّ في وجوب الوطي ، وأخرى بجريان أصل موضوعي آخر كما إذا اشتبه المنذور وطؤها لأصالة عدم تعلّق النذر بها وحيث إنّ الأصل أيضا عدم الزوجية فيحرم وطؤها من غير إشكال.

وأمّا الثالث ، ففيما إذا اشتبه الموضوع فالأصل عدم تعلّق النذر به كما أنّ الأصل عدم الملكية فيحرم التصدّق به ، وفيما إذا تعلّق (4) النذر بالمشتبه فأصالة عدم الملكية بعد

ص: 420


1- « ج » : بعين!
2- « ج » : وارد!
3- سقط قوله : « به فيجري ... » إلى هنا من نسخة « م ».
4- « ج » : إذا اشتبه تعلّق.

جريانها لا محلّ للنذر وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثمّ إنّ المدرك في أصالة عدم الملكية يمكن أن يكون أمورا (1) :

الأوّل : أصالة عدم المالية عند الاشتباه فيحرم التصرّف فيه.

ولكنّه ليس على ما ينبغي لأنّ الحرمة في عنوان الأدلّة الشرعية لا يترتّب على عدم المالية فإنّها من آثار ملك الغير ، فبدون التسرية إلى ثبوت ملك الغير بالأصل (2) لا جدوى فيه ، ومعها لا تعويل (3) عليه لأنّه (4) أصل مثبت ، على أنّه معارض بأصالة عدم ملك الغير ، فيجري أصالة الإباحة فيها مع أنّ طريقة الأصحاب ممّا تنفي (5) ذلك.

الثاني : أصالة عدم الملكية نظرا إلى أصالة عدم ما يفيد الملك من الأسباب الشرعية كالصلح والهبة والبيع ونحوها بناء على أنّ الاستقراء في الشرعيات يعطي انحصار الملك في الأسباب.

وفيه : أنّ الاستقراء هذا وإن كان حقّا إلاّ أنّ مفاده لا يزيد على حصر الملك في أسباب خاصّة ، وأصالة عدم تلك الأسباب لا يقضي بالحرمة بل يقضي (6) بعدم حصول الملك والحرمة على ما عرفت من آثار ملك الغير لا من آثار عدم الملكية كما لا يخفى.

الثالث : أصالة بقاء الحرمة الثابتة ولو في زمان ما في بعض الأقسام ، وتوضيح ذلك : أنّ الملك المشتبه المردّد بين أن يكون ملكا لك أو لغيرك لا يخلو من وجوه :

أحدها : أن يكون مسبوقا بالإباحة الذاتية الأصلية (7) كالمباحات الشرعية وكان الشكّ في أنّ سبب الملك وهي الحيازة هل حصلت لك أو لغيرك.

وثانيها : أن يكون مسبوقا بيد الغير مع الشكّ في انتقاله إليك من غير احتمال انتقاله

ص: 421


1- « ج ، م » : أمور!
2- « م » : - بالأصل.
3- « م » : - لا تعويل.
4- « ج » : فإنّه.
5- « س » : ينتفي.
6- « ج » : لا تقضي ... بل تقضي.
7- « س » : الأصلية الذاتية.

إلى الغير.

وثالثها : أن يكون مسبوقا بيد الغير مع الشكّ في انتقاله إليك مع احتمال انتقاله إلى غيرك أيضا لا (1) شكّ في إباحة الأوّل لاستصحابها ، وحرمة الثاني أيضا لاستصحاب ملك الغير وأصالة عدم خروجه عن سلطانه كما أنّه لا ريب في حرمة الثالث نظرا إلى استصحاب ملك الغير.

فإن قلت : إنّ ملك الغير قد انقطع إن أريد به ملك من يحتمل انتقاله منه إليك وغير معلوم رأسا إن أريد به ملك من يحتمل انتقاله منه إليه ، وهل هذا إلاّ (2) مثل استصحاب الضاحك بعد العلم بتبدّل الأفراد فإنّ الضاحك الموجود اليقيني في ضمن زيد قد ارتفع قطعا ، وفي ضمن عمرو لم يعلم ثبوته ، فلا تعويل على مثل هذا الاستصحاب.

قلت : إنّ تبدّل الأفراد لا يقضي بانتفاء الجنس والكلّي فإنّ ملك الغير على سبيل الكلّية والجنسية معلوم والشكّ في وجوده لا يثمر ، فيحكم ببقائه حتّى يعلم انتفاء الجنس ، وانتفاء الفرد لا دخل له فيه ، ألا ترى أنّ انتفاء الفرد الشديد من السواد لا يخلّ في استصحاب مطلق السواد وجنسه ولو في فرد آخر ، وحديث الضاحك أيضا غير مسلّم فيما لو كان الشكّ في وجود مطلق الضاحك.

نعم ، لو كان الشكّ في الضحك الخاصّ الموجود في ضمن زيد بخصوصه ، لا يعقل استصحابه في ضمن عمرو فإنّ نسبة الجنس إلى جميع أفراده المندرجة تحته سواء ، وانتفاء الخاصّ لا يدلّ على انتفاء العامّ بخلاف ما إذا كان الكلام في خصوصيات الأفراد.

الرابع : قوله صلى اللّه عليه وآله : « ما يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب من (3) نفسه » (4) فإنّ الحلّية في الحديث

ص: 422


1- « س » : - لا! « ج » : كما لا.
2- « س » : « أيضا » بدل : « إلاّ ».
3- « س ، م » : - من.
4- الوسائل 5 : 120 ، باب 3 من أبواب مكان المصلّي ، ح 1 و 3 ، و 9 : 541 ، باب 3 من أبواب الأنفال ، ضمن ح 6، و 24 : 234 ، باب 63 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح 3 ، و 25 : 386 ، باب 1 من كتاب الغصب ، ح 4 ؛ الفصول المهمّة 2 : 454 ، باب 3 من كتاب الغصب ، ح 1 ؛ عوالى اللآلى 1 : 222 / 98 و 2 : 113 / 309 و 240 / 6 و 3 : 473 / 3 مع اختلاف فيها.

موقوفة على طيب النفس والرضاء (1) الباطني والأصل عدم حصول طيب النفس ، ويؤيّد ذلك ما ذكروه (2) في كتاب اللقطة من أنّ من وجد في بيته مالا مع كثرة دوران الناس في بيته ، يحكم بكونه لقطة ، ويترتّب عليه آثارها من الإعلام ونحوه كما يؤيّد ذلك أيضا ما ورد في بعض الأخبار (3) من أنّ المال الموجود في الصندوق المشترك لا يجوز التصرّف فيه عند الاشتباه.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه ليس الكلام في الأموال التي لا يعلم (4) سبق (5) اليد عليه (6) فإنّ فيها ربّما نقول باستصحاب الإباحة الذاتية كما عرفت بل المقصود إثبات الإباحة العرضية المسبّبة عن أحد الأسباب الشرعية وعدمها ، وهذا نظير قولنا في بعض مباحث المفاهيم قبالا لمن زعم أنّ الحكم (7) المستفاد من المفهوم لو كان موافقا لأصالة الإباحة ممّا لا جدوى فيه لحصول الإباحة بدون التعليق من أنّ الإباحة المستفادة من المفهوم تغاير الإباحة المطلقة لاستنادها إلى التعليق ، فهي إباحة سببية ، وتلك إباحة ذاتية ، فعند انتفاء الشرط يحكم بانتفاء الإباحة العرضية لا الإباحة الذاتية ، وذلك ظاهر لمن تدبّر.

ص: 423


1- في النسخ : « رضاء ».
2- انظر تذكرة الفقهاء 2 : 265 ط الحجري ؛ مسالك الأفهام 12 : 529 ؛ مجمع الفائدة 10 : 481 ؛ كفاية الأحكام : 237 ؛ رياض المسائل 2 : 332 ط الحجري ؛ غنائم الأيّام 4 : 303 ؛ عوائد الأيّام : 743 ، عائدة 69 وفي ط الحجري : 257 ؛ مستند الشيعة 17 : 339 ؛ جواهر الكلام 38 : 337.
3- الفقيه 3 : 293 / 4050 ؛ التهذيب 6 : 390 / 1168 / 8 باب 94 ، انظر أيضا المصادر الواردة في التعليقة السابقة.
4- « ج » : لا نعلم.
5- « س ، ج » : بسبق.
6- كذا. والصواب : عليها.
7- في النسخ : حكم.

ص: 424

أصل [ في الشبهة الموضوعية الوجوبية من الشكّ في المكلّف به ]

اشارة

قد عرفت فيما سبق أنّ الشكّ تارة في التكليف ، وأقسامه من (1) الموضوعية والحكمية بأقسامهما (2) ستّة ، وقد مرّ تفصيل الكلام فيها ، وأخرى في المكلّف به فتارة في الموضوع ، وأخرى في الحكم.

أمّا الأخير ، فستطّلع إن شاء اللّه العزيز على تفاصيل أقسامه وأحكامه (3) عمّا قريب.

وأمّا الأوّل ، فتارة فيما دار الأمر بين الواجب وغير الحرام ، وأخرى فيما دار بين الحرام وغير الواجب ، ومرّة فيما دار الأمر بين الحرام والواجب سواء كان الأمر في الموضوع دائرا بين الأقلّ والأكثر ، أم لا.

والكلام في هذا الأصل معقود لبيان حكم الشبهة الموضوعية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الواجب وغير الحرام ، ويتبعه الكلام فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر سواء كانا استقلاليين أو لا ، مثال ذلك ما لو اشتبهت القبلة فإنّ الحكم - وهو وجوب الصلاة على جهة القبلة - معلوم وإنّما الشكّ في أنّ الواجب هو الفعل مستقبلا على الجهة الفلانية أو غيرها.

ص: 425


1- « م » : فمن!
2- « م » : بأقسامها!
3- والأولى : أحكامها أي أحكام الأقسام.

وقد يستشكل في كون المذكور مثالا لما نحن فيه لاحتمال أن يكون القبلة (1) واستقبالها من الشروط العلمية ، فعند عدم العلم لا يكون الاستقبال واجبا كما في الذبح فإنّ التخيير بين الجهات حينئذ ليس تخييرا شرعيا ، فالأولى التمثيل بالصلاة الفائتة من الصلوات الخمس عند اشتباهها ، فإنّ التكليف الوجوبي معلوم ، والشكّ إنّما هو (2) في المكلّف به وفي تعيين الواجب منها.

لا يقال : إنّ الأمر دائر بين المحذورين في المقام لاحتمال التشريع وهو إتيان الصلاة لا على جهة القبلة الواقعية.

لأنّا نقول : ليس الكلام في الحرمة التشريعية إذ بعد حكم العقل بلزوم الاحتياط يرتفع موضوعه بل في الحرمة الشرعية ولا احتمال لها في أمثال المقام كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هاهنا مقامين :

أحدهما : أنّ بعد اشتباه موضوع الحكم هل يجوز المخالفة القطعية بطرح جميع المحتملات ، أو لا؟

وثانيهما : أنّ بعد القول بعدم جواز (3) المخالفة القطعية فاللازم تحصيل الموافقة القطعية ، أو يكفي الموافقة الاحتمالية؟ ففي المقام الأوّل لو قلنا بجواز المخالفة يجوز ترك الصلاة في جميع الجهات ، وفي المقام الثاني لو قلنا بوجوب تحصيل الموافقة القطعية لا بدّ من الإتيان بجميع المحتملات تحصيلا للواقع ، ولو قلنا بعدم وجوبه وكفاية الموافقة الاحتمالية ، يكفي بالصلاة في جهة واحدة.

أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فالظاهر أنّه لم يذهب وهم إلى جواز المخالفة القطعية بل الكلّ مطبقون على تحصيل الموافقة ولو احتمالا.

وأمّا المقام الثاني ، ففيه خلاف يظهر من بعض الأواخر (4) في نظير المقام عدم

ص: 426


1- سقط قوله : « معلوم وإنّما ... » إلى هنا من نسخة « س ».
2- « س ، م » : - هو.
3- « س » : جوازه.
4- والظاهر أنّه المجلسي في الأربعين حديثا : 582.

وجوب الموافقة القطعية ، وتبعهم في ذلك المحقّق القمّي (1)(2) في المقام ، والمنصور (3) هو وجوب الاحتياط وتحصيل الموافقة ، لنا على ما صرنا إليه أنّ من المعلوم عندنا تعلّق الوجوب الواقعي وترتّبه على الصلاة بالقبلة (4) الواقعية ، وكلّما علمنا تعلّق الوجوب الواقعي على موضوع واقعي يجب الإتيان به وامتثال أمره ، فيجب الإتيان (5) بالصلاة على القبلة الواقعية ، فالمانع إن عطف عنان كلامه إلى منع الصغرى بعدم (6) تسليمه ترتّب الوجوب على الصلاة بالقبلة (7) الواقعية نظرا إلى عدم تعلّق الأحكام بالواقع - سواء كانت مدلولة للألفاظ لعدم وضعها للمعاني الواقعية أو مدلولة للإجماع لأنّ المتيقّن (8) من معاقد الإجماع هو ما كان الحكم معلوما - فالحاكم بيننا وبينه هي (9) الأدلّة الشرعية لفظا ولبّا بالرجوع إليها فإنّ من الضروري بحيث لا ينكره إلاّ المكابر تعلّق الأحكام بالواقع في الأدلّة الشرعية ، على أنّ ذلك لو تمّ لم يجب الموافقة الاحتمالية بل مقتضاه جواز المخالفة الواقعية ؛ لعدم ثبوت التكليف في وجه ، لعدم العلم ، مع أنّ الخصم لا يسلّم ذلك ، والاستناد في ذلك إلى الإجماع على لزوم الإتيان بشيء من الأمر المردّد ممّا لا يسمن ولا يغني فإنّ الإجماع على ما هو ظاهر لمن تدبّر كلمات المجمعين إنّما هو نظره إلى ثبوت الحكم في الواقع لا أنّه (10) حكم آخر ، كيف؟ ولو كان كذلك ، لكان التخيير واقعيا بين الاحتمالين كوجوب الخصال ، وعلى تقديره فليس من الموافقة الاحتمالية في شيء بل هو الموافقة القطعية التفصيلية وذلك واضح ، والظاهر أنّ الخصم أيضا ممّن لا ينكر ذلك أيضا ، وإنّما تعرّضنا لدفعه تحقيقا للمقام.

وإن استند في دفع الحجّة المذكورة إلى منع الكبرى نظرا إلى عدم الدليل على

ص: 427


1- « س » : + رحمه اللّه.
2- القوانين 2 : 25.
3- « ج » : المقصود؟
4- « س » : بالصلاة على القبلة.
5- « س » : - الإتيان.
6- « ج » : « بعد » بدل : « بعدم ».
7- « س » : على القبلة.
8- « م » : المتّفق.
9- « ج » : - هي.
10- « م » : لأنّه.

وجوب الامتثال على الوجه المذكور لأنّه إن كان هو الشرع فالمفروض انتفاؤه ، وعلى تقديره ، فلا يجدي لأنّ الكلام في وجوب الاحتياط والإتيان بالمحتملات نظرا إلى دليل الواقع من غير حاجة إلى دليل الاحتياط وإن كان هو العقل من حيث إنّ بعد العلم بتعلّق الوجوب الواقعي على الصلاة بالقبلة الواقعية ، فلا يكون هناك حالة منتظرة للإتيان بالفعل على الوجه المذكور ، فإنّ أريد أنّ مجرّد العلم بتعلّق الوجوب علّة تامّة لحكم العقل بوجوب الاحتياط كما في صورة حصول العلم التفصيلي ، فغير سديد لجواز تصريح الشارع بالعفو عن الاحتياط من غير محذور كما هو واقع أيضا ، فلا يصحّ قياسه بالعلم التفصيلي كما لا يخفى ، وإن أريد أنّه مقتض للاحتياط ، فغير مفيد لجواز تخلّف المقتضي عن المقتضى (1) لاحتمال وجود المانع.

فالجواب عنه أنّ مطلق العلم بتعلّق التكليف بالأمر الواقعي مع إمكان الامتثال علّة تامّة للإطاعة عقلا كما تشهد به صراحة الوجدان وهي على قسمين :

إمّا عقلية صرفة كما إذا لم يرد من الشارع ما يسقط بعض الاحتمالات ، فيجب الإتيان بها طرّا لتحصيل الامتثال ، وذلك ظاهر جدّا.

وإمّا شرعية كما إذا دلّ الدليل الشرعي على سقوط بعض المحتملات فإنّ للشارع أن يجعل إطاعة هذا الأمر على هذا الوجه فكأنّه بدل من الواقع كما إذا قامت البيّنة على تعيين القبلة الواقعية ، ولا ضير في ذلك.

وبالجملة ، فكما أنّ قيام البيّنة العادلة على تعيين القبلة الواقعية مشخّص (2) لموضوع الأمر ويحصل الامتثال بالعمل على مفادها من غير نكير ، فكذا حكم الشارع بإسقاط بعض المحتملات لا يضرّ في الامتثال وحصول الإطاعة بالنسبة إلى الأمر الواقعي فإنّ امتثاله فيه ، فظهر صحّة مقايسته بالعلم التفصيلي فإنّ تجويز (3) ترك الإطاعة مطلقا

ص: 428


1- « س » : - عن المقتضى.
2- « م » : فمشخّص.
3- « س » : فإن يجوز.

عقلية وشرعية يناقض العلم الإجمالي بوجوب الإطاعة في الجملة على أحد الوجهين كما أنّه يناقض تجويز (1) ترك الامتثال التفصيلي عند حصول العلم التفصيلي كما لا يخفى.

على أنّ لنا أن نختار الشقّ الثاني ، واحتمال المانع مدفوع بالأصل ، ولا يعارضه أصالة البراءة ، فتدبّر.

وإن استند في منعهما إلى لزوم التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع إطباق العدلية على امتناعه بتقريب أنّ الوجوب الواقعي إنّما يترتّب على الموضوع الواقعي فيما لم يلزم منه التكليف بالمجمل ، وأمّا فيما يلزم منه التكليف بالمجمل ، فلا يترتّب على الموضوع الواقعي بل لا بدّ من حمله على موضوع لا يلزم منه المحذور المذكور ، وعلى تقدير تعلّق الوجوب بالواقع ، فالامتثال فيه وجوبه إنّما يسلّم فيما لم يلزم منه التكليف بالمجمل.

فالجواب عنه أنّ التكليف بالمجمل الذي اتّفق العدلية على امتناعه هو ما لم يكن للمكلّف مندوحة في الامتثال ولم يكن طريق عقلي للإطاعة فيه وبعد ما عرفت من أنّ العقل بعد العلم بتعلّق الوجوب على الموضوع الواقعي يستقلّ بالحكم على لزوم الإطاعة والامتثال ، فلا إجمال في التكليف ولا في المكلّف به كما لا يخفى.

على أنّ الإجمال في المقام على تقديره إنّما هو في تعلّق الحكم الشرعي وموضوعه لا في نفس التكليف الكلّي ومتعلّقه على ما هو ظاهر.

ومجمل الكلام في المقام أنّ منع (2) الصغرى المذكورة تارة بمنع المقتضي بمنع تعلّق الوجوب إلى الموضوع الواقعي وقد عرفت فساده ، وأخرى بوجود المانع لاستلزامه التكليف بالمجمل.

ومنع الكبرى أيضا تارة بمنع المقتضي لعدم الدليل على وجوب الامتثال حينئذ ، وأخرى بوجود المانع من استلزامه المحذور المذكور ، وقد عرفت فساد الكلّ كما لا يخفى.

ص: 429


1- « س » : - تجويز.
2- « ج ، م » : أن يمنع.

ويؤيّد ما ذكرنا فحوى الأخبار الآمرة بتكرير (1) الفائتة في ثلاثة حيث إنّ المنساق منها لزوم تكريرها (2) إدراكا للواقع المجهول فيه كما يظهر من ملاحظة تعليل الإمام عليه السلام من أنّ الفائتة إن كانت كذا فكذا ، ومن ثمّ تراهم حاكمين بلزوم إتيان ركعتين ، أو ثلاث ركعات فيما لو فاتت من المسافر صلاة واحدة فقط ، وذلك ظاهر بعد التدبّر.

ودعوى عدم تنجّز التكليف في حقّ المكلّف إلاّ في صورة العلم التفصيلي ممنوعة على مدّعيها إذ من الظاهر مخالفته لطريقة (3) الامتثال المأخوذة عن طريقة العقلاء في امتثال أوامر مواليهم إذ لا مانع منه بعد العلم بالتكليف والمكلّف به إجمالا ، ولا يعدّ التارك إلاّ مخالفا ، وذلك واضح في الغاية.

وقد يستدلّ في المقام بوجود المقتضي للامتثال وهو العلم بتعلّق الأمر الواقعي على الموضوع الواقعي وعدم المانع منه لإمكان الامتثال والاحتياط ، وقد يعبّر عنه في لسان البعض بقاعدة الاشتغال حيث إنّ الاشتغال يقيني ، فيحتاج إلى براءة يقينية ، وفي لسان آخرين بأنّ تحصيل العلم بالامتثال واجب ، فلا يحصل إلاّ بالاحتياط.

وقد تقرّر بأنّ في ترك الاحتياط احتمال الضرر العقابي ، فلا بدّ في دفعه من الاحتياط ، فتأمّل (4).

وقريب من ذلك دعوى استقرار بناء العقلاء على الامتثال فيما علم التكليف إجمالا.

والكلّ مرجعه إلى ما قلنا ، عباراتنا شتّى.

ثمّ إنّه قد يتمسّك في المقام باستصحاب الاشتغال عند الشكّ في الامتثال بعد إتيان الصلاة مثلا في جهة واحدة.

وقد عرفت فيما مرّ عدم استقامة هذا الكلام فإنّ الاستصحاب ممّا لا يترتّب عليه فائدة إلاّ أن يكون مثبتا في وجه ، وممّا لا مجرى له في وجه آخر.

ص: 430


1- « ج » : بتكرّر.
2- « ج ، م » : تكرّرها.
3- « م » : بطريقة.
4- « س ، م » : - فتأمّل.

بيان ذلك أنّ من المعلوم عدم ملاحظة الحالة السابقة في قاعدة الاشتغال فإنّ المناط فيها هو حكم العقل بلزوم تحصيل البراءة عند الشكّ فيها فمع ملاحظة حكم العقل بوجوب التفريع. لا شكّ في اللاحق حتّى يحتاج إلى استصحاب الاشتغال ، ومع قطع النظر عن حكم العقل بلزوم الاحتياط ووجوب تفريغ الذمّة وإن كان الشكّ باقيا إلاّ أنّ الحكم بوجوب إتيان الصلاة في الجهة الباقية أو الجهات الباقية ممّا لا يترتّب على بقاء الاشتغال واستصحابه إذ الاشتغال الاستصحابي لا يزيد على الاشتغال الواقعي ، فكما أنّ الاشتغال الواقعي لا يقضي بالاحتياط فكذلك ما هو (1) منزّل منزلته كما لا يخفى ، اللّهمّ إلاّ أن يكون استصحاب بقاء الاشتغال مثبتا لكون القبلة هي الجهة الباقية ، أو إحدى الجهات الباقية ولا تعويل عليه عند التحقيق.

وينبغي التنبيه على أمور :
الأوّل :

أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط والجمع بين المحتملات ، فلو أتى المكلّف بواحد منها ولكن صادف الواقع ، فهل هو معاقب في تركه الاحتمالات الأخر أو لا؟ الحقّ الثاني بناء على ما هو التحقيق من أنّ الحكم بوجوب الاحتياط في المقام عقلي لا شرعي ، والمقصود هو الوصول إلى الواقع وهو حاصل ، فلا وجه للعقاب.

لا يقال : إنّ ترك الاحتمال الآخر وإن لم يكن محرّما من حيث أداء الواقع وحصول المقصود إلاّ أنّ عنوان التجرّي شامل له ، فيحرم من باب التجرّي في أوامره وعدم الانقياد له.

لأنّا نقول : إنّ للمتجرّي (2) - على ما هو التحقيق (3) في محلّه - صورا أعلاها فيما لو علم

ص: 431


1- « س » : هي.
2- « س » : التجرّي!
3- « م » : المحقّق.

بالمخالفة ، وأدونها ما لو احتمل المخالفة لكن مع عدم المبالاة بها ، وأمّا فيما لو احتمل المخالفة ، فيرتكب الفعل عسى (1) أن لا يكون مخالفة ، فلا نسلّم كون الفعل المذكور تجرّيا ، ولو سلّمنا الصغرى ، فلا نسلّم الكبرى إذ لا دليل على أنّ مطلق التجرّي ولو في هذا الفرد حرام ، والعقل لا يزيد حكمه على حرمة الأوليين كما لا يخفى (2).

وأمّا على ما يراه البعض من لزوم الاحتياط بواسطة الأدلّة الشرعية كالاستصحاب ودليل الاحتياط فيحتمل العقاب وإن صادف الواقع نظرا إلى أنّ الشارع قد جعل في مرحلة الظاهر للشاكّ طريقا إلى الواقع ، فمصادفة الواقع لا يجدي في صدق المخالفة بالنسبة إلى الطريق المجعول الشرعي ، فإنّ قوله : « لا تنقض » نهي عن النقض لليقين بالشكّ ، و (3) في الصورة المذكورة لم يمتثل المكلّف هذا النهي ، ولا ينافيه عدم تعدّد العقاب فيما لو خالف الواقع إذ لا يعدّ هناك إلاّ مخالفة واحدة للواقع ، وهذا كلام جار في جميع الطرق الظاهرية اجتهادية كانت أو تعبّدية ، كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّه بعد في إجمال ، فتأمّل.

الثاني :

لا إشكال في عدم لزوم قصد إتيان الجميع عند الإتيان بواحد من المحتملات فيما لو كان (4) المردّد بين أمرين واجبا توصّليا في الإجزاء وإسقاط الأمر وارتفاع التكليف لعدم (5) اشتراطه بقصد القربة بل ولا بقصد الفعل ، ولهذا يكتفى بما لو حصل اضطرارا ، وأمّا الثواب والإطاعة ، فلا يحصل في التوصّليات أيضا إلاّ بعد القصد والإرادة مضافا إلى قصد الامتثال أيضا على وجه يكون الداعي للفعل هو الأمر وتحصيل الامتثال.

وأمّا في التعبّديات - كما في المثال المذكور من الصلاة الفائتة - فلا بدّ من قصد الإتيان بالجميع عند إتيان كلّ واحد من المحتملات على وجه لو لم يقصد ذلك لم يكن

ص: 432


1- « س » : على.
2- قارن بما سيأتي في ص 468.
3- « ج ، س » : - و.
4- « س » : - فيما لو كان.
5- « ج ، س » : بعدم.

ممتثلا.

والسرّ في ذلك ما تقرّر فيما تقدّم من مباحث المقدّمة من أنّ وجوبها إنّما هو بواسطة عنوان المقدّمية ، ولا يحصل (1) عنوانها إلاّ بعد إرادة التوصّل بها إلى ذيها وإن لم تكن (2) موصلة كما زعمه بعض الأجلّة (3) ، فلو توضّأ أحد من غير قصد إلى غاية معيّنة عنده لم يكن متطهّرا ، وذلك كما إذا أمر المولى بإكرام زيد تعبّدا فإنّ من الظاهر عدم سقوط الأمر فيما لو قصد الإهانة إليه ، أو غيرها من الأفعال ولكن صادف إكرامه ، فلا بدّ في حصول فعل من قصد عنوانه وإرادة نفسه وذلك ظاهر ، فعلى هذا لو لم يكن المكلّف حال إتيانه بأحد المحتملات قاصدا لإتيان غيره منها ، لم يكن قاصدا لعنوان (4) المقدّمية ، ولا يصدق على فعله الامتثال كما لا يخفى ، فيبقى الاشتغال بحاله.

وبعبارة أخرى العلّة الغائية في الفعل والعمل لا بدّ وأن يكون مجزوما بها ، وحيث إنّ المفروض أنّ الداعي في التعبّديات هو موافقة الأمر وتحصيل الامتثال ، فلا بدّ أن يكون كلّ من الاحتمالات مقرونا بالنيّة والقصد على وجه لو كان هو الواقع ، لكان مقرونا بالنيّة وقصد الامتثال فيؤثّر أثره ويحصل الموافقة والإطاعة على ما هو المعتبر فيه ، والقصد على هذا الوجه لا يحصل إلاّ بعد إتيان كلّ من المحتملات لاحتمال أنّه الواقع مع القصد بإتيان الباقي من المحتملات (5).

لا يقال : فعلى ما ذكرت يلزم انسداد باب الاحتياط في الشكوك البدوية من غير سبق العلم الإجمالي لعدم الجزم بالأمر الداعي للفعل مع أنّه خلاف ما استقرّ عليه طريقتهم مضافا إلى الوجدان الحاكم بخلافه.

لأنّا نقول : الامتثال له مراتب (6) فتارة يعلم بوجود الأمر تفصيلا في موضوع (7) معيّن

ص: 433


1- « س » : لا تحصل.
2- في النسخ : لم يكن.
3- الفصول : 86.
4- « ج » : العنوان!
5- « س » : - لاحتمال أنّه الواقع ... من المحتملات.
6- « س » : مراتبا!
7- « ج » : موضع.

كذلك ، فلا بدّ فيه من قصد الأمر تفصيلا تحصيلا للامتثال ، وأخرى يعلم بالأمر إجمالا ، فلا بدّ من قصد الامتثال إجمالا ، ومرّة الأمر مشكوك عن أصله ، فالداعي في الفعل هو رجاء الوصول إلى الواقع وهو مجزوم به (1) ، فالعلّة الغائية الباعثة لتحرّك (2) العضلات حتّى يصدر الفعل لا بدّ وأن يكون أمرا مجزوما به ، فلو كان في فعل (3) الداعي إليه هو الأمر لا مناص من إتيانه لأجله (4) على الوجه المقرّر إن علما فعلما ، وإن احتمالا فكذلك.

وبالجملة ، والذي يدور عليه رحى الإطاعة هو (5) قصد الأمر على وجه يكون الداعي في صدور الفعل هو الأمر ، ومع عدم القصد بإتيان الباقي من المحتملات لا يعدّ ذلك إطاعة وامتثالا ، لعدم تحقّق القصد بالأمر كما هو ظاهر لا سترة عليه.

الثالث :

أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط في المقام والحكم بلزوم إتيان الصلاة في أربع جهات ، فهل اللازم إتيان احتمالات الظهر بتمامها قبل احتمالات العصر فيما لو كان القبلة مشتبهة فيهما ، أو يجوز التداخل بمعنى إتيان كلّ احتمالات الظهر في جهة ، ثمّ (6) بعد ذلك بإتيان ما يحتمل أن يكون عصرا فيها وهكذا في كلّ جهة؟ وأمّا التداخل لا على الوجه المذكور (7) ، فلا خفاء في فساده ، وجوه ثالثها التفصيل بين وقوع احتمالات العصر في الوقت المختصّ بالظهر ، فلا بدّ من ملاحظة الترتيب وتقديم احتمالات الظهر ، وبين وقوعها في الوقت المشترك فيجوز التداخل.

وتوضيح المقام أنّه قد يقال بلزوم ملاحظة الترتيب مطلقا وتقديم احتمالات الظهر

ص: 434


1- « س » : - به.
2- « ج » : لتحريك.
3- كذا.
4- « س » : - لأجله.
5- « س » : - هو.
6- « س » : + ذلك.
7- « س » : المذبور.

بوجوه (1) :

منها : أصالة بقاء الظهر في الذمّة وعدم تفريغها منه.

وفيه : أنّه غير مجد ؛ لأنّ عدم جواز الدخول في احتمالات العصر لا يترتّب على اشتغال الذمّة بالظهر الواقعي ، وإنّما الممنوع منه هو الإتيان بالعصر الواقعي لا بما يحتمل أن يكون عصرا.

ومنها : أصالة عدم مشروعية الدخول في العصر واحتمالاته.

وفيه أيضا : أنّه غير مجد بالنسبة إلى العصر الواقعي إذ الكلام في محتملاته ، وإن أريد عدم مشروعية الدخول في محتملاته فإطلاق الأدلّة الآمرة بالعصر وارد عليها كما لا يخفى.

قلت : وللتأمّل فيه وفيما قبله مجال واسع.

ومنها : أنّ من (2) المقرّر في محلّه أنّ عدم إمكان الامتثال التفصيلي في جهة لا يقضي بعدم اعتباره فيما يمكن إحرازه تفصيلا كما فيما نحن فيه فإنّ الإتيان بالصلاة على القبلة الواقعية عند الاشتباه تفصيلا غير ممكن ، وملاحظة الترتيب بين الظهر والعصر ممّا يمكن إحرازه تفصيلا ، والميسور لا يسقط بالمعسور ، فلا مناص من تقديم محتملات الظهر على محتملات العصر تحصيلا للامتثال التفصيلي فيما يمكن ، وذلك ظاهر إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ الامتثال التفصيلي في الترتيب أيضا حاصل في التداخل كما لا يخفى.

وقد يقال بعدم ملاحظة الترتيب مطلقا نظرا إلى حصول الامتثال الواقعي والترتيب التفصيلي إذ القدر الواجب من ملاحظة الترتيب هو وقوع العصر الواقعي بعد الظهر الواقعي (3) وهو حاصل تفصيلا من غير إجمال ، وأمّا ملاحظة الترتيب في محتملاته ، فممّا لم يدلّ دليل عليه ، والأصل عدمه.

ص: 435


1- « ج » : لوجوه.
2- « س » : - من.
3- لم يرد قوله : « والترتيب التفصيلي » إلى هنا في نسخة « س ».

وقد يقال بالتفصيل بين ما وقع محتملات العصر في الوقت الخاصّ بالظهر بناء على أنّ الوقت في حقّ المشتبه والجاهل هو مقدار ما يسعه من المحتملات جميعا كما أنّ الوقت الخاصّ بالظهر في حقّ الحاضر هو مقدار ما يسعه أربع ركعات ، وفي حقّ المسافر ركعتان ، أو على أنّ الوقت هو مقدار الصلاة بالقبلة الواقعية من المحتملات ، فلا يجوز الإتيان بمحتملات العصر لعدم (1) وقوعها في وقت مشترك لهما بل في وقت خاصّ بالظهر.

أمّا (2) فيما لو كان تمام الوقت مختصّا بالظهر ، فظاهر ؛ وأمّا فيما لو كان الوقت الذي يقع فيه الصلاة بالقبلة الواقعية مختصّا بالظهر من بين المحتملات ، فلأنّه لا يعلم وقوع العصر في الوقت المختصّ بالظهر ، أو في وقت مشترك ، وبين ما وقع احتمالات العصر في الوقت المشترك ، فيجوز لعدم المانع من الإتيان على ما عرفت إلاّ أن يقال : إنّ اختصاص الوقت بالظهر في هذا المقام لا يمنع عن جواز الإتيان بمحتملات العصر ، وإنّما يمنع عن الإتيان بالعصر الواقعي في وقت خاصّ بالظهر الواقعي ، وبالجملة فاحتمال التداخل مطلقا قويّ في النظر ، فتدبّر.

الرابع :

أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط في المقام ، فلو امتنع الإتيان (3) بجميع الجهات وتمام المحتملات شرعا أو عقلا ، فهل يجب الاحتياط في الجهات المقدورة ، أو ينقلب الشبهة تكليفية ، فلا يجب بل يؤخذ بالبراءة؟

وتحقيق المقام يقتضي بسطا في الكلام فنقول : إمّا أن يكون المانع عقليا كأن يكون المكلّف غير قادر للإتيان بالجميع ، أو يكون المانع شرعيا ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون المانع يمنع عن الإتيان بجهة خاصّة معيّنة ، أو عن (4) جهة لا

ص: 436


1- « م » : بعدم.
2- « س » : وأمّا.
3- « ج » : الاحتياط.
4- « س » : من.

بعينها (1) مردّدة بين الكلّ ، وعلى التقادير إمّا أن يكون الامتناع طارئا بعد أن كان الإتيان ممكنا في الجميع ، أو يمتنع الاحتياط الكلّي من أوّل الأمر ، فهذه صور ثمانية ، وحيث أن لا عبرة عندنا بالاستصحاب في أمثال المقام - إمّا لمنع (2) في (3) موضوعه ، أو عدم جريانه رأسا في الأحكام العقلية - فلا فرق بين أن يكون الامتناع طارئا ، أو ثابتا من أوّل الأمر لظهور أنّ التقسيم (4) المذكور إنّما يثمر من حيث استصحاب الوجوب السابق على طريان الامتناع ، فيسقط التقسيم الأخير ، فيبقى الصور (5) أربعة ، مثال ذلك إجمالا الصلاة بالقبلة الواقعية بعد اشتباهها فإنّ قضية الاحتياط والإتيان بكلّ من المحتملات هو الصلاة على كلّ نقطة من الدائرة التي يكون المكلّف مركزها إلاّ أنّه لا يمكن الاحتياط على الوجه المذكور عقلا ، ثمّ شرعا بإسقاط الشارع بعض المحتملات وانحصار الجهات في الأربع.

وقد يناقش في المثال المذكور باحتمال أن يكون القبلة للجاهل الشاكّ هو بين المغرب والمشرق مطلقا على وجه في أيّ جهة منه وقعت صحّت لوقوع الصلاة على القبلة الواقعية ، فلا إسقاط ، ولذا جوّز بعضهم الصلاة في جهات ثلاثة على أضلاع مثلّث مفروض عنده فإنّه على كلّ وجه اتّفق لا يخلو من أن يكون أحد أضلاعه في طرف من بين المغرب والمشرق كما لا يخفى ، فيقع الصلاة على القبلة الواقعية من غير إسقاط لبعض الأفراد والمحتملات.

وقد يمثّل بالاحتياط الكلّي في الفقه عند انسداد باب العلم. وفيه أيضا تأمّل.

وقد يمثّل بالصلاة الفائتة المشتبهة بالخمس فإنّ الشارع قد أسقط بعض المحتملات ، وكيف كان ، فلو كان المانع عقليا وكان الممنوع منه فردا بعينها كما إذا أمر المولى بإكرام

ص: 437


1- « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.
2- « م » : المنع.
3- « ج » : - في.
4- « ج » : انقسام.
5- « م » : صور.

زيد المردّد في أشخاص معلومة لا يمكن عقلا إكرام واحد معلوم منهم ، فالظاهر أنّ الحكم هو البراءة لرجوع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في التكليف فإنّ بعد إسقاط واحد منهم يحتمل أن يكون هو الواقع ، فلا تكليف لعدم القدرة عليه ، ويحتمل أن يكون هو غيره فيبقى التكليف بحاله ، فبالحقيقة الشكّ إنّما هو في أصل التكليف وقد عرفت فيما تقدّم حكومة البراءة في مقام الشكّ في التكليف سواء كانت الشبهة بدوية عن أصلها أو راجعة إليها كما فيما نحن فيه وذلك ظاهر.

ولو كان المانع عقليا لكن في فرد لا بعينها (1) فلا تكليف فيه أيضا ، إذ لا دليل على الاحتياط ولزوم الإتيان بجميع المحتملات سوى دليل الواقع والعلم بتعلّق التكليف الحقيقي الواقعي على الموضوع الواقعي ، ولذلك قلنا برجوع سائر وجوه (2) الأدلّة : من لزوم دفع الضرر ، ووجوب مقدّمة الواجب ، وقاعدة الاشتغال ، ونحوها إليه ، ويمتنع تعلّق الخطاب والتكليف بالمكلّف في الواقع فيما لا يمكن للمكلّف قصد الفعل على العنوان الذي قد أمر به فإنّ من شروط التكليف تمكّن المكلّف من قصد الامتثال وإرادة عنوان المأمور به على وجه يستند إلى اختياره من حيث إنّه مأمور به ، وفيما لو كان الممتنع جهة لا بعينها (3) لا يمكن قصد عنوان الفعل والامتثال به لعدم العلم به لا تفصيلا ولا إجمالا.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الواقع فيما لو اشتبه بعدّة أفراد امتنع فرد منها لا بعينها (4) لا يعلم المكلّف بوقوعه في مقدوراته لاختلاف وجوه مقدوراته (5) باختلاف اختياراته ، فمرّة يختار الأفراد التي لا يقع فيها الواقع ، وأخرى يختار ما يقع فيها ، فالواقع لو حصل فهو إنّما لضرب من الاتّفاق ، فيكون خارجا عن تحت القدرة ، فلا يكون متعلّقا للأمر فإنّه

ص: 438


1- « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.
2- « س » : - وجوه.
3- « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.
4- « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.
5- « س » : - لاختلاف وجوه مقدراته.

على ما تقرّر (1) سابقا بتبعية (2) الأحكام للحسن والقبح وهما من صفات العناوين اللاحقة لذوات الأفعال اختيارا ، والفعل بعنوانه المأمور به لا يصير اختياريا إلاّ بعد العلم به وقصده إمّا تفصيلا أو إجمالا ، وحيث لا علم فلا اختيار فلا تكليف ، وذلك ظاهر ، ولذلك قد حكموا بعدم بطلان الصوم فيما لو أكل الصائم ناسيا مع كون الأكل مختارا عامدا فيه وقاصدا له ، فإنّ وقوع ذات الفعل - ولو بعنوان غير ما هو المعتبر في عنوان الحكم - لا يكفي في صدق العنوان الذي هو المناط في ثبوت الحكم ، فالأكل بعنوان أنّه مفطر لو وقع من المكلّف بأن يعلم به ويقصده مبطل للصوم وموجب للقضاء مثلا بخلاف سائر وجوه الأكل وذلك ظاهر.

والحاصل : أنّ التكليف في الصورة المفروضة منفيّ لانتفاء شرطه وهو تمكّن المكلّف من الامتثال ، وليس هذا من أصل البراءة في شيء فإنّ أصالة البراءة تنفي تنجّز التكليف مع إمكان أصل التكليف في الواقع شأنا كما في الصورة الأولى بخلاف المقام فإنّ قضية عدم إمكان الامتثال عدم التكليف في الواقع كما في غير البالغ والعاجز.

فإن قلت : لا فرق بين الصورتين في عدم إمكان قصد الامتثال للمكلّف كما عرفت في وجه الاستدلال بالبراءة فإنّ التكليف بما لا يطاق - على ما استدلّه البعض - ممّا لا وجه له إلاّ من حيث عدم إمكان قصد الامتثال للمكلّف فعلى هذا فلا بدّ إمّا من القول بأنّ الصورة الأولى أيضا ممّا يمكن به (3) التكليف لاشتراطه بإمكان قصد الامتثال بل وفي مطلق موارد البراءة ، وإمّا القول بجريان البراءة في الصورة المفروضة أيضا ، فلا وجه لتغيير الأسلوب في الاستدلال.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين وبين الموردين فإنّ الشكّ في الأوّل إنّما هو في

ص: 439


1- « م » : يقرّر.
2- « س » : تبعية.
3- « س ، م » : - به.

التكليف بعد إمكان توجيه الخطاب ولو شأنا على تقدير (1) لم يكن الفرد الممتنع هو الواقع فإنّ العلم وإن كان من شروط التكليف إلاّ أنّه بعدمه لا يتغيّر عنوان التكليف لما تقرّر من أنّ العلم والجهل ليسا من الوجوه المغيّرة للأحكام بخلاف سائر شرائط التكليف كالعجز والقدرة والبلوغ والصباوة فإنّ الموضوع فيها مختلف كما لا يخفى ، وفي الثاني يمتنع تعلّق التكليف الواقعي لامتناع شرطه وهو القصد إلى الفعل المأمور به على وجه يكون الداعي هو الأمر ، وهذا وإن كان موجودا في الأوّل أيضا إلاّ أنّه إنّما امتنع بواسطة الجهل بالتكليف ، وفي المقام امتنع التكليف لامتناع القصد ، فعدم إمكان القصد في الأوّل متفرّع على عدم العلم بالتكليف ، وعدم التكليف في الثاني متفرّع على امتناع القصد ، والفرق ظاهر بين المقامين ، ومحصّل الفرق أنّ الصورة الأولى مع عدم العلم بوجود المكلّف به في مقدوراته يصحّ التكليف على تقدير وجوده فيها شأنا إلاّ أنّ عدم العلم به عذر في مقام الظاهر ، والصورة الثانية مع العلم بوجود المكلّف به في الاحتمالات التي أحدها غير مقدور للمكلّف لا يصحّ التكليف لتردّدها بين الواقع وعدمه ، فالجهات الممكنة لا يعلم بإمكانها ومقدوريتها ، إلاّ بعد وقوعها وصدورها منه وبعد الوقوع لو حصل الواقع ، فلم يكن المكلّف مختارا في صدوره مريدا عنوان الفعل ولو إجمالا ، فتدبّر في المقام ، كي لا يشتبه عليك المرام هذا.

وقد يقال : إنّ التكليف الواقعي المتعلّق بالموضوع الواقعي وإن امتنع تعلّقه بالمكلّف في حال عدم العلم بقدرته للمكلّف به إلاّ أنّه يمكن استفادة مطلوبية الفعل ومحبوبيته في نفسه وإن لم يكن الطلب متعلّقا به من وجوه خارجة كقوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) وأمثال ذلك من الأمور التي يمكن استفادة أمثال ذلك منه كما لا يخفى على المتدرّب (3) في فنون الاستنباطات من وجوه الأدلّة.

ص: 440


1- « ج » : - على تقدير.
2- سيأتي البحث عنه في ص 561.
3- « ج » : المتدبّر.

وقد يقال أيضا : إنّ دليل الواقع وإن كان لا يمكن تعلّقه بالفعل في هذه الحالة إلاّ أنّه ليس إلاّ من جهة قصور (1) في الطلب بحيث لا يصحّ تعلّقه بمطلوب غير معلوم ، وإلاّ فالفعل يشمل على صفة المحبوبية وإن لم يمكن طلبه ولذلك تراهم يحكمون باستحباب صلاة الظهر بخصوصه مثلا على الصبيّ حيث إنّ الأمر به يكشف عن وجود المصلحة الكامنة في الطبيعة المطلقة على ما هو الموضوع له اللفظ (2) في المادّة إلاّ أنّ الطلب من الصبيّ ممّا يمنع منه المانع ولو شرعا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المانع من تعلّق الطلب شرعيا كما في الصبيّ أو عقليا كما فيما نحن بصدده ، وهذا طريق واسع في استنباط المطالب من الألفاظ الدالّة على الطلب وإن قصر الطلب من تمام المقصود كما نبّهنا عليه في عدّة مقامات ، وستطّلع فيما سيأتي إن شاء اللّه (3) على نظير المقام ، وهذا كلّه فيما إذا كان المانع من الإتيان بجميع الأفراد عقليا بقسميه من المنع عن جهة معينة أو غيرها.

وأمّا فيما لو كان المانع شرعيا - سواء كان الممنوع منه فردا معلوما معيّنا أو غير معيّن - فيقع على وجوه ، فتارة يكون حكم الشارع كاشفا عن أنّ الواقع في جهة (4) غيره ولا إشكال فيه لكونه دليلا اجتهاديا مشخّصا لموضوع الأمر في الجملة ، وأخرى يحكم الشارع بحرمة الجهة الممنوعة فإن كان في غير الفرد المحرّم العلم الإجمالي باقيا فله حكمه من لزوم امتثاله كما في غيره أيضا من الموانع العقلية ، وذلك مثل أنّ الشارع قد نهى عن القياس وحرّم العمل به مع أنّ الاحتياط الكلّي على تقدير الانسداد قاض بالعمل بالمظنونات وسائر السلاسل مطلقا فإنّ بعد المنع عن القياس لا يرتفع العلم الإجمالي من بين سائر السلاسل مظنونا ومشكوكا وموهوما ، فيجب الاحتياط لوجود المقتضي وعدم المانع ، وإن لم يكن في الجهات الباقية

ص: 441


1- « س » : قصوره ( ظ ).
2- « م » : للفظ.
3- « س » : + فيه.
4- « ج » : - جهة.

والمحتملات الغير الممنوع منها علم إجمالي على وجه يتردّد التكليف بين أن يكون متعلّقا في الواقع بالفرد المحرّم أو بغيره فهو كالمانع العقلي على قسميه ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام فيما إذا أسقط الشارع بعض المحتملات لمصلحة في نفس الإسقاط على وجه يحتمل أن يكون الواقع فيما أسقطه معيّنا ، أو جوّز ترك البعض ولو بحسب الاختيار مع عدم العلم الإجمالي في المحتملات الباقية في الصورتين فإنّه يحتمل (1) أن يكون كالمانع العقلي إلاّ أنّ التحقيق خلافه نظرا إلى أنّ الشارع إنّما جعل امتثال الواقع فيه كما في جميع الطرق الظنّية اجتهادية وتعبّدية فكأنّ الشارع اكتفى عن الواقع فيما لم يصادفه المكلّف بالأفراد الباقية و (2) بالإطاعة فيها ، فالباقي واقع جعلي كالبدل لكن لا على وجه يكون المصلحة فيه في حيال مصلحة الواقع ، ولا على وجه التقييد كما زعمه البعض ، بل على وجه يكون جعل الطريق من متمّمات مصلحة الواقع ، فهو لطف آخر منه تعالى.

وبالجملة ، فلا إشكال في أنّ الواجب على هذا التقدير الإتيان بالجهات الباقية والأفراد المحتملة ، وإنّما الإشكال في كيفية جعل الباقي بدلا عن الواقع مع إمكان تحصيل الواقع ، وهذا إشكال سار في غير المقام من الطرق المجعولة في مقام الظاهر كاليد والاستصحاب والبيّنة فإنّ مع إمكان الرجوع إلى فتوى المجتهد وأخذها منه يصحّ الأخذ من العادل ، ومع إمكان الطهارة الواقعية يصحّ الاكتفاء بالطهارة الاستصحابية ، ولقد نبّهنا على دفعه فيما تقدّم في مباحث الظنّ في دفع مقالة المانع من التعبّد بخبر الواحد ، فعليك بالتأمّل التامّ ، كي تهتدي بالمرام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

والفرق بين ما كان المانع عقليا وبين ما كان شرعيا ظاهر ؛ لعدم حكومة العقل بجعل الباقي بدلا بخلاف الشرع فإنّ المستفاد من وجوب الواقع لدليله (3) وحكم

ص: 442


1- « س » : فيحتمل » بدل : « فإنّه يحتمل ».
2- « ج » : - و.
3- « م » : لدليلته ( ظ ).

الشارع بسقوط البعض مع تنجّز التكليف المستفاد من دليل الواقع هو الاكتفاء عن الواقع (1) بالباقي لئلاّ يلزم التناقض بين حكم العقل بوجوب الامتثال للأمر المنجّز (2) في حقّنا كقوله : ( حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (3) وحكم الشرع بسقوط البعض ، واحتمال عدم التنجّز للجهل بالتكليف واه جدّا كما عرفت ، هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية الموضوعية فيما كان الشكّ في المكلّف به لو كان أطراف الشبهة متباينة.

وأمّا الكلام فيها ما لو كانت أطرافها الأقلّ والأكثر فإن كان الطرفان استقلاليين - كما لو علمنا بفوات عدّة من الصلوات وشككنا في أنّ الفائت منها هو الأقلّ أو الأكثر - فقضيّة عموم أخبار الباب هو التعويل على البراءة لأنّ الأقلّ متيقّن تفصيلا ، وما زاد عليه مشكوك كذلك ، فرجع (4) الشكّ إلى نفس التكليف كما في جميع موارد البراءة إلاّ أنّ المعهود من أصحابنا الفقهاء هو الحكم بوجوب إتيان ما به يحصل العلم بفراغ الذمّة في خصوص المسألة ، ولذلك ناقشهم صاحب المدارك (5) بأنّ القاعدة تقضي بخلافه.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأكثر أو الأقلّ من طرفي الشبهة ممّا يمكن احصاؤه عرفا وعادة ، وبين ما لا يمكن ، وحكمهم بوجوب تحصيل العلم بالفراغ إنّما هو في الثاني دون الأوّل ، ولعلّه مستفاد من فحوى الأخبار الدالّة على ذلك في النوافل بعد اعتضادها بفتوى المشهور وإن كانا ارتباطيين كما إذا نذر صوم بين هلالي رجب وشعبان وشكّ في يوم أنّه هل من الرجب أو لا ، فقضيّة الاشتغال تحصيل البراءة التي لا يعلم إلاّ بالاحتياط ، وذلك وإن قطع النظر عن الأصول الموضوعية التي يجري في

ص: 443


1- « ج » : بالواقع.
2- « ج ، م » : المتنجّز.
3- البقرة : 144 و 150. وفي النسخ : « أينما كنتم فولّوا وجوهكم شطر المسجد الحرام » ، وفي التنزيل العزيز أيضا في سورة البقرة 149 و 150 : ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. )
4- « س » : فيرجع.
5- مدارك الأحكام 4 : 306.

المقام كأصالة عدم دخول شعبان وعدم خروج رجب نظرا إلى احتمال عدم التعويل عليها في الزمان وغيره من الموجودات المتدرّجة.

وبالجملة ، فالقاعدة في مثل المقام تقضي بالاشتغال وإن لم نقل به في نظير المقام في الشبهة الحكمية على ما ستعرف تفصيل الكلام فيها فيما سيأتي إن شاء اللّه.

ص: 444

أصل [ في الشبهة الموضوعية التحريمية من الشكّ في المكلّف به ]

اشارة

في الشبهة الموضوعية التحريمية فتارة فيما إذا كان الشكّ بين الأقلّ والأكثر كما إذا حرّم على نفسه الصوم بين الهلالين وشكّ في حرمة الزائد ، فالبراءة محكّمة لرجوع الشكّ في الزائد إلى مجرّد التكليف كذا أفيد ، ولعلّ التفصيل بين الارتباطي والاستقلالي في محلّه فتدبّر.

وأخرى فيما إذا كانا متباينين وهذه الصورة هي المسمّاة عندهم بالشبهة المحصورة والأمثلة كثيرة فوق حدّ الإحصاء لكن إذا كان أطراف محصورة على ما ستعرف تفصيل الكلام في تحديدها وتحديد ما يقابلها.

وينبغي أن يعلم أنّ صورة الامتزاج - كما (1) إذا خلط الماء المباح بالمحرّم مثلا - خارجة (2) عن النزاع فإنّه لم يذهب وهم إلى عدم تحريمه وجواز التصرّف فيه كما لا يخفى ، وإنّما الكلام في غير صورة المزج.

وتحقيق المقام في موردين :
المورد الأوّل

هل يجوز المخالفة القطعية بارتكاب الجميع ، أو لا يجوز؟ وجهان ، والحقّ هو الثاني

ص: 445


1- « س » : - كما.
2- « س » : خارج.

لوجوه :

الأوّل : ظهور الإجماع من العلماء في عدّة موارد من كتاب الأطعمة والأشربة وغيره على ما لا يخفى على المتدرّب في كلماتهم المتتبّع فيها بل لم نجد مصرّحا بجواز المخالفة القطعية في المقام عدى ما يظهر من العلاّمة المجلسي رحمه اللّه على ما حكاه المحقّق القمّي رحمه اللّه (1) إلاّ أنّه غير صريح في الدعوى بل ربّما يمكن الاستظهار منه بأنّه إنّما مجرّد تقوية الدليل ، وأمّا الفتوى كما هو الأصل في استكشاف الإجماع ، فلا دلالة في كلامه عليها.

الثاني الأدلّة الدالّة على وجوب الموافقة القطعية كما سترد عليك تفاصيلها فإنّ وجوب الموافقة إنّما هو بعد إحراز عدم المخالفة ، فالدليل عليها قاض به أيضا.

الثالث : ما ذكره بعض الأجلّة (2) من أنّ فتح هذا الباب يؤدّي إلى رفع العصمة عن الأموال والفروج والدماء لأنّ الاختلاط بين الحلال والحرام جائز ، وبعد الاشتباه ارتكابه أيضا جائز لجواز المخالفة (3) القطعية ، فيجوز لجماعة اجتمعوا على أرغف مغصوبة إذا وضعوا فيها رغيفا مباحا على وجه حصل الاشتباه بينه وبينها ولو لعارض كالظلمة أن يتناول كلّ واحد منهم رغيفا ، وفيما لو صادفوا امرأة واشتبه على كلّ واحد منهم كونها زوجته ، أو أجنبية أن يحلّ لهم وطيها على التعاقب مع تخلّل العدّة إن كانت من ذواتها ، وإلاّ فبدونها (4) ، وفيما لو صادف (5) جماعة من المسلمين فيهم رجل مباح الدم [ واشتبه بينهم ولو لعارض ](6) أن يجوز لكلّ واحد أن يباشر قتل واحد منهم بل وذلك سار فيما لو أراد وطي الأجنبية ، أو قتل المسلم ، أو أكل مال

ص: 446


1- القوانين 2 : 27 ؛ الأربعون حديثا : 582.
2- الفصول : 362.
3- « س » : الموافقة ، وهو غلط.
4- بعدها في المصدر : ولو بطريق الاجتماع بقدر الإمكان وإن حرم عليها تمكين نفسها لغير واحد منهم مع تمكّنها.
5- في المصدر : صادفوا.
6- ما بين المعقوفين من المصدر.

الغير ، أو شرب الخمر بإحداثه الاشتباه بين الحلال والحرام ، ويكرّر العمل في الكلّ إلى أن يصادف الحرام الواقعي (1).

وفيه : أنّه إن أريد أنّ عدم جواز المخالفة القطعية يوجب ذلك ولو مع قطع النظر عن إرادة الوقوع في المحرّم كما يساعد عليه أوّل كلامه ، فغير سديد لجواز اختلاف الأحكام باختلاف الموضوعات كما يرشد إليه جواز استعمال الحيل الشرعية في الأحكام الفرعية وغيرها فإنّ القائل بجواز المخالفة لا بدّ له من تصرّف على وجه يلازم اختلاف الموضوع إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من مذاق الشرع عدم جواز استعمال تلك الحيل في تلك الموارد ، وعلى تقديره فلا كلام فيه لخروجه عن محلّ الكلام فإنّ الكلام ممحّض من جهة اقتضاء القاعدة دون غيرها.

وإن أريد أنّ ارتكاب الشبهة - سواء كانت ممّا تستند إلى اختيار المكلّف ، أو لا من حيث إيصاله (2) إلى الحرام الواقعي بحيث يكون ارتكاب كلّ واحد من المشتبهات مقدّمة للوصول إلى الحرام كما في صورة الامتثال - يوجب ذلك ، فغير مفيد لاستقلال العقل بحرمة الارتكاب على هذا الوجه فإنّه من أعظم أقسام التجرّي وأعلاها كما لا يخفى. ولا يلتزم القائل بجواز المخالفة القطعية بذلك على الوجه المذكور على ما هو ظاهر لا سترة عليه بل وفساد ذلك ظاهر فيما لو ارتكب أحد أطراف الشبهة في الغير المحصورة أيضا فكيف بالمحصورة مع المخالفة القطعية.

يمكن الاستدلال للقائل بجواز المخالفة بوجهين :

أحدهما : الأصل ، وتقريره أنّه لا شكّ في جريان البراءة في الشبهة الحكمية البدوية فإنّ المحكّم فيها هو الأخذ بالبراءة على ما مرّ كما لا شكّ في لزوم الاحتياط فيما تنجّز التكليف فإنّ الحكم الشرعي فيه الاحتياط ، ففيما شكّ في لزوم الاحتياط كما في غير

ص: 447


1- انتهى كلام صاحب الفصول مع تصرّف وتلخيص.
2- « ج ، م » : اتصاله.

الشبهات البدوية ، وعدمه كما فيها يرجع الشكّ إلى نفس التكليف في الاحتياط وعدمه ، والأصل البراءة من الاحتياط ووجوبه ، وهذا لا ينافي كون الكلام في الشبهة الموضوعية التي لا يؤول الأمر فيها (1) إلى اشتباه في الحكم إذ المقصود بيان حكمها ، وفيما لو اشتبه حكم الموضوع شرعا يصير الشكّ شكّا حكميا وإن كان موضوع هذا الحكم المشتبه هو الموضوع المشتبه وذلك ظاهر إلاّ أنّه لا يتمّ إلاّ بعد التصرّف في الأدلّة الواقعية ، وإلاّ فمع بقائها بحالها يستقلّ العقل بوجوب الامتثال بالاحتياط ، وذلك التصرّف إمّا بالقول بوضع الألفاظ للمعاني المعلومة ، أو بانصرافها إليها مطلقا ، أو حيثما كان في حيّز الطلب والتكليف عرفا أو عقلا (2).

الثاني الأخبار الدالّة على جواز الارتكاب في الشبهات الموضوعية عموما كما مرّ وخصوصا كقوله : « كلّ شيء [ يكون فيه حرام وحلال فهو ] لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (3) والأخبار الواردة في هذا المضمار على ما ادّعاه البعض (4) فوق حدّ الاستفاضة.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبأنّ التصرّف في الأدلّة الواقعية يقع على وجوه :

أحدها : أن يقال : إنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي إنّما هو مقيّد بصورة العلم بنفس الحكم على وجه لا مدخل للتقييد (5) في موضوع الحكم ، ولا في حال من حالات المكلّف ، ومن الظاهر فساده ؛ ضرورة توقّف العلم على المعلوم السابق منه ليصحّ تعلّقه به ، فلو كان له مدخل في تحقّقه ، لكان دورا صريحا ، فلا يعقل اعتبار العلم في نفس الحكم.

الثاني : أن يقال : إنّ موضوع الحكم مقيّد بالعلم بمعنى أنّ الخمر مطلقا ليس ممّا يجب الاجتناب عنه ، وإنّما يجب إذا كان معلوما فحيث لم يكن معلوما ، فلا يكون حراما.

ص: 448


1- « س » : فيه.
2- « ج » : عقلا أو عرفا.
3- تقدّم تخريجه في ص 359.
4- انظر القوانين 2 : 26.
5- « م » : للتقيّد.

الثالث : أنّ المكلّف لا يتوجّه إليه الخطاب مطلقا في جميع حالاته بل المكلّف العالم يجب عليه الاجتناب.

ولا وجه للكلّ.

أمّا الأوّل ، فقد عرفت.

وأمّا الثاني ، فلأنّ دعوى وضع الألفاظ للمعاني المعلومة على أن يكون العلم معتبرا في الموضوع له سخيفة جدّا لا يكاد يلتزم بها العاقل.

ودعوى تبادر المعلومات منها وهم في خلط ؛ لاشتباه (1) العلم المرآتي بالعلم الموضوعي عنده إذ المعنى لا يتبادر إلاّ أن يكون معلوما حاضرا عند العالم على وجه يكون العلم مرآة للواقع ، ولا دخل في هذا العلم في معنى اللفظ.

ودعوى الانصراف إلى المعلومات وإن لم تكن في حيّز الطلب والتكليف مبنيّة على الخلط المختلط بالوهم المذكور.

وأمّا دعوى الانصراف في حيّز التكاليف ، فلو (2) كانت القرينة المقتضية لذلك نقلية ، فعهدتها على مدّعيها إذ لم نجد إلى الآن في الأدلّة النقلية ما يقضي (3) بذلك ، وإن كانت عقلية ، فنحن كلّما راجعنا وجداننا مرّة بعد أولى وعهدنا إلى عقولنا كرّة بعد أخرى لا نجد فيها ما يقتضي التصرّف في مدلول الخطاب بل غاية ما هناك أنّ العقل يحكم بأنّ المكلّف في تكليفه لا بدّ له من حامل على التكليف والطلب ، وقبل علم المكلّف بالخطاب لا حامل له ، فليس في العقل ما يقضي باعتبار العلم في معنى اللفظ فإنّ الخطاب وإرادة المولى أو كراهته - التي يعبّر عنهما تارة بالطلب ، وأخرى بالأمر والنهي - متساوية النسبة إلى العالم والجاهل فإنّ ما للطالب دخل فيه قد تمّ ، ولا ينشأ بعد العلم من الطالب والمولى طلب آخر وإرادة أخرى وإن لم يكن المكلّف عند الجهل

ص: 449


1- « ج » : الاشتباه.
2- « ج ، م » : فإن.
3- « ج » : يقتضي.

بالخطاب معاقبا من حيث إنّ معنى التكليف هو الحمل على الكلفة وفيما لو كان ذلك الحمل بطلب قولي أو غيره مع عدم العلم بالحامل لا حامل له على الفعل.

وبالجملة ، فنحن لا نضايق من القول بعدم ترتّب العقاب على المكلّف في الشبهة التكليفية البدوية من حيث عدم علمه بنفس التكليف بل هو كذلك كما عرفت إلاّ أنّه ليس باعتبار التصرّف في الأدلّة الواقعية.

على أنّ ذلك لو تمّ ، لما صحّ التمسّك بالأصل فيه إذ المعهود منهم في الاستدلال به إنّما هو في الأحكام الظاهرية ، وبعد التصرّف في الأدلّة الواقعية - وإن كان التصرّف (1) عقلا بتخصيص ونحوه - لم يكن ذلك من الأحكام الظاهرية في شيء لعدم ترتّب أحد الحكمين على الآخر لاختلاف موضوعيهما اختلافا عرضيا.

والحاصل : أنّ الأدلّة الواقعية الدالّة على لزوم الاجتناب عن الخمر والنجس شاملة (2) للمقام ، والامتثال ممكن ، والعقل حاكم بلزوم تحصيل البراءة ولا مانع منه بعد العلم بالتكليف ووقوع المكلّف به في أشياء محصورة ، فالمقتضي للامتثال - وهو العلم بتعلّق التكليف الواقعي بالخمر الواقعي الموجود بين الإناءات المشتبهة - موجود ، والمانع مفقود ، والعقل حاكم بلزوم الامتثال ، فلا مناص منه كذا أفاد.

قلت : مضافا إلى أنّ التمسّك بالأصل المذكورة محلّ نظر فإنّ الأصل فيما إذا شكّ في البراءة والاحتياط عند التحقيق فيما لو كان الاحتياط حكما عقليا هو الاحتياط ، فالأصل في المسألة الأصولية أيضا هو الاحتياط ، وستعرف ذلك فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الثالث ، فلأنّك قد عرفت شمول الخطاب للعالم والجاهل ، ولا قرينة على التقييد لا عرفا ولا عقلا لعين ما مرّ من عدم اعتبار العلم في معاني الألفاظ وضعا ، ولا يقضي بذلك العقل وإنّما هو قاض بعدم العقاب في صورة الجهل ، والعلم في المقام

ص: 450


1- « ج ، م » : المتصرّف ( ظ؟ ).
2- « س ، م » : شامل.

موجود إجمالا ونحن لا نجد قبحا في العقول أن يعاقب المولى عبدا يعلم بوقوع المنهيّ عنه في أشياء محصورة مردّدة مع ارتكابه لها.

وأمّا عن الثاني ، فبأنّ هذه الأخبار لا دخل لها بالمقام لعدم (1) إمكان المعارضة بين حكمي العقل والشرع.

وتحقيق ذلك : أنّ المنساق من هذه الأخبار بيان الأحكام الظاهرية في صورة الاشتباه كما يلوح ذلك بعد ملاحظة تقييد الحكم فيها بغاية حصول العلم ، ولعلّه لا يكون ذلك محلاّ للتأمّل والإنكار ، وقد عرفت أنّ العقل بعد ملاحظة شمول الخطاب الواقعي للمقام ليس له حالة منتظرة للحكم بلزوم الامتثال إلاّ أن يرتفع موضوع التكليف بارتفاع أحد أركانه من نسخه ، أو تقييد ما دلّ عليه بفرد دون آخر ، أو تخصيصه ونحو ذلك ، أو موت المكلّف ، أو امتثاله والمفروض وجود سائر الأركان سوى ما يحتمل من التقييد أو التخصيص بملاحظة هذه الأخبار وهو غير معقول إذ لا يعقل تصرّف ما هو في بيان الحكم الظاهري (2) في الأدلّة الواقعية ، فالدليل (3) الدالّ على لزوم الاجتناب عن الخمر الواقعي الموجود في الإناءين موجود في محلّه من غير أن يتطرّق فيه شائبة تخصيص بصورة عدم الاشتباه ، ووجود العلم التفصيلي والعلم بالتكليف وبوجود المكلّف به حاصل ، فيحكم العقل بوجوب الامتثال والخروج عن ربقة التكليف ، فلا مناص منه ، وحينئذ إمّا أن يؤخذ بهذه الأخبار ، أو بأدلّة الواقع ، لا سبيل إلى الأوّل لاستلزامه ترك أدلّة الواقع من غير وجه شرعي لعدم إمكان تصوير (4) التقييد فيها بالنسبة إليها لاختلاف موضوعيهما (5) بترتّب أحدهما على الآخر ، وليست (6) هذه الأخبار بألفاظها متعرّضة لبيان تلك الأدلّة الواقعية حتّى يقال بالحكومة أيضا ، فتعيّن الأخذ بالأدلّة الواقعية ، وقضية ذلك هو الاحتياط ووجوب الاجتناب عن

ص: 451


1- « س » : « بعد » بدل : « لعدم »؟
2- « س » : الظاهرية.
3- « م » : في الدليل.
4- « ج » : تصوّر.
5- « ج » : موضوعهما.
6- « م » : ليس.

المشتبهات ، وعلى تقدير التسليم فلا يقول به القائل لجواز المخالفة القطعية إذ بعد التصرّف والتقييد يصير الحكم بجواز ارتكاب أطراف الشبهة حكما واقعيا ، ومقصوده إثبات الحلّية الظاهرية تعويلا على هذه الأخبار ، فلا وجه للقول بتقييد هذه الأخبار للأدلّة الواقعية كما لا وجه للأخذ بهذه الأخبار في قبال حكم العقل بعد شمول الخطاب للمقام بالامتثال وحصول العلم كما في صورة العلم التفصيلي ، فلا بدّ من القول بأنّ هذه الأخبار محمولة على الشبهة البدوية الحكمية أو الموضوعية إذ هناك لا علم بالتكليف ، فلا يحكم العقل بلزوم الامتثال ، فيصحّ من الشارع العفو وعدم العقاب وإثبات الإباحة الظاهرية عند عدم العلم بالتكليف. والحاصل أنّ هذه الأخبار بحكم العقل القاطع محمولة (1) على الشبهات البدوية كما عرفت.

فإن قلت : لا شكّ أنّ الأحكام الشرعية بأسرها سواء كانت اقتضائية أو تخييرية لا تتعلّق (2) إلاّ على عنوانات اختيارية مقصودة للمكلّف فإنّها هي مهابط الحسن والقبح اللذين عليهما يدور رحى الأحكام الشرعية من غير فرق في ذلك بين الوجوب والحرمة فكما أنّ الوجوب لا يتعلّق (3) إلاّ على عنوان مقصود له فكذا التحريم على وجه يكون صدور الفعل من المكلّف على عنوانه المحرّم مستندا إلى اختيار المكلّف ، ولا يكفي في ذلك صدوره على وجه الاختيار بعنوان آخر غير عنوان المحرّم ، فعلى هذا لو علم المكلّف بحرمة الإناء المخصوص وارتكبه ، حرم قطعا لعدم انفكاك ذلك من القصد إليه بعد العلم به وإن لم يكن الداعي إلى الفعل هو العنوان المحرّم ، وأمّا إذا لم يعلم بحرمة الإناء المخصوص تفصيلا ففيما لم يكن الداعي إلى الفعل هو العنوان المحرّم والوصول إليه ، فلا تحريم (4) فيه بل يجوز ارتكابه لأنّ العنوان المحرّم بعد عدم العلم به غير مقصود للفاعل ، فلو صادف الخمر الحقيقي ، فقد وقع منه شرب

ص: 452


1- « س ، م » : محمول.
2- « س » : لا يتعلّق.
3- « ج » : لا تتعلّق.
4- « س » : فلا يحرم.

الخمر اتّفاقا ، ولا يتّصف الفعل الاتّفاقي الخارج عن مقدرة المكلّف من حيث هو اتّفاقي بالحسن والقبح باتّفاق من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ، فلا يتعلّق به الحكم الشرعي وهو التحريم ، فيجوز ارتكابه ، وهكذا كلّ واحد من الإناءات المشتبهة فيجوز المخالفة القطعية.

قلت : لا خفاء في أنّ المطلوب بالأمر هو نفس الفعل ، وفي النهي (1) هو ترك الفعل وعدم إيجاده ، فالمكلّف به في الأوّل هو الفعل ، وفي الثاني (2) هو الترك ، ولا بدّ أن يكون المكلّف به (3) مقدورا للمكلّف ، اختياريا ، مقصودا له ففي الأمر لا بدّ أن يكون الفعل اختياريا ، وفي النهي لا بدّ أن يكون الترك اختياريا بمعنى أن يكون ترك شرب الخمر مقصودا في النهي ، وفعل الصلاة مقصودا في الأمر ، فالقصد قيد للترك لا للمتروك (4) ، فالمقصود للمكلّف لا بدّ أن يكون هو الترك ، وترك شرب الخمر إذا كان مقصودا لا يتحقّق إلاّ عند ترك جميع الأفراد المحتملة ، وإلاّ لم يكن قاصدا للترك والمفروض اعتبار تعلّق القصد به.

وبالجملة ، متعلّق التكليف لا بدّ أن يكون فعلا اختياريا مقصودا للمكلّف ، والتكليف تارة هو الأمر ، وأخرى هو النهي ، وفي الأوّل لا بدّ أن يكون المكلّف قاصدا للفعل ، وفي الثاني لا بدّ أن يكون قاصدا للترك حتّى يحصل الامتثال وإذا كان المكلّف قاصدا لا بدّ له من عدم الارتكاب ، وإلاّ لم يكن قاصدا للترك وهذا خلف.

فإن قلت : إنّ المستفاد من الأخبار الدالّة على رفع الحكم عند الاشتباه هو أنّ المحرّم ارتكاب الحرام قصدا وعمدا إليه ، فلا يجب الاجتناب من الخمر المردّد عند عدم القصد إلى عنوانه.

ص: 453


1- « م » : - النهي ، وفي « س » : « ما » بدل : « النهي »!
2- « م » : النهي.
3- سقط قوله : « في الأوّل هو الفعل » إلى هنا من نسخة « س ».
4- « ج ، س » : للتروك!

قلت : إنّ من المعلوم أنّ هذه الأخبار لا دلالة فيها على هذه الدعوى لعدم المنافاة بين أن يكون حكم الشيء من حيث الاشتباه شيئا ولكن بعد اجتماعه مع عنوان آخر كأن يكون مقدّمة لواجب شيئا آخر كما في المقام فإنّ الخمر المردّد - يعني المشتبه (1) - حكمه عدم وجوب الاجتناب ، وذلك لا ينافي أن يكون الموضوع المشتبه واجب الاجتناب إذا كان مقدّمة للوصول إلى الحرام ، وكان تركه مقدّمة للعلم بحصول امتثال الخطاب الدالّ على لزوم اجتنابه.

على أنّ لنا أن نقول بالفرق بين الأوامر والنواهي ، ففي الأوّل لا بدّ أن يكون الفعل مقصودا بخلاف الثاني فإنّ المطلوب منه إنّما هو مجرّد عدم وقوع المنهيّ عنه وإن لم يكن مقصودا ، وأمّا عدم تعلّق الطلب بفعل غير مقصود ، فإنّما هو بواسطة قصور فيه ، وإلاّ فالمقصود فيه (2) يكون أعمّ.

المورد الثاني

المورد الثاني (3)

في أنّه هل يجب الموافقة القطعية بعد ما عرفت من حرمة المخالفة القطعية ، أو لا؟ والكلام في هذا المورد وإن كان ظاهرا بعد حرمة المخالفة القطعية فإنّ التحقيق أنّ القول بحرمة المخالفة القطعية (4) في المورد الأوّل يلازم القول بوجوب الموافقة القطعية فإنّها معلولي (5) علّة واحدة إلاّ أنّه لا بأس في تحرير (6) المقال لتوضيح الحال فإنّ المسألة ربّما (7) يعسر (8) على بعض الأفهام الوصول إلى حقيقتها ، فنقول : الحقّ - كما عليه جمهور المحقّقين - وجوب الموافقة لأنّ المفروض في المقام الأوّل عدم التصرّف في الأدلّة الواقعية وبقاؤها بحالها من غير احتمال متطرّق فيه من التخصيص والتقييد ونحوهما

ص: 454


1- « س » : - المشتبه.
2- « ج » : - فيه.
3- مرّ المورد الأوّل في ص 445.
4- سقط قوله : « فإنّ التحقيق » إلى هنا من نسخة « س ».
5- كذا. والظاهر : فإنّهما معلولا.
6- « م » : في تجديد ، « ج » : بتجديد.
7- « م » : ممّا.
8- « س ، م » : تعسّر.

فيها ، والمفروض أيضا شمول تلك الأدلّة للمكلّف حال إرادة ارتكاب البعض ، فكأنّ الخطاب بمسمع منه وهو يحكم بعدم (1) جواز تناول الخمر وشربه في الواقع وإن كان مردّدا بين الإناءين فكأنّه يسمع خطاب اللّه تبارك وتعالى : أيّها العبد ، اجتنب عن هذا الخمر الموجود في الإناءين (2) ، ولا يتمّ تحصيل الامتثال إلاّ بترك جميع المحتملات ، فلا بدّ من تركه فإنّ الخطاب العامّ ينحلّ إلى خطابات خاصّة ، ولا فرق بينهما إلاّ في كون أحدهما نصّا ، والآخر ظاهرا ، وبعد فرض عدم التخصيص يرتفع احتماله ويساوي الخاصّ في كونه نصّا ، فالخطاب العامّ مرجعه إلى الخطاب الخاصّ كما عرفت ، فالقائل بجواز ارتكاب (3) وعدم جواز (4) ارتكاب ما يساوي الحرام مؤاخذ في كلا جزءي دعواه فإنّك إمّا أن تقول بتخصيص في قوله : اجتنبوا عن الخمر بتقريب أنّه يجب الاجتناب على العالم تفصيلا ، وإمّا أن لا تقول به ، فعلى الأوّل ، فلا وجه للقول بحرمة ارتكاب ما هو بقدر الحرام لعدم دليل على حرمته حينئذ ، وعلى الثاني ، فلا وجه للقول بجواز ارتكاب البعض للعلم بحامل التكليف وهو الخطاب الشامل لجميع الأحوال ولجميع الأشخاص ، فلا وجه لهذا القول في وجه.

وأمّا التمسّك بالأخبار في هذا المقام ، فممّا لا وجه له أيضا إذ لك أن تقول : إنّ المقام ممّا علم حرمته بالعقل بعد بقاء الخطاب على حاله ولزوم امتثاله ، والقول بأنّ الحرمة المعتبرة في الغاية لا بدّ وأن يكون هي الحرمة المجهولة ، والحرمة المعلومة ليست هي مدفوع بأنّ التمثيل بخبر « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (5) مبنيّ على تقريب غير مختصّة معلومة (6) الحرمة فيه بكونها هي الحرمة المجهولة كما لا يخفى ، فتأمّل.

ولا ينافيه قوله : « بعينه » لأنّ الحرام بعينه موجود بين الإناءين فتدبّر.

ص: 455


1- « ج ، س » : لعدم.
2- سقط قوله : « فكأنّه يسمع » إلى هنا من نسخة « س ».
3- « ج » : ارتكاب الأطراف.
4- « س » : - جواز.
5- تقدّم في ص 359.
6- كذا.

وعلى تقدير الدلالة فإمّا أن يقال بدلالتها على جواز ارتكاب الجميع (1) ، أو البعض معيّنا ، أو غير معيّن ، فعلى الأوّل لا وجه للتخصيص بالبعض ، وعلى الثاني فهو ترجيح بلا مرجّح ، وعلى الثالث لا دلالة فيها عليه لأنّ الأفراد الانتزاعية الاعتبارية ليست داخلة في العامّ ، والفرد الغير المعيّن - كما هو مفاد أحدهما - فرد اعتباري انتزاعي ، وذلك نظير ما ستطّلع عليه في بحث التعارض حيث زعم بعضهم أنّ أحد الخبرين لا بعينه مندرج في الأدلّة الدالّة على حجّية الخبر بعد زعمه لعدم شمولها لهما ولأحدهما معيّنا ، لمكان التعارض ولزوم الترجيح بلا مرجّح فإنّ من الظاهر أنّ بعد ما قد اعترف بعدم (2) شمولها للخبرين ولواحد معيّن منهما لا وجه للشمول على هذا الوجه لأنّ أحدها ليس إلاّ فردا انتزاعيا ، ولا مدخل للعامّ فيه ، فليتأمّل (3).

فإن قلت : إنّ قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (4) يدلّ (5) على أنّ الشارع لم يرد الامتثال في صورة الاشتباه على وجه يعمّ الصورة المفروضة مع وجود العلم الإجمالي ، فبالحقيقة مرجع التعارض إلى الحكومة كما في أخبار الضرر وأدلّة العسر ونحو ذلك فإنّها حاكمة على سائر الشرعيات : وضعياتها وتكليفياتها ، فقوله : « اجتنب عن الخمر » مقتضى إطلاقه وشموله للعالم والجاهل سواء (6) سواء كان علمه تفصيليا أو إجماليا بعد العلم به وبوجود (7) المكلّف به ، وهذا أمر ظاهر إلاّ أنّ الخبر المذكور يدلّ على أنّ الشارع قيّد المطلوب بهذا الأمر بما لو حصل للمكلّف علم تفصيلي بالمكلّف به وبالتكليف كما أنّ مقتضى قوله : « صلّ » شموله لصورة يلزم فيها العسر وغيرها.

ص: 456


1- « ج » : الكلّ.
2- « س ، م » : لعدم ( ظ ).
3- « م » : فتأمّل ، « ج » : فلتأمّل.
4- تقدّم في ص 359.
5- « س ، م » : - يدلّ.
6- « م » : - سواء.
7- « ج ، م » : لوجود.

وقوله : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) إنّما (2) فسّر المطلوب بقوله : « صلّ » بأنّ المراد والمطلوب هو ما إذا (3) لم يستلزم الصلاة العسر ولا ضير في ذلك فإنّه باب واسع في الأدلّة الشرعية لا مجال لإنكاره.

قلت : إن أريد أنّ قوله : « كلّ شيء » حاكم على الأدلّة الواقعية على وجه يكون مقيّدا للواقع كما في أدلّة العسر والحرج بالنسبة إلى سائر الشرعيات ، فواضح سقوطه ؛ لأنّ المنساق منه ومن أشباهه - كما هو المستفاد من تقييد الحكم بحصول المعرفة بالحرام - بيان الحلّية الظاهرية عند عدم العلم بالحرام الواقعي ، ولا يعقل تقييد الحلال الواقعي بالعلم بحرمته إذ لو كان هو الحلال في الواقع ، فلا حرمة فيه حتّى تكون (4) الحلّية مقيّدة بالعلم بحرمته.

اللّهمّ إلاّ أن يراد من الخبر أنّ الإناءين المشتبهين شيء فيه حلال هو الخلّ وفيه حرام هو (5) الخمر ، وذلك الشيء حلال لك في الواقع حتّى تعرف الخمر منه بعينه ، فاستعمل الحرام وأريد منه ما يصير حراما في بعض الأوقات كما إذا علم أنّه خمر إلاّ أنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل معدوم.

على أنّه لا يكون حينئذ حكما واقعيا لعدم اختلاف الموضوعات بالعلم والجهل.

نعم ، لبعض المتأخّرين في بعض المقامات كالنجاسة ونحوها كلام يشعر بالتصويب فيها ، مع أنّ ذلك لو تمّ لما صحّ القول بإبقاء القدر المحرّم ، وقد عرفت فيما سبق دعوى الإجماع على حرمة المخالفة القطعية.

وإن أريد أنّ قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » إنّما يكون حاكما على الأدلّة الواقعية لكن لا على وجه التقييد بل المستفاد منه عدم العقاب على تقدير تناول الخمر صورة الاشتباه ، فكما أنّ الأدلّة الواقعية شاملة للمكلّف حال الجهل في الشبهة البدوية

ص: 457


1- الحج : 78.
2- « م » : وإنّما.
3- « س » : - إذا.
4- « ج ، س » : يكون.
5- « ج » : وهو.

ومع ذلك يستفاد من قوله : « رفع » ونحوه رفع العقاب ، فكذلك في المقام الأدلّة الواقعية شاملة لصورة العلم الإجمالي ، فما المانع من أن يكون هذا الخبر وأضرابه واردا في مقام بيان عدم ترتّب العقاب على ارتكاب الخمر حال الاشتباه؟ فبطلانه غير خفيّ على ذي مسكة لأنّ المراد بعدم العقاب إن كان عدم الاستحقاق - كما يستفاد من تنظير المقام بالشبهة البدوية - فمتّضح الفساد إذ ليس للشارع أن يحكم بعدم الاستحقاق بعد وجود علّته التامّة فإنّ الاستحقاق من الأمور التي لا تعلّق لجعل الشارع فيه بل هو من الآثار العقلية للمخالفة والإطاعة ، ونفي الاستحقاق في الشبهة البدوية إنّما هو لعدم تحقّق علّته التامّة وهو العلم بحامل التكليف ، ولذلك كان العقاب قبيحا عقلا (1) أيضا ، والمفروض في المقام ثبوت التكليف ، فلا يصحّ قياسه بها لوجود الفارق وهو حكم العقل بالاستحقاق فيه لأنّ العلم بحامل التكليف وهو الخطاب الشامل للعلم التفصيلي والإجمالي علّة تامّة للامتثال على وجه يحصل معه العلم بدفع الضرر العقابي ، وقد مرّ أنّ الشرع لا يمكن وروده على خلاف حكم العقل في خصوص الضرر العقابي كما في أمثاله من العناوين المقتضية للحسن والقبح في حدود ذواتها على وجه لا يتغيّر حكمها بلحوق عنوان آخر كما في الكذب بالنسبة إلى اللّه (2) تعالى والشرك وأضرابهما.

نعم ، فيما لو (3) علم المكلّف إجمالا بالتكليف لا تفصيلا يصحّ أن يجعل الشارع طريقا للوصول إلى الواقع على وجه لو كان هو الواقع فهو ، وإلاّ كان مسقطا عنه لكن لا على وجه البدلية ليصحّ القول بالإجزاء فيما لو انكشف الخلاف ، ولا على وجه التقييد كما زعمه بعض الأجلّة على ما مرّ تفصيل الكلام في تزييفه في مباحث الظنّ ، ولا على وجه لا يترتّب عليه العصيان فيما لو صادف الواقع وتخلّف عن الطريق فإنّه واقع جعلي ، وفهم هذا المقام كما ينبغي يحتاج إلى لطف قريحة ولطافة سليقة فإنّ فيه نوع

ص: 458


1- « م » : عقليا.
2- « ج » : إليه.
3- « س ، م » : - لو.

خفاء وغموض.

وبالجملة ، فلا قبح في العقول أن يجعل الشارع قول العدل طريقا إلى الواقع عند اشتباه الخمر بالخلّ على ما نبّهنا عليه في نظير المقام في الشبهة الوجوبية ، ولا منافاة بين أدلّة الواقع وبين ما به يصير إليه (1) طريقا بل يؤكّده لما عرفت من أنّها طريق إليه ومفادها واقع لكن جعلا على وجه يكون امتثال الواقع فيه ، ولا يكون مسقطا عنه كما في البدلية.

فاتّضح أنّه على تقدير جعل الطريق لا تعارض بين أدلّة الواقع وبين ما يدلّ على طريقية الطرق الظاهرية ، فلا يصير موردا للمعارضة.

وإن كان المراد بعدم العقاب العفو ولو كان مستحقّا أيضا ، ففيه أوّلا : أنّ أحدا لم يحم حول هذه المقالة بعد الغضّ (2) عن عدم دلالة الرواية عليه.

وثانيا : أنّ المقصود حقيقة هو إثبات استحقاق المرتكب للشبهة المحصورة ، وما علينا بيان فعلية العقاب فإنّه بيده يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلعلّ العفو مستند (3) إلى رحمته الواسعة ، وقد مرّ أنّ الاستناد إلى الرواية وأشباهها في الحكم بالإباحة - على (4) تقدير التسليم - ممّا لا يجدي للقائل بعدم وجوب الموافقة القطعية لعدم دلالتها على جواز ارتكاب أحدها كما هو المقصود في المقام ؛ إذ بعد عدم اعتبار الفرد المعيّن لاستلزامهما الترجيح بلا مرجّح وعدم ملاحظة المجموع نظرا إلى خلاف الفرض لا يعقل دخول الفرد الانتزاعي واعتباره في العامّ الدالّ على الإباحة ؛ لخروج منشأ الانتزاع عنه كما لا يخفى بل لك أن تقول : إنّ هذه قاعدة سارية في غير المقام أيضا هي أنّه كلّما خرج عن العامّ بعض أبعاضه (5) الشخصية لا وجه للقول بأنّ الأمر المنتزع منها

ص: 459


1- « م » : النسبة.
2- « س » : النصّ وفي « م » كتب أوّلا : « الغضّ » ثمّ شطب عليها وكتب : « النصّ ».
3- « م » : مستندا!
4- « ج » : وعلى.
5- « ج » : الخاصّة.

داخل فيما لو شكّ في أنّ الخارج هو خصوص ذلك أو غيره ، ومن هنا قلنا بسقوط الاستصحابين وسائر الأصول المتعارضة عند التعارض ؛ لخروج أحدهما قطعا عن الدليل الدالّ على حجّية الأصول ولا معيّن لأحدهما بالخصوص إذا لم يكن أحد سببا ، والفرد الغير المعيّن أيضا فرد انتزاعي ، وبعد خروج منشأ الانتزاع لا وجه للقول بدخوله فيه ، فلا بدّ من التساقط.

نعم ، يستثنى من ذلك ما لو علمنا بمطلوبية المتعارضين واشتمالهما على مصلحة الحكم حتّى عند التعارض كما في تزاحم الحقوق كإنقاذ غريقين وإطفاء حريقين ، ولتحقيق المقام محلّ آخر ، فتدبّر.

ثمّ إنّ القائل بعدم جواز المخالفة القطعية في المورد الأوّل وعدم وجوب الموافقة القطعية في المورد الثاني ربّما يظهر من بعضهم الاستناد إلى عدم جواز تحصيل العلم في الوقوع في المحرّم كما هو صريح بعضهم.

وقد تجشّم بعض (1) الآخر في المقام بما لم نقف له على محصّل إلاّ بالرجوع إلى ذلك بتقريب أنّ ارتكاب الباقي مقدّمة لتحصيل العلم في الوقوع في المحرّم ، وكما أنّ ارتكاب نفس الحرام حرام ، فكذا تحصيل العلم بالوقوع في المحرّم (2).

واعترض عليه بعض الأجلّة (3) بأنّ تحصيل العلم بالحرام لو كان حراما لحرم على من نسي معاصيه أن يراجع ما يفيده تذكّرها ، فيحرم على من شرب مائعا أن يستعلم من كونه خمرا وهو ممّا لا يقول به أحد.

وفيه : نظر لأنّ تحصيل العلم بالوقوع في الحرام يقع على وجهين ، فتارة بالفحص عن أحواله السابقة وأعماله المتقدّمة من غير أن يكون مشتغلا بما يحتمل أن يكون هو المحرّم قطعا كما في مفروض المعترض من تذكّره لها واستعلامه عمّن يصاحبه ، أو عن

ص: 460


1- كذا.
2- نقل الاستدلال القمّي في القوانين 2 : 24 والأصفهاني في الفصول : 361 ، والنراقي في المناهج : 230.
3- الفصول : 362.

أهل الخبرة فيما إذا اشتبه عليه موضوع وغير ذلك من أسباب حصول العلم ، وأخرى بارتكاب ما به يتمّ عنوان الحرام وما به يحصل مصداق الفعل المحرّم في الواقع ، فالمكلّف إنّما يوجد ما به يحصل له العلم بحصول الفعل المحرّم في الخارج كما في العمل بالأشكال المجسّمة ، فإنّ الاشتغال بما تتمّ به الصورة (1) من الأجزاء الباقية مثلا محصّل للعلم بوقوع المكلّف في الحرام.

والمستدلّ إنّما بنى استدلاله على القسم الثاني ، والمعترض إنّما حاول الاعتراض عليه بالقسم الأوّل ، وكم من فرق بين المقامين فإنّه لا شكّ في عدم حرمة الأوّل وإن كان قد يظهر من بعض الآثار المرويّة عنهم - صلوات اللّه عليهم - ما يلوح منه الكراهة كما في قوله : « هلاّ سألت » فيما سأل السائل عن كون زوجته الانقطاعية في حبالة زوج آخر فعلم به (2) ، كما أنّه لا ريب في حرمة الثاني ؛ لأنّ العنوان المحرّم يحصّله بعلمه لمكان مدخلية له فيه ، فالمستدلّ زعم أنّ ارتكاب الأفراد الباقية إنّما هو بمنزلة تتميم الصورة المنقوشة وارتكاب غيرها بمنزلة الأجزاء الأول من تلك الصورة.

فالتحقيق في الجواب عدم صحّة المقايسة (3) بالمثال المذكور بإبداء الفرق بينهما من أنّ الاشتغال بالأجزاء الباقية من الصورة المنقوشة قطعا محصّل لعنوان محرّم ، وبه يتمّ مصداق الفعل الحرام لدوران الحكم مدار اسم الكلّ ، وبه يحصل الكلّ بخلاف الإتيان بالأفراد الباقية إذ لا قطع بأنّ ارتكاب تلك الأفراد محصّل لعنوان الفعل المحرّم ، فلعلّه حصل بالفرد الأوّل.

فظهر أنّ الحرمة في الصورة أيضا لا تترتّب على تحصيل العلم بالحرام (4) بل إنّما يلازم نفس الفعل ، وحيث إنّ تمام الفعل في الخارج يلازم العلم بحصول الحرام ، فقد يتوهّم المتوهّم أنّ تحصيل العلم بالحرام حرام.

ص: 461


1- « م » : الاشتغال به يتمّ الصورة. « ج » : الاشتغال ربما يتمّ الصورة.
2- الوسائل 21 : 30 ، باب 10 من أبواب المتعة ، ح 3 و 4.
3- « ج ، م » : المقالة.
4- « م » : الحرام!

وبالجملة ، فلا دليل على لزوم إبقاء مقدار ما يساوي الحرام إلاّ دعوى حرمة تحصيل العلم بالحرام كما عرفت ، ولا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا ، والعمدة في المقام هو عدم جواز التصرّف في الأدلّة الواقعية ، وحكم العقل بوجوب تحصيل الإطاعة والفراغ بعد العلم بالاشتغال.

وربّما يستدلّ على لزوم الموافقة القطعية ببناء العقلاء فإنّهم بسجاياهم يحكمون على لزوم الاحتراز من الإناءين المقطوع وجود السمّ في أحدهما ، ويلحقون المرتكب لهما بأصحاب السوداء والجنون ، وهو كذلك إلاّ أنّه لا ينهض حجّة في المقام وأمثاله لما ستعرف من أنّ إلزام العقلاء على ذلك من جهة قصور أنظارهم على إحراز المصالح والمفاسد الكائنة في نفس الأشياء مع قطع النظر عن التعبّد بأوامره ونواهيه ، فكأنّهم يوجبون الاحتياط في الأمور الراجعة إليهم ، وذلك لا يتمّ فيما علمنا عدم الاقتصار على مجرّد المصالح والمفاسد لمدخل التعبّد فيه كما في الشرعيات بعد عدم دليل على وجوب الاحتياط إلاّ ما دلّ على وجوب الشيء في الواقع ، فظهر أنّ الركون إلى مثل هذا الوجه ممّا لا تعويل عليه إلاّ بعد الرجوع إلى ما مرّ وأوله إلى ما ذكر وبدونه لا جدوى فيه لاختلاف وجوه الأدلّة كما لا يخفى.

وقد يلوح من بعض متأخّري المتأخّرين كصاحب الحدائق (1) دعوى الاستقراء على عدم جواز الارتكاب ، وفيه منع واضح إذ الموارد التي بملاحظتها حكم بالاستقراء لا تزيد على معدود ، فهي في غاية القلّة ، فكيف الاستقراء.

نعم ، لو بدّل هذه الدعوى بدعوى دلالة (2) بعض الأخبار الواردة في موارد خاصّة ولو بعد تنقيح مناطها على حرمة الارتكاب ، لم يكن بذلك البعيد.

فمنها : صحيحة زرارة في حديث طويل إلى أن قال : قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال عليه السلام : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّها [ قد ]

ص: 462


1- الحدائق 1 : 503.
2- « س » : - دلالة.

أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » (1) والتقريب ظاهر جدّا.

ومنها : ما ورد أنّه « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وقد غلب الحرام على الحلال » (2).

فإن قلت : لا دلالة فيه على المطلوب لظهوره في المزجيات (3) كما يؤيّده لفظ « ما اختلط » في الخبر الآخر (4) وقد عرفت أنّ صورة المزج خارجة عن محلّ الكلام كما إذا امتزج السمن بمثله المحرّم أو بغير جنسه.

قلت أوّلا : إنّه خلاف الظاهر من لفظ « الخلط » فكيف بلفظ « الاجتماع ».

ص: 463


1- الوسائل 3 : 402 ، باب 7 من أبواب النجاسات ، ح 2 وسيأتي في بحث الاستصحاب.
2- عوالى اللآلى 2 : 132 ، ح 358 و 3 : 466 ، ح 17 وعنه في البحار 2 : 272 ، باب 33 ، ح 6 ، وفي مستدرك الوسائل 13 : 568 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4. والرواية عامية رواها عبد الرزّاق في المصنّف 7 : 199 / 12772 ؛ والبيهقي في السنن الكبرى 7 : 169. قال البيهقي : رواه جابر الجعفي عن الشعبي عن ابن مسعود ، وجابر الجعفي ضعيف والشعبي عن ابن مسعود منقطع. قال العجلوني في كشف الخفاء 2 : 181 / 2186 : قال ابن السبكي في الأشباه والنظائر نقلا عن البيهقي : رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود وفيه ضعف وانقطاع. وقال الزين العراقي في تخريج منهاج الأصول : لا أصل له ، وأدرجه ابن مفلح في أوّل كتابه في الأصول فيما لا أصل له. قال المجلسي في بحار الأنوار 62 : 144 : وأمّا الرواية فهي عامّية مخالفة للروايات المعتبرة ، والأصل والعمومات وحصر المحرّمات يرجّح الحلّ. أقول : لفظة « على » في قوله : « على الحلال » وردت عند عبد الرزّاق والبيهقي ، وفي سائر المصادر وردت بدونها. وتقدّم قريبه في ص 402 وسيأتي في بحث التعادل والتراجيح : ج 4 ، ص 635.
3- « ج ، س » : الموجبات! وكذا في المورد الثاني.
4- الوسائل 24 : 235 - 236 ، باب 64 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح 1 ، وهي رواية ضريس عن الباقر عليه السلام : عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم نأكله؟ فقال : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام.

وثانيا : فالحرمة في المزجيات ليست (1) باعتبار غلبة جانب الحرام الحلال عند العلم بحرمة أحد المختلطين إجمالا بل بواسطة عنوان تفصيلي آخر وهو حصول الشركة أو النجاسة القطعية فإنّهم قد عدّوا من أسباب الشركة المزج اختيارا أو اضطرارا ، وبعد حصولها يحرم التصرّف بواسطة حصول الإشاعة ولا مدخل للحرام فيها كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال : من معارضة الخبر بمثله بتقديم الحرام على الحلال كما عن بعض الأعاظم من الأواخر (2) ، فمدفوع بأنّ أمثال هذه الأخبار ممّا لا تعويل عليها إلاّ فيما عاضده العمل على وجه يحصل الاطمئنان بسندها ودلالتها ، والأوّل كذلك لاستناد العلاّمة (3) إليه في بعض الموارد بخلاف الثاني ، فلا بدّ من حمله على وجه لا ينافي الأوّل كأن يحمل على نصب الحلال على أن يكون مفعولا (4) ورفع الحرام (5).

ومنها : النبويّ صلى اللّه عليه وآله : « اتركوا ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس » (6).

واستند إليه ابن إدريس (7) في مقام وجوب الاحتياط في قضاء صلاة (8) الفائتة ، ودلالته على لزوم ترك المباح الواقعي مقدّمة لترك الحرام ظاهرة.

ومنها : خبر سماعة عن الصادق عليه السلام في رجل معه إناءان [ فيهما ماء ] وقع في

ص: 464


1- « س » : ليس.
2- نقل في مفاتيح الأصول : 708 عن جملة كتب ثمّ قال : وفي غاية المأمول : هذا هو المشهور وعليه الجمهور ، وفي الأحكام : ذهب إليه الأكثر كأصحابنا.
3- مختلف الشيعة 7 : 9.
4- في النسخ : معقولا!
5- نسب ذلك إلى المحقّق الأردبيلي في بحار الأنوار 62 : 144.
6- بحار الأنوار 74 : 164 / 192 نقلا عن تحف العقول : 60 ، وفيه : لا يبلغ عبد أن يكون من المتقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس. وفي مستدرك الوسائل 11 : 6. باب 20 ، ح 18 : إنّما سمّي المتقون المتقين لتركهم عمّا لا بأس به ، حذرا مما به البأس. قال المحقّق الحلّي في الرسائل التسع : 127 بعد نقل كلام المستدل بهذه الرواية : إنّا لا نعرفها والجمهور قد أنكرها أكثرهم ، قال صاحب كتاب البحر : لا أصل لهذه الرواية.
7- لم أجده في السرائر.
8- كذا. والظاهر : الصلاة.

أحدهما ولا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما قال عليه السلام : « يريقهما [ جميعا ] ويتيمّم » (1) ومثله موثّقة عمّار (2).

ومنها : ما عن المحاسن عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت : أخبرني من راى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال عليه السلام : « أمن أجل أنّه (3) مكان (4) واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض فما علمت منه أنّه ميتة فلا تأكله وما لم تعلمه (5) فاشتره وبعه وكله واللّه إنّي لأعرض (6) السوق فأشتري منه اللحم والسمن والجبن واللّه ما أظنّ كلّهم مسلمون (7) هذه البربر (8) وهذه السودان » (9) فإنّ فيه إشعارا بلزوم الاجتناب في صورة الانحصار كما لا يخفى على الخبير بصناعة الكلام.

ومنها : أخبار القرعة سؤالا وجوابا فإنّها بسياقها تدلّ (10) على أنّ سجيّة أهل الشرع كافّة على عدم الارتكاب وتوقّفهم فيه فإنّ يحيى بن أكثم من قضاة العامّة فقد حاول عرض المشاكل على الجواد - روحي له الفداء - وجواب الإمام عليه السلام بكون القرعة طريقا إلى الواقع (11) إنّما يشعر بعدم (12) تغيّر الواقع كنفس السؤال ، وأمثال هذه التلويحات في الأخبار ما لا تحصى (13).

ص: 465


1- الوسائل 1 : 151 ، باب 8 من أبواب الماء المطلق ، ح 2.
2- الوسائل 1 : 156 ، باب 8 من أبواب الماء المطلق ، ح 14.
3- المصدر : - أنّه.
4- « ج ، س » : « كان » بدل : « مكان ».
5- « ج ، م » : لم تعلم.
6- في المصدر : لأعترض.
7- في المصدر : يسمّون.
8- في النسخ : البرية.
9- المحاسن 495 / 597 ، باب 75 وعنه في الوسائل 25 : 119 ، باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 5 وفيهما : حرّم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل.
10- « ج ، س » : يدل.
11- الوسائل 24 : 170 ، باب 30 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح 4 وفيه : عن أبي الحسن الثالث عليه السلام وفيه فيقرع بينهما فأيّهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم.
12- « س » : - بعدم.
13- « س ، م » : لا يخفى.

ثمّ إنّ هاهنا قولا ثالثا وهو تعيين الحرام بالقرعة نظرا إلى خصوص الرواية المذكورة وعموم قوله : « كلّ أمر مجهول ففيه القرعة » (1).

أمّا الجواب عن الرواية الخاصّة ، فبأنّها قضية في واقعة خاصّة يعمل بها في مواردها ولا عموم فيها حتّى تنهض بإثبات القاعدة.

وأمّا الجواب عن عمومات القرعة ، فقد يستفاد من بعضهم رميها بضعف السند.

وليس في محلّه لانجبار سندها بالعمل ، ولا يعقل ضعفها في مورد دون مورد أيضا.

وقد يقال بعموم موردها بالنسبة إلى موارد الأصول (2) فإنّها لكلّ ما فيه الاشتباه سواء كان هناك علم سابق بالتكليف ، أو كان الشكّ فيه ، أو غير ذلك من موارد الأصول العملية الأربعة بخلاف موارد الأصول لاختصاص كلّ واحد منها بمورده فيخصّص عموم أدلّة القرعة بأدلّة هذه الأصول الخاصّة.

وضعفه أيضا واضح لاستلزامه تخصيص الأكثر بل يوجب (3) تخصيص العامّ بالفرد الأندر ولا يصار إليه.

وقد يقال بحكومة أدلّة الأصول على أدلّة القرعة لأنّها لكلّ ما فيه الاشتباه وبإعمال الأصول يرتفع الاشتباه.

وفيه : أنّ القضية معكوسة لأنّ المستفاد من أخبارها هو كونه طريقا إلى الواقع كما في البيّنة ونحوها ، فلا ينبغي توهّم ورود مثل الأصول عليها ، وستعرف لذلك زيادة تحقيق إن شاء اللّه.

والتحقيق أنّ من أمعن النظر في أمثال هذه الروايات ممّا لم يستقرّ عمل الطائفة على الأخذ بها في كلّ ما يظهر أنّه من مواردها كأخبار نفي الضرر ، يجد من نفسه ما يمنعه عن كونها مفيدة لقاعدة كلّية منضبطة سارية في تمام مواردها إلاّ ما قام الدليل على

ص: 466


1- الوسائل 27 : 259 - 260 و 262 ، باب 13 من أبواب كيفية الحكم ، ح 11 و 18.
2- « م » : الأصول العملية.
3- « م » : توجب.

تخصيصها فكأنّها تقضي بأنّها طريق الواقع في ضمن موارد مخصوصة معهودة يستكشف عنها بعمل جملة من أرباب الصناعة على وجه يحصل الاطمئنان والسكون فإنّ الشارع إنّما نفى الضرر في جملة موارد يستعلم بعمل الأصحاب منها ، وإلاّ فلو بنينا على العمل بمفاد أمثال هذه العمومات ، لزم تجديد الفقه عن أصله كما نبّه عليه بعض الأفاضل (1) سيّما فيما لو قلنا بعمومها للأحكام أيضا.

والقول بالعموم وخروج ما خصّص فيه بشاعة يأباه الذوق السليم وإن قلنا بجواز تخصيص الأكثر.

والحاصل فحيث إنّ أخبار القرعة غير معمول بها في المقام فنحن لا نجترئ على العمل بها ، وإلاّ فكان القول بها قويّا جدّا.

ثمّ إنّ هاهنا أخبارا أخر بظاهرها تدلّ على عدم وجوب الاجتناب عند العلم الإجمالي على ما زعمه بعضهم (2) مثل ما يدلّ على جواز شراء ما في يد السارق والعشّار (3) ونحو ذلك من وجوب إخراج الخمس في ما اختلط بالحرام ، ولا بدّ من حملها على وجه لا ينافي ما ذكرناه ، وكثير منها ممّا لا يأبى ذلك كأن يحمل على جوازه فيما لو دلّ الدليل الشرعي عليه كما إذا كان تحت أيدي المسلمين ونحو ذلك ، وليس ما ذكرنا بعيدا فإنّ كلمات بعض الأصحاب كظاهر بعض الأخبار توهم (4) عدم وجوب الامتثال عند العلم التفصيلي أيضا كما أشرنا إليه في بعض المباحث السالفة (5) من مباحث الظنّ.

ص: 467


1- انظر عوائد الأيّام : 659 ، عائدة 62.
2- كالقمي في القوانين 2 : 26 - 27.
3- انظر الوسائل 17 : 218 ، باب 52 في جواز شراء ما يأخذ الظالم من الغلاّت باسم المقاسمة ومن الأموال باسم الخراج ومن الأنعام باسم الزكاة.
4- « ج » : يوهم.
5- « ج ، م » : السابقة.
وينبغي التنبيه على أمور :
الأوّل :

قد عرفت (1) في نظير المقام في الشبهة الوجوبية أنّ وجوب الإتيان بالمحتملات من باب المقدّمة العلمية وتحصيل اليقين بالبراءة إنّما هو وجوب عقلي لا شرعي لا يترتّب على مخالفته إلاّ ما يترتّب على مخالفة نفس الفعل كما هو الشأن في الإرشاديات بتمامها ، والكلام في المقام هو الكلام فيه بعينه من غير فرق ؛ لاتّحاد المناط ، وهو حكم العقل بلزوم تحصيل البراءة والفراغ عن عهدة التكليف.

وأمّا التجرّي ، فقد عرفت أيضا وجه الكلام فيه (2) ونزيده هنا في المقام توضيحا بأنّه قد قرّر في محلّه أنّ التجرّي تارة يقع على وجه يكشف عن سوء سريرة الفاعل وخبث طينته فقط من غير أن يكون الفعل متّصفا بالحسن والقبح من هذه الحيثية كما إذا ارتكب الفعل المحرّم في اعتقاده عصيانا على وجه يقرّ بكونه معصية كما في سائر المعاصي لاحتمال تكفيره وحبطه.

وأخرى يقع على وجه يكشف عن قبح الفعل أيضا كما إذا أتى بالفعل للوصول إلى الحرام على أن يكون هو الداعي إليه ، فمرّة للالتذاذ بالفعل المحرّم ، وأخرى للعناد.

فعلى الأوّل لا دليل على حرمة التجرّي بهذا الوجه ، وإنّما يستحقّ اللوم من جهة خبث طينته وكدورة سريرته.

وعلى الثاني والثالث ، فلا ريب في حرمته بل ذلك في الثالث يوجب الكفر.

وبالجملة ، فالقول بحرمة ارتكاب أحد الإناءين المشتبهين على وجه يترتّب على كلّ واحد منهما عقاب على حدة يبقى بلا دليل إذ الحرمة العقلية لا يقضي إلاّ بعقاب (3) واحد على مخالفة الواقع.

ص: 468


1- عرفت في ص 431.
2- « س » : + أيضا. عرفت في ص2. 432.
3- « ج » : لا يقتضي إلاّ لعقاب!

والتجرّي في هذا القسم يمتنع (1) أن يكون موجبا للعقاب لعدم مدخلية نفس الفعل في الذمّ على أنّ صدق عنوان التجرّي على المرتكب لواحد (2) من الإناءين لا بعنوان الوصول إلى الحرام كما في المقدّمات العلمية أوّل الكلام إذ غاية ما يسلّم هناك صدقه فيما لو أتى بالفعل جازما بأنّه هو الفعل المحرّم سواء كان عنادا أو لا ، وقد مرّ تفصيله بما لا مزيد عليه في بعض مباحث العلم (3).

الثاني :

قد تقرّر في مباحث الألفاظ أنّ بين الأوامر والنواهي فرقا من جهة أنّ المطلوب في الثاني هو ترك الفعل المنهيّ عنه وإن لم يكن مقصودا ، بخلاف الأوّل فإنّها وإن لم يكن الأصل فيها أن يكون على وجه التعبّد كما زعمه جملة منهم إلاّ أنّ المطلوب فيها ولو لدليل خارجي التعبّد بها (4) ، فلا بدّ في الامتثال من قصد القربة.

مضافا إلى قصد عنوان الفعل الواجب على أن يكون الفعل بعنوانه المأمور به اختياريا كما مرّت إليه الإشارة في نظير المقام ، وذلك بخلاف النهي فإنّ المناهي كلّها توصّليات والامتثال وإن كان لا يصدق فيها أيضا إلاّ إذا كان الترك مقصودا لكنّ الترك مطلقا مسقط للنهي (5) كما في الأوامر التوصّلية أيضا (6) ، فعلى هذا لو ترك المكلّف أحد أطراف الشبهة قاصدا فعل الآخر واتّفق عدم ارتكابه لذلك الآخر أجزأ عن ترك الحرام لحصول المقصود فيما لو صادف الترك الحرام وإن كان لا يثاب عليه فإنّ عدم الثواب على الترك لا يلازم العقاب على المخالفة ، وذلك (7) بخلاف الشبهة الوجوبية ، فقد عرفت لزوم القصد بالنسبة إلى الامتثال بالطرف الآخر عند إتيانه (8) بالطرف الأوّل.

ص: 469


1- « ج ، م » : يمنع.
2- « م » : بواحد!
3- مرّ تفصيله في ص 11.
4- « س » : + زعم.
5- « م » : للمنهي.
6- « س » : - أيضا.
7- « س » : - وذلك.
8- « س » : إثباته!

قلت : فقضية ذلك التفصيل في المقامين على أنّه لم يقم دليل خارجي على التعبّد في الأوامر فتدبّر.

الثالث :

أنّ ما ذكرنا من وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو فيما إذا صحّ التكليف لكلّ (1) واحد من الإناءين المشتبهين منجّزا من غير تعليق على شيء سواء لم يكن معلّقا ومشروطا عن أصله أو كان ، ولكن بعد حصول المعلّق عليه والشرط كما إذا كان المكلّف متمكّنا على تمام أطراف الشبهة وكان في محلّ الاحتياج والابتلاء منه ، وأمّا إذا كان الأطراف على وجه لا يصحّ النهي عن ارتكاب كلّ واحد منها تنجيزا (2) بل كان النهي عنه محتاجا إلى تعليقه على شيء عقلا أو عادة أو عرفا فلا يجب الاجتناب.

أمّا إجمالا ، فلأنّ بعد اعتبار التعليق في النهي كالتعليق على القدرة وعدم حصول المعلّق عليه لا نعلم بتحقّق التكليف في حقّ المكلّف لاحتمال أن يكون الخمر الواقعي هو الطرف الغير المقدور ، فلا نعلم (3) بحصول التكليف ولو إجمالا فتقلب الشبهة بدوية صرفة ، وقد مرّ الحكم بجريان البراءة فيها إجماعا.

وأمّا تفصيلا ، فلأنّ التعليق فيما إذا حكم به العقل كالقدرة ، فلا كلام فيه لأنّ الواجب المشروط قبل حصول الشرط لا يجدي في حكم من أحكام الواجبات ، فقبل أن يكون المكلّف قادرا على شرب أحد الإناءين لا يتعلّق (4) به نهي ؛ لقبح النهي عن غير المقدور إذ المفروض حصول المطلوب فيه وهو الترك ، فلا جدوى في النهي أبدا لا تعبّدا ولا توصّلا.

وأمّا إذا حكم به العادة فظاهر أيضا كما إذا كان الخمر في حوصلة طير في جوّ

ص: 470


1- « م » : بكلّ.
2- « ج » : متنجّزا.
3- « س » : فلا يعلم.
4- « ج ، س » : لا تتعلّق!

السماء ، فإنّ العادة تقضي (1) بقبح النهي عن هذا الخمر ، فإذا علمنا بأنّ الخمر في جملة مردّدة بين ما في حوصلة ذلك الطير وبين غيره ، فلا يجب عنه (2) الاجتناب لاحتمال أن يكون هو المنهيّ عنه واقعا والمفروض أنّه بحكم العادة معلّق على حصول شرط غير واقع.

وأمّا إذا حكم العرف بالتعليق كأن يكون الخطاب على وجه الإطلاق والتنجيز من غير اشتراط وتعليق مستنكرا شنيعا (3) في العرف كما إذا لم يكن أحد أطراف الشبهة في محلّ احتياج المكلّف ومورد ابتلائه فإنّ من له أدنى دربة يشاهد من نفسه بشاعة الخطاب الناهي عن استعمال أواني الذهب والفضّة الموجودة في خزائن السلاطين من غير تعليق بالابتلاء وكذا يعدّ في العرف من اللغو الخطاب الناهي عن شرب ماء في الحوض في أقصى بلاد الهند إلاّ إذا كان معلّقا بالابتلاء كأن يقال : إذا ابتليت بأواني الذهب والفضّة الموجودة في تلك الخزائن ، فلا تستعملها ، وإذا ابتليت بشرب ماء في الحوض الفلاني ، فلا تشربه ، فإذا علمنا بأنّ أحد الأواني الموجود (4) عندنا ، أو المخزون عند السلطان من الذهب ، أو من الفضّة ، فلا يجب الاجتناب عن الموجود عندنا لأنّ المفروض عدم تعلّق النهي بالموجود في خزانة السلطان منجّزا ، فلو كان هو الذهب لم يكن متعلّق التكليف به لعدم حصول الشرط والمعلّق عليه وهو الابتلاء بمورد الاحتياج به ، وكذا يعدّ في العرف سفها نهي المكلّف عن السجدة على أرض معلوم النجس في البرّ ، فإذا دار الأمر بين أن يكون الأرض الكذائي نجسا أو الماء الفلاني الذي هو محلّ الحاجة دونها ، جاز استعمال الماء لأنّ النهي عن السجدة لم يكن مطلقا بل لا بدّ من أن يكون مقيّدا بصورة الابتلاء ، فيحتمل أن يكون النجس في الواقع هو ما لا يصحّ تعلّق النهي به من غير تعليق والمفروض عدم حصول المعلّق

ص: 471


1- « س ، م » : يقضي.
2- « س » : - عنه.
3- « ج » : - مستنكرا شنيعا.
4- « م » : الموجودة.

عليه وهو الابتلاء فلا حرمة فيه ، فيقلب الشكّ في الآخر شكّا بدويا صرفا ، وقد مرّ حكومة البراءة في مثله.

نعم ، ينبغي أن يعلم أنّ ما ذكرنا من عدم تنجّز التكليف عرفا وكون الخطاب بلا تعليق شنيعا (1) إنّما يختلف خفاء ووضوحا ، فالمذكور من الأمثلة من (2) الموارد الواضحة ، وأمّا الموارد الخفيّة فكما إذا رشّ من مكان نجس رشاشة وشكّ في وقوعها داخل الإناء أو ظاهره فإنّه يحكم بطهارة ما في الإناء وإن علم إجمالا بوقوع الرشاشة في أحد الموضعين ، وأولى من ذلك ما إذا شكّ في وقوعها فيما لا يرتبط بالإناء كالأرض التي ليست محلاّ للحاجة ، وبذلك قد أيّد صاحب المدارك القول بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة حيث إنّ الأصحاب مطبقون فيما هو الظاهر على عدم وجوب الاحتراز في القضية المفروضة.

قال : ويستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه (3) ، لم ينجس الماء بذلك ، ولا يمنع (4) من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرنا (5).

وأورد عليه بعض من تأخّر عنه (6) بأنّ (7) المفروض من الشبهة الغير (8) المحصورة.

وليس بشيء إذ لا اختصاص للمذكور بذلك لجواز أن يكون الخارج الواقع فيه النجاسة احتمالا محصورا كما لا يخفى.

واعترضه أيضا في الحدائق بإبداء الفارق بين المقامين من حيث إنّ القاعدة

ص: 472


1- « ج » : - شنيعا.
2- « س » : في.
3- المثبت من المصدر وفي النسخ : خارجها.
4- في المصدر : لم يمنع.
5- مدارك الأحكام 1 : 108.
6- هو البحراني في الحدائق 1 : 517 : أجاب عنه أوّلا أنّ ما فرضه من الشبهة الغير المحصورة وثانيا أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق ... الآتي بعد سطور. انظر فرائد الأصول 2 : 225 ؛ كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 1 : 281.
7- « س » : بأنّه.
8- « ج » : غير.

المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة ، والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة إن اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنه تلك الأخبار لا وقوع الاشتباه كيف اتّفق (1). انتهى.

وأنت بعد ما تحقّقت حقيقة ما قد تقدّم منّا في المقام تعرف ضعف التأييد وعدم كون الفرق سديدا.

أمّا الأوّل ، فلأنّ حكم الأصحاب بعدم لزوم الاجتناب في القضية المفروضة إنّما هو بواسطة ما ذكرنا من عدم ابتلاء المكلّف بتمام أطراف الشبهة ، وليس في ذلك تأييد لما ذكره ، وإلاّ لكان الموارد التي لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب أحد الأطراف عقلا أيضا مؤيّدا له.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التفصيل المذكور منه ممّا لم يسبقه إليه أحد ، ولا يكاد أن يلحقه فيه أيضا لأنّ بعد ما عرفت من أنّ الوجه في الحكم بالاجتناب هو تنجّز الخطاب الواقعي ، فبعد تحقّق المناط لا وجه للتفصيل المذكور ، وسيأتي لذلك زيادة تحقيق وبحث (2).

ويتفرّع على ذلك فروع :

منها : عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة فإنّ الأطراف التي ليست بمحلّ الابتلاء من المكلّف لا يكون الخطاب منجّزا بالنسبة إليها ولو بواسطة استهجان وركاكة لا يخفى على من مارس أنواع الكلام وضروب المقام كما ستطّلع عليه بعيد ذلك.

ومنها : ما لو وقعت نجاسة من الميزاب مثلا في أحد الإناءين اللذين كان أحدهما قبل ذلك نجسا قطعا وشكّ في وقوعها في الإناء الطاهر أو النجس بعد (3) العلم بعدم

ص: 473


1- الحدائق 1 : 517 وتقدّم عنه وعن المدارك في ص 45.
2- سيأتي في التنبيه السادس ص 481.
3- « س » : بعدم.

خروجها منهما فإنّه لا يحكم بلزوم الاجتناب عن الإناء الطاهر سابقا لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى حدوث تكليف آخر غير ما كان مكلّفا به ابتداء لأنّ المفروض أنّ الإناء النجس إنّما هو معلوم النجاسة ، فليس هو بمحلّ الاحتياج من المكلّف.

نعم ، لو كان تلك النجاسة الواقعة المردّدة ممّا يختلف حكمها حكم النجاسة الأولى كأن كانت الثانية ولوغ الكلب مثلا والأولى غيره ممّا لا يحتاج إلى استعمال الطين والتراب مثلا.

فالتحقيق أنّه ملحق بالشبهة المحصورة في لزوم الاجتناب لأنّ المعلوم السابق ممّا لا أثر له في المعلوم اللاحق لاختلاف أحكامهما ، وكذا لو كان أحد الأطراف معلوم الحرمة من جهة ، ثمّ طرأت الحرمة من جهة أخرى كأن كان مغصوبا فصار نجسا فإنّ لكلّ واحد من الاعتبارين حكما يلحق به من غير إشكال.

وقد يتراءى في بعض الأنظار أنّه ما لو صار أحد الأطراف المعلوم بالإجمال معلوما تفصيليا كأن يكون معلوم النجاسة إجمالا ، ثمّ علم بنجاسة أحد الأطراف تفصيلا أيضا ، فلا يجب الاجتناب.

وليس بشيء ؛ لعدم الارتباط بين الجهتين ، فإنّ المناط في عدم وجوب الاجتناب رجوع الشكّ إلى الشكّ البدوي المعمول فيه البراءة ، ولا دخل للجهة التفصيلية اللاحقة بالجهة الإجمالية ، فيلحق بكلّ (1) واحد منهما حكمهما على ما هو ظاهر لا سترة عليه.

ومنها : أنّه لو تعذّر ارتكاب أحد الأطراف كما إذا أريق أحد الإناءين على الأرض فإن كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب لرجوع الشكّ في الباقي إلى الشكّ البدوي ، لاحتمال أن يكون الخمر الواقعي هو المتعذّر ، فيقبح التكليف وإن كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر ، ففي إلحاقه بالشبهة

ص: 474


1- « م » : لكلّ.

المحصورة لأنّ التالف بمنزلة المتروك امتثالا ، وعدمه نظرا إلى رجوع الشبهة وانقلابها إلى الشبهة البدوية ولا مدخلية لحصول العلم قبل التعذّر وبعده ، وجهان :

أقربهما : الأوّل كما أفاده الأستاذ دام علاه ولعلّ وجهه أنّ البناء على مثل ذلك في الحكم بعدم وجوب الاجتناب يوجب هدم أساس القول به إذ بعد الامتثال بترك واحد من الأطراف في المقام أو بفعله في نظيره ينقلب الشبهة بالنسبة إلى الباقي شبهة بدوية ، والمفروض أنّ العقل حكم بلزوم الاجتناب عن الجميع أوّلا ، وأمّا الحكم بعدم وجوب الاجتناب فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد التعذّر ، فلأنّ العقل لا حكم له قبل العلم وبعده فالشبهة بدوية.

وكيف كان ، فلا بدّ من التأمّل التامّ في أمثال المقام كي لا يشتبه عليك المرام فإنّ الكلام متشابه الأطراف ، ولعلّك بعد التأمّل فيما تقدّم في الشبهة الوجوبية الموضوعية - من التفصيل بين ما لو كان التعذّر عقليا ، أو غير ذلك - تقدر على جريانه فيما نحن بصدده وإن كان ذلك ممّا لا يخلو عن شيء لا يخفى وجهه ، وكان ذلك هو الوجه في عدم تعرّض الأستاذ دامت إفاداته له في المقام ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، وله الشكر على ما أنعمنا من نعمه المتوالية ، وآلائه المتواترة.

الرابع :

قد عرفت فيما سبق أنّ الوجه في اختيارنا لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة هو بقاء أدلّة الواقع بحالها وعدم التصرّف بتقييد وتخصيص فيها والحكم بوجوب الامتثال عند العلم بوجود المكلّف به يترك (1) الكلّ نظرا إلى وجوب مقدّمة الواجب فلا بدّ فيه من الاقتصار على ما يقتضيه قاعدة المقدّمية ، ولا شكّ أنّ قضية المقدّمية لا تزيد على تسرية الحكم التكليفي وهو وجوب الاجتناب.

وأمّا الحكم الوضعي ، فلا مدخل للمقدّمية فيه ، مثلا لو أمر المولى بإكرام العالم

ص: 475


1- « م » : بترك.

واشتبه بين أشخاص محصورة فإنّ وجوب إكرام العالم يقضي (1) بوجوب إكرام الأفراد المشتبهة ، ولا يقضي بأن يكون تلك الأفراد عالمين كما لا يخفى ، وكذا وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي (2) يوجب الاجتناب (3) عمّا اشتبه به الخمر ، ولا يدلّ على خمرية الأفراد المشتبهة ، وهكذا وجوب الاجتناب عن النجس لا يقضي بنجاسة الأفراد المشتبهة ، وإنّما يوجب وجوب الاجتناب عنها ، فعلى ما ذكرنا يظهر غاية الظهور عدم نجاسة الملاقي بأحد (4) الإناءين المشتبهين فإنّ غاية الأمر وجوب الاجتناب وهو حكم تكليفي لا دخل فيه بالنجاسة التي هي من الأحكام الوضعية ، ونجاسة الملاقي إنّما تترتّب على نجاسة الإناءين لا على وجوب الاجتناب عنهما.

وقد يظهر من المحدّث البحراني (5) القول بنجاسة الملاقي تبعا لما يظهر من كلام العلاّمة (6) في بعض كتبه استنادا إلى ظواهر الأخبار الآمرة بالإهراق في الإناءين نظرا إلى دعوى استفادة نجاسة كلّ منهما من الأمر بالإهراق مع إمكان صحّة الوضوء كأن يتوضّأ أوّلا من أحدهما ، ثمّ يطهّر محالّ الوضوء فيتوضّأ ثانيا من الآخر ، ثمّ يطهّر ثانيا ، فيصلّي فإنّ أحد الوضوءين في الصورة المفروضة يقع صحيحا بلا إشكال ، فالأمر بالإهراق لا يتمّ إلاّ على القول بنجاسة الجميع عند الاشتباه.

مضافا إلى أنّ الملاقي إنّما هو بمنزلة الملاقى ، فلو انضمّ إلى الأصلين كانت الشبهة مردّدة بين ثلاثة فهو كأحد أطراف الشبهة ؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو موجود بين الثلاثة ، غاية الأمر أنّ أحدها يتبع الآخر في الحكم بلزوم الاجتناب.

وكلا الوجهين ضعيف :

ص: 476


1- « ج » : يقتضي وكذا في الموردين الآتيين.
2- « ج ، م » : الحقيقي.
3- « س » : اجتناب الاجتناب!
4- « ج » : لأحد.
5- الحدائق 1 : 514 - 515 ونقل البحراني كلام العلاّمة في ص 512.
6- منتهى المطلب 1 : 178 ، وفي ط الحجري 1 : 30 وعنه في رسائل الكركى 2 : 60 ومدارك الأحكام 1 : 108 ومشارق الشموس : 282 وكتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 1 : 283.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الأمر بالإهراق في الرواية لا يستفاد منه سوى وجوب الاجتناب ، ودعوى استفادة الحكم الوضعي منه ممنوعة ، وحديث صحّة الوضوء - على تقدير الطهارة - في محلّه ، ولم يدلّ دليل على فساده ، فلا دلالة في الإهراق على النجاسة.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم بلزوم الاجتناب من الأطراف إنّما كان بواسطة الأدلّة الواقعية مع عدم أصل موضوعي يستعلم منه حال الموضوع كاستصحاب الطهارة ، أو طريق يتوصّل به إلى الواقع كالبيّنة والقرعة ونحوها ، وأمّا فيما كان هناك أصل موضوعي يعلم منه حال المشتبه ، فلا يجب الاجتناب كما في الملاقي فإنّ أصالة الطهارة واستصحابها جارية من غير أن يعارضها شيء ، ولا ضير في التمسّك بالأصل في قبال الأدلّة الواقعية لعدم منافاتها له فإنّها تحكم (1) بوجوب الاجتناب عن النجس ، ولا دخل لها في الموضوع ، والاستصحاب حاكم بأنّ هذا الموضوع ليس نجسا كالقرعة ، والبيّنة على ما عرفت - من أنّ أدلّة الطرق (2) الظاهرية - لا تعارض (3) الأدلّة الواقعية بل تؤكّدها (4).

فإن قلت : إنّ أصالة طهارة الطرف الآخر كما يعارض أصالة الطهارة في نفس الملاقى كذا يعارضها (5) في الملاقي أيضا ، فلا يجري استصحاب الطهارة ولا أصالة الطهارة.

قلت : قد قرّر في مقامه من أنّ الأصلين إذا تعارضا إنّما يحكم (6) بتساقطهما ، ولا بدّ من الرجوع إلى أصل ثالث وإن كان الأصل الثالث ممّا لا يجري عند جريان الأصلين

ص: 477


1- في النسخ : يحكم.
2- المثبت من « س » و « خ ل » بهامش « م » وفي « م ، ج » : الطريق.
3- في النسخ : يعارض.
4- في النسخ : يؤكّدها.
5- « م » : يعارض بها.
6- « س » : نحكم.

إذ المانع من جريان الثالث جريانهما (1) وبعد سقوطهما (2) فيجري من غير مانع كما في المقام فإنّ أصالة طهارة الملاقي لو كانت جارية ، فلا مجرى لأصالة الطهارة في الملاقى لكونها مزيلة بالنسبة إليها لاستناد الشكّ في طهارة الملاقى (3) إلى الشكّ في طهارة الملاقي وبعد استصحاب طهارة الملاقي ، فلا حاجة إلى استصحاب طهارة الملاقى فإنّ طهارته من آثار طهارة الملاقي و (4) أحكامه ، وبعد ما فرضنا من معارضة أصالة الطهارة في الطرف الآخر بأصالة الطهارة في الملاقى وسقوطهما لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الثالث الذي يجري مع عدم جريان الأصل الموضوعي وهو استصحاب الطهارة في التابع والملاقي ، ولا يعقل معارضته للأصل في التابع إذ المفروض سقوطه بأصالة الطهارة في المتبوع والملاقى ، فالأصل في التابع وهو الملاقي جار بلا معارض ، فلا بدّ من العمل به ، والأخذ بمدلوله.

وأمّا القول (5) بأنّ الملاقي كأحد أطراف الشبهة ، فليس على إطلاقه فإنّه تابع لأحد أطراف الشبهة لا أنّه أحد الأطراف كما لا يخفى فإنّه منه سرى الوهم.

ثمّ إنّ هذا ليس من قبيل ترجيح الأصل في جانب المتبوع على الأصل في الطرف الآخر بتعاضده (6) بالأصل في التابع كما قد يتوهّم حيث إنّ تعاضد أحد الأصلين للآخر فرع جريانهما ، والمفروض أنّ التابع لا مجرى (7) له مع جريان المتبوع لكونه دليلا اجتهاديا بالنسبة إليه وبدونه لا تعاضد في البين لسقوطه عن أصل ، وذلك بخلاف الأدلّة الاجتهادية كما ستعرف الكلام فيها إن شاء اللّه.

فظهر من جميع ما مرّ أنّ طهارة الملاقي ما تقضي (8) بها القواعد لكن ينبغي أن يعلم

ص: 478


1- « س ، م » : جريانه.
2- في النسخ : سقوطه.
3- سقط قوله : « لو كانت جارية » إلى هنا من نسخة « س ».
4- « ج ، م » : أو.
5- أي قول المحدّث البحراني كما تقدّم.
6- « س » : متعاضدة!
7- « م » : لا محلّ.
8- « ج ، م » : يقضي.

أنّ عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي إنّما هو فيما (1) إذا كان الملاقي لواحد من الأطراف ، وأمّا لو لاقى بشيء واحد كلّ واحد منها (2) ، فلا شكّ في نجاسته تفصيلا لكن فيما لم يحصل التطهير بالآخر ، فتدبّر.

وأمّا لو تعدّد الملاقي بحسب تعدّد الأطراف ، فالحكم في الملاقيات كالحكم في نفس الأطراف لحصول العلم الإجمالي بنجاسة أحدها ، غاية الأمر أنّها تابعة لنجاسة الأطراف ، ويلحق كلّ منهما حكمهما من لزوم الاجتناب ، ولو نقص أحد الأطراف مع بقاء ملاقيه ، فهل يحكم بطهارة الملاقي والطرف الآخر ، أو لا؟ فيه تفصيل بين حصول العلم الإجمالي قبل النقصان والتعذّر ، وبين حصوله بعد التعذّر.

فعلى الأوّل يحكم بالطهارة في الملاقي ولزوم الاجتناب عن الطرف الآخر إذ المفروض أنّ الاستصحاب قضى بطهارة الملاقي قبل التعذّر والعلم (3) الإجمالي الدائر بين الطرفين بنجاسة الطرف الآخر ، وتعذّر الملاقي بعد الحكم بالطهارة الشرعية لا يجدي في الحكم بنجاسة الملاقي وطهارة الطرف الآخر لقيام دليل شرعي على الطهارة في الملاقي والنجاسة في الطرف الآخر.

وعلى الثاني يحكم بنجاسة الملاقي ونجاسة الطرف الآخر لحصول العلم الإجمالي بين هذا الملاقي ونفس الطرف الآخر بأنّ أحدهما نجس في الواقع ، ولا بدّ من الاجتناب والمفروض عدم قيام دليل شرعي على طهارة الملاقي لتعارض أصالة الطهارة في الطرف الآخر بأصالة الطهارة في الملاقى حيث إنّ الملاقي بعد لا محلّ له يجري فيه أصالة الطهارة حتّى يكون معارضا بالأصل في الطرف الآخر ، وحيث قد علمت أنّ المعيار في الحكم بالطهارة هو عدم معارضة أصل آخر لأصالة الطهارة يظهر الوجه في الحكم بنجاسة الملاقي فيما لو حصل العلم بعد التعذّر ، فتدبّر.

ص: 479


1- « س » : - فيما.
2- « س » : منهما.
3- « ج » : التعذّر لعلم؟
الخامس :

هل الحكم بوجوب الاجتناب يخصّ ما إذا اجتمعت أطراف الشبهة في الوجود أو يعمّها ، وما إذا اندرجت (1) فيه كأن يعلم بأنّ أحد الأيّام من الأسبوع الخاصّ في الشهر المخصوص يحرم عليه المسافرة أو الصيام؟ وجهان : أقواهما الثاني لكن حيث يكون المكلّف بمحلّ الابتلاء منه على وجه يصحّ التكليف به من غير تعليق كما مرّ كأن يكون مريدا لصوم ذلك الأسبوع فإنّ المدرك في هذا الحكم هو استقلال العقل بعد العلم بالتكليف على تحصيل الامتثال والفراغ عن عهدته ، والعقل لا يفرق بين أن يكون الأطراف مجتمعة في الوجود - كما في الإناءين أو الدراهم المعلوم غصبية أحدها - أو متدرّجة كما فيما إذا علم بحرمة واحد من أفاعيله الواقعة في برهة من الزمان المعلوم مع كون الفاعل في صدد فعلها.

ومن هنا قد أفتى الشيخ في محكيّ النهاية (2) بوجوب الاحتياط على امرأة تعلم باستمرار دمها في شهر أو شهرين مع علمها بأنّ بعضا منه أيّام أقرائه وحيضه من تركها ما يحرم على الحائض وإتيانها بما يجب عليها.

وربّما يتوهّم بأنّ الحكم بالاحتياط لا يبتني على لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة نظرا إلى وجود أصل موضوعي في المقام في تمام الشهر وهو استصحاب الطهر إلى أن يبلغ عشرين يوما مع أنّه لا معارض له وأصالة الإباحة في العشرة الأخيرة لاحتمال أن يكون العشرة الأولى أو المتوسّطة أو الملفّقة حيضا ، ولا معارض لها أيضا إلاّ أن يكون استصحاب الطهر مثبتا لكون العشرة الأخيرة حيضا.

ص: 480


1- « س » : وبين ما إذا تدرّجت.
2- النهاية : 24 حيث قال : فإن كانت المرأة مبتدأة في الحيض ولم يمكنها تميز دم الحيض من غيره واستمرّ بها الدم فلترجع إلى عادة نسائها في أيّام الحيض وتعمل عليها فإن كنّ نساءها مختلفات العادة أو لا يكون لها نساء فلتترك الصلاة والصوم في كلّ شهر سبعة أيّام وتصلّي وتصوم ما بقي.

ولكنّك خبير بانقطاع الأصلين بالعلم الإجمالي بأنّ عشرة من الشهر أيّام حيضها ، فيرجع الحكم بالاحتياط إلى الشبهة المحصورة ، فتدبّر.

السادس :

قد تقدّم (1) أنّ المحدّث البحراني قد أجاب عمّا أورده صاحب المدارك على المشهور من حكمهم بوجوب الاجتناب (2) في الشبهة المحصورة مع عدم وجوبه فيما إذا علمنا بوقوع النجاسة إمّا على الأرض أو خارج الإناء أو في الإناء (3) مع أنّ المفروض منها باختلاف جنس أطراف الشبهة ، وقد عرفت أيضا عدم استقامته إلاّ أنّه ربّما يتراءى في جليل النظر من الفرق بين المختلفين اللذين يجمعهما (4) عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة الشرعية كالإناءين المشتبهين أو الأرض والإناء المردّد وقوع النجاسة في أحدهما ، فإنّه يجمعهما عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة الشرعية وهو لزوم الاجتناب عن النجس ، وبين المختلفين اللذين لا يجمعهما عنوان تفصيلي شرعي كما إذا علم إمّا بأنّ زوجته مرضعة له أو أنّ الإناء الفلاني نجس ، أو علم بأنّ إمّا داره غصب أو زوجته مرضعة ، فإنّ في الأدلّة الشرعية ليس ما يجمعهما فيقال بلزوم الاجتناب في الأوّل وعدمه في الثاني نظرا إلى لزوم المخالفة في الأوّل دون الثاني ؛ إذ المفروض عدم وجوب خطاب تفصيلي يجمعهما (5) حتّى يلزم من عدم الاجتناب مخالفته ولا يلزم مخالفة الخطابين المخصوصين لكلّ واحد منهما لكون كلّ واحد منهما مشكوكا تفصيلا ، وأحدهما أيضا ليس من العناوين الشرعية ، فارتكاب كلّ واحد من أطراف الشبهة ممّا لا غبار عليه.

لكن النظر الدقيق لا يفرق بين المقامين لاستقلال العقل بحرمة المخالفة وصدق

ص: 481


1- تقدّم في التنبيه الثالث في ص 472.
2- « ج » : الاحتياط.
3- « س » : - أو في الإناء.
4- « س » : يجتمعهما.
5- « ج ، م » : يجمعها!

المخالفة فيما لو ارتكب كلاّ من طرفي الشبهة بأن يشرب الإناء ويتصرّف في الدار على الوجه المذكور ممّا لا يدانيه ريبة فلا فرق في نظر العقل بين أن يكون أطراف الشبهة متجانسة كما زعمه المحدّث البحراني أو مجتمعة في عنوان تفصيلي كما قد يتراءى في جليل النظر أو غيرها.

نعم ، لا يبعد دعوى القول بالتفصيل في الصورة المفروضة بين ما يقع من المكلّف مقصودا وبين ما لا يقع مقصودا ، كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّ ذلك أيضا ممّا لا يتمّ إلاّ بعد التقييد في دليل الواقع وبعد ذلك فلا فرق بين المقصود وغيره ، فليتأمّل في المقام.

السابع :

قد يتوهّم في المقام معاضدة استصحاب الحرمة فيما لو كانت الحالة السابقة هي الحرمة للقول بحرمة الارتكاب بل قد يجعل دليلا له بإتمام المطلوب بدعوى الإجماع المركّب ، وقد يعارض باستصحاب الحلّ فيما كانت الحالة السابقة هو الحلّ بدعوى الإجماع أيضا.

ولا عبرة بشيء منهما فإنّ التحقيق عدم اعتبار الحالة السابقة في موارد (1) الشبهة المحصورة سواء كانت الحرمة أو الحلّ لانقطاع الحالة السابقة بالعلم الإجمالي.

مضافا إلى أنّ الحرمة المعلومة في السابق غير الحرمة (2) التي يدّعي القائل بالتحريم ثبوتها لأنّ الحرمة هذه مقدّمية عقلية ، والحرمة السابقة نفسية شرعية وهي قد انقطعت ولا يجدي في إثبات الحرمة المقدّمية كما لا يخفى.

وبالجملة ، ففي موارد الشبهة إمّا أن نعلم بالحالة السابقة في كلا الطرفين ، وإمّا أن لا نعلم بها فيهما ، أو نعلم بأحدهما دون الآخر موافقا أو مخالفا ، ولا عبرة بشيء منهما إذ المفروض علمنا بطهارة الإناءين في المثال المشهور ونجاسة الآخر ، ولا فرق في ذلك

ص: 482


1- « س » : « فموارد » بدل : « في موارد ».
2- « س » : - الحرمة.

بين أن نعلم بنجاستهما أو بطهارتهما ، أو لا نعلم بشيء منهما (1) ، أو بطهارة الأوّل دون الثاني كما لا يخفى.

الثامن :

إذا اشتبه أحد الأطراف بسلسلة أخرى ، ثمّ منها إلى غيرها ، فعلى ما اخترناه يجب الاجتناب عنها أيضا للعلم بوجوب الاجتناب عن أحد الأطراف في جميع السلاسل ولو كانت متصاعدة إجمالا لكن ينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو انتهت إلى الشبهة الغير المحصورة في كلّ السلاسل ، أو في مجموعها ، فتدبّر.

التاسع :

لو اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب أحد الأطراف ، فهل يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا ، أو لا (2) ، أو يفصّل بين موارد الأدلّة ، أو بين حصول العلم الإجمالي بعد الاضطرار ، أو قبله وجوه.

والتحقيق أن يقال : إنّ الدليل الدالّ على جواز الارتكاب قد يفيد حلّية المحرّم الواقعي في غير موضوع الاضطرار ، فلا يجب الاجتناب عن الباقي ، وقد يفيد جواز الارتكاب مع قطع النظر عن وروده على الأدلّة الواقعية بارتكاب تقييد فيها ، فيجب الاجتناب عن الباقي.

أمّا الأوّل ، فلرجوع الشبهة فيه إلى الشبهة البدوية إذ بعد احتمال حلّية المضطرّ عن أصله ينقلب الشكّ بدويا صرفا كما في صورة الامتناع.

وأمّا الثاني ، فلأنّ قضية الجمع بين الدليلين هو القول ببدلية الباقي عن الواقع من غير تقييد في الأدلّة الواقعية.

وأمّا لو شكّ في إفادة الدليل هل هي على الوجه الأوّل ، أو على الأخير ، ففيه

ص: 483


1- سقط قوله : « إذ المفروض » إلى هنا من نسخة « س ».
2- « س » : - أو لا.

إشكال من أنّ الشكّ مرجعه إلى الشكّ في نفس بعد الشكّ في كون الدليل على وجه يجب معه الاجتناب ومن لزوم الاجتناب نظرا إلى عدم العلم بالبراءة إلاّ به (1) ، ولعلّ الأوّل أقوى.

العاشر :

لو حدث حادث في أحد الأطراف على وجه يطهر النجس الواقعي لو صادفه واقعا ، فهل يجب الاجتناب ، أو لا؟ قد يظهر في النظر القول بعدم وجوب الاجتناب لارتفاع العلم الإجمالي إلاّ أنّ التأمّل قد يقضي بلزوم الاجتناب استصحابا للنجاسة (2) اليقينية من غير معارض ، فتدبّر.

الحادي عشر :

قد عرفت في أوائل (3) الأصل ، هذا انقسام الشبهة التحريمية الموضوعية في الشكّ في المكلّف به عند دوران الأمر بين المتباينين إلى المحصورة وقد مضى (4) تحقيق القول فيها بما لا مزيد عليه ، وإلى غيرها ، وتوضيح الحال فيها في مقامات :

ص: 484


1- « م » : « الذمّة » بدل : « إلاّ به ».
2- « س » : استصحاب النجاسة.
3- « ج » : أوّل.
4- « ج » : وقد عرفت معنى.
المقام الأوّل

في بيان موضوعها ، فقد وكلها جماعة ممّن حام حولها إلى العرف.

وهو كما ترى لا يجدي (1) شيئا كما في غيرها ممّا يرجع إليه لاشتباه كثير من أهله في كثير من مواردها ؛ إذ المقصود بالتميز بيان حقيقتها على وجه يستعلم منه الأفراد المشكوكة فإنّ الأفراد الظاهرة لا حاجة فيها إلى التميز كما في عكسها.

وقد يظهر من غير واحد منهم بأنّ غير المحصورة ما يوجب العسر في اجتنابها ؛ فإن أرادوا بيان مفهومها وكشف القناع عن حقيقتها ، فظاهر السقوط لعدم مدخلية العسر في ماهيّة الغير المحصورة ، وإن أرادوا التفسير باللازم كما هو الظاهر فلا يستقيم طردا وعكسا ؛ لانتقاضها (2) بالمحصورة فيما لو استلزم العسر ، وبغيرها فيما لم يستلزمه ولو لغالب أفراد النوع في غالب أحوالهم.

وقرّرها ثاني المحقّقين والشهيدين وجماعة ممّن تأخّر عنهم (3) بأنّها ما يوجب العسر

ص: 485


1- « ج » : قد يجدي!
2- « م » : لانتقاضهما. « ج » : لاتنهاضهما.
3- قال الشهيد الثاني في روض الجنان فى شرح ارشاد الأذهان 2 : 599 وفي ط الحجري 224 : وإنّما يجب اجتناب المشتبهة بالنجس ( في ) الموضع ( المحصور ) عادة كالبيت والبيتين ( دون غيره ) ، أي غير المحصور عادة كالصحراء فإنّ حكم الاشتباه فيه ساقط لما في وجوب اجتناب الجميع من المشقّة. وإنّما اعتبرنا في الحصر وعدمه المتعارف في العادة لعدم معهود له شرعا فيرجع فيه إلى العرف لتقدّمه على اللغة ، ولأنّ الأعداد الموجودة في الخارج منحصرة لغة وإن تضاعفت أضعافا كثيرة مع عدم وجوب اجتناب جميع ذلك إجماعا ، وهذا الحكم ، أعني وجوب اجتناب المحصور دون غيره ، آت في كثير من أبواب الفقه ، كالمياه والمكان واللباس ، والمحرم بالأجنبيّ في النظر والنكاح ، والمذكّى من الحيوان بغيره وغير ذلك. والمرجع في ذلك كلّه إلى العرف ، وما حصل فيه الاشتباه بعد الاعتبار يرجع فيه إلى الأصل إلى أن يعلم الناقل عنه. قال المحقّق الكركي في جامع المقاصد في شرح القواعد 2 : 166 - في شرح قول العلاّمة : ويجتنب كلّ موضع فيه اشتباه بالنجس إن كان محصورا كالبيت ، وإلاّ فلا - : لمّا كان المشتبه بالنجس قد امتنع التمسّك فيه بأصل الطهارة للقطع بحصول النجاسة في أحد المشتبهين الناقل عن حكم الأصل كان للمشتبه بالنجس حكم النجس ... هذا إذا كان محصورا في العادة كالبيت والبيتين ، أمّا ما لا يعدّ محصورا كالصحراء فإنّ حكم الاشتباه فيه ساقط ، والظاهر أنّه اتّفاقي لما في وجوب اجتناب الجميع من المشقّة. قال المحقّق الكركي أيضا في حاشية شرائع الاسلام المطبوع في حياة الكركى وآثاره 10 : 141 عند قول المحقّق : ( وإذا كانت النجاسة في موضع محصور كالبيت وشبهه ... ) : المراد بالمحصور وغير المحصور ما كان كذلك في العادة ؛ لأنّ الحقيقة العرفية مقدّمة على اللغوية عند فقد الشرعية ، ولأنّه لو لا إرادة العرفية هنا ، لامتنع تحقّق الحكم ، فإنّ كلّ ما وجد من المعدودات فهو قابل للعدد [ للعدّ ظ ] والحصر ، والمراد به ما تعسّر حصره وعدّه عرفا باعتبار كثرة آحاده. وطريق ضبطه وضبط أمثاله أنّك إذا أخذت مرتبة من مراتب العدد عليا تقطع بأنّها ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة ؛ لعسر ذلك في الزمان القصير كالألف مثلا تجعلها طرفا ، ثمّ تأخذ مرتبة أخرى دنيا كالثلاثة ممّا تقطع بكونها محصورة ومعدودة ؛ لسهولة عدّها في الزمان القصير فتجعلها طرفا مقابلا للأوّل ، ثمّ تنظر فيما بينهما من الوسائط ، فكلّ ما جرى مجرى الطرف الأوّل تلحقه به ، وما جرى مجرى الطرف الثاني تلحقه به ، وما وقع فيه الشكّ يعرض على القوانين والنظائر ويراجع فيه القلب [ كذا ] ، فإنّ غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين فذلك ، وإلاّ عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم الناقل. وهذا ضابط لما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة والنكاح غيرهما ، فمتى اشتبه المذكّى بغيره ، والطاهر بالنجس في الثياب والمكان والأواني والمياه وغير ذلك ، والمحرم بالأجنبيات وكان غير محصور لم يجب الاجتناب ، وإلاّ وجب. قال الفاضل الهندي في كشف اللثام عن قواعد الأحكام 3 : 348 - 349 : ( ويجتنب ) السجود على ( كلّ موضع فيه اشتباه بالنجس ) ... وإنّما يرشد إليه ما ورد في الماءين المشتبهين ، والحلال المشتبه بالحرام ، وإنّما يجتنب ( إن كان محصورا ) عرفا ( كالبيت ) والدار ( وإلاّ ) كالبلد ( فلا ) للحرج والأداء إلى الترك. ولعلّ الضابط أنّ ما يؤدّي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور ، كما أنّ اجتناب شاة أو مرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدّي إلى الترك غالبا.

ص: 486

في عدّها من حيث كثرة أطراف الشبهة بمعنى أنّ القضايا المنتزعة عن أطراف الشبهة على سبيل منع الخلوّ تبلغ في الكثرة حدّا يوجب العسر لو أريد تحديدها من حيث تعيين المشتبه ، وأمّا لو تعلّق بالإعداد والتحديد غرض آخر غير تعيين المشتبه ، فقد لا يكون العدّ عسرا كما لا يخفى لاختلاف العسر واليسر باختلاف وقوع الفعل على الوجوه المتكثّرة.

وينبغي أن يراد من الكثرة كثرة أطراف الشبهة لا كثرة المشتبهات ليدخل في المحصورة ويخرج عنها ما لو قلّت أطراف الشبهة وإن كثرت المشتبهات كما في شبهة الكثير في الكثير فإنّه لو اشتبهت ألف دراهم بعشرة آلاف دراهم ، فإنّ المشتبهات كثيرة يوجب إحصاؤها عسرا إلاّ أنّ أطراف الشبهة عشرة بعد إسقاط المكرّرات وعدم اعتبار الصور المتداخلة.

ثمّ إنّ المراد بأطراف الشبهة أيضا ما يكون في العرف والعادة متعارفا جعلها أطراف الشبهة فإنّ الحبّة الواحدة من السمسم وما يشابهه في الصغر لا يكون من أطراف الشبهة (1) عندهم فيما لو اشتبه واحدة بمنّ منه بل أطراف (2) الشبهة في أمثاله ما هو المتعارف في استعمالاته من القبضات ونحوها كما لا يخفى ، ومع ذلك كلّه فلا يجدي شيئا كما يظهر من الضابطة التي قرّرها في المقام ، حيث جزم بكون الألف من غير المحصورة قطعا ، وأحال الأمر إلى ما يقتضيه الأدلّة عند الشكّ ، فإنّ المقصود على ما عرفت إقعاد قاعدة يتميّز بها صور الشكّ على ما هو ظاهر لا سترة عليه (3) ، وبعد الرجوع إلى الأدلّة فلا جدوى في القاعدة.

ص: 487


1- « س » : - الشبهة.
2- « م » : الأطراف!
3- « ج ، م » : - عليه.

وحيث إنّ بيان الموضوعات فيما لم يكن في عنوان الأدلّة الشرعية كما (1) في ألفاظ الكتاب والسنّة أو موردا لنقل الإجماع أو معقدا للإجماع ممّا لا يترتّب عليه كثير فائدة ، فلا وجه للإطناب في المقام بإيراد النقوض والإبرام ؛ لعدم ورود هذا اللفظ في عنوان دليل ، إلاّ أن يقال : إنّ المحقّق الثاني بعد ما فسّرها بما مرّ ادّعى الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عنه (2) ، فلعلّ (3) مورد نقله الإجماع هو ما فسّرها ، وهو كما ترى.

المقام الثاني

في أنّه هل يجب الموافقة القطعية فيها ، أو لا؟ الحقّ عدم الوجوب ؛ للأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.

أمّا الأوّل ، فالآيات الدالّة على عدم جعل الحرج في الدين ، والتقريب بوجهين :

ص: 488


1- « م » : + هو.
2- تقدّم نصّ عبارة المحقّق الكركي في التعليقة السابقة ، قال المحدّث البحراني في الحدائق 5 : 281 : قال المحقّق الشيخ حسن في المعالم : وإذا علمت الملاقاة على الوجه المؤثّر واشتبه محلّها فإن كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كلّ واحد من الأجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة لا نعرف في ذلك خلافا ، وإن كان محصورا فظاهر جماعة من الأصحاب أنّه لا خلاف حينئذ في وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه كما مرّ في اشتباه الإناء من الماء الطاهر بالنجس ، ولم يذكروا على الحكم هنا حجّة وقد بيّنّا في مسألة الإناءين أنّ العمدة في الحكم بوجوب اجتنابهما على الإجماع المدّعى هناك ، وأنّ ما عداه من الوجوه التي احتجّوا بها ضعيفة مدخولة ، ولعلّ اعتمادهم في الحكم هنا أيضا على الإجماع لا على تلك الوجوه. انتهى. أقول : أمّا ما ذكره بالنسبة إلى المحصور - من أنّه ظاهر جماعة من الأصحاب المؤذن بعدم الاتّفاق على ذلك - فهو مردود بأنّه لم يوجد المخالف في هذه المسألة بكلّ من طرفيها - أعني المحصور وغير المحصور - سواه ومن في طبقته ومن تأخّر عنه ، ولهذا أنّه في المدارك كما قدّمنا في عبارته قال : هذا الحكم إشارة إلى المحصور مقطوع به في كلام الأصحاب.
3- « ج » : فلعلّه.

الأوّل : أنّ الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة يلازم العسر في الأغلب للعلم الحاصل لأغلب أفراد النوع بأنّ أغلب الأجناس الموجودة عندهم والمستعملة لديهم - من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها ممّا يشتمل على فرد محرّم - على وجه لا ينفكّ في أغلب الأحوال الاحتراز عنها عن العسر والحرج والضيق.

والثاني : أنّ في ترك الأفراد المباحة الكثيرة والإلزام به مقدّمة لترك الحرام المشتبه بينها عسرا لا ينكره إلاّ المكابر ، ولهذا قد قلنا بأنّ الحرام المشتبه لو كان ممّا يعتدّ بشأنه عندنا ويهتمّ به كما لو كان النبيّ أو المعصوم مشتبها في جماعة غير محصورة يجوز قتلهم يجب الموافقة القطعية فإنّ الفعل يختلف عسرا ويسرا بحسب اختلاف وجوهه ووقوعه على عدّة وجوه كما لا يخفى هذا ، إلاّ أنّ التقريب الأوّل يتوقّف على مقدّمتين يتطرّق إليهما المنع :

إحداهما : هو لزوم العسر على الأغلب في أغلب الشبهات الغير المحصورة في أغلب الأحوال (1) كما هو المصرّح به في التقريب.

وثانيتهما (2) : الدليل الدالّ على ارتفاع العسر والحرج بهذه المثابة.

وكلتا المقدّمتين في محلّ من المنع.

أمّا الأولى ، فظاهرة.

وأمّا الثانية ، فالأدلّة الدالّة على ارتفاع العسر والحرج (3) عن هذه الأمّة المرحومة لا تخلو عن أقسام ثلاثة (4) :

أحدها : ما يدلّ على ارتفاع العسر عن الكلّ في الكلّ على وجه يكون المناط هو العسر الشخصي على كلّ شخص كما هو المستفاد من قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي

ص: 489


1- هنا في « س » زيادة ما يلي : كما هو المصرّح به في أغلب الأحوال!
2- « ج ، س » : ثانيهما.
3- سقط قوله : « بهذه المثابة » إلى هنا من نسخة « س ».
4- في النسخ : ثلاث.

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) فإنّ الظاهر المتبادر منه عدم جعل حكم يشتمل (2) على عسر على كلّ أحد في الدين ، وهذا هو المتيقّن من رفعه كما هو المعمول عند الفقهاء كما لا يخفى.

وثانيها : ما يدلّ على عدم جعل الحكم المشتمل على العسر في الأغلب على الكلّ كما هو المستفاد عن بعض أخبار الباب ، فإنّ جملة منها ظاهرة في أنّ الحكمة في جعل الحكم الفلاني على الكلّ اشتماله على العسر في الأغلب على الأغلب.

وهذا بعيد عن مظانّ كلماتهم ومطاوي استدلالاتهم ؛ فإنّ عملهم ليس على الحكم في الأحكام كما لا يخفى.

وثالثها : ما يدلّ على اشتمال الدين على الأحكام العسرة بمعنى أنّ مبنى الأمر في الدين على اليسر دون العسر كما يقال في العرف : إنّ رأي المجتهد الفلاني عسر ، ورأي الآخر فيه يسر ، ولا يراد به أنّ تمام أحكامه مشتمل على العسر ، ورأي غيره على اليسر ، بل المقصود أنّ مبنى أمر فتوى الأوّل على العسر ، والآخر على اليسر ، ولا ينافي أن يكون بعض أحكام الأوّل غير عسر ، وبعض الأحكام للثاني عسرا ، ولا ينافي ذلك يسره على البعض في الأوّل ، وعسره على البعض في الآخر كما هو مستفاد من قوله صلى اللّه عليه وآله : « بعثت على الملّة السمحة السهلة » (3) فإنّ الظاهر منه هو ما ذكرنا.

وهذا وإن كان بعيدا عن مساق كلامهم إلاّ أنّه قريب عن مساق تلك الأدلّة في حدود ذواتها فإنّها لكونها واردة في مقام الامتنان تنافي التخصيص لكونه أضحوكة عندهم في مقام الامتنان ، ولا سيّما فيما إذا تكثّر كما في المقام.

وبالجملة ، فالقدر المتيقّن من ارتفاع العسر والحرج إنّما هو على الوجه الأوّل على ما يساعد عليه كلمات الفقهاء أيضا ، واعتبار العسر النوعي إنّما يتوقّف على دليل

ص: 490


1- الحجّ : 78.
2- « ج » : يشمل.
3- الوسائل 1 : 210 ، باب 8 من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ح 3 ، وفيه : « فإن أحبّ دينكم إلى اللّه الحنيفية السمحة السهلة » وورد في النهاية لابن الأثير 1 : 434 : بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ».

خاصّ خارج كما ثبت في بعض المقامات ، ولا يكفي في إثباته الاستناد إلى أدلّة العسر ، فاحفظ ما ذكرنا واضبطه ، فلعلّه ينفعك في كثير.

و (1) أمّا الثاني ، فصنفان :

الأوّل : ما بخصوصه يدلّ على جواز الارتكاب في الشبهة الغير المحصورة كما عرفت (2) في خبر أبي الجارود في حديث الجبنّ وهو يشعر بما ذكرنا في تقريب الاستدلال بالآيات في الوجه الثاني كما لا يخفى.

والثاني : ما بعمومه وإطلاقه يدلّ على الجواز كقوله : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (3).

والتقريب أنّ الرواية المذكورة على ما مرّ غير مرّة محمولة على الشبهة البدوية وحيث إنّ الشبهات البدوية لا تنفكّ غالبا عن الشبهة الغير المحصورة ، فما (4) يدلّ على جواز الارتكاب فيها يدلّ على جواز الارتكاب فيها أيضا بالالتزام.

لا يقال : إنّ الإطلاق لا دخل له في هذه الجهة وإنّما هو منساق لبيان حكم الشبهة البدوية في حدّ ذاتها.

لأنّا نقول : قد قرّر في مباحث المطلق والمقيّد أنّ المطلق لو صادف في الأغلب شيئا آخر وحكم الإطلاق بحلّيته ، فلا بدّ من القول بتسرية الحكم إلى الآخر أيضا ، وإلاّ لانحصر مورد المطلق في النادر فتأمّل.

ثمّ إنّ ممّا قرّرنا يظهر الوجه في عدم الانتقاض بالشبهة المحصورة إذ (5) لا نقول بشمول الرواية بإطلاقها لغير المحصورة حتّى يتوجّه النقض بها كما لا يخفى.

وأمّا الثالث ، فقد نقل جملة من أعيان الفقه وأركان العلم الإجماع عليه ، مضافا إلى

ص: 491


1- « م » : - و.
2- عرفت في ص 465.
3- تقدّم في ص 359.
4- « ج » : فيما!
5- « س » : - إذ.

تحقّق الإجماع في الجملة في بعض الأقسام عندنا.

وأمّا الرابع ، فلأنّ المبنى في لزوم الاجتناب هو حكم العقل بلزوم دفع الضرر العقابي المحتمل في كلّ من الأطراف ، ونحن نشاهد عيانا ، ونعاين وجدانا عدم الاعتداد بهذا (1) الاحتمال في الشبهة الغير المحصورة على وجه يعدّ المجتنب عنها سفيها ، ومحلّ الاجتناب عنها ملحق بآراء أصحاب السوداء والجنون ، ومن العجب مساواة الاحتمال لكلّ واحد من الأطراف وإن لم يكن محصورا (2) ومع ذلك فلا يعتني (3) العقل بالاحتمال بمعنى أنّ العقل عند ملاحظة معارض آخر ولو في الجملة يحكم بتقديم معارضه عليه مع أنّ الضرر العقابي على ما عرفت في موضوع احتماله لا ينبغي أن يعارضه شيء ، فكيف بالتقديم عليه.

وبالجملة ، العقل لا يبالي من عدم الاجتناب فيما إذا تكثّرت أطراف الشبهة مع تساوي الاحتمال في الواقع بالنظر إلى كلّ واحد منها إلاّ أنّ النفس ربما (4) تحتال (5) في تحصيل الظنّ بالبعض ، ومنه يعلم وجه إلحاق المشكوك في الغلبة.

ثمّ إنّ من هنا يمكن استنباط مناط المقام وتحصيل معيار يعلم به المحصورة عن غيره كأن يقال : إنّ الغير المحصورة ما لا ينافي العقل بارتكابه بعد العلم بوقوع المحرّم فيها كما لا يخفى ، كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّه كغيره أيضا ممّا لا يجدي فائدة ؛ لعدم العلم في تمام الموارد ، فتدبّر.

ص: 492


1- « م » : وبهذا!
2- « س ، م » : محصورة.
3- « س » : فلا يفتي.
4- « س » : بما!
5- في النسخ : يحتال.
المقام الثالث

في أنّه هل يجوز المخالفة القطعية ، أو لا؟ فنقول : إنّ قضية الأدلّة القائلة بعدم وجوب الموافقة القطعية لا تزيد على مدلولها المذكور سيّما فيما لو كان مقصودا ابتداء فإنّ منها الأدلّة النافية للعسر ، وظاهر عدم انتهاضها على ارتكاب جميع أطراف الشبهة.

وأمّا الأخبار ، فالعامّة منها كقوله : « كلّ شيء يكون فيه حلال » (1) لا دلالة فيها على جواز المخالفة كما عرفت في الشبهة المحصورة لعدم مقاومتها لأدلّة (2) الواقع ، فإنّ العمدة في المقام كما عرفت في بعض الأمور المتقدّمة هو عدم وقوع تمام أطراف الشبهة في محلّ الابتلاء ، ولذلك يصير الدليل الدالّ على الحرمة مقيّدا لئلاّ يلزم الاستنكار العرفي ، وأمّا في محلّ الابتلاء ينجّز التكليف بالواقع ولا يجوز المخالفة.

وأمّا الأخبار الخاصّة كخبر أبي الجارود (3) ، فالظاهر أنّ دلالتها على جواز المخالفة ظاهرة.

وأمّا الإجماع ، فالحقّ عدم دلالته بوجه على جواز المخالفة فإنّ المجمعين على ما يظهر من مساق كلامهم في مقام بيان عدم وجوب الاجتناب كما في الشبهة المحصورة ، وأمّا جواز المخالفة فغير ظاهر كلامهم فيه ، ويرشدك إلى هذا عدم تعرّضهم لبيان الأحكام الوضعية المترتّبة على جواز المخالفة عند دعوى الإجماع على عدم لزوم الاجتناب من لزوم التطهير فيما إذا اشتمل على نجس ونحوه ، مع أنّ من المناسب ذكره في مثل المقام كما لا يخفى.

وأمّا العقل ، فهو يفصّل بين أن يكون بانيا على ارتكاب الجميع ابتداء فيحكم بعدم الجواز ، وبين ما يلزم منه المخالفة من غير قصد إلى ارتكاب الكلّ ، فلا يبالي بالمخالفة.

ص: 493


1- تقدّم في ص 359.
2- « ج » : للأدلّة!
3- تقدّم في ص 465.

كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّ قضية تنجّز التكليف بالواقع عدم جواز المخالفة مطلقا كما في الشبهة المحصورة ، والتفصيل المذكور لو تمّ ، فهو جار فيها أيضا إلاّ أن يقال بالفرق بينهما كما عرفت في بيان دلالة العقل على عدم وجوب الموافقة القطعية. هذا تمام الكلام في الشبهة الغير المحصورة التحريمية.

وأمّا الشبهة الغير المحصورة الوجوبية ، فيحتمل أن يقال بلزوم الإتيان بقدر المشتبهات من الأطراف الغير المحصورة على وجه لا يحصل له العلم بالمخالفة على حسب اختلاف كثرة المشتبهات وقلّتها ، فلو كانت خمسة مثلا ، يجب الإتيان بها ، أو العشرة يجب الإتيان بها ، ويحتمل أن يقال بلزوم الإتيان على قدر وسعه وطاقته بحيث لا ينجرّ إلى العسر والحرج بدعوى استقرار بناء العقلاء على ذلك ، فنهض (1) فارقا بين المقام وبين الشبهة التحريمية في الغير المحصورة حيث قد عرفت بعدم لزوم الاجتناب فيها.

كذا أفاد سلّمه اللّه ، وللمنع فيه مجال واسع ، لعدم الفرق بين المقامين في جليل النظر ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ الشبهة التحريمية لا تنفكّ (2) دائما عن احتمال الامتثال إلاّ عند استيعاب تمام الأطراف بالارتكاب بخلاف الشبهة الوجوبية حيث إنّ ترك الكلّ ممكن ، فيلزم المخالفة القطعية ، وقد مرّ أنّ (3) المخالفة القطعية في التحريمية أيضا إثبات جوازها ممّا دونها خرط القتاد ، فتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت فيما تقدّم في المقام الأوّل أنّ مقام الشكّ في انحصار الشبهة وعدم انحصارها لا بدّ من الرجوع إلى الاحتياط وقد يتوهّم الرجوع إلى البراءة عند الشكّ إلاّ أنّ عدم التخصيص في الأدلّة الواقعية يقضي (4) بلزوم الاحتياط كما تقدّم في كلام المحقّق الثاني.

ص: 494


1- « ج » : فينهض.
2- في النسخ : لا ينفكّ.
3- « ج » : « يكون » بدل : « مرّ أنّ »!
4- « ج » : تقتضي.

أصل [ في دوران الأمر بين الواجب والحرام من الشكّ في المكلّف به ]

في الشبهة الموضوعية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الواجب والحرام ، وملخّص القول في المقام هو لزوم فعل أحدهما دائما وترك الآخر كذلك فإنّه أسلم الوجوه المتصوّرة في المقام ؛ لاستلزام فعل الكلّ وتركهما موافقة قطعية مصاحبا مع مخالفته كذلك ، وترك أحدهما في البعض وفعل الآخر كذلك يوجب العلم بمخالفة واقعية في البعض بخلاف اختيار أحدهما دائما وترك الآخر كذلك ، لاحتمال الموافقة دائما مع عدم العلم بالمخالفة ولو في بعض الأوقات ، و (1) لا ريب في ترجيح العقل له على غيره من القسمين الآخرين عند الدوران بينهما.

وهذا ممّا لا يدانيه ريبة إلاّ أنّه لا بدّ من أن يعلم أنّ الحكم على الوجه المزبور إنّما يتمّ فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يشخّص الحلال من الحرام والواجب من غيره ، وأمّا عند إمكان التعيين بالأصل ، فلا ريب في الأخذ بمقتضاه كما أنّه لا ريب في أنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما لو لاحظنا مجرّد الوجوب والحرمة من غير ملاحظة أمر خارج عنهما كما إذا كان أحدهما متعدّدا فيما لم يكن الآخر بمكان من الأهمّية فإنّه يجب الأخذ بالمتعدّد حينئذ لأنّ تحصيل الامتثالين أولى بخلاف ما إذا كان الآخر أهمّ ، فيجب مراعاته وإن كان متّحدا.

ص: 495


1- « م » : - و.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما يتمّ فيما إذا كان المتعدّد معلوما من بين المشتبهات كأن يعلم إمّا بحرمة شرب هذين الإناءين أو وجوب شرب الإناء الآخر أو (1) بالعكس ، وأمّا إذا لم يعلم بالمتعدّد ، فلا فرق في ذلك أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا بدّ للفقيه من ملاحظة الموارد ، فربّ واجب يقدّم على الحرام وإن قلنا بأولوية دفع المضرّة عن جلب المنفعة ، وربّما ينعكس المطلوب ولو مع قطع النظر عن القاعدة المذكورة ، فلتكن (2) على خبر منه.

ص: 496


1- « ج » : و.
2- « ج ، م » : فليكن.

أصل [ في الشبهة الوجوبية الحكمية من الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المتباينين ]

اشارة

قد عرفت في أوّل البحث انقسام الشبهة إلى الشكّ في (1) التكليف ، والشكّ في المكلّف به ، وأنّ كلّ واحد منهما إمّا موضوعية ، وإمّا حكمية ، وقد فرغنا عن بيان أحكام الشبهات التكليفية موضوعية وحكمية ، وعن الشبهة (2) في المكلّف به في الشبهات الموضوعية على حسب اختلاف أقسامها ؛ من المتباينين وجوبية وتحريمية ، ودوران الأمر بين المحذورين ، وما (3) دار الأمر بين الأقلّ والأكثر.

بقي الكلام في الشبهة الحكمية عند الشكّ في المكلّف به ، فتارة يقع الكلام في المتباينين ، وأخرى في الأقلّ والأكثر ، وعلى الأوّل فتارة في الشبهة الوجوبية ، وأخرى في التحريمية ، ومرّة في دوران الأمر بين المحذورين.

والأصل هذا معقود لبيان الشبهة الوجوبية منها ، فتارة فيما إذا تعارض النصّان ، فتفصيل الكلام فيه في الخاتمة إن شاء اللّه ، وأخرى لفقد النصّ أو إجماله.

أمّا الكلام عند التعارض ، فمحصّله التخيير على ما سيجيء ، وأمّا عند فقد النصّ أو إجماله كما إذا علمنا بوجوب الظهر ، أو الجمعة إجمالا ولم نحقّق الواجب بالخصوص

ص: 497


1- « م » : - الشكّ في.
2- « م » : الشكّ.
3- « م » : « فيما » بدل : « وما ».

لعدم النصّ عليه ، أو لإجمال (1) فيه (2) ، فيقع الكلام فيه في مقامين (3) : فتارة في جواز المخالفة القطعية وعدمه ، وأخرى في وجوب الموافقة وعدمه.

الكلام فيها في مقامين : المقام الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فقد يظهر من المحقّق القمّي تبعا للمحقّق العلاّمة الخوانساري (4) - على ما حكاه عنه - جواز المخالفة ، والحقّ عدمه كما ستعرف.

وقد يتوهّم إحالة الأمر في المقام إلى ما تقدّم في الشبهة المحصورة.

وليس على ما ينبغي للفرق الظاهر بين المقامين للعلم بوجوب الاجتناب عن النجس في الواقع وإن كان مردّدا بين أشياء ، والقطع بتعلّق الطلب فعلا أو تركا على حسب اختلاف المقامات فيها بخلاف المقام (5) ؛ فإنّ الخطاب غير معلوم المراد ، فما هو مقطوع لا يجدي ؛ لأنّه بمنزلة مجرّد الصوت ، وما هو مجد غير معلوم وهو المراد ، فربّما يسبق إلى الوهم القول بالبراءة في المقام دون الشبهة المحصورة فإنّ الوهم (6) فيها بمكان من البعد على ما عرفت.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أيضا قياس المقام بما مرّ في دوران الأمر بين الواجب والحرام في الشبهة الحكمية التكليفية.

وسقوطه ظاهر ؛ لاستلزامه المخالفة العملية في جميع صوره بخلافه كما عرفت تفصيلا.

وكيف كان فاحتجّ القائل بأنّ التكليف في المقام إمّا بأحدهما معيّنا ، أو بأحدهما غير معيّن ، أو بالواقع المجهول عندنا (7) ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ، فلعدم الأمر به كما هو المفروض ، ويكشف عنه قبح العقاب عند العقول السليمة على ترك أحدهما بالخصوص.

ص: 498


1- « س » : إجماله. « ج » : لإجماله.
2- « ج » : - فيه.
3- « ج » : المقامين.
4- القوانين 2 : 36 و 37 ؛ مشارق الشموس : 77.
5- « ج » : المقام الأوّل.
6- « س » : الموهم.
7- « ج » : - عندنا. « م » : عنده.

وأمّا الثاني ، فلعدم دلالة الأمر على أحدهما بهذا الوصف ؛ لكونه أمرا انتزاعيا لا يناط عليه الخطابات الشرعية ولا غيرها.

وأمّا الثالث ، فلقبح العقاب عليه مع كونه مجهولا كما في الشكوك البدوية إن أريد إثبات الوجوب بالنسبة إليه بمجرّد الخطاب المجهول عندنا ؛ إذ المفروض عدم العلم به ، وإن أريد (1) إثبات التكليف بواسطة أدلّة أخرى من إجماع على لزوم الإتيان بشيء ، أو أخبار الاحتياط ، فعلى تقدير وجوده ممّا لا يضرّ بما نحن بصدده من اقتضاء القواعد كما لا يخفى.

والجواب عنه أنّ التكليف بالواقع المجهول عندنا ولا ضير فيه ؛ لأنّ الجهل بالخطاب غير مضرّ بعد العلم بنفس التكليف كما في صورة العلم التفصيلي فيما لو علمنا تفصيلا بأنّ المائع الفلاني إمّا هو خمر ، وإمّا ماء مغصوب فإنّ الخطاب مجهول ، وحيث إنّ العلم حاصل ، فلا ضير في جهل الخطاب ، ففي المقام نحن ندّعي أنّ العلم الإجمالي بمنزلة العلم التفصيلي ، فكما أنّ الجهل بالخطاب مع حصوله لا يضرّ في لزوم العمل على طبقه ، فكذا (2) في المقام ، فالعلم الإجمالي منجّز للتكليف كالعلم التفصيلي لعموم إطاعة أوامره ونواهيه تعالى عقلا ونقلا.

ويكشف عن ذلك تكليف الكفّار بالفروع مع عدم العلم التفصيلي (3) بخصوصيات الأحكام الفرعية إجماعا منّا ، وصحّة عقاب الجاهل المقصّر (4) كما حقّق في محلّه ، وقوله عليه السلام فيما سأله السائل عن سماع صوت الجواري في الخلأ : « ما أسوأ حالك لو كنت تموت

ص: 499


1- سقط قوله : « إثبات الوجوب بالنسبة » إلى هنا من نسخة « س ».
2- « س » : وكذا.
3- سقط قوله : « لعموم إطاعة أوامره » إلى هنا من نسخة « س ».
4- سقط من « ج » : قوله : إجماعا منّا ... الجاهل المقصّر.

بهذه الحالة » (1) وعليه استقرّ طريقة العقلاء في إطاعة مواليهم وتعذيب عبيدهم كما هو أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس عند الرجوع إلى سجيّتهم.

فالمانع إمّا أن يقول بأنّ مجرّد الجهل بالخطاب يقضي بعدم التكليف ولو جرّد النظر عن جميع ما عداه ، فكلامه منقوض بصورة التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي ؛ إذ بمجرّد الجهل سقط التكليف ، ولا دليل على وجوب مقدّمة الواجب بعد سقوط ذيها ، فلا دليل على تحصيل العلم ؛ لأنّ مقدّمة الواجب المشروط ليس بواجب اتّفاقا ، ولهذا قد طعن على القائل بلزوم الفحص مع عدم القول بوجوب الواقع عند الجهل كالمقدّس الأردبيلي ومن تابعة كصاحب المدارك ونحوه (2) جمال المحقّقين (3) بأنّ وجوب المقدّمة مع عدم وجوب ذيها من أعجب العجائب.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ الفحص واجب نفسي لا مقدّمي كما يراه بعض الأجلّة (4) تبعا

ص: 500


1- الوسائل 3 : 331 ، باب 18 من أبواب الأغسال المسنونة ، ح 1 وفيه : « ما أسوأ حالك لو متّ على ذلك » وتقدّم في ص 84 و 224 وسيأتي في ص 584.
2- مجمع الفائدة والبرهان 2 : 110 ؛ مدارك الأحكام 2 : 344 - 345 و 3 : 219 ، وقال المحقّق السبزواري في الذخيرة : 167 بعد نقل كلام صاحب المدارك : وبالجملة الظاهر أنّ التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنظر والسعي والتعلّم ، وإلاّ لزم تكليف الغافل ، أو التكليف بما لا يطاق والعقاب يترتّب على ترك النظر لكن لا يبعد أن يكون متضمّنا لعقاب التارك مع العلم. ولا يخفى أنّه يلزم على هذا أن لا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام ، وإنّما يكونون مخاطبين بمقدّمات الأحكام ، وهذا خلاف ما قرّره الأصحاب ، وتحقيق هذا المقام من المشكلات. وسيأتي عنهم أيضا في ص 580. انظر أيضا بحث القطع والظنّ : 227 ؛ مطارح الأنظار ، بحث مقدّمة الواجب 1 : 417 ؛ فرائد الأصول 2 : 418.
3- الحاشية على شرح اللمعة : 345 ، عند قول الشهيد في كتاب الصوم : « ولو نسي صحّ والجاهل عامد ».
4- ذهب في الفصول : 86 في بحث مقدّمة الواجب أنّه واجب غيري قال : ولا يذهب عليك أنّ وجوب تحصيل العلم أو الظنّ في موارده غيريّ إذ الواجب في الحقيقة هو العمل المعلوم أو المظنون وجوبه دون نفس العلم أو الظنّ ، ولهذا لا يعاقب تارك الواجب على ترك تحصيل العلم أو الظنّ به أيضا.

لأخيه فخر الأعاظم (1)(2) إلاّ أنّه قد مرّ في محلّه سقوطه ؛ إذ الواجب النفسي أو الغيري ليس مجرّد الاصطلاح والتعبير بل المناط فيه هو المصلحة الواقعية ، فلو كان الفحص ذا مصلحة واقعية في حدّ ذاته وفي مرتبة هويّته ، فهو واجب نفسي ولو لم يكن كذلك بل مصلحة وجوبه في غيره ، فهو واجب غيري ، فليس الأمر بيدنا حتّى نفرض وجوبه النفسي قبل الفحص والوقت ، ووجوبه (3) الغيري بعده كما لا يخفى.

وإمّا أن يقول بأنّ الجهل بالتكليف مع عدم التمكّن يمنع من التكليف ولو عند العلم الإجمالي ، فالحاكم بيننا وبينه هي الأدلّة السابقة من عموم لزوم الإطاعة عقلا ، فكما أنّ العقل يحكم بلزوم الامتثال عند العلم التفصيلي ، فكذا يحكم به عند العلم الإجمالي وإن كان الخطاب مجهولا ؛ إذ لا تأثير فيه وعليه سيرة العقلاء في كلّ الأزمنة في جميع الأمكنة.

فإن قلت : مرجع النزاع عند التحقيق على ما قرّرت إلى أنّ شرط التكليف هل هو العلم التفصيلي ، أو لا؟ فالقائل بالبراءة يدّعي الاشتراط ، ومدّعي الاحتياط يقول

ص: 501


1- في هامش « م » : صاحب الفصول تبعا للشيخ المحشّي أخيه المحقّق.
2- هداية المسترشدين : 218 في بحث هل يتصوّر وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها؟ حيث قال : ثمّ إنّ ما ذكرناه إنّما هو بالنظر إلى دلالة الأمر الذي يتعلّق بذي المقدّمة ، وأمّا لو قام هناك أمر من الخارج على وجوب الإتيان بالمقدّمة قبل وجوب الفعل لأن يتمكّن من فعل المأمور به عند تعلّق الوجوب به ، فلا مانع منه أصلا كما قرّرناه ، ولا فرق حينئذ أيضا بين الصور المذكورة لكن في عدّ ذلك حينئذ من الوجوب الغيري تأمّل أشرنا إليه ، ولا يبعد إدراجه في الوجوب النفسي وإن كان الأمر به لإحراز مصلحة حاصلة بفعل غيره. انتهى كلامه. أقول : وبما أنّ التعلّم تعلّق به أمر من الخارج ، فيندرج في الوجوب النفسي.
3- « س » : فوجوبه!

بالإطلاق ، فعلى الأوّل لا تكليف عند عدم العلم التفصيلي ؛ لانتفاء شرطه ، وعلى الثاني فلا بدّ من الامتثال ، والشبهة (1) في المقام ترجع إلى الشبهة البدوية التكليفية لما قد تقرّر في مقامه من أنّ الشكّ في اشتراط الواجب وإطلاقه راجع إليه ، والاشتراط موافق للأصل إذ قضية الاشتراط كما عرفت هو العدم ، عند العدم وبالجملة ففي المقام لا بدّ من إعمال البراءة لأنّه من جملة مواردها.

قلنا : نعم ، إذا دار الأمر بين الاشتراط والإطلاق الأصل الاشتراط ؛ لأنّ الأصل عدم التكليف ، ولا يجدي أصالة عدم الاشتراط ما لم يكن في البين إطلاق لفظي يؤخذ به ، ومرجعها إلى أصالة الحقيقة في المطلق ، وأمّا إذا لم يكن هناك إطلاق لفظي ، فمرجعها إلى إثبات التكليف في محلّ الشكّ وقد عرفت جريان البراءة فيه كما ستعرفه في بعض المباحث الآتية إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ المقام ممّا لا عبرة به ؛ لاختصاص مورد البراءة بما إذا لم يكن الشكّ في البراءة والاحتياط كما عند الشكّ في التكليف من غير أن يكون الشكّ في الاحتياط.

وأمّا إذا كان الشكّ في مورد البراءة والاحتياط كأن لم نعلم (2) بأنّ المورد الكذائي من موارد البراءة أو الاحتياط ، فلا يجري فيه البراءة بل (3) لا بدّ من الأخذ بالاحتياط.

والسرّ في ذلك أنّ مناط قاعدة البراءة هو حكم العقل بقبح العقاب عند الشكّ في التكليف ، فما لم يحكم العقل بذلك لم يؤمن من الضرر المحتمل ، فعند تردّد العقل في قبح العقاب وعدم قبحه يستقلّ بلزوم الاحتياط ؛ إذ لا رافع لاحتمال العقاب الحاكم بدفعه العقل المستقلّ ، فالشكّ في لزوم الاحتياط ، أو العمل بالبراءة عند الشكّ في البراءة إنّما هو شكّ بدوي يرتفع بملاحظة عدم ما يؤمننا من (4) الضرر كما هو المفروض كما في الشكّ في البراءة في مواردها على ما مرّ تفصيل الكلام فيها.

ص: 502


1- « ج » : فالشبهة.
2- « ج » : لم يعلم.
3- « م » : - بل.
4- « ج ، م » : - من.

فظهر من جميع ما مرّ أنّه إذا شكّ في أنّ العلم الإجمالي أيضا منجّز للتكليف كالعلم التفصيلي ، أو ليس منجّزا كالجهل الساذج لا يصحّ التعويل بأصالة البراءة عن التكليف عند عدم العلم التفصيلي ولو مع وجود العلم الإجمالي ؛ إذ الأصل الأصيل في أمثال المقام هو الاحتياط ؛ لعدم ما يعارض وجوب دفع الضرر كما لا يخفى.

على أنّ العقل يحكم باستواء العلم الإجمالي والتفصيلي في تنجّز التكليف بهما كما يكشف عنه بناء العقلاء وإن كان التمسّك ببناء العقلاء في أمثال المقام لا يخلو عن شيء ؛ لاحتمال ارتكاز الاحتياط في أذهانهم حيث إنّ المقصود عندهم هو الوصول إلى المصالح الكامنة والمفاسد الموجودة في الأشياء من غير ملاحظة التعبّد بأمر المولى إلاّ أنّ الوجدان السليم لو لاحظ المقام - ولو بعد الغضّ عمّا ذكر - وتمحّص في ملاحظة الإطاعة والمعصية اللازمتين للتعبّد ، يحكم بعدم الفرق كما لا يخفى.

ثمّ إنّ من جميع ما مرّ يظهر وجه المختار من عدم جواز المخالفة.

المقام الثاني في وجوب الموافقة وعدمه المقام (1) الثاني في لزوم الموافقة (2) القطعية وقد مرّ في تزييف احتجاج القائل بجواز المخالفة ما يغني عن إطالة الكلام في توجيه المختار إلاّ أنّه لا بدّ من تعرّض بعض الوجوه التي قد يستند لوجوب الموافقة كما هو الحقّ.

فمنها : استصحاب التكليف ، وبيانه أنّه لو فرض حصول الاشتباه بعد العلم التفصيلي ، فقبل حصول الاشتباه لا بدّ من الامتثال وبعده يشكّ فقضيّة الاستصحاب بقاؤه ، ويتمّ في الباقي (3) بعدم القول بالفصل.

وفيه أوّلا : عدم ارتباطه بالمقام ؛ إذ على تقدير الإغماض عمّا فيه يثبت حرمة المخالفة لا وجوب الموافقة.

وثانيا : أنّ استصحاب التكليف في الصورة المفروضة معارض باستصحاب البراءة

ص: 503


1- « س » : والمقام.
2- « س » : المخالفة!
3- « س ، م » : الثاني.

قبل التكليف.

بيان ذلك [ أنّ ] الصبيّ المراهق لا تكليف له قطعا ، فلو بلغ وعلم إجمالا بوجوب شيء غير معلوم المراد ، فاستصحاب البراءة السابقة يقضي بعدم التكليف ، ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل.

اللّهمّ إلاّ (1) أن يقال بتقديم استصحاب التكليف ؛ لأنّه أصل مثبت للتكليف ، وبه يرتفع الشكّ في التكليف كارتفاعه بدليل اجتهادي ؛ إذ مرجع استصحاب البراءة إلى نفس قاعدة البراءة ، وعند التعارض يقدّم الاستصحاب على البراءة.

ومنها : قاعدة اشتراك التكليف (2) ، وبيانها أنّ الكلام في المجملات العرضية بعد تمام الحجّة على الكلّ بوجه متعارف في الإبلاغ ، وإنّما سنح الإجمال بعد خفاء الحجّة وحدوث الآراء الباطلة وكثرة القالة كما نطق بها جملة من الأخبار ، وبرهة من الآثار (3) ، فكان الأمر المجمل معلوما عند المشافهين ، وقد انعقد الإجماع على اشتراك التكليف ، فيثبت في حقّنا أيضا.

وفيه : أنّ بعد الإغضاء (4) عن معلومية الحكم للمشافهين أنّ المعلومية عندهم لا تقضي بثبوت (5) الحكم في حقّنا عند الجهل ، على أنّ ذلك لا يقضي (6) بوجوب الموافقة القطعية إلاّ بعد ضمّ قاعدة الاشتغال كما لا يخفى ، ولو فرض الجهل في حقّ المشافهين ، فلا نسلّم التكليف في حقّهم أيضا ، فلا فرق بيننا وبينهم إلاّ العلم والجهل.

ومنها : استصحاب الاشتغال ، وبيانه أنّ بعد الإتيان بأحدهما نشكّ في رفع

ص: 504


1- « م » : - إلاّ.
2- استدلّ به في ضوابط الأصول : 380.
3- انظر الوسائل 27 : 207 ، باب 14 من أبواب صفات القاضي ، ح 1 ؛ الذريعة الى أصول الشريعة 2 : 515 - 516 ؛ رسائل السيد المرتضى 2 : 56 ؛ المعتبر 1 : 29 و 30.
4- « ج ، م » : الاعتضاد!
5- « س » : ثبوت. « ج » : لا يقتضي ثبوت.
6- « ج » : لا يقتضي وكذا في المورد الآتي.

الاشتغال وبقائه ، والأصل يقضي ببقائه (1).

وفيه أوّلا : أنّه لا يخلو عن نوع مصادرة لو أريد استصحاب التكليف بنفس الواقع المجهول ، وغير مفيد لو أريد استصحاب غيره ؛ إذ المفروض إتيانه بأحد المحتملين ، فانقطع الاستصحاب ، وإن أريد استصحاب الأمر المردّد بين الواقع وغيره ، فهو من فروع المسألة وسيجيء الجواب عنه.

وثانيا : أنّك قد عرفت فيما تقدّم في أوائل المبحث عدم جواز التعويل على الاستصحاب في مثل المقام.

وتوضيحه يحتاج إلى رسم مقدّمة وهي أنّه لا شكّ في أنّ مورد الاستصحاب لا بدّ له من أن يكون هناك يقين سابق (2) ، ثمّ شكّ لاحق له ، فمن حيث ثبوت المتيقّن في السابق بعد الشكّ يحكم (3) ببقائه ليترتّب عليه أحكامه ، فعلى هذا لا معنى للاستصحاب إلاّ ترتيب آثار المتيقّن على المشكوك حال الشكّ من حيث ثبوته في الزمن السابق ، فلو فرض انتفاء الشكّ في اللاحق ، فلا مجرى للاستصحاب إلاّ على وجه تقديري على تقدير ، كما أنّه لو فرض عدم ترتّب الأحكام المطلوبة على المشكوك ، فلا جدوى للاستصحاب (4) بل لا يعقل له معنى ؛ إذ المتيقّن بحسب الواقع مشكوك ، فلا معنى للحكم ببقائه وعدم نقضه إلاّ الأخذ بأحكامه ، فعند عدم ترتّب الأحكام عليه يبقى الاستصحاب بلا محصّل كما لا يخفى.

وإذ قد تقرّر هذه (5) ، فنقول : إنّ الحاكم (6) بإتيان الفرد المحتمل هو العقل إذ بعد العلم بالتكليف ، فهو حامل على الامتثال وهو موجود في الأثناء ، فالمكلّف بملاحظة حكم

ص: 505


1- استدل به في ضوابط الأصول : 380.
2- « م » : من سابق.
3- « م » : نحكم.
4- سقط قوله : « إلاّ على وجه تقديري » إلى هنا من نسخة « س ».
5- « ج ، م » : هذا.
6- « س » : الحكم!

العقل كأنّه بمسمع من المولى وهو يأمره بإتيان الواقع والمفروض عدم حصول العلم بالامتثال ، مع أنّ المطلوب منه هو الامتثال ، فلا مناص من الاحتياط ؛ إذ مجرّد الشكّ في الامتثال يكفي في استقلال العقل في الحكم بالامتثال ، ولا حاجة إلى ملاحظة ثبوته في الزمن السابق ، ولو فرض عدم حكم العقل بلزوم الامتثال ، فلا جدوى في الاستصحاب بل لا معنى له كما عرفت ؛ إذ غاية الأمر عند الشكّ في البراءة يحكم ببقاء الاشتغال بالواقع ، وحيث إنّ المفروض عدم حكم العقل بلزوم الامتثال لا يترتّب على بقاء الاشتغال إتيان المحتمل الآخر إلاّ على تقدير أن يكون الأصل مثبتا لكون الباقي هو الواقع ، فيجب امتثاله كما عند العلم التفصيلي.

ثمّ إنّ مجرّد كون الأصل مثبتا إنّما يجدي فيما إذا اتّحدت الجهة الباقية مثلا ، وإذا تعدّدت المحتملات ، فالأصل على تقدير الإثبات يقضي بأنّ الواقع بين الجهات الباقية ، ولا يجب الامتثال والاحتياط إلاّ على تقدير حكم العقل بلزوم الاحتياط ، والمفروض عدم استقلال (1) العقل به ، فلا يترتّب الإتيان بالمحتملات أيضا على الاستصحاب وإن كان المثبت منه أيضا معوّلا عليه كما يراه بعض من لا تحقيق له.

وقد يستدلّ في المقام بأخبار الاحتياط عموما كقوله : « أخوك دينك » (2) وقوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (3).

وقد عرفت (4) فيما سبق في المقامات السابقة عدم صحّة الاستناد إليها ؛ لضعف سندها وعدم الاعتداد بدلالتها.

نعم ، ربّما يصحّ التأييد بها وخصوصا مثل ما رواه الشيخ عن عليّ بن سندي ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن [ بن الحجّاج ] قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان : الجزاء بينهما ، أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ فقال : « [ لا ] بل عليهما

ص: 506


1- « م » : استقلالها!
2- تقدّم في ص 369.
3- تقدّم في ص 369.
4- عرفت في ص 374.

جميعا ويجزي كلّ واحد منهما الصيد » فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه ، فقال : « إذا أصبتم مثل ذلك (1) فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا (2) » (3).

والتقريب ظاهر بعد ظهور أنّ المقام من الشكّ في المكلّف به إلاّ أن يقال : إنّ الأمر بالاحتياط إنّما هو بواسطة إمكان الوصول [ إلى ] الحجّة وتحصيل العلم ، فيدلّ على عدم جواز العمل بالأصل قبل الفحص ، ولا دلالة فيه على لزوم الاحتياط فيما لم يكن هناك رجاء حصول العلم كما في أمثال زماننا.

على أنّ الأمر بالاحتياط يحتمل رجوعه إلى الفتوى بغير علم كما لا يخفى ، فيكون مفاده مفاد سائر الأخبار العامّة.

ومثل ما رواه في الصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي إبراهيم عليه السلام ، قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة : أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال عليه السلام : « لا ، أمّا إذا كان بجهالة ، فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ».

فقلت : بأيّ الجهالتين أعذر (4) : بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة؟ فقال : « إحدى الجهالتين أهون من الأخرى : الجهالة بأنّ اللّه حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه (5) لا يقدر على الاحتياط معها ».

فقلت : هو في الأخرى معذور؟ قال : « نعم ، إذا انقضت عدّتها ، فهو معذور في أن يتزوّجها » (6) الحديث.

ص: 507


1- في المصدر : هذا.
2- في المصدر : تسألوا عنه فتعلموا.
3- التهذيب 5 : 466 ، باب 26 ، ح 277 ؛ الوسائل 13 : 46 ، باب 18 من أبواب كفّارات الصيد ، ح 6 ، و 27 : 154 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 1.
4- في المصدر : يعذر.
5- في المصدر : بأنّه.
6- الوسائل 20 : 450 - 451 ، باب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 3.

والتقريب أنّ المفهوم من الرواية لزوم الاحتياط فيما يمكن الاحتياط كما في الجهل بأنّها في العدّة أو لا.

والجواب : أنّ ذيل الرواية دليل على عدم وجوب الاحتياط كما يشعر (1) قوله : « أهون » بذلك ، وحسن الاحتياط ممّا لا يحتاج إلى بيّنة كما لا يخفى.

تنبيه :

العلم الإجمالي يتصوّر على صور :

الأولى : أن يكون العلم الإجمالي في أمرين يجمعهما تكليف تفصيلي وعنوان غير انتزاعي كأن يكون الواجب شيئا (2) يمكن أن يتحلّى بأطوار (3) مختلفة على وجه يقع كلّ واحد منها بدلا عن الآخر كالجهر والإخفات والظهر والجمعة والقصر والإتمام ، فإنّ المكلّف بعد علمه تفصيلا بوجوب (4) الصلاة يشكّ كذلك في كلّ من الخصوصيتين (5) مع العلم الإجمالي باعتبار واحدة منهما (6) ، فمصبّ العلم الإجمالي والشكّ نفس الخصوصيات ؛ إذ المكلّف شكّه في أنّ التكليف بالصلاة المعلومة تفصيلا هل يجب امتثاله في ضمن الظهر ، أو الجمعة ، فيشكّ في الأفراد مع العلم بأحدها إجمالا ، ونظير ذلك الأخبار المشتملة على القدر الجامع على وجه لو تكثّرت ، لتواترت (7) كما لا يخفى ؛ فإنّ من طرح الخصوصيتين (8) ، يلزم طرح حكم شرعي تفصيلي غير انتزاعي وهو التكليف بالصلاة المعلوم (9) تفصيلا.

الثانية : أن لا يكون العلم الإجمالي بين أمرين كذلك بل يكون على وجه لو

ص: 508


1- « س » : « في » بدل : « يشعر ».
2- في النسخ : شيء.
3- « ج » : بأطور.
4- « ج » : في وجوب.
5- « ج ، م » : الخصوصتين.
6- « ج ، س » : منها.
7- « ج ، س » : لتوارت!
8- « م » : الخصوصتين. « ج » : الخصوصين؟
9- « ج » : المعلومة.

طرحنا الخصوصيات ، لا يلزم منه طرح أمر معلوم شرعا تفصيلا ، غاية ما يلزم فيه طرح خطاب انتزاعي وهو الخطاب ب- « أحدهما » كما إذا علم إجمالا إمّا (1) بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو بوجوب الجمرة (2) في الحجّ ، أو بوجوب المضاجعة مثلا ، فإنّ من طرح الخصوصيات ، لا يلزم طرح خطاب شرعي إلاّ ما ينزعه العقل من وجوب أحدها ، فمصبّ العلم الإجمالي هو تمام الخصوصية والطبيعة ، ونظيره الأخبار التي لا تجتمع (3) في مضمون على وجه لو تعدّدت لتواترت كما لا يخفى.

الثالثة : أن يكون العلم الإجمالي حاصلا بين وجوب شيء وحرمة الآخر كما إذا علم إجمالا بوجوب غسل الجمعة ، أو حرمة الاستقبال عند التخلية.

ولك أن تقول : إنّ المكلّف إمّا أن (4) يعلم جنس الخطاب ، أو لا يعلم ، فلا يدري أنّ تكليفه هل هو الأمر ، أو النهي؟ وعلى التقديرين ، فإمّا أن (5) يعلم بأمرين يجمعهما خطاب تفصيلي ، أو لا يعلم بهما بل علمه الإجمالي دائر بين أمرين في مسألتين.

لا شكّ في لزوم امتثاله في الصورة التي يجمعهما عنوان تفصيلي كما يحكم به العقل السليم الخالي عن شوائب الوهم (6) على ما عرفت فيما تقدّم بصدق العصيان الموجب إلى وصول النيران أعاذنا اللّه منها وجميع الإخوان.

وأمّا في غيرها من الصور ، ففي جواز المخالفة القطعية مطلقا نظرا إلى أنّ المردّد بين الحجّ والمضاجعة مثلا ، أو بين الدعاء عند الرؤية والجمرة لم يقع في تلو الخطابات الشرعية ، فلا يلزم من مخالفة العلم الإجمالي في المقام مخالفة خطاب تفصيلي حتّى يلزم العقاب والمعصية فإنّ العلم الإجمالي حصل بينهما اتّفاقا ، فكلّ من الخصوصيتين مشكوك صرفا ، فيجري فيها البراءة ؛ أو عدم جوازه كذلك نظرا إلى عدم الفرق بين

ص: 509


1- « س » : - إمّا.
2- « س ، ج » : العمرة؟
3- في النسخ : لا يجتمع.
4- « ج ، م » : - أن.
5- « ج ، م » : - أن.
6- « م » : التوهّم. « ج » : توهم.

الصورتين إلاّ فيما لا يجدي في صدق المخالفة والمعصية ؛ إذ من المعلوم إجمالا تعلّق التكليف بأحدهما جزما ، وكون العلم الإجمالي دائرا بين أمرين يجمعهما عنوان تفصيلي ، أو دائرا بين أمرين ليس كذلك ممّا لا دخل له في المقام أبدا ، حيث إنّ الكلام هو أنّ المكلّف لا يعلم أنّ الخطاب المتوجّه إليه في يوم الجمعة هل هو قوله : « صلّ الظهر » أو « صلّ الجمعة » ولمّا فرض أنّهما فردان من كلّي الصلاة ، فقد يتخيّل أنّ القدر المشترك فيهما معلوم تفصيلا ، وإلاّ ففي الحقيقة قد يمكن منع تحقّق الفرق بينهما ، وعلى تقديره أيضا فقد عرفت أنّ العقل لا يفرق بينهما بعد صدق المخالفة ، أو يفصل بين ما كان جنس (1) التكليف معلوما فيحكم بعدم جواز المخالفة القطعية ، وبين ما لم يكن جنس (2) التكليف كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء ، أو حرمة شيء آخر ، فيحكم بالجواز نظرا إلى عدم معلومية الخطاب جنسا وشخصا ، فيعمل بالبراءة مثلا ، أو يفصل بين ما إذا كان مريدا للمخالفة ابتداء وبين ما إذا اتّفق فعل أحدهما ، ثمّ بدا له فعل الآخر نظرا إلى عدم القصد (3) في الثاني بخلاف الأوّل؟ وجوه :

قال الأستاذ - دام علاه في فلك المعالي - : والإنصاف : أنّ العقل لم نجد منه الحكم بعدم جواز المخالفة القطعية في المردّد بين أمرين لا يجمعهما الخطاب التفصيلي كما في الشبهة الغير المحصورة ، لا يحكم العقل بلزوم الاجتناب لبعد الأطراف عن نظر العقل.

قلت : قد تقدّم في الأصل السابق في الشبهة المحصورة في مقام الردّ على المحدّث البحراني عدم تفاوت حكم العقل بين المجتمع في الجنس الواحد والمختلف فيه في مقام الموافقة القطعية ، فكيف بجواز (4) المخالفة القطعية ، فمناط حكم العقل هو العلم بالمحبوبية والمبغوضية وهو حاصل في المقامين من غير فرق في ذلك ، فالتوقّف في أحدهما يلازم التوقّف في الآخر ، فتدبّر تكن على بصيرة من الأمر.

ص: 510


1- في النسخ : حسن ، وهو تصحيف.
2- في النسخ : حسن ، وهو تصحيف.
3- « ج » : التفصيل!
4- « ج » : يجوز.

أصل

في الشبهة التحريمية الحكمية فيما شكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المتباينين كما إذا علمنا بحرمة الغناء في الشريعة وشككنا في أنّ المراد منه هل (1) هو الصوت المطرب أو الصوت مع الترجيع؟ فلا شكّ في حرمة القدر (2) الجامع بينهما من مورد الاجتماع ، وأمّا في مورد الافتراق من الطرفين ، فنعلم (3) إجمالا بحرمة أحدهما ، ولا نعلم (4) أنّ الحرام أيّهما تفصيلا ، ولا فرق في ذلك بين الاشتباه الناشئ من إجمال النصّ أو فقده ، و (5) أمّا التعارض فستعرف الحكم فيه فيما سيجيء ، وكيف ما كان فالتحقيق في المقام هو لزوم الاحتياط عن كليهما كالأصل السابق في جانب العكس.

ص: 511


1- « ج » : - هل.
2- « س » : في قدر.
3- « ج » : فيعلم. « م » : فعلم.
4- « م » : لا يعلم.
5- « س » : - و.

ص: 512

أصل

في الشبهة الحكمية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المحذورين في المتباينين كما إذا علمنا بصدور أمر ونهي ولم نعلم أنّ الأمر تعلّق بإكرام زيد مثلا والنهي تعلّق بإهانة عمرو ، أو تعلّق النهي بالإكرام والأمر بالإهانة ، فهل يجب الأخذ بأحدهما ولو تخييرا ، أو العمل بالأصل فيهما ، وعلى الأوّل فهو مخيّر بدوا ، أو استمرارا وعلى الأوّل ، فهل يفتى بالتخيير ، أو بالمختار؟ وجوه. مرّ تفصيل الكلام في نظير المقام في الشبهة التكليفية ، والمختار المختار ، والدليل الدليل ، والنقض النقض ، والجواب الجواب ، فلا نطيل بالإعادة.

ص: 513

ص: 514

أصل

اشارة

في الشبهة الوجوبية الحكمية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، المراد بالأقلّ والأكثر الارتباطيين والمراد بالأقلّ والأكثر الارتباطيين - على ما ذكره بعضهم - هو ما كان الأقلّ مجزيا بقدره.

وليس كذلك بل المراد به هو ما كان الأمر دائرا بين واجبين نفسيين أحدهما الأقلّ والآخر [ الأكثر ] ، فإنّ نزح الماء في منزوحات البئر ارتباطي مع أنّه يجزي الأقلّ بقدره بمعنى (1) أنّه عند الاحتياط لا يجب إعادة العمل رأسا مثال ذلك الصلاة فيما لو شكّ في أنّ الواجب النفسي منها هو الصلاة بلا سورة مثلا ، أو مع السورة فعلى تقدير الأقلّ فالصلاة واجبة نفسية أيضا ، وكيف ما كان فالمشهور في المقام بين الفقهاء العظام البراءة ، فمن المتقدّمين الصدوق (2) - كما يظهر عند الفتوى بجواز القنوت بالفارسية كما نبّهنا عليه (3) - والمحقّق والعلاّمة (4) من المتأخّرين ، وقد اضطرب كلام الشهيد في الذكرى (5) في الوضوء حيث أفتى بالبراءة فيما لو نبت لحم زائد تحت المرفق ،

ص: 515


1- « ج » : « مع » بدل : « بمعنى ».
2- الفقيه 1 : 317 / 937.
3- نبّه عليه في ص 359.
4- انظر المعارج : 298 - 299 ؛ مختلف الشيعة 1 : 495 و 2 : 181 - 182.
5- الذكرى 2 : 133 وفي ط الحجري : 85 ، قال : يجب غسل الكفّ والإصبع والذراع الزوائد تحت المرفق لتبعية اليد. ولو كانت له يد زائدة غير متميّزة عن الأصلية ، وجب غسلهما من باب مقدّمة الواجب ، ولو تميّزت ، غسلت الأصلية خاصّة دون الزائدة. وعليه يحمل إطلاق المبسوط : بعدم وجوب غسل الزائدة فوق المرفق إلاّ أن تكون تحت المرفق فتغسل أيضا للتبعية. ويمكن وجوب غسل اليد الزائدة مطلقا كما هو ظاهر الشرائع والمختلف للعموم ، وأن يغسل من الزائدة ما حاذى مرفق الأصلية إلى آخرها ، تنزيلا له منزلة ما خلق تحت المرفق. ويضعف بتبعيته لأصله هو في غير محلّ الفرض.

وبالاحتياط فيما لو نبت فوق المرفق ، وذهب جماعة إلى لزوم الاحتياط كالسيّد علم الهدى (1) ، وأوّل من نشر الاحتياط بين المتأخّرين من أصحابنا هو المحقّق السبزواري (2).

ويحتمل أن يقال بالفرق والتفصيل بين الأجزاء والشرائط ، فبالاحتياط في الثاني ، وبالبراءة في الأوّل وإن لم نجد قائلا بهذا إلاّ أنّه للأصولي أن يحتمل ذلك لما ستعرف عند الخوض في الأدلّة نظرا إلى أنّ الشكّ في الجزء ربّما يصير مرجعه إلى المتباينين بخلاف الشرط.

ولا يخفى أنّ التفصيل هذا ربما (3) يخالف التفصيل في الصحيح والأعمّ حيث إنّ الجزء أقرب إلى اعتباره في معنى اللفظ بخلاف الشرط ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشبهة ناشئة من فقد النصّ - كما إذا قام الإجماع مثلا على وجوب شيء في الجملة ولم

ص: 516


1- انظر الانتصار : 146 و 148 و 149 و 150 و 151 و 158.
2- انظر ذخيرة المعاد : 273. قال السيّد محمّد باقر اليزدي الطباطبائي في وسيلة الوسائل فى شرح الرسائل : 242 : وتبعه عليه جماعة من الأواخر كالمحقّق الشريف والمحقّقين صاحبي الهداية والفصول وغيرهم لكن ربما يظهر من كلام المحقّق في المعارج وجود القول بالاحتياط بين القدماء حيث قال : قال بعضهم بوجوب الاحتياط وصار آخرون إلى عدمه وإجراء أصالة البراءة ، وفصّل ثالث بين ثبوت الشغل كما في مسألة الولوغ وبين غيره فقال بوجوبه في الأوّل دون الثاني. والإنصاف أنّ نسبة الاحتياط في المقام إلى المشهور في غاية الغرابة وكأنّه اشتبه الأمر على صاحبها وتخيّل أنّهم اعتمدوا عليه على الإطلاق غايته أنّه وافق البراءة في بعض الموارد فهي لمجرّد التأييد ، ولا يخفى معارضته بمثله على ما ادّعاه المحقّق القمّي رحمه اللّه.
3- « س » : إنّما.

نعلم باعتبار شيء آخر جزءا ، أو شرطا فيه لعدم النصّ - أو كانت الشبهة ناشئة من إجمال النصّ كالصلاة بناء على مذهب الصحيح ، أو الأعمّ فيما لو قلنا بعدم وروده في مقام البيان كما قد يقال بذلك في قوله : « أقيموا الصلاة » فإنّه وارد في مقام الوعظ مثلا و (1) قلنا بالإطلاق إلاّ أنّه غرضه الإجمال من جهة كثرة ورود التقييدات.

وبيان هذا المقال وتوضيح هذا الإجمال يحتاج إلى تحقيق القول في تلك المسألة ، فنقول : من الناس من يرى أنّ لفظ « الصلاة » وأمثاله كلفظ « السرير » و « البيت » ونحوهما موضوع لمعنى مركّب من أجزاء يصدق معها اسم الصلاة عرفا على وجه لو انضمّ إليها جزء آخر في خصوص مقام ، كان ذلك جزءا للفرد ، أو قيدا خارجا عن حقيقة تلك الماهية كما في السرير ؛ فإنّ الأجزاء المتبادلة يكفي في صدق اسم السرير ولو انضمّ إليه بعض الأجزاء في وقت كان ذلك قيدا لخصوص الفرد بعد صدق الماهية بدونه أيضا أو جزء له على اختلاف الاعتبارين.

ومنهم : من يرى أنّ لفظ « الصلاة » اسم للماهية المجتمعة لجميع الأجزاء والشرائط كما هي مطلوبة للشارع.

فعلى الأوّل فلفظ الصلاة كسائر المطلقات يكشف عن معناه المطلق بحيث لو شكّ في تقييده ، يدفع بأصالة عدم التقييد ، ويحكم بالإطلاق ، ويكشف عن ذلك بأنّ المطلوب أيضا هو هذا المعنى.

وعلى الثاني فلفظ الصلاة لا إطلاق فيه ففيما لو شكّ في تقييده بشيء لا مجال لدفعه بأصالة الإطلاق ، فهو من المجملات الذاتية لا بدّ من أن يبيّنها (2) الشارع عند طلبه لها.

ومن هنا ينقدح ضعف ما قد يتوهّم من أنّ الإطلاق ممّا لا يجدي على تقدير القول بالأعمّ أيضا ؛ للقطع بأنّ المطلوب هو الصحيح فإنّ المطلوب إنّما يظهر لنا باللفظ ، فعلى تقدير إطلاقه يكشف عن أنّ المطلوب هو هذا كما في سائر المطلقات ، فبإطلاق الرقبة

ص: 517


1- « ج » : أو.
2- « م » : يبيّنه. « س » : من يبينهم ، وفوقها : يبيّنه.

يستكشف (1) عن أنّ المراد بها هو مطلقها (2) سواء كانت مؤمنة أو غيرها.

وبالجملة ، فلو قلنا بوضعه للأعمّ ، فإمّا أن نقول بأنّ الخطابات المشتملة على لفظ الصلاة كأقيموا الصلاة ونحوها إمّا أن تكون (3) واردة في مقام البيان ولو من هذه الجهة ، أو لا نقول به ، وعلى الأوّل فإمّا أن نقول بأنّ الإطلاق هذا ممّا عرضه الإجمال بواسطة كثرة التقييدات ، أو لا نقول.

لا شكّ في بيان المراد وظهوره فيما لو قلنا بوروده في مقام البيان كما أنّه لا شكّ في إجماله على التقديرين الأخيرين ، فعلى هذين التقديرين يكون لفظ الصلاة من المجملات العرضية ، وعلى تقدير القول بوضعه للماهية الصحيحة يكون من المجملات الذاتية ، فلو شكّ في شرطية شيء ، أو جزئيته ، لا يصحّ دفعه بالإطلاق لإجمال الخطاب على هذه الوجوه كما إذا علمنا بالتقييد ولم نعلم المراد من المقيّد على وجه تردّد في جملة أشياء.

فظهر من جميع ذلك أنّ الصلاة على تقدير القول بالصحيح مطلقا من أمثلة المسألة التي نحن بصدد بيانها ، وكذا على القول بالأعمّ على التقادير المذكورة.

واندفع ما قد يتوهّم (4) في المقام أنّ لازم القول بالصحيح هو الأخذ بالاشتغال ، ولازم القول بالأعمّ هو الأخذ بالبراءة ؛ إذ ربّ قائل بالصحيح في تلك المسألة يقول بالبراءة في هذه المسألة ، وربّ قائل بالاحتياط يقول بالأعمّ فيها.

ص: 518


1- « م » : نستكشف.
2- « م » : مطلقا!
3- في النسخ : يكون.
4- ذكره السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : 529 ، والنراقي في مناهج الأحكام والأصول : 29 و 236 ، والشيخ محمّد تقي الأصفهاني في هداية المسترشدين : 113 وأخوه الشيخ محمّد حسين الأصفهاني في الفصول : 49 ونسبه إلى جماعة والأردكاني كما في تقريرات درسه : غاية المسئول : 126 ثمّ أجابوا عنه وانظر أيضا اشارات الأصول ( قسم الأدلّة العقلية ) 18 / ب - 19 / أ. لاحظ كلام الآشتياني الآتي في التعليقة الآتية.

نعم ، لا يثمر القول بالاحتياط على تقدير القول بالأعمّ ، وكان الإطلاق عنده واردا في مقام البيان ولم يقل بالإجمال من جهة كثرة التقييدات (1) نظرا إلى أنّ المقيّد الثابت ممّا لا يضرّ في الإطلاق ، وغير الثابت مدفوع بالأصل ، لأنّ القول بالاحتياط إنّما هو قول (2) به من جهة القواعد والأصول العملية ، ولا ينافيها ورود دليل اجتهادي على عدم لزوم الاحتياط وهو الأخذ بالإطلاق ، وكيف ما كان ، فعندنا مسألتان :

إحداهما (3) : مسألة لفظية يبحث فيها عن أنّ الألفاظ المستعملة عند المتشرّعة هل هي موضوعة للأعمّ من الماهية المجتمعة للأجزاء والشرائط على وجه تصدق (4) بدون بعضها عرفا كما في سائر المطلقات العرفية ، أو هي موضوعة لخصوص المجتمعة للأجزاء؟ و (5) حيث إنّا لا نعلم الموضوع لها من أجزائها وشرائطها ، فلا مناص من أن يكون تلك الألفاظ مجملة غير ظاهرة الدلالة على المراد بها.

وثانيتهما (6) : أنّه فيما لم نعلم بجزئية شيء ، أو شرطيته هل القاعدة تقضي بأن يكون المشكوك جزءا أو لا؟ فالمحتاط على الأوّل ، وغيره على الثاني.

وعدم العلم تارة بواسطة فقد النصّ ، وأخرى بواسطة إجمال المراد كما في ألفاظ العبادات والمعاملات أيضا في وجه على القول الثاني في المسألة الأولى ، فتلك الألفاظ على مذهب الصحيح من موارد النزاع في هذه المسألة ولا ملازمة بين المسألتين ؛ لأنّ القائل بالأعمّ قد يقول بالبراءة إلاّ أنّه لا يجدي بالنسبة إليه بعد دلالة الإطلاق على عدم الجزئيّة ، وكذا لا يجدي لو قال بالاحتياط ؛ لورود الإطلاق على الأصل العملي (7).

نعم ، إنّما يجديه فيما كان الشكّ ناشئا من فقد النصّ فقط ؛ إذ لا إجمال عنده ، فلو كان

ص: 519


1- المثبت من « م » وهامش « س » وفي « ج » ومتن « س » : التخصيصات ، وفي خ ل بهامش « م » : المقيّد.
2- « ج » : قوله.
3- « س ، م » : أحدهما.
4- « ج » : يصدق.
5- « م » : أو!
6- « ج » : ثانيهما.
7- « ج » : - العملي.

اللفظ مجملا فيجديه أيضا ، والقائل بالصحيح لو قال بالبراءة كما هو المشهور ، فيبني عليها ، ولو قال بالاحتياط ، فكذلك ، وبعد ما عرفت من التوضيح ظهر لك فساد الوهم ، ولعلّه سرى الوهم من أنّ بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين (1) بعد ما عنون المسألة اختار القول بالصحيح ، وحيث كان مختاره في المسألة الثانية أيضا هو (2) الاحتياط ، أطلق القول بوجوب الاشتغال ، فتوهّم (3) منه بعض من لا تحقيق له أنّ القول بالاحتياط يلازم القول بالصحيح ، والقول بالأعمّ يلازم القول بالبراءة ، وظهر لك أنّ ثمرة النزاع في المسألة الأولى إنّما هو مجرّد الأخذ بالإطلاق.

ثمّ إنّه قد يكون منشأ الشكّ هو تعارض النصّين ، وبيانه موكول إلى مسألة التعادل والتراجيح ، وحاصل القول فيه التخيير كما ستعرف.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ الأصل في المسألة مع القول بالاحتياط لما عرفت في أوّل أصول

ص: 520


1- قال الآشتياني في بحر الفوائد 2 : 169 : والحاصل أنّا لم نجد في كلام الكلّ بل ولا الأكثرين تفريع الثمرة المذكورة وإنّما ذكره غير واحد ممّن تأخّر تبعا لما أفاده الفريد البهبهاني قدس سره في فوائده ، وردّه جماعة من المتأخّرين حتّى بعض تلامذته مثل المحقّق القمّي قدس سره في القوانين ومنعوا من لزوم الاحتياط على القول بالوضع للصحيح ، وقد وجّه شيخنا الأستاد العلاّمة ما أفاده الفريد البهبهاني قدس سره في المقام بأنّ غرضه ليس بيان الثمرة للمسألة وأنّ كلّ من قال بالوضع للصحيح يقول بالاشتغال أو يلزمه القول به بل بيان الثمرة على ما اختاره من الرجوع إلى الاحتياط في ماهيّات العبادات المردّدة بل ربما يتطرّق هذا التوجيه في كلام من تبعه في ذكر الثمرة المذكورة للمسألة كيف والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيح قد ملئوا طواميرهم من إجراء أصالة البراءة عند الشكّ في الجزئية والشرطية ولا يظنّ اشتباه مثل هذا الأمر الواضح المبيّن على مثل هؤلاء الأعلام ، فغرضه أنّ القول بالصحيح ينفع الاشتغاليين لا أنّ كلّ من قال بالصحيح يلزمه القول بالاشتغال فضلا عن أن يقول به هذا ، ولكنّك خبير بأنّ هذا التوجيه وإن كان حسنا ينبغي إرادته إلاّ أنّ كلامهم يأبى عن إرادته سيّما بملاحظة ما ذكروه من أنّ لازم القول بالأعمّ عدم وجوب الاحتياط بل في كلام بعضهم أنّ لازمه الرجوع إلى البراءة فراجع إلى كلماتهم.
2- « س » : - هو.
3- « ج » : فيتوهّم.

المسألة أنّ العقل ما لم يؤمن الضرر العقابي لا يحكم بالبراءة ، وحيث إنّ العقاب ليس من الممتنعات الذاتية ، فإثبات عدمه وامتناعه من الحكيم لا بدّ وأن يكون مستندا إلى قبحه ، فما لم يثبت قبحه لا تؤمن (1) النفس منه ، وفيما لو شكّ في أنّ المورد من موارد (2) البراءة ، أو الاحتياط لا شيء هناك يوجب الأمن من العقاب ، فلا بدّ من الاحتياط دفعا لاحتماله كما لا يخفى ، وقد نبّهنا عليه في الأصل السابق.

وقد يقال بأنّ الأصل في خصوص المقام بل ومطلق الشكّ في المكلّف به مع القول بالاحتياط ولو قطع النظر عن هذا الأصل السائر في تمام موارد البراءة والاحتياط.

وقد يقرّر بأنّ منشأ النزاع في أقسام الشكّ في المكلّف به - على ما هو صريح كلّ المتخاصمين - هو أنّ القائل بالاحتياط يقول في أمثال الموارد أنّ التكليف إنّما هو على الواقع المجهول عندنا ، والعقل حاكم بأنّ التخلّص من العقاب الفعلي المردّد بين الأمرين واجب الدفع ، فيجب الاحتياط ، والقائل بالبراءة يزعم أنّ التكليف ليس على الواقع ، وإنّما المكلّف به هو مؤدّى ما ثبت من الدليل ، وهو إمّا أحد الأمرين ، أو الأقلّ ، فلو سلّم القائل بالبراءة أنّ هناك عقاب فعلي مردّد (3) بين الأمرين في الواقع مع قطع النظر (4) عمّا ثبت عنده من الدليل ، لكان القول بالاحتياط متّجها عنده ، فعلى هذا نقول : إنّ القائل بالبراءة يقول بأنّ العقاب الفعلي إنّما هو على الأقلّ ، أو على أحد الأمرين قطعا لما أدّاه إليه الدليل ، والقائل بالاحتياط يقول : إنّ العقاب الفعلي إنّما هو على الواقع المجهول عندنا ، فالشاكّ في أحد الأمرين يقطع بأنّه في الواقع يعاقب عقابا فعليا إمّا على الواقع المجهول ، وإمّا على الثابت بالدليل (5) ، فيصير من موارد الاحتياط اتّفاقا ؛ لأنّه يقطع بالعقاب الواقعي المردّد بين الأمرين ، والمفروض أنّ القائل بالبراءة لو وجد عنده

ص: 521


1- في النسخ : يؤمن.
2- « م » : - الموارد. « ج » : المورد مورد.
3- كذا. والصحيح : عقابا فعليا مردّدا.
4- « ج ، م » : - النظر.
5- « س ، م » : من الدليل.

مثل هذا المورد ، لكان يقول بالاحتياط أيضا ، فيجب القول بالاحتياط ابتداء.

هذا وأنت خبير بما فيه من الخلط والمغالطة ؛ فإنّ الكلام في جريان البراءة في مثل المقام فإنّه لا يزيد على محلّ النزاع في المسألة الفرعية بشيء فإنّ كلام القائل بالاشتغال في المسألة الفرعية هو هذا الكلام بعينه ، فلا يصلح الاستناد (1) إليه في مقام تأسيس أصل مسلّم بين القولين على وجه يكون هو المرجع عند عدم الدليل على أحدهما بالخصوص كما لا يخفى.

وإذ قد تقرّر ما ذكر ، فالمنصور عندنا هو ما ذهب إليه المشهور ، وتحقيق المقام يقتضي رسم أمور :

الأوّل : لا شكّ أنّ الداعي إلى امتثال أوامر المولى على وجه يكون مشتركا بين جميع من يجب عليه الامتثال ، ومن شأنه ذلك هو دفع خوف العقاب ، والتخلّص عن العذاب ، من غير أن يحتاج في ذلك إلى انضمام أمر آخر كتحصيل الثواب والفوز بأعلى درجات الجنّات وإن كان قد يصير مثل ذلك أيضا من الدواعي إليه كما أنّ لبعض من حاز الفضائل وجميع الفواضل داعيا آخر غير ما ذكر مشتملا عليه على وجه أتمّ وأكمل كاستحقاق المعبود للعبادة كما لا يخفى إلاّ أنّ ذلك بواسطة علوّ درجته وقصور مرتبة المكلّفين لا يكون مطّردا ، وإنّما الداعي إلى الامتثال عند الشكّ هو دفع العقاب لاستقلال العقل بلزوم دفعه ، وقد نبّهنا على ذلك فيما تقدّم أيضا ، فيجب الامتثال فيما لو احتمل العقاب ، فكيف بما إذا كان العقاب مقطوعا عند عدم الامتثال كما في الأجزاء المعلومة في الصلاة ، فإنّ ترك تكبيرة الإحرام أو الفاتحة ممّا يترتّب عليه العقاب قطعا ، ولا يجب الامتثال فيما إذا لم يكن العقاب محتملا كما إذا كان في المقام ما يؤمننا من العقاب من عقل أو نقل.

ص: 522


1- « ج ، س » : للاستناد.

الثاني : لا فرق بين الواجب النفسي والواجب الغيري في صلاحية نفي كلّ واحد منهما بأصل البراءة (1) ، فكما أنّ أصل البراءة تنفي ما يشكّ في وجوبه النفسي ، فكذلك تنفي ما يشكّ في وجوبه الغيري من غير فرق بينهما.

والسرّ في ذلك أنّ أدلّة البراءة عقلا ونقلا مفادها نفي العقاب ، والبأس عمّا لا يعلم وجوبه ، أو حرمته وذلك بالنسبة إلى الواجب النفسي والغيري سواء لا لما قد يتوهّم من ترتّب العقاب على الواجب الغيري كالواجب النفسي بل من حيث إنّ تارك الواجب الغيري والمتلبّس بالترك لا يصير معاقبا ومتلبّسا بالعقاب ولو من حيث أدائه إلى ترك الواجب الغيري ، فإنّ تركه فيما نحن فيه عين ترك الواجب النفسي ؛ لأنّ ترك المركّب من جهة التركيب عين ترك جزء منه كما لا يخفى ، فأدلّة (2) البراءة تحكم بأنّ المشكوك وما لا يعلمون لا يصير منشأ وموجبا للعقاب سواء كان العقاب ممّا يترتّب عليه في حدّ ذاته ، أو ممّا يترتّب على شيء آخر بواسطته ، وليس فيها (3) ما يخصّص ذلك بالأوّل ، فلا بدّ من الأخذ بإطلاقها ، ودعوى انصراف الأمر والنهي في « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (4) إلى النفسيين ممنوعة على مدّعيها ، كيف ولا نفرق شيئا في ذلك إذ غاية ما يسلّم من ذلك هو فيما لو كان هناك عنوان الوجوب ، أو (5) الواجب ، وأمّا في الأمر والنهي ، فالإنصاف عدم الفرق بين الأقسام ، فإنّ هذه أمور اصطلاحية جعلية لا مدخل لها في انصراف الألفاظ إليها.

على أنّ الأخبار النافية للمؤاخذة والعقاب وأمثاله خالية عن لفظ الأمر والنهي

ص: 523


1- فرّق بينهما في الفصول : ص 357 وذهب إلى جريان أصل البراءة في الواجبات النفسية دون الواجبات الغيرية كما سيأتي في ص 542 وذهب إليه شريف العلماء كما صرّح به في بحر الفوائد 2 : 151 بدعوى عدم جريان القاعدة بالنسبة إلى الوجوب الغيري المشكوك من حيث إنّ العقاب على تقدير ثبوته على ترك الواجب النفسي لا الغيري. انظر أيضا فرائد الأصول 2 : 329.
2- « س » : فإنّ أدلّة.
3- « م » : فيهما!
4- تقدّم في ص 159.
5- « س » : و.

وما يشبه ذلك كما هو ظاهر لا سترة عليه ، ويشهد لما (1) ذكرنا أنّ مساق أدلّة البراءة لا يختلف بالنسبة إلى رفع العقاب من الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فكما أنّ نسيان السورة في الصلاة لا يصير منشأ للعقاب على ترك الواجب النفسي مع عدم ترتّب العقاب على ترك نفس السورة ، فكذا عدم العلم بالسورة وتركها لا يوجب العقاب على ترك الصلاة بترك السورة ، فكلّ ما يؤمننا - عقل أو نقل - من عقابه عند تركه أو فعله سواء كان العقاب من آثاره بنفسه ، أو لأدائه إلى ما هو من آثاره كذلك يجوز لنا تركه أو فعله (2) ، وكلّ ما لم يؤمننا دليل من عقابه عند تركه أو فعله يجب امتثاله تركا وفعلا من غير استفصال بين أنّ العقاب من آثار نفس الفعل أو الترك كما في الواجب والحرام النفسيين ، أو من آثار ما يوجبه ، أو (3) يؤدّي إليه كما في الواجب والحرام الغيري ، والاستفصال في ذلك ممّا لا يجدي شيئا كما لا يخفى ، وكفاك شاهدا في [ ما ] ذكرنا (4) مقايسة حال عدم العلم بالواجب الغيري بما إذا اقتضت (5) التقيّة بتركه ، فعدم العلم والجهل بالشيء (6) كالتقيّة ولا فرق فيها بين أن يكون متعلّقها واجبا (7) نفسيا ، أو واجبا غيريا (8) وإن كان بينهما فرق آخر من جهة أخرى من حيث إنّ أحدهما حكم ظاهري ، والآخر واقعي إلاّ أنّ الكلام في المقام في ترتّب العقاب ، ولا فرق بينهما في هذه الجهة.

الثالث : العلم الإجمالي على ما عرفت منجّز للتكليف ، وموجب للاحتياط والإتيان بالمقدّمات العلمية فيما لم يكن في أحد الأطراف ما يقضي (9) بارتفاع التكليف

ص: 524


1- « ج ، م » : بما.
2- « س » : فعله أو تركه.
3- « ج » : و.
4- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : في ذكر ما.
5- « م » : قضت.
6- « س » : بالشكّ ، وفي « م » كان أوّلا « الشيء » ثمّ غيّر ب- « الشكّ ».
7- في النسخ : واجب وكذا في المورد الآتي.
8- « ج » : نفسي ... غيري.
9- « ج » : يقتضي وكذا في المورد الآتي.

الفعلي عنه بالخصوص من عقل أو نقل ، وأمّا إذا كان في (1) أحد الأطراف ما يقضي بذلك ، فلا مناص من القول بالبدلية إذ لا معنى لرفع الامتثال ؛ للزوم التناقض على تقدير العلم بالطلب والتكليف ، ولا معنى للحكم بعدم كون أحد الأطراف مقدّمة علمية ، لاستلزامه خلاف الفرض ، فإنّ المفروض أنّه من أطراف العلم الإجمالي ، فلم يبق إلاّ البدلية كما التزمنا بذلك فيما أسقط الشارع في المتباينين وجوب بعض الأطراف كما في جهات القبلة والصلاة الفائتة على ما مرّ ، وكما التزمنا به في الملاقي لأحد الإناءين المشتبهين.

والسرّ في ذلك هو ما عرفت في أوّل الأمور من أنّ تحمّل العقل للتكليف والامتثال ليس إلاّ بواسطة دفع احتمال العقاب ، وبعد ما تطمئنّ (2) النفس من العقاب بواسطة أصل من الأصول العملية الغير المعارضة بمثله ، فالعلم الإجمالي ممّا لا يجدي شيئا ، ولا يقضي بوجوب الإتيان به مقدّمة لانتفاء المناط.

وإذ قد تقرّر هذه الأمور ، فنقول : إنّ مقتضى العلم الإجمالي وإن كان هو الإتيان بالأكثر عند دوران الأمر بينه وبين الأقلّ لكونه مقدّمة علمية للامتثال بالمعلوم الإجمالي إلاّ أنّ أدلّة البراءة - : عقلها ونقلها - واردة على هذا الحكم العقلي الموجب للإتيان والامتثال كما في الشبهة البدوية ، فإنّ وجوب الجزء الزائد أمر مشكوك غير معلوم لنا ، وقد رفع العقاب والمؤاخذة عن هذه الأمّة المرحومة في كلّ ما لا يعلمون لعموم الموصولة ، فترك الجزء المشكوك رفع العقاب والمؤاخذة عنه وهو المطلوب.

فإن قلت : لا يجري البراءة في الأجزاء.

قلنا : المانع عن الجريان إن كان دعوى اختصاص أدلّتها بالواجبات النفسية ، فقد عرفت عدم تسليمها ، وإن كان من حيث إنّ أدلّة البراءة مفادها نفي العقاب ولا عقاب على الواجبات الغيرية ، فقد عرفت أيضا أنّ مفادها عدم ترتّب العقاب على ترك

ص: 525


1- « ج » : - في.
2- في النسخ : يطمئن.

شيء غير معلوم الوجوب سواء كان العقاب من لوازمه ، أو آثاره ، وهذا يكفي في المقام.

على أنّ لنا أن نقول : الأصل براءة الذمّة عن الأكثر أيضا ، فيتمّ المطلوب.

فإن قلت : كما أنّ الأصل براءة الذمّة عن الأكثر ، فالأصل براءة الذمّة عن الأقلّ ؛ إذ المفروض دوران الأمر بين أن يكون الواجب النفسي هو الأكثر ، أو الأقلّ ، والأقلّ بهذا العنوان غير معلوم ، غاية الأمر معلومية الأقلّ لا بشرط (1) ، والعلم الإجمالي إنّما هو بين الأكثر والأقلّ بشرط « لا » فهو بهذا العنوان يحتمل أن يكون واجبا نفسيا ، والأصل براءة الذمّة عنه ، فلا فرق بين المقام والمتباينين ، فكما أنّ في المتباينين لا يصحّ التعويل بالأصل في تشخيص أحد الأطراف ، فكذا في المقام.

قلت : قد عرفت في أوّل الأمور أنّ الداعي للامتثال ليس إلاّ دفع احتمال العقاب ، والعقاب معلوم في جانب الأقلّ ، للقطع بأنّ ترك الفاتحة ممّا يوجب ترك الكلّ والمأمور به ، وهكذا باقي الأجزاء المعلومة ، فلا بدّ من الإتيان بها ، غاية الأمر عدم العلم بوجوب الأقلّ بشرط « لا » ، وأمّا الأقلّ لا بشرط ، فوجوبه معلوم ، والعقاب على تركه قطعي ، فلا بدّ من الإتيان به وامتثاله ، وعدم العلم بكون العقاب ممّا يترتّب على نفس الأجزاء المعلومة ، أو باعتبار ترك الكلّ لا يجدي في المقام ، لما عرفت من أنّ الاستفصال في أنّ العقاب ممّا يترتّب على أيّ شيء غير معقول بعد ما علم إجمالا.

فإن قلت : إنّ أصالة البراءة عن الأكثر ممّا لا تعويل عليها فيما لو أريد بها إثبات أنّ الأقلّ هو المأمور به لعدم اعتبار الأصول المثبتة ، وممّا لا جدوى فيها فيما لو أريد بها نفي الأكثر فقط من دون تعرّض بأنّ المطلوب هو الأقلّ ؛ إذ لا يصدق الامتثال بدون إتيان الماهية المطلوبة.

قلت : إن أريد من إثبات الأقلّ إثبات مانعية الجزء الزائد ، فغير سديد ، وإن أريد

ص: 526


1- « م » : لا بشرطه.

إثبات أنّ الواجب هو الأقلّ المجرّد بمعنى عدم وجوب الأمر الزائد ، فإثبات الأصل غير مضرّ ؛ فإنّ الفصل عدمي وهو عين مفاد البراءة كما لا يخفى.

وتحقيق المقام ، على وجه ينكشف الظلام ، عن وجه المرام ، هو أنّ المانع من القول بالبراءة عند الشكّ في جزئية شيء يحتمل أن يكون أحد الأمور الثلاثة :

الأوّل : امتناع جريان البراءة في الأجزاء باختصاص دليلها بغيرها.

الثاني : معارضة الأصل بمثله بعد القول بجريانه.

الثالث : عدم الجدوى فيه على فرض الجريان وعدم المعارضة ، وحيث إنّ كلّ واحد منها قد خالف فيه بعض القائلين بالاحتياط ، فلا جرم نفصّل القول في كلّ واحد منها لتبيّن جليّة الحال ، وحقيقة المقال ، فهاهنا مقامات :

[ المقام ] الأوّل

قد عرفت (1) في ثاني الأمور المتقدّمة عدم الفرق بين أقسام الواجب في جريان البراءة وعموم أدلّتها فيها ، لإطباقها على نفي العقاب والضيق وإثبات الإطلاق والسعة عن كلّ ما فيه ضيق وتقييد وعقاب من غير أن يكون العقاب ممّا يترتّب على ذات الفعل في حدّ ذاته ، أو باعتبار أمر آخر كما مرّ مفصّلا إلاّ أنّ للخصم أن يقرّر مطلوبه بوجه آخر كأن يقول :

إنّ القائل بالبراءة إن أراد نفي جزئية ما هو مشكوك الجزئية بالبراءة ، لإطلاق ما دلّ على وضع ما حجب علمه ، فظاهر السقوط ؛ لأنّ من المقرّر في مقامه أنّ الجزئية ليست من الأحكام الجعلية الموضوعية حتّى تكون (2) مرفوعة عند عدم العلم بها ، فإنّها كالكلّية منتزعة من خطاب الشارع بوجوب الإتيان بالفاتحة مثلا ، فكما أنّ الكلّية ليست إلاّ ما ينتزعها العقل من لزوم الإتيان بعدّة أمور مرتبطة بعضها بآخر في

ص: 527


1- عرفت في ص 523.
2- في النسخ : يكون.

ترتيب آثارها عليها ، فكذا الجزئية ليست إلاّ ما يعتبرها العقل بعد اعتبار الشارع شيئا في أمر ، أو بعد الأمر بإتيان أمر مركّب ، ويظهر ذلك عند الرجوع إلى حالات الموالي في طلبهم الأمور المركّبة كالمعاجين ونحوها ، فإنّ المنشأ للمولى ليس إلاّ طلب تلك الماهيّة المركّبة ، وأمّا كونها مركّبة ، أو كون الأمر الفلاني جزءا ، فليس إلاّ من اعتبارات العقل واختراعاته كما لا يخفى على الفطن ، وكيف ما كان إنّ الجزئية ليست من الأمور الجعلية الموضوعية (1) وما لا وضع لها لا رفع فيها ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ قوله : « ما حجب اللّه علمه عن العباد » (2) أو « رفع عن أمّتي تسعة » (3) أو قوله : « الناس في سعة ما لا يعلمون » (4) إنّما بعمومها شاملة للجزء المشكوك.

وإن أراد نفي الحكم التكليفي بجريان البراءة في وجوب الجزء ، فهو أيضا ممّا لا شكّ في فساده ؛ إذ لا معنى لنفي وجوب الجزء (5) إلاّ نفي وجوب الكلّ ، فإنّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ، فإنّه عبارة عن مجموع الأجزاء ، فترك البعض عين ترك المجموع ، وهذا ظاهر سيّما بعد ملاحظة ما قرّر في محلّه من أنّ وجوب المقدّمة لا يغاير وجوب ذيها حيث إنّها ليست مطلوبة في نفسها وفي حدّ ذاتها ، وإنّما مطلوبيّتها للغير وللإيصال إليه ولما أنّ من المقرّر في مقامه أنّ لحوق حكم بشيء باعتبار إنّما هو لحوقه بذلك الاعتبار ، فالإيصال هو المطلوب ، والمطلوب منه هو الوصول إلى ذيها ، والمطلوب منه هو نفس الواجب ، فالوجوب الواحد منسوب إلى ذيها ، وبهذا الاعتبار نفسي ، وقد ينسب إلى مقدّمته ، وبهذا الاعتبار تبعي كالدلالة الواحدة القائمة باللفظ عند انتسابها إلى تمام المعنى الموضوع له وإلى جزئه ، أو لازمه كما لا يخفى ، ومن هنا يعلم وجه عدم الفرق بين قلّة المقدّمات وكثرتها في إنشاء الأوامر العرفية.

وبالجملة ، فلا معنى لوجوب الجزء إلاّ وجوب الكلّ ، ويلزمه (6) نفي وجوب الكلّ

ص: 528


1- « س » : الموضوعة.
2- تقدّم في ص 353.
3- تقدّم في ص 355.
4- تقدّم في ص 158 و 355.
5- « س » : الحرمة!
6- « ج » : يلزم.

عند نفي وجوبه على ما هو ظاهر ، فلا مجال في جريان البراءة في الأجزاء إلاّ بالنسبة إلى الأحكام الوضعية ، ولا بالنسبة إلى الأحكام التكليفية كما عرفت ، وستعرف تحقيق القول في المقام الثاني ، فتدبّر (1).

المقام الثاني

إنّ مناط القول بالاحتياط في جميع الأصول المتقدّمة هو وجود العلم الإجمالي بين شيئين أو أشياء على وجه لم يكن هناك طريق محصّل للامتثال في أحد الأطراف إمّا لفقده رأسا كالبيّنة ونحوها من الأمارات الشرعية في الموضوعات وأدلّتها في الأحكام ، أو لتعارضه كالبراءة في الشبهة المحصورة والشبهة الحكمية المرادية كما مرّ ، وهذا معنى قولهم : إنّ قاعدة الاشتغال واردة على البراءة بخلاف ما إذا كان في أحد الأطراف طريق سلوكه يحصّل الامتثال كما إذا كان الأصل جاريا فيه من غير معارضة بجريانه في الطرف الآخر كما هو مفاد قولهم : إنّ البراءة واردة على الاشتغال ، فإنّه على ما قرّرنا في ثالث الأمور - كما هو مقتضى الجمع بين مفاد الأدلّة - لا بدّ من الحكم بالبدلية الجعلية على وجه لا يترتّب عليه العقاب المترتّب على الواقع فيما لو كان الواقع في ضمن الطرف المعمول فيه أصل البراءة ، أو مطلق ذلك الطريق ، وعلى هذا فنقول :

إنّ القائل بالبراءة إن أراد جريان البراءة في الجزء ، فقد عرفت في المقام الأوّل فساده ، وإن أراد إجراء البراءة في الكلّ وهو الأكثر ، فهو وإن كان جاريا إلاّ أنّه معارض بأصالة البراءة من الأقلّ ، فالعلم الإجمالي موجود بين الأقلّ والأكثر مع عدم طريق محصّل للامتثال ، فلا بدّ من الاحتياط والإتيان بالأكثر دفعا للعقاب المقطوع المردّد بين الأقلّ والأكثر ؛ إذ العمل بالبراءة فيهما يلازم المخالفة القطعية ، وفي أحدهما

ص: 529


1- « ج ، م » : - فتدبّر.

دون الآخر ترجيح بلا مرجّح فيما لو كان معيّنا ، ولا جدوى فيه فيما لو كان غير معيّن من غير فرق بين المقام والمتباينين إلاّ أنّ (1) الاحتياط في المقام في فعل الأكثر فقط من غير حاجة إلى فعل الأقلّ مرّة ثانية بخلاف المتباينين.

والجواب باختيار (2) كلّ من الشقّين.

فأوّلا (3) : نختار جريان البراءة في الجزء ، قولك : لا يمكن جريان البراءة في الجزء من حيث الحكم الوضعي مسلّم ، لعدم مجعوليته عندنا ، وأمّا عدم إمكان جريانها من حيث الحكم التكليفي ، فغير مسلّم ؛ إذ لا معنى لأدلّة البراءة إلاّ رفع الضيق وإثبات السعة ، ولا شكّ في أنّ في فعل الجزء ضيقا ، فعند عدم العلم به ، فهو مرفوع كما لا يخفى ، ولا يثمر في ذلك رجوعه إلى نفي الكلّ ، فإنّ هذا هو بعينه معنى وجوبه الغيري ، ولا يدّعي أحد أنّ الجزء واجب (4) نفسي ، وقد عرفت أيضا تساوي نسبة أدلّة البراءة إليهما (5) كما مرّ (6).

وثانيا : نختار جريان البراءة في الكلّ والأكثر ، وأمّا قولك : وهو معارض بأصالة البراءة عن الأقلّ سقطة (7) واشتباه ، بيان ذلك أنّه قد مرّ في بعض الشبهات في الشبهة المحصورة عدم اعتبار العلم الإجمالي الواقع بين شيئين فيما إذا كان المعلوم (8) الإجمالي معلوما تفصيليا (9) في أحد الطرفين من جهة أخرى ؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشبهة البدوية كما إذا علمنا بنجاسة إناء مخصوص كأن علمنا بأنّه بول ، ثمّ علمنا بعد ذلك إجمالا بوقوع نجاسة أخرى في أحد الإناءين على وجه لا يختلف حكمها حكم البول في كيفية الطهارة. والوجه فيه ظاهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل إذ وجوب الأقلّ

ص: 530


1- في النسخ : إلاّ أنّ في أنّ!
2- في النسخ : فاختيار.
3- كذا في النسخ ولعلّ الأولى في العبارة : نختار كلاّ.
4- « س » : الواجب!
5- « س ، ج » : فيهما.
6- مرّ في ص 523.
7- « م » : سفسطة. والسقطة : العثرة والزلّة ( الصحاح 2 : 1132 ).
8- « س » : العلم.
9- « س » : تفصيلا.

- ولو من حيث كونه واجبا غيريا مرادا في ضمن الأكثر - معلوم وقد علمنا بترتّب العقاب على تركه وإن لم نعلم أنّ العقاب المستند إلى ترك الأقلّ إنّما هو ممّا يترتّب على تركه بنفسه ، أو بواسطة انجراره إلى ترك الأكثر ، فإنّه على ما عرفت في الأمور المتقدّمة ممّا لا يعقل هذا الاستفصال بعد ما علم أيضا من أنّ المقصود الأصلي والداعي الواقعي لعامّة المكلّفين هو الفرار عن العقاب ، والعلم الإجمالي المردّد (1) بين الأقلّ والأكثر بعد معلومية وجوب الأقلّ من هذه الجهة غير مجد ؛ إذ من المعلوم أنّ العقاب المترتّب على الأقلّ فيما لو كان الأقلّ واجبا نفسيا لا يخالف عقابه فيما لو كان واجبا غيريا والعقل نظره مقصور على دفع العقاب المعلوم ، فيبقى عقاب الأكثر مشكوكا صرفا من غير معارضة لعقاب الأقلّ ، فإنّ من المعلوم عدم اعتبار الحيثية النفسية المجهولة في الأقلّ بعد القطع بترتّب العقاب عليه.

وبالجملة ، للأقلّ حالتان واعتباران أحدهما : الأقلّ لا (2) بشرط شيء ، وهو بهذا الاعتبار واجب غيري ، وثانيهما : الأقلّ بشرط عدم اعتبار شيء فيه ، وهو بهذا الاعتبار واجب نفسي ، وقد علمنا بترتّب العقاب على ذات الأقلّ عند المخالفة وعدم الامتثال بالنسبة إليه ، ولا بدّ من دفعه ، ولا يزيد عقابه فيما لو كان واجبا نفسيا على عقابه فيما لو كان واجبا غيريا ، والحيثية المجهولة في الأقلّ ممّا لا يترتّب عليها شيء ، والأصل براءة الذمّة عن الأكثر ، وحيث إنّ البراءة طريق شرعي جعلي محصّل للامتثال ، فلا بدّ من الأخذ بها كما هو مورد ورود البراءة على الاحتياط ، فإنّه على ما قرّر فيما إذا كان أحد الأطراف موردا للبراءة دون غيرها.

والقول بأنّ البراءة لا يرد على الاشتغال ، فقد عرفت أيضا أنّ مورده فيما إذا لم يكن اختصاص البراءة بأحد الأطراف لئلاّ يلزم ارتفاع الامتثال مطلقا كما لا يخفى ، فعند التأمّل مرجع الأمر إلى وجوب أجزاء معلومة ، والشكّ في جزء غير معلوم كما في

ص: 531


1- « ج ، م » : المراد.
2- « ج » : - لا!

الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ؛ إذ لا أثر للعلم الإجمالي الدائر بين الأقلّ والأكثر عدى ما يترتّب على الأقلّ في الجملة كما في المثال المذكور.

وحاصل الكلام أنّ العلم الإجمالي أحد أطرافه هو الأقلّ بشرط لا ، وهذه الجهة وإن كانت مجهولة إلاّ أنّها على تقدير معلوميتها ممّا لا يترتّب عليها عقاب زائد حاصل من ترك كلّ من الأجزاء المستلزم لترك المركّب ، فالعقاب الذي هو المحذور في أمثال المقام متعيّن معلوم في جانب الأقلّ ، والعقاب في جانب الأكثر يبقى مشكوكا صرفا فيجري فيه البراءة ، فمرجعه في الحقيقة بالنسبة إلى العقاب إلى علم تفصيلي في جانب الأقلّ - وإن جهل الوجه فيه - وإلى شكّ تفصيلي في جانب الأكثر وإن كان الأقلّ بوصف أنّه بشرط لا من جملة أطراف العلم الإجمالي في مقابل الأكثر كما لا يخفى ، فتدبّر في المقام كي لا تشتبه (1) عليك حقيقة الحال ، فإنّ العلم الإجمالي في المقام ممّا لا يترتّب عليه شيء بخلاف المتباينين.

المقام الثالث

في أنّ بعد تسليم الجريان وعدم المعارضة بمثله ، فلا جدوى فيه ، إذ العلم الإجمالي المردّد بين الأقلّ والأكثر مقتضاه إحراز عنوان المأمور به في الخارج على وجه يصدق على العمل في الخارج عنوان الذي تعلّق الأمر به إمّا تفصيلا فيما لو علم كذلك ، وإمّا إجمالا بإتيان ما يحتمل أن يكون هو العنوان المأمور به فيما لو كان معلوما إجمالا ، وغاية ما يترتّب على الأصل في المقام هو نفي الأكثر فإن أريد مع ذلك إثبات أنّ الأقلّ هو المأمور به على وجه يصدق عليه عنوانه ، فغير سديد ؛ لأنّ الأصول المثبتة مطلقا ممّا لا تعويل عليها لا في الاستصحاب ولا في غيرها ، فنفي الأكثر لا يثبت أنّ المأمور به هو الأقلّ ، وإن أريد مجرّد نفي الأكثر من غير إرادة إثبات أنّ الباقي هو

ص: 532


1- « ج ، س » : لا يشتبه.

المأمور به ، فلا جدوى فيه ألا ترى أنّ ما ذكر في المقامين الأوّلين من جريان الأصل وعدم معارضته (1) بمثله إنّما هو موجود في الشبهة المصداقية فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين كما إذا نذر صوم رجب وشكّ في يوم أنّه من أيّامه ، أو لا ، ومع ذلك فقد (2) عرفت أنّ المتّجه فيها هو الأخذ بالاحتياط ؛ لأنّ البراءة عن الزائد لا توجب (3) صدق عنوان المأمور به على العمل في الخارج على ما هو المعتبر في صدق الامتثال.

وبالجملة ، فلا بدّ من إيجاد عنوان المأمور به في الخارج ليتحقّق الإطاعة وصدق الامتثال ، ولا شكّ أنّ الأكثر ممّا يصدق معه الامتثال بدون الأقلّ ، وذلك مشاهد (4) في الأوامر العرفية كما فيما لو أمر المولى بعبده إتيان معجون كذائي مبرّد مسهّل للصفراء ، وعلم العبد بجملة من أجزائه ، وشكّ في جزء آخر منه ، فإنّ عنوان المعجون المبرّد لا يصدق في الخارج إلاّ بعد الاحتياط كما لا يخفى.

والجواب عن ذلك : أمّا أوّلا ، فبالنقض فإنّ القائل بالاحتياط أيضا يرد عليه مثل ما ذكر ، فإنّ الاحتياط لا يثبت أنّ الأكثر هو المأمور به وإن كان يحصل معه الامتثال.

وتحقيق ذلك أنّ في المقام أمور ثلاثة :

الأوّل : الأقلّ بشرط عدم وجود جزء آخر معه.

والثاني : الأقلّ بشرط عدم وجوب جزء آخر معه على وجه لا يمنع عن صحّة الأجزاء الأخر على تقدير وجوده.

الثالث : الأقلّ بشرط وجوب جزء آخر وهو الأكثر.

فإن أراد أنّ الأصل لا يثبت أنّ الأقلّ بشرط عدم وجود الجزء الآخر هو المأمور به ، فهو كذلك إلاّ أنّ المدّعى غيره وإن أراد أنّ الأصل لا يثبت أنّ المأمور به هو الأقلّ

ص: 533


1- « ج ، س » : معارضة.
2- « م » : قد.
3- في النسخ : لا يوجب.
4- « ج » : شاهد.

بشرط عدم وجوب الجزء المشكوك ، ففساده ظاهر ؛ إذ المفروض ثبوت وجوب الأقلّ ، وأمّا نفي المشكوك ، فهو عين مفاد الأصل ومحلّ جريانه ، وليس من لوازم الحكم المنفيّ بالبراءة حتّى يكون مثبتا ، فالأصل المثبت ممّا لا تعويل عليه كما ستعرف (1) إلاّ أنّ المقام ليس من الأصول المثبتة ؛ إذ ليس المقصود من إجراء الأصل إثبات أنّ الأجزاء المعلومة هي المأمور بها فقط على وجه يكون الإتيان بالأجزاء المشكوكة مانعا عن صحّة الصلاة بل المقصود إثبات أنّ الأجزاء الواجبة هي هذه فقط على وجه لا يكون الغير واجبا ، وقد عرفت أنّ نفي الوجوب إنّما هو عين مفاد الأصل.

والحاصل : أن لا فرق بين القائل بالبراءة والقائل بالاحتياط في عدم إتيان كلّ منهما بعنوان المأمور به إلاّ أنّ المحتاط يأتي بما يوجد معه المأمور به واقعا ، والقائل بالبراءة بما يحصل معه الامتثال شرعا ؛ لما عرفت من أنّ الأصل فيما هو المقصود ليس مثبتا كما زعمه بعض الأجلّة (2).

وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وتحقيقه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي أنّ ذوات الموجودات الخارجية قد تصير معنونة بعنوانات مختلفة ومحكيا عنها بحكايات (3) متعدّدة ومصدوقة لمفاهيم متكثّرة ، فكلّما كانت ذات منها متعلّقة للطلب (4) بعنوان منها ، فيجب إيجادها معنونة بذلك العنوان وليس كلّ ما يعبّر عنه بشيء حكاية لذلك الشيء ؛ إذ ليس المراد بها مجرّد اللفظ والتعبير ، فإنّ اللفظ إنّما هو (5) معبّر عن مفهوم هو عنوان لذات الفعل الخارجي الصادر من زيد مثلا ، فقد يكون (6) بعض الألفاظ ممّا لا يعقل له معنى حتّى يكون عنوانا لذات الفعل الخارجي كما إذا كان اللفظ مجملا فإذا تعلّق الطلب بإيجاد ذات من الذوات ، فإن كانت تلك الذات (7) معنونة بعنوان خاصّ ، فلا بدّ

ص: 534


1- « م » : + الآن.
2- الفصول : 357.
3- « ج » : بخطابات.
4- « س » : متعلّق لطلب.
5- « ج ، م » : - هو.
6- « س » : مثلا فيكون.
7- « ج » : الذوات.

من الامتثال وإيجاد تلك الذات على وجه يصدق معه ذلك العنوان كما إذا قال المولى : أكرم فلانا ، فإنّه لا بدّ من إيجاد ذات الإكرام على وجه يصدق معه الإكرام في الخارج ، وإن لم يكن تلك الذات معنونة بعنوان كما إذا دلّ على وجوبها دليل لبّي كالإجماع ، فالواجب هو إيجاد نفس الذات وإن لم يصدق معه عنوان ، ومثل ذلك الألفاظ المجملة كما إذا قال المولى : جئني بعين ، ولم يعلم المراد منه هو الذهب ، أو الفضّة ، فإنّ وجوب إحدى الذاتين معلوم بهذا اللفظ المجمل إلاّ أنّه لا يجب إيجاد تلك الذات المعلومة بأحد هذين العنوانين وما ينتزع منه من المفاهيم المختلفة (1) والعناوين المتعدّدة ، فليست ممّا يجب تحصيلها وإيجادها ؛ لعدم اعتبارها في الطلب والأمر كالمراد والمأمور به وغير ذلك من وجوه الفعل المتّحدة معه بحسب اختلاف الاعتبارات كما لا يخفى.

وإذ قد تقرّر هذه (2) فنقول : إنّ محلّ الكلام في المقام فيما إذا قلنا بأنّ الصلاة مجملة ، وليست من المبيّنات ، فقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (3) ليس إلاّ مثل قول القائل : جئني بعين ، فكما أنّ الإلهام ، أو الإجماع لو دلّنا على وجوب شيء ولا يجب إحراز عنوان بعد إيجاد ذات الفعل ، فكذا فيما لو كان اللفظ مجملا ، لما عرفت من أنّ مجرّد (4) التعبير باللفظ لا يصيّر الذات ذات (5) عنوان ، واللفظ - فيما لم يعقل منه معنى ومفهوما مبيّنا - لا يكون كاشفا عن عنوان حتّى يجب إحرازه تفصيلا كما إذا علم كذلك أو إجمالا كما في المتباينين.

ومن هنا انقدح الفرق بين ما نحن بصدده من الأقلّ والأكثر في الشبهة الحكمية وبينه في الشبهة الموضوعية ، فإنّ صوم رجب مفهوم معيّن معلوم وعنوان تفصيلي لذات المأمور به ويجب إحرازه تفصيلا ، ولا يتمّ تحصيل (6) العلم بوجوده وامتثاله إلاّ

ص: 535


1- « ج » : المختلطة!
2- « ج » : هذا.
3- وردت الآية كثيرا في التنزيل العزيز.
4- « ج ، م » : بمجرّد.
5- « س » : - ذات.
6- ولا يحصل.

بعد الإتيان بالمأمور به فيما شكّ أنّه منه بخلاف ما نحن فيه ، إذ (1) ليس هاهنا (2) إلاّ لفظ الصلاة و (3) المفروض إجماله ، فليس على المكلّف إلاّ إتيان ذوات الأجزاء المعلومة ، والأصل يجري في المشكوك من غير معارضة وهو المطلوب.

لا يقال : إنّا نعلم أنّ الشارع أراد من قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) معنى قطعا ، فلا بدّ من تحصيل مراده ، ولا يحصل إلاّ بالإتيان بالمشكوك.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ ما علم وجوبه هو نفس ذوات الأجزاء من التكبير والفاتحة والركوع ونحوها ، وإرادة الشارع من لفظ الصلاة شيئا لا يوجب تحصيل المشكوك بعد عدم توقّف صدق عنوان عليه ، وأمّا عنوان المراد به كالمأمور به ونحوه ، فهي ممّا ينتزعه العقل ، وليست (4) ممّا اعتبره الشارع في أمره وطلبه كما مرّ ، فاللفظ في المقام كالإجماع والإلهام كما لا يخفى.

ونظير الكلام في المقام ما قدّمناه في بعض مباحث الخاصّ والعامّ من أنّه لو خصّ العامّ بمفهوم كلا تكرم الفسّاق بعد قوله : « أكرم العلماء » وشكّ في فسق زيد العالم ، [ ف- ] -لا بدّ من إحراز المخصّص ، ولا يجوز تحكيم العامّ بخلاف ما إذا كان المخصّص ذات (5) معلومة ، وشكّ في خروج شخص آخر (6) من العامّ فإنّه لا مناص من العمل بالعامّ وتحكيمه كما لا يخفى ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في جريان الأصل بالنسبة إلى الأجزاء ، وقد يؤيّد ذلك ببناء العقلاء ، وكان ذلك هو حكم العقل بقبح العقاب عند الشكّ في التكليف كما قلنا أوّلا بحكومة أدلّة البراءة عقلا ونقلا على قاعدة الاشتغال ، وكيف كان فقد قرّر بأنّ العبد لو شكّ في جزء من الماهيّة المطلوبة منه للمولى ، واستفرغ وسعه ، وبذل جهده في

ص: 536


1- « س » : إلاّ!
2- « م » : هنا.
3- « س » : « إذ » بدل : « و».
4- « س » : ليس.
5- كذا.
6- « س » : + شخص آخر!

تحصيل (1) أجزائها ، وعلم بعدّة منها ، واقتصر على الإتيان بمعلومه ، لا يعدّ عاصيا ، ولو بدا للمولى عقابه ، ذمّ عليه ، لقبح تكليف الجاهل وتعذيبه من غير فرق بين العقاب على أصل الماهيّة عند الجهل بها ، أو على جزئها عند عدم العلم به ، وذلك ظاهر فيما لو جرّد النظر عمّا عدى لزوم الإطاعة والانقياد.

وقد يتمسّك (2) القائل بالاشتغال بذلك أيضا بتقريب أنّ المولى لو أمر عبده بإتيان الإيارج (3) مثلا وشكّ عبده في شيء ، هل هو من أجزائه ، أو لا؟ مع علمه بأنّه إمّا من الأجزاء ، أو من المكمّلات فنجد العقلاء طرّا بانين على الإتيان بالمشكوك ، ولو عاقب المولى عبده في تركه المشكوك مع كونه حقيقة من أجزائه ، لم يمنعه العقلاء من ذلك كما لا يخفى.

وفيه : ما عرفت مرارا من أنّ المدار في الإطاعة والعصيان عند عامّة العقلاء ليس إلاّ على دفع العقاب مع قطع النظر عن تحصيل المصالح الكامنة في ذوات الأشياء و (4) مفاسدها ، وقد عرفت أيضا أنّ المدار في حكم العقل بأصالة البراءة أيضا إنّما هو على قبح العقاب عند الجهل بالتكليف ، فإن أراد المستدلّ أنّ بناء العقلاء في مقام تحصيل الإطاعة دفعا لخوف العقاب إنّما هو على الاحتياط ، فكلاّ ، ثمّ كلاّ حيث إنّ العقاب قبيح قطعا ؛ إذ لا تكليف إلاّ بعد البيان ولا عقاب إلاّ بعد البرهان ، وإن أراد أنّ بناءهم في مقام تحصيل المصالح والمفاسد كما يظهر من تمثيله بالإيارج على الاحتياط ، فهو كذلك إلاّ أنّ هذه سيرتهم عند الشكّ في نفس التكليف أيضا ، وحيث إنّ الغالب في أوامرهم أنّها ليست (5) مبنيّة على التعبّد بل يحتمل قصر نظرهم في أوامرهم على

ص: 537


1- « ج » : بتحصيل.
2- « س » : ولا يتمسك!
3- الإيارجة - بالكسر وفتح الراء - : دواء معروف وهو معجون مسهّل للأخلاط ، جمع إيارج - بالكسر وفتح الراء - فارسي معرّب إياره. انظر القاموس المحيط 1 : 437 ؛ تاج العروس 2 : 119 ( يرج ).
4- « ج ، س » : - و.
5- في النسخ : ليس.

المصالح المرتّبة على الأفعال الراجعة إلى الموالي ، أو إلى العبيد كما في مجرّد أوامر الطبيب أو الموالي ، فلا محالة بناؤهم على الاحتياط كيف؟ ولو كان الأمر على إحراز المصالح ودفع المفاسد مع قطع النظر عن جهة التعبّد ، لكان بناء السفهاء أيضا على الاحتياط فضلا عن العقلاء إلاّ أنّ الكلام في موارد البراءة والاشتغال إنّما هو (1) في مجرّد العقاب وعدمه مع قطع النظر عن المصالح فإنّ من الواضح عدم صلاحية البراءة لإحراز المصالح كما لا يخفى ، ولذلك لو فرضنا أنّ المولى أراد امتحان عبده ، وأمره بمعجون كذائي ، وسعى في تحصيل العلم بأجزائه غايته ، ورقى في كشف حقيقته نهايته ، ولم يأل جهدا في الفحص عنه من غير شوب تحصيل فائدة منه ، لم يصحّ من المولى عندهم العقاب عليه قطعا كما هو واضح بالتأمّل ولو قليلا.

فإن قلت : إنّ الإتيان بالأقلّ لا يوجب البراءة عن التكليف لعدم العلم بكونه مأمورا به ، فلا يمكن قصد التقرّب ؛ إذ لا بدّ فيه من تعيين المأمور به.

قلت أوّلا : قد عرفت أنّ الأصل يعيّن أنّ الأقلّ هو المأمور به ؛ إذ الأقلّ هو الأجزاء بشرط عدم وجوب الغير وهو ثابت ، أمّا وجوب العشرة المعلومة مثلا ، فبالفرض ، وأمّا نفي وجوب المشكوك ، فبالأصل.

وأمّا ثانيا : أنّ تعيين (2) المأمور به في المقام إنّما هو من حيث عدم العلم بأنّ تلك الأجزاء واجبة نفسية ، أو غيرية فقط ؛ إذ المفروض جهل المكلّف إنّما هو بهذه الحيثية ، ولا دليل على وجوب تعيين هذه الجهة لصدق الامتثال مع الجهل والإتيان وهو المدار في أمثال المقام.

واحتجّ القائل بالاشتغال بوجوه

منها : ما عرفت (3) من بناء العقلاء مع جوابه.

ومنها : أخبار الاحتياط كما في جزاء الصيد والعدّة وعمومات الاحتياط (4).

ص: 538


1- « م » : - هو.
2- « م » : تعيّن وكذا في المورد الآتي.
3- عرفت في الصفحة السابقة.
4- تقدّم في ص 506 - 508.

ومنها : اشتراك التكليف.

ومنها : استصحاب الاشتغال وقد مرّ (1) التقريب في جميع ذلك في المقامات السابقة والأصول المتقدّمة ،

فلا نسهب الكلام بإعادة ما لا يوجب فائدة ، وقد عرفت عدم نهوضها على المقصود في وجه.

نعم ، للقائل بالاشتغال في كلّ مقام على ما بنينا عليه في موارد الاحتياط مقدّمتان :

إحداهما : وجود العلم الإجمالي بالتكليف.

وثانيتهما (2) : وجوب تحصيل العلم بالامتثال دفعا للضرر المحتمل ونظرا إلى وجوب مقدّمة الواجب وغير ذلك من الوجوه الآتية بعضها إلى آخر كما مرّ.

والمقدّمة الأولى في المقام مسلّمة.

والمقدّمة الثانية قد عرفت عدم الاعتداد بها فيما كان في المقام أصلا أو طريقا آخر يعيّن أحد الأطراف من غير تعارض ، وقد مرّ وجود الأصل وعدم معارضته (3) بشيء وجدواه أيضا في المقامات الثلاثة.

وأمّا الكلام في الشرائط ، فقد يشكل القول بجريان البراءة فيها (4) ؛ فإنّها ليست بهذه المثابة من الظهور (5) كما في الأجزاء ، ويظهر وجهه بعد تفسير معنى الشرط ، فنقول : قد ذكروا له معاني كثيرة على ما صرّح به (6) جمال المحقّقين في بعض تعليقاته على الروضة (7) عند قول الشهيد : والتروك بالشرط أشبه ، إلاّ أنّ الأقرب عندنا - بعد إسقاط ما يزيّف بعضا منها ويؤيّد آخر - أنّ الشرط عبارة عن أمر خارج مقارن للمشروط على وجه

ص: 539


1- مرّ في ص 504.
2- في النسخ : ثانيهما.
3- في النسخ : معارضة.
4- « س » : - فيها.
5- ورد قوله : « فإنّها ليست بهذه المثابة من الظهور » في « ج ، م » قبل قوله : « فقد يشكل القول ».
6- « ج ، س » : - به.
7- حاشية الروضة البهية : 279 عند قول الشهيد في النيّة : « وإن كان التحقيق يقتضي كونها بالشرط أشبه ».

لو لم يوجد الشرط ، لم يوجد المشروط كالاستقبال للصلاة ، فإنّ الصلاة ليس من أجزائها الاستقبال إلاّ أنّ تلك الماهيّة تحقّقها صحيحة في الواقع (1) موقوف عليه ، وكالحالة الحاصلة من الوضوء لا نفس الأفعال ، فعلى هذا ما اشتهر عند الطلبة من أنّ الوضوء بمعنى الأفعال الخارجية شرط (2) للصلاة ممّا لا يعقل له معنى ، فإنّه حينئذ بالمعدّ أشبه من الشرط ، وإلاّ لكان اشتراط الصلاة بعدم تلك الأفعال الخارجية أولى من اشتراطها بوجودها ؛ إذ تلك الأفعال معدومة (3) حين الصلاة قطعا ، وعدمها مقارن للصلاة ، فهو أولى بالشرطية ، ولذا (4) لا يجب تكرارها عند كلّ صلاة ويكتفى بالوضوء الحاصل في الزمان السابق لصلاة الحاضرة كما لا يخفى.

وإلى ما ذكرنا يشعر ما اشتهر عند الأصوليين من أنّ الشرط ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ؛ فإنّ انعدام تلك الأفعال عند الصلاة ظاهر ، فلا بدّ من انعدام المشروط أيضا ، فالفرق (5) بين الجزء والشرط في أمثال تلك المهيات المركّبة الخارجية هو أنّ الجزء عبارة عن نفس تلك الأفعال الخارجية التي بها يحصل المركّب بخلاف الشرط ، فإنّه عبارة عن الحالة الحاصلة عن الأفعال الخارجية فيما يرى أنّها الشرط المقارنة (6) للمركّب وذلك ظاهر.

ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير بعض أجلّة المشايخ (7) من أنّ عند الاشتغال بالصلاة لو

ص: 540


1- « ج » : - في الواقع.
2- « س » : - شرط.
3- « س » : معدوم.
4- « ج ، م » : لهذا.
5- « م » : والفرق.
6- كذا.
7- في هامش « م » : وهو الأجلّ الأكمل كاشف الغطاء عن وجوه أبكار التدقيقات ، وأفكار التحقيقات الأستاد الأكبر جناب الشيخ جعفر نوّر اللّه ضريحه ، وروّح اللّه روحه. انتهى. أقول : الأمر عكس ذلك كما صرّح بذلك في فرائد الأصول حيث قال : ذكر بعض الأساطين [ في كشف الغطاء 3 : 367 وفي ط الحجري : 278 ] أنّ حكم الشكّ في الشروط بالنسبة إلى الفراغ عن المشروط بل الدخول فيه بل الكون على هيئة الداخل حكم الأجزاء في عدم الالتفات ، فلا اعتبار بالشكّ في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها بعد الدخول في الغاية ولا فرق بين الوضوء وغيره. انتهى. وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأصحاب كصاحب المدارك [ في المدارك 8 : 141 ] وكاشف اللثام [ في كشف اللثام 5 : 411 ] من اعتبار الشكّ في الشرط حتّى بعد الفراغ عن المشروط ، فأوجب إعادة المشروط. انظر فرائد الأصول 3 : 339 و 313.

شكّ في الوضوء ، لم يكن من الشكّ بعد الفراغ في شيء ؛ لبقاء محلّه فإنّه لو كان الشرط هو نفس تلك الأفعال ، فلا ينبغي الارتياب في مضيّ محلّه ، وإنّما يصحّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ تلك الأفعال سبب للشرط ، وللحالة (1) المقارنة للمشروط لحصولها بها إلاّ أن يقال : إنّ سبق السبب يكفي في سبق المسبّب ، فبعد مضيّ زمان السبب وإن لم يمض زمان المسبّب إلاّ أنّه يعدّ في العرف من الشكّ بعد مضيّ زمانه كما لا يخفى.

وإذ قد عرفت الفرق بين الأجزاء والشرائط ، فيحتمل أن يقال : إنّ الجزء حيث كان ممّا يحتاج إلى عمل خارج عن سائر الأجزاء ، فلو شكّ فيه ، كان أصل البراءة محكّما بخلاف الشرط ؛ فإنّ الشرط ليس عملا حتّى يجري فيه البراءة إلاّ أنّ هذا الاحتمال في غاية السخافة ؛ فإنّ الشرط وإن لم يكن بنفسه عملا بل هو عبارة عن الحالة المقارنة إلاّ أنّ سببه عمل (2) خارجي ، وأدلّة أصل البراءة ممّا لا تخصيص فيها ، فكلّ ما كان المكلّف لأجله في ضيق ، فتلك الأدلّة حاكمة بالسعة فيه ولو كان من أسباب الشروط ، ولا شكّ أنّ الأسباب التي تستند إليها الشروط إنّما هي أعمال خارجية كتحصيل الماء ونفس الأفعال والاستقبال ونحو ذلك ، فكما أنّ الأجزاء وجوبها مدفوع بالأصل ، فكذا الشرائط.

نعم ، للخبير أن يستشكل في مثل القيود المنضمّة إلى المطلقات كالإيمان في الرقبة والبياض فيها ، فإنّها لا تحتاج (3) إلى زيادة عمل في الخارج بخلاف الشرائط ، فهل فيما

ص: 541


1- « ج » : - وللحالة.
2- « س » : أنّ عمله سبب.
3- في النسخ : لا يحتاج.

دار الأمر بين المطلق والمقيّد هل يحكم بالبراءة عن المقيّد ويؤخذ بالمطلق ولو في فرد آخر غير المقيّد نظرا إلى عموم أدلّة البراءة ، أو لا بدّ من الأخذ بالمقيّد ؛ لعدم جواز الاستناد إلى البراءة إذ لا كلفة في المقيّد لاتّحاد وجودي القيد والمقيّد في الخارج ، فلا يحتاج إلى مشقّة زائدة على نفس تحصيل المطلق ؛ إذ بتحصيله يحصل المقيّد أيضا؟ وجهان ، والأقوى جريان البراءة أيضا.

والسرّ فيه أنّ أخبار البراءة بين مصرّح (1) بأنّ الناس في سعة ، ومشعر (2) بذلك كما يظهر بالتأمّل في مساقها ، ولا شكّ أنّ الالتزام بالإتيان بالمقيّد ضيق على المكلّف وغير معلوم والناس في سعة ما لم يعلموا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون محتاجا إلى مشقّة عملية أيضا كما عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، أو لم يكن ؛ فإنّ المناط رفع الضيق وإثبات السعة وهو في المقام أيضا موجود كما لا يخفى ، ومثل ذلك ما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير ؛ فإنّ في طرف التعيين والالتزام به ضيقا لا ينكره إلاّ العسوف وإن كان القول بوجوب المعيّن ممّا لا يتوقّف على مشقّة زائدة على أصل التكليف الثابت في مقام الفعل والعمل.

والحاصل : أنّ أخبار البراءة لها مراتب : فتارة : يتوهّم انحصار موردها بالواجبات النفسية دون الواجبات الغيرية كما زعمه بعض الأجلّة (3) ، وقد عرفت (4) فيما مرّ فساده ، ويزيدك توضيحا ملاحظة حال الواجبات الغيرية سواء كانت أجزاء ، أو غيرها من المقدّمات كالشرط والسبب وسبب الشرط ونحوها أن لو كان كلّ واحدة منها مطلوبة بطلب مغاير لطلب الآخر كأن يكون الأوامر متعدّدة كما لا يخفى ، وإطلاق الوجوب على الغيري غير عزيز في مطاوي كلماتهم كما في تقسيمهم النكاح إلى الواجب وغير ذلك.

ص: 542


1- كذا.
2- كذا.
3- الفصول : 357.
4- عرفت في ص 523.

وأخرى : يعمّ الواجبات الغيرية أيضا مع تخصيصها بما فيه كلفة عملية ، فيشمل الأجزاء والشرائط دون القيود المعتبرة في المطلقات ، وقد عرفت أيضا عدم استقامة هذا التخصيص ؛ لعدم ما يوجبه مع وجود ما يقتضي العموم.

وثالثا : يعمّ جميع أقسام الضيق والكلفة من غير تخصيص بواحد (1) دون آخر كما هو المختار ، فكلّ ما ينافي السعة فهو مدفوع بالأصل ، فيشمل ما فيه الضيق ولو بحسب النفس كما لا يخفى ، فيمكن القول بأنّ مفاد البراءة هو الأوّل فيجري البراءة في الواجبات النفسية فقط كما يراه بعض الأجلّة (2).

ويمكن القول بعمومها للغيرية فقط كما يظهر من المحقّق القمّي (3) فإنّه قد قال بالبراءة عند الشكّ في الشرطية والجزئية (4) ، وحكم بالاشتغال في مباحث المطلق والمقيّد (5) ولا منافاة بين كلاميه وإن كان يرد عليه أنّ القول بجريان البراءة في المتباينين ليس بأولى من جريانها في المطلق والمقيّد كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر اندفاع ما قد يتوهّم من التدافع بين ما ذهب إليه صاحب المدارك من القول بالبراءة عند الشكّ في الجزئية والشرطية (6)(7) ، والقول بلزوم الاحتياط فيما إذا شكّ في كفاية الفارسية في التكبيرة والتقديم والتأخير (8) ؛ إذ لعلّه يرجع إلى الإطلاق والتقييد ، فيحكم بالاشتغال فيه ، فتدبّر.

ص: 543


1- « ج » : بوجه.
2- هو صاحب الفصول وتقدّم عنه.
3- « س » : + رحمه اللّه.
4- القوانين 2 : 30.
5- القوانين 1 : 325 - 326.
6- « س » : الشرطية والجزئية.
7- انظر المدارك 3 : 308.
8- قال في المدارك 3 : 320 : لمّا كان النطق بالعربية واجبا وقوفا مع المنقول كان التعلّم لمن لا يعرف واجبا من باب المقدّمة ، فإن تعذّر وضاق الوقت أحرم بلغته مراعيا المعنى العربي فيقول الفارسي : خدا بزرگتر است. وهذا مذهب علمائنا وأكثر العامّة ... ويفهم من قول المصنّف رحمه اللّه : فإن ضاق الوقت أحرم بترجمتها ، عدم جوازها مع السعة ، وهو إنّما يتّجه مع إمكان التعلّم لا مطلقا.

ونحن حيث فرغنا من إبطال التخصيصين ، فجريان البراءة فيما دار الأمر بين المطلق والمقيّد ممّا لا كلام فيه عندنا.

فإن قلت : قد مرّ فيما سبق أنّ وجود العلم الإجمالي مع فقد طريق يعيّن أحد الأطراف يوجب الاحتياط ، والأصل في المقام معارض بمثله ، فلا مجال للقول بالبراءة ؛ إذ المطلق بوصف الإطلاق يباين المقيّد ، فإنّه أحد أقسام الماهية المجرّدة كما هي مورد القسمة ، فكما أنّ الأصل براءة الذمّة عن المقيّد ، فالأصل براءة الذمّة عن المطلق ؛ إذ هو حينئذ في عرض المقيّد ، وليس لك أن تقول : إنّ وجوب المطلق في الجملة معلوم ، وإنّما الشكّ في وجوبه النفسي ، أو الغيري إذ المطلق ليس مقدّمة للمقيّد بل هما في محلّهما طبيعتان متباينتان كما يظهر من ملاحظة انقسام الماهية التي ليست إلاّ هي إليهما كما لا يخفى ، فالأصل معارض بمثله ، فيجب الاحتياط كما يظهر من المحقّق القمّي (1) على ما وجّه به كلامه بعض تلامذته في بعض تعليقاته على ما نقله الأستاد دام علاه.

قلت : قد عرفت فيما مرّ أنّ المناط في مسائل البراءة والاشتغال هو حكم العقل بلزوم دفع العقاب في جانب الاشتغال ، والأمن منه في طرف البراءة كيف ما اتّفق وفيما دار الأمر بين المطلق والمقيّد وإن كان رجوعه إلى المتباينين إلاّ أنّ العقاب في طرف المطلق معلوم ، ولا يجدي الاستفصال في أنّ الموجب للعقاب أيّ شيء بعد العلم بترتّبه في طرف ترك المطلق ، وبالجملة فالظاهر جريان البراءة بالنسبة إلى القيود أيضا.

وأمّا الموانع والقواطع لو شكّ فيهما ، فهل يدفعان بالأصل ، أو لا؟ الأقرب : نعم.

وتوضيح ذلك : أنّ المانع والقاطع مرجعهما إلى اشتراط عدم أمر وجودي ، فبالحقيقة الشكّ في المانعية والقاطعية راجع إلى الشكّ في الشرطية ، وقد عرفت جريان البراءة فيه.

ص: 544


1- « س » : + رحمه اللّه.

ويؤيّد ما ذكرنا تمسّك الصدوق (1) بعدم مانعية القنوت بالفارسية في الصلاة بأخبار البراءة مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (2) و [ نحو ] ذلك.

وأمّا الفرق بينهما ، فهو أنّ المانع إنّما يمنع عن فعلية اقتضاء (3) المقتضى مع وجود المقتضي ، والقاطع كأنّه يقطع المقتضي على ما يظهر من لفظهما لغة. وبعبارة أخرى : إنّ القاطع ما ينهدم به بنيان العمل ، وينتشر منه نظم المأمور به على وجه لا يرتبط بعض أجزائه بآخر ، والمانع ما يفسد منه نفس المأمور به ، أو جزؤه لاشتراطه بعدم وجود المانع ، فالقاطع كالحدث الواقع في الصلاة ، والمانع كالرياء في نفس العبادة ، أو في جزئها فإنّه مفسد للمأمور به ولو باعتبار فساد جزئه ، فلا يجزي إعادة الجزء المتراءى فيه ، والفرق هذا إنّما هو بحسب ما يساعد عليه اللفظان لغة.

ويمكن الفرق بينهما أيضا بأنّ القاطع إنّما يكون منسوخه وحدوثه في أثناء العمل بخلاف المانع ؛ فإنّه ربّما يمنع عن الدخول في نفس العبادة ، أو جزئها كما لا يخفى ، فالقاطع يؤثّر أثره وإن لم يقارن عملا في الأثناء ، والمانع الأثنائي يمكن القول بعدم تأثيره فيما لم يقارن عملا كنسبة الخلاف في أثناء الصلاة ؛ فإنّها لو كانت قاطعة ينهدم الصلاة عن أصلها ، ولو كانت مانعة ، فإن قارنت فعلا من أفاعيل الصلاة ، فيحتمل القول ببطلانها بخلاف ما لم يقارن فعلا منها كما لا يخفى ، فالمعتبر في العبادة إمّا وجود شيء ، أو عدمه ، والأوّل إمّا جزء ، أو شرط ، والثاني إمّا مانع ، أو قاطع وقد عرفت جريان البراءة على التقادير الأربعة ، لعموم أدلّتها بل وحكم العقل كما استكشفناه عن بناء العقلاء.

وقد يتمسّك للقول بعدم الاعتناء لاحتمال القاطعية - كما هو المختار - باستصحاب الصحّة ، وعلى تقدير استقامته ، فهو يجدي على القول بالاشتغال أيضا ، لورود

ص: 545


1- « س » : + رحمه اللّه.
2- الفقيه 1 : 316 / 937. وتقدّم عنه أيضا في ص 359.
3- كذا. لا يخفى ما في إسناد الاقتضاء إلى المعلول.

الاستصحاب عليه إلاّ أنّ الكلام فيه وإن وقع الاستدلال به في كلام أساطين العلماء ، وذلك لأنّ المراد بهذا الاستصحاب إمّا استصحاب صحّة الكلّ ، أو صحّة الأجزاء السابقة ، أو الأجزاء اللاحقة ، وعلى التقادير فلا وجه له.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ الكلّ لم يقع كما هو المفروض ، فلا معنى لاستصحاب صحّة شيء غير واقع.

وأمّا على الثاني ، فلامتناع الشكّ في ارتفاع صحّتها فإنّ ما يقع على صفة ، يمتنع (1) ارتفاعها منه في وقت ما وقع ، وإلاّ فلم يكن ممّا وقع عليها ، فلا يعقل ارتفاع صحّة الأجزاء ؛ إذ لا معنى لها إلاّ إسقاط القضاء بها ، أو (2) موافقتها للأمر ، أو ممّا يترتّب عليها أثرها المطلوب منها بعد انضمام سائر الأجزاء المعتبرة على جميع التقادير ، فهي كذلك قطعا (3) من غير ارتياب إلاّ على القول بالاحتياط كأن يقال : إنّ الشرك محبط للأعمال ، فلو شكّ في أنّ العجب أيضا محبط أو لا ، فيستصحب كونها على حالتها الأوّلية (4) كما لا يخفى.

وتوضيح ذلك : أنّ صحّة الأجزاء السابقة صحّة مشروطة تأهّلية (5) ، فهي بحيث ما لو انضمّت إليها الأجزاء الأخر على ما هي عليها ، تقع صحيحة مؤثّرة غير فاسدة بأيّ معنى من المعاني للصحّة - عبادة ومعاملة - على اختلاف الاصطلاحين ، فإنّ التحقيق عندنا رجوع الكلّ فيها إلى معنى واحد ، وصدق الشرطية موقوف على صدق التعليق (6) وإن كان التالي (7) كاذبا ، فصحّة الأجزاء السابقة لا ينافيها (8) القطع بفساد الأجزاء اللاحقة ، فكيف بالشكّ في القطع ، فالصحّة في تلك (9) الأجزاء على ما

ص: 546


1- « ج ، م » : يمنع.
2- « م » : و.
3- « س » : - قطعا.
4- « س » : الأولوية!
5- « ج ، س » : بأهلية!
6- « س » : التعلّق!
7- « م » : الثاني.
8- « ج ، س » : لا تنافيها.
9- « س » : - تلك.

هي المتنازع فيها مقطوعة معلومة ، فلا وجه للاستصحاب.

وأمّا على الثالث ، فلعين ما مرّ في الأوّل ؛ فإنّ (1) الأجزاء اللاحقة على ما هو المفروض لم تقع ، فلا معنى لاستصحابها.

فإن قلت : المراد صحّة الأجزاء السابقة والشكّ في بقاء صحّتها على أيّ معنى من المعاني معقول ؛ إذ لعلّ الشرط فيها على أيّ وجه عدم حدوث القاطع ، فالشكّ فيه يستلزم الشكّ في الصحّة ، فيستصحب.

قلت : فلا يقين بالصحّة في السابق ، فلا يعقل الاستصحاب ؛ إذ مع احتمال عروض القاطع لا قطع بالصحّة في الأوّل ، ولو فرض القطع بذلك ، ثمّ طرأ له الشكّ في الأثناء فيسري شكّه إلى زمن قطعه وهو كالشكّ ابتداء ، فلا يجري فيها الاستصحاب.

وتحقيق هذا أنّ القاطع لا يخلو عن أحد وجوه : فتارة يكون عدمه - مع قطع النظر عن الأجزاء السابقة واللاحقة - شرطا في الصلاة ، فهو بنفسه من شرائط الصحّة ، وأخرى يكون عدمه معتبرا في صحّة الأجزاء السابقة ، ومرّة في صحّة الأجزاء اللاحقة.

فعلى الأوّل ، فلا شكّ في صحّة الأجزاء السابقة كما عرفت ؛ إذ لا تناط صحّتها بشيء كما هو المفروض.

وعلى الثاني ، فالشكّ في عروض القاطع لا يجامع العلم بوقوع الأجزاء السابقة صحيحة.

وعلى الثالث ، فعدم جريان استصحاب الصحّة أظهر ؛ لعدم الارتباط كما عرفت.

فإن قلت : لا شكّ أنّ بعض هذه الأجزاء مرتبط بالآخر بحيث يعدّ هذا الارتباط والالتيام أيضا من أجزاء الصلاة ، وقبل الشكّ في (2) قاطعية شيء كان الارتباط بحاله ، وبعد الشكّ وحصول ما يحتمل القاطعية يشكّ في بقائه على حالته الأوّلية ، فالأصل

ص: 547


1- « س » : فلأنّ.
2- « م » : - في.

بقاؤه.

وبعبارة ثانية : كان للمكلّف إلحاق بعض الأجزاء ببعض آخر ، وأن ينضمّ بعضها إلى بعض حتّى يحصل المأمور به ، وبعد حصول المشكوك فيه كالعجب - مثلا - يشكّ في بقائه ، والاستصحاب يقضي بوجوده ، و (1) لا ضير فيه.

قلت : فلا قطع بالصحّة في السابق ، وتفصيل الكلام في المقام ممّا ستعرفه في بحث الاستصحاب إن شاء اللّه.

ثمّ إنّ بعض من يدّعي الفضل في هذا الفنّ ، ويزعم أنّه ممّن صبغ يده في هذه الصناعة قد أورد على المحقّق القمّي (2) بما لا محصّل له أبدا ، فزعم أنّ بين القول بالبراءة وصحّة الصلاة والعبادة عند الشكّ في الجزئية ونحوها - كما يظهر منه (3) في المقام - والقول بأنّ الأصل في العبادات هو الفساد - كما يظهر في مبحث النهي عن العبادات - تناقضا.

وأنت خبير بأنّه بمكان من الضعف والوهن حيث (4) إنّ القول بالبراءة - بعد العلم بمشروعيّة أصل العبادة والشكّ في اعتبار شيء فيها جزءا ، أو شرطا (5) - لا ينافي القول بالفساد نظرا (6) إلى قاعدة التوقّف قبل دلالة دليل على مشروعية العبادة ، وإنّما الشبهة نشأت من الحكم بالصحّة على تقدير البراءة والقول بعدم الفساد كما يظهر من عنوانه البحث بأصالة الصحّة.

وفيه من عدم الاستقامة أيضا ما لا يخفى.

ص: 548


1- « م » : - و.
2- « س » : + رحمه اللّه.
3- « س » : - منه.
4- « س » : وحيث.
5- « س » : شرطا وجزء.
6- « س » : ونظرا.
وينبغي التنبيه على أمور :
الأوّل :

الأوّل (1) :

إذا علمنا باعتبار أمر في شيء مركّب وشككنا في أنّه هل هو من الأجزاء الركنية ، أو لا ، فهل الأصل الركنية ، أو لا؟

واعلم أوّلا (2) : أنّ الركنية ليست عنوانا في الأدلّة الشرعية ، وإنّما عبّروا عن الأجزاء التي تنهدم الماهية عند انهدامها عمدا وسهوا بالركن ، ولذا اختلف في تحديده ، فزاد بعضهم (3) الزيادة في الحالتين أيضا إلاّ أنّ الأوّل أقوى حيث إنّ النيّة - على القول

ص: 549


1- سيأتي الثاني منها في ص 559.
2- في هامش « م » : دفع لما توهّمه صاحب الحدائق [ 8 : 61 ] من أنّ الركن ليس في عنوان الأدلّة مع أنّ الأصحاب قد رتّبوا عليه أحكاما كثيرة.
3- قال السيّد محمّد باقر الطباطبائي اليزدي في وسيلة الوسائل فى شرح الرسائل : 247 : فمن الأوّل المحقّق في المعتبر [ 2 : 233 - 234 ] والشرائع [ 1 : 62 و 63 و 67 و 68 ط الشيرازي ] والعلاّمة في المنتهى والإرشاد والشهيد في الذكرى [178] والفاضل المقداد في التنقيح والسيّد في المدارك [ 3 : 308 و 326 و 400 و 401 ] بل عن جامع المقاصد والروض نسبته إلى أصحابنا ، ومن الثاني ابن فهد في المهذّب البارع [ 1 : 356 ] والمحقّق الثاني في جامع المقاصد [ 2 : 199 ] والشهيد الثاني في الروض [ 2 : 665 ، وفي ط الحجري : 249 وسيأتي نصّ كلامه ] ونسبه في الروضة [ 6 : 468 ] إلى المشهور حيث قال : ولم يذكر المصنّف رحمه اللّه حكم زيادة الركن مع كون المشهور أنّ زيادته على حدّ نقيصته تنبيها على فساد الكلّية في طرف الزيادة لتخلّفه في مواضع كثيرة لا تبطل بزيادته سهوا ونسبه شيخ الجواهر إلى الشهرة في لسان جماعة من المتأخّرين بل نسبه في المهذّب البارع إلى الفقهاء. انتهى كلام اليزدي في الوسيلة. أقول : نصّ كلام الشهيد في روض الجنان فى شرح ارشاد الأذهان 2 : 665 وفي ط الحجري : 249 هكذا : الركن في في الصلاة عند أصحابنا ما ( تبطل الصلاة لو أخلّ به ) سواء كان الإخلال ( عمدا أو سهوا ) وكذا بزيادته إلاّ ما يستثنى. قال في الجواهر 9 : 241 : إنّ الزيادة غير معتبرة في مفهوم الركن في كلام كثير منهم وإن اشتهر على لسان جماعة من المتأخّرين. وقال في الحدائق 8 : 31 في بحث التكبير : وهذا الحكم مبنيّ على أنّ زيادة الركن موجبة للبطلان كنقصانه ، وهو على إطلاقه مشكل ، وأخبار هذه المسألة قد دلّت على البطلان بترك التكبير عمدا ، أو سهوا ، وأمّا بطلانها بزيادته ، فلم نقف له على نصّ ، وكون الركن تبطل الصلاة بزيادته ونقيصته عمدا وسهوا مطلقا وإن اشتهر ظاهرا بينهم إلاّ أنّه على إطلاقه مشكل ؛ لتخلّف جملة من الموارد عن الدخول تحت هذه الكلّية كما يأتي بيانه كلّه في محلّه ، ومن ثمّ قال في المدارك في هذا المقام : ويمكن المناقشة في هذا الحكم أعني البطلان بزيادة التكبير إن لم يكن إجماعيا فإنّ أقصى ما يستفاد من الروايات بطلان الصلاة بتركه عمدا وسهوا وهو لا يستلزم البطلان بزيادته. انتهى.

بركنيّتها - زيادتها غير مضرّة سهوا بل وعمدا كما لا يخفى ، فالركن عبارة عن جزء تبطل الماهية عند انهدامه (1) عمدا ، أو سهوا ، وبعد ملاحظة ما زاد البعض من قيد الزيادة تحصل (2) في المقام صور :

منها : ما لو ترك المكلّف الجزء عمدا.

ومنها : ما لو ترك سهوا.

ومنها : ما لو زاد عمدا.

ومنها : ما لو زاد سهوا.

وحيث إنّ الصورة الأولى حكمها معلوم بعد كون الأمر المذكور جزءا ، أو لا أقلّ من انعدام الماهية عند انعدام الجزء عمدا ، وإلاّ لما كان جزءا كما هو ظاهر ، فلنذكر الصور (3) الثلاثة الأخيرة ليتّضح الحال ، فنقول :

الصورة الأولى فيما إذا ترك الجزء سهوا ، فهل يحكم بالفساد ، أو لا؟ فنقول : مقتضى الأصل الفساد ؛ لعدم صدق امتثال الواقع على الإتيان بالماهية الناقصة ، فإنّ الأمر متعلّق على الصلاة الواقعية ، والمفروض اعتبار السورة مثلا فيها ، فالإتيان بالصلاة الخالية عن السورة ليس امتثالا بما هو لازم الامتثال في الواقع ، فالأمر الدالّ

ص: 550


1- « ج ، م » : انعدامه.
2- « س ، م » : يحصل.
3- « م » : الصورة!

على وجوب الصلاة بإطلاقه موجود ، فلا بدّ من امتثاله.

فإن قلت : إنّ غاية ما يستفاد ممّا دلّ على اعتبار السورة مثلا في الصلاة هو اعتبارها حال الذكر والعلم ، وأمّا عند النسيان والسهو فلا دليل على اعتبارها فيها ، فلا نسلّم أنّ الامتثال الواقعي في الصلاة يتوقّف على الإتيان بالصلاة مع السورة ؛ لرجوع الكلام في المقام إلى جزئية السورة في حقّ الناسي (1) وهو بعينه الكلام فيما إذا شكّ في جزئية شيء ، وقد عرفت أنّ التحقيق هو القول بالبراءة ، هذا إذا قلنا باختلاف أحكام الناسي والذاكر قطعا ، ولا أقلّ من الشكّ فيه ، ومعه يتمّ المطلوب أيضا ؛ إذ الشكّ في الجزئية مع هذا أيضا باق ، والأصل البراءة لا يختلف في ذلك اختلاف أسباب الشكّ كما لا يخفى.

قلت : ما ذكر يتوقّف على أن يكون الناسي والذاكر موضوعين مستقلّين كأن يكون أحدهما في عرض الآخر كالحاضر والمسافر ، وليس كذلك ؛ فإنّ المستفاد من أدلّة النسيان غايته معذورية الناسي كما في صورة الجهل ، فإطلاق الأمر الدالّ على وجوب الجزء حال النسيان أيضا بحاله ، فيجب الإعادة بعد الذكر.

والسرّ فيه : أنّ النسيان وإن خالف الجهل في بعض الوجوه إلاّ أنّ الذكر هو عين العلم ، وقد مرّ أنّ العلم لا يكون مناطا (2) لاختلاف الأحكام كما في بعض الصفات.

وربّما يقال : إنّ المسألة تبتني (3) على أنّ الأمر العقلي الظاهري هل يفيد الإجزاء (4) ، أو لا؟ فعلى الأوّل يقال بعدم الركنية ؛ لأنّ الأمر بالإتيان في حال النسيان مجز ، فلا يجب الإعادة ، وعلى القول بعدم الإجزاء فالأصل الركنية ، وحيث إنّ القائل ممّن يرى الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي (5) ، فجزم بالأوّل.

ص: 551


1- « س » : العامي.
2- « س ، م » : مناط!
3- « س ، م » : يبتني ، « ج » : تبنى.
4- « ج ، س » : الإحراز.
5- « س » : الفعلي!

وفيه أوّلا : فساد البناء حيث إنّ في مثل النسيان لا يكون أمرا ظاهريا من العقل بل (1) وهو تخيّل الأمر كما في صورة الجهل المركّب فإنّ المكلّف بعد الاعتقاد بوجوب (2) شرب الخمر ليس مكلّفا بشربه لا واقعا ولا ظاهرا.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الأمر الظاهري العقلي على تقدير إمكانه فهو إنّما فيما لو كان حكم العقل في عنوان اعتبره العقل لأن يحكم عليه من حيث هذا العنوان كما في حكم العقل بحجّية الظنّ بعد الانسداد ، و (3) حكم العقل بالإباحة قبل الشرع على القول بظاهرية حكم العقل ، فإنّ الحكم بالحجّية إنّما هو باعتبار الانسداد ، فما لم يلاحظ العقل عنوان الانسداد لا يحكم بالحجّية ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ؛ فإنّ الجاهل مع اعتقاد علمه يعمل لا من حيث إنّه جاهل ومعتقد بل علمه يستند إلى اعتقاده.

وتوضيح ذلك : أنّ عنوان الناسي والجاهل المركّب لو كان مناط حكم العقل ، لوجب أن يكون عمل الناسي والجاهل المركّب من حيث نسيانه وجهله بالواقع ، مع ما ترى من فساده ؛ حيث إنّ الناسي يفترق غيره في عقد سلبي وهو عدم وجوب الجزء المنسيّ عليه حين نسيانه بمعنى عدم عقابه بواسطة النسيان ولا يلتفت إلى نسيانه ، كيف وهو تارك للفعل نسيانا ، وكذا الجاهل المركّب فإنّ أعماله إنّما تستند (4) إلى علمه باعتقاده لا إلى أنّه جاهل مركّب وحكم الجاهل كذا كما في الحكم بالظنّ ، فإنّ حكم العقل بحجّية الظنّ بعد الانسداد إنّما هو من حيث الانسداد. وبالجملة ، فعند نسيان الجزء لا يكون للمكلّف أمر ظاهري من العقل.

وثانيا : فساد المبنى إذ لو كان في النسيان وما يشبهه أمر ظاهري عقلي ، فنحن قد بيّنّا في محلّه عدم إفادته (5) الإجزاء.

ص: 552


1- « س » : - بل.
2- « س » : لوجوب.
3- « م » : - و، وفي « س » : أو.
4- في النسخ : يستند.
5- « م » : إفادة.

وهذا تمام الكلام في مقتضى الأصل الأوّلي ، وهل في المقام أصل ثانوي يفيد صحّة العبادة عند النقيصة السهوية ، أو لا؟ الأقرب : نعم ؛ لاستصحاب الصحّة على ما استند إليه جملة من الأصحاب إلاّ أنّك قد عرفت (1) عدم اتّجاهه سابقا ، وسيجيء (2) تفصيله بما لا مزيد عليه في مقامه لا حقا إن شاء اللّه ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن أمّتي تسعة » (3) وعدّ منها النسيان.

والتقريب في ذلك يحتاج إلى تمهيد ، فنقول : لا شكّ في وجود نفس النسيان وذاته في الأمّة ، فرفع النسيان لا بدّ وأن يحمل على رفع أحكامه فإنّ رفع الذات عن مجموع الأمّة - كما يراه مخالفونا (4) عند الاحتجاج بمثله للإجماع على أن يكون المجموع معصوما واحدا - خلاف الظاهر كما يظهر من رفع الاستكراه وما لا يطيقون ، كما هو كذلك فيما لو حمل على نفي الذات باعتبار اشتمال الأمّة في كلّ زمان على معصوم كما هو الحقّ عندنا معاشر الإمامية ، وحمل الإكراه حينئذ على معنى آخر بعيد عن مساق الرواية.

مضافا إلى أنّ الامتنان (5) حينئذ غير معقول لوجود المعصوم في جميع الأمم في كلّ الأعصار كما هو المحقّق عند أهل التحقيق ، فيجب الحمل على رفع الأحكام ، وحينئذ فإمّا أن يراد به تمام الأحكام والآثار المترتّبة على ذات الفعل مع قطع النظر عن الخطأ ، أو بعضها ، لا سبيل إلى الثاني ؛ لعدم مخصّص له ، ودعوى ظهور المؤاخذة ممنوعة ولا سيّما بحيث يمنع عن إرادة الباقي ، فتعيّن الأوّل إمّا لأنّ الظاهر عند عدم ظهور واحد من الأحكام هو الجميع كما يساعده العرف ، أو لأنّ رفع جميع الأحكام أقرب إلى نفي الماهية ، وحيث تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات متعيّن (6) ، أو لأنّ التخصيص بواحد (7)

ص: 553


1- عرفت في ص 545 - 546.
2- لعلّ مراده في الصورة الثالثة في الزيادة سهوا ولم يكمل البحث.
3- الوسائل 15 : 369 ، باب 56 من أبواب جهاد النفس ، ح 1 وتقدّم في ص 355.
4- في النسخ : مخالفينا.
5- « س ، م » : الامتثال.
6- « س » : معيّن.
7- « ج » : بوجه!

دون آخر تحكّم ، والحمل على بعض غير معيّن يلغي الكلام مع ظهوره في مقام البيان كما يوافقه الاعتبار.

مضافا إلى رواية صحيحة واردة في المقام تدلّ على أنّ المراد رفع جميع الأحكام وضعية كانت أو غيرها حيث إنّ الراوي سأل عن الحلف بالطلاق والعتاق مكرها ، فأجابه عليه السلام بعدم الوقوع مستندا في ذلك إلى قوله صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي ستّة » والرواية مذكورة في طلاق المكره من كتاب الوسائل (1).

ثمّ إنّ المراد بالأحكام المرفوعة الأحكام (2) المترتّبة على ذات الفعل مع قطع النظر عن الخطأ والذكر ، فالمعنى أنّ ما يترتّب على فعل ، أو ترك - من مؤاخذة ، أو ضمان ، أو عقاب - فهو مرفوع عن هذه الأمّة المرحومة عند النسيان والخطأ و (3) الإكراه ونحو ذلك.

ومعنى الرفع عدم الجعل ، وحيث إنّ ظاهر الأوامر والأدلّة استواء الناسي والذاكر في الأحكام ، فالدفع في المقام بمنزلة الرفع ، أو لأنّ المانع من الجعل ليس إلاّ الامتنان (4) ، وإلاّ فالمصلحة الداعية للجعل موجودة ، فعلى ما عرفت من معنى الرفع والمراد بالأحكام المرفوعة لا يرد ما قد يتوهّم من أنّ المقام لا رفع فيه ، ومن أنّ الأحكام المترتّبة على الخطأ كثيرة.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

ص: 554


1- الوسائل 23 : 226 ، باب 12 جواز الحلف باليمين الكاذبة للتقيّة كدفع الظالم عن نفسه أو ماله أو نفس المؤمن أو ماله ، ح 12 بإسناده ، عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا ، عن أبي الحسن عليه السلام : في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : « لا ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وضع عن أمّتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا ». وأورده أيضا في الوسائل 23 :237- 238 في باب 16 باب أنّ اليمين لا تنعقد في غضب ولا جبر ولا إكراه ، ح 6.
2- « م » : والأحكام!
3- « س ، م » : - و!
4- « س » : الامتثال!

وأمّا الثاني ، فلأنّ أحكام الخطأ ممّا يترتّب على نفس الخطأ ، ولا دخل لها للفعل ، فكما أنّ عند عدم العلم أحكام المعلوم مرفوع لا أحكام الشكّ لكون عدم العلم موضوعا لها ، فكذا حال الخطأ والنسيان أحكام الفعل المخطئ (1) فيه والمنسيّ مرفوع ، وأمّا الأحكام التي موضوعها الخطأ والنسيان ، فلا يرتبط بالمقام كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ المقصود في المقام هو القول بعدم وجوب الإعادة على الناسي عند التذكّر كما عرفت سابقا ، وإلاّ فالعقاب عنه مرفوع قطعا ، ولزوم الإعادة إنّما يترتّب على بقاء الأمر الأوّل ، فإنّها من آثاره ولوازمه فإنّها تنبعث (2) من عدم انطباق المأتيّ به لما قد أمر به على وجهه ، ولا شكّ أنّ هذه صفة ينتزعها العقل ، ويعبّر عنها بفساد المأمور به ، فهذه الصفة ليست من الأمور المجعولة للشارع حتّى يقال بدلالة الحديث على رفعها ، فإنّ ما للشارع أن يضعه ، له أن يرفعه ، فلو حكم الشارع برفعه ، لزم التناقض بين الحكمين ، ولذلك (3) ترى الشهيد الثاني (4) يعترض على المستدلّ بالرواية في مثل المقام بأنّ الإعادة إنّما هو من آثار بقاء الأمر ، فلا يصحّ الاستدلال.

قلت : نعم ، ولكنّ المرفوع في المقام هو جعل الجزء المشكوك جزءا ، فلا يجب الإعادة ؛ إذ لو لم يكن المشكوك جزءا حال السهو لم يكن الإعادة واجبة ، وذلك ظاهر.

ثمّ إنّ في المقام شيئا يجب التنبيه عليه وهو [ أنّ ] التمسّك في رفع الأمور الوضعية ونحوها بالرواية إنّما يستقيم فيما لو كانت تلك الأحكام من الحقوق المتعلّقة باللّه جلّ جلاله ؛ حيث إنّ الاستظهار المذكور من الرواية لا يتمّ إلاّ بعد اعتبار ورودها في مقام

ص: 555


1- « ج » : - المخطئ.
2- ظاهر النسخ : ينعبث [ كذا ].
3- « س » : لذا.
4- انظر روض الجنان 2 : 548 وفي ط الحجري : 205 وقارن بما ذهب إليه في تمهيد القواعد : 73 - 74.

الامتنان على ما نبّهنا عليه وهو - كما لا يخفى - إنّما يصحّ فيما لم يكن من حقوق الآدميين ممّا يتعلّق بأموالهم وأنفسهم وإن كان الجاعل لتلك الحقوق هو اللّه سبحانه ؛ لاستلزامه رفع التفضّل بالنسبة إليهم (1) في خصوص الصلاة « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الوقت والقبلة والطهور والركوع والسجود » (2) وجه الدلالة أنّ الرواية تدلّ على عدم وجوب الإعادة فيما سوى الخمسة المذكورة ، وحيث إنّ المستثنى في الرواية بعضها من الأجزاء كالركوع والسجود ، والآخر من الشرائط كالقبلة والطهور ، فيكشف عن عموم المستثنى منه ، فيتمّ التقريب في عدم وجوب الإعادة في كلتا السلسلتين.

لا يقال : إنّ نفي الإعادة - كما هو المستفاد من الخبر - ليس على ما ينبغي ، للزوم الإعادة في الأجزاء والشرائط بأسرها (3) فيما لو أخلّ بأحدها عمدا ، فلا بدّ من تخصيصه بحالة السهو ، فيكون تخصيصا للأكثر.

لأنّا نقول : ليس ذلك من التخصيص في شيء بل هو تقييد لإطلاق الخبر ، ولا ضير فيه أبدا.

فإن قلت : وعلى تقدير التقييد بحالة السهو من عدم لزوم الإعادة ، فلا يتمّ أيضا ؛ للزوم الإعادة في النيّة والتكبيرة والقيام الركني المتّصل بالركوع.

قلت : أمّا الأوّلان ، فلا يصدق الصلاة بدونهما ، فإنّهما الفاتحة ، والمقصود لزوم إعادة الصلاة ، وأمّا الأخير ، فيلازم الركوع كما لا يخفى ، ثمّ المراد من نفي لزوم الإعادة من سوى الخمسة إنّما هو بالنسبة إلى الأشياء التي من شأنها إعادة الصلاة لأجلها ، وأمّا

ص: 556


1- هنا في نسختي « س ، م » : قدر كلمتين بياض.
2- الوسائل 1 : 371 - 372 ، باب 3 من أبواب الوضوء ، ح 8 و 4 : 312 ، باب 9 من أبواب القبلة ، ح 1 و 5 : 470 - 471 ، باب 1 من أبواب أفعال الصلاة ، ح 14 و 6 : 91 ، باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 5 و 6 : 313 ، باب 10 من أبواب الركوع ، ح 5 و 6 : 389 ، باب 28 من أبواب السجود ، ح 1 و 6 : 401 ، باب 7 من أبواب التشهّد ، ح 1 و 7 : 234 ، باب 1 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 4.
3- « س ، م » : وبأسرها.

الأشياء التي لا دخل لها في الصلاة بحسب الاحتمال عند العلماء والفقهاء ممّا دلّ على اعتباره دليل مشكوك الدلالة أو الاعتبار ، فلا يرتبط بالمقام كما لا يخفى.

[ الصورة ] الثانية (1) : في الزيادة عمدا ، والكلام فيه تارة يقع في حكمها ، وأخرى في مفهومها.

أمّا الأوّل ، فظاهر بعد ما أصّلنا من التمسّك بأصالة البراءة عند الشكّ في الموانع لرجوع الشكّ عند الزيادة إلى المانعية.

وأمّا الثاني ، فيتصوّر (2) على أقسام :

الأوّل : أن يزيد على الماهية المركّبة بما هو يباين أجزاءها جنسا ، وهذا يحتمل أن يكون مفسدا لخروج الماهية بالزيادة عمّا كانت عليها كالنقيصة ، ويحتمل أن لا يكون مفسدا لأنّ المفروض فيما إذا لم يكن تلك الزيادة موجبة لنقصان جزء من أجزاء المركّب ، وعلى هذا فلا دليل على فساد المركّب ، وقصد الجزئية لا يجعل الشيء جزءا حقيقة وإن حرم الاستناد بالأوّل.

الثاني : أن يزيد عليها بما لا يباين الأجزاء الماهية ، وحينئذ فلا بدّ من ملاحظة الدليل ، فتارة يدلّ على اعتبار ماهية الجزء من غير تقييده (3) بفرد ، أو فردين كما في الذكر ، وأخرى يدلّ على اعتباره مقيّدا بعدد كسورة واحدة أو سجدتين ونحوهما.

فعلى الأوّل ، فلا ريب في صحّة المركّب ؛ لأنّ الزيادة امتثال للأمر بالماهية لعدم تفاوت الماهية بالزيادة والنقصان ويعدّ في العرف الزيادة هذه من الامتثال أيضا ، وليس هذا من الامتثال عقيب الامتثال المختلف فيه عندهم كما لا يخفى.

وعلى الثاني ، فإمّا أن يكون التقييد بالعدد الخاصّ على وجه ينافي الزيادة كما في

ص: 557


1- هذا هو الصواب. وفي « س » : الثاني ، وموضع كلمة « الثاني » في نسخة « م » بياض ولم ترد في نسخة « ج ». وتقدّمت الصورة الأولى في ص 550.
2- « س ، م » : فتصوّر.
3- « س » : تقييد.

الوحدة المعتبرة في مدلول الألفاظ على ما يراه بعضهم ، أو لا يكون على هذا الوجه.

فعلى الأوّل ، فلا شكّ في فساد المركّب ؛ لانحلال المطلوب إلى شيئين : اعتبار الجزء ، واعتبار عدم غيره.

وعلى الثاني ، فقد يشكل كما إذا قيل : اقرأ سورة منوّنة بتنوين التنكير الدالّة على الوحدة ، فقرأ سورتين مع عدم قصد الزيادة كأن يقصد البدلية مع احتمال اللحن في الأوّل من حيث إنّ ظاهر التنوين - مثلا - اعتبار الوحدة ، ومن حيث الأصل ، فيشكّ في المانعية وقد قرّر جريان البراءة فيها ، وأمّا إذا قصد الجزئية ، فمرجع المسألة إلى التشريع ، والخلاف فيه في محلّه.

[ الصورة ] الثالثة (1) : في الزيادة سهوا ، واعلم أنّ المقام عكس المقام السابق حيث إنّ الحكم فيه مشكل دون التصوير (2) ؛ إذ الزيادة السهوية معلومة جدّا ، وأمّا الحكم ، فإن قلنا بعدم بطلان الزيادة العمدية كما عرفت ، فالحكم في الزيادة (3) السهوية بطريق أولى ، فإنّ ما لا يفسد عمده لا يفسد سهوه (4) قطعا ، وإن قلنا بالاشتغال في المقام الأوّل ، فيمكن القول بالصحّة أيضا في المقام لشموله لخبر الرفع وعدم العود إلاّ من خمسة كما عرفت إلاّ أنّ في المقام روايتين تدلاّن بظاهرهما على الفساد ، فلا بدّ من ذكرهما وتنقيحهما :

إحداهما : ما رواه الشيخ عن زرارة ، عن أحدهما عليهم السلام : « لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم فإنّ السجود زيادة في المكتوبة » (5) فإنّ ظاهر التعليل إفساد (6) الزيادة مطلقا ولو كان من غير قصد الجزئية للصلاة كما في سجدة العزائم بل ولو كان الزيادة عن سهو

ص: 558


1- هذا هو الصواب ، وفي « س » : الثالث ، وموضع كلمة « الثالث » في نسخة « م » بياض ولم ترد في نسخة « ج ».
2- « ج » : التصوّر.
3- « س » : فالحكم لزيادة.
4- « ج » : عمدا ... سهوا.
5- تهذيب الأحكام 2 : 96 / 361 ؛ الوسائل 6 : 105 ، باب 40 من أبواب القراءة ، ح 1.
6- « س » : فساد.

كما هو ظاهر الإطلاق.

وثانيتهما (1) : ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام : « من زاد في صلواته شيئا ، فعليه الإعادة » (2) فالخبران يعارضان ما ذكر من خبر الرفع وعدم الإعادة (3).

الأمر الثاني :

الأمر الثاني (4) :

إذا ثبت اعتبار شيء في ماهية - شرطا أو شطرا - في الجملة كأن علمنا بذلك في حالة الاختيار ، فهل يحكم بذلك مطلقا حتّى عند الاضطرار إلى ترك ذلك الشيء ، فيجب الإتيان بالباقي ، أو لا يجب لانتفاء الكلّ ، أو المشروط عند انتفاء الجزء والشرط ، وتحقيقه في مقامين :

أمّا الأوّل ، فهل الأصل الأوّلي بمعنى أحد الأصول العملية براءة واشتغالا واستصحابا وتخييرا يقضي بالأوّل ، أو بالثاني؟ فنقول : الحقّ أن ليس في المقام أصل كلّي يرجع إليه عند الشكّ ، بل المقامات في ذلك متفاوتة ، فربّ مقام يؤخذ فيه بالبراءة قطعا ، وفي آخر بالاشتغال ، أو البراءة على الاختلاف ، والأمر الكلّي في المقام هو القول بوجوب ملاحظة حال الكلّ بعد ترك الجزء والمشروط بعد انتفاء الشرط وإعمال الأصول فيه (5) ، ففي ما لو اضطرّ إلى ترك ما هو معتبر في الواجب النفسي كالوضوء للصلاة ، أو القراءة فيها ، أو غير ذلك ، فالأصل البراءة ؛ لأنّ مرجع الشكّ إلى وجوب الصلاة مثلا بدون هذه الأشياء و (6) هو شكّ في التكليف قطعا ، والأصل البراءة ، وفيما لو

ص: 559


1- « س ، ج » : ثانيهما.
2- الوسائل 8 : 231 ، باب 19 من أبواب الخلل في الصلاة ، ح 2 وفيه : « صلاته » بدل : « صلواته ».
3- هنا في نسخة « س » قدر سطرين وفي نسخة « م » قدر نصف سطر بياض وكتب في هامش « م » بالفارسية : در اينجا يك صفحه باز گذاشته شده بود.
4- مرّ الأمر الأوّل في ص 549.
5- « ج » : - فيه.
6- « ج ، م » : - و.

اضطرّ إلى ترك ما هو معتبر في الواجب الغيري كشرائط الوضوء بناء على غيريتها ، أو أجزائه ، فإن سرى الشكّ إلى وجوب الواجب النفسي الذي ترك ما هو معتبر في مقدّمته ، فلا كلام أيضا في أنّ الأصل البراءة ؛ لعدم الفرق في ذلك بين الاضطرار إلى الجزء ، أو جزئه ، أو الشرط ، أو شرطه ، أو جزء شرطه ، أو شرط جزئه كما لا يخفى ، وإلاّ فيبنى على مسألة جريان البراءة في الواجبات الغيرية كما هو التحقيق ، واختصاصها بالنفسيات كما يراه بعضهم (1) ، وذلك كما إذا علمنا بوجوب الصلاة ولو عند ترك غسل اليد وعدم سقوطه بواسطة فقد جزء الشرط على ما هو ظاهر.

ثمّ إنّ أكثر ورود هذا إنّما هو في العبادات ، وأمّا في المعاملات ، فقد يتّفق أيضا كما في السلف لو تعذّر ذكر تمام الأوصاف ، وفي صيغ العقود عند عدم التمكّن من إحراز بعض الشرائط المعتبرة كالعربية ونحوها ، وحيث ما وقع فالأصل يقضي بالفساد كما في جميع الأحكام الوضعية عند الشكّ في تحقّق أسبابها ، وأمّا ما ذكره بعضهم في صحّة السلف والسلم من عزّة الوجود لو كان المعتبر ذكر تمام الأوصاف ، فهو مبنيّ على الأصل الثانوي كما ستعرفه ، ونظيره ما أفاده ثاني المحقّقين (2) في بعض إفاداته عند الشكّ في اعتبار العربية حالة العجز عنها.

وربّما يقال في المقام بلزوم الإتيان بالباقي بعد الاضطرار شرعا ، أو عقلا نظرا إلى الاستصحاب ، وبيانه أنّ قبل العجز كان الباقي واجبا ، وبعده نشكّ فيه ، والأصل بقاؤه ، ويتمّ الكلام فيما لو بلغ المكلّف معذورا ؛ لعدم (3) القول بالفصل ، ولا يمكن القول بالبراءة فيما لو بلغ معذورا ، والاستناد إلى عدم القول بالفصل في الباقي لقوّة الاستصحاب ووروده على ضميمة الآخر إلاّ أنّ وهن هذه الكلمات ممّا لا يكاد يخفى.

ص: 560


1- وهو صاحب الفصول وشريف العلماء كما تقدّم.
2- انظر جامع المقاصد 2 : 235 و 237 و 246 و 321 و 322 وج 4 ، ص 59 وج 5 ، ص 46 ، ج 7 ، ص 313 ، ج 12 ، ص 74 و 75 ؛ رسائل المحقّق الكركى 1 : 69 و 70 و 110 و 199 و 204.
3- « م » : بعدم.

أمّا أوّلا ، فلأنّ الاستصحاب ممّا لا مجرى له في هذه المقامات على ما نبّه عليه المحقّق الخوانساري (1) حيث إنّ وجوب الكلّ المعلوم قد انتفى قطعا ، ووجوب الباقي المشكوك الآن لم يكن معلوما ؛ لاحتمال مدخلية الانضمام.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ دعوى الإجماع المركّب في المقام في غاية الصعوبة.

وأمّا المقام الثاني ، فهل في المقام ما يقضي من الأدلّة العامّة والقواعد الكلّية المشتركة كقوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) وقوله : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (3) وقوله : « إذا أمرتكم بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم » (4) بانقلاب هذا الأصل مطلقا ، أو لا

ص: 561


1- مشارق الشموس فى شرح الدروس 110 في شرح قول الشهيد : « والأقطع يغسل ما بقي ولو استوعب سقط » حيث قال : واستدلّ أيضا بالأصل والاستصحاب وأنّ غسل الجميع بتقدير وجوده واجب فإذا زال البعض ، لم يسقط الآخر ؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، وفيه ضعف ؛ لأنّ الاستصحاب في مثل هذا الموضع ممّا لا يمكن إجراؤه لأنّ الحكم السابق إنّما هو الأمر بغسل المجموع من حيث هو مجموع أمرا واحدا ، وليس أوامر متعلّقة بكلّ جزء جزء منه ، ولمّا لم يبق متعلّقه هنا فسقط التكليف به ، فلا بدّ في غسل الجزء الباقي من تكليف على حدة وقس عليه أيضا حال قولهم : الميسور لا يسقط بالمعسور ، والحاصل أنّ هذه الدلائل ممّا يشكل إتمامها فالعمدة في التعويل الإجماع.
2- عوالى اللآلى 4 : 58 ، ح 205 وفيه : « لا يترك الميسور بالمعسور ».
3- عوالى اللآلى 4 : 58 ، ح 207 ، وعدّه من الأمثال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 19 : 75. قال العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس 2 : 305 / 2757 : هو معنى حديث « وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم » وقال النجم : لفظ الترجمة قاعدة وليس بحديث. وكذا قال نحوه في ج 3. ص 196.
4- ورد مرسلا في رسائل السيّد المرتضى 2 : 244 ؛ مجمع البيان 3 : 429 في ذيل آية ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) من سورة المائدة : 101 ؛ جوامع الجامع 1 : 536 ؛ عوالى اللآلى 4 : 58 ، ح 206 ؛ البحار 22 : 31 ، باب 37 ، وورد مسندا في كتب العامّة كصحيح البخارى ومسلم وسنن النسائى وابن ماجة والبيهقى ومصنّف عبد الرزّاق ومسند ابن راهويه وأحمد وأبى يعلى وصحيح ابن خزيمة وابن حبّان ومعجم الأوسط للطبرانى والحديث عامي ولعلّ سرى الاستدلال به في كتب الفقهية من كتب العلاّمة كالمنتهى والتذكرة والنهاية ونقله العلاّمة حين ذكر استدلال العامّة من كتبهم.

كذلك ، أو يفصّل بين الأجزاء والشرائط؟ وجوه ، بل لا يبعد القول بأنّها أقوال :

فيحتمل أن يقال بعدمه مطلقا نظرا إلى قصور مستند هذه الروايات عن إثبات مثل هذا الأصل المخالف للقواعد بل ودلالتها أيضا ؛ لظهورها في الواجبات المتعدّدة المستقلّة كما في أفراد العامّ.

ويحتمل أن يقال بالانقلاب نظرا إلى هذه الأخبار فإنّ ضعف السند فيها منجبر بعمل الأصحاب لهذه الروايات في موارد جمّة كما يظهر بالتتبّع في كلماتهم (1) ، ومن ذلك

ص: 562


1- أوّل من استدلّ بقاعدة الميسور فخر المحقّقين ثمّ من بعده الشهيد الأوّل ومن بعده المحقّق الثاني ثمّ الشهيد الثاني ثمّ متابعوهم وبالغ في ذلك الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية ( الفوائد الجديدة ) 438 فائدة 17 قال بعد ذكره حديث إذا أمرتكم ... والميسور لا يسقط ... وما لا يدرك ... : والأخبار الثلاثة يذكرها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية على وجه القبول وعدم الطعن في السند أصلا ، ونقلت في الغوالى عنهم عليهم السلام ، ومشهورة في ألسن جميع المسلمين يذكرونها ويتمسّكون بها في محاوراتهم ومعاملاتهم من غير نكير مع جريان الاستصحاب في كثير منها بل جلّها لو لم نقل كلّها ووصفها تلميذه صاحب الرياض كثيرا بالمعتبرة قال عنها في الرياض 2 : 154 وفي ط الحجري 1 : 54 : المعتبرة وضعفها بعمل الأصحاب طرّا مجبور ، وأوّل من ناقش في سنده صاحب الحدائق والنراقي وسيأتي نصوص كلماتهم ، إلاّ أنّ فخر المحقّقين والشهيدين والشيخ البهائي ووالده والمحقّق الأردبيلي لم يعبّروا عنها بالحديث والرواية ولعلّها عندهم قاعدة اصطيادية ، وأتعجّب من صاحب المدارك كيف اعتمد عليها مع سلوكه طريقة صعبة في تلقّي الأحاديث بالقبول وينبغي أن أنبّه أنّ المستدلّين بالميسور لم يستدلّوا مستقلاّ ب- « ما لا يدرك كلّه ... » وغالبا استدلّوا بحديث « إذا أمرتكم ... » في تلو الاستدلال ب- « الميسور لا يسقط ... » ونذكر مواردها : 1. ايضاح الفوائد لفخر المحقّقين : ج 1 ، ص 232 ، 276 ، 282 وج 4 ، ص 109. 2. ذكرى الشيعة للشهيد الأوّل : 85 ، 93 ، 97 ، 108 ، 110 ، 181 ، 188 ، 196. 3. جامع المقاصد للمحقّق الكركي : ج 1 ، ص 232 ، 372 وأيضا استدلّ بحديث إذا أمرتكم ، 496 و 498 وج 2 ، ص 66 ، 67 ، 162 ، 202 ، 203 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 207 ، 209 ، 238 ، 250 ، 253 ، 284 ، 288 ، 301 ، 321 وج 3 ، ص 372 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 174 وج 9 ، ص 101 وج 10 ، ص 156 ، 196 ، 222 ، 224 وج 12 ، ص 75. 4. رسائل الكركى : ج 3 ، ص 274. 5. مسالك الأفهام للشهيد الثاني : ج 1 ، ص 198 ، 214 وج 2 ، ص 221 ، 417 وج 6 ، ص 294 وأيضا ح إذا أمرتكم وج 7 ، ص 97 وج 8 ، ص 184 وأيضا ح إذا أمرتكم ج 11 ، ص 302 وأيضا ح إذا أمرتكم وج 13 ، ص 48 وأيضا ح إذا أمرتكم ، واستدلّ الشهيد أيضا بحديث إذا أمرتكم مستقلاّ في المسالك : ج 9 ، ص 535 وج 10 ، ص 120 ، 337 وفي شرح اللمعة : ج 2 ، ص 294 و 308. 6. روض الجنان للشهيد الثاني : ج 1 ، ص 101 و 270 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 337 ج 2 ، ص 670 ، 671 ، 688 ، 838 وفي ط الحجري 33 ، 99 وأيضا ح إذا أمرتكم 125 ، 251 ، 252 ، 259 ، 278 وأيضا استدلّ مستقلاّ بحديث إذا أمرتكم في الروض 2 : 675. 7. رسائل الشهيد الثاني : 229 ، 238 وأيضا ح إذا أمرتكم. 8. العقد الحسينى لوالد الشيخ البهائي : ص 46. 9. مجمع الفائدة والبرهان للمحقّق الأردبيلي : ج 1 ، ص 102 ، 184 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 206 وج 2 ، ص 217 و 265 وأيضا ح إذا أمرتكم وج 5 ، ص 77 وأيضا ح إذا أمرتكم وج 6 ، ص 124 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 227 وج 7 ، ص 304 وأيضا ح إذا أمرتكم وج 11 ، ص 499 وأيضا ح إذا أمرتكم. 10. مدارك الأحكام للسيّد محمّد العاملي : ج 3 ، ص 249 ، 321 ، 333 ، 386. 11. حبل المتين للشيخ البهائي : 171. 12. ذخيرة المعاد للسبزواري : ج 1 ، ص 29 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 84 وأيضا ح إذا أمرتكم ناقش في صحّة سندها وفي دلالتها ، 103 وأيضا ح إذا أمرتكم وج 2 ، ص 242 وأيضا ح إذا أمرتكم وقال بعد تسليم السند : لا يشتمل هذا ... ولقائل أن يقول ضعف الرواية منجبر بالشهرة وعدم المعارض ، 261 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 263 كان لقائل أن يقول بعد تسليم صحّة الرواية والإغماض عن الإجمال الذي فيها ، 267 ، 283 وج 3 ، ص 604 وأيضا ح إذا أمرتكم واستدلّ أيضا بحديث إذا أمرتكم مستقلاّ في الذخيرة : ج 1 ، ص 103 وج 2 ، ص 219 و 220 وفي كفاية الأحكام : ص 218. 13. كشف اللثام للفاضل الهندي : ج 2 ، ص 478 ، 503 وج 3 ، ص 160 ، 345 ، 398 ، 399 وج 4 ، ص 19 ، 25 ، 73 ، 93 ، 255 ، 352 وج 6 ، ص 342 وفي ط الحجري : ج 1 ، ص 149 ، 152 ، 177 ، 204 ، 211 ، 218 ، 225 ، 252 ، 265 ، 393 وج 2 ، ص 170 ، 189 ، 282 وأيضا ح إذا أمرتكم. 14. حاشية مجمع الفائدة والبرهان للوحيد البهبهاني : 95 ( الثلاثة ) ، 122 وأيضا ح ما لا يدرك كلّه ( تأييد ) ، 175 ( الثلاثة ) ، 176 ، 274 ( الثلاثة ) ، 361. 15. رياض المسائل للسيّد عليّ الطباطبائي : ج 1 ، ص 261 ( المعتبرة ) ، 265 ( المعتبرة ) ج 2 ، ص 154 ( المعتبرة ) وضعفها بعمل الأصحاب طرّا مجبور ، 177 ، 253 ( المعتبرة ) ، 254 ( المعتبرة ) ، 290 ، 323 ، 324 ج 3 ، ص 360 ، 371 ، 376 ، 382 ، 429 ، 448 وج 4 ، ص 400 وج 5 ، ص 308 وج 6 ، 116 ( قاعدة الميسور ) ، 201 ، 207 ، 355 ، 504 وح ما لا يدرك ، ج 7 ، ص 448 ، ج 9 ، ص 332 ( المعتبرة ) ، 352 ، 543 ( المعتبرة ) ج 11 ، ص 249 ، 279 ( قاعدة ) ، 281 وفي ط الحجري : ج 1 ، ص 26 ( المعتبرة ) ، 54 ( المعتبرة ) وضعفها بعمل الأصحاب طرّا مجبور ، 58 ، 68 ( المعتبرة ) ، 69 ( المعتبرة ) ، 74 ، 79 ، 155 ، 156 ( ولم يسقط عنه القيام عندنا للنصوص بأنّ الميسور ... ) ، 158 ، 166 ، 169 ، 247 ، 304 ، 349 قاعدة الميسور ... المأثور في المعتبر ، 362 ، 382 ، 402 وأيضا ح ما لا يدرك ، 479 وج 2 ، ص 28 المعتبرة ، وأيضا ح ما لا يدرك ، 31 ، 66 ( المعتبرة ) ، 213 ( قاعدة ) ، 214 ، 343. 16. غنائم الأيّام للمحقّق القمّي : ج 1 ، ص 105 قولهم عليهم السلام : ما لا يدرك والميسور ، 174 ، 338 وأيضا ح إذا أمرتكم وج 2 ، ص 231 وأيضا ح ما لا يدرك ، 441 قولهم عليهم السلام : الميسور ، 446 ( الثلاثة ) ، 504 ، 572 وأيضا ح إذا أمرتكم ، 589 ، 591 ، 618 ( قاعدة ) ج 3 ، ص 128 ، 184 ، 185 وح إذا أمرتكم ، ج 5 ، ص 194 ( قاعدة ) ، 209 قاعدة وأيضا ح إذا أمرتكم ، 211 ، 214 ( قاعدة ) ، 215 ( قاعدة ). 17. القوانين للمحقّق القمّي 1 : 129. 18. جواهر الكلام في موارد. قال المحدّث البحراني في الحدائق 3 : 459 بعد نقله عن روض الجنان وكذا حديث إذا أمرتكم : المسألة غير منصوصة وبناء الأحكام على هذه التعليلات العليلة سيّما مع تعارضها وتصادمها لا يخلو من المجازفة في أحكامه سبحانه. قال أيضا في الحدائق 4 : 337 بعد نقل الميسور وإذا أمرتكم : فإنّ هذين الخبرين وإن تناقلهما الأصحاب في كتب الاستدلال إلاّ أنّي لم أقف عليهما في شيء من الأصول. وقال أيضا في الحدائق 8 : 84 بعد نقله من الذكرى : لعدم ثبوت الخبر الذي ذكره فإنّا لم نقف عليه مسندا في كتب الأخبار وإنّما يتناقله الفقهاء في كتب الفروع مع ما فيه من الإجمال المانع من الاستناد إليه في الاستدلال. قال النراقي في عوائد الأيّام : 261 ، عائدة 27 وفي ط الحجري : 89 : ممّا يستدلّ به بعض الفقهاء في مقام إثبات الحكم للجزء بعد تعسّر الكلّ أو تعذّره : قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم ... » وقوله عليه السلام : « الميسور ... » وقوله : « ما لا يدرك ... » الأوّل مرويّ عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والثانيان عن عليّ عليه السلام ، نقل الثلاثة في عوالى اللآلى. والكلام فيها إمّا في حجّيتها أو دلالتها. أمّا الأوّل فنقول : لا شكّ في عدم اعتبار تلك الأخبار من حيث السند ، ولا من حيث وجودها في أصل معتبر ، ولكن تصدّى بعضهم [ وهو الوحيد البهبهاني كما تقدّم ] لإثبات حجّيتها ببيان اشتهارها وانجبارها بالعمل. فقال : إنّه ذكرها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية على وجه القبول وعدم الطعن في السند أصلا ومع ذلك مشهورة في ألسنة جميع المسلمين يذكرونها ويتمسّكون بها في محاوراتهم ومعاملاتهم من غير نكير فهي بالعمل مجبورة وبالشهرة معتضدة فتكون حجّة. ويرد عليه أنّه إن أريد بانجبارها بالشهرة المتنية ، فهي ليست مشهورة إلاّ في ألسنة المتأخّرين وهي غير كافية بل اشتهارها عندهم أيضا ليس إلاّ بنقل بعضهم عن بعض في مقام الاحتجاج وردّه ، وهذا ليس من الشهرة الجابرة فإنّه لو ذكر واحد حديثا ضعيفا ثمّ ذكره الجميع ناقلا عنه ورادّا للاستدلال به لا يحصل له الشهرة المتنية الجابرة وحال تلك الثلاثة من ذلك القبيل ، كما ترى أنّه استدلّ نادرا بالأوّل في مقام إثبات كون الأمر للندب ، وذكره الباقون نقلا منه فردّوا عليه ، وكذلك الثانيان. وإن أريد الشهرة المولوية ، فهي ممنوعة وإن كان الفتوى في بعض جزئيات مدلولها مشهورة ، وهي غير اشتهار المدلول. فالظاهر عدم حجّية تلك الأخبار وعدم صلاحيتها لإثبات الأحكام المخالفة للأصل إلاّ أن يكتفى في انجبار الخبر الضعيف بالشهرة المحكيّة أيضا ، كما هو المحتمل بل الأظهر فإنّه يمكن القول بحجّية تلك الأخبار حيث إنّه نسب بعضهم القول بوجوب الإتيان بما يتمكّن منه من الأجزاء إلى الأكثر.

ص: 563

ص: 564

ص: 565

حكمهم بعدم سقوط القيام بالمرّة عند عدم التمكّن من الانتصاب وغيره من أنحاء القيام وكيفيات الأذكار والقراءة ونحوها بل يظهر من الشيخ الأجلّ فيلسوف القوم في مقدّمات كشف الغطاء (1) الاعتماد عليها في نقص الأجزاء والشرائط وغيرها في جميع المستحبّات من الزيارات والأذكار والأدعية والصلوات إلاّ المنهيّ منها ، فقال بجواز الاقتصار على أيّ مرتبة من مراتبها عند اضطرار الإتيان بها على وجهها مريدا منها خصوص المأمور بها.

وأمّا الدلالة فلظهور عموم اللفظ وشموله للواجبات المستقلّة كالصوم والصلاة ولغيرها أيضا كالمركّبات الواجبة كنفس الصلاة بل لا يبعد القول بدعوى ظهور البعض فيها ، فإنّ المراد بالميسور ظاهرا هو الميسور من شيء وجداني كالمعسور منه كما لا يخفى.

ويحتمل التفصيل بين المركّبات الخارجية التي تجتمع (2) أجزاؤها في الوجود وينفرد بعضها من الآخر كما في الصلاة بالنسبة إلى ركعاتها ، وفي الفاتحة بالنسبة إلى أجزائها ،

ص: 566


1- كشف الغطاء 1 : 257 وفي ط الحجري 50 ( الثالث القدرة ) حيث قال : والعجز عن بعض الواجب إن كان عن جزئيات يصحّ فعلها من دون فعل الباقي وجب الإتيان بالمقدور ، وإن كان عن بعض مركّب يبطله الانفصال كالصلاة والوضوء في بعض الأحوال فعجز وانفصل بطل ، وإلاّ يكن كذلك كبعض أغسال الميّت أو بعض أعضائه وبعض أعضاء غسل الجنابة وغيرها من الأغسال صحّ بمعنى عدم لزوم إعادته لو تمكّن. ويقوى أنّه مع العجز عن الإتيان بالجميع يجب الإتيان بالبعض في الجميع إلاّ ما دلّ الدليل على خلافه للخبر المشهور من قوله صلى اللّه عليه وآله : لا يسقط الميسور بالمعسور ، ولما اشتهر من مضامين الأخبار نقله من قوله : ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ونحو ذلك. انظر أيضا كشف الغطاء ٢ : ٦٠ وفي ط الحجري : ٩٠ وج ٤ ، ص ٥٨٣ وفي ط الحجري : ٤٥٨.
2- « س ، م » : يجتمع.

وبين المركّبات الذهنية التي لا تمتاز أجزاؤها في الخارج على وجه لو انتفى البعض لم يكن الباقي هو الأوّل كما في الشرائط ، فإنّ تقييد الماهية بها ليس تقييدها بالأجزاء على وجه لو انتفى البعض لم يكن الباقي هو الأوّل كما في الشرائط ، فإنّ تقييد الماهية بها (1) ليس وجه تقييدها بالأجزاء كما لا يخفى ، فيقال في الأجزاء بالانقلاب نظرا إلى تلك الأخبار ، وفي الشرائط بعدمه حيث إنّه لا دلالة فيها على لزوم الإتيان بالباقي (2) فيما لو كان مباينا مع الأوّل كما لو قيل : جئني بالحيوان الناطق ، فتعذّر الامتثال بالقيد فإنّه لا يذهب وهم إلى (3) لزوم الإتيان بالحيوان الصاهل ، أو قيل : جئني بماء الورد ، فتعذّر القيد ؛ إذ لا يمكن القول بوجوب الامتثال في الماء المطلق على ما هو ظاهر وهذا الوجه هو المشهور بين المتأخّرين.

ومنه يعلم فرقهم بين الأجزاء والشرائط الفاسدة في المبيع حيث قالوا بالصحّة في الأجزاء ، وبالفساد في الشرائط ، والتحقيق هو الأخذ بعموم هذه الروايات في الأجزاء والشرائط جميعا لكن حيث يساعد عليه العرف في الحكم بأنّ الباقي لا يباين الكلّ ، أو المشروط على وجه يصدق قوله : « منه » في قوله : « فأتوا منه ما استطعتم » (4) لصدق الروايات في مثله من غير اعتبار للشرط ، أو للجزء فيه ، فربّ شرط بعد انتفائه ليس مشروطه معزولا عنه قبل انتفائه كما إذا قيل : جئني بماء السدر ، فإنّ السدر فيه ولو أخذ شرطا إلاّ أنّه ليس على هذا الوجه ، وربّ جزء بعد انتفائه لا يعدّ الباقي غير مباين منه كما لا يخفى.

ومن هنا ينقدح ضعف ما أورده السيّد في الرياض (5) من أنّه لو تعذّر السدر وجب

ص: 567


1- لم يرد قوله : « ليس تقييدها بالأجزاء » إلى هنا في نسخة « ج ، م ».
2- « م » : بالثاني.
3- « س ، م » : - إلى.
4- « ج ، م » : - ما استطعتم.
5- رياض المسائل فى شرح مختصر النافع 2 : 153 - 154 وفي ط الحجري 1 : 54 حيث قال :

الغسل بماء القراح بدلا من ماء السدر استنادا إلى أنّ الرواية الدالّة على وجوب الغسل بماء السدر ليس التقييد فيه على وجه الشرطية كما في قولنا : « ماء السدر » حتّى لا يحكم بوجوب الغسل بالقراح بدلا منه عند تعذّره بل إنّما لفظ الرواية ورد على غير جهة الإضافة المقتضية للاشتراط والتقييد ، فإنّه قال : « وليكن فيه شيء من السدر » (1) ويستفاد منه الجزئية فيجري فيه القاعدة المذكورة ، وأنت بعد ما عرفت من التحقيق تعلم وجه الضعف فإنّ المعيار في الجزئية والشرطية ليس (2) بمجرّد التغيير والاختلاف في اللفظ بل المدار على كون المعنى من المعاني المتّحدة في الوجود للمشروط على وجه يعدّ من قيوده وأحواله كما ترى في الفصول بالنسبة إلى الأجناس ، ومثال ذلك يشاهد في ماء الرمّان وماء السدر إذا كان المراد به المأخوذ منه

ص: 568


1- الوسائل 2 : 483 ، باب 2 من أبواب غسل الميّت ، ح 7 وفيه : « ويجعل في الماء شيء من السدر وشيء من كافور ».
2- « ج ، م » : ليست.

لا المخلوط معه فإن كان المعتبر في ماهية من هذا القبيل ، فهو شرط ، وينتفي الباقي بعد انتفائه وإن لم يكن كذلك كما في أجزاء المركّبات الخارجية كما في ماء السدر على وجه الاختلاط ، فهو جزء ، ولا يفرق في ذلك بين ورود العبارة الدالّة على الاعتبار على وجه التقييد كما في قولنا : « ماء السدر » أو على وجه الجزئية كما في قولنا : « وليكن فيه شيء من السدر » إذ على تقدير كون المعنى من الأحوال والقيود فيحمل المطلق على المقيّد على هذا التقدير كما إذا قال : « أعتق رقبة » وقال : « ولتكن (1) مؤمنة » بخلاف ما إذا لم يكن الإيمان من الأوصاف الراجعة إليها المتّحدة معها في الوجود.

نعم ، إذا جهل حقيقة الحال بحسب المعنى على وجه لا يتميّز المعنى المعتبر في الماهيّة أنّه هل من أيّ صنف من المعاني ، فلا بأس بالكشف عنه باللفظ الوارد في مقام اعتباره ، فإنّ الألفاظ طريق إلى المعاني.

وبالجملة ، فالحقّ هو الأخذ بعموم هذه الأخبار فيما يساعد عليه العرف من حيث صدق الميسور منه ، ورجوع ضمير الكلّ في « ما لا يدرك كلّه » كما لا يخفى.

فإن قلت : الظاهر من قوله : « ما لا يدرك كلّه ، لا يترك كلّه » اختصاصه بالواجبات فقط ، ومن البعيد في الغاية اختصاص رواية في حكم الواجب دون المندوب كما هو ظاهر لمن مارس الأدلّة.

ولو حملنا قوله : « لا يترك » على مطلق عدم الأهلية للترك بمعنى أنّه لا ينبغي أن يترك ، فلا يجدي أيضا ؛ لأنّ المقصود لزوم الإتيان بالباقي في الواجبات ولا يستفاد من الرواية على هذا التقدير.

قلت : مجرّد الاستبعاد بعد تسليم ظهور الرواية في الواجب غير مضرّ بعد فرض انجبار السند بالعمل ، وإمكان استفادة حكم المستحبّ من الفحوى ، أو باتّحاد المناط ، والعرف يساعد على توزيع الطلب المستفاد من « لا يترك » على حسب اختلاف

ص: 569


1- « ج ، م » : وليكن.

أفراده ففي الواجب على سبيل الوجوب ، وفي المستحبّ كذلك ، وليس من استعمال اللفظ في المعنيين كما لا يخفى.

وممّا يدلّ على ذلك رواية عبد الأعلى مولى آل سام في رجل عثر موضع ظفره ، وجعل عليه مرارة ، فما ذا يصنع في الوضوء؟ فأجاب عليه السلام (1) « بأنّ ذلك وأشباهه : يعرف من كتاب اللّه قال اللّه تبارك وتعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) فامسح عليها » (3).

وجه الدلالة أنّ المعصوم عليه السلام قد أمر باستنباط حكم أشباه المسئول عنه من الكتاب وقرأ الآية النافية للحرج ، ومن المعلوم أنّ المستفاد منها ليس إلاّ عقد سلبي وقضيّة سالبة دالّة على نفي الحرج المستلزم لنفي وجوب المسح على الإصبع نفسه ، وأمّا جواز المسح على المرارة ، فلا يستفاد من الآية بمجرّدها ما لم يلاحظ فيها بأنّ زوال القيد لا يوجب زوال المقيّد في الحكم ، والميسور لا يسقط بالمعسور ، فالرواية يستفاد (4) منها الحكم بذلك استفادة لا تكاد تنكر ، ومن الظاهر مباينة المسح على الإصبع للمسح على المرارة مباينة حقيقية كما في الحيوان الناطق والحيوان الصاهل إلاّ أنّه لمّا كان العرف يساعد على ذلك ، فقد حكم الإمام عليه السلام (5) بمقتضى القاعدة بلزوم المسح على المرارة (6) ، لعدم المباينة العرفية ، وصدق قوله : « منه » عرفا فيه كما لا يخفى ، وهذا تمام الكلام في الأصل الثانوي ، ومن المعلوم أنّ مراعاة هذا الأصل إنّما هو بعد ملاحظة الدليل الخاصّ في نفس المسألة ، ولا بأس بأن نشير إلى طرف منها ، فنقول :

إنّ الدليل الدالّ على اعتبار شيء في الماهيّة إمّا أن يكون لفظيا أو لبّيا كالإجماع والشهرة على القول بالعبرة بها.

ص: 570


1- « ج ، م » : - عليه السلام وكذا في المورد الآتي.
2- الحجّ : 78.
3- الوسائل 1 : 464 ، باب 39 من أبواب الوضوء ، ح 5 ، والرواية منقولة بالمعنى وتقدّمت في ص 83.
4- في النسخ : تستفاد.
5- « ج ، م » : - عليه السلام.
6- « س » : - بلزوم المسح على المرارة.

وعلى الثاني فيصحّ (1) الاستناد إلى إطلاق الدليل الدالّ على وجوب المشروط ؛ إذ المقيّد (2) لإطلاقه لا إطلاق فيه ، فيقتصر في الحكم بالتقييد على القدر الثابت تقييده وهو حال التمكّن من الإتيان بالشرط ، فبقي (3) عند عدم التمكّن من الشرط إطلاق الدليل الدالّ على وجوب المشروط بحاله ويلزم امتثاله ، ولا يكون الدليل الدالّ على وجوب المشروط لبّيا لعدم اختلافه بالإطلاق والتقييد كما لا يخفى.

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون المقيّد هو الأمر أو غير الأمر كما إذا قيل - مثلا - السورة جزء أو النيّة شرط للصلاة.

فعلى الثاني فلا شكّ في أنّ الجزئية والشرطية مطلقان وعند عدمهما يشكّ (4) في أصل الوجوب ، فبحسب الأصل الأوّلي لا بدّ من إجراء البراءة على المختار ، وبحسب الأصل الثانوي لا بدّ من الإتيان بحسب المختار لكلّ أحد (5) كما لا يخفى.

وعلى الأوّل ، فقد يقال بعدم الفرق بينه وبين ما إذا كان الدليل لبّيا بل المقام أدون ؛ لأنّ اللبّي لا يعلم تقييده وإطلاقه والأمر قطعي التقييد بحالة الاختيار ؛ إذ الطلب غير معقول عندنا من المضطرّ إلاّ أنّه في غاية السخافة والسقوط ؛ لأنّ الأوامر الواردة في الأجزاء والشرائط بجملتها إرشادية والأوامر الإرشادية وإن كانت غير خالية من الطلب إلاّ أنّ مساقها مساق الألفاظ الواردة في بيان الأحكام (6) الوضعيّة فيستفاد منها المطلوبية المطلقة (7) من غير اختصاص بحالة الاختيار ، فتقييد إطلاق الأدلّة الدالّة على المشروط مطلقا في الحالتين ، فلا بدّ من ملاحظة الأصلين المذكورين ، ويظهر ما قلنا

ص: 571


1- « س » : يتّضح.
2- « س » : القيد.
3- « س ، ج » : فينفى.
4- « س » : نشكّ.
5- « ج » : واحد.
6- « م » : أحكام!
7- « م » : - المطلقة.

من ملاحظة قولهم : نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن الغرر ، أو عن بيعه (1) ؛ فإنّ النهي حقيقة في الطلب إلاّ أنّه لمّا كان في مقام الإرشاد وبيان المصالح والمفاسد لا يلاحظ فيه أحكام الطلب من جوازه حالة الاضطرار ، فتلك الأوامر كما عرفت مرارا عدم دلالتها على المطلوبية حال عدم التمكّن ، والاضطرار إنّما هو بواسطة قصور في الطلب ، وأمّا المقصود منها أعمّ كما يدلّك ملاحظة إطلاق المادّة مضافا إلى فهم العرف ذلك منها في المقام.

نعم ، لو استفاد وجوب الجزء ، أو الشرط من أمر تعبّدي ، فلا يبعد القول بذلك كما هو ظاهر إلاّ أنّ الكلام فيه.

ص: 572


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 50 / 168 باب 31 ، قال : وبهذا الإسناد عن الحسين بن عليّ عليه السلام أنّه قال : خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام فقال : سيأتي على الناس زمان عضوض يعضّ المؤمن على ما في يده ولم يؤمن بذلك قال اللّه تعالى : ( وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) وسيأتي زمان يقدّم فيه الأشرار ، وينسى فيه الأخيار ، ويبايع المضطر ، وقد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن بيع المضطرّ وعن بيع الغرر. فاتّقوا اللّه يا أيّها الناس وأصلحوا ذات بينكم واحفظوني في أهلي. وعن عيون أخبار الرضا عليه السلام في وسائل الشيعة ١٧ : ٤٤٨ ، باب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، ح ٣ ؛ دعائم الإسلام ٢ : ٢١ قال : روينا عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله نهى عن بيع الغرر ؛ عوالى اللآلى ٢ : ٢٤٨ / ١٧ ، قال : وفي الأحاديث الصحيحة أنّه صلى اللّه عليه وآله نهى عن بيع الغرر ، واستدلّ به الفقهاء في الكتب الفقهية وورد مسندا في كثير من كتب العامّة كمسند أحمد ومصنّف عبد الرزاق وابن أبى شيبة وسنن أبى داود وابن ماجة والترمذى والنسائى والدارقطنى وسنن الكبرى للبيهقى والنسائى ومعجم الأوسط والكبير ومسند الشاميين ومنتخب مسند عبد بن حميد وصحيح مسلم وابن حبّان وفي كلّها : نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن بيع الغرر.
تذنيب

إذا دار الأمر بين ترك جزء مع الإتيان بتمام شرائط الماهيّة أو ترك الشرط مع الإتيان بأجزائها ، فهل في المقام شيء يرجّح أحد الطرفين ، أو لا بدّ من الاحتياط بمعنى الإتيان بالماهية تارة بلا جزء ، وأخرى بلا شرط ، أو لا ترجيح ، فالحكم التخيير؟ وجوه أوسطها أوسطها عملا ، وأقواها ترجيح جانب الجزء قولا كما أفاد الشهيد (1) فيما لو دار الأمر بين ترك الصفة ، أو الموصوف ، ولعلّ الوجه فيه أنّ الجاعل في مقام الجعل أوّلا يلاحظ الأجزاء والموصوف فإنّها بمنزلة الذات ، وملاحظتها (2) تامّة وناقصة ، والمعالجة فيها مقدّمة على ملاحظة الأوصاف (3) والشرائط وتماميتها ونقصها وعلاجها فكأنّ الجاعل قال : جئني بالماهية المركّبة من الأجزاء ، فإن نقصت ، فبالباقي المتّصفة بكذا وكذا ، فإن نقص ، فبالباقي كذا أفاد - دام ظلّه - إلاّ أنّه لا يسمن ولا يغني كما لا يخفى.

ص: 573


1- نقل عنه أيضا في وسيلة الوسائل : 255 وأوثق الوسائل : 393 حيث قالا - واللفظ للوسيلة - : كما إذا دار الأمر في كفن الميّت بين القطن النجس والحرير الطاهر فذكر الشهيد رحمه اللّه أنّه يقدّم الأوّل على الثاني ، لأنّ إلغاء الوصف أولى من إلغاء الموصوف. هذا ولكن قال الشهيد في الذكرى ١ : ٣٥٥ وفي ط الحجري : ٤٦ : لو اضطرّ إلى ما عدا المغصوب فيه ثلاثة أوجه : المنع لإطلاق النهي ، والجواز لئلاّ يدفن عاريا مع وجوب ستره ولو بالحجر ، ووجوب ستر العورة لا غير حالة الصلاة ثمّ ينزع بعده وحينئذ فالجلد مقدّم لعدم صريح النهي فيه ، ثمّ النجس لعروض المانع ، ثمّ الحرير لجواز صلاة النساء فيه ، ثمّ وبر غير المأكول ، وفي هذا الترتيب للنظر مجال إذ يمكن أولوية الحرير على النجس لجواز صلاتهنّ فيه اختيارا. قال في البيان : ٢٦ وفي ط بنياد فرهنگى امام مهدي عليه السلام : ٧٢ : ولا يجوز التكفين في الحرير ، ولا في الجلد على الظاهر ، ولو تعذّر غيرهما جاز الجلد الذي تصحّ فيه الصلاة ، وفيما يمتنع فيه من الجلود والأوبار ، والنجس الذي لا يمكن تطهيره والحرير نظر. أمّا المغصوب فلا يجوز مطلقا.
2- « س » : ملاحظها.
3- سقط قوله : « والموصوف فإنّها » إلى هنا من نسخة « ج ».

الأمر الثالث : إذا ثبت اعتبار شيء في الماهية ، وعلمنا بعدم كونه ركنا ، ودار الأمر بين كونه جزء أو شرطا ، فهل الأصل الأوّل أو الثاني؟ قيل (1) بالثاني ؛ لأصالة عدم الجزئية.

وفساده ممّا لا حاجة إلى بيانه ؛ لأصالة عدم الشرطية أيضا.

والتحقيق : أن لا أصل في البين يشخّص أحدهما بل لا بدّ من الرجوع إلى الأصول في ثمراتهما كما في كلّ ما كان شكّا في الحادث ، فالنيّة في الصلاة شكّ في كونها شرطا ، أو جزءا ، أو لا أصل في أحدهما إلاّ أنّه إذا شكّ في وجوب الطهارة فيها ، يدفع بالأصل وغير ذلك كما لا يخفى على المتأمّل في أمثال المقام ، فتأمّل.

ص: 574


1- نسبه إلى قيل أيضا في وسيلة الوسائل : 256 حيث قال : قيل : إنّ الأصل هو الحمل على الشرطية لاستلزام الجزئية زيادة التفات من الشارع لاعتباره جزءا والأصل عدمها.

خاتمة

اشارة

في بيان شرط العمل بالأصول المذكورة في طيّ الأصول المتقدّمة من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، ولمّا كان مرجع التخيير إلى البراءة والاستصحاب دائما موافق لأحد الأصلين الآخرين ، فالبحث فيهما يغني عنهما ، فنقول : قد ذكر بعضهم (1) للعمل بالبراءة شروطا ، وحيث إنّه لا محصّل لها عندنا سوى الفحص عن الدليل ، فلنقتصر بإيراده ، ثمّ لمّا كان ذلك يختلف في البراءة والاشتغال ، فلا بدّ من إيراده في مقامين :

المقام الأوّل

في أنّه هل يجب الفحص عن وجود الدليل المفضي إلى الواقع ، أو ما يجري مجراه في محلّ الاحتياط مطلقا ، أو لا يجب كذلك ، أو يفصّل في العبادات التي تحتاج (2) إلى

ص: 575


1- هو الفاضل التوني في الوافية : 193 ، ذكر لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة ، وبأصالة العدم ، وبأصالة عدم تقدّم الحادث شروطا ثلاثة الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل مستلزما لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى. الثاني أن لا يتضرّر بسبب التمسّك به مسلم أو من في حكمه. الثالث أن لا يكون ذلك الأمر جزء عبادة مركّبة بل المثبت لتلك الأجزاء هو النصّ. وعنه في القوانين ٢ : ٤٦ والمناهج للنراقي : ٢٣٣ وناقشا في تلك الشروط وذهبا إلى أنّ الشرط اللازم هو الفحص. انظر أيضا الفصول : ٣٦٥.
2- في النسخ : يحتاج.

النيّة (1) مطلقا ، فيجب ، وفي المعاملات ، فلا يجب ، أو في العبادات المتكرّرة عند إعمال الاحتياط ، فيجب ، وفي غيرها ، فلا يجب ، أو فيما إذا أمكن تحصيل العلم فيجب ، وفي غيره ، فلا يجب ، أو فيما إذا أمكن تحصيل الظنّ الخاصّ أيضا ، فيجب وفيما (2) إذا كان الدليل ظنّا من الظنون المطلقة ، فلا يجب؟ وجوه واحتمالات بل وجملة منها أقوال أقواها في النظر - لو لا الإجماع على اشتراط الفحص في بعض الأقسام كما ستعرف - العدم مطلقا عبادة ومعاملة أمكن تحصيل العلم ، أو الظنّ الخاصّ ، أو المطلق أم (3) لا ؛ لصدق الامتثال في الجميع ولو في صورة التكرار في العبادات وحصول الأسباب وتأثيرها في المعاملات ، ولا دليل على اعتبار شيء زائد على (4) ذلك في شيء منها في مقام تحصيل الامتثال وحصول الأسباب كما لا يخفى إلاّ أنّ الإجماع على ما نقله بعضهم منهم العلاّمة (5) على ما هو ببالي على عدم جواز الاحتياط قبل الفحص في العبادات فيما إذا تكرّر العمل كما في ما إذا شكّ في أنّ الواجب هو الظهر ، أو الجمعة مع إمكان الاستعلام من الأدلّة في المجتهد والرجوع إليه في غيره كما إذا شكّ في القبلة مع إمكان تشخيصها بالأبصار وإعمال العلائم.

ويؤيّده توافقه لسيرة العلماء الأعلام بل يمكن دعوى بناء العقلاء في أمثال ذلك أيضا على الاستعلام في امتثالات العبيد لأوامر مواليهم كما لا يخفى كما أنّه لا يبعد

ص: 576


1- « ج » : - إلى وفي « م » : « إليه » بدل : « إلى النيّة ».
2- سقط قوله : « إذا أمكن تحصيل العلم » إلى هنا من نسخة « م ».
3- « ج » : أو.
4- « ج » : في.
5- تذكرة الفقهاء 3 : 22 ، مسألة 144 ، قال : القادر على معرفة القبلة لا يجوز له الاجتهاد عند علمائنا ، كما أنّ القادر على العمل بالنصّ في الأحكام لا يجوز له الاجتهاد لإمكان الخطأ في الثاني دون الأوّل. قال في مسألة ١٤٥ : فاقد العلم يجتهد بالأدلّة التي وضعها الشارع علامة ، فإن غلب على ظنّه الجهة للأمارة بنى عليه بإجماع العلماء.

دعوى الإجماع على جواز الأخذ بالاحتياط موافقا للقاعدة المزبورة في المعاملات كما في صيغ البيع وشروطه والنكاح وغير ذلك ، وعليه بناء جملة من الصلحاء في آدابهم ومعاشرتهم.

وأمّا العبادات الغير المتكرّرة كما إذا شكّ في جزئية السورة للصلاة (1) أو الإمساك عن الغبار الغليظ للصوم ، فالمشهور على ما حكاه (2) الاستاذ على وجوب الفحص فيما لو يمكن من تحصيل العلم بالمعنى الأعمّ بل والظنّ المطلق أيضا على القول به ، ومبناهم في ذلك لزوم قصد الوجه المفقود عند الاحتياط ، وحيث قد عرفت ما قدّمنا لك من التحقيق في مقامه من عدم وجوب قصد الوجه ، فلا مجال للقول المذكور بعد صدق الامتثال عند العقلاء في الامتثال الإجمالي.

نعم ، يمكن أن يقال في المقام انتصارا للمشهور بعد ما هو التحقيق عندنا من أنّ الإطاعة ليست من قيود المأمور به ووجوهه ؛ لاستلزامه الدور بل هي (3) من دواعي الأمر : إنّ محصّل الكلام في المقام يرجع إلى كفاية الامتثال الإجمالي في العبادات وعدمها ، فعلى الأوّل يحكم بفساد عبادة تارك الطريقين كما زعمه جماعة (4) ، وعلى الثاني يحكم بصحّتها وحينئذ نقول : الأصل يقضي (5) بالأوّل ، لأنّ المقام من الشكّ في المكلّف به حيث إنّا لا نعلم بسقوط التكليف إلاّ عند الامتثال التفصيلي ، ولمّا أنّ (6) الإطاعة ليست من القيود ، فلا يمكن دفعها بأصالة البراءة ، فالأصل بقاء غرض الأمر وعدم

ص: 577


1- « م » : بعد الصلاة!
2- « ج ، م » : حكاها.
3- « ج ، س » : هو.
4- ذهب إليه الشهيد الأوّل في الألفية والنفلية : 39 ، والشهيد الثاني في روض الجنان 2 : 663 ، وفي ط الحجري : 248 والقمّي في القوانين 2 : 140 ونسبه إلى المشهور من فقهائنا ، ونسب إلى المشهور أيضا النراقي في المناهج : 317 وشريف العلماء كما في تقريراته للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : 35. انظر ص 34.
5- في النسخ : يقتضي.
6- « ج » : كان!

سقوطه ما لم يعلم المكلّف به بخصوصيته كما في صورة دوران الأمر بين المتباينين مع ثبوت الاشتغال ، فعلى هذا الاتّكال بالاحتياط في العبادات مع إمكان تحصيل العلم خلاف الاحتياط.

وأمّا ترك الاحتياط عند التمكّن من تحصيل الظنّ الخاصّ كالخبر الموثوق بصدوره بناء على تحقّق (1) الإجماع عليه بخصوصه ، فيرجّح على فعله لو قلنا بتحقّق الإجماع على عدم وجوب الاحتياط الكلّي في أبواب الفقه كما ادّعاه جملة منهم ؛ إذ غاية ما يحتمل حينئذ جوازه ، ويبقى احتمال وجوب الأخذ بالظنّ الخاصّ بحاله تحصيلا للامتثال التفصيلي وإن كان ظنّيا ، فالاحتياط فيه ، وهكذا نقول في الظنّ المطلق عند دوران الأمر بينه وبين الاحتياط كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر وجه فتوى المشهور بفساد عبادة الجاهل المقصّر وإن طابق الواقع هذا بناء على ما هو المختار عندنا من أنّ الإطاعة من دواعي الأمر لا من قيوده.

وأمّا على ما يراه البعض من أنّها معتبرة في موضوع الطلب على وجه يصير جزء للمطلوب كما في سائر الأجزاء والشرائط ، فالدليل الدالّ على تقييد الأمر بالإطاعة إن كان لبّيا ، فيكتفى (2) بالامتثال الإجمالي ؛ لأنّه المتيقّن من التقييد ، ويؤخذ في المشكوك إمّا بالبراءة ، أو الاشتغال على الخلاف ، وإن كان لفظيا فإطلاق (3) المقيّد يحكم بالاكتفاء أيضا كما لا يخفى.

هذا غاية ما يمكن الانتصار لهم إلاّ أنّ الحقّ هو الحكم بالصحّة بناء على المختار من أنّ الإطاعة ليست قيدا لحكم العقل بحصول الامتثال سيّما بعد الحكم بعدم وجوب نيّة الوجه ، وبناء العقلاء مستقرّ على ذلك ، وذهاب المشهور بعد العلم بمستندهم وفساده ممّا لا يجدي شيئا فيما نحن فيه (4) على تقدير جواز الاتّكال على الشهرة ، فتدبّر.

ص: 578


1- « ج » : تحقيق!
2- « س » : فيكفي.
3- « س ، م » : فلإطلاق.
4- « ج ، م » : - فيه.

وتوضيح ذلك أنّ الوجه المذكور في الانتصار إنّما ينهض دفعا للاحتياط المستلزم للتكرار في العبادة ، وقد عرفت نقل الإجماع على عدم جواز الاحتياط فيه حيث يتمكّن من تحصيل العلم ، أو ما يجري مجراه ضرورة جوازه عند عدم التمكّن كما وقع نظير ذلك في الموضوعات عند اشتباه القبلة ومخالفته لسيرة (1) العلماء وهو الحجّة وإلاّ فعلى ما هو التحقيق من القول بالبراءة لا فرق بين أن يكون (2) الإطاعة من قيود المأمور به أو من دواعي الأمر لعموم أدلّتها.

ومنه يظهر الوجه فيما أفاده صاحب المدارك بعد ما حكى عن العلاّمة (3) عدم جواز الصلاة في الثياب المشتبهة مع التمكّن منها في ثوب طاهر : وإنّ هذا وإن كان حسنا إلاّ أنّ وجهه لا يبلغ حدّ الوجوب (4) ، وأمّا فيما لم يستلزم التكرار ، فالامتثال التفصيلي حاصل بمعنى العلم بالمطلوب وتميّزه عن غيره ، فلا اشتباه في المطلوب إلاّ أنّ وجه الطلب وخصوصيته غير معلوم ، فلا مانع من الاحتياط سوى القول بوجوب نيّة الوجه ، ونحن قد فرغنا عن إبطال هذه الشبهة في محلّه وقلنا باستقرار طريقة العقلاء في الحكم بامتثال من لم يراع في فعله وجه الفعل كما لا يخفى ، وهذا هو الحاسم لهذه الشبهة ، فلا وجه للقول بلزوم الفحص في العبادات الغير المتكرّرة عند إعمال الاحتياط ، ولا مأخذ للقول (5) بأنّ الناس صنفان : مجتهد ومقلّد.

وأمّا ما يظهر من السيّد الرضي دعوى الإجماع على فساد عبادة الجاهل ، وتقرير أخيه المرتضى علم الهدى له (6) ، فلا يجدي شيئا (7) فإنّه محمول على عبادة من لم يعرف

ص: 579


1- « س » : مخالفة سيرة.
2- « ج » : - أن يكون.
3- حكى صاحب المدارك عن منتهى المطلب 3 : 301 وفي ط الحجري 1 : 182 وكذا قاله في نهاية الأحكام 1 : 282.
4- مدارك الأحكام 2 : 358 ، انظر بحث القطع ص 33.
5- تقدّم ذكر القائلين به في ص 577.
6- تقدّم ذكر مصادره ص 34.
7- « س ، م » : - شيئا.

شيئا عدا ما عرفه من طريقة آبائه.

وأمّا المحتاط ، فليس منهم لانتهاء عمله إلى الاجتهاد فإنّا لا نضايق من القول بلزوم الفحص إمّا في المسألة الأصوليّة ، أو المسائل الفرعيّة ، فيحصل من جميع ما ذكرنا أنّ جريان الاشتغال والأخذ بالاحتياط مشروط بأحد أمرين - سواء كان في العبادات ، أو المعاملات - : إمّا الفحص (1) في خصوص جزئيات المسائل الواردة على المكلّف في مقام العمل كما يراه المشهور في العبادات ، وإمّا الفحص في هذه المسألة الكلّية المبحوث عنها عن لزوم الفحص ، وتحصيل الاعتقاد اجتهادا بكفاية الاحتياط وعدم كفايته ، أو تقليدا كذلك ، فيحكم بفساد عبادة من لم يتفحّص في المقامين.

نعم ، لو لم يكن المكلّف ملتفتا بشيء منهما ، لا يبعد القول بصحّة عباداته بعد مطابقة الواقع ، فالقائل بلزوم الفحص إن أراد منه ما ذكرنا من أحد الأمرين ، فمرحبا بالوفاق ، وإن أراد خصوص الفحص في الأحكام الفرعيّة كما هو الظاهر من كلمات القائلين بفساد عبادة الجاهل ، فلا نعرف له وجها كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني

في وجوب الفحص عن الدليل عند إعمال البراءة ، وتحقيق الكلام فيه يقع في موردين :

الأوّل : في أنّ تارك الفحص والعامل بالبراءة عند ذلك هل هو معاقب ، أو لا؟ فنقول : إنّ ما يظهر من التصفّح في كلمات الأعيان أقوال في المقام ، فقيل بكونه معاقبا مطلقا بواسطة ترك التعلّم ومخالفة مجرّد الفحص وإن طابق الواقع ، وهذا هو المنسوب إلى المقدّس الأردبيلي وتلميذيه ، والفاضل السبزواري (2) وجماعة ممّن تبعهم ، وقيل

ص: 580


1- سقط قوله : « أنّ جريان الاشتغال » إلى هنا من نسخة « م ».
2- مجمع الفائدة والبرهان 2 : 110 ؛ مدارك الأحكام 2 : 344 - 345 و 3 : 219 ؛ الذخيرة : 167 ؛ - مصباح الأصول 2 : 495 ومال إليه صاحب الكفاية. ولم ينسب إلى صاحب المعالم وقد تقدّم عنهم في ص 500 انظر أيضا بحث القطع والظنّ ص 227.

بكونه معاقبا مطلقا على نفس العمل طابق الواقع ، أو خالف ، ولا عقاب على ترك الفحص ، وقيل بالتفصيل بين ما إذا طابق الواقع ، فلا عقاب وبين ما إذا خالف فيعاقب على المخالفة ، ويترتّب على فعله ما يترتّب على نفس الفعل حال المخالفة العملية (1).

ومبنى الأوّل يمكن أن يكون القول بوجوب تحصيل العلم والتعلّم وجوبا نفسيّا كما يظهر عن بعض الأعاظم (2) ، فلا يرد ما أفاد محقّق الجمال (3) من أنّ هذا قول غريب.

وأمّا عدم العقاب على نفس الفعل ولو في صورة المخالفة ، فلقبح العقاب على الجاهل كما يظهر عن صاحب المدارك في بعض فروع المسألة ، ويمكن أن يكون مبناه ما نسب إلى السبزواري من العقاب على المقدّمة ؛ لأدائه إلى ترك ذيها ، و (4) لا يخفى أنّه لا يقضي بالعقاب عند المطابقة كما هو ظاهر ، فلا يصحّ أن يكون مبنى هذا القول.

ووجه الثاني هو حرمة التجرّي ، فإنّ في هذا الفعل مع قطع النظر عن (5) حرمة الفعل في الواقع تجرّيا فيعاقب عليه.

وأمّا عدم العقاب على الفعل ، فللجهل ، ويحتمل القول بالتداخل كما عليه بعض الأجلّة (6) ، والتحقيق هو الثالث ، ويتوقّف إثباته على إثبات مقدّمتين :

إحداهما : عدم العقاب عند الموافقة.

وثانيتهما (7) : العقاب عند المخالفة.

أمّا الأولى ، فالعقاب إمّا على ترك الفحص والتعلّم ، أو على التجرّي ، فلا وجه لكلّ

ص: 581


1- « س ، م » : العلمية.
2- مدارك الأحكام 2 : 345.
3- الحاشية على شرح اللمعة : 345 عند قول الشهيد في كتاب الصوم : « ولو نسي صحّ والجاهل عامد ».
4- « م » : - و.
5- « م » : - عن.
6- الفصول : 87.
7- « ج ، س » : ثانيهما.

واحد منهما ، أمّا الأوّل ، فلأنّ الفحص والتعلّم ليس من الواجبات النفسيّة حتّى يقال بالعقاب على تركه بل الظاهر أنّه واجب غيري مقدّمي كما يظهر من لفظ السؤال ، فإنّ المستفاد منه هو مطلوبية العمل بجوابه كما لا يخفى ، وسياق أدلّة السؤال كقوله : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) (1) وغير ذلك شاهد صدق على أنّ العلم - ولا سيّما في العمليات - ليس مطلوبا بنفسه ، وإنّما المقصود منه تحصيله للعمل.

ويدلّ على ذلك ما رواه المفيد الثاني (2) في تفسير قوله تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (3) من أنّه تعالى يحتجّ على العباد بقوله : « أما علمت؟ فإن قال : نعم ، فيقول : فهلاّ عملت؟ وإن قال : لا ، فيقول : فهلاّ تعلّمت فعملت؟ » (4) وجه الدلالة ظاهر فإنّ التوبيخ على ترك العمل بعد العلم ، وعلى عدمه بعد عدمه على تقدير تحصيله كما لا يخفى.

ويتّضح ذلك غاية الاتّضاح عند ملاحظة قوله : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (5) فإنّه تعالى جعل الحذر غاية للإنذار وهو واجب نفسي ، وغاية الحذر في العمل (6) بفعل الواجبات وترك المحرّمات ، ولو لا أنّ المقصود هو العمل ، لكان بدل قوله : « يحذرون » « يتعلّمون » فإنّ الإنذار هو الإبلاغ والإرشاد كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فبالمنع صغرى وكبرى إذ التارك للفحص والعامل بالبراءة قد يكون غافلا عن الفحص ، فلا تجرّي إلاّ أن يقال : إنّه مستند إلى اختياره بعد علمه الإجمالي بالواجبات والمحرّمات في الشريعة ، فغفلته بعد تقصيره غير مجدية.

ص: 582


1- النحل : 43 ؛ الأنبياء : 7.
2- هو أبو علي الحسن بن محمّد الطوسي ، ولد شيخ الطائفة الطوسي ، وقد ينسب أمالي والده إليه خطأ ؛ لأنّه كان راويه.
3- الأنعام : 149.
4- أمالي الطوسي : ص 9 ، مجلس 1 ، ح 10 ؛ أمالي المفيد : ص 226 - 227 ، مجلس 26 ، ح 6 ، الحديث منقول بالمعنى.
5- التوبة : 122.
6- « ج » : - في العمل.

ولو سلّمنا كونه تجرّيا ، فلا دليل على حرمة التجرّي مطلقا ؛ إذ له مراتب أعلاها الإتيان بالفعل رجاء المخالفة ، ولا يبعد كونه كفرا ، وأدونها الإتيان بالفعل رجاء عدم المخالفة عند احتماله ، ولا دليل على حرمة هذا الفرد منه كما حرّر ذلك في مقامه ، وتقدّم (1) جملة من الكلام فيه في الشبهة الغير المحصورة ، فتذكّر.

و (2) أمّا الثانية (3) ، فلوجود المقتضي وفقد المانع.

أمّا الأوّل (4) ، فالأدلّة الواقعية الآمرة بالواجبات والناهية عن المحرّمات الدالّة على استحقاق المخالف لها (5) للعقاب كقوله : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (6) فإنّ صدق المخالفة عند ترك الحجّ مع الاستطاعة ظاهر ، وهو محقّق (7) للحكم باستحقاق العقاب.

وأمّا الثاني (8) ، فلأنّ المانع إمّا أن يكون هو العقل ، أو الشرع ، والكلّ منتف.

أمّا الأوّل (9) ، فليس إلاّ ما تخيّله الخصم من قبح عقاب الغافل وتعذيب الجاهل وهو ليس بشيء ؛ لأنّ العقل قاض بذلك فيما لم تكن (10) غفلته مستندة إلى تقصيره ، وأمّا إذا استند جهله إلى مقدّمات مقدورة متروكة باختياره بعد العلم الإجمالي بتحقّق واجبات كثيرة في الشريعة ومحرّمات كذلك ، فلا قبح في العقول في تعذيب المخالف كما هو ظاهر.

وأمّا الثاني ، فلعدم ما يدلّ على ذلك في الأدلّة الشرعية بل وجملة منها يدلّ على خلافه.

ص: 583


1- تقدّم ص 468.
2- « س » : - و.
3- يعني المقدّمة الثانية ، يعني العقاب عند المخالفة ، وفي نسخة « س » : الأوّل ، وهو غلط.
4- « س » : وأمّا الثانية ، وهو غلط.
5- « س » : - لها.
6- آل عمران : 97.
7- « س » : مختصّ!
8- « س » : الأوّل ، وهو غلط.
9- « س » : وأمّا الثاني ، وهو غلط.
10- « ج ، س » : لم يكن.

فمنها : ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في مجدور جنب ، فغسّلوه ، فكزّ ، فمات ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله عند ذلك : « قتلوه قاتلهم اللّه ألاّ سألوا ألاّ تيمّموه » (1) وصراحته في المقصود ممّا لا ينكر ؛ فإنّ إسناد القتل إلى مباشر الغسل مع ضعفه مع التوبيخ في عدم السؤال وعدم التيمّم ممّا ينادي بأعلى صوته على ترتّب العقاب عند عدم العلم وعدم السؤال.

لا يقال : التوبيخ على ترك التعلّم ، فيدلّ على وجوبه بالأصالة.

لأنّا نقول : التوبيخ على ترك التيمّم ينافيه (2) كما لا يخفى.

ومنها : رواية سماع غناء الجواري ، فإنّ في ذيلها ما يدلّ على [ عدم ] معذورية الجاهل المقصّر ، وهو قوله : « ما أسوأ حالك لو كنت تموت على هذه الحالة » ، فإنّه تخيّل عدم حرمة السماع وهو جالس على الخلاء من غير أن يذهب برجله إلى الاستماع كما يدلّ عليه قوله : وكأنّي لم أسمع بها لا من عربي ، ولا من عجمي بعد ما قرأ له الإمام عليه السلام (3) : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (4).

ومنها : رواية عمّار في التيمّم حيث قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يهزؤه : « تمعّكت كما تتمعّك الدابّة » (5) فإنّ في هذا التوبيخ والاستهزاء ما لا يخفى.

ومنها : إجماع أصحابنا على تكليف الكفّار بالفروع وعقابهم عليها ، فإنّ المسلمين ليسوا في العلم الإجمالي بالواجبات أدون من الكفّار ، فكما أنّ مصحّح العقاب على الكفّار هو العلم الإجمالي بالأحكام الفرعية مع الجهل بها تقصيرا ، فكذلك في المسلمين.

فالجهل مع التقصير والمخالفة الجهلية يصير منشأ للعقاب. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ

ص: 584


1- وسائل الشيعة 3 : 347 ، باب 5 من أبواب التيمّم ، ح 5 ، وفيه : « قتلوه قتلهم اللّه ، إنّما كان دواء العيّ السؤال ». وسيأتي في ج 4، ص 516.
2- « س » : - ينافيه.
3- « ج ، م » : - عليه السلام.
4- الإسراء : 36. وتقدّم الحديث في ص 84 و 224 و 499.
5- الوسائل 3 : 358 ، باب 11 من أبواب التيمّم ، ح 2.

إجماع الأصحاب على عقابهم لا يحرز الاشتراط عند الشكّ في اشتراط شيء ، لأنّ الإجماع هذا إنّما هو في قبال أبي حنيفة (1) وبعض الأخباريين من أصحابنا (2) القائلين بعدم عقاب الكافر [ على الفروع ] ولو كان عالما تفصيليا ، فإجماعهم في بيان مطلب آخر لا يمكن استعلام حال الشرائط منه ؛ إذ غاية ما يستفاد منه الحكم بمساواة الكافر للمسلم ، وأمّا لو شكّ في اشتراط أصل التكليف بشيء وعدمه ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك لمساواة الكافر للمسلم (3) في ذلك إلاّ أن يدّعى الإجماع على استحقاق الكافر للعقاب فيما لو استجمع الشرائط المعتبرة في التكليف من الأمور المتّفق عليها غير العلم

ص: 585


1- عنه في منتهى المطلب 2 : 188 وفي ط الحجري 1 : 82 ؛ مدارك الأحكام 1 : 277 و 7 : 69 ؛ ذخيرة الأحكام 3 : 563 ؛ كشف اللثام 2 : 42 و 1 : 84 ؛ الحدائق الناضرة 3 : 39 ؛ جواهر الكلام 3 : 39. قال النووي في المجموع فى شرح المهذّب ٣ : ٤ : وأمّا الكافر الأصلي فاتّفق أصحابنا في كتب الفروع على أنّه لا يجب عليه الصلاة والزكاة والصوم والحجّ وغيرها من فروع الإسلام ، وأمّا في كتب الأصول ، فقال جمهورهم هو مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان. وقيل : لا يخاطب بالفروع. وقيل : يخاطب بالمنهيّ عنه كتحريم الزنى والسرقة والخمر وأشباهها دون المأمور به كالصلاة. والصحيح الأوّل وليس هو مخالفا لقولهم في الفروع ؛ لأنّ المراد هنا غير المراد هناك ، فمرادهم في كتب الفروع أنّهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم ، وإذا أسلم أحدهم ، لم يلزمه قضاء الماضي ، ولم يتعرّضوا لعقوبة الآخرة. ومرادهم في كتب الأصول أنّهم يعذّبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر فيعذّبون عليها وعلى الكفر جميعا لا على الكفر وحده ولم يتعرّضوا للمطالبة في الدنيا ، فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين والفروع حكم الطرف الآخر. واللّه أعلم. وكذا قال في المجموع ٥ : ٣٨٧.
2- استظهر ذلك البحراني في الحدائق 3 : 39 من كلام المحدّث الأسترآبادي في الفوائد المدنية وذهب إليه المحدّث الكاشاني في الوافى والصافى كما عنه في الحدائق 3 : 40 و 41. وذهب إليه أيضا المحدّث البحراني في الحدائق 3 :39- 42 ، وأجاب عنه النراقي في عوائد الأيّام : 279 - 292 ، عائدة 30 ، وفي ط الحجري 95 - 100.
3- سقط قوله : « وأمّا لو شكّ » إلى هنا من نسخة « ج ».

التفصيلي وهو بعيد.

فظهر ممّا ذكرنا دليل وجوب الفحص أيضا إذ يحتمل في كلّ مورد ترتّب العقاب ويجب دفعه بحكم العقل القاطع كما ظهر أنّ الفحص واجب شرطي يجب عند عدم الاحتياط إذ لا ضير في الاحتياط كما سبق.

ومن ذلك ينقدح أنّ الفحص ليس من شرائط اعتبار البراءة على ما يظهر من بعضهم (1) بل التحقيق أن لا مجرى للبراءة بدونه ؛ إذ دليل البراءة ليس إلاّ قبح العقاب بدون البيان.

وأمّا الأخبار ، فجملة منها (2) مفادها مثل مفاد العقل ، وبعض (3) الآخر منزّلة عليه كما مرّ ، والعقل لا يقبّح تعذيب تارك الفحص والعامل بالبراءة : فإنّ مناط حكمه بالقبح هو معذورية المكلّف ، ولا عذر عند عدم الفحص ، ولا فرق في ذلك بين ما كان في موارد العمل بالبراءة علم إجمالي كما في أمثال زماننا ، أو لم يكن ، ألا ترى أنّ الفحص في معجزة النبيّ واجب ، ولا يجوز الاتّكال على البراءة مع احتمال صدقه وإن لم يكن علم إجمالي إذ لا عذر لمن ترك النظر.

فالبراءة لا مجرى لها عند عدم الفحص ، وذلك بخلاف الاستصحاب إذ أدلّتها عقلا ونقلا جارية عند عدم الفحص ؛ لصدق الشكّ واليقين المقوّمين في معناه.

فإن قيل : إنّ أخبار البراءة أيضا بعضها لا يعتبر فيها إلاّ الشكّ وعدم العلم كقوله : « الناس فى سعة ما لا يعلمون » (4) وغير ذلك ، فلا فرق بينها وبين الاستصحاب.

قيل : قد عرفت أنّ المستفاد من مجموعها عدم العقاب على المعذور ، ولا عذر لغير المتفحّص ، وهذا هو العمدة في وجوب الفحص عند العمل بالبراءة ، ويؤيّده وجوه

ص: 586


1- كالقمّي في القوانين 2 : 46 ، والأصفهاني في الفصول : 365 ، والنراقي في المناهج : 232.
2- « ج ، م » : - منها.
3- كذا.
4- تقدّم في ص 158 و 355 و 528.

أخر أيضا كالإجماع من القائلين بها بحسب اختلاف مواردها أخباريا وأصوليا إلاّ في موارد ستعرف تحقيق القول فيه ، واستقرار عمل العقلاء على الفحص في مواردها ، ولزوم الهرج والمرج لو لاه ، والخرج من الدين على وجه لا يعدّ من المتديّنين بهذا الدين كما برهنّا (1) عليه في مقدّمات دليل الانسداد عند إبطال العمل بالبراءة.

فرع

هل المدار في الواقع الذي جعلنا العقاب دائرا مداره ما ذا؟ فهل هو الواقع في نفس الأمر ، أو ما يصل إلى أنظار المجتهدين بعد الفحص المعتبر ، أو ما يصل إلى نظر المقلّد؟

وتظهر الثمرة فيما إذا (2) انكشف اختلاف الواقع (3) مع ما وصل إلى الأنظار المسمّى بالحكم الظاهري عند بعض ، وبالواصلي عند الأخباري مثلا فيما لو كان شرب التتن في الواقع مباحا وارتكبه المكلّف ، ثمّ انكشف أنّ الحكم الظاهري بحسب ما أدّى إليه اجتهاد المجتهد كان حراما ، أو العكس ، فعلى تقدير كون المدار على الواقع الواقعي ، يعاقب عند المخالفة وإن وافق الحكم الظاهري ، وعلى تقدير كون المدار على الواقع الثانوي ، لا يعاقب على تقدير الموافقة وإن خالف الحكم الواقعي وجهان.

نعم ، في صورتي الموافقة لكلّ واحد من الحكمين ، أو المخالفة لهما لا ثمرة إلاّ نادرا كأن يكون من لوازم الواقع أو الظاهر.

وكيف كان ، فوجه الأوّل أنّ الحكم الظاهري إنّما هو مجرّد طريق إلى الواقع ولا عبرة به في شيء سوى مجرّد الطريقية ، وبعد موافقة الواقع لا ضير في مخالفة الطريق ؛ إذ لا مصلحة في الطريق سوى الوصول إلى ما هو طريق إليه والمفروض حصوله.

ووجه الثاني فلأنّ الواقع لمكان الجهل به وعدم التمكّن من العلم به - إذ المفروض

ص: 587


1- « س » : نبّهنا.
2- « ج ، م » : إذ.
3- « ج » : الرأيان!

مخالفة ما هو طريق إليه له - مرفوع عن المكلّف ، ولا يجوز العقاب عليه ، ولك أن تقول : إنّ المدار على عدم التكليف ، فإن كان الواقع حراما ، ومؤدّى الاجتهاد أو التقليد إباحة ، فالمحكّم هو الأخذ بالطريق وعدم الحكم بكونه معاقبا ، وإن كان الواقع على الإباحة دون مؤدّى الطريق ، فالمدار على الواقع.

أمّا إذا كان الواقع على الإباحة ، فالوجه فيه ظاهر بعد ما عرفت من عدم ترتّب شيء على الطريق سوى ما يترتّب على الواقع ، وأمّا إذا كان الواقع على الحرمة دون مؤدّى الطريق ، فلأنّ شرط الحرمة الواقعية تنجّز التكليف والمفروض عدم العلم وعدم تمكّنه أيضا ، لأنّ الطريق إليه على تقدير الفحص عن الواقع مخالف له ، فلا يمكن الوصول إليه.

ويمكن الإيراد عليه بأنّ الأخذ بالطريق الظاهري في مرتبة أحد أفراد الواجب المخيّر ، وبعد تعذّر أحد أفرادي الواجبين فالباقي هو المعيّن ، ويلازمه العقاب عند التخلّف عنه.

قلت : بعد القطع بكون الأمارات المعمولة عند المجتهد طريقا إلى الواقع سواء قلنا باعتبار الظنّ المطلق ، أو لا ، فلا يعرف في ترتّب العقاب على الطريق بعد فرض المطابقة وجها عدى ما يتوهّم من عنوان التجرّي ، وقد عرفت تحقيق القول في حرمة التجرّي بما لا مزيد عليه.

[ عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية ]

هذا بالنسبة إلى الحكم التكليفي في الشبهات الحكمية عند عدم الفحص وإعمال البراءة ، وأمّا بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية فلا ريب في جريان البراءة في مواردها من دون لزوم الفحص فيها ، فلو شكّ في كون إناء خمرا ، أو خلاّ ، فيعمل بالبراءة من غير ملاحظة أنّه الخمر ، أو الخلّ.

ص: 588

والأصل في ذلك هو الإجماع القطعي فإنّ بناء العلماء (1) سلفا عن خلف على الأخذ بالبراءة في الشبهات الموضوعية من غير توقّف على الفحص بل ولو فيما يعلم باستكشاف الواقع عند الفحص ، ولا اختصاص لهذا الحكم بالبراءة بل يجري في جميع الأصول العملية الدائرة في الموضوعات من الاستصحاب وقاعدة اليد وأصالة الطهارة ونحوها.

مضافا إلى أخبار كثيرة :

منها : ما رواه في الكافى عن عبد اللّه بن سليمان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الجبنّ قال : « كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة » (2).

ومنها : ما رواه فيه عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه (3) فتدعه » (4).

ومنها : ما رواه فيه أيضا عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عبد اللّه بن سنان ، عن عبد اللّه بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبنّ قال : « لقد سألت (5) عن طعام يعجبني » ثمّ أعطى الغلام درهما ، فقال : « يا غلام ، ابتع لنا جبنّا » ودعى بالغداء فتغدّينا (6) معه وأتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا عن الغداء ، قلت له : ما تقول في الجبنّ ، فقال لي : « أو لم ترني أكلته؟ » قلت : بلى ، ولكنّي أحبّ أن أسمعه منك ، فقال عليه السلام : « أخبرك (7) عن الجبنّ وغيره ، كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال

ص: 589


1- « س » : العقلاء.
2- الكافى 6 : 339 / 2 ؛ الوسائل 25 : 118 ، باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 2.
3- في النسخ : « أبدا » بدل : « بعينه ».
4- الكافى 5 : 313 / 39 ؛ الوسائل 17 : 87 - 88 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1 و 24 : 236 ، باب 64 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 2 ، وتقدّم ص 359.
5- في المصدر : سألتني.
6- « ج » : بالغذاء فتغذينا.
7- في المصدر : سأخبرك.

حتّى تعرف منه بعينه فتدعه » (1) إلى غير ذلك.

ولعلّ بناء العقلاء على عدم الفحص أيضا (2) ، كذا أفاد إلاّ أنّه ربّما ينافي ما قيل : من أنّ بناءهم على الاحتياط في أمور معاشهم ، فتدبّر.

والفروع المترتّبة على عدم وجوب الفحص في الموضوعات عند إعمال الأصول ممّا لا يحصى كالبناء من المرأة على عدم الحيض قبل الفحص ، والبناء على عدم الاستطاعة فيما لو شكّ في وجود مال به يستطيع ، وكالبناء على جواز الأكل قبل الفحص في ليالي رمضان ، وكالبناء على الطهارة فيما لو شكّ في حمرة أنّها الدم أو البقّم (3) ، ونحو ذلك.

نعم لبعض الأصحاب في بعض موارد الشبهة الوجوبية كلام يشعر بحكمه بوجوب الفحص في تلك الموارد دون الشبهة التحريمية مثل ما حكم به بعضهم (4) : من لزوم الفحص عن الهلال وعدم الحكم لعدم دخول الشهر الآتي ، ومثل ما حكم جملة منهم (5) بلزوم الفحص عن قدر المال فيما لو شكّ في حصول الاستطاعة بالقدر الموجود دون ما

ص: 590


1- الكافى 6 : 339 / 1 ؛ الوسائل 25 : 117 - 118 ، باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 1. وتقدّمت قطعة منه في ص 365.
2- « س » : - أيضا.
3- البقّم صبغ معروف ( الصحاح 3 : 1873 ).
4- أوجبه على الكفاية العلاّمة في تحرير الأحكام 1 : 493 وفي ط الحجري 1 : 82 وعنه في الدروس 1 : 285 ؛ ومشارق الشموس : 474 وقال في كشف الغطاء 4 : 17 وفي ط الحجري : 316 بعد حكمه باستحبابه : وقيل بوجوبه مطلقا ، قال المفيد في المقنعة : 297 : ويجب على المكلّف الاحتياط لفرض الصيام بأن يرقب الهلال. انظر أيضا تذكرة الفقهاء 6 : 268 وفي ط الحجري 1 : 268 ؛ الحديقة الهلالية : 70 ؛ غنائم الأيّام 5 : 292.
5- كالقمّي في القوانين 1 : 460 ، قال في أجود التقريرات 2 : 225 : قد أفتى به جملة من الأعلام بل الظاهر أنّه المشهور. انظر أيضا كتاب القضاء للآشتياني : 386 ؛ مقالات الأصول 2 :257- 258 ؛ وكتاب الصلاة ، تقريرات بحث النائيني للكاظمي 1 : 286 ؛ كتاب الصلاة للسيّد الخوئي 8 : 38 و 62 - 63 ؛ كتاب الزكاة للسيّد الخوئي 1 : 296 - 297 ؛ مصباح الأصول 2 : 492.

إذا شكّ في أصل وجود المال ، فإنّ البناء فيه على العدم كما عرفت ، فلا بدّ من توجيه لهذه الموارد.

وغاية ما يمكن أن يقال : هو أنّ الخطاب الوارد من الشارع قد يكون معلّقا على أفراد غير محصورين كما إذا أوجب علينا إكرام العلماء وقد يكون معلّقا على أفراد محصورين ، كما إذا أوجب علينا إكرام علماء البلد.

فعلى الأوّل فقد عرفت أنّ المشكوك كونه من العلماء ملحق في الحكم بعدم الوجوب بغير العلماء ؛ لما عرفت من أنّ الحكم بالوجوب ليس بأولى من الحكم بالوجوب (1) ، لاستواء المشكوك بالنسبة إليهما.

وأمّا على الثاني ، فقد يمكن دعوى القول بأنّ العقلاء في أمثال هذه الخطابات ليس بناؤهم على الأخذ بالبراءة بل إنّما يأخذون بها بعد الفحص ، ولعلّه إليه ينظر كلام صاحب المعالم عند دعوى عدم جواز العمل بخبر المجهول من أنّ وجوب التثبّت في الآية متعلّق بوصف الفسق ، ويحتمل كون هذا الرجل فاسقا في الواقع ، ومقتضى ذلك وجوب الفحص عن وجوده وعدمه.

قال : ألا ترى أنّ قول القائل : « أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة [ درهما ] » يقتضي السؤال والفحص عمّن جمع هذين الوصفين لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه (2).

ويحتمل أن يقال : إنّ ذلك إنّما يدور مدار الاهتمام بوقوع المأمور به وعدمه ، والمرجع فيهما (3) عرض الخطاب على العرف ، فإن حكموا بمجرّد الخطاب على الفحص ، فهو ، وإلاّ فالإجماع على عدم وجوب الفحص في محلّه ، ثمّ (4) إن طابق ما ذكرنا للموارد المفتى بها بلزوم الفحص ، فهو ، وإلاّ فالمفتي بذلك مطالب بالدليل.

ص: 591


1- كذا في النسخ.
2- المعالم : 201.
3- « ج » : فيها.
4- « س ، ج » : - ثمّ.
المقام الثاني
اشارة

المقام الثاني (1)

في بيان الحكم الوضعي عند عدم الفحص والأخذ بالبراءة ، وتحقيق الكلام في ضمن مطلبين :

المطلب الأوّل

في المعاملات المعمولة فيها أصالة العدم قبل الفحص كما إذا شكّ في اشتراط شيء في العقد ، فأخذ بعدمه نظرا إلى أصالة العدم ، واعلم أنّ المراد بالمعاملات في المقام ما لا يجب في تحقّقه قصد القربة.

والحقّ أنّ مدار الأحكام الوضعية في المعاملات عند الأخذ بالأصول المعمولة فيها هو الواقع ، ولا يؤثّر الفحص فيها صحّة ولا فسادا ، فلو فرضنا أنّ أحدا قد اتّكل على نقل شيء بالمعاطاة تعويلا على أصالة عدم لزوم العقد في النقل والانتقال ، فلو كان الواقع على عدم الاعتبار ، فالنقل حاصل ، وإلاّ فلا أثر للفحص عن الاعتبار وعدمه فيما هو ثابت في الواقع ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون حين صدور الفعل المعاملي منه شاكّا في التأثير ، أو ظانّا ، أو قاطعا بالفساد ما لم يضرّ ذلك في تحقّق إنشاء النقل والانتقال منه إذا كان الفعل المعاملي من قبيله.

ويظهر ذلك من ملاحظة حال اللاعب بالشطرنج والنرد فإنّه مع علمه بالفساد شرعا قاصد للنقل ، وذلك ظاهر في الطهارة والنجاسة ، ولم نر في ذلك مخالفا إلاّ بعض المتأخّرين.

والوجه في ذلك هو الأخذ بعمومات أدلّة الأحكام الواقعية فإنّ ما دلّ على سببية البيع للنقل غير مقيّد بكون ذلك بعد الفحص ، فالمعاملات التي تقع بلا اجتهاد وتقليد صحّتها وفسادها وترتيب الآثار المطلوبة (2) منها من نقل ملك ، أو منفعة ، أو رفع

ص: 592


1- كذا. والصواب المورد الثاني. وتقدّم المورد الأوّل في بيان الحكم التكليفي في ص 580.
2- « ج » : المطلوبية.

خصومة معوّضا ، أو بلا عوض وجواز الدخول معه في الصلاة وعدمه تابع لحصول حقائقها الواقعية التي تترتّب عليها تلك الآثار الواقعية وعدم حصولها ، وذلك ظاهر جدّا ؛ فإنّ تأثير الأسباب الواقعية في مسبّباتها لا يتوقّف على العلم والجهل ، بل وكيف يعقل انقلاب وصف الشيء الذي وقع عليه إلى ما يضادّه؟ ولا وجه للقول بخلاف ذلك عدا (1) ما أورده بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين في مناهجه (2) ، وهو ممّا لا وجه له ، فلاحظه.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في صحّة المعاملة فيما لو وقعت بلا اجتهاد وتقليد ، و (3) أمّا لو وقعت على اجتهاد ، أو تقليد ، ثمّ انكشف خلاف ما ظنّه المجتهد ، فهل يحكم فيه بالصحّة ، أو بالفساد ، أو يفصّل بالنسبة إلى الآثار السابقة واللاحقة ، أو غير ذلك؟

وجوه وأقوال ستطّلع عليها ، وعلى تحقيق القول فيها في مسائل الاجتهاد والتقليد ، وليس المقام محلّه ، فانتظره إن شاء اللّه.

المطلب الثاني

في العبادات التي يتمسّك فيها بأصالة البراءة ، والمراد منها ما يقابل المعاملات ممّا يحتاج في تحقّقه إلى قصد القربة ، والكلام فيه تارة يقع في صحّة العبادة المعمولة فيها أصالة البراءة من غير فحص من اجتهاد ، أو تقليد ، وأخرى في أنّ العمل المعمول فيه بتلك الأصالة بعد ما انكشف الخلاف ، هل هو صحيح ، أو فاسد؟ والمتكفّل لبيان الثاني هو مسائل الاجتهاد والتقليد.

وأمّا الكلام في المقام الأوّل ، فقد يتراءى في بادئ الأنظار فساد تلك العبادات نظرا إلى امتناع تحقّق قصد القربة من الشاكّ في نفس العمل بل والظانّ أيضا فيما لم يكن ظنّه معلوم الاعتبار ، فإنّ الظنّ المشكوك الاعتبار مرجعه إلى الشكّ في العمل الواقع على

ص: 593


1- « م » : غيرى؟
2- المناهج : 322.
3- « س » : - و.

حسب ذلك الظنّ ، ولكن لنا أن نقول بصحّة تلك العبادات وإن كان تارك التقليد والاجتهاد والاحتياط معاقبا نظرا إلى تركه الطرق الظاهرية التي يجب الأخذ بها على القول بذلك ، فتصحّ العبادة المطابقة للواقع سواء كانت بطريق الاجتهاد ، أو التقليد المعتبر ، أو الاحتياط ، أو تقليد الآباء والأمّهات أو بغير (1) ذلك ، وتبطل العبادة الغير المطابقة للواقع إلاّ أنّ للإجزاء بالفاسدة وعدم الإجزاء بها مقاما آخر ، فالمدار على الواقع صحّة وفسادا ، فلو ترك السورة في الصلاة ثمّ اجتهد ، فاعتقد وجوبها ، فلا بدّ من القضاء في خارج الوقت ، والإعادة فيه ، ولو يرى (2) عدم وجوبها ليس عليه شيء من القضاء والإعادة.

وأمّا حديث قصد القربة ، فمجرّد الشكّ في الواقع في اعتبار شيء في الصلاة مثلا لا ينافي تحقّقه ؛ إذ ليس الفاعل ملتفتا إلى ذلك بل إنّما يأخذ بأصالة البراءة وعدم الوجوب من غير رويّة ونظر تقليدا لما سلف من آبائه ، وتبعا لما وجّه من طريقة كبرائه بل ولو شئنا قلنا بذلك في المقصّر أيضا حين صدور الفعل منه فيما لو كان غافلا عن تقصيره.

نعم ، فيما لم يتحقّق الفعل بدون العلم ، فذلك مسلّم.

ولا يخفى جريان هذا الكلام فيما إذا كان الشكّ في صحّة العمل وفساده بعد وقوعه كما إذا شكّ في الشرطية والجزئية مثلا.

وأمّا إذا شكّ في واجب نفسي على وجه لا يؤتى بنفس العمل على تقدير البراءة فيه كالشكّ في وجوب قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، فلا يجري فيه الكلام المذكور ؛ لعدم تعقّل الصحّة والفساد في العمل الذي لم يقع في الخارج كما هو ظاهر لا سترة عليه.

وكيف كان ، فالمدار في ترتّب الآثار على الأفعال والأعمال الواقعة عن آحاد

ص: 594


1- « س » : غير.
2- « م » : رأى.

المكلّفين في مواردها ومواقعها وعدمه على وقوعها تامّة الأجزاء والشرائط على ما هي (1) عليها في نفس الأمر ، ولا مدخل للفحص في ذلك.

نعم ، قد يستثنى من ذلك في المعاملات إن كان الجهل وعدم الفحص مؤدّيا إلى عدم تعقّل وقوع تلك الأسباب الواقعية ، وفي العبادات ما لو أخلّ الجهل بقصد القربة وإتيان العمل بداعي الأمر وإيقاعه بعنوان الامتثال ؛ فإنّ مطابقة العمل للواقع لا يجدي في تحقّق عنوان الامتثال ، ولذلك قد حكمنا بصحّة عمل المحتاط لإحراز الواقع مع المطابقة لعنوان الامتثال أيضا ، فلو فرض تحقّق قصد القربة من العامل بالبراءة عند الشكّ مع المطابقة ، فلا مجال لإنكار صحّة العبادة بل لو استفتى من يرى عدم وجوب المشكوك من المجتهدين عن صحّة أعماله السابقة التي وقعت منه من دون اشتمالها على المشكوك اعتمادا منه في تركه على البراءة لا بدّ للمجتهد أن يفتيه بصحّة أعماله السابقة الغير المشتملة على المشكوك.

نعم ، لو كان ذلك المفتي ممّن لا يرى صحّة عبادة تارك الطريقين وإن طابقت الأعمال الواقع ، فهو يفتيه بفسادها ، وقد عرفت أنّ الكلام معه في مبنى هذه.

ص: 595


1- « ج » : هو هي.

ص: 596

فهرس المطالب

تمهيد مقدّمة في تقسيم المكلّف الملتفت ... 1

في القطع ... 4

تنبيهات

الأوّل في التجرّي ... 11

الثاني في القطع الحاصل من المقدّمات العقلية ... 17

الثالث في قطع القطّاع ... 27

تذييل ... 29

الرابع في العلم الإجمالي ... 31

تتمّة ... 37

في الظنّ وفيه مقامان :

المقام الأوّل في جواز التعبّد بالظنّ ... 61

المقام الثاني في وقوع التعبّد به شرعا ... 69

في حجيّة الظواهر ... 78

فوائد

الأولى في دفع توهّم عدم الثمرة في النزاع في حجيّة الظواهر القرآنية ... 93

الثانية في عدم وقوع التحريف في القرآن وعلى فرضه لا يمنع من التمسّك بظواهره ... 94

الثالثة في دفع توهّم أنّ القول بحجّية الظواهر القرآنية يلازم القول بعدم حجّيتها ... 94

ص: 597

الرابعة فيما إذا اختلفت القراءات على وجه يختلف باختلافها المعنى ... 95

في حجّية ظواهر الكتاب لغير المشافهين ... 96

القول في الإجماع المنقول... 107

تنبيهات

الأوّل في أنّه بناء على هذا المسلك لا فرق بين نقل الإجماع والشهرة ... 110

الثاني في التواتر المنقول بخبر الواحد ... 111

الثالث في جريان أحكام الخبر على الإجماع المنقول بناء على حجّيته ... 113

الرابع في أنّ الظاهر من القدماء لم يصطلحوا في الإجماع اصطلاحا جديدا ... 113

القول في الشهرة ... 115

القول في حجّية خبر الواحد ... 119

ذكر القائلين بعدم الحجّية ... 121

حجّة المانعين ... 122

الأوّل الاستدلال بالأخبار والآيات الناهيتين عن العمل بالظنّ وجوابه ... 122

الثاني الإجماع المحكي وجوابه ... 122

الثالث أصناف من الروايات والجواب عنها ... 123

قد يستدلّ على المنع بآية النبأ ... 126

حجّة المجوّزين ... 126

الثالث من وجوه تقرير الإجماع طريقة العقلاء على العمل بخبر الواحد ... 147

الرابع من وجوه تقرير الإجماع هو إطباق أصحاب الأئمّة عليهم السلام على العمل بخبر الواحد 150

كلام الشيخ في الأدلّة المذكورة كتابا وسنّة وإجماعا ... 151

الكلام في آية النبأ ... 151

الكلام في الأخبار ... 152

ص: 598

الكلام في الإجماع ... 153

الاستدلال بالعقل وفيه مقامان :

المقام الأوّل في بيان الأدلّة التي تدلّ على حجيّة أخبار الآحاد بالخصوص ... 156

منها : العلم الإجمالي بصدور جملة كثيرة من الأخبار عن الأئمّة عليهم السلام وشدّة اهتمام الأصحاب بتنقيح الأخبار 156

المناقشة فيه ... 157

منها : ما استند إليها الفاضل التوني ... 159

المناقشة فيه ... 160

منها : ما أفاده صاحب هداية المسترشدين ... 162

المناقشة فيه ... 162

المقام الثاني في بيان الوجوه التي تعمّ الخبر من الأدلّة الأربعة وهي أربعة :

الأوّل وجوب دفع الضرر المظنون ... 165

المناقشة فيه بوجوه :

الوجه الأوّل ما أورده الحاجبي والجواب عنه ... 166

الوجه الثاني ما ذكره صاحب الفصول والجواب عنه ... 167

الوجه الثالث ما أفاده المحقّق في المعارج والجواب عنه ... 167

عدم ترتّب النتيجة المطلوبة من اعتبار كلّ ظنّ ومطلق المظنّة ... 174

الثاني من الوجوه العقلية على التعميم قبح ترجيح المرجوح ... 175

جواب صاحب هداية المسترشدين عنه والمناقشة فيه ... 176

التحقيق في الجواب ... 177

الثالث من الوجوه العقلية على التعميم ما ذكره صاحب الرياض والمناقشة فيه ... 177

الرابع من الوجوه العقلية دليل الانسداد ... 179

ص: 599

مقدّمات دليل الانسداد ... 179

المقدّمة الأولى انسداد باب العلم بالمعنى الأعم في معظم الأحكام الشرعية مسند ... 180

المقدّمة الثانية أنّه تعالى لم يتركنا سدى وليس حالنا حال البهائم ... 182

المقدّمة الثالثة أنّ المرجع بعد الانسداد في معظم الأحكام ليس البراءة والدليل عليها وجوه 182

الأوّل الإجماع القطعي ... 182

الثاني لزوم المخالفة القطعية ... 182

الثالث لا دليل على اعتبار الأصل فيما لو خالف العلم الإجمالي ... 186

المقدّمة الرابعة أنّ المرجع بعد الانسداد ليس الاحتياط ، والدليل عليها وجوه ... 189

الأوّل الإجماع القطعي ... 189

الثاني لزوم العسر والحرج ... 189

الثالث عدم لزوم تحصيل الموافقة القطعية بل يكفي عدم لزوم المخالفة القطعية وهو يحصل بالعمل بسلسلة المظنونات ، فلا وجه للاحتياط ... 194

الرابع قد لا يمكن الاحتياط كما إذا دار الأمر بين المتباينين سيّما في الموضوعات ... 194

الخامس أنّ الاحتياط قد يؤدّي إلى ترك الاحتياط ... 195

بطلان المقدّمة الخامسة بأنّ المرجع بعد انسداد باب العلم ليس إلى الأصول الجزئية في الموارد الجزئية 200

تنبيهات :

التنبيه الأوّل أنّ نتيجة دليل الانسداد اعتبار الظنّ في نفس الأحكام الشرعية وفي الطرق إليها 205

ذكر ادلّة القائلين بأنّ النتيجة اعتبار الظنّ في الطرق إلى الأحكام فقط ... 206

ذكر كلام صاحب الفصول ... 206

ص: 600

المناقشة فيه ... 208

ذكر كلام صاحب هداية المسترشدين ... 223

الجواب عنه ... 224

وجهان آخران أيضا لصاحب هداية المسترشدين ... 227

الوجه الأوّل منهما ... 227

الجواب عنه ... 229

الوجه الثاني منهما ... 230

المناقشة فيه ... 231

ذكر كلام المشهور القائلين باعتبار الظنّ في الفروع فقط والمناقشة فيه ... 231

التنبيه الثاني هل نتيجة دليل الانسداد عامّة كلّية أو مطلقة مهملة ... 232

تقرير دليل الانسداد على وجه الحكومة - كما هو الحقّ - فالنتيجة كلّية ... 233

تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف فالنتيجة مهملة ... 234

التحقيق في تقرير دليل الانسداد هو الحكومة ... 234

أمور تدلّ على التعميم على الكشف :

الأوّل قاعدة بطلان الترجيح بلا مرجّح والمناقشة فيها ... 235

كلام المحقّق النراقي في تقديم مظنون الاعتبار بين سلسلة الظنون ... 239

المناقشة فيه ... 241

مسلك آخر في بيان عدم حجيّة مطلق الظنّ ... 245

المناقشة فيه ... 246

الثاني من المعمّمات الإجماع المركّب والمناقشة فيه ... 250

الثالث منها قاعدة الاشتغال ... 250

المناقشة فيها ... 251

ص: 601

الرابع منها قاعدة عدم الكفاية ... 252

المناقشة فيها ... 253

وجه آخر لبعض المتأخّرين في بيان عدم الكفاية والتعميم به والمناقشة فيه ... 254

تمسّك بعض من لا دربة له في التعميم ببناء العقلاء والمناقشة فيه ... 255

والذي ينبغي أن يقال في وجه التعميم على تقدير الإهمال في النتيجة ... 255

بناء على الحكومة هل العقل ابتداء يحكم بحجيّة الظنّ من غير ملاحظة مقدّمة أخرى أو يحتاج في الحكم بالتعميم إلى ملاحظة مقدّمة أخرى لبطلان الترجيح بلا مرجّح ... 261

الحقّ هو الثاني ... 261

التنبيه الثالث أنّ قضية الدليل على تقدير التعميم عدم الفرق بين خصوصيات الظن من جهة الأسباب مع أنّ هناك أمورا لا يجوز الاستناد إليها كالقياس وأضرابه ... 265

تمهيد مقدمة في عدم جواز تخصيص الدليل الحقيقي ... 266

الكلام يقع في جهتين :

الجهة الأولى في كيفية خروج القياس وأضرابه ... 268

لا إشكال في خروج القياس على تقدير الكشف ... 268

توجّه الإشكال على تقدير الحكومة ... 270

وجوه لدفع الإشكال :

الأوّل ما أفاده المحقّق القمي من منع حصول الظنّ من القياس وأشباهه ... 270

المناقشة فيه ... 271

الثاني ما التزم به المحقّق القمّي أيضا من جواز العمل بالقياس حال الانسداد فيما إذا أفاد الظنّ 272

المناقشة فيه ... 274

الثالث ما استند إليه المحقّق القمّي أيضا من أنّ باب العلم في مورد القياس ليس

ص: 602

بمنسد والمناقشة فيه ... 275

الرابع ما تكلّفه المحقّق القمي أيضا والمناقشة فيه ... 275

الخامس ما أفاده صاحب هداية المسترشدين من أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ ليس حكما أوّليّا واقعيا بل هو حكم ظاهري ثانوي 276

المناقشة فيه ... 277

السادس ما أفاد أستاذنا المرتضى دام علاه من أنّ حكم العقل بوجوب الأخذ بالظنّ من حيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، وأنّ مناط حكم العقل ليس موجودا في الظنون القياسية وأشباهها ... 280

مناقشة الشيخ فيه ... 280

السابع ما أفاده الأستاد أيضا من أنّ حكم العقل بحجّية الظن إنّما هو بواسطة نيل المكلّف بالمصالح الكامنة وأنّ ذلك إنّما هو فيما لم يكن في سلوك سبيل الظن مفسدة فائقة على مصلحة الواقع ... 281

المناقشة فيه ... 281

الجهة الثانية في تشخيص الخارج من الظنّين عند تدافعهما ... 284

التنبيه الرابع من أنّ الظنّ في الموضوعات حجّة بعد القول بحجيّة مطلق الظنّ ... 284

التنبيه الخامس في عدم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا دخل للأحكام الشرعية فيها مطلقا 285

أمور خاصّة يجوز الرجوع فيها إلى الظنّ ... 287

الأوّل أنّ الظنّ فيها يستلزم الظنّ في الحكم الكلّي الفرعي كالظنون الرجالية ... 287

الثاني في الموارد التي لو لم يعمل فيها بالظنّ يلزم إبطال الحقوق وتعطيل السوق ... 289

منها العدالة على القول بكونها ملكة راسخة نفسانية ... 289

منها الضرر ... 289

ص: 603

التنبيه السادس في حجيّة الظنّ في أصول الفقه ... 290

التنبيه السابع هل يعتبر الظنّ في أصول الدين؟ ... 293

تحقيق المقام في طي مقامات :

المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ أو لا يجب؟ ... 294

التحقيق عدم وجوب تحصيل الظنّ ... 294

المقام الثاني فيما لو أمكن له تحصيل العلم بعد إفراغ الوسع هل يجوز الاكتفاء بالظنّ أو لا؟ 300

التحقيق عدم الاكتفاء بالظنّ لوجوه :

الأوّل أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ... 300

الثاني الأدلّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ... 300

الثالث الأدلّة الآمرة بالشهادة ... 300

الكلام في حكمه الوضعي ... 301

التنبيه الثامن في أنّه على القول بعدم حجّية الظنّ فهل له آثار أخر؟ ... 301

تمهيد مقدّمة في المراد من الجبر والتعاضد والترجيح والوهن ... 301

تنقيح الكلام في طي مقامات :

المقام الأوّل في أنّ الظنّ الذي لم يعلم اعتباره يمكن أن يكون جابرا للسند فيما إذا كان الكسر فيه أو للدلالة أم لا؟ 303

ففيه جهتان :

الجهة الأولى في الجبر في السند ... 303

الجهة الثانية في الجبر في الدلالة ... 304

المقام الثاني في أنّ الظنّ على احتماليه يمكن أن يكون موهنا لدليل على وجه يخرجه عن الحجّية ، أو لا؟ 307 - 308

ص: 604

المقام الثالث في التعاضد ... 313

المقام الرابع في الترجيح ... 313

في الترجيح بالظنون التي قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس ، الحقّ عدم كونه مرجّحا... 314

في ترجيح الظنون المشكوكة كالشهرة وأمثالها ... 318

فهنا مقامان :

المقام الأوّل في ترجيح الدلالة بالظنّ المطلق ... 318

المقام الثاني في ترجيح السند بظنون غير معتبرة ... 320

تذنيب ... 324

مباحث الأصول العملية

البراءة والاشتغال

(1) أصل في الأصول العقلية

البراءة العقلية ... 328

قاعدة الاشتغال ... 332

أصالة التخيير ... 337

(2) أصل في البراءة في الشبهة الحكمية الوجوبية ... 341

الشبهة الوجوبية من جهة فقد النصّ ... 341

1 - الاستدلال بآية ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ... 341

2 - الاستدلال بالإجماع ... 342

3 - الاستدلال بالعقل ... 343

يقرّر بوجهين :

ص: 605

الأوّل ... 343

الثاني ... 343

الشبهة الوجوبية من جهة إجمال النصّ ، فهو مثلها ... 349

الشبهة الوجوبية من جهة تعارض النصّين ... 349

(3) أصل في البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية ... 351

الشبهة التحريمية من جهة فقد النصّ أو إجماله ... 351

1 - الاستدلال بالكتاب :

الاستدلال بآية التعذيب ... 352

الاستدلال بآية ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) ... 353

الاستدلال بآية ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ... 353

2 - الاستدلال بالإجماع ... 353

3 - الاستدلال بالأخبار :

الاستدلال بحديث « ما حجب اللّه علمه عن العباد »... 353

الاستدلال بحديث « الناس في سعة ما لم يعلموا » ... 355

الاستدلال بحديث « رفع عن أمّتي تسعة » ... 355

الاستدلال بحديث « كلّ شيء مطلق » ... 358

الاستدلال بحديث « كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال » ... 359

الاستدلال على البراءة بوجوه ضعيفة ... 367

الاستدلال بآية ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ ) ... 367

استدلال الأخباري على الاحتياط :

1 - الاستدلال بالكتاب فصنفان :

الف : الاستدلال بالآيات الآمرة بالتقوى ... 368

ص: 606

ب : الاستدلال بالآيات الآمرة بالوقوف ... 369

2 - الاستدلال بالأخبار فصنفان :

الف : أخبار الاحتياط ... 369

ب : أخبار التوقف ... 369

3 - الاستدلال بالعقل ويقرّر بالوجهين ... :

الأوّل : دفع احتمال الضرر ... 370

الثاني : الاحتياط في موارد الشبهة ... 371

الجواب عن أدلّة الأخباريين :

الجواب عن آيات التقوى ... 372

الجواب عن آيات الوقوف ... 373

الجواب عن أخبار الاحتياط ... 373

الجواب عن أخبار التوقّف ... 376

الجواب عن دليل العقل :

الجواب عن التقرير الأوّل ... 384

الجواب عن التقرير الثاني ... 384

تنبيهان :

الأوّل في التفصيل المنسوب إلى المحقّق الحلّي ... 387

الثاني في عدم جريان البراءة عند وجود الاستصحاب أو أصل آخر أخصّ منها ... 389

حكم الشهيد الثاني بطهارة الحيوان المتولّد من الحيوانين وحرمته ... 391

توجيه كلامه والمناقشة فيه ... 391

توجيه آخر لكلامه والمناقشة فيه ... 394

(4) أصل في دوران الأمر بين المحذورين ... 395

ص: 607

الشبهة الحكمية التكليفية بين المتباينين من جهة فقد النصّ أو إجماله الكلام فيه في مقامات أربع :

المقام الأوّل في اللاحرجية العقلية ... 395

المقام الثاني في التخيير أو الترجيح ... 400

المقام الثالث في كون التخيير بدويا أو استمراريا ... 403

المقام الرابع في كون التخيير أصوليا أو فقهيا ... 406

تنبيهات :

الأوّل اتفاق الكلّ من الأصوليين والأخباريين على البراءة في الشبهة الوجوبية فيما دار الأمر بين المتباينين 408

الثاني الكلام في دوران الأمر بين المحذورين فيما إذا لم يكن أحدهما مسبّبا عن الآخر ... 409

الثالث يستفاد ممّا سبق حكم ما إذا دار الأمر بين الحرام والاستحباب أو الكراهة و... 409

(5) أصل في الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية ... 411

(6) أصل في اشتباه الواجب بالحرام ... 419

(7) أصل في الشبهة الموضوعية الوجوبية من الشك في المكلّف به ... 425

تنبيهات :

الأوّل لو أتى المكلّف بواحد من المحتملات وصادف الواقع فهل هو معاقب في تركه الاحتمالات الأخر أو لا؟ 431

الثاني عدم لزوم قصد إتيان الجميع عند الإتيان بواحد من المحتملات فيما لو كان المردّد واجبا توصّليا ، ولزومه فيما لو كان تعبديا 432

الثالث هل اللازم عند اشتباه القبلة إتيان احتمالات الظهر بتمامها قبل احتمالات العصر... 434

الرابع لو امتنع الإتيان بتمام المحتملات فهل يجب الاحتياط في المحتملات المقدورة أو تنقلب الشبهة التكليفية ويؤخذ بالبراءة؟ 436

ص: 608

(8) أصل في الشبهة الموضوعية التحريمية من الشك في المكلّف به ... 445

الكلام في الشبهة المحصورة

تحقيق الكلام في الموردين :

المورد الأوّل هل يجوز المخالفة القطعية بارتكاب الجميع ، أو لا يجوز؟ ... 445

الحقّ هو الثاني لوجوه :

الأوّل الإجماع ... 446

الثاني الأدلّة الدالّة على وجوب الموافقة القطعية ... 446

الثالث ما ذكره صاحب الفصول والمناقشة فيه ... 446

يمكن الاستدلال للقائل بجواز المخالفة بوجهين :

الأوّل الأصل ... 447

الثاني الأخبار الدالّة على جواز الارتكاب في الشبهات الموضوعية ... 448

الجواب عن الأوّل ... 448

الجواب عن الثاني ... 451

المورد الثاني في أنّه هل يجب الموافقة القطعية بعد ما عرفت من حرمة المخالفة القطعية ، أو لا؟ 454

التمسّك بالأخبار لا وجه له ... 455

تجشّم بعضهم في أنّ ارتكاب الباقي مقدّمة لتحصيل العلم في المحرّم ... 460

اعتراض صاحب الفصول عليه ... 460

المناقشة فيه ... 460

الاستدلال على لزوم الموافقة القطعية ببناء العقلاء والمناقشة فيه ... 462

دعوى الاستقراء من صاحب الحدائق والمناقشة فيه ... 462

الاستدلال بالأخبار الواردة في موارد خاصّة ولو بعد تنقيح مناطها على حرمة الارتكاب :

ص: 609

منها : صحيحة زرارة « تغتسل من ثوبك ... حتى تكون على يقين » ... 462 - 463

منها : « ما اجتمع الحلال والحرام ... » ... 463

منها : « اتركوا ما لا بأس به ... » ... 464

منها : خبر سماعة عن الصادق عليه السلام : « من يريقهما جميعا ويتيمّم » ... 464 - 465

منها : عن المحاسن عن أبي الجارود ... 465

منها : أخبار القرعة ... 465

الجواب عن الرواية الخاصّة ... 466

الجواب عن أخبار القرعة ... 466

الجواب عن أخبار أخر تدلّ بظاهرها على عدم وجوب الاجتناب ... 467

تنبيهات :

الأوّل وجوب الإتيان بالمحتملات إنّما هو وجوب عقلي لا شرعي ... 468

الثاني الفرق بين الأوامر والنواهي ... 469

الثالث وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو فيما إذا صحّ التكليف بالأطراف منجزا وإلاّ فلا يجب 470

تفصيل صاحب الحدائق بين كون المشتبهين مندرجين تحت ماهيّة واحدة وغيره والمناقشة فيه 472

فروعات المسألة ... 473

الرابع الثابت في المشتبهين وجوب الاجتناب دون سائر الآثار الشرعية ... 475

كلام المحدّث البحراني في نجاسة الملاقي والمناقشة فيه ... 476

الخامس هل الحكم بوجوب الاجتناب يخصّ ما إذا اجتمعت أطراف الشبهة في الوجود أو يعمّها؟ 480

السادس لا فرق بين المشتبهين الذين يجمعهما عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة

ص: 610

الشرعية وبين المختلفين اللذين لا يجمعهما عنوان تفصيلي ... 481

السابع التسوية بين كون الاستصحاب في كلّ واحد من المشتبهين هو الحلّ أو الحرمة ... 482

الثامن في اشتباه أحد الأطراف بسلسلة أخرى ... 483

التاسع لو اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب أحد الأطراف فهل يجب الاجتناب عن الباقي أم لا ، أو التفصيل 483

العاشر لو حدث حادث في أحد الأطراف فهل يجب الاجتناب ، أو لا؟ ... 484

الحادي عشر في الشبهة غير المحصورة في مقامات : ... 484

المقام الأوّل في موضوعها ... 484

المقام الثاني في أنّه هل يجب الموافقة القطعية فيها ، أو لا؟ ... 488

الحقّ عدم الوجوب للأدلّة الأربعة :

الآيات الدالّة على عدم جعل الحرج في الدين ، والتقريب بوجهين ... 488

الأوّل والمناقشة فيه ... 489

الثاني ... 489

الاستدلال بالأخبار فصنفان :

الأوّل ما بخصوصه يدلّ على الجواز ... 491

الثاني ما بعمومه وإطلاقه يدلّ على الجواز ... 491

الاستدلال بالإجماع ... 491

الاستدلال بالعقل ... 492

المقام الثالث في أنّه هل يجوز المخالفة القطعية ، أو لا؟ ... 493

(9) أصل في دوران الأمر بين الواجب والحرام من الشك في المكلّف به ... 495

(10) أصل في الشبهة الوجوبية الحكمية من الشك في المكلّف به فيما دار الأمر

ص: 611

بين المتباينين ... 497

الكلام فيها في مقامين :

المقام الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه ... 498

المقام الثاني في وجوب الموافقة وعدمه ... 503

بعض الوجوه التي قد يستند لوجوب الموافقة كما هو الحقّ :

منها : استصحاب التكليف والمناقشة فيه ... 503

منها : قاعدة اشتراك التكليف والمناقشة فيها ... 504

منها : استصحاب الاشتغال والمناقشة فيه ... 504

قد يستدلّ في المقام بأخبار الاحتياط ... 506

تنبيه في تصوير العلم الإجمالي على ثلاث صور ... 508

(11) أصل في الشبهة التحريمية الحكمية فيما شكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المتباينين 511

(12) أصل في الشبهة الحكمية عند الشك في المكلّف به فيما دار الأمر بين المحذورين في المتباينين 513

(13) أصل في الشبهة الوجوبية الحكمية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين 515

المراد بالأقلّ والأكثر الارتباطيين ... 515

المشهور بين الفقهاء البراءة ... 515

اضطراب كلام الشهيد الأوّل في ذلك ... 515

ذهاب جماعة إلى لزوم الاحتياط ... 516

احتمال الفرق بين الأجزاء والشرائط فبالاحتياط في الثاني ، وبالبراءة في الأوّل ... 516

التفصيل هذا ربّما يخالف التفصيل في الصحيح والأعمّ ... 516

ص: 612

الاستدلال على الاحتياط والمناقشة فيه ... 521

المنصور عندنا مذهب المشهور وهو البراءة ... 522

تحقيق المقام يقتضي رسم أمور :

الأوّل في أنّ الداعي إلى امتثال أوامر المولى دفع خوف العقاب ... 522

الثاني في عدم الفرق بين الواجب النفسي والغيري في جريان البراءة ... 523

الثالث في أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف فيما لو لم يكن في أحد الأطراف ما يقضي بارتفاع التكليف الفعلي عنه بالخصوص 524

الاستدلال على البراءة ... 525

المانع من القول بالبراءة عند الشك في جزئية شيء أن يكون أحد الأمور الثلاثة فها هنا مقامات ثلاث :

المقام الأوّل امتناع جريان البراءة في الأجزاء باختصاص دليلها بغيرها ... 527

المقام الثاني معارضة الأصل بمثله بعد القول بجريانه ... 529

الجواب عن ذلك ... 530

المقام الثالث : عدم الجدوى فيه على فرض الجريان وعدم المعارضة ... 532

الجواب عن ذلك ... 533

تأييد البراءة ببناء العقلاء ... 536

تمسّك القائل بالاشتغال ببناء العقلاء والمناقشة فيه ... 537

احتجّ القائل بالاشتغال بوجوه ... 538

الكلام في الشرائط وجريان البراءة فيها ... 539

تفسير معنى الشرط ... 539

ذكر استدلال للاشتغال والمناقشة فيه ... 541

إذا دار الأمر بين المطلق والمقيّد هل يحكم بالبراءة عن المقيّد؟ الأقوى جريان

ص: 613

البراءة ... 541

الكلام في الموانع والقواطع وجريان البراءة فيهما ... 544

تفسير معنى المانع والقاطع والفرق بينهما ... 545

الاستدلال باستصحاب الصحّة والمناقشة فيه ... 545

تنبيهات :

الأوّل في الشكّ في الركنية ... 549

تحديد الركن ... 549

في المقام صور ثلاث :

الصورة الأولى في ترك الجزء سهوا ... 550

الكلام في مقتضى الأصل الأوّلي وهو الفساد ... 550

مقتضى الأصل الثانوي هو الصحّة ... 553

الاستدلال باستصحاب الصحّة والمناقشة فيه ... 553

الاستدلال بحديث الرفع ... 553

الصورة الثانية في الزيادة عمدا ... 557

الصورة الثالثة في الزيادة سهوا ... 558

التنبيه الثاني إذا تعذّر الجزء أو الشرط هل يسقط التكليف بالكلّ؟ ... 559

تحقيقه في مقامين :

المقام الأوّل هل الأصل الأوّلي بمعنى أحد الأصول العملية يقضي بالأوّل أو الثاني؟ ... 559

المقام الثاني هل في المقام ما يقضي من الأدلّة العامّة والقواعد الكلّية؟ ... 561

الاستدلال بالروايات الثلاثة : الميسور لا يسقط بالمعسور و... 561

التحقيق هو الأخذ بعموم هذه الروايات في الأجزاء والشرائط ... 567

تذنيب : إذا دار الأمر بين ترك الجزء أو ترك الشرط ... 573

ص: 614

التنبيه الثالث إذا دار الأمر بين الجزئية والشرطية ... 574

خاتمة في بيان شرط العمل بالأصول وهو الفحص ... 575

إيراده في المقامين :

المقام الأوّل في عدم وجوب الفحص في محلّ الاحتياط في الجملة ... 575

الإجماع على عدم جواز الاحتياط قبل الفحص في العبادات فيما إذا تكرّر العمل ... 576

المشهور على وجوب الفحص في العبادات الغير المتكرّرة والتحقيق خلافه ... 577

ما يمكن أن يقال انتصارا للمشهور ... 577

الجواب عنه ... 578

المقام الثاني في وجوب الفحص عن الدليل عند إعمال البراءة ... 580

تحقيق الكلام فيه في موردين :

الأوّل في أنّ تارك الفحص والعامل بالبراءة عند ذلك هل هو معاقب ، أو لا؟ ... 580

هنا أقوال ثلاثة والتحقيق التفصيل بين ما إذا طابق الواقع فلا عقاب وبين ما إذا خالف فيعاقب على المخالفة 581

التحقيق أنّ الفحص ليس من شرائط اعتبار البراءة بل هو من مقوّماته ... 586

فرع : ما المراد من الواقع الذي جعلنا العقاب دائرا مداره؟ ... 587

عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية ... 588

الثاني في بيان الحكم الوضعي عند عدم الفحص والأخذ بالبراءة ... 592

تحقيق الكلام في ضمن مطلبين :

الأوّل في المعاملات المعمولة فيها أصالة العدم قبل الفحص ... 592

الثاني في العبادات التي يتمسّك فيها بأصالة البراءة ... 593

ص: 615

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

المحقق: علي الفاضلي

الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية

المطبعة: مؤسسة العروج

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-964-7986-37-3

المكتبة الإسلامية

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

مطارح الأنظار

تقرير أبحاث الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: الميرزا أبي القاسم النوري الطهراني

(1236-1292)

تحقيق: علي الفاضلي

المجلد الرابع

قام بنشره معهد الإمام الخميني والتورة الإسلامية للتحقيق والدراسات العليا

1386 (ذيحجة الحرام 1428)

ص: 3

ص: 4

المقدمة

تم تأسيس اكاديمية الامام الخميني (رحمه اللّه) والثورة الاسلامية التي تعد احدي المراكز العلمية - البحثية ، على اساس ضرورة البحث في الابعاد المختلفة للثورة الاسلامية وتنظيم الدراسات البحثية الاساسية والعملية حول آراء وافكار سماحة الامام الخميني (رحمه اللّه).

تاسست الاكاديمية ودشنت بفضل حنكة ودراية ويقظة نجل الامام ، الفقيد الراحل المفغور له آية اللّه الحاج السيد احمد الخميني طاب ثراه باعتبارها احدى المراكز التابعة لمؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني (رحمه اللّه) وهي اليوم تواصل مسيرتها العلمية والبحثية تحت اشراف سامي من قبل سماحة العالم المحقق الفقيه والفاضل المتظلع النبيه ، قرّة عين الامام العبقري وبهجة قلب ولده الألمعي ، السيد حسن الخميني مد اللّه له في العمر السعيد ومتّعه بالعيش الرغيد.

منذ العام الاول لبدء العمل في الاكاديمية وانطلاق المسيرة العلمية المباركة اي في عام 1996م / 1417ه. وحتى الان بادرت هذه المؤسسة العلمية الى تربية العشرات من الباحثين في مضمار الامام والثورة الاسلامية ، والى جانب تجميع وتصينف آلاف الوثائق والمستمسكات العلمية وتأسيس مكتبة تخصصية قيمة تحتوي على عشرات الالاف من الكتب والمجلات العلمية ، قامت بتأليف وترجمة وطبع الكثير من الكتب العلمية القيمة.

واليوم تعلن الاكاديمية بكل فخر واعتزاز عن طبعها لهذا السفر القيم الذي يعد نتيجة للبحوث والمساعي العلمية لاحد حاملي نبراس النور لموكب العلماء ، والمدافع عن حوزة الايمان ، من شجرة طيبة ودوحة مثمرة تفرغت منها كريمة الامام الخميني (رحمه اللّه) ونتجت عليها ابناء سماحة ونحن نضع هذا المنشور المبروك تحت تصرف اصحاب الرأي والعلماء والباحثين الاكارم ونحمد اللّه سبحانه على ذلك.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عباسعلي روحاني

رئيس اكاديمية الامام الخميني (رحمه اللّه) والثورة الاسلامية

ص: 5

[الاستصحاب]

اشارة

ص: 6

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين إنّه خير معين (1) الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين (2) الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين أبد الآبدين (3).

القول في الاستصحاب

وتحقيق المقصود فيه في طيّ هدايات

[ تعريف الاستصحاب ]

تحديد : الاستصحاب لغة : أخذ الشيء مصاحبا ، واصطلاحا على ما عرّفه في المشارق ناسبا له إلى الأصوليين (4) : إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه (5).

واعترض عليه بأنّ الاستصحاب دليل ، والإثبات مصدر متعدّ فعل للمكلّف لا سبيل إلى جعله دليلا.

وفيه : أنّ من الواضح نقل الاستصحاب عن معناه اللغوي إلى معناه الاصطلاحي ، ولا شكّ في مسبوقية النقل إلى مناسبة بين المنقول منه والمنقول إليه ، والأغلب أنّها في

ص: 7


1- المثبت من « ز » : وفي سائر النسخ : - إنّه خير معين.
2- المثبت من « ز » وفي سائر النسخ : - الطيّبين.
3- لم ترد الخطبة في « م ».
4- في « ك ، ل » : ناسبا منه للأصوليين. وفي « ز » : تأسّيا منه للأصوليين.
5- مشارق الشموس : 76 وفيه : « إثبات حكم شرعي ... ».

الأمور الاصطلاحية من نقل الكلّي إلى أفراده ، وقد عرفت أنّ معنى الاستصحاب لغة هو الأخذ مصاحبا ، فإنّه استفعال من صحب ، قال في المجمع : استصحب القوم : صحب بعضهم بعضا (1). ولا ضير في كون الدليل من مقولة الفعل ؛ إذ معنى دليليته هو اعتباره في نظر الشارع على نحو اعتبار الكتاب والسنّة ، فكما أنّ نقل الإجماع يذكر في عداد الأدلّة مع أنّ النقل فعل كالقياس و (2) الاستحسان فإنّه اعتبار على ما تخيّله المعتزى به ولا غائلة فيه ، فكذلك الاستصحاب فإنّ الفعل صالح للاتّصاف بالدليلية.

على أنّ ظاهر الحدود المودعة في كتب القوم هو هذا ، قال شيخنا البهائي : هو (3) إثبات الحكم (4). اه (5).

وقال في الوافية : إنّه التمسّك (6) اه.

وقال بعضهم في الرسالة الاستصحابية : هو الحكم باستمرار أمر (7) اه.

وقال بعض آخر : هو إبقاء ما كان.

وفي الاشارات عن بعض الأواخر (8) : هو الحكم باستمرار ما كان (9).

وعن الشهيد : أنّ قاعدة اليقين هو البناء (10).

ص: 8


1- مجمع البحرين 2 : 99.
2- « م ، ج » : أو.
3- « م ، ج » : إنّه.
4- زبدة الأصول : 106 ، وفيه : « هو إثبات الحكم في الزمن الثاني تعويلا على ثبوته في الأوّل ».
5- « م ، ج » : - « اه » وكذا في الموارد الآتية.
6- الوافية : 200 ، وفيه : « هو التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت في غير تلك الحال ».
7- الوحيد البهبهاني في رسالة الاستصحاب المطبوعة في الرسائل الأصولية : 424 ، وفيها : « ... أمر كان يقيني الحصول في وقت أو حال ، ومشكوك البقاء بعد ذلك الوقت أو الحال ».
8- « ك » : - الأواخر.
9- اشارات الأصول ، قسم الأدلّة الشرعية ( مخطوط ) 93 / ب ، وأورد فيه أكثر التعاريف التي ذكرها المؤلّف.
10- القواعد والفوائد 1 : 132 ، القاعدة الثالثة ، وفيه : « وهي البناء على الأصل ».

وعن التنقيح : الاستصحاب هو الحكم على وجود شيء (1).

فإنّ صريح هذه الحدود هو أنّ المحمول في هذه القضايا من مقولة الفعل وهو الجنس فيها ، ومنه يظهر ثبوت اصطلاحهم فيه واستقراره على ذلك (2) ، ويوضحه نسبته إلى الأصوليين في المشارق ، ويؤيّده موافقته لسائر مشتقّاته من موارد استعماله ، فيقال : استصحب إذا حكم بثبوت شيء ثابت سابقا فهو مستصحب وذاك مستصحب ، وعند إظهار العلّة في الحكم بثبوت (3) شيء وترتيب آثاره السابقة (4) ، استصحابا للحالة السابقة كما يظهر من موارد استعماله (5) ، نعم قد يفترق في ذلك الأحكام والموضوعات ، فإنّ الحكم المستصحب في زمان الشكّ مصاحب للمستصحب بخلاف الموضوعات ؛ إذ الموضوع المستصحب آثاره مستصحبة ، فيصير الاستصحاب فيها من قبيل الاستعارة التمثيلية كتشبيه المتردّد ب- « من تقدّم رجلا وتأخّر (6) أخرى » وهذا الفرق إنّما هو بواسطة قابلية الحكم للجعل في الزمان الثانى بخلاف الموضوع وإن كان قد يقال : بأنّ الحكم في الزمان الثاني ليس هو الحكم الأوّل بل هو مماثل له ، ولهذا يختلف (7) بالظاهرية والواقعية كما لا يخفى.

لا يقال : قد يكون الشيء معلوم الوجود في الحال ومشكوكه في زمان متأخّر عن (8) الزمان الحاضر ويستصحب إلى زمن يمكن (9) بقاؤه فيه مع أنّ المعنى اللغوي غير واقع (10) في هذا الموضوع (11) ، لانتفاء المصاحبة في زمن غير مدرك.

ص: 9


1- التنقيح الرائع 1 : 7 ، وفيه : « هو الحكم على وجود الشيء أو عدمه في الحال للعلم بوجوده أو عدمه في الماضي ، فيقال : الأصل بقاء ما كان على ما كان ».
2- « ج ، م » : - واستقراره على ذلك.
3- « ك ، ل » : ثبوت.
4- « ك » : السابقة عليه.
5- « ك » : استعمالاته.
6- « ل » : « يقدّم ... يؤخّر ».
7- « ز ، ك » : قد يختلف.
8- « ج ، م » : من.
9- « ك » : يكون.
10- « ل » : واضح.
11- « م » : الموضع.

لأنّا نقول : على تقدير التفسير بالبقاء أيضا كذلك ، مع أنّ استقبال المتعلّق غير مضرّ في صدق المعنى اللغوي ، وإن شئت التوضيح فلاحظ كيف يعبّر عنه بالفارسية فيقال : « همراه داشتن وهمراه داشته شده » ونحو ذلك ممّا هو ظاهر ، ويزيد ذلك توضيحا عند ملاحظة الأحكام المحمولة على الاستصحاب من الحجّية والدليلية والوجوب ، فيقال : الاستصحاب حجّة أو دليل أو واجب ، فإنّه لا يعقل إلاّ بعد كونه الإبقاء (1) ؛ إذ لا معنى لاتّصاف البقاء بالحجّية أو الدليلية أو الوجوب ، وأمّا الإبقاء فيصحّ توصيفه بالأمور المذكورة ، فإنّ المراد بدليلية الإبقاء (2) لو كان من حيث حكم العقل بالبقاء فظاهر ؛ إذ الدليل العقلي على ما عرّف (3) هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وانطباقه على الاستصحاب ظاهر ، ولو كان من حيث حكم الشرع فالمراد به هو ترتيب آثار المعلوم على المشكوك ، وموارد استعماله منطبقة على أحد المعنيين ولو على سبيل التوزيع.

وربّما يستعمل مدخولا للام التعليل في مطاوي كلمات المتعبّدين به ، فيكون إشارة إلى نفس تلك القاعدة المتلقّاة من الصادقين عليهم السلام كما في قولهم : للاشتغال أو للضرر أو لليد ، فينقل (4) منه إليها من حيث اشتمال تلك القاعدة عليه ، كما لا يخفى.

وقد يعترض على الحدّ المذكور بوجوه أخر ، والإعراض (5) عنها أجدر.

ثمّ إنّه قد جعله بعضهم - على ما حكي - (6) نفس الحالة السابقة ، ولا شاهد عليه.

وعرّفه المحقّق القمي بأنّه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق ،

ص: 10


1- « ل » : للإبقاء.
2- « ز ، ل ، ك » : لاتّصاف البقاء بهذه الأمور بخلاف الإبقاء ، فإنّه صالح للاتّصاف المذكور ، ضرورة أنّ المراد بدليلية الإبقاء.
3- « ز ، ك ، ل » : عرّف به.
4- « ل » : فينتقل.
5- « ز ، ك ، ل » : المذكور بأمور ضعيفة ، فالإعراض.
6- « ك ، ل ، م » : - على ما حكي.

مشكوك البقاء في الآن اللاحق (1).

وفساده غير خفيّ ؛ إذ الاستصحاب - على ما عرفته (2) - إنّما هو من الأدلّة العقلية وقد (3) عدّه في عدادها غير معدود منهم ، وليس الكون الموصوف بما ذكر (4) حكما عقليا يتوصّل به إلى حكم شرعي ، بل إنّما هو (5) يحصل فيه ، ولعلّه إنّما أخذه من صغرى كلام العضدي حيث قال : إنّ معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء ، ثمّ قال : وقد اختلفوا في صحّة الاستدلال به لإفادته ظنّ البقاء ، وعدمها لعدم إفادته إيّاه (6). فإنّه قد يتسارع إلى الفهم أنّ الخلاف إنّما هو في الكبرى ، والنزاع في حجّية شيء إنّما هو بعد التسليم في مفهومه والمسلّم في المقام هو الصغرى ، فلا بدّ أن يكون ما ذكره في بيان الصغرى هو المفهوم المسلّم ، فيكون حدّا للاستصحاب (7) ، إلاّ أنّه بعيد عن الصواب فإنّ من الواضح أنّ المعنيّ بالتعريف في المقام هي (8) الكبرى فإنّها صالحة لأن ينتزع منها الحدّ كما هو ظاهر ، فبيان الصغرى إنّما هو توضيح للمورد ، وتوضحه (9) ملاحظة ما صنعه العضدي في مقام تحديد القياس فراجعه. ووقوع الخلاف في الكبرى ليس بضائر في كونها ممّا ينتزع منها الحدّ ؛ إذ غاية ما يلزم أن يكون النزاع في حصول الظنّ وحكم العقل بالبقاء وعدمه.

ولقد أجاد صاحب المعالم حيث جعل صغرى ما في كلام العضدي محلاّ للاستصحاب فقال : اختلف الناس في استصحاب الحال ، ومحلّه أن يثبت حكم في وقت ثمّ يجيء وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، فهل يحكم ببقائه على

ص: 11


1- القوانين 2 : 53 ، وفي ط : ص 265.
2- « ج ، م » : إذ كما عرفت أنّ الاستصحاب.
3- « ز ، ك ، ل » : - قد.
4- « ل » : ذكره.
5- « ج ، م » : - هو.
6- شرح مختصر منتهى الأصول : 453.
7- « م » : حدّ الاستصحاب.
8- « ز ، ك ، ل » : - هي.
9- « ج ، م » : يوضحه.

ما كان وهو الاستصحاب ، أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دليل (1)؟

ومن الظاهر انطباق كلامه على ما نبّهنا عليه.

وكيف كان فما أورده في مقام التحديد ممّا لا يصل إلى طائل.

قال الأستاد أنار اللّه برهانه : ويمكن أن يتعسّف في كلامه على وجه يرجع إلى التحديد للاستصحاب (2) فيقال : إنّ الاستصحاب في قوله : « استصحاب الحال » مصدر للفعل المبنيّ للمفعول أضيف إلى فاعله وهو الحال ، والكون محمولي تامّ لا رابطي ناقص ، وقوله : « يقيني الحصول » كقوله : « مشكوك البقاء » صفة للحكم أو الوصف لا خبر للكون ، والظرف الأخير من متعلّقات الكون لا المشكوك ، فيصير الحاصل أنّ مستصحبية (3) الحال وكونه مستصحبا عبارة عن ثبوته في الآن اللاحق بعد ما كان مشكوكا (4) ، و (5) يقيني الحصول في السابق.

قلت : وقد اعترف سلّمه اللّه بكونه تعسّفا فلا ينبغي الركون إليه ، على أنّه لا يتمّ أيضا ؛ إذ المعهود في مقام التحديد هو بيان الاستصحاب المبنيّ للفاعل.

وقد يتخيّل أنّه ليس في مقام التحديد ، بل إنّما هو أيضا في مقام بيان محلّه كصاحب المعالم ، ويدفعه ملاحظة صدره وذيله كما هو ظاهر (6).

ثمّ إنّ الحدود المتقدّمة متوافقة المعنى غالبا وإن اختلفت (7) ألفاظها على حسب ما قد يناقش في بعضها ويزيّف بعض آخر كما هو دأب المحصّلين في مثل المقام. وأجودها ما دارت عليه ألسنة المشهور من أنّه إبقاء ما كان على ما كان ، وقصارى ما يورد

ص: 12


1- المعالم : 231.
2- « ز ، ك ، ل » : تحديد الاستصحاب.
3- « م ، ج » : مستصحبة.
4- « ز » : مشكوكا فيه.
5- « ز ، ل » : - و.
6- « ز ، ك ، ل » : ليس بصدد التحديد ، بل هو أيضا - كصاحب المعالم - في مقام بيان محلّ الاستصحاب ومورده ، ويدفعه ... وذيله من كتابه.
7- « م » : اختلف.

عليه انتقاض طرده بما إذا ثبت الحكم ثانيا بدليل ، ويدفعه انصراف (1) الحدّ إلى الحيثية المستفادة من التعليق ، فإنّ المتبادر هو الإبقاء ، لكونه سابقا.

والأسدّ الأخصر هو ما عرّفه الأستاد بأنّه إبقاء ما يحتمل الارتفاع ، فإنّه لا يتوجه عليه المناقشة المتقدّمة. وتوضيحه أنّ الاستصحاب وغيره من الأصول العملية إنّما هي من لواحق موضوع الشكّ وبيان لحكمه ، فالشكّ ابتداء حكمه الأخذ بالبراءة الأصلية ، و (2) فيما له حالة سابقة يجب الأخذ بالحالة السابقة ، ومعلوم أنّ الحكم إنّما يلحق الموضوع مع وجوده ، ففي مورد الاستصحاب إنّما يحكم به من حيث إنّه حكم مشكوك له حالة سابقة ، وموارد الأدلة الاجتهادية إنّما هي مواضع الشكّ على وجه يرتفع الشكّ بها ، فإنّها كاشفة ولو ظنّا عن الواقع ، ففيما إذا ثبت حكم في الزمان الثاني بدليل اجتهادي لا يصدق أنّه إبقاء لما يحتمل الارتفاع ، بل هو رفع لاحتمال الارتفاع بما يكشف عن الواقع لا حكم لموضوع الاحتمال.

أقول : وفيه تعسّف لا ينبغي تحمّله في مقام التحديد ، على أنّه لا يلائم القول باعتباره من حيث الظنّ ؛ لكونه دليلا اجتهاديا كسائر الأدلّة الاجتهادية ، غاية الأمر عدم إمكان تعارضه لها نظرا إلى وجه خارجي ، مع أنّه ينتقض أيضا بما إذا ثبت الحكم في الزمان الثاني بأحد الأصول العملية فيما إذا توافق مواردها للاستصحاب.

اللّهمّ إلاّ أن يدفع بكفاية لفظ (3) الإبقاء عن ذلك ، وعلى تقديره فالحدّان متساويان فى ذلك ، واحتمال ورود دليل على لزوم الإبقاء مدفوع بأنّ الدليل الدالّ على لزوم الإبقاء ليس إلاّ الاستصحاب أو ما في معناه ، مضافا إلى أنّ (4) كونه مسوقا لبيان حكم موضوع الشكّ ، وكونه معتبرا من باب التعبّد ، لا ينافي حصول الظنّ منه اتّفاقا ، فليس من محتمل الارتفاع حينئذ ، كما لا يخفى.

ص: 13


1- « م ، ج » : بانصراف.
2- « ز ، ك » : - و.
3- « ج ، م » : لفظة.
4- « ز ، ك ، ل » : - أنّ.

فالتحقيق : أنّ هذه الحدود غالبا حدود لفظية والمعنى معلوم ولا ينبغي الاهتمام في مثله بعد ظهور المقصود.

ثمّ إنّ ممّا (1) ذكرنا من المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي يظهر الوجه في عدم انطباق الاستصحاب لجملة من موارده ، كاستصحاب (2) القهقرى (3) المعروف في لسان عوامّ الطلبة ، وطورا يعبّر عنها (4) بأصالة تشابه الأزمان ، والمراد به إثبات ما ثبت في الزمان اللاحق قبل ذلك الزمان من الأزمنة السابقة ؛ إذ ليس فيه الإبقاء بوجه ، بل قضيّة استصحاب العدم عدم ثبوته في الزمان السابق. نعم يمكن التمسّك فيه بأصالة عدم النقل ولا مدخل له فيما نحن بصدده ، وكاستصحاب الشكّ الساري ، وكاستصحاب العرضي ، واستصحاب حكم العقل ، ونحوها ممّا سنسوق الكلام في (5) تفاصيلها إن شاء اللّه العزيز ، فتأمّل في المقام (6).

ص: 14


1- « ج » : ما.
2- كذا. ولعلّ الصواب : كالاستصحاب.
3- سيوافيك الكلام عنه في ص 286.
4- « ج » : - عنها.
5- « ز ، ك ، ل » : إلى.
6- « ز ، ك ، ل » : - العزيز ، فتأمّل في المقام.

هداية [ في أنّ الاستصحاب من الأدلّة أو من القواعد الفقهية ]

اشارة

هل الاستصحاب من الأدلّة (1) ، أو من القواعد الفقهية؟ وعلى الثاني : فهل هو (2) من القواعد الممهّدة للاستنباط حتّى يكون (3) من المسائل الأصولية ، أو هو من القواعد الكلّية الفرعية؟ فلنا مقامان :

[ المقام ] الأوّل

قد عدّه جماعة من أساطين الفنّ في عداد الأدلّة العقلية كالمحقّق (4) وأضرابه ، ولعلّه مبنيّ على إفادته الظنّ ؛ إذ لا كلام في كونه من الأدلّة حينئذ ، إذ الدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وهو صادق على حكم العقل ظنّا ببقاء ما ثبت ، فإنّه موصل إلى الحكم الشرعي ، كما في صورة العلم العقلي ؛ إذ لا يتفاوت في صدق الحكم العقلي على أفراده بين أن يكون قطعيا كحسن العدل والإحسان ، أو ظنّيا كالاستصحاب والاستحسان ، إلاّ من جهة تفاوت مراتب نفس الحكم والإدراك ظنّا وعلما.

ص: 15


1- « ج » : الأدلّة العقلية.
2- « م » : - هو.
3- « م » : تكون.
4- انظر معارج الأصول : 286 - 287 ؛ المعتبر 1 : 32.

ثمّ لا يخفى أنّ الأخبار الواردة في المقام لو قلنا : إنّها واردة على طبق حكم العقل فتدلّ على اعتبار الاستصحاب من حيث إفادته الظنّ ، فهو أيضا دليل كأخبار الآحاد وغيرها من الأدلّة الشرعية.

وتوضيحه وتحقيقه : أنّ المعيار في كون الشيء دليلا هو كاشفيته عن الواقع على وجه به يوصل إليه ومنه يطلب أمرا واقعيا ثابتا في نفس الأمر ، فكلّما كان الشيء كاشفا ولو ظنا عن الواقع ، فهو دليل ، غاية ما في الباب عدم اعتبار الكاشف الظنّي إلاّ بعد دلالة دليل عليه ، بخلاف ما لو كان علميا ؛ إذ لا حاجة فيه إلى دليل آخر غير نفسه كما هو ظاهر.

فالاستصحاب الظنّي دليل ، سواء كان المدار في اعتباره على القاعدة العقلية التي زعمها القائل بها (1) ، أو على الأخبار ، ألا ترى أنّ جملة من الأدلّة تستفاد (2) حجّيتها من الأدلّة الشرعية ومع ذلك لا يتوهّم خروجها عن الأدلّة.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الأخبار الدالّة على الاستصحاب ليست مقرّرة لما استقرّ عليه بناء العقلاء من اعتبار الاستصحاب الظنّي ، بل إنّما يدلّ على الاستصحاب التعبّدي والأخذ بالحالة السابقة بترتيب آثارها عليها عند الشكّ ، فلا شكّ في عدم كونه دليلا ، فإنّه حينئذ كإحدى (3) القواعد الشرعية من قاعدة اليد والضرر ولزوم البيع ونحوها ، فإنّ المناط في كون شيء قاعدة هو أن يكون مفادا لدليل شرعي ، ولم يكن من حيث كشفه عن الواقع وإن كشف عنه في بعض الأحيان كشفا اتّفاقيا ؛ إذ لم يكن اعتباره من هذه الحيثية ، ومن هنا انقدح أنّ قول الشارع : « إذا شككت فابن على الأكثر » (4) قاعدة شرعية ، بخلاف ما ورد من وجوب متابعة الإمام ، فإنّه دليل من حيث كشفه عن

ص: 16


1- « ز ، ك ، ل » : - بها.
2- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : يستفاد.
3- « ج » : كأحد.
4- الوسائل 8 : 213 ، باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3 ، وفيه : « إذا سهوت ... ».

الواقع.

والحاصل : أنّ الاستصحاب ليس إلاّ حكم الشارع في موارد الشكّ بالأخذ بالحالة السابقة علاجا للشكّ في الواقعة المشكوك فيها (1) ، وهذا هو المراد من كونه قاعدة فقهية لا دليلا ، لا أنّه لا يمكن جعل تلك القاعدة كبرى عند الشكّ في أحكام جزئيات موضوعها ، كما هو الشأن في جميع القواعد ، فتدبّر.

ثمّ إنّ دليلية الاستصحاب على تقدير أخذه من العقل إنّما (2) يجدي في كونه دليلا ، ولا يجدي في عدّه دليلا آخر في قبال العقل ؛ لأنّه منه ، فيتّحد القسمان إلاّ أن يكون تنبيها على اختلاف نوعي حكم العقل فيه وفي القطعيات.

المقام الثاني

فى أنّه هل البحث في الاستصحاب بحث عن المسألة الأصولية ، أو (3) بحث عن المسألة الفرعية؟ ربّما يتوهّم : أنّ بعد ما علم في المقام الأوّل من أنّه دليل أو قاعدة لا وجه للتكلّم في هذا المقام ؛ إذ على الأوّل فهو من المسائل الأصولية ، وعلى الثاني (4) فهو من المسائل الفرعية ، وليس كما يتوهّم (5) ؛ إذ قد يكون دليلا في الموضوعات الخارجية على الظنّ والتعبّد ولا يصير البحث عنه أصوليا ، وقد يكون قاعدة والبحث عنه أصولي ، لكونها ممهّدة للاستنباط. وكيف كان فتحقيق البحث موقوف على تمهيد مقدّمة :

فنقول : إنّ المعيار في تميّز مسائل العلوم المختلفة على ما هو المقرّر في مقامه أمور : أوّلها - وهو أقواها - : ملاحظة رجوع البحث في تلك المسألة إلى البحث عن

ص: 17


1- « ج » : المشكوكة فيها.
2- « ز ، ك » : ربّما.
3- « ز ، ك » : - بحث عن المسألة الأصولية أو.
4- « ز ، ك » : كما أنّه على الثاني.
5- « ز ، ك » : توهّم.

عوارض الموضوع في ذلك العلم ، فإنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، فإنّ المسألة - على ما هو التحقيق - هو نفس المحمولات من حيث انتسابها إلى الموضوعات ، والموضوع في المسألة قد يكون نفس موضوع العلم ، وقد يكون جزء منه ، أو جزئيا له (1) ، أو جزء من جزئيه ، على الوجه المعهود في مسائل العلوم المدوّنة ، وبيان كيفية البحث عن الأجزاء والجزئيات خارج عمّا نحن بصدده.

وبالجملة : فملاحظة الموضوع من أقوى ما يحصل به (2) التميّز عند اشتباه المسائل ، لكنّه إنّما يجدي إذا كان الموضوع معلوما عند الكلّ متّفقا عليه ، وأمّا إذا كان مختلفا فيه فقد يمكن أن يكون شيء من الموضوع عند البعض ، فالبحث عنه إنّما يعدّ من مسائل الفنّ عنده لا عند من لا يراه منه كما هو ظاهر ، مثلا موضوع الأصول ممّا قد اختلف فيه ، فقيل بكونه ذوات الأدلّة مع قطع النظر عن (3) اتّصافها بالدليلية ، فيكون البحث عن دليليتها داخلا في علم الأصول ، وقيل بكونه الأدلّة مع كونها أدلّة ، فلا يكون البحث عن دليليتها داخلا في العلم ؛ لما تقرّر (4) من أنّ الموضوعات في العلوم المدوّنة لا بدّ وأن يكون إمّا مبنيّة في العلم الأعلى ، أو مبنيّة بنفسها ، ولمّا كان المتعارف فى كتب الأصول البحث عن تلك المسائل أيضا ، تجشّم بعضهم في دفع ذلك بالوجه الأوّل. فيرد عليه : أنّ البحث عن قدم الكتاب وحدوثه ، وكونه معجزة وعدمه ، وكيفية نزوله ، ومراتب بواطنه ، من المسائل المدوّنة في غير الفنّ منه. اللّهمّ إلاّ بنوع من العناية. وبالجملة فعند ذلك لا بدّ من الرجوع إلى غير هذا المعيار.

وثانيها : حدّ العلم فإنّه أيضا ممّا يمكن استعلام حال المسائل به ، فإنّ التحديدات المتداولة في العلوم المدوّنة وإن لم يمكن أن تكون (5) تحديدات حقيقية (6) ومركّبة من

ص: 18


1- « ج ، م » : منه.
2- « م ، ج » : ما به يحصل.
3- « م ، ج » : من.
4- « ز ، ك » : قد تقرّر.
5- في النسخ : يكون.
6- « ل ، ك » : حقيقة.

الأجناس والفصول ، لتعذّر الاطّلاع على كنه العلوم ابتداء ، إلاّ أنّه لا بدّ وأن يكون على وجه شامل لجميع المسائل المبحوث عنها في تلك العلوم ولو شمولا عرضيا بحيث لو اطّلع الطالب على مسألة منها عرف بكونها منها (1) ، فالحدّ هي الجهة الجامعة لمسائل العلم ، ومنه يستعلم حال الموارد المختلفة ؛ إذ لا أقلّ من كونه مانعا عن المسائل التي ليست من العلم ، وجامعا للتي هي منه ، وذلك ظاهر في الغاية ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّه متى تعارض (2) الموضوع والحدّ في تميّز مسألة على وجه يحكم الأوّل بدخوله في العلم ، والثاني بخروجه عنه (3) ، فالموضوع هو المقدّم ؛ لكونه أصلا في التميّز ، ولهذا قيل : إنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات مع حصول التميّز بغيرها أيضا ، والوجه في ذلك انتزاع الحدّ واقعا من الأمور المختلفة والمحمولات المنتهية إلى جهة متّحدة وهو الموضوع ، فهو تابع للموضوع ، وأمّا المحمول فتميّزه بتميّز الموضوع ؛ لكونه من أحكامه من حيث هو محمول ، فهو الأصل في التميّز كما لا يخفى.

وثالثها - وهو أضعفها - : تدوين أهل العلم لها فيه ، أو تنصيص أهل الفنّ والخبرة بذلك ، هذا بالنسبة إلى مطلق العلوم المدوّنة ، وقد يوجد فى بعض منها ما يخصّ البعض كما في المسائل الفقهية والمسائل الأصولية ، فإنّ من خصائص الأولى أنّ بعد ما استفرغ المجتهد (4) جهده في تحصيل الحكم الشرعي وبذل وسعه في استنباطه بدفع المعارضات للأدلّة وبتوضيح الدلالات فيها ، كان للمقلّد أن يعمل به بلا حالة منتظرة (5) ، كوجوب الصلاة ، ولزوم البيع ، وثبوت الخيار عند ظهور العيب فى المبيع ، ونحوها ، ومن خصائص الثانية أنّه (6) بعد التنقيح والتصحيح لم يكن من شأن المقلّد أن يعمل به ،

ص: 19


1- « ز ، ك ، ل » : عرف أنّها منها.
2- « ز ، ك ، ل » : عارض.
3- « ز ، ك ، ل » : منه.
4- « ز ، ك » : - المجتهد.
5- « ز ، ك ، ل » : كان للمقلّد أن يقلّده فيه ويعمل به بلا حاجة إلى حصول حالة منتظرة إليها.
6- « ج ، م » : أنّ.

كحجّية أخبار الآحاد ، فإنّ بعد إثبات هذه القضيّة ليس للمقلّد أن يعمل بالخبر (1) ؛ إذ غاية الأمر أنّ المجتهد إنّما تصدّى لدفع المعارضات للحجّية ، وأمّا المعارضات لمدلول كلّ واحد من الأخبار ، فلدفعها محلّ آخر ، فلا بدّ من ملاحظة الأصول المعمولة (2) في الأدلّة اللفظية من أصالة عدم الحذف والقرينة (3) والنقل ونحوها (4) ، وتشخيص الأوضاع للألفاظ (5) الواقعة فيها من كون الأمر الواقع فيها للوجوب أو للندب (6) ، إلى غير ذلك من وجوه الاختلافات التي ليس للمقلّد تشخيصها وتحقيقها كما هو ظاهر وإذ قد تمهّد هذه فنقول : إنّ تحقيق الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في تشخيص أصناف الاستصحاب

وجملة الكلام فيه أنّ الاستصحاب من المسائل الفرعية بالنسبة إلى الموضوعات الخارجية التي هي عندنا أعمّ من الموضوعات الصرفة ، كحياة زيد ، والرطوبة ، واليبوسة ، ونحوها ، ومن الأحكام الجزئية المتعلّقة بخصوصيات المكلّفين ، كوجوب الواجب على زيد ، وحرمة الحرام عليه ، ونحوها ، سواء اعتبرناه أمارة ظنّية فيها كالبيّنة ، أو تعبّدية ؛ لجريان الوجوه المميّزة فيه.

أمّا حديث الموضوع فلأنّه من عوارض جزئيات فعل المكلّف ولو بنحو من العناية في البعض ، ومنه يظهر صدق حدّ الفقه ، عليه وعدم صدق تعريف الأصول عليه ؛ إذ ليس من القواعد الممهّدة للاستنباط ، فإنّها ليست بأحكام شرعية. أمّا

ص: 20


1- « م » : بالخبر الواحد.
2- « ز ، ك ، ل » : العملية.
3- « ز ، ل ، ك » : - والقرينة وفي « ج » : والجزئية.
4- « ز ، ك ، ل » : نحوهما.
5- « ز ، ك ، ل » : الأوضاع والألفاظ.
6- « ز ، ك ، ل » : الندب.

الموضوعات الصرفة فظاهر ، وأمّا الأحكام الجزئية فلعدم كون الشارع مبيّنا لتلك الأحكام ، فإنّ وظيفته بيان الأحكام الكلّية ، وأمّا المعيار المختصّ بتميّز الفقه عن الأصول ، فيجري فيه أيضا (1) ؛ إذ لا حاجة إلى الرجوع إلى المجتهد بعد العلم باعتباره في تشخيص مجاريه ومحالّه ، بل المجتهد والمقلّد فيه سيّان كما في صورة العلم بها ، فلا يحتاج إلى بحث ولا فحص كما في سائر الأصول العملية كالبراءة والاشتغال والتخيير ، نعم ينبغي الاستثناء عن ذلك (2) الاستصحاب في الموضوعات الرجالية لأوله إلى الاستصحاب في الأحكام الكلّية الفرعية التي ليس للمقلّد فيها حظّ ، ولذلك قد اختصّت من (3) بينها باعتبار الظنّ فيها دون غيرها كما مرّ.

وأمّا بالنسبة إلى الأحكام الكلّية فلا ريب في كونه من المسائل الأصولية إن أخذناه من باب الظنّ وجعلناه دليلا عقليا كأضرابه من الوجوه الظنّية العقلية ، سواء كان المستصحب حكما أصليا ، أو فرعيا ؛ لرجوع البحث عنه إلى البحث عن أحوال الموضوع ، سواء جعلنا الموضوع ذات الدليل كما في الكتاب والسنّة ، فلا ينافي البحث عن حجّيته ، أو هي متّصفة بالوصف ، لرجوع البحث عن سائر الوجوه المبحوثة عنه من بيان تعارضه وتقديم مزيله والانقسامات (4) الحاصلة له إلى غير ذلك بحثا عن حال الموضوع ، ولصدق الحدّ عليه ؛ لكونه من القواعد الممهّدة للاستنباط ، ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الحكم الراجع إليه إثباتا كالحجّية ، أو نفيا كعدمها ؛ لأنّ مسائل العلوم المدوّنة هي المحمولات المرتبطة إلى الموضوعات ربطا إيجابيا كما في الموجبات ، أو سلبيا كما في السوالب ، وإلاّ لخرج (5) كثير من المسائل من كثير من العلوم.

وإن جعلناه من باب الأخبار الواردة عن السادة الأطهار فلا ريب في كونه من

ص: 21


1- « ج ، م ، ل » : - أيضا.
2- « ج » : ينبغي أن يستثنى من ذلك.
3- « م ، ج » : - من.
4- « ز ، ك ، ل » : الانقلابات.
5- في النسخ : لخرجت.

المسائل الأصولية في الأحكام الأصلية ، وكذا في الموضوعات المستنبطة كالأصول المعمولة في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ؛ لرجوع البحث عنه إلى البحث عن أحوال الموضوع أو عن أجزائه أو جزئياته ، كما هو المعتبر في البحث كما لا يخفى (1).

وأمّا في الأحكام الفرعية فقد يتوهّم كون الاستصحاب من القواعد الفرعية كنفي الحرج والضرر ولزوم العقود ونحوها ؛ لعدم الفارق بينهما ، وربّما فرّط في ذلك بعضهم فزعم عدم انطباقه على قاعدة الموضوع ، بل ولا الحدّ أيضا ؛ لعدم كونه بحثا عن اللواحق الراجعة إلى الموضوع ، ولعدم شمول الحدّ له.

والتحقيق خلاف ذلك (2) ، أمّا حديث عدم اشتمال الحدّ فواه جدا ؛ إذ لا ريب في مدخليته في استنباط الأحكام ، بل وهو العمدة - على ما نبّه عليه بعض الأعاظم - في الاستنباط بعد الكتاب والسنّة ، وربّما يزيد في شأنه لو جعلنا استصحابي البراءة والاشتغال منه. ويوضح (3) ذلك ما لو قلنا بأنّ الأصول اللفظية منه ؛ إذ لا يستقيم أمر الكتاب والسنّة بدونه حينئذ ، وذلك ظاهر في الغاية (4).

وأمّا توهّم عدم رجوع البحث عنه إلى البحث عن أحوال الموضوع ، فكأنّه ناش عمّا نبّهنا (5) على فساده من منافات كون الاستصحاب من مقولة الفعل مع كونه دليلا ، وقد مرّ تحقيق القول فيه بما لا مزيد عليه.

وأمّا نفي الفارق بين الاستصحاب وسائر القواعد الفرعية كنفي الحرج والضرر ، فغير سديد ؛ لوضوح الفرق بينهما بعد ملاحظة ما أوردناه (6) في المعيار في التميّز (7) بين المسائل ، إذ لا شكّ ولا ريب (8) في أنّ المجتهد بعد ما تصدّع في إثبات حجّية

ص: 22


1- « ز ، ك ، ل » : على ما لا يخفى.
2- « ز ، ك ، ل » : والتحقيق في ذلك خلاف ذلك.
3- « م » : توضيح.
4- « ز ، ك ، ل » : - وذلك ظاهر في الغاية.
5- تقدّم في ص 8.
6- « ج ، م » : أوردنا.
7- « ز ، ك ، ل » : للتميّز.
8- « ز ، ك ، ل » : - ولا ريب.

الاستصحاب بتصحيح مبانيه وتوضيح الوجوه الناهضة عليه بدفع الشبه (1) وقطع المعارضات ، فليس من شأن المكلّف المقلّد العمل به ، إذ غاية ما صنعه المجتهد في المقام تحصيل كبرى لقياس يطلب فيه الحكم الاستصحابي ، ومن المعلوم أنّ المقدّمة الواحدة ليست منتجة ، بل لا بدّ من انضمام صغرى إليها (2) في الاستنتاج ، والعلم بتلك الصغرى في الأحكام الكلّية الفرعية غير ممكن الحصول للمقلّد.

وتوضيحه : أنّ استنباط حكم الماء القليل الملاقي للنجاسة موقوف على مقدّمتين : إحداهما : أنّه مما لم يدلّ دليل على نجاسته ، والثانية : أنّ كلّما لم يدلّ دليل على نجاسة شيء مع العلم بالطهارة السابقة ، فلا بدّ من معاملة الطاهر معه ، وبعد ذلك ينتج طهارة الماء - مثلا - في الظاهر ، والمستنبط للمجتهد هو الكبرى في هذا القياس ، وأمّا الصغرى فلا يمكن استعلام تحقّقها لغير المجتهد ، فإنّها حاكمة بعدم (3) ورود دليل على نجاسته (4) ، وربما يكون في المقام ما يشبه أن يكون دليلا فلا بدّ من دفعه ، ولو لا أنّ المذكور كاف (5) في المقام من إثبات توقّف إعمال الاستصحاب في محالّه على الاستنباط والاجتهاد ، لخرج عن المسائل الأصولية جلّها لو لم نقل كلّها ، كمباحث المقدّمة ، واجتماع الأمر والنهي ، ومباحث الشهرة ، ونحوها ، فإنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة بمنزلة الكبرى ولا يكفي (6) فى الحكم بوجوب الوضوء للصلاة هذا الحكم العقلي ما لم يثبت اندراج موضوع هذه القضيّة في موضوعها ، واستنباط هذا موقوف على النظر والاجتهاد في الأدلّة الشرعية التي تقصر عن الوصول دونه (7) أيدي المقلّدة ، وكذا تميّز موارد الشهرة كما لا يخفى (8).

ص: 23


1- « ز ، ك » : الشبهة.
2- « ج ، م » : إليه.
3- « ج ، م » : لعدم.
4- « ز ، ك ، ل » : النجاسة.
5- « م » : كافيا.
6- « ج ، م » : ولا يخفى.
7- « ل » : « إليها » بدل : « دونه ».
8- « ز ، ك ، ل » : على ما لا يخفى.

فظهر الفرق بين القواعد الفرعية كنفي الحرج - إذ بعد أنّ المجتهد في مقام الاجتهاد علم بأنّ الحكم في الشريعة نفي الحرج في كلّ ما يلازمه أو على بعض الوجوه التي أدّى إليه دليله كوجوب الوفاء بالعقود ، لم يبق للمكلّف حالة منتظرة في العمل به ، إذ الموضوع في تلك القواعد ممّا يرجع الأمر فيه إلى العرف ، والمقلّد منهم ، فيحصل عنده الصغرى من غير احتياج إلى ملاحظة الأدلّة ، والكبرى إنّما حصّلها من المجتهد ، فيعمل بمقتضاهما من غير حاجة إلى شيء آخر - وبين (1) الاستصحاب في الأحكام الفرعية ؛ إذ تحصيل الصغرى فيه اجتهادية ويكفي في كونه من مسائل الأصول ، و (2) ذلك بناء على ما أصّلناه من المعيار ، مضافا إلى ما عرفت من صدق الحدّ عليه ورجوع البحث عنه إلى البحث عن أحوال الموضوع.

لا يقال : إنّ الفحص عن مطلق الدليل لا يجعل البحث اجتهاديا ، بل إذا كان الدليل مثل أخبار الآحاد ، فإنّ ما يرد على خلافها معارض لها على اختلاف وجوه التعارض ، بخلاف الاستصحاب فإنّ الدليل مزيل له.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن لا يجدي فيما نحن فيه ؛ إذ لا فرق في عدم إمكان المقلّد أن يكون الدليل مزيلا أو مفيدا كما هو ظاهر.

ومن هنا ينقدح أنّ الأصول العملية التي موضوعاتها (3) الشكّ البحث عنها في الأحكام الكلّية الفرعية من مسائل الأصول ، ولهذا صرّح المحقّق (4) في بعضها بكون المسألة أصولية ولا يكفي فيها أخبار الآحاد ، وقد سمعت أنّ تنصيص أهل الخبرة أيضا من المميّزات ، كما أنّه ينقدح أنّ قاعدة الطهارة أيضا من مسائل الأصول ؛ إذ لا فرق بين (5) استصحاب الطهارة وقاعدتها سوى استناد الحكم في الأوّل (6) شرعا إلى

ص: 24


1- عطف على بين القواعد الفرعية.
2- « ج ، م ، ل » : - و.
3- « ز ، ك ، ل » : موضوعها.
4- انظر معارج الأصول : 226.
5- « ز ، ك ، ل » : فيما بين.
6- كذا. والصواب : في الثاني.

نفس الشكّ ، وفي الثاني (1) إلى الحالة السابقة ولا مدخل لهذا الفرق فيما نحن بصدده ، فتدبّر في المقام.

المقام الثاني : في أنّ الاستصحاب على أيّ وجه من أيّ المسائل

فنقول : بعد (2) ما عرفت في (3) المقام الأوّل يظهر لك أنّ التحقيق كونه من القواعد المشتركة ؛ لاختصاص بعض موارده بالبعض وآخر بغيره (4) على ما مرّ ، وإنّما تدوينهم ذلك في الكتب الأصولية إنّما هو بواسطة مزيّة اختصاص يعلم منه بالمسائل الأصولية من حيث استنباط الأحكام الفرعية منه ، كما لا يخفى.

ص: 25


1- كذا. والصواب : في الأوّل.
2- « ج » : إنّ بعد.
3- « ز ، ك » : ما في.
4- « ج ، م » : لغيره.

ص: 26

هداية [ في تقسيمات الاستصحاب ]

اشارة

ينقسم الاستصحاب باعتبارات مختلفة إلى أقسام متعدّدة :

فمنها : تقسيمه من حيث المستصحب إلى حال العقل وحال الشرع.

وقد يراد من الأوّل العدم الأصلي السابق على وجود كلّ موجود ، حكما شرعيا كان كالبراءة الأصلية ، أو موضوعا خارجيا كالرطوبة واليبوسة ، أو غيرهما كعدم النقل المعمول في الألفاظ ، ولعلّ وجه هذه التسمية حكم العقل بالعدم ما لم يعلم بعلّة الوجود ولا يجب الاطّراد في وجه التسمية (1).

ومن الثاني ما يقابله وهو الوجود ، سواء كان حكما شرعيا - تعبّديا أو عقليا ، كلّيا أو جزئيا ، تكليفيا أو وضعيا - أو موضوعا خارجيا ؛ إذ المقصود بالاستصحاب هو ترتيب أحكامه الشرعية من نجاسة ملاقيه ونحوها ، ومنه يعلم وجه التسمية أيضا في غيره ؛ إذ المطلوب فيها ذلك ، على أنّ أكثر مواردها حكم شرعي.

و (2) تارة يراد منه الحكم العقلي ، سواء كان تكليفيا عدميا كالبراءة الأصلية ، أو وجوديا كإباحة الأشياء قبل الحظر الشرعي وكتحريم التصرّف في مال الغير ووجوب ردّ الوديعة إذا عرض هناك ما يحتمل زواله كالاضطرار والخوف ، أو وضعيا

ص: 27


1- « ز ، ك ، ل » : ولا يجب اطرادها كما لا يخفى.
2- « ز ، ك » : - و.

وجوديا كشرطية العلم لثبوت التكليف إذا عرض ما يوجب الشكّ في زوالها (1) مطلقا أو في خصوص مورد ، أو عدميا كعدم الزوجية وعدم الملكية الثابتين قبل تحقّق موضوعهما. ومن الثاني الأحكام الشرعية التكليفية - إجماعا كان المستند فيها أو غيره - أو الوضعية كذلك هذا على ما قد يوجد في كلمات بعض الأواخر (2).

والتحقيق : أنّ المراد من الأوّل هو استصحاب نفي الأحكام الكلّية وعدمها ، والتعميم إلى الموضوعات ليس في محلّه ؛ لما قد فسّره المحقّق في المعتبر بالبراءة الأصلية ، وكذلك المحقّق القمي (3) ، وغيرهما على أنّ عدّ الاستصحاب من الأدلّة العقلية ينافي تعميم استصحاب حال العقل إلى الموضوعات ، فإنّه بالنسبة إليها أمارة ولا يسمّى دليلا ، فتأمّل.

ومن الثاني استصحاب وجود تلك الأحكام ، وأمّا تعميم العقلي إلى الوجودى من الأحكام العقلية كما في ثاني التفسيرين على ما تجشّمه بعض الأجلّة (4) ، فليس على ما ينبغي أيضا ، أمّا أوّلا : فلمنافاته للتفسير المذكور في كلام المحقّقين وغيرهما ، وأمّا ثانيا : فلعدم معقولية الاستصحاب في الأحكام العقلية ؛ إذ حكم العقل بوجوب شيء أو حرمته أو شرطيته إمّا أن يكون مستندا (5) إلى علّة معلومة للعقل من وجوه الحسن والقبح ، أو لا ، لا كلام على الثاني ، فإنّه بالإلحاق إلى الأحكام التعبّدية أولى ، كما في الإجماع ، وذلك (6) العلم يستتبع العلم بحسنه أو قبحه لما قرّر من تبعية الأحكام للصفات ، وعلى الأوّل فتلك العلّة المعلومة إمّا معلومة بنفسها ، كما في الأحكام الضرورية العقلية التي يكفي في التصديق بوقوع نسبها تصوّر موضوعاتها ، وإمّا

ص: 28


1- في المصدر : بقائها.
2- الفصول : 366 ( مع تصرّف وتلخيص ) وعنه في بحر الفوائد 3 : 21 ؛ أوثق الوسائل : 446.
3- « ز ، ك ، ل » : + رحمه اللّه.
4- الفصول : 366.
5- المثبت من « ج » : وفي سائر النسخ : « مستندة ».
6- المثبت من « ج » : في سائر النسخ : « فذلك ».

معلومة بواسطة اندراج موضوع القضيّة المفروضة في (1) موضوع آخر يعلم ثبوت الحكم له بداهة ولو بتعدّد الوسائط ، لامتناع التسلسل واستحالة الدور ، لا إشكال في عدم معقولية الاستصحاب على الأوّل ؛ إذ المفروض أنّ نفس تصوّر الموضوع يكفي في الحكم العقلي الضروري (2) ، فعند الشكّ بواسطة حدوث حادث إمّا أن يكون الحكم المتعلّق بذلك الموضوع باقيا فلا استصحاب ؛ إذ لا شكّ ، ففرض الشكّ خلاف للفرض ، وإمّا أن يكون الموضوع مغايرا فلا استصحاب ؛ لعدم الموضوع ، وكذا على الثاني ؛ لأنّ موضوع القضيّة المشكوكة لا بدّ وأن يكون معلوم الاندراج في موضوع تلك القضيّة المعلومة الضرورية ، ومع حدوث الحادثة بازدياد شيء إمّا أن يكون مندرجا فيه (3) ، أو لا يكون (4) ، وعلى التقديرين لا استصحاب ؛ إذ على الأوّل لا شكّ (5) ، وعلى الثاني لا يكون الموضوع باقيا ، والاستصحاب فرع الموضوع.

لا يقال : قد يكون العقل حاكما بقبح شيء بواسطة اندراجه في موضوع غير معلوم للعقل ؛ لتردّده بين أمور غير معلومة ، فيجري فيه الاستصحاب.

لأنّا نقول : على تقدير وجود ذلك وليس كذلك قطعا ، كما يظهر بعد الرجوع إلى الوجدان ، سيّما بالنسبة إلى الأمثلة المذكورة ، فلا يجري فيه الاستصحاب أيضا ؛ لعدم العلم بالموضوع فلعلّه مقيّد بعدم تلك الحادثة في الأحكام العقلية ، ولهذا (6) ترى فيما لم يحرز الموضوع لا يحكم بالاستصحاب في الأحكام الشرعية أيضا ، سيّما فيما كان الحكم مستفادا من الإجماع لا لما زعمه الغزالي (7) على ما نسب (8) إليه ، بل لعدم العلم بموضوع الحكم كما ستطّلع على تفاصيل ذلك إن شاء اللّه (9).

ص: 29


1- « ز ، ك » : كما في.
2- « ز ، ك ، ل » : الضروري العقلي.
3- « م ، ج » : فيها ، وكتب فوقها « فيه » وعكس ذلك في « ز » ، وفي « ك » : فيها.
4- « م » : - أو لا يكون.
5- « م » : - لا شكّ.
6- « ز ، ك » : لذا.
7- سيأتي عنه في ص 61.
8- « ج ، م » : نسبه.
9- « ز ، ك ، ل » : على تفصيله.

فإن قلت : إنّ الوجه المذكور في استصحاب الأحكام الوجودية العقلية بعينه جار في استصحاب الأحكام العدمية ، فإنّ العقل لا يحكم إلاّ بعد الإحاطة بجميع قيود موضوع الحكم والاطّلاع على حدوده وأطرافه ، ولا يفرق في ذلك الوجود (1) والعدم ، فلا بدّ من عدم (2) جريان استصحاب حكم العقل مطلقا ، ولا وجه للتفصيل.

قلت : ليس الحكم بالعدم الأزلي الأصلي الذي هو المستصحب (3) إلاّ بواسطة انتفاء أحد أجزاء علّة الوجود الراجعة إمّا إلى الفاعل أو إلى القابل - مثلا - على سبيل منع الخلوّ ، فعند حكم العقل بالعدم بواسطة وجود المانع أو فقد المقتضي - مثلا - لا يجب أن يكون المعلول موجودا على فرض حصول الشكّ فيه بواسطة انتفاء العلّة التي استند حكم العقل بالعدم إليها ؛ لاحتمال انتفاء جزء آخر من علّة الوجود ، فنفس العدم الأزلي مستصحب ؛ لعدم (4) العلم بالعلّة التامّة (5) للوجود ، نعم لو فرض وجود تمام أجزاء (6) العلّة التي يستند إليها الوجود عدا ما حكم العقل بعدم المعلول بواسطة انعدامه من أجزاء العلّة التامّة فبعد (7) فرض وجود الجزء (8) المعدوم لا ينبغي (9) الشكّ في وجود المعلول ، وبذلك يسقط استصحاب العدم الأزلي ، وهذا بخلاف الوجود ، فإنّ العقل ما لم يقطع بوجود جميع أجزاء علّته التامّة لا يحكم بوجوده ، فعند الشكّ في جزء منها مع (10) الإحاطة بتمام أطرافه وحدوده ، يعلم إمّا بانتفاء علّة الوجود فلا شكّ (11) في الارتفاع ، وإمّا بوجوده فلا شكّ في البقاء.

ومن هنا ينقدح أنّ ما أفاده المحقّق القمي (12) في بحث الإجزاء من أنّه (13) بعد حصول

ص: 30


1- « ك » : بين الوجود.
2- « ز ، ك » : نفي.
3- « ج » : مستصحب.
4- « م » : بعدم.
5- « ج » : المتأخّرة.
6- المثبت من « ل » في سائر النسخ : « الأجزاء ».
7- « ز ، ك ، ل » : وبعد.
8- المثبت من « ل » وفي سائر النسخ : « جزء ».
9- « ل » : لا يبقى.
10- « ك » : بعد.
11- « ل » : فلا يشكّ ، وكذا في المورد الآتي.
12- لم أجده في بحث الإجزاء من القوانين.
13- « ج ، م » : أنّ.

الذكر المسبوق بالنسيان عدم التكليف مستصحب ، ليس فى محلّه ؛ إذ المفروض أنّ العدم مستند إلى عدم جزء خاصّ من أجزاء علّة الوجود وهو الذكر بواسطة حدوث النسيان ، والمفروض اجتماع بقيّة الأجزاء ، فعند زوال النسيان ووجود الذكر لا مجال للشكّ في التكليف كما لا يخفى. والقول بأنّ العدم المضاف بخصوصه مستصحب ، مدفوع : بعدم التمايز بين الأعدام.

ومنها : تقسيمه باعتبار الدليل إلى استصحاب حال النصّ إلى أن يثبت الناسخ ، وإلى استصحاب حال الإجماع كاستصحاب وجوب المضيّ في الصلاة بعد ما وجد الماء في الأثناء.

ومنها : تقسيمه باعتبار المشكوك فيه إلى استصحاب الحكم الشرعي ، تكليفيا كان أو وضعيا ، وإلى استصحاب الموضوع الخارجى كالرطوبة واليبوسة.

ومنها : تقسيمه باعتبار الشكّ ، فإنّ الشكّ في وجود المستصحب تارة : مسبّب عن الشكّ في وجود المقتضي ، وأخرى : عن الشكّ في وجود المانع ، ولا ثالث في البين فيما كان العلّة التامّة مركّبة من وجود المقتضي وفقد المانع ، فإنّ عدم المعلول علما وظنّا وشكّا من توابع عدم العلّة علما وظنّا وشكّا ، فالشكّ في وجود المستصحب المعلول دائما ناش إمّا من الشكّ في نفس المقتضي أو شرط من شروطه أو جزء من أجزائه ، أو ناش من الشكّ في وجود المانع.

[ أقسام الشكّ في المقتضي ]

[ أقسام الشكّ في المقتضي ](1)

ثمّ الشكّ في المقتضي على أقسام ؛ إذ الشكّ تارة : في مقدار صلوحه للبقاء واستعداده في الوجود (2) ، كما لو علمنا بوجود حيوان لم نعلم بمقدار استعداده وصلوحه للبقاء ومثله الخيار في خيار العيب ، فإنّه لا يعلم بقاؤه في الزمن الثاني من العلم به بعد

ص: 31


1- العنوان من هامش نسخة « ز ».
2- « ك » : للوجود.

الخلاف في فوريته وعدمها.

وتارة : يشكّ في تعيين (1) الاستعداد بعد العلم بأصل الصلاحية ، كما فيما علمنا بوجود حيوان مردّد بين ما يعيش في السنة كالعصفور مثلا ، وبين ما يعيش في الأقلّ منها كالذباب والديدان ، فإنّ الشكّ في البقاء ناش من الشكّ في أنّ الموجود من أيّ النوعين.

وأخرى : يشكّ في زمان حدوثه بعد العلم باستعداده وكونه ممّا يعيش في السنة مثلا ، فلا يعلم أنّ (2) العصفور - مثلا - في أيّ زمان صار موجودا ، فلو كان بدو وجوده في أقلّ من السنة فهو موجود قطعا ، ولو كان فيها فليس بموجود قطعا ، فالشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في ابتداء الوجود (3).

[ أقسام الشكّ في المانع ]

[ أقسام الشكّ في المانع ](4)

والشكّ في المانع أيضا يتصوّر (5) على أقسام : فتارة : يشكّ في وجود المانع مع العلم بمانعيته ، وقد يعبّر عنه بالشكّ في عروض القادح ، كما إذا شككنا في بقاء الطهارة بواسطة الشكّ في طروّ البول.

وتارة : يشكّ في مانعية الموجود ، وقد يعبّر عنه أيضا بالشكّ في قدح العارض ، وهذا القسم أيضا على أقسام ؛ لأنّ (6) الشكّ في تلك (7) الصفة.

إمّا أن يكون بواسطة الشكّ في كونه مانعا وناقضا في أصل الشّرع ، فلا نعلم أنّ الشّارع الصادع (8) كما جعل البول ناقضا للوضوء فهل جعل المذي أيضا من نواقض الطهارة أو لا؟

ص: 32


1- « ز ، ك » : تعيّن.
2- « ك » : في أنّ.
3- « ز ، ك » : الموجود.
4- العنوان من هامش نسخة « ز ».
5- « ز ، ك ، ل » : - يتصوّر.
6- « ز ، ك ، ل » : فإنّ.
7- « ز ، ك » : هذه.
8- « ز ، ك ، ل » : - الصادع.

وإمّا بواسطة عدم العلم بالمقتضي وتعيّنه ، فلا نعلم أنّ الموجود الفلاني مانع بواسطة عدم العلم بالمقتضي ، فلو علمنا به علمنا بالوصف المذكور ، للعلم بالموانع بعد العلم بالمقتضيات ، وذلك كما في موارد الاشتغال مثل دوران المكلّف به بين الظهر والجمعة ، فلو صلّينا الظهر شككنا في ارتفاع التكليف بواسطة عدم العلم بالمقتضي للتكليف.

وإمّا أن يكون بواسطة الشكّ في معنى اللفظ والموضوع المستنبط ، كما فيما لو فرضنا عدم العلم بدخول الخفقة والخفقتين في معنى النوم الناقض المعلوم ، فالشكّ في بقاء الطهارة بواسطة الشكّ في أنّهما من أفراد النوم أو لا (1).

وإمّا أن يكون بواسطة الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا عرض رطوبة مشتبهة مردّدة بين كونها بولا وبين غيره ممّا ليس بناقض قطعا.

ثمّ لا يذهب عليك تداخل بعض الأقسام المذكورة دون بعض آخر (2) ، فلا ينبغي أخذ الأقسام الحاصلة من ضرب البعض في الآخر ، وفي المقام بعض تقسيمات أخر لا جدوى في التعرّض لها.

ص: 33


1- « ز ، ك » : أم لا.
2- « ج ، ز » : - آخر.

ص: 34

هداية [ في تعميم النزاع لأقسام الاستصحاب ]

اشارة

هل النزاع في حجّية الاستصحاب وعدمها يعمّ البراءة الأصلية ، أو يخصّ بغيرها (1)؟ وهل يعمّ ما إذا كان المدرك إجماعا ، أو لا؟ وهل يختصّ النزاع بالأحكام الشرعية ، أو يجري في الموضوعات أيضا؟ وهل يجري النزاع في أقسام الشكّ في المقتضي أيضا ، أو يختصّ بأقسام الشكّ في المانع؟

ولمّا كان في كلّ من المقامات الأربع (2) يظهر من بعضهم الخلاف ، فلا بدّ من ذكر كلّ واحد منها في مقام يختصّ به توضيحا (3) للمقام وتحقيقا للمرام.

[ المقام ] الأوّل

في الجهة الأولى من وجوه تحرير الخلاف ، فنقول : زعم جماعة من متأخّري المتأخّرين ممّن عاصرناهم ومن يقاربهم في العصر إلى خروج البراءة الأصلية عن حريم الخلاف وانتظامها في سلك المسلّمات مستندين إلى وفاق المتنازعين فيه مستكشفين ذلك من جملة من عبارات القوم (4).

فمنها : ما أفاده جواد الفضلاء حيث قال : لا كلام في حجّية استصحاب النفي وهو

ص: 35


1- « م ، ج » : بغيره.
2- « ز ، ك ، ل » : الأربعة.
3- « م ، ج » : في مقامه توضيحا.
4- « ز ، ك ، ل » : من جملة عبائر القوم.

المعبّر عنه بالبراءة الأصلية ، وحاصله استصحاب براءة الذمّة من (1) الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات إلى أن يرد الدليل الناقل من النفي الأصلي إلى نفي (2) ذلك الحكم ، فيتّبع حيث ما دلّ الدليل عليه (3). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو بظاهره صريح فيما زعموا حيث نفى الكلام في حجّية استصحاب النفي بعد تفسيره بالبراءة الأصلية.

ومنها : ما أورده (4) الشهيد السعيد في محكيّ الذكرى (5) : الرابع دليل العقل وهو قسمان : قسم لا يتوقّف على الخطاب ، وهو خمسة :

الأوّل : ما يستفاد من قضيّة العقل ، كوجوب قضاء الدين ، وردّ الوديعة ، وحرمة الظلم ، واستحباب الإحسان ، وكراهة (6) منع اقتباس النار ، وإباحة تناول المنافع الخالية عن المضار ، سواء علم ذلك بالضرورة ، أو بالنظر (7) كالصدق النافع والضارّ ، وورود السمع في هذه (8) مؤكّد.

ص: 36


1- في المصدر : عن.
2- في المصدر : - نفي.
3- غاية المأمول فى شرح زبدة الأصول ( مخطوط بخطّ المؤلّف ) 84 / أوفي نسخة أخرى 178 / أ ، وعنه في اشارات الأصول ، قسم الأدلّة الشرعية ( مخطوط ) 94 / أ ، ولا بأس بنقل عبارته : اختلف كلامهم في تحقيق محلّ النزاع ، فمنهم من نفى الخلاف والإشكال في حجّية أحد القسمين من أصل النفي بعد أن قال وهو المعبّر بالبراءة الأصلية وهو البراءة من الوجوب ، ومنهم من يظهر منه عدم الخلاف في استصحاب النفي كالشهيد والتوني حيث خصّا نقل الخلاف بغيره والكاظميني حيث قال : لا كلام في حجّية استصحاب النفي ، وهو ظاهر كلام من جعل العنوان استصحاب الحال ولم ينقل الخلاف فيه كالتهذيب والمعالم وغيرهما ، وفي الأخير العلماء مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما يقتضيه البراءة الأصلية ولا معنى للاستصحاب إلاّ هذا.
4- « ز ، ك » : أفاده.
5- « ج » : + حيث قال.
6- « ز ، ل » : كراهية.
7- في المصدر : أو النظر.
8- « ج » : هذا.

الثاني : التمسّك بأصل البراءة عند عدم الدليل ، وهو عامّ المورد (1) في هذا الباب ، كنفي الغسلة الثالثة في الوضوء ، والضربة الزائدة في التيمّم ، ونفي وجوب الوتر ، ويسمّى ذلك استصحاب حال العقل ، وقد نبّه عليه في الحديث ، كقوله : « كلّ شيء [ يكون ] فيه حلال وحرام فهو لك حلال [ أبدا ] حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (2) وسببه (3) هذا.

الثالث : لا دليل على كذا فينتفي ، وكثيرا ما يستعمله الأصحاب ، وهو تامّ عند التتبّع التامّ ، ومرجعه إلى أصل (4) البراءة.

الرابع : الأصل الأقلّ (5) عند فقد دليل على (6) الأكثر كدية الذمّي عندنا ؛ لأنّه المتيقّن ، فيبقى الباقي على الأصل وهو راجع إليها.

الخامس : أصالة بقاء ما كان - ويسمّى استصحاب حال الشرع وحال الإجماع - في محلّ الخلاف ، كصحّة صلاة المتيمّم الذي يجد الماء في الأثناء ، فنقول : طهارته (7) معلومة والأصل عدم طار ، و (8) صلاته صحيحة قبل الوجدان وكذا (9) بعده. واختلف الأصحاب في حجّيته وهو مقرّر في الأصول (10). انتهى كلامه رفع مقامه.

وجه الدلالة يظهر من تخصيص الخلاف بقسم من الأقسام المذكورة التى منها استصحاب حال العقل.

ومنها : ما ذكره العلاّمة في محكيّ النهاية حيث قال : اختلفوا فى النفي الأصلي هل

ص: 37


1- في المصدر : الورود.
2- وسائل الشيعة 17 : 87 - 88 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1 ، و 24 : 236 ، باب 64 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 2 ؛ بحار الأنوار 2 : 282 ، باب 32 ، ح 57. وتقدّم في ج 1، ص 359.
3- في المصدر : شبه.
4- « ز ، ك » : أصالة.
5- في المصدر : الرابع : الأخذ بالأقلّ.
6- « ز ، ك ، ل » : في.
7- في المصدر : طهارة.
8- في المصدر : طارئ أو.
9- « ل » : فكذا.
10- ذكرى الشيعة 1 : 51 - 52.

يمكن التوصّل إليه بالقياس أم لا؟ بعد اتّفاقهم على اكتفاء حكم العقل فيه بالاستصحاب. انتهى.

وهذا (1) كما ترى ينادي بأنّ التوصّل بالاستصحاب إلى النفي الأصلي أمر مفروغ عنه عندهم.

ومنها : ما احتجّ به في المعالم من أنّ العلماء مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما تقتضيه البراءة الأصلية (2) ، ومثله ما في المعارج (3) ودلالتهما على مقصودهم وجهها (4) ظاهر.

ومنها : عنوان غير واحد من أرباب الفنّ وأصحاب الصناعة بأنّ استصحاب الحال كذا ؛ إذ من الواضح أنّ المراد منه هو الأمر الوجودي.

إلى غير ذلك من الكلمات الدالّة على ذلك تصريحا أو تلويحا ، إلاّ (5) إنّ ذلك بمعزل عن التحقيق ، فإنّ مدّعي الإجماع إن أراد أنّ القوم مطبقون على العمل بمقتضى قاعدة البراءة وهو الحكم بعدم ثبوت ما يترتّب على التكليف ، فهو حقّ ، لكنّه غير مفيد ؛ إذ من المحتمل قويّا - بل ولا بدّ أن يكون هو المتعيّن (6) - أن يكون تعويلهم على ذلك من حيث اقتضاء مجرّد الشكّ من دون احتياج إلى انسحاب الحالة السابقة بالاستصحاب كما هو قضيّة قاعدة البراءة ، أو يكون حكمهم بالعدم مستندا إلى قاعدة العدم ؛ إذ قاعدة « عدم الدليل دليل العدم » من القواعد التي توافق الاستصحاب (7) موردا. وإن أراد أنّ العمل على العدم بمقتضى قاعدة الاستصحاب بانجرار العدم المعلوم سابقا وانسحابه بالاستصحاب إلى زمن الشكّ ليترتّب عليه آثاره ، فغير سديد ؛ إذ عدم الخلاف فيما يستفاد من العبارات المتقدّمة إنّما هو إجماع عملي ، والوجه في أمثال ذلك

ص: 38


1- « ج » : هو.
2- المعالم : 234.
3- معارج الأصول : 287.
4- « ز ، ك ، م » : وجها.
5- « م » : - إلاّ ، وفي « ز ، ك ، ل » : « و » بدل « إلاّ ».
6- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : المعيّن.
7- « م » : الأصحاب.

ممّا يحتمل أن يكون وقوعه على وجوه مختلفة عدم جواز تعيين وجه منها ، لعدم دليل عليه بالخصوص ، على أنّك قد عرفت (1) فيما تقدّم من مباحث البراءة عدم الحاجة إلى الاستصحاب عند الشكّ في البراءة وعدمها ؛ لأنّ الأحكام المترتّبة على المستصحب بعد انسحابه بالاستصحاب إنّما هو مترتّب على ما هو مقدّم طبعا عليه وهو مجرّد الشكّ بقبح العقاب بدون البيان في مجاري البراءة.

وبالجملة : فمدّعي الإجماع لا بدّ له من إثبات انعقاد الإجماع على حجّية استصحاب البراءة وإن قطعنا النظر عن اعتبار قاعدة البراءة ، بل الحكم في مواردها إنّما هو مترتّب (2) على العدم المنسحب بالاستصحاب ، ودون إثباته خرط القتاد.

على أنّ دلالة العبارات المتقدّمة على مطلوب مدّعي الإجماع في محلّ من المنع بالنسبة إلى جميعها فإنّ الاستشهاد بكلام العلاّمة إنّما يتمّ فيما لو قلنا بأنّ ضمير الجمع المضاف إليه الاتّفاق إنّما يرجع إلى القوم دون القائلين بالقياس ، مع أنّ سوق العبارة ظاهر فيه. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القائلين بالقياس هم النافون (3) للاستصحاب فيتمّ الاتّفاق إلاّ أنّه كما ترى.

وأمّا الاستشهاد بكلام المعالم فلم يثبت أنّ الفقرة الدالّة منها على المطلوب من كلام المستدلّ ولعلّه ناش من اجتهاده في استدلالهم.

وأمّا قولهم في العنوان فلا دلالة له على المطلوب بوجه ، وعلى التنزّل فلعلّ نظرهم مقصور على أنّ الآثار المطلوبة في الاستصحاب غالبا إنّما يترتّب على المستصحب الموجود ، فتأمل.

فالتحقيق في المقام - على ما أفاده الأستاد المحقّق المرتضى أديمت إفاداته - عموم النزاع لأقسام الاستصحاب الوجودي والبراءة الأصلية ، لأمرين :

ص: 39


1- عرفت في ج 3 ، ص 330.
2- « ج » : إنّما يترتّب.
3- « م » : النافين ، وفي « ج ، ك » : القائلين.

الأوّل : أنّه لا ريب في اتّحاد مناط الاستصحاب في الوجودي (1) والعدمي ، فإنّ المدار فيه (2) على اليقين السابق والشكّ اللاحق بأخذه مصاحبا من زمن اليقين (3) إلى زمن الشكّ ليحكم عليه بما كان يحكم عليه في ذلك الزمان ، إمّا بواسطة أنّ تحقّق الشّيء في السابق في مرتبته وتقرّره (4) في ذاته - ولو كان أمرا عدميا - يحتاج في الخروج عنه والحكم بخلافه عند العقلاء إلى دليل مخرج عن ذلك بواسطة حصول الظنّ بالبقاء ، أو بواسطة معاملتهم إيّاه معاملة السابق ولو كان مشكوكا أيضا كما يشعر بذلك بعض وجوه استدلالاتهم في مطاوي كلماتهم ، وإمّا بواسطة دلالة الأخبار على ذلك ، فإنّ الوجوه القائمة على اعتبار الاستصحاب لا يخلو من ذلك ، وكلّ ذلك بالنسبة إلى الوجود والعدم سواء ، فنحن لا نرى (5) فرقا في ذلك بين الوجود والعدم ، فتخصيص أحدهما بالخروج عن النزاع دون الآخر يشبه أن يكون ترجيحا بلا مرجّح.

الثاني : ما يدلّ على دخول البراءة الأصلية في محلّ الخلاف من عباراتهم تصريحا أو تلويحا.

منها : التفصيل الذي عزي إلى المحقّق على ما قد (6) استفيد من قوله في المعتبر بعد تثليثه أقسام الاستصحاب ، قال : استصحاب حال العقل وهو البراءة الأصلية و [ الثاني ] أن يقال عدم الدليل على كذا ، فيجب انتفاؤه ، وهذا إنّما يصحّ فيما أنّه (7) لو كان هناك دليل لنظفر به (8) ، وأمّا لا مع ذلك فيجب (9) التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، و [ الثالث ] استصحاب حال الشرع (10) ، انتهى. فإنّ اعتبار عموم البلوى في اعتبار

ص: 40


1- « ز ، ك ، ل » : اتّحاد المناط في الاستصحاب الوجودي.
2- « ز ، ك » : في الاستصحاب.
3- « ك » : السابق.
4- « ز ، ك » : تقريره.
5- « ج » : سواء ، ألا ترى.
6- « ز ، ك » : - قد.
7- في المصدر : فيما يعلم.
8- « م » : نظفر به ، وفي « ج » : لظفر به.
9- في المصدر : فإنّه يجب.
10- المعتبر فى شرح المختصر 1 : 32 مختصرا ، وما بين المعاقيف منه.

القسم الثاني يدلّ على أنّ المناط هو حصول العلم أو الظنّ المعتبر بالعدم لا ملاحظة الحالة السابقة ؛ إذ لو كان كذلك لما كان للتفصيل وجه ، لوجود الحالة السابقة في جميع الأقسام الثلاثة.

ومنها : ما أفاده الشّيخ في العدّة (1) من أنّ المحصّلين على أنّ النافي كالمثبت في الاحتياج إلى الدليل ، كما أشرنا إليه نحن (2) أيضا في بعض المباحث الماضية (3) ، ووجه الدلالة أنّ الحالة السابقة لو كانت معتبرة ودليلا لم يكن لما أفاده وجه ؛ ضرورة أنّ مدّعي النفي لا ينفكّ دعواه عن العدم الأزلي ، والمفروض صلوحه لأن يكون دليلا ، سواء كان براءة أو غيرها من الأصول العدمية ، واحتمال أنّ المراد هو احتياج النافي فيما إذا كان العدم والنفي مسبوقا بالوجود ممّا لا يصغى إليه ؛ لعدم الخلاف في ذلك لأحد ، فلا ينبغي حمل كلام الشيخ عليه.

ومنها : احتجاج المثبتين من أنّ كلّ ما ثبت دام ، فإنّ الثبوت وإن كان مرادفا للوجود على ما هو التحقيق ، إلاّ أنّه قد يطلق على مطلق التقرّر (4) الشامل تسامحا للأعدام الأزلية ، ومن هنا يظهر عدم اتّجاه ما قد يورد على هذه الحجّة من اختصاصها بالوجوديات وإن كان الاعتراض على هذا الوجه حجّة على ما هو المطلوب كما لا يخفى.

ومنها : ما احتجّ إليه المرتضى رحمه اللّه (5) في احتجاج النفي من استلزام القول به التسوية بين الحالتين (6) من غير دليل ، فإنّه بعمومه شامل للاستصحاب الوجودي والعدمي (7).

ومنها : ما تمسّك به جماعة في الاحتجاج على النفي من أنّه لو كان حجّة لزم الحكم بتقديم بيّنة النافي على بيّنة المثبت ؛ لموافقته للبراءة الأصلية.

ص: 41


1- العدّة 2 : 753.
2- « ز » : أشرنا نحن إليه ، وفي « ك » : - إليه.
3- أشار في ج 3 ، ص 331.
4- « ج » : التقرير.
5- الذريعة الى أصول الشريعة 2 : 830.
6- « ز ، ك ، ل » : الحالين.
7- « ج ، م » : لاستصحاب الوجود والعدم.

ومنها : ما ذكره غير واحد من اشتراط العمل بالأصل بالفحص إلى أن يحصل القطع بعدم الدليل كما عليه البعض ، أو الظنّ كما عليه آخرون ، فإنّه ظاهر في أنّ التعويل على الاستصحاب إنّما هو بواسطة القطع أو الظنّ الحاصل بعد الفحص لا على نفس الحالة السابقة ، واحتمال اشتراطهم ذلك نظرا إلى لزوم إجراء عدم المانع بالفحص لتحصيل الظنّ من نفس الأصل - على تقدير التسليم - لا يجري على القول بتحصيل القطع ؛ إذ لا ريب في عدم إفادة الأصل القطع بنفسه لو خلّي وطبعه حتّى بالفحص يحرز عدم المانع كما لا يخفى.

ومنها : ما ذكره أستاد الكلّ في الكلّ (1) المحقّق الخوانساري من أنّ الاستصحاب ينقسم إلى قسمين باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى الشرعي وغيره ، ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب والبدن ، وللثاني برطوبته ، ثمّ قال : وذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وبعضهم إلى حجّية القسم الأوّل فقط (2) ؛ حيث إنّه أسند الخلاف إلى غير الحكم الشرعي وهو بعمومه شامل للبراءة الأصلية كما تنبّه له المحقّق القمي - وإن كان لا يخلو عن مناقشة فيه - وبعض آخر ، إلاّ أنّ للمتتبّع ما يغني عن ذكر ذلك.

ومن هنا ينقدح أنّ دعوى خروج الأصول العدمية كأصالة عدم النقل وأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم القرينة ونحوها من الأصول المعمولة في باب الألفاظ ونحوها (3) ، أيضا داخل في النزاع ؛ إذ لا خصوصية (4) في تلك الأصول من حيث الاستصحاب على وجه لا يكون في غيره ، فتخصيص أحدهما بالخروج عن (5) تلك الحيثية تخصيص من غير ما يقضي به ، وجريان الكلمات السابقة فيها ممّا لا يدانيه ريبة ، إلاّ أنّ الأستاد دام عزّه وتحقيقه في فلك الغرّة وسماء التحقيق نقل عن شيخه الشريف رحمه اللّه (6)

ص: 42


1- « ج ، م ، ك » : - في الكلّ.
2- مشارق الشموس : 76.
3- « ج » : غيرها.
4- « ج » : + لشيء.
5- « ج ، م » : من.
6- « ز ، ك ، ل » : - رحمه اللّه.

دعوى إسناد إطباقهم (1) على خروج العدميات مطلقا إلى سيّد (2) الرياض رحمه اللّه (3) ، ولعلّه يظهر من بعض آخر دعوى الإطباق على خروجها ، وكأنّ منشأه ما نقله ولده الشهيد (4) رحمه اللّه (5) في المفاتيح في احتجاج المثبتين وهو أنّه لو لم يكن حجّة لما جاز التمسّك بأصالة عدم القرينة وأصالة عدم النسخ وأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، أمّا الملازمة فلوضوح رجوع الأصول المذكورة إلى الاستصحاب ، وأمّا بطلان التالي فلأنّه (6) على تقديره ينسدّ سبيل المحاورة وينفتح طريق المكابرة ، وبطلان التالي - كوضوح الملازمة - ظاهر ، ومع ذلك (7) فالأصول المذكورة مجمع عليها لا يستريب فيها أحد من الأصوليين (8).

وقد أشير إلى الحجّة المذكورة في جملة من الكتب. ففي التهذيب : ولأنّ الأحكام

ص: 43


1- « م » : دعوى إطباق إسناد إطباقهم.
2- فوقها في نسخة « م » : خ : صاحب.
3- كما في تقريراته في ضوابط الأصول : 402 - 403 ، وأيضا في تقريراته للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : 241 ، قال في ضوابط الأصول : لا ريب في دخول الاستصحاب الوجودي في محلّ النزاع ، ويظهر من بعض المتأخّرين كون الاستصحاب العدمي أيضا محلّ النزاع ، فالحقّ خلافه لوجوه : الأوّل : الإجماع المحكيّ عن الفاضل الجواد وصاحب الرياض على خروج العدمي عن النزاع. قال الأردكانى في تقريراته : والتحقيق خلافه لوجوه : الأوّل : الإجماع المحكيّ عن الفاضل الجواد والسيّد الأستاد وغيرهما الدالّ على عدم كون هذا النزاع في الأصول العدمية.
4- فوقها في نسخة « م » : خ : السيّد.
5- « ز ، ك ، ل » : - رحمه اللّه.
6- « ج ، م » : فلأنّ.
7- في المصدر : أمّا بطلان التالي فلأنّه لو لم يجز التمسّك بها ؛ للزم سدّ باب الاستدلال على الأحكام الشرعية بالكتاب والسنّة غالبا ، بل دائما ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، أمّا الملازمة ففي غلبة الظهور ، وأمّا بطلان التالي فكذلك أيضا ، ومع ذلك.
8- في المصدر : الأصوليين على الظاهر.

الشرعية مبنيّة غالبا عليه ؛ لأنّ الدليل إنّما يتمّ لو لم يتطرّق إليه المعارض من نسخ وغيره ، وإنّما يعلم نفي المعارض بالاستصحاب.

وفي المنية احتجّ عليه بأنّ أكثر الأحكام الشرعية مبنيّة على الاستصحاب ، فيكون حجّة. أمّا الأوّل : فلأنّ الدليل إنّما يجب العمل به إذا لم يطرأ عليه ما يزيل حكمه إمّا مطلقا كالناسخ ، أو بعض مدلولاته كالتخصيص للعامّ والتقييد للمطلق ، أو معارضة دليل راجح عليه ولا وسيلة إلى العلم بانتفاء (1) ذلك إلاّ من الاستصحاب.

وأمّا الثاني : فبيّن.

وفي الرسالة الاستصحابية : ومنهم من أنكر حجّية الضرب الأوّل ، لكن نجد من الجميع حتّى المنكر مطلقا أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، مثلا يقولون : الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، فكذلك لغة (2) ؛ لأصالة عدم النقل ، ويستدلّون أيضا بأصالة بقاء المعنى اللغوي ، فينكرون الحقيقة الشرعية ، إلى غير ذلك كما لا يخفى على المتتبّع (3).

وفي بعض شروح المنهاج للإسنوي (4) : وأيضا لو لم يكن الاستصحاب حجّة لم يكن الأحكام الشرعية (5) في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثابتة في زماننا أصلا ؛ لجواز تطرّق النسخ عليها ، فلم تبق (6) ثابتة ، لكنّ الأحكام الثابتة في زمانه صلى اللّه عليه وآله باقية في زماننا بالاتّفاق ، ولم يكن دليل (7) عليها غير الاستصحاب (8) ، انتهى.

ووجه دلالة هذه الحجّة على خروج استصحاب العدم من حريم الخلاف هو أنّ عدم اعتبار تلك الأصول العدمية إنّما جعل تاليا في الشرطية التي يطلب منها اعتبار

ص: 44


1- في المصدر : ببقاء.
2- « ج ، م » : بعد ، وفي المفاتيح : لغته.
3- الرسائل الأصولية ( رسالة الاستصحاب ) : 424.
4- في المصدر : - للإسنوي.
5- في « ل » والمصدر : الشرعية الثابتة.
6- في المصدر : فلم يبق.
7- في المصدر : - دليل.
8- مفاتيح الأصول : 644.

مطلق الاستصحاب باستثناء (1) نقيض التالي لينتج وضع (2) المقدّم ، لاتّحاد المناط وهو سبق اليقين ولحوق الشكّ ، وهو موجود في جميع الأقسام.

ومع ذلك كلّه فالتحقيق شمول النزاع للعدميات ؛ لعدم الفرق في نظر العقل بين الوجودي والعدمي في لحاظ الاستصحاب ، وأمّا دعوى الإجماع على الخروج فنظير دعوى الإجماع على خروج البراءة الأصلية ، وقد عرفت عدم إمكان استكشاف الوجه منه بعد احتمال انعقاده على وجوه مختلفة ، والعمل على طبق الأصول اللفظية ممّا لا يجدي.

وأمّا الجواب عمّا أوردناهما - [ و ] لعلّه يكون منشأ لتخيّل انعقاد الإجماع (3) - فهو أنّه كما يحتمل أن يكون احتجاجا لإثبات حجّية مطلق الاستصحاب بواسطة حجّية قسم منها لاتّحاد المناط ، كذلك يحتمل أن يكون المقصود إثبات حجّية هذا القسم من الاستصحاب أيضا كأن يكون المقصود أنّه لو لم يكن الاستصحاب حجّة في النفي والإثبات مطلقا لزم منه انسداد باب المحاورات والاحتجاجات ، ونظير ذلك في احتماله الوجهين ما مرّ نقله عن (4) المعارج والمعالم (5) من أنّ (6) العلماء مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما تقتضيه البراءة الأصلية ؛ إذ يحتمل أن يكون الفقرة الأخيرة من اجتهاد الناقل لا من المستدلّ.

على أنّا لو سلّمنا الإجماع على خروج العدميات من النزاع ، فهو إنّما يسلّم في الأصول المعمولة في الألفاظ فقط ، وأمّا سائر الأصول العدمية ، كأصالة عدم الزوجية والملكية والتذكية ، وعدم الطهارة ، وعدم النجاسة ، وعدم الرطوبة واليبوسة ، ونحوها ،

ص: 45


1- « ج » : فاستثناء.
2- « ج » : بوضع.
3- « ل » : للتخيّل لانعقاد الإجماع ، وفي « ز ، ج » : التخيّل انعقاد الإجماع.
4- « ل » : من.
5- المعارج : 287 ؛ المعالم : 234 ، ومرّ نقله في ص 38.
6- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : بأنّ.

فدخولها في النزاع ممّا لا يدانيه ريب ، بل يظهر من صاحب المدارك والمحقّق الخوانساري (1) صراحة عدم اعتبار مثل هذه الأصول فكيف يمكن دعوى الإجماع عليه ، وإن كان يمكن دعوى اتّحاد المناط بعد خروج الأصول العدمية اللفظية ، إلاّ أنّ الكلام مع مدّعي الإجماع.

فإن قلت : فهل يمكن إنكار انعقاد الإجماع على اعتبار الأصول العدمية؟ ولعلّ المنكر ممّن لا يقطع بشيء في زمان أبدا ، فإنّه يشبه أن يكون إنكارا للأمر الضروري.

قلت : فهل يمكن دعوى الإجماع من الكلّ على ذلك بعد ما عرفت من وجوه (2) الاختلاف (3) وضروب الاعتساف في كلماتهم؟ نعم يصحّ دعوى انعقاد الإجماع العملي على هذه الأصول فإنّه بمكان من التسليم ، ولا ينافي ذلك دعوى بعضهم بحسب اجتهاده الإجماع على خروجها.

وقد يعترض على دعوى الإجماع بأنّ مفروغية الاستصحاب العدمية تلازم (4) المفروغية في جميع أقسام الاستصحاب ، واللازم باطل ، وكذا الملزوم ، أمّا (5) الملازمة فلعدم انفكاك الاستصحاب الوجودي عن استصحاب عدمي في أيّ مورد فرض ، فإنّ لكلّ أمر وجودي ضدّا أو أضدادا (6) ، ولا أقلّ من استصحاب عدم الضدّ أو الأضداد ، مثلا الطهارة يضادّها الحدث ، والزوجية يباينها المزيل لها ، والملكية يناقضها (7) النقل والانتقال ، فعند استصحاب الطهارة يستصحب عدم عروض الحدث ، وفي استصحاب الزوجية عدم المزيل للعلقة ، وفي الملكية عدم النقل والانتقال ، وفي استصحاب وجوب ردّ الوديعة عدم ثبوت ما عدا ذلك بالشرع ، إلى غير ذلك من الموارد ، فإنّ عدم تلك

ص: 46


1- انظر مدارك الأحكام 2 : 387 و 3 : 158 وذهب إليه أيضا المحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد 2 : 227 ، 232 ؛ كفاية الأحكام : 252. وسيأتي عنهم في ص 230.
2- « ل » : وجود.
3- « ز ، ك » : الخلاف.
4- « ج ، م » : يلازم ، وفي « ل » : ملازم.
5- « ز ، ك ، ل » : وأمّا.
6- « م » : ضدّ أو أضداد.
7- « ك » : يباينها.

الأمور وإن كان يغاير المطلوب في استصحاب الوجود إلاّ أنّه يلازمه ؛ لأنّ نفي الضدّ أو الأضداد يلازم وجود الآخر ، وأمّا بطلان اللازم فأظهر من أن يظهر وأوضح من أن يوضح ؛ لعود النزاع بين الأقوال التى حافظوا على ضبطها وتحريرها وتنقيحها عبثا ولغوا.

وقد يجاب عنه بأنّ استصحاب تلك الأعدام التي هي أضداد لتلك الأمور الوجودية لا يجدي في ترتيب أحكام الأمور الوجودية عليها ، غاية الأمر أنّ ما يترتّب على نفس تلك الأعدام يمكن إثباته (1) بالاستصحاب دون غيرها ؛ لأنّها على تقدير التسرّي إلى أحكام الوجود أصول مثبتة ولا تعويل عليها.

وفيه أوّلا : أنّ أحكام الوجود والعدم قد تتّحد (2) ، فلا حاجة إلى انسحاب الحالة الوجودية وانجرارها في زمن الشكّ ليترتّب عليها (3) أحكامها ، وذلك في استصحاب العدالة التي هي ملكة وجودية ، واستصحاب عدم الفسق ، فإنّ صحّة الوصيّة إنّما تترتّب (4) على عدم الفسق كما تترتّب (5) على العدالة أيضا ، نعم فيما لو اختلف لا يمكن الاتّكال والتعويل في ثبوت العنوان الوجودى باستصحاب العدم ، فلا يترتّب عليه ، كما أنّه لا يجوز الائتمام لمن استصحبنا عدم فسقه مثلا ، وكما أنّ استصحاب عدم الحدث (6) ممّا يترتّب عليه جواز الدخول في الصلاة أو غيرها ممّا تكون (7) الطهارة شرطا فيه على ما يستفاد من عنوان بعض الأخبار ، وكما في استصحاب عدم وجوب القطع للمتيمّم الواجد للماء في الأثناء ، فإنّ ذلك يكفي في الطهارة ولا حاجة إلى استصحابها.

وثانيا : أنّ الأصول المثبتة ممّا لا تعويل عليها على تقدير الأخبار ، وأمّا على تقدير

ص: 47


1- « ز ، ك ، ل » : إتيانه.
2- « ج ، م » : يتّحد.
3- « ج » : عليه.
4- المثبت من « ل » وفي سائر النسخ : « يترتّب ».
5- « ز ، ج ، م » : يترتّب.
6- « ز » : الحادث ، « ل » : الحادثات.
7- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : « يكون ».

الظنّ كما عليه الأكثرون (1) من أصحابنا ومخالفينا ممّن قال بالاستصحاب وعلى تقديره ، فلا ينبغي التردّد (2) في اعتبار (3) الأصول المثبتة ، فإنّه إذا من الأدلّة الاجتهادية التي تكشف (4) عن الواقع ، وبعد انكشافه وتقدير اعتبار الكاشف فلا بدّ (5) من الأخذ بجميع لوازمه وملزوماته ، إلى غير ذلك من الوجوه المتفرّعة عليه والعناوين المنتهية إليه على ما ستعرف تفصيل الكلام فيه.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعى التفكيك بين الظنّ (6) اللازم الحاصل من استصحاب الملزوم فلا عبرة (7) ، والظنّ المتعلّق بنفس المستصحب فهو معتبر ، كما أنّ الشّارع قد حكم بالتفكيك بين الظنّ الحاصل من القبلة بالوقت ، فإنّه قد اعتبره في القبلة دون الوقت ، إلاّ أنّ ذلك خارج عمّا نحن بصدده ؛ إذ بعد اعتبار الظنّ فلا وقع لهذا الكلام كما لا يخفى.

فانقدح من جميع ما مرّ ذكره عموم النزاع للبراءة الأصلية والأصول العدمية بأجمعها.

المقام الثاني

فى الجهة الثانية من وجوه تحرير الخلاف ، فنقول : ربّما يتخيّل اختصاص حريم الخلاف بما إذا لم يكن دليل الحكم هو الإجماع ، كما يظهر وجهه عند وجوه الأقوال ، والحقّ عموم النزاع لعموم الأدلّة والعناوين والأمثلة وكلمات المثبتين والنافين ، وقد مرّ في المقام الأوّل ما به (8) يمكن الاكتفاء عن نقل كلماتهم في إثبات المطلب ، فراجعه متدبّرا فيها (9).

ص: 48


1- « ج » : الأكثر.
2- « ز ، ك ، ل » : فلا ينفي الردّ.
3- « ز ، ل » : وفي اعتبار.
4- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : « يكشف ».
5- « ز » : فلأنّه.
6- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : « ظنّ ».
7- « ك » : فلا عبرة به.
8- « ج » : بأنّه.
9- « ز ، ك ، ل » : فراجعه فتدبّر.
المقام الثالث

في الجهة الثالثة منها ، فنقول : يظهر من عدّهم الاستصحاب في عداد الأدلّة العقلية - كما يقال كثيرا : ومن جملة الأدلّة العقلية الاستصحاب - اختصاص النزاع بالأحكام ؛ لأنّ الأدلّة العقلية مفسّرة في كلامهم بالأحكام العقلية الموصلة إلى الأحكام الشرعية ، والموضوعات ليست (1) منها ، والاستصحاب فيها ليس (2) دليلا ، بل هو أمارة كاليد والبيّنة وإن توقّف اعتباره فيها على حكم الشارع ؛ إذ ذلك لا يقضي بكونه دليلا كما في البيّنة ، لأنّ (3) ما يثبت بها ليس حكما شرعيا ، فإنّ دخول زيد في « من يجب عليه كذا » مثلا ، ليس من الحكم الشرعي (4) في شيء ، فالحكم الشرعي هو الخطاب المتعلّق بالعنوان الكلّي ، والبيّنة إنّما أقيمت على انطباق ذلك العنوان بالموضوع الخاصّ ، فالثابت (5) بالاستصحاب فيما إذا كان المستصحب حكما كلّيا شرعيا هو الحكم الكلّي ، وفيما إذا كان موضوعا إنّما هو صغرى لقياس يثبت فيه سريان الحكم الكلّي إليه.

وبالجملة : فقضيّة ذلك خروج الموضوعات عن محلّ النزاع ، ولقد أومأ إلى ذلك أمين الأخبارية في الفوائد المدنية حيث قال : اعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتّفاق الأمّة ، ثمّ ترقّى عن ذلك فقال : بل أقول : اعتبارهما من ضروريات الدين ، إحداهما : أنّ الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبيّنا صلى اللّه عليه وآله إلى أن يجيء ما ينسخه (6) ، وثانيهما : أنّا نستصحب كلّ أمر من الأمور الشرعية ، مثل كون الرجل مالك أرض ، وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكونه

ص: 49


1- « ج » : التي ، وفي « م » كانت أوّلا « التي » ثمّ غيّرت ب- « ليست ».
2- « ز ، ك ، ل » : ليس فيها.
3- « ز ، ك ، ل » : ولأنّ.
4- « ل » : من الأحكام الشرعية.
5- « ج » : فالذاهب.
6- « ز » والمصدر : بنسخه.

طاهرا أو نجسا ، وكون الليل والنهار باقيا ، وكون ذمّة الإنسان مشغولة بصلاة أو طواف ، إلى أن يقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا لنقض تلك الأمور ، ثمّ ذلك الشيء قد يكون شهادة العدلين ، وقد يكون قول الحجّام المسلم أو المؤمن (1) ، وقد يكون قول القصّار المسلم (2) ، وقد يكون بيع ما يحتاج إلى الذبح والغسل في سوق المسلمين ، وأشباه ذلك من الأمور الحسّية (3) ، انتهى كلامه. ودلالته على كون الموضوعات خارجة (4) عن محلّ الكلام ممّا لا يدانيه وصمة الريب والإنكار.

وتبعه في ذلك الشيخ الجليل الحرّ العاملي في الفوائد الطوسية حيث قال - بعد نقل كلام عن بعض معاصريه في الردّ على منكري البراءة الأصلية والاستصحاب - ما هذا لفظه : واعلم أنّ كلام المعاصر وغيره هنا مجمل يحتاج إلى التفصيل ليتحقّق (5) محلّ النزاع ، ونحن نفصّل ونقول : الأصل يطلق على معان ويستدلّ به في مواضع اثني عشر ، فأخذ في تعدادها إلى أن قال : السابع : نفي تغيّر الحكم الشرعي في الحالة السابقة ، وهو المسمّى بالاستصحاب في نفس الحكم الشرعي إثباتا ونفيا. والثامن : نفي (6) تغيّر الحالة السابقة إلى أن يثبت تغيّرها ، وهو المسمّى بالاستصحاب في غير نفس الحكم الشرعي ، إلى أن قال بعد ذكر تمام المواضع الاثني عشر : وأمّا السابع ففيه خلاف مشهور ذهب (7) إلى بطلانه المحقّقون كالسيّد والشيخ والمحقّق والشيخ حسن ومولانا محمّد أمين وصاحب المدارك وغيرهم ، إلى أن قال : وأمّا الثامن فلا خلاف فيه والنصوص الشرعية دالّة عليه عموما وخصوصا (8) ، انتهى. ووجه دلالته على خروج

ص: 50


1- في المصدر : أو من في حكمه.
2- في المصدر : + أو من في حكمه.
3- الفوائد المدنية : 288 ، في ط الحجري : 143.
4- « ج ، م » : خارجا.
5- في المصدر وظاهر نسخة « ز » : لتحقّق ، وفي « ك » : لتحقيق.
6- هنا تنتهي نسخة « ل ».
7- في المصدر : وقد ذهب.
8- الفوائد الطوسية : 198 - 199 و 201.

الموضوعات ظاهر لا ينكر ؛ إذ الموضع (1) الثامن المراد به الموضوعات ، وقد مرّ في المقام الأوّل من الكلمات ما يشعر بذلك (2) أيضا.

ولكنّ التحقيق بعد ذلك كلّه دخولها (3) في محلّ الخلاف ، ويدلّ على ذلك - بعد عموم المناط في الكلّ ، فلا تعقل (4) التفرقة بين أقسامه - أمور :

أحدها : كلام العضدي حيث قال - بعد تعريف الاستصحاب بما أشرنا إليه سابقا (5) - : وقد اختلف في صحّة الاستدلال به لإفادة (6) الظنّ بالبقاء (7) ، وعدمها لعدم إفادته إيّاه ، فأكثر المحقّقين - كالمزني والصيرفي والغزالي - على صحّته ، وأكثر الحنفية على بطلانه فلا يثبت به حكم شرعي (8) ، انتهى. وجه (9) الدلالة أنّ لفظ الحكم في كلامه وإن كان ظاهرا في الحكم الكلّي إلاّ أنّ قول التفتازاني في شرحه بأنّ هذا إشارة إلى أنّ خلاف الحنفية في ذلك في إثبات الحكم الشرعي بالاستصحاب لا نفيه به ، يدلّ على أنّ المراد به الأعمّ من الأحكام الكلّية أو الجزئية ، وأنّ خلاف الحنفية في كلّ من القسمين ، سيّما بعد ملاحظة التمثيل في كلام الأوّل باستصحاب حياة المفقود.

وثانيها : ما في المدارك من إنكار حجّية استصحاب عدم التذكية حيث قال - بعد نقل الاحتجاج على حرمة استعمال الجلد المطروح بأصالة عدم التذكية - : ويشكل بأنّ مرجع الأصل هنا (10) إلى استصحاب الحالة (11) السابقة ، وقد تقدّم الكلام منّا فيه مرارا وبيّنّا أنّ الحقّ أنّ استمرار الحكم يتوقّف على الدليل كما يتوقّف عليه ابتداؤه ؛ لأنّ ما

ص: 51


1- « ج » : الموضوع.
2- « ز ، ك » : به.
3- « ز ، ك » : هو دخولها.
4- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : « فلا يعقل » وظاهر نسخة « ز » : يقضي.
5- أشار في ص 11.
6- في المصدر : لإفادته.
7- « ج ، م » والمصدر : ظنّ البقاء.
8- شرح مختصر المنتهى : 453 ، وسيأتي أيضا نصّ عبارته في تعليقة ص 60.
9- « ك » : ووجه.
10- « ج ، م » : هاهنا.
11- في المصدر : حكم الحالة.

ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، فلا بدّ لدوامه من دليل وسبب سوى دليل الثبوت (1) - (2) ، انتهى. وظهور دلالته على عدم اعتبار الاستصحاب في مثل عدم التذكية التي من الموضوعات أيضا ممّا لا يقبل الارتياب ، ومن هنا يظهر وجه آخر في عموم النزاع للاستصحابات العدمية كما أشرنا إليه في المقام الأوّل.

وثالثها : عموم أدلّة المثبتين والنافين لكلّ من القسمين ، فإنّ بناء العقلاء على الاعتبار ممّا لا يفرق فيه بينهما ، وكذا التسوية بين الحكمين في الزمانين من غير دليل ممّا لا دليل على افتراقها بين القسمين ، وستقف على جملة أخرى من أدلّة الطرفين الظاهرة في التعميم إن شاء اللّه.

وأمّا الوجوه الدالّة على خروج الموضوعات ممّا قدّمناها ، فالجواب عنها : أنّ أمثال ذلك في عناوينهم غير عزيز ، مع عموم النزاع لغير ذلك أيضا إلاّ أنّ وجه (3) التخصيص تعلّق غرض أرباب العنوان بهذا القسم منه ، على أنّ الاستصحاب ليس أمارة كما هو القياس في البيّنة ، وتحقيق ذلك : أنّ الشارع تارة : يجعل شيئا أمارة لدخول (4) بعض أفراد العنوان فيه عند الشكّ في ذلك ، كما في البيّنة - مثلا - على تقدير اعتبارها تعبّدا ، وأخرى : يجعل للمشكوك حكما كما يجعل لنفس العنوان الكلّي مع قطع النظر عن كونه مشكوكا حكما ، والاستصحاب من قبيل الثاني لا الأوّل كما لا يخفى.

وأمّا دعوى الإجماع - على ما استظهره (5) الخصم من الكلمات المذكورة - فواهية جدّا بعد ما عرفت من الخلاف في كلام الخاصّة والعامّة ، ولنعم ما أفاده (6) الأستاد - بعد نقله كلام الأمين ما هذا لفظه : عجبا ممّن ينكر الإجماعات التى يدّعيها العلماء الماهرون

ص: 52


1- « ز ، ك » : فلا بدّ من الدليل في دوامه غير دليل الثبوت.
2- مدارك الأحكام 2 : 387. وسيأتي عنه في ص 230. وفي هامش « م ، ز » : ولقد رأيت في كلام المدارك كثيرا ما يتمسّك بالأصل ، ولعلّه إنّما كان منه جريا على طريقة القوم في استفاض [ ة ] الأدلّة على المطلوب. « منه ».
3- « ج » : أيضا ووجه.
4- « م » : دخول ، « ج » : الدخول.
5- « ز ، ك » : استظهر.
6- « ز ، ك » : أفاد.

في التتبّع المتبحّرون في النقد والتحصيل مع عدم وجدانه الخلاف ، ويطعن عليهم - بقوله : الإجماع ما الإجماع؟! ثمّ يدّعي إجماع الأمّة ، بل ضرورة الدين فيما يكون الخلاف فيه بين المسلمين من الخاصّة والعامّة مشهورا معلوما لكلّ أحد راجع كتبهم واستدلالاتهم في النفي والإثبات. انتهى لفظه الشريف أدام اللّه كرامته.

على أنّ دعوى انعقاد الإجماع على خروج شيء من النزاع غير كون ذلك الشيء إجماعيا خارجا عن النزاع ، والممنوع هو الثاني لا الأوّل ، فتأمل.

المقام الرابع

فى الجهة الرابعة ، فنقول : قد يظهر من جواد الفضلاء تخصيص النزاع بما إذا كان الشكّ من جهة المقتضي على أحد الوجوه المقرّرة فيه ، وعدم شمول النزاع فيما إذا كان الشكّ من حيث المانع ، ولعلّه تبعه في ذلك صاحب المعالم حيث إنّهما قد أرجعا قول المحقّق إلى قول السيّد القائل بالعدم.

قال المحقّق في المعارج - بعد ما نقل الخلاف في الاستصحاب واختياره قول المفيد من اعتباره واحتجاجه على مختاره وردّ أدلّة المانعين - : الذي (1) نختاره أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقا وجب القضاء باستمرار الحكم ، كعقد النكاح فإنّه يوجب حلّ الوطء مطلقا ، وإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق (2) كقوله : « أنت خليّة وبريّة » فإنّ المستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بهما لو قال : حلّ الوطء ثابت قبل النطق بهذه فيجب أن يكون ثابتا بعده (3) ، لكان استدلالا صحيحا ؛ لأنّ المقتضي للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيكون الحكم ثابتا عملا بالمقتضي.

ص: 53


1- « ز » : بالذي ، « ك » : فالذي.
2- « م » : الخلاف ، « ج » : ألفاظ الطلاق.
3- في المصدر : بعدها.

لا يقال : المقتضي - وهو العقد - لم يثبت (1) أنّه باق فلم يثبت الحكم (2) ؛ لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حلّ الوطء لا مقيّدا بوقت ، فيلزم (3) دوام الحلّ نظرا إلى وقوع المقتضي لا إلى دوامه ، فيجب أن يثبت الحلّ حتى يثبت الرافع ، فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه فليس ذلك عملا بغير دليل ، وإن كان يعني به أمرا وراء ذلك فنحن مضربون عنه (4) ، انتهى كلامه (5).

وقال الشارح الجواد - بعد نقل كلامه - : وهو جيّد لكنّه في الحقيقة رجوع (6) إلى مذهب المرتضى (7).

وقال في المعالم : وهذا كلام جيّد لكنّه عند التحقيق رجوع عمّا اختاره أوّلا ومصير إلى القول الآخر كما يرشد إليه تمثيلهم موضع (8) النزاع بمسألة التيمّم ويفصح عنه حجّة المرتضى ، فكأنّه استشعر ما يرد على احتجاجه من المناقشة فاستدرك بهذا الكلام - وقد اختاره (9) في المعتبر - قول المرتضى ، وهو الأقرب (10) ، انتهى.

فقضيّة إرجاعهما قول المحقّق إلى قول المرتضى اختصاص النزاع عندهم بما إذا كان الشكّ من حيث المقتضي ؛ ضرورة أنّه لو كان النزاع أعمّ من الجهة المفروضة وما إذا كان الشكّ في المانع بأقسامه ، لما كان للإرجاع المذكور وجه ، بل يكون المحقّق مفصّلا بين القسمين لا منكرا للكلّ كالمرتضى.

والحقّ عموم النزاع للقسمين وشموله للجهتين ، وأنّ ما أورداه في حمل كلام المحقّق

ص: 54


1- في المصدر : ولم يثبت.
2- « ز ، ك » : باق فالحكم ليس بثابت.
3- المثبت من بعض نسخ المصدر ، وفي النسخ : فلزوم.
4- المعارج : 289 - 290.
5- « م ، ج » : - كلامه.
6- « ك » : راجع.
7- غاية المأمول فى شرح زبدة الأصول ( مخطوط بخطّ المؤلّف ) 85 / ب ، وفيه : في الحقيقة اختيار المرتضى.
8- في المصدر : لموضع.
9- « ز ، ك » : وقد اختار.
10- معالم الدين : 235.

ممّا لا يصغى إليه بعد وضوح مراده وظهور كساده ؛ لما عرفت من عدم ما يقضي (1) بالتخصيص عنوانا وتمثيلا واستدلالا بعد اتّحاد المناط في الكلّ وعدم معقولية التفرقة بينهما بدون ذلك.

تذنيب

هل النزاع في حجّية الاستصحاب من جهة الظنّ أو من حيث إنّها قاعدة تعبّدية وإن لم يفد (2) ظنّا في موارده أبدا فعلى الأوّل يكون كسائر الأدلّة الاجتهادية الكاشفة عن واقع مدلولها ، وعلى الثاني يكون كالبيّنة واليد ونحوهما من التعبّديات؟ فنقول : لا إشكال في قابلية وقوع النزاع على كلّ من الوجهين مع قطع النظر عن مذاقهم ومشربهم.

فعلى الأوّل يحتمل (3) أن يراد بالظنّ المبحوث عنه الظنّ النوعي ؛ إذ من الواضح الجليّ أنّ الاستصحاب يفيد الظنّ فيما لم يكن له من الخارج ما يوهن الركون إلى الحالة السابقة كغيره من وجوه الأدلّة الاجتهادية ، وأن يراد به الظنّ الشخصي ؛ لأنّه الظاهر منه في بادئ الرأي ، ويوافقه ظهور جملة من الحجج ، بل صرّح بدورانه مداره شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث قال : لا يخفى أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعّف بطول (4) المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربّما يصير الطرف الراجح مرجوحا ، كما إذا توضّأ عند الصبح - مثلا - وذهل عن التحفّظ ، ثمّ شكّ عند الغروب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة في ذلك الوقت ، والحاصل أنّ المدار على الظنّ ، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف (5) ، انتهى كلامه.

ص: 55


1- « ج » : يقتضي.
2- « ج » : تفد.
3- « ج ، م » : فيحتمل.
4- « ج » : لطول.
5- حبل المتين 1 : 164 ، وفي ط الحجري : 37.

إلاّ أنّه يشكل الاعتماد عليه ؛ لعدم اطّراده في الموارد التي بنوا فيها على الاستصحاب كما يظهر من ملاحظة سيرتهم في الفقه ، ويحتمل أن يكون النزاع في إفادته الظنّ كما يظهر عمّا سبق نقله من العضدي (1) ، فالنزاع صغروي ، وأن يكون في اعتباره أيضا كما لعلّه يومئ إليه محقّق القوانين ، وكيف كان فالنزاع في اعتبار الاستصحاب من حيث الظنّ على أحد الوجوه المحتملة فيه هو الظاهر من السلف ، كما ينبئ عن ذلك عدم احتجاجهم بأخبار النقض إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخ الجليل الشيخ حسين العاملي والد شيخنا البهائي ، فإنّه أوّل من فتح باب الاستدلال بها في الاستصحاب حيث قال [ - بعد ذكر بعض أخبار الاستصحاب - وهذا في الحقيقة راجع إلى أصل بقاء الشيء على ما كان وهو الاستصحاب كما قدّمناه ، ويتفرّع على ذلك كثير من مسائل الفقه ، كمن تيقّن الطهارة وشكّ في عروض الناقص لا يلتفت وبالعكس يجب الطهارة ، ومن تيقّن طهارة بدنه أو ثوبه وشكّ في عروض النجاسة لا يلتفت وبالعكس يجب التطهير ، وهذا وأمثاله ممّا لا خلاف فيه. (2)].

وعلى الثاني فيحتمل أن يكون المراد بالتعبّد هو التعبّد الشرعي كما هو الظاهر ممّن (3) جنح إليه محتجّا بأخبار النقض ، بل وهو صريح البعض ، وأن يكون تعبّدا عقلائيا ؛ حيث إنّهم مفطورون على البناء على الحالة السابقة والأخذ بها تصحيحا لأمور معادهم وتسهيلا في أمور معاشهم ، بل وربّما يظهر ذلك من احتجاج المعارج (4) من ثبوت المقتضي وعدم صلوح الرافع للرفع ، ومن احتجاج الشيخ في الزبدة (5) من أنّه لولاه لم يتقرّر (6) المعجزة ، وعلى التقديرين فهل التعبّد مطلق وإن كان الظنّ على الخلاف

ص: 56


1- سبق نقله في ص 11 و 51.
2- لم يرد مقول قوله في النسخ وموضعه في نسختي « م ، ز » بياض قدر ثلاث أسطر ، واستدركناه ما بين المعقوفين من العقد الطهماسبى : 24.
3- « ز ، ك » : فمن.
4- المعارج : 286.
5- « ز ، ك » : زبدته. زبدة الأصول : 106.
6- في المصدر : لم تتقرّر.

أو مقيّد بما إذا لم يكن الظنّ على الخلاف؟ وجهان : الأقوى هو الأخير إلاّ أنّ ذلك مع قطع النظر عن كلماتهم ، وإلاّ فهي مضطربة في الغاية ومختلفة في النهاية ، فقد يظهر منهم الاحتجاج بحجّة (1) ظنّية مع عدم اقتصارهم فيه بالظنّ (2) عند العمل والفتوى ، فإنّ جملة منهم اعتمدوا عليه وإن كان الظنّ على الخلاف ، وينادي بذلك كلماتهم في الفقه ، وأوضح دلالة على ذلك (3) حكمهم بتقديم الأصل على الظاهر ، بل ربّما يظهر من الشهيد (4) تقدّم الظاهر على الأصل في موارد معدودة ، ونحن نتعرّض للبحث عن اعتباره وذكر الاحتجاجات الواردة فيه بكلا الطريقين تتميما للمبحث وتحقيقا للمذهب كما هو ديدن القوم في تصانيفهم وكتبهم ، وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 57


1- « ك ، ز » : حجية.
2- « ج » : على الظنّ.
3- في « م ، ج » زيادة « من » وشطب عليها في نسخة « م ».
4- تقدّم عنه في ج 1 ، ص 290.

ص: 58

هداية [ في ذكر الأقوال في اعتبار الاستصحاب ]

اختلف الآراء في اعتبار الاستصحاب فيما عرفت من موارد النزاع وعدمه على أقوال كثيرة ، بل عدّها بعضهم (1) إلى نيّف (2) وخمسين وإن كان بعيدا عن التحقيق ، فإنّه يرى من لا يحكم باعتبار الاستصحاب الساري مفصّلا في المسألة مثلا وفساده ممّا لا يكاد يخفى. ونحن نذكر شطرا منها ممّا له وجه معروف ، لعدم الجدوى في غيره.

فنقول : المشهور من الأقوال أربعة عشر قولا :

الأوّل : الحجّية من باب الوصف مطلقا ، عزاه في الوافية (3) إلى الأكثر.

الثاني : عدم الحجّية كذلك ، عزاه في المنتهى إلى الأكثر ، ولعلّه ليس في محلّه ؛ إذ الأكثر - على ما يشاهد من أكثر موارد كلماتهم ومطاوي إفاداتهم - على الحجّية ولو في الجملة.

الثالث : ما نسب إلى بعض المتأخرين في حكاية بعض الأجلّة (4) من التفصيل بين الشكّ في عروض القادح فيعتبر ، وبين (5) الشكّ في قدح العارض فلا يعتبر.

ص: 59


1- نسبه إلى بعض المعاصرين في وسيلة الوسائل : 289 ، ثمّ قال : وإن كان المذكور منها في الكتب المعروفة في مقام تعداد الأقوال لا يزيد عمّا ذكره شيخنا المصنّف رحمه اللّه.
2- « ج ، م » : بل إنّما جعله بعضهم نيّفا.
3- الوافية : 218.
4- الفصول : 367 ( ثالث الأقوال ).
5- « ز ، ك » : - بين.

الرابع : التفصيل بين ما إذا شكّ في عروض ما علم مانعيته للحكم الشرعي الذي ثبت استمراره إليه مع عدم العلم بطروّ ما يحتمل كونه ذلك الرافع فيعتبر ، وبين غيره فلا يعتبر ، ذهب إليه المحقّق السبزواري (1) في بيان حكم الكرّ المسلوب إطلاقه بممازجة المضاف النجس.

الخامس : التفصيل بين ما ثبت استمراره إلى غاية معيّنة عند الشكّ في حصوله أو في صدقها على أمر حاصل مع العلم بصدقها على (2) غيرها فيكون معتبرا ، وبين غيره فلا يكون معتبرا (3) ، وهو المنسوب إلى أستاد الكلّ المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (4) عند قول الشهيد : ولا يجزي ذو الجهات الثلاث في الاستنجاء.

السادس : التفصيل بين النفي والإثبات ، فأثبتوه في النفي ونفوه في الإثبات ، حكاه العضدي عن أكثر الحنفية (5).

السابع : التفصيل بين الأحكام الطلبية فلا يجري فيه ، وبين غيره من الأحكام الوضعية فيجري فيه (6).

الثامن : هو السابع بانضمام الإباحة إلى الوضعيات في الجريان ، وقال بعض الأجلّة :

ص: 60


1- الذخيرة : 116 ، وعنه في الفصول : 367 ( رابعها ).
2- « ز ، ك » : - على.
3- « ز ، ك » والفصول : وبين غيره فلا يعتبر.
4- مشارق الشموس : 76 ، وعنه في الفصول : 367 ( خامسها ).
5- شرح مختصر المنتهى : 453 ، وعنه في الفصول : 367 ، الشرح للعضدي والمتن للحاجبي ، قال الماتن : الاستصحاب : الأكثر كالمزني ... على صحّته وأكثر الحنفية على بطلانه ، كان نفيا أصليا أو حكما شرعيا. وقال الشارح أيضا : ... وأكثر الحنفية على بطلانه ، فلا يثبت به حكم شرعي. وحكاه الكلباسي في اشارات الأصول ، قسم الأدلّة الشرعية ( مخطوط ) ٩٤ / ب_ حيث قال : والتفتازاني نسب في شرح شرحه إلى الحنفية عدم الحجّية في إثبات الحكم الشرعي دون النفي الأصلي.
6- حكاه في الفصول : 367 ( سابعها ) وقال : نقل ذلك عن بعض. وهو مذهب الفاضل التوني كما سيأتي في ص 113.

ولعلّهما متّحدان ، والمسامحة من الناقل (1).

التاسع : عكس ذلك ، ولم يعلم قائله على ما قيل (2).

العاشر : التفصيل بين الحكم الشرعي فيعتبر ، وبين الأمور الخارجية فلا يعتبر ، يظهر من المحقّق الخوانساري في الحاشية (3) على ما ستعرف الكلام فيها ، ونسب إلى السبزواري أيضا (4).

الحادى عشر : عكس ذلك.

الثاني عشر : التفصيل بين ما ثبت الحكم فيه (5) بالإجماع فلا يعتبر ، وبين غيره فيعتبر ، نسب إلى الغزالي (6) وكتابه في الأصول - على ما حكاه البعض - ممّا لا عين فيه منه (7) ولا أثر ، ولعلّه إنّما أخذوه من كتابه في الفقه ، وستعرف أنّ المنقول منه ممّا لا يدلّ على التفصيل المذكور.

الثالث عشر : ما اختاره بعض الأجلّة (8) وهو التفصيل بين ما إذا كان قضيّة الشيء المعلوم ثبوته بقاءه في الوقت المشكوك بقاؤه فيه لو لا عروض المانع أو منع العارض فيعتبر ، وبين غيره فلا يعتبر.

الرابع عشر : ما جنح (9) إليه جملة من متأخّري المتأخّرين وهو اعتباره مطلقا من

ص: 61


1- الفصول : 367 ( ثامنها ).
2- حكاه أيضا في الفصول : 367 في تاسع الأقوال.
3- سيأتي كلامه بتمامه نقلا من شارح الوافية في ص 136 - 138 ، ونقل عنه أيضا المحقّق القمي في القوانين 2 : 66 وفي ط : ص 273 وأورده أيضا في الفصول : 367.
4- سيأتي في ص 178.
5- « ج ، م » : - فيه.
6- نسب إليه المحقّق القمي في القوانين 2 : 55 ، والكلباسي في اشارات الأصول ، قسم الأدلّة الشرعية ( مخطوط ) 94 / أ ، قال الغزالي في المستصفى من علم الأصول 1 : 224 : لا حجّة في استصحاب الإجماع في محلّ الخلاف خلافا لبعض الفقهاء ، ومثاله المتيمّم ...
7- « ز ، ك » : منه فيه.
8- الفصول : 367.
9- « ج ، م » : احتجّ.

باب الأخبار.

ثمّ اعلم أنّ التفصيل الحادي عشر قد نسبه (1) المحقّق (2) صاحب (3) القوانين (4) إلى الأخباريين (5) وجعله عكسا لما صار إليه السبزواري ، ولعلّه ليس على ما ينبغي ؛ حيث إنّ الأحكام تارة يطلق ويراد بها نفس الأحكام الكلّية الإلهية ، وتقابلها (6) الموضوعات بإطلاقاتها من الأحكام الجزئية ، والموضوعات المستنبطة ، والأمور الخارجية من حياة زيد ورطوبة لباسه ويبوسة (7) يده ونحوها (8) ، والأخباري - على ما هو صريح صرّهم وأمينهم (9) - يعتمدون على الاستصحاب فيما عدا الأحكام الكلّية الإلهية من الأمور الخارجية كالليل والنهار والنجاسة والطهارة والملكية والزوجية ونحوها. وقد يطلق ويراد بها ما يعمّ الأحكام الجزئية ، والمعهود من مذهب السبزواري (10) وطريقه (11) تعويله على الاستصحاب في الأحكام الجزئية أيضا كما في الموضوعات المستنبطة أيضا كذلك ، وإنّما يظهر منه فيما نسب إليه عدم اعتداده بالاستصحاب في الأمور الخارجية الصرفة التي لا يكاد يمازجها شوب الحكمية كحياة زيد ورطوبة لباسه ونحوهما ، فيشتركان في اعتبار الاستصحاب في بعض أقسام الموضوعات ، وإنّما افترقا في اعتباره في الأحكام الشرعية لدى السبزواري دون الأخباري ، واعتباره في الموضوعات الصرفة لدى الأخباري دون السبزواري ، فالقولان ليسا بمتعاكسين.

ص: 62


1- « ز ، ك » : قد نسب.
2- « ك » : المحقّق القمي.
3- « م ، ج » : - صاحب.
4- القوانين 2 : 66 - 67 نقل ذلك من الشيخ الحرّ في كتاب الفصول المهمّة وسيأتي الكلام فيه أيضا في ص 183.
5- « ز ، ك » : الأخبارية ، وفي « م » : الأخباري.
6- « ج ، م » : يقابلها.
7- « ز ، ك » : دموية.
8- « ج ، م » : نحوه.
9- انظر الفوائد المدنية : 288 و 295 ، وفي ط الحجري : 143 و 148.
10- انظر الذخيرة : 115 - 116.
11- « ج » : طريقته.

فالتحقيق في التفصيلين : أنّ الأخباري يفصّل بين الأحكام الكلّية الشرعية فلا يعتبر فيها الاستصحاب ، وبين غيرها فيعتبر ، والسبزواري يفصّل بين الموضوعات الصرفة فلا يعتبر ، وبين غيرها فيعتبر ، ولعلّ الذي أوقعه في توهّم التعاكس بين القولين هو ما نقله عن المحقّق الخوانساري حيث قال - فيما نقل عنه - : وهو ينقسم إلى قسمين باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى الشرعي وغيره ، ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب وللثاني برطوبته ، إلى أن قال : وذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وبعضهم إلى حجّية القسم الأوّل فقط (1) ، انتهى.

فحسب أنّ التفصيل المذكور في ذيل كلامه - وهو اعتباره في الأحكام دون الموضوعات كما يظهر من التمثيل - مقابل للأخباري (2) ، فجعله عكسا لقولهم ، وكيف كان فالفرق بين هذه الأقوال ممّا لا يكاد يخفى ، وستعرف وجوه الفرق في بعض ما لعلّه يحتاج إلى البيان في الهدايات الآتية فانتظرها (3).

ص: 63


1- مشارق الشموس : 76 ، وعنه في القوانين 2 : 55.
2- « ز ، ك » : الأخباري.
3- انظر ص 178.

ص: 64

هداية في ذكر حجج المطلقين في الحجّية من حيث الظنّ

وهي كثيرة :

الأوّل : ما احتجّ به في المعارج من أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ؛ إذ الكلام على تقدير ثبوته ، والعارض لا يصلح رافعا ، لأنّ مرجعه إلى احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم وهو معارض باحتمال عدمه ، فيتدافعان ويبقى الحكم سليما عن المعارض (1).

واعترض عليه بعض الأجلّة بأنّه إن أريد بثبوت المقتضي مع احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم تحقّقه (2) بصفة الاقتضاء (3) ، فغير سديد ؛ لأنّ زوال الحكم يستلزم زوال الاقتضاء ، فلا يجامع احتمال زوال الحكم تحقّق (4) الاقتضاء ، ضرورة أنّ الأمر النسبي لا يتمّ بدون المنتسبين ، فلا يمكن العلم بثبوته مع عدم العلم بثبوتهما.

وإن أريد تحقّقه بذاته فغير مفيد ؛ لأنّ ذات المقتضي لا يستلزم ثبوت الحكم ما لم يثبت عدم المانع والتقدير كونه احتماليا ، مع أنّ قوله : وهو معارض باحتمال عدمه ، غير مستقيم ؛ لأنّه إن اعتبر التعارض بين الاحتمالين من حيث الوجود ، فلا منافاة بينهما بهذا الاعتبار أصلا ، ضرورة (5) اجتماعها (6) فيه ، والتعارض فرع التنافي ، وكذا إن اعتبر

ص: 65


1- المعارج : 286 - 287.
2- في المصدر : + معه.
3- « ج » : يوجب له بصفة الاقتضاء.
4- في المصدر : لتحقّق.
5- في المصدر : + صحّة.
6- في المصدر : اجتماعهما.

بينهما من حيث الاقتضاء الثابت لكلّ منهما مع قطع النظر عن الآخر كما هو المتداول في موارد إطلاقه ؛ إذ لا نسلّم أنّ مقتضى أحد الاحتمالين يغاير مقتضى الآخر فضلا عن أن ينافيه ، بل يشتركان في اقتضاء عدم ثبوت الحكم معهما ، وإن اعتبر بين متعلّقيهما فلا ريب في أنّهما لا يتحقّقان فكيف يتصوّر بينهما التعارض الذي هو مشروط بتحقّق المتعارضين (1).

أقول : وفيه ما لا يخفى من اشتباه المقتضي بالعلّة التامّة والخلط بينهما ، فإنّ زوال الحكم يستلزم زوال العلّة التامّة للحكم ، ولا يستلزم زوال المقتضي بصفة الاقتضاء ، فإنّ التحقيق أنّ المانع إنّما هو علّة تامّة لعدم المعلول ونقيضه ، وليس له مدخل في الوجود إلاّ من حيث ارتفاع علّة النقيض ، فالمؤثّر في الوجود هو المقتضي وهو باق بصفة الاقتضاء حال العلم بتحقّق المانع فكيف باحتماله ، ولهذا نرى أنّ فقدان المانع لا يصير (2) سببا لإيجاد شيء في المقتضي لم يكن قبل وذلك ظاهر.

وأمّا حديث النسبة فواه جدا ؛ إذ لا نعني بصفة الاقتضاء وثبوتها فعلا إلاّ مجرّد قضيّة تعليقية فعلية كما لا يخفى.

وأمّا ما أورده أخيرا من الترديدات فنختار الأوسط منها ، قوله : لا نسلّم أنّ (3) مقتضى أحد الاحتمالين يغاير مقتضى الآخر ، منع فاسد ؛ لظهور أنّ المتداول في موارد إطلاقه إنّما هو الأخذ بمقتضاه باعتبار ما أضيف إليه لفظ الاحتمال لا نفسه.

وأمّا ما أورده (4) من اشتراكهما في اقتضاء عدم ثبوت الحكم معهما ، ففساده ممّا لا يدانيه ريب ؛ إذ غاية ما في الباب أنّ (5) عدم العلم بالحكم يلازم الاحتمال لا (6) أنّ عدم

ص: 66


1- الفصول : 369 - 370.
2- « ز ، ك » : ممّا لا يصير.
3- « ز ، ك » : - أنّ.
4- « ز ، ك » : أفاده.
5- المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : - أنّ.
6- « ز ، ك » : إلاّ.

ثبوته يلازمه ، ومع ذلك فلا يقال في مثله : إنّ مقتضاه عدم ثبوت الحكم ، فتدبّر.

فالتحقيق في الجواب هو أن يقال : إنّ بعد الغضّ عن عدم دلالتهما (1) على الظنّ - كما هو مرام (2) المستدلّ ؛ لظهور أنّ مجرّد وجود المقتضي لا يوجب الظنّ بوجود المقتضى وإن كان المانع مشكوكا محتملا ، لدوران العلم بوجود المعلول أو الظنّ به مدار العلم بتمام أجزاء علّته التامّة من المقتضي ورفع المانع أو الظنّ به ، وحيث إنّ المقدّر كون بعض أجزائه محتملا فالمعلول احتمالي ؛ ضرورة تبعية النتيجة أخسّ مقدّماتها ، فما (3) لم يحصل الظنّ بعدم المانع لا يحصل الظنّ بوجود المعلول في الخارج - أوّلا بأنّه (4) أخصّ من المدّعى ؛ لاختصاصه بما إذا كان الشكّ في وجود المزيل من أقسام الشكّ من حيث المانع ، وقد عرفت أعمّية النزاع بالنسبة إلى أقسامه وإلى أصناف الشكّ من حيث المقتضي آنفا (5).

وثانيا بأنّه إن أراد بالمقتضي العلّة التامّة للحكم الشرعي الواقعي أو الحكم الشخصي ببقائه ، فيرد عليه : أنّ جريان الاستصحاب على تقديره غير معقول ؛ ضرورة أنّ العلم بوجود العلّة التامّة يستحيل اجتماعه مع الشكّ في وجود الرافع ، لتركّبها (6) منه أيضا.

وإن أراد ما هو الظاهر من لفظ المقتضي من العلّة الناقضة للحكم النفس الأمري أو الحكم الشخصي ببقائه على أن يكون المراد به الدليل على ما يرشد إليه فرض الشكّ في وجود المانع وعدمه كما هو صريح ذيل الاحتجاج ، ففيه : أنّه لا يمكن إثبات المعلول بمجرّد وجود المقتضي ما لم يحرز عدم المانع.

فالحكم بسلامة المقتضي بعد تعارض الاحتمالين مع عدم ترجيح جانب العدم على

ص: 67


1- « ز ، ك » : دلالتها.
2- « ج » : مراد.
3- « ج » : فيما.
4- خبر لقوله : « إنّ بعد الغضّ ... ».
5- عرفت في ص 31 - 33.
6- « ج » : لتركّبهما.

الوجود ليس بسليم ، وإحراز عدم المانع بالأصل يوجب الدور المحال على تقدير كونه استصحابا ، وينافيه ظاهر الاحتجاج ؛ حيث إنّ المستفاد منه أنّه برهان تامّ من غير أن يكون لشيء (1) فيه مدخلية على تقدير كونه غير الاستصحاب من سائر الأصول ، والإنصاف أنّ هذا الكلام من المحقّق مبنيّ على ما ستعرف (2) من أنّ بناء العقلاء مستقرّ على عدم الأخذ باحتمال المانع بعد إحراز المقتضي ، بل بمجرّده يحكمون بوجود المقتضى وإن كان فيه من الخفاء (3) ما لا يكاد يخفى ، وقد مرّ (4) استظهارنا التعبّد العقلائي من هذه الجهة (5) وما يتلوها ، فتدبّر.

الثاني : ما ذكره شيخنا البهائي رحمه اللّه (6) - وقد سبقه في الاحتجاج به (7) جماعة من الجمهور - من أنّه لو لم يكن حجّة لم تتقرّر المعجزة ، وبطلان التالي غنيّ عن التنبيه ، وأمّا الملازمة فلما ذكره الفخري في المحصول (8) من أنّ المعجزة فعل خارق العادة وهي اعتقاد وقوع الفعل على ما عهد وقوعه قبل ذلك وهو الاستصحاب ، وتوضيحه أنّ الأشياء الخارجية (9) الواقعة في ظرف الخارج لا بدّ وأن تكون (10) باقية على ما هي عليها حتّى يثبت النبوّة بالمعجزة ، وإلاّ فيحتمل أن يكون تسبيح الحصى أو انشقاق القمر أو إحياء الأموات مستندا إلى غير خارق العادة ، فينسدّ باب إثبات النبوّة ، وبقاؤها على ما هي عليها ليس إلاّ الاستصحاب.

وفيه : أنّه على تقدير الاستصحاب لا يثبت النبوّة أيضا ؛ إذ غاية ما يستفاد منه الظنّ وهو لا يغني من الحقّ شيئا ، فلا بدّ من تحصيل العلم باستناد الأفعال الواقعة من مدّعي النبوّة إلى معجزته لا إلى الاتّفاق.

ص: 68


1- المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : شيء.
2- ستعرف في ص 231 وأشار إليه أيضا في ص 85.
3- « م » : الخفايا.
4- مرّ في ص 56.
5- « ج » : الحجّة.
6- « ز ، ك » : - رحمه اللّه.
7- « م » : - به. زبدة الأصول : 106.
8- المحصول 6 : 120.
9- « ك » : الخارجة.
10- في النسخ : يكون.

الثالث : أنّ الاستصحاب يفيد الظنّ ، والظنّ الحاصل منه حجّة ، فالاستصحاب حجّة ، أمّا الصغرى فلوجهين :

أحدهما : الوجدان ، فإنّ الفطرة السليمة والسجيّة المستقيمة حاكمة بالفرق بين الشكّ في الوجود المسبوق بمثله والعدم المسبوق بعدم آخر ، وبين الشكّ فيهما المسبوق كلّ منهما بنقيض الآخر كما في الشكوك الابتدائية ، فكما أنّ وقوف مركب القاضي لدى باب (1) الحمّام أمارة ظنّية على كونه فيه (2) ولا ارتباط بينهما ، وإلاّ كان دليلا ، فكذا في المقام ، فإنّ الوجود (3) السابق أمارة ظنّية على بقاء الموجود في زمن الشكّ كما لا يخفى على من راجع وجدانه وأنصف من نفسه.

وثانيهما : جري السيرة القطعية العقلائية على العمل على طبق الحالة السابقة وترتيب أحكامها حال الشكّ فيها ، كما يشاهد ذلك بالرجوع إلى ديدنهم في إرسال المراسيل من المكاتيب والجوائز والودائع والأمتعة والأقمشة ، فإنّهم لا يزالون يتعاملون على هذه الطريقة ويتعاطونها من غير ملاحظة دقيقة احتمال الارتفاع مع كثرة أسبابه ولو احتمالا ولا أقلّ من احتمال سدّ الطريق وعدم بقاء المرسول (4) إليه ، بل وعدم بقاء الرسول ، إلى غير ذلك ممّا لا يكاد يحصيها نطاق البيان ، فهذه الأعمال منهم لا يخلو إمّا أن يكون لا لمرجّح مخصّص لأحد طرفي الوجود والعدم في تلك الأعمال ، أو يكون لمرجّح ؛ لا سبيل إلى الأوّل ، لامتناع صدورها عن العامل بعد فرض الاختيار ، فتعيّن الثاني ، وهو إمّا أن يكون مرجّحا واقعيا أو مرجّحا ظاهريا ؛ لا سبيل إلى الثاني ، لانحصار المرجّح الظاهري في أمثال المقام في الاحتياط بمعنى العمل على وجه لعلّه يوصله إلى المطلوب ، ولا شكّ في (5) أنّ موارد (6) الأخذ بالحالة السابقة غير

ص: 69


1- « ج ، م » : - باب.
2- « ز ، ك » : في الحمّام.
3- « ز ، ك » : الوجوب.
4- « ز ، ك » : المرسل.
5- « ز ، ك » : - في.
6- « ز ، ك » : مورد.

منطبقة غالبا على الاحتياط ، فإنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه بحسب المورد ، ويرشدك إلى ذلك ملاحظة حالهم في إرسال المراسيل ، فإنّ المطلوب فيه أمران : سلامة الأمتعة ، ووصولها إلى المرسول إليه ، ولا يعلم حصول الثاني بالإرسال ؛ لاحتمال التلف ، فليس هذا من موارد الاحتياط ، فتعيّن أن يكون المرجّح مرجّحا واقعيا وليس في المقام ما يحتمل كونه مرجّحا إلاّ الظنّ ، فلو لم يفد الاستصحاب الظنّ للزم (1) خلوّ الأفعال والأعمال في تلك الموارد عمّا يقتضي رجحان أحد طرفي الوجود والعدم ، وهو فطري الاستحالة ، وليس لأحد أن يقول باختصاص ما ذكرنا بالأمور المتعلّقة بالمعاش دون الأحكام المرتبطة بالمعاد من الأحكام الشرعية ؛ لظهور استقرار بناء أهل الشرع من أصحاب النبيّ وأتباع الأئمّة عليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام (2) على العمل على طبق الحالة السابقة في الأحكام المأخوذة عنهم من غير اختلال في ذلك باحتمال النسخ ، سيّما النائين عنهم ، ويرشدك إلى ذلك ملاحظة حال المقلّدة (3) في أخذ فتاوى المفتين ، فإنّهم لا يبالون في العمل بها باحتمال الرجوع عنها (4) ونحو ذلك من احتمال الفسق أو الموت أو الجنون.

وأمّا الكبرى فلوجهين أيضا :

الأوّل : بناء العقلاء على الاعتماد على مثل هذا الظنّ كما سمعت في الأمثلة المذكورة ، سواء في ذلك الأمور العرفية أو الشرعية.

فإن قلت : نعم ولكن ما الدليل على اعتبار بنائهم في أمثال المقام.

قلت : الدليل على اعتباره تقرير المعصوم لفعلهم ، ورضاؤه بعملهم على طبق الحالة السابقة واتّكالهم في الأحكام المأخوذة عنهم إلى مثل ذلك ، وعدم ردعهم إيّاهم بالأمر بالسؤال عنهم مرّة بعد مرّة ؛ ضرورة عدم كون تلك الأحكام مقرونة بما يستفاد

ص: 70


1- « ج » : لزم.
2- « ك » : التحيّة.
3- « ج » : المقلّدين.
4- « ج » : عنهما.

دوامها منه ، واحتمال عدم اطّلاعهم على هذا الأمر الشائع بينهم (1) مع كونه بمكان من محلّ ابتلائهم ، بمكان من البعد جدّا ، بل ومستحيل عادة وإن لم نقل بإحاطة علمهم فعلا ، كاحتمال أن يكون ذلك منهم عليهم السلام تقيّة ، وإلاّ لبطلت الأحكام عن آخرها ، وأوضح فسادا من الكلّ وقوع الردع وعدم الوصول إلينا ؛ لوضوح توفّر الدواعي على نقل مثل هذه الأمور ، لابتلاء العامّة بذلك ، فحيث لم نظفر (2) عليه فنعلم بأنّهم عليهم السلام قد وكلهم إلى ما هو المركوز في أذهانهم والمجبول عليه طباعهم كما في غيره من وجوه اختلاف طرق الإطاعة والعصيان ، ومنه استكشاف المطالب من العبائر واستعلام المقاصد من الدفاتر إلى غير ذلك من النظائر الموكولة إلى عقولهم.

فإن قلت : قد تواترت الأخبار في النهي عن العمل بمطلق ما وراء العلم ، ومنه الظنّ الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة ، مضافا إلى الآيات القرآنية والضرورة الدينية كما مرّ في محلّه (3) ، ولا فرق في الرادع بين العموم والخصوص ، فالردع حاصل والخصم غافل.

قلت : بعد تسليم كفاية العموم في الردع كما هو قضيّة الإنصاف على ما يقضي به الوجدان الخالي عن الاعتساف ، أنّ الأدلّة المذكورة لا تنهض ردعا في المقام ؛ لما قد تحقّق في مباحث الظنّ (4) أنّ المرجع فيها إلى أمرين ، أحدهما : حرمة التشريع ، وثانيهما : طرح الأصول القطعية في مقابل تلك الظنون ، وشيء (5) منهما (6) لا يتمشّى في المقام.

أمّا الأوّل : فظاهر ؛ إذ ليس الأخذ بالحالة السابقة من التشريع في شيء ، بل التعويل إنّما هو على ثبوت الحكم في الزمن الأوّل ، وليس هذا من إدخال ما ليس من الدين فيه.

ص: 71


1- « ج » : منهم.
2- « ج ، م » : لم نعثر.
3- مرّ في بحث الظنّ : ج 3 ، ص 69 - 71.
4- تحقّق في ج 3 ، ص 69.
5- « م » : شيئا. « ج » : إنّ شيئا.
6- « م » : - منهما.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصول المعمولة في قبال الاستصحاب أحد الأصول الثلاثة : البراءة والاحتياط والتخيير ، ولا دليل على اعتبارها فيما خالف الاستصحاب أحدها ؛ لوضوح أنّ عمدة المدرك فيها العقل وبناء العقلاء ، والمفروض في المقام أنّ بناءهم على طرح (1) تلك الأصول والاعتماد على الحالة السابقة ، ففيما لو كان الشكّ في التكليف يعوّلون على الحالة السابقة ولا يعتمدون على البراءة كما في استصحاب الوجوب السابق أو الحرمة السابقة ، ويأخذون بها فيما (2) كان المورد من مجاري الاشتغال كما في استصحاب عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبمثله يقولون (3) فيما لو كان المورد من موارد التخيير ، فلا تنهض الأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم حجّة في المقام ، فلا جدوى فيما رامه (4) المعترض (5) من إثبات الردع ، نعم لو كان اعتبار تلك الأصول بواسطة الأدلّة السمعية من غير احتمال رجوعها إلى ما يستفاد من العقل ، فيصير الأخذ بالاستصحاب المخالف لأحدها طرحا لها من غير دليل ، إلاّ أنّ من المحقّق في محلّه رجوعها إلى ما يستفاد من العقل ، فيتّحد مفادهما.

وتحقيق المقام وتوضيحه أنّ المخالف للاستصحاب إمّا أن يكون هو الدليل أو الأصل ، فلا كلام (6) في ورود الدليل على الاستصحاب وهو خارج عن مفروض المسألة ؛ لوجوب الفحص عن الدليل في موارد الاستصحاب ، وأمّا الأصل فلا مجرى له في موارد الاستصحاب لتعويل العقلاء على الحالة السابقة على تقدير كونها مظنونة ، ولا يمكن النهي عن العمل بالظنّ الاستصحابي حينئذ والأخذ بأحد الأصول الموهومة ؛ لكونه ترجيحا للمرجوح على الراجح ، فلو حصل الظنّ بوجوب شيء (7) في

ص: 72


1- « م » : ترك.
2- « ج » : + لو.
3- « ز ، ك ، ج » : نقول.
4- « ج » : لزمه.
5- « ك » : المفرض ( ظ ).
6- « ج ، ز ، ك » : لا كلام.
7- « ج ، م » : شيء واجب.

السابق فكيف يسوغ للشارع النهي عن العمل به والأخذ بالموهوم ، وأمّا ما يرى من النهي عن العمل بالقياس وأضرابه من الظنون الباطلة ، فلعدم استقرار بناء العقلاء على العمل به كما في الاستصحاب ، وليس المدار في كلامنا على مجرّد الظنّ ، بل الظنّ الخاصّ الذي استقرّ بناء العقلاء على العمل به (1).

فإن قلت : بعد وجود مناط البراءة وتحقّق مدركها في موارد الاستصحاب - وإن كان مفيدا للظنّ - من قبح العقاب بلا بيان ، كما في الاحتياط من حكم العقل بلزوم دفع الضرر ولو كان محتملا ولو (2) وهما ، لا وجه للقول بطرحها والأخذ بالاستصحاب ؛ إذ الظنّ الاستصحابي لا دليل على كونه بيانا كما أنّه لا دليل على كونه دافعا للضرر ، فاللازم هو الأخذ بأحد الأصول دون الاستصحاب.

قلت : لا نسلّم قبح العقاب فيما إذا كان الظنّ الاستصحابي على الخلاف ، وكذلك المناط في الاحتياط ؛ إذ لا يجب عند العقل دفع الضرر الاحتمالي وإن كان قد يحسن عنده دفعه ، وقس عليهما حال التخيير (3) ؛ إذ مرجعه حقيقة إلى البراءة. هذا (4) غاية توجيه كلماتهم مع اختلافها غاية الاختلاف.

الثاني (5) : أنّ باب العلم في الأحكام العاديّة والشرعية منسدّ لهم غالبا ، والأخذ بالبراءة والاحتياط وطرح الحالة السابقة يورث اختلال نظامهم ، فلا بدّ من الركون إلى الحالة السابقة وهو المطلوب.

وكلّ من الوجهين المذكورين في بيان الكبرى يظهر منهم كما يشعر بذلك عبارة القوانين (6) فلاحظها ، إلاّ أنّ المقصود من الوجه الأوّل إثبات حجّية الظنّ (7)

ص: 73


1- « ج ، م » : - به.
2- « ج » : + كان.
3- « ج ، م » : وقس حال التخيير عليهما.
4- المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : وهذا.
5- تقدّم الأوّل منهما في ص 70.
6- انظر القوانين 2 : 57 - 58.
7- « م » : ظنّ.

الاستصحابي ولو لم نقل بمطلق المظنّة ، والمقصود من الثاني اندراجه في دليل الانسداد على ما حرّرنا كلاّ من الوجهين بما لا مزيد عليه.

ومع ذلك فوجوه النظر ممّا لا يكاد يخفى على أحد :

أمّا أوّلا : فبمنع الصغرى ، فإنّه إن أريد أنّ الاستصحاب مفيد للظنّ في جميع موارده ، فيكذّبه (1) الوجدان ، فإنّ من المشاهد بالعيان عدم إفادته الظنّ في جملة منها ، بل ولم نر من ادّعى ذلك أيضا وإن حكم بعضهم بدوران اعتباره مدار الظنّ ، ومع ذلك فقد رموه بالمخالفة كلّ المخالفة.

وإن أريد أنّه لو خلّي وطبعه ومن حيث ملاحظته في نفسه مع قطع النظر عمّا يوهن ذلك من القضايا الخارجية والأمور المكتنفة بالواقعة الاستصحابية ، مفيد للظنّ وإن لم يفده في بعض الأحيان لبعض الموانع ، فلك أن تقول : إنّه في نفسه لا يفيد الظنّ وان كان قد يفيده باعتبار أمر خارج كالغلبة ، بل ولعلّه كذلك أيضا ، فإنّ التدبّر في موارده يقتضى بأنّ منشأ الظنّ في محلّ حصوله إنّما هو الغلبة في منشأ الشكّ وسبب الاشتباه ويدور الظنّ مدار وجود الغلبة ، والذي يرشدك إلى ما ذكر - من أنّ مجرّد الحالة السابقة ليس سببا لحصول الظنّ بعد امتناع الظنّ بالمعلول مع الشكّ في العلّة كما يساعد عليه الاعتبار الصحيح - أنّ ذلك يستلزم أن يكون حصول الظنّ من الأفعال الاختيارية التي لا واقع لها إلاّ بعد الاختيار مع أنّ الضرورة قضت بكونه كالعلم من الأمور الواقعية التي لها أسباب واقعية ، غاية ما في الباب أنّ المكلّف لو حاول تحصيل واحد منهما من ملاحظة أسبابهما الواقعية يمكن له ذلك. وأمّا اللزوم المذكور فيظهر بملاحظة ما لو (2) علم بالاشتغال بالصلاة مع جهل القبلة وانحصارها في جهتين - مثلا - عند المكلّف ، فإن أراد أن يظنّ (3) بالاستصحاب أنّ القبلة في طرف ، يصلّي أوّلا في غير

ص: 74


1- « ج » : فتكذّبه.
2- « م » : - لو.
3- « ز ، ك » : أنّ الظنّ.

ذلك الطرف ، فيستصحب الاشتغال ويظنّ ببقاء (1) التكليف ، وهو يلازم الظنّ بكون القبلة في الطرف الباقي ؛ إذ المفروض انحصار الجهة في الباقي ، ومن المعلوم أنّ الظنّ ببقاء التكليف لا يعقل بدون الظنّ بكون القبلة في الجهة الباقية ، وإن أراد أن يظنّ (2) بكون القبلة في غير ذلك الطرف ، يصلّي أوّلا في ذلك الغير ، فيستصحب التكليف فيظنّ ببقائه ، ويلازمه (3) الظنّ بكون القبلة في الجهة الباقية على نحو ما عرفت في عكس ذلك في الصورة الأولى ، بل لك أن تقول : ذلك يستلزم حصول الظنّ على طرفي الخلاف (4) ، فإنّا لو حاولنا إملاء حوض من الماء فبعد وصول الماء إلى حدّ مخصوص من الحوض نشكّ في كونه كرّا ، فباستصحاب عدم الكرّية يحصل الظنّ بعدمها ، ولو كان ذلك الحوض مملوّا من الماء وعلمنا بكونه مقدار الكرّ ، ثمّ انتقص (5) الماء إلى أن وصل إلى ذلك الحدّ المخصوص المفروض في العكس ، فباستصحاب الكرّية يحصل الظنّ بكونه كرّا مع ظهور امتناع كون المقدار المخصوص مظنون الكرّية وعدمها ، ومن هنا طعن بعض الأخباريين على المجتهدين بأنّه كيف يمكن (6) حصول الظنّ على طرفي الخلاف ، فالقول بأنّ مجرّد الحالة السابقة من أسباب الظنّ واه جدا.

وأمّا ما استند إليه المستدلّ بانحصار المرجّح الواقعي في الظنّ ، فلا دلالة فيه على كون السبب فيه هو الحالة السابقة ؛ إذ لعلّه يستند إلى الغلبة كما قد تقوّى في بعض الموارد على ما ستعرف.

وأمّا ثانيا : فبمنع الكبرى ، فلأنّ المستدلّ إن أراد تقرير المعصوم في العمل بالظنّ الاستصحابي في أمور معاشهم من غير ارتباط بالأحكام الشرعية كما في أكثر الأمثلة الموردة (7) عن القائلين به ظنّا ، فما علينا من إبطال ذلك أو إحقاقه فعهدته على مدّعيه.

ص: 75


1- « ز ، ك » : بقاء.
2- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : « أنّ الظنّ ».
3- « ج » : يلازم.
4- « م » : - الخلاف.
5- « ز ، ك » : نقص.
6- « ز ، ك ، م » : - يمكن.
7- « م ، ج » : الموروثة.

وإن أراد إثبات التقرير بالعمل به في موضوعات الأحكام ، فقد قام الإجماع على عدم جواز العمل بالظنّ فيها حتّى من القائلين بمطلق الظنّ - أعاذنا اللّه منه - والتقرير فيه غير موجود ؛ لوجود الأدلّة الرادعة فيها من قوله : « كلّ شيء مباح حتّى تعلم أنّه حرام » (1) و « إنّ كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (2) ونحوهما ممّا يدلّ على عدم جواز التعويل بغير العلم ، والمفروض أنّ الاستصحاب منه بعد ؛ لعدم دلالة على اعتباره حينئذ ، وإن أراد دعوى استقرار بناء العقلاء في الأحكام الشرعية على الأخذ بالحالة السابقة ، فممنوعة ، فضلا عن تقرير المعصوم عن ذلك.

وأمّا ما استند إليه من استصحاب عدم النسخ في الأحكام المأخوذة عنهم عليهم السلام بالنسبة إلى أصحابهم وأتباعهم ، فيرد عليه : أنّا لا نسلّم أنّ (3) استنادهم في ذلك إلى مجرّد الاستصحاب ، بل العلم العاديّ حاصل لهم بعدم النسخ ، ومنه يظهر الوجه في منع العمل بالفتاوى بالنسبة إلى المقلّدة بواسطة الاستصحاب عند الشكّ في موت المفتي أو حياته (4) ، كيف والأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ فوق حدّ الإحصاء. و (5) قول المستدلّ بعدم (6) الكفاية في الردع ، ممنوع (7) ؛ للقطع بالكفاية وإن كان يحسن المنع بالخصوص أيضا ، مثلا لو شرب الخمر بمحضر من الإمام فعدم ردعه لو فرض لا يدلّ على جواز شربه بعد ما قرع الأسماع (8) قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ [ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ ] رِجْسٌ ) (9) نعم يحسن ذلك إجمالا ، فيدور مدار الموارد ، وأمّا ما زعمه من عدم دلالتها على الردع بواسطة رجوعها إلى نفي التشريع - والاستصحاب

ص: 76


1- وسائل الشيعة 17 : 89 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4 ، وفيه : « كلّ شيء لك حلال ... ».
2- وسائل الشيعة 3 : 467 ، باب 37 من أبواب النجاسات ، ح 4 ، وفيه : « كلّ شيء نظيف ... ».
3- « ج ، م » : - أنّ.
4- « م » : جنونه.
5- « ج ، و » : - و.
6- « ج ، م » : لعدم.
7- « ج ، م » : + عليه.
8- « ك » : الاستماع.
9- المائدة : 90.

ليس منه - فهو باطل ؛ إذ الاستصحاب بعد لم يثبت اعتباره ، والعمل بأمارة حالها كذلك تشريع قطعا ؛ إذ الأخذ بالحالة السابقة ليس موافقا للاحتياط في جميع الموارد ، فلا ينفكّ عن التشريع البتّة.

وأمّا طرح الأصول القطعية من البراءة والاحتياط والتخيير ، فلزومه على تقدير الاستصحاب والأخذ به قطعي ، ولا ينافيه استقرار بناء العقلاء على العمل به بعد عدم دليل على اعتباره ، كما في غير الاستصحاب من الظنون المعمولة عند العقلاء الممنوع عنها شرعا كالظنّ الحاصل من قول البريد والمراسيل ، والقول باعتبار تلك الأصول عقلا لا ينافي ذلك ؛ إذ المفروض قطع العقل باعتبار البراءة عند الشكّ أو ما يرجع إليه من الظنون المشكوكة التي منها الاستصحاب ، وكذا الاحتياط ؛ إذ الحكم به في موارده قطعي على ما تقضي (1) به صراحة العقل ، فتلك الأدلّة الناهية تدلّ على أنّ الظنّ ليس مناطا للإطاعة والمخالفة ولا يكفي في تحصيل الثواب والمنفعة وفي دفع العقاب والمضرّة ، فكيف يمكن القول بعدم كفاية مثل هذه الأدلّة في الردع (2)؟ فالظنّ (3) الحاصل من الاستصحاب في نظر الشارع كعدمه كالظنّ الحاصل من القياس.

وأمّا ما رامه المستدلّ من إثبات حجّية الظنّ الاستصحابي بالخصوص ، فمناف لما قرّره من قوله : فكيف يسوغ للشارع النهي عن العمل به والأخذ بالموهوم؟ فإنّ ذلك على فرض صحّته (4) لا يقضي بخصوص الاستصحاب ، بل مقتضاه اعتبار مطلق الظنّ كما هو ظاهر ، وأفسد من ذلك كلّه منعه عن استقرار بناء العقلاء على العمل بالقياس أو إناطة بعض الأمور المتعلّقة بهم (5) ممّا لا يمكن إنكاره.

وأمّا ما أورده من الوجه الثاني في مقام إثبات الكبرى من اندارجه تحت مطلق

ص: 77


1- « ك » : يقضي ، وفي « ج » : يقتضي.
2- « ز ، ك » : النزاع.
3- « ج » : والظنّ.
4- « ز ، ك » : حجّيته.
5- « ز ، ك » : به ، وكذا كتب فوقها في نسخة « م ».

الظنّ الثابت اعتباره بدليل الانسداد ، فقد فرغنا عن تحقيقه وتنقيحه صحّة وفسادا بما لا مزيد عليه في مباحث (1) الظنّ ، فليراجع ثمّة.

وأمّا ثالثا : فبعد تسليم المقدّمتين لا ريب في عدم انتهاضه بتمام المدّعى ؛ لاختصاصه بالاستصحاب المفيد للظنّ ، والمدّعى - بقرينة الأخذ به والرجوع إليه في موارد لا يفيد الظنّ كالنجاسة والطهارة كما يظهر من ديدنهم ويوضحه تقديمهم الأصل (2) على الظاهر - أعمّ من المفيد له ومن غيره.

فإن قلت : عدم إفادة الاستصحاب الظنّ في جميع الموارد إنّما يضرّ (3) فيما لو أراد المستدلّ القول بإفادته الظنّ الشخصي وليس كذلك ، بل قد يكون المستدلّ من أرباب الظنون النوعية ، فيتمّ الاستدلال ؛ إذ لا أقلّ من القول بإفادة الاستصحاب في الموارد المتخلّف عنها الظنّ أنّه لو خلّي وطبعه يفيد الظنّ.

قلت : ومع ذلك أيضا ممّا لا يكاد يتمّ ؛ لظهور الفرق بين الاستصحاب وغيره من الأدلّة الظنّية ، فإنّ عدم إفادة الاستصحاب الظنّ في صورة دليل على خلافه ليس بواسطة وجود المانع عن إفادته الظنّ كما هو كذلك في سائر الأدلّة الظنّية بملاحظة امتناع قيام الظنّ على طرفي الخلاف ، بل بواسطة عدم المقتضي ، فإنّ الظاهر على ما يساعد عليه كلماتهم أنّ شرط إفادة الاستصحاب الظنّ هو عدم الظنّ الخارجي على خلافه ، يدلّ على ذلك قول العضدي (4) في أوّل الاستصحاب : « ولم يظنّ عدمه » وإلاّ لما كان لأخذ القيد المذكور وجه ؛ ضرورة استحالة اجتماع الظنّين على طرفي النقيض ، فأخذ هذا القيد يدلّ على أنّ من جملة أجزاء المقتضي للظنّ الاستصحابي هو عدم الظنّ الخارجي ، فلا ينافي القول بالظنّ النوعي عند قيام الظنّ على خلاف

ص: 78


1- « م » : فيما مرّ من. وفي « ج » : فيما مباحث.
2- « ز ، ك » : تقديم الأصل.
3- « ز ، ك » : يظهر.
4- شرح مختصر المنتهى : 453 ، وتقدّم نقله عنه في ص 11.

الاستصحاب ، لعدم المقتضي للظنّ إذا ، ولا أقلّ من بقاء المقتضي في الظنون النوعية ، وهذا هو السرّ في تقديم سائر الأدلّة الظنّية على الاستصحاب على تقدير القول به ظنّا مع كونه من الأدلّة الاجتهادية أيضا على ما ستعرف في محلّه إن شاء اللّه (1).

وأنت بعد ما أحطت خبرا بما تلونا (2) تقدر على رفع ما عساه أن يقرّر الوجه المذكور بتقريب أنّ بناءهم مستقرّ على الأخذ بالحالة السابقة تعبّدا عقلائيا من غير إناطة لحصول الظنّ ؛ إذ - بعد الغضّ عن عدم معقولية كون الشكّ مرجّحا ، لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح ، فلا يعقل دعوى استقرار بناء العقلاء على مثله - عدم دليل على اعتبار بنائهم ، على أنّه لم يذهب إليه فيما وجدناه وهم ، فإنّ الظاهر من القدماء اعتباره ظنّا وإن كان قد يوهم ذلك بعض وجوه احتجاجاتهم كما أومأنا إليه فيما تقدّم ، فتذكّر.

ثمّ إنّ السيّد الصدر المحقّق قد أورد في المقام كلاما (3) وسلك في انتهاض الدليل على مطلبه مسلكا جديدا وطرزا طريفا لا بأس بذكر كلامه حتّى تحرّى في الاعتراض عليه على منواله ، فقال : إنّ العقل إذا لاحظ الممكن - الذي (4) شأنه دوامه بدوام علّته التامّة وزواله بزوالها في زمان يكون من المحتمل عنده أن تحدث علّة الزوال وهي زوال (5) جزء (6) من أجزاء العلّة التامّة فيعدم الممكن ، أو لا تحدث فيبقى الممكن لوجود علّة الوجود - يرجّح جانب الوجود مع ملاحظة تحقّقه السابق وإن كان هو والعدم متساويين في النظر مع ملاحظة (7) حدوث علّة العدم (8) وعدم حدوثها ، فيكون الوجود معلوما متيقّنا أوّلا ، ومشكوكا فيه مع قطع النظر عن اليقين السابق ثانيا ، ومظنونا بعد ملاحظة اليقين السابق ثالثا ، ولا يجوز لعاقل أن يدّعي أنّ نسبة وجود قرية رآها على ساحل بحر كان احتمال خرابها به وبقائها متساويين إلى عدمها عنده ، كنسبة وجود

ص: 79


1- « ز ، ك » : - إن شاء اللّه.
2- « ج ، م » : - بما تلونا.
3- « ز ، ك » : في المقام لطيفا.
4- في المصدر : الممكن الموجود الذي من شأنه.
5- في المصدر : « عدم » بدل : « زوال ».
6- « ج ، م » : جزء زوال.
7- في المصدر : + تساوي.
8- « ج » : القدم.

قرية أخرى إلى عدمها عنده مع تساوي احتمالي بقائها وعدمه ، كيف وهو يسافر بقصد التجارة إلى الأولى دون الثانية ، ومعلوم أنّ هذا الرجحان لا بدّ له من موجب ؛ لأنّ وجود كلّ معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالا ، وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ؛ لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه (1) أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ أن يستمرّ وجوده بعد التحقّق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاصّ للإلحاق بالأعمّ الأغلب ، قال : هذا إذا لم يكن رجحان الدوام مؤيّدا بعادة (2) أو أمارة أخرى ، وإلاّ فيقوّى بحسب تلك الأمارة والعادة ، وقس على الوجود حال العدم إذا تيقّنّا (3) ، مع أنّ استمرار العدم الازلي للممكن الحادث إلى وقت تمام (4) علّته التامّة يقيني (5) ، انتهى كلامه رفع مقامه (6).

وهو رحمه اللّه (7) وإن دقّق النظر فيما ذكره إلاّ أنّ الحقّ أحقّ بأن يتّبع ، فنقول في الجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبالنقض بالموارد التي لا يفيد ظنّا مع وجود الغلبة المذكورة ، بل قد عرفت امتناع حصول الظنّ في بعض المقامات (8) وإلاّ لزم إمّا حصول الظنّ على وجه اختياري ، وإمّا قيام الظنّ على طرفي النقيض كما مرّ مفصّلا.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، وتحقيقه أنّ هذه الغلبة لا يمكن أن تصير (9) سببا لحصول الظنّ ، أمّا إجمالا فلأنّ الغلبة والاستقراء لا يعقل أن يكون سببا للظنّ إلاّ بعد انتزاع القدر الجامع بين الأمور المستقرأة فيها وبين المشكوك على وجه يظنّ بكونه مناطا في الحكم الساري في الأفراد ، ووجود مثله ممنوع ، والأعمّ منه كالوجود غير حجّة.

ص: 80


1- « ج » : نسبة!
2- « ج ، ز » : لعادة.
3- في المصدر : إذا كان يقينيا.
4- في المصدر : أن تتمّ.
5- شرح الوافية ( مخطوط ) 128 / أ.
6- « ز ، ك » : - رفع مقامه.
7- « ج ، م » : - رحمه اللّه.
8- « ز ، ك » : المقدّمات.
9- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يصير.

وأمّا تفصيلا فبيانه (1) يتوقّف على تحقيق معنى الغلبة وأقسامها ، فنقول : هي (2) عبارة عن كون الجزئيات المندرجة تحت كلّي في الأكثر على حالة واحدة بحيث يظنّ إلحاق المشكوك منها - مع قطع النظر عن ملاحظة تلك الجزئيات - بها بعد ملاحظتها ، والاستقراء عبارة عن تصفّح الجزئيات لإثبات حكم المشكوك وإلحاقه بها ، ولا ريب أنّ مجرّد ملاحظة الجزئيات مع قطع النظر عن استكشاف الجامع بين الأفراد لا يعقل أن يكون مفيدا للظنّ ، وإلاّ يلزم أن يكون الجزئي كاسبا ومكتسبا ، بل لا بدّ من الظنّ بالقدر الجامع ليترتّب عليه الظنّ بالنتيجة ، ومن هنا يظهر الوجه في انحصار الحجّة في القياس ؛ لأنّ الاستقراء والتمثيل ما لم يستخرج منهما القدر الجامع (3) يمتنع منه (4) حصول الظنّ ، وعلى تقدير الاستخراج ينقلب قياسا ، غاية الأمر فيما إذا لم يكن الاستقراء أو التمثيل قطعيا يكون إحدى مقدّمتي القياس ظنّية ، فتكون (5) النتيجة أيضا ظنّية ؛ لتبعيتها (6) أخسّ مقدّماتها (7) ، فالفرق بين الغلبة والاستقراء - على ما نبّهنا عليه - أنّها صفة الأفراد ، والاستقراء وجدانها كذلك ، وقد يكون ملاحظة بعض الأفراد مفيدة للظنّ بالقدر الجامع وهذه وإن كانت ملحقة بالاستقراء حكما إلاّ أنّ الواقع خروجها منه موضوعا ، وبمثله نقول في الغلبة أيضا.

وأمّا لو فرض عدم استخراج القدر الجامع إمّا للشكّ في وجوده أو للقطع بعدمه ، فلا ريب في امتناع حصول الظنّ ، فلا يمكن إلحاق الفرد المشكوك ، وذلك كما إذا احتملنا أو علمنا بأنّ الحكم في كلّ واحد من الأفراد مسبّب عن سبب خاصّ غير مشترك بين الفردين من النوع مثلا ، فلو علمنا بوجود دود في الدار فبغلبة بقاء

ص: 81


1- « ج » : فبأنّه.
2- « ز ، ك » : « الغلبة ».
3- « ز ، ك » : منهما التقدير.
4- « م » : فيه.
5- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : فيكون.
6- « ز ، ك » : لتبعية النتيجة.
7- « م » : مقدّماتهما.

الأشياء القارّة كالأرض والسماء والماء والهواء لا يصحّ الحكم ببقائه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الغلبة قد تكون (1) جنسية وهي ما إذا كانت الأفراد الموجودة على صفة أفراد الجنس (2) ، كما إذا شككنا في استدارة جسم من الأجسام السفلية من المعادن أو النبات (3) أو الحيوان - مثلا - فإنّه يحكم فيه بعدمها ؛ لأنّ الغالب في الموجودات الجسمانية المركّبة عدم الاستدارة ، ثمّ إنّ الغلبة الجنسية كنفس الأجناس متدرّجة في المراتب ، والفرض غير خفيّ ، وقد تكون (4) نوعية كما في أفراد الإنسان فيما إذا وجدناها (5) على صفة واحدة ككونها في الأغلب على رأس واحد مثلا ، وقد تكون صنفية كما في أفراد الزنجي فإنّ الغالب فيها السواد مثلا ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأصناف المندرجة تحت صنف فقد يكون أهل بلد (6) مخصوص من الزنج على خلاف أفراد الصنف المطلق ، كما في الغلبة الجنسية أيضا تصير مختلفة على ما عرفت ، ولا شكّ في حصول الظنّ من الأقسام المذكورة ، ولا بدّ من الأخذ به أيضا على تقدير القول به أعاذنا اللّه منه بحقّ محمّد وآله (7) ، ولكن ذلك فيما إذا لم تكن (8) الغلبة معارضة (9) بغلبة أخرى.

وأمّا إذا تعارضت الغلبتان الجنسية والنوعية أو الصنفية أو أصناف الصنف كما لا يخفى ، فالتحقيق (10) هو الإلحاق بالغلبة الخاصّة في جميع المراتب ؛ لأنّ منشأ الإلحاق في الغلبة هو الظهور على ما عرفت ، والغلبة النوعية أشدّ ظهورا من الغلبة الجنسية ، والصنفية أظهر من النوعية ، والصنف الخاصّ أظهر من الصنف المطلق ، فبالحقيقة يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، ولا شكّ في تقديم الأظهر على الظاهر

ص: 82


1- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.
2- « م » : أفرادا للجنس.
3- « ز ، ك » : النباتات.
4- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون ، وكذا في المورد الآتي.
5- « م » : - ها.
6- « ز ، ك » : مثل بلد ، وفي « ج » : هذا عليه.
7- « ز ، ك » : - بحقّ محمّد وآله.
8- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لم يكن.
9- « ج » : متعارضة.
10- « ز ، م » : التحقيق.

على ما هو المعهود من تقديم الخاصّ على العامّ.

والسرّ فيه هو أنّ العقل يلاحظ المشكوك بما هو أقرب منه ، مثلا لو فرضنا أنّ محلّة من محلاّت بلدة تقضي بأن تكون أهلها على صفة ، ونفس تلك البلدة تقضي بأن تكون على صفة أخرى ، فعند الشكّ في لحوق فرد من تلك المحلّة بأهلها أو بأهل بلدها ، فلا ريب في أنّ العقل إنّما يستكشف حكمه من أهل تلك المحلّة دون تلك (1) البلدة ، وأمثال هذه المطالب ممّا لا ينبغي الاشتباه فيها ، بل ممّا لا يكاد يشتبه على ما هو ظاهر (2).

وإذ قد عرفت ما مهّدنا (3) فنقول : إنّ التمسّك بغلبة بقاء الممكنات القارّة ممّا لا يجدي في الحكم ببقاء الأحكام الشرعية إلحاقا لها بالأعمّ الأغلب كما صدر عن السيّد الصدر ، لما عرفت من أنّ الغلبة لا يمكن حصول الظنّ منها (4) إلاّ بعد استخراج القدر الجامع القريب ، وانتفاؤه في محلّ (5) الكلام ممّا لا يعتريه أثر الشكّ ، فإنّ القول ببقاء قطرة من الماء في ثوب زيد حال الشكّ فيه إلحاقا لها بوجود الأرض والسماء والبحار والهواء ، لعلّه يقرب من أن يكون من مضحكات الثكلى.

فإن قلت : إنّ هناك مرحلتين : الأولى : أصل بقاء الشيء المشكوك بقاؤه وارتفاعه ، الثانية : مقدار بقائه على تقدير البقاء ، والذي لا يمكن إلحاقه من الأحكام الشرعية كالخيار - مثلا - بالموجودات القارّة ، لعدم القدر الجامع بينهما ، هو مقدار البقاء دون أصل البقاء ، ولعلّ السيّد إنّما قال بالإلحاق في المرحلة الأولى دون الثانية ، فإنّه لا بدّ في المرحلة الثانية (6) من ملاحظة الأحكام الصادرة من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم ، وملاحظة استعداد مقدار بقائها ، وبعد إحراز ذلك يحكم بالإلحاق ، ولم يظهر منه مخالفة

ص: 83


1- « ز ، ك » : - تلك.
2- من قوله : « بل ممّا » إلى هنا ليس في « ز ، ك ».
3- « م » : مهّدناه.
4- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : « منه ».
5- « ج ، م » : محالّ.
6- « ج ، م » : فإنّه في المرحلة الثانية لا بدّ.

في ذلك.

قلت : لا شكّ في اعتبار الوجود في الجملة ولو في زمان ما في الاستصحاب ، وبعد الوجود لا بدّ من الشكّ في البقاء والارتفاع ، وما يطلب من الاستصحاب هو مقدار البقاء لا أصل البقاء ، فإنّه عبارة عن الوجود الثابت في الزمان الثاني في الجملة ، وهو معلوم في الأغلب ، ولو رام إلى استصحاب أصل البقاء فهو أيضا فاسد ؛ إذ المفروض أنّه لا شكّ في البقاء في الجملة ، فلا يعقل الاستصحاب فيما لا يعقل فيه الشّك ، ومن هنا يظهر عدم استقامة ما أفاده المحقّق القمي رحمه اللّه (1) - (2) في توجيه ما أفاده السيّد ، ولعلّك بعد الإحاطة بما قرّرنا لك تقدر على استنباط وجوه النظر في كلام الموجّه أيضا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ بعد تقدير التسليم عن إفادة الغلبة الظنّ بوجود المشكوك ، فالمستدلّ بها مطالب بالدليل على اعتبار الظنّ ، ولعلّه مبنيّ على القول بمطلق الظنّ ، وقد عرفت فيما حقّقنا لك من مباحث الظنّ عدم دلالة دليل على اعتباره كما أومأنا إليه (3) في الردّ على الوجه الثاني في تقرير الكبرى من الدليل الثاني (4) وإن لم يكن المناقشة فيما يكون مبنيّا على أصل بإنكار ذلك الأصل مرغوبا إليها عند أرباب النظر والتحصيل ، ولكنّ الذكرى تنفع (5).

فالأولى في تقرير الغلبة لو قلنا باعتبارها أن يقال : إنّ (6) الغالب في الأحكام الصادرة من الموالي إلى العبيد أو خصوص الأحكام الشرعية هو البقاء ، ففيما إذا شكّ في بقاء حكم منها وارتفاعه يحكم العقل ظنّا بإلحاقه بالأغلب.

ولكنّه مع ذلك لا يكاد يتمّ ؛ إذ هو موقوف على استخراج القدر الجامع من الغلبة النوعية أو الصنفية ، ودعوى ذلك في الأحكام الشرعية عهدتها على مدّعيها ؛ ضرورة

ص: 84


1- « ز ، ك » : - رحمه اللّه.
2- القوانين 2 : 57.
3- أومأ إليه في ص 77 - 78.
4- كذا. والصواب الثالث.
5- « ز ، ك » : قد تنفع.
6- « ج ، م » : بإنّ.

انتفائه فيما إذا شكّ في استعداد الحكم الشرعي ، إذ لا طريق لنا إلى العلم بمقدار استعداده حتّى يقال بإلحاقه على الأحكام العرفية (1) على تقدير العلم باستعدادها.

وإن شئت التوضيح فلاحظ فيما إذا شككت في عروض مانع للحكم الشرعي أو مانعية عارض له ، فإنّه لا يمكن أن يقال - فيما إذا شكّ (2) في وجود البول بعد الطهارة - إنّ أمر السيّد الفلاني عبده بشراء لحم ، والآخر بضرب زيد ، والآخر بإكرام عمرو ، والآخر بضيافة خالد ، لم يعرض له مانع ، فكذلك لم يعرض المانع للطهارة ، كما أنّه لا يمكن أن يقال - فيما إذا شكّ في مانعية المذي للوضوء - إنّ (3) قلع الأشجار وجري الأنهار ودوران الفلك الدوّار وغيرها من الممكنات غير مانع ، فالمذي أيضا غير مانع.

فقد ظهر من جميع ما مرّ عدم صحّة الاستناد إلى الغلبة في الاستصحاب ، فإنّها لا تصير منشأ لحصول الظنّ منه ، والذي يمكن أن يقال في المقام هو أنّا نرى العقلاء مطبقين على الأخذ بأحكام الحالة السابقة فيما إذا شكّ في المانع بأقسامه بعد إحراز المقتضي ، سواء كان في الوجوديات أو في العدميات ، وإن لم نعلم بالوجه في ذلك فلا نعلم أنّ ذلك منهم مبنيّ (4) على الاستصحاب (5) أو على قاعدة العدم ، وستعرف (6) لذلك زيادة تحقيق وتنقيح في بعض الهدايات الآتية.

وأنت بعد ملاحظة ما اقتصرنا عليه من ذكر الحجج الظنّية وإيراداتها (7) تقدر على دفع سائر الوجوه التي لم نذكرها وهي كثيرة جدّا ، فلاحظها تهتدي إلى وجوه الإيراد عليها ، واللّه الموفّق وهو الهادي (8) إلى طريق الرشاد وسبيل السداد.

ص: 85


1- « ك » : إلى الأحكام الفرعية ، وفي « ج » : بإلحاقه بالأحكام الشرعية.
2- من قوله : « في عروض مانع » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».
3- « ز ، ك » : وانّ.
4- « ك » : - منهم ، وفي « م » : مبنيّ عنهم ، وفي « ز » : مبنيّ منهم.
5- « ج » : قاعدة الاستصحاب.
6- ستعرف في ص 231.
7- « ج ، م » : إيرادها.
8- « ز ، ك » : فلاحظها واللّه الهادي.

ص: 86

هداية حاوية للنهاية والبداية [ في ذكر أدلّة حجّية الاستصحاب ]

اشارة

قد عرفت فيما تقدّم عدم دلالة العقل على اعتبار الاستصحاب على ما رامه المثبتون بأذيال الوجوه الظنّية.

وأمّا الكتاب العزيز فقد يظهر من بعض (1) من لا مساس (2) له بالفنّ الاستناد إلى بعض الآيات ، ونحن وإن استقصينا التأمّل في تقريبه ما وقفنا على محصّل منه إلاّ أنّ أمثال هذه التقريبات من أمثاله غير عزيز.

وأمّا الإجماع على إثبات (3) القاعدة السارية في تمام الموارد ، فلم نقف على ناقل منه أو محصّل له.

وأمّا التمسّك بالأدلّة الدالّة على ثبوت الحالة السابقة حال اليقين بتقريب أنّها دالّة على ثبوت الأحكام المشكوكة في اللاحق استلزاما ، فليس بشيء أيضا ؛ لعدم الملازمة بين ثبوت الشيء ودوامه ، فإنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم.

وأمّا الأخبار المرويّة عن السادة الأطهار عليهم السلام فمستفيضة في هذا المضمار :

ص: 87


1- في هامش النسخ ما عدا « ج » : ( هذا « ز ، ك » ) إشارة إلى ما حكاه البعض عن بعض مشايخ الكشفية من التمسّك بقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد : 11 ] « منه ».
2- « ك » : لا أنس.
3- « ز ، ك » : - إثبات.

منها : ما رواه شيخ الطائفة المحقّة في التهذيب عن شيخه المفيد عن أحمد بن محمّد بن الحسن عن أبيه عن محمّد بن الحسن الصفّار عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن حسين بن [ الحسن بن ] أبان جميعا عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن حريز عن زرارة قال : قلت له عليه السلام : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال (1) عليه السلام : « قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء » قلت له : فإن حرّك في (2) جنبه شيء ولا يعلم به؟ قال عليه السلام : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض (3) اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر » (4).

وتوضيح المقام في تقريب المرام يحتاج إلى رسم أمرين :

[ الأمر ] الأوّل : في بيان سند الرواية ، فنقول : قد عدّها عدّة من أصحابنا في عداد الصحاح ، بل جعلها صاحب المعالم في المنتقى (5) من المزكّاة في كلّ المراتب (6) بتزكية عدلين.

ومع ذلك فقد نوقش (7) في صحّة سندها : فتارة : بالإضمار ، فإنّ كتب الحديث غير التهذيب خالية عنها ، والإسناد إلى الباقر عليه السلام كما في بعض مصنّفات الفنّ غير معتمد عليه بعد خلوّ كتاب الرواية عنه.

وأخرى : بعدم ظهور وثاقة أحمد بن محمّد من مهرة رجال الرجال ، وأمّا عدّه من مشايخ الإجازة فلا دلالة فيه على الوثاقة ؛ لوجوده في إبراهيم بن هاشم مع أنّ صاحب المعالم يرى روايته من الحسان دون الصحاح ، وقد قيل فيه : إنّه أوّل من

ص: 88


1- « ز ، ك » : قال.
2- في المصدر : إلى.
3- « ج » : تنقض.
4- التهذيب 1 : 8 / 11 ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ؛ وسائل الشيعة 1 : 245 ، باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.
5- منتقى الجمان 1 : 124.
6- « ك » : مرتبة.
7- « ز ، ك » : قد نوقش.

نشر أخبار الكوفيين بقم.

فإن قيل : إنّهم ربّما يطعنون على البعض - كما في البرقي - بواسطة روايته عن (1) الضعفاء ، والراوي منه في السلسلة المذكورة هو المفيد ولم يطعن عليه بذلك أحد ، فيدلّ على وثاقة المرويّ عنه.

قلت أوّلا : إنّ الطعن إنّما هو فيما إذا علم ضعف الراوي وليس المقام منه ؛ إذ غاية ما يقال في حقّه عدم توثيقه لا ضعفه ، وذلك لا يكفي في الحكم بالضعف بالنسبة إلى الراويّ وإن اكتفي في الرواية.

وثانيا : إنّ النقل من (2) الراوي يحتمل أن يكون بواسطة الاعتماد عليه والركون إليه ، ويحتمل أن يكون بواسطة الاعتماد على نفس الرواية ولكنّ النقل منه إنّما هو من حيث عدم تفرّق رواة الحديث واتّصال سنده إلى الإمام عليه السلام.

ومع ذلك فلا دلالة في نقل المفيد على وثاقته ؛ إذ لعلّه بواسطة الوثاقة على نفس الرواية.

وتارة أخرى : بأنّ حريزا لم يوثّقه غير الشيخ في الفهرست (3) فكيف يمكن أن يكون (4) الرواية من الصحيح على مصطلح صاحب المعالم ، بل يظهر من النجاشي (5) القدح فيه.

فإن قيل : إنّ العلاّمة أيضا وثّقه في الخلاصة كما يستفاد من (6) عبارة الخلاصة ، قال : حريز - بالراء قبل الياء المنقّطة تحتها نقطتان والزاي أخيرا - ابن عبد اللّه السجستاني أبو محمّد الأزدي من أهل الكوفة أكثر السفر (7) والتجارة إلى سجستان فعرف بها ،

ص: 89


1- « ز ، ك » : من.
2- « ز ، ك » : عن.
3- الفهرست 162 / 249.
4- « ك » : من أن تكون ، وفي « ز ، م » : من أن يكون.
5- رجال النجاشى 144 / 375.
6- « م » : عن.
7- في المصدر : كثير السفر.

وكانت تجارته في السمن والزيت ، قيل : روى عن أبي عبد اللّه ، وقال يونس : لم يسمع عن أبي عبد اللّه عليه السلام إلاّ حديثين ، وقيل : روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال النجاشي : ولم يثبت ذلك ، قال الشيخ الطوسي : إنّه ثقة ، وقال النجاشي : كان حريز ممّن شهر السيف في قتال الخوارج بسجستان في حياة أبي عبد اللّه ، وروي أنّه جفاه وحجبه عنه ، وهذا القول من النجاشي لا يقتضي الطعن ؛ لعدم العلم بتعديل الراوي للجفاء ، وروى الكشّي : أنّ أبا عبد اللّه حجبه عنه وفي طريقه محمّد بن عيسى ، وفيه قول ، مع أنّ الحجب لا يستلزم الجرح ؛ لعدم العلم بالسرّ فيه (1) ، انتهى.

قلنا : أمّا أوّلا : فلا دلالة في هذه العبارة على التوثيق ؛ لأنّ نفي الجرح لا يستلزم التعديل ، لكونه أعمّ.

وأمّا ثانيا : فلأنّه (2) بعد التسليم فتعديل العلاّمة في الأغلب تابع لتعديل الشيخ ؛ لحسن ظنّه به ، كما يظهر ذلك لمن مارس كلامهما في التعديل ، إلاّ أنّ ذلك كلّه ممّا لا ضير فيه بعد ما استقرّ التحقيق على اعتبار الرواية الموثوق بها. أمّا حديث الإضمار فلظهور أنّ جلالة شأن الراوي مانعة عن السؤال عن غير الإمام عليه السلام ، والظاهر أنّ الوجه في الإضمار في أمثال هذه الروايات هو تقطيع الأخبار تسهيلا على من حاول الإحاطة بما فيها من الفقرات. وأمّا تعديل أحمد بن محمّد فلا دليل على لزومه سوى أنّه أحد طرق تحصيل الوثوق ، وربّما يحصل من كونه من مشايخ الإجازة ما يزيد على التعديل بمراتب. وأمّا حكاية حريز فكالسابق ممّا لا غائلة (3) فيها بعد الاطمئنان بالصدور ، نعم لا يتمّ على مذهب صاحب المعالم بحسب ما اصطلح عليه ، ويزيدك توضيحا في وثاقة الرواية نقله لها في المنتقى.

الأمر الثاني في توجيه فقرات الرواية كي يتّضح موضع الحاجة في الاحتجاج ،

ص: 90


1- الخلاصة 63 / 4.
2- « ج ، م » : فلأنّ.
3- « ز ، ك » : ولا غائلة.

فنقول : قول السائل : « الرّجل ينام وهو على وضوء » المراد به إمّا تمدّد الأعضاء وإيقاع صورة النوم من المكلّف بالاستلقاء ومدّ الأيدي والأرجل استعارة ، وإمّا الشروع فيما يفضي إلى النوم من مقدّماته مشارفة ، وإمّا النوم الحقيقي ، بناء على أنّ الخفقة من مصاديقه الواقعية ، فلا منافاة بين هذه الفقرة وقوله : « أتوجب الخفقة ». وقوله : « ينام وهو على وضوء » يراد به أنّه يحدث النوم والحال أنّه في زمان مقارن لزمان الوضوء ؛ لمكان دلالة الجملة الفعلية على التجدّد والحدوث بخلاف الجملة الاسمية ، فيرتفع التنافي بين قوليه من أنّ « الرجل ينام » و « هو على وضوء » كما توهّم.

وأمّا لفظ « الخفقة » فقال في الصحاح : خفق الرجل : إذا حرّك رأسه وهو ناعس (1).

ثمّ إنّه هل هو سؤال عن مانعية العارض فيكون الشبهة حكمية ، أو عن (2) عروض المانع فيكون الشبهة موضوعية؟ وجهان ، أظهرهما الأوّل ، فإنّ المنساق منها ذلك ، ويحتمل بعيدا أن يكون السؤال عن (3) اطّراد حكم النوم في جميع أفراده ؛ لاختلافها ظهورا وخفاء بعد العلم بدخولها تحت ماهيّة النوم. وممّا يوضح ما ذكرنا من ظهور الرواية في السؤال عن الشكّ في مانعية العارض ملاحظة ما رواه الشيخ عن حسين بن سعيد عن فضالة عن حسين بن عثمان عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخفقة والخفقتين؟ فقال عليه السلام : « ما أدري [ ما الخفقة والخفقتان ] إنّ اللّه يقول : ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (4) إنّ عليّا عليه السلام كان يقول : من وجد طعم النوم فإنّما [ أ ] وجب عليه الوضوء » (5).

ثمّ لا يخفى أنّ قول الإمام عليه السلام : « قد تنام العين ولا ينام الأذن والقلب » صريح في عدم الملازمة بينهما ، وتوهّم عدم الانفكاك ساقط ، نعم الظاهر أنّ نوم الأذن يلازم نوم

ص: 91


1- الصحاح 3 : 1469.
2- « م » : من.
3- « م » : - السؤال عن ، وفي « ج » : - عن.
4- القيامة : 14.
5- التهذيب 1 : 8 / 10 ؛ الاستبصار 1 : 80 / 252 ؛ وسائل الشيعة 1 : 254 ، باب 3 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 8.

القلب ولذا (1) اقتصر الفقهاء على نوم الحاسّتين.

وأمّا قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم به » فهو سؤال عن حكم الشكّ في المانع ، ومحصّله : أنّ مجرّد حصول عدم سماع الصوت الحاصل من التحريك المزبور هل يصلح أن يكون ممّا يستكشف به عن وجود النوم كما في سائر الأمارات ، أو لا؟ عكس السؤال الأوّل كما يلوح من ملاحظة نفس السؤال ، فإنّ احتمال عروض النوم أو عدم الالتفات إلى التحريك يصحّ أن يقعا مسئولا بهما في الشكّ في عروض المانع بخلاف الشكّ في مانعية العارض. وبعبارة واضحة : إنّ قول السائل : « وهو لا يعلم به (2) » بعد حصول التحريك في جنبه شكّ في أنّ منشأ عدم العلم ما ذا فهل هو عروض النوم أو مجرّد عدم الالتفات إلى الصوت كما قد يحصل للإنسان؟ وهذا يصلح أن يكون شكّا في عروض المانع بخلاف الشكّ في منع العارض ؛ إذ لا يحتمل مانعية عدم الالتفات إلى الصوت ، للقطع بعدم المانعية ، كما لا يحتمل عدم مانعية النوم ، للعلم بذلك قطعا ، على أنّ الثاني لا يوافقه الجواب كما لا يخفى ، ويزيده توضيحا ملاحظة قوله عليه السلام : « لا حتّى يستيقن أنّه قد نام » وقوله : « حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن » فإنّ ظهور الجواب في كون السؤال عن الشكّ في عروض القادح والمانع ممّا لا ينكر ، ومن هنا يظهر أنّ من (3) اقتصر في الاستدلال بهذه الفقرة ، ثمّ بالغ في الرّد على المحقّق السبزواري من

ص: 92


1- « م » : ولو ، وموضعه في « ج » بياض.
2- « م ، ج » : - به.
3- المراد به ظاهرا القزويني في ضوابط الأصول : 403 حيث قال : إنّ قوله عليه السلام : « لا ينقض » في قوّة الكبرى الكلّية ، أي كلّ من كان على يقين من شيء حرم عليه نقضه إلاّ بيقين آخر ، مضافا إلى أنّ قوله عليه السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه » كاف في إثبات المطلوب أعني حجّية مطلق الاستصحاب نظرا إلى حجّية منصوص العلّة ، والعجب من صاحب الذخيرة حيث نفى حجّية الاستصحاب فيما إذا شكّ في مانعية شيء كالمذي للوضوء ، أو شكّ في كون شيء فردا من المانع المعلوم المانعية كالخفقة والخفقتان إذا شككنا في صدق النوم عليهما مع أنّ [ ه ] مورد الرواية.

حيث منعه حجّية الاستصحاب عند الشكّ في منع العارض بأنّ مورد الرواية مخالف ، له فقد أخطأ ، نعم لو احتجّ بالفقرة الأولى أيضا صحّ الردّ والإيراد كما أنّه يدلّ على فساد التفصيل بين الموضوعات وأحكامها كما نسب إلى المحقّق المذكور أيضا على الأوّل.

وإذ قد عرفت هذين الأمرين فاعلم أنّ محلّ الاستدلال هو قوله عليه السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشكّ » والتقريب أنّ قوله : « فإنّه » (1) علّة للجواب المحذوف للشرط المستفاد من قوله : « وإلاّ » وقائم مقامه ، كما يوجد مثله كثيرا في كلمات الفصحاء ، سيّما القرآن العزيز فإنّه مشحون بذلك كما في قوله : ( فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (2) وقال أبو الطيّب :

وان تفق الأنام وأنت منهم *** فانّ المسك بعض دم الغزال (3)

فالتقدير : وإن لم يستيقن فلا يجب الوضوء فإنّه على يقين من وضوئه ، فيكون بمنزلة صغرى من القياس ، وقوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا » بمنزلة الكبرى ، فتنتج النتيجة المطلوبة ؛ لصحّة القياس مادّة وهيئة ، ودلالته على هذا التقدير على حجّية الاستصحاب واضحة لا تكاد تخفى على أحد.

ويحتمل أن يقال أيضا : انّ الجواب هو قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » ويكون قوله : « فإنّه » إلخ توطئة لذكر الجواب ، كما قد تعارف عندهم أمثاله كما يقال : إذا قدمت من السفر فعندك منزل فانزل فيه ، وعلى تقديره أيضا يتمّ التقريب كما هو ظاهر إلاّ أنّه بعيد جدّا ، سيّما بعد ملاحظة الواو في قوله : « ولا ينقض » إذ الغالب في هذه الاستعمالات هو الإتيان بكلمة الفاء.

وأمّا ما يقال من أنّ حذف الجواب خلاف الأصل ، فمدفوع بأنّ خلاف الأصل

ص: 93


1- « ز ، ك » : - فإنّه.
2- آل عمران : 97.
3- ديوان المتنبى : 224 في مدح سيف الدولة.

مجوّز الارتكاب بعد وجود الدليل ويكفي فيه ظهور المقام ، نعم في المقام شيء آخر لا يفرق فيه كلا الوجهين وهو احتمال إرادة العهد من اللاّم في قوله : « ولا ينقض [ اليقين ] » فإنّ ذكر اليقين في الوضوء قرينة قابلة لصرف اللفظ عن الحقيقة إليه ، ولا ينافيه لزوم كلّية الكبرى على التقدير الأوّل ؛ إذ يكفي فيها عموم الحكم لأفراد اليقين الوضوئي ولا يقضي بكون اليقين جنسا ، لا يقال : إنّ من المحقّق في محلّه مجازية اللام في العهد ، فأصالة الحقيقة تقضي باعتبار الجنس ، فيتمّ التقريب ؛ لأنّه يقال : قد أشرنا إلى دفع ذلك من أنّ أصالة الحقيقة ممّا لا عبرة بها بعد ما تقدّم من ذكر الوضوء واليقين المتعلّق به ، ونظير ذلك الجمل المتعقّبة (1) بالاستثناء ، والأمر الوارد عقيب الحظر ، وغيرهما ، فإنّ جملة من أرباب الفنّ إنّما أهملوا إعمال أصالة الحقيقة في هذه الموارد نظرا إلى سبق ما يحتمل أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي ، سيّما فيما لم يكن بعيدا عن مساق اللفظ كما في المقام ، فالإنصاف أنّ دلالة هذه الرواية على حجّية الاستصحاب كانت في غاية الظهور لو كان المراد من اليقين هو جنس اليقين ، وبعد وجود ما يحتمل كونه صارفا في المقام فلا يتمّ التقريب إلاّ أن يبنى على دعوى وجود مناط الاستصحاب في غير موارد الوضوء ، وهذا وإن لم يكن بعيدا إلاّ أنّه كما ترى.

فإن قلت : على تقدير أن يكون اللام للجنس أيضا لا وجه للاستدلال ؛ إذ لا عموم في الجنس.

قلت : إنّ الجنس المنفيّ يفيد العموم ، فيصحّ الاستدلال ، وقد يحتمل بعيدا أن يكون المراد باللام هو الاستغراق ، إلاّ أنّه ضعيف جدّا ؛ لأنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل ، على أنّ ذلك إنّما يستلزم نفي العموم والمقصود لا يتمّ إلاّ بعموم النفي.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بالفرق بين العموم المستفاد من اللام أو من كلمة « كلّ » كما يشهد به ملاحظة الأمثلة في العرف ، ولعلّ السرّ في ذلك أنّ العموم المستفاد من لفظ « كلّ »

ص: 94


1- « ج ، م » : المتعقّب.

ينحلّ إلى ذوات الأفراد مع قيد الإحاطة ، بخلاف عموم اللام فإنّه ينحلّ إلى نفس الأفراد من دون قيد ، فيتوجّه النفي (1) إلى القيد في الأوّل دون الثاني ، مع أنّ بعضهم قد أفاد (2) أنّ مرجع عموم النفي ونفي العموم إلى ما هو المستفاد من الألفاظ الدالّة على ذلك عرفا ، فلا يفرق في ذلك لفظ الكلّ أو اللام ، فإنّ قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (3) يفيد عموم النفي أو يتعسّف في إثبات العموم على تقدير نفي العموم أيضا ببرهان الحكمة ؛ إذ لا يتعيّن نفي العموم في ضمن البعض ، لاحتمال نفي الكلّ أيضا ، فإنّ السالبة الجزئية لا تناقض السالبة الكلّية.

وبالجملة : فالتحقيق أنّ دلالة الرواية على المطلوب تامّة لو لم يكن قيام الاحتمال المذكور ، فيا ليته لم يكن ولفظ « أبدا » كما يناسب أحدهما يناسب الآخر أيضا.

ومنها : ما رواه الشيخ أيضا في كتاب صلاة التهذيب عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن حريز عن زرارة قال : قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له من الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك ، قال عليه السلام : « تعيد الصلاة وتغسله » قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه ، قال : « تغسله وتعيد » ، قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه ، قال : « تغسله (4) ولا تعيد الصلاة » قلت : فلم ذاك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصاب ولم أدر أين هو فأغسله ، قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه (5) قد أصابها حتّى تكون على يقين

ص: 95


1- « م » : النفس.
2- « ج ، م » : أفادوا.
3- لقمان : 18.
4- من قوله : « وتعيد » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».
5- « م » : أنّها.

من طهارتك » قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه بشيء أن انظر فيه؟ قال : « لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك » قلت : فإن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ، قال : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » (1).

وهذه الرواية الشريفة مع اشتمالها على أحكام شتّى وفقرات لا غبار عليها ، ممّا لا ضير في إضمارها (2) ولا في قطعها بعد كون الراوي جليل الشأن رفيع المنزلة عظيم القدر ، سيّما بعد ملاحظة ما في العلل (3) من إسنادها إلى أبي جعفر ، ووقوع إبراهيم بن هاشم في طريقها ممّا لا يقضي بعدم الوثوق بصدورها على ما هو المناط عند التحقيق في حجّية الخبر واعتباره من حيث الصدور. ويمكن الاحتجاج بهذه الرواية من وجوه :

الأوّل : قوله عليه السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » بعد قول زرارة « ولم ذاك » والتقريب ظاهر مثل ما تقدّم في الرواية الأولى ، بل الأمر في المقام أظهر ؛ لكونه صريحا في التعليل ، فيوجد صغرى مفروضة ، وكبرى معلومة ، ويستدلّ بهما على النتيجة المطلوبة.

واحتمال العهد في المقام أيضا أظهر من احتماله في المقام الأوّل.

لا يقال : إنّ عموم العلّة المنصوصة في الرواية قاض بالأخذ بها حيث ما وجد ، فإنّ

ص: 96


1- التهذيب 1 : 421 ، باب 22 ، ح 8 ؛ الاستبصار 1 : 183 ، باب 109 ، ح 13 ؛ وسائل الشيعة 3 : 466 ، باب 37 من أبواب النجاسات ، ح 1 وص 477 ، باب 41 من أبواب النجاسات ، ح 1 ، وص 479 ، باب 42 من أبواب النجاسات ، ح 2 ، وص 482 ، باب 44 من أبواب النجاسات ، ح 1.
2- لأجل ذلك ناقش في سندها العلاّمة الحلّي في منتهى المطلب 3 : 296 وفي ط الحجري 1 : 181.
3- علل الشرائع : 361 ، باب 10 ، ح 1.

التحقيق هو الأخذ بعمومها ، وقضيّة ذلك هو اعتبار الاستصحاب مطلقا.

لأنّا نقول : إنّ قضيّة عموم العلّة هو اطّراد الحكم المعلّل بهذه العلّة في مواردها لا ثبوت أحكام أخر على تقدير وجود العلّة ، والحكم في الرواية هو عدم إعادة الصلاة كما أنّ في الرواية السابقة هو عدم وجوب الطهارة ، واطّرادهما في الموارد معلوم غير محتاج إلى الاستصحاب.

الثاني : قوله عليه السلام : « تغسل من ثوبك (1) الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » فإنّ المنساق منها ثبوت النجاسة إلى أن يعلم بزوالها ، وهو معنى الاستصحاب.

وفيه أوّلا : أنّه يحتمل أن يكون باعتبار قاعدة الاشتغال (2). وثانيا : على تقدير التسليم أنّها تدلّ على الاستصحاب في الطهارة والنجاسة وهما معلوما الحكم من هذه الجهة.

الثالث : قوله - في ذيل الرواية - : « فليس ينبغي أن تنقض (3) اليقين بالشكّ » بالتقريب والتضعيف المتقدّمين.

بقي في المقام شيء (4) ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنّ قول زرارة - في السؤال - : فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيته فيه ، إن كان المراد به عدم العلم بالنجاسة التي فحص عنها قبل الصلاة ، فجواب الإمام عليه السلام ظاهر لا إشكال فيه (5) ، وأمّا إن كان المراد به عدم وجدان النجاسة قبل الصلاة ، ثمّ العلم بها بعد الصلاة قبل الصلاة ، فيشكل الأمر من حيث إنّ الإعادة بعد ذلك بواسطة العلم بوجود النجاسة ، فيكون من نقض اليقين باليقين ، فيشكل التعليل المذكور إلاّ أن يكون المراد اليقين بوقوع العمل مطابقا للأمر

ص: 97


1- المثبت من « ج » وسقط من سائر النسخ.
2- « ز ، ك » : الشغل.
3- « م ، ك » : ينقض.
4- « ز ، ك » : بقي الكلام في شيء.
5- « ز » : - لا إشكال فيه ، ومن قوله : « التي فحص » إلى قوله : « وجدان النجاسة » سقط من نسخة « ك ».

الاستصحابي الظاهري ، وهو يفيد الإجزاء ، فتكون (1) الرواية مفيدة لهذا الحكم ، وبعده غير خفيّ على من له أنس بصناعة الكلام ، فإنّ اللازم في الجواب على هذا التقدير « لم يكن ينبغي » فإنّه دليل على المضيّ لا قوله : « وليس ينبغي » فإنّه دليل على الحال ، فتدبّر (2) ، على أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما أقدم المصلّي فيها اعتمادا على الطهارة واتّكالا على الاستصحاب ، والظاهر خلافه ، فإنّ المستفاد من قوله : فنظرت فيه فلم أر شيئا ، هو الإقدام عليها عالما بالعلم العاديّ أو الاطمئنان بعدم النجاسة ، فيكون من الأمر العقلي الظاهري لا الشرعي ، وهو ظاهر ، كذا أفاده الأستاد (3) سلّمه اللّه تعالى (4).

قلت : ثمّ لا يخفى دلالة الرواية في بعض فقراتها على عدم لزوم الفحص في الموضوعات عند العمل بالأصل ، وعلى لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة ، وهي قوله : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى (5) أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » ومن الغريب استنباط البعض من هذه الفقرة اعتبار الظنّ في الموضوعات متخيّلا أنّ معنى قوله : « ترى » تظنّ ، وقد أطنب في تقريبه مع ذهابه إلى جواز الارتكاب في الشبهة المحصورة ، وهو أغرب كما لا يخفى.

ومنها : صحيحة زرارة رواها في الكافى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام [ قال : ] قلت [ له ] : من لم يدر في أربع هو أم في اثنين وقد أحرز الثنتين؟ قال عليه السلام : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف (6) إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشكّ ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ،

ص: 98


1- « ج ، م » : فيكون.
2- « ك » : فتدبّر جيّدا.
3- « ج ، م » : - الأستاد.
4- « ز ، ك » : - سلّمه اللّه تعالى.
5- المثبت من « ك » وسقط من سائر النسخ.
6- « ز ، ك » : وأضاف.

ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبنى عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » (1).

والكلام في هذه الرواية يقع (2) تارة : في السند ، وأخرى : في الدلالة.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ لشيخنا الكليني فيها طريقين (3) : أحدهما : ما فيه إبراهيم بن هاشم ، والآخر : ما فيه محمّد بن إسماعيل ، وهو على الأوّل حسن ، لما قرع الأسماع من حال إبراهيم ، وعلى الثاني فالظاهر أنّه صحيح أيضا ، فإنّ محمّد بن إسماعيل هو البندقي النيشابوري كما ذكر في مقدّمات المنتقى (4) وهو ظاهر الوثاقة ، وأمّا ابن بزيع وإن كان في طبقة الفضل إلاّ أنّه يبعد رواية الكليني عنه ، فإنّ المذكور في ترجمته أنّه من رجال أبي الحسن موسى وأدرك أبا جعفر الثاني ، وظاهر الإدراك موته قبله عليه السلام والكليني مات بعد تكميل المائة الثالثة وانقضاء تسع وعشرين بعده. قال الأستاد دام مجده (5) : ويمكن رفع الاستبعاد بأنّ الكليني كان في الغيبة الصغرى وتاريخها نور (6) ، والرضا عليه السلام كان في المائتين ، والفرق بينهما ستّة وخمسون ، ولا يبعد (7) بقاء (8) [ محمّد بن ] إسماعيل في تلك المدّة ، فلعلّه كان في أواخر عمر المرويّ عنه (9) وأوائل عمر الراوي ، فتدبّر.

وأمّا الثاني : فدلالتها مبنيّة على إرادة الجنس من اللام في اليقين مع احتمال العهدية على وجه لا مانع من عدم الأخذ بأصالة الحقيقة ، مضافا إلى اشتمال الرواية على ما يخالف الإجماع من البناء على الأقلّ على ما هو ظاهر ، فلا بدّ إمّا (10) من (11) طرحها أو

ص: 99


1- الكافى 3 : 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة 8 : 216 - 217 ، باب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- « ج ، م » : فيقع.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : طريقان.
4- المنتقى 1 : 45 ، في الفائدة الثانية عشرة.
5- « ز ، ك » : - دام مجده.
6- « ج » : - وتاريخها نور.
7- « ز ، ك » : فالأبعد.
8- « م » : لقاء.
9- « ز ، ج ، ك » - عنه.
10- « ز ، ك » : - إمّا.
11- « م » : - من.

تأويلها أو حملها على التقيّة ، سيّما بعد ملاحظة موافقتها لمذهب العامّة.

وأمّا ما يقال : من أنّ حمل بعض فقرات الرواية على التقيّة أو طرحها أو تأويلها لا ينافي الاستناد إلى الفقرات الأخر ، فمدفوع : بأنّ العامّ إذا كان في محلّ السؤال واردا على وجه التقيّة كما فيما نحن فيه ، فلا وجه للأخذ بعمومه في غير محلّ السؤال ، فإنّ عدم جواز نقض اليقين بالشكّ في مورد السؤال وارد على وجه التقيّة كما هو المفروض ، ولا دليل على أصالة عدم التقيّة في العمل بالعامّ كما إذا خصّ العامّ بمورده ، فإنّه لا يعمل بأصالة الحقيقة في غيره.

ثمّ إنّ بعض المحقّقين كالعلاّمة (1) ومن يحذو حذوه في حفظ مراتب الشريعة قد تصدّى لتوجيه الرواية على وجه لا ينافي مذهب الفرقة المحقّة بأنّ المراد من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » هي قاعدة الاشتغال الآمرة بالإتيان بركعتي الاحتياط ، وليس المذكور في الرواية إلاّ لزوم الإتيان بركعتين ، وأمّا البناء على الأقلّ فلا يستفاد منها أبدا ، فإنّ الاحتياط يقضي بذلك ؛ لأنّ الواقع لو كان على أربع فيحسب له نافلة ، وإلاّ فيجزي (2) عن فرضه ، سيّما بعد ملاحظة مذهب العامّة من لزوم الاتّصال ؛ إذ على تقدير التمامية يلزم زيادة الركعتين المبطلة سهوا وعمدا ، بخلاف مذهب الإمامية فإنّ زيادة السلام لا تضرّ (3) كما في صورة السهو ، فقاعدة الاشتغال والاحتياط تقضي (4) بذلك ، فعلى (5) هذا فسقوط الاستدلال بالرواية واضح ؛ إذ لا دخل (6) للاستصحاب في ذلك ولا يجوز إرادة القاعدتين معا ، لاستلزامها التناقض في المورد ، فإنّ قضيّة الاستصحاب هو البناء على الأقلّ ، وقضيّة الاحتياط على ما سمعت في قبال مذهب العامّة هو البناء على الأكثر لئلاّ يلزم زيادة الركعتين على تقدير التمامية المستلزمة (7) لبطلان العمل

ص: 100


1- انظر منتهى المطلب 1 : 416 ط الحجري.
2- « ك » : فيخرج.
3- « م ، ج » : لا يضرّ.
4- « ز ، ك » : يقضي ، وفي « ج » تقتضي.
5- « ز ، ك » : وعلى.
6- « ز ، ك » : مدخل.
7- « ز ، ك » : المستلزم.

سهوا وعمدا.

ومنها : موثّقة عمّار الساباطي رواها الصدوق في الفقيه عن إسحاق بن عمّار أنّه قال : [ قال لي : ] أبو الحسن الأوّل : « إذا شككت فابن على اليقين » قال : قلت : هذا أصل؟ قال : « نعم » (1).

ودلالتها ظاهرة لا غبار عليها ؛ لعدم ما يصلح لصرف اللام عن حقيقتها ، وإيرادها في الصلاة لا ينافي عمومها ، نعم يرد عليه (2) أنّه يخالف مذهب الشيعة من البناء على اليقين على وجه العموم ، إلاّ أنّ الأخذ بعمومها في غير موارد المخالفة أيضا مشكل ، فإنّه ليس بمنزلة إحدى الفقرتين في الروايات المشتملة على فقرات كثيرة ، فالأولى حملها على لزوم البناء على اليقين الفعلي كما هو أحد احتماليه ، فيسقط الاستدلال بها أيضا ، بل لعلّه هو الظاهر منها ، فيكون مفاد الرواية مفاد قوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (3) ودعوى ظهور دلالته على الاستصحاب ، ممنوع (4).

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب في كتاب الصوم عن محمّد بن الحسن الصفّار عن عليّ بن محمّد القاساني (5) قال كتبت إليه - وأنا بالمدينة - عن اليوم الذي يشكّ فيه (6) من رمضان أم لا؟ فكتب عليه السلام : « اليقين لا يدخل فيه الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (7).

وجه الدلالة ظاهر ولا يحتمل العهدية ولا يحتمل قاعدة الاشتغال أيضا نظرا إلى

ص: 101


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 351 / 1025 ، باب أحكام السهو والشكّ ؛ وسائل الشيعة 8 : 212 ، باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 2.
2- « ز ، ك ، م » : + من.
3- وسائل الشيعة 27 : 170 و 173 ، باب 14 من أبواب صفات القاضي ، ح 54 و 63 ؛ بحار الأنوار 2 : 259.
4- « ز » : فممنوع ، ومن قوله : « بل لعلّه » إلى هنا سقط من « ك ».
5- « ج » : الكاشاني ، وكذا في الموارد الآتية.
6- « ك » : فيه أنّه.
7- التهذيب 4 : 159 ، باب علامة أوّل شهر رمضان وآخره ، ح 17 ؛ وسائل الشيعة 10 : 255 ، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 13. وسيأتي في ص 132 و 155 و 501.

قوله : « لا يدخل فيه الشكّ » فإنّ الظاهر منه هو اليقين السابق ، بل ولا يصحّ التفريع لو كان المراد باليقين هو الفعلي منه. أمّا قوله : « صم للرؤية » فظاهر عدم التفريع فيه ، وأمّا قوله : « وأفطر للرؤية » فهو أيضا كذلك ؛ لدوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، فلا يتمشّى فيه الاحتياط. فلا إشكال في الرواية من حيث الدلالة فيا ليتها كانت صحيحة السند ، فإنّها مكاتبة أوّلا ، ولم يصرّح النجاشي بوثاقة عليّ بن محمّد القاساني ثانيا.

قال النجاشي في ترجمته : إنّ عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني أبو الحسن كان فقيها مكثرا من الحديث فاضلا ، غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى وذكر أنّه سمع منه مذاهب متكثّرة (1) ، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك ، له كتب أخبرنا عليّ بن أحمد بن محمّد بن طاهر وقال : حدّثني (2) محمّد بن الحسن قال : حدّثنا سعد عن عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني بكتبه (3).

وعدم دلالته على التوثيق ظاهر ، ووصفه بالفقه والفضيلة يعارضه قوله : غمز عليه وسمع منه مذاهب متكثّرة ، نعم في رجال الشيخ أنّ عليّ بن شيرة ثقة من أصحاب الهادي عليه السلام (4) إلاّ أنّه احتمل بعضهم (5) أنّ قوله : « ثقة » تصحيف قوله : « يقال » بقرينة ما ذكره بعد ذلك بلا فصل أنّ عليّ بن محمّد القاساني ضعيف أصبهاني ، وعلى تقدير عدم التصحيف فالمعارضة بينهما ظاهرة (6) إلاّ أن يقال بالتعدّد وأنّ عليّ بن شيرة غير القاساني كما لعلّه مؤيّد بما أفاده العلاّمة من أنّ عليّ بن محمّد القاساني وعليّ بن شيرة كانا من أصحاب أبي جعفر الثاني ، ولكن قيل عليه : إنّه سهو ؛ إذ لم نجدهما في الأصحاب ، مع تصريح النجاشي بالاتّحاد.

فكيف كان فلو لم يكن المدار في السند على الوثوق لم يكن وجه للاستدلال

ص: 102


1- في المصدر : منكرة.
2- في المصدر : حدّثنا.
3- رجال النجاشى 255 / 669.
4- رجال الطوسى 417 / 9.
5- انظر منتهى المقال 5 : 59.
6- « ج ، م » : ظاهر.

بالرواية ، ومع ذلك فالخطب سهل ؛ لحصول الوثوق على ما هو الإنصاف ، مضافا إلى ما ذكره المحقّق البهبهاني في التعليقة (1) من كونه معتمدا ، على أنّ اعتماد محمّد بن الحسن الصفّار على الرواية ممّا يعادل توثيق الراوي قطعا ، بل لا يبعد مشاهدته للمكاتبة بعينها كما هو الأغلب في المكاتبات ، فإنّ البناء على ضبطها وحفظها.

ومنها : ما ذكره غوّاص البحار فيها عن الخصال عن أبيه عن سعد بن عبد اللّه عن محمّد بن عيسى اليقطيني عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام (2) : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين » (3) وفي الخصال أيضا في حديث (4) الأربعمائة عن الباقر عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام من الملك العلاّم (5) : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » وإرسال الرواية على الثاني معلوم ، فالاعتماد على الأوّل ، وعليه فالقاسم ضعّفه ابن الغضائري وتبعه العلاّمة (6) ، ويكفي في ضعف الحديث عدم ثبوت وثاقة الراوي على تقدير عدم الاعتداد بالتضعيف المذكور ، إلاّ أنّ اعتماد اليقطيني عليها مع ظهور حاله في الرواية كاف في حصول الوثوق بها ، فإنّه من أكابر القميين ، وقد أخرج البرقي منه لاتّهامه في الرواية ، مضافا إلى اعتماد الكليني بالرواية وذكر أجزائها متفرّقة ، وقد أفاد العلاّمة المجلسي بأنّها في غاية الوثاقة على طريقة القدماء وإن كانت ضعيفة (7) بزعم المتأخّرين (8) ،

ص: 103


1- تعليقة منهج المقال : 238 نقلا من هامش منتهى المقال.
2- « م » : صلوات اللّه عليه.
3- بحار الأنوار 80 : 359 ؛ الخصال 619 ، ح 109 ؛ وسائل الشيعة 1 : 247 ، باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 6.
4- « ز ، ك » : الحديث.
5- « ز ، ك » : عليه السلام.
6- الخلاصة 248 / 6.
7- « ج » : كان ضعيفا.
8- بحار الأنوار 10 : 117 ، وعنه في القوانين 2 : 62 ، وفيهما : وإن لم يكن صحيحا بزعم المتأخّرين.

فسندها لعلّه ممّا لا غبار عليه فيا ليتها كانت متّضحة الدلالة على المقصود ، فإنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ من كان على يقين فشكّ في ارتفاع ما تيقّنه ، فليمض على ثبوت ما تيقّنه (1) بترتيب الآثار المترتّبة على المتيقّن على المشكوك ، فمتعلّق اليقين هو ثبوت المتيقّن ، ومتعلّق الشكّ هو بقاؤه ، فيدلّ على القاعدة المطلوبة كما هو المقصود ، فإنّ ذلك هو بعينه (2) الاستصحاب.

وثانيهما : أنّ من كان على يقين وقطع بثبوت (3) شيء فشكّ في ثبوت ذلك الشيء أوّلا وتردّد في صحّة يقينه ، فليمض على يقينه بترتيب الآثار المترتّبة على اليقين حال الشكّ في صحّة اليقين ، فمتعلّق الشكّ هو الثبوت كمتعلّق اليقين ، فيكون مفاد الخبر قاعدة أخرى من فروع قاعدة الشكّ بعد الفراغ ولا ربط له بالاستصحاب في وجه.

وإذا احتمل الأمران فلا وجه للاستدلال مع احتمال ظهور الثاني لاتّحاد موردي الشكّ واليقين ، مضافا إلى ظهور الدفع والنقض في التناقض بين الشكّ واليقين وهو لا يتحقّق إلاّ على الاحتمال الأخير ؛ ضرورة إمكان الجمع بينهما في الاستصحاب ، ولمثل ذلك سلك المحقّق الخوانساري غير ما سلكه القوم كما ستقف (4) عليه إن شاء اللّه.

إلاّ أن يقال : إنّ قوله : « فليمض » ظاهر في الاحتمال الأوّل ، وربّما يؤيّده عدم لزوم التخصيص أيضا ، فإنّه على التقدير الثاني لا بدّ من تخصيصه بما إذا لم يعلم فساد مدرك اليقين السابق ، كذا أفاد.

قلت : لزوم التخصيص مشترك الورود كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الأخبار العامّة ، وقد يتمسّك لإثبات حجّية الاستصحاب (5)

ص: 104


1- « ج » : تتيقّنه.
2- « ج » : يفيد ، وفي « م » : هو بعينه هو.
3- « م » : ثبوت.
4- ستقف عليه في الهداية الخوانسارية ص 125 وما بعدها.
5- « ز ، ك » : حجّيته.

بالإجماعات القائمة (1) في موارد مخصوصة على وجوب الأخذ بالحالة السابقة كما في استصحاب الطهارة والنجاسة والحدث ودخول الليل والنهار والحياة والوكالة ، فحكموا (2) بجواز الدخول في الصلاة في الأوّل ، وعدمه في الثاني على تقدير عدم العفو ، ووجوب التطهير كما في الثالث ، وجواز الأكل وعدمه في الرابع والخامس ، وعدم جواز قسمة أمواله بين ورثته وعدم جواز نكاح زوجته واستحقاقها النفقة ووجوب إحراز حصّة من مال مورّثه وجواز عتقه لو كان عبدا فيجزي عن الكفّارة في السادس ، وجواز التصرّف في السابع ، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة المتشتّتة في أبواب الفقه عبادة ومعاملة ، فإن أريد أنّ ملاحظة هذه الموارد يفيد القطع بأنّ المناط على الحالة (3) السابقة الموجودة في غيرها ، فخلافهم في باب الاستصحاب يكشف عن اختصاص كلّ واحد لعلّة غير جارية في الآخر ، وإن أريد الظنّ فهو القياس الباطل ، وإن أريد كثرتها على وجه يلحق المشكوك فهو في محلّ من المنع ، وعلى تقديره فهو أيضا من القياس كما هو ظاهر.

وقد يتمسّك بأخبار خاصّة واردة في مقامات خاصة :

أحدها : ما رواه الشيخ عن ابن بكير [ عن أبيه ] قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : « إذا استيقنت أنّك قد توضّأت فإيّاك أن تحدث وضوء أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت » (4) ودلالته على الاستصحاب في خصوص الوضوء واضحة جليّة غير قابلة للإنكار.

وثانيها : رواية عبد اللّه بن سنان في الصحيح قال : سأل رجل (5) أبا عبد اللّه عليه السلام - وأنا حاضر - : أنّي أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ،

ص: 105


1- « ز ، ك » : بإجماعات قائمة.
2- « ز ، ك » : فيحكمون.
3- « ز ، ك » : - الحالة.
4- التهذيب 1 : 102 ، باب صفة الوضوء ، ح 117 ؛ وسائل الشيعة 1 : 247 ، باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 7 وص 472 ، باب 43 من أبواب الوضوء ، ح 1.
5- في المصدر : أبي.

فيردّه عليّ ، فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه » (1) وهذه أيضا صريحة الدلالة على الاستصحاب في الطهارة مطلقا ، لمكان التعليل.

وثالثها : رواية ضريس في الصحيح قال : سألت أبا جعفر عليه السلام (2) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ قال : « أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلمه فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (3).

وفيه : أنّ (4) استفادة القطع بمطلق الاستصحاب من هذه الأخبار دعوى لا شاهد عليها ، والظنّ بأنّ المناط فيها على الاستصحاب والحالة السابقة من استخراج العلّة ظنّا لا تعويل (5) عليه ، على أنّ الرواية الأخيرة ممّا لا شاهد فيها على المقصود.

فإن قلت : إنّ مقتضى عموم العلّة وسرايتها كما هي منصوصة في الرواية الثانية اعتبار مطلق الاستصحاب ، لاعتبار القياس المنصوص.

قلت : وهذه غفلة واضحة ؛ لأنّ قضيّة تسرية العلّة إلى غير محلّ النصّ هو الاشتراك في ذلك الحكم الذي علّق على موضوعه معلّلا بالعلّة المذكورة لا الحكم بما هو نظير لذلك الحكم فيما وجد فيه العلّة كما يظهر من ملاحظة الحكم بالحرمة في النبيذ لوجود السكر المعلّل به الحرمة في الخمر ، والحكم بثبوت الخيار فيما إذا شكّ فيه قياسا على ثبوت الطهارة ، فإنّ نهاية ما يستفاد من تسرية الحكم في موارد العلّة هو الحكم بوجود مطلق الطهارة حين الشكّ فيها لا ثبوت الخيار ؛ لأنّ بقاء الخيار ليس معلّقا على الأصل حتّى يثبت في الفرع لوجود العلّة.

ص: 106


1- التهذيب 2 : 361 ، باب 17 ، ح 27 ؛ وسائل الشيعة 3 : 521 ، باب 74 ، ح 1.
2- « م » : عليه الصلاة والسلام.
3- التهذيب 9 : 79 ، باب الذبائح ، ح 71 ؛ وسائل الشيعة 24 : 235 - 236 ، باب 24 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 1 ؛ بحار الأنوار 2 : 282 ، باب 32 ، ح 57.
4- « ز ، ك » : - أنّ.
5- « ج ، م » : ولا تعويل.

وقد يستدلّ بأخبار أخر أيضا لا دلالة فيها على الاستصحاب في موردها أيضا ، كالرواية الأخيرة ، فإنّها ظاهرة في الشبهة الموضوعية الغير المسبوقة بالحالة السابقة كما هو محلّ البراءة ، ومثل رواية عبد اللّه بن سنان المذكورة في مباحث البراءة ، من قوله : « كلّ شيء [ يكون فيه حلال وحرام فهو ] لك حلال [ أبدا ] حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (1) وعدم ارتباطها بالمقام ممّا لا ينبغي الكلام فيه.

ومنها : ما قد اشتهرت روايته (2) ولم نجدها في كتب الحديث على ما أفاده الأستاد - أديم ظلاله - من قوله : « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (3) وقول الصادق عليه السلام في موثقة عمّار : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (4) والتقريب فيهما أنّ كلمة « قذر » فعل ماض ، وحصول القذارة في الشيء مسبوق بالعلم بالطهارة ، فمفاد الروايتين طهارة كلّ ماء ونظافة كلّ شيء علم طهارته أو نظافته حتّى يحصل العلم بقذارته وأنّه حصل فيه وصف القذارة ، إلاّ أنّ ذلك غير معيّن ؛ لوجود احتمالات أخر في الرواية ، بل وهو (5) أقبح الوجوه. والتحقيق أنّ الرواية الأخيرة يحتمل وجوها ، فإنّ لفظة « قذر » يحتمل الماضوية ، والوصفية ، وعلى الأوّل : يحتمل أن يكون المراد الشبهة الموضوعية فقط ، أو الحكمية فقط ، أو الأعمّ ، وعلى الأخير : يحتمل الشبهة الموضوعية الغير المسبوقة بالعلم بالطهارة ، أو الحكمية كذلك ، أو الأعمّ كذلك ، أو المسبوقة بالعلم بالطهارة في الموضوعات ، أو في الأحكام ، أو فيهما ، أو الأعمّ من المسبوقة بالعلم والغير المسبوقة على اختلاف احتمالاتها من الاختصاص بالموضوع ، أو الحكم ، أو الأعمّ منهما ، فيرتقى

ص: 107


1- وسائل الشيعة 17 : 87 - 88 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1 ، و 24 : 236 ، باب 64 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 2. وتقدّم في بحث البراءة ج 1. ص 359.
2- « م » : روايتها.
3- وسائل الشيعة 1 : 133 ، باب 1 من أبواب الماء المطلق ، ح 2 ، وفيه : « ... طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر » و 134، ح 5 ، و 142 ، باب 4 ، ح 2 ، وفيه : « الماء كلّه طاهر ... ».
4- وسائل الشيعة 3 : 467 ، باب 37 من أبواب النجاسات ، ح 4.
5- « ز ، ك » : هذا.

الاحتمال إلى ستّة عشر احتمالا يجمع أكثرها وجوه ثلاثة :

الأوّل : ما مرّ من كون « قذر » فعلا وكون المراد من الشيء ما ثبتت نظافته ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية أو الأعمّ منهما.

الثاني : أن يكون « قذر » صفة ويكون المراد بالشيء الموضوعات الخارجية مع عدم سبقها بالعلم ، فيكون المعنى : كلّ شيء من الأمور الخارجية التي يشكّ في نجاستها وطهارتها فيحكم فيها بالطهارة حتّى تثبت فيها النجاسة ، فتدلّ الرواية حينئذ على اعتبار العلم في الحكم بالنجاسة في الشبهات الموضوعية الخارجية ، ولا دخل لها بالاستصحاب كما هو ظاهر ، وكذا لو [ كان ] قذر أعمّ من المسبوق وغير المسبوق ، فإنّ الحكم بعدم النجاسة فيما لم يعلم نجاسته أعمّ من الحكم بوجوب الأخذ بالحالة السابقة كما هو مفاد الاستصحاب ، ومجرّد انطباق بعض موارده لموارد الاستصحاب غير قاض باعتبار الاستصحاب ؛ لعدم دلالة عليه في الرواية ، بل ذلك (1) لعلّه ظاهر الاستحالة ، فإنّ الحكم في هذه الرواية مناطه مجرّد الشكّ ، وفي الاستصحاب هو الشكّ مع الحالة السابقة ، فدليل أحد الحكمين لا يمكن أن يستفاد منه الآخر ، ولذلك لا يصحّ (2) التمسّك بأدلّة البراءة أو بغيرها من أدلّة الأصول التي تنطبق مواردها في بعض الأحيان لمورد الاستصحاب لاعتبار الاستصحاب.

الثالث : أن يكون المراد من الشيء العناوين الكلّية القابلة للحكم عليها بالطهارة كابن آوى (3) وكلب الماء والأرنب مثلا ، أو النجاسة ، فعند عدم العلم بحكمها الشرعي الواقعي لا بدّ من معاملة الطهارة معها حتّى يعلم شرعا أنّها قذر فيجتنب عنها ، فتكون الرواية مختصّة بالشبهة الحكمية ، ويحتمل الوجهين من المسبوقية وعدمها بالعلم بالطهارة إلاّ أنّه لا يدلّ على تقدير التعميم على الاستصحاب ؛ لما عرفت من

ص: 108


1- « ز ، ك » : وذلك.
2- « ج ، م » : ما صحّ.
3- يسمّى بالفارسية « شغال » الصحاح 4 : 2274.

اختلاف مناط القاعدتين ، والفرق بين هذا الاحتمال وسابقه ممّا لا يخفى ، فإنّ الرافع للجهل في السابق هو معرفة ذات الشيء من الرجوع إلى الواقع أو السؤال عن أهل الخبرة ، بخلاف هذا الاحتمال فإنّ رافع الاشتباه هو الدليل الشرعي كما مرّ غير مرّة.

ثمّ إنّ هذه الوجوه المحتملة كلّها مشتركة في أنّ الحكم المأخوذ فيها هو الحكم الظاهري لمكان الغاية وإن اختلفت في أنّ مفاد الأوّل هو اعتبار قاعدة الاستصحاب ، ومفاد الثاني والثالث هو اعتبار العلم في الحكم بالنجاسة ، فيكفي في الحكم بالطهارة عدم العلم بالنجاسة والشكّ فيها وإن اختلفا أيضا في اختصاص الثاني بالموضوعية (1) ، والثالث بالحكمية.

وهل يمكن إرادة المعاني الثلاثة من الرواية بأخذ معنى عامّ شامل للوجوه الثلاثة مع ما عرفت في الأخيرين من الاحتمال ، أو لا؟ وجهان : ذهب المحقّق القمي (2) إلى العدم نظرا إلى اختلاف الشبهة الحكمية والموضوعية في لزوم الفحص وعدمه ، وفي رفع الجهل فيهما ، فإنّ الحكمية جهلها يرتفع بالدليل دون الموضوعية ، وعدم حصول العلم الوجداني في الأحكام دون الموضوعات ، فاستعمال الرواية فيها يوجب إرادة أكثر من معنى واحد مع عدم الجامع من اللفظ.

وزعم بعض الأجلّة إرادة المعاني الثلاثة من الرواية فقال : إنّا لا نلتزم بأنّها مستعملة في كلّ واحد من المعاني المذكورة على الاستقلال حتّى يلزم ما ذكره ، بل في القدر المشترك بينهما كما بيّناه (3) ، انتهى.

فالمراد من الرواية أنّ الجزئيات الخارجية المجهولة حكما أو موضوعا ، سواء كانت مسبوقة بالعلم أو لا ، يحكم فيها بالطهارة حتّى يرتفع الجهل ويحصل العلم في كلّ واحد بحسبه ، ففي الموضوعات بالرجوع إلى أهل الخبرة ، وفي الأحكام بالرجوع إلى

ص: 109


1- « ز ، ك » : في الاختصاص بالموضوعية.
2- القوانين 2 : 64 وفي ط : ص 271.
3- الفصول : 373.

الأدلّة ، وفي الشبهة البدوية يرتفع الجهل ، وفي المسبوقة بالعلم يحصل اليقين بالخلاف ، هذا على ما ذكره الزاعم المذكور.

والتحقيق على ما عرفت عدم جواز إرادة المعاني الثلاثة من الرواية مع جواز إرادة المعنيين الأخيرين منها.

أمّا الأوّل : فلانتفاء القدر الجامع بين المعاني الثلاثة ؛ لما عرفت من أنّ مجرّد انطباق أحد الأصول للآخر موردا لا يصير منشأ لإرادة مفهومه من دليل الآخر بعد اختلاف مناطهما ، وما ذكره الزاعم المذكور وإن كان صحيحا إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ الانطباق بحسب المورد (1) ، وبعد اختلاف المناط لا يمكن إلقاء كلام واحد مفيد للمعنيين فإنّ الكلام في قاعدة الاستصحاب لا بدّ أن يكون مسوقا إلى بيان حال الطهارة السابقة واستمرارها لا لبيان الشكّ فيها من حيث كونه شكّا فقط على ما هو مناط الثاني.

وأمّا الثاني : فلوجود القدر المشترك بين المعنيين ، فالمراد بالشيء مطلق مجهول الحكم ، سواء كان الجهل باعتبار شبهة خارجية أو شبهة حكمية ، فالمعنى أنّ كلّ شيء لم يعلم حكمه من الطهارة والنجاسة من أيّ قسم كان فهو محكوم بالطهارة الظاهرية إلى حصول العلم بنجاسته ، وعمومه للمعنيين ظاهر ، وما ذكره المحقّق مانعا خارج عن طريقة استكشاف المرادات من الألفاظ كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بحسب إمكان الإرادة ، وأمّا أنّه هل هي ظاهرة (2) في المعنى الأوّل أو في الثاني أو في الأخيرين؟ فالظاهر ظهورها (3) في المعنى الثاني ؛ لأنّ جهل (4) الحكم وإن كان يسري إلى جهل الموضوع إلاّ أنّه خلاف الظاهر ، مضافا إلى أنّ المعصوم على ما هو (5) الظاهر من مساق الرواية إنّما هو في مقام إقعاد قاعدة يرجع إليها

ص: 110


1- « ك » : لا يفيد الانطباق إلاّ بحسب الموارد.
2- « ز ، ك » : هو ظاهر.
3- « ج ، م » : هو ظهورها.
4- « ز ، ك » : - جهل.
5- « ز ، ك » : المعصوم كما هو.

ولو عند حضوره عليه السلام ، والغالب هو الشبهة الموضوعية ، فإنّ الجهل الحكمي غالبا يرتفع بالسؤال عنهم عليهم السلام ، وأمّا إرادة المعنى الأوّل ففي غاية البعد كما لا يخفى ، هذا تمام الكلام في الرواية الأخيرة.

وأمّا الرواية الأولى فاحتمل المحقّق القمي (1) فيها الوجوه المذكورة ، إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّه غير مستقيم ؛ لأنّ القاعدة إنّما يحسن جعلها لموارد (2) الاشتباه ، ومن المعلوم بداهة عدم الاشتباه في الماء ، لا في طبيعة الماء (3) ولا في أفراده ، فلا بدّ من الحمل على بيان الحكم الظاهري من جهة الشكّ في عروض المزيل ، فينطبق (4) على الاستصحاب. وفيه : أنّ الاشتباه لا ينحصر (5) فيما يزعمه (6) ؛ إذ قد يحصل باعتبار العوارض ، فإنّ له أفراد (7) مختلفة بحسب ما يعرضه من الحالات من ملاقاته بالنجس مغيّرا له أو غيره ، ومن كونه قليلا أو كثيرا ، جاريا أو محقونا ، ويشاهد ذلك في الكرّ المتنجّس إذا شكّ في تطهيره بإلقاء كرّ عليه ، فإنّ قضيّة (8) القاعدة هو الحكم بالطهارة وإن كانت (9) قضيّة الاستصحاب خلافه. ثمّ إنّ الماء الذي هو مسبوق بالعلم بالنجاسة عند الشكّ في طهارته ونجاسته هل هو داخل فيما بعد الغاية نظرا إلى أنّ العلم أعمّ من الحاصل قبل الشكّ وبعده كما لعلّه يظهر من سيّد الرياض ، أو فيما قبله ؛ لأنّ الرواية منساقة إلى بيان حكم المشكوك ، فتشتمل (10) موارد الشكّ بأجمعها وهو الظاهر؟ وجهان ، إلاّ أنّ الاستصحاب حاكم على الأصل المذكور كما ستعرف إن شاء اللّه في محلّه (11).

فتلخّص من جميع ما مرّ أنّ هذه الروايات لا دلالة فيها على الاستصحاب في

ص: 111


1- القوانين 2 : 63 - 64 وفي ط : ص 271 - 272.
2- « ك » : في الموارد.
3- « ز ، ك » : طبيعته.
4- « ج ، م » : فتطبق.
5- « ج ، م » : لا تنحصر.
6- « ج ، ك » : زعمه.
7- كذا في النسخ ولعلّ الصواب : أفرادا.
8- « ز ، ك » : مقتضى.
9- « ج ، م » : كان.
10- « م » : فيشتمل ، وفي « ز ، ك » : فتشمل.
11- « ز ، ك » : - في محلّه.

مواردها فكيف بإثبات القاعدة الكلّية. هذا ما أفاده الأستاد في الاحتجاج بالروايات العامّة والخاصّة على حجّية الاستصحاب.

قلت : وينبغي القطع بدلالة هذه الأخبار على اعتبار الاستصحاب ، فإنّ غاية ما احتمله سلّمه اللّه في الروايات (1) هو احتمال العهد ، والإنصاف على ما هو ظاهر لمن جانب الاعتساف ظهورها (2) في الجنس ، فيتمّ المقصود. وبهذه الأخبار تنقطع أصالة عدم الاعتبار والآيات الناهية عن العمل بغير العلم وعدم جواز الافتراء على اللّه ، فإنّ الحكم في الزمان الثاني ثبوته ليس افتراء ولا قولا بغير علم ، بل هو إثبات للحكم بقوله : « لا تنقض » وعليك بإمعان النظر في دلالة الأخبار ، فلعلّها بعد تأمّل ما ظاهرة.

ص: 112


1- « ز ، ك » : احتمله الأستاد فيها.
2- « ز ، ك » : هو ظهورها.

هداية [ في حجّية الاستصحاب في الوضعيات دون الطلبيات ]

اشارة

قد عرفت (1) في بعض الهدايات السابقة نسبة القول بحجية الاستصحاب في الوضعيات دون الطلبيات إلى الفاضل التوني ، والمتراءى منه في الوافية عدم جريان الاستصحاب وتعقّله في الطلبيات دون عدم الحجّية ، فإنّ ذلك ربّما لا ينافي التعقّل ، كما أنّ المتراءى منه أيضا هو جريانه في نفس الأسباب والشرائط ، والأحكام الوضعية عندهم السببية والشرطية لا نفس الأسباب والشرائط ، قال - بعد تحديده له وتحرير الخلاف وذكر أدلّة الفريقين من الأخبار وغيرها وتنويع الأحكام إلى الوضعية والتكليفية - : إذا عرفت هذا فإذا ورد أمر بطلب شيء فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا ، أو لا ، وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك حينئذ في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا وهو ظاهر ، وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر للتكرار (2) ، وإلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان ، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أو لا. والتوهّم بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباه غير خفيّ (3) على المتأمّل ، فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء ولا

ص: 113


1- انظر ص 60.
2- في المصدر : التكرار.
3- « ج ، م » : مخفيّ.

يمكن أن يقال بأنّ إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب ، فإنّ هذا (1) لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا ، وكذلك الكلام في النهي ، بل هو أولى لعدم (2) توهّم الاستصحاب فيه ؛ لأنّ مطلقه يفيد (3) التكرار ، والتخييري كذلك ، فالأحكام الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعية لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب.

وأمّا الأحكام الوضعية فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة - كالدلوك لوجوب الظهر ، أو الكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك والنكاح وفيه لتحريم أمّ الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك - فينبغي أن ينظر إلى (4) كيفية سببيته (5) هل هي على الإطلاق كما في الإيجاب والقبول فإنّ سببيته على نحو خاصّ وهو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل (6) وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن كالدلوك ونحوه ممّا لم يكن السبب وقتا وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم ، فإنّ السببية في هذه الأشياء على نحو آخر فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة ، وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة؟ وكذا الكلام في الشرط والمانع.

فظهر ممّا مرّ أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعية أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة من حيث إنّها كذلك ، ووقوعه فيها إنّما هو بتبعيتها كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه : بأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ؛ لوجوبه قبل زوال تغيّره ، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة

ص: 114


1- « ز ، ك » : « إذ » بدل « فإنّ هذا ».
2- في المصدر : بعدم.
3- في المصدر : لا يفيد.
4- « ج ، م » : - إلى.
5- في المصدر : سببية السبب.
6- في المصدر : مزيل.

كانت ثابتة قبل زوال تغيّره فيكون (1) كذلك بعده ، ويقال في المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان فكذا بعده (2) ، والطهارة من الشروط.

قال : فالحقّ مع قطع النظر عن الروايات عدم حجّية الاستصحاب ؛ لأنّ العلم بوجود السبب والشرط والمانع (3) في زمان لا يقتضي العلم ، بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت (4) ، فالذي يقتضيه النظر بدون ملاحظة الروايات أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعية تعلّق الحكم بالمكلّف ، وإذا زال ذلك العلم بطروّ شكّ بل وظنّ به أيضا يتوقّف عن الحكم الثابت أوّلا (5) ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء يحكم به (6) حتّى يعلم زواله (7) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

واعترض عليه المحقّق القمي - تبعا للسيّد الشارح - : بأنّه من غرائب الكلام ؛ إذ الشكّ قد يحصل في التكليف في الموقّت كمن شكّ في وجوب إتمام الصوم لو حصل له المرض في أثناء النهار مع شكّه في أنّه هل يصحّ له الإفطار (8) أو لا؟ وكذلك في صورة التكرار وهو واضح (9). ومحصّل الإيراد عليه أنّه لا ينحصر (10) أسباب الشكّ فيما تخيّله ، فإنّه (11) قد يحصل في حصول الحدّ والوقت ، وقد يحصل في وجود المانع ، وقد يحصل في مانعية العارض ، ففي جميع هذه الصور يجري الاستصحاب من دون مانع ، ولا فرق في

ص: 115


1- في المصدر : فتكون.
2- بعده في المصدر : أي كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله فكذا بعده ، فإنّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء فكذا بعده.
3- في المصدر : أو الشرط أو المانع.
4- بعده في المصدر : كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟!
5- في المصدر : عن الحكم بثبوت الحكم الثابت أوّلا.
6- في المصدر : فإنّه يحكم به.
7- الوافية : 201 - 203.
8- في المصدر : هل يبيح له الفطر.
9- القوانين 2 : 53 - 54 وفي ط : 265.
10- « ج » : لا تنحصر.
11- « ز ، ك » : لأنّه.

ذلك بين الاحتمالات السابقة من (1) القول بالتكرار وغيره.

ولناصر الفاضل أن يذبّ عنه هذه الإيرادات بأنّ المستصحب في هذه الموارد هو الحكم الوضعي ؛ لأنّه يستصحب فيها عدم المانع ، وأمّا نفس الحكم المعلّق على عدم المانع فلا يمكن استصحابه ؛ لأنّه إن كان معلوما بجميع قيوده المعتبرة فيه فلا يعقل فيه الشكّ لاحقا وجودا وعدما ، وإلاّ فلم يكن معلوما في السابق فلا يجري الاستصحاب كما ستعرف تفصيله.

مضافا إلى أنّ الفاضل المذكور ومن يحذو حذو الأخباريين عندهم قاعدة مقرّرة موسومة بعموم الدليل وهي أنّه إذا ثبت حكم إلى زمان أو حال ، ثمّ شكّ بعد ذلك في عروض ذلك الحال أو في مانعية الحادث ، فلا بدّ من الأخذ بالدليل الدالّ على ذلك الحكم ، ففيما إذا شكّ في وجوب إتمام الصوم لو حصل له المرض - لاحتمال المانعية أو لاحتمال عروض ما هو المانع واقعا - يجب الأخذ بما دلّ على وجوب الصوم في مقابل هذه الاحتمالات نظرا إلى أنّ الدليل دلّ على وجوب الصوم إلاّ في حال كذا ، فلا يجوز الإخلال به إلاّ فيما علم أنّه حال كذا ، وليس نظرهم في هذا الحكم إلى الاستصحاب وثبوت الحكم في الزمان الأوّل ، بل هم يستندون في ذلك إلى عموم الدليل إلى أنّ يعلم بالمخصّص ، وهذه القاعدة وإن كانت فاسدة في نفسها - لأنّ دليل نفس الحكم لا ينهض لدفع الشكّ في عروض المانع أو في مانعية العارض أو حصول حدّ المحدود كما هو ظاهر ، فإنّه لا يتّكل عاقل فضلا عن فاضل في دفع احتمال عروض الطهارة بأدلّة حصول النجاسة في الماء ، وفي دفع احتمال ناقضية المذي للوضوء بأدلّة الوضوء ، فإنّ الأخذ بالعموم إنّما يحسن فيما يحتمل التخصيص ، وأمّا احتمال التخصيص بتبدّل الموضوع فلا مسرح للعامّ فيه - إلاّ أنّها تجدي (2) في دفع النقوض عنه.

ص: 116


1- « ز ، ك » : « و » بدل : « من ».
2- في النسخ : يجدي.

وبالجملة : فهذه القاعدة مقرّرة عند الأخبارية ، ففي موارد هذه الشكوك لا يستندون إلى الاستصحاب ، فموارد العمل بالاستصحاب عندهم هي مواضع الشكّ في المقتضي ، وبملاحظة هذه القاعدة تندفع النقوض المذكورة من كلامه ، فإنّ من (1) البعيد (2) في الغاية عدم تفطّنه لمثل هذه الأمور الواضحة الجليّة ، كيف وهو من فحول الصناعة وبزل الفنّ؟

فالتحقيق في دفع ما أفاده الفاضل أن يقال : إنّ كلامه غير محصّل المراد ، فإنّ صدره يشعر بما نسب إليه من التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية على ما هو ظاهر ، وذيل إفاداته يؤذّن بتفصيل (3) آخر وهو القول بحجّية الاستصحاب وجريانه في الأمور الخارجية والموضوعات التي يتعلّق بها الأحكام ، وعدمها في الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية ، على ما يظهر من قوله - بعد التقسيم المذكور في كلامه أوّلا وذكر الأسباب الشرعية - : وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، وقوله : فظهر ممّا مرّ أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعية أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة ، انتهى. وجريان الاستصحاب في نفس تلك الأحكام إنّما هو بتبعية جريانه فيها عنده.

وكيف كان فإن أراد الأوّل على ما يقتضيه ظاهر النسبة إليه فيرد عليه :

أوّلا : النقض بما إذا ثبت الحكم بدليل لبّي كالإجماع أو الشهرة على القول بها بعد العلم باستمراره في الجملة مع الشكّ في مقداره أو حصول معارض محتمل أو احتمال عروض ما هو المانع أو فى حصول الحدّ إذا كان محدودا ، وبما لو شكّ في النسخ ، وبما لو شكّ في صدق التكرار وعدمه عرفا بدون الإتيان بفرد ، وبما لو شكّ في الوجوب في الوقت إذا فقد المكلّف شرطا من شروطه كما إذا صار فاقد الطهورين ، وبما إذا دار

ص: 117


1- « م » : - من.
2- « ج » : البعد.
3- « ج » : تفصيل.

الأمر بين الفور والتراخي ، فإنّ هذه الصور كلّها محتاجة إلى الاستصحاب مع عدم دليل ينهض ثبوت الأحكام الثابتة فيها غير الاستصحاب ، فإنّ الأخذ بعموم الدليل في هذه الصور فيما لو كان لفظيا أيضا غير معقول ، ولا يتفوّه به في لسانهم أيضا ، فتدبّر.

ولو رام إلى ما أيّدنا به كلامه وانتصرناه (1) من أنّ الحكم إذا كان معلوما بجميع قيوده وموارده فلا يعقل الشكّ فيما سيأتي ، وإلاّ فلا علم به فيما مضى ، فينهدم الاستصحاب على التقديرين بانهدام أحد ركنيه ، قلنا : فينتقض بنفس الأحكام الوضعية ، فإنّ حكم الشارع بسببية شيء لو كان بجميع قيوده معلوما فلا شكّ ، وإلاّ فلا علم ، حرفا بحرف.

وثانيا بأنّ ما أورده من المثالين غير مطابق لما هو بصدده ، فإنّه ليس من استصحاب المانعية التي هي من الأحكام الشرعية ، بل هو استصحاب للموضوع الخارجي ؛ إذ لا شكّ في مانعية النجاسة وشرطية الطهارة حتّى يحتاج إلى الاستصحاب.

وثالثا : فبالحلّ ، وتحقيقه أنّ الحكم على قسمين عرفا : فتارة : يحتمل اختلافه باختلاف الزمان ؛ لاحتمال كونه مأخوذا فيه قيدا ، وأخرى : لا يحتمل ذلك ، وكذا (2) الكلام في سائر القيود المأخوذة في الحكم حالا أو شرطا أو صفة أو غيرها. فعلى الأوّل فهو كما أفاده كما في الأحكام الوجوبية ، بخلاف الثاني فإنّ الحكم أمر واحد استمراري عرفا ولا يحتمل اختلافه باختلاف الزمان (3) ، فيمكن تعلّق العلم به في الزمان الأوّل مع الشكّ فيه في ثاني الزمان كما في الأحكام التحريمية ، كذا أفاد.

قلت : فالشكّ غير معقول إلاّ بواسطة الرافع والمفروض رفعه بالعموم في كلامه.

ص: 118


1- « ز ، ك » : انتصرنا.
2- « ز ، ك » : كذلك.
3- « ز ، ك » : ولا يحتمل اختلاف الزمان.

وإن أراد الثاني فمرجع التفصيل في كلامه إلى التفصيل المنسوب إلى من هو من أهل مشربه من الأخباريين ، فيسقط عنه النقوض المذكورة وينطبق (1) مثاله لما هو بصدده ، ويبقى الكلام في تزييفه فيما ستعرفه في الهداية الأخبارية (2) ، إلاّ أنّه مع ذلك فلا يخلو ما نقلناه من كلامه كغيره من وجوه النظر ، فإنّه جعل الأحكام الاقتضائية هو الواجب والمندوب والمكروه والحرام والأحكام التخييرية الدالّة على الإباحة مع أنّ الأحكام الاقتضائية هي نفس تلك الأوصاف لا الذات المأخوذة معها تلك الأوصاف ، والحكم التخييري هو مجرّد الإباحة لا الدالّ عليها. ودعوى الإجماع على عدم جريان الاستصحاب في الموقّت مع وجود المخالف ، باطلة قطعا ، غاية الأمر بطلان المذهب ، ولا ينافي وجود القول كما نفاه. وحكمه بعدم جريان الاستصحاب في النهي على وجه الأولوية قد عرفت أنّ جريانه فيه أولى. وحكمه بدوام السببية (3) في الإيجاب والقبول ممّا لا دليل عليه ، غاية الأمر اعتبار الدوام في المسبب إذا حصل في الخارج ، وأمّا نفس السبب فقد يحتمل إهماله على بعض الوجوه ، ولذا يشكّ في جواز العقد بالفارسية بعد موت المفتي به مثلا. وقوله : فإنّ ثبوت الحكم في جزئه إلخ ، يستفاد منه اشتراط طبيعة الاستصحاب بعدم الدليل في الواقع في الزمان الثاني مع كفاية انتفائه عند الأخذ بالاستصحاب. وقوله : فظهر أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأسباب والشرائط والموانع من حيث إنّها كذلك ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيتها ، فيه أنّه لم يظهر منه جريانه لا في الوضعية ولا في التكليفية ، فلا يخلو من التهافت.

والقول بأنّ المستفاد من كلامه أنّ السببية تارة : دائمة ، وأخرى : وقتية ، فتبقى المهملة مجرى للاستصحاب ، ينافيه ظهور كلامه في الحصر بينهما ، على أنّه لو تمّ لجرى في الأحكام التكليفيّة ، فتأمّل في المقام فلعلّه لا يخلو عن شيء.

ص: 119


1- « ج » : تنطبق.
2- انظر ص 190.
3- « ج » : السبب.

ثمّ قد يؤيّد كلام الفاضل المذكور بوجه وجيه أفاده الأستاد أنار اللّه برهانه وملخّصه ما أشير إليه سابقا من أنّ الحكم الشرعي غير معلوم بجميع أنحائه وخصوصياته ، فيحتمل تقييده بمكان أو زمان ، وبعد ذلك فلا يجري الاستصحاب ، وتوضيحه وتنقيحه أنّ (1) ممّا برهنّا عليه في محلّه تبعية (2) الأحكام الشرعية للصفات الكامنة والمصالح الموجودة في نفس الأفعال التي هي متعلّقات لتلك الأحكام ، ومن الواضح الجليّ اختلاف الصفات باختلاف وجوه الفعل واعتباراته كاختلاف نفس الفعل باختلاف الحركات والسكنات ، فإنّه ليس خارجا عنهما ، فقد يكون الفعل حسنا في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان ، وقد يكون قبيحا إذا كان من فاعل كذا في مكان كذا في زمان كذا عن آلة كذائية ، وقد يكون قبيحا على وجه الإطلاق كما قد يكون حسنا كذلك ، فالفعل في كلّ هذه الصور ليس حاله متّحدا ؛ إذ يختلف بتلك الوجوه ، وهذه الاختلافات كما يلاحظ في الامساك فإنّه قد يعدّ قبيحا إذا لم يكن صاحب المال محتاجا مع احتياج الغير إليه (3) حاجة شديدة ، وقد يعدّ واجبا إذا كان صرفه في الغير - سيّما مع عدم الحاجة إليه - موجبا لإهلاك نفسه ، وناهيك (4) عن ذلك ملاحظة الأدوية التي يعالج بها الأمراض البدنية ، فإنّ تأثير الأفعال في تصحيح الأمراض النفسانية وتمريض النفوس الناسوتية ليس (5) في محلّ تنال إليه يد الإنكار ، فإنّ برهان ذلك بعد حكومة الوجدان به على منار ، فربّ دواء يرطّب في مزاج ويجفّف في آخر ، ويبرّد في طبع ويسخّن (6) في آخر ، فهما في الواقع مختلفان باعتبار وقوعهما في الحالتين ، فالأمر بأحدهما لا يوجب الأمر بالآخر. ولا ريب في أنّ (7) الآمر

ص: 120


1- « ز ، ك » : أنّه.
2- « ج ، م » : بتبعية.
3- « ج » : له.
4- في هامش « ز » : أي حسبك.
5- « ك » : التي ليس.
6- « ز ، ك » : يثخن.
7- « ج ، م » : - في.

إذا أمر بشيء وطلب وقوعه من المأمور إنّما يأمر ويطلب شيئا معلوما عنده على وجوه اختلافه ، فإن كان مطلقا فيطلبه كذلك ، وإن كان مقيّدا فيطلبه على تقييده ، فإنّ إنشاء الأمر والطلب تابع إطلاقه وتقييده بالزمان والمكان والحال والوصف والشرط والإضافة وغيرها من الأمور المتعلّقة بالأفعال التي تختلف باختلافها وتتكثّر بتكثّرها لإطلاق الفعل الذي اقتضت المصلحة الكامنة فيه بالأمر به وتقييده بالأمور المذكورة ، وذلك مشاهد من الأوامر المختلفة على وجوه شتّى في العرف والشرع ، فربّما يكون الشيء واجبا عينيا مضيّقا وأخرى موسّعا ، وتارة كفائيا على الوجهين ، وأخرى شرطيا ، وتارة تعليقيا ، ومرّة تخييريا ، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف ، فاختلاف الأمر في هذه الأفعال بواسطة اختلاف ضروب المصالح الموجودة فيها.

وإذ قد تحقّقت هذه الجملة تحقّق عندك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية عند الشكّ في كيفية الحكم ومدخلية شيء في ذلك ، وتوضيحه أنّه إذا ثبت وجوب شيء في زمان ، ثمّ شكّ في زمان آخر في بقائه ، فالمستصحب إن أراد به إبقاء الإنشاء الصادر من الآمر حين الشكّ ، فهو غير معقول ؛ لأنّ الإنشاء لا يراد به (1) إلاّ الإرادة الحتمية ، ولا شبهة في كونها آنية غير متقرّرة في الوجود ، فيستحيل بقاؤها.

وإن أراد به إبقاء الأثر الحاصل من الإنشاء المتعلّق بالفعل المنشأ فيه الوجوب الذي يعبّر عنه بالمطلوبية والمحبوبية ، فلا يجوز استصحابه ، فإنّ الإنشاء إن كان متعلّقا بالفعل في الزمان فالحالة المذكورة تنعدم بعد مضيّ الزمان الأوّل ، وإن كان متعلّقا به من دون اعتبار زمان فيه أو مع اعتبار زمان أطول منه فالحالة المذكورة باقية قطعا ، ولا شكّ في عدم جريان الاستصحاب على التقديرين ؛ للقطع بالارتفاع في الأوّل ، وبالبقاء في الثاني ، وإن كان وجه تعلّق الإنشاء بالفعل مشكوكا ، فلا يجري الاستصحاب أيضا ؛ لأنّه عبارة عن إبقاء الحكم في الزمان الثاني فيما كان (2) فيه الحكم

ص: 121


1- « ج ، م » : - به.
2- « ز ، ك » : فيما لو كان.

في الزمان الأوّل على وجه كانت القضيّة المعلومة متّحدة مع القضيّة المشكوكة ، وعند الشكّ لا يعلم بالاتّحاد ؛ لعدم العلم بالموضوع في القضيّة الأولى التي هي معلومة ، إذ المفروض إمكان اختلاف موضوعه بطريان العوارض وعروض الحالات والحوادث الزمانية وغيرها من الأمور التي يصير منشأ لاختلاف الحسن والقبح اللذين (1) هما منشآن للأمر والنهي على ما قرّرنا ، ومع الشكّ في الاتّحاد والاختلاف لا مجرى للاستصحاب ؛ إذ ليس هو إثبات حكم فرد لفرد آخر.

فلو شكّ في وجوب شيء في زمان فعلى ما ذكرنا لا بدّ من أن يقال : إنّ الشكّ فيه في الزمان الثاني إمّا شكّ في الوجوب النفسي بمعنى إفادته البراءة (2) على تقدير عدم كفاية دليل عنه يكفي في الحكم بعدم الوجوب.

وإمّا شكّ في الوجوب التخييري كما لو أمر بالصلاة وشكّ في أنّ وقتها إلى سقوط القرص أو زوال الحمرة المشرقية ، فإنّه يرجع الشكّ فما بين الزمانين إلى الشكّ في الوجوب التخييري ، والمرجع فيه إلى الاشتغال بمعنى الحكم بالضيق ؛ لأنّها به عدم المطلوبية (3).

وإمّا شكّ في الوجوب الغيري ، فلا بدّ من ملاحظة القول بجريان البراءة وعدمه في الواجبات الغيرية ، وليس لك القول بالاستصحاب نظرا إلى أنّ الوجوب (4) السابق هو بعينه مستصحب ، وليس الوجوب الثاني فردا آخر حتّى يدفع بأصالة البراءة ؛ إذ احتمال الاختلاف (5) مع وجود ما يحتمل أن يكون هو الوجه في الاختلاف كاف في عدم جريان الاستصحاب ، وقد عرفت أنّ الفعل يمكن اختلاف وجوهه ومصالحه

ص: 122


1- « ج ، ك » : الذين.
2- « ج » : في الوجوب اليقيني فأدلّة البراءة.
3- المثبت من « ز ، ك » وهامش « م » ، وفي « م » : لأنّها لعدم المطلوبية ، وفي « ج » : أصالة عدم المطلوبية.
4- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الواجب.
5- « ك » : الخلاف.

باختلاف القيود والطواري العارضة له ، فلا يعلم ببقاء الموضوع ، وعلى قياسه الكلام في سائر الأحكام من التحريم والاستحباب والكراهة والإباحة. لكن هذا كلّه بملاحظة ما تقتضيه (1) الدقّة ، ولا أظنّ ابتناء أمر الاستصحاب عندهم عليها ، فلعلّ جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية عندهم موقوف على المسامحة ، فإنّ الوجوب السابق مستصحب كما في الحرمة السابقة ، واحتمال اختلاف الوجوب والحرمة باختلاف الطواري العارضة للفعل ملغى عن أصله ، فإنّ هذه الطواري لا تعدّ قيودا للفعل عرفا ، سيّما في النهي على ما نبّهنا عليه ، فالزمان وما يقرب منه من متعلّقات الفعل مأخوذ ظرفا على وجه لا يختلف المظروف باختلافه ، وستطّلع على زيادة (2) تحقيق لذلك في بعض الهدايات الآتية (3) إن شاء اللّه (4).

تنبيه

ولعلّ عدّ الفاضل المذكور في عداد المفصّلين ليس على ما ينبغي ، فانّ المنع الصغروي ليس تفصيلا بعد تسليم الكبرى ، فإنّه لم يظهر منه مناقشة في دلالة الأخبار (5) فهو قائل بمفاد هذه الأخبار على وجه الكلّية كما يشعر بذلك حصره الاستصحاب المختلف فيه فيما تخيّله ، فمورد النفي والإثبات عنده هو هذا الاستصحاب.

ص: 123


1- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : « يقتضيه ».
2- « ج » : رائحة.
3- انظر ص 193 - 194 وص 387.
4- « ز ، ك » : - إن شاء اللّه.
5- « ز ، ك » : الدلالة للأخبار.

ص: 124

هداية شريفة في تحقيق مقالة منيفة [ في اختصاص الأخبار بالشكّ في الرافع ]

اشارة

قد اشتهر ذهاب أستاد الكلّ في الكلّ المحقّق الخوانساري إلى حجّية الاستصحاب فيما إذا ثبت حكم وعلم استمراره إلى حالة أو غاية معيّنة ، ثمّ شكّ فيه من جهة احتمال حدوث الحالة أو حصول الغاية أو من جهة كون الحادث مندرجا تحت المزيل ، وإلى عدمها في غير ما ذكر من سائر أصناف الشكوك.

والظاهر من كلامه في المشارق هو نفي الحجّية مطلقا ، نعم يظهر منه اعتبار قاعدة أخرى منطبقة لاستصحاب القوم في الموارد المذكورة ، قال في شرح قول الشهيد - ويجزي ذو الجهات الثلاث - : حجّة القول بعدم الإجزاء الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، والحجر الواحد لا يسمّى ثلاثة أحجار ، واستصحاب حكم النجاسة حتّى يعلم المطهّر الشرعي (1) ، وبدون المسح بثلاثة أحجار لم يعلم المطهّر الشرعي (2). إلى أن ساق الكلام إلى منع حجّية الاستصحاب ، ثمّ قال : اعلم أنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم إلى قسمين باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره ، فالأوّل مثل ما إذا ثبت حكم الشرع (3) بنجاسة ثوب أو بدن - مثلا - في زمان ، فيقولون إنّ بعد ذلك الزمان

ص: 125


1- في المصدر : لها مطهّر شرعا.
2- في المصدر : المطهّر شرعا.
3- في المصدر : حكم شرعي.

أيضا يجب الحكم بالنجاسة إذا لم يحصل اليقين بما يرفعها ، والثاني مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، فبعد ذلك الزمان أيضا يحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف ، وذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وبعضهم إلى حجّية القسم الأوّل فقط.

واستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها كلّها قاصرة عن إفادة المرام كما يظهر عند التأمّل (1) فيها ، ولم نتعرّض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب فنقول : الظاهر أنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجّية فيه أصلا بكلا قسميه ؛ إذ لا دليل عليه تامّا ، لا عقلا ولا نقلا.

نعم الظاهر حجّية الاستصحاب بمعنى آخر وهو أن يكون دليل شرعي على أنّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ثابت إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا - مثلا - معيّن في الواقع بلا اشتراطه بشيء أصلا ، فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في وجوده (2) ، انتهى.

وصراحة نفيه الاستصحاب المتنازع فيه (3) بين القوم كافية عن تقريب دلالته على ما ذكرنا ، والوجه فيه أنّ ما أفاده منطبق على بعض موارد الاستصحاب ، وهذا لا يوجب التفصيل فيه ، وذلك نظير ما لو توافق الاستصحاب مع البراءة ، فالقول بالبراءة لا يعدّ تفصيلا في الاستصحاب بعد اختلاف المناط ، فإنّ مناط الاستصحاب هو الوجود السابق ، ومناط ما أفاده هو نفس الشكّ في الفراغ بعد تيقّن الاشتغال ، غاية الأمر جريان الاستصحاب في المقام (4) أيضا.

وتوضيح المطلب : إذا ورد من الشارع أمر بصوم الغد إلى الليل وشكّ في تحقّق الغاية ووصول الليل ، فتارة : يؤخذ لوجوب الإمساك في الوقت المشكوك بالاستصحاب كما عليه القوم ، وتارة : بالاشتغال كما عليه المحقّق ، وأخرى : يؤخذ

ص: 126


1- « ز ، ك » : يظهر للمتأمّل.
2- مشارق الشموس : 75 و 76.
3- « ج ، م » : - فيه.
4- « ز ، ك » : - في المقام.

بنفس الخطاب والأمر كما عليه الأخبارية من تحكيم العامّ في الشبهة الموضوعية ، ومن المعلوم عدم ارتباط أحد الوجوه بالآخر ، فإنّ قضيّة الاشتغال وجوب الصوم والإمساك في زمان الشكّ من غير ملاحظة تبعية بعض الآنات للآخر على وجه لو فرض اجتماع تلك الآنات لكان الحكم فيها وجوب الإمساك بمقتضى القاعدة ، بخلاف الاستصحاب فإنّ الحكم في الزمان الثاني تابع له في الزمان الأوّل كما هو ظاهر ، فتدبّر ، كذا أفاد الأستاد (1) سلّمه اللّه تعالى.

قلت : والتفصيل المذكور المنسوب إليه في محلّه كما يؤذّن بذلك تمسّكه بأخبار الاستصحاب ، غاية الأمر جريان الاشتغال في موارد الاستصحاب الذي عنده حجّة ، فإنّ التمسّك بخبر الشكّ واليقين دليل على أنّ ثبوت الحكم عنده في زمان الشكّ بواسطة ثبوته في الأوّل وإن كان مجرّد الشكّ أيضا كافيا في جريان دليله الأوّل كما لا يخفى ، فتدبّر ، فالنسبة المذكورة مساهلة ظاهرة.

ثمّ قال روّح اللّه (2) روحه الشريف من غير فصل : والدليل على حجّيته أمران : الأوّل : أنّ ذلك الحكم إمّا وضعي أو اقتضائي أو تخييري ، ولمّا كان الأوّل أيضا عند التحقيق يرجع اليهما فينحصر في الأخيرين ، وعلى التقديرين يثبت ما ذكرنا ، أمّا على الأوّل فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية - مثلا - فعند الشكّ بحدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال ، فلا بدّ من بقاء ذلك التكليف حال الشكّ أيضا ، وهو المطلوب. وأمّا على الثاني فالأمر كذلك (3) كما لا يخفى (4) ، انتهى.

وتوضيح ما أفاده في المقام أنّه إذا وجب الإمساك من الفجر إلى غسق الليل فلو شكّ المكلّف في الجزء الآخر أنّه هل هو من الليل أو من النهار؟ يجب عليه

ص: 127


1- « ج ، م » : - الأستاد.
2- « ز ، ك » : - اللّه.
3- في المصدر : فالأمر أظهر.
4- المشارق : 76.

الإمساك (1) المشكوك تحصيلا لليقين بالفراغ بعد العلم بالاشتغال ، والتعبير بالظنّ في كلامه لعلّه مقيّد بالظنّ المعتبر شرعا ، وإلاّ فلا نرى له وجها ، وذلك في الأمر والنهي ظاهر جدا ، بل القول بالاشتغال في المقام في بعض موارده هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، بل يمكن دعوى الاتّفاق عليه (2) ، والمحقّق القمي مع مبالغته في نفي الاشتغال قد أذعن به في المقام ، إلاّ أنّ اتّكال المحقّق المذكور على عدم الخفاء في جريان قاعدة الشغل (3) في الإباحة ممّا لم نقف له على وجه فيا ليته لم يتّكل عليه ؛ لأنّ الوجه فيه في غاية الخفاء والغموض ، بل ممّا لا وجه له ، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هو ما أفاده المحقّق القمي حيث قال : وأمّا في الإباحة وما يستلزمه (4) من الأحكام الوضعية ، فلأنّ عدم اعتقاد إباحته يوجب عدم امتثال أمر اللّه تعالى ، فإنّ الاعتقاد بما سنّه (5) واجب ، واجبا كان أو مباحا أو غيرهما (6) ، وسقوطه ظاهر ، فإنّ وجوب الاعتقاد على ما سنّه على تقدير تسليمه لا يقضي بالاعتقاد إلى الغاية المعيّنة ؛ لأنّ ذلك واجب مطلقا قبل الغاية وبعد الغاية وعند الغاية من غير فرق في ذلك ، فإنّ الاعتقاد ليس وجوبه مغيّا بالغاية ، والمعتقد لا يؤثّر في الاعتقاد ، فإذا حكم الشارع بإباحة العصير قبل الغليان وشكّ في حصوله في زمان ، يحكم بوجوب اعتقاد الإباحة إلى حصول الغليان ، وذلك لا يوجب الحكم بكون المشكوك فيه ممّا وجب الاعتقاد فيه بالإباحة كما هو المطلوب ، مضافا إلى أنّ غاية الإباحة لا يعقل أن يكون إباحة ، بل لا بدّ أن يكون حكما اقتضائيا ، والمفروض وجوب الاعتقاد به أيضا ، فالحكم بوجوب الاعتقاد بالإباحة قبل الغاية دون ذلك الحكم تحكّم ، على أنّ المفروض أنّ المكلّف شاكّ في

ص: 128


1- « ج ، م » : إمساك.
2- « ج ، م » : - عليه.
3- « ج » : العمل؟
4- في المصدر : يستلزمها. ومن قوله : « وأمّا في الإباحة » إلى قوله : « الأحكام الوضعية » سقط من المصدر الذي طبع في المجلّدين.
5- في المصدر : سنّنه.
6- القوانين 2 : 67 وفي ط : 273 - 274.

الإباحة فلا يحصل الاعتقاد ؛ لعدم (1) اجتماع الاعتقاد والشكّ في مورد واحد.

قلت : هذا ما أفاده أستادنا المحقّق في المقام ، ويمكن أن يقال : إنّ بقاء الإباحة في صورة الإباحة موقوف على أصالة البراءة ، فإنّ المفروض أنّ غاية الإباحة هو الوجوب والحرمة ، فالشكّ في حصول الغاية شكّ في التكليف التحريمي أو الوجوبي والأصل البراءة ، فثبت (2) الإباحة ، فالأحكام الاقتضائية ثبوتها في زمان الشكّ عنده مستند (3) إلى الاشتغال ، والإباحة إلى البراءة (4) ، إلاّ أنّ ذلك بعد عدم ظهوره من كلامه لا يتمّ فيما كانت الغاية مندوبة أو مكروهة ، على أنّ البراءة لا يفيد عدا نفي العقاب ولا يفيد حكما ولو كان إباحة (5) على ما برهن عليه في محلّه.

ثمّ قال قدس اللّه نفسه الزكية : والثاني : ما ورد في الروايات من أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ (6) ، فإن قلت : هذا كما يدلّ على حجّية المعنى المذكور كذلك يدلّ على المعنى الذي ذكره القوم ؛ لأنّه إذا حصل اليقين في زمان فينبغي أن لا ينقض في زمان آخر بالشكّ نظرا إلى الرواية ، وهو بعنيه ما ذكروه.

قلت : الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض به ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وفيما ذكروه ليس كذلك ، لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ (7) ، وهو ظاهر (8) ، انتهى.

وتوضيح ما أفاده المحقّق المذكور هو أنّ هذه الأخبار إنّما هي مسوقة لبيان الحكم الظاهري وعلاج في الواقعة المشكوكة ، فلا يعقل أن يكون المأمور به في تلك الأخبار

ص: 129


1- « ج » : بعدم.
2- « ج » : فيثبت.
3- « ك » : مستندة.
4- « ج » : لا إلى البراءة ، وفي « ك » : لا البراءة.
5- « ج » : الإباحة.
6- « ج ، م » : - بالشكّ.
7- « ز » : شك ، وفي المصدر : ليس ما يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض شكّ.
8- المشارق : 76.

غير ممكن الحصول ، وعلى هذا التقدير فلا دلالة فيها على استصحاب القوم وتدلّ على الاستصحاب بالمعنى الذي ذكره.

فكلامه متضمّن لدعويين : الأولى : أنّ المراد بالرواية ليس النهي عن النقض مطلقا بل عند التعارض بالمعنى الذي فسّره وهو أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ. الثانية : أنّ هذه الرواية بعد ما عرفت المراد منها لا دلالة فيها على استصحاب القوم.

أمّا الأولى فلأنّ ظاهر لفظ النقض في اللغة والعرف هو كسر الشيء إذا كان متّصل (1) الأجزاء خلاف الإبرام ، ولا بدّ في تحقّق (2) هذا المعنى من اجتماع الناقض والمنقوض ، فإنّ ذلك لا يحصل إلاّ بعد التصادم والتعاند ، ومنه قوله تعالى : ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) (3) ولا ريب في استحالة إرادة هذا المعنى من الرواية ؛ لامتناع اجتماع الشكّ واليقين فإنّ فرض أحدهما ينافي وجود الآخر ، وعلى تقدير إرادة هذا المعنى من أخبار الباب لا بدّ أن يكون اليقين أمرا متّصلا مستمرّا ، ثمّ ينقطع ذلك الأمر المستمرّ بحدوث الشكّ ، وبطلانه أمر بيّن ، فلا مناص من حملها على خلاف ما هو الظاهر من لفظ النقض على وجه يكون أقرب إلى معناه الحقيقي كما قرّر من لزوم ذلك عند تعذّر الحقيقة ، وأقرب الوجوه إلى المعنى الحقيقي هو أن يكون الشكّ متعلّقا على قضيّة تعلّق بها اليقين قبل حدوث الشكّ ، فيكون المعنى : إذا حصل اليقين بشيء ، ثمّ شكّ في صحّة ذلك اليقين ، فلا بدّ من الأخذ باليقين وعدم الاعتناء بالشكّ ، فإنّه على هذا التقدير (4) تكون القضيّة المعلومة هي بعينها القضيّة المشكوكة من غير تغاير ، ولا ريب في أقربية هذا المعنى من معنى النقض ؛ لاجتماع الشكّ واليقين في مورد واحد من جميع الوجوه حتّى في الزمان أيضا بالنسبة إلى متعلّقهما وإن كان زمان حصولهما متغايرا.

ص: 130


1- « م » : متّصلة.
2- « م ، ك » : تحقيق.
3- النحل : 92.
4- « ز » : التقرير.

فتكون (1) الرواية دليلا على اعتبار أصالة الصحّة في الاعتقادات وتكون (2) من وجوه الدليل على اعتبار استصحاب (3) الساري ، إلاّ أنّ ملاحظة صدر الرواية وذيلها وعدم الارتباط بينها وبين التعليل المذكور في رواية الوضوء - كما ستعرف تفصيل ذلك في محلّه بعيد ذلك (4) إن شاء اللّه - يوجب الإعراض عن هذا المعنى إلى معنى آخر أقرب إلى المعنى الحقيقي بين المعاني المحتملة ، وما يحتمل قريبا في الرواية وجهان : أحدهما يدلّ على استصحاب القوم ، والآخر على استصحاب المحقّق.

أمّا الأوّل : فهو أن يراد من النقض مطلق الأخذ بخلاف الأحكام والآثار المترتّبة على المتيقّن.

وأمّا الثاني : فهو أن يراد من النقض الأخذ (5) بالآثار التي من شأنها البقاء (6) لو لا الشكّ.

ولا شكّ أنّ الثاني أقرب إلى معنى النقض (7) من الأوّل ، وتوضيحه أنّ صدق معنى النقض حقيقة موقوف على وجود أمرين في زمان واحد ، فيتحقّق (8) التعارض والتعاند بينهما فينقض (9) أحدهما بالآخر ، وإذا امتنع تحقّق هذا المعنى فالأقرب إليه أن يراد من اللفظ ما يتحقّق (10) فيه التعارض شأنا ، وذلك لا يصدق إلاّ مع بقاء مقتضي الحكم من زمان إلى زمان ، ثمّ يعرض في الوسط ما يحتمل كونه مزيلا أو احتمل عروض المزيل أو نحو ذلك ، وانطباق هذا المعنى على استصحاب (11) المحقّق ظاهر ، وليس ما ذكرنا من

ص: 131


1- « ج ، م » : فيكون.
2- في النسخ : يكون.
3- كذا. ولعلّ الصواب : الاستصحاب.
4- « ج » : - بعيد ذلك.
5- « ج ، م » : هو الأخذ.
6- سقطت عبارة : « وأمّا الثاني » إلى هنا من نسخة « ك ».
7- « ز ، ك » : إلى النقض معنى.
8- « ز » : فيحقّق.
9- « ج » : فينتقض.
10- « ج ، م » : اللفظ تحقّق.
11- « ز ، ك » : الاستصحاب.

الأقربية مخصوصا بالرواية المشتملة على لفظ النقض كما توهّمه جماعة ، بل لفظ الدفع كما في رواية العلوي « أنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » (1) أيضا الظاهر منه ما ذكرنا كالرواية المشتملة على قوله : « اليقين لا يدخله الشكّ » فإنّ قوله : « لا يدخله » أيضا مثل قوله : « لا تنقض » ظاهر فيما ذكرنا (2) بعد امتناع إرادة المعنى الحقيقي منها.

وأمّا الثانية : فقد ظهر ضعفها (3) في خلال تقريب الأولى فلا حاجة إلى إطالة الكلام في تقريرها ، فإنّ التعارض لا يحصل إلاّ فيما ذكره دون ما ذكره القوم.

فإن قلت : إنّ الأمر في استصحاب القوم أيضا كذلك ؛ إذ ليس الكلام في الأحكام الموقّتة التي تزول بزوالها ، ولا فيما تنعدم بعد وجودها آناً ما ، بل في الأحكام القابلة للبقاء والزوال حين الشكّ ، وحينئذ فلو فرض عدم الشكّ في البقاء لكان اليقين به في محلّه ، فإنّ عروض الشكّ لا يمكن إلاّ فيما احتمل انتفاء جزء من العلّة المقتضية للحكم ، فعند عدم الشكّ فلا بدّ من القطع ببقاء العلّة التامّة ، فتفرّع عليها القطع ببقاء الحكم ، فاليقين حاصل لو لا الشكّ.

قلت : نعم ولكن لا بدّ أن يعلم أنّ مراد المحقّق - على ما يظهر في الحاشية التي علّقها على غير المقام على ما حكاه السيّد الشارح في شرح الوافية - هو وجود المقتضي للحكم المعمول به عند عدم الشكّ قطعا ، لامجرّد عدم الشكّ فإنّه وإن كان يلازم اليقين لكنّه بواسطة انتفاء الواسطة بين الشكّ واليقين ، فإنّ المراد بالشكّ ما عدا اليقين في المقام وذلك لا ينافي الشكّ في وجود المقتضي أيضا بخلاف ما ذكره فيما فسّر التعارض بأن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، فالمفروض عنده وجود خطاب يقضي بالحكم لو لا معارضة الشكّ ، ولا ريب في أنّه إذا فرض ارتفاع المعارض بانتفاء احتمال المانع وجب الأخذ بالمقتضي فإنّه يؤثّر (4) أثره على تقدير عدم المانع.

ص: 132


1- تقدّم في ص 103.
2- « ز ، ك » : ذكر.
3- « ج ، م » : صدقها.
4- « ز ، ك » : لا يؤثّر.

لا يقال : إنّ ارتفاع الشكّ لا يوجب اليقين بالبقاء دائما ؛ لإمكان ارتفاعه باليقين بالعدم ، فارتفاع الشكّ لا يوجب اليقين كما هو المقصود.

لأنّا نقول : المفروض وجود المقتضي للحكم في استصحابه ، فالقطع بالعدم لا يتصوّر إلاّ بواسطة القطع بوجود المزيل ، وخروجه عن مفروضه معلوم مفروض.

ثمّ قال طيّب اللّه رمسه اللطيف (1) : فإن قلت : هل الشكّ في كون شيء مزيلا للحكم مع اليقين بوجوده كالشكّ في وجود المزيل أو لا (2)؟

قلت : فيه تفصيل ؛ لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمرّ إلى غاية معيّنة في الواقع ، ثمّ علمنا صدق تلك الغاية على شيء وشككنا في صدقها على شيء آخر (3) أم لا ، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشكّ ، وأمّا إذا لم يثبت ذلك ، بل إنّما ثبت أنّ ذلك الحكم مستمرّ في الجملة ومزيله الشيء الفلاني وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيله أم لا ، فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت استمراره ؛ إذ الدليل الأوّل ليس بجار فيه ، لعدم ثبوت حكم العقل في هذه الصورة (4) ، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما (5) لا يعلم ، والدليل (6) الثاني الحقّ أنّه لا يخلو عن إجمال ، وغاية ما يسلّم منه إفادته (7) الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما وإن كان فيه بعض المناقشات (8) ، لكنّه لا يخلو من (9) تأييد للدليل الأوّل ، فتأمّل (10) ، انتهى.

وسوق كلامه هذا لبيان الحكم فيما إذا جاء الشكّ من جهة الشك في مزيلية

ص: 133


1- « ز ، ك » : الشريف.
2- « ز ، ك » : أم لا.
3- في المصدر : ثمّ علمنا حصولها عند حصول شيء وشككنا في حصولها عند حصول شيء آخر.
4- في المصدر : في مثل هذه الصورة.
5- المثبت من « ج » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : « عمّا ».
6- « م » : دليل.
7- في المصدر : إفادة.
8- « ج » : المنافيات.
9- « ز ، ك » : عن.
10- المشارق : 76.

الحادث ، وحاصله التفصيل بين ما إذا كان الشكّ راجعا إلى الشكّ في الدليل المثبت لليقين في السابق الموجب لإجماله ، وبين ما لم يكن راجعا إلى الشكّ فيه وموجبا لإجماله ، فيحكم ببقاء التكليف على الأوّل دون الثاني ، ودليله في المقام هو ما ذكره فيما إذا كان الشكّ في حصول المزيل وبلوغ الغاية ، فانّ قاعدة الاشتغال جارية (1) بعد العلم بالتكليف من دون إجمال في المكلّف به مفهوما ، بخلاف ما إذا كان مفهومه مجملا فلا يجري عنده القاعدة المذكورة. نعم دليله الثاني لا يقضي (2) بالفرق كما نبّه عليه أيضا.

والحاصل أنّ تفصيله في المقام راجع إلى تفصيله سابقا من أنّ الشكّ إن كان من جهة إجمال الدليل المقتضي لليقين السابق فلا يحكم ببقاء التكليف ، وإن لم يكن كذلك بأن يكون الدليل مسبّبا فيحكم بالبقاء.

ثمّ قال قدس اللّه لطيفه (3) : فإن قلت : الاستصحاب الذي يدّعونه (4) فيما نحن فيه وأنت قد منعته الظاهر أنّه من قبيل ما اعترفت بحجّيته ؛ لأنّ حكم النجاسة ثابت ما لم يحصل الظنّ (5) المعتبر شرعا بوجود المطهّر ، لأنّ حسنة ابن المغيرة وموثّقة ابن يعقوب ليستا حجّتين شرعيتين (6) خصوصا مع معارضتهما بالروايات كما تقدّم ، فغاية الأمر حصول الشكّ بوجود المطهّر وهو لا ينقض اليقين كما ذكرت ، فما وجه المنع؟

قلت : كونه من قبيل الثاني ممنوع ؛ إذ لا دليل على أنّ النجاسة ثابتة ما لم يحصل مطهّر شرعي ، وما ذكروه (7) من الإجماع غير معلوم ؛ لأنّ غاية ما أجمعوا عليه أنّه (8) بعد التغوّط لا يصحّ الصلاة - مثلا - بدون الماء والتمسّح رأسا بثلاثة أحجار متعدّدة ولا بشعب حجر واحد ، وهذا الإجماع لا يستلزم الإجماع على ثبوت الحكم والنجاسة (9)

ص: 134


1- « ز ، ك » : هي جارية.
2- « ج » : لا يقتضي.
3- « ج » : روحه.
4- « ز ، ك » : ندّعونه.
5- في المصدر : ما لم يحصل مطهّر شرعي إجماعا وهاهنا لم يحصل الظنّ.
6- في النسخ والمصدر : حجّة شرعية.
7- في المصدر : ذكره.
8- « ج ، م » : أنّ.
9- في المصدر : ثبوت حكم النجاسة.

حتّى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا ، فلا يكون من قبيل ما ذكرنا.

فإن قلت : هب أنّه ليس داخلا تحت الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : إنّه قد ثبت بالإجماع وجوب شيء على المتغوّط في الواقع ، وهو مردّد بين أن يكون المسح بثلاثة أحجار متعدّدة أو الأعمّ منه ومن المسح بجهات حجر واحد ، فما لم يأت بالأوّل لم يحصل اليقين بالامتثال والخروج عن العهدة ، فيكون الإتيان به واجبا.

قلت : الإجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مبهم في نظرنا عليه (1) بحيث لو لم يأت بذلك الشيء المعيّن لا يستحقّ العقاب (2) ، ممنوع ، بل الإجماع على (3) ترك الأمرين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فيجب أن لا يتركهما ، والحاصل أنّه إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن (4) - مثلا - معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معلومة عندنا ، فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم حتّى يتحقّق الامتثال ولا يكفي الشكّ في وجوده ، وكذا يلزم الحكم ببقاء ذلك الحكم إلى أن يحصل العلم أو الظنّ بوجود تلك الغاية المعلومة ولا يكفي الشكّ في وجودها في ارتفاع ذلك الحكم ، وكذا (5) إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد عندنا بين أشياء (6) ونعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم - مثلا - يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّدة بينها (7) في نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء أيضا ، ولا يكفي الإتيان بشيء واحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد في

ص: 135


1- في المصدر : في الواقع منهم في نظره عليه.
2- في المصدر : العقاب به.
3- في « ك » والمصدر : على أنّ.
4- في المصدر : - معيّن.
5- في المصدر : كذلك.
6- في المصدر : مردّد في نظرنا بين أمور ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء - مثلا - أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء.
7- في المصدر : فيها.

ارتفاع الحكم ، سواء (1) في ذلك كون ذلك الواجب شيئا معيّنا في الواقع مجهولا عندنا ، أو أشياء كذلك ، أو غاية معيّنة في الواقع مجهولة عندنا ، أو غايات كذلك ، وسواء أيضا تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات ، أو تباينها بالكلّية ، وأمّا إذا لم يكن كذلك وورد (2) نصّ - مثلا - على أنّ الواجب الشيء الفلاني ونصّ آخر على أنّ ذلك الواجب شيء آخر وذهب بعض الأمّة إلى وجوب شيء والآخرون إلى وجوب شيء آخر دونه وظهر بالنصّ أو الإجماع في الصورتين أنّ ترك ذينك (3) الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما معا حتّى يتحقّق الامتثال ، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر ، أو تباينا كلّية (4) ، وكذلك الحكم في ثبوت الحكم إلى غاية (5).

هذا مجمل القول (6) في هذا المقام وعليك بالتأمّل في خصوصيات الموارد واستنباط أحكامها عن (7) هذا الأصل ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المعارضات ، واللّه الهادي إلى سواء الطريق (8) ، انتهى كلماته الشريفة قدّس اللّه سرّه (9).

وللمحقّق المذكور كلام (10) آخر في الحاشية على ما حكاه السيّد الشارح مربوط بالمقام لا بأس بإيراده كي ينقّح (11) المرام فقال - عند شرح قول الشهيد رحمه اللّه (12) : ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه - : توضيحه (13) أنّ الاستصحاب لا دليل على حجّيته عقلا ، وما تمسّكوا به ضعيف ، وغاية ما يتمسّك فيها ما ورد في بعض الروايات (14)

ص: 136


1- في المصدر : وسواء.
2- في المصدر : بل ورد.
3- في المصدر : ذلك.
4- « ز ، ك » : كلّيا ، وفي المصدر : بالكلّية.
5- في المصدر : الغاية.
6- « ج » : الكلام.
7- « ز ، ك » : من.
8- المشارق : 76 - 77.
9- « ز ، ك » : - قدّس اللّه سرّه.
10- « ز ، ك » : ثمّ إنّ للمحقّق المذكور كلاما.
11- « ج ، م » : يتّضح.
12- « ج ، م » : - رحمه اللّه.
13- « ج » : وتوضيحه.
14- « ز ، ك » : الأخبار.

الصحيحة : « أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ أبدا أو أنّه ينقضه بيقين آخر مثله » (1) وعلى تقدير تسليم صحّة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الحكم الظاهر (2) أنّه من الأصول ويشكل التمسّك بالخبر الواحد في الأصول إن سلّم جواز التمسّك به في الفروع ، نقول : الظاهر أوّلا أنّه لا يظهر شموله للأمور الخارجية مثل رطوبة الثوب ونحوها ؛ إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الأمور الذي ليس حكما شرعيا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي بالعرض ، ومع عدم الظهور لا يمكن الاحتجاج به فيها ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الأمور الخارجية لا عبرة به.

ثمّ بعد تخصيصه بالأحكام الشرعية نقول : الأمر على وجهين : أحدهما : أن يثبت حكم شرعي في مورد خاصّ باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحالة لا يستلزم زوال ذلك الحكم ، والآخر : أن يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك.

مثال الأوّل إذا ثبت نجاسة ثوب خاصّ باعتبار ملاقاته للبول بأن يستدلّ عليها بأنّ هذا شيء لاقاه البول ، وكلّ ما لاقاه البول نجس ، فهذا نجس ، والحكم الشرعي النجاسة ، وثبوته باعتبار حال هو ملاقاة البول وقد علم من خارج ضرورة أو إجماعا أو غير ذلك بأنّه لا تزول (3) النجاسة بزوال الملاقاة فقط.

ومثال الثاني ما نحن بصدده فإنّه ثبت وجوب الاجتناب عن الإناء المخصوص باعتبار أنّه شيء يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه ، وكلّ شيء كذلك يجب الاجتناب عنه ولم يدلّ دليل (4) من الخارج أنّ (5) ذلك الوصف الذي يحصل باعتبار زوال المعلومية بعينه لا دخل له (6) في زوال الحكم.

ص: 137


1- تقدّم في ص 88.
2- في المصدر : في مثل هذا الحكم وعدم منعها بناء على أنّ هذا الحكم الظاهر.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ والمصدر : « لا يزول ».
4- في المصدر : ولم يعلم بدليل.
5- في المصدر : + زوال.
6- « ج » : فيه.

وعلى هذا نقول : شمول الخبر للقسم الأوّل ظاهر ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه ، وأمّا القسم الثاني فلا ، فالتمسّك (1) فيه مشكل.

فإن قلت : بعد ما علم في القسم الأوّل أنّه لا يزول الحكم بزوال الوصف فأيّ حاجة إلى التمسّك بالاستصحاب؟ وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار بأنّ (2) اليقين لا ينقض إلاّ بمثله؟

قلت : القسم الأوّل على وجهين : أحدهما : أن يثبت [ أنّ ](3) الحكم بمثل النجاسة بعد ملاقاة النجس حاصل ما لم يرد عليه الماء على الوجه المعتبر في الشرع ، وحينئذ فائدته أنّ عند حصول الشكّ بورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة ، والآخر : أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف لكن لم يعلم أنّه ثابت دائما أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة أو لا ، وفائدته حينئذ أنّه إذا ثبت الحكم فيستصحب إلى أن يعلم المزيل.

ثمّ لا يخفى أنّ الفرق الذي ذكرنا من أنّ إثبات مثل هذا بمجرّد الخبر مشكل ، مع انضمام أنّ (4) في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل وأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، قد يقال : إنّ ظاهره أن يكون اليقين حاصلا لو لا الشكّ باعتبار دليل دالّ على الحكم في غير صورة ما شكّ فيه ؛ إذ لو فرض عدم دليل عليه لكان نقض اليقين حقيقة باعتبار عدم الدليل الذي هو دليل العدم لا الشكّ كأنّه يصير قريبا ، ومع ذلك ينبغي الاحتياط في كلّ من القسمين ، بل في الأمور الخارجية أيضا (5) ، انتهى كلامه الشريف في التعليقة.

وخلاصته ما أورد على نفسه في الكلام المنقول عنه (6) قبل الحاشية (7) من قوله : فإن

ص: 138


1- « ج » : فلأنّ التمسّك.
2- « ز ، ك » : من أنّ.
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- « ك » : أنّ الظهور.
5- شرح الوافية ( مخطوط ) : 133 / ب - 134 / أ.
6- « ج ، م » : - عنه.
7- في ص 135.

قلت : هو إرجاع ما يكون الشكّ فيه من حيث احتمال مانعية الشيء شرعا - كالمذي والاستنجاء بحجر ذي ثلاث شعب - إلى ما يكون الشكّ فيه من جهة الصدق حتّى يقال بجريان الاستصحاب فيه ، وبيان الرجوع فبانتزاع مفهوم عامّ يشكّ في صدقه على المشكوك (1) المانعية كأن يقال : إنّ الوضوء باق إلى حدوث المزيل ، والنجاسة باقية إلى حدوث ما يرتفع بها ، ويشكّ في صدق المزيل على المذي كالرافع على الحجر المذكور فيؤخذ بالاستصحاب في دفع الشكّ.

وخلاصة ما أجاب به عن ذلك هو أنّه لا وجه للإرجاع المذكور ؛ إذ المناط على العناوين الموجودة في كلام الشارع وليس في كلامه ما يدلّ على بقاء النجاسة إلى حدوث ما به يرتفع (2) قطعا ، فانّ الإجماع المدّعى على ذلك ممنوع ، نعم العقل قد انتزع هذا العنوان من قبل نفسه ولا يناط عليه كما هو ظاهر.

ونظير ما أورده في المقام ودفعه كثير (3) كتوهّم البعض عدم جواز الأخذ بالعمومات والأصول الكلّية بعد العلم بوصول التخصيص بها إجمالا. وقد أجبنا عنه بأنّ العامّ المخصّص بالمجمل إنّما يقصر عن الحجّية فيما لم يكن الإجمال انتزاعيا عقليا كما إذا قال الشارع : « أكرم العلماء إلاّ بعضهم » وأمّا فيما مثل المقام (4) فذلك يوجب الفحص على وجه لا يبقى معه العلم الإجمالي بالمخصص وبعد ذلك فظاهر العامّ محكّم ، ومنه حسبان بعضهم عدم جواز التمسّك بقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (5) عند الشكّ في وجوب الوفاء بعقد ؛ لتخصيصه بالعقود الجائزة قطعا ، فعند الشكّ لا يعلم بدخول المشكوك في عنوان المخصّص أو المخصّص ، والجواب عنه أيضا ما عرفت من عدم الاعتبار بعنوان المخصّص الانتزاعي. ومنه أيضا توهّم عدم جواز التمسّك بقوله : « صلّ » لإثبات صحّة صلاة مشكوكة ؛ إذ المراد بالأمر ما لا يكون فاسدا ، وفيه أيضا أنّ الصحّة والفساد

ص: 139


1- كذا. ولعلّ الصواب : مشكوك.
2- « ج » : يرتفع به.
3- هذا هو الصواب وفي « ج ، م » : كثيرة ، وفي « ز ، ك » : كغيره.
4- « ز ، ك » : وأمّا في مثل المقام.
5- المائدة : 1.

أمران انتزاعيان وليسا ممّا جاءا من قبل الشارع ، فلا اعتداد بهما.

وأمّا ما أفاده أخيرا فمرجعه إلى جريان قاعدة الاشتغال فيما إذا علم بوجود المكلّف به بين أشياء مردّدة ، وعدم الأخذ بمقتضاها من القول بوجوب الموافقة القطعية بعد القول بحرمة المخالفة القطعية فيما إذا علمنا إجمالا بأنّ الحكم إمّا كذا وإمّا كذا ، من غير فرق في ذلك بين دوران الأمر بين المتباينين أو الأقلّ والأكثر.

وأمّا ما أورده في التعليقة فلعلّه مطابق لما حقّقه في المقام كما يظهر بالتأمّل ، إلاّ أنّه يظهر من قوله : ثمّ لا يخفى أنّ الفرق الذي (1) إلخ ، وجه (2) آخر في الاستدلال على مرامه ، ومحصّله : أنّ الظاهر من الأخبار عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، ولا ريب أنّه إذا لم يعلم مقدار الاقتضاء ففي زمان الشكّ لا دليل على الحكم السابق ، فإنّ المفروض عدم شموله لزمان الشكّ ، ومن المقرّر في مقامه هو الأخذ بمقتضى « عدم ثبوت الحكم عند عدم دليل عليه ؛ لأنّه دليل العدم » ففي الزمان الثاني الذي يشكّ في (3) ثبوت الحكم فيه لا مورد لقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » لأنّه نقض له باليقين ؛ لما حقّق في محلّه من حجّية « عدم الدليل دليل العدم » بخلاف ما إذا علمنا مقدار الاقتضاء فإنّ الدليل الأوّل شامل لزمان الشكّ ، فإذا حكمنا بخلافه فإنّما هو نقض لليقين بالشكّ لا لأجل عدم الدليل ؛ إذ المفروض وجود الدليل ، فالأخبار لا تشمل ما إذا كان الشكّ في مقدار زمان الحكم كما فرضه القوم.

فصار الحاصل من مذهب المحقّق المذكور أنّه إذا كان الحكم الشرعي محدودا إلى غاية معيّنة أو حالة كذلك ، فلا بدّ من الحكم ببقائه عند الشكّ في وجود الغاية أو الحالة المزيلتين ، وأمّا إذا لم يكن كذلك سواء كان الشكّ في وجود الدليل المقتضي للحكم أو كان الشكّ في مانعية الموجود ، أمّا الأوّل : فصريح كلماته المنقولة تنادي

ص: 140


1- « ز ، ك » : - الذي.
2- « ج ، م » : وجها.
3- « ج ، م » : - في.

بذلك ، وأمّا الثاني : فيظهر منه فيما أورده على وجه السؤال بقوله : « هل الشكّ في كونه إلخ » فإنّ لازم تضعيف أدلّة الاستصحاب والحكم بإجمالها حجّيته في الصورتين اللتين نبّه عليهما فقط : الأولى : الشكّ في وجود الغاية المعلومة أو المزيل المعلوم ، الثانية : الشكّ في صدق الغاية على شيء ، فالأوّل كما إذا شكّ في وجود الليل (1) بعد كونه غاية للصوم ، أو في حدوث البول بعد العلم بكونه مزيلا للطهارة ، و (2) الثاني كالشكّ في صدق النوم المزيل على الخفقة والخفقتين (3) مثلا ، ويجمعهما الشكّ من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي بعد العلم بالحكم الشرعي ، وأمّا إذا كان الشكّ في نفس الحكم الشرعي كالشكّ في مانعية المذي للطهارة بعد العلم بعدم صدق المزيل المعلوم المزيلية وهو البول عليه ، وكالشكّ في إزالة النجاسة بالتمسيح بحجر واحد ذي ثلاث شعب بعد العلم بعدم كونه من مصاديق ثلاثة أحجار ، فالاستصحاب ليس حجّة عنده فيه وإن كان من أقسام الشكّ في المانعية ؛ لأنّه لو فرض عدم الشكّ لا يلزم منه اليقين كما أخذه معيارا في مجاري استصحابه.

وأمّا التمسّك بنفس الخطاب الدالّ على الحكم ، فلا وجه له عنده أيضا ؛ لعدم تعرّض دليل الوضوء لحال عروض المذي ، ولذلك لم يحكم بجريان قاعدة الاشتغال في هذه الصورة أيضا ، فجريان الاستصحاب فيها موقوف على ما يراه القوم فيه ولا يتمّ على ما ذكره.

هذا تمام الكلام في توضيح ما أفاده واستخراج مرامه من ألفاظه الشريفة فها أنا أشرع في الإيراد عليه متمسّكا بالعروة الوثقى والحبل المتين الذي أودعه اللّه ببركات مولانا الأمير في نفوسنا.

فأقول : إنّ خلاصة ما استدلّ به على مطلبه وجهان : أحدهما : الأخذ بقاعدة

ص: 141


1- « ز » : الدليل ، وكذا في « ك » ثمّ غيّر ب- « الليل ».
2- « ز ، ك » : - و.
3- « ج ، م » : الخفقتان.

الاشتغال ، وثانيهما : أخبار الاستصحاب.

ويرد على الوجه الأوّل وجوه من الإيراد : الأوّل : أنّه غير مطابق لما أخذه في عنوان مطلبه ، وتحقيق ذلك أنّ العبارة المنقولة منه - وهو قوله بعد نفيه لاستصحاب القوم واستظهاره حجّية الاستصحاب بمعنى آخر وهو أن يكون دليل شرعي على أنّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ثابت إلى حدوث حالة كذا - شاملة لصور عديدة لا مسرح لقاعدة الاشتغال فيها بوجه ، وتوضيحه أنّ الأحكام على ما ذكره على (1) ثلاثة أقسام : إمّا وضعية أو اقتضائية أو تخييرية ، ولمّا كان مرجع الأولى إلى أحد الأخيرين فينحصر فيهما ، وقد عرفت ما ذكرنا في توجيه التخييرية فلا نطيل (2) بإعادته.

وأمّا الاقتضائية : فإمّا أمر أو نهي ، فالأمر الوارد في الشريعة يحتمل وجوها : فتارة : يكون رجوعه إلى واجبات عينية متعدّدة على حسب تعدّد الأزمنة التي يمكن وقوع المأمور به فيها على وجه لا يناط الوجوب في زمان به في زمان آخر ، كما لو قيل : اجلس في المسجد - مثلا - إلى زمان كذا ، فيما لو كان الجلوس في كلّ آن واجبا مستقلاّ ، ولا ريب في أنّ الوقت الذي يشكّ فيه أنّه مما أمر بالجلوس فيه أو لا الاشتباه فيه ليس بواسطة الاشتباه في الحكم الشرعي ، بل الشبهة موضوعية وجوبية صرفة ولا يكاد يعقل جريان الاشتغال في الموضوع المشتبه كما حقّقنا ذلك في محلّه بما لا مزيد عليه حتى أنّ الأخباري أيضا لم يحم حول الاحتياط في المقام ، ولا أظنّ أنّه يرضى بذلك أيضا.

وتارة أخرى : يقع على وجه يكون مرجعه إلى الواجبات التخييرية كما في الواجبات الموسّعة كما في قوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (3) فلو شكّ في زمان في حصول الغاية فالحكم كما ذكرنا (4) البراءة أيضا ؛ إذ لا فرق في جريان

ص: 142


1- « ز ، ك » : - على.
2- « ج ، م » : يسهب.
3- الإسراء : 78.
4- « ز ، ك » : فالحكم على ما ذكرنا.

البراءة بين (1) كون الواجب تخييريا أو تعيينيا ، ولا سيّما في الشبهة الموضوعية ، لكن ذلك بالنسبة إلى لزوم الفعل في الآن المشكوك فيه ، وأمّا بالنسبة إلى إتيان نفس الفعل فقضيّة القاعدة المذكورة هو وجوب إتيانه (2) قبل مجيء الوقت المشكوك تحصيلا للفراغ اليقيني بعد العلم بالاشتغال. نعم يتمّ ذلك على تقدير استصحاب نفس الوقت نظرا إلى أصالة عدم دخول الغاية ، وهو هدم لما أسّس ؛ لرجوعه إلى استصحاب القوم.

وتارة أخرى : يقع على وجه لا يرجع إلى واجبات عينية تخييرية ، فيكون الفعل في تمام الوقت واجبا عينيا مستقلاّ ، والوجوب في أجزاء الوقت راجع (3) إلى الوجوب الغيري كما لو قال : صم إلى الليل ، على أن يكون الإمساك في تمام النهار واجبا مستقلاّ لا واجبات متعدّدة. ففي زمان يشكّ (4) فيه في انقضاء المدّة ودخول الغاية هل يحكم بوجوب الإمساك عملا بالاشتغال أو يؤخذ بالبراءة؟ فيه تفصيل ، فإنّ ما بعد الغاية قد يكون الإمساك فيه محرّما أو موجبا (5) لفساد العمل فيما قبل الغاية ، وقد لا يكون حراما ولا موجبا لفساد العمل على وجه (6) ، فعلى الأوّل ففي زمان الشكّ يدور الأمر (7) بين المحذورين : فإمّا يؤخذ بجانب الحرمة لكونها دفعا (8) ، دون الوجوب لكونه جلبا (9) ، أو يقال بالتخيير ، وعلى التقديرين لا مجال للاحتياط فيه. وعلى الثاني فهو مورد الاحتياط عند التحقيق وإن احتمل بعضهم البراءة ؛ لكون الشبهة مصداقية مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فيصحّ ما أفاده في هذه الصورة خاصّة على التحقيق.

وأمّا على الاحتمال الآخر فلا وقع لكلامه أصلا إلاّ على تقدير استصحاب الوقت وقد عرفت أنّه لا يتمّ إلاّ على مذاق القوم ، مضافا إلى أنّ هذه الصورة خارجة عن

ص: 143


1- « ج » : في.
2- « م » : إثباته.
3- « ز » : الراجع ، وسقطت من نسخة « ك ».
4- « ج » : الشكّ.
5- « ج » : محرّمة أو موجبة.
6- « ج ، م » : - على وجه.
7- « ج ، م » : فالأمر دائر.
8- « ج ، م » : دفع.
9- « ج ، م » : جلب.

عنوان كلامه ؛ لأنّ الحكم في وجوب الصوم ليس مغيّا بغاية ، بل متعلّقه - وهو الصوم - كذلك ، ولا دخل لأحدهما بالآخر.

وعلى هذا القياس فيما لو كان الحكم الاقتضائي نهيا من (1) غير فرق بين قسميهما.

وبالجملة : فإن أراد من كلامه - على ما هو ظاهره - ما يشمل جميع هذه الصور فالمناقشة عليها بما مرّ ظاهرة ، وإن أراد خصوص الصورة المفروضة فبعد عدم انطباقها بعنوانه كما عرفت فهو خلاف قاعدة التعبير ، سيّما (2) من مثله.

ولقد أورد عليه السيّد الشارح - بعد نقل كلامه - : أوّلا : بأنّ (3) الدليل جار فيما إذا ثبت تحقّق حكم في الواقع مع الشكّ في تحقّقه بعد انقضاء زمان لا بدّ للتحقّق منه ، وهذا هو الذي أجرى القوم فيه (4) الاستصحاب ، قال : بيانه أنّا كما نجزم في الصورة التي فرضها بتحقّق الحكم في قطعة من الزمان ونشكّ أيضا حين القطع في تحقّقه في زمان يكون حدوث الغاية وعدم حدوثها (5) متساويين عندنا ، كذلك نجزم بتحقّق الحكم في زمان لا يمكن تحقّقه إلاّ فيه ونشكّ أيضا حين القطع في تحقّقه في زمان متّصل بذلك الزمان ؛ لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علّة الوجود وعدمه ، فكما أنّ في صورة الشكّ في الصورة الأولى يكون الدليل محتملا لأن يراد منه وجود الحكم في الزمان الذي يشكّ في وجود الحكم فيه وأن يراد منه عدم وجوده فيه ، كذلك حال الدليل في الصورة التي فرضناها ، وعلى هذا القول (6) لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، ولو امتثل لحصل القطع به ؛ لأنّه في زمان الشكّ إن كان الواقع وجود الحكم فقد فعلنا ما كان علينا من التكليف ، وإن كان الواقع عدمه فقد خرجنا بما فعلنا في زمان القطع عن العهدة.

ص: 144


1- « ج ، م » : مع.
2- « ج ، م » : - سيّما.
3- في المصدر : + هذا.
4- « ز ، ك » : فيه القوم.
5- في المصدر : حدوثه.
6- في المصدر : نقول.

وثانيا : بأنّ تحصيل القطع أو الظنّ بالامتثال إنّما يلزم مع القطع أو الظنّ بثبوت التكليف ، وفي زمان الشكّ ليس شيء منهما حاصلا ولو تمسّك بأنّ الشكّ إنّما هو في أوّل النظر ، وأمّا مع ملاحظة اليقين السابق فالحاصل هو الظنّ ببقاء التكليف ، فيكون المرجع هو ما قاله القوم ، ونحن كما نطالبهم بدليل التعويل على مثل هذا الظنّ نطالبه قدس سره أيضا ، والظاهر أنّ بناء كلامه رحمه اللّه (1) على أنّ اليقين بشغل الذمّة إذا حصل فلا بدّ من اليقين أو الظنّ بالبراءة ولا أقلّ من الظنّ وإن صار يقين شغل الذمّة بعد عروض الشكّ بالبراءة (2) مشكوكا فيه أيضا ، وقد ادّعى الإجماع على هذا أيضا (3) ، انتهى ما أورده السيّد على المحقّق المذكور.

وفيه : أنّ ما ذكره في الوجه الأوّل في الإيراد - وإن كان وجيها في بادئ الأنظار ، فإنّ المورد إذا كان من موارد الاشتغال كالصوم المعتبر فيه الارتباط بين الأجزاء ، فلا فرق في جريان القاعدة بين أن يكون الخطاب مغيّا بغاية كقوله : « صم إلى الليل » أو لم يكن كما إذا قال : « صم » من دون أخذ الغاية ، فيعمّ الدليل غير المطلوب - إلاّ أنّ من المقرّر في مقامه - كما يقتضيه النظر الدقيق - عدم ورود هذا الإيراد على المحقّق المذكور ؛ لأنّ الحكم الشرعي قد يعلم تعلّقه بعنوان معلوم كوجوب الصوم إلى مجيء الليل مثلا ، وإنّما يكون الشكّ في امتثال هذا العنوان ، فيشكّ في تحقّق الصوم من زمان كذا إلى غاية كذائية ، وحينئذ لا بدّ من الاحتياط ، ومثل ذلك ما لو نذر صوم بين هلالي رجب وشعبان وشكّ في يوم أنّه من أيّ الشهرين ، فإنّه لا بدّ من صيامه عملا بالاحتياط اللازم. وقد يعلم تعلّقه بعنوان غير معلوم المراد كما إذا تعلّق الوجوب بالصوم النهاري وشكّ في أنّه هل هو يتمّ عند سقوط القرص أو عند ذهاب الحمرة المشرقية لغة؟ كما في الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشبهة الحكمية على ما سبق تحقيق القول فيها ،

ص: 145


1- « ز ، ك » : - رحمه اللّه.
2- في المصدر : في البراءة.
3- شرح الوافية ( مخطوط ) 132 / ب - 133 / أ.

وحينئذ فلا دليل على وجوب الاحتياط ، بل التحقيق هو الأخذ بالبراءة. ولازم هذه المقدّمة ثبوت الفرق بين موارد الاستصحاب على ما ذكره القوم وبينه (1) على ما ذكره ، ومن هنا يظهر وجه الضعف في الوجه الثاني أيضا ، ولعلّه تنبّه بضعفه (2) المورد أيضا كما أشعر بذلك (3) في قوله : « والظاهر أنّ بناء كلامه » وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده المحقّق القمي في دفع (4) ما أورده السيّد ، فلا مساس لما أورده بعض الأجلّة في الاعتراض عليه بكلامه ، فلاحظ وتأمّل تهتدي إلى ما هو الحقّ بإفاضة من الموفّق الهادي.

ويرد على الوجه الثاني من وجهي استدلاله : أنّ قوله في معنى الرواية : - إنّ المراد منها عدم جواز النقض عند التعارض ، وجعله معنى التعارض أن يكون هناك شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وحسبانه أنّ هذا المعنى لا ينطبق على استصحاب القوم ، بل هو مختصّ بما أفاده - ممّا لم يظهر له وجه وجيه ، بل لعلّه ممّا لا يستقيم بوجه ، أمّا حمله الرواية على المعنى المذكور فالوجه فيه هو ما عرفته من استفادة ذلك من مادّة النقض والدفع والدخل ، والجواب عن ذلك أنّ الأقربية وإن اقتضت حمل الرواية على ما ذكره إلاّ أنّ هناك قرائن أخر توجب حملها على ما هو متفاهم القوم من إرادة ترتيب مطلق الآثار التي يترتّب على المتيقّن ممّا هي لا يترتّب على نفس صفة العلم كما ستعرف الوجه في هذا التقييد ، ففيما لو شكّ في ثبوت الشفعة أو الخيار في زمان بعد العلم بهما في الجملة لا بدّ من الأخذ بالاستصحاب جريا على طريقة القوم.

أمّا أوّلا : فلأنّ المعنى المذكور من الرواية ممّا لا ينساق عرفا بعد العرض على الأفهام المستقيمة الخالية عن شوائب الأوهام ؛ لظهور ابتنائه على الدقّة التي لا تصل إليها إلاّ الأوحدي ، ومن البعيد في الغاية حمل الروايات التي هي منساقة على متفاهم العرف على مثل هذه الوجوه البعيدة عن أذهانهم ، فإنّ الذهن (5) لا يكاد يلتفت إلى هذا

ص: 146


1- « م » : وفيه.
2- « ز ، ك » : لضعفه.
3- « ز ، ك » : به.
4- « م ، ك » : رفع.
5- « م » : الناس.

المعنى أصلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مورد الرواية من استصحاب القوم ، فإنّ قول الإمام : « إذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع وقد أحرز الثلاث ، قام وأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه » (1) تمسّك منه بأصالة عدم وقوع الركعة المشكوكة واستصحاب لعدمها ، وليس من استصحاب المحقّق كما هو ظاهر ؛ لانتفاء التعارض على ما زعمه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله عليه السلام في الرواية بعد قوله : « ولكن ينقض الشكّ باليقين ويبنى عليه » من أوضح القرائن على أنّ المراد بالنقض هو عدم ترتيب الآثار المترتّبة على المتيقّن ؛ لأنّ الظاهر وروده مفسّرا لسابقه كقوله : « ولا يعتدّ بالشكّ » وقوله : « ولا يختلط أحدهما بالآخر » والكلّ ظاهر في ترتيب مطلق الآثار ، ولا يتصوّر فيها القول بأنّ المراد عدم النقض فيما إذا كان شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، ففيما إذا شكّ في الخيار أو الشفعة فلو لم يؤخذ باليقين لصدق أنّه ما بنى على اليقين وأنّه نقض يقينه بالشكّ وبنى على شكّه. وبما (2) ذكرنا من ورود بعض هذه الفقرات مفسّرا للآخر ينقطع ما عسى أن يتوهّم : أنّ جعل النقض قرينة لهذه الفقرات بصرفها (3) عن ظاهرها (4) إلى ما هو المراد منه أيضا محتمل ، فلا وجه للعكس كما هو مبنى الإيراد ، مضافا إلى بعده في نفسه كما ذكرنا ، ويتّضح ما ذكرنا في الغاية بعد ملاحظة قوله عليه السلام في رواية الخصال : « فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » (5) فإنّ الظاهر من الإمضاء البناء (6) على شيء والعمل عليه ، فيصير قرينة على أنّ المراد بالدفع أو النقض الواردين في العلّة هو ما يساوي الإمضاء ، والقول بأنّ عموم الإمضاء يدفع باختصاص العلّة - كما هو ديدنهم في الأخذ بعموم العلّة وخصوصها في نظائر المقام - ممّا لا يصغى إليه بعد

ص: 147


1- تقدّم في ص 98 وكذا الفقرات الآتية جزء منها.
2- « ز » : مما ، وسقطت من « ك ».
3- « ز ، ك » : تصرّفها ، و « م » : لصرفها ( ظ ).
4- « ج ، م » : - ها.
5- تقدّم في ص 103.
6- في النسخ : على البناء.

مساعدة العرف على الأخذ بعموم الحكم كما يشاهد ما ذكرنا فيما لو اختصّ العامّ بالفرد النادر عند التعويل على تخصيصه بالعلّة.

وبالجملة : فأخبارهم بعضها يكشف عن بعض ، وبعد عدم مساعدة العرف على معنى في البعض فلا بدّ من الأخذ بما هو الظاهر من غيره وحمله عليه ، أمّا حسبانه اختصاص الرواية بموارد استصحابه دون استصحاب القوم نظرا إلى ما أفاده من معنى التعارض ، فمبنيّ على ما أوضحنا مراده عند نقل كلامه ، ومحصّله : أنّ في مورد (1) استصحابه مقتضي اليقين موجود وإنّما الشكّ من حيث احتمال وجود المانع ، بخلاف موارد استصحاب القوم فإنّ الشكّ فيه كما يحتمل من حيث احتمال وجود (2) المانع من اليقين كذلك يحتمل من حيث احتمال انتفاء المقتضي ، فلا يتحقّق التعارض ؛ لأنّ المانع معارض للمقتضي كما تقدّم ، وبذلك دفعنا ما أورد عليه بعض المحقّقين من أنّ فرض عدم الشكّ في كلّ مورد يوجب اليقين كما صرّح به بعض الأجلّة (3) أيضا ، إلاّ أنّ البناء على ذلك موجب لهدم ما أسّسه أيضا ، فإنّ ذلك غير موجود في شيء من موارد الاستصحاب ، لا على ما يراه ولا على ما يراه القوم.

بيان ذلك : أنّ الحكم إذا لم يكن ضروريا غير محتاج إلى علّة العلم فلا بدّ في حصول اليقين بذلك الحكم من واسطة ، ويمتنع عقلا على ما بيّن في محلّه حصول ذلك اليقين من مقدّمة واحدة ، بل لا بدّ من مقدّمتين - إحداهما تحكم باندراج الأصغر في الوسط ، والأخرى (4) تحكم بثبوت الأكبر له - حتّى يمكن تعدّي الحكم منه إليه ، ولا يعقل حصول اليقين بدون إحدى المقدّمتين ، فمقتضى اليقين في كلّ حكم فرض هو الوسط في الإثبات فإنّه هو العلّة في ثبوت العلم ، فمتى وجدت العلّة حصل المعلول ، وإذا انتفت بانتفاء المقدّمتين كلتيهما أو بانتفاء إحداهما انتفى العلم ، ولمّا امتنع خلوّ المدرك الملتفت عن الشكّ أو اليقين لمكان التضادّ من غير ثالث بينهما ؛ إذ المراد بالشكّ

ص: 148


1- « م » : موارد.
2- « ج » : احتمال انتفاء وجود.
3- انظر ص 152.
4- « م » : أخرى.

هو (1) ما عدا اليقين ، يحصل الشكّ لخلوّ (2) المحلّ القابل عن المعارض ، فعدم الشكّ لا تأثير له في حصول اليقين ما لم يفرض وجود علّة العلم من الواسطة في الإثبات المركّب من المقدّمتين ، فانتفاء العلم دائما مستند إلى انتفاء أحد جزئي علّته وهي الصغرى تارة ، والكبرى أخرى ، لا إلى وجود المانع بعد إحراز المقتضي ؛ لأنّ ذلك لا يعقل في العلم.

وإذ قد عرفت هذه فنقول : إذا قيل : « صم » وشكّ في وقت معلوم في وجوب الصوم في ذلك الوقت ، فعدم العلم بهذا الحكم من جهة انتفاء الكبرى ؛ إذ المفروض عدم وجوب الصوم دائما أو موقّتا إلى وقت معيّن ، لإطلاق الأمر وإهماله ، وإن كانت الصغرى موجودة ؛ للعلم بوجود النهار في الفرض مع الشكّ في وجوب الصوم في تمام النهار ، وإذا (3) قيل : « صم إلى غسق الليل » وشكّ في وقت أنّه هل هو من النهار أو لا؟ فعدم العلم بوجوب الصوم في الفرض من جهة انتفاء الصغرى مع العلم بالكبرى وهو وجوب تمام صوم النهار ، فلو فرض في الفرض الأوّل وجود (4) كلمة (5) تدلّ على وجوب صوم النهار لم يكن الشكّ معقولا ، كما أنّه لو فرض في الفرض الثاني ما يدلّ على أنّ الوقت المشكوك من النهار ما كان الشكّ في الوجوب معقولا ، فعدم العلم في المقامين مستند إلى فقد تمام المقتضي للعلم وانتفاء العلّة ، ولا يعقل وجود المانع من العلم بعد إحراز الصغرى والكبرى والعلم بهما ، فظهر من ذلك أنّ استصحاب القوم مع استصحابه مشتركان في عدم مقتضي اليقين ، فإنّ الفرض الأوّل من استصحاب القوم وانتفاء العلم فيه لانتفاء الكبرى ، والفرض الثاني من استصحابه وانتفاء العلم فيه لانتفاء الصغرى.

ص: 149


1- « ز ، ك » : - هو.
2- كذا. ولعلّ الصواب : بخلوّ.
3- « ج » : فإذا.
4- « ز ، ك » : ورود.
5- كتب تحتها في « م » : كلّه « نسخة » وفي « ج » : كلّية.

والقول بأنّ الكبرى مقتض للعلم والعلم بالصغرى بمنزلة عدم المانع ، بعد أنّه من المجازفات والخرافات ليس بأولى من العكس.

وبالجملة : فالقول بأنّ مقتضي اليقين باق في استصحابه دون استصحاب القوم ، تحكّم صرف ؛ لتساويهما في انتفاء المقتضي وهو علّة العلم ، لأنّ مقتضي العلم هو علّته ولا فرق بينهما في المقام ، والشكّ إنّما يحدث بعد انتفاء العلّة والمقتضي من حيث استحالة الخلوّ كما مرّ ، ولئن سلّمنا أنّ الشكّ مانع من حصول اليقين فالمفروض أنّه لا يحصل إلاّ بعد انتفاء إحدى المقدّمتين ، فوجود (1) المانع مسبوق بانتفاء المقتضي ، وعدم الشيء منسوب إلى عدم المقتضي لو اجتمع ذلك وجود المانع.

نعم ، ما ذكره يتمّ فيما لو قلنا بأنّ قولنا : « صم إلى الليل » كما يدلّ على وجوب الصوم في النهار يدلّ على أنّ المشكوك أيضا من النهار ، فيكون العمل على الفرض الباطل بالدليل ، ولا حاجة إلى التكلّف المذكور والتماس ذلك من الاشتغال وأخبار الاستصحاب كما استراح الأخبارية بذلك ، وممّا يوضح ما ذكرنا أنّ الخطاب المغيّى بغاية ينحلّ إلى عقد إيجابي وهو الوجوب قبل الغاية ، وعقد سلبي وهو عدم الوجوب بعد الغاية ، ونسبة المشكوك إلى القبل والبعد مساوية (2) ، فالقول برفع الشكّ فيه بدخوله في العقد الإيجابي دون السلبي تحكّم صرف ومجازفة صريحة ، وذلك لا يتمّ إلاّ على ما ذكرنا من أنّ عدم الشكّ لا دخل له في حصول اليقين ، بل لا بدّ من إحراز موضوع أحدهما على وجه اليقين.

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما أورده ذلك المحقّق الأستاد في التعليقة التي علّقها على قول الشهيد في الشبهة المحصورة ، ومحصّله هو الاستناد إلى وجه آخر في عدم حجّية الاستصحاب في موارده عند القوم ؛ لاستناد النقض فيها إلى اليقين وهو مقتضى قاعدة العدم.

ص: 150


1- « ز ، ك » : وجود.
2- « ك » : متساوية.

وجوابه : تارة بالنقض بالاستصحاب في الموارد التي زعم جريانه فيها ، فإنّ زمان الشكّ مع كونه مشكوكا إن كان مشمولا للدليل فلا حاجة إلى الاستصحاب في انسحاب الحكم إليه كما هو المقرّر عند الأخبارية ، وإن لم يكن مشمولا للدليل فالمفروض عدم الدليل بالنسبة إلى زمان الشكّ. قولك : الدليل المغيّى بالغاية (1) ثابت بالفرض فلا يستقيم دعوى عدم الدليل ، غير مستقيم ؛ لأنّ المراد بالدليل إن كان حكم العقل بلزوم الامتثال بعد ملاحظة خطاب الشرع فلا يتمّ إلاّ في بعض الموارد على ما عرفت تفصيل ذلك ، ومع ذلك فهو خروج عن التمسّك بالاستصحاب وأخذ (2) بالاشتغال ، وإن كان مجرّد الخطاب الشرعي فمن الظاهر أنّه لا مسرح للخطاب في زمن الشكّ ؛ إذ لا يعقل الشكّ مع ذلك ، وإن كان المراد هو أدلّة الاستصحاب على أبعد الوجوه فنسبتها إلى المقامين متساوية كما لا يخفى.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعى (3) عدم صدق النقض في استصحاب القوم ، وقد عرفت جوابه.

وأخرى بالحلّ وهو أنّ معنى حجّية الاستصحاب هو إلغاء أحكام الشكّ في موارده ، ومنها الأخذ بالبراءة أو الاحتياط أو قاعدة العدم ، فإنّها أصول شرعية مقرّرة في مقام الشكّ ، فالاستصحاب حاكم على هذه الأصول ، وستعرف تفصيل ذلك في محلّه عن قريب إن شاء اللّه.

تذنيب

زعم بعض الأجلّة (4) نهوض أخبار الباب على (5) اعتبار الاستصحاب فيما إذا كان قضيّة الشيء المعلوم ثبوته في زمن الشكّ لو لا عروض المانع أو منع العارض. وبعبارة

ص: 151


1- « م » : بغاية.
2- « ز ، ك » : الأخذ.
3- « م » : إلاّ بدعوى.
4- في هامش « م » : وهو صاحب الفصول فإنّه حقيق بأن يكون جليلا.
5- « م » : إلى.

واضحة إذا كان الشكّ من جهة المقتضي فلا دلالة للأخبار على اعتبار الاستصحاب ، وإذا كان الشكّ من جهة الرافع فينهض الأخبار بإثبات الاستصحاب فيه ، وزعم أنّه مطابق لما نقلناه من (1) المحقّق الخوانساري إلاّ أنّه قد يكون أعمّ موردا ممّا ذهب إليه حيث أفاد ، ولقد أجاد المحقّق الخوانساري في فهم الرواية حيث قال : المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ هو عدم النقض عند التعارض (2) ، ولكنّه ما أجاد في تخصيصها بالأحكام التي ثبت استمرارها إلى غاية معيّنة وشكّ في حصولها ، بل يجري في كلّ ما ثبت بقاؤه ما لم يمنع منه مانع (3) ، انتهى.

والتحقيق : أنّ القولين مختلفان مفهوما وموردا ، فلا وجه لحسبان انطباق أحدهما على الآخر على الوجه المذكور ؛ لاختلاف مناطهما وتغاير ما هو الملاك فيهما ، فإنّ قول المحقّق يناط على ثبوت الخطاب الموجب لليقين في مورد الشكّ لو لاه من دون ملاحظة استعداد المستصحب للبقاء في زمن الشكّ لو لا المانع ، ومدار قول الزاعم إنّما هو ملاحظة حال المستصحب واستعداده من دون نظر إلى ثبوت الخطاب الموجب لليقين لو لا الشكّ ، فملاك الأوّل على ملاحظة حال الدليل ، وملاك الثاني على ملاحظة حال المستصحب.

نعم ، قد يكون المستصحب في مورد الخطاب الموجب لليقين ممّا قضيّته الثبوت عند الشكّ لو لا عروض المانع أو منع العارض كما في استصحاب بقاء الوضوء عند الشكّ في عروض البول.

وقد يكون المستصحب مقتضيا للبقاء مع انتفاء الخطاب الموجب لليقين كما في استصحاب بقاء النجاسة فيما إذا شكّ في مانعية التمسيح بحجر ذي ثلاث شعب ، وكما في استصحاب الطهارة عند عروض المذي ؛ إذ قد عرفت صراحة من المحقّق المذكور عدم

ص: 152


1- « ز ، ك » : عن.
2- المشارق : 76 ، سطر 18.
3- الفصول : 367 و 371.

جريان الاستصحاب في المثال الأوّل.

وقد يكون الخطاب الموجب لليقين موجودا مع الشكّ في اقتضاء المستصحب للثبوت في زمن الشكّ كما في الخطاب الآمر بالصوم إلى الليل فيما إذا شكّ في آن أنّه من النهار أو من الليل ، فإنّ الظاهر أنّ الشكّ من جهة المقتضي.

فالقولان مختلفان مفهوما والنسبة بينهما موردا هو العموم من وجه.

نعم ، لو قلنا بأنّ مآل الشكّ في الغاية إلى الشكّ في المانع بعد إحراز المقتضي للمستصحب بتقريب أنّ الغاية توجب رفع الحكم وتمنع عن ثبوته كما هو الشأن في جميع الموانع ، ومرجع الشكّ في المانع إلى الشكّ في الغاية نظرا إلى أنّ المانع غاية لثبوت المعلول (1) ونهاية لوجوده ، فالقولان متلازمان مصداقا.

إلاّ أنّ ذلك بمكان من الضعف والسقوط ، أمّا الأوّل : فلأنّ الشكّ في الغاية لا يساوق وجود المقتضي دائما كما في قوله : « صم إلى الليل » إذ يحتمل أن تكون (2) الغاية المذكورة في كلام الشارع كاشفة عن انتفاء المقتضي عند وجودها ، فوجود (3) الليل في المثال يحتمل ظاهرا أن يكون كاشفا عن انتفاء السبب.

وأمّا الثاني : فلأنّ الظاهر من المحقّق المذكور أنّ المدار على الغاية المأخوذة غاية في كلام الشارع كما في قوله : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ) (4) لا كلّ ما يمكن رجوعه إليها وإن لم يكن مأخوذة (5) في كلام الشارع كما أشرنا إلى ذلك في السؤال الذي أورده على نفسه : هل الشكّ في المزيل؟

فظهر من ذلك أنّه ما أجاد فيما استجاد مشعرا بذلك تواردهما على مطلب واحد ، مع أنّ قوله : ولكنّه ما أجاد في تخصيصها إلخ ، ليس بجيّد ؛ إذ لا يستقيم ذلك إلاّ على

ص: 153


1- « ج » : معنى المعلول.
2- « ج ، م » : يكون.
3- « ج » : ووجود.
4- البقرة : 187.
5- كذا.

تقدير أن يكون مذهب المحقّق اختصاص حجّية الاستصحاب بما إذا كان الشكّ في المزيل والرافع مع وجود المقتضي. وقد عرفت أنّ مناط الاستصحاب عنده على وجود الخطاب ، سواء كان المقتضى موجودا أو لا (1).

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ الزاعم المذكور إنّما أخذ في عنوان ما ذهب إليه استمرار الحكم لو لا الرافع ، وقضيّة ذلك عدم حجّية الاستصحاب في الموقّتات ، فلو شكّ في أثناء النهار - لعارض - وجوب إمساك اليوم عليه لا يقول (2) بالاستصحاب مع أنّ ما يظهر منه عند الاستدلال هو اعتبار الاستصحاب فيما إذا شكّ في المانع ، وعدمه فيما إذا شكّ في المقتضي ، من غير أخذ الاستمرار في كلامه ، إلاّ أنّ مقصوده ظاهر فلا تغفل.

وملخّص ما استدلّ به على مرامه هو استحالة إرادة معنى النقض حقيقة ؛ لانتفائه بين اليقين والشكّ ، لعدم (3) إمكان اجتماعهما ، وصدقه حقيقة موقوف على الاجتماع والتصادم ، فلا بدّ من المصير إلى معنى أقرب إلى المعنى الحقيقي ، ولا خفاء (4) أنّ مع وجود المقتضي للبقاء صدق النقض أولى منه مع عدمه.

والجواب عن ذلك هو أنّ الأقربية الاعتبارية مسلّمة ، ولكنّها غير مجدية بعد عدم مساعدة العرف عليها ، والأقربية العرفية ممنوع ، بل الأقرب عرفا هو القول بأنّ المراد هو الأخذ بالأحكام التي تخالف حكم المتيقّن ، فإنّه إذا اختلف حكم الشيء في حالتي الشكّ واليقين يصدق أنّه نقض للسابق ، فالنقض تارة يلاحظ بالنسبة إلى المستصحب ، وأخرى بالنسبة إلى العمل ، مع أنّه يكفي في صدق النقض بالنسبة إلى المستصحب إمكان استمرارها كما في حقّ الشفعة والخيار ، مضافا إلى بعض القرائن المذكورة في الإيراد على المحقّق ، فإنّه يصلح (5) لدفع القولين ، كقوله (6) عليه السلام في رواية زرارة :

ص: 154


1- « ز ، ك » : أم لا.
2- « م » : نقول.
3- « ج » : بعدم.
4- « ز ، ك » : + مع.
5- « م » : تصلح.
6- « ز ، ك » : كما في قوله.

« ولا ينقض اليقين بالشكّ ، بل يبنى على اليقين » (1) ويتمّ عليه كما مرّ ذلك مفصّلا ، ويختصّ بدفع القول هذا قوله عليه السلام في مكاتبة القاساني : « اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (2) فإنّ تفريع قوله : « صم للرؤية » وقوله : « وأفطر للرؤية » على القاعدة المزبورة من عدم دخول الشكّ في اليقين لا يتمّ إلاّ على حجّية الاستصحاب في الشكّ من حيث المقتضي.

وتوضيح ذلك أنّ المراد بهما إمّا استصحاب جواز الإفطار الثابت في شعبان واستصحاب وجوب الصوم الثابت في رمضان على أن يكون الاستصحاب وجوديا حكميا كما هو الظاهر ، وإمّا المراد استصحاب عدم وجوب الصوم من قوله : « صم للرؤية » وعدم جواز الإفطار من قوله : « أفطر للرؤية » على أن يكون الاستصحاب عدميا حكميا ، وإمّا المراد استصحاب نفس شعبان من الأوّل ورمضان من الثاني على أن يكون الاستصحاب موضوعيا ، وعلى التقادير لا يتمّ على ما ذكره.

أمّا على الأوّل : فلأنّ جواز الإفطار ووجوب الصوم ممّا لم يثبت الاستمرار فيهما ما لم يثبت المزيل ، بل التحقيق إنّهما حكمان موقّتان لا يجري فيهما الاستصحاب على ما هو المصرّح به (3) في كلامه.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الاستصحاب العدمي في المقام منتزع من الاستصحاب الوجودي ، فلا يعقل تخلّفه عنه.

وأمّا على الثالث : فالأمر أوضح.

فالتفريع المذكور لا يتمّ إلاّ على استصحاب القوم.

فإن قلت : لنا أن نقول : إنّ الحصر المذكور غير حاصر ؛ لاحتمال أن يكون المراد استصحابا آخر ينطبق على موارد استصحاب المفصّل ، وهو أن يكون المراد بالأوّل

ص: 155


1- تقدّم في ص 98 - 99.
2- تقدّم في ص 101.
3- « ج ، م » : - به.

استصحاب عدم دخول رمضان وعدم انقضاء شعبان ، ومن الثاني استصحاب عدم دخول شوّال وعدم انقضاء رمضان (1) على أن يكون الاستصحاب من الاستصحابات الموضوعية العدمية ، فإنّ الأعدام من الأمور المقرّرة الثابتة إلى ثبوت المزيل.

قلت : أمّا أوّلا : فوجوب الصوم ممّا لا يترتّب على عدم دخول شوّال أو عدم انقضاء رمضان ، كما أنّ جواز الإفطار ممّا لا يترتّب على عدم دخول رمضان أو عدم انقضاء شعبان ، بل الأوّل مترتب على دخول (2) رمضان والثاني على شعبان كما يظهر من ملاحظة قوله : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (3).

وأمّا ثانيا : فالأمور العدمية ليست مقرّرة ثابتة إلى ثبوت المزيل ؛ لأنّ ذات العدم لا يقضي (4) بذلك ، أمّا على القول بعدم احتياجه إلى العلّة فالأمر واضح ، وأمّا على القول باحتياجه كالوجود إلى العلّة فلأنّ العلّة هو انتفاء علّة الوجود فبحصولها ترتفع علّة العدم ، فذهاب العدم بواسطة انتفاء استعداده والمقتضي له لا لوجود (5) المانع ، ولذلك لا يحكم بأنّ وجود المال بعد فقده لا يعدّ ناقضا لعدمه ، وكذا سائر الموجودات المسبوقة بالأعدام.

لا يقال : لا ريب في أنّ العدم ممّا يستمرّ لو لا عروض ما يقضي بخلافه.

لأنّا نقول : إنّ مجرّد ذلك غير كاف في المقام ، فإنّ الدعوى في قوّة القول : بأنّ كلّ شيء لو فرض بقاء علّته التامّة فهو باق والوجود والعدم في ذلك متساويان.

فإن قلت : إنّه قد صرّح بجريان الاستصحاب في الأمور العدمية.

قلت : إنّ تصريحه بذلك لا يوجب عدم توجّه الإيراد عليه بما ذكرنا ؛ لأنّ الكلام فيما يقتضيه التحقيق على مذهبه لا فيما صرّح به.

ص: 156


1- « ز ، ج » : شوّال.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : « وجود ».
3- البقرة : 185.
4- « ج » : لا تقتضي.
5- « ج » : لا الوجود.

فكيف كان ، فهذه الرواية حجّة صريحة عليه في جريان الاستصحاب في غير ما ذهب إليه ، ولا تنهض قرينة لدفع ما ذكره المحقّق الخوانساري ، لكون الجواز مغيّا بغاية وكذا الوجوب كما هو ظاهر لا سترة (1) فيه ، وبناء على ما حقّقنا من أنّ انتفاء الأعدام بواسطة انتفاء المقتضي يمكن القول بأنّ رواية زرارة المرويّة في التهذيب (2) قرينة على مذهب المشهور ، فإنّ الطهارة من الأمور العدمية فإنّها عدم القذارة كما لعلّه يشعر بذلك قوله تعالى : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) بعد قوله : ( لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) (3) وكذلك الرواية الواردة في باب السهو (4) ، فإنّ استصحاب عدم الزيادة يصير (5) قرينة على استصحاب القوم كما لا يخفى بملاحظة هذا التفصيل أيضا.

وعليك بإمعان النظر في المقام وكثرة (6) التأمّل فيه ، فلعلّه يتّضح (7) لك من ذلك وجوه (8) أخر يمكن تأييد مذهب القوم بها (9) ، فكن على بصيرة من ذلك ، واللّه الموفّق وهو الهادي (10).

ص: 157


1- « ج ، م » : لأمره ( ظ ).
2- تقدّمت في ص 95.
3- الأحزاب : 33.
4- تقدّمت في ص 98.
5- « ز ، ك » : تصير.
6- « ج ، م » : أكثر.
7- « ج » : ينفتح ، وفي « ز ، ك » : ينقّح.
8- « ج ، م » : وجوها.
9- في هامش « م ، ز » : قلت : ستعرف في بعض الهدايات الآتية تصريح الأستاد ( دام ظلّه العالي « م » ) على انطباق الروايات على هذا المذهب كما جنح ( احتجّ « م » ) إليه المحقّق الحلّي أيضا ، ويصرّح أيضا بأنّ الاستصحابات العدمية كلّها - سواء كانت معمولة في الألفاظ لتشخيص الأوضاع وتعيين المرادات أو في غير الألفاظ كأصالة عدم التذكية أو عدم انقضاء الشهر مثلا - منطبقة عليه ؛ لبقاء المقتضي والشكّ في الرافع ، فلعلّه رجع عمّا أفاد أوّلا في المقام ، وإلاّ فهو بريء عن الغفلة على [ كذا ] هذا ( بهذا « ز » ) الوجه ، فتدبّر. منه ( عفي عنه « ز » ).
10- « ج ، م » : - واللّه ... الهادي.

ص: 158

هداية استطرادية [ في الأحكام الوضعية ]

اشارة

قد عرفت فيما تقدّم تقسيم الحكم إلى الوضعي والتكليفي في كلام المحقّق الخوانساري ورجوع الأوّل إلى الثاني ، حيث أفاد أنّ الأحكام الوضعية عند التحقيق ترجع (1) إلى الأحكام التكليفية (2). وأورد عليه بعض من تأخر عنه (3) بأنّه ليس بشيء ، فإنّ كون الشيء سببا لآخر أو شطرا أو شرطا أو مانعا والصحّة والبطلان وغيرها ، متعلّقات الخطابات والأدلّة ، وأحكام صدرت من الشارع ، ولها عوارض وخواصّ ، وممّا يهتمّ به (4) ، وكلّ حكم مغاير للخمسة المعروفة لا وجه لإرجاعه (5) إليها بالتكلّف ؛ لاختلافهما (6) مفادا وشرطا ودليلا ومحلاّ ، مع أنّه لو صحّ لزم انحصار الأحكام في الثلاثة ؛ لرجوع الحرمة والوجوب إلى حكم واحد كالندب والكراهة. إلى أن قال : مع أنّ اختلاف الوضعي والتكليفي في كثير من المقامات ضروري كحرمة شرب الخمر ومانعيتها من الصلاة (7) ، فإنّ أحدهما مباين (8) للآخر منفكّ عنه كوجوب الطهارة

ص: 159


1- « ج ، م » : يرجع.
2- تقدّم في ص 127.
3- هو الكلباسي في اشارات الأصول.
4- بعده في المصدر : ولا سيّما الأخيرين فإنّ المقصد الأهمّ في الفقه ، ولا سيّما في المعاملات إنّما هو البحث عنهما.
5- في المصدر : لإرجاعها.
6- في المصدر : لاختلافها!
7- في المصدر : للصلاة.
8- « ج » : متباين.

وشرطيتها للصلاة ، فإنّ شرطيتها تجتمع (1) مع الوجوب والندب ، وكذا اختلاف لوازمهما كجريان لزوم التكليف بما لا يطاق في الحكم التكليفي وعدمه في الوضعيات التعليقية ، وأيضا في الخطابات التكليفية لا بدّ من العلم والشعور والقدرة ، وفي الوضعي ما (2) لا يشترط فيه (3) ذلك ، كما إذا مات قريب الإنسان وهو لا يشعر به ، فإنّ التركة تنتقل إليه ، وإن كان فيها من ينعتق عليه عتق ، وكذا يجب الضمان بإتلاف النائم وما في حكمه (4) ، انتهى.

وتحقيق المقام مع خروجه عن المبحث يقتضي بسطا في الكلام فنقول : ذهب العلاّمة رحمه اللّه في التهذيب (5) والعضدي (6) والآمدي في الإحكام (7) وجماعة من الفريقين إلى ثبوت الأحكام الوضعية ، بل وعليه المشهور على ما (8) نبّه عليه المورد المذكور ، والحقّ - كما عليه المحقّقون - عدم ثبوتها ، بل هي أمور تابعة للأحكام التكليفية ، بل في شرح الفاضل على الزبدة : هذا هو المشهور (9) ، وصرّح السيّد الشارح في بحث الاستصحاب : أنّه قد استقرّ رأي المحقّقين على أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي (10) ، بل وذلك هو ظاهر من عرّف الحكم الشرعي بالخطاب المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاء وتخييرا من دون تعرّض للحكم الوضعي ، ثمّ إنّ المثبتين بين من حصرها في

ص: 160


1- المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : يجتمع.
2- « ز ، ك » : - ما.
3- « ز ، ك » : - فيه.
4- اشارات الأصول ( قسم الأدلّة العقلية ) : 3 - 4.
5- تهذيب الوصول : 50.
6- شرح مختصر المنتهى : 81.
7- الإحكام 1 : 96.
8- « ز ، ك » : كما.
9- غاية المأمول فى شرح زبدة الأصول ( مخطوط بخطّ المؤلّف ) 35 / أ ، وفي نسخة أخرى 88 / ب. قال : الخطاب الوضعي ممّا اختلف في كونه حكما ، فالمشهور - وهو الحقّ - أنّه ليس بحكم وإنّما هو مستلزم له.
10- شرح الوافية ( مخطوط ) 13 / ب.

الثلاثة : السببية والشرطية والمانعية كالعضدي (1) تبعا للحاجبي (2) ، وبين من زاد عليها الصحّة والفساد ، وبين من زاد عليها الرخصة والعزيمة (3) وبين من زاد عليها العلامة والعلّة كثاني الشهيدين (4) ، إلاّ أنّه احتمل رجوع (5) العلّة إلى السبب وكذا العلامة ، أو إلى الشرط ، وبين من لا يرى فيها حصرا ، ولعلّ مراده كثرتها لا عدم انحصارها ؛ إذ لا يعقل ذلك.

وينبغي تحرير محلّ الخلاف أوّلا ، فنقول : لا إشكال في ثبوت أمور هي محمولات في القضايا الشرعية كالطهارة والنجاسة والزوجية والرقّية والكفر والإيمان والملكية ونحوها ممّا لا يحصى كثرة ، فإنّ إنكار تلك الأمور في الشرعيات (6) في مرتبة إنكار القضايا الأوّلية في العقليات ؛ إذ وجود الأسباب الشرعية وموانعها كشرائطها ضروري وفي غاية الكثرة ، فإنّه (7) ربّما يعسر الإحاطة بشرائط ماهيّة واحدة وموانعها كالصلاة مثلا ، كما أنّه لا ريب في فساد دعوى أنّ مفاهيم هذه الأوصاف عين مفاهيم الأحكام التكليفية ، فإنّ القول باتّحاد مفهوم وجوب الصلاة لمفهوم سببية الدلوك ساقط جدّا ، فلا يكاد يعقل لذلك وجه ، وإنّما يتأتّى المناقشة اللفظية في تسمية هذه الأوصاف أحكاما إنشائية ؛ ضرورة حصولها في محالّها من غير تعلّق إنشاء بها كما في اتّصاف الطالب بالطالبية ، والمطلوب بالمطلوبية ، فإنّ إنشاء نفس الطلب يكفي في

ص: 161


1- شرح مختصر المنتهى : 97 - 98.
2- في اشارات الأصول : كالعلاّمة والسيوري وغيرهما.
3- في اشارات الأصول نسبه من دون ذكر العزيمة إلى الحاجبي والعضدي وقال : ويؤذّن كلامهما بكون الصحّة والبطلان في المعاملات منها ، ثمّ قال : ومنهم من زاد عليها الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة كالآمدي ، ونقل في الإشارات أقوال أخر فلاحظ.
4- تمهيد القواعد : 37 ، قاعدة 3.
5- « ج ، م » : برجوع.
6- « ز ، ك » : الشرعية.
7- « ز ، ك » : فبأنّه.

انتزاع هذه الأوصاف عن (1) محالّها ، ولا ريب أيضا في أنّ للشارع بيان هذه الأمور المحمولة على الموضوعات ككشفه عن مانعية الحدث للصلاة ، وجزئية السورة لها ، وإيراث العصيان استحقاق العقاب ، وتضعيف البدن بتكثير الحمّام ، وإضرار الميتة للبدن ، وسببية الدلوك للصلاة ، والطلاق للتحريم ، والنكاح للتحليل ، وشرب الخلّ لشدّ العقل ، ونحوها ممّا لا حدّ فيها ولا حصر لها.

وأمثال هذه البيانات في الكتاب والسنّة وجودها معلوم والمنكر مكابر ، فالحاكم بيننا وبينه بعد حكومة الإنصاف هو الرجوع إلى الأدلّة الشرعية ، ولا شبهة في أنّ هذه الأمور منسوبة إليه تعالى على نحو انتساب سلسلة الممكنات إليه ، وإنّما الكلام في أنّها من الأمور المتأصّلة التي يتعلّق بها الجعل والإبداع والإنشاء كما في الأحكام الخمسة التكليفية أو (2) يكفي في تحقّقها وإيجادها إبداع ملزوماتها من الأحكام التكليفية وإنشائها ، فتسمية هذه الأوصاف أحكاما على الثاني مجازية باعتبار أنّ ما ينتزع منها أحكام ؛ إذ الحكم الشرعي عبارة عن جعله وإنشائه والمفروض عدم تحقّق الإنشاء والجعل فيها ، نعم يصحّ إطلاق الحكم عليها حقيقة باعتبار معناه التصديقي أو بملاحظة أنّها نسب خبرية كما لا يخفى.

وبالجملة : فالمثبت للحكم الوضعي يدّعي أنّ تلك الأمور متعلّقات للجعل بالأصالة بمعنى أنّها أمور إنشائية ، والنافي ينفيه بادّعاء كفاية إبداع الأحكام التكليفية عن إبداعها ، كما هو المقرّر عند أهل المعقول من أنّ الماهيات متعلّقات للجعل الإيجادي والتكويني أصالة ، ولوازمها مجعولات بالتبع ، فالمجعول بالذات هو الأربعة وإن استتبع جعل الزوجية أيضا ، فإنّ هذا هو الذي ينبغي أن يكون محلاّ للخلاف ، فإنكار هذه الأمور رأسا أو ادّعاء (3) اتّحادها للأحكام التكليفية ممّا لا ينبغي أن يذهب إليه (4) الوهم ،

ص: 162


1- « ز ، ك » : من.
2- « ج » : إذ.
3- « ز ، ك » : دعوى.
4- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - إليه.

ومن هنا ينقدح لك القول برجوع النزاع بين الفريقين لفظيا.

فكيف كان ، فلنا على ما صرنا إليه من النفي وجهان :

[ الوجه ] الأوّل (1) : أصالة عدم الجعل ؛ لعدم الحاجة إليها بعد كفاية جعل الأحكام التكليفية عنها اللازم جعلها من باب اللطف كما قرّر في محلّه. وأمّا بيان الكفاية فهو أنّه لا شكّ ولا شبهة في أنّ الأحكام الخمسة التكليفية مجعولات للشارع ، فإنّه اللطف الذي يجب عليه تعالى ، على أنّه (2) الإيجاب لا يعقل بدون الجعل والإنشاء كالتحريم وأخواتهما ، فإذا صدر الطلب من الطالب فلا ريب في احتياجه إلى متعلّق ؛ ضرورة استحالة الطلب بدون (3) المطلوب ، فهو إمّا أن يكون مركّبا من جزءين فصاعدا ، أو بسيطا ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون ذلك المطلوب مقيّدا بقيد من الأمور التي ينبغي أن تلاحظ في المطلوب ، وجوديا كان أو عدميا كما إذا طلب الإتيان بالماء البارد أو الصافي ، أو يكون مطلقا من غير ملاحظة شيء فيه ، وعلى التقادير فإمّا أن يكون الطلب معلّقا على حصول أمر من وقت أو حال كالأمر بالصلاة عند الزوال ودلوك الشمس ، وإمّا أن يكون مطلقا غير معلّق على حصول شيء. في كلّ هذه الأقسام لا حاجة إلى جعل شيء (4) من الأحكام الوضعية التي تستفاد من هذه الخطابات ، فإنّ بعد ما فرضنا أنّ الطلب تعلّق بإيجاد المكلّف الصلاة عند زوال الشمس مواجها للقبلة في حالة الطهارة ، فلا حاجة إلى إنشاء سببية الزوال (5) وجعله سببا للصلاة ، كما لا حاجة إلى جعل شرطية الطهارة والقبلة ، كما لا حاجة إلى جعل مطابقتها للأمر وعدم مطابقتها له (6) على تقدير الإتيان بها على ما هي عليها من الأجزاء والشرائط أو الإخلال بها بوجه من الوجوه ، فإنّ هذه الأمور اعتبارات عقلية ينتزعها العقل بعد

ص: 163


1- سيأتي الثاني منهما في ص 170.
2- كذا. ولعلّ الصواب : أنّ.
3- « م » : « من ».
4- « ج » : بشيء ، وفي « ز ، ك » : الشيء.
5- « ج » : إنشائية الزوال.
6- « م » : - له.

كون المطلوب واقعا على وجه من الوجوه ، فينتزع الجزئية عند تعلّق الطلب بمركّب كما ينتزع الكلّية أيضا ، ولذلك لم يذهب وهم إلى أنّ كلّية الكلّ (1) أمر جعلي إنشائي لكفاية تعلّق الطلب بمركّب عنه ، وينتزع الشرطية على تقدير تعلّق الطلب بأمر ملحوظ فيه وجود شيء كالطهارة في الصلاة والبرودة في الماء ، والمانعية على تقدير تعلّقه بأمر ملحوظ فيه عدم شيء كالحدث في الصلاة والتراب في الماء مثلا ، والسببية على تقدير تعلّقه بأمر معلّق على شيء كالصلاة المعلّقة على الوقت مثلا ، والصحة فيما إذا وقع الفعل المأمور به على وجهه ، والفساد إذا لم يقع عليه ، فلو قال الآمر - بعد جعله الحكم التكليفي - : إنّي قد جعلت الوقت سببا أو الطهارة شرطا أو الحدث مانعا ، كان ذلك لغوا صرفا ويجب تنزيه الشارع الحكيم عنه البتّة.

لا يقال : إنّ ما ذكرته إنّما يتمّ بعد فرض صدور الأحكام التكليفية ، ومن أين لك إثبات هذا المعنى في جميع موارد الأحكام الوضعية؟! فلعلّه كان جعل السببية مقدّما على جعل إيجاب الصلاة في الوقت ، فيكون جعل تلك الأحكام مغنيا (2) عن الحكم التكليفي.

لأنّا نقول : إنّ (3) سببية الدلوك للصلاة لا يراد بها سببية لذات الصلاة ، فلا بدّ أن يكون المراد لوجوبها (4) ، ولا يعقل (5) وجوب الصلاة بدون الطلب ، فيرجع جعل السببية إلى جعل الطلب والوجوب الذي هو حكم تكليفي ، فالمتأصّل في مقام الجعل هو الطلب دون الحكم الوضعي.

فإن قلت : إنّ الأدلّة الشرعية صريحة في كون الأحكام الوضعية متعلّقة للجعل ،

ص: 164


1- « ز ، ك » : الكلّي.
2- « م » : مغيّا.
3- « ز ، ك » : - إنّ.
4- « ك » : سببية لوجوبها.
5- « ج » : فلا يعقل ، وفي « ز » : لا يعقل.

فكيف يتأتّى إنكار جعل الوضعيات؟ فمن ذلك قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) ، و « لا صيام لمن لم يبت (2) الصيام من الليل (3) » (4) و « لا عمل إلاّ بنيّة » (5) و « البيّعان بالخيار » (6) و « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (7) إلى غير ذلك من الأحكام التي لا حصر فيها.

قلت : لا خفاء في أنّ الشارع إنّما حكم في تلك الأدلّة والقضايا بثبوت تلك المحمولات لموضوعاتها ، وقد عرفت أنّ الحكم بهذا المعنى ليس من المتنازع فيه ، فهذه المحمولات لا تخلو (8) من أحد وجهين : إمّا أن يكون اعتبارات عقلية منتزعة من محالّها من الخطابات التكليفية ، وإمّا أن تكون (9) أمورا واقعية ثابتة في حدود ذواتها مع قطع النظر عن تعلّق جعل إنشائي على نحو الجعل في التكليفيات بها. وعلى التقديرين يكون الخطاب المتعلّق بالوضعيات خبرا لا إنشاء كما هو ظاهر الأدلّة المذكورة ولا داعي لصرفها عن ظاهرها ، وذلك بخلاف الأخبار الواردة في مقام جعل الحكم التكليفي كقوله : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ ) (10) مثلا ، وكقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (11) فإنّه لا مناص من الحمل (12) المذكور فيها ؛ لما عرفت

ص: 165


1- وسائل الشيعة 1 : 315 ، باب 9 من أبواب أحكام الخلوة ، ح 1 ، و 1 : 365 - 366 ، باب 1 من أبواب الوضوء ، ح 1 و 6 ، و 1 : 368 ، باب 2 من أبواب الوضوء ، ح 3 ، و 1 : 372 ، باب 4 من أبواب الوضوء ، ح 1 ، و 2 : 203 ، باب 14 من أبواب الجنابة ، ح 2.
2- في المصادر : لم يبيت.
3- « ج ، م » : - الصيام من الليل.
4- مستدرك الوسائل 7 : 316 ، باب 2 من أبواب وجوب الصوم ونيّته ، ح 1 ، عن عوالى اللآلى 3 : 132 - 133 / 5 و 6 ، وورد أيضا في مصادر العامّة وسيأتي أيضا ص 200.
5- وسائل الشيعة 1 : 46 - 48 ، باب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، ح 1 - 4 و 9.
6- وسائل الشيعة 18 : 5 - 6 ، باب 1 من أبواب الخيار ، ح 1 - 3.
7- مستدرك الوسائل 4 : 158 ، باب 1 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 5 و 8.
8- في النسخ : لا يخلو.
9- في النسخ : يكون.
10- البقرة : 228.
11- النساء : 103.
12- « ج » : الجعل ، وكتب تحتها : « الحمل نسخة ».

من عدم معقولية التكليف اللازم إلاّ بالطلب ، فلا بدّ من أن يكون هذه الخطابات في معرض إنشاء الطلب ، أو إخبارا عن إنشاء سابق كما لا يخفى.

فمن الأوّل : السببية والشرطية والجزئية والحجّية والمانعية والصحّة والفساد والرخصة والعزيمة والعلّة والعلامة.

أمّا السببية فالوقتية منها عبارة عن إيجاب شيء وطلبه في وقت ، والمعنوية منها عبارة عن طلب شيء معلّقا على شيء آخر كالكفّارة عند الظهار والتحريم عند الإسكار ، ولا يرتاب في أنّ بعد إنشاء الطلب المعلّق على شيء فليس من شأن الشارع إنشاء سببية ذلك الشيء.

وأمّا الشرطية والجزئية فالأمر فيهما ظاهر ممّا مرّ ؛ إذ الجزئية كالكلّية ، والشرطية كالمشروطية ، لأنّهما متضايفان وتجويز الجعل في أحدهما يوجب تجويزه في الآخر ، وفساد ذلك في الآخر ظاهر.

وأمّا الحجّية فلا نعني بها إلاّ كون الشيء بحيث يجب العمل به ، ومعناه هو وجوب الأخذ به والاتّكال عليه.

وأمّا الصحّة والفساد ففي العبادات عبارتان عن مطابقة المأمور به للأمر ، وعدمها ، ولا ريب في كونهما أمرين عقليين منتزعين عن وقوع الفعل على ما هي عليه من الأمور المعتبرة فيه ، وعدمه ، ولذلك أنكرهما العضدي تبعا للحاجبي (1).

وفي المعاملات فمرجعهما إلى كون المعاملة واقعة على وجهها (2) ، فيترتّب عليها أثرها (3) المقصود منها وعدمه ، والعجب ممّن أطلق القول بجعلهما في المعاملات بعد اعتقاد الجعل في السببية ، ويكفيك في الحكم بعدم جعل السببية في المعاملات ملاحظة الأسباب العقلية كالشمس للإشراق والنار للإحراق ، فهل لأحد حسبان أنّ سببية

ص: 166


1- شرح مختصر منتهى الأصول : 98 ، الشرح للعضدي والمتن لابن الحاجب.
2- « م » : وجههما.
3- « م » : آثارها.

الشمس للإشراق مجعولة ؛ إذ ليست من مقولة الأفعال ، بل هي أمر قائم بالشمس كسببية الدلوك للصلاة أيضا؟

وأمّا الرخصة والعزيمة فخروجهما عن (1) أحكام الوضع ظاهر لا حاجة إلى بيانه.

وأمّا العلّة والعلامة فقد عرفت (2) في كلام الشهيد رجوعهما إلى السبب أو إلى الشرط في الأخير.

ومن الثاني : الزوجية والملكية والحرّية والرقّية والطهارة والنجاسة والكفر والإيمان والحدث والجنابة والضمان إلى غير ذلك من المحمولات الشرعية.

وهذه الأمور أيضا لا تخلو من وجهين : فتارة : تكون (3) من الأمور الواقعية المعلومة عند العرف مفهوما ومصداقا كالزوجية والملكية ، فليس للشارع فيها تصرّف إلاّ ببيان بعض المصاديق التي نحن بمعزل عن إدراكها لغيبتها عن نظرنا ، وأخرى : تكون (4) من الأمور التي لا نجدها في عقولنا مفهوما ومصداقا كالجنابة والحدث ، وعلى التقديرين ليست هي (5) من الأمور المجعولة للشارع على (6) نحو الجعل في التكليفيات.

أمّا على الأوّل : فلأنّها أمور واقعية ثابتة عند العرف ، وغاية ما يمكن القول به هو أنّ بعض الأفراد المعمولة عند العرف في تلك المفاهيم ممّا ليست من أفراد تلك المفاهيم في نظر الشارع ، وبعض الأفراد التي نحن معزولون عنها أفراد لها ، كبيع (7) المعاطاة المفيد للملك عندهم مع عدم اعتداد الشارع به في الشرع على القول بذلك ؛ إذ لا يعقل من الملكية إلاّ تعلّق خاصّ بين المالك والمملوك ، وليس المفهوم منها إلاّ حقيقة واحدة فإنّها من المشتركات المعنوية ، ولا يحتمل أن يكون الملكية مشتركة بين الملكية

ص: 167


1- « ز ، ك » : من.
2- عرفت في ص 161.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لا يخلو ... يكون.
4- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.
5- « ز ، ك » : - هي.
6- « ز ، ك » : - على.
7- « ز ، ك » : - كبيع.

الشرعية والعرفية اشتراكا لفظيا ، فإذا قال الشارع : « إنّ العقد - مثلا - مملّك » فذلك لا بدّ أن يكون إخبارا بحصول الملك لا إنشاء لحصوله (1). وعلى قياسه الزوجية والرقّية والحرّية والضمان ونحوها ، ومنه أيضا الطهارة والنجاسة بناء على تفسيرهما بالقذارة والنظافة ، فإنّ الظاهر الشرعي فيه نظافة لا يصل إليه عقولنا كالقذارة الشرعية ، فهي إذن أمور واقعية قد (2) كشف الشارع عن وجودها في الواقع ، ولا دخل للجعل فيها إلاّ باعتبار أنّه تعالى خالق كلّ شيء وهو جاعل الظلمات والنور ، فاستناد هذه الأشياء إليه تعالى كاستناد سلسلة الممكنات إليه تعالى بأجمعها على وجه لا يعزب عنه ذرّة لا في السماء ولا في الأرض.

وأمّا على الثاني : فلأنّها أيضا اعتبارات واقعية قد كشف الحكيم المطّلع على الواقع عنها ، فإنّ الحدث هي حالة واقعية حادثة بعد حصول أسبابها من شأنها عدم جواز الدخول معها في العبادة المشروطة بعدمه ، وكذا الجنابة فإنّها أيضا أمر واقعي ، غاية الأمر أنّ العرف لقصور نظرهم عن إدراك ما هو ثابت في الواقع لا يلتفتون إليها ، ولذلك بيّنها (3) الشارع الحكيم بمفهومها ومصداقها وما يترتّب عليها من أحكامها ، وذلك لا يقضي (4) بجعل منه فيها ، فإنّ الجنابة صفة للمكلّف فكيف يعقل أن يكون بجعل الشارع وإنشائه تكليفا وإن كان من منشآت الشارع تكوينا؟

ثمّ إنّ ما ذكرنا في الطهارة والنجاسة من كونهما حقيقتين من الحقائق العرفية (5) هو المطابق لبعض ظواهر الأدلّة كما استوفيناها في محالّها ، ويكفي في ذلك شاهدا ملاحظة قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ [ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ] فَاجْتَنِبُوهُ ) (6) حيث إنّ الأمر بالاجتناب بعد إحراز كونه رجسا ، فهو متفرّع عليه ، وهو

ص: 168


1- « ج ، م » : لحصول الملك.
2- « ز ، ك » : - قد.
3- « م » : نبّهنا.
4- « ج » : لا يقتضي.
5- « ج ، م » : + هذا.
6- المائدة : 90.

الذي يوافقه قواعد العدلية من تبعية الأحكام للصفات. وقد يظهر من الشهيد في القواعد (1) : أنّ النجاسة صفة انتزاعية من الأمر بوجوب الاجتناب عن العين التي ننتزع (2) منه تلك الصفة بعد الأمر ، فجعلها عبارة عن (3) إيجاب الشارع الاجتناب عن الشيء للاستقذار أو الاستنفار. ولعلّ مراده من الأوّل هو القذارة في البول ، ومن الثاني هو النفرة في الكفّار مثلا.

وبالجملة : فعلى هذا فالأمر أظهر ، ولك أن تقول بجريان هذا الكلام في مثل الملكية والزوجية ؛ لرجوع الأوّل إلى إباحة التصرّف في الأموال ، والثاني في الفروج ، فكون الشيء بحيث يجوز فيه التصرّف المالي عبارة عن الملكية ، وعلى هذا القياس يقال في غيرها.

فإن قلت : إنّ جعل الطلب وإنشاءه على وجه التعليق بوقت أو التقييد بوجود شيء أو عدمه جعل للسببية أو الشرطية أو المانعية ، وكذا جعل المطلوب مركّبا جعل للجزئية ، فلا وجه لإنكار جعل هذه الأمور.

قلت : أمّا تعليق الطلب فليس إلاّ إنشاء للطلب المعلّق لا إنشاء للسببية كما هو ظاهر ، وإنّما يصحّ بعد ذلك انتزاع السببية لإيراث الطلب الكذائي استعدادا للمحلّ. وأمّا تقييده بأمر وجودي أو عدمي فليس تعلّق الطلب بالشيء مع تصوّره ببعض أوصافه وأحواله ، وليس يلزم من التصوّر المذكور جعل ولا إنشاء ، بل إذا لحق المتصوّر المذكور طلب وحكم من الأحكام التكليفة يستأهل لأن ينتزع منه الأمور المذكورة ، ومن هنا تعرف ضعف المقالة المتداولة بينهم من أنّ الصلاة من المخترعات الشرعية ؛ إذ لا اختراع هنالك (4) ولا إبداع إلاّ لمجرّد الطلب المتعلّق بعدّة أمور متناسبة في الواقع لا نعلمها.

ص: 169


1- القواعد والفوائد 2 : 85.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : ينتزع.
3- « ز ، ك » : من.
4- « ك » : هناك.

الوجه الثاني من الوجهين (1) : أنّ الأمور التي يتوهّم كونها أحكاما وضعية من الخمسة المعروفة أو مع زيادة العلّة والعلامة والرخصة والعزيمة ، غير قابلة للجعل بالأصالة ؛ لأنّها من الأمور المنجعلة بذواتها بعد تعلّق الجعل الأصيل (2) بمحالّها ، فتعلّق الجعل بها ثانيا تحصيل للحاصل واستحالته ضرورية فطرية.

أمّا الأوّل : فقد عرفت فيما تقدّم أنّ كلّ واحد من هذه الأمور اعتبار عقلي منتزع عن أمر جعلي شرعي بحسب اختلاف مراتب المجعول الشرعي التابع لاختلاف المصالح الداعية إلى الجعل (3) والطلب على وجه خاصّ وجهة مخصوصة ، فقد تقضي (4) المصلحة باعتبار زمان أو مكان أو آلة مخصوصة أو فاعل خاصّ على حالتي الاجتماع مع الغير أو الافتراق ، مقدّما أو مؤخّرا ، مرتّبا أو غير مرتّب ، إلى غير ذلك من وجوه اختلافات (5) الكيفيات المكتنفة بالأفعال التي هي موارد للطلب ومحالّ للجعل التكليفي ، فبحسب اختلاف هذه (6) الكيفيات ينتزع العقل هذه الأوصاف ، وهذا أمر في غاية الظهور ، والعجب من بعض الأجلّة (7) حيث إنّه قد بالغ في ذلك مبلغه مع وضوحه.

وأمّا الثاني : فظاهر لا حاجة إلى بيانه وتوضيحه ، مضافا إلى أنّ الجعل لا بدّ من قيامه بالجاعل ؛ لأنّه من الأمور الصادرة عنه ، فهو من قبيل أفاعيله كالضرب للضارب والقتل للقاتل ، ولا ريب في قيام هذه الأوصاف بغير الجاعل ؛ لقيام السببية بالدلوك والجزئية بالسورة والشرطية بالطهارة والمانعية بالحدث ، فكيف يمكن أن يكون هذه الأمور مجعولة؟ وذلك يصحّ في التكليفيات فإنّ الإباحة فعل المبيح ، وتعلّق الأحكام التكليفية بالغير كتعلّق الوجوب بالصلاة أو الحرمة بالخمر غير مضرّ فيما نحن بصدده ؛ لأنّ الإيجاب عند التحقيق عين الوجوب ذاتا وإن تغايرا (8) اعتبارا

ص: 170


1- تقدّم الأوّل منهما ص 163.
2- « ج » : الأصلي.
3- « ز ، ك » : للجعل.
4- « ج » : تقتضي.
5- « ج » : اختلاف.
6- « م » : - هذه.
7- الفصول : 336.
8- « ج ، م » : وإن تغايره.

بمعنى أنّ الموجود في الخارج ليس إلاّ شيئا واحدا (1) يسمّى إيجابا بملاحظة صدوره عن الفاعل ووجوبا باعتبار تعلّقه بالقابل ، فالوجوب هو الطلب ذاتا لا اعتبارا.

فإن قلت : التسبّب كالإيجاب متّحد مع السببية ، فهو قائم بالجاعل ، وقيام السببية بالغير غير مضرّ كما في الوجوب.

قلت : إن أريد من التسبّب بيان كون الشيء متّصفا بالصفة المذكورة فذلك أمر مسلّم ولا ضير فيه ؛ لأنّ البيان ولو كان في هذه الأمور غير خارج عن وظيفة الشارع. وإن كان المراد إحداث السببية وإبداعها وإيجادها ، فهو أمر غير معقول إلاّ برجوعه إلى حكم تكليفي ، وعند ذلك فحصول السببية قهري فلا يحتاج إلى أن يصير موردا للجعل بالأصالة ، نعم يصحّ استناد الجعل إلى هذه الأمور مجازا ؛ لكونها مجعولات بالتبع ، كما في إسناد الجعل (2) التكويني إلى لوازم الماهيات المجعولة جعلا تكوينيا أصالة على القول بذلك ، فإسناد الجعل إلى الحرارة اللازمة لماهيّة النار في الخارج ، أو إلى الزوجية اللازمة للأربعة ، وإن كان صحيحا باعتبار أنّها مجعولة بواسطة تعلّق الجعل بملزومها إلاّ أنّه إسناد مجازي كما هو ظاهر (3) - (4).

بقي الكلام فيما أورده بعض الأعيان من المعاصرين (5) على المحقّق الخوانساري فيما أورده من التحقيق من رجوع الأحكام الوضعية إلى التكليفية كما نقلناه في أوّل الهداية ، فنقول : أمّا ما أورده من لزوم انحصار الأحكام في الثلاثة ، ففساده ظاهر ؛ لأنّ المناط ليس على مجرّد إمكان رجوع البعض إلى آخر ، بل المناط عدم الحاجة إلى الجعل وامتناعه ، فإن أراد الامتناع كما هو المناط في التحقيق المذكور فسقوطه في غاية

ص: 171


1- في النسخ : شيء واحد.
2- « ز ، ك » : - الجعل.
3- « م » : - كما هو ظاهر.
4- في هامش النسخ ما عدا « ج » : ( و « م » ) لا يخفى ما في المقام من الطفرة ، فتأمّل. « منه »
5- هو الكلباسي في اشارات الأصول كما تقدّم في ص 159.

الظهور ، وإن أراد مجرّد الرجوع فليس من محلّ الكلام في شيء.

وأمّا ما أفاده من قيام الضرورة باختلاف حرمة الخمر ومانعيته للصلاة ، فهو في غاية الجودة إلاّ أنّه لا يجديه شيئا ؛ لما عرفت من أنّ دعوى الاتّحاد بين المفهومين محال (1) بالضرورة ، ولكن أحدهما يمكن أن يكون منتزعا من الآخر من غير أن يكون مجعولا بالأصالة.

وأمّا جريان التكليف بما لا يطاق في الوضعي دون التكليفي ، ففيه : أنّ الوجه في ذلك - كما ستعرف - عدم تنجيز (2) الوضعي ، ومع ذلك فالتكليفي التعليقي يجري فيه التكليف بما لا يطاق كما عليه إطباق أهل التخطئة كما هو الصواب.

وأمّا ما أورده من تخلّف الوضعي عن التكليفي في بعض الأحيان كضمان الصبيّ وجنايته فإنّه ليس في حقّه حكم تكليفي حتّى يقال بصحّة انتزاعه منه ، ففيه : أنّ الحكم التكليفي الذي هو منشأ لانتزاع الوضعي لا يجب أن يكون منجّزا ، بل يكفي في انتزاعه منه وجوده ولو معلّقا. فإن أراد انتفاءه في حقّ الصبيّ مطلقا ولو كان (3) معلّقا ببلوغه أيضا ، فهو ظاهر الفساد ، وإن أراد انتفاءه (4) منجّزا فهو مسلّم ، ولكنّه لا يجديه شيئا ، مع إمكان القول بالخطاب الفعلي لوليّه أيضا ، فتدبّر في الغاية وتأمّل في النهاية تهتدي إلى الحقّ.

تنبيه

يمكن ظهور ثمرة الخلاف بين القولين في موردين : الأوّل : جريان الأصل عند الشكّ في الشرطية والجزئية على القول بالثبوت دون القول بالنفي ، فإنّه على القول بكونها مجعولات متأصّلة مستقلّة يصحّ القول بجريان أصالة عدم الجزئية والشرطية ، وهي

ص: 172


1- « ج ، م » : محالة.
2- « ك ، ج » : تنجّز.
3- « ز ، ك » : - كان.
4- « ج » : ببقائه.

واردة على قاعدة الاشتغال. وأمّا على القول بأنّها أمور انتزاعية فلا وجه لإجراء الأصل المذكور فيها ؛ إذ لا يختلف الجعل على تقدير الجزئية وعدم الجزئية (1) ، لأنّ المجعول أمر واحد ، غاية الأمر اختلاف قيوده. اللّهمّ إلاّ أن يجري الأصل في تعلّق نظر الطالب إلى المشكوك ، فتدبّر.

ولكن هذا بالنسبة إلى شرط الواجب وجزئه ، وأمّا إذا شكّ في شرط الوجوب كاشتراط وجوب الحجّ بقدر الكفاية بعد الرجوع ، فيمكن أن يكون النزاع المذكور أيضا مثمرا ؛ لأصالة عدم الجعل ، وأمّا بناء على القول به (2) فلا بدّ من الرجوع إلى البراءة فيهما.

الثاني : إذا رجع المجتهد عمّا ذهب إليه سابقا ، كما إذا رأى جواز العقد على الباكرة (3) بدون إذن وليّها ، ثمّ رجع واعتقد عدم الجواز ، أو اعتقد جواز العقد بالفارسية ، ثمّ اعتقد خلافه بعد إيقاع العقد في الموردين منه ، فعلى القول بأنّ الزوجية والملكية من الأمور المتأصّلة المجعولة للشارع فيمكن القول بأنّ الرجوع لا يؤثّر فسادا في العقود السابقة كما لا يؤثّر عزل الوكيل في فساد ما عمله حال الوكالة ، فإنّ التأثير في السابق حين ثبوت الوصف حاصل ولا وجه لانتفائه ، بل لا يعقل انتفاؤه بعد وقوعه ، وعلى القول بكونها أمورا انتزاعية من الخطاب التكليفي فثبوتها موقوف على ثبوت الخطاب ، وثبوت الخطاب دائر مدار الرأي الفعلي ، فجواز التصرّف في المال ينتفي بانتفاء الخطاب كما هو ظاهر.

وأمّا ما يستفاد من الكلام المنقول في السابق - من ثبوت الثمرة في جريان التكليف بما لا يطاق في الحكم الوضعي وعدم جريانه في الحكم التكليفي واشتراط العلم والقدرة في التكليفي دون الوضعي - فقد ظهر ضعفه ممّا مرّ على وجه لا يحتاج إلى

ص: 173


1- « ك » : عدمها.
2- « ج ، م » : - به.
3- « ج » : البكر.

تضعيفه ، وقد يقال أيضا : إنّ لازم القول بإنكار الوضعيات إنكار شرطية الستر للصلاة بالنسبة إلى الغافل ، وليس بشيء.

وإن شئت توضيح الحال فنقول : نحن معاشر المنكرين للأحكام الوضعية والقائلين بأنّها أمور انتزاعية ، لا يجب عندنا أن يكون محلّ انتزاع هذه الأمور خطابا فعليا متعلّقا بالمكلّف في الحال حتّى يصحّ القول بتحقّق الثمرة في الأمور المذكورة ، بل يكفي عندنا في الانتزاع وجود الخطاب التعليقي ، فالضمان في الصبيّ ليس منتزعا من الخطاب الفعلي ، بل من الخطاب التعليقي بمعنى أنّه لو بلغ يجب عليه كذا ، وهذا الخطاب ينتزع منه الضمان ، وكذا شرطية الستر تنتزع من الخطاب المتوجّه إلى المصلّي على تقدير الالتفات وعدم الغفلة ، مضافا إلى أنّا نقول : إنّ (1) المراد من نفي الوجوب بالنسبة إلى الغافل إن كان نفي الوجوب الواقعي ففساده ظاهر ؛ لثبوت الأحكام الواقعية على تقدير الغفلة أيضا ولذلك لا يحتاج إلى إيجاد خطاب آخر ، وإن كان المراد نفي الوجوب الظاهري فمسلّم إلاّ أنّ الشرطية أيضا منفيّة في مرحلة الظاهر ؛ ضرورة عدم تعلّق الشرطية مع فرض انتفاء الخطاب المفيد لها (2) ، فتدبّر يظهر لك الحال (3).

ص: 174


1- « ز ، ك » : من أنّ.
2- « م » : لهما.
3- « ج ، م » : - فتدبّر يظهر لك الحال.

هداية [ في اعتبار الاستصحاب عند الشكّ في عروض القادح ]

ذهب (1) المحقّق السبزواري (2) إلى اعتبار الاستصحاب عند الشكّ في عروض القادح دون غيره من الأقسام المذكورة مستندا في ذلك إلى عدم صدق الروايات في غيره حيث إنّ المنهيّ عنه فيها نقض اليقين بالشكّ ، ولا يصدق ذلك إلاّ فيه ؛ إذ النقض عند الشكّ في قدح العارض أو فردية شيء له إنّما يستند إلى وجود ما يحتمل مانعيته لا إلى الشكّ نظرا إلى ما هو المقرّر عندهم عادة من استناد المعلول إلى علّته التامّة أو الجزء الأخير منها ، وهو في غيره ليس شكّا ؛ لتقدّم الشكّ في غيره وتأخّره فيه.

واعترضه جماعة - أوّلهم السيّد في شرح الوافية - : بأنّ الشكّ وإن كان مقدّما في الشكّ (3) في المانعية نوعا إلاّ أنّ النقض غير مستند إليه في استصحاب القوم ، بل إنّما يستند إلى الشكّ الشخصي المؤخّر عن وجود ذلك الشيء.

وفيه : أنّ الشكّ هذا بخصوصه كان موجودا قبل ولم تحصل حالة ثانوية للمكلّف عند حدوث المذي ، كيف وهو من الأفراد التي حكم عليها بذلك؟

وتفصيل هذا المقال وتوضيح هذا الإجمال هو أن يقال : إنّ مقصود المحقّق المفصّل هو أنّ الشكّ في استصحاب القوم إنّما يقارن اليقين السابق ، بل ربّما يكون مقدّما عليه ؛

ص: 175


1- « ز ، ك » : قد ذهب.
2- انظر الذخيرة : 116.
3- « ز ، ك » : - في الشكّ.

إذ الشكّ في انتقاض الطهارة بخروج المذي حاصل حين اليقين بالطهارة أيضا ، فتحصل (1) عند المكلّف قضيّة كلّية واقعية قائلة بأنّ كلّ فرد من أفراد المذي مشكوك الناقضية مثلا ، ولا شكّ أنّها قضيّة (2) حقيقية لا خارجية ، فيعمّ الحكم الأفراد المحقّقة والمقدّرة ، فكما أنّ الحيوانية في قولنا : « كلّ إنسان حيوان » يعمّ جميع أفراد الموضوع على وجه يحكم بحيوانية زيد بعد وجوده بتلك الحيوانية التي حكمنا بها على الإنسان لا بحيوانية غيرها ، فكذلك الشكّ الحاصل في ناقضية المذي الخاصّ إنّما هو بعينه هو الشكّ المحمول على المذي في القضيّة المفروضة ، وإنّما حصل في المقام متعلّق هذا الشكّ على وجه التفصيل (3) عن (4) الكلّي. ألا ترى أنّه لو فرض علمنا بقيام زيد في الغد قبل حضوره فعنده لا يحصل لنا حالة إدراكية عدا ما كان لنا قبل كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر أنّ ما احتاله (5) بعض الأجلّة (6) في الجواب المذكور تبعا لغيره من تقدّم الشكّ التقديري دون الفعلي ، ممّا لا يجديه ، وهل هذا إلاّ كرّ على ما فرّ؟ لما عرفت من عدم حدوث حالة ثانوية بعد خروج المذي ، فتدبّر.

والتحقيق في الجواب هو أن يقال : إنّ نقض اليقين إنّما هو بالشكّ في تمام الموارد المفروضة ، ولا يجوز عند العقل نقض اليقين بغير الشكّ أو اليقين بخلافه ؛ إذ لا ارتباط بين اليقين بوجود الطهارة ووجود المذي حتّى يمكن انتقاضه بوجود المذي ، فإنّه حالة نفسانية ولا دخل للامور الخارجية فيه إلاّ إعدادها لانتقاض اليقين بالشكّ ؛ إذ نقض اليقين ليس إلاّ رفعه ، ورفعه إمّا بيقين مثله على خلافه أو لعدم العلم به والتردّد ، فلا نقض في جميع الصور المفروضة إلاّ بالشكّ ، ولهذا ترى الانحصار في قول أبي جعفر عليه السلام : « وإنّما ينقضه بيقين مثله » (7) إذ لا يسبق وهم إلى انتقاض اليقين بيقين غيره على

ص: 176


1- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : فيحصل.
2- « ز ، ك » : ولا شكّ في الناقضية.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الفضل.
4- « ز ، ك » : من.
5- « ز ، ك » : احتمله.
6- الفصول : 372.
7- تقدّم في ص 88.

شيء آخر غير مباين للمتيقّن أوّلا كما لا يخفى.

وإن أبيت عن ذلك فنقول في الجواب : إنّ المعيار في استصحابه على ما يستفاد من كلامه هو تأخّر زمان الشكّ عن زمان اليقين على وجه يستند الانتقاض إليه ، ومن الظاهر تخلّفه عن مطلوبه ؛ إذ النسبة بين الدليل والمدّعى هو العموم من وجه ؛ لأخصّية المدّعى عن الدليل فيما إذا حدث الشكّ باعتبار أمر خارجي عند الشكّ في قدح العارض كما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين كونها ماء أو بولا مثلا ، بل وإذا كان الشكّ في الحكم الكلّي أيضا كما إذا احتملنا مانعية حادث لم يكن قبل - ولو (1) بحسب (2) نوعه - موجودا كالمذي - مثلا - لو فرضنا حدوثه في اليوم ، أو فيما إذا فرض عدم الالتفات إليه بوجه على تقدير وجوده أيضا ، وأخصّية الدليل عن المدّعى فيما لو كان الشكّ متقدّما أو مقارنا لزمان اليقين عند الشكّ في طروّ العارض ، كما إذا حدث الشكّ بخروج البول في الغد عند اليقين بالطهارة في اليوم ، فعند حضور الغد يشكّ في بقاء الطهارة بواسطة الشكّ في طروّ المانع ، فيستصحب الطهارة السابقة مع تقدّم الشكّ على زمان اليقين أو تقارنه له ، وذلك ظاهر.

وقد يتمسّك في دفع التفصيل المذكور بأنّ مورد الرواية من الأقسام التي لا يقول به فيها ، فإنّ الخفقة والخفقتين ممّا شكّ في اندراجهما تحت ما علم مانعيته. وفيه : أنّ ذلك ليس من موارد الاستصحاب في الرواية ، ولهذا ترى الإمام عليه السلام أجابه بدليل اجتهادي مبيّن للواقع وقال : « يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب » نعم (3) لا يبعد دعوى ذلك بالنسبة إلى قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم به » بناء على أن يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في اندراج فرد تحت مفهوم معلوم المانعية ، ولكن ربّما يمنع عن ذلك أيضا فيقال بأنّ الشكّ إنّما هو من الشكّ في وجود المانع ، حيث إنّ السؤال إنّما هو من

ص: 177


1- « ز » : - لو. « ك » : - ولو.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : تحت.
3- « ج » : « و » بدل « نعم ».

وصول تلك الحالة إلى حالة النوم كما لا يخفى.

وقد يجاب عنه أيضا بأنّ الظاهر من الروايات عدم الاعتداد بالشكّ في حال من الحالات والأخذ بالحالة السابقة وعدم نقض اليقين إلاّ بيقين آخر ، ولا يضرّ في ذلك سبق الشكّ أو لحوقه ؛ ضرورة صدق الاعتداد بالشكّ عند التردّد في مانعية شيء موجود لو لم يؤخذ بالحالة السابقة ، وقد منع الشارع منه في الروايات المتقدّمة ، ومرجعه إلى دعوى إطلاق الأخبار أو عمومها لجميع (1) الأقسام. وهو غير بعيد ، إلاّ أنّ المعتمد في الجواب هو ما قدّمنا.

وقد ينسب إلى المفصّل المذكور (2) التفصيل بين الأحكام والموضوعات أيضا فقال بالعدم في الثاني وبه في الأوّل ، ولم يظهر لنا أنّ التفصيل المتقدّم إنّما هو بعد إخراج الموضوعات كما يظهر من المحقّق الخوانساري في الحاشية المنقولة فيما تقدّم (3) ؛ إذ لا دخل لأحد التفصيلين بالآخر.

وكيف كان ، فقد يتوهّم تعاكس هذا التفصيل (4) لما ذهب إليه الأخباريون ، وليس بإطلاقه على ما ينبغي ؛ إذ يحتمل أن يراد بالموضوعات في مقابل الأحكام وجريان الاستصحاب فيها دونها أن يكون (5) المستصحب هو الموضوع الخارجي كحياة زيد أو عدالة عمرو ، ونحوها كما هو الظاهر بملاحظة سياق العبارة المنقولة في الحاشية.

ويحتمل أن يراد بها الأحكام الجزئية الشرعية التي منشأ الشبهة فيها هي الشبهة في الأمور الخارجية كالطهارة المتعلّقة بثوب خاصّ باعتبار الشكّ في نجاسة البلل الواقع فيه.

فعلى ثاني الاحتمالين يصير القولان متعاكسين ، وعلى الأوّل فلا عكس له في

ص: 178


1- « ز ، ك » : بجميع.
2- انظر ص 62.
3- تقدّم في ص 136 - 138.
4- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : التفصيل هذا.
5- « ك » : وأن يكون.

الأقوال المعروفة.

والمشهور في مستند القول المذكور هو عدم شمول أخبار الباب لها بواسطة أنّ بيانها ليس من وظيفة الشارع ، فإن أراد بها الأحكام الجزئية قبالا للأخبارية ، فمحجوج بموارد الروايات المتقدّمة فإنّها بأجمعها واردة في مقام بيان تلك الأحكام ، وإن كنت في ريب منها فراجعها.

وإن أراد بها نفس الأمور الخارجية كما استظهرناه ، فالجواب عنه تارة بالنقض بالأحكام الجزئية التي وردت الروايات في بيانها ، فإنّ الشارع ليس من وظيفته بيان نجاسة الثوب الخاصّ الذي يشكّ (1) فيها بواسطة الاشتباه فيما لاقاه ، كما أنّه ليس من وظيفته بيان بقاء الرطوبة إلى غاية كذائية.

وأخرى بالحلّ وهو أنّ للموضوع الخارجي جهتين : إحداهما : بيان نفسه من غير تعرّض بشيء من أحكامه ، كأن يبيّن أنّ زيدا - مثلا - موجود أو (2) أنّ البلل الواقع في الثوب الفلاني ماء أو غير ذلك ، والثانية : بيان حكمه إمّا واقعا إذا كان الموضوع للحكم هو نفس الموضوع من غير ملاحظة الجهل ، وإمّا ظاهرا فيما إذا كان الموضوع مشتبه (3) الحكم مثلا ، وما دارت عليه الألسن من أنّ شأن الشارع ليس بيان الموضوعات إنّما هو بالنسبة إلى الجهة الأولى لا الثانية ، فإنّها في الحقيقة راجعة إلى حكم كلّي في قضيّة كلّية تندرج الموضوعات الجزئية الخاصّة في موضوعها ، فإنّ الشارع قد بيّن بعموم قوله : « لا تنقض » حكم الموضوع المشتبه ، وليس هذا من بيان الموضوع في شيء ؛ إذ كما أنّه لا يسبق وهم إلى أنّ بيان حكم كلّي الخمر (4) بيان للموضوع ، فكذلك لا ينبغي أن يرتاب في أنّ القول بلزوم الأخذ بالحالة السابقة وترتيب آثارها على المشكوك عند الشكّ ، كما هو مفاد قوله : « لا تنقض » بيان للموضوع الخارجي.

ص: 179


1- « ج ، م » : شكّ.
2- « ز ، ك » : و.
3- « م » : مشتبهة.
4- « ز ، ك » : كالخمر.

فالتفصيل المذكور في غاية السقوط ، ألا ترى أنّ الشارع قد جعل للموضوع المشتبه أمورا أخر غير الاستصحاب كاليد والسوق والبيّنة ونحوها ، وليس أمثال ذلك من بيان الموضوع في شيء ، بل إنّما هو حكم كلّي متعلّق بموضوع كلّي منطبق على جزئياته كالنجاسة للخمر الحقيقي ، فلا فرق بين القضيّة الحاكمة بنجاسة الخمر والقائلة بحلّية ما يوجد في سوق المسلم عند الاشتباه ، سوى الاشتباه كما لا يخفى على المتدبّر.

فإن قلت : إنّ المستفاد من أخبار الاستصحاب مجعولية المستصحب في مرحلة الظاهر ، كما إذا شكّ في فورية الخيار - مثلا - عند علم المشتري بالغبن أو العيب أو في وجوب شيء بعد ثبوته في الحالة السابقة ، فإنّ المستفاد من قوله : « لا تنقض » هو أنّ الشارع قد جعل في مرحلة الظاهر وجوبا ظاهريا عند الشكّ في البقاء وعدمه كما جعل حكما واقعيا قبل الشكّ ، ولا ريب أنّ الجعل الظاهري ممّا لا يتعقّل في الموضوعات الخارجية دون الأحكام ، فإنّها أمور واقعية لا مدخل لجعل الشارع فيها ، بخلاف الأحكام ؛ إذ ليس لها واقع إلاّ طلب الشارع على اختلاف الموارد ، فتارة إيجابا ، وأخرى استحبابا ، ومرّة تحريما ، ونوبة تنزيها ، كما لا يخفى ، فيمكن الجعل فيها كما هو مفاد الأدلّة ، فينحصر مورد الأخبار المذكورة في الأحكام.

قلت : قد عرفت فيما تقدّم آنفا (1) أنّ معنى قوله : « لا تنقض اليقين » هو وجوب الأخذ بالحالة السابقة وإجراء الأحكام المترتّبة على المتيقّن عليه عند الشكّ ، وليس للجعل فيه عين ولا أثر ، ووجوب الأخذ بالأحكام في الموضوعات معناه ترتيب آثارها عليها ، ففيما إذا شكّ في حياة زيد بعد العلم بها لا بدّ من الحكم بحرمة زوجته (2) على غيره ووجوب إنفاقه لها ونحو ذلك ، وفي الأحكام أيضا معناه هو وجوب الإتيان

ص: 180


1- « ز ، ك » : - آنفا.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : « زوجتها ».

بالصلاة عند الشكّ فيه وجواز فسخ المشتري عند الشكّ في بقاء الخيار ، ولا يختلف في ذلك شيء من الحكم والموضوع عدا ما لا مدخل (1) للرواية فيه وهو قبول الوجوب المستصحب للجعل (2) وإمكانه فيه وعدم قبول الموضوع الخارجي لذلك ؛ إذ لا تنافي في قول القائل (3) عند استصحاب الوجوب : إنّه وجوب ظاهري ، مع ظهوره في قولنا : الحياة الظاهرية أو الوجود الظاهري كما لا يخفى ، ومن المعلوم أنّ هذا ممّا لا يقضي (4) بانحصار مورد الأخبار في الأحكام.

فإن قلت : فإذا كان معنى حجّية الاستصحاب في الموضوعات هو الأخذ بأحكامها ، فيرجع النزاع في حجّية الاستصحاب فيها لغوا ؛ لإمكان استصحاب نفس تلك الأحكام والآثار.

قلت : أمّا اوّلا : قد يكون هناك أمور غير موجودة حالة اليقين بوجود الموضوع وأحكام غير محمولة عليه فعلا ، كما إذا كان معلّقا بوجود شيء ، أو حضور زمان كوجوب الفطرة المشروط (5) بحضور زمان العيد ، ونحو ذلك ، فعند الشكّ في وجود زيد وقت حضور زمان العيد لا يمكن استصحاب وجوب الفطرة ؛ لعدم وجودها قبل ، فلا يعود النزاع (6) عبثا.

لا يقال : يكفي في الاستصحاب في مثل ذلك (7) وجودها تقديرا ، كأن يقال : إنّ الفطرة كانت بحيث لو حضر زمان العيد واجبة ، ونشكّ في وجوبها بعد ، فيستصحب ذلك الوجوب التقديري ، وبعد فرض تحقّق التقدير فلا بدّ من الأخذ بوجوبها كما في غيرها من موارد الاستصحاب.

ص: 181


1- « ز ، ك » : دخل.
2- « ز ، ك » : للجهل.
3- « ز » : لا تنافي القول القائل ، وفي « ك » : تنافي لقول القائل.
4- « ج » : لا يقتضي.
5- « ز ، ك » : المشروطة.
6- « ز ، ك » : فلا لغو والنزاع.
7- « ج ، م » : + هو.

لأنّا نقول : هذه قضيّة انتزاعية وليست من الأحكام الشرعية ، فهي ملحقة بالموضوعات التي لا حاجة إلى استصحابها على زعم الخصم كما لا يخفى ، مضافا إلى أنّ في الاستصحاب (1) التقديري كلاما ستعرفه (2) إن شاء اللّه (3) ، مع إمكان فرض (4) المثال على وجه لا يجري فيه الاستصحاب التعليقي (5) كعدم التزكية المترتّب عليه النجاسة ، فافهم.

وأمّا ثانيا : إنّ الاستصحاب في الآثار والأحكام من دون استصحاب الموضوع ممّا لا يعقل بعد الشكّ في وجوده ؛ إذ الموضوع في الاستصحاب - كما ستعرف تحقيقه (6) إن شاء اللّه (7) - لا بدّ من العلم بوجوده والمفروض في المقام كونه مشكوكا ، واستصحابه يغني عن استصحاب الأحكام ؛ إذ معناه ترتيب تلك الأحكام ، بل لا يعقل ؛ لانتفاء الشكّ فيه ، وفرض العدم كما في صورة تعدّد الأدلّة ممّا لا يجدي في المقام ، لتحقّق مورد الاستصحاب عند تعدّد الأدلّة بعد فرض العدم وارتفاعه بعد فرض عدم الاستصحاب في المقام كما لا يخفى.

ص: 182


1- « ج ، م » : استصحاب.
2- « ج ، م » : ستعرف.
3- « ز ، ك » : - إن شاء اللّه.
4- « ز ، ك » : وفق.
5- « ج » : العدمي.
6- ستعرف في هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع ص 375.
7- « ز ، ك » : - إن شاء اللّه.

هداية [ في التفصيل بين الأحكام الكلّية والأحكام الجزئية ]

قد ينسب إلى الأخباريين التفصيل بين الأحكام الكلّية الشرعية والأحكام الجزئية التي منشأ الاشتباه فيها الموضوعات الخارجية ونفس تلك الأمور ، فقالوا بالحجّية في الأخيرين ، وبعدمها في الأوّل ، فكما أنّ أرباب التفصيل المتقدّم قد أفرطوا فهؤلاء قد فرّطوا كما لا يخفى ، وقد مرّ (1) التنبيه على عدم التعاكس بين التفصيلين كما زعمه المحقّق القمي رحمه اللّه (2).

ثمّ إنّ هذا التفصيل منهم مبنيّ على أصلهم من أنّ المرجع في الأحكام الكلّية الشرعية عند الجهل والشكّ إلى الاحتياط ، بخلاف الموضوعات كما في أصالة البراءة على ما مرّ تفصيل الكلام فيها ، فلا عبرة بالحالة السابقة ولو كان موافقا للاحتياط فكيف بما إذا كان مخالفة (3).

وقد تعرّضوا للجواب عن أخبار الاستصحاب تارة بالمعارضة لأخبار الاحتياط ، وأخرى بعدم شمولها للأحكام الكلّية الشرعية. ولهم في بيان الثاني طريقان :

الأوّل (4) : ما أفاده الشيخ الجليل البارع (5) رئيس جهابذة (6) الأخبارية في محكيّ

ص: 183


1- مرّ في ص 62.
2- « ج ، م » : - رحمه اللّه.
3- كذا في النسخ ، ولعلّ الصواب : ولو كانت موافقة ... كانت مخالفة.
4- سيأتي الثاني منهما في ص 188.
5- « ز ، ك » : - البارع.
6- « ز ، ك » : - جهابذة.

الفوائد الطوسية ، قال (1) - بعد قول المصنّف (2) : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » - : أقول : هذا إنّما يدلّ على حجّية الأصل بمعنى الاستصحاب لا بمعنى أصالة (3) الإباحة ، ولا دلالة له على الاستصحاب في الحكم الشرعي ، بل هو مخصوص باستصحاب الحالة السابقة التي ليست من نفس الأحكام الشرعية ، سواء كانت مخالفة للأصل أم موافقة له (4) ، مثلا إذا تيقّن الإنسان أنّه توضّأ ثمّ شكّ في أنّه أحدث وبالعكس ، أو تيقّن دخول الليل ثمّ شكّ في طلوع الصبح (5) وبالعكس ، أو تيقّن وقوع العقد ثمّ شكّ في التلفّظ بالطلاق ، أو تيقّن في وقوع الطلاق ثمّ شكّ في الرجعة أو في تجديد العقد ، أو تيقّن طهارة ثوبه ثمّ شكّ في ملاقاة البول له ، أو نحو ذلك ممّا ليس من نفس الأحكام الشرعية وإن ترتّب عليه بعضها ، فإنّ هذه الأشياء لا تحتاج (6) إلى نصّ ، وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق (7) ؛ لأنّ المكلّف لا يمكنه الرجوع في هذه الأشياء إلى المعصوم ، وإذا رجع إليه فإنّه لا يعلم الغيب كلّه ، وهل يتصوّر عاقل أن يقول للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : أخبرني لما أحدثت بعد وضوئي ، وهل خرج منّي منيّ (8) بعد الغسل؟ وهل طلّقت زوجتي أم لا؟ ولمّا اقتضت الحكمة لرفع (9) الحرج والمشقّة أن ينصّ الشارع على العمل في هذه الأشياء التي ليست من الأحكام الشرعية بقواعد كلّية من أصل واستصحاب ونحوهما على تفصيل يستفاد من النصّ المذكور في محلّه ، حكم العامّة بمساواة الأحكام الشرعية الإلهية لتلك الأمور الدنيّة (10) الدنيوية ، بناء على أصلهم من حجّية القياس.

ص: 184


1- « ز ، ك » : - قال.
2- كذا في النسخ ، والصواب « المعاصر » لأنّه كان في مقام ردّ قول بعض معاصريه. كما سيأتي التصريح به في أواخر كلامه.
3- في المصدر : الأصالة.
4- « ز ، ك » : أم لا.
5- « ك » : الفجر.
6- « ج ، م » : المصدر : لا يحتاج.
7- في المصدر : تكليف ما لا يطاق.
8- المثبت من « ج ، ز » وهو موافق للمصدر ، وفي « ك ، م » : شيء.
9- « ج » : برفع.
10- « ج ، م » : الدينية.

وغفل عن الفرق بين الأمرين بعض المتأخّرين من الخاصّة مع أنّ النصوص بالفرق بين المقامين كثيرة ، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق ، أو رفع التكاليف كلّها أو أكثرها والاستغناء عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والإمام عليه السلام بالأصل والاستصحاب كما صرّح به بعض علماء العامّة.

ولا يمكن المعاصر أن يجيب (1) بما ورد من وجوب طلب العلم. لأنّه يقول : لا (2) المراد بالعلم الظنّ الحاصل من الدليل الشرعي كالأصل والاستصحاب ، ولا يجب بعد ذلك الرجوع إلى المعصوم عليه السلام عندهم ، ولأنّهم يدّعون أنّه لا يحصل من الأخبار غير الظنّ حتّى مع المشافهة ؛ لأنّ دلالة الألفاظ ظنّية كما زعموا ، فيلزم من وجوب الرجوع بعد حصول الظنّ الشرعي تحصيل الحاصل.

وممّا يؤيّد الاختصاص هنا بما ليس من نفس الأحكام الشرعية أنّ هذا الحديث إنّما ورد في نواقض الوضوء إذا حصل الشكّ في غلبة النوم على السمع وعدمه ، وفي الشكّ بين عدد الركعات الصادرة عن المصلّي.

وممّا يؤيّد ذلك ويوضحه أنّهم عليهم السلام قالوا (3) : « لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » (4) فإذا لم يحصل للمكلّف يقين بتجدّد حالة أخرى يمكنه الاستدلال بهذا الحديث ، وإذا حصل له اليقين بتجدّد حالة أخرى كخروج المذي عن المتوضّئ ووجود الماء عند المصلّي بتيمّم (5) ، وحصل عنده شكّ (6) في حكمهما (7) الشرعي ، وهو الذي ينصرف إليه إطلاق الاستصحاب عندهم ، فلا يمكنه الاستدلال بهذا الحديث ؛ لأنّه قد نقض اليقين السابق بيقين وشكّ لا بشكّ منفرد ، ولم يقل في الحديث : لا تنقض اليقين بالشكّ وباليقين والشكّ وإنّما تنقضه بيقينين آخرين (8) ، فلا يكون ذلك دليلا على

ص: 185


1- في المصدر : يجب.
2- في « ك » : « إنّ » بدل « لا ».
3- « ز ، ك » : - قالوا.
4- تقدّم في ص 88.
5- « م » : تيمّم.
6- « ز ، ك » : الشكّ.
7- « ج ، ك » والمصدر : حكمها.
8- « ز ، ك » : بيقين آخر.

الاستصحاب ، على أنّه إنّما يدلّ على أنّ الشكّ لا ينقض إلاّ باليقين ، فلا دلالة له على عدم نقض الشكّ بالظنّ ، ولا الظنّ بالشكّ ، ولا اليقين بالظنّ ، ولا الظنّ بالظنّ ، ولا اليقين باليقين والشكّ ، أو به وبالظنّ ، وهم يستدلّون في جميع تلك الصور بالاستصحاب ، فلا دلالة للحديث على حجّيته مطلقا ، على أنّ اللام في « اليقين » يحتمل كونها للعهد الذكري ؛ لأنّه قال : « فإنّك كنت على يقين من وضوئك ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » (1) فلا دلالة له (2) على غير الصورة المفروضة التي هي موضوع (3) الحديث ، وهي ليست من الأحكام (4) الشرعية ، والقياس باطل ، والاستدلال بالفرد على الطبيعة غير معقول خصوصا في الأصول هذا (5) ، انتهى.

والجواب عمّا أفاده ذلك الشيخ الجليل أخيرا - بقوله : وممّا يؤيّد ذلك ويوضحه ، إلخ - إنّما يستفاد عمّا أسلفنا ذكره في الهداية السبزوارية ، ونقول في المقام توضيحا (6) : أوّلا : إنّ النجاسة المشتبهة باعتبار حدوث أمر خارجي أو الطهارة المشكوكة بواسطة ملاقاة رطوبة مشتبهة ، ممّا لا ينبغي الاستصحاب فيها ؛ لانتقاض اليقين بالشكّ في البقاء و (7) اليقين بحدوث الأمر الخارجي على ما زعمه ، مع أنّ صدر الكلام المنقول منه ينادي بخلافه كما لا يخفى. والحاصل أنّ النقض في الشبهة الموضوعية عند الشكّ في مانعية العارض ليس إلاّ بيقين وشكّ ، فما هو الجواب عنه هو الجواب عن غيره.

وثانيا : إنّ النقض لا يحصل إلاّ بالشكّ أو باليقين على الخلاف ؛ لأنّ المكلّف بعد العلم بوجوب شيء عليه إمّا أن يأتي به ، أو لا يأتي به ، لا كلام على الأوّل ، وعلى الثاني : فإمّا (8) أن يتركه عصيانا ، أو يعلم بخلافه ، أو يشكّ فيه ، فاليقين لا يتصوّر

ص: 186


1- تقدّم في ص 88.
2- « ز ، ك » : له أبدا.
3- « ج ، م » : موضع ، وفي المصدر : موضوع بالحديث.
4- في المصدر : من نفس الأحكام.
5- الفوائد الطوسية : 208 - 209.
6- « ز ، ك » : - توضيحا.
7- « ز ، ك » : أو.
8- « ز ، ك » : وإمّا.

انتقاضه إلاّ بالشكّ أو اليقين على الخلاف ، والإمام عليه السلام إنّما منع عن عدم ترتيب الآثار عند نقض اليقين بالشكّ ، وحكم بوجوب الإتيان فيما لو كان المعلوم سابقا واجبا ، ولا مدخلية لليقين بوجود شيء آخر للنقض على ما هو غير خفيّ على أوائل العقول.

ولقد أجاد المحقّق القمي رحمه اللّه (1) حيث أورد على السبزواري - في جملة كلام له - بأنّ المتبادر من الخبر أنّ موضع الشكّ واليقين وموردهما شيء واحد ، فاليقين بوجود المذي لم يرد على اليقين بالطهارة ، بل هما أمران متغايران (2) ، انتهى.

ولعمري إنّ وضوح فساد هذه التوهمات ممّا يغني عن إطالة الكلام في إبطالها ، ولهذا لم يفد أستادنا المرتضى في الجواب عنها عدا ما ذكر ، إلاّ أنّ الأنسب أن نذكر (3) بعض ما يرد في ضمن إفادات هذا الشيخ الجليل ، ولو لا أنّ المذكور من إفاداته على ما أودعه (4) لكان ترك التعرّض له (5) أولى.

فنقول : يرد عليه أوّلا : أنّ الفرق بين الأحكام والموضوعات في مثل هذه الأخبار العامّة المسوقة لبيان المشتبهات ممّا لا يصغى إليه ، وليت شعري هل يتصوّر عاقل فرقا بين أن يقول الشارع : أنت في سعة ما لم تعلم وجوب شيء ، كما في الشبهة الوجوبية التي أجمعت الأمّة على البراءة فيها خلا ما يظهر من بعض متعصّبي الأخبارية (6) ، وبين أن يقول : يجب أن يعمل فيما علم وجوبه سابقا بالأحكام السابقة مثلا وعامله معاملة المعلوم؟ فلو أنّ مثل هذا القول يوجب القول بالاستغناء عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والإمام عليه السلام فهؤلاء أوّل من يقول به ، فإنّ مقام الشبهة ممّا لا بدّ من العمل فيه بأصل (7) ، والأصل عندهم هو الاحتياط ، وعند غيرهم يختلف موارده بحسب اختلاف الأدلّة ، وكيف

ص: 187


1- « ج ، م » : - رحمه اللّه.
2- القوانين 2 : 61 وفي ط : ص 270.
3- « ز » : - نذكر.
4- « ز ، ك » : - على ما أودعه.
5- « ز ، ك » : لها.
6- هو أمين الأسترآبادي وبعض متابعيه كما تقدّم عنه في ج 3 ، ص 408.
7- « ج » : بالأصل.

يحتمل هذا القول في حقّ المفيد مع أنّه من أجلاّء القوم؟ وكيف يوجب الاستغناء في عين الاحتياج لما هو مأخوذ منهم عليهم السلام كما لا يخفى؟ مع أنّ ما ذكره في صدر كلامه : فإنّه لا يعلم الغيب كلّه ، فيه ما لا يخفى وإن لم نقل بإحاطة علمهم عليهم السلام فعلا.

وثانيا : أنّ بعد فرض حصول الظنّ من الأصل والاستصحاب في جميع موارده والقول باعتباره من هذه الجهة ، فلا نسلّم لزوم تحصيل الحاصل فيما لو راجع إلى الحجّة وإن قلنا بظنّية الخطابات الشفاهية (1) ؛ إذ لم نجد قائلا بمكافأة الظنون المستفادة من الأصول للأدلّة الاجتهادية فكيف عن قول المعصوم وقد ادّعي الإجماع على ذلك؟ فالقول بذلك إنّما هو من خرافات العامّة وأصحابنا رضوان اللّه عليهم (2) أجلّ (3) شأنا وأعظم قدرا من (4) ذلك ، مع أنّ المقدّمات المذكورة بأجمعها ممنوعة عند التحقيق كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده من زعمهم ظنّية الدلالة اللفظية ، فليس بأبعد من دعوى قطعية أسناد الأخبار (5) الآحاد.

وثالثا : أنّ من المقرّر في مقامه عدم تخصيص العامّ بالمورد ؛ ضرورة عدم مدخليته في ذلك قطعا ، وبعد ما فرض من عموم قوله : « لا تنقض » فلا وجه للتخصيص ، على أنّ السائل إنّما سأل عن حكم الموضوع المشتبه كما لا يخفى.

ورابعا : أنّ ما ذكره في العلاوة ممّا لا يستقيم بوجه ؛ إذ بعد القول بحجّية الظنّ بواسطة دليل شرعي فالنقض بالظنّ إنّما هو نقض باليقين ، وذلك ظاهر في الغاية.

وأمّا ما أفاده من حديث العهد فقد مرّ الكلام فيه فيما تقدّم بما لا مزيد عليه.

الثاني (6) : ما زعمه أمينهم ، قال في الفوائد المكّية - على ما حكاه في الوافية بعد

ص: 188


1- « ز ، ك » : الشخصية.
2- « ز ، ك » : - رضوان اللّه عليهم.
3- « ج ، م » : فهم أجلّ.
4- « ز ، ك » : عن.
5- « ج ، م » : أخبار.
6- تقدّم الأوّل منهما في ص 183.

إيراد الأخبار (1) الدالّة على الاستصحاب - : لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام اللّه كما ذهب إليه المفيد والعلاّمة من أصحابنا والشافعية قاطبة ، وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفية بعدم جواز العمل به.

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها (2) كثير من فحول الأصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية تارة بما ملخّصه أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه ، ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة (3) إلى استواء (4) حكم موضوع (5) إلى موضوع آخر يتّحد معه بالذات (6) ويغايره بالقيد والصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة بأنّ استصحاب الحكم الشرعي ، وكذا الأصل ، أي الحالة التي إذا خلّي الشيء ونفسه كان عليها ، إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر فى محالّ النزاع بيان ذلك : أنّه تواتر الأخبار منهم عليهم السلام بأنّ كلّ ما يحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة ورد فيه خطاب وحكم حتّى أرش الخدش ، وكثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم السلام ، وأنّه (7) ورد في محالّ النزاع أحكام لا نعلمها بعينها ، وتواترت الأخبار عنهم بحصر المسائل في ثلاث : أمر بيّن رشده ، وبيّن غيّه أي مقطوع به لا ريب فيه ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث (8) ، انتهى كلامه بألفاظه المحكيّة في الوافية.

ص: 189


1- « ج » : أخبار.
2- « ج ، م » : حلّها ، وكتب عليها في « م » : جوابها.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : بالحقيقة.
4- في المصدر : إسراء.
5- « ج ، م » والمصدر : - موضوع.
6- « ز ، ك » : ذاتا.
7- « ز ، ج ، م » : أنّه ، وفي المصدر : فعلم أنّه.
8- الوافية : 212 - 213.

ومحصّل ما ذكره في الوجه الأوّل مع توضيح منّي هو أنّه لا شكّ في أنّ القيود المعتبرة في القضيّة المعلومة المتيقّنة من زمان أو مكان أو شرط أو حال أو إضافة أو وصف ونحو ذلك ، ممّا يجب أن تكون (1) باقية حال الشكّ في تلك القضيّة على وجه يصدق عليها أنّها قضيّة متيقّنة (2) فشكّ فيها حتّى يكون موردا للأخبار المذكورة.

وأمّا إذا تبدّلت القيود المأخوذة فيها بعد الأصل المقرّر عند العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد واختلافها بالوجوه والاعتبار ، فيحتمل أن لا يكون المصلحة المقتضية للحكم الأوّل باقية ، فالقضيّة المشكوكة بعد انتفاء قيد أو ازدياد حالة تصير واقعة أخرى مباينة للواقعة الأولى ، وإلحاق الأخيرة بها عند الشكّ ليس إلاّ من القياس الباطل ، والاستصحاب في الأحكام الكلّية الإلهية إنّما هو من هذا القبيل بخلافه في الموضوعات فإنّ الشكّ في بقاء الطهارة بعد الشكّ في حدوث البول وعروضه إنّما هو على وجه لا يختلف موضوع الحكم في القضيّة المتيقّنة الأولى ؛ لعدم تبدّل قيد من قيوده أو حال من أحواله.

وأمّا (3) الجواب عنه ، فتارة بالنقض بالاستصحاب في الموضوعات فيما إذا كان الشكّ في رافعية العارض ، كما إذا شكّ في الطهارة بعد حدوث رطوبة مشتبهة ، فإنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة قد ارتفع قيد من قيوده باعتبار حدوث تلك الرطوبة مع أنّه يقول به ، أقول بل بمطلق الموضوعات ؛ إذ لا يعقل وجود الشكّ وارتفاع اليقين إلاّ بواسطة حدوث حالة أو ارتفاع شيء يحتمل اعتباره في الموضوع أو في الحكم ولو على وجه يكون اليقين حاصلا في تلك الحالة. وبالجملة : النسبة المعتبرة في القضيّة لا تختلف (4) علما وشكّا إلاّ باعتبار اختلاف شيء معتبر في تلك النسبة.

لا يقال : يحتمل أن يكون هناك شيء معه يحصل اليقين على وجه لا مدخل له في

ص: 190


1- في النسخ : يكون.
2- « ز ، ك » : عليها الناقضية منتجة.
3- « ج ، م » : - أمّا.
4- في النسخ : لا يختلف.

حصوله إلاّ حصوله في حالة.

لأنّا نقول : فبعد ارتفاعه لا يبقى (1) الشكّ كما لا يخفى.

ولو رام إلى أنّ الموضوعات الخارجية - كوجود زيد ووجود الطهارة السابقة - ممّا لا يعقل فيه اختلاف الموضوع بواسطة اختلاف القيود ؛ لعدم اختلاف الوجود الشخصي ، وعدم تقدّره (2) ، لامتناع قبوله له ، بخلاف الأحكام الشرعية فإنّها من مقولة الطلب واختلافه باختلاف القيود والحالات ممّا لا تدانيه (3) ريبة ، فيجوز الاختلاف في الأحكام دون الموضوعات.

فنقول في الذبّ عنه أوّلا : إنّ (4) الأحكام الجزئية الشرعية ممّا يختلف (5) أيضا ؛ لكونها أمورا جعلية قابلة للاختلاف (6) مع أنّه لا مانع من استصحابها عندهم.

وثانيا : إنّ الوجود وإن كان لا يختلف باختلاف القيود وليس من الأمور المتقدّرة إلاّ أنّ له مراتب شتّى مختلفة باعتبار اختلافات الماهيات المختلفة باختلاف الاستعدادات المختلفة باختلاف الأمور المكتنفة بالماهيّات واللواحق العارضة لها والقيود المعتبرة فيها ، فوجود زيد بعد اكتناف حالة غير موجودة بالماهيّة المعروضة له يحتمل اختلافه كالأحكام الطلبية.

والحاصل : أنّ المستفاد من كلام الفاضل المذكور انحصار الشكّ في الموضوعات في الشكّ في الرافع ، وهذا ليس على ما ينبغي ؛ لإمكان الشكّ في الرافعية والشكّ في المقتضي كما عرفت ومع ذلك لا مفرّ من اختلاف موضوع المسألة بحدوث نقيض القيد المعتبر فيه كما لا يخفى.

وأخرى بالحلّ ويتمّ الكلام فيه في مقامين :

ص: 191


1- « ج ، م » : لا ينبغي.
2- « ز ، ك » : تقديره.
3- « ج ، م » : يدانيه.
4- « ج ، م » : - إنّ.
5- « ك » : تختلف.
6- « ز ، ك » : لكونها قابلة الاختلاف.

[ المقام ] الأوّل : في الشكّ في رافعية العارض ، ولا بدّ من تمهيد مقدّمة وهي : أنّه لا ريب في أنّه قد يكون للمعلول بعد وجوده بوجود (1) علّته التامّة شيء يزيله يعبّر عنه بالرافع كالبول للطهارة وكالطلاق للزوجية ، ولا شكّ في أنّ عدم الرافع ليس معتبرا في وجود المعلول كعدم المانع ، بل الرافع لا يتحقّق إلاّ بعد الوجود فكيف يعتبر عدمه فيه؟ فهو إذا علّة لرفع المحمول عن الموضوع وليس معتبرا في الموضوع ، فلو شكّ في أنّ الشيء الفلاني رافع أو لا يشكّ في استمرار الحكم معه من دون احتمال تغيّر (2) الموضوع ؛ إذ باختلاف العلّة واحتمال حدوثه أو نفيه لا يختلف الموضوع.

وإذ قد تقرّر هذه (3) ، فنقول : إذا شكّ المكلّف بعد خروج المذي في أنّه متطهّر أم لا بعد العلم بالطهارة ، فلا بدّ من القول بالاستصحاب ، والموضوع غير مختلف ؛ لما قرّر في التمهيد من أنّ الطهارة السابقة ممّا لا مدخل لعدم الرافع فيه ولا يكون ذلك من (4) قيوده ولواحقه ، والظاهر أنّ هذا المعنى ممّا يسلمه الخصم أيضا وزعم أنّ الشبهة الموضوعية من هذا القبيل ، ولولاه لما صحّ الحكم في الشبهة الموضوعية أيضا.

فإن قلت : إنّ الرافع وإن لم يكن عدمه (5) معتبرا في وجود المعلول في الآن الأوّل إلاّ أنّ عدمه معتبر في البقاء في الآن الثاني ، فيختلف موضوع المسألة باحتمال الرافعية كما في المانع. وتوضيحه : أنّ عدم المانع لمّا كان مأخوذا في وجود الحكم المعلول فعند احتمال حدوثه يختلف الموضوع ؛ لأنّ المعلوم هو الحكم عند عدم ما يحتمل مانعيته ، والحكم بعد هذه الملاحظة ومقيّدا بهذه الجهة يخالف الحكم بدونها ، والرافع عدمه وإن لم يكن معتبرا في أصل الوجود ولكنّه معتبر في البقاء ، فيختلف موضوع الحكم.

قلت : المستصحب هو الوجود لا البقاء ، وإنّما الاستصحاب (6) يؤثّر في البقاء ،

ص: 192


1- « ج ، م » : لوجود.
2- « ج ، م » : لتغيّر.
3- « ج » : هذا.
4- « م » : من ذلك.
5- « ز ، ك » : - عدمه.
6- « ز ، ك » : المستصحب.

فبالاستصحاب يحكم بالبقاء ، والموضوع هو نفس الوجود ، مثلا الطهارة السابقة عند حدوث المذي مستصحبة وبالاستصحاب باقية ، والموضوع هو وجود الطهارة ، ولا مدخل فيه لعدم (1) الرافع ، ويوضحه ملاحظة حال الطلاق بالنسبة إلى النكاح فيما إذا شكّ في وقوعه بلفظ غيره ك- « أنت خليّة » ونحوه ، فإنّ الزوجية السابقة ممّا لا يؤثّر فيها عدم الطلاق وإن كان يؤثر في البقاء ، والاستصحاب بعد عدم تغيّر (2) الموضوع وعدم اختلاف القضيّة المشكوكة والقضيّة المعلومة ، ممّا يقضي (3) بالبقاء ، والبقاء ليس موضوعا كما لا يخفى.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام إلاّ أنّه لا يخلو عن شيء ، فتأمّل.

وأمّا المقام الثاني : فيما إذا كان الشكّ في المقتضي ، والمانع ممّا له مدخل في وجود الحكم المعلول ، فنقول : قد تقرّر في محلّه - كما ستعرف في الخاتمة (4) - وجوب إحراز الموضوع في الاستصحاب ، وهذا الشرط بإجماله ممّا لا خلاف فيه ولا ريب يعتريه وإن كان قد يخالف بعضهم في بعض مقاماته ، فلا يصحّ الاستصحاب إذا تبدّل الموضوع بموضوع آخر ، بل والمحمول أيضا ، أو جزء منهما ، أو قيد منهما ، فلا بدّ أن لا يكون القضيّة المشكوكة مخالفة للقضيّة المتيقّنة سوى ما هو المفروض من اليقين في إحداهما والشكّ في الأخرى ، بل لو احتملنا تبدّل الموضوع أو ما يعتبر فيه من حال أو وصف أو شرط ، لا يحكم بالاستصحاب فيه أيضا ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ (5) المعيار في تميّزه أيّ شيء هو؟ فقد يقال بأنّ التحقيق هو التدقيق في أمره ، فعلى هذا فالأمر كما أفاده الأمين ، وقد يقال بأنّ المعيار في التميّز هو العرف ، فكلّ قضيّة يكون متّحدة مع

ص: 193


1- « ج ، م » : عدم.
2- « ج » : تغيير.
3- « ج » : تقتضي.
4- المراد بها هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع ص 377.
5- « ج ، م » : - أنّ.

القضيّة الأخرى عرفا وإن كان قيد من قيود موضوعه مرفوعا ، فالموضوع باق والقضيّة متّحدة ويجري فيها الاستصحاب ، فمن جملة ما لا يعتني العرف بشأنه في اختلاف الموضوع هو الزمان ؛ لأنّ المفهوم عندهم في القضيّة القائلة بأنّ زيدا كان قائما - مثلا - هو كون الرابطة الزمانية ظرفا لوقوع النسبة فيها لا قيدا للموضوع أو المحمول والمظروف من حيث هو مظروف ومأخوذ (1) بهذه الملاحظة وإن كان يختلف باختلاف الظرف عند النظر الدقيق ، إلاّ أنّ أهل العرف يتسامحون فيه أيضا ويحكمون بالاتّحاد ، فالقضيّة المعلومة ممّا لا مخالفة لها عرفا للمشكوكة منها ، فيكون من مجاري الاستصحاب ، وإن كان الزمان مختلفا فيهما ، وكذا كلّ ما يعبّر عندهم بالحال.

وبالجملة : فنحن لو احتملنا اختلاف الموضوع وتبدّله لا نحكم بجريان الاستصحاب إلاّ أنّ الكلام معهم يرجع (2) إلى الصغرى ، مثلا لو استفدنا جواز تقليد المجتهد العادل الحيّ من دليل شرعي فبعد انتفاء قيد من قيوده كالحياة أو العدالة واحتمال اعتباره في الموضوع لا نحكم بجواز التقليد للاستصحاب على ما هو ظاهر ، بخلاف ما لم نحتمل ذلك وإن انتفى القيد ولو بواسطة الرجوع إلى دليل الحكم على وجه تطمئنّ (3) النفس (4) بأنّ الموضوع هو الذات المجرّدة ، وربّما يختلف التعبير في ذلك كما إذا قال : « الماء المتغيّر كذا » أو قال : « الماء إذا تغيّر حكمه كذا » فإنّ الظاهر من الأوّل هو كون الماء المقيّد بالتغيّر موضوعا للحكم فلو زال القيد لا مجال للاستصحاب فيه ، ومن الثاني كون (5) الماء نفسه موضوعا.

فالحاصل : أنّ دعوى انحصار صور الاستصحاب بتمامها فيما زعمه باطلة يكذّبها الوجدان فضلا عن البرهان ، وسيجيء لذلك زيادة تحقيق (6) في الخاتمة (7) إن شاء اللّه

ص: 194


1- « ج ، م » : مأخوذا.
2- « ز ، ك » : راجع.
3- في النسخ : يطمئن.
4- « ك » : به النفس.
5- « ز ، ك » : بكون ، وفي « م » : يكون.
6- « ز ، ك » : بيان.
7- المراد بها هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع في ص 387 - 388.

العزيز. هذا تمام الكلام في الجواب عن أخبار الاستصحاب بعدم (1) الشمول.

وأمّا الجواب عمّا أفاده الأمين أخيرا بالمعارضة ، بل و (2) حصر المسائل في ثلاثة ، فبأنّ الأخبار المذكورة على ما (3) هو واضح لمن تدبّر سياقها حاكمة على أخبار الاحتياط على تقدير دلالتها على لزوم التوقّف حكومة الأدلّة الاجتهادية الخاصّة على الأصول العملية ؛ لارتفاع موضوعها بالاستصحاب ، إذ بعد وجوب الأخذ بالحالة السابقة ولزوم ترتيب الآثار المتقدّمة على المتيقّن حال الشكّ بواسطة الأخبار الآمرة به ، فلا يبقى شكّ و (4) شبهة في موارد الاستصحاب حتّى يكون موردا للاحتياط ويكون من بيّن الرشد ؛ لأنّ لموضوع الشكّ في الشريعة أحكاما : تارة يجب العمل بالبراءة ، وأخرى بالاحتياط ، وأخرى بالاستصحاب ، ومرّة بالتخيير ، على حسب اختلاف مواردها ، وفيما يكون مجرى الاستصحاب لا يجري فيه غيره من الأصول ، لعدم تحقّق مواردها.

وقد يتمسّك في دفعه بالنقض بالموضوعات ؛ إذ لو لا حكومة الأدلّة الدالّة على الاستصحاب لما جاز العمل به فيها أيضا.

اللّهمّ إلاّ أن يدفع بأنّ العمل بها في تلك الموارد وفاقي فلا يرد نقضا ، ولكنّ الإنصاف أنّها دعوى دون إثباتها خرط القتاد ؛ لظهور العموم فيها بحسب اللفظ ، ومن الغريب أنّ المعصوم عليه السلام إنّما قدّم الاستصحاب على الاحتياط اللازم اتّفاقا ، ومنه يظهر وجه الورود في غير المورد أيضا ، فتدبّر.

ص: 195


1- « ج ، م » : لعدم.
2- « ز ، ك » : - و.
3- « ج » : على ما ستعرف.
4- « ز ، ك » : - شكّ و.

ص: 196

هداية [ في التفصيل بين كون دليل المستصحب الإجماع أو النصّ ]

الدليل الدالّ على الحكم الثابت في الزمن الأوّل : إمّا أن يكون لفظيا أو لا :

فعلى الأوّل : فإمّا أن يكون اللفظ بعمومه وإطلاقه شاملا للزمان الثاني الذي وقع الشكّ في ثبوت الحكم فيه أو لا ، وعلى الأوّل : فلا حاجة إلى استصحاب الحكم ؛ لكفاية اللفظ عنه ، نعم قد يتوقّف صحّة الاستدلال باللفظ على (1) الاستصحاب لكنّه لا مدخل له للحكم المدلول بالدليل اللفظي ، كأصالة عدم التخصيص واستصحاب عدم التقييد (2) ونحوهما ، فإنّ الاستناد بالعامّ في (3) جريان الحكم السابق عند احتمال التخصيص لا يتمّ بدون ذلك ، وقد يصير الحكم في الزمان الثاني مظنون الإرادة من نفس اللفظ مع قطع النظر عن إعمال الأصول المعهودة ، فلا حاجة إليها في الاستدلال أيضا ، ويعبّر عن هذا الاستصحاب في لسان القوم باستصحاب حال الدليل ، والظاهر أنّ تسمية هذا القسم بالاستصحاب إنّما هو باعتبار استصحاب عدم التخصيص ، وإلاّ فلا يخلو عن مسامحة ؛ لانتفاء شروط تعقّل الاستصحاب كما لا يخفى. وعلى الثاني : فإمّا أن يكون اللفظ محتمل الدلالة في الزمان الثاني بحيث لا نعلم (4) المراد منه في حالة الشكّ ، فيحتمل أن يكون مرادا من اللفظ ويحتمل أن لا يكون ، وإمّا أن لا يكون

ص: 197


1- « ز » : إلى ، وسقطت من نسخة « ك ».
2- « ك » : القيد ، وفي « ز » : التقيد.
3- « ز ، ك » : « و » بدل « في ».
4- « ز ، ك » : لا يعلم.

كذلك بحيث نعلم بعدم إرادة الحكم في الزمان الثاني من اللفظ ، ففي هذين القسمين لو أريد إثبات الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى الاستصحاب.

فمحلّ الاستصحاب فيما لو كان الدليل لفظيا في مقامين : أحدهما : ما كان الدليل مجملا كالقسم الثاني ، وثانيهما : ما كان الدليل ساكتا عن حال زمان الشكّ.

وعلى الثاني : فإمّا أن يكون الدليل هو العقل ، وإمّا أن يكون هو الإجماع ، لا كلام في المقام على الأوّل ؛ لما سبق تحقيق الكلام فيه فيما تقدّم ، وأمّا على الثاني فالإجماع على طريقة العامّة لو تحقّق في مورد فحكمه حكم اللفظ فيما لو كان ساكتا إذا لم يكن حال الشكّ أيضا إجماعيا ، إذ هو حينئذ دليل بنفسه فإمّا أن يكون موجودا في الحالين ، أو مختصّ بالزمان الأوّل ، فعلى الأوّل لا وجه للاستصحاب ، وعلى الثاني فهو محلّ الاستصحاب أيضا ؛ لسكوت الإجماع عن الحالة الثانية. وأمّا على طريقة المتقدّمين من أصحابنا فحكمه حكم اللفظ بعينه ، لأنّ المفروض كشفه عن قول المعصوم ولفظه ، وهو مختلف. وأمّا على طريقة الحدس فهو أيضا على قسمين : فتارة : على نحو العموم بمعنى حصول القطع برضاء المعصوم في الحكم الفلاني في الحالتين ، وأخرى : على نحو السكوت ، فعلى الأوّل لا استصحاب ، وعلى الثاني فهو محلّ الاستصحاب.

وقد يكون الدليل على وجه يعلم منه نفي الحكم في الزمان الثاني ، وهذا كما يتصوّر في الأدلّة اللفظية كذلك يتصوّر في الإجماع أيضا على الوجوه المختلفة من الطرق كما هو ظاهر.

وقد يكون الدليل اللفظي مردّدا بين الأقسام المذكورة فحكمه حكم الساكت.

فإذا أقسام اللفظ خمسة فإنّه : إمّا دالّ على الحكم في الزمان الثاني ، أو ناف له ، أو مجمل ، أو ساكت ، أو مردّد ، لا استصحاب (1) على الأوّلين ، ومحلّه على الأواخر. وأقسام

ص: 198


1- « ك » : ولا استصحاب.

الإجماع على طريقة العامّة ثلاثة لأنّه : إمّا دالّ أو ساكت أو ناف ، إذ لا إجمال ولا ترديد فيه كما لا يخفى ، فلا استصحاب على الأوّل والأخير بخلاف الثاني ، وأقسامه على الطريقة كأقسام اللفظ. وعلى (1) طريقة المتأخّرين والحدس فله أقسام ثلاثة ؛ إذ لا إجمال ولا ترديد فيه ، يجري الاستصحاب في قسم منها دون القسمين الأخيرين (2).

فظهر من جميع ما تقدّم توضيحه أنّ مجرّد قابلية الحكم للبقاء في الحالة الثانية يكفي في الاستصحاب ولا مدخل للدليل فيه ، ولا يتفاوت الحال في ذلك ، سواء كان هو الإجماع أو غيره.

وقد ينسب إلى الغزالي التفصيل بين ما إذا كان الإجماع دليل ثبوت المستصحب فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين ما إذا كان الدليل نصّا فيجري فيه الاستصحاب ، واستند في ذلك - على ما هو المشهور منه - إلى منافاة الإجماع للخلاف ، فلا يمكن استصحاب حال الإجماع عند الشكّ بخلاف النصّ لإمكان الخلاف مع النصّ.

وأجاب عنه جملة منهم تارة بالنقض بالنصّ فيما لو كان ساكتا أو مجملا ؛ لعدم دلالته في (3) محلّ الخلاف والشكّ ، وأخرى بالحلّ بأنّ الاستصحاب هو الدليل في الزمان الثاني نظرا إلى الأدلّة المعهودة على اختلاف المشارب لا الإجماع ، فمنافاته للخلاف ممّا لا ضير فيه فيما هو المقصود.

والتحقيق : أنّ العبارة المنقولة من الغزالي ممّا لا دلالة فيها على التفصيل المذكور بوجه وهي هذه على ما حكاها في النهاية على ما في شرح الوافية للسيّد في المتيمّم إذا وجد الماء في الأثناء و (4) في المتطهّر إذا خرج منه (5) شيء من غير السبيلين بعد ما استند الشافعي للمضيّ (6) والبقاء إلى الاستصحاب (7) ، قال : المستصحب إن أقرّ بأنّه لم يقم دليلا

ص: 199


1- « ج ، م » : - على.
2- « ز ، ك » : الآخرين.
3- « ج ، م » : دلالته على في.
4- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : أو.
5- « ج ، م » : - منه.
6- « ج ، م » : إلى المضيّ.
7- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الاستصحابات.

في المسألة ، بل قال : أنا ناف ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ، وإن ظنّ إقامة دليل فقد أخطأ. فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ، وهو إن كان لفظ الشارع فلا بدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها (1) عند عدم الخروج (2) لا عند وجوده ، وإن دلّ بعمومه على دوامها عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسّكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص ، وإن كان بإجماع والإجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود ، ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود كان المخالف له خارقا للإجماع ، كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الشمس خارق للإجماع ؛ لأنّ الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم بعلّة جامعة ، فإمّا أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الجامع فهو محال ، وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، فكذا هنا انعقد الإجماع بشرط العدم ، فانتفى الإجماع عند الوجود.

وهذه دقيقة وهو أنّ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ، والإجماع يضادّه نفس الخلاف ؛ إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل فإنّ الخلاف لا يضادّه ، فإنّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته يتناول محلّ الخلاف ، فإنّ قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صيام على من لم يبت الصيام » (3) شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه ، فيقول : أسلّم شمول الصيغة لكنّي أخصّه بدليل ، فعليه الدليل ، وهنا المخالف لا يسلّم شمول الإجماع محلّ الخلاف ؛ لاستحالة الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل ، فهذه دقيقة يجب التنبّه لها.

ص: 200


1- في هامش المصدر : الضمير راجع إلى الصلاة. « منه رحمه اللّه ».
2- في هامش المصدر : أي خروج الحدث من غير السبيلين.
3- المستدرك 8 : 316 ، وفيه : « لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل » ، وتقدّم في ص 150.

قال : فإن قيل : الإجماع يخرم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف (1)؟ أجاب بأنّ هذا الخلاف غير مخرم بالإجماع وإن لم تكن المخالفة خارقة للإجماع ؛ لأنّ الإجماع إنّما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل. لا يقال : دليل صحّة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع ، لأنّا نقول : ليس ذلك الدليل الإجماع ؛ لأنّه مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند العدم فإن كان نصّا فيه (2) لننظر هل يتناول حال الوجود أم لا؟ لا يقال : لم تنكرون (3) على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو المحتاج - كما إذا ثبت موت (4) زيد أو بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب (5)؟ لأنّا نقول : هذا وهم باطل ، فإنّ كلّ ما ثبت جاز دوامه وعدمه ، فلا بدّ لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ، ولو لا دليل العادة على أنّ الميّت لا يحيى والدار لا تنهدم بعد البناء إلاّ بهادم أو بطول زمان ، لما عرفنا دوامه بمجرّد موته ، كما لو أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ولم تدلّ العادة على دوام هذه الأمور ، فإنّا لا نقضي بدوامها ، فكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ، فيفتقر دوامها إلى دليل آخر (6) ، انتهت (7) عبارته المحكيّة في شرح الوافية.

ومن المعلوم الظاهر عدم دلالتها على التفصيل المذكور ، بل المستفاد منها نفي الاستصحاب رأسا ، كما يستفاد من قوله - في الجواب عن الاعتراض في آخر كلامه - : هذا وهم باطل ، ومنشأ الاشتباه هو وقوع كلامه في ردّ القائل بالاستصحاب فيمن وجد الماء في الأثناء ، وظنّي أنّه لم يكن ملتفتا إلى الاستصحاب بالمعنى المصطلح

ص: 201


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الخلاف.
2- « ج » : فبيّنة ، وفي شرح الوافية : فبيّنه ( ظ ).
3- « ج ، م » : لم ينكرون وفي المصدر : لم ينكروا.
4- « ج » : ثبوت.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لسبب.
6- شرح الوافية ( مخطوط ) 134 / أ - 135 / أ ؛ المستصفى 1 : 224 - 226 مع تصرّف وتلخيص.
7- « ز ، ك » : انتهى.

أصلا ، كما يظهر من حمل كلام المستصحب تارة : على ما هو المعروف من عدم حاجة النافي إلى الدليل ، وأخرى : على دعوى الدوام ، نعم قد (1) استشعر بذلك أخيرا فأورده بقوله : لم ينكرون على من يقول؟ والعجب منهم أنّهم كيف استنبطوا من هذه العبارة هذا التفصيل.

وأمّا الدقيقة التي تخيّلها دقيقة فمن المعلوم عدم مدخليتها في ذلك ، نعم هو تفصيل في الدليل بمعنى أنّ الأدلّة حالها مختلف (2) في إمكان البقاء ، فالإجماع على معتقدهم ينافي الخلاف فلا يمكن بقاؤه في حال الخلاف ، وذلك بخلاف العموم أو دليل العقل ؛ إذ ذلك لا ينافي الخلاف فيتحقّق في مورد الخلاف أيضا. وقد يتوهّم أنّه مفصّل مثل ما فصّل المحقّق نظرا إلى كلامه أوّلا ، وليس على ما ينبغي ؛ لمنافاة سابقه ولاحقه له. وقد يتوهّم أنّه يفصّل بين الإجماع وغيره من الأدلّة في استصحاب حال الدليل وعدّه من المفصّلين من حيث كون استصحاب الدليل من أقسام الاستصحاب ، وليس في محلّه أيضا ؛ لردّ استصحاب حال (3) الدليل بأنّه (4) إنّما يتصوّر في العامّ أو في المطلق دون سائر الألفاظ المجملة أو الساكتة (5) أو المردّدة أو العقل ، وصريح كلامه في بيان الدقيقة هو الفرق بين الألفاظ والعقل وبين الإجماع ولا مدخل له في الاستصحاب أصلا ، على أنّ استصحاب حال الدليل ليس من الاستصحاب حقيقة إلاّ بواسطة الاستصحاب في عدم التخصيص والتقييد كما مرّ فيما تقدّم ، فكيف (6) كان فجريان الاستصحاب في موارده موقوف على احتمال بقاء المستصحب في محلّ الشكّ وإمكانه من غير مدخلية للدليل فيه ، ولا فرق في ذلك (7) بين كون الدليل لفظا أو غيره.

ص: 202


1- « ز » : - قد.
2- « ز ، ك » : مختلفة.
3- « ج » : - حال.
4- « ج ، ك ، م » : - بأنّه.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الشاكّة.
6- « ج ، م » : وكيف.
7- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - في ذلك.

هداية [ في جواب المحقّق القمّي عن استصحاب الكتابي وردّه ]

قد تحقّق في الهدايات (1) السابقة جريان الاستصحاب فيما كان (2) المستصحب محتملا للبقاء وقابلا له ، ولا فرق في ذلك بين كون المستصحب أمرا شخصيا معيّنا شكّ في بقائه في الزمان المتأخّر ، كما إذا شكّ في وجود زيد المعلوم وجوده سابقا ، ثمّ شكّ في بقائه في الحالة المتأخّرة ، وبين أن يكون أمرا مردّدا بين شيئين يعلم بانتفائه في زمان الشكّ على تقدير ، ويقطع بوجوده وبقائه على تقدير آخر ، كما إذا علمنا بوجود حيوان في الدار مردّد بين كونه فرسا أو غيره ممّا يعيش في عام ، و (3) بين كونه ممّا لا يعيش في عام كأنواع الحيوانات المخلوقة في الأرض من فئران وديدان ونحو ذلك ؛ لاحتمال بقاء الموجود المجمل وعموم أخبار الباب.

لا يقال : إنّ احتمال البقاء يكفي في جريان الاستصحاب فيما لو كان الشيء الواحد محتملا للبقاء ، وليس كذلك في المقام فإنّ كلّ واحد من الأمرين المردّدين لا احتمال فيهما ؛ للعلم بالوجود على تقدير ، وبالعدم على تقدير آخر.

لأنّا نقول : المستصحب - وهو الوجود المجمل (4) - شيء واحد ومحتمل للبقاء ، غاية ما في الباب أنّ الاحتمال إنّما نشأ من الترديد بين الشيئين ، فالترديد في المقام إنّما هو

ص: 203


1- « م ، ج » : الهداية.
2- « ج » : لو كان.
3- « ج ، م » : أو.
4- « ز ، ك » : المحتمل.

محقّق للاحتمال لا أنّه ينافيه كما هو ظاهر. ويترتّب على هذا فروع كثيرة ، كما إذا علم بنجاسة مردّدة بين كونها ممّا ترتفع عن محلّها بغسلة أو لا ترتفع إلاّ بغسلات ، فالنجاسة مستصحبة على المختار ، وخالف في ذلك المحقّق القمي فقال : إنّ الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار صلوحه للامتداد ، فإن كان الموضوع جزئيا معيّنا ثبت بالاستصحاب بقاؤه إلى أقصى مدّة يمكن بقاؤه فيها ، وإن كان كلّيا كما لو علمنا بوجود حيوان في موضع وتردّدنا بين كونه من نوع ما يعيش قليلا كالذباب والنمل أو كثيرا كالإنسان والفرس ، فلا يثبت بالاستصحاب إلاّ بقاؤه في أقصى مدّة ما (1) هو أقلّ الأنواع بقاؤه.

ثمّ بنى (2) على ذلك في الردّ على استصحاب أهل الكتاب كاليهود والنصارى وغيرهم (3) لنبوّة موسى أو عيسى أو غيرهما على نبيّنا وعليهم الصلاة والسلام فذكر ما حكى له بعض سادات الأفاضل من مخاصمة جرت بينه وبين بعض علماء اليهود حيث تمسّك اليهودي باستصحاب نبوّة موسى في إثبات دينه ، فأجابه السيّد بما أجاب الإمام عليه السلام لجاثليق (4) في مجلس المأمون عليه ما عليه من أنّا (5) مقرّ بنبوّة موسى الذي بشّر أمّته بنبوّة (6) محمّد صلى اللّه عليه وآله وكافر بموسى لم يخبر بذلك ، فاعترضه اليهودي بأنّ موسى بن عمران الذي حاله معروف وشخصه معهود وأتى بالمعجزات النيّرات (7) وأنتم تعترفون بنبوّته (8) يستصحب دينه ، فعلى المسلمين إبطاله ، ولا يتفاوت في ذلك بين أن يقول بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وأن لا يقول.

فقال المحقّق المذكور - في إبطال الاستصحاب - : إنّ موضوع الاستصحاب لا بدّ أن

ص: 204


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - ما.
2- « ز ، ك » : وبنى.
3- « م » : غيرها.
4- « ز ، ك » : بجاثليق.
5- « ج ، م » : عليه آلاف اللعون بأنّا.
6- « ز ، ك » : بشّر بأمّته نبوّة.
7- « ز ، ك » : المنيرات.
8- « ز ، ك » : نبوّته.

يكون متعيّنا (1) حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلاّ النبوّة في الجملة ، وهي كلّي من حيث إنّها قابلة لأن تكون نبوّة (2) إلى آخر الأبد بأن يقول اللّه : أنت نبيّ وصاحب دين إلى يوم القيامة ، أو إلى زمان (3) محمّد صلى اللّه عليه وآله ، بأن يقول : أنت نبيّ ودينك باق إلى زمان (4) محمّد صلى اللّه عليه وآله ، ولأن يقول : أنت نبيّ بدون أحد القيدين ، فعلى الخصم أن يثبت إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد وأنّى له بإثباته ، أو الإطلاق ، ولا سبيل إلى الأوّل مع أنّه خارج عن محلّ الفرض ، ولا إلى الثاني ؛ لأنّ الإطلاق في معنى القيد ، فلا بدّ من إثباته ، ومن الواضح أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو الثاني دون الأوّل ؛ إذ الكلّي لا يمكن استصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقلّ أفراده (5).

وأنت خبير بفساد المبنى والبناء كليهما. أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ عموم أخبار الباب دليل على الاستصحاب في الكلّي أيضا بعد إمكان البقاء واحتماله كما قرّرنا.

فإن قلت : لو كان الاستصحاب مبنيّا على الأخبار فالأمر (6) كما ذكرت ، وأمّا لو كان مبنيّا على الظنّ فهو كما ذكره المحقّق ؛ ضرورة عدم حصول الظنّ من الاستصحاب إلاّ فيما كان مقدار استعداد البقاء معلوما ، وحيث إنّ مقدار الاستعداد في الأحكام الشرعية لا يصير معلوما إلاّ بعد المراجعة إلى الدليل الدالّ عليه ، فلهذا أحال إلى ملاحظة الدليل الدالّ على النبوّة وقال بالتفصيل المذكور ، ومن المعلوم أنّ التمسّك بالاستصحاب في قبال المسلمين في إثبات الدين ليس مبنيّا على الأخبار وإنّما هو من حيث إفادته الظنّ.

قلت : لا يتفاوت الحال فيما ذكرناه بين أن يكون الاستصحاب من باب الظنّ ، أو

ص: 205


1- في المصدر : معيّنا.
2- في المصدر : هو كلّي قابل للنبوّة.
3- « ج ، ز » : زمن.
4- « ز ، ك » : زمن.
5- القوانين 2 : 69 - 70 ، مع تصرّف وتلخيص.
6- « م » : فأمره.

من باب التعبّد. أمّا الثاني فكما عرفت واعترفت (1) ، وأمّا الأوّل فلأنّ مناط الظنّ لو كان هي الحالة السابقة فهي (2) موجودة في المقامين ، وإن كان هي الغلبة فالنوعية منها غير مفيدة ، والصنفية غير موجودة ، وإن كان لتوهّم أنّ مجرّد الاستعداد يكفي في حصول الظنّ ، ففيه : أنّ الظنّ بوجود المعلول لا يحصل إلاّ بعد حصول الظنّ بوجود أجزاء (3) علّته التامّة ، فإذا كان المانع مشكوكا لا بدّ من تحصيل الظنّ بعدمه حتّى يصير المعلول مظنونا ، وإذا كان المقتضي واستعداد المعلول مشكوكا فلا بدّ من تبديل الشكّ ظنّا ، وإلاّ فلا يمكن أن يكون المعلول مظنونا ، ففيما لو قلنا بالاستصحاب من جهة الظنّ أيضا لا يتفاوت الحال فيما ذكر ، ولهذا ترى أنّ القائل به لم يفصّل بين الشكّ في المقتضي والمانع ، فإنّ معيار الظنّ هو الظنّ ببقاء العلّة في الزمن الثاني ، نعم على القول بالظنّ يجب إحراز هذه الجهة أيضا كما لا يخفى ، على أنّ التمسّك بالاستصحاب لا ينحصر في إفادته الظنّ في المقام ؛ لإمكان الاستصحاب بناء على التعبّد العقلائي كما مرّ (4) الإشارة إليه فيما تقدّم (5).

وأمّا الثاني فلأنّ انقسام النبوّة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة إن كان بالنظر إلى المعنى ونفس الأمر مع قطع النظر عن اللفظ وما يعبّر به عن المقصود من العبارات وغيرها ، فممّا لا محصّل له عند التحقيق ؛ إذ الإطلاق ليس وسطا واقعيا ، فالموجود في نفس الأمر القائم بذات الجاعل هو أحد القسمين ؛ لامتناع الجهل بالمراد والمجعول من الجاعل في مقام الجعل كما هو ظاهر ، وإن كان بالنسبة إلى اللفظ والتعبير فمع الإطلاق لا يجري (6) الاستصحاب.

وتوضيح المقام هو أن يقال : إنّ للماهيّة عند العقل وجوها ومراتب : فتارة : يلاحظ

ص: 206


1- « ز ، ك » : أو اعترفت.
2- « م » : فهو.
3- « ز ، ك » : إحراز.
4- مرّ في ص 56.
5- « ز ، ك » : - فيما تقدّم.
6- « ز ، ك » : لا يحرز.

من حيث اعتبار شيء معها وجودا وعدما وعدم ملاحظة شيء معها ، وبهذا الاعتبار ينقسم إلى أقسامها الثلاثة من الماهيّة المطلقة - أي المعرّاة عن القيد - وتمايز المقسم بالالتفات إلى هذه التعرية في القسم وعدم الالتفات إليها في المقسم وإن كان هو كذلك في نفس الأمر ، والماهيّة بشرط شيء ، والماهيّة بشرط لا.

وأخرى : يلاحظ من حيث تحقّقها في الخارج فيمتنع انفكاكها عن أحد القيود الوجودية ؛ إذ لا وجود للعامّ من حيث هو عامّ مع قطع النظر عن أحد الأفراد كما في الطلب - مثلا - فإنّ الأمر القائم بنفس الطالب الذي هو موجود خارجي لا محالة يكون على أحد الوجهين : إمّا الوجوب ، أو الندب.

وأخرى : يلاحظ من حيث التعبير ، فتارة : يعبّر عنها بلفظ يقصر (1) عن إفادة شيء زائد على الطبيعة المطلقة ، بل هو مقصور على إفادتها فقط ، ومرّة : يعبّر عنها بعبارة وافية لأحد القيود الوجودية أيضا ، كما إذا قال : جئني بزيد - مثلا - على الأخير أو برجل أو بإنسان (2) على الأوّل.

ولا شكّ في أنّ (3) التقسيم المذكور للنبوّة ليس بالاعتبار الأوّل حتّى يتصوّر فيه أن يكون الإطلاق وسطا بين القسمين الآخرين (4) ؛ إذ اختلاف الأقسام في المقام باعتبار اختلاف القيود الوجودية كما هو ظاهر ، فلا بدّ أن يكون إمّا على الوجه الثاني ، وإمّا على الوجه الثالث ، وعلى التقديرين لا وجه له ، أمّا على الأوّل فلما عرفت من أنّ الإطلاق ليس وسطا واقعيا في مرحلة التحقّق (5) والوجود ؛ إذ الجنس ما لم (6) يتخصّص بفصل يمتنع وجوده ، وأمّا على الأخير فلأنّ بعد فرض إطلاق العبارة لا مجرى للاستصحاب ؛ لحكومة الإطلاق عند الشكّ ، فإنّه دليل اجتهادي به يرتفع الشكّ ، فلا

ص: 207


1- « ج ، م » : يقتصر.
2- « ج ، م » : إنسان.
3- « ز ، ك » : الأوّل لا شكّ أنّ.
4- « ز ، ك » : الأخيرين.
5- « ج ، ك » : التحقيق.
6- « ز ، ك » : - لم.

يتصوّر الاستصحاب إلاّ بعد فرض انتفائه ، والمفروض أن لا مسوّغ للاستصحاب عنده إلاّ الإطلاق وهو ينافي الشكّ كما لا يخفى.

فقوله : « من الواضح أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة » معناه أنّ الأمر الدائر بين الأقسام من الماهيّة المطلقة التي تتحصّل (1) بأحد القيود غير النبوّة التي تعبّر عنها بعبارة مطلقة ، وقد عرفت أنّ التعبير ممّا لا أثر له في الواقع ، فإنّ النبوّة المجعولة المعبّرة بالإطلاق أيضا مردّدة بين أحد القيدين في الواقع ، نعم قد يستكشف من الإطلاق الدوام الذي هو أحد القيدين.

ومن هنا يظهر أيضا أنّ قوله : « إذ الإطلاق في معنى القيد (2) فلا بدّ من إثباته » ممّا لا محصّل له ، سواء أخذ الإطلاق في التعبير أو في الملاحظة ؛ إذ الإطلاق هو عدم ملاحظة القيد واعتباره في المطلق ، فلا يكون في معنى القيد ، ولا حاجة إلى إثباته بدليل غير الأصل ، واستفادة الدوام الذي هو القيد معنى إنّما بواسطة عدم ذكر القيد لفظا كما لا يخفى ، على أنّ منع الاستصحاب في النبوّات (3) باعتبار تردّدها بين الأفراد المختلفة استعدادا يلازمه القول بمنعه في الأحكام الشرعية ، فوجوب الصلاة واقعا مردّد بين الأفراد المختلف (4) استعدادها ، ولا يمكن استصحابه إلاّ في أقصى مدّة يحتمل بقاء أقلّ أفراده استعدادا مع أنّه لا مانع منه عنده ، وقد تفطّن بذلك أيضا حيث قال : ثمّ إنّك بعد ما بيّنا لك سابقا لا أظنّك رادّا علينا الاستصحاب (5) في الحكم الشرعي بما ذكرنا في هذا المقام بأن تقول : إنّ الأحكام (6) الواردة في الشرع إنّما يسلّم جريان

ص: 208


1- في النسخ : يتحصّل.
2- « م » : التقييد.
3- « ز ، ك » : « النبوّة إمّا ».
4- « ج » : المختلفة.
5- في المصدر : أمر الاستصحاب.
6- في المصدر : بأن تقول : يمكن أن يردّ الاستصحاب فيها بمثل ذلك ، ويقال : إنّ الأحكام.

الاستصحاب فيها إن ثبت كونها مطلقات (1) لم تكن (2) مقيّدة (3) إلى وقت خاصّ واختفى علينا أو ممتدّة إلى آخر الأبد ، والذي يجوز إجراء الاستصحاب فيه هو الأوّل ، وذلك لأنّ التتبّع والاستقراء يحكمان (4) بأنّ غالب الأحكام الشرعية في غير ما يثبت (5) له حدّ ليست بآنية ، ولا محدودة إلى حدّ معيّن ، وأنّ الشارع يكتفي (6) فيما ورد عنه مطلقا في استمراره ، ويظهر من الخارج أنّه أراد منه الاستمرار ، وأنّ تتبّع أكثر الموارد واستقراءها يحصّل الظنّ القويّ بأنّ مراده من تلك المطلقات هو (7) الاستمرار إلى أن ثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي (8) ، انتهى.

ومحصّل ما ذكره في الجواب هو دعوى مظنونية الاستمرار باعتبار الغلبة في الأحكام الشرعية.

وفيه أوّلا : أنّ الأحكام المحدودة إذا شكّ في انقضاء حدّها - كما في خيار الحيوان ونحو ذلك - يجري فيه الاستصحاب مع أنّ اللازم ممّا ذكره عدم جريان الاستصحاب إلاّ في المطلقات.

وثانيا : أنّه يظهر من كلامه عدم الاعتبار بالإطلاق في استفادة الدوام منه ، وإنّما يستفاد ذلك منه بواسطة الغلبة ، وفساده غير خفيّ على أحد ، بل هو أيضا معترف بهذا في غير المقام ، فإنّ التحقيق استفادة الدوام منه ولو كان المصداق الموجود منه واحدا نظير إفادة العامّ ذلك إلاّ أنّه ليس بهذه المثابة من الإفادة على ما هو ظاهر.

وثالثا : أنّ بعد فرض الإطلاق فلا مجرى للاستصحاب ؛ إذ هو دليل اجتهادي ، ولو لم تكن (9) الغلبة معتبرة فيه وبإطلاقه شامل لمورد الشكّ فكيف بما إذا كان الغالب في

ص: 209


1- « ز ، ك » : مطلقا.
2- في النسخ : لم يكن ، وفي المصدر : ولم تكن.
3- « ج » : مقيّدا.
4- « ز ، ك » : إنّما يحكمان.
5- في المصدر : ما ثبت في الشرع.
6- في المصدر : يكتفي فيها.
7- في المصدر : هي.
8- القوانين 2 : 73 وفي ط : ص 275 - 276.
9- « ج ، م » : يكن.

المطلقات على ما هو المدّعى منه مفيدا للدوام؟

لا يقال : إنّما هو يستصحب عدم الرافع وهو مشكوك حال وجود الإطلاق أيضا.

لأنّا نقول : إنّ من الواضح المعلوم عدم اقتصاره في موارد الاستصحاب على استصحاب عدم الرافع ، بل الحكم الشرعي المدلول لنفس الدليل أيضا يقول (1) بجريان الاستصحاب فيه على ما هو غير خفيّ.

ثمّ إنّه أورد اعتراضا آخر على نفسه وهو دعوى الاستمرار في النبوّات أيضا باعتبار الغلبة كالأحكام الشرعية ، ففيما إذا شكّ في نبوّة نبيّ دلّ الدليل المطلق على نبوّته يحمل على الاستمرار إلحاقا بالأعمّ الأغلب كما في الأحكام.

فأجاب عنه بأنّ الغالب في النبوّات هو التحديد ، بل إنّما الذي ثبت علينا ونسلّمه من الامتداد القابل لأن نمتدّه إلى آخر (2) الأبد فهو نبوّة نبيّنا (3) ، مع أنّه لا يحتاج (4) في إثباته إلى التمسّك بالاستصحاب حتّى يتمسّك الخصم بأنّ (5) نبوّته أيضا مردّدة (6) بين الأمور الثلاثة ، بل نحن متمسّكون بما نقطع به من النصوص والإجماع ، قال : نعم لو كان تمسّكنا بالاستصحاب في المدّة (7) لاستظهر علينا الخصم بما نبّهناه (8) عليه (9) ، انتهى.

فإن أراد بدعوى الغلبة هذه مجرّد أنّ الغالب فيها التحديد في قبال من ادّعى الغلبة فيها على الدوام من غير أن تكون تلك الغلبة مفيدة في إلحاق المشكوك بالأغلب الأعمّ ، فهو في محلّه ، إلاّ أنّ (10) من الواضح أنّ دعوى الغلبة إنّما هو لإلحاق المشكوك. وإن أراد بها الإلحاق والاستنتاج (11) كما هو الظاهر من دعوى الغلبة في مواردها ، ففيه

ص: 210


1- « ج ، م » : نقول.
2- في المصدر : - آخر.
3- « ك » والمصدر : نبيّنا صلى اللّه عليه وآله.
4- في المصدر : أنّا لا نحتاج.
5- « ز ، ك ، ج » : أنّ.
6- « ز ، ك » : مردّدة أيضا.
7- في المصدر : في الدوام.
8- « ز ، ك » : بما نبّهنا.
9- القوانين 2 : 73 وفي ط : ص 276.
10- « م » : أنّه.
11- « ج » : الاستباح ، وفي « م » : الاستناج.

أنّ الغلبة في أمثال الموارد ممّا لا فائدة فيها ؛ لأنّ الفرد المشكوك لا يصير مظنونا بملاحظة الغلبة ؛ إذ الجهة المشكوكة تخالف الجهة التي هي مورد الغلبة.

وتوضيحه : أنّ المستصحب للنبوّة وهو اليهودي مقصوده إثبات الدوام على ما فرضه المحقّق المذكور ، فادّعى غلبة الاستمرار في الاعتراض ، فيلحق (1) نبوّة موسى بغيرها ، فيجري فيها الاستصحاب كما في الأحكام الشرعية ، فأجابه (2) المحقّق بأنّ الغلبة في النبوّات على التحديد عكس الأحكام ، فنبوّة موسى ملحقة بها ، فليس مجرى الاستصحاب.

ونحن نقول : إنّ غلبة التحديد لا تثمر في إلحاق المشكوك وهي نبوّة موسى ؛ إذ المعلوم والمسلّم عند المحقّق المذكور هو وجود فرد مستمرّ خاتم للنبوّات ، واليهود (3) إنّما يدّعي بأنّ النبوّة المستمرّة إنّما هي قائمة بموسى عليه السلام ، فإنّه الخاتم ، فالشكّ إنّما هو في أنّ موسى هل هو آخر الأنبياء وخاتمهم ، أو هو ما قبل الآخر؟ وهذه الجهة ليست (4) موردا للغلبة حتّى يقال بالإلحاق ، وذلك نظير ما لو علمنا بوجود رومي في أشخاص زنجية وفرضنا خروجهم من الدار - مثلا - بعد العلم بأنّ الرومي هو آخرهم ، فلو شككنا في فرد أنّه هل هو الآخر حتّى يكون هو الرومي ، أو هو ما قبل الآخر حتّى يكون هو الزنجي؟ فلا وجه في تشخيص (5) الخارج بالغلبة كما لا يخفى ؛ إذ لا غلبة في هذه الجهة.

ثمّ إنّه اعترض على نفسه أيضا بما ملخّصه : أنّ الأحكام الواردة في شريعة موسى قد تكون (6) مطلقات (7) مثل الأحكام الواردة في شريعتنا ، فيمكن استصحابها.

ص: 211


1- « م » : فلحق.
2- « ز ، ك » : وأجابه.
3- « ك » : اليهودي.
4- « م » : ليس.
5- « ك » : لتشخيص.
6- في النسخ : يكون.
7- « ز ، ك » : مطلقا.

فأجاب بأنّ إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة عيسى أو موسى برسول يأتي من بعده (1) اسمه أحمد صلى اللّه عليه وآله لا ينفعهم ؛ لاستلزامه قبول (2) رسالته صلى اللّه عليه وآله ، وبعد قبوله فلا معنى لاستصحاب أحكامهم (3).

وفيه : أنّ اليهود إنّما هو في مقام الإلزام (4) للمسلمين يقول باستصحاب الأحكام المطلقة ، وهو لا يسلّم البشارة على ما هو ظاهر ، فتأمّل.

فالأولى في مقام الجواب عن التمسّك بالاستصحاب وجوه :

الأوّل : ما أشار إليه المحقّق المذكور أيضا من أنّ التمسّك بالاستصحاب في أمثال المقام ممّا هو من الأصول الدينية ممّا لا يجدي شيئا ؛ إذ المقصود من المطالب الاعتقادية هو نفس الاعتقاد ، ومن المعلوم عدم حصول الاعتقاد بالاستصحاب لو أريد به تحصيل الاعتقاد من إجراء الاستصحاب ؛ إذ غاية ما تكلّفه القائل به هو إفادته الظنّ ، وعدم اعتباره أيضا في المطالب الاعتقادية ممّا لا يدانيه ريبة ، ولو أريد به استصحاب نفس الاعتقاد الموجود في الزمن الأوّل ، ففساده أجلى من أن يخفى ؛ ضرورة انتفاضه وتبدّله شكّا.

فإن قلت : لو كانت النبوّة محدودة وشكّ في حصول الحدّ فلا بدّ من استصحابها ، وإلاّ لاختلّ على الأمم السابقة أمور دينهم ، بل ودنياهم أيضا.

قلت : لا يعقل استصحاب الاعتقاد بنبوّته (5) وإنّما يستصحبون أحكام تلك الشريعة.

فإن قلت : لا معنى لاستصحاب الأحكام بعد عدم العلم بالموضوع الذي يترتّب عليه الأحكام.

قلت : استصحاب الموضوع يكفي في ترتّب الأحكام وإن لم يكن كافيا في نفس

ص: 212


1- « م » : من بعد.
2- في المصدر : وجوب قبول.
3- القوانين 2 : 74 وفي ط : ص 276.
4- « ز ، ك » : الالتزام.
5- « م » : نبوّته.

الاعتقاد كما هو غير خفيّ على المتأمّل.

الثاني : أنّ المستصحب للنبوّة إن أراد باستصحابها جعل المسلمين مدّعين لأمر هو ينفيه وزعم عدم افتقار النافي في نفيه إلى دليل ، ففيه : أنّ من المقرّر في محلّه عدم الفرق بين النافي والمثبت في الاحتياج إلى الدليل ، فإنّ القضيّة الموجبة كما تحتاج (1) في إثباتها إلى قياس مفيد لتحقّق النسبة التي اشتملت القضيّة عليها ، فكذلك القضيّة السالبة محتاجة إليه ؛ إذ لا فرق في العقول بينهما.

نعم ، قد يكون عدم الدليل دليلا واقعيا على العدم ، فلا حاجة إلى الاستدلال في النفي ، كما إذا كان وجود الشيء ملازما للعلم به فيكون من القضايا التي قياساتها معها (2) ، وهي كما توجّه في السلبيات كذلك توجّه في الإيجابيات كما لا يخفى.

نعم ، المانع الذي يدّعي عدم العلم بشيء لا يطالب بدليل حيث أن لا سبيل إليه إلاّ قوله بذلك ، ولهذا ترى فيما كان إلى إثبات العلم له سبيل لا يصغى إليه ، فإخباره (3) حقيقة هو الدليل على عدم العلم كما لا يخفى.

وإن أراد المستصحب استصحاب الرسالة الثانية بإقرارنا والمنع من رسالة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله (4) فلا يحتاج في المنع إلى الدليل ويكفيه في الاستصحاب إقرار الخصم بثبوت (5) المستصحب في الحالة السابقة. ففيه : أنّ إقرار الخصم بثبوت (6) النبوّة السابقة وعلمه بالمستصحب إن كان بواسطة الدليل الدالّ على نبوّة موسى أو عيسى (7) غير ما أخبر به محمّد صلى اللّه عليه وآله وأوصياؤه الأطهار من تواتر واقعي أو إجماع من سائر الملل ، فعلى الخصم أن يقرّره فهو المستدلّ حينئذ ، وإن كان بواسطة أخبار محمّد صلى اللّه عليه وآله ودلالة القرآن عليه كما هو كذلك الآن في حقّنا ؛ إذ لا شبهة في أنّ علمنا بنبوّة موسى أو عيسى فعلا مستند

ص: 213


1- في النسخ : يحتاج.
2- « م » : معها قياساتها.
3- « ز ، ك » : فاختباره.
4- « ج ، م » : - صلى اللّه عليه وآله.
5- « ز » : ثبوت.
6- « ز ، ك » : ثبوت.
7- « ز ، ك » : + أو غيرهما.

إلى أخبار المعصومين عليهم السلام بذلك ، ففرض العلم بالحالة السابقة يلازم القطع بارتفاعها وانتفائها ، فلا استصحاب ؛ لارتفاع أحد أركانه وهو الشكّ اللاحق ، فإنّ العلم بنبوّة موسى أو عيسى لا يحصل من القرآن وأخبار محمّد صلى اللّه عليه وآله إلاّ بعد العلم بصحّة القرآن ونبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله ، والعلم بصحّة القرآن هو عين العلم بارتفاع نبوّة غير محمّد صلى اللّه عليه وآله كما هو ظاهر ، نعم يصحّ التمسّك بالاستصحاب فيما لو فرضنا حصول العلم من دليل آخر كالتواتر ، مثلا لو أسلم يهودي يصحّ له التمسّك بالاستصحاب على ما هو ظاهر.

فإن قلت : إنّ حصول العلم بنبوّة عيسى من قول محمّد صلى اللّه عليه وآله لا يتفرّع على نبوّته ، بل هو موقوف على صدقه ولو في هذه القضيّة ، فيحتمل إثبات نبوّة عيسى وإن لم يستلزم صدق نبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله.

قلت : لا سبيل لنا (1) إلى صدق محمّد صلى اللّه عليه وآله في هذه القضيّة إلاّ بعلم بنبوّته (2) كما هو ظاهر ، والأخذ بإقراره على تقدير كذبه - العياذ باللّه - بعد كونه جدلا وخارجا عن طريق البرهان لا يفيد لنا العلم بثبوت نبوّة عيسى في الحال كما لا يخفى. اللّهمّ إلاّ أن يدّعى العلم بصدقه في هذه القضيّة نظرا إلى ظهور برهان نبوّة عيسى أو موسى وسطوع آثارها في زمنه على وجه لا يقبل الإنكار ، ومع ذلك فالمانع مستظهر ؛ لانقطاع عدد تواترهم بقتلهم بخت نصر (3) فتدبّر.

الثالث : أنّ معنى استصحاب نبوّة نبيّ هو وجوب التديّن بدينه لا الصفة الثابتة له في نفس الأمر ؛ إذ لا يعتبر فيها في الحالة السابقة و (4) اللاحقة ، إذ لا ينعزل (5) عن منصب النبوّة ، ولا يصير ذلك مشكوكا حتّى يستصحب ، فالمراد من استصحاب النبوّة هو وجوب اتّباعه في دينه والاعتقاد بصحّة ما جاء به من اللّه تعالى شأنه ، ولا ريب أنّ

ص: 214


1- « م » : له.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : نبوّته.
3- « ز ، ك » : البخت النصر.
4- « ز ، ك » : أو.
5- « ز ، ك » : إذ يعزل.

الدين هو أمر وحداني وإن كان مركّبا عن أشياء مختلفة ، ومتى شكّ في جزء منه فالشكّ إنّما هو في أصل الدين وليس من الأمور التي يمكن أن يؤخذ منه أمر مشترك (1) كالصلاة بناء على الصحيح.

فعلى هذا نقول : إنّ من جملة الأمور المقرّرة في شريعة موسى أو عيسى على وجه يختلف تلك الشريعة بالاختلاف فيها الإقرار بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله ، فالخصم إن أراد إثبات المستصحب في الحالة السابقة بتسليمنا وإقرارنا فنحن مقرّون بشريعة هي عبارة عن أحكام منها : بشارتهم على نبيّنا ، فلا شكّ في الزمن المتأخّر ، فلا استصحاب. وإن أراد استصحاب شريعة ليس منها البشارة المزبورة فلا علم لنا بتلك الشريعة أوّلا ، فلا استصحاب ؛ لانتفاء أحد أركانه وهو اليقين السابق ، والعلم بأنّ شريعة عيسى أو موسى - مثلا - (2) إنّما هي مغيّاة إلى زمن محمّد صلى اللّه عليه وآله إنّما هو من ضروريات مذهبهم حتّى أنّه لم يسعهم إنكار ذلك ، كما يظهر من التزام الجاثليق بعد ما أجابه أبو الحسن الرضا عليه وعلى آبائه وأبنائه آلاف التحيّة والثناء (3) بما عرفت ، ولعلّه (4) منزل على هذا الجواب وإنّما استعار عليه السلام عن دين موسى و (5) عيسى بهما نظرا إلى ما نبّهنا عليه من أنّ المراد باستصحاب النبوّة وإبقائها (6) هو استصحاب الشريعة كما لا يخفى.

ويظهر ما ذكرنا من أنّ المعلوم في تلك الشرائع هو ما قرّرنا من البشارة من الكتب السماوية والآيات القرآنية كقوله تعالى : ( إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (7). فإنّ المستفاد منها انحصار (8) رسالته في التصديق بكتب اللّه والبشارة برسول

ص: 215


1- « ج ، م » : أمرا مشتركا.
2- « ج ، م » : عيسى مثلا أو موسى.
3- « ز ، ك » : عليه السلام.
4- « ز » : لعلّ.
5- « ج ، م » : أو.
6- « ج » : بقائها.
7- الصفّ : 6.
8- « ز ، ك » : هو انحصار.

اللّه (1). وقيل : إنّ عمر ذات يوم كان ينظر إلى التوراة ، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « ألم آت بها بيضاء نقيّة ، واللّه لو كان موسى وعيسى لم يسعهما إلاّ اتّباعي » (2).

وبالجملة : فمن المعلوم جدّا أنّ من الأمور الواضحة المقرّرة في سائر الملل والشرائع هو البشارة على بعثة النبيّ الأمّي ونحن عالمون بذلك ، فالمستصحب إن أراد إثبات دين مستصحب بإقرارنا فنحن نقرّ بهذا الدين ، ولا شكّ في ارتفاعه ، وإن أراد إثبات دين آخر فعليه بإثباته ، ولا علم لنا به سابقا أبدا.

وقد يقرّر ما ذكرنا بوجه آخر وهو أنّا نعلم بأنّ شريعة عيسى مغيّاة بمجيء محمّد صلى اللّه عليه وآله ، وبعد حصول الغاية لا حاجة إلى استصحاب الحكم ؛ لأنّه معلوم بعد الغاية كقبلها ، بل العمل بما بعد الغاية محقّق للعمل بالحكم المغيّى لا أنّه مناف لها ، فنحن في الحال متديّنون بدين عيسى ولا ضير فيه كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ شريعة عيسى مشتملة على أحكام كثيرة منها : البشارة على ما ادّعيت ، فالقدر المسلّم بيننا وبينكم مستصحب ، وعليك بإثبات البشارة.

قلت (3) : قد عرفت (4) أنّ الدين أمر وحداني لا يقبل التبعيض ، بل الاختلاف في جزئه يوجب الاختلاف في نفس الدين ، ألا ترى أنّ شريعتنا على صادعها آلاف التحيّة (5) تختلف فيما لو خالف أحد في بعض أصولها (6) كالتوحيد أو (7) المعاد أو نحوهما.

لا يقال : لا سبيل إلى إنكار رسالة عيسى في الجملة ، فالقدر المشترك بين الكلّ مستصحب.

لأنّا نقول : إن أراد بالرسالة الصفة الواقعية الثابتة لنفس النبيّ والرسول في نفس

ص: 216


1- « ز ، ك » : برسوله.
2- انظر بحار الأنوار 2 : 99 و 30 : 178 و 76 : 347.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : « فكذلك ».
4- عرفت في الصفحة السابقة.
5- « ز ، ك » : - على صادعها آلاف التحيّة.
6- « ز ، ك » : أصولنا.
7- « ز ، ك » : و.

الأمر فهي معلومة في الحال لا يطرأ إليها ريب ، وإن أراد الشريعة المعلومة إجمالا ففيه أنّه ليس من الدين أصلا بعد ما عرفت.

فإن قلت : لو سلّمنا أنّ البشارة على محمّد صلى اللّه عليه وآله كانت من دين عيسى على الوجه المفروض وتنزّلنا في قبول التحديد ، فلا نسلّم وجود المبشّر عليه وحصول الحدّ ، فلا ضير في الاستصحاب.

قلت : إنّا ندّعي تطابق الأمارات والبشارات الحاصلة في سائر الأمم للنبيّ الأمّي العربي التهامي الذي يقوّي دينه بسيف وصيّه ، فمن ضروريات تمام الملل والشرائع هو كون هذا الجزئي المخصوص المدلول عليه بالأمارات الواضحة المعلومة عندهم نبيّنا كما هو ظاهر لمن تدبّر وتدرّب في الكتب الإلهية والسفر السماوية والصحف الربّانية.

هذا تمام الكلام في استصحاب النبوّة يعنى الشريعة السابقة ، وأمّا استصحاب الأحكام الفرعية الثابتة في واحد من الملل السابقة والأديان الماضية ، ففيه مقامان : فتارة : نحن نتكلّم في جريان الاستصحاب في حقّنا كما لو علمنا بثبوت حكم في زمان من الأزمنة السابقة (1) بطريق معتبر عندنا ، كما ثبت محبوبية ترك الازدواج في بعض الشرائع على ما يدلّ عليها قوله تعالى - في مدح يحيى أنّه كان - : ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (2) وتارة : نتكلّم فيه فيما لو خاصمنا واحد من أهل الملل.

أمّا الأوّل : فسيأتي تفصيله في هداية على حدة (3) - (4).

وأمّا الثاني : فقد يقال بجريان الاستصحاب فيها وكونه مثمرا في المقام ؛ إذ ليس المقصود فيها إلاّ العمل وهو حاصل نظير الاستصحاب في الأحكام الثابتة في شريعة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله عند الشكّ في النسخ ، لكن ينبغي أن يعلم أنّ أصالة عدم النسخ تارة : راجعة

ص: 217


1- « م » : السالفة.
2- آل عمران : 39.
3- « ج ، م » : على حدّها.
4- وهي هداية استصحاب أحكام الشرائع السابقة ص 357.

إلى استصحاب حال الدليل الثابت في الزمن الأوّل من دعوى إفادته عموما أزمانيا ، والشكّ إنّما هو في تخصيصه بزمان دون آخر ، وأخرى : راجعة إلى استصحاب نفس الحكم الثابت في زمان ولو (1) لم يكن مدلولا عليه بلفظ عامّ كما لا يخفى.

والأوّل ليس من استصحاب عدم النسخ وإنّما هو الثاني كما عليه المشهور ، فعلى (2) هذا فكما لا مانع من استصحاب الحكم الثابت في الزمن الأوّل مع حصول الشكّ في نسخه على مذاق القوم ، كذلك لا مانع منه فيما لو ثبت الحكم الفرعي في ملّة سابقة وشريعة ماضية ، ولا وجه لدفعه بالعلم الإجمالي بالنسخ في الأحكام الثابتة في سائر الأمم ؛ إذ ذلك لا يجدي في قبال دعوى اليهود والنصارى استصحاب الحكم وعدم نسخه ، نعم قد يكون مثمرا في المقام الأوّل وستعرفه فيه.

فإن قلت : لا يجري الاستصحاب فيها ؛ لعدم العلم بالمكلّف ، فإنّ المعلوم هو ثبوت الأحكام للأشخاص الموجودين في تلك الأزمنة ، وأمّا من تأخّر منهم فلا يقين في السابق.

قلت : فلا يجري الاستصحاب في الأحكام الثابتة في ديننا أيضا للوجه المذكور بعينه. ولو رام إلى التمسّك بأدلّة الاشتراك كقوله : « حلاله حلال وحرامه حرام » (3) ، فهو إثبات للحكم في زمان الشكّ بدليل اجتهادي لا بالاستصحاب ، والمفروض جريانه على المشهور ، وإثبات الحكم في زمان (4) الشكّ بنفس الاستصحاب لا بالعموم ، على أنّه يمكن إثبات الحكم بشخص واحد للزمانين ، ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره المحقّق القمي في دفع ما أورد (5) على نفسه أخيرا من

ص: 218


1- « م » : - لو.
2- « ز ، ك » : وعلى.
3- روى الكليني في الكافى 1 : 58 ، باب البدع ، عن زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحلال والحرام ، فقال : « حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة » ؛ ونحوه في بصائر الدرجات : 148.
4- « م » : زمن.
5- « ز ، ك » : أورده.

أنّه (1) بعد البشارة لا وجه لاستصحاب الحكم الفرعي الثابت ؛ لما عرفت من عدم التسليم إلاّ أن يكون إشارة إلى ما ذكرناه في ثالث الأجوبة والوجوه المتقدّمة كما لا يخفى ، ولعدم المنافاة بين ثبوت البشارة واستصحاب الحكم الفرعي ؛ إذ لا يصغى إلى دعوى كون الأحكام الفرعية التي كانت في تلك الشرائع مغيّاة ببعثة نبيّنا.

هذا غاية الانتصار لهم في المقام إلاّ أنّ الوجه الثاني من الوجوه المذكورة ينهض بدفعه ؛ إذ لا سبيل لنا إلى العلم بتلك الأحكام الثابتة في تلك الشرائع إلاّ أخبار المعصومين عليهم السلام بها ، بل الحقّ الحقيق بالتصديق انتفاء ما يوجب العلم بها واقعا في الأحكام الفرعية إلاّ ذلك ، بخلاف أصول دينهم ؛ إذ كما عرفت فيها يمكن دعوى تواترهم في ذلك ، وتشتّت فرقهم دليل على عدم الإجماع فيهم ، ولهذا تراهم تاركين لشريعتهم أيضا ، وانتسابهم إلى الدهر في هذه الأزمنة وما ضاهاها معلوم كما لا يخفى.

ص: 219


1- « ج ، م » : أنّ.

ص: 220

هداية [ في استصحاب الأحكام العقلية ]

قد عرفت (1) في الهداية الغزالية انقسام الدليل إلى دالّ على الحكم في زمن الشكّ ، وناف له ، وساكت عنه ، ومجمل ، ومردّد بينها (2) ، لو كان لفظا أو إجماعا على بعض الوجوه المقرّرة فيه ، فيجري الاستصحاب على بعض التقادير ولا يجري على بعض آخر كما مرّ الوجه (3) فيها ، وإلى الثلاثة الأول لو كان إجماعا على بعض آخر ، وفي حكمه الأدلّة اللبّية الأخر كالشهرة ونحوها ، ولا إشكال في الكلّ.

وأمّا لو كان دليل الحكم هو العقل فتحقيق القول في جريان الاستصحاب فيه في مقامين :

[ المقام ] الأوّل : فيما إذا كان الشكّ في موضوع حكم العقل ، مثلا لو حكم العقل بقبح سلوك طريق معلوم الضرر وشرب دواء معلوم المهلكية ، ثمّ شكّ في الهلاكة والضرر باعتبار سنوح سانحة ونحوها ، فهل يجري فيه الاستصحاب أو (4) لا؟ فيه تفصيل ؛ لأنّه إن قلنا بحجّية الاستصحاب من حيث إفادته الظنّ يجري الاستصحاب ، لأنّ استصحاب الموضوع يفيد الظنّ ببقائه ، فالصغرى محرزة بالظنّ الاستصحابي ، فمهلكية الدواء المفروض مظنون ، وتنضمّ إليها كبرى قطعية وهي المدلول عليها بحكم

ص: 221


1- عرفت في ص 197 وما بعدها.
2- « ز » : بينهما.
3- « ج ، م » : لوجه.
4- « ز ، ك » : أم.

العقل من حرمة ارتكاب شرب دواء مهلك وسلوك سبيل مضرّ ، فينتج حرمة الشرب والسلوك ، ولا غائلة فيه.

لا يقال : إنّ مورد حكم العقل هو الموضوع المعلوم ، وبعد تبدّله ظنّا لا موضوع فلا استصحاب.

لأنّا نقول : موضوع الحكم هو الواقع ، والعلم طريق إليه ، وباختلاف الطريق لا يختلف الواقع ، غاية الأمر كون النتيجة ظنّية ، لتبعيتها أخسّ مقدّماتها ، فإنّ العلم بثبوت الأكبر للأصغر في النتيجة تابع للعلم بثبوت الأكبر للوسط ، والظنّ به للظنّ (1) به ، كالشكّ فيهما ، كما هو ظاهر على من سلك سبيل (2) النظر ، إلاّ أنّه غير خفيّ على أحد أنّه ليس من الاستصحاب في حكم العقل ؛ إذ لا شكّ فيه عند الشكّ في بقاء موضوعه ، بل إنّما هو من تعلّقه بموضوع مظنون وإن قلنا باعتباره من حيث إفادة الأخبار ذلك ، فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ إذ قد عرفت فيما سبق أنّ معنى استصحاب الموضوع هو الأخذ بأحكامه السابقة والحكم بترتيب آثاره المعلومة ، ولا ريب أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الأحكام التي تترتّب (3) عليه شرعا ، وأمّا الأحكام العقلية والعاديّة فلا يحكم بترتّبها عليه بواسطة أنّها ليست من مجعولاته فلا يترتّب عليه ، فإذا استصحبنا الموضوع المشكوك كالمثال المفروض يحكم (4) بآثاره الشرعية ولا يترتّب عليه حكم العقل بحرمة ارتكابه ، نعم لمّا كان الدليل العقلي عندنا دليلا على الحكم الشرعي فيحكم بترتّب الحكم الشرعي المدلول عليه بالحكم العقلي.

لا يقال : إنّ الحكم الشرعي مترتّب على الحكم العقلي ، وحيث لا يترتّب عليه فلا وجه للحكم بترتّب ما يتفرّع عليه كما يظهر الوجه في المقام الثاني.

لأنّا نقول : فرق بين المقامين ، فإنّ منع جريان الاستصحاب في الحكم العقلي إنّما

ص: 222


1- « ز ، ك » : الظنّ.
2- « ز ، ك » : - سبيل.
3- في النسخ : يترتّب.
4- « م » : نحكم.

هو بواسطة اختلاف موضوع القضيّة المعلومة والواقعة المشكوكة ، وفي المقام بواسطة عدم كونه مجعولا للشارع ، وانتفاء الموضوع يوجب انتفاء الأصل وهو الحكم العقلي ، وعدم ترتّبه على الموضوع لا يوجب انتفاءه ، فيلازم الحكم الشرعي ، فيحكم (1) بترتّبه على الموضوع ، بخلاف المقام الآتي ؛ إذ بعد انتفاء الأصل والدليل لا يعقل بقاء الفرع.

المقام الثاني : فيما إذا كان الشكّ في نفس الحكم العقلي كما لو فرضنا وجوب ردّ الوديعة في زمان ، ثمّ شكّ فيه بواسطة حدوث حادثة في موضوع ، فهل يحكم بالوجوب استصحابا للحالة السابقة ، أو لا وجه للقول بالاستصحاب؟ يظهر من بعض الأجلّة (2) في بعض التقسيمات (3) للاستصحاب جريانه ، والتحقيق خلافه.

وتوضيح المقال (4) يحتاج إلى تمهيد ، فنقول : لا ريب في أنّ الحكم من الأعراض التي لها تعلّق بالمحكوم به والمحكوم (5) عليه في القضيّة المفروضة ، ومن المعلوم أيضا اختلاف المحكوم به والمحكوم عليه باختلاف القيود المأخوذة فيهما من زمان ومكان وشرط وآلة و (6) حالة ووصف ونحوها ، فلا محالة يختلف الحكم عند اختلاف الموضوع والمحمول المختلفين باختلاف تلك القيود والعوارض اللاحقة لهما (7) ، فذلك الأمر الناعتي (8) والموجود العرضي يتغيّر بتغيّر ما هو قائم به أو متعلّق به ؛ إذ مناط تشخّصه (9) ومعيار وجوده هي تلك الأمور التي يختلف باختلافها الموضوع والمحمول. ولا ريب أيضا في أنّ العقل ما لم يحرز تمام ما يحتمل اعتباره في موضوع حكمه لا يحكم ؛ إذ لا يخفى على الحاكم مورد حكمه ، متى لم يعلم بمدخلية قيد أو شيء في محلّ فلا يحكم ، بل هو متوقّف في ذلك المحلّ.

ص: 223


1- « ز ، ك » : - فيحكم.
2- الفصول : 366.
3- « ج » : تقسيمات.
4- « ز ، ك » : المقام.
5- « ج » : للمحكوم.
6- « ز ، ك » : أو.
7- « ز ، ك » : لها.
8- « ز ، ك » : الذاتي.
9- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : تشخيصه.

وإذ قد تقرّر هذا (1) فنقول : إنّ العقل لو حكم بوجوب ردّ الوديعة أو قبح الظلم وحرمته فذلك الحكم العقلي إمّا ضروري غير محتاج إلى وسط في إثبات ذلك الحكم ، أو نظري محتاج فيه إلى وسط ينتهي إلى ضروري ؛ ضرورة امتناع الخلوّ عن القسمين ، والثاني يرجع إلى الأوّل بعد الانتهاء إلى ضروري كما لا يخفى ، والشكّ في الزمان الثاني إمّا أن يكون باعتبار فقد حالة معتبرة في موضوع حكم العقل ، أو ازدياد قيد لم يكن قبل كائنا ما كان ، فمع تلك الحالة إمّا أن يكون العقل حاكما في ذلك الموضوع بالحكم الأوّل ، أو لا يكون حاكما ، فعلى الأوّل فلا وجه للاستصحاب ، وعلى الثاني فإمّا أن يعلم باختلاف الموضوع بواسطة العلم بمدخلية تلك الحالة وجودا و (2) عدما في حكم العقل أو لا يعلم ، فعلى الأوّل فموضوع الحكم منتف قطعا ولا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع ؛ إذ لا نقض ولا تناقض على تقدير الانتفاء ، لما هو معلوم من انتفاء التناقض بين القضيّة الموجبة ومنتفية (3) الموضوع بعد وضوح اعتبار التناقض في محلّ الاستصحاب في القضيّة المعلومة والمشكوكة كما هو ظاهر ، وعلى الثاني أيضا لا مجرى للاستصحاب ؛ لعدم العلم بالموضوع ولا بدّ من إحرازه يقينا.

وما ذكرنا إنّما هو مسامحة مع الخصم ؛ إذ يحتمل أن يقال : إنّ العقل يحكم على موضوع معلوم من حيث إنّه القدر المعلوم في الحكم له على وجه لا يعلم اعتبار القيود المعتبرة في الموضوع في ثبوت نفس الحكم أيضا.

وإلاّ فالتحقيق : أنّ الشكّ في بقاء الموضوع وعدمه غير معقول ، فدائما إمّا أن يكون الوجود معلوما فالعقل الحاكم في الأوّل موجود في الثاني أيضا فلا حاجة إلى الاستصحاب ، وإمّا أن يكون العدم معلوما فلا وجه للاستصحاب ؛ لارتفاع الموضوع ؛

ص: 224


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هذه.
2- « ج ، م » : أو.
3- « ز ، ك » : منفيّة.

إذ لا يعقل في حكم العقل على شيء عدم علمه (1) بما هو معتبر فيه ، فالعقل إمّا يحكم بحرمة الظلم ووجوب ردّ الوديعة على وجه عامّ شامل لموضع (2) الشكّ فلا يجري فيه الاستصحاب ، وإمّا يحكم بذلك في موضوع خاصّ نعلم بعدم تلك الخصوصية في موضع (3) الشكّ فلا يجري فيه الاستصحاب أيضا كما لا يخفى.

فإن قلت : ما ذكرت إنّما يتمّ فيما إذا علمنا بمستند حكم العقل في الواقعة المتيقّنة (4) ، وقد يكون حكم العقل بواقعة وقطعه بنسبة (5) في قضيّة مردّدا بين أن يكون مستندا إلى عدّة أمور مختلفة يحكم به في زمان الشكّ على تقدير ولا يحكم به على آخر ، فيكون العقل في المقام مثل الإجماع ، ومثل ما إذا أدركنا شيئا بالحسّ فإنّ الموجود المحسوس إنّما علمنا به في بعض أزمنة وجوده ؛ إذ ليس يدرك بالحسّ وجوده في الأزمان المتأخّرة والمتقدّمة كما لا يخفى ، فالشكّ (6) يحصل في موضوع حكم العقل لا أنّه يعلم انتفاء الموضوع عند الشكّ كما في موضوع الإجماع ، وقد تقدّم في بعض الهدايات السابقة (7) وسيجيء في الخاتمة (8) - إن شاء اللّه (9) - أنّه قد يتسامح في الموضوع عرفا ، فعلى تقديره لا ضير في استصحاب حكم العقل كما في سائر الأحكام الشرعية.

قلت : إن أريد حصول العلم بواقعة مع قطع النظر عن قاعدة التحسين والتقبيح العقليين كما قد يحصل العلم بوقائع كثيرة في قضايا عديدة ، فالعلم بالحسن والقبح يتفرّع على هذا العلم كما في التوقيفيات والشرعيات نظرا إلى ما قرّر من تبعية الأحكام للصفات ، ففيه : أنّه خروج عن المتنازع فيه ؛ إذ لا ريب في أنّ ذلك مثل

ص: 225


1- « ز ، ك » : علّته.
2- « ز ، ك » : لموضوع.
3- « ز ، ك » : موضوع.
4- « ز ، ك » : المنفية.
5- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : بنسبته.
6- « ز ، ك » : والشكّ.
7- انظر ص 193.
8- المراد بها هدية تقدّم الاستصحاب ببقاء الموضوع في ص 387 - 388.
9- « ز ، ك » : - إن شاء اللّه.

الإجماع قد يجري (1) فيه الاستصحاب فيما لو أحرزنا الموضوع حقيقة أو عرفا ، وقد لا يجري فيما إذا لم يكن معلوما.

وإن أريد حصول العلم وحكم العقل (2) بوجوب واقعة أو حرمتها من حيث الحسن والقبح كما هو المفروض في المقام ، فالعلم بالوجوب يتفرّع على العلم بالحسن والقبح ، ففيه : أنّه لا يعقل جهالة مستند حكم العقل ؛ إذ القضيّة المفروضة لا تخلو إمّا أن تكون (3) على وجه يكفي في الحكم بثبوت المحمول للموضوع وتحقّق النسبة تصوّر موضوعها كما في القضايا الضرورية كقولنا : الظلم حرام وقبيح ، أو لا يكون على هذا الوجه ، فيحتاج في الحكم بتحقّق النسبة إلى وسط بينهما ليستفاد (4) منه ذلك العلم كما في القضايا النظرية كقولنا : ضرب اليتيم حرام ، فإنّه يحتاج في العلم بتحقّق تلك النسبة إلى ملاحظة اندراج موضوعها في موضوع كلّي يكفي في الحكم عليه بالحرمة تصوّره كما في قولنا (5) : الظلم حرام ، ولا مناص من الانتهاء إلى مثل ذلك دفعا للدور والتسلسل.

فإن كان الشكّ في القضيّة الأولى فلا بدّ من ملاحظة حال الموضوع المحكوم عليه بالحكم العقلي ، فإن كان على وجه لا يختلف بازدياد حالة أو نقصان صفة فلا شكّ في اللاحق ، وإن اختلف بازدياد حالة أو نقصان قيد فعند الشكّ بواسطة أحد الأمرين ارتفع الموضوع قطعا ، ولا سبيل إلى القول بعدم العلم بذلك ، إذ (6) المفروض أنّ القضيّة بديهية يحكم بثبوت المحمول فيها بمجرّد تصوّر الموضوع.

وإن كان الشكّ في القضيّة الثانية فلا بدّ من ملاحظة حال ذلك الوسط البديهي ، فإن كان موضوع القضيّة النظرية المشكوكة مع ازدياد قيد أو نقصان حالة مندرجا

ص: 226


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : وقد يجري.
2- « ز ، ك » : النقل.
3- « ج ، م » : لا يخلو ... يكون.
4- « م » : يستفاد.
5- « ز ، ك » : قوله.
6- « ز » : إذا.

تحت موضوع الوسط فلا شكّ في اللاحق ، وإلاّ فالموضوع يقيني الارتفاع.

فتقرّر أنّ الأحكام العقلية ممّا لا يعقل (1) فرض الشكّ فيها ، والموضوع فيها دائما إمّا معلوم الوجود فلا شكّ ، وإمّا معلوم العدم فلا استصحاب ، وذلك بخلاف الإجماع كما إذا انعقد على نجاسة الماء المتغيّر - مثلا - فبعد زوال التغيّر يشكّ في بقاء الموضوع لا أنّه يعلم بعدمه ، فلو قلنا بالتسامح العرفي أو استكشاف الموضوع من ظواهر الأدلّة فنقول بجريانه ، وإلاّ فلا.

فإن قلت : إنّ غاية ما يلزم ممّا ذكر عدم جريان الاستصحاب في نفس الأحكام العقلية ، وأمّا الأحكام الشرعية التي يستدلّ عليها بها (2) فلا ضير في استصحابها ، فإنّها بهذه الحيثية من الأحكام التوقيفية.

قلت : ذلك وهم باطل ؛ لأنّ كون تلك الأحكام توقيفية بهذه الحيثية لا ينافي القطع بارتفاع موضوعها كما في المقام ، فإنّ الحكم العقلي في محلّه وموضوعه دليل على الحكم الشرعي في ذلك الموضوع وقد ارتفع قطعا ، فلا ثمرة فيها أيضا ، وقد مرّ التنبيه على الفرق بين المقام وفيما إذا كان الشكّ في الموضوع فيما مرّ ، فراجعه.

فإن قلت : كما أنّ الأحكام العقلية المترتّبة على التحسين والتقبيح العقليين ممّا لا يمكن فرض الشكّ في موضوعاتها فكذا الأحكام الشرعية أيضا كذلك ؛ لابتنائها عند العدلية على المصالح الواقعية والمفاسد الحقيقية ، فلا بدّ من عدم جريان الاستصحاب فيها أيضا.

قلت : الفرق بين المقامين ظاهر وإن كانت الأحكام الشرعية مبتنية على الأحكام العقلية ؛ لعدم علمنا بالموضوع فيها ، حيث إنّها بموضوعاتها غائبة عنّا ونحن بمعزل عنها ، بخلاف الأحكام العقلية فإنّها معقولة لنا فيحصل العلم بالموضوع فيها دونها ،

ص: 227


1- « ز ، ك » : لا يستقلّ.
2- « ز ، ك » : بها عليها.

غاية ما يمكن أن يقال : إنّه إذا لم يكن دليل على إحراز الموضوع في الأحكام الشرعية من خطاب لفظي أو تسامح عرفي لا يمكن القول بالاستصحاب فيها أيضا ونحن لا نضايق من ذلك كما لا يخفى.

ص: 228

هداية [ في التفصيل بين كون المستصحب وجوديا وبين كونه عدميا ]

أكثر الحنفية على حجّية الاستصحاب في النفي ، والنفي في الإثبات ، على ما حكاه العضدي (1) ، وظاهره التفصيل بين كون المستصحب وجوديا فليس بمعتبر (2) فيه ، وبين كونه عدميا فهو معتبر فيه.

وحمله التفتازاني على التفصيل بين الآثار الوجودية التي تترتّب (3) على المستصحب وجوديا أو عدميا فلا يعتبر ، وبين الآثار العدمية التي تترتّب عليه كذلك فيعتبر ، حتّى أنّ استصحاب حياة المفقود لا يؤثّر في انعزال نصيبه من مال مورّثه ؛ لكونه وجوديا ، ويؤثّر في عدم خروج ماله عن (4) ملكه وعدم تعلّق حقّ وارثه بماله.

وهذا مع أنّه تكلّف في ظاهر ما حكاه العضدي ممّا لا وجه له أيضا ؛ إذ قد يمكن التعبير عن الأحكام الوجودية التي جعلها منها على وجه يرجع إلى الأحكام العدمية كما لا يخفى ، ولعلّه دعاه إلى هذا الحمل ما قد يتراءى من كون الاستصحابات العدمية إجماعية خارجة عن محلّ النزاع ، فعدّه تفصيلا في قبال القول بالحجّية مطلقا والنفي يتوقّف على ذلك ؛ إذ على هذا التقدير يكون موافقا للقول بالنفي المطلق ، إلاّ أنّه قد

ص: 229


1- شرح مختصر المنتهى : 453 ، تقدّم عنه في ص 51 و 60 ، انظر تعليقة ص 60.
2- « م » : معتبرا ، « ج » : معتبر.
3- « ج ، م » : يترتّب ، وكذا في المورد الآتي.
4- « ز ، ك » : من.

عرفت (1) فيما تقدّم في تحرير حريم الخلاف عدم الاعتداد بذلك ، فإنّ أدلّة الطرفين يشهد بدخولها في محلّ الكلام كما يظهر من استدلال النافين بأنّه لو كان حجّة لوجب (2) تقديم بيّنة النافي على بيّنة المثبت لاعتضادها بالاستصحاب ، ومن استدلال المثبتين بأنّه لو لم يكن حجّة لما صحّ التمسّك ببرهان لفظي لاحتمال ما ينافي الاستدلال من النقل ونحوه (3) مثلا ، ومطاوي كلمات النافين صريحة فيما ذكر ، ألا ترى أنّ صاحب المدارك (4) يردّ استصحاب عدم التذكية بعدم اعتبار الاستصحاب مطلقا ، وفي كلمات السبزواري ، بل الخوانساري (5) - (6) وغيرهما النفي الصريح في الكلّ كما هو ظاهر من إطلاق عناوينهم الشاملة للمقامين.

وأمّا ما استند إليه الأستاد الأكبر (7) من كونها إجماعية نظرا (8) إلى اعتبار أصالة عدم النقل والحقيقة والنسخ عند المنكرين كالسيّد واضرابه ومن تابعهم ، فهو إنّما يتأتّى في الأصول اللفظية لا مطلقها كما لا يخفى ؛ ضرورة عدم انتهاض الخاصّ دليلا على ثبوت العامّ بعمومه.

واستند بعضهم إلى (9) استكشاف الإجماع على اعتبار العدميات على (10) ما يظهر من تحرير العضدي حيث قال : ولا فرق عند من يرى صحّته بين أن يكون الثابت به نفيا أصليا أو حكما شرعيا فإنّ نفي الفرق بين النفي الأصلي والحكم الشرعي - بعد أن حكم بعدم ثبوت الحكم الشرعي بالاستصحاب قبيل (11) ذلك عند النافي - صريح في خروج العدميات عن النزاع ، وإلاّ لم يكن لنفي الفرق وجه.

ص: 230


1- عرفت في ص 38 وما بعدها.
2- « م » : يوجب.
3- « ز ، ك » : نحوها.
4- تقدّم عنه في ص 51 - 52.
5- « ج » : المحقّق الخوانساري.
6- تقدّم عنهم في ص 46.
7- تقدّم عنه في ص 44.
8- « ز » : نظر.
9- « م » : على.
10- « ز ، ك » : « هنا ».
11- « ز ، ك » : فبقي.

وفيه : أنّ الظاهر من النفي الأصلي هي البراءة الأصلية فلا دلالة فيه على خروج مطلق العدميات.

وكيف كان فقد تحقّق فيما تقدّم في الهدايات السابقة فساد هذا التوهّم (1) ، فالأولى صرف عنان الكلام إلى تحقيق المرام في هذا المقام فنقول : إنّ الفرق بين استصحاب الوجود والعدم ظاهرا (2) فيما هو المناط فيه - سواء كان عقلا أو نقلا - تحكّم صرف ؛ لأنّ المدار لو كان على حصول الظنّ بالبقاء بعد العلم بالحالة السابقة ، فإن قلنا بأنّ (3) مجرّد ثبوت الشيء في السابق مع عدم العلم بارتفاعه يورث ظنّا بالبقاء من غير ملاحظة شيء آخر كالغلبة ونحوها ، فبعد تقدير التسليم ممّا لا يفترق (4) فيه الوجود والعدم ؛ لحصول المناط فيهما معا. ودعوى بداهة الفرق بينهما كما يظهر من البعض ضرورية الفساد بعد ملاحظة الوجدان ، وعلى فرض انضمام شيء آخر بذلك فلا فرق أيضا ، ولو كان المدار على الأخبار فعدم الفرق بينهما أوضح.

نعم ، لو كان ولا بدّ أن يفصّل في المقام فأوجه التفاصيل التفصيل بين العدميات مطلقا والوجودي الذي كان الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في الرافع ، وبين الوجودي الذي لم يكن الشكّ في رافعه ، سواء كان الشكّ من حيث المقتضي أو من حيث المانع.

وتحقيقه يتوقّف على تمهيد ، فنقول : قد تقرّر بناء العقلاء كافّة على الحكم بوجود المقتضي والمعلول بعد إحراز المقتضي ، وإن كان المانع وجوده (5) مشكوكا أو الرافع وقوعه محتملا كما إذا فرضنا وجود مقتضي الإحراق في محلّه وشككنا في وجود مانع من وجود الإحراق ، فالعقلاء قاطبة بناؤهم مستقرّ على ترتيب (6) آثار الإحراق ، وكأنّ

ص: 231


1- « ز ، ك » : وكيف كان فلا شبهة في فساد هذا التوهّم كما يظهر من المراجعة إلى بعض الهدايات السابقة.
2- « ز ، ك » : ظاهر.
3- « ز ، ك » : إنّ.
4- « ج » : لا يفرق.
5- « ز ، ك » : وجود المانع.
6- « ز ، ك » : ترتّب.

الوجه في ذلك أنّ بعد فرض وجود المقتضي يشكّ في أنّ علّة عدم المعلول موجودة فيمتنع (1) المعلول بواسطة ذلك ، فالشكّ إنّما هو في امتناع المعلول من حيث وجود معارض علّة وجوده (2) ؛ إذ عدم المانع لكونه أمرا عدميا لا يعقل تأثيره في وجود المعلول إلاّ من حيث ارتفاع وجود علّة النقيض ، فبذلك يصير المحلّ قابلا ، فيظهر أثر المقتضي ، ولا مدخلية لعدم المانع في اقتضاء المقتضي ، ولهذا ترى المقتضي باقيا على صفة الاقتضاء فعلا مع العلم بوجود المانع ، وكلّما كان الشكّ في إمكان شيء وامتناعه فتراهم يعاملون معه معاملة الإمكان ظاهرا (3) كما مرّ (4) الإشارة إليه في العبارة المنقولة عن الشيخ الرئيس ، وبعد تقدير إمكانه فيؤثّر فيه المقتضي ؛ إذ المفروض أنّه تامّ الاقتضاء ، فيقال بوجود المعلول ويترتّب عليه آثاره.

وإذ قد تقرّر هذا (5) فنقول : إنّ الأصول العدمية بأسرها ، والاستصحاب الوجودي فيما إذا كان الشكّ في الرافع ، من هذا القبيل.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأحكام العدمية تارة يطلب منها ترتيب حكم عدمي ، وأخرى ترتيب حكم وجودي ، لا كلام على الأوّل ؛ إذ تلك الآثار العدمية التي تلحق الأحكام العدمية إنّما هي في عرضها وإن كانت مترتّبة عليها في الاعتبار ، فهي أيضا محالّ للاستصحاب كنفس (6) تلك الأحكام. وأمّا الثاني : فكلّ ما نتعقّله (7) من الأمثلة في العدميات كأصالة عدم النقل والقرينة والحذف والنسيان والسهو من الأصول المعمولة في مواردها ممّا يراد منها ثبوت حكم أو ظهور دلالة ونحوها من الأحكام الوجودية التي تترتّب (8) على تلك الأمور العدمية ، من هذا القبيل ، فإنّ حدوث النقل مانع (9) عن (10)

ص: 232


1- « ز ، م » : فيمنع.
2- « ك » : وجود.
3- « ز » : ظاهر.
4- مرّ في ج 3 ، ص 62.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هذه.
6- « ج ، م » : لنفس.
7- « م » : نتعلّقه.
8- « ج ، م » : يترتّب.
9- « م » : مانعة.
10- « ز ، ك » : من.

حمل اللفظ على المعنى المنقول منه ، وكذا قرينة المجاز ووجود الحذف والنسيان أيضا مانع عن ظهور الدلالة كما لا يخفى مع وجود المقتضي لذلك (1) وهو الوضع ، فمدخلية العدم في تلك الأمور المطلوبة من الأصول العدمية (2) إنّما يكون من حيث إنّ وجوده مانع عن ترتّبها على مقتضياتها (3) ، لكونه علّة تامّة لنقيض (4) الحكم كما عرفت ، ومثله الكلام في أصالة عدم الرافع إلاّ أنّه يعتبر مانعيته بالنسبة إلى البقاء لا الحدوث كما هو كذلك في المانع.

فإن قلت : لا مانع من أن يكون ذلك العدم علّة تامّة لترتّب ذلك الأمر الوجودي ، وحيث إنّها في الأمور الشرعية ليست بعلّة (5) حقيقة (6) فإنّها كاشفة عنها واقعا ، فلا مانع من أن يكون العدم مؤثّرا في الوجود ، بل هو واقع ، كما في أصالة عدم التذكية فإنّ النجاسة مترتّبة على نفس العدم ولا ضير فيه.

لا يقال : إنّ خروج الروح وإزهاقه مقتض للنجاسة ، والتذكية مانعة (7) منها ، فبأصالة (8) عدم التذكية يحرز المعلول ، فلا مخالفة فيه لما ذكر.

لأنّا نقول : المقتضي لا بدّ وأن يكون متقدّما على غيره ، والمقام مقارن فلا يجوز أن يكون مقتضيا.

قلت : نعم ولكنّ التحقيق أنّ المثال المذكور أيضا من هذا القبيل ، فإنّ الإزهاق يقتضي (9) النجاسة (10) ، والمقتضي مقدّم على عدم المانع طبعا ، فلا غائلة في مقارنته له زمانا.

فتلخّص : أنّ الاستصحابات العدمية التي نتداولها إنّما هي ممّا يكون المقتضي للآثار

ص: 233


1- « ز ، ك » : له.
2- « ز ، ك » : - العدمية.
3- « م » : مقتضاياتها.
4- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : لنقض.
5- « ج ، م » : علّة.
6- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : حقيقية.
7- « ج ، م » : مانع.
8- « م » : فأصالة.
9- « ج » : تقتضي.
10- « ز ، ك » : فإنّ الإزهاق المقتضي للنجاسة.

المطلوبة في تلك الاستصحابات موجودا ، والشكّ إنّما هو في وجود المانع لحدوثها أو لبقائها ، نعم لو فرض من الأصول العدمية ما لم يكن المقتضي للآثار المترتّبة عليها موجودا فأصالة عدم المانع لا يكفي في الحكم بترتّب (1) تلك الآثار وهو ظاهر إلاّ أنّ الأمثلة الموجودة ليس منها.

هذا تمام الكلام فيما كان المستصحب عدميا.

وأمّا الثاني : وهو ما كان المستصحب وجوديا فلا ينطبق على القاعدة المزبورة إلاّ فيما كان الشكّ في الرافع فقط ؛ إذ المانع من الحدوث لو كان مشكوكا فلا يعلم (2) بوجود المعلول فلا يقين في السابق ، فلا يجري الاستصحاب الوجودي فيما إذا كان الشكّ في المانع ، وأمّا الشكّ من حيث المقتضي بعد العلم بتماميته في السابق وإن كان يعقل فيه الاستصحاب الوجودي إلاّ أنّه ليس داخلا فيما مهّدناه في المقدّمة.

وبالجملة : فنحن ندّعي استقرار بناء العقلاء على ذلك الحكم بوجود المعلول بعد إحراز المقتضي ولو كان المانع وجوده مشكوكا ، وهذه القاعدة وإن لم يكن (3) من الاستصحاب في شيء إلاّ أنّه ينطبق (4) على موارده المفروضة ، وإليه ينظر عبارة المحقّق كما مرّ نقله فيما سبق (5) ، ولو لا أنّ من المعلوم خلافه في كلمات العلماء - كما عرفت حيث إنّ المستفاد من كلام جملة عدم الاعتداد بالاستصحاب مطلقا - لم يكن دعوى الإجماع عليه أيضا بعيدا ؛ حيث إنّ العمل عليه ، ولا ينافيه إنكارهم تفصيلا بعد الإذعان (6) الإجمالي.

والأخبار الواردة في الباب بناء على التحقيق دلالة لها على غير ذلك ، فإنّ المنساق منها - سواء كان بلفظ النقض أو غير ذلك كما لو قال : « إذا شككت فابن على اليقين » -

ص: 234


1- « م » : ترتّب.
2- « ك » : فلا نعلم.
3- كذا.
4- كذا.
5- انظر ص 53 - 54 و 65 و 68.
6- « م » : الإعادة.

اتّحاد مورد اليقين والشكّ على وجه لم تكن القضيّة المتيقّنة مخالفة للمشكوكة إلاّ بالإيجاب والسلب فقط واليقين والشكّ ، وليس هذا إلاّ في العدميات ؛ لأنّ العدم الثابت المعلوم أوّلا بعينه مشكوك في اللاحق ، إذ لا يتفاوت العدم الأزلي بتفاوت الأمور التي يحتمل تفاوت الوجود بها من حال أو وصف وزمان ومكان ونحوها كما هو ظاهر لا سترة عليه ، وفي الوجودي فيما إذا كان الشكّ في الرافع ؛ إذ المقصود بالاستصحاب هو البقاء ، والمحمول في القضيّة المعلومة السابقة هو الوجود ، ولا مدخل للرافع فيه ، فلا يختلف بالتقييد (1) له (2) بعدمه كما يختلف في المانع من الحدوث كما مرّ تفصيل ذلك فيما مرّ (3) في الهداية الأخبارية (4).

وعلى ما قرّرنا من ثبوت طريقة العقلاء على الأخذ بالاستصحاب في الموارد المفروضة يظهر الوجه فيما ذهب إليه جملة من محقّقي السلف من اعتبار الاستصحاب كالمفيد (5) وأضرابه (6) قبل ظهور دلالة الأخبار عليه ، إلاّ أنّه يشكل أيضا بأنّ الاعتماد (7) بالاستصحاب (8) عند العقلاء إن كان بواسطة ما قد يتوهّم من أنّ العقلاء أيضا قد يتعبّدون بأمارة وإن لم تفد الظنّ كما في التعبّديات الشرعية كالبيّنة ونحوها مثلا ، ففساده ظاهر ؛ إذ لا يعقل التعبّد عند العقل بعد ما نعلم من أنّ المناط هو الواقع عنده وكيف يمكن التعبّد به (9) مع أنّه لا يزيد على شكّ؟ والأخذ بأحد طرفيه ترجيح بلا مرجّح وهو فطري الاستحالة وتجويزه سفسطة ، وإن كان بواسطة إفادته الظنّ في موارده إمّا بملاحظة الغلبة أو بمجرّد العلم بالحالة السابقة أو غير ذلك ، فهو حقّ في

ص: 235


1- « ز ، ك » : بالتقيّد.
2- « ج » : فيه وفي « ك » : به.
3- « ز ، ك » : الحدوث على ما مرّ تفصيله.
4- مرّ في ص 190 - 194.
5- التذكرة : 45.
6- كالمحقّق كما نصّ به في ص 271.
7- « ز ، ك » : « بالاعتماد » بدل : « بأنّ الاعتماد ».
8- « ج » : إلى الاستصحاب.
9- « ج ، م » : - به.

موارد الاستصحاب المعمول عندهم في أحكام معاشهم ، وأمّا في الأحكام الشرعية فحصول الظنّ في موارده بأجمعها غير معلوم ، ودعواه مجازفة بيّنة ومكابرة واضحة ؛ إذ كثيرا ما نجد من أنفسنا في تلك الأحكام عدم رجحان ثبوت المستصحب مع الأخذ به فيها أيضا ، ويظهر ذلك من ملاحظة قضيّة المذي كما (1) لا يخفى ، ولا سيّما إذا عارضه دليل غير معتبر كالقياس.

وبالجملة : دعوى حصول الظنّ في جميع موارد الاستصحاب في الأحكام لا شاهد عليها ، بل يكذّبها (2) الوجدان والبرهان معا ، وبدونه لا دليل عليه ؛ لعدم اعتبار الشكّ عند العقلاء ، فكيف يمكن القول بالاستصحاب للسلف مع عدم دلالة دليل عليه؟ وغاية ما يتعسّف في الذبّ عنه أن يقال : إنّ بناء العقلاء على العمل بالظنّ الاستصحابي إلاّ أنّه لمّا قرّر الشارع العمل بذلك الظنّ في الشرعيات لا جرم صار ذلك ظنّا نوعيا.

وتوضيح ذلك : أنّه لو فرض وجود أمارة ظنّية غير معتبرة عند العقلاء كالنوم - مثلا - فعارض الاستصحاب على وجه انتقل الظنّ الشخصي إليه ، فمع ذلك تراهم يلتزمون بإعمال الاستصحاب وطرح النوم كما يظهر ذلك عند ملاحظة قول الطبيب عند مخالفته لظنّ المريض ، فالأخذ بالاستصحاب في هذا المقام وإن لم يكن مفيدا للظنّ إلاّ أنّه أولى من الأخذ بالأمارة الغير المعتبرة عندهم ، فكان ذلك الظنّ لا يعدّ ظنّا مثل ما يراه الرائي من بعيد فيظنّ السراب ماء كما لا يخفى ، ولمّا قرّر الشارع العمل بالاستصحاب صار العامل به في الشريعة كما إذا كان عند العامل (3) أمارة ظنّية غير معتبرة ، فيأخذ بالاستصحاب وإن لم يكن مفيدا للظنّ من حيث أولويته من الأمارة الغير المعتبرة شرعا ، فكأنّ الظنّ القياسي ليس من الظنّ بعد عدم الاعتداد به عند (4)

ص: 236


1- « ز ، ك » : مما.
2- « م » : يكذّبه.
3- « ز ، ك » : العادل.
4- « ز ، ك » : من.

الشارع ، نعم يبقى الكلام في اعتبار هذا الظنّ في الشريعة ، فلا يبعد أن يقال : إنّ استقراء موارد الاستصحاب يعطي الظنّ القويّ بأنّ الشارع إنّما اعتبر الظنّ الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة كما عرفت الوجه في ذلك (1) فيما قدّمنا من الاستناد إلى الأخبار الخاصّة إلاّ أنّ الكلام يبقى حينئذ في اعتبار هذا الظنّ في المقام.

كذا أفاد أديمت إفاداته (2) إلاّ أنّ الإنصاف عدم انتهاضه بدفع الإشكال حقيقة ؛ إذ بعد ما علم من أنّ مناط حكم العقلاء هو حصول الظنّ ومدار حكمهم هو الواقع ففرض عدم اعتبار الظنّ المقابل للاستصحاب والاعتناء بالاستصحاب إنّما هو خلاف الفرض (3) كما لا يخفى.

ص: 237


1- « ز ، ك » : كما عرفت وجهه.
2- « ز ، ك » : « أفاد الأستاد » من دون الجملة الدعائية.
3- « ز ، ك » : المفروض.

ص: 238

هداية [ في كلام النراقي في معارضة الاستصحاب الوجودي والعدمي ]

زعم بعض (1) أفاضل متأخّري المتأخّرين أنّ استصحاب حال الشرع - يعني الاستصحاب الوجودي - ليس معتبرا ، واستصحاب حال العقل - يعني الاستصحاب العدمي - معتبر ، واستند في ذلك إلى أنّ استصحاب الوجود دائما معارض باستصحاب عدمي مسبوق بذلك الوجود ، ومحصّل تفصيله التفكيك بين ما كان المقتضي محرزا وشكّ في حصول الرافع وبين ما كان الشكّ من حيث المقتضي ؛ إذ في موارد الشكّ الأخير دائما يتعارض الاستصحابان فيتساقطان ولا بدّ من الرجوع إلى أصل عملي آخر كالبراءة ونحوها ، بخلاف موارد الشكّ الأوّل فإنّ استصحاب عدم الرافع بعد سقوط الاستصحابين متعيّن.

فالأولى نقل كلامه بطوله لتوضيح مرامه ، قال - في جملة كلام له في تعارض الاستصحابين - : والتحقيق أنّ تعارض الاستصحابين إن (2) كان في موضوع (3) وحكم واحد فلا يمكن العمل بشيء منهما ويتساقطان فيرجع إلى البراءة وشبهها ، وذلك كما إذا قال الشارع في ليلة الجمعة مثلا : « صم » وقلنا : بأنّ الأمر للفور ، وكنّا متوقّفين في

ص: 239


1- في هامش « م » : « وهو المحقّق النراقي » وكذا كتب تحتها في هامش « ز » و « ك » : « أي النراقي » وسيأتي نصّ كلامه.
2- « ز ، ك » : إذا.
3- في المصدر : موضع.

إفادة (1) المرّة والتكرار ، فنقطع بوجوب صوم يوم الجمعة ونشكّ (2) في السبت ، وفيه يتعارض الاستصحابان ؛ لأنّا كنّا يوم الخميس متيقّنين بعدم وقوع التكليف بصوم يوم الجمعة ولا السبت ، وبعد ورود الأمر قطعنا بتكليف صوم الجمعة وشككنا في السبت ، وهذا الشكّ مستمرّ من حين ورود الأمر إلى يوم السبت ولا ينقض بالشكّ ، فيستصحب عدم تكليف يوم السبت بالصوم ، وكذا نقطع في الجمعة (3) بالتكليف بالصوم ونشكّ في السبت ، فيستصحب التكليف ، أي وجوب الصوم ، فيحصل التعارض.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ عدم التكليف المعلوم قبل الأمر إنّما يستصحب لو لا الدليل على التكليف ، واستصحاب الوجوب المتيقّن في الجمعة دليل شرعي ، فيرتفع عدم التكليف ونقض (4) اليقين باليقين.

فأجاب عنه : بأنّ مثله يجري في الطرف الآخر فيقال : وجوب صوم الجمعة (5) إنّما يستصحب لو لا الدليل على عدمه ، واستصحاب عدمه المتيقّن قبل ورود الأمر دليل شرعي ، فيرتفع الوجوب.

لا يقال : إنّ العلم بالعدم قد انقطع وحصل الفصل فكيف يستصحب؟

لأنّا نقول : إنّه (6) لم يحصل فصل (7) أصلا ، بل كنّا قاطعين بعدم إيجاب صوم السبت (8) يوم الخميس وشككنا فيه بعد الأمر ولم نقطع بوجوب صومه أصلا ، فيجب استصحابه (9) ، انتهى.

ص: 240


1- في المصدر : إفادته.
2- « ز ، ك » : الشكّ.
3- « م » والمصدر : يوم الجمعة.
4- في المصدر : وينقض.
5- « م » : يوم الجمعة.
6- « م » : بأنّه.
7- في المصدر : فصلا.
8- « ك » : يوم السبت.
9- مناهج الأحكام : 235 - 236.

وقال في موضع آخر - بعد ما مهّد كلاما يتفرّع على ما قدّمه في أوّل الباب - : لا حجّية للاستصحاب في القسم الثالث مطلقا ، وفسّره بأنّه الذي علم ثبوت الحكم في الجملة أو في حال أو (1) شكّ فيما بعده ، قال : وذلك لأنّ بعد ما علم حكم في وقت أو حال وشكّ فيما بعده وإن كان مقتضى اليقين السابق واستصحاب ذلك الحكم وجوده في الزمان الثاني و (2) الحالة الثانية ولكن مقتضى استصحاب حال العقل عدمه ؛ لأنّ هذا الحكم قبل حدوثه كان معلوم العدم مطلقا ارتفع (3) عدمه في الزمان الأوّل فيبقى الباقي ، ومثّل لذلك بأنّ الشارع إذا أمر بالجلوس يوم الجمعة وعلم أنّه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه بعد ذلك فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس فيه قبل الزوال ، فصار بعده موضع (4) الشكّ ، فلنا (5) شكّ ويقينان وليس بقاء حكم أحد اليقينين أولى من الآخر (6).

إلى أن قال : وبالجملة : بملاحظة اليقين بالعدم الحاصل قبل الشرع أو التكليف أو (7) البلوغ والعقل واستصحابه يحصل التعارض في جميع موارد القسم الثالث ، فلا مرجّح (8) لأحدهما ، فلا يكون شيء منهما حجّة ويجب تركهما والرجوع إلى ما يقتضيه دليل آخر. وعليه فرّع الجواب عن شبهة النبوّة المتقدّمة.

ثمّ قال : وأمّا القسمان الأوّلان فيظهر ممّا ذكر أيضا عدم حجّية استصحاب حال الشرع فيهما أيضا إذا كان المستصحب من الأمور الشرعية بواسطة التعارض (9) ، فإنّ استصحاب الطهارة والمالكية ونحوهما من الأمور المقرّرة في الشريعة إلى ثبوت رافعها عند الشكّ في الرافع ، أو في رافعية معارض باستصحاب عدم جعل الشارع لتلك

ص: 241


1- في المصدر : « و ».
2- في المصدر : « أو » بدل : « و ».
3- في المصدر : علم ارتفاع.
4- في المصدر : بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى موضع.
5- في المصدر : قلنا.
6- في المصدر : ومن إبقاء حكم الآخر بها.
7- في المصدر : « و » بدل : « أو ».
8- في المصدر : ولا مرجّح.
9- في المصدر : الشرعية مطلقا لأجل تعارضه مع استصحاب حال العقل.

الأحكام عند الشكّ فيهما ، وإثبات التكليف والجعل ليس بأولى من إثبات عدمهما بالاستصحاب.

ثمّ قال : ولا يتوهّم أنّه يلزم على هذا انتفاء الحكم الثابت أوّلا (1) في القسمين بمجرّد الشكّ ، فإنّه ليس (2) كذلك ، بل (3) يحكم ببقاء الحكم ولكن لا لأجل استصحاب حال الشرع ، أي استصحاب ذلك الحكم ، بل لأجل استصحاب آخر من حال العقل. بيان ذلك أنّه قد عرفت في المقدّمة الأولى أنّ سبب الشكّ في هذين القسمين إمّا الشكّ في تحقّق المزيل القطعي (4) ، أو الشكّ في جعل الشارع شيئا أو الشيء الفلاني مزيلا للحكم ، ولا شكّ أنّ الأصل عدم تحقّق المزيل وعدم جعل الشارع شيئا أو هذا (5) الشيء (6) مزيلا ، ويلزم من (7) هذا الاستصحاب وجود هذا الحكم ، ولا يعارضه استصحاب عدم التكليف ؛ لأنّ الاستصحاب الأوّل سبب (8)للحكم ببقاء استمرار الحكم ، وهو مزيل لعدم التكليف ، وليس استصحاب عدم التكليف سببا لوجود الشيء المعيّن الذي جعله الشارع مزيلا أو جعل (9) هذا الشيء مزيلا (10).

إلى أنّ قال : وقد تلخّص من ذلك أنّ الأحكام الثابتة إنّما يحكم ببقائها بالاستصحاب إذا شكّ في المزيل لا في غيره ، وأنّ الحجّة (11) من الاستصحاب إنّما هو في القسم الأوّل من قسمي الشكّ ولكن لا استصحاب حال الشرع ، بل استصحاب حال العقل.

ثمّ فرّق بين ما اختاره في المقام وما اختاره البعض من حجّية الاستصحاب عند

ص: 242


1- « ز ، ك » : + في اليقين.
2- في المصدر : - ليس.
3- « ز ، ك » : « لذلك سبيل » بدل : « كذلك بل ».
4- في المصدر : + بعد العلم بعدمه.
5- « ز ، ك » : - هذا.
6- « ج ، م » : هذا لشيء.
7- في المصدر : - من.
8- في المصدر : - سبب.
9- « م » : بجعل وفي المصدر : بجعل الشارع.
10- « ج » : - أو جعل هذا الشيء مزيلا.
11- « ج » : الحجّية.

الشكّ في المزيل بأنّ الظاهر منه استصحاب حال الشرع ، وإن احتمل التوافق فنعم الوفاق.

ثمّ قال : هذا في الأمور الشرعية ، وأمّا الخارجية - كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف وأمثالها ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها - فاستصحاب الوجود فيها حجّة بلا معارض ؛ لعدم تحقّق استصحاب حال العقل فيها (1) ، انتهى كلامه مع تلخيص وتغيير ما (2) منّي.

وملخّصه في تمام ما ذكر (3) هو اعتبار الاستصحاب عند (4) الشكّ في الرافع أو الرافعية (5) ، وعدمه عند الشكّ من حيث المقتضي.

وكيف كان ففيما أورده نظر من وجوه :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما فرضه من المثالين من وجوب الصوم أو الجلوس ممّا لا مجال للاستصحاب فيه كما بيّنا وجهه فيما أيّدنا به (6) مذهب الفاضل التوني في الهداية التونية (7). وتوضيحه أنّ الأحكام الشرعية على قسمين : فبعض منها ما يعدّ شيئا واحدا كالحرمة والإباحة مثلا ، وكالاستحباب (8) في وجه ، ومنها ما يعدّ عندهم أحكاما (9) متعدّدة كالوجوب مثلا ، ففيما إذا شكّ في الوجوب ثانيا فإمّا يشكّ في الوجوب الأصلي في قبال الوجوب الثابت أوّلا ، أو في الوجوب التبعي ، أو في الوجوب المردّد بين هذين القسمين ، ففي الأوّل فلا بدّ من الأخذ بالبراءة الأصلية ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ظاهرا كما حرّر في محلّه ، وفي الثاني فلا بدّ من الرجوع إلى قاعدة البراءة والاحتياط عند الشكّ في الجزئية ، فكلّ على ما اختاره في تلك المسألة ، وفي الثالث فاحتمال

ص: 243


1- مناهج الأحكام : 238 - 239 ( الفائدة الأولى ).
2- « ز ، ك » : - ما.
3- « ز ، ك » : ذكرناه.
4- « ز ، ك » : في.
5- « م » : في الرافعية.
6- « ز ، ك » : - به.
7- انظر ص 116.
8- « ز ، ك » : كالاستصحاب.
9- « ج ، م » : أحكام.

الأصلي (1) مدفوع بالبراءة ، واحتمال التبعي كالثاني مرجعه إلى البراءة أو الاشتغال.

لا يقال : فعلى هذا لا مجال (2) لاستصحاب الوجوب مطلقا ، لأنّا نقول : هو كذلك كما عرفت فيما تقدّم ، فالتمثيل (3) بما ذكر غير ملائم لما هو بصدده كما هو ظاهر ، والأولى التمثيل بالتحريم أو الإباحة ممّا لا يعدّ أمورا متعدّدة كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأحكام المجعولة في الشريعة لا تخلو من أحد الوجهين : إمّا أن تكون مقيّدة (4) بالزمان على وجه تختلف تلك الأحكام باختلاف الأزمنة كما في الموقّتات ، وإمّا أن لا تكون مقيّدة (5) بالزمان فهو إذن ظرف لها لا يختلف المظروف باختلافه ، وعلى التقديرين ممّا لا وجه للكلام المذكور.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ بعد تقضّي (6) الزمان والقيد لا معنى لاستصحاب الوجود ، فيجري فيه استصحاب العدم ، ولا يضرّه (7) وجوده في السابق بعد ما فرض تقييده بالزمان في استصحاب العدم بعد زوال القيد ؛ إذ وجوده في الوقت (8) السابق عين عدمه في الوقت اللاحق كما لا يخفى.

وأمّا على الثاني : فلأنّ بعد انقطاع العدم المطلق في الأزل بالوجود المطلق وخروج الماهيّة من الليس إلى الأيس ، فلا وجه لاستصحاب العدم في موضع الشكّ ويجري فيه استصحاب الوجود ؛ لأنّ العدم المطلق قد انقطع بوجود مطلق ، فلا تعارض في المقام ، ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون مبنى الأمر في الاستصحاب على التدقيق في موضوعه أو على التسامح ؛ إذ على التقديرين يتّجه الترديد المذكور.

ص: 244


1- « ز ، ك » : الوضع.
2- « ج ، م » : فلا مجال.
3- « ز ، ك » : فالتمسّك.
4- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : « يكون مقيّدا ».
5- « ج » : لا يكون مقيدا.
6- « م » : تفصّي ، وفي « ز » : تفضي ( ظ ).
7- « ج ، م » : ولا يضرّ.
8- « ز ، ك » : الظرف.

لا يقال : قد لا يكون جزم بأحد طرفي الترديد المذكور ، فيجري فيه الاستصحابان.

لأنّا نقول : لا خفاء في فساد هذا التوهّم (1) ؛ إذ لا يجري عنده إلاّ أحد الاستصحابين كما هو ظاهر.

وقد يتخيّل ابتناء (2) هذا الكلام على ما تخيّله بعض أهل المعقول من كون الوجود أمرا ممتدّا في تشخّصه على وجه لا يناط امتداده بالزمان كنفس الزمان والحركة وسائر المقادير كما لا يخفى.

وهو أيضا ممّا لا يكاد يتمّ ؛ إذ بعد فرض الامتداد في نفس الوجود فعند الشكّ في حصول حدّه لا وجه لاستصحاب العدم ، وعند الشكّ في وجوده بعد الوصول إلى الحدّ لا وجه لاستصحاب الوجود كما هو ظاهر.

فإن قلت : إنّا نختار جريان الاستصحاب الوجودي بجعل الزمان ظرفا ، ومع ذلك فلا يعقل جريان استصحاب الوجود ؛ لأنّ الممكن ليس مستغنيا عن المؤثّر في البقاء أيضا ، فوجوده (3) في الزمان الثاني لا بدّ له من مرجّح به ينسدّ جميع أنحاء عدمه ويتفاضل إحدى كفّتي ميزان وجوده وعدمه ، والأصل عدم المرجّح ، فيتعارضان ، فلا يحكم بوجود المستصحب في الزمان الثاني كما هو المقصود من الاستصحاب (4) في الأحكام الوجودية.

قلت أوّلا : لا معنى لمعارضة استصحاب الوجود (5) لاستصحاب عدم المرجّح ؛ إذ الشكّ في الوجود في الزمان الثاني ناش من الشكّ في وجود مرجّحه فيه ، فعلى فرض جريان الأصل في المرجّح لا يبقى للشكّ في وجود المعلول مجال كما لا يخفى ؛ إذ به

ص: 245


1- « ج ، م » : التوهّم هذا.
2- « ز ، ك » : استناد.
3- « ز » : وجوده « ك » : ووجوده.
4- « ز ، ك » : بالاستصحاب.
5- « ز ، ك » : - الوجود.

يرتفع ارتفاعا موضوعيا.

وثانيا : على تقدير المعارضة - كما توهّم - فنقول : إنّ استصحاب عدم المرجّح معارض باستصحاب وجوده ؛ إذ احتياج الممكن في البقاء إلى المؤثّر لا يقضي (1) بأن لا يكون المؤثّر هو المفيض الأوّل ، بل والتحقيق أنّه على تقدير وجود الممكن في الزمان الثاني لا بدّ وأن يكون هو المؤثّر الأوّل ؛ لانتفاء المعلول الأوّل بانتفاء علّته الأولى ، فعلى فرض وجوده ثانيا يباين الأوّل على هذه الملاحظة كما لا يخفى ، فالأصل بقاء مرجّحه في الزمان الأوّل ، فيتعارضان فيتساقطان (2) ويبقى استصحاب الوجود بلا معارض.

والقول بأنّ الثابت من وجود المرجّح هو الوجود في الزمان الأوّل فلا يجري فيه استصحاب الوجود ، رجوع إلى ما أبطلناه سابقا من عدم تقييد الوجود بالزمان.

وبالجملة فالمعترض إنّما انتقل من الاعتراض في المعلول إلى العلّة كما لا يخفى ، والجواب هو ما قدّمناه. على أنّه يمكن أن يقال : إنّ الفاضل المذكور إنّما تصدّع بالتفصيل المزبور في الأحكام الشرعية الجعلية ، وأمّا المرجّح لوجود الشيء والحكم وعلّة الجعل ليس منها ، فهو إذن كالموضوعات الخارجية التي يلتزم باستصحاب الوجود فيها.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما زعمه من إجراء الاستصحاب العدمي في القسمين الأوّلين - وهما ما شكّ في وجود المزيل أو إزالة الموجود - ليس على ما ينبغي فيما زعمه ؛ لأنّ المستفاد من كلامه أخيرا عدم تعارض الاستصحاب الوجودي للعدمي فيما إذا كان المستصحب موضوعا خارجيا كالرطوبة والحياة ونحوهما ، والوجه في ذلك أنّ الوجود في الموضوعات الخارجية ليس ممّا يختلف باختلاف الأزمنة ، فاستصحاب

ص: 246


1- « ج » : لا تقتضي.
2- « م » : ويتساقطان ، وفي « ج » : فيعارضان فيساقطان.

العدم ليس جاريا فيها ، فلا يعارض استصحاب الوجود. وقد قرّر وجه التعارض في القسمين بأنّ استصحاب الطهارة والملكية في الزمان الثاني معارض باستصحاب عدم جعل الشارع الطهارة في الزمان الثاني عند الشكّ في وجود الرافع أو الشكّ في رافعية الموجود ، فهل ترى يختلف جعل الشارع طهارة الشيء باختلاف حالات المكلّف من الشكّ في وجود الرافع؟ إذ من المعلوم عدم مدخلية ذلك في الجعل ، فالحال في القسمين كالحال في الموضوعات فإن أمكن القول بالتعارض فلا فرق بينهما ، وإلاّ فلا فرق أيضا.

وتوضيحه : أنّ قضيّة الشكّ في وجود الرافع أو رافعية الموجود هو بقاء المعلول في الزمان الثاني بحسب وجود المقتضي لذلك ، فمع قطع النظر عن الرافع وجود الشيء المرفوع بحسب اقتضاء مقتضيه من الجعل ونحوه في زمان وجود الرافع معلوم ، فلا يتعقّل اختلاف الجعل عند اختلاف حالة المكلّف ، فتدبّر.

وأمّا رابعا : فلأنّ قول أبي جعفر عليه أفضل السلام وأكمل الصلاة (1) في رواية زرارة : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » (2) حجّة عليه ، فإنّه عليه السلام إنّما راعى جهة استصحاب الوجود وهو استصحاب الطهارة السابقة لا استصحاب عدم الرافع.

فإن قيل : فلعلّه عليه السلام إنّما حكم بذلك من حيث إنّ اللازم لرفع الرافع وعدمه بالاستصحاب هو الوجود لا أنّه اعتبر استصحاب الوجود بنفسه كما هو المدّعى.

قلت : الوجدان (3) السليم حاكم بفساد التوهّم المذكور ، وتوضحه (4) ملاحظة ظاهر الرواية ، فإنّه علّله بوجود الطهارة اليقينية ، وإلاّ كان المتّجه تعليله بعدم العلم بالرافع وهذا ظاهر في الغاية.

فانقدح من جميع ما مرّ : أنّ ما أورده من تعارض الاستصحابين في الحكم الواحد

ص: 247


1- « ز ، ك » : عليه السلام.
2- تقدّم في ص 95.
3- « ز ، ك » : إنّ الوجدان.
4- « ج » : يوضحه.

ممّا لا يصغى إليه لادّائه إلى اجتماع النقيضين ووجود اليقين على طرفي الخلاف والتناقض كما هو ظاهر على من تدبّر ، ولعلّه (1) إنّما قاس الاستصحابين بغيرهما من الأمارتين فيما إذا تعارضتا في موضوع واحد كاليدين - مثلا - على ما يظهر من كلامه أوّلا ، وأنت خبير بظهور الفرق بينهما ؛ حيث إنّ موضوعهما لا يناط بحالة نفسانية ، بخلاف الاستصحاب فإنّ تحقّق موضوعه منوط بتحقّق اليقين والشكّ ، ولا يتصوّر اليقين بطرفي (2) النقيض. وانقدح (3) أيضا بأنّ ما فرّعه من دفع شبهة النبوّة المتقدّمة ممّا لا أصل له كما هو ظاهر لا سترة عليه.

ص: 248


1- « ز ، ك » : ولأنّه.
2- « ج ، م » : لطرفي.
3- « ز ، ك » : القدح.

هداية [ في الاستصحاب في الاعتقاديات ]

قد عرفت فيما قدّمنا (1) في الهداية المعقودة لتحرير محلّ الخلاف في الباب (2) عمومه للأقسام الخمسة من الأحكام الكلّية الفرعية ، والاعتقادية ، والأصولية ، والموضوعات المستنبطة منها الأحكام ، والموضوعات الخارجية المتعلّقة بها الأحكام ، وقد مرّ أيضا ما يستظهر منه جريان الاستصحاب واعتباره وعدمهما في الأقسام المذكورة ، إلاّ أنّه لا بأس بتجديد (3) المقال في توضيح الحال ، فنقول : أمّا الأحكام الكلّية الشرعية فقد عرفت (4) تحقيق الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، وأمّا الاعتقاديات فالمقصود من الاستصحاب فيها (5) إمّا إثبات نفس الاعتقاد ، وإمّا إثبات حكمه كوجوب الاعتقاد ، وإمّا إثبات المعتقد ، ولا وجه للكلّ.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب لا يعقل في الاعتقاد المعلوم انتفاؤه حال الشكّ إن أريد إثبات ذلك الاعتقاد الشخصي الموجود في السابق ، وإن أريد تحصيل الاعتقاد بالاستصحاب على وجه يكون المستند فيه هو الاستصحاب فغاية ما يتعسّف في المقام القول بإفادته الظنّ ، ويرجع النزاع إلى ما فرغنا عن البحث عنه في مباحث

ص: 249


1- « ز ، ك » : فيما مرّ منّا.
2- تقدّم في ص 35.
3- « ج ، م » : لتجديد.
4- عرفت في الهداية الأخبارية ص 183.
5- « م » : - فيها.

الظنّ من عدم اعتباره في الاعتقاديات.

وأمّا الثاني : فلأنّ بعد فرض انتفاء الموضوع لذلك الحكم لا معنى لاستصحاب الحكم. وتوضيحه أنّ الوجوب (1) المتعلّق (2) بالاعتقاد لا يعقل وجوده بعد انتفاء الاعتقاد إن أريد إثبات الحكم والوجوب بعد ارتفاع الاعتقاد ، وإن أريد به بعد وجود الاعتقاد فلا ثمرة فيه ؛ إذ بعد الاعتقاد بنبوّة نبيّ لا يترتب على الوجوب المتعلّق به حكم ، فإنّ المقصود في المطالب الاعتقادية هو نفس الاعتقاد من غير مدخلية شيء آخر والمفروض حصوله.

فإن قلت : يمكن استصحاب وجوب تحصيل الاعتقاد فيما لو دلّ الدليل عليه في السابق عند انتفاء الاعتقاد.

قلت : مع قيام الدليل على الاعتقاد كأن يكون هناك دليل مفيد له لا وجه للاستصحاب ؛ إذ المفروض حصول الاعتقاد بواسطة ذلك الدليل ، ومع عدمه يمكن الاستصحاب ، إلاّ أنّ المقدّر خلافه ؛ لوجود الدليل دائما على ذلك ، فتدبّر. كذا أفيد.

وأمّا الثالث : فلأنّ المعتقد من الموضوعات لا معنى لاستصحابه في موارد الشكّ بمعنى أنّه لا يكون ثابتا في مقام الظاهر ، نعم معنى استصحابه هو ترتيب الآثار المترتّبة عليه حال العلم ، وليس ذلك إلاّ الأحكام الفرعية كما لا يخفى.

وأمّا الأصولية العملية فجريان الاستصحاب فيها فتارة : من حيث التعبّد بواسطة دلالة الأخبار ، وأخرى : من حيث إفادته الظنّ وبناء العقلاء (3) ، فعلى الأوّل لا إشكال في جريان الاستصحاب واعتباره أيضا إلاّ أن يقال بعدم كفاية غير العلم فيها ، وعلى الثاني أيضا كذلك بناء على ما هو التحقيق من كفاية الظنّ في الأصول أيضا ، سيّما على تقدير كون الظنّ الحاصل منه ظنّا مخصوصا لقيام دليل على اعتباره كبناء العقلاء

ص: 250


1- في النسخ : وجوب.
2- « ز ، ك » : المعلّق.
3- « ز ، ك » : الاستصحاب فيها من حيث ... الأخبار تارة ، ومن حيث ... بناء العقلاء أخرى.

مثلا.

وأمّا الموضوعات المستنبطة فالاستصحابات المعمولة فيها ممّا لا ريب في صحّة مفادها بناء على اعتبارها من جهة الظنّ كما هو ظاهر ، وأمّا على تقدير الاستناد إلى الأخبار فاعتبارها مبنيّ على جواز التعويل على الأصول المثبتة وستعرفه بعيد ذلك.

وأمّا الموضوعات الخارجية الصرفة والأحكام الجزئية كحياة زيد والرطوبة واليبوسة والطهارة الخاصّة والزوجية الخاصّة ونحوها ، فجريان الاستصحاب واعتباره فيها ممّا لا كلام فيه كما مرّ (1).

ص: 251


1- مرّ في ص 178 وما بعدها ، انظر أيضا ص 49 وما بعدها.

ص: 252

هداية [ في الأصل المثبت ]

اشارة

[ في الأصل المثبت ] (1)

المستصحب إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعية فيمكن أن يكون مجعولا في مرحلة الظاهر ؛ لكونه من الأمور الجعلية ، بل لا معنى لاستصحابه إلاّ جعله في الظاهر كما عرفت فيما تقدّم في الهداية السبزوارية (2) ، وإمّا أن يكون موضوعا من الموضوعات التي لا يمكن جعلها في مقام الظاهر.

فعلى الأوّل : لا إشكال في ترتيب كلّ ما يترتّب على الحكم الواقعي عليه ؛ إذ هو بعد الجعل حكم واقعا فيترتّب (3) عليه جميع ما يتفرّع عليه من اللوازم الشرعية والعاديّة والعقلية ، اللّهمّ إلاّ أن يكون ذلك الحكم من خواصّ الأحكام الواقعية من حيث هي واقعية إلاّ أنّه لم نجده.

وعلى الثاني : فما يراد إثباته باستصحاب ذلك الموضوع إمّا أن يكون بواسطة ملازمة وحصول علقة بينه وبين المستصحب على وجه تكون القضيّة الدالّة على الملازمة بينهما لزومية ، أو لا يكون كذلك بل يكون مقارنا للمستصحب اتّفاقا من غير ارتباط بينهما ، فالقضيّة الدالّة عليها اتّفاقية كما إذا علمنا إجمالا إمّا بموت زيد أو بحياة عمرو ، فاستصحاب حياة عمرو يلازم وجود زيد ملازمة اتّفاقية في تلك القضيّة

ص: 253


1- العنوان من هامش « ك ».
2- انظر ص 180.
3- « م » : فرتّب.

الشخصية بواسطة العلم الإجمالي المردّد بينهما ، فعلى الأوّل فإمّا أن يكون المستصحب ملزوما لذلك الأمر ، أو لازما له ، أو كلاهما لازمين لملزوم ثالث ، وعلى التقادير إمّا أن تكون (1) الملازمة عقلية أو عاديّة أو شرعية ، فذلك (2) إذا عشرة بعد انضمام القسم الاتّفاقي إلى التسعة اللزومية.

وإذ قد تمهّد هذا فنقول : إنّ تحقيق الكلام في الأقسام المعهودة في مقامات :

[ المقام ] الأوّل

لا خفاء في عدم ترتّب الأمر المقارن الاتّفاقي على المستصحب بالاستصحاب ، سواء قلنا من حيث التعبّد بالأخبار ، أو باعتباره من حيث الظنّ ، أمّا على الأوّل فتوضيح المقصد يحتاج إلى بيان معنى الرواية ، فنقول : إنّ ارتباط النقض باليقين من عدم جواز نقضه بالشكّ كما هو المدلول عليه بالرواية ليس على ما هو الظاهر منه ؛ إذ بعد فرض الشكّ فالنقض حاصل قطعا فلا معنى للنهي عنه ، فصحّة الكلام عقلا موقوفة على تقدير ، وأقرب المجازات عند نفي ماهيّة أو إثباتها مع انتفائها أو وجودها حقيقة هو نفي الأحكام المترتّبة على تلك الماهيّة أو إثباتها ، كما في قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (3) وقوله : « الطواف بالبيت صلاة » (4) كما هو ظاهر ، فقوله : « لا تنقض » معناه - على مقتضى الدلالة الاقتضائية - لا تنقض أحكام اليقين ، كما في قوله : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (5) وليس المراد الأحكام المترتّبة على نفس اليقين موضوعا ؛ لانتفائها بانتفاء اليقين كما قرّرنا في محلّه من أنّ التنزيلات الشرعية ممّا لا يجدي فيما كان الموضوع فيه اليقين وذلك ظاهر ، بل المراد الأحكام المتفرّعة على المتيقّن من قبيل إضافة الشيء إلى

ص: 254


1- « ج ، م » : يكون.
2- « م » : فلك.
3- تقدّم في ص 165.
4- نهج الحق : 472 ؛ المستدرك 9 : 410 ، عن عوالى اللآلى 1 : 214 و 2 : 167.
5- يوسف : 82.

طريقه ، فلا مجاز في لفظ اليقين كما قد يتوهّم ، فمعنى الرواية هو النهي عن نقض أحكام المتيقّن نظير ما مرّ (1) في النبويّ الرافع للسهو والنسيان ، ولا ريب أنّ أحد المتقارنين في الوجود من غير أن يكون بينهما علقة وارتباط لا يعدّ في عداد الأحكام المترتّبة عليه والآثار المنتهية إليه ، فعلى هذا فلا مجال للقول بثبوت أحد المتقارنين وجودا وعدما عند استصحاب المقارن ؛ إذ ليس هو من أحكامه ، وأمّا الملازمة الاتّفاقية في القضيّة الشخصية المستندة إلى العلم الإجمالي فلا يجدي في كون أحدهما حكما للآخر ولا يجعله محمولا عليه.

نعم ، عند العلم بوجود أحدهما يلزم العلم بالآخر ، فإنّه من آثار العلم والكلام في الأحكام المتعلّقة بالمعلوم ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون أمرا عاديّا أو شرعيا أو عقليا ؛ إذ بعد فرض عدم الارتباط وعدم محمولية أحدهما على الآخر لا يعقل من ثبوت أحدهما بالاستصحاب ثبوت الآخر وإن كان الآخر حكما شرعيا.

ولو سلّم من ترتّب (2) أحدهما على الآخر بدعوى كونه من أحكامه فلا يثبت أيضا أحدهما باستصحاب الآخر ؛ إذ ذلك الآخر المقارن إمّا أن يكون الحالة السابقة فيه موافقة (3) للاستصحاب في المستصحب ، فلا حاجة إلى استصحابه (4) في إثباته لإمكان استصحابه أيضا ، كما إذا فرضنا ثبوت الواسطة بين العادل والفاسق وعلمنا إجمالا إمّا بعدالة زيد أو بفسقه فاستصحاب عدالة زيد لا يجدي في ترتّب فسقه ؛ لأنّه أيضا مستصحب في عرض هذا المستصحب إلاّ في أحكام قليلة الجدوى كما لا يخفى.

وإمّا أن يكون الحالة السابقة مخالفة للحالة المفروضة في المستصحب ، كما إذا فرضنا حصول العلم الإجمالي على الانفصال الحقيقي بين وجود زيد وبين وجود عمرو ، فإن كان وجود زيد وعمرو كلاهما معلومين (5) سابقا فاستصحاب وجود زيد لا يمكن به (6)

ص: 255


1- مرّ في ج 3 ، ص 356.
2- « ج ، م » : ترتيب.
3- « ج ، م » : موافقا.
4- « ج » : استصحاب.
5- « ج » : معلومان.
6- « ج ، م » : - به.

إثبات عدم عمرو ؛ لجواز استصحاب وجود عمرو فيثبت (1) به عدم زيد ، وإن كان أحدهما معلوم الوجود والآخر معلوم العدم كان من القسم الأوّل.

ومن هنا انقدح أنّ مدار الاستصحاب لو كان على الظنّ أيضا لا وجه لإثبات أحد المتقارنين بالاستصحاب ؛ إذ المفروض كونهما مسبوقين بالحالة السابقة ، فلا يحصل الظنّ بأحد الطرفين ، وتعلّقه بهما أيضا مستحيل ، فيتساقطان (2).

نعم ، لو فرض في مورد حصول العلم بالحالة السابقة في أحدهما ولم يعلم بها في الآخر جاز التمسّك بالاستصحاب في إثبات الآخر على الظنّ مطلقا ، وعلى الأخبار بعد التنزّل على ما عرفت ، ولكن لا بدّ من ملاحظة اعتبار الظنّ في الأمر الآخر وعدمه ، فاللازم الاتّفاقي قد لا يكون ممّا يكتفى فيه بالظنّ مطلقا أو الظنّ النوعي مثلا.

وبالجملة : ففي الفرض المذكور الظنّ بأحدهما يلازم الظنّ بالآخر ، وأمّا اعتبار الظنّ في الآخر وعدم اعتباره فأمر (3) خارج عمّا نحن بصدده ولا بدّ من مراعاته كما في نفس المستصحب على ما لا يخفى.

المقام الثاني

لا خفاء في عدم ترتيب الملزوم على اللازم عند استصحابه ، وفي عدم ترتيب أحد المتشاركين في اللزوم على استصحاب الآخر ، سواء كانا عقليين أو عاديّين أو شرعيين بناء على اعتبار الاستصحاب من حيث التعبّد بالأخبار.

بيان ذلك : أنّك قد عرفت في المقام الأوّل أنّ معنى الرواية الدالّة على الاستصحاب هو عدم جواز نقض الأحكام التي يكون اليقين طريقا إليها ومرآة لها ، وأحكام الشيء عبارة عن الأمور المحمولة على ذلك الشيء والآثار المتفرّعة عليه والعنوانات المنتهية

ص: 256


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : فثبت.
2- « ج » : فتساقطان ، « ز » : فساقطان.
3- « ج ، م » : أمر.

إليه والأشياء النائبة (1) منه ، وليس الملزوم (2) عقليا كان أو شرعيا أو عاديّا ، ولا المشارك في اللزوم بأقسامه ممّا يتفرّع على اللازم أو الملازم (3) كما هو ظاهر ، فباستصحاب اللازم أيّ لازم كان لا يترتّب الملزوم أيّ ملزوم كان ؛ لعدم ترتّبه عليه ، وإنّما الأمر فيه بالعكس كما لا يخفى ، وكذا باستصحاب أحد المتلازمين لا يترتّب المتلازم (4) الآخر ، لعدم كونه من أحكامه وآثاره ، شرعيا كان أو عاديّا أو عقليا.

لا يقال : إنّ الملزوم الشرعي أو الملازم الشرعي إنّما هو من آثار اللازم الشرعي والملازم الشرعي (5).

لأنّا نقول : هذا وهم باطل ؛ إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون اللزوم شرعيا أو عقليا ، فلو جاز أن يكون اللازم (6) الشرعي حكما جاز أن يكون الملزوم العقلي أيضا حكما كما هو ظاهر (7).

وأمّا بناء على الظنّ فلا شكّ في أنّ الظنّ بالمعلول واللازم يلازم الظنّ بالعلّة والملزوم ، كما أنّ الظنّ بأحد المعلولين يوجب (8) الظنّ بالمعلول الآخر المشارك له في المعلولية ؛ لأنّ الظنّ به كما عرفت يوجب الظنّ بالعلّة ، والظنّ بالعلّة يوجب الظنّ بتمام معلولاته كما هو ظاهر.

إلاّ أنّه لا بدّ (9) أن يعلم أنّ ما ذكرنا من إثبات الملزوم باستصحاب اللازم عند حصول الظنّ به إنّما هو فيما كان الظنّ كافيا في إثباته على وجه يكون كالمستصحب ؛ إذ الظنّ الحاصل من الاستصحاب لا يختلف بالنسبة إلى اللازم والملزوم ، فإن كان

ص: 257


1- « م » : نائية.
2- خبر ل- « ليس » ، واسمها ضمير عائد إلى « الأحكام » وقوله : المشارك معطوف على الملزوم.
3- « ز ، ك » : الملزوم.
4- « ج ، م » : الملازم.
5- « ج » : - والملازم الشرعي.
6- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : اللزوم.
7- « ز ، ك » : حكما وهذا ظاهر.
8- « ج » : لا يوجب.
9- « ز ، ك » : - لا بدّ.

شخصيا ففيهما ، وإن كان نوعيا فكذلك. بل التحقيق أنّ الظنّ باللازم بعينه هو الظنّ بالملزوم كما لا يخفى ، فربّما لا يكون الملزوم ممّا يكفي (1) فيه مطلق الظنّ أو الظنّ النوعي على ما عرفت في المقارن ، وهكذا الكلام في استصحاب أحد الملازمين (2) لإثبات الملازم الآخر ، إلاّ أنّ بينهما فرقا آخر من جهة أخرى وهو أنّ استصحاب الملازم قد لا يفيد الظنّ بوجود الملازم الآخر لجريان أصل آخر في طرف ذلك الآخر إمّا موافقا لاستصحاب المستصحب المفروض فلا حاجة إليه ، وإمّا مخالفا فيتعارضان.

لا يقال : يمتنع أن يكون في جانب اللازم الآخر أصل يعارض الأصل في المستصحب ؛ إذ المفروض أنّ العلم بأحد الملازمين (3) يوجب العلم بالآخر ، فكلّما فرض أحدهما موجودا وعلمنا بوجوده علمنا بوجود الآخر ، فهو أيضا مستصحب مثل استصحاب الآخر ، فدائما يكون الاستصحاب فيهما موافقا.

لأنّا نقول : إنّ وجود أحد الملازمين والعلم به إنّما يلازم وجود الآخر والعلم به فيما كانت علّة الموجود المعلوم المفروض علّة تامّة للآخر ، وأمّا إذا كانت من جملة أجزاء علّتها كأن تكون (4) مقتضية له فيتوقّف حصول العلم على العلم بعدم المانع ، فقد لا يكون المانع معلوما فيصير الملازم الآخر مشكوكا مع العلم بوجود الملازم الآخر ، فالأصل حينئذ عدمه ، فلا يحصل الظنّ بوجوده عند جريان الاستصحاب في أحدهما ، وما ذكر لا يجري في الظنّ لإمكان تحصيل الظنّ بأنّ علّة أحدهما علّة تامّة للآخر فيحصل الظنّ ، وذلك بخلاف استصحاب اللازم لإثبات الملزوم ؛ إذ كلّما فرض وجود اللازم والمعلول فيلازمه وجود الملزوم والعلّة ، فيصير الملزوم أيضا من موارد الأصل ومجرى للاستصحاب الموافق لاستصحاب اللازم ، إلاّ أنّه مع جريان الأصل في الملزوم وحصول الظنّ به (5) لا حاجة إلى جريان الأصل في اللازم ؛ لأنّ الظنّ بالملزوم هو

ص: 258


1- « ز ، ك » : ممّا لا يكفي.
2- « ك » : المتلازمين.
3- « ك » : المتلازمين.
4- في النسخ : يكون.
5- « ج ، م » : بالملزوم.

بعينه (1) الظنّ باللازم ، فليس مورد الشكّ ، ولا يعقل تعلّق الظنّ بخلافه لو كان مجرى لأصل مخالف للأصل في الملزوم ، مثلا إذا فرضنا ماء مستصحب الطهارة وثوبا نجسا فغسلنا ذلك الثوب بذلك الماء ، فإنّ الظنّ بطهارة الماء يوجب الظنّ بطهارة الثوب لا محالة ، ولا يعقل جريان استصحاب (2) النجاسة في الثوب ولا تعلّق الظنّ بنجاسته ، ولا حاجة إلى استصحاب طهارة الثوب فيما لو كانت (3) الحالة السابقة فيه هي الطهارة أيضا (4). أمّا الأخير فظاهر و (5) أمّا الأوّل فلأنّ الظنّ بالعلّة يوجب الظنّ بالمعلول ولا سبيل إلى القول بالعكس كأن يقال : إنّ الظنّ بنجاسة الثوب يلازم الظنّ بنجاسة الماء ؛ إذ ليس الكلام في الظنّ الحاصل من أيّ سبب كان من الأسباب الخارجية ، بل الكلام في الظنّ الحاصل من جهة الحالة السابقة والمفروض وجود الحالة السابقة فيهما ، والمفروض تقدّم العلّة على المعلول طبعا ، فيحصل الظنّ بوجود العلّة ويتبعه (6) الظنّ بوجود المعلول ، وحيث إنّه يمتنع قيام الظنّ على طرفي الخلاف فتصير (7) النجاسة في اللازم موهومة والطهارة مظنونة ، والوجدان حاكم صدق وشاهد عدل في المقام ، فظهر أنّ تقدّم الأصل السببي المزيل على الأصل المسبّبي المزال على تقدير الظنّ ، وحجّية الاستصحاب من جهة بناء العقلاء من أوضح الواضحات وأجلى (8) الضروريات كما هو ظاهر.

المقام الثالث

قد عرفت في المقامين الأوّلين عدم إثبات المقارن الاتّفاقي باستصحاب المقارن الآخر ، والملزوم بأقسامه باستصحاب اللازم ، وأحد الملازمين باستصحاب الآخر

ص: 259


1- « ج ، م » : + هو.
2- « ج ، م » : الاستصحاب.
3- « ج ، م » : كان.
4- « ز ، ك » : فيه أيضا هي الطهارة.
5- « ج » : - « و ». وشطب عليها في « م ».
6- « م » : وبتبعيته.
7- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : فيصير.
8- « م » أعلى.

بأقسامه ، فهذه سبعة من الأقسام المعهودة ، وأمّا الثلاثة الأخيرة وهي ما كان المترتّب على المستصحب لازما له شرعيا أو عاديّا أو عقليا.

فتحقيق الكلام فيه أن يقال : لا خفاء في أنّه (1) ليس الكلام في ترتّب اللوازم المصاحبة للملزوم حال العلم به ؛ لأنّها حينئذ مسبوقة بالحالة السابقة مثل الملزوم فيستصحب كالملزوم ، فلا حاجة إلى استصحابه في إثباتها كما هو الظاهر ، بل الكلام في اللوازم المتجدّدة و (2) الحادثة بعد العلم بوجود الملزوم ، كما (3) في المثال المفروض في المقام الثاني من أنّ لازم طهارة الماء طهارة الثوب وليس طهارة الثوب من الآثار المترتّبة على طهارة الماء حال العلم بطهارته ، كيف ولو كان كذلك فكيف يعقل التعارض كما فرضنا في المثال المذكور؟ وذلك ظاهر في الغاية.

فعلى هذا نقول (4) : لا ينبغي الارتياب في عدم ثبوت اللازم العقلي أو العاديّ على المستصحب على تقدير الاعتماد على الأخبار (5) ؛ لما قد عرفت أنّ مقتضى الرواية على حسب الدلالة الاقتضائية عدم جواز نقض الأحكام (6) المترتّبة على المتيقّن عند الشكّ ، فالمعنى لا بدّ من تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن وأن تعاملونه (7) معاملة المعلوم بترتيب آثاره عليه وإلحاق أحكامه له ، ولا ريب أنّ حكم الشارع بترتيب آثار المعلوم على المشكوك إنّما هو جعله لتلك الأحكام في موضوع الشكّ ، كما أنّ حكمه بترتيبها على المعلوم إنّما هو جعله لها فيه ممّا يمكن أن يكون مجعولا للشارع من حيث هو شارع في مقام التكليف وإن لم يكن خارجا عن مقدوره في مقام التكوين [ و ] يمكن أن يكون مترتّبا على المستصحب في مقام الشكّ ، فكما أنّ نفس الموضوع الخارجي لم يكن قابلا للجعل في المقام ولذلك التجأنا إلى تقدير الأحكام على سبيل المجاز في

ص: 260


1- « ج ، م » : أن.
2- « ز ، ك » : - و.
3- « ز ، ك » : كما هو.
4- « ز ، ك » : وعلى هذا فنقول.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : بالأخبار.
6- « ج » : أحكام.
7- « ج » : تعاملوا.

الحذف (1) ، فكذلك لا سبيل إلى حكم الشارع بثبوت (2) اللازم العاديّ أو العقلي فإنّهما كنفس المستصحب ليسا قابلين (3) للجعل والبقاء في مرحلة الظاهر ، فإنّ ما للشارع في مقام التكليف رفعه له أن يضعه ويحكم به ، وكيف يمكن إبقاء الرطوبة أو الحرارة اللازمة للماء والنار كما هو ظاهر؟ فالمراد بتلك الأحكام لا بدّ وأن يكون هي الأحكام الشرعية كما في جميع التنزيلات الشرعية كما في قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (4) فإنّه ليس جعلا لما يترتّب على الصلاة من لوازمها العاديّة كهضم غذاء المصلّي - مثلا - ولا يمكن أن يكون مجعولا ، وكذا في تنزيل العمل (5) المشكوك منزلة الصحيح وتنزيل التراب منزلة الماء ، فإنّه لمّا استحال كون المشكوك معلوم الصحّة حكمنا بأنّ المراد أحكام الصحّة من الإجزاء و (6) إسقاط القضاء ونحو ذلك من الأمور الشرعية المتفرّعة على صحّة العمل في العبادات إذا كان عبادة أو في المعاملات إذا كان منها ، ولعمري لا ينبغي الارتياب في ذلك لمن مارس التنزيلات الشرعية.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب لا يثمر في ترتيب (7) شيء من الأقسام العشرة إلاّ قسم واحد وهي الأحكام الشرعية للمستصحب ولوازمها الجعلية ، وما ليس له لازم جعلي ولا يكون من الأمور الجعلية ليس محلاّ للاستصحاب كما لا يخفى.

وهل يثمر في إثبات الأحكام الشرعية المترتّبة على تلك اللوازم العقلية والعاديّة التي قلنا بعدم ترتّبها على المستصحب أو لا؟ التحقيق عدم ترتّبها على المستصحب ؛ لأنّ تلك الآثار الشرعية التي موضوعها تلك الأحكام إن أريد إثباتها لا في موضوع فغير سديد ، ضرورة عدم تقوّم العرض بلا جوهر ومن غير أن يكون حالاّ في منعوت ، إذ لا ريب في أنّ قوام وجود تلك الآثار المحمولة على تلك اللوازم بها. وإن

ص: 261


1- « ز ، ك » : المجاز والحذف.
2- « ز ، م » : ثبوت.
3- « ز ، ك » : بقابلين.
4- تقدّم في ص 254.
5- « ج ، م » : عمل.
6- « ج ، م » : أو.
7- « ز ، ك » : ترتّب.

أريد إثباتها في موضوعاتها فكذلك ؛ لأنّ المفروض عدم وجودها في مرحلة الظاهر ، إذ لا تقبل (1) الظاهرية ، فإنّها أمور واقعية صرفة لا يكاد يشوبها الظاهرية. وإن أريد إثباتها في موضوع هو المستصحب فإن أريد إثباتها له من غير أن تكون (2) مجعولة لذلك الموضوع ، ففساده أجلى من أن يخفى على أحد ؛ لكونها أجنبية بالنسبة إلى المستصحب ، إذ ليست (3) ممّا يتفرّع عليه ، وإن أريد إثباتها له بدعوى جعلها له فعهدتها على مدّعيها ؛ إذ لا يزيد مفاد تلك الروايات على أنّ الأحكام المتفرّعة على المتيقّن والآثار المنتزعة عنه لا يجوز نقضها بالشكّ ، ولا ريب أنّ تلك الآثار ليست (4) ممّا يتفرّع على المستصحب بوجه.

نعم ، لو كان المستصحب موجودا واقعيا كان له لازم عقلي أو عاديّ يترتّب عليهما (5) تلك الآثار ، فارتباطها بالمستصحب إنّما هو بواسطة تلك اللوازم العقلية ، ولمّا كان المفروض عدم ترتّب تلك الواسطة فقد انقطع الارتباط بين المستصحب وبين تلك الآثار فلا تعدّ (6) في عداد محمولاته وأحكامه ، فلا دلالة في الروايات على ترتّبها على المستصحب كما هو ظاهر.

نعم ، لو كان الموضوع لتلك الأحكام موجودا في مرحلة الظاهر بمعنى أن يكون مستصحبا كان لترتيب آثاره عليه بالاستصحاب وجه وقد عرفت أنّ الكلام ليس في الآثار المقارنة للمستصحب حال العلم به.

لا يقال : كما أنّ آثار نفس الموضوع والمستصحب مجعولة للشارع كما هو المعقول من استصحاب الموضوع ، فكذلك لمّا كان الموضوع لتلك الآثار غير معقول البقاء بالاستصحاب حكمنا بمجعولية آثاره الشرعية.

ص: 262


1- « ج ، م » : لا يقبل.
2- « ج ، م » : يكون.
3- في النسخ : ليس.
4- في النسخ : ليس.
5- « ج ، ك » : عليها.
6- في النسخ : يعدّ.

لأنّا نقول : قد عرفت صحّة ذلك فيما كان المستصحب هو نفس تلك الأحكام العاديّة أو العقلية ، وأمّا مجعولية تلك الأحكام بعد استصحاب موضوع تلك الأحكام لا يعقل إلاّ أن يكون تنزيلا في تنزيل بمعنى أنّ الشارع لمّا حكم بوجود النار في الخارج عند الشكّ فقد حكم بوجود الحرارة أيضا ، ولمّا كانت (1) النار غير موجودة حقيقة فتكلّفنا في تصحيحه بجعل أحكامها ، وكذلك نقول بمثل ذلك في الحرارة ، ومن المعلوم الواضح عدم مساعدة تلك الأخبار على ذلك ، فإنّها لا تقبل (2) إلاّ تنزيلا واحدا.

فإن قلت : إنّ المراد بالأحكام هي التي يصير المستصحب منشأ لوجودها وتنتهي (3) إليه ولا شكّ أنّ الأثر المترتّب على الأثر المترتّب (4) على المستصحب مترتّب عليه ، فلا بدّ من ترتيبه (5) عليه كما في الآثار المترتّبة على الآثار الشرعية.

قلت : قد عرفت عدم ترتّبها على المستصحب إلاّ بعد وجود موضوعها والمفروض عدمه ، وأمّا الآثار الشرعية المترتّبة على الآثار الشرعية فالوجه فيها ما عرفت في أوّل الهداية من أنّ الحكم الشرعي ولو كان ظاهريا بعد الجعل مترتّب عليه تمام ما يترتّب عليه واقعا إلاّ فيما لم نجده من خواصّ الأحكام الواقعية من حيث هي واقعية ، ولو سلّمنا كون تلك الآثار آثارا للمستصحب فلا يمكن إثباتها له (6) أيضا بالاستصحاب ؛ لأنّ الأصل عدم تلك الأحكام التي يترتب تلك الآثار عليها ، فاستصحاب الموضوع يقتضي بقاءها ، واستصحاب موضوعاتها يقتضي عدمها ، ولو لم نقل بأنّ انعدامها بواسطة انعدام موضوعاتها المعلوم بالأصل الاستصحابي أولى من وجودها بوجود الموضوع ، فلا أقلّ من التساوي (7) ، فيتساقطان.

ص: 263


1- المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : كان.
2- « ج ، م » : لا يقبل.
3- « م » : تنهى.
4- « ز ، ك » : - على الأثر المترتّب.
5- « ز ، ك » : ترتّبه.
6- « م » : إثباته لها.
7- « ز ، ك » : التنافي.

فإن قلت : إنّ استصحاب الموضوع مزيل بالنسبة إلى استصحاب عدم تلك الأحكام الموضوعة لتلك الآثار ، فمع فرض جريان الأصل المزيل لا يبقى الشكّ في وجود الآثار المتفرّعة عليه ، فيصير مشمولا للرواية.

قلت : قد تحقّق في موضعه على ما ستعرف (1) - إن شاء اللّه (2) - أنّ وجه التقدّم في الاستصحاب السببي على الأصل السّببي ارتفاع شكّ المسبّب بعد استصحاب السبب ، وفيما نحن فيه لا يرتفع الشكّ ؛ إذ المفروض عدم ترتّب الموضوعات العاديّة والعقلية على المستصحب وما لم يكن وجودها محرزا في مرحلة الظاهر لا يرتفع الشكّ (3) في وجود آثارها كما هو ظاهر وسيجيء لذلك زيادة توضيح في الخاتمة (4).

فإن قلت : لا شكّ في ترتيب الآثار العقلية والعاديّة وما يترتّب عليهما من الأحكام الشرعية على الأدلّة التعبّدية الاجتهادية كالبيّنة والخبر الواحد ، فلو أخبر العدل بوجود زيد في زمان يقتضي (5) بياض (6) شيبته ، فيحكمون بالبياض ويترتّبون عليه ما يترتّب عليه من الآداب اللاحقة له من احترامه ونحوه ، ومجرّد كونها اجتهادية غير مجد ؛ إذ المفروض عدم اعتبارها في نفسها ، بل إنّما تعبّدنا الشارع بالعمل بها فتصير (7) من التنزيلات الشرعية ، وعلى ما قرّرت من أنّها لا تزيد (8) على الأحكام الشرعية في مقام ترتيب الآثار فلا بدّ إمّا من عدم الالتزام بها في الأدلّة الاجتهادية والواقع خلافه ، وإمّا من الأخذ بتمام الأحكام المترتّبة على المستصحب وهو المطلوب.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين ، وتحقيقه : أنّ الأدلّة التعبّدية على قسمين : فإنّ منها ما

ص: 264


1- « ز ، ك » : ستعرفه. انظر ص 493 وما بعدها.
2- « م » : اللّه العزيز.
3- من قوله : « إذ المفروض » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».
4- انظر ص 380 وما بعدها.
5- « م » : يقضي.
6- « ج ، م » : ببياض.
7- في النسخ : فيصير.
8- « ج ، م » : لا يزيد.

له مدلول كالبيّنة والخبر ، ومنها ما ليس له مدلول (1) كالبراءة في مواردها وأصالة الصحّة في محالّها والاستصحاب في مجاريها.

فالدليل الدالّ على اعتبار القسم الأوّل يدلّ على أنّ مدلول قول العادل في الوقائع التي أخبر عنها لا بدّ من الأخذ بها وتصديقه فيها ، وكذا مدلول قول الشاهد العدل واقع ، فهذه الأدلّة طرق إلى الواقع ، ولمّا لم تكن (2) قطعية من حيث احتمال التخلّف عنها في نظر المكلّف لم تكن حجّة بنفسها ، فاحتاجت (3) إلى بيان اعتبارها دفعا لهذا الاحتمال بوجه لم يكن مضرّا في الاستدلال بها والاعتماد عليها ، ولا شكّ (4) أنّ قول العادل له مدلول مطابقي ومدلول تضمّني والتزامي ، فمعنى اعتباره اعتبار تمام ما يستفاد منه على ما هو المتعارف في الاستفادة عند العرف والعادة ، فالمخبر بوجود زيد مخبر ببياض شيبته أيضا ، وما يترتّب على المدلول المطابقي من الآثار إنّما هو بواسطة الإخبار به وهو بعينه موجود في المدلول الالتزامي ، فيترتّب عليه أيضا آثاره من غير تفاوت بين المدلولين لاستوائهما في المأخذ.

وذلك بخلاف الأدلّة التي ليس لها مدلول كالاستصحاب وأصالة الصحّة ، فإنّ الدليل الدالّ على اعتبارها إنّما يدلّ على أنّ (5) الموارد التي كانت مسبوقة بالحالة السابقة عند الشكّ ، أو الموارد التي شكّ في صحّتها مع احتمالها ، لا بدّ من الأخذ بالحالة السابقة والحمل على الصحّة ، وليس للصحّة مدلول ولا للإبقاء مدلول مثل ما كان في الخبر والبيّنة ، فليس لمواردها مدلول مطابقي ولا التزامي ؛ إذ ليس لفظا ولا حالة إدراكية كالظنّ مثلا ، فإنّه وإن لم يكن لفظا إلاّ أنّه يلازم الظنّ باللازم كالعلم على ما هو غير خفيّ.

ص: 265


1- « ز ، ك » : ليس مدلول له.
2- في النسخ : لم يكن. وكذا في المورد الآتي.
3- « ز ، ك » : واحتاجت.
4- « م » : فلا شكّ.
5- « م » : - أنّ.

وبالجملة : فالأدلّة الاجتهادية لها مداليل كاشفة عن الواقع ، والظنّ هو الواقع الظنّي ، والتعبّد بهما إنّما هو من حيث احتمال الخلاف وذلك لا ينافي الكشف ، وترتيب (1) الأحكام العقلية عليها إنّما هو من حيث الكشف لا من حيث التعبّد ولهذا لو قلنا بالاستصحاب من حيث الظنّ وبناء العقلاء ، فلا ريب في ترتيب الآثار الواقعية من العقلية والعاديّة وما يترتّب عليهما من الأحكام ، شرعية كانت أو عقلية أو عاديّة وذلك ظاهر.

فإن قلت : لا ريب في صحّة الاستدلال بالأصول العملية في مباحث الألفاظ كأصالة عدم النقل وأصالة عدم القرينة والاشتراك ونحوها مع أنّ الآثار المطلوبة منها ليست ممّا يترتّب على نفس العدم المستصحب في تلك الموارد ، بل إنّما هي مترتّبة عليها بتوسّط أمر عاديّ أو عقلي ، مثلا أصالة عدم القرينة قاضية بعدم إرادة المجاز من اللفظ في الاستعمال المشكوك بواسطة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة والمطلوب في استصحاب عدم القرينة إثبات استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي على ما هو مقتضى أصالة الحقيقة ، ومن الظاهر الجلي ، عدم ترتّب المطلوب هذا على عدم القرينة ، بل لا بدّ من ضمّ مقدّمة عقلية أو عاديّة من أنّ العادة تقضي (2) بأنّ بعد عدم إرادة المجاز لا بدّ من إرادة الحقيقة لئلاّ يلغو الاستعمال ، وكذا الكلام في أصالة عدم الاشتراك وعدم النقل كما لا يخفى.

قلت : إن أريد أنّ الأصول اللفظية معمولة في مواردها بواسطة الاستصحاب استنادا فيه إلى الأخبار ، فلا نسلّم كونها من باب الاستصحاب أوّلا ؛ إذ لعلّه من باب الأصول العدمية التي يكفي في ترتيب آثارها مجرّد الشكّ من غير ملاحظة الحالة السابقة ولا نسلّم اعتبارها حينئذ.

ص: 266


1- « ز ، ك » : ترتّب.
2- « ج » : تقتضي.

وإن أريد أنّ (1) الأصول العدمية اللفظية معتبرة معمولة في مواردها بواسطة بناء العقلاء وحصول الظنّ بالاستصحاب ، فلا ضير فيه ؛ إذ قد عرفت أنّ الاستصحاب لو كان من حيث الظنّ وبناء العقلاء يترتّب عليه الآثار العقلية والعادية وما يترتّب عليهما كائنا ما كان ، بل التحقيق أن ليس العمل بها فيها إلاّ بمجرّد بناء العقلاء ، ولذلك كان من الأمور المتّفق عليها كما مرّ ، وليس عمل العقلاء بها إلاّ بواسطة تلك الآثار ، فهي المطلوبة في تلك الاستصحابات على وجه يتخيّل في بادئ الرأي أنّها بأنفسها مجاز لتلك الأصول كما هو ظاهر.

هذا هو الكلام في المسألة الأصولية على ما هو قضيّة التحقيق ، إلاّ أنّ موارد تلك الأصول - التي يترتّب على المستصحب فيها الآثار الشرعية بتوسّط أمر عاديّ أو عقلي ، فليسمّ بالأصول المثبتة كما اصطلح عليها (2) شيخ المتأخّرين كاشف الغطاء في الفقه (3) - في غاية الاختلاف ، فربّما لا يعتنون (4) بتلك الأصول ، كما لو فرضنا وجود النار على جسم قابل للانفعال منها ، ثمّ شككنا فيها ، فإنّه لا يذهب وهم إلى ترتّب الآثار الشرعية المترتّبة على وجود النار (5) بواسطة لوازمها العاديّة ، كالإحراق مثلا ، فباستصحاب وجود النار لا يحكمون بضمان من كان سببا لإلقاء (6) النار على ذلك الجسم ، وكذا لو أنّ شخصا رمى غيره بسهم وكان على وجه لو لم يمنعه مانع من الوصول إليه لكان مهلكا له ، فبأصالة عدم المانع لا يترتّب ضمان الرامي ؛ إذ ليس الضمان في المثالين من لوازم وجود النار وعدم المانع ، بل إنّما يترتّب عليهما بواسطة أمر عاديّ هو الإحراق عادة في النار ، والهلاك عادة في السهم ، وذلك ظاهر. وكذا تراهم

ص: 267


1- « م » : بأنّ ، وفي « ج » : إمكان!
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : عليه.
3- كشف الغطاء 2 : 102 وفي ط الحجري : 102 في المقام العاشر.
4- « ج ، م » : لا يفتنون.
5- من قوله : « على جسم » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».
6- « ج » : لإبقاء.

لا يحكمون بوصول الماء إلى البشرة - فيما لو شكّ في إصابة الماء بها لاحتمال مانع كالجورب (1) أو شيء آخر منفصل عن البشرة من أقسام اللباس - باستصحاب عدم المانع ؛ إذ ليس صحّة الغسل - مثلا - في المثال المذكور مترتّبا (2) على عدم المانع بلا واسطة ، بل بواسطة الوصول الذي هو (3) لازم عاديّ لعدم المانع كما لا يخفى. وكذا لو أنّ موكّلا وكّل شخصا في عقد بيع أو نكاح أو في طلاق زوجته على وجه لو لم يمنعه مانع عن إيقاع العقد أو الطلاق لكان قد أوقعه قطعا ، فإنّ بأصالة عدم المانع لا يرتّبون (4) آثار الملك على المبيع المفروض من جواز التصرّف فيه بنقله إلى الغير أو الوصيّة به لوارثه ، ولا يحكمون بتوارث ورثته فيه ، ولا أحكام الزوجية من جواز الوطي ووجوب النفقة والتوارث ونحوها ، ولا أحكام الأجنبية ؛ إذ ليس تلك الأحكام مترتّبة على نفس العدم المستصحب في عدم المانع ، بل بواسطة مقدّمة عاديّة وهو وقوع العقد البيعي أو النكاحي أو وقوع الطلاق عادة عند عدم المانع ، وتلك الآثار أحكام لتلك المقدّمة العاديّة. وكذا لو كان هناك كرّ من الماء موجودا ، ثمّ شكّ في وجوده وعدمه من أصل ، فباستصحاب بقاء ذلك الكرّ لا يحكمون بطهارة شيء لاقاه لو كان موجودا.

فإنّ الحكم في الأمثلة المفروضة كلّها عدم تلك الأحكام استصحابا له كما لا يخفى.

وربّما يظهر من جملة من موارد المسائل الفرعية (5) الفقهية استناد جملة منهم فيها إلى تلك الأصول.

فمنها : ما لو شكّ في مانعية وسخ قليل عن وصول الماء إلى البشرة في مواضع الوضوء أو الغسل ، فإنّهم يترتّبون (6) على أصالة عدم المانعية صحّة الوضوء والغسل مع أنّه لا فرق بينه وبين ما عرفت من مثال الجورب ، ولعلّ كاشف الغطاء قد اعتبر

ص: 268


1- « ز ، ك » : الجوراب.
2- « ز ، ك » : مترتّبة.
3- « ج ، م » : - هو.
4- « ج ، م » : لا يترتّبون.
5- « ج ، م » : - الفرعية.
6- كذا. ولعلّ الصواب « يرتّبون ».

الظنّ بالوصول في المثال المفروض تفصّيا عن مثل ذلك كما لا يخفى.

ومنها : ما أفاده الشيخ وابن حمزة في الوسيلة والعلاّمة والمحقّق والشهيدان والمحقّق الثاني (1) في جملة من موارد التداعي فيما تمسّكوا بأصالة تأخّر الحادث.

قال المحقّق في الشرائع - على ما هو المحكي عنه (2) - : لو مات المسلم عن ذميين (3) فتصادقا على تقديم (4) إسلام أحدهما على موت الأب وادّعى آخر مثله فأنكر أخوه ، فالقول قول المتّفق على تقديم إسلامه مع يمينه ، وذلك إذا ادّعى عليه العلم وأنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه ، وكذا لو كانا مملوكين فأعتقا واتّفقا على تقديم حرّية أحدهما واختلفا في الآخر ، ثمّ قال : الثانية لو اتّفقا على أنّ أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرّة رمضان ، ثمّ قال المتقدّم : مات الأب قبل هلال رمضان ، وقال المتأخّر : مات بعد دخول شهر رمضان ، كان الأصل بقاء الحياة ، والتركة بينهما نصفين (5) ، انتهت عبارته قدّس اللّه نفسه الزكية (6).

وملخّص ما يستفاد منه أنّ الصور ثلاثة : فتارة : لا يعلم تقدّم الإسلام على الموت مع الجهل بتاريخهما ، وأخرى : مع العلم بتاريخ الموت والجهل بتاريخ الإسلام ، ومرّة : العكس (7) بأن يعلم تاريخ الإسلام والجهل بتاريخ الموت.

ص: 269


1- المبسوط 8 : 273 ، فيه : لأنّ الأصل الحياة حتّى يعلم زوالها ؛ الوسيلة : 225 ، فيه : كان القول قول من ادّعى التأخير إذا لم تكن بيّنة على التقديم ؛ قواعد الأحكام 3 : 480 وفي ط الحجري 2 : 200 ، فيه : لأنّ الأصل بقاء الحياة ؛ تحرير الأحكام 2 : 200 ط الحجري ؛ الدروس 2 : 108 ، فيه : حلف مدّعي تأخّر الموت ؛ المسالك 14 : 141 - 142 ، فيه : الأصل استمرار حياة الأب إلى بعد الوقت الذي اتّفقا على إسلام المسلم فيه.
2- « ز ، ك » : على ما حكي عنه.
3- في المصدر : ابنيين.
4- في المصدر : « تقدّم » وكذا في الموردين الآتيين.
5- شرائع الإسلام 4 : 907 - 908 ط الشيرازي ، 4 : 124 ط البقّال ، وليس فيه قوله : « وذلك إذا ادّعى عليه العلم و ».
6- « ز ، ك » : « انتهى » وليس فيهما « عبارته قدّس اللّه نفسه الزكية ».
7- « ز ، ك » : بالعكس.

ففي الأوّليين : قد حكم باستقلال المتقدّم في الإسلام ؛ إذ لم يعلم باستحقاق المدّعي لتأخّر الموت ، ولا يكفي فيه القول بأنّ الكفر مانع وبعد وجود المقتضي للتوارث وهو التوالد يحكم بالإرث بينهما ؛ إذ بعد التسليم عن ذلك بالغضّ عن كون الإسلام شرطا لا أنّ الكفر مانع ، نقول : إنّ المانع مستصحب الوجود ؛ لأنّ الكفر كان معلوما ، نعم لو كان المانع غير معلوم كان القول على التقدير (1) المذكور موجّها على بعض الوجوه.

وفي الثانية : حكم بانتصاف المال بينهما نصفين ؛ لأنّ الأصل تأخّر الموت عن إسلامه (2) ، ومن المعلوم أنّ توارثه وانتصاف المال نصفين إنّما يترتّب على كونه مسلما حال حياته لا على تأخّر موته عن إسلامه ، فهو من أحكام المتقدّم ، واستصحاب تأخّر الموت لا يثمر في إثبات تقدّم الإسلام إلاّ عادة.

وبالجملة : فموارد أصالة التأخّر غالبا من هذا القبيل ، فلا بدّ إمّا من توجيه لكلماتهم في مواردها ، وإمّا من الأخذ بمقتضى الدليل ، ولا ينبغي التوحّش من الانفراد بعد مساعدة الدليل. ومع ذلك فيمكن توجيه بعض موارد النقض في كلماتهم ولو بنوع من العناية كأن يقال في المثال المفروض في الشرائع : إنّ حصول (3) علقة التوارث إنّما هو (4) من الآثار الشرعية المترتّبة على نفس الحياة من غير توسّط شيء آخر ، كما أنّ توارثه من قريبه إنّما هو لواحق حياته ، فلو شكّ في ذلك بعد العلم بموت قريبه والشكّ في تأخّر موته عنه ، نحكم (5) بتوارثه من مال قريبه باستصحاب حياته ؛ لكونه من أحكامه شرعا بلا واسطة ، وبمثله نقول في المثال المذكور فلا حاجة في انتصاف المال بين الأخوين إلى إحراز موته بعد إسلامه على وجه يصدق أن يقال فيه : إنّه مات عن مسلمين ، بل يكفي في ذلك استصحاب حياته مع العلم بإسلامه ، كذا أفاد فتأمّل.

ص: 270


1- « ز ، ك » : التقيّد.
2- « ز ، ك » : الإسلام.
3- « ز ، ك » : - حصول.
4- « ز ، ك » : هي.
5- « ج » : يحكم.

وحيث إنّ توجيه بعض الأمثلة ليس ممّا يجدي في أصل المسألة فالأولى صرف عنان الهمّة إلى بيان ضابطة جامعة بين الموارد (1) فإنّها هي المهمّة.

فقد يقال في ذلك : إنّ الاستناد إلى الأصول المثبتة للآثار الشرعية بواسطة أمور غير شرعية ، والتعويل عليها لعلّه من باب الركون إليها بواسطة إفادتها الظنّ كما عليه بناء العقلاء ؛ إذ قد عرفت أنّه على تقدير إفادة الاستصحاب الظنّ كما هو المأخذ لبناء العقلاء في العمل به لا فرق بين الآثار الشرعية والعقلية والعاديّة ، فبعد (2) وجود موضوعات تلك الآثار الشرعية (3) المترتّبة على الآثار العقلية ولو ظنّا لا مانع من ترتيب تلك الآثار ؛ لأنّ الظنّ بالملزوم هو الظنّ باللازم على التحقيق ، أو يلازمه كما هو مذاق البعض ، وعلى تقدير اعتبار الظنّ الاستصحابي في الملزوم أو في اللازم لا وجه لإنكاره ، وقد عرفت أيضا في الهداية الحنفية (4) أنّ بناء السلف من أصحابنا كالمفيد وأضرابه قبل ظهور دلالة الأخبار عليه على العمل بالاستصحاب ، كما يظهر من استدلال المحقّق (5) من حيث استقرار بناء العقلاء عليه و (6) إفادته الظنّ إلاّ أنّ ذلك ليس مطّردا ؛ لعدم الفرق بين الموارد التي لا يعتمدون على الأصول المثبتة والموارد التي يعوّلون عليها من هذه الجهة.

ويمكن أن يقال أيضا (7) : إنّ الواسطة التي يترتّب عليها الحكم الشرعي في موارد الأصول المثبتة مختلفة : فتارة : على وجه لا يعدّ في العرف واسطة بل الحكم الشرعي في أنظارهم مترتّب على نفس المستصحب وإن كان بعد التدقيق والتحقيق مترتّبا على الواسطة ، وأخرى : على وجه يكون الواسطة جليّة لا يمكن الإغماض عنها ولو بحسب متفاهم العرف ، فعلى الأوّل يحكمون بترتّب الآثار الشرعية على المستصحب ، وعلى

ص: 271


1- « ج ، م » : ضابطة لعلّها تجمع بين الموارد.
2- « ج ، م » : وبعد.
3- « ز ، ك » : تلك الأحكام والآثار الشرعية.
4- عرفت في ص 235.
5- انظر معارج الأصول : 286 - 287.
6- « ز ، ك » : - و.
7- « ز ، ك » : - أيضا.

الثاني لا يحكمون بذلك ، وحسبان ترتّب الحكم الشرعي المترتّب على الواسطة عليه إمّا بملاحظة خفائها ، وإمّا بواسطة اتّحاد الواسطة والمستصحب وجودا وإن كانا مختلفين عنوانا.

وينطبق على الأوّل بعض الموارد المذكورة ، كما إذا شكّ في مانعية وسخ من وصول الماء إلى محال الوضوء والغسل ، فإنّ استصحاب عدم المانع لا يترتّب عليه حصول الطهارة الشرعية إلاّ بواسطة عاديّة هي وصول الماء إلى البشرة وكما إذا لاقى شيئا يابسا (1) لرطوبة نجسة مستصحبة فإنّهم يحكمون بترتّب (2) نجاسة الملاقي على استصحاب الرطوبة النجسة مع أنّ ذلك لا يثمر إلاّ بواسطة تأثيرها في الملاقي وتأثّرها منها من حيث خفاء الواسطة ، بخلاف ما إذا كانت الواسطة جليّة كما في مثال مانعية الجورب أو مانعية الشمعة من وصول الماء على البشرة كما لا يخفى.

وينطبق على الثاني بعض الموارد الأخر كاستصحاب الكرّية في وجه ، وتوضيحه أنّ استصحاب الكرّية يتصوّر على وجهين : ففي وجه لا مجرى له عند التحقيق إلاّ بالمسامحة في الموضوع ، كما إذا استصحبنا وصف الكرّية كأن يقال : إنّ الماء الفلاني كان كرّا في الأمس وبعد انتصاف الماء في اليوم لا نعلم بعدمها وارتفاعها ، والأصل بقاء الكرّية ، وليس هذا الأصل من الأصول المثبتة لطهارة ملاقيه ، فإنّ من الأحكام الشرعية التي يترتّب على الكرّية ذلك ، إلاّ أنّ الكلام في جريان ذلك الاستصحاب ، لأنّ الكرّية المعلومة في الأمس إنّما كانت متعلّقة بموضوع قد ارتفع قطعا ، فلا يجري الاستصحاب إلاّ بعد المسامحة في موضوعه. وفي وجه آخر يجري الاستصحاب إلاّ أنّه لا يترتّب عليه طهارة الملاقي ، كما إذا استصحبنا بقاء الكرّ في الحوض بعد ما كان وجوده معلوما ، فإنّ طهارة الملاقي ليس من الآثار المترتّبة على بقاء الكرّ في الحوض ،

ص: 272


1- كذا. ولعلّ الصواب شيء يابس.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يحسبون ترتّب.

نعم لو نذر شيئا (1) على تقدير بقاء الكرّ في الحوض يترتّب عليه ، وإنّما الطهارة مترتّبة على كرّية هذا الماء وهذا العنوان وإن كان مخالفا لبقاء الكرّ ولا يترتّب عليه إلاّ بواسطة ملازمة عقلية كأن يقال بعد استصحاب بقاء الكرّ في الحوض : وليس فيه ماء إلاّ هذا الماء ، فينتج : فهذا الماء كرّ ، إلاّ أنّه لمّا كان متّحدا في الوجود مع بقاء الكرّ المستصحب لا يعدّ في عداد الوسائط ، فيسامحون في ترتيب آثار (2) عنوان على عنوان آخر ، لاتّحادهما وجودا.

وفيه : أنّه لا يجدي في جميع الموارد بمعنى عدم اطّراده ، فربّما يعتمدون بتلك الأصول مع جلاء الواسطة واختلاف الوجود أيضا. على أنّ الثاني غير منعكس أيضا ؛ إذ قد تكون الواسطة منتزعة (3) من المستصحب ولا يعوّلون (4) على الاستصحاب ، كما إذا فرضنا وجود زيد في الدار وكان مهدور الدم ، ثمّ شككنا في بقائه فيها مع العلم بوجود شخص غير معلوم في الدار ، فاستصحاب وجود زيد في الدار لا يجدي في قتله كما هو ظاهر. على أنّ اختلاف الأحكام باختلاف العنوان ممّا لا ريب فيه وإن اتّحد المعنون ، فمجرّد الاتّحاد الوجودي مع اختلاف عناوين الوجود غير مجد ، وعدم التفات العرف إلى مثل ذلك غير مضرّ ؛ لعدم مدخلية العرف في أمثال ذلك كما لا يخفى.

وقد يفصّل في العمل بالاستصحاب المثبت في مثال الوضوء والغسل بين أن يكون الشكّ في وجود المانع ، أو مانعية الموجود ، ففي الثاني لا عبرة به (5) ، وفي الأوّل يعتمد عليه ، كما عن بعض مشايخنا المعاصرين أدام اللّه إفاداته (6) ، وتفصّى عن إثبات الأصل بالسيرة (7).

ص: 273


1- « ج ، م » : بشيء.
2- « ز ، ك » : - آثار.
3- « ج ، م » : يكون الواسطة منتزعا.
4- « ز ، ك » : فلا يعوّلون.
5- « ج ، م » : - به.
6- « ز ، ك » : - أدام اللّه إفاداته.
7- قال في الفصول : 378 : وأمّا التعويل على أصالة عدم حدوث الحائل على البشرة في الحكم

وليس بذلك البعيد (1) إلاّ أنّه خارج عن المفروض ، وقد عرفت (2) اعتبار الظنّ بعدم المانع عن كاشف الغطاء تفصّيا عن ذلك.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ غالب الموارد التي يتمسّك فيها بتلك الأصول إنّما هو في مواضع (3) التداعي كما فيما حكيناه عن المحقّق (4) ، ولا ريب أنّ المتداعيين يختلف تقاديرهم في تحرير الدعوى عند الحاكم ، فربّما يكون تشاجرهم في شيء بحيث لو أثبته المدّعي بإقامة بيّنة شرعية أو حلف عليه كان ما هو المقصود من التشاجر راجعا إليه وإن لم يكن البيّنة وافية بإثبات المقصود ، لتسالمهم في الأمر الآخر ، فكأنّ مقصود المدّعي مركّب (5) من أمرين أحدهما ثابت بالبيّنة والآخر بالتسليم (6) من الآخر ، وكذا الكلام في جانب المنكر فإنّ مطابقة قوله للأصل ربّما يكون من جهة مجرّد تشخيص المدّعي والمنكر بإجراء أحكامهما عليهما ، فلا يعتبر في ذلك أن يكون الأصل المطابق لقوله وافيا بتمام مقصوده فقد لا يكون كذلك ، وأمّا ترتّب المقصود على ذلك إنّما هو بواسطة التسالم بينهما كما يظهر ذلك في تقديمهم قول مدّعي الصحّة في عقد يدّعي أحد المتعاقدين وقوعه على عوض غير مملوك كالخمر والخنزير ، والآخر على ألفي دينار مثلا ، فإنّ أصالة الصحّة لا تقضي (7) بوقوع العقد على ألفين وإنّما قضيّة ذلك عدم كون الخمر والخنزير أحد العوضين ، فالحكم باشتغال ذمّة الآخر بالمبلغ المزبور بعد الحكم

ص: 274


1- « م » : التعبّد.
2- عرفت في ص 268.
3- « م ، ك » : موضع.
4- حكاه عنه في ص 269.
5- كتب فوقه في نسخة « م » : مركّبا.
6- « م » : لتسليم.
7- « م » : لا يقضي ، « ج » : لا تقتضي.

بالصحّة إنّما هو مستند إلى تسليم ذلك عند الآخر.

وإذ قد عرفت هذا فنقول - في المثال المذكور في كلام الشرائع (1) - : إنّ تأخّر الموت بنفسه مستصحب ولا يتفاوت فيه الحال ؛ لكونه من مجاري الأصل حقيقة ، وأمّا تأخّره عن إسلامه فهو من الأمور المتسالمة بينهما على تقدير استصحاب تأخّر الموت كما في تسالمهم على وقوع العقد (2) على تقدير الصحّة على ألفي دينار ، ولك أن تقول : إنّ مجرّد مطابقة القول للأصل لا يجدي في إثبات المقصود إلاّ بعد اليمين وهي كالبيّنة من الطرق الواقعية ، وقد عرفت أنّ الطرق الواقعية ممّا يوجد بجميع لوازمها الواقعية.

وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ الموارد التي يتمسّك فيها بتلك الأصول في الغالب هو مواضع التداعي كما في استصحاب تأخّر الموت ، ولا شكّ في اعتبار هذا الاستصحاب بالنسبة إلى الأحكام التي تترتّب (3) على نفس التأخّر. وأمّا الآثار اللاحقة لكون الموت متأخّرا عن الإسلام فلا عبرة بهذا الاستصحاب فيها ، فالأخذ بتلك الآثار لأحد أمرين : إمّا من جهة تسالمهما على أنّ الوراثة بعد إثبات التأخّر الذي هو مجرى الأصل ومفاده ممّا لا كلام فيه ، فكأنّ المدّعي لمقارنة الموت للإسلام أو تقدّمه عليه مقرّ بكونه وارثا بمجرّد ثبوت تأخّر الموت وإن لم يفد إثبات تأخّره عنه ، فالاستناد إلى الأصل إنّما هو لإثبات هذا الجزء ولا غبار عليه من هذه الجهة ؛ لعدم كونه مثبتا له بل هو عين مفاده ، كما في أصالة الصحّة فيما إذا اختلف المتعاقدان في وقوع العقد على ثمن غير مملوك شرعا كالخمر والخنزير أو على عوض آخر ، فإنّ قضيّة الصحّة لا تزيد على مجرّد الصحّة ولا يثبت بها خصوصية الثمن الآخر كما هو المدّعى به في كلام الآخر ، ومع ذلك فالحكم باشتغال ذمّة المشتري بخصوصية العوض مستند إلى تسالم المتبايعين في أنّه (4) بعد إحراز الصحّة فالعوض هو هذا الشيء الخاصّ كما لا يخفى ، وأمّا

ص: 275


1- تقدّم نصّ عبارته في ص 269.
2- « ز ، ك » : الصيغة.
3- « ج ، م » : يترتّب.
4- « ج ، م » : أنّ.

في جهة ثبوت الواقع باليمين فإنّها أيضا كسائر الطرق الاجتهادية مثبتة للواقع كالبيّنة نظرا إلى الأمر بالتصديق للحالف في الدليل الدالّ عليه ، ومن المعلوم أنّ بعد فرض واقعية اليمين يترتّب عليها تمام أحكام الواقع كما في غيرها على ما مرّ.

وأمّا الاستناد إلى الأصل فلا يثمر إلاّ في تشخيص المدّعي والمنكر عند القاضي ، ولا يلزم أن يكون الأصل الموافق لقول المنكر وافيا بإثبات مرامه بتمام أجزائه ، فأصالة تأخّر الموت إنّما تجدي (1) في كون المدّعي لذلك (2) منكرا فعليه اليمين ، ثمّ يترتّب على اليمين تأخّر الموت عن الإسلام ، ثمّ بعد ثبوت ذلك باليمين ينتصف المال بينهما ، نعم يتمّ النقض بذلك لو قلنا بكونه وارثا مع عدم اليمين بمجرّد الأصل ومع عدم التسالم ، ودون القول بذلك حينئذ خرط القتاد.

هذا ما يقتضيه الجليل (3) من النظر (4) وأمّا دقيق النظر (5) فلا يرى استقامته أيضا.

أمّا أوّلا : فلأنّ دعوى ترتّب الأحكام التي هي من لواحق تأخّر الموت عن الإسلام كوراثة (6) المدّعي للتأخّر ونحوها على تسالمهما ، مكابرة صرفة ومجازفة محضة ؛ للقطع بأنّ الآخر في الأغلب ممّا لا يرضى بذلك أبدا وهو ينفي استحقاقه للإرث رأسا ، فقد يكون بعض الدعاوي مترتّبا على بعض آخر وإظهار البعض ربّما يكون مقدّمة لإظهار الآخر ، فكيف يقال بالتسالم؟ ولو فرض إقراره أحيانا بذلك فلا يمكن الأخذ بإقراره أيضا ؛ إذ الغالب إنّما هو من باب التعليق (7) على الأمور المستحيلة ولو بحسب اعتقاده. وأمّا التنظير بأصالة الصحّة فممّا لا يجدي أيضا ؛ لأنّ المشتري في مقام ادّعاء بطلان البيع رأسا فلا يظهر (8) منه تسليم كون العوض شيئا مملوكا فضلا عن

ص: 276


1- « ج ، م » : يجدي.
2- « ز ، ك » : لذاك.
3- كانت أوّلا في نسخة « م » : « الجلي » ثمّ غيّر بما في المتن وعكس ذلك في نسخة « ك ».
4- « ز ، ك » : جليل النظر.
5- « ز ، ك » : وأمّا دقيقه.
6- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : كوارثه.
7- « ز ، م » : التعلّق.
8- « م » : ولا يظهر ، « ج » : لا يظهر.

خصوصية شيء ، فكيف يتأتّى (1) القول بأنّه مقرّ بأنّ بعد إحراز الصحّة أحد (2) العوضين هو الشيء الخاصّ كما هو ظاهر؟

وأمّا ثانيا : فلأنّ كون اليمين من الطرق الاجتهادية كالبيّنة ونحوها في محلّ المنع ، والأمر بالتصديق ممّا لا دلالة فيه على كونه مثبتا للواقع كما لا دلالة في الأدلّة الدالّة على حمل فعل المسلم على الصحّة على ذلك ، وتفصيل الكلام فيه خارج عن المقام.

وأمّا ثالثا : فلأنّ مجرّد مطابقة قول واحد من المتداعيين لأصل من الأصول لا يثمر في جعله منكرا ما لم يكن ذلك الأصل وافيا بتمام مطلوبه وجميع مقصوده ؛ إذ ليس حكم الإنكار والادّعاء حقيقة من الأمور التوقيفية ، بل التحقيق أنّ ما ورد من الشرع في بيان حكمهما من كون البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر إنّما هو مطابق لما يحكم به الوجدان الصحيح والعقل الصريح في حقّ المدّعي والمنكر ، فعدم حاجة المنكر إلى إثبات دعواه ليس إلاّ بواسطة وفاء الأصل المطابق لقوله بتمام مقصوده ، ومن ثمّ تراهم لا يحكمون بتقديم قول مدّعي سقوط الخيار في البيع على قول من يدّعي عدم سقوطه بواسطة مطابقة قول مدّعي السقوط لأصالة اللزوم في البيع ، لعدم الاعتناء بهذا الأصل في قبال أصالة عدم سقوط الخيار ، لأنّ الشكّ في اللزوم وعدمه ناش من الشكّ في إسقاط الخيار وعدمه ، وبعد إحراز عدم السقوط لا يبقى الشكّ في عدم اللزوم ؛ لأنّه مزيل له ، فليس كلّ أصل مشخّصا للمنكر ، فأصالة تأخّر الموت لا يجدي في إثبات تأخّره عن الإسلام كما هو المقصود في المقام.

فإن قلت : قد يختلف وجوه التقارير في تحرير الدعاوي ففي كلّ وجه يراد من الأصل المعمول فيه إثبات ذلك الوجه دون غيره ، ومصبّ الدعوى في المقام هو إثبات تأخّر الموت وهو كاف ، وأمّا تأخّره عن الإسلام فهو شيء آخر و (3) يحتاج إلى دعوى

ص: 277


1- « ج ، م » : ينافي.
2- « ج » : لأحد.
3- « ج » : - و.

ثانية.

قلت : نعم ، ولكنّه غير مجد في تلك الدعوى والمقصود ترتّبها عليه كما هو ظاهر من عبارة الشرائع (1) على أنّ مجرّد التغيير في العبارة ربّما لا يجدي في الإنكار والادّعاء ، فإنّ المدّعي حقيقة هو المطالب بشيء ، والمنكر هو من يطالب منه ، وإن اختلفا في التعبير على وجه يعدّ في ما يتراءى في الأنظار أن يكون المدّعي منكرا والمنكر مدّعيا ، وعلى مثل هذا بنينا في الردّ على جامع المقاصد المحقّق الثاني (2) فيما إذا اختلف المتعاقدان في وقوع العقد على عشرين أو ثلاثين تومانا (3) فضّيا (4) مثلا ، حيث حكم بالتداعي والتحالف ؛ إذ من الواضح أنّ المطالب بالعشرة الزائدة هو المدّعي وإن كان ادّعاؤهما (5) في العبارة على أمر وجودي كما لا يخفى.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام ، والإنصاف أنّه لم يظهر لنا وجه في تصحيح موارد الأصول المثبتة في كلمات القوم على وجه جامع لجامع مواردها. ولعلّ العمدة فيها هو البناء عليها من جهة الظنّ كما ذكرنا ، فكن على بصيرة كي (6) لا يلتبس عليك الحال ، ثمّ إنّ ما أوردنا في المقام إنّما هو بالنسبة إلى اللوازم دون الملزومات أو المشارك في اللزوم أو المقارن ، فتدبّر فإنّه من المزالق (7).

ص: 278


1- تقدّم نصّ عبارته في ص 269.
2- انظر جامع المقاصد 7 : 293.
3- « ج » : + ذهبيا.
4- في هامش « م » : تومانا ذهبيا.
5- « ز » : ادّعاءها ( ظ ).
6- « ز ، ك » : لكلي.
7- « ز ، ك » : - فإنّه من المزالق.

هداية [ في أصالة تأخّر الحادث ]

اشارة

قد شاع التمسّك بأصالة تأخّر الحادث عندهم وهي بظاهرها ليست في محلّها ، فإنّ الظاهر من لفظة (1) الأصالة هو الاستصحاب وليس التأخّر معلوما في السابق حتّى يستصحب ذلك التأخّر ، بل (2) لا يعقل كما هو غير خفيّ على أحد ، فالمراد منها القاعدة التي مقتضاها هو الحكم بتأخّر الحادث من استصحاب عدمه في الزمان (3) السابق على زمان (4) اليقين لو كان الحادث هو الوجود ، أو استصحاب وجوده السابق لو كان هو العدم (5) ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ موارد إطلاقاتهم لهذه القاعدة كما يظهر من مطاوي كلماتهم هو الأوّل.

وكيف كان فالمطلوب من إجراء هذا الاستصحاب في موارده (6) إمّا إثبات تأخّر شيء حادث عن بعض أجزاء الزمان كأن يقال : إنّ الحادث الفلاني لا يعلم بحدوثه في الأمس أو في اليوم ، ومقتضى استصحاب عدمه في الأمس تأخّر وجوده عنه ، وإمّا إثبات تأخّر حادث عن حادث آخر مثله ، كما إذا كان هناك حادثان ولم يعلم سبق أحدهما على الآخر ، فيحكم بمقتضى استصحاب عدمهما - على حسب اختلاف

ص: 279


1- « ز ، ك » : لفظ.
2- « ج ، م » : + و.
3- « م » : الزمن.
4- « ز ، ك » : - زمان.
5- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : الوجود.
6- « ز ، ك » : - في موارده.

المقامات على ما ستعرف - بالتأخّر ، فإذا لنا مقامان (1) :

[ المقام ] الأوّل

لا خفاء في أنّ الأحكام الشرعية المترتّبة على نفس التأخّر بمعنى عدمه السابق على زمان اليقين فيما إذا كان الحادث وجوديا ، ووجوده السابق فيما إذا كان عدميا يترتّب على العدم في الأوّل والوجود في الثاني على تقدير استجماع الشرائط المعتبرة في الاستصحاب كما هو ظاهر ، كما لا إشكال في أنّه (2) بعد العلم بالوجود في الأوّل والعلم بالعدم في الثاني يترتّب عليهما أحكام مطلق الوجود والعدم ، وهل يترتّب على (3) الأحكام التي تترتّب (4) على محض الحدوث الذي هو عبارة عن وجود غير مسبوق بالوجود فيما كان المستصحب عدما ، وعن عدم غير مسبوق بمثله - مثلا - فيما كان المستصحب وجودا ، أو لا؟ التحقيق هو الأوّل ؛ لأنّ الحدوث على هذا المعنى له جزءان : أحدهما : العدم المطلق أو الوجود كذلك ، وثانيهما : كونه غير مسبوق بمثله وجودا وعدما ، والأوّل معلوم بالوجدان كما هو المفروض ، والثاني و (5) هو الجزء العدمي فيهما معلوم بالاستصحاب ولا غائلة فيه ؛ لعدم كونه من الأصول المثبتة كما قرّرنا في موارد جمّة ، منها : إثبات الأقلّية فيما دار الأمر بينها وبين الأكثر ؛ إذ ليس الأقلّ عنوانا وجوديا لازما لعدم الجزئية مثلا ، بل مجرى الأصل ومفاده هو هذا العنوان على ما هو ظاهر ، ولا ريب في عدم ترتّب الأحكام اللاحقة بعنوان (6) وجودي آخر لازم للمستصحب في المقام ؛ لما عرفت في الهداية السابقة من عدم التعويل على مثل (7) هذه الأصول.

ص: 280


1- « ج » : مقامين.
2- « ج ، م » : أنّ.
3- كذا. ولعلّ الصواب « عليهما ».
4- في النسخ : يترتّب.
5- « ز » : - و.
6- « ز » : لعنوان.
7- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : بمثل.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما يتمّ فيما لو كان وجود ذلك الحادث مستمرّا حتّى في زمان اليقين بالوجود أيضا ، وأمّا إذا كان الحادث المفروض أمرا غير قابل للوجود المستمرّ كأمثال (1) الأفعال التوليدية التدريجية كالحركة والتكلّم ونحوهما ممّا ينقضي شيئا فشيئا وممّا لا يتّصف بالوجود إلاّ في آن من الزمان ، فلا يمكن إثبات الأحكام المترتّبة على وجوده (2) في زمان اليقين ، كما إذا فرضنا حدوث التكلّم أو الولادة التي هي الخروج من الرحم إمّا في يوم الجمعة وإمّا في يوم السبت ؛ إذ لا يمكن استعلام بدو وجوده لعدمه في السبت أيضا ، لأنّ المفروض أنّه آني الوجود ، فكما أنّه لا يمكن إثباته في الجمعة ؛ لأنّ الأصل عدمه فيها ، فكذا لا يمكن إثباته في السبت أيضا ؛ لأنّ الأصل عدمه أيضا ، فالمقام نظير الشبهة المحصورة ؛ إذ لا فرق بين أن يكون الظرف لوجود شيء مكانا أو زمانا ، إذ نسبتهما إلى الوجود متساوية ، فالعلم الإجمالي حاصل بانتقاض أحد الأصلين ، وذلك لا يضرّ في جريانهما وتعارضهما ، على أنّ استصحاب التأخّر وعدمه في الجمعة لو أريد به إثباته في السبت ممّا لا تعويل عليه ؛ لكونه مثبتا ، وتوضح (3) التعارض بين الأصلين ملاحظة أن لو كان العلم الإجمالي بين وجوده في الخميس أو السبت مع العلم بعدمه في الجمعة كما لا يخفى ، ولعلّ هذا هو الوجه في حكمهم بقضاء صلوات خمسة فيما إذا قطع المكلّف بحدوث حدث منه عقيب واحد من وضوءاتها وإن كان مقتضى استصحاب عدمه على تقدير الأصول المثبتة هو الحكم بقضاء صلاة العشاء فقط ، فتدبّر.

وأمّا أحكام مطلق وجود ذلك الشيء فمن المعلوم ترتّبه عليه كما هو ظاهر لا سترة عليه.

المقام الثاني

ص: 281


1- « ز ، ك » : المستمرّ مثل.
2- « ج » : وجودها.
3- « ج ، ك » : توضيح.

فيما إذا كان المقصود بأصالة التأخّر تأخّر الحادث عن صاحبه ، فنقول : لا ريب في ترتّب (1) أحكام التأخّر مطلقا بخلاف الأحكام المترتّبة على تأخّره عن صاحبه ، ثمّ إنّ هذين الحادثين إمّا أن يكون تاريخ وجودهما مجهولا ، وإمّا أن يكون أحدهما معلوما والآخر مجهولا ، وأمّا فرض المعلومية فيهما فخارج (2) عن المفروض.

أمّا في الأوّل : فلا يحكم بأحدهما ، كما في تعارض الجمعتين في بلد واحد ، أو في الغرقى والمهدوم عليهم ، والطهارة والحدث ، ونحوها (3) ممّا لا ضبط فيها ، وقد يقال في أمثال ذلك بتقارنهما ، فإن كان التقارن عبارة عن وجود أحدهما مصاحبا للآخر على وجه يكون أمرا وجوديا كما هو الظاهر فلا عبرة به ، وإن كان عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر فيكون أمرا عدميا مفادا للأصل فيهما فلا غائلة فيه إلاّ أن يقال بترتّبه (4) على الأوّل أيضا لكون الواسطة خفيّة كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فربّما يكون مفيدا من طرف واحد ، وربّما يكون مفيدا من الطرفين (5) ، والمعيار في ذلك أنّه كلّما كان أحد الطرفين أو كلاهما مجرى للأصل العدمي فهو مفيد لترتّب أحكام العدم والتأخّر عليه ، بخلاف ما إذا كان لازما من لوازم العدم.

مثال ما إذا كان الأصل مفيدا من طرف واحد ما إذا علمنا بحدوث كرّية الماء المفروض في الحوض - مثلا - وحدوث ملاقاة اليد النجسة لهذا (6) الماء فإذا لم يكن أحد التاريخين معلوما فلا كلام ، وأمّا إذا كان تاريخ الكرّية معلوما كأن كان في السبت ولم يعلم تاريخ الملاقاة فاستصحاب عدم الملاقاة في الجمعة لا يثمر في استصحاب (7) طهارة اليد لكونه مثبتا ، إذ من لوازم الملاقاة يوم حال الكرّية هو الطهارة وليست من لوازم

ص: 282


1- « ج ، ز ، ك » : ترتيب.
2- « م » : خارج ، « ج » : فهو خارج.
3- « م » : نحوهما.
4- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : مترتّبة.
5- « ج » : طرفين.
6- « م » : بهذا.
7- في « م » كانت أوّلا « إثبات » ثمّ شطب عليها وكتب تحتها بما في المتن.

عدم حدوثه في الجمعة كما هو ظاهر ، و (1) أمّا إذا كان تاريخ الملاقاة معلوما كأن كان في السبت - مثلا - فاستصحاب عدم الكرّية يثمر في نجاسة الماء ؛ لأنّ عدم الكرّية من لوازمه (2) الشرعية انفعاله (3) بالنجاسة ، وليس القليل إلاّ عدم كونه كرّا كما هو ظاهر ، ولا يعارضه استصحاب طهارة الماء ؛ لكونه مزالا بالنسبة إلى هذا الاستصحاب ، ومن هذا القبيل ما فرضه المحقّق في مسألة الإرث (4) ؛ إذ على تقدير العلم بتاريخ الإسلام (5) لا يثمر استصحاب تأخّر الموت في انتصاف المال بينهما ، وعلى تقدير العلم بتاريخ الموت أصالة تأخّر الإسلام يجدي في انحصار الوارث الآخر ؛ إذ الانحصار عبارة عن وجود شيء مع عدم غيره ، فكأنّ العدم فصل له (6) وما (7) هو بمنزلة الجنس فيه معلوم وجدانا ، والفصل العدمي مفاد الأصل فلا يكون مثبتا كما هو ظاهر.

ومثال ما إذا كان الأصل مفيدا من الطرفين ما إذا علمنا بموت الأب والابن مع الجهل بتاريخ موت الأب والعلم بتاريخ موت الابن ، فبأصالة تأخّر موت الأب واستصحاب وجوده قبل زمان اليقين يترتّب توارثه (8) من مال الابن ، لكن (9) ذلك من أحكام نفس الحياة المستصحبة ، ومع العكس يفيد توارث الابن من مال الأب بعين (10) ما ذكر ، وقد لا يكون مفيدا ، كما إذا كان تاريخهما مجهولا أيضا فيما إذا فرضنا حدوث حدث وطهارة مع الشكّ في السبق واللحوق ؛ إذ لا يتفاوت الحال في ذلك مع (11) جهل (12) التاريخين أو العلم بأحدهما ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلأنّ استصحاب تأخّر

ص: 283


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - و.
2- « ج » : لوازمها.
3- « ج » : انفعالها.
4- تقدّم نصّ عبارته في الهداية السابقة في ص 269.
5- « ز ، ك » : بتأخّر تاريخ الإسلام.
6- « ك » : فكان العدم فصلا له.
7- « ج » : - ما.
8- « ز ، ك » : لوارثه.
9- « م » : فأين. « ج » : لأنّ.
10- « ج » : لعين.
11- « م » : - مع.
12- « ج » : بجهل.

الحدث لا يجدي في انتقاض الطهارة ، وكذا استصحاب تأخّر الطهارة لا يجدي في حصول الطهارة ، كيف والموارد (1) على ما عرفت مختلفة ، فإطلاق القول بعدم الفائدة في صورتي العلم بالتاريخ والجهل به كما عن الشيخ الجليل فيلسوف القوم في كشف الغطاء ، ليس في محلّه.

قال قدس اللّه نفسه الزكية (2) - في مسألة العلم بحدوث الحدث والطهارة مع الشكّ في السبق واللحوق ردّا على من فصّل بين العلم بالتاريخ في أحدهما والجهل بالآخر - : إنّ أصالة التأخّر إنّما قضت بالتأخّر (3) على الإطلاق لا بالتأخّر عن الآخر (4) ومسبوقيته به ؛ إذ وصف السبق حادث والأصل عدمه ، فيرجع ذلك إلى الأصول المثبتة وهي منفيّة ، فأصالة عدم الاستباحة وبقاء شغل الذمّة سالمان عن المعارض. قال : ولذلك أطلق الحكم فحول العلماء في مسألة الجمعتين ، ومسألة من اشتبه موته (5) في التقدّم وغيرهما (6) ، وفي مسألة عقد الوكيلين وغيرها ، أو المشتبهين في سبق الكمال على العقد وتأخّره ، ولم يفصّلوا بين علم التاريخ في أحدهما وعدمه (7) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه رفع اللّه في الجنّة من مقامه (8).

وفيه نظر (9) : أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّ الحكم ربّما يترتّب على نفس التأخّر وعدم الحادث لا على تأخّره عنه ومسبوقيته به كما عرفت فيما قدّمنا لك من الأمثلة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إطلاق القول في تلك المقامات إنّما هو فيما إذا كان التاريخان مجهولين كما هو الظاهر ، ومن المعلوم عدم الفرق بينهما حينئذ ، ولنا أن نقول : إنّ

ص: 284


1- « م » : وكيف فالموارد. « ج » : وكيف كان فالموارد.
2- « ز ، ك » : رحمه اللّه.
3- في المصدر : بالتأخير.
4- في المصدر : الأخير.
5- في المصدر : موتهم.
6- في المصدر : غيرها.
7- كشف الغطاء 2 : 102 ، وفي ط الحجري : 102.
8- « ز ، ك » : - رفع اللّه ... مقامه.
9- « ج ، م » : - وفيه نظر.

الإطلاق فيها بواسطة عدم الفائدة في صورتي العلم والجهل ، ولهذا (1) فصّلوا فيما إذا كان العلم بالتاريخ مجديا كما مرّ في مثال الإرث ، فإنّ الشيخ وجملة من أعاظم الفحول كابن حمزة والشهيدين والمحقّقين والعلاّمة فصّلوا فيه كما عرفت (2).

نعم ، يعتبر في موارد تلك الأصالة أن لا يكون الحكم المطلوب إثباته أو نفيه من لواحق عنوان آخر غير المستصحب كما نبّهنا عليه ، لكنّه قد يوجد في كلمات الفقهاء الحكم بترتّب آثار اللاحقة بعنوان لازم للمستصحب في تلك الأصالة على ما مرّ بعضها في الهداية السابقة ، ومن جملة تلك الموارد ما أورده الشهيد السعيد (3) في المسالك.

قال (4) : إذا أذن المرتهن للراهن في البيع ورجع ، ثمّ اختلفا فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن : بعده ، كان القول قول المرتهن ترجيحا لجانب الوثيقة ؛ إذ الدعويان متكافئتان (5).

قال : وجه التكافؤ : أنّ الراهن يدّعي تقدّم البيع على الرجوع والأصل عدمه ، والمرتهن يدّعي تقدّم الرجوع على البيع والأصل عدم تقدّمه أيضا ، فتكافأ الأصلان فيتساقطان ، ويبقى حكم الرهن على العين باقيا وهو ترجيح جانب الوثيقة. إلى أن قال : وفي إطلاق الحكم بذلك بحث آخر وهو أنّ ذلك كلّه إنّما يتمّ حيث يطلقان الدعويين من غير اتّفاق منهما على زمان معيّن للبيع أو الرجوع ، أو مع اتّفاقهما إلى وقت واحد ؛ لتحقّق الأصول المذكورة ، أمّا لو اتّفقا على زمان أحدهما واختلفا في تقدّم الآخر ، فإنّ الأصل مع مدّعي التأخّر ليس إلاّ ، ووجه ذلك أنّهما لو اتّفقا - مثلا - على وقوع البيع يوم الجمعة وادّعى المرتهن الرجوع قبله من غير تعيين زمان ، فالأصل

ص: 285


1- « ك » : لذا.
2- عرفت في الهداية السابقة في ص 269.
3- « ز ، ك » : - السعيد.
4- « م » : قال في مسألة.
5- المثبت من المصدر وفي النسخ : متكافئان.

يقتضي تأخّره ؛ لأنّ ذلك حكم كلّ حادث إلى أن يعلم وجوده وإنّما علم وجوده بعد البيع ، فيقدّم قول الراهن ، ولو انعكس بأن اتّفقا على وقوع الرجوع يوم الجمعة وادّعى الراهن وقوع البيع قبله من غير اتّفاق على وقت ، فالأصل يقتضي تأخّره إلى أن يعلم وجوده وإنّما علم بعد زمان الرجوع ، فيقدّم قول المرتهن.

قال قدّس اللّه روحه (1) : وهذا التفصيل هو الأقوى وهو خيرة الدروس ، وفيما عداه يقدّم قول المرتهن كما ذكره الأصحاب ؛ لقيام الدليل على ترجيح جانب الوثيقة كما حقّقنا (2) ، انتهى ما أفاده (3).

وبعد الاطّلاع على ما نبّهنا (4) عليه في الهداية السابقة من عدم التعويل على مثل هذه الأصول ؛ لعدم دلالة دليل على اعتبارها والوجوه التي وجّهنا بها كلام القوم ، لا يخفى عليك ما فيه من وجوه الصحّة والفساد ، فتدبّر.

ولعلّ العمدة في تلك الوجوه بعد البناء على الظنّ هو القول بأنّ ترتيب اللوازم العاديّة وأحكامها من باب التسالم ، واللّه الموفّق (5) الهادي.

تذنيب

عكس الاستصحاب المذكور استصحاب (6) القهقرى على ما هو المعروف في لسان عوام الطلبة ، وقد نبّهنا على فساده في أوائل المبحث بهذا العنوان (7) ؛ إذ ليس من الاستصحاب ، لاستلزامه اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وما يراد من ذلك إثبات الوجود اللاحق في الزمن السابق المشكوك ذلك الوجود فيه ، ولا دليل على ثبوت

ص: 286


1- « ز ، ك » : رحمه اللّه.
2- مسالك الأفهام 4 : 77 - 79.
3- « ز ، ك » : - ما أفاده.
4- « م » : بما نبّهناه.
5- « ز ، ك » : - الموفّق.
6- كذا. ولعلّ الصواب : الاستصحاب.
7- انظر ص 14.

ذلك من العقل ولا من النقل ، وقد يعبّر عن ذلك بأصالة تشابه الأزمان وهو أيضا ممّا لا وجه له ؛ لعدم ما يقضي (1) بذلك على ما هو الظاهر منها (2). اللّهمّ إلاّ أن يكون المدرك فيها الغلبة ، فتأمّل.

نعم ، يمكن أن يكون هذا نتيجة لاستصحاب عدمي معقول وهو أن يقال : لو لم يكن كذلك لزم حادث آخر والأصل عدمه كأصالة عدم النقل ، مثلا لو ثبت أنّ الأمر في العرف للوجوب فشكّ أنّه (3) في اللغة أيضا كذلك أم لا (4) ، فلو قلنا بأنّه (5) في اللغة أيضا للوجوب لا يلزم حادث غير ما دلّ الدليل على وجوده وحدوثه في الحال ، ولو قلنا بعدمه يلزم أن يكون هناك أيضا حادث آخر والأصل عدمه ، ولا يعارضه أصالة تأخّر الحادث ؛ لأنّ مجرى ذلك فيما إذا كان الاستعمال في السابق معلوما على الإجمال ولم يعلم خصوصية المستعمل فيه ، وحينئذ لا يجري أصالة تأخّر الحادث ؛ للعلم بالحدوث إجمالا ، والكلام في التعدّد والاتّحاد ، والأصل يقضي (6) بالثاني ؛ لأصالة عدم تعدّد الوضع ، وهذا وإن كان مثبتا إلاّ أنّه من الموارد التي لا مناص من العمل بها ؛ لكونه من مباحث الألفاظ ، نعم لو كان المعنى المستعمل فيه في السابق معلوما كاللاحق وشكّ في بدو الحدوث والنقل فأصالة التأخّر تقضي (7) بالتأخّر ، ولا يجري فيه أصالة عدم النقل في السابق كما في الحقيقة الشرعية ، فإنّ استعمال الصلاة في اللغة معلوم وفي عرف المتشرّعة أيضا معلوم وإنّما شكّ في بدو النقل ، فبأصالة عدم النقل لا يمكن إثبات الحقيقة الشرعية بالنسبة إلى زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ؛ إذ الأصل تأخّر الحادث

ص: 287


1- « ج » : ما يقتضى.
2- « م » : منه.
3- « ج ، م » : - أنّه.
4- « ج ، م » : أيضا للوجوب أو لا.
5- « ج ، م » : بأنّها.
6- « ج » : يقتضى.
7- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : يقضي. « ج » : تقتضي.

إلى زمن اليقين بوجوده (1) ، وإثبات الأصل ممّا لا ضير فيه على ما عرفت مرارا كما لا يخفى ، واللّه الموفّق (2) الهادي.

ص: 288


1- « ج » : لوجوده.
2- « ز ، ك » : - الموفّق.

هداية [ في استصحاب الصحّة ]

قد تداول بينهم التمسّك باستصحاب الصحّة فيما إذا شكّ في أثناء العمل في صحّته باعتبار الشكّ في اعتبار شيء فيه وعدمه ، وتنظّر فيها بعض الأواخر ، والتحقيق عندنا عدم الاعتداد به في بعض الوجوه دون آخر.

وتوضيح المقصد أن يقال : إنّ بطلان العبادة - مثلا - تارة بواسطة انتفاء أمر معتبر فيها على وجه غير ممكن التدارك كما إذا ترك السورة في الصلاة مع الوصول إلى حدّ الركوع ، وأخرى بواسطة وجود ما يقطع به العمل (1) كالتكلّم في الأثناء فهو قاطع للعمل ومبطل أيضا ؛ إذ كلّ قاطع مبطل ولا عكس. وكيف كان (2) فالكلام يقع في موردين ؛ إذ المستصحب للصحّة (3) إنّما يريد (4) الصحّة بالنسبة إلى الأجزاء المادّية للصلاة مثلا ، وأمّا بالنسبة إلى الجزء الصوري (5) لها واشتمال الصلاة على هذا الجزء الصوري إنّما يستفاد من الأخبار الواردة الدالّة على قطعها ، فيستفاد منها أنّ لها هيئة (6) ارتباطية تقطع بقواطعها ، كما إذا (7) استفدنا من لفظ النقض في (8) أنّها حالة مستمرّة ، وهذا

ص: 289


1- « ج » : - العمل.
2- « م » : - كان.
3- « ج » : بالصحّة.
4- « ج ، م » : يراد.
5- « ز ، ك » : الأجزاء الصورية.
6- « ز ، ك » : أنّ الماهية.
7- « ج ، ز ، ك » : - إذا.
8- كذا. والظاهر زيادة لفظة « في ».

الجزء الصوري وإن كان داخلا في عنوان القسم الأوّل لأنّ انتفاءه انتفاء أمر معتبر فيها على وجه لا يمكن تداركها ، إلاّ أنّ التقسيم له فائدة أخرى تطّلع عليها بعيد ذلك.

أمّا الكلام في القسم الأوّل (1) فالصحّة المقصود إثباتها تارة : يراد منها موافقة الأمر ، وأخرى : ترتّب (2) الأثر عليه على اختلاف المعنى منها ، ولا وجه لاستصحابها على التقديرين ، أمّا على الأوّل فلأنّ كون الجزء موافقا للأمر إمّا يقصد منه الأمر المستفاد من الأمر بالكلّ ، وإمّا الأمر المتعلّق بنفس الكلّ ، والثاني غير حاصل (3) عند فقد الكلّ كما هو المفروض ، والأوّل قطعي حال الشكّ فلا يقين بالسابق على الأوّل ، ولا شكّ في اللاحق على الثاني ، وأمّا على الثاني فلأنّ الأثر المستصحب إمّا أن يكون أثر الكلّ ، أو الأثر المترتّب على الأجزاء التي لم يأت بها ، أو أجزاء (4) الماهيّة (5) ، لا معنى للأوّلين ؛ لعدم اليقين السابق فيهما ، كما أنّه لا معنى للأخير أيضا ؛ إذ الأثر المترتّب على الجزء ليس إلاّ كونه بحيث (6) لو انضمّ إليه الأجزاء الباقية على وجه معتبر شرعا لكان مؤثّرا في حصول الكلّ والمركّب ، ووقوعه على هذا الوجه أمر قطعي لا شكّ فيه ، وعدم ترتّب الأجزاء اللاحقة لا يوجب زوال الأثر من الأجزاء السابقة ، وهذه الصفة موجودة فيها فعلا ؛ إذ لا يزيد ذلك على حيثية تعليقية يكفي في صدقها صدق التعليق وإن كذب المتعلّقان كما لا يخفى.

لا يقال : قد يكون الأجزاء اللاحقة مؤثّرة في وقوع الأجزاء السابقة على وجه الصحّة فيشكّ في ذلك فيستصحب.

لأنّا نقول : أوّلا : فلا قطع بالمستصحب في أوّل الأمر حينئذ. وثانيا : لو فرض حصول القطع فيمتنع زواله ؛ لأنّ ما وقع على صفة يمتنع انقلابه من تلك الصفة (7).

ص: 290


1- سيأتي القسم الثاني في ص 296.
2- « ج » : ترتيب.
3- « ج » : + حال!
4- في النسخ : الأجزاء.
5- « ز ، ك » : الماهيّة.
6- « ز ، ك » : - بحيث.
7- « م » : الصحّة.

وثالثا : لا يثمر في الأجزاء الباقية إذ لا يزيد ذلك على القطع الوجداني بصحّتها وعلى تقديره لا يجدي بالنسبة إليها كما لا يخفى.

ويمكن أن يقرّر الاستصحاب في هذا المقام بوجوه إلاّ أنّه لا يجدي في الكلّ.

الأوّل : استصحاب القابلية ، وبيانه : أنّ القراءة - مثلا - كان على وجه يصحّ أن يكون جزء فعليا للصلاة ، وبعد حدوث تلك الحادثة لا يعلم بقاؤها على هذه الصفة والأصل بقاؤها.

وفيه : أنّ الشكّ في كون الجزء المفروض قابلا لأن يصير جزء فعليا من الصلاة إمّا بواسطة أمر سابق على ذلك الجزء أو في نفس ذلك الجزء أو بواسطة أمر لاحق له. لا معنى له على الأوّلين لما عرفت من القطع بذلك ، وكذا على الثالث ؛ لأنّ الشكّ إنّما هو في اللاحق ، واستصحاب كونه جزء فعليا لا يرتفع الشكّ الموجود بالنسبة إلى اللاحق ، لكونه من الأصول المثبتة.

الثاني : استصحاب وجوب الإتمام ، فإنّ قبل عروض سانحة كان الواجب إتمام الصلاة ، وبعد ذلك لا يعلم به ، فيستصحب الوجوب السابق.

وفيه : أنّ الإتمام معناه ضمّ الأجزاء الباقية إلى الأجزاء الماضية ليتمّ العمل والمفروض عدم العلم بالباقي والشكّ في اعتبار شيء آخر فيه ، واستصحاب وجوب الإتمام لا يجدي في ارتفاع الشكّ في أنّ الشيء (1) الفلاني جزء أم لا.

الثالث : استصحاب حرمة القطع ؛ لأنّ قبل حدوث الشكّ كان يحرم على المكلّف قطع الصلاة ، وبعده يشكّ في الحرمة والأصل بقاؤها ، فيحرم عليه التكلّم أو شيء آخر من القواطع.

وفيه : أنّ حرمة القطع وفعل القاطع إن أريد حرمته بذاته مع قطع النظر عن اتّصافه

ص: 291


1- « ج » : الجزء.

بالقاطعية فغير مسلّمة ؛ إذ لا دليل على حرمة التكلّم مع قطع النظر عن كونه قاطعا للصلاة. وإن أريد حرمته بعنوان القاطعية فلا بدّ من العلم بكونه قاطعا ، وعلى تقدير الشكّ في الجزء أو الشرط في حال الترك لا يعلم انقطاع الصلاة بواسطة ذلك الشيء المتروك حتّى لا يكون التكلّم قاطعا ؛ إذ بعد الانقطاع لا يعقل القطع ولا عدم انقطاعها (1) بواسطة ذلك الشيء ؛ إذ المفروض كونه مشكوكا حتّى يكون قطعا ، فيكون من موارد الشبهة الموضوعية التي لا دليل على لزوم الاجتناب فيها في غير ما سبق بالعلم الإجمالي ، فالأصل البراءة فلا يحرم القطع كما لا يخفى.

فإن قيل : إنّ العرف يحكمون بكونه قطعا فيحرم.

قلنا : لا مدخل للعرف في مثل المقام كما هو ظاهر. نعم ، لو كان المستند في الحكم دليلا لفظيا غير الاستصحاب كآية البطلان (2) كان للتمسّك بالعرف فيها وجه ، ولمّا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فالمناسب تحقيق هذه (3) الآية الشريفة (4).

قد استدل بها جماعة في جملة من الموارد ، منهم ابن إدريس (5) في إفطار قضاء الصوم قبل الزوال رادّا على الرواية الدالّة على الجواز بأنّها خبر واحد لا يقبل لتخصيص الكتاب ، ومنهم بعض آخر (6) في وجوب إتمام الصلاة وعدم إبطالها عند الشكّ في الجزئية والشرطية أو (7) المانعية ، فالآية تدلّ على عدم جواز إبطال العبادات والأعمال ، سواء كان العمل صحيحا لو لا الإبطال كالصوم المفروض في كلام ابن إدريس ، أو شكّ في صحّته كما في الصلاة عند الشكّ في الشرطية أو المانعية.

وتقريب الاستدلال على وجه شامل للإبطال فيما شكّ في بطلانه (8) أن يقال : إنّ الآية

ص: 292


1- « ز ، ك » : انقطاعه.
2- محمّد : 34.
3- « ز ، ك » : هذا.
4- « ز ، ك ، ج » : - الآية الشريفة.
5- لم أعثر عليه في السرائر.
6- انظر هامش فرائد الأصول 2 : 377.
7- « م » : و.
8- « ز ، ك » : - فيما شكّ في بطلانه.

بعمومها تدلّ على عدم جواز رفع اليد عن العمل ، ففيما لو لم يكن وجه للإبطال سوى ذلك فظاهر. وأمّا في القسم (1) الآخر فعدم جواز رفع اليد إمّا بواسطة وجوب المضيّ في العبادة وإن كانت فاسدة ، وإمّا بواسطة صحّتها وكونها مسقطة للقضاء والإعادة ، والأوّل باطل ؛ للعلم بانتفائه عدا ما ثبت في موارد مخصوصة ، فتعيّن الثاني. وليس لأحد أن يقول : إنّ وجوب المضيّ لا يبقي الشكّ في المانعية أو الجزئية - مثلا - كما في الاستصحاب ؛ إذ التمسّك بالأدلّة الاجتهادية كالكتاب يجدي بالنسبة إلى إثبات اللوازم والملزومات كما في الاستدلال على صحّة المعاملة بوجوب الوفاء لها على ما هو المدلول عليه بقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) إذ قد يمكن استكشاف بعض الموضوعات بعموم العامّ ، كما (3) إذا شكّ في كون زيد صديقا للمولى مع العلم بكونه من جيرانه بعد ما أمر المولى بإضافة جيرانه على وجه العموم مع العلم بعدم إرادة العدوّ منهم ، فبعموم وجوب إضافة الجيران وإكرامهم يحكم في المشكوك بكونه صديقا فيجب إضافته وإكرامه ، فنقول بمثل ذلك في المقام فإنّ حرمة الإبطال وعدم جواز رفع اليد عن العمل بعمومها (4) يستكشف عن صحّة العمل ، فالصحّة مستفادة من عموم النهي كما لا يخفى. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال.

والإنصاف عدم دلالة الآية على ذلك ؛ إذ الوجوه المحتملة فيها كثيرة :

الأوّل : أن يكون المراد بها إحداث صفة البطلان في العمل والنهي عنه على ما يقتضيه ظاهر قوله : « لا تبطلوا » فإنّه من الإبطال وهو في اللغة ظاهر في إحداث البطلان الذي (5) هو المصدر المجرّد منه بعد ما كان العمل صحيحا ولم يكن باطلا ، فيختصّ بما إذا كان العمل صحيحا لو لا الإبطال ، بل الظاهر منه على المفروض أن يكون الإبطال بعد تمام العمل ووقوعه على وجه الصحّة بإحداث عمل محبط لما وقع

ص: 293


1- « ز ، ك » : تقسيم.
2- المائدة : 1.
3- « ج ، م » : + فيما.
4- « ز ، ك » : بعمومه.
5- « ز ، ك » : - الذي.

صحيحا كالشرك ونحوه ، ويعاضده قوله تعالى قبل الآية هذه : ( وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ * ... أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (1) ويوضحه (2) قوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (3) فإنّ الظاهر كونهما على وجه واحد ، ومن المعلوم أنّ المستفاد من الثاني النهي من إحداث صفة البطلان في الصدقات الصادرة من العباد (4) بالمنّ على من تصدّق بشيء له أو أذى عليه كما فيما ورد في تفسيره ، ويؤيّده تفسيره في الروايات بالشرك فقال عليه السلام : « لا تبطلوا أعمالكم بالشرك » (5) وقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله في رواية مضمونها أنّه قال : « من قال : لا إله إلاّ اللّه غرس له في الجنّة كذا ، ومن قال : الحمد لله له كذا » ، إلى أن تعجّب بعض من السامعين فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « فلا ترسلوا إليها نارا فتحرقوها » (6) ، ثمّ قرء قوله تعالى : ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (7).

الثاني : أن يكون المراد بالآية إحداث الموصوف بالبطلان متّصفا بهذه الصفة ، فالمعنى : لا يجوز لكم إيجاد الصلاة باطلا بواسطة عدم إطاعة اللّه وإطاعة رسوله من عدم تعليم (8) أحكام العمل وكيفياته كما يقتضيه ظاهر العطف على « أطيعوا » والأفعال المزيدة قد تستعمل في هذا المعنى كما في قولهم : « لا تضيّق فم الركية للفتى (9) » فإنّ المراد به عدم إيجاده متّصفا بهذه الصفة ، وأمثاله في العرف كثيرة ، ومنها قولهم : « مجمل » إذ ليس الإجمال صفة طارئة ، فالنهي عن الإجمال كأن يقال : « لا تجمل في القول » معناه : لا توجد قولا متّصفا بعدم وضوح الدلالة ، وكذا قولهم : « مبيّن » إذ البيان في قبال

ص: 294


1- محمّد : 32 - 33.
2- « م » : توضيحه.
3- البقرة : 264.
4- « ج ، م » : العبادات.
5- لم أجده.
6- المثبت من « ك » وهو موافق لمصادر الرواية وفي « م » : فتحرقها وفي « ج ، ز » : فيحرقها.
7- وسائل الشيعة 7 : 186 ، باب 31 من أبواب الذكر ؛ بحار الأنوار 8 : 186 ، باب 23 ، ح 154 و 93 : 168 ، باب 2 ، ح 3.
8- كذا ، والأنسب تعلّم.
9- « ز ، ك » : - للفتى.

الإجمال وليس ممّا يطرأ اللفظ بعد الحدوث في الأغلب ، فالأمر بالبيان بيان لإيجاد بيان ظاهر الدلالة وبيّن المقصود وذلك ظاهر.

الثالث : أن يكون المراد بها ما هو مناط الاستدلال المذكور من وجوب المضيّ على العمل وعدم جواز رفع اليد عنه ، وهو لو لم نقل بكونه خلاف الظاهر بالنسبة إلى الوجهين الأوّلين فلا أقلّ من التساوي ، سيّما الأوّل منهما ؛ لموافقته (1) للعرف واللغة ونظائرها في الكتاب العزيز وما قبلها والروايات الواردة فيها كما مرّ ، سلّمنا عدم المكافئة فلا يجوز الحمل على الأخير ؛ إذ لا ريب في جواز رفع اليد عن كثير من الأعمال الواجبة فكيف بالمستحبّات والمباحات ، وتخصيصها بالشرعيات مجازفة ، وعلى تقديره العمل بها فيها أيضا مكابرة ، والقول بالأخذ بعمومها خرج ما خرج ، وبقي الباقي في العامّ مجازفة في مكابرة ؛ إذ التخصيص قد يبلغ حدّا لا يجوز القول به في كلام الحكيم وإن قلنا بجواز تخصيص الأكثر ، فلا بدّ من حملها على طائفة معهودة صادقة على الصلاة (2) الواجبة فقط أو على الإبطال بالشرك كما ورد في الرواية ، ولا يجوز أن يكون هذا فردا منها ، فيكون البيان مختصّا ببعض (3) أفراده ؛ لعدم الجامع القريب بين الإبطال على الوجه المزبور ورفع اليد ، فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد (4).

فجملة الكلام في هذا المقام : أنّ الشكّ لو كان متعلّقا بما هو بمنزلة الجزء الماديّ من الصلاة كما في السورة مثلا ، فلا جريان للاستصحاب فيه على بعض الوجوه المتقدّمة ، ولا يجدي في بعض آخر ؛ إذ المدار على ارتفاع هذا الشكّ إمّا وجدانا ، وإمّا شرعا وكلاهما منفيّان ، أمّا الأوّل فبالفرض ، وأمّا الثاني فلعدم جريان استصحاب صحّة

ص: 295


1- « ز ، ك » : بموافقته.
2- « م » : الصلوات.
3- « ز ، ك » : محضا لبعض.
4- « ج ، م » : المعنى الواحد.

الأجزاء السابقة ، وعدم إثبات استصحاب وجوب (1) الإتمام والقابلية عدم جزئية المشكوك ، وعدم العلم بالموضوع في استصحاب حرمة القطع ، وعدم دلالة الآية على حرمة القطع في هذا المقام (2).

وأمّا الكلام في القسم الثاني (3) وهو ما إذا كان الشكّ في الجزء الصوري للصلاة مثلا ، وبعبارة أخرى ما إذا كان الشكّ في قاطعية شيء للصلاة أو عروض القاطع ، وقد عرفت أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في حرمة القطع أنّ الصلاة ذات هيئة ارتباطية متّصلة بعض أجزائها بالآخر (4) في نظر الآمر ، فالتحقيق جريان الاستصحاب فيه وكونه مفيدا أيضا. بيان ذلك : أنّه لا شكّ في اتّصاف الأجزاء السابقة بحالة ارتباطية على وجه يمكن أن يصير جزء فعليا للصلاة فيما لو انضمّ إليها الأجزاء الأخر ، فتلك الحالة تارة : نعلم ببقائها عند انضمام الأجزاء الباقية إليها صحيحة ، وتارة : نعلم بارتفاعها كما إذا عرض المصلّي حال اشتغاله بالصلاة قاطع معلوم القاطعية كالتكلّم ، وأخرى يشكّ في بقائها وارتفاعها بواسطة الشكّ في عروض القاطع كالتكلّم بكلام طويل - مثلا - أو قطع العارض كأن تكلّم بلفظة واحدة مفيدة كقولنا (5) : « ق » أمرا مثلا ، والأصل بقاء تلك الحالة وبعد وجودها شرعا تصير مطابقة للأمر بها ويترتّب عليها آثارها ، وهو المراد بالصحّة المستصحبة.

لا يقال : القطع أمر نسبي لا يتحقّق إلاّ بين شيئين متحقّقين والمفروض عدم وجود الأجزاء اللاحقة ، فلا يتحقّق القطع.

لأنّا نقول : عند العلم بحصول القاطع المعلوم أيضا لا يكون الأجزاء الباقية

ص: 296


1- « ز ، ك » : - وجوب.
2- في هامش نسخة « م » : اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك بأنّ وجوب الإتمام إنّما يلازم عدم الجزئية شرعا ؛ لعدم القول بالفصل ، إذ لا يعقل القول بوجوب الإتمام مع لزوم الإعادة ، فتأمّل « منه ».
3- تقدّم القسم الأوّل في ص 290.
4- « ز ، ك » : « ببعض » بدل : « بالآخر ».
5- « م » : كقوله.

موجودة ، فكيف يتصوّر القطع فيه مع أنّه مسلّم عندنا؟ فما هو الجواب فيه هو الجواب هنا أيضا. وحلّه (1) أنّ المقطوع هو الكون الصلاتي المترتّب بعض (2) أجزائها على بعض الموجود في نظر المصلّي على ما (3) أمر به الشارع في صورتي العلم والشكّ ، ولا يتأتّى القول بأنّ الربط بين الأجزاء (4) السابقة واللاحقة على هذا الوجه يكون من أوّل الأمر مشكوكا فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ موارد الاستصحاب موارد الشكّ وهذا من لوازم الشكّ كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الشكّ في الجزئية والشرطية والمانعية أيضا يلازم الشكّ في الهيئة الطارئة للأجزاء وارتفاعها والأصل بقاؤها على (5) تلك الحالة أيضا ، فالمقامان يجري الاستصحاب فيهما.

قلت : إنّ الشكّ في الجزئية وإن كان يلازم الشكّ في الهيئة لانبساطها على تمام الأجزاء فالشكّ في واحد منها شكّ فيها أيضا ، إلاّ أنّ البطلان مستند إلى فقد الجزء كالسورة ، أو وجود المانع كالنجاسة الثابتة قبل الصلاة أيضا ، وارتفاع الجزء الصوري تابع لارتفاعه ، فلا يستند إلى ارتفاعها البطلان كما لا يستند إلى بقائها صحّة الصلاة من هذه الحيثية ؛ لبقاء الشكّ فيه بعد ذلك أيضا ، وقد عرفت في المقام الأوّل جريان هذا الاستصحاب وعدم جدواه ؛ لكونه مثبتا بالنسبة إلى نفي الشكّ عن المشكوك المفروض.

والحاصل : أنّ وجود الربط لمّا كان في المقام مستصحبا صحّ الاستناد إليه في إثبات الصحّة التابعة لوجوده (6) بخلاف المقام الأوّل ، إلاّ على دعوى غير بيّنة ولا مبيّنة من أنّه كلّما وجب إبقاء (7) الربط الذي هو بمنزلة الجزء الصوري كان الصلاة صحيحة مطابقة

ص: 297


1- « ز ، ك » : علمه. « ج » : حمله.
2- « م » : على بعض.
3- « ج ، م » : - ما.
4- « ز ، ك » : أجزائه.
5- « ج ، م » : في.
6- « ج » : بوجوده.
7- « ز » : إلقاء.

للأمر مسقطة للقضاء.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الوجه في استناد جملة من الفحول كالشيخ وأضرابه (1) باستصحاب الصحّة في موارد الشكّ ، فإنّها كلّها في هذا المقام دون المقام السابق ، ولا شكّ أيضا أنّ قاعدة الاشتغال في الشكّ في الجزئية و (2) الشرطية ممّا لا يجوز الاعتماد عليها بعد جريان استصحاب الصحّة ؛ لكونه واردا عليها.

نعم ، لا ينبغي الركون إليه في المقام الأوّل على تقدير القول بالاشتغال ؛ لعدم المدخلية في الاستصحاب بالنسبة إلى المشكوك ، فما قد يظهر من بعضهم مع مصيره إلى القول بالاشتغال من التمسّك بأصالة الصحّة واستصحابها زاعما ورودها على الاشتغال ، ممّا لا وجه له ، ولعلّ التعويل على الآية أيضا في هذا المقام ممّا لا يخلو عن قوّة ، سيّما بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، فتدبّر.

ص: 298


1- انظر الخلاف 3 : 150 ؛ المبسوط 2 : 147 ؛ السرائر 1 : 220 ؛ المعتبر 1 : 54 ؛ نهاية الإحكام 1 : 538 ؛ تذكرة الفقهاء 1 : 24 ؛ تمهيد القواعد : 273.
2- في هامش « م » : قلت : ولعلّ جريان استصحاب بقاء الربط مخصوص بما إذا حصل الشكّ في الأثناء على ما قيّدنا بذلك عنوان الهداية ، وإلاّ فلو فرض حصول الشكّ في انقطاع الصلاة بالأمر الفلاني قبل الدخول فيها فلو فرض صحّة الدخول في الصلاة بعدم إمكان قصد القربة على تقدير الشكّ ، فلا وجه للاستصحاب ؛ لعدم اليقين السابق كما لا يخفى على المتأمّل ، اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك بالاستصحاب العدمي بالنسبة إلى وجود القاطع أو قاطعية الموجود ، فتأمّل فإنّه خارج عن المفروض على تقدير حدوره « منه ».

هداية [ في استصحاب الاشتغال ]

اشارة

قد اشتهر بينهم التمسّك باستصحاب الاشتغال في موارد كثيرة ، وتحقيق القول في ذلك أن يقال : إنّ الشكّ في البراءة والاشتغال تارة بواسطة الشكّ في حصول المبرئ المعلوم المبرئية ، كما إذا علمنا بالتكليف المعلوم المبيّن كوجوب صلاة الظهر وشككنا في الإتيان بها ، وتارة بواسطة الشكّ في مبرئية الفعل الموجود ، كما إذا سلّم على جماعة شخص فتبرّع في الجواب عنه ثالث خارج منهم أو واحد من الجماعة فشككنا في براءة الباقي وإسقاط تكليفهم بحصول هذا الفعل من الشريك أو المتبرّع ، وكما إذا صلّى على الميّت صبيّ مراهق على القول بشرعية عباداته فشككنا في سقوط الوجوب بفعله عن غيرهم ، وكما إذا تبرّع في زكاة فطر الضيف أجنبي أو الضيف بنفسه زكّى فشككنا في سقوط وجوب الزكاة عن صاحب الضيف ، وكما إذا التقطنا شيئا فشككنا في سقوط وجوب التعريف بفعل الوكيل ، ونحوها ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، وتارة بواسطة الشكّ في أصل التكليف وكيفياته بعد العلم به إجمالا ، كما إذا علمنا بوجوب الصلاة في الجمعة ولم نعلم المكلّف به تفصيلا هل هو الظهر أو الجمعة؟ في الشبهات الحكمية بأقسامها ، وكما إذا اشتبهت القبلة بين الجهات أو الجهتين في الشبهات الموضوعية على ما مرّ تفاصيلها ، ولنورد الكلام في هذه الأقسام في مقامين :

ص: 299

المقام الأوّل

في القسمين الأوّلين ، فنقول : التحقيق (1) عدم الاحتياج إلى الاستصحاب فيهما ، وعلى تقديره فلا يجدي فيما هو المطلوب عند الشكّ في البراءة والاشتغال.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو فيما إذا كان المستصحب مشكوك البقاء أو الحكم المترتّب عليه ، وجودا كان المستصحب أو عدما ، فعند ذلك يحكم ببقاء ذلك المستصحب إمّا بواسطة إثبات نفسه ، وإمّا بواسطة إثبات الحكم المتفرّع عليه ، والمقام ليس منه ، إذ ليس المقصود إثبات نفس المستصحب بدون أن يترتّب عليه شيء ، وأمّا الأحكام المترتّبة على المستصحب فهي مترتّبة على ما هو مقدّم طبعا على الاستصحاب وهو مجرّد الشكّ المعتبر في محلّ الاستصحاب ومجراه. وتوضيحه : أنّ أحكام المستصحب - وجودا كان أو عدما - قد يختلف مع الأحكام المترتّبة على عدم العلم به والشكّ فيه كما (2) في استصحاب وجود زيد وعدمه ، فإنّ ما يترتّب على الوجود المحكوم بالبقاء - كالحكم بعدم جواز نكاح حليلته ، ووجوب النفقة عليه ، ووجوب انعزال نصيبه من مال مورّثه ، ونحوها - ممّا لا يترتّب على عدم العلم بوجوده ، فمجرّد عدم العلم مع عدم العلم بالحالة السابقة الوجودية لا يجدي في ترتيب هذه الأحكام ، وقد يتّحد مع الأحكام المترتّبة على عدم العلم بذلك (3) المستصحب ، فإذا لا حاجة في الحكم بترتيب هذه الآثار على إحراز وجود المستصحب أو عدمه ، بل يكفي في ذلك مجرّد عدم العلم ، كما فيما إذا شككنا في حجّية شيء كالظنّ - مثلا - فإنّ ما يترتّب على عدمها إنّما يترتّب على نفس الشكّ فيها ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم في مباحث الظنّ (4) حيث تمسّك بعضهم في مقام تأصيل الأصل بأصالة عدم الحجّية ، وما

ص: 300


1- « ز ، ك » : إنّ التحقيق هو.
2- « م » : كما هو.
3- « ز ، ك » : « عدم ذلك » ، بدل : « عدم العلم بذلك ».
4- نبّه في ج 3 ، ص 76.

نحن فيه من قبيل الثاني فإنّ وجوب الإتيان بالمأمور به عند الشكّ في الامتثال مترتّب على مجرّد الشكّ في الامتثال ولا بدّ من البراءة اليقينية ، فقولهم : « الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية » ناظر إلى إحراز القيد وهو تحصيل اليقين ، ولا يجوز الاقتناع بالشكّ ، فإنّ المناط في ذلك هو لزوم دفع الضرر على ما هو صريح العقل القاطع كما في نظائره من وجوب شكر المنعم ونحوه ، ومجرّد حصول المناط كاف في الحكم بآثاره المترتّبة عليه ولا حاجة في ذلك إلى إحراز المستصحب بالاستصحاب لترتيب هذه الآثار.

وأمّا الثاني : فلأنّا لو سلّمنا الاحتياج إلى إحراز المستصحب وجودا أو عدما في المقام حتّى يترتّب عليه الآثار المطلوبة فتلك الآثار ممّا لا يترتّب (1) على المستصحب. بيان ذلك أنّ الاشتغال عبارة عن صفة منتزعة من الإنشاء والطلب بالنسبة إلى المكلّف بمعنى أنّ الطالب بعد ما أنشأ الطلب التكليفي بالقول أو كشف عنه بعد إيجاده في نفسه بواسطة القول على اختلاف القولين ، يمكن أن ينتزع (2) من المكلّف صفة يعبّر عنها بالاشتغال كما ينتزع من الفعل كونه مطلوبا ، وبذلك يصحّ إطلاق الطالب على الآمر أيضا ، وهاهنا (3) معنى آخر يعبّر عنه بالوجوب تارة وبالإيجاب أخرى على اختلاف الاعتبارات ، وهو المراد بالحكم الشرعي ومرجعه إلى أحد الأخيرين ، وليس هذا الإنشاء عندنا - كما عليه المحقّقون - إلاّ الإرادة الجازمة والكراهة الثابتة بناء على أنّ الطلب هو عين الإرادة لا ما يستتبعه وإن كان مغايرا له ، ولا أمر آخر مفارق له كما زعمه الأشاعرة.

وبالجملة : فالوجوب الذي هو حكم شرعي يكون في عرض الاشتغال إن فرضنا الوجوب بالنسبة إلى الفعل ، وهما معلولان حينئذ لعلّة ثالثة وهو الإيجاب والطلب والإرادة ، وإن لاحظناه (4) بالنسبة إلى الطالب فالاشتغال مترتّب عليه عقلا ، وعلى

ص: 301


1- « ز ، ك » : ممّا يترتّب.
2- « ج ، ز » : ينزع.
3- « ز ، ك » : هنا.
4- « ز ، ك » : لاحظنا.

التقديرين لزوم الامتثال من الأحكام العقلية المترتّبة على الاشتغال فعند وجوده الحقيقي يترتّب عليه لزوم الامتثال المطلوب من استصحابه في أمثال المقام ، وأمّا عند إحراز الاشتغال بالاستصحاب لا يترتّب عليه إلاّ أحكامه الشرعية.

نعم ، يصحّ في المقام استصحاب الوجوب الذي هو حكم شرعي ؛ إذ معنى الاستصحاب هو جعله في مقام الظاهر وإنشاؤه ، وبعد الجعل والإنشاء (1) يترتّب عليه (2) جميع لوازمه العقلية والشرعية من وجوب الامتثال وحدوث الاشتغال ، فإنّه على تقدير القول بالجعل ظاهرا حقيقي واقعي لا استصحابي ظاهري كما لا يخفى.

نعم ، يترتّب على استصحاب الاشتغال آثاره الشرعية المترتّبة عليه ، مثلا لو قيل بأنّ من اشتغل ذمّته بالفرائض لا يجوز له ارتكاب السنن والنوافل ، صحّ الاستناد إلى الاستصحاب في الحكم بعدم جواز ارتكاب النوافل له ، ومن اشتغل ذمّته بالظهر لا يجوز له الدخول في العصر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال في المقام بأنّ الاستصحاب مجد من وجهين :

أحدهما : أنّ المستفاد من الأمر بإبقاء الاشتغال حال الشكّ عرفا هو جعل الحكم الشرعي وإنشاء طلب ظاهري ؛ إذ كما عرفت أنّ الاشتغال والوجوب من أطراف إضافة واحدة كالصفة المنتزعة من المأمور به وهي المطلوبية ، فإنّ بعد كشف الشارع والطالب عن إرادته الجازمة يمكن لنا انتزاع تلك الأوصاف من محالّها ، فالمراد بالحكم الشرعي هو الأثر الباقي بعد الإنشاء ؛ ضرورة انعدامه بعد وجوده على ما صرّح بذلك أستاد (3) الكلّ في رسالته المعمولة في مقدّمة الواجب ، فكما أنّ الحكم بالبقاء المستفاد من دليل الاستصحاب يعدّ عرفا جعل حكم مثله في الظاهر ، فكذلك بالنسبة إلى الصفة المنتزعة من المكلّف ، فإنّ التفرقة بينهما مكابرة.

ص: 302


1- « ج ، م » : - والإنشاء.
2- « ز ، ك » : - عليه.
3- « م » : الأستاد.

وثانيهما : أنّه لا ريب في ترتّب الأحكام الشرعية المترتّبة على الاشتغال عليه بعد الاستصحاب ، كعدم جواز الدخول في العصر بعد الشكّ في الإتيان بالظهر واستصحاب بقاء الاشتغال بالظهر ، وقد يكون ذلك الحكم الشرعي المجعول في مرحلة الظاهر كما هو المستفاد (1) من استصحاب موضوعه ، لازما لحكم شرعي آخر ، وحينئذ فلا ريب في لزوم الأخذ بهذا الحكم الشرعي أيضا ؛ إذ بعد القول بمجعولية هذا الحكم الشرعي فيترتّب عليه جميع ما يترتّب عليه ويجب الأخذ بكلّ ما هو مستند إليه كوجوب مقدّماته ونحو ذلك ، ومن جملة مقدّمات الإتيان بالعصر إنّما هو الإتيان بالظهر قبل الإتيان به ، فالقطع ببراءة الذمّة عن صلاة العصر يتوقّف على الإتيان بالظهر حال الشكّ ، وهو من نتائج بركات بقاء الاشتغال استصحابا وذلك ظاهر.

ثمّ أنّه قد يتوهّم : عدم الفرق بين استصحاب الاشتغال وقاعدته ؛ حيث إنّ كلاّ منهما موقوف على العلم السابق والشكّ اللاحق ، وقد مرّ (2) منّا ما يوضح به فساد ذلك ، فإنّ الحكم المترتّب على المستصحب إنّما هو مترتّب عليه ، فبانسحابه في الزمن الثاني يترتّب عليه بخلافه في قاعدة الاشتغال ؛ إذ لا حاجة فيها إلى انسحاب المعلوم كما في قاعدة البراءة واستصحابها.

المقام الثاني

في القسم الأخير من الأقسام المذكورة ، ونقول فيه أيضا : إنّ بعد الإجمال في المكلّف به تارة : يكون الشكّ في أنّ ما يمكن الامتثال به مبرئ عن الاشتغال اليقيني أو لا ، كما إذا تردّد المكلّف به بين المطلق والمقيّد بعد تعذّر المقيّد ، وأخرى : في أنّ أحد الفعلين مبرئ مع التمكّن منهما معا أو لا (3).

ص: 303


1- « ز ، ك » : الظاهر المستفاد.
2- مرّ في ج 3 ، ص 332 وما بعدها.
3- « ج ، م » : - أو لا.

والتحقيق : عدم الاعتداد بالقاعدة المزبورة فيهما أيضا ، أمّا الأوّل فلعين ما ذكر في المقام الأوّل من عدم الحاجة ؛ لكفاية الشكّ عن الاستصحاب بانسحاب المستصحب ، فلا بدّ من الإتيان بالمطلق كعتق الكافرة عند تعذّر المقيّد ؛ لبقاء العلّة التامّة للامتثال وهو دفع احتمال الضرر الموجود عند الشكّ في الفراغ.

فإن قلت : إنّ مقتضى الاشتغال هو كون المقيّد مأمورا به ، وبعد تعذّره فلا أمر به ؛ لسقوطه بسقوط المأمور به.

قلنا : لا إشكال في وجوب الامتثال بالمطلق على تقدير القول بالبراءة عند دوران الأمر بين المطلق والمقيّد كما هو التحقيق ؛ لوجود الأمر والتمكّن من المأمور به ، وأمّا على القول بالاشتغال فلا شكّ في (1) أنّ الالتزام بالمقيّد إنّما هو بواسطة دفع الضرر المحتمل في جانب المقيّد ، وذلك لا يقضي (2) بأنّ المأمور به هو خصوص المقيّد واقعا على وجه لو تعذّر كان الأمر ساقطا بواسطة سقوطه ، بل هو أخذ بالاحتياط ؛ لكونه جمعا بين الحقّين ، وبعد التعذّر لا بدّ من الإتيان بالمطلق دفعا للخوف ، ولا ينافي ذلك تعذّر أحد أطراف العلم الإجمالي ؛ إذ لو كان العلم حاصلا قبل التعذّر لا يتفاوت الحال بين التعذّر وعدمه ، فإنّه بمنزلة الامتثال به.

نعم ، لو كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر لم يتّجه القول بالإتيان ؛ لأوله (3) على الشكوك البدوية كما نبّهنا عليه في الشبهة المحصورة (4) ، وبعد التسليم نقول : لا جدوى في الاستصحاب ؛ لكونه من الأصول المثبتة ، اللّهمّ إلاّ أن يدفع بأحد الوجهين على ما سبق ذكرهما (5) ، ومنه (6) يظهر الكلام في الثاني أيضا ؛ لكون الأصل على تقدير الأخذ (7) مثبتا كما في استصحاب البراءة ولقد نبّهنا على ذلك في أصالة البراءة أيضا ، فتدبّر (8).

ص: 304


1- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : إلى.
2- « ج » : لا يقتضي.
3- « ك » : لا دلالة ، وفي « ز » : لإدلاله ( ظ ).
4- نبّه عليه في ج 3 ، ص 474.
5- سبق في ص 302.
6- « ز ، ك » : من هنا.
7- « ز ، ك » : الحاجة.
8- « ز ، ك » : - فتدبّر.

هداية [ في استصحاب الفرد المردّد ]

إذا علمنا بحدوث حادث مردّد بين أمرين وجوديين أو عدميين أو مختلفين كما إذا علمنا بدخول شخص في الدار مردّد بين كون الداخل زيدا أو عمرا فهل في المقام أصل يرجع إليه فيهما أو في أحدهما ، أو لا؟

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ في المثال المذكور تارة : يراد من إعمال الأصل فيه إثبات عدم كون الداخل زيدا أو عمرا ليترتّب عليه أحكامه ، وأخرى : يراد فيه (1) استصحاب عدم دخول زيد أو عمرو.

لا مجال للاستصحاب على الأوّل ؛ لأنّه بمنزلة إثبات الفصول المعتبرة في ماهيّات الأنواع بالأصول ، كما إذا قطعنا بحدوث حيوان مردّد بين كونه ناطقا أو ناهقا ، فإنّه لا مجال لاستصحاب عدم الناطقية أو الناهقية فيه ؛ إذ لا يكون عدم الناطقية أو عدم الناهقية معلوما بالنسبة إلى هذا الموجود المردّد ، فعدم كون الداخل زيدا (2) لم يكن معلوما قبل فلا علم في السابق ، فينتفي الاستصحاب بانتفاء أحد أركانه. وما قد يرى في بعض كلمات العلماء من إثبات عدم السيادة بالأصل (3) ، فمبنيّ على المسامحة ؛ إذ

ص: 305


1- « ز ، ك » : فيه هو.
2- « ج » : « زيد » وفي « م » : « غير زيد » ثمّ شطب على « غير ».
3- انظر مصباح الفقيه 1 : 270 ط الحجري ؛ كتاب الطهارة من ( التنقيح ) للسيّد الخوئي 6 : 94 ؛ جامع المدارك 1 : 81 ؛ كتاب الخمس للحائري : 483.

المقصود استصحاب عدم تولّده من هاشم ، وعلى تقدير جريان الاستصحاب لا ينبغي الشكّ في أنّ استصحاب عدم كون الداخل زيدا لا يجدي في كون الداخل عمرا ؛ لأنّه من المقارنات الاتّفاقية وقد عرفت في الهدايات السابقة عدم إحراز المقارن باستصحاب المقارن كما مرّ (1).

وأمّا على الثاني فلا ريب في جريان استصحاب عدم دخول زيد كجريانه بالنسبة إلى عمرو أيضا ، إلاّ أنّه لا يفيد أحد الاستصحابين في إثبات كون الآخر داخلا ؛ لأنّه مثبت فلا تعويل عليه ، وهل يترتّب على الاستصحابين أحكام عدم الحادثين معا أو لا؟ التحقيق التفصيل بين الموارد ، فإنّه ربّما يترتّب على الاستصحابين أحكامهما معا ، وربّما لا يترتّب شيء منهما ، وربّما يقال بترتّب حكم واحد منهما لا على سبيل التعيين ، وربّما يترتّب حكم واحد منهما على سبيل التعيين.

أمّا الأوّل : ففيما لم يكن للعلم الإجمالي حكم لعدم لزوم المخالفة العملية (2) كما إذا تطهّرنا بما يحتمل كونه ماء أو بولا ، فإنّه يعلم إجمالا إمّا بزوال الحدث بواسطة الوضوء ، أو بحدوث النجاسة في محالّ الوضوء ، فإنّه يترتّب على استصحاب عدم كونه بولا عدم نجاسة المحالّ ، وعلى استصحاب عدم كونه ماء عدم حصول الطهارة ، فتأمّل.

وكما إذا كان هناك ماء غير معلوم الكرّية فلاقاه جسم نجس فإنّه يؤخذ بعدم نجاسة الماء وعدم طهارة الملاقي.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ذلك فيما إذا لم يكن في المقام أصل موضوعي مثل طهارة المائع في الأوّل نظرا إلى قاعدة الطهارة ، فإنّه مزيل لاستصحاب بقاء الحدث ، وكاستصحاب عدم الكرّية فيثبت بذلك النجاسة كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : ففي الشبهة المحصورة ، إلاّ أنّ الكلام في المقام مع قطع النظر عن جريان الأصل الموضوعي.

ص: 306


1- مرّ في ص 254.
2- « ك » : العلمية؟

فإن قلت : لا دليل على اعتبار الاستصحاب فيما خالفه العلم الإجمالي ؛ إذ مع ذلك يمتنع حصول الظنّ من الطرفين ، وأمّا الأخبار فالظاهر منها ما إذا لم يكن في البين علم إجمالي ، فلا وجه للعمل بالاستصحاب لا عقلا ولا نقلا.

قلت : قد عرفت (1) أنّ بناء القوم فيه على ما استفدنا من كلماتهم فيما سبق على العمل به من باب الظنّ النوعي وهو موجود ، وأمّا الأخبار فلا نسلّم عدم شمولها للمقام (2) كما عرفت تفصيل الكلام فيها في محلّها (3) من لزوم الاجتناب وعدم التعويل على استصحاب الطهارة فيهما أو في أحدهما ؛ لانقطاع الحالة السابقة بالعلم الإجمالي. وهل الأصلان في موارد الشبهة المحصورة يمنع عن التعويل عليهما عدم جريانهما أو تعارضهما؟ التحقيق التفصيل (4) بين الموارد.

وتوضيحه أن يقال : إنّ محلّ جريان الاستصحاب إن كان مجرى للدليل الدالّ على لزوم الاجتناب فعدم التعويل بواسطة عدم الجريان ؛ إذ الدليل على الاجتناب - وهو حكم العقل بعد خطاب الشرع بلزوم الاجتناب عن الحرام الواقعي وعدم التصرّف في الدليل الدالّ على الواقع (5) كما هو مفروض الكلام من لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة - دليل اجتهادي حاكم على الاستصحاب - فلا يجري الاستصحاب بعد حكم العقل بخلافه وذلك فيما إذا كان الاستصحاب جاريا في حكم يخالف مقتضى حكم العقل بلزوم الاجتناب (6) ، كما فيما إذا علمنا بحرمة أحد المالين المباحين إجمالا ، فإنّ خطاب الشارع (7) بحرمة التصرّف في مال الغير والغصب يقضي (8) بلزوم الاجتناب عنهما ، واستصحاب الحلّية والإباحة لا يجدي في قبال ذلك ، فلا مجرى للاستصحاب ؛

ص: 307


1- انظر ص 55.
2- « م » : المقام.
3- « ز ، ك » : محالّها.
4- « ز ، ك » : هو التفصيل.
5- « ز ، ك » : الرافع.
6- من هنا إلى قوله : عنهما ، سقط من نسخة « ك ».
7- « ز » : الشرع.
8- « ج » : يقتضي.

لارتفاع الشكّ المأخوذ في مجراه بالدليل الاجتهادي ، وإن كان مجرى الاستصحاب أمرا آخر غير ما يجري فيه ذلك الدليل الدالّ على لزوم الاجتناب على وجه يكون الاستصحاب محقّقا لموضوع لا يجري فيه ذلك الدليل الحاكم بلزوم الاجتناب ، فعدم التعويل من باب التعارض بعد الجريان ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ، فإنّ استصحاب الطهارة وارد على ذلك الدليل بمعنى أنّه محقّق لموضوع لا يجري فيه ذلك الدليل ، فإنّ العقل يحكم باحتمال النجاسة مقدّمة بلزوم الاجتناب ، والاستصحاب يحكم بعدم الاحتمال شرعا ، فالأصلان جاريان إلاّ أنّهما متعارضان كما سبق بيانه تفصيلا في الشبهة المحصورة ، هذا ما يقتضيه جليّ النظر.

وأمّا دقيق الفكر فيقضي (1) بعدم الفرق بين المقامين ؛ إذ الدليل الدالّ على لزوم الاجتناب ليس دليلا اجتهاديا حقيقة ، بل هو عبارة عن وجوب تحصيل الامتثال بعد العلم بالاشتغال ، والاجتناب من المالين المشتبهين من جهة المقدّمة العلمية ، والاستصحاب على أيّ تقدير حاكم على قاعدة الاشتغال ، فاستصحاب الحلّية والإباحة رافع لاحتمال أن يكون هذا الفرد هو المحرّم ، فلا يجري فيه المقدّمة العلمية.

نعم ، لو كان الأصلان في المشتبهين غير الاستصحاب كأن كانا براءتين ، فلا مجال لجريانهما في قبال قاعدة الاشتغال ؛ لورودها عليها وحكومتها بالنسبة إليها كما لا يخفى ، فتدبّر.

وأمّا الثالث : ففيما إذا لم يكن الموافقة القطعية بعد اعتبار العلم الإجمالي في الجملة واجبا ، كما فيمن يرى عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة بالنسبة إلى الكلّ ، وكما إذا فرضنا حصول العلم الإجمالي بين شيئين غير مرتبطين على ما مرّ تفصيل الكلام فيهما.

ص: 308


1- « ج ، م » : يقضي.

وأمّا الرابع : ففيما إذا لم يكن للآخر حكم أو لم يكن في محلّ الابتلاء ، كما إذا علمنا بوقوع عقد مردّد بين أن يكون دائما أو منقطعا ، فإنّ أصالة عدم الدوام يحتمل بالنسبة إلى نفي توارث الزوجة من الزوج فيما لو ادّعته ، وأصالة عدم الانقطاع لا تجدي (1) في هذا الحكم شيئا ، وكما إذا قال الموكّل : وكّلتك في بيع العبد ، وادّعى الوكيل وكالته في بيع الجارية ، فإنّ القول قول الموكّل ؛ لأصالة عدم توكيله لبيع العبد ، فيجدي في أخذ الثمن من الوكيل ، وأصالة عدم الوكالة في بيع الجارية فيه لا يجدي (2) شيئا ، كما إذا ادّعى أحد المتعاقدين وقوع العقد على عشرة والآخر وقوعه (3) على ثمانية ، فأصالة عدم وقوعه على العشرة يجدي (4) في أخذ الزائد ، ولا يجدي في هذا الحكم نفيا ولا إثباتا أصالة عدم وقوعه على الثمانية ، وكما إذا شكّ في ولادة شخص من هاشم ، فأصالة عدم تولّده من هاشم يثمر في عدم استحقاقه الخمس ، ولا يثمر أصالة عدم تولّده من غيره في نفي هذا الحكم ، وكما إذا شكّ في كون مكان مسجدا أو دارا ، فأصالة عدم كونه مسجدا يجدي في اللبث فيه جنبا ، ولا يضرّ في ذلك أصالة عدم كونه دارا ، وكما إذا شكّ في كون القرينة صارفة أو مؤكّدة ، فأصالة عدم الصرف يجدي في حمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، ولا يضرّ في ذلك عدم كونها مؤكّدة إلاّ على تقدير أن يكون أصالة عدم التأكيد مثبتا (5) ؛ لكونها صارفة ، وذلك جار في الكلّ ، وقد عرفت عدم الاعتداد بهذه الأصول ، ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده بعضهم من أنّه لو شكّ في القرينة الحالية لا يجوز التمسّك بالأصل في نفيها لوجود الحال قطعا بين المتكلّم والمخاطب ، ممّا لا وجه له ؛ إذ أصالة عدم كون الحال قرينة تجدي في حمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، وأصالة عدم كونها غير قرينة ، لا يضرّ في ذلك.

ص: 309


1- « ج ، م » : لا يجدي.
2- « ز ، ك » : لا يحتمل.
3- « ز » : على وقوعه.
4- « ك » : تجدي وكذا في المورد الآتي.
5- « ز ، ك » : مثبتة.

ثمّ إن شئت قلت في تلك الأمثلة وما يضاهيها : إنّ الأصل إنّما يجري في اللوازم والآثار إلاّ أنّه لا يجدي في اللوازم المتجدّدة ، فكن على بصيرة من الأمر كي لا تشتبه (1) عليك حقيقة الحال في الموارد.

ص: 310


1- « ز ، ك » : لا يشتبه.

هداية [ في الاستصحاب في الأجزاء بعد تعذّر الكلّ ]

إذا تعذّر الإتيان بالكلّ بعد التمكّن منه فلإجراء حكم الكلّ في الأجزاء الباقية طرق : أحدها : الأخذ بالعمومات الدالّة على عدم سقوط الميسور بالمعسور ووجوب الإتيان بما هو المقدور ، كقوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (1) و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2) وقوله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » (3) على ما سبق منّا تحقيق القول فيها في بعض المباحث الماضية (4).

وثانيها : الاستقراء فإنّه قد يوجد في كلمات البعض دعوى مطلوبية الأجزاء الباقية بعد تعذّر المركّب في أمثال المركّبات الشرعية ، وليس بتلك المكانة من البعد إلاّ أنّه لا يثمر (5).

ص: 311


1- عوالى اللآلى 4 : 58 ، ح 205 وفيه : « لا يترك الميسور ... ».
2- عوالى اللآلى 4 : 58 ، ح 207.
3- رسائل السيّد المرتضى 2 : 244 ؛ تفسير مجمع البيان 3 : 329 ؛ تفسير جوامع الجامع 1 : 536 ؛ عوالى اللآلى 4 : 58 ، ح 206 ؛ بحار الأنوار 22 : 31 ، باب 37 ؛ وورد في كتب العامّة مسندا كصحيح البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة والنسائي والبيهقي ومصنّف عبد الرزاق ومسند ابن راهويه وأحمد وأبي يعلى وصحيح ابن خزيمة وابن حبّان ومعجم الأوسط للطبراني.
4- في بحث البراءة في ج 3 ، ص 561. وقد بسطنا الكلام هناك فلاحظ.
5- « ج ، م » : لا يسمن.

وثالثها : الاستصحاب كما أنّه أحد وجهي كلامي المحقّق والعلاّمة في مسألة وضوء الأقطع في المعتبر والمنتهى (1) ، والوجه الآخر في كلامهما احتمال الاستناد إلى الأدلّة الاجتهادية.

وكيف (2) كان ، فللمستصحب أن يقرّره بوجهين :

الأوّل : أنّه لا ريب في تعلّق التكليف بالكلّ عند التمكّن منه على ما هو المفروض في عنوان الهداية فهو بحيث لو كان المكلّف آتيا به كان التكليف ساقطا قطعا ، وبعد التعذّر شكّ في سقوط التكليف والأصل بقاؤه وعدم سقوطه ، فيجب (3) الإتيان بالأجزاء الباقية.

فإن قلت : إن أراد المستصحب استصحاب وجوب (4) الكلّ فقد ارتفع قطعا ، وإن أراد استصحاب الأجزاء الباقية فلم يعلم وجوبها قبل ، فلا يجري الاستصحاب.

قلت : أمّا أوّلا : فليس من دأب المناظر في ميدان المناظرة صرف عنان الكلام إلى تعيين ما هو المستصحب في المقام ، بل عليه أن يلاحظ فيما هو المرام من الاستصحاب كما لا يخفى على من تأمّل (5).

وأمّا ثانيا : فهنا (6) شقّ ثالث وهو اختيار بقاء التكليف المردّد بين كونه على وجه يرتفع بعد التعذّر قطعا وبين كونه على وجه لا يرتفع كأن يكون المكلّف به هو القدر المشترك بين الكلّ وغيره ، واستصحاب أمثال الأمور المردّدة ممّا لا ضير فيه ؛ لصدق الحدّ عليه وشمول الدليل له.

ص: 312


1- المعتبر 1 : 144 ؛ المنتهى 2 : 37 وفي ط الحجري 1 : 59.
2- « ز ، ك » : فكيف.
3- « ز ، ك » : سقوط التكليف وعدمه فيجب.
4- « م » : وجود.
5- في هامش « م » : فيه أنّ الترديد في المستصحب وإبطال كلّ شقّ من طرفي الترديد ليس كلاما خارجا عن طور المناظرة وقانون التوجيه ( ظ ). « منه ».
6- « ج ، م » : فهاهنا.

نعم ، لا بدّ من ملاحظة أن لا يكون المقصود من إثبات المردّد بالاستصحاب إجراء أحكام أحد الأطراف عليه.

فإن قلت : إنّ المقام ليس من موارد الاشتغال ؛ إذ ما هو معلوم الوجوب غير ممكن الامتثال ، وما هو ممكن الامتثال غير معلوم الوجوب ، فالأصل البراءة. لا يقال : إنّ عدم إمكان الكلّ لا يضرّ في استصحاب وجوب الباقي كما في المطلق والمقيّد ، فإنّ قضيّة مطلق الاشتغال وجوب الامتثال بالمطلق أيضا. لأنّا نقول : إنّ الأخذ بالمقيّد لم يكن أخذا بما هو المكلّف به في الواقع وإنّما كان من وجوه الاحتياط ، بخلاف الإتيان بالكلّ في المقام فإنّ الأخذ به بعد (1) التمكّن منه والإتيان به إنّما هو الأخذ بما هو المكلّف به واقعا وليس من موارد الاحتياط ، فإنّه هو المتعيّن في حقّ المتمكّن ، وبعد تعذّر الكلّ لا مجال للاستصحاب.

قلت : لا فرق بين استصحاب المطلق بعد تعذّر المقيّد وبين استصحاب الباقي بعد تعذّر الكلّ.

وتوضيح ذلك وتحقيقه : أنّ من الواجبات الموسّعة ما لا يختلف أفراده إلاّ باعتبار اختلاف الأزمنة التي يقع الفعل فيها مع مماثلتها واتّحادها نوعا ، ومنها ما يختلف أفراده باعتبارات أخر أيضا ، كما في الصلاة بالنسبة إلى أحوال المكلّفين من الأمور التي تختلف عناوين الأحكام باختلافها كالسفر والحضر أو وجدان الماء وتعذّره والصحّة والمرض والعجز والقدرة ونحوها ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى كلّ من المسافر والحاضر شيء ، وبالنسبة إلى الواجد والفاقد شيء ، وبالنسبة إلى المريض والصحيح شيء ، وكذا العاجز والقادر (2) ، فالمتّصف بالوجوب الموسّع هو القدر المشترك بين تلك الأفراد المختلفة شخصا ونوعا المتّحدة في كونها صلاة ، وليس خصوص صلاة الحاضر واجبا موسّعا ؛ ضرورة عدم وجوبها على المسافر ، ولا واجبا مضيّقا ؛ ضرورة حصول

ص: 313


1- « ز ، ك » : لعدم.
2- « ج ، م » : والصحيح والعاجز والقادر شيء.

الامتثال بغيرها عند لحوق ما يقضي بذلك الغير وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فالأمر بوجوب الإتيان بالكلّ كأقيموا الصلاة إنّما قيّد إطلاقه حال الإمكان بأن يأتي المكلّف بالسورة مثلا أو على وجه خاصّ وكيفية مخصوصة ، والإتيان بالمأمور به على هذا الوجه ليس أمرا متيقّنا حتّى يؤخذ به ويدفع الباقي بالأصل ، بل هو مردّد بين أن يكون المطلوب هو خصوص المقيّد على وجه لو انتفى القيد انتفى التكليف رأسا ، وبين أن يكون المطلوب هو المطلق ولكن قيّد إطلاقه بكذا في حال كذا على وجه لو انتفى القيد لم ينتف التكليف بالمطلق ؛ لاحتمال أن يكون المطلوب هو القدر المشترك بين الكلّ والأجزاء الباقية ، فعلى التقديرين المطلوب عند التمكّن هو المقيّد وإنّما المجمل هو وجه التكليف به ، ومنه جاء الاشتغال كدوران الأمر بين المتباينين كما في الظهر والجمعة.

وبالجملة : فمعلومية المكلّف به عند التمكّن ليس باعتبار أنّه المكلّف به حقيقة على وجه لو انتفى القيد ينتفي التكليف ، بل يحتمل أن يكون بواسطة أنّه كلّ فهو مطلوب بنفسه ، وأن يكون بواسطة (1) أنّه (2) أحد (3) أفراد الواجب الموسّع فلا يرتفع التكليف بعد ارتفاعه كما لا يخفى.

هذا غاية ما يمكن أن ينتصر للمستدلّ في المقام ، إلاّ أنّه بعد ذلك أيضا ممّا لا يستقيم (4) بعد الغضّ عن جريان قاعدة الاشتغال ، فإنّها هي مبنى (5) الاستصحاب كما لا يخفى ؛ لأنّ استصحاب (6) الوجوب المردّد كما هو المفروض لا يجدي في الحكم بوجوب الأجزاء الباقية التي هي إحدى (7) طرفي الترديد.

ص: 314


1- « ز ، ك » : - بواسطة.
2- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : - أنّه.
3- « ج ، م » : أخذ أحد.
4- « ز ، ك » : ممّا يستقيم.
5- « ج » : منشأ ، وفي « ز » : « على » بدل : « مبنى » وفي « ك » : فإنّها مبنيّ على. وما أثبتناه من « م » وكانت فيها أوّلا « على » ثمّ شطب عليها وكتب بما في المتن مع علامة الظاهر.
6- « ز ، ك » : - استصحاب.
7- « م » : أحد.

وبعبارة واضحة : إنّ المقصود بالاستصحاب (1) هو الحكم بوجوب الأجزاء الباقية التي هي إحدى (2) طرفي الترديد وهذا ممّا لا يترتّب على استصحاب الأمر المجمل إلاّ أن يكون الأصل مثبتا ، أو قلنا باستثناء هذه الموارد - باعتبار خفاء الواسطة أو اتّحادها وجودا مع المستصحب - من الأصول المثبتة ، فإنّ بقاء الوجوب وإن كان يغاير وجوب الباقي مفهوما إلاّ أنّه (3) لا مصداق للمستصحب إلاّ أن يكون الباقي واجبا كما في مثال بقاء الكرّ.

الثاني : أنّ تلك الأجزاء التي شكّ في وجوبها كانت واجبة في السابق عند التمكّن ، فيستصحب وجوبها إلى أن يحصل القطع بالارتفاع.

وفيه : أنّ من الواجب في جريان الاستصحاب كما مرّ غير مرّة اتّحاد القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعا ومحمولا ، فلو اختلف عنوان الموضوع أو المحمول فلا يجري فيه الاستصحاب ، والمقام ممّا يغيّر فيه الموضوع والمحمول كلاهما :

أمّا الأوّل : فلأنّ المتّصف بالوجوب من هذه الأجزاء لم يكن ذواتها ، بل هي بعنوان أنّها أجزاء كانت متّصفة بالوجوب ، وقد تبدّل ذلك العنوان فإنّها قد صارت معنونة بعنوان الكلّية ؛ إذ ليس (4) الكلّ حينئذ إلاّ تلك الأجزاء.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوجوب المحمول على تلك الأجزاء ، عند التمكّن من الكلّ [ ليس إلا ] وجوبا مقدّميا تبعيا وقد تبدّل بالوجوب النفسي ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الأجزاء مطلوبة بأوامر متعدّدة مستقلّة ، وبين أن يكون الأمر بها مستفادا من الأمر بالكلّ ؛ إذ على تقديره لا يزيد على إفادة كونها مطلوبة للغير ، إذ احتمال المطلوبية النفسية عند الشكّ مدفوع بأصالة البراءة كما هو ظاهر ، فإثبات وجوب تلك الأجزاء وجوبا نفسيا باستصحاب وجوبها عند التمكّن ليس إلاّ كإثبات قعود عمرو

ص: 315


1- « ز ، ك » : أنّ الاستصحاب.
2- « ج ، م » : أحد.
3- « ج ، م » : أن.
4- « ج » : ليست.

باستصحاب قيام زيد.

هذا على ما يقتضيه مذاق التحقيق ، وأمّا على مشرب القوم فلا ينهض هذا الجواب بدفع الاستصحاب وإن أفاده (1) غير واحد منهم كالمحقّق الخوانساري (2) والمحقّق القمي (3) ونقله الأستاد دام شرفه (4) عن شيخه الشريف (5) ، وهو بمكان من البعد منهم ؛ إذ بعد ما يظهر منهم من المسامحة في أمر الاستصحاب موضوعا ومحمولا حتّى أنّهم قد استصحبوا الكرّية في الماء الموجود في الحوض بعد انتصافه فيه فلا مانع من الأخذ بمقتضى الاستصحاب في أمثال المقام ، سيّما بعد ملاحظة أنّ العرف ربّما لا يفرّقون بين نوعي الوجوب ويفهمون من الوجوب أمرا جامعا بين النفسي والغيري ، وكيف (6) كان فعلى مشربهم لا ينبغي التردّد في جريان هذا الاستصحاب ، ولعلّ ذلك منهم غريب.

ص: 316


1- « ج » : أفاده بها.
2- مشارق الشموس : 110.
3- لم أجده في القوانين.
4- « ز ، ك » : - دام شرفه.
5- كما في تقريرات درسه للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : 291 ؛ وفي ضوابط الأصول : 432.
6- « ز ، ك » : فكيف.

هداية [ في قاعدة اليقين ]

اشارة

قد ذكرنا فيما مهّدناه لتحديد الاستصحاب في أوّل الباب أنّه استفعال من صحب ، وهو لغة أخذ الشيء مصاحبا ، وعدم صدقه على ما إذا سرى الشكّ إلى زمن اليقين ممّا لا ريب فيه ؛ ضرورة توقّفه على تحقّق المستصحب كما هو ظاهر ، واصطلاحا فعلى (1) ما مرّ من وجوه اختلاف تحديداته يستفاد منها اعتبار تحقّق المستصحب في زمن اليقين وكان الشكّ في بقائه وارتفاعه بعد ما كان التحقّق في زمان معلوما ، وهذا كما ترى تنحصر موارده (2) في الشكوك الطارئة فيه لا عليه ، فما قد يوجد في بعض الكلمات من عدم حجّية الاستصحاب في الشكّ الساري ينبغي أن يحمل على عدم تعقّل الاستصحاب فيه وخروجه عن (3) أفراده ، بل ولو فرض اعتباره وحجّيته فلا يسمّى استصحابا ، مضافا إلى عدم دلالة شيء من أخبار الباب على اعتبار هذا الاستصحاب.

نعم (4) ، ظاهر بعض منها كرواية الخصال وهو قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » (5) دلالته على اعتباره مطلقا كما هو أحد احتماليها على ما احتملناه

ص: 317


1- « م » : ففي.
2- « ج ، م » : مورده.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : من.
4- « ز ، ك » : « من » بدل : « نعم ».
5- تقدّم في ص 103.

في ردّ الاستدلال بها على الاستصحاب كما ذكرها غوّاص بحار الأنوار (1) في جملة أدلّة الاستصحاب عند ذكر القواعد المشتركة (2).

وقد تفطّن بذلك الشيخ الأجلّ كاشف الغطاء فيمن تيقّن بالطهارة وشكّ فى الحدث حيث قال : [ ولو سبق العلم بتقدّم شيء أو تأخّره ، ثمّ طرأ الشكّ غير متذكّر لسبب العلم ، بنى على علمه على إشكال ، وإن ذكر سببه ورأى أنّه غير قابل لترتّب العلم فلا بناء عليه ؛ لأنّ المراد بعدم نقض اليقين بالشكّ عدم النقض بالشكّ الطارئ بعده بقسميه - ما اقترن بسبب الاستدامة وغيره - دون الطارئ عليه. ](3) وأومأ إليه أيضا المحقّق القمي (4) في بحث حجّية العامّ بعد التخصيص حيث استصحب بعضهم الحجّية في مقام الاستدلال على الحجّية.

وبالجملة : فذلك ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ولا يهمّنا إطالة الكلام فيه ، بل المقصود إنّما هو التنبيه عليه.

فالمهمّ في المقام هو بيان أنّ الأعمال المترتّبة على المعلوم السابق هل هي ممضاة شرعا أو لا بدّ من استئنافها؟ وهل يمكن إجراء تلك الأحكام بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة أو لا؟ فتحقيق الكلام في مقامين :

[ المقام ] الأوّل :

في بيان حكم الأعمال السابقة في أمثال هذه الوقائع ، مثلا لو اعتقد عدالة زيد فصلّى معه ، أو طلّق حليلته وهو بمسمع منه ، أو اعتقد عدم جزئية السورة في الصلاة بواسطة إخباره عن مجتهده ، أو استنبطه المجتهد عن (5) دليل ، ثمّ شكّ في عدالته في الزمان

ص: 318


1- انظر البحار 77 : 359.
2- « ك » : القواعد الشرعية الكلّية.
3- كشف الغطاء 2 : 103 وفي ط الحجري : 102. وفي النسخ موضع مقول القول قدر سطر بياض.
4- القوانين 1 : 265.
5- « ز ، ك » : من.

الأوّل وفي دلالته فهل يحكم بصحّة صلاته وعدم لزوم الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه (1) ، وعدم وجوب نفقة الزوجة عليه فيما مضى ، إلى غير ذلك من الأحكام الماضية أو لا؟

التحقيق أن يقال : إنّ تلك الأحكام إمّا أن يكون موضوعها نفس الاعتقاد ، وإمّا أن يكون الاعتقاد طريقا إلى ما هو الموضوع حقيقة وهو الواقع أو جزء منه وهو الواقع المعلوم.

فعلى الأوّل لا كلام في صحّة تلك الأعمال ؛ لوقوعها عن أهلها في محلّها ، لكن حيثما كان الموضوع مجرّد الاعتقاد ولو في وقت ما يعني وقت الاشتغال بالعمل كما في مثال الاقتداء مع الإمام المعلوم عدالته حال الاقتداء على وجه ، وأمّا لو كان الموضوع هو دوام الاعتقاد فلا إشكال في فساد العمل أيضا ؛ لانتفاء موضوعه بمعنى أنّ تبدّل الاعتقاد يكشف عن عدم تحقّق الموضوع وقت الاشتغال بالعمل.

وعلى الثاني وهو ما إذا كان الموضوع مجرّد الواقع أو مع العلم فالشكّ إمّا أن يكون شكّا في الموضوع كما في مثال العدالة ، وإمّا أن يكون شكّا في الحكم كما في مثال جزئية السورة.

فعلى الأوّل : لا ريب في أنّ قضيّة القواعد الأوّلية عدم صحّة الأعمال ، بل لا بدّ من الأخذ بما يقتضيه الأدلّة فيما لم يكن هذا الاعتقاد حاصلا ، مثلا لو كان العدالة الواقعية معتبرة في واقعة الطلاق فصحّة الطلاق موقوفة (2) على إحرازها والمفروض عدم العلم بها ، فلا بدّ من الأخذ ببقاء الزوجية وأصالة عدم وقوع الطلاق والمباينة كما هو ظاهر.

نعم ، في أمثال المقام قاعدة أخرى تقضي بالإجزاء والاكتفاء وصحّة الأعمال الماضية على تقدير نهوضها فيما نحن بصدده وهي قاعدة الشكّ بعد الفراغ عن العمل المدلول عليها بجملة من الأخبار كقوله : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » بعد قوله : « إذا

ص: 319


1- « ج ، م » : الخارج.
2- « ج » : موقوف.

شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره » (1) إلخ ، وقوله : « كلّ شيء قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2) فإنّ مقتضي هذه القاعدة عدم الاعتناء بالشكّ والقول بصحّة الصلاة والإجزاء بها ، إلاّ أنّ شمولها للمقام ممّا لا يخلو عن شيء فإنّ الشكّ تارة : متعلّق بإحداث البطلان في العمل الماضي عمدا ، وتارة بترك شيء منه نسيانا أو سهوا ، وتارة : متعلّق (3) بإيجاد نفس العمل وعدم إيجاده ، وتارة : متعلّق (4) بصحّة الاعتقاد بما هو معتبر في العمل ، لا إشكال في شمولها للأوّلين ، ويحتمل شمولها للثالث على أفسد الاحتمالين ، وأمّا الرابع فشمول تلك الأخبار لمثل هذا الشكّ في غاية الإشكال والحكم به في نهاية الصعوبة ، سيّما فيما لو بنينا على اعتبار تلك القاعدة من حيث الظهور فإنّ عدم ظهور الأخبار الدالّة عليه في مثل المقام ظاهر.

نعم ، لا يبعد القول بذلك على تقدير التعبّد ، وستعرف (5) لذلك زيادة تحقيق في محلّه (6) إن شاء اللّه.

وعلى الثاني : فلا ريب في فساد الأعمال الماضية ، سواء فرض في المقلّد أو في المجتهد ؛ لعدم ما يقضي (7) بالصحّة.

وأمّا القاعدة المذكورة فقرائن اختصاصها بما إذا كان الشكّ في الموضوع دون الأحكام على منار كما توضحه (8) ملاحظة الأخبار الواردة في هذا المضمار ، بل لا يكاد يذهب إليه وهم كما يدلّ عليه قوله : « في شيء لم تجزه » وقوله : « قد جاوزه » وقوله : « ودخل في غيره » سيّما بعد ملاحظة قوله : « في شيء من الوضوء » وقوله في رواية أخرى : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (9) إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدبّر.

ص: 320


1- سيأتي في ص 445.
2- سيأتي في ص 446.
3- « ز ، ك » : يتعلّق.
4- « ز ، ك » : يتعلّق.
5- ستعرف في ص 461 - 462.
6- « ز ، ك » : - في محلّه.
7- « ج » : يقتضي.
8- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : يوضحه.
9- سيأتي في ص 446.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بالنسبة إلى قاعدة كلّية مطّردة ، وإلاّ فقد يكون في بعض الموارد أدلّة خاصّة تدلّ على عدم اعتبار الشكّ بعد الفراغ من أيّ وجه كان في الأحكام أيضا كما في خصوص الصلاة لرواية خاصّة.

المقام الثاني

في بيان الحال في تلك الواقعة بالنسبة إلى الوقائع المستقبلة ، فنقول : إنّه يمكن الاستناد في المضيّ على الآثار الماضية بالنسبة إلى زمن المستقبل بأحد الأمرين :

الأوّل : ما قد يظهر من الشيخ الأجلّ كاشف الغطاء (1) فيمن شكّ في الوضوء بين الظهر والعصر حيث استظهر جواز الدخول في العصر بالوضوء المشكوك فيه ، ونقل الأستاد - دام عزّه - عن بعض أجلّة معاصريه الفتوى بذلك أيضا ، والوجه فيه أنّ المستفاد من الأدلّة الدالّة على لزوم حمل الفعل على الصحّة إنّما هو الحكم بإحراز ما يحتمل الفساد بتركه وترك ما يحتمله بفعله واقعا ، وبعد ذلك فلا فرق بين الأعمال الماضية والمستقبلة ، كما في الاستصحاب فإنّ الطهارة المستصحبة كما تجري بالنسبة إلى الصلاة الماضية كذلك تجري بالنسبة إلى ما يشتغل بها المكلّف بعد ذلك أيضا ، مثلا لو شكّ في الوضوء بعد صلاة الظهر فالشارع حكم (2) بإلغاء الشكّ ، والحكم بأنّ الشاكّ متطهّر واقعا بمعنى (3) لزوم ترتيب (4) الطهارة الواقعية عليه ومن جملة ذلك جواز الدخول فيما هو مشروط بالطهارة واقعا كالصلاة والطواف ونحوهما ، هذا وقد استشكل فيه مرّة أخرى.

ص: 321


1- كشف الغطاء 2 : 107 وفي ط الحجري : 103 ( البحث الثاني ).
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : - حكم.
3- « م » : « على » بدل : « بمعنى ».
4- « ز ، ك » : ترتّب.

الثاني : ما يظهر من الشيخ الجليل أيضا في بعض فروع الكشف (1) من أنّ أفعال المسلم محمولة على الصحّة ، وقضيّة ذلك عامّة بالنسبة إلى أفعال الجوارح والأعمال القلبية وما يطرأ للإنسان من الحالات والملكات ، ففيما لو شكّ في صحّة الاعتقاد فالأصل يقضي (2) بصحّته ومطابقته للواقع كصحّة قوله : وبعد ما حمل اعتقاده على الصحّة وحكم حكما شرعيا بواقعية ما اعتقده فلا يفرق في ذلك الأعمال السابقة والأفعال اللاحقة.

وشيء (3) من الوجهين لا يكاد يتمّ : أمّا الأوّل : فلأنّ الصحّة المستفادة من الأخبار لا تزيد على الصحّة في الأعمال السابقة التي قد انقضى محلّها ، وأمّا الأعمال الآتية فمحلّها باق ولا يزيد مفادها على عدم المؤاخذة بالأفعال الماضية ، وأمّا ثبوت الواقع بواسطة الحمل فممّا لا دليل عليه ، فعلى هذا فلا بدّ في الأعمال اللاحقة من العمل على ما يقتضيه القواعد فيما لو فرضنا انتفاء ذلك الاعتقاد وإن قدّر بناء العمل على الآثار الماضية أيضا (4).

وأمّا الثاني : فلأنّ صحّة الاعتقاد كصحّة القول والاجتهاد لها وجهان : أحدهما : عدم تقصير المعتقد كالقائل والمجتهد في تحصيل اعتقاده وقوله واجتهاده ، فالفاسد منها (5) ما لم يتفحّص المعتقد في تحصيله ، وعمد القائل بالكذب ، وقصّر المجتهد في الاجتهاد ، وثانيهما : مطابقة قوله واعتقاده واجتهاده للواقع ، فالفاسد منها ما يخالف الواقع.

فإن أراد المستدلّ من قاعدة الصحّة في الاعتقاد ما يعمّ الثاني أيضا فهو وإن كان يجدي فيما رامه إلاّ أنّه ممّا لا دليل عليه ؛ لعدم إفادة الأدلّة فيما عدا الصحّة

ص: 322


1- كشف الغطاء 1 : 201 - 202 ، وفي ط الحجري 35 ( البحث السادس والثلاثون ).
2- « ج ، ك » : يقتضي.
3- « ج ، م » : شيئا.
4- « ز ، ك » : - أيضا.
5- « ز ، ك » : - منها.

بالوجه (1) الأوّل ، فإنّ وجوب تكذيب السمع والبصر على تقدير شمول مثله للأفعال الصادرة عن الفاعل الجاهل ، ممّا ليس فيه دلالة على كون القول أو (2) الاعتقاد أو الاجتهاد مطابقا للواقع ، بل ولا أظنّ أنّ أحدا يقول بذلك فيما إذا كان مدرك الاعتقاد و (3) الاجتهاد موجودا حاضرا لدى المعتقد والمجتهد ، مثلا لو فرضنا أنّ المجتهد إنّما قطع بجزئية السورة في الصلاة بواسطة رواية مرسلة ضعيفة الدلالة فتذكّر بعدم إفادة مثلها القطع في العادة فشكّ في نفس الحكم الذي أفتى به من (4) أوّل الأمر ، فلا يعقل الحكم بواسطة أصالة الصحّة بالمطابقة كما هو ظاهر ، حتّى أنّ الشيخ (5) أيضا (6) إنّما يستفاد من بعض تضاعيف كلماته تقييده بخفاء المدرك ، وكلامه إنّما هو في مجرّد الاعتقاد مع قطع النظر عن مدرك الاعتقاد.

وإن أراد صحّة الاعتقاد على الوجه الأوّل فهو حقّ لكنّه لا يفيد (7) فيما رامه ؛ إذ غايته عدم تقصيره وعصيانه في تحصيل الاعتقاد والاجتهاد وعدم تعمّده (8) بالكذب ، وأين (9) هو من مطابقة قوله واعتقاده واجتهاده للواقع (10)؟

تنبيه

زعم بعض من لا تحقيق له شمول أخبار الاستصحاب للشكوك السارية أيضا ؛ لأنّ قضيّة الأخبار عامّة شاملة للمقامين ، إذ المناط فيها على مجرّد الشكّ واليقين وهو حاصل فيهما ، وحيث إنّ بعض من لا درية (11) له قد تفصّى عن مثله بعدم انصراف

ص: 323


1- « ز ، ك » : بوجه.
2- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : و.
3- « م » : أو.
4- « م » : فمن.
5- كشف الغطاء 2 : 103 ، وفي ط الحجري 102.
6- « ز ، ك » : - أيضا.
7- « ز ، ك » : لا يفيده.
8- « ز ، ك » : العمل.
9- « ز ، ك » : وإنّ.
10- « ج ، م » : بالواقع.
11- « ك » : لا دراية.

الأخبار إلى الشكوك السارية فاعترضه بأنّ الانصراف إنّما يتمّ (1) فيما لو سلّمناه عند إطلاق الدليل والمفروض على ما بيّن في محلّه عموم أخبار الباب ، فلا وجه لدعوى الانصراف فيه ، ولقد أغرب بعضهم فادّعى أنّ مورد الأخبار المذكورة في الشكوك السارية ، وهو غريب عجيب (2) ؛ إذ ليس فيها منها عين ولا أثر.

والتحقيق : عدم الارتباط بينهما ، وتوضيحه يتوقّف على بيان وجوه الفرق بين المقامين ، فنقول : إنّ الاستصحاب يفترق مع الشكّ الساري مفهوما وموردا وثمرة.

أمّا الأوّل : فلأنّ المعتبر في الاستصحاب هو الوجود السابق - وإن لم يكن معلوما في السابق ، بل لو علمنا (3) بوجوده في السابق في زمان الشكّ ببقائه على وجه تقارن (4) الشكّ اليقين في زمان واحد كان استصحابا ، وأمّا ما هو المعروف من اعتبار اليقين السابق فمن حيث إنّ اليقين مرآة عن الوجود والتحقّق ، وليس لخصوص وصف اليقين في السابق مع قطع النظر عن استكشاف الواقع به مدخلية في الاستصحاب - والشكّ اللاحق في بقاء الموجود المتحقّق سابقا وارتفاعه ، والمعتبر في الشكّ الساري هو وصف اليقين السابق على الشكّ - وإن كان ذلك اليقين متعلّقا بموجود في اعتقاد المعتقد حال الاعتقاد إلاّ أنّ حدوث ذلك وتحقّقه غير ملحوظ في الشكّ الساري ولو في اعتقاده - والشكّ اللاحق في صحّة ذلك اليقين ومطابقته للواقع وعدمها ، ولا ينافي القطع بارتفاعه على تقدير وجوده وصحّة اليقين أو القطع ببقائه على هذا التقدير (5) أو الشكّ فيه ؛ إذ لا يناط بالشكّ في الوجود في الزمن الثاني ، وإنّما مناطه الشكّ في صحّة الاعتقاد وهو لا ينافي القطع بالبقاء ؛ ضرورة إمكان حصول القطع بالملازمة مع الشكّ في وجود الملزوم كما هو ظاهر.

ص: 324


1- « ز ، ك » : « هو » بدل : « يتمّ ».
2- « ج ، م » : - عجيب.
3- « ز ، ك » : علمناه.
4- « ز ، ك » : يقارن.
5- « ز ، ك » : هذا الفرض والتقدير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الاستصحاب في موارد الشكّ الساري بأجمعها يقضي بعدم التحقّق وعدم ثبوت الحكم ، فلا يجتمع معه في مورد.

وأمّا الثالث : فلأنّ المطلوب في مورد الاستصحاب إنّما هو تصحيح الأعمال المترتّبة على الوجود بعد حدوث الشكّ ، فهو يثمر في الأعمال المستقبلة غالبا وعلاج بالنسبة إليها ، والمطلوب في مورد الشكّ الساري إنّما هو تصحيح الأعمال الماضية الصادرة حال اليقين ، وإنّما الحاجة في صحّة العمل المترتّب على ذلك اليقين والشكّ في صحّة اليقين إنّما كشف عن الحاجة.

وإذ قد تقرّر الفرق بين المقامين فليس ينبغي أن يذهب وهم إلى أنّ ما ورد في أحدهما يصلح أن يكون دليلا في الآخر ؛ إذ لا جامع بينهما إلاّ مجرّد لفظ اليقين والشكّ ، وهل يصلح ذلك بعد وجوه (1) الاختلاف والتباين منشأ لمثل هذا التوهّم؟ وليت شعري فهل قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة : « فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » (2) يمكن أن يجعل بيانا لحكم (3) الشكّ في صحّة اليقين بعد سؤال السائل : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة؟ فإنّ السؤال إنّما هو عن حكم المتيقّن بعد الوجود والشكّ في بقائه وارتفاعه ، ولا ربط بينه وبين حكم الشكّ في صحّة اليقين وتحقّق المتيقّن ، وهل يمكن أن يكون المراد به أعمّ من الشكّين بعد انتفاء الجامع بين متعلّق الشكّين واليقينين (4)؟ كما أنّه لم يذهب وهم إلى أنّ قول الإمام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » (5) يعمّ الشكّ في وجود المشكوك فيه وعدمه بعد العلم بوجوده في الجملة.

نعم ، قد نبّهنا (6) على ما يظهر من رواية الخصال في أحد احتماليه ، فإنّ قوله : « من

ص: 325


1- « ز ، ك » : وجود.
2- تقدّم في ص 88.
3- « ز ، ك » : بحكم.
4- « م » : اليقين.
5- تقدّم في ص 319 - 320 وسيأتي في ص 445.
6- نبّه في ص 104 وتقدّمت رواية الخصال في ص 103.

كان على يقين » يحتمل أن يراد به من كان وصف اليقين حاصلا له (1) ثمّ شكّ في صحّة ذلك اليقين فليمض على يقينه ويحكم بصحّة يقينه ، ويحتمل أن يراد من كان له متيقّن موجود (2) معلوم على أن يكون اليقين جهة للقضيّة لا موضوعا فيها ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه فليمض على يقينه ويحكم بوجود المتيقّن بترتيب آثاره عليه ، فعلى الأوّل يصير دليلا للشكّ الساري ، وعلى الثاني دليلا للاستصحاب ، إلاّ أنّ الثاني بقرينة قوله : « فليمض » أظهر ؛ لبعده (3) بالنسبة إلى الأوّل كما (4) لا يخفى.

تذنيب

قد يظهر من بعضهم التمسّك في موارد سريان الشكّ باستصحاب الحكم الظاهري ، مثلا فيما لو اعتقد المجتهد حلّية العصير العنبي أو طهارته ، ثمّ طرأ الشكّ عليه ، فقبل طريان الشكّ على (5) صحّة الاعتقاد كان العصير في مرحلة الظاهر بحسب ما أدّى إليه نظر المجتهد حلالا وطاهرا ، وبعد الشكّ يستصحب الحلّية الظاهرية والطهارة الثابتة في مرحلة الظاهر.

وليس في محلّه ؛ لأنّه من الاستصحاب العرضي وهو ليس معتبرا (6). وتحقيقه أنّه إذا كان للفعل أو الشيء المستصحب جهتان يترتّب على إحداهما حكم قطعا ، وترتّبه على الأخرى مشكوك من أوّل الأمر ابتداء ، ثمّ بعد ارتفاع الجهة المعلومة لا يمكن استصحاب ذلك الحكم ؛ إذ ثبوت الحكم بالنسبة إلى الجهة المشكوكة غير معلوم وبالنسبة إلى الجهة المعلومة معلوم الارتفاع ، مثلا فيما لو فرضنا حيوانا متولّدا من الكلب والغنم ولم يعلم إلحاقه بأحد عموديه عرفا ، فمقتضى القاعدة الحكم بطهارته

ص: 326


1- « ز ، ك » : - له.
2- « ج ، م » : وموجود.
3- « ز ، ك » : لبعدها.
4- « ز ، ك » : فكما.
5- « ز ، ك » : في.
6- « ز ، ك » : بمعتبر.

نظرا إلى أصالة الطهارة ، إلاّ أنّه ربّما يغالط فيقال : إنّ ذلك الحيوان المتولّد من الكلب باعتبار ملاقاته لباطن الكلب أو بواسطة تلطّخه بدم النفاس كان نجسا قطعا ، وبعد ما زالت النجاسة العرضية - مثلا - يشكّ (1) في بقاء النجاسة وارتفاعها فتستصحب (2) النجاسة ، وفساده ممّا لا يكاد يخفى على أوائل العقول. ومن هذا القبيل جملة من موارد الاستصحاب وقد مرّ الإشارة إلى بعضها ، كما في استصحاب وجوب الأجزاء بعد تعذّر الكلّ ، ومنه ما غالط به بعض الأخبارية على ما نقل عنه في ردّ العمل بالاستصحاب في الأحكام من أنّ العمل به قبل الفحص حرام قطعا ، وبعده يشكّ فيها ، والاستصحاب يقضي بحرمته ، ومنه ما تمسّك به بعضهم (3) في إثبات حجّية العامّ المخصّص باستصحاب حجّيته قبل التخصيص بعده ، فإنّ الكلّ على حدّ سواء في عدم الاعتداد بالاستصحاب فيها (4) ؛ لأنّ الحكم اللاحق للعنوان باعتبار أمر طار عليه قد ارتفع قطعا ، إذ لا ريب في انتفاء الاعتقاد بالحلّية أو الطهارة بالنسبة إلى المثال الأوّل ، فإنّه كان هو المنشأ لتخيّل الحكم الظاهري ولم يكن حكما ظاهريا أيضا كما لا يخفى ، والحكم اللاحق للعنوان باعتبار أمر (5) آخر غير معلوم الثبوت ابتداء ، فلا يتحقّق الاستصحاب.

فالاستصحاب في هذه الموارد بالنسبة إلى الجهة المشكوكة يكون من الاستصحاب في الشكوك السارية ، وبالنسبة إلى الجهة المعلومة من الاستصحاب في الشكوك العرضية ، فعند التحقيق يكون الشكّ في الاستصحاب العرضي من الشكّ في الأقلّ والأكثر لا على وجه الارتباط بين الأقلّ والأكثر ، بل الأقلّ بعنوانه معلوم تفصيلا والزائد غير معلوم كذلك ، وبمثل ذلك يجاب في المغالطة الأخبارية فإنّ الحرمة اللازمة

ص: 327


1- « ج ، م » : نشكّ.
2- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : فيستصحب.
3- نقل المحقّق القمي في القوانين 1 : 265 عن بعضهم أيضا ، كما تقدّم عنه في ص 318.
4- « م » : فيهما ( ظ ).
5- « ج ، م » : - أمر.

لعدم (1) الفحص قد زالت والحرمة الذاتية لم تثبت ، وكذا في العامّ المخصّص فإنّ الحجّية المستندة إلى عدم التخصيص قد ارتفعت ، وغيرها مشكوكة من أوّل الأمر وإلاّ يلزم البداء المحال وذلك أمر واضح وإن اشتبه بعض أفراده على بعض الأفهام ، ولكن بعد ملاحظة ما ذكرنا من الأمثلة لا يكاد يشتبه الأمر على أحد ، وأوضح فسادا من الكلّ ما لو شكّ - مثلا - في حيوان خلق إبداعا وشكّ في طهارته ونجاسته ، فإنّ المغالط قد ينجّسه بنجاسة عرضية كأن يبول عليه أحد ، ثمّ بعد زوال تلك النجاسة العرضية يستصحب النجاسة لإثبات النجاسة الذاتية ، فكن على بصيرة من الأمر وتأمّل واغتنم واللّه الموفّق الهادي (2).

ص: 328


1- « ز ، ك » : بعدم.
2- « ز ، ك » : - واللّه ... الهادي.

هداية [ في الاستصحاب التعليقي ]

قد اصطلح بعض الأواخر على تسمية بعض أقسام الاستصحاب بالاستصحاب التعليقي ، وربّما يتراءى في بعض الأنظار (1) عدم الاعتداد بهذا القسم من الاستصحاب.

وتحقيق المقام : أنّ موضوع الحكم قد يكون الماهيّة المجرّدة عن الوجودين كما في لوازم الماهيّة مثل (2) زوجية الأربعة ونحوها كما في الأحكام الطلبية فإنّ الوجوب إنّما هو من لواحق الماهيّة كالمطلوبية ؛ إذ بعد الوجود فلا وجه لوجوبه ومطلوبيته ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، غايته أنّ الطالب إنّما يلاحظ الماهيّة الموجودة في الذهن بعنوان وجودها في الخارج فيلحقها وصف المطلوبية ومن هذه الجهة تفترق الزوجية اللازمة للأربعة ، ولهذا ترى (3) أنّ المتصوّر لماهيّة الصلاة لا يعدّ ممتثلا للأمر بها.

وقد يكون الماهيّة (4) الموجودة في الخارج ، فالوجود الخارجي ليس إلاّ جزء من موضوع الحكم ، فهو متعلّق به لا أن يكون معلّقا عليه ، كما في نجاسة الكلب فإنّ النجاسة إنّما هي من ملحقات الموجود (5) الخارجي وليست النجاسة معلّقة على وجود

ص: 329


1- السيّد المجاهد في المناهل : 625 ( كتاب الأطعمة والأشربة ) كما عنه في فرائد الأصول 3 : 222.
2- « ز ، ك » : في مثل.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - ترى.
4- « ز ، ك » : الماهيّة.
5- « ز ، ك » : الوجود.

الكلب في الخارج ، نعم لو كان الموضوع هو نفس الماهيّة (1) كما في المثال المتقدّم صحّ التعليق بالوجود الخارجي.

وقد يكون الموضوع هو الموجود الخارجي لكن تعلّق الحكم به معلّق على حصول أمر آخر.

والفرق بين المقامين واضح فإنّ انتفاء الحكم على تقدير عدم المعلّق عليه بواسطة انتفائه وإن كان الموضوع موجودا على الأخير ، وانتفائه على تقدير عدم الموضوع بواسطة انتفاء الموضوع ، فعدم النجاسة فيما لو قدّر عدم الكلب بواسطة عدم الكلب ، فنجاسة الكلب منفيّة لا أنّ النجاسة عن الكلب منفيّة ، بخلاف ما إذا كان الحكم معلّقا على أمر آخر كما في وجوب الحجّ فإنّ الوجوب عن المكلّف منفيّ عند انتفاء الاستطاعة كما لا يخفى (2).

وبالجملة : فالحكم المتعلّق على موضوع خاصّ ليس معلّقا على وجود الموضوع فيما لو كان الموضوع هو الموجود ، وإلاّ فلم يبق لنا حكم تنجيزي أصلا ، فالمراد بالاستصحاب التعليقي هو استصحاب الحكم المعلّق على وجود أمر عند احتمال زوال ذلك الحكم ، مثلا إنّ نجاسة العصير العنبي معلّق على غليان ذلك العصير واشتداده وعدم ذهاب ثلثيه ، وهذه عبارة عن قضيّة تعليقية وهي أن يقال : إنّ العصير إنّما هو على وجه لو غلى واشتدّ ولم يذهب ثلثاه كان نجسا ، فالشكّ في هذه القضيّة تارة : يتعلّق ببقاء الملازمة في الوقت الثاني وارتفاعها ، وتارة : ببقاء السببية المستفادة من اقتران الشرط في جملة المقدّم بأداة الشرط ، وأخرى : في الحكم المعلّق عليه. لا إشكال في جريان الاستصحاب على الأوّلين ؛ لعدم المانع منه وليس من الاستصحاب التعليقي

ص: 330


1- « ز » : الماهيّة.
2- في هامش « م » : لو علم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام في نصف شعبان لقامت .... رحالهم على الخشب.

في شيء منهما ، وإنّما الكلام في استصحاب الحكم المعلّق عليه ، كما إذا شكّ في نجاسة العصير المأخوذ من الزبيب فيقال : إنّ العنب - مثلا - عصيره فيما لو غلى واشتدّ ولم يذهب ثلثاه نجس قطعا ، وبعد ما صار زبيبا يشكّ في نجاسة عصيره وعدمها ، فيستصحب الحكم المعلّق عليه. وكما أنّ المرأة قبل الوقت عند بياضها كانت بحيث لو دخل الوقت يجب عليها الصلاة. وبعد دخول الوقت يشكّ (1) في الوجوب بواسطة احمرار وجدتها (2) غير معلوم الحيضية ، فيستصحب الوجوب المعلّق على دخول الوقت. وكما في وجوب الحجّ فإنّ المكلّف قبل الاستطاعة كان بحيث لو استطاع وجب عليه الحجّ ، ثمّ شكّ في الوجوب المعلّق على الاستطاعة عند الخوف من العدوّ الذي يحتاج دفعه إلى بذل بعض من المال ، فيستصحب الوجوب المعلّق ، ولا ضير في هذا الاستصحاب أيضا من جهة التعليق.

فإن قلت : إنّ استصحاب الحكم المعلّق دائما معارض باستصحاب عدم الحكم المنجّز عند فقد المعلّق عليه ، مثلا استصحاب وجوب الحجّ معارض باستصحاب عدم وجوب الحجّ المنجّز عند عدم الاستطاعة ، وكذا استصحاب وجوب الصلاة معارض باستصحاب عدم وجوب الصلاة قبل ، فلا يجدي استصحاب الوجوب.

قلت : نعم ، ولكنّ الشكّ في الوجوب وعدمه بعد حصول المعلّق عليه مسبّب عن الشكّ في بقاء الحكم المعلّق عليه ، وبعد استصحاب الحكم المعلّق فلا يبقى للشكّ في الوجوب مجال ، فلا تعارض ؛ لأنّه مزيل بالنسبة إليه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب من حيث إنّ المستصحب معلّق (3) ، نعم لا بدّ من ملاحظة شيء آخر في أمثال هذه الموارد وهو أنّ سبب الشكّ قد يكون من أجزاء المقدّم والتالي في القضيّة التعليقية فلا بدّ من إحراز هذه المقدّمة ، فالملازمة إنّما هي (4) بين المقدّم والتالي لكن بعد

ص: 331


1- « ج ، م » : شكّ.
2- في النسخ : وجدها.
3- « ز ، ك » : معلوم.
4- « ج ، م » : هو.

الأخذ بجميع ما يعتبر في الطرفين ، ففيما لو علمنا بذلك فلا شكّ في عدم جريان الاستصحاب ؛ إذ عدم الحكم على تقدير قطعي وثبوته على تقدير مشكوك أصلا ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في هذه الموارد. وكذا فيما لو شككنا في جزئية شيء للمقدّم أو للتالي إلاّ أن يستفاد من ظهور اللفظ الوارد في مقام التعليق شرطية الشيء الخاصّ مع قطع النظر عمّا عداه ، فإنّ المناط في تشخيص هذه الأمور على الرجوع إلى الأدلّة الدالّة على هذه الأحكام التعليقية ، فربّما يستفاد منها شرطية شيء خاصّ ، وربّما يستفاد انضمام شيء آخر إليه ، وهذا هو الوجه في خلافهم في وجوب الحجّ على المستطيع فيما لو توقّف دفع العدوّ على دفع بعض المال الذي يبقى معه الاستطاعة ، وربّما يتسامح في بعض ما يحتمل كونه جزء من المقدّم كالوصف أو الحال أو الزمان فيلاحظ (1) فيها كونها ظرفا لا قيدا لأحد الطرفين ، مثلا في قولنا الماء المتغيّر فيما لو كان مقدّما في قضيّة تعليقية قد يعتبر مركّبا فبانتفاء أحد جزئية ينتفي التالي ، وقد يعتبر المقدّم هو الماء في حال التغيّر على وجه لا يكون التغيّر مناطا في الملازمة (2) ، فعلى الأوّل لا معنى للاستصحاب ، وعلى الثاني يجري الاستصحاب ، إلاّ أنّه لا يخفى على أحد أنّه (3) بعد إحراز أنّ السبب والعلّة التامّة للحكم وحدوثه (4) هو الماء في حال التغيّر والمفروض وجوده في الحال أيضا ، فالشكّ في البقاء والارتفاع غير معقول إلاّ على تقدير احتمال أن لا تكون (5) العلّة المبقية هي (6) العلّة المحدثة ، فالشكّ في البقاء والارتفاع معقول على هذا الوجه.

فبالحقيقة الاستصحاب التعليقي ليس إلاّ كالاستصحاب التنجيزي ، فكما أنّ جريان الاستصحاب التنجيزي عند التحقيق يتوقّف على اتّحاد القضيّة المشكوكة

ص: 332


1- « ز ، ك » : فلاحظ.
2- « ز ، ك » : للملازمة.
3- « ج ، م » : أنّ.
4- « ج » : هو وحدوثه.
5- « ج ، م » : يكون.
6- « ج ، م » : هو.

والمتيقّنة ، فكذا جريان التعليقي أيضا يتوقّف على الاتّحاد بين القضيّة التعليقية المشكوكة وبين معلومها.

فإن قلت : إنّ الظاهر من الجملة الشرطية هو أنّ المقدّم علّة لوجود التالي وإن كان الواقع شرطا (1) من العلل الناقصة كأن يكون شرطا أصوليا مثلا ، فعند وجود المعلّق عليه لا معنى للشكّ.

قلت : قد لا يكون التعليق مستفادا من ظواهر الألفاظ الواردة في المقام ؛ لإمكان استفادته من أمر لبّي ، فلا ظهور فيه ، ومع ذلك فالشكّ ممكن بواسطة احتمال ارتفاع أحد أجزاء (2) العلّة (3) التامّة للحكم المعلّق عليه ولا ينافيه ظهور اللفظ في العلّية ؛ إذ ربّما يتّفق اجتماع الأجزاء عدا الجزء المعلّق عليه فيصحّ التعليق على وجوده أو بواسطة ارتفاع ما يمكن أن يكون من العلّة ، ويحتمل أن يكون من أجزائها ، فيستصحب الحكم المعلّق عليه عند هذه الاحتمالات.

فإن قلت : إنّه (4) قبل زمان الشكّ كانت العلّة التامّة موجودة عدا الجزء المعلّق عليه ، وبعد وجوده والشكّ في ارتفاع بعض الأجزاء أو ارتفاع ما يحتمل الجزئية يستصحب العلّة التامّة ، فيترتّب عليها المعلول.

قلت : نعم ، ولكنّه لا بدّ أن يعلم أنّه على تقدير احتمال ارتفاع بعض أجزاء العلّة ، كما إذا علمنا بأنّ التغيّر في مثال الماء من أجزاء العلّة ثمّ شككنا في ارتفاعه وبقائه يستصحب العلّة التامّة ، ولا حاجة إلى استصحاب الحكم المعلّق عليه ، لترتّبه على العلّة ، كما أنّ بعد فرض جريان الاستصحاب في الموضوع لم يبق شكّ في الحكم ولا معنى لاستصحابه ولو مع قطع النظر عنه ، وعلى تقدير ارتفاع ما يحتمل كونه من العلّة

ص: 333


1- « ز ، ك » : هو شرطا.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الأجزاء.
3- « ز ، ك » : للعلّة.
4- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : إنّ.

يكون الأصل مثبتا ، مثلا لو زال التغيّر قطعا واحتملنا أن تكون (1) العلّة مركّبة منه ومن غيره فأصالة بقاء العلّة لا يترتّب عليها (2) أنّ الموجود هي العلّة إلاّ بملازمة عقلية وقد عرفت عدم الاعتداد بمثله ، فتدبّر.

ص: 334


1- « ج ، م » : يكون.
2- « ج ، م » : عليه.

هداية [ في بيان استصحاب الحكم المخصّص ]

[ في بيان استصحاب الحكم المخصّص ] (1)

إذا ثبت في الشريعة حكم بدليل عامّ عموما أزمانيا ثمّ ثبت بدليل مخصّص لذلك العامّ ارتفاع ذلك الحكم في قطعة من الزمان ففي زمان الشكّ هل يؤخذ بعموم العامّ أو باستصحاب حكم (2) الخاصّ؟ وجهان بل قولان :

يظهر من ثاني المحقّقين في جامع المقاصد (3) في تلقّي الركبان فيما إذا شكّ في بقاء الخيار وارتفاعه تحكيم عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (4) على استصحاب الخيار (5) ، ويظهر من الشهيد (6) في عدّة مواضع من المسالك (7) الأخذ بالاستصحاب (8).

والتحقيق أن يقال : إنّ (9) الدليل الدالّ على الحكم المخالف للاستصحاب تارة : يكون مهملا بالنسبة إلى الأزمنة التي تقع فيها الأفراد ، كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ملاحظا فيها عموم الأفراد فقط من غير مدخلية الزمان في ذلك الحكم ، فلا يختلف الوجوب باختلاف الأزمنة حينئذ.

ص: 335


1- العنوان من هامش « م ».
2- « ج ، م » : الحكم.
3- « ز ، ك » : - في جامع المقاصد.
4- المائدة : 1.
5- جامع المقاصد 4 : 38.
6- « ز ، ك » : + رحمه اللّه.
7- « ز ، ك » : - في عدّة مواضع من المسالك.
8- مسالك الأفهام 3 : 190 و 431 ، و 4 : 100 و 184 ، و 5 : 192 ، و 8 : 34 ، وقارن بما ذهب في خيار الغبن والرؤية 3 : 204 و 221.
9- « م » : - يقال إنّ.

وتارة : يكون عامّا (1) بالنسبة إليها فتارة : على وجه يكون الحكم ثابتا في تمام الزمان فيكون كلّ واحد من أجزاء الزمان جزء لا فردا (2) ، وأخرى : على وجه يكون الحكم ثابتا في كلّ واحد من أفراد الزمان فيكون كلّ جزء من الزمان ملحوظا في نظر الآمر فردا مغايرا للآخر.

ومرّة : يكون الدليل مشكوكا فيه إهمالا وعموما على الوجهين.

لا إشكال في جريان الاستصحاب على الأوّل ؛ لعدم المانع منه بعد وجود أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق.

كما أنّه لا إشكال في جريانه على الأوّل من الثاني ؛ لأنّ المفروض خروج القطعة المفروضة المخصّصة من العامّ ، وخروجها عن العامّ في زمن اليقين والشكّ بالنسبة إلى لزوم التخصيص في العامّ مساو لعدم ملحوظية الزمان فيه إلاّ على هذا الوجه الذي لا يفرق فيه الخروج في الزمانين ، وذلك ليس من تخصيص العامّ في شيء ، بل لو فرض عدم اعتبار الاستصحاب أيضا لم يكن الأخذ بالعامّ وجيها ؛ لعدم دلالته على أفراد الزمان ، بل لا بدّ من الأخذ بسائر الأصول كما إذا لم يكن في ذلك المورد عموم ولا استصحاب.

ومن هذا القبيل مسألة الخيار فإنّ ما يظهر لنا بعد التأمّل الصادق عدم دلالة ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3) على عموم زماني يكون كلّ جزء من أجزاء الزمان ملحوظا في نظر الشارع مقصودا له في وجوب الإمضاء بمضمون العقد ولزوم الوفاء به ، فلو تساهل من له الخيار في الأخذ بخياره على وجه لم يصدق فيه الغرر (4) العرفي صحّ استصحاب حكم الخاصّ والأخذ بالخيار في ثاني الزمان ، ووافقنا في ذلك جماعة من

ص: 336


1- « ز ، ك » : تكون عامّة.
2- « ز ، ك » : لأفراده.
3- المائدة : 1.
4- « ج » : الفور ، كتب تحتها في نسخة « م » : « ضرر ».

الأعاظم منهم سيّد الرياض (1) إلاّ أنّه قيّد الحكم بما إذا كان الحكم الخياري مدركه الإجماع ، وأمّا لو كان الوجه في ثبوت الخيار هو نفي الضرر والضرار فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ لاستناد الحكم فيه إلى علّة معلومة الارتفاع كما في استصحاب الأحكام العقلية. وأمّا ما أفاده المحقّق الثاني من أنّ قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) لو لم يكن عامّا بالنسبة إلى الزمان لم ينتفع (3) بعمومه ، فهو في غاية الجودة ، إلاّ أنّه لا يجديه فإنّ من الظاهر أنّ عموم الزمان الملحوظ فيه لا يجب أن يكون على الوجه الثاني كما لا يخفى ، هذا إذا كان عموم الدليل في مجموع الزمان على ما هو القسم الأوّل من التقسيم الثاني.

وأمّا القسم الثاني وهو ما كان عموم الدليل بالنسبة إلى الأزمنة عموما متناولا لكلّ جزء من أجزائه بحيث يكون كلّ واحد منها فردا برأسه ملحوظا للآمر (4) ، فلا يجري فيه الاستصحاب على بعض الوجوه ويجري على بعض آخر ، ويكشف عن العموم على هذا الوجه إمّا ملاحظة عنوان العامّ كأن يكون مشتملا على أداة استغراق بالنسبة إلى الزمان أيضا كما في قولنا أكرم العلماء في كلّ زمان زمان ، وإمّا يستفاد ذلك من عنوان المخصّص فإنّه دليل على المستثنى منه كالمستثنى في ملاحظة الزمان فيه قيدا ؛ لأنّ الظاهر منه الاتّصال ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون العموم مستفادا على الوجه المذكور من اللفظ أو العقل بمعونة حذف المتعلّق ونحوه.

وكيف كان ففيما لو وجد مثل هذا العامّ في الأدلّة فإمّا أن يكون الحكم في دليل المخصّص معلّقا على موضوع موجود في بعض الأفراد الملحوظة في ذلك العامّ ، كما إذا أمر المولى بلزوم الإتيان بالصلاة في كلّ زمان - مثلا - إلاّ من كان مريضا أو مسافرا

ص: 337


1- الرياض 8 : 199 - 200 ، و 10 : 387 ، وفي ط الحجرية 1 : 525 - 526 ، و 2 : 135.
2- المائدة : 1.
3- « ج » : لم ينفع.
4- « م » : به الآمر.

مثلا ، فعند الشكّ في ارتفاع ذلك الموضوع لا إشكال في جريان الاستصحاب في نفس ذلك الموضوع ، ويلازمه عدم الاعتداد بالعموم على ما هو الظاهر ، كما إذا شكّ في حصول الحدّ في الفرد الخارج من عموم الزمان كما في قولنا : « أكرم العلماء في كلّ يوم إلاّ يوم الخميس » ثمّ شكّ في انتهائه مثلا ، وإن كان بينهما فرق (1) آخر من جهة أخرى. وإمّا أن لا يكون كذلك ، كما إذا شكّ في المثال المذكور في وجوب الإكرام في الجمعة فلا بدّ من الأخذ بعموم العامّ فيه ، ولا وجه للأخذ بالاستصحاب في مثله وإن فرضنا عدم عموم العامّ ؛ لأنّ المفروض أنّ الزمان قيد للحكم فبملاحظة اختلافه يختلف أفراد الحكم ولا يصحّ إجراء حكم فرد وانسحابه في آخر بالاستصحاب ، وليس هذا بواسطة أنّ العامّ دليل اجتهادي ولا يعارضه الاستصحاب العملي كما قد يتوهّم.

نعم ، لو فرضنا إهمالا في عنوان المخصّص ولم يكن عموم العامّ كاشفا عن اعتبار الزمان في المخصّص على الوجه المعتبر فيه - إذ كما أنّ المخصّص يكشف عن عموم العامّ قد يكون عموم العامّ أيضا كاشفا للمخصّص كما إذا ثبت عدم وجوب إكرام العلماء في الخميس لا على وجه التقييد - فيجري فيه الاستصحاب ، وإنّما يمنع منه عموم العامّ فلو لا العامّ كان الاستصحاب هو المرجع ، بخلاف الأوّل فإنّه على هذا التقدير لا يصحّ الأخذ بالاستصحاب ، بل لا بدّ فيه (2) من الرجوع إلى ما يقتضيه سائر القواعد الممهّدة لبيان مواضع الشكّ.

ثمّ إنّ كلام المحقّق الثاني والشهيد إن كان في خصوص قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فلم يظهر لنا مخالفتهم لما أوردناه من التحقيق وإن صعب الأمر في (3) بعض المصاديق من المفهوم المذكور كما عرفت في خصوص المثال على حذو ما سبق ، وإن كان ذلك من

ص: 338


1- « ج ، م » : فرقا.
2- « ج ، م » : - فيه.
3- « ز ، ك » : « يختصّ » بدل : « صعب الأمر في » وبعد « في » زاد ما بين السطور في نسخة « م » بخط آخر : « تحقيق ».

جهة إطلاق القول بحكومة العامّ الزماني على الاستصحاب أو ورود الاستصحاب على العامّ ، ففساده ممّا لا يكاد يخفى بعد ما أوردنا (1) لك من التحقيق ، وأنت بعد ما أحطت خبرا بما قد سلف ذكره تقدر على الاحتجاج بكلّ من الوجهين وإبطاله ، فلا نطول بذكره ، إلاّ أنّ هاهنا كلاما أفاده بعض أفاضل السادات (2) من متأخّري المتأخّرين - لا بأس بنقله تتميما للمبحث - : من أنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات ، ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيته من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز النقض بغير (3) اليقين (4) ؛ إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، وإلاّ لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ؛ لانتهاء (5) كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل ، ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ (6) لا يتعدّاه إلى غيره فيقدّم على العامّ كما يقدّم على غيره من الأدلّة (7) ، ولذا ترى (8) أنّ الفقهاء يستدلّون في [ إثبات ](9) الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب في مقابلة ما دلّ على البراءة الأصلية وطهارة الأشياء وحلّيتها ، ومن ذلك استنادهم (10) إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير في (11) كون التحديد (12) تحقيقيا

ص: 339


1- « ز ، ك » : أوردناه.
2- في هامش « م » : وهو العلاّمة الطباطبائي السيّد مهديّ بحر العلوم في الفوائد الغروية [ 116 - 117 ] وكذا كتب تحتها في « ز ، ك » : « سيّد بحر العلوم » وأدرج « في الفوائد الغروية » في المتن بعد « السادات » وليس بصواب.
3- « ز ، ك » : بعد.
4- في المصدر : عدم جواز نقض اليقين بغيره.
5- في المصدر : لانتهاء حجّية.
6- في المصدر : خاصّ به.
7- في المصدر ونقل فرائد الأصول 3 : 277 : الأدلّة عليه.
8- « ز ، م » : نرى.
9- ما بين المعقوفين من المصدر.
10- المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ونقل فرائد الأصول وفي « م » زيادة : على استثنائهم ( ظ ) وفي « ج » زيادة : إلى استنادهم وفي « ز ، ك » : استثناؤهم إلى استنادهم.
11- في المصدر ونقل فرائد الأصول : وفي.
12- في المصدر : التحديد به.

أو تقريبيا (1) ، وفي صيرورته (2) قبل ذهاب الثلثين دبسا ، إلى غير ذلك (3) ، انتهى كلامه على ما لخّصه بعض الأجلّة (4).

ثمّ اعترض الملخّص (5) عليه بأنّ هاهنا مقامين : الأوّل : تخصيص العامّ ورفع شموله لبعض ما يتناوله بالاستصحاب ، الثاني : إبقاء حكم التخصيص بعد قيام دليله في بعض ما يتناوله العامّ بالاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل : فلا ريب في عدم حجّية الاستصحاب فيه ، سواء كان حكم العامّ موافقا للأصل أو مخالفا له (6) ؛ لاقتصار حجّيته على صورة عدم اليقين على الخلاف وإن كان اليقين حاصلا من عموم ونحوه (7) ممّا يكون في أدنى درجات الاعتبار ، وإلاّ لم يوجد أمر ولا نهي ؛ لمعارضة كلّ منهما باستصحاب البراءة الأصلية ؛ إذ لا فرق بين عموم العامّ وغيره من حيث كونه دليلا لفظيا. ولم يصلح عامّا للتمسّك به في موارد الشكّ إلاّ فيما لا يجوز تطرّق التخصيص إليه من دليل خارجي ؛ لأنّ القدر الثابت بالعامّ هو ذلك البعض الذي لا يجوز أن يكون مخصّصا.

وأمّا المقام الثاني : فلا ريب في حجّية الاستصحاب فيه إذا اشتمل على شرائط الحجّية وهو ممّا لا خلاف فيه وليس من تخصيص العامّ بالاستصحاب في شيء ، ومن هذا الباب ما ذكره من الأمثلة ، فإنّ عمومات البراءة إنّما دلّت على البراءة عند عدم ما يدلّ على الاشتغال ، فإذا دلّ الاستصحاب على بقاء الاشتغال أو على بقاء الموضوع يتفرّع عليه ، فشأن الاستصحاب في تلك العمومات تحقيق عنوان لا يجري فيه العمومات ، وكذلك الكلام في عموم الطهارة.

ص: 340


1- في المصدر : لا تقريبيا.
2- في المصدر : صورة صيرورته.
3- الفصول : 214.
4- في هامش « ز ، ك ، م » : [ وهو « م » ] صاحب الفصول ، انتهى وسيصرّح بذلك أيضا كما سيأتي.
5- « م » : المتلخّص.
6- « ج ، م » : - له.
7- « ز » : نحوها.

إلى أن قال : فاتّضح ممّا حقّقنا أنّ الفاضل المذكور قد خلط بين المقامين من حيث إنّ صدر كلامه يدلّ على مصيره إلى الجواز في المقام الأوّل ، وذيله على إثبات الجواز في المقام الثاني ، واتّضح أيضا ضعف دليله وعدم مساعدة ما استشهد به من كلام الأصحاب على ما أرسله ، فثبّت ولا تغفل (1) - (2) ، انتهى ما أورده الملخّص (3) في الفصول بتغيير (4) وإسقاط ما وتلخيص في الجملة.

أقول - وباللّه التوفيق وهو الهادي إلى كلّ الصواب وحقّ الصواب (5) - : ولقد أجاد المعترض في بعض ما أورده ولكنّه ما أجاد في الكلّ ، وتوضيح المقام وتحقيقه أنّ الاستصحاب تارة : يلاحظ بالنسبة إلى سائر الأصول المعمولة في موارد الشكّ من أصالة البراءة والطهارة والاشتغال ونحوها ، ولا شكّ في تقديم الاستصحاب على تلك الأصول ؛ لأنّ ما دلّ على اعتبارها مغيّا بغاية تتحقّق (6) بالاستصحاب كأمثال الأدلّة الاجتهادية لفظية أو غيرها ، وأخرى : يلاحظ بالنسبة إلى الأدلّة الاجتهادية من العمومات المنجّزة كقوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (7) ونحوه من عمومات الحلّ كقوله : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (8) فإنّ التحقيق على ما عرفت فيما قدّمنا في أصالة الاباحة عدم دلالتها على إثبات الحلّ في مقام الشكّ والظاهر كما هو المراد بالأصل ، ومثل قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (9) ممّا يستفاد من مساقها أو من دليل خارجي من الاستثناء ونحوه استمرار الأحكام المدلول عليها بتلك العمومات ، وقد عرفت فيما مرّ من التحقيق أنّ العامّ المقصور على استغراق الأفراد ممّا لا كلام فيه.

ص: 341


1- « ز ، ك » : فلا تغفل.
2- الفصول : 214 - 215.
3- « ج ، م » : - الملخّص.
4- « ز ، م » : بتغيّر.
5- « ز ، ك » : - وباللّه ... الصواب.
6- في النسخ : يتحقّق.
7- المائدة : 4 و 5.
8- البقرة : 29.
9- المائدة : 3.

وأمّا المستغرق للأزمان فقد عرفت انقسامه إلى عموم دائمي استمراري ، وإلى عموم أزماني استغراقي.

لا كلام في جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من دون أن يكون مخصّصا للعامّ ؛ إذ التخصيص فرع الارتباط ، والمفروض عدم دلالته عليه في كلّ زمان فلا ارتباط فلا تخصيص.

وأمّا القسم الثاني فقد مرّ أنّ المخصّص ربّما يكون معلّقا على موضوع فيستصحب ذلك الموضوع وليس من التخصيص في شيء ، وقد يكون الشكّ في حصول الحدّ فيستصحب وليس من التخصيص في شيء ، وقد يكون عنوان المخصّص مهملا فيمكن استصحابه لو (1) لا العموم فلا يجري فيه الاستصحاب نظرا إلى ورود الدليل الاجتهادي على العملي كائنا ما كان ، وقد يكون الدليل عامّا شاملا لتمام أفراد الزمان على حسب ما لاحظها الآمر في مقدار الزمان ، سواء كان ذلك العموم مستفادا من عنوان العامّ أو من عقل أو نقل ونحوهما ، فلا بدّ من الأخذ بعموم العامّ وليس من مجرى الاستصحاب في شيء ؛ لأنّ المفروض كونه مقيّدا (2) بالزمان وبعد زوال القيد وحصول قيد آخر للحكم يصير فردا آخر قطعا ، ولا يمكن انسحاب حكم فرد قطعي المغايرة (3) لفرد آخر فيه.

فاتّضح ممّا حقّقنا أنّ الفاضل المذكور إنّما خلط بين الأدلّة التعليقية الدالّة على أحكام الشكّ وبين غيرها ، وما استشهد به (4) من كلام الفقهاء إنّما هو من هذا القبيل. وأمّا الاستشهاد بعمومات الحلّ فلعلّه مبنيّ على ما نبّهنا عليه من أنّ متمسّك البعض في مقام إثبات الإباحة الأصلية هو هذه العمومات والمعترض المذكور إنّما خلط بين الكلّ وإن أصاب بعض الحقّ في عدم جواز ورود الاستصحاب كائنا ما كان على

ص: 342


1- « ج ، ز ، ك » : - لو.
2- « م » : مقيّدة.
3- « ز ، ك » : فرد المغاير.
4- « ج ، م » : - به.

الدليل اللفظي الاجتهادي ، فتارة يظهر من كلامه تقديم الاستصحاب على الأدلّة التعليقية ، وأخرى تقديم الاستصحاب الموضوعي على غيره ، وقد يظهر منه عدم جريان الاستصحاب في غير العموم المعلّق حكمه على العلم وغير استصحاب الموضوع مع أنّك تحقّقت جريانه في القسم الأوّل وليس من العمومات المعلّقة على العلم حكما ، وقد يظهر منه مدافعة العامّ للاستصحاب فيما لا يجري لكونه اجتهاديا ، وليس كذلك ؛ لما عرفت من أنّه (1) بعد ما صار الزمان قيدا لكلّ فرد من أفراد الحكم الواقع فيه يختلف الأفراد باختلاف الأزمنة ، وبعد الاختلاف ليس من محلّ الاستصحاب في شيء حتّى يكون ارتفاعه بواسطة الدليل ، بل بواسطة عدمه لعدم (2) محلّه ومجراه كما (3) هو ظاهر (4).

ص: 343


1- « ج ، م » : أنّ.
2- « م » : عدم تقدّم.
3- « م » : فيما.
4- « ز » : كما مرّ هو الهادي. « ك » : كما مرّ واللّه الهادي.

ص: 344

هداية [ ( في الاستصحاب ) في الأمور التدريجية ]

[ ( في الاستصحاب ) في الأمور التدريجية ] (1)

المستصحب قد يكون من الأمور التي تجتمع (2) أجزاؤها في الوجود الخارجي كالرطوبة (3) واليبوسة ونحوهما ، وقد يكون ممّا ليس له جزء (4) خارجي (5) كالطهارة والنجاسة والملكية والحلّية والحرمة ونحوها ، لا إشكال في جريان الاستصحاب في هذين القسمين على تقدير اجتماع سائر الشرائط على التفاصيل المتقدّمة ، وقد يكون ممّا لا يجتمع أجزاؤه في الوجود الخارجي كالتكلّم والمشي والجريان ممّا ينتهي إلى مقولة الحركة أو ما ينتزع منها من الأوصاف اللازمة لها كمقدارها (6) - مثلا - ممّا ينقضي شيئا فشيئا كالليل والنهار والشهر ونحوها ، وقد يظهر من البعض (7) تمثيله لذلك بالكرّية وليس في محلّه ؛ لأنّ الكرّية ليست (8) من الأمور التدريجية وإنّما تحصل دفعة وإن توقّف حصولها كذلك على اجتماع أجزاء متفرّقة في الأزمنة المختلفة في بعض الأوقات ، وإلاّ فيمكن (9) حصولها بدون ذلك أيضا ، وهل يمكن القول بجريان

ص: 345


1- العنوان من هامش « م ».
2- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : يجتمع.
3- في هامش « م » : لا يخفى أنّ ما ذكرنا من الرطوبة يصحّ باعتبار المحلّ وحينئذ فيصحّ في الجميع ، فتدبّر. « منه ».
4- « ز ، ك » : جزئي.
5- « ج » : خارجيا.
6- « ز ، ك » : لمقدارها.
7- « ز ، ك » : بعضهم.
8- « ز ، ك » : ليس.
9- « ز ، ك » : فيكون.

الاستصحاب في هذا القسم؟ الحقّ نعم لو لم نأخذ بضبط أمر الموضوع واعتمدنا في إحرازه على المسامحة العرفية ، وأمّا إذا قلنا بالتدقيق في الموضوع فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ الموجود من الأجزاء في الأمور التدريجية قد ارتفع قطعا وغير الموجود في ذلك الزمان غير معلوم الوجود ، بل قضيّة الأصل عدمه ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم من ملاحظة كلمات العلماء أخباريا وأصوليا جريان الاستصحاب في تلك الأمور عندهم فلعلّ الأمر عندهم مبنيّ على التسامح ، وليس بذلك البعيد في أمثال الأمور المفروضة كالتكلّم والمشي فإنّ الموضوع عندهم أمر اتّصالي قارّ ولو بحسب ما يؤدّي إليه أنظارهم وإن كانت قاصرة عن الوصول إلى ما هو الواقع فيها وقد يتراءى أن يكون المستصحب هو العزم على التكلّم أو المشي ، أو المادّة في جريان النهر ، وعدم الاعتداد بما يمنع عن وقوع هذه الأمور بعد إحراز العزم والمادّة ، فيكون الاستصحاب مرجعه (1) إلى استصحاب الأمر العدمي ولا يعقل التدريج في الأمور العدمية (2) ، هذا إنّما يتمّ في الأمور التدريجية التي تقع (3) في الزمان ، وأمّا نفس الزمان فربّما يقوّى في النظر عدم جريان الاستصحاب فيه ولو بعد مراعاة المسامحة العرفية كما لا يخفى ، سيّما بعد ملاحظة ظهور أخبار الباب في مثل الزمان وعدم إمكان حصول الظنّ ببقائه.

نعم ، في الزمان استصحاب عدمي لا غبار عليه كاستصحاب عدم وصول الشمس إلى دائرة (4) نصف النهار ، وعدم استتار القرص ، وعدم وصوله إلى الأفق (5) ، ونحو ذلك كاستصحاب عدم طيّ المسافة المفروضة في البروج التي تدور الشمس في منطقتها (6) ، إلى غير ذلك ، وقد عرفت أنّ تلك الأعدام ممّا لا يصحّ وصفها بالتدريجية ، بل هي أمور مستمرّة معلومة مستصحبة إلى زمن العلم بارتفاعها ؛ لوجود علّة الوصول إلى

ص: 346


1- « ز ، ك » : فيكون مرجع الاستصحاب.
2- « ز ، ك » : التدريجية.
3- « ج ، م » : يقع.
4- « ج ، م » : - دائرة.
5- « ز ، ك » : الأرض.
6- « ز ، ك » : منطقها.

تلك الحدود من المسافة (1) ، فلاحظ وتدبّر فإنّ الأمر بمكان من الغموض والخفاء في بعض الموارد من الزمانيات والزمان (2).

ص: 347


1- « ج ، م » : المسافات.
2- « ز ، ك » : - وتدبّر ... والزمان.

ص: 348

هداية [ في استصحاب الكلّي ]

[ في استصحاب الكلّي ] (1)

إذا شككنا في بقاء القدر المشترك والجنس بعد العلم بزوال فرد منه فهل يمكن الأخذ باستصحاب الجنس والقدر المشترك في إثبات بقائه ولو في فرد آخر أو لا؟ و (2) تحقيق الكلام أنّ هاهنا (3) صورا عديدة :

الأولى : أن يكون ذلك الأمر المشترك غير معيّن في ضمن أحد الفردين ابتداء ، بل يكون مردّدا بين فردين أحدهما قطعي الارتفاع ، فلو كان المشترك متقوّما بقوامه فقد ارتفع قطعا ، ولو كان متحقّقا بتحقّق غيره فهو باق قطعا.

الثانية : أن يكون وجوده معلوما في ضمن معلوم معيّن قطعي الارتفاع مع احتمال تقوّمه بفرد مماثل له نوعا.

الثالثة : أن يكون كالثانية مع احتمال تبدّله بفرد متّحد معه في الجنس.

لا إشكال في جريان الاستصحاب على المسامحة العرفية في ضبط الموضوع بالنسبة إلى القدر المشترك في الأولى من الصور ؛ لعدم مدخلية الخصوصية المعلومة الارتفاع في الحكم المترتّب على نفس الأمر المشترك بين الفردين ، فإنّ المطلوب بالاستصحاب على ما عرفت مرارا هو الأخذ بلوازم المستصحب فقط ، ففي المقام لا

ص: 349


1- عنونه في هامش « م » ب- « في استصحاب القدر المشترك بعد ارتفاع فرد خاصّ ».
2- كذا. والأنسب بدون « و ».
3- « ز ، ك » : هنا.

وجه للأخذ بأحكام إحدى الخصوصيتين باستصحاب القدر المشترك.

وذلك كما في استصحاب كلّي الحدث المشترك بين الأصغر والأكبر فإنّه يترتّب عليه أحكام مطلق الحدث من عدم جواز الدخول في المشروط بالطهارة من صلاة أو (1) طواف ونحوهما (2) ، ولا يحكم بأنّه الجنابة مثلا ، فيجوز له الجواز في أحد المساجد واللبث في غيرها ، وأمّا وجوب الغسل عليه فهو بواسطة وجوب الدخول فيما هو مشروط بالطهارة وتحصيل القطع بالطهارة الواقعية التي (3) لا تحصل إلاّ بعد الغسل كما لا يخفى. وبالجملة : فكلّ واحد من موجبات الوضوء والغسل أمر حادث والأصل عدمه ، وليس الأخذ به مجديا فيما نحن بصدده إلاّ أنّ أصل (4) الحدث المشترك أمر معلوم والأصل بقاؤه إلى حدوث رافعه ، ووجوب الغسل عليه قد عرفت الوجه فيه ، نعم لو كان الوضوء محمولا على غير الجنب كما يظهر من قوله : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (5) على بعض الوجوه ، كان لإثبات وجوب الوضوء بعد عدم وجوب الغسل بانتفاء موضوعه بالأصل وجه ، ومن هذا القبيل استصحاب بقاء النجاسة المردّدة بين كونها ممّا ترتفع بغسلة واحدة أو بغسلتين. واستصحاب بقاء الاشتغال بالأمر الواقعي الواقع على الظهر أو الجمعة بعد فعل أحدهما.

ومن هنا يظهر جريان الاستصحاب في هذه الصورة بناء على التدقيق أيضا ، وليس هذا من الاستصحاب العرضي في شيء ؛ لأنّ الحكم في الجهة المعلومة قد ارتفع (6) قطعا والجهة المشكوكة مشكوكة من أوّل الأمر بخلاف مثل استصحاب الاشتغال ، فإنّ المعلوم أوّلا هو القدر المشترك بين الأفراد ، فالخصوصيات خارجة عن المعلوم وانتفاؤها لا يوجب ارتفاع المعلوم ، فيستصحب إلى حصول العلم بالارتفاع.

ص: 350


1- « ز ، ك » : و.
2- « ج ، م » : نحوها.
3- « ج » : « وهي » بدل : « التي ».
4- « ز ، ك » : الموصل.
5- المائدة : 6.
6- « ز ، ك » : لارتفع.

وبالجملة : فهذه الصورة والاستصحاب العرضي متعاكسان في كيفية العلم بالمشترك والخصوصيات ، فإنّ المعلوم في الأخير هو الخصوصية كالمشكوك والمشترك معلوميته حاصل من معلومية الخصوصية ، بخلاف الصورة هذه فإنّ المعلوم أوّلا هو القدر المشترك ويتبعه الحكم بلزوم الإتيان بالفرد فيستصحب إلى أن يحصل العلم بالارتفاع.

وأمّا الثانية : فكالأولى في جريان الاستصحاب بعد البناء على المسامحة العرفية ، وأظهر الأمثلة في ذلك ما لو تبدّل أحد أفراد الماهيّة المشكّكة المختلفة شدّة وضعفا بالآخر ، كما إذا علمنا بارتفاع السواد الشديد ، ثمّ شككنا في قيام الفرد الضعيف مقامه فإنّهم بانون في مثله على استصحاب مطلق السواد كما يظهر من استصحاب كثرة السهو فيما لو كانت قائمة على فرد شديد معلوم الارتفاع ، ثمّ يشكّ (1) في ارتفاع الماهيّة وانقلاب محلّه متّصفا بضدّه أو اتّصافه بفرد مماثل له في الماهيّة الضعيفة ، وكذا في استصحاب كثرة السفر.

وأمّا الثالثة : فكما إذا علمنا بوجود إنسان في الدار يشكّ في تبدّله حمارا (2) بعد القطع بارتفاعه ، فالتحقيق عدم جريان الاستصحاب فيه كما هو ظاهر بناء على الدقّة في الموضوع ، وأمّا العرف فقد (3) يتسامح في مثل ذلك فيحكمون ببقاء الحيوان المشترك ؛ لأنّ القدر المشترك هو ممّا لا يختلف باختلاف الأفراد والمفروض وجوده في الخارج والأصل بقاؤه إلى ثبوت رافعه.

لكنّ الإنصاف أنّ جريان الاستصحاب في بعض أقسام هذه الصورة وبعض الأمثلة فيها كاد أن يكون بطلانه من أجلى البديهيات وأعلى (4) الضروريات وإن كان الأستاد دام علاه مصرّا على توجيه الاستصحاب فيه مراعاة لمذاق القوم ، وغاية ما

ص: 351


1- « ز ، ك » : نشكّ.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : حجارا.
3- « ج ، م » : + يقال.
4- « ز ، ك » : - البديهيات وأعلى.

يمكن أن يتعسّف في المقام هو أن يقال : إنّ العرف ربّما يتخيّلون الموضوع في هذه الاستصحابات أمرا قارّا مستمرّا غير مختلف باختلاف الأفراد ولا متفاوت (1) بتفاوت الآحاد ، كما يظهر من استصحاب بقاء السلسلة الفلانية والقبيلة الكذائية ، أو استصحاب بقاء النوع أو عمارة البلد أو القرية مثلا ، فكأنّ المعلوم أوّلا عندهم هو ما يقضي (2) بوجود ذلك النوع أو السلسلة (3) كما عرفت في استصحاب جريان النهر (4) ، ومنه حكمهم باستصحاب الحيض فيما رأت الدم بعد أيّام قرئها وقبل كمال (5) العشرة ، ومنه الحكم باستصحاب النجاسة فيما لو زال التغيّر (6) في جهة مع الشكّ في حدوث التغيّر من جهة أخرى. وكيف كان فليس (7) أمر الاستصحاب عندهم مبنيّا على المداقّة حتّى أنّ من ذهب إلى تجدّد الأكوان وتبدّل الأمثال في الأعراض كالنظّام إنما يتمسّك بالاستصحاب فيما لو شكّ في بقاء الكون الموجود أو العرض (8) المفروض مع اختلاف الأفراد المتتالية على تقدير الوجود ، ولهذا لم نر أحدا أحال الاستصحاب على بقاء الأكوان وتجدّد الأمثال وعدمه.

وبالجملة : الذي يظهر لنا عدم جريان الاستصحاب عند الدقّة في الصورتين الأخيرتين ؛ لأنّ المطلوب في هذا الاستصحاب وإن كان هو الأمر الكلّي الذي لا يختلف باختلاف الأفراد إلاّ أنّه لم يكن بنفسه موجودا معلوما وإنّما كان موجودا في الخارج باعتبار وجود الفرد ، فوجوده أوّلا قطعنا بارتفاعه ، وثانيا لم يعلم به ولو كان على تقدير الوجود غير مختلف مع الأوّل والأصل عدمه ، بل لو كشف الغطاء عن

ص: 352


1- « ز ، ك » : يتفاوت.
2- « ج » : يقتضي.
3- في هامش « م » : ولعلّ الوجه في استصحاب بقاء السلسلة والنوع أو نسل بني فلان عدم العلم بانعدام الموجودين منهم فيخرج عن مفروض الصورة ، فتدبّر.
4- عرفت في ص 345 - 346.
5- « ج ، م » : تكامل.
6- « ج » : التغيير ، وكذا في المورد الآتي.
7- « ز ، ك » : فكيف كان ليس.
8- « ز » : الفرض.

وجه المطلوب لكنت أقول : إنّ قضيّة ما ذكرنا عدم جريان الاستصحاب في الصورة الأولى أيضا ، وأمّا عرفا فيختلف فيه الأمثلة في الصورتين على ما عرفت ، فربّما نقطع (1) بالمسامحة وربّما نقطع بعدمها ، فالأمر في تشخيص ذلك في غاية الإشكال ونهاية الصعوبة ، فتدبّر.

ثمّ إنّ الفاضل التوني قد أورد في الوافية كلاما يقرب ممّا ذكرنا حيث قال : الرابع : أن يكون الحكم الشرعي المترتّب على الأمر الوضعي المستصحب ثابتا في الوقت الأوّل ويكون الحكم في الوقت الثاني فرعا لثبوته (2) في الأوّل ، فإذا لم يثبت في الزمان الأوّل فكيف يمكن إثباته في الزمان الثاني؟ ثمّ فرّع عليه عدم إمكان إثبات النجاسة باستصحاب عدم المذبوحية في الجلد المطروح ؛ لأنّ النجاسة لم تكن (3) ثابتة في وقت الحياة ، قال : والسرّ فيه أنّ عدم المذبوحية لازم لأمرين : الحياة ، والموت حتف أنفه ، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو هو بل ملزومه الثاني أعني الموت حتف أنفه ، فعدم المذبوحية لازم أعمّ لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحية العارض للحياة مغاير لعدم المذبوحية العارض للموت حتف أنفه ، والمعلوم ثبوته في الزمان الأوّل هو الأوّل لا الثاني وظاهر أنّه غير باق في الزمان الثاني ، ففي الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ؛ إذ شرطه بقاء الموضوع وعدمه هنا (4) معلوم.

قال : وليس مثل المتمسّك بهذا الاستصحاب إلاّ مثل من تمسّك على وجود عمرو في الدار في الوقت الثاني باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل ، وفساده غنيّ عن البيان (5) ، انتهى كلامه.

ص: 353


1- المثبت من « ز » وفي سائر النسخ : يقطع.
2- في المصدر : الوقت الأوّل إذ ثبوت الحكم في الوقت الثاني فرع لثبوت الحكم.
3- « ج ، م » : لم يكن.
4- « ج » : هاهنا.
5- الوافية : 210.

ولقد أجاد فيما أفاد من أصل المدّعى (1) وإن كان ما أجاد فيما فرّع عليه ، أمّا أوّلا : فلأنّ النجاسة ليست من الأحكام المترتّبة على الموت حتف أنفه فهي من لواحق عدم التذكية كما يستفاد من حصر المحلّل في المذكّى في قوله (2) تعالى : ( وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (3) وفي الخبر : « فما علمت أنّه مذكّى فهو حلال » (4) فالحرمة والنجاسة إنّما هما (5) مترتبان في عنوان الأدلّة على عدم التذكية وضدّاهما عليها (6) ، فاستصحاب عدم التذكية وإن كان لا يجدي في إثبات الموت حتف أنفه - لأنّ نفي أحد الأضداد بالأصل لا يوجب إثبات الضد الآخر ؛ لكونه من الأصول التي لا تعويل عليها - إلاّ أنّه لا حاجة إلى إحراز الموت في هذه الأحكام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم المذبوحية ممّا لا يختلف أبدا فهو عدم واحد مستمرّ مستصحب وهو معلوم حال الحياة ، وبعد إزهاق الروح يشكّ في رفع ذلك الأمر العدمي المعلوم ، والأصل يقضي (7) ببقائه ، ولا يعقل الترديد بين أن يكون ذلك العدم لازما للحياة أو (8) الموت حتف أنفه ؛ لعدم التمايز بين قسميه كما في سائر الأعدام ، وبعد إحرازه (9) بالأصل على ما هو معلوم لكونه مفادا للأصل يترتّب عليه أحكامه المترتّبة عليه ، وعدم نجاسة الجلد (10) حال الحياة ممّا لا دخل له في نجاسته بعد الممات وزهوق (11) الروح.

أفاد الأستاد أدام اللّه إفاداته (12) أنّ في سالف الزمان كنّا نفصّل بين الكلّيات الذاتية

ص: 354


1- « ز ، ك » : أجاد في أصل المدّعى.
2- « ج ، م » : قوله.
3- المائدة : 3.
4- وسائل الشيعة 3 : 408 ، باب 9 من أبواب النجاسات والأواني والجلود ، ح 6 ، و 4 : 354 ، باب 2 من أبواب لباس المصلّي ، ح 1 ، وفيها : « كلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكّي ».
5- « ج ، م » : - هما.
6- « ز » : عليهما.
7- « ج » : يقتضي.
8- « م » : إذ.
9- « ز ، ك » : إحرازها.
10- « ز » : الحلية ، « ك » : عدم النجاسة والحلية.
11- « ز ، ك » : إزهاق.
12- « ز ، ك » : - أدام اللّه إفاداته.

للأفراد وبين العرضية لها (1) في إمكان الاستصحاب وعدمه ، فلا يمكن على الأوّل بخلاف الثاني ، والحقّ الحقيق بالتصديق عدم جريان الاستصحاب حقيقة في الصورتين الأخيرتين ؛ لما قرع سمعك مرارا من أنّ الفرد المتقوّم به الكلّي ذاتيا أو عرضيا قد ارتفع (2) والفرد الآخر مشكوك والأصل عدمه ، والحكم بوجوده بعد ذهاب الفرد بالاستصحاب قريب من الاستصحاب العرضي وإن كان بينهما فرق في الجملة ، فإنّ الأمر مردّد بين الفرد المقطوع به المعلوم ارتفاعه وبين الشكّ في جهة أخرى مباينة (3) للجهة المعلومة في الاستصحاب العرضي ، وفي المقام مردّد بين الفرد المعلوم المقطوع بارتفاعه وبين الشكّ في قيام الفرد الآخر مقامه وتطوّر الكلّي بطور وراء طوره الأوّل ، وقد عرفت الفرق بين الصورة الأولى وبينه أيضا فيما تقدّم ، فتدبّر (4).

ص: 355


1- « م » : عرضيتها ، « ج » : عرضيها.
2- « ز ، ك » : - قد ارتفع.
3- « ك » : متساوية.
4- « ز ، ك » : - فتدبّر.

ص: 356

هداية [ في استصحاب أحكام الشرائع السابقة ]

اشارة

قد عرفت فيما تقدّم (1) أنّ أمين الأخبارية قد ادّعى اعتبار الاستصحاب في الأحكام الشرعية عند الشكّ في النسخ وعدمه ، بل عدّه من ضروريات الدين وإن لم يأت على ذلك بسلطان مبين ، وهل المراد به أصالة عدم التخصيص التي مرجعها إلى أحد الأصول اللفظية كأصالة عدم القرينة في المجاز وأصالة عدم المخصّص في العامّ الأفرادي ونحوهما ، أو المراد به استصحاب نفس الحكم الشرعي في محلّ الشكّ؟ فنقول : إنّ مقتضى ما اصطلح عليه القوم فيه من أنّه عبارة عن انتهاء مدّة (2) الحكم لا بدّ من كون الدليل الدالّ على الحكم عامّا بحسب الأزمان وإن لم نقل بوجوب كون الدليل بنفسه عامّا ؛ لإمكان استفادة العموم من الخارج ، وحينئذ لا مناص من أن يكون المراد به أصالة عدم التخصيص ، إلاّ أنّه قد يكون الحكم ثابتا للمكلّف من حيث هو مكلّف مع قطع النظر عن وقوعه في زمان دون زمان بحيث لو وجد في زمان واحد (3) جميع مصاديق المكلّف كان الحكم متوجّها إليهم غير مختلف بالنسبة إليهم ، فعند ذلك لو شكّ في ثبوت الحكم في الأزمنة المتأخّرة يمكن إبقاء الحكم فيها بالاستصحاب من غير أن يكون راجعا إلى أصل لفظي أصلا ، فإثبات الحكم في

ص: 357


1- عرفت في ص 49.
2- « م ، ز » : هذه ، « ك » : هذا.
3- « ز ، ك » : - واحد.

الزمان (1) الثاني ليس تحكيما للعموم نظرا إلى أصالة العموم وعدم ورود المخصّص في أفراد الزمان ؛ لأنّ المفروض عدم العموم من حيث اللفظ وعدم ما يفيده من الخارج ، وأمّا أدلّة الاشتراك فلا يفيد عموما في الدليل كما لا يخفى ؛ إذ قضيّة الاشتراك لا يزيد على مجرّد الاشتراك كما أنّه ليس بواسطة أدلّة الاشتراك ، لأنّ المقصود جريان استصحاب عدم النسخ مع قطع النظر عن أدلّة الاشتراك ، بل إثبات الحكم المذكور في زمان الشكّ إنّما هو بالاستصحاب ، فموارد الأدلّة الدالّة على ثبوت الأحكام مع قطع النظر عن أدلّة الاشتراك على قسمين : فمنها : ما هي مشتملة على العموم الأزماني ولو بمعونة القرائن الخارجية ، فعند الشكّ في ثبوت تلك الأحكام المدلول عليها بهذه الأدلّة لا بدّ من الأخذ بأصالة عدم التخصيص كما هو المراد من استصحاب عدم النسخ بحسب ما اصطلحوا عليه ، ومنها : ما لا يشتمل (2) عليه بنفسه ولا يستفاد من الخارج ، فمع قطع النظر عن أدلّة الاشتراك لا بدّ من الأخذ باستصحاب ذلك الحكم والقول بعدم نسخه باختلاف الأزمان.

فإن قلت : إنّ استصحاب عدم النسخ لا يجدي في هذه الأزمنة وبعد انقطاع الوحي؟ لعدم النسخ قطعا فكيف يعقل القول به في هذه الأزمنة؟

قلت : نعم ، ولكنّ المراد عدم نسخة في زمن حياة النبيّ كأصالة عدم القرينة وإن سرى الحكم إلينا بالاستصحاب بعد عدم كون الحكم منسوخا في زمن النبيّ كما هو قضيّة الاستصحاب.

فإن قلت : إنّ عدم ثبوت النسخ في زمن النبيّ لا يجدي في إثبات الحكم في حقّنا ؛ لاختلاف الموضوع في الاستصحاب ، لانعدام المكلّفين الموجودين وانوجاد غيرهم مع عدم العلم بثبوت الحكم في حقّهم ، فلا يجري الاستصحاب.

ص: 358


1- « م » : الزمن.
2- « ج » : لا يشمل.

قلت : المقدّر عدم اختلاف الموضوع ؛ لأنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان الحكم ثابتا لعنوان المكلّف من حيث هو مكلّف ولا يختلف هذا العنوان بالوجود والعدم ، فإنّه لو ثبت الحكم لعنوان من العناوين كالحلّية للغنم و (1) الحرمة للخمر فلا يختلف الحكم في الأفراد الموجودة والمعدومة ، فلو فرضنا اجتماع الأفراد في الوجود كان الحكم ثابتا لها كما أنّه لو كان الكلّ معدوما ، ففيما إذا كان البعض موجودا والآخر معدوما لا ينبغي القول بالاختلاف على ما هو المفروض ، فالشكّ إنّما هو بسبب اختلاف الأزمان الواقع فيها نوع المكلّف ، فالموجود والمعدوم مع قطع النظر عن الشكّ الزماني حالهم بالنسبة إلى شمول الدليل لهم سواء.

وإن أبيت عن ذلك وعسر فهم مثل هذه الأمور الجليّة الواضحة عليك فلنلزمك (2) بما هو قريب من مذاقك فنفرض شخصا واجدا لزمان النبيّ وزمان غيره بعده فنثبت (3) الحكم في حقّه بالاستصحاب ويتمّ (4) في الباقي بالإجماع (5) المركّب ، ولا يمكن القلب استنادا إلى البراءة ؛ لورود الاستصحاب عليها ، فتأمّل.

هذا إذا كان الحكم ثابتا في شريعة واحدة ، وأمّا إذا تعدّدت الشرائع فهل ينسحب الحكم الثابت في إحداها في الأخرى بالاستصحاب أو لا؟ وجهان ، بل المنقول من القوم قولان ، وفصّل محقّق القوانين (6) بين ما نقل في الأخرى على طريق المدح لهم ولهذه الأمّة وبين غيره ، ولعلّه ليس تفصيلا في جريان الاستصحاب ، بل هو تفصيل في مجرّد الاتّباع لحكم ثابت في الشرائع السابقة في شريعتنا كما يظهر ممّا عنون به الفصل فإنّه أعمّ من أن يكون ثبوت الحكم بالاستصحاب في شريعتنا أو بغيره ، ومع ذلك فلا يكاد يتمّ ؛ إذ لا شكّ في وجوب اتّباع ما ثبت في شريعتنا ولو بأيّ نحو كان ، والكلام

ص: 359


1- « ج ، م » : أو.
2- « ز ، ك » : فلألزمك.
3- « ج ، ك » : فثبت.
4- « ز ، ك » : نتمّ.
5- في النسخ : بإجماع.
6- القوانين 1 : 495.

إنّما هو في اتّباع الحكم الثابت في الشريعة السابقة ووجوبه في حقّنا لا في العمل بما علمنا بكونه مشروعا في ملّتنا بواسطة نقله من الشرائع السابقة.

وكيف كان فالذي يقتضيه جليّ (1) النظر القول بجريان الاستصحاب (2) فيما إذا ثبت الحكم في تلك الشريعة لعنوان المكلّف على نحو ما فرضناه في الشريعة الواحدة ، فإنّه لا مانع من الاستصحاب فيه كما أنّه لا مانع من الأخذ بالعموم الثابت في تلك الشريعة والأخذ بأحكامه إن لم يستفد منه اختصاصه بتلك الشريعة ، كما إذا اشتمل على لفظ « أبدا » أو « إلى يوم القيامة » مثلا ؛ لعدم الفارق بين ثبوت الحكم على أحد الوجهين في الشريعة الواحدة أو في الشريعتين.

وقصارى ما يتوهّم في الفرق بينهما : أنّ تبليغ الرسول ممّا له مدخل في الحكم فيختلف الحكمان باختلاف الرسول ، سواء كان الحكم الثابت في لسان أحدهما مخالفا لما ثبت من الآخر أو موافقا لاختلافه باختلاف الحيثية ، ففيما لو شككنا في ارتفاع الحكم الذي جاء به نبيّنا صلى اللّه عليه وآله يصحّ الأخذ بالاستصحاب في إثباته في زمن الشكّ ، بخلاف ما لو كان الحكم ثابتا في إحدى الشرائع السابقة فإنّ استصحابه ممّا لا يجدي في ثبوت الحكم في حقّنا ؛ لأنّ الأخذ بواسطة الرسول ممّا هو كجزء موضوع للحكم فلا يصغى إليه وإن قطعنا به ، فضلا من أن يكون مستصحبا ، ولا أقلّ من الشكّ في مدخلية التبليغ في الحكم ومعه لا مسرح للاستصحاب أيضا.

وفيه : أنّه لم يثبت من الأخبار ولا من غيره من طرق الاعتبار مدخلية تبليغ النبيّ في الحكم ، بل إنّما هو مرآة عن الواقع ، وبعد الوصول إلى ما هو الواقع من الأحكام الإلهية لا ينبغي التأمّل في وجوب الأخذ به كما أشبعنا الكلام فيه في المباحث الماضية ، بل ولا يعقل ذلك بعد ما عرفت من أنّ الجهات المحسّنة والمقبّحة علل تامّة وإنّما

ص: 360


1- « ز ، ك » : - جليّ.
2- سيوافيك على ما يقتضيه دقيق النظر عدم جريان الاستصحاب في ص 366 - 368.

الشارع كشف عنها ، كما استظهرنا ذلك عن اعتراض بعض المخالفين بعدم الاختيار على المفروض وجواب أصحابنا كالمحقّق الطوسي وشيخنا البهائي عنه بأنّ ترك القبيح لصارف لا ينافي الاختيار.

ثمّ إنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين (1) القول بذاتية الصفات المستتبعة للأحكام من الحسن والقبح وبين القول باختلافها بالوجوه والاعتبار ؛ إذ على الأخير أيضا يمكن القول بجريان الاستصحاب ، بل وهذا محلّ جريانه ؛ لأنّ القول بالذاتية ينافي الاختلاف ، فيجب بقاء الأحكام وليس من الاستصحاب في شيء.

فما يظهر من محقّق القوانين - في مقام الردّ على من ذهب إلى أنّ عدم العلم بالناسخ كاف في استصحابه - من أنّه مبنيّ على القول بكون حسن الأشياء ذاتيا وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار (2) لكن إعمال الاستصحاب لا يمكن إلاّ مع قابلية المحلّ كما سيجيء.

ممّا لا يكاد يخفى (3) وجوه النظر فيه ، أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّه على القول بالذاتية لا مسرح للاستصحاب ، وأمّا ثانيا : فلأنّ القول بالاعتبار لا ينافي بقاء الحكم المتفرّع عليه لإمكان عدم تغيّره (4) ، وإلاّ فكيف يعقل الاستصحاب فيما إذا شكّ في النسخ في شريعة واحدة؟ وأمّا ثالثا : فلأنّ إحراز القابلية لا ينافي القول بالوجوه والاعتبار كما يظهر من مساق كلامه ، وعلى تقديره فهو مشترك الورود بين الشريعة الواحدة والشريعتين ، فتدبّر.

وقد يورد على الاستصحاب المذكور على ما يوجد في بعض كلمات بعض الأجلّة بأنّه ممّا لا يعتنى به ؛ ضرورة أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن استصحابه في

ص: 361


1- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : وبين.
2- القوانين 1 : 495.
3- « م » : يحصى.
4- « ج ، م » : تغييره.

حقّ آخرين (1) ، لتغاير الموضوع فإنّ ما ثبت في حقّهم على تقدير الاتّحاد وعدم الاختلاف فهو (2) مثله لا نفسه ، ولهذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة في حقّ الحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب (3) ، انتهى.

وهو بمكان من الوهن : أمّا أوّلا : فلأنّ من المسلّم عنده جريان الاستصحاب في الشريعة الواحدة مع وضوح اتّحاد الوجه فيهما فما هو الجواب هو الجواب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مفروض الكلام على ما عرفت آنفا عدم اختلاف الموضوع باختلاف المكلّفين ؛ لثبوت الحكم لنوع المكلّف من حيث هو مكلّف ، ضرورة اتّحاد الموضوع على المفروض ، فلا يزيد استصحاب حكم جماعة لجماعة (4) أخرى ، وعلى التنزّل فلا بدّ من ملاحظة حال الواجد للشريعتين واستصحابه في حقّه وإتمام الدعوى في الغير بالإجماع المركّب ، ومن هنا يظهر أنّ ما استشهد به من إثبات الحكم لجماعة أخرى وتسريته في حقّ الغير يحتاج إلى أدلّة الاشتراك ، ممّا لا يصغى إليه فيما نحن فيه ؛ لعدم الاحتياج إليها بعد الاستصحاب وإنّما الحاجة إليها فيما إذا كانت الأحكام مختصّة بجماعة من الأمّة بحسب الأدلّة الدالّة عليها كخطابات الشفاه (5) فإنّها على التحقيق ممّا لا يعقل شمولها للغير فيصير مختصّة بالمشافهين الحاضرين مجلس الخطاب والوحي.

قلت : ولك أن تقول : بعدم الحاجة إلى أدلّة الشركة في خطاب الشفاه أيضا إلاّ من حيث كشفه عن الحكم المدلول عليه بالخطاب تارة ، وبها أخرى كما لا يخفى ، فتدبّر.

وبالجملة : فهذه الوجوه الضعيفة ممّا لا ينهض بدفع الاستصحاب إلاّ أنّه في المقام

ص: 362


1- « م » : الآخرين.
2- قوله : « على تقدير الاتّحاد ... فهو » لم يرد في المصدر.
3- الفصول : 315.
4- « ز ، ك » : بجماعة.
5- « ز ، ك » : الشفاهة.

شيئان آخران :

الأوّل (1) : أنّ الاستصحاب ممّا لا مجرى له بعد العلم الإجمالي بورود (2) النسخ في الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة ، فإنّ قضيّة ذلك عدم الاعتداد بالاستصحاب في حكم من أحكامها ، لوجوب إحراز (3) المعلوم بالإجمال في أطراف الشبهة وترك العمل بتمامها مقدّمة كما عرفت في الشبهة المحصورة ، فإنّ المقام أيضا منها ، فلا يمكن الأخذ بالأصل في الكلّ لمخالفته للعلم الإجمالي ، ولا الأخذ بالبعض لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح مع التعيين ولعدم ما يقضي (4) بالتخيير مع عدمه.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ المعلوم بالإجمال ممّا علم تفصيلا بوجودها في ضمن الأحكام المعلومة الموجودة عندنا.

وفيه : منع واضح إن أريد العلم بوجود المنسوخات في الشرائع السابقة بتمامها في الأحكام الموجودة عندنا ؛ إذ على هذا التقدير لا معنى للشكّ في منسوخية الحكم المفروض في مجرى الاستصحاب على ما هو ظاهر. وإن أريد أنّ الموجود عندنا من الأحكام إنّما هو (5) القدر المعلوم لنا إجمالا لا منسوخه (6) وإن لم نعلم بكونه محرزا فيها ، فلا يجدي ؛ لوجوب العلم بالموافقة القطعية وترك الأطراف جميعا.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ المقصود من إحراز المنسوخات في الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة إنّما هو العلم (7) بتلك الأحكام المنسوخة على الوجه الذي صار منسوخا في شريعتنا والأخذ بنواسخها على ما هو ظاهر ، والمفروض معلومية وجوب العمل بهذه الأحكام الثابتة في شريعتنا مطلقا ، سواء كانت ناسخة لما قرّر في

ص: 363


1- سيأتي الثاني منهما في ص 366.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لورودها.
3- « م » : الإحراز.
4- « ج » : يقتضي.
5- المثبت من « م » ، ولم ترد كلمة « هو » في سائر النسخ.
6- « ج ، م » : بمنسوخية.
7- « ج ، م » : العمل.

سائر الشرائع أو لم تكن (1) فأصالة عدم المنسوخية في الأحكام التي ليست من موارد الشكّ ممّا لا يجدي ؛ لكونها في غير محلّ الابتلاء من المكلّف ، لكونه معلوما بالتفصيل من جهة أخرى وقد عرفت (2) فيما تقدّم عدم وجوب الاجتناب عن تمام أطراف الشبهة فيما إذا لم يكن بعضها بمحلّ الابتلاء من المكلّف ؛ لعدم تنجّز الخطاب عليه على ما عرفت تفصيل الكلام فيه ، فيجري في الطرف الأصل فيعمل به ويعتمد عليه من غير معارضة ولا غائلة ؛ لكونه من الأدلّة الشرعية ، والعلم الإجمالي ممّا لا أثر له بعد معلومية أحد أطرافه بدليل معتبر شرعا كالاستصحاب والبيّنة ونحوها من الطرق الواقعية أو الأصول العملية من غير فرق بينهما من هذه الجهة وإن كان الفرق بينهما من جهة أخرى واضحا كما هو ظاهر.

وتوضيح المطلب : أنّ مجرّد العلم الإجمالي بوجود شيء بين أشياء متعدّدة لا يقضي (3) بوجوب إحراز (4) المعلوم الإجمالي وعدم جريان الأصل الموضوعي في الأطراف ، فإنّه على ما عرفت إنّما هو بواسطة لزوم المخالفة القطعية فيما لو أخذ بالأصل في الكلّ والترجيح بلا مرجّح فيما لو خصّصنا الأخذ بالبعض دون آخر كما عرفت مفصّلا في محلّه ، وليس في المقام كذلك ، فإنّا لو فرضنا الوقائع ألفا - مثلا - فنعلم بأنّ تسعمائة منه منسوخة قطعا وعندنا في هذه الشريعة المقدّسة يكون على هذا المقدار أحكام معلومة - مثلا - فنعلم بواسطة معلومية هذه الأحكام وجوب الأخذ بها ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذه هي الأحكام المنسوخة من سائر الشرائع وبين أن لا تكون (5) تلك الأحكام فنعلم بوجوب العمل بهذه الأحكام تفصيلا ، والعلم الإجمالي

ص: 364


1- في النسخ : لم يكن.
2- عرفت في ج 3 ، ص 470.
3- « ج » : لا يقتضي.
4- « ز ، ج » : الإحراز.
5- في النسخ : لا يكون.

بمنسوخية جملة من الأحكام الواقعة (1) في سائر الشرائع لا يورث في هذه الأحكام شيئا آخر بعد العلم بوجوب العمل بها في هذه الشريعة ، فأصالة عدم النسخ في هذه الأحكام لا يوجب (2) العمل بهذه الأحكام ؛ للعلم بوجوب العمل بها تفصيلا ، بخلاف أصالة عدم النسخ في المائة الباقية فإنّها تقضي (3) بوجوب العمل بها ، فأطراف العلم الإجمالي ليست على حدّ سواء في جريان الأصل الموضوعي (4) ، فيؤخذ بما يجري فيه ؛ لكونه من الأدلّة الشرعية الظاهرية ، وذلك نظير ما عرفت من أنّه لو كان أحد الأطراف في الشبهة المحصورة محكوما بحكم موافق للعلم الإجمالي تفصيلا كما إذا علمنا بحرمة أحد الأطراف من غير جهة الغصب ، ثمّ علمنا بحرمة مردّدة بينه وبين غيره من جهة الغصب - مثلا - فإنّه لا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر ؛ لعدم إيراثه حكما جديدا (5) بالنسبة إلى الطرف المعلوم بالتفصيل ، وبالنسبة إلى الآخر يكون من الشكوك البدوية ؛ إذ مرجع الشكّ إلى أنّ هذه الحرمة إنّما هي بالنسبة إلى هذا (6) الطرف فيكون (7) حراما ، أو بالنسبة إلى الطرف الآخر حتّى لا يكون حراما ، فيصير من موارد البراءة على ما مرّ تفصيل الكلام فيها.

وبمثل ذلك نقول فيما نحن بصدده فإنّ الوقائع في جميع الأديان على ما فرضناه ألف والمفروض أنّ تسعمائة منها معلومة لنا تفصيلا لثبوت الأحكام الواردة فيها في هذه الشريعة ، والمائة الباقية مشكوكة ، وقد علمنا إجمالا بأنّ جملة من تلك الوقائع ممّا نسخت أحكامها الثابتة في الشريعة السابقة في هذه الشريعة المقدّسة ، والعلم الإجمالي لا ثمرة فيه إلاّ العمل بأطرافه على وجه يصير المعلوم الإجمالي محرزا في ضمن

ص: 365


1- « ز ، ك » : الواقعية.
2- « ز ، ك » : لو يوجب.
3- « ج » : تقتضي.
4- « ز ، ك » : النوعي.
5- « ز ، ك » : إجمالا ، « ج » : فذلك.
6- « ز ، ك » : هذه.
7- « ز ، ك » : ليكون.

الأطراف المحتملة ، والمفروض وجوب العمل بتلك القطعة من الأحكام المعلومة تفصيلا ، فلم يفد العلم الإجمالي في هذه القطعة شيئا ، فأصالة عدم النسخ فيها لا تجدي (1) ، للعلم بحكمها تفصيلا ، فتلك القطعة ليست بمحلّ الابتلاء من المكلّف ، وتبقى أصالة عدم النسخ في المائة الباقية سليمة عن المعارض حاكمة على قاعدة المقدّمية ، فيجب الأخذ بها ؛ لكونها دليلا شرعيا ظاهريا.

فإن قلت : نعم ، ولكن نحن ندّعي وجود (2) العلم الإجمالي بين المائة الباقية أيضا ، فلا يمكن إجراء أصالة عدم النسخ فيها أيضا.

قلت : على هذا التقدير يختلف الأحكام باختلاف الموارد ، فإنّه يتصوّر النسخ في تلك المائة على وجوه : فتارة : نعلم (3) بأنّ بعض الأحكام الواجبة في الشرائع السابقة قد صارت محرّمة ، وتارة : نعلم بأنّ بعضا (4) منها صارت مباحة ، وتارة : نعلم بأنّ بعض الأحكام المباحة في تلك الشرائع (5) صارت واجبة ، وتارة : نعلم بأنّ منها صارت محرّمة ، فلا يجري الاستصحاب على بعض الوجوه كما في الوجهين الأخيرين ؛ لأنّ الإباحة في الشريعة السابقة لا يجدي (6) استصحابها في قبال العلم الإجمالي بانقلابها وجوبا أو تحريما ، ويجري في الوجهين الأوّلين ؛ لأنّ الإباحة لا حكم لها ، إذ (7) لا مقدّمة للمباح.

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي يجب الامتثال بأطرافه مقدّمة ، وفيما كان المباح معلوما إجماليا لا يجب إحرازه ؛ لانتفاء المقدّمة فيه كما بيّنا الوجه في ذلك فيما مرّ ، فكن على بصيرة من الأمر في الموارد وتدبّر (8).

ص: 366


1- في النسخ : لا يجدي.
2- « ج ، م » : بوجود.
3- « ج ، م » : يعلم.
4- « ج ، م » : - بعضا.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الشريعة.
6- « ز ، ك » : لا تجدي.
7- « ج ، م » : أو.
8- « ز ، ك » : - من الأمر في الموارد وتدبّر.

الثاني (1) : أنّ من المعلوم عند الأمّة سيّما نحن معاشر الإمامية أنّ نبيّنا صلى اللّه عليه وآله إنّما بلّغ عن ربّه غاية الإبلاغ وجاء بتمام محاويج العباد على المعتاد من غير إهمال فيه ولا تقصير منه تعالى عن ذلك ، ويدلّ على ذلك بعد مساعدة الاعتبار لكونه أفضل الأنبياء الكبار موافقة (2) الأخبار عن السادة الأطهار عليهم من الصلاة أفضلها ومن السلام أنماها ما دجى الليل وأضاء النهار (3) ومعاضدة كلمات العلماء الأخيار ولم يكلنا في حكم من الأحكام إلى (4) شريعة من الشرائع السابقة حتّى أرش الخدش ، ومن المعلوم أيضا عندنا أنّه (5) في مقام تأسيس الأحكام إنّما شرّع الأحكام الواقعية ولم يكتف بالأحكام الظاهرية في وجه ، فما كانت (6) فيه مصلحة الوجوب فنبّه على وجوبه ، وما كانت (7) فيه مفسدة الحرمة نبّه على حرمته ، فإنّ الحقّ أنّه لا يعقل الاتّكال على الأحكام الظاهرية في مقام التأسيس ، سواء كانت (8) براءة أو استصحابا أو غيرهما ، فكلّ ما أوجبه بخصوصه فهو واجب ، وكلّ ما حرّمه فهو حرام ، وكلّ ما ندب إليه فهو مندوب ، وكلّ ما أعرض عنه فهو مكروه ، وكلّ ما لم يكن فيه أحد الوجوه فهو مباح حقيقة وواقعا من غير شوب الظاهرية فيه.

وإذ (9) قد تقرّر هذا فنقول : إنّه لو وجد حكم من الأحكام الثابتة في الشريعة السابقة فالمستصحب إن أراد استصحابه من غير فحص فلا كلام في فساده ؛ لاشتراط العمل به على تقديره عند الكلّ بالفحص ، وإن أراد استصحابه بعد الفحص في شريعتنا فإن علم حكم الواقعة التي تكون من مجاري الاستصحاب في هذه الشريعة فلا كلام أيضا مخالفا أو موافقا ، وإلاّ فلا بدّ من الأخذ بأصالة البراءة ، فإنّ النبيّ إنّما

ص: 367


1- تقدّم الأوّل منهما في ص 362.
2- « ز ، ك » : بموافقة.
3- « ز ، ك » : - عليهم من الصلاة ... النهار.
4- « ج » : على.
5- « ز ، ك » : - أنّه.
6- في النسخ : كان.
7- في النسخ : كان.
8- في النسخ : كان.
9- « ز ، ك » : إذا.

شرّع البراءة لما لم يعلم حكمه من شريعته والمقام منه ، فنحن نستكشف من الأخبار المذكورة في البراءة والمذكورة في بيان تبليغ النبيّ صلى اللّه عليه وآله تمام الأحكام أنّ الحكم الواقعي النفس الأمري في تلك الواقعة الخاصّة هو الإباحة فلا بدّ من الأخذ بها ، ولهذا تراهم مطبقين على إجراء البراءة في مثل هذه الموارد من غير اشتراط الفحص عن الحكم في سائر الشرائع ، ولو لا أنّ من المعلوم من هذه الشريعة المقدسة عدم الاتّكال بشيء من الشرائع السابقة وعدم جواز الرجوع في شيء من الأحكام وأخذها إليها ، لما صحّ الأخذ بالبراءة في مواردها إلاّ بعد الفحص عن الأحكام الثابتة فيها أيضا كما هو كذلك بالنسبة إلى أحكامنا.

فإن قلت : إنّ الأخذ بالاستصحاب في هذه الأحكام الثابتة في سائر الشرائع إنّما هو أخذ بها من حيث دلالة الأخبار الواردة فيه ، وليس هذا إلاّ الأخذ بشريعتنا في الحقيقة ؛ لانتهاء المدرك في الأخذ إليها.

قلت : نعم ، ولكن نحن (1) نعلم بعدم جواز الرجوع إلى الشرائع السابقة وأخذ الحكم منها ولو على هذا الوجه لا بدعوى اختصاص أخبار الاستصحاب بما إذا كان اليقين السابق حاصلا في هذه الشريعة حتّى يمنع عنها بعموم اليقين الشامل للحاصل في غيرها أيضا ، بل بدعوى العلم بأنّ الأحكام التي نحن نحتاج (2) إليها إنّما هو مستفاد من شريعتنا تأسيسا كما في الأحكام الواقعية ، ومعالجة كما في الأحكام الظاهرية.

وبالجملة : فالمعلوم من الشريعة عدم الاعتداد بشيء من أحكام الشرائع السابقة ، وليس هذا بواس طة مدخلية قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وإبلاغه في الحكم حتّى يقال بكونه طريقا ومرآة فلا يعقل المدخلية ، كما أشرنا إليه آنفا (3) ، بل بواسطة دعوى العلم بإباحة كلّ ما لم يعلم حرمته أو وجوبه في شريعتنا ، وأين (4) هذا من دعوى المدخلية؟ فالحقّ الحقيق

ص: 368


1- « ز ، ك » : - نحن.
2- « ج » : محتاج.
3- أشار في ص 360.
4- « ز ، ك » : وإنّ؟ « ج » : وليس.

بالتصديق عدم جريان الاستصحاب في الأحكام المذكورة ، ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير المحقّق القمي في مقام الردّ على استصحاب النبوّة وقد نبّهنا (1) عليه (2) ، وعلى هذا فلا بعد فيما أفاده وقد نبّه لذلك أيضا المحقّق النراقي (3).

تذنيب

قد ذكروا في المقام ثمرات ليس شيء منها بشيء :

الأولى : أنّه على القول بجريان الاستصحاب فالأصل في كلّ أمر مجرّد عن قرائن التعبّدية أو التوصّلية أن يكون محمولا على التعبّد ، فلا يمكن الامتثال إلاّ بعد الإخلاص ونيّة القربة ؛ لثبوت ذلك في الشرائع السابقة لقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ حُنَفاءَ ] وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) (4) حيث (5) إنّ المستفاد من ظاهر الآية الشريفة أنّ الغرض في أمرهم والداعي إلى طلب ما هو المطلوب منهم منحصر في الإخلاص له تعالى في أعمالهم تحصيلا للقربة عنده وطلبا للزلفى لديه ، فحيثما لم يكن الداعي لهم في أفعالهم المأمور بها تحصيل القربة لم يحصل الامتثال ؛ لبقاء داعي الأمر والغرض منه ؛ فإنّ الظاهر أنّ اللام للغاية على حدّ قوله : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (6) وعلى القول بعدم جريان الاستصحاب فلا وجه لهذا الأصل ؛ لاختصاصه بالآية السابقة ، والأصل عدم ثبوت فعل زائد على القدر المعلوم من التكليف كما هو المرجع فيما شكّ في وجوبه وعدمه على ما مرّ في بعض المباحث الماضية.

وفيه أوّلا : أنّ من المعلوم أنّ جريان الاستصحاب على القول به لا بدّ وأن يكون

ص: 369


1- « ج ، م » : تنبّه.
2- تقدّم في ص 218 - 219.
3- انظر مناهج الأحكام : 189 - 190 و 238.
4- البيّنة : 5. وله بحث عن هذه الآية في مقدّمة الواجب في مطارح الأنظار 1 : 307 وما بعدها.
5- « ج » : ثبت.
6- القصص : 8.

فيما إذا ثبت الحكم لعنوان (1) المكلّف على وجه لا يحتمل فيه الاختصاص ، وإلاّ فكيف يمكن تسرية حكم جماعة لجماعة غيرهم بالاستصحاب؟ وظاهر قوله : ( وَما أُمِرُوا ) اختصاص الحكم بهم فلا يكون الموضوع محرزا ، ولا أقلّ من الشكّ.

وثانيا : أنّ المستفاد من الآية ليس عدم حصول الامتثال بالنسبة إليهم إلاّ بعد الإتيان بالفعل على وجه القربة أيضا ؛ لأنّ استفادة هذا المعنى موقوف على كون « اللام » الداخلة على الفعل للغاية وليس بصحيح ؛ إذ قضيّة ذلك على ما قرّرناه أن يكون المأمور به (2) محذوفا في الكلام وتكون (3) العبادة على الوجه المخصوص غاية في تلك الأوامر ، فيكون المعنى : وما أمروا بشيء إلاّ لأجل العبادة على وجه الإخلاص ، وحينئذ لا يصحّ عطف قوله : ( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) على قوله : ( لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) لأنّهما من الأفعال المأمور بها (4) ، فلا يصحّ أن يكون غاية لها على ما هو قضيّة العطف.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ كلمة « اللام » في المعطوف عليه للغاية وفي المعطوف لمعنى آخر كأن يكون للتقوية مثلا ، إلاّ أنّه كما ترى يوجب استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو كما عليه المحقّقون باطل ، فالّذي يساعده صحيح الاعتبار بل ويعاضده بعض الآثار كما نقلها بعض أهل التفسير أنّ مفاد الآية لا يزيد على نفي الشرك ، كما في قوله : ( وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) (5) فاللام في قوله : ( لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) لام الإرادة والتقوية ممّا تدخل على نفس المأمور به والمراد ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) (6) وقوله : ( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (7) وقوله (8) : « وأمرنا لنعبد

ص: 370


1- « ز ، ك » : بعنوان.
2- « ز ، ك » : المأمور بها.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.
4- « م » : بهما.
5- النساء : 36.
6- الأحزاب : 33.
7- الشورى : 15.
8- « م » : - قوله.

اللّه (1) » ونظائره في التنزيل وفي الكلمات (2) الشعرية والأمثال العربية كثيرة (3) ، فيصحّ العطف أيضا ؛ إذ المعنى حينئذ : وما أمروا إلاّ بالعبادة على وجه الإخلاص ونفي الشرك وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ؛ حيث إنّها أصول الأحكام الأصلية والفرعية فلا ينافي الحصر أيضا ، فالقيد المذكور جزء للمأمور به لا أنّه خارج عنه و (4) داع إلى الأمر به.

وثالثا : أنّه على التنزّل فلا حاجة إلى الاستصحاب في إثبات الحكم المذكور في شريعتنا ؛ لدلالة ذيل الآية على ثبوت الحسن فيه ولو في هذه الشريعة ، فإنّ قوله تعالى : ( ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (5) إمّا مأخوذ من القيام بمعنى الثابت المنصوب الذي لا يزول ، أو من القوام الذي لا عوج فيه ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، وقد عرفت أنّ الكلام في الثمرة إنّما يظهر فيما لو لم يكن الحكم ثابتا في الشريعة ؛ إذ لا كلام في وجوب العمل بما ثبت من شريعتنا.

الثانية : صحّة الجعالة مع جهالة الجعل وجواز الضمان فيما لم يجب ؛ لثبوتهما في الشريعة التي كان عليها يوسف عليه السلام كما يستفاد من قوله : ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (6) فإنّ الجعل هو الحمل وهو مجهول المقدار ، وقد ضمنه المؤذّن مع عدم وجوبه على الملك ؛ لعدم استحقاقه الجعل إلاّ بعد الجعل والعمل ، فعلى القول بالاستصحاب يثبت في شريعتنا دون القول الآخر.

وفيه : أنّه يرد على الأوّل أن تلك ليست من الجعالة الحقيقية ، بل هي تورية فيها لما دعى إليها من الأغراض ، وعلى التنزّل فالجهالة ممنوعة ؛ لمعهودية مقدار حمل البعير

ص: 371


1- « ز ، ك » : - اللّه. « ج » : - لنعبد اللّه.
2- « ج » : كلمات.
3- في هامش « م » : ونظير ذلك أن يقال بالفارسية : بفرما تا آب بياورند.
4- « ج ، م » : - و.
5- البيّنة : 5. وفي النسخ : ( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) وهذه وإن وردت في آية 36 من سورة التوبة ، وآية 40 من سورة يوسف ، وآية 30 من سورة الروم ، إلاّ أنّ الكلام في آية سورة البيّنة.
6- يوسف : 72.

في الأغلب على وجه يكفي في نفي الغرر ، مع أنّ ثبوت ذلك في الشريعة التي كان عليها غير ثابت ؛ إذ النقل في القرآن من حيث حكاية قول (1) المؤذّن لا يوجب صحّة المنقول بعد عدم ثبوت عصمة (2) المؤذّن وإذن يوسف له فيه ، والحمل على الصحّة لا يقتضي (3) إلاّ تصحيح نفس الفعل الشخصي لا تشريع الحكم في شريعتنا ، وعلى الثاني أنّه ليس المعنيّ بقوله : ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) أن قال (4) : الجعالة التي هي ثابتة (5) في ذمّة الملك على تقدير العمل أنا به زعيم فيما لو امتنع المضمون له ، بل معناه : أنّ عهدة المال عليّ وأنا به قائم ، ولا أقلّ من احتماله.

الثالثة : قوله تعالى في حكاية أيّوب عليه السلام (6) : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (7) فإنّ الضغث هو الشماريخ القائمة على الساق الواحد ، فإنّه على القول بالاستصحاب يصحّ الوفاء بمثله فيما لو (8) نذر مثله دون القول الآخر.

وفيه : أنّ من الواضح متابعة وقوع الحنث وعدمه لما هو المتعارف في استعمال آلات الضرب فيما لم يكن المقصود للحالف أو الناذر معهودا معلوما ، ولا يفرّق في ذلك شريعة من الشرائع ، وأمّا حكاية أيّوب عليه السلام فلعلّه بواسطة أعمّية مقصوده للوجهين - الدفعي والتدريجي - أو أنّها قضيّة في واقعة وليست من الأحكام الثابتة التي كان عليها أيّوب ولهذا قد أوحي إليه (9) علمها ، وإلاّ فكيف يعقل عدم علمه بأحكام شريعته التي كان عليها؟ فإنّه عليه السلام لم يكن صاحب شريعة على حدّها. لا يقال : يحتمل أن يكون هذا بدلا عن المنذور ثابتا في شريعته تعبّدا فيصحّ استصحابه في شريعتنا

ص: 372


1- « ج » : فعل.
2- « ز ، ك » : قصّة.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لا يقضي.
4- « ج » : مال.
5- « ج » : هو ثابت.
6- « ج ، م » : على نبيّنا وعليه ( الصلاة و « ج » ) السلام.
7- ص : 44.
8- « ج ، ز » : - لو.
9- « ج ، م » : أوحى اللّه.

ليكون بدلا تعبّديا ، لأنّا نقول : قد عرفت منافاته لعدم علمه عليه السلام بأحكام شريعته.

الرابعة : قوله تعالى مدحا ليحيى على نبيّنا وعليه السلام : إنّه كان ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (1) فإنّه يستفاد منه أرجحية العبادة على التزويج ، فيستصحب على الاستصحاب دون القول الآخر.

وفيه : أنّ المراتب في ذلك مختلفة والوقائع فيه متفاوتة ، فربّما يكون ترك التزويج لأمر العبادة والفراغ فيها وعدم اختلال الحواسّ والمشاعر في المناجات ، وذلك أمر مرغوب فيه مطلوب مستحسن في جميع الشرائع ؛ إذ من المعاين بالوجدان ترك ملاهي (2) النفس والاشتغال بما يستأنس بها من النسوان والتجرّد والانقطاع عن الخلق للوصول إلى الحقّ ممّا لا ينكر الحسن فيه ، فهو بهذا العنوان ممّا لا حاجة في إثباته إلى الاستصحاب ، وربّما يكون ترك التزويج مخلاّ في ذلك فيجب كما يستفاد من ملاحظة أحوال فحول الرجال ، فيكون الكمال في التزويج ، ولبعض الواصلين إلى الدرجة العليا والمرتبة القصوى حالة الاجتماع بينهما على وجه لا يضرّ أحدهما بالآخر فهو في عين الوحدة والتجرّد مشغول وبالعكس كما لا يخفى ، فإن أريد إثبات الأرجحية المطلقة في هذه الشريعة لثبوتها في شريعة يحيى ، فظاهر الفساد ؛ للعلم بخلافه أوّلا في هذه الشريعة ، ولعدم ثبوته على هذا الوجه في غيرها ثانيا ، وإن أريد إثبات الأرجحية ولو في بعض المراتب فنحن لا نضايق من ثبوته على الوجه المذكور في شريعة يحيى إلاّ أنّه لا حاجة في ذلك إلى الاستصحاب ؛ لمعلوميته في هذه الشريعة.

الخامسة : قوله تعالى في قصّة شعيب وموسى : ( أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (3) فإنّه يستفاد منه صحّة الإجارة على تقدير الترديد في زمان الإجارة ، فعلى الاستصحاب يصحّ في شريعتنا

ص: 373


1- آل عمران : 39.
2- « ز » : ملاعب وفي « ك » : ملاعبة.
3- القصص : 27.

دون القول الآخر.

وفساده ممّا لا يكاد يخفى ؛ لوضوح وقوع العقد على الثمانية وكون العشرة من عنده تفضّلا وتطفّلا كما لا يخفى ولا ضير فيه ، وعليك بملاحظة الموارد المذكورة في كلامهم فإنّه قلّ ما يكون فيه شيء خال عن الإشكال ، واللّه وليّ الإفضال والهداية.

ص: 374

هداية [ في تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع ]

لا بدّ في جريان الاستصحاب من بقاء الموضوع الذي هو محلّ حصول المستصحب وتحقّقه ، وقد يظهر من بعضهم (1) عدّه في عداد شروط العمل بالاستصحاب وليس على ما ينبغي ؛ لأنّ الظاهر من شروط العمل ما هو الخارج عن حقيقة المشروط مع توقّف إجمالي عليه اعتبارا ، وبقاء الموضوع ممّا له مدخل في تقوّم حقيقة الاستصحاب ؛ إذ بدونه لا يعقل ، ففي عدّه من الشروط تسامح ، وكيف كان فالمراد به هو الموضوع في القضيّة الحملية التي كانت متيقّنة حال العلم وكان المستصحب محمولا فيها ، كما في قولنا : الثوب طاهر أو نجس ، والصلاة واجبة ، والخمر حرام ، ونحو ذلك ، فإنّ الصلاة والثوب والخمر موضوعات لمحمولاتها التي هي الوجوب والطهارة والنجاسة والحرمة في تلك القضايا ، والمراد من بقائه هو تقرّره على ما كان عليه حين حمل المستصحب عليه.

فإن كان المحمول هو الوجود فالموضوع (2) هو الماهيّة لا بشرط شيء المعرّاة عن الوجودين وإن كانت متّصفة ومتحلّية بالوجود الذهني حال الحمل عليها أو (3)

ص: 375


1- عبّر عنه ب- « بعض المتأخّرين » في « هداية نافعة في جميع ما تقدّم » في آخر بحث الاستصحاب.
2- « ز ، ك » : والموضوع.
3- « ج ، م » : - أو.

بالوجود الخارجي ، إلاّ أنّ ذلك الاتّصاف في (1) ظرف الحمل على ما هو اللازم فيه من تصوّر الأطراف ، ومع ذلك فليس الحمل عليها في هذه الملاحظة ؛ لامتناع قيام الوجودين بالماهيّة ، بل على نفسها من غير ملاحظة شيء آخر (2) معها وإن كان لا ينفكّ عن الوجود الذهني واقعا ، ولهذا لا يفرق في ذلك بين العلم بوجودها أو بعدمها أو الشكّ فيهما ، فإنّ من المعلوم اتّحاد الموضوع في هذه الحالات ؛ ضرورة امتناع حمل العدم ، أو نفي الوجود عن الماهيّة الموجودة ، أو التردّد في ذلك.

وإن كان المحمول أمرا وراء الوجود أو (3) ما هو بمنزلته في اتّصاف الماهيّة به كالعدم من الأمور الوجودية التي تلحق (4) الموضوع باعتبار وجودها ذهنا أو خارجا كالوجوب والطهارة والرطوبة والقيام والقعود ونحوها ، فالموضوع هو الأمر الموجود على اختلاف المحمولات إمّا ذهنا وإمّا (5) خارجا ، وذلك أمر ظاهر في غاية الظهور والوضوح.

فما قد يتوهّم (6) : من عدم اطّراد هذا الشرط في موارد الاستصحاب ؛ لانتقاضه بالاستصحاب في الأمور الخارجية كوجود زيد فإنّ الموضوع لو كان باقيا فلا شكّ في وجوده ، ممّا لا يصغى إليه.

وقد استصعبه (7) بعضهم فاكتفى عن الشرط المذكور بعدم العلم بارتفاع الموضوع ، وأنت خبير بفساده بعد ما بيّنا المراد (8) من البقاء - وإن أبيت عن ذلك - وقلت : إنّ الظاهر من لفظ البقاء هو الوجود ، وعلى تقديره فلا يعقل الشكّ ، فنقول : فعلى ما

ص: 376


1- « ج ، م » : إلاّ أنّه في.
2- « ز ، ك » : - آخر.
3- « ج ، م » : و.
4- « ج ، م » : يلحق.
5- « ز ، ك » : « أو » بدل : « وإمّا ».
6- المتوهّم شريف العلماء ، كما في ضوابط الأصول : 437 - 438 ؛ تقريرات درسه للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : 308.
7- « ج » : استضعفه.
8- « ز ، ك » : - المراد.

زعمت فلا حاجة (1) إلى إحراز الموضوع في الاستصحاب في كلّ مورد ؛ إذ المراد بقولهم : لا بدّ من بقاء الموضوع في الاستصحاب ، هو بقاؤه في الاستصحاب الذي له موضوع ، وأمّا فيما ليس له موضوع فانتفاء الشرط بانتفاء الموضوع ، كما في قولنا : يجب ستر العورة في الصلاة ، فإنّ المقصود منه وجوب الستر على تقدير وجود الساتر ، وذلك ظاهر لمن له أدنى ممارسة في استنباط المطالب من العبائر واستخراج المقاصد من الدفاتر.

ثمّ إنّ الدليل على هذه (2) الدعوى بعد إطباق العقلاء : هو أنّ الحكم إن أريد إثباته في موضوع كان ثابتا له في حال العلم بالحكم فهو المطلوب ، وإن أريد إثباته في موضوع غيره فذلك لا يسمّى استصحابا كما أنّ الحكم بعدم ثبوته له ليس نقضا لليقين بالشكّ على ما هو المنهيّ عنه في أخبار الباب ، وبوجه آخر أنّ المستصحب لا أقلّ من أن يكون عرضا من الأعراض فإن أريد إثباته لا في موضوع فيلزم تقوّم العرض بلا جوهر ومن غير أن يكون حالاّ في منعوت ، وفساد اللازم كالملازمة ظاهر ، وإن أريد إثباته في موضوع فأمّا في موضوعه ابتداء فلا كلام على ما هو المطلوب ، وأمّا في غيره فإن أريد إثبات الحكم الأوّل بحسب شخصه فيلزم انتقال العرض من موضوعه مع أنّ وجوده بتشخّصه وهو بموضوعه ؛ لأنّه من مشخّصاته ، وإن أريد إثبات حكم آخر ولو باختلافهما (3) نوعا فليس من الاستصحاب في شيء لا لغة ولا اصطلاحا ، كما أنّ نفيه عنه ليس نقضا لليقين بالشكّ.

لا يقال : ذلك مسلّم عند العلم بانتفاء الموضوع ، وأمّا عند الشكّ فلا يجري فيه البرهان ؛ للقول ببقاء العرض في الموضوع المحتمل.

لأنّا نقول : ذلك واه جدّا فإنّه إن أريد أنّ العرض على تقدير وجود موضوعه

ص: 377


1- « ج » : لا حاجة.
2- « م » : هذا.
3- « ك » : اختلافها.

موجود فهو واضح إلاّ أنّه لا يجدي ، وإن أريد أنّ بمجرّد احتمال (1) وجوده يحكم بوجود العرض ففساده ظاهر ؛ إذ الحكم بوجود العرض لا ينفكّ عن العلم بوجود الموضوع.

نعم ، في المقام إشكال آخر وهو [ أنّه ] بعد ما عرفت من البرهان فلا جدوى في إحراز الموضوع بالعرف ؛ لعدم قيام الحكم بالموضوع العرفي ، بل محلّ الحكم حقيقة هو الموضوع الواقعي ، وتخيّل العرف قيامه بالأمر المنتزع عندهم لا يثمر في تحقّق الواقع ، فربّما يعتقدون جواز شيء ممتنع أو امتناع شيء جائز ، كما أنّه لو كان الأسد الحقيقي موردا لحكم من الأحكام فاعتقاد أنّ الغنم هو الأسد بحسب العرف لا يجدي في ترتّب الأحكام المتفرّعة على الأسد الحقيقي ، إلاّ أن ينهض على اعتبار تخيّلهم دليل آخر.

وكيف كان فالذي يساعده صحيح النظر هو وجوب بقاء الموضوع في الاستصحاب وإلاّ لم يكن استصحابا.

ومن هنا ينقدح أنّه كما يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع فكذلك يعتبر بقاء المحمول لا بوصف الحمل ؛ ضرورة ارتفاع الشكّ على تقديره ، بل بمعنى عدم اختلاف المحمول ، بل وبقاء كلّ ما يحتمل من اختلافه اختلاف أحد العمودين في القضيّة من شرط أو وصف أو حال ، زمانا أو مكانا وغيرها نظرا إلى لزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة.

فعلى هذا فالأولى في التعبير في بيان الاشتراط أنّه لا بدّ من اتّحاد الموضوع والمحمول ، بل الأولى منه أيضا اتّحاد النسبة ؛ لاختلافها باختلاف أحد الأركان كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب عند العلم بارتفاع الموضوع ، وأمّا عند الشكّ في بقائه وارتفاعه فصور الشكّ ثلاثة : فتارة : يكون الشكّ في الموضوع

ص: 378


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - احتمال.

الخارجي كما إذا تعلّق الحكم بالكلب - مثلا - فشككنا في وجوده وارتفاعه من غير أن يكون الشكّ مسببا عن الشكّ في حكم شرعي أو موضوع لغوي ، وأخرى : يكون الشكّ في موضوع لغوي لعدم العلم بوضع اللفظ الواقع موضوعا في القضيّة للمعنى الشامل للمشكوك بعد عروض حالة كما في الشكّ في شمول الكلب الواقع في المملحة قبل أن يصير ملحا ، ومرّة : يكون الشكّ في الحكم الشرعي لعدم العلم بما تعلّق به الحكم شرعا كما في الشكّ في كون النجاسة من أحكام الكلب من حيث هو كلب ومتقوّم بصورته (1) الكلبية أو من لواحق الهويّة الجسمية مثلا ، وكما في الشكّ في كون النجاسة من الأحكام اللاحقة بعنوان الماء (2) فيما إذا تغيّر أو من المحمولات الثابتة للماء المتغيّر.

لا شكّ في عدم الجدوى في الاستصحاب الجاري (3) في نفس الموضوع فيما إذا كان الشكّ على أحد الوجهين الأخيرين ؛ لعدم ارتفاع الشكّ بالاستصحاب ، فإنّ أصالة بقاء الكلب عند الشكّ في اندراج الملح أو ما يقرب منه لا يجدي في رفع الشكّ ، كما أنّ (4) أصالة بقاء الموضوع لا تجدي (5) في الحكم بنجاسة الملح إلاّ على وجه لا اعتداد به كما في استصحاب بقاء الماء (6) الكرّ ، فالمقصود إثبات كون الشيء المخصوص موضوعا ولا دليل عليه والثابت وهو مطلق الموضوع غير مجد ، وأمّا على الوجه الأوّل فجريان الاستصحاب كوضوح فائدته ظاهر ، إلاّ أنّه قد يظهر من بعض الأجلّة (7) تبعا لغير واحد منهم أنّ عند الشكّ في الموضوع لا بدّ في استصحاب الحكم المتفرّع عليه من استصحاب نفس الموضوع توطئة لاستصحاب الحكم ، فإنّهم زعموا أنّ وجود

ص: 379


1- « ز ، ك » : ومقوّم صورته.
2- « ز » : إلاّ.
3- « ز ، ك » : - الجاري.
4- من قوله : « أصالة بقاء الكلب » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».
5- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : لا يجدي.
6- « ج ، م » : - الماء.
7- انظر الفصول : 381.

الموضوع أعمّ من أن يكون وجودا واقعيا كما فيما لو أحرزنا الموضوع بالوجدان ، أو بالاستصحاب ، وليس على ما ينبغي ؛ إذ - بعد ما عرفت من عدم الجدوى في الاستصحاب الجاري في نفس الموضوع في جميع الأقسام لعدم ارتفاع الشكّ به كما مرّ - نقول : إنّ الشكّ في الحكم تارة : يكون مسبّبا عن الشكّ في بقاء الموضوع وارتفاعه ، فعلى تقدير وجوده فالحكم مقطوع به ، وعلى تقدير عدمه فالحكم قطعي الارتفاع ، وتارة : يكون مسبّبا عن شيء بحيث لو قطعنا بوجود الموضوع أيضا كان الشكّ فيه على ما كان عليه قبل العلم بالموضوع. مثال الأوّل ما إذا شككنا في بقاء التغيّر في الماء وارتفاعه ، فإنّ الشكّ فيه يوجب الشكّ في زوال النجاسة مثلا ، مثال الثاني ما إذا شككنا في وجود زيد وعلى تقدير وجوده نشكّ في طلاق زوجته ، فإنّ الشكّ في الطلاق وعدمه لا يناط بوجوده ، فعلى تقدير الوجود فالشكّ فيه موجود.

وعلى التقديرين فإمّا أن يكون الحكم الشرعي مترتّبا على الموضوع من غير توسّط أمر عاديّ أو عقلي ، أو لا يكون مترتّبا على نفس الموضوع ، بل أمر لازم له (1) عقلا أو عادة ، وعلى التقادير الأربعة لا حاجة في استصحاب الحكم الشرعي إلى استصحاب الموضوع أوّلا ، فعلى تقدير الحاجة فلا جدوى فيه ثانيا.

أمّا الأوّل : فبيانه أمّا إجمالا : فلكفاية الاستصحاب الموضوعي عن استصحاب الحكم على قسميه فيما إذا كان الحكم مترتّبا على نفس الموضوع وكفاية استصحاب نفس الواسطة من غير حاجة إلى استصحاب موضوعه في ترتّب الحكم الشرعي على الموضوع العاديّ أو العقلي اللذين فرضناهما واسطة (2) بقسميه (3). وأمّا تفصيلا ، فلأنّ معنى استصحاب الموضوع على ما عرفت سابقا ليس إلاّ جعل أحكامه المتعلّقة به شرعا ؛ إذ ليس قابلا للإبقاء بواسطة عدم قبوله الجعل فاستصحاب الموضوع يغني

ص: 380


1- « ز ، ك » : - له.
2- « ك » : بواسطة وظاهر نسخة « ز » : بواسطته.
3- « ك » : تقسيمه.

عن استصحاب الحكم.

لا يقال : كما أنّه يمكن توارد الأدلّة الاجتهادية في مورد الاستصحاب فكذلك يمكن تعدّد الاستصحاب بجريانه (1) تارة : في موضوعه ، وأخرى : في نفسه.

لأنّا نقول : إنّ جريان الاستصحاب في موارد الأدلّة الاجتهادية بعد فرض انتفائها وفرض انتفاء الموضوع ينافي الاستصحاب ، فعلى الأوّل فرض الانتفاء محقّق للاستصحاب ، وعلى الثاني مناف له ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

وما ذكرنا ظاهر فيما إذا كان الشكّ في الحكم الشرعي مسبّبا عن الشكّ في الموضوع وجودا وعدما ، وأمّا إذا كان الشكّ في الحكم باعتبار أمر آخر كما في مثال الطلاق فنقول : إنّ استصحاب وجود زيد أيضا يكفي في استصحاب الحكم الشرعي المترتّب على الطلاق ؛ لأنّ الموضوع إنّما يلحقه أحكام عديدة ويكفي في لحوقها له فرض وجوده وإن توقّف فعليته على تحقّق المفروض ، والمقدّر أنّ الاستصحاب (2) الجاري في نفس الموضوع معناه ترتيب (3) أحكامه الشرعية ، فبعد استصحاب الموضوع وتحقّقه تعبّدا يحكم بترتّب جميع أحكامه من غير حاجة إلى استصحاب آخر.

وتوضيحه وتحقيقه : هو أنّه لا شكّ أنّ القضايا الشرعية ليست قضايا خارجية ، بل إنّما هي قضايا حقيقية يكفي في صدقها فرض تحقّق موضوعها ، كما يلاحظ ذلك في نجاسة الكلب مثلا ، وطهارة الماء ، فإنّ إثبات هذه المحمولات لموضوعاتها لا يتوقّف على وجودها في الخارج ، فزيد الموجود في الخارج من أحكامه ولواحقه حرمة زوجته (4) على غيره ووجوب نفقتها عليه عند العلم بعدم الطلاق ، كما أنّ من أحكامه حرمة زوجته على الغير (5) عند الشكّ في الطلاق ، فيكفي في لحوق هذا الحكم له وتعلّقه

ص: 381


1- « ز » : لجريانه.
2- « ز » : استصحاب.
3- « ز ، ك » : ترتّب.
4- « م » : « زوجيته » وكذا في الموردين الآتيين.
5- « ز ، ك » : غيره.

به فرض وجوده ؛ إذ لا فرق بين الحكم الثابت للموضوع بين أن يكون الحكم مدلولا لدليل اجتهادي أو مفادا لأصل عملى إلاّ في الظاهرية والواقعية التي لا مدخل لها في المقام.

وبالجملة : فالذي يظهر من ملاحظة القضايا الشرعية أنّ الأحكام تلحق (1) الموضوعات على تقدير الوجود ، فزيد الموجود حكمه حرمة زوجته عند العلم بعدم الطلاق وعند الشكّ فيه ، وأمّا الشكّ في وجود زيد فلا مدخل لهذا الحكم فيه أبدا ، كما لو شككنا في ارتفاع نجاسة الكلب فإنّ استصحاب نجاسة الكلب لا يناط بوجود الكلب وإن كانت النجاسة متعلّقة بالكلب الموجود ، نعم يتوقّف فعلية هذا الحكم في الخارج على وجود الكلب ، فلو كان الشكّ في وجود الكلب يكفي استصحابه في ترتّب هذه الأحكام المترتّبة (2) عليه ، فعند التحقيق يرتفع الشكّ الحاصل في الحكم من غير جهة الموضوع (3) بفرض وجوده ، وتعلّق أحكامه به على هذا الفرض ، ويبقى الشكّ فيه من جهة بقاء الموضوع خاصّة ، وقد عرفت كفاية استصحاب الموضوع في رفع هذا الشكّ أيضا. هذا إذا كان الشكّ في الحكم الشرعي الذي يترتّب (4) على نفس الموضوع من غير توسّط (5) أمر عادي ، أو عقلي.

وأمّا الكلام فيما إذا كان الحكم الشرعي مترتّبا على الموضوع بالواسطة ، فالحقّ أيضا (6) عدم الحاجة إلى استصحاب الموضوع ؛ لكفاية استصحاب نفس الواسطة ، حيث إنّها من الموضوعات أيضا ، مثلا لو شككنا في حرمة شيء مهلك بواسطة كونه ذا كيفية مائلة عن حدّ الاعتدال في إحدى الكيفيات الأربعة التي تحصل منها الأمزجة على ما يعبّر عنها بالسمّية مثلا ، فإنّه لا حاجة في إثبات الحرمة إلى استصحاب

ص: 382


1- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يلحق.
2- « ز ، ك » : المتفرّعة.
3- « ز ، ك » : الموضوع ويبقى.
4- « ز » : ترتّب.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : توسيط.
6- « ز ، ك » : - أيضا.

السمّية التي يترتّب عليها الإهلاك ، ثمّ استصحاب الإهلاك ، ثمّ استصحاب الحرمة بإعمال استصحابات ثلاث ، بل يكفي في ذلك استصحاب المهلك ومعناه حرمة أكله على ما عرفته (1).

أمّا أوّلا : فلأنّ المهلك أيضا موضوع من الموضوعات ، واستصحابه غير محتاج إلى إحراز الموضوع فإنّه على ما هو موضوع لا موضوع له ، كما في الماهيّة المعرّاة عن الوجود والعدم فيما كانت موضوعا في استصحاب الوجود ، نعم لو فرض له حكم آخر فيحتاج إلى اعتبار موضوع آخر إلاّ أنّه لا مدخل له في المقام ، والسرّ في ذلك أنّ المهلكية كالسمّية من الأعراض الحالّة في محلّ واحد ؛ لامتناع قيام المعنى بالمعنى ، غاية الأمر أنّ السمّية واسطة في ثبوت الإهلاك في المحلّ فكما يمكن ملاحظة ذلك المحلّ منعوتا (2) بالسمّية ومتّصفة بها واستصحابها ، فكذا يمكن ملاحظته متّصفة بالمهلكية ، وعلى هذا التقدير لا حاجة في استصحاب المهلك إلى استصحاب السمّ كما أنّه لا حاجة في استصحاب الحرمة إلى استصحاب المهلك ، بل يكفي فيه نفس استصحاب المهلك فإنّ معناه ترتيب (3) أحكامه.

وأمّا ثانيا : أنّه على تقدير استصحاب السمّية فإن أريد إثبات الحرمة باستصحابها فغير سديد ؛ لكونه من الأصول المثبتة ، وإن أريد إثبات المهلكية وترتّبها على السمّية ، ثمّ استصحاب الحرمة فغير مفيد ؛ لعدم ترتّب الإهلاك على السمّية المستصحبة ، لأنّه من الآثار العاديّة أو العقلية ولا يترتّب على المستصحب ، وعلى القول باعتبار الأصل المثبت فيكفي في إثبات الحرمة استصحاب السمّية ، ولا حاجة إلى إحراز الإهلاك بالاستصحاب ؛ لترتّب الحرمة على السمّية حينئذ (4).

ص: 383


1- « ج ، م » : عرفت.
2- « ز ، ك » : متقوّما.
3- « ز ، ك » : ترتّب.
4- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : - حينئذ.

وأمّا الثاني : فلأنّه (1) بعد تسليم الحاجة إلى استصحاب الموضوع نقول : لا شكّ في أنّ الوجه في احتياج استصحاب الحكم إلى إحراز الموضوع على ما مرّ إنّما هو امتناع قيام العرض بلا جوهر أو انتقاله إلى محلّ آخر ، فمن جملة الأحكام العقلية المترتّبة على بقاء الموضوع جواز استصحاب عرضه الحالّ فيه وحكمه القائم به ، ولا شكّ أيضا أنّ إثبات الموضوع بالاستصحاب لا يجعل الموضوع موجودا واقعيا فلا يترتّب عليه ما هو من لوازمه عقلا ، فجواز استصحاب الحكم لا يترتّب على استصحاب الموضوع كائنا ما كان.

لا يقال : ما ذكرت جار بعينه في استصحاب الموضوع ؛ لأنّ ما هو المحلّ للعرض إنّما هو الموضوع المعلوم بحسب الواقع ، والمفروض أنّه (2) حال الشكّ وعدم العلم به لا يعلم وجوده فكيف يمكن الحكم بترتّب الأحكام العرضية على ما لا نعلم وجوده؟ وبالجملة فترتّب الأحكام وكون الموضوع محلاّ للعرض القائم به ليس من الأحكام الشرعية ، بل ذلك من لوازم الموضوع الواقعي عقلا ، فباستصحابه (3) لا يمكن الحكم بترتّب (4) آثاره عليه.

لأنّا نقول : فرق ظاهر بين المقامين ، فإنّ الأحكام الشرعية أمور جعلية متعلّقة بأفعال المكلّفين بحسب اختلافاتها ، فربّما يصير الفعل المتعلّق بموضوع خارجي واقعي موردا لواحد منها كحرمة شرب الخمر ووطي الأجنبية ، وقد يصير الفعل المتعلّق بمشكوك الموضوع أيضا موردا لذلك الحكم ، كما فيما إذا شككنا في حلّية الخمر لاحتمال انقلابه خلاّ ، وكما إذا احتملنا وقوع العقد المحلّل على الأجنبية من الوكيل مثلا ، فالموضوع الواقعي يتعلّق به حكم ويتعلّق بالمشكوك أيضا ذلك الحكم ، ولا ضير فيه ؛ لحلول العرض إذا في المشكوك ، غاية الأمر أنّ الحكم المتعلّق بالموضوع الواقعي

ص: 384


1- « ج ، م » : فلأنّ.
2- « ز ، ك » : - أنّه.
3- « ز ، ك » : واستصحابه.
4- « م » : الحكم ترتيب.

واقعي والمتعلّق بالموضوع المشكوك ظاهري ، بخلاف جواز استصحاب حكم المتعلّق بالموضوع فإنّه من الأحكام العقلية التي لا تشوبها (1) الشرعية في وجه ، كذا أفاد سلّمه اللّه تعالى.

إلاّ أنّ ذلك لعلّه ينافي ما تقدّم من البرهان على لزوم بقاء الموضوع ؛ ضرورة اقتضائه الحكم بثبوت شخص العرض الموجود في المحلّ ولا يتأتّى (2) ذلك فيما كان المستصحب نفس الموضوع كما عرفت ، فإنّ الحكم الثابت للموضوع الواقعي ولو بحسب شخصه يغاير الحكم المتعلّق بالموضوع المشكوك بواسطة قوله : « لا تنقض » بل وفيما كان المستصحب هو الحكم الشرعي المتعلّق به ؛ ضرورة أنّ الحكم الثابت في زمان الشكّ بواسطة أدلّة الاستصحاب يغاير الحكم الواقعي شخصا ، فتأمّل.

وكيف كان ، فلا وجه للقول بإحراز الموضوع بالاستصحاب ، بل ولا بشيء آخر ممّا هو في عرض الاستصحاب من الأصول العملية لو فرض ، وذلك بخلاف البيّنة وما يماثلها من الطرق الواقعية ؛ إذ بها يثبت نفس الموضوع كما إذا كان معلوما فيحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب ؛ إذ لا دخل للبيّنة بعد إقامتها على ثبوت موضوع في الحكم المتعلّق به ، هذا إذا كان الاستصحاب جاريا في الموضوع كما في القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة المذكورة وهو ما كان الشكّ في الموضوع مسبّبا عن الشكّ في الأمور الخارجية.

وأمّا في القسمين الأخيرين فقد عرفت عدم جريان الاستصحاب أصلا إلاّ إذا كان الشكّ في اندراج فرد تحت كلّي ، كما إذا شكّ في اندراج من يشكّ في صلاته (3) أربع مرّات في كلّي كثير الشكّ بعد ما كان شكّه عشر مرات مثلا ، فإنّ جريان الاستصحاب فيه وعدمه موكول إلى ما سبق في بيان استصحاب القدر المشترك ، وأمّا فيما عدا ذلك

ص: 385


1- المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : لا يشوبها.
2- « ز ، ك » : ينافي.
3- « ج » : صباح صلاته.

فالاستصحاب في خصوص الموضوع لا مجرى له ؛ لعدم العلم به في السابق ، واستصحاب القدر المشترك والأمر المردّد بين الأمرين ممّا لا يجدي في ترتيب (1) أحكام أحد طرفي الترديد.

وتوضيحه : أنّه إذا كان الشكّ فيه (2) من جهة الاشتباه في الموضوع المستنبط أو الاشتباه في الأدلّة الشرعية ، فالمستصحب إن أراد استصحاب الموضوع الخاصّ في محلّ الشكّ فلا علم به في السابق ، وإن أراد استصحاب مطلق الموضوع فاعتباره موقوف على اعتبار الأصول المثبتة التي لا تعويل عليها عندنا ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثمّ إنّه إن ميّز المورد فلا كلام ، وإلاّ فلا بدّ من إزالة الشكّ في الأقسام المذكورة ، ففيما إذا كان الشكّ فيه باعتبار الخارج فلا بدّ من ملاحظة الواقع بفتح عين (3) البصر أو البصيرة أو نحو ذلك ، ففي صورتي البقاء والارتفاع واقعا لا إشكال لجريان (4) الاستصحاب على الأوّل ، وعدمه في الثاني ، وعلى تقدير الاشتباه أيضا فالوجه استصحاب نفس الموضوع على ما عرفت ، وسيجيء (5) - إن شاء اللّه - عدم الحاجة إلى (6) الفحص في استصحاب الموضوعات ، وفيما إذا كان الشكّ في اللغة لا بدّ من الرجوع إلى ما يزيل الشكّ كالعرف واللغة على حسب تميّز ما قد يشتبه من الألفاظ ، فإن تعيّن الموضوع فهو ، وإلاّ فليس من مجاري الاستصحاب ، وفيما إذا كان الشكّ في الموضوع من جهة الاشتباه في الدليل الشرعي فيمكن تمييز (7) الموضوع بوجوه - والمراد بالموضوع في المقام هو ما صحّ حمل المستصحب عليه بوجه من الوجوه نظير

ص: 386


1- « ز ، ك » : ترتّب.
2- « ز ، ك » : - فيه.
3- « ز ، ك » : العين.
4- « ج ، م » : بجريان.
5- سيجيء في ص 513 - 514.
6- « ز ، ك » : في.
7- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : تميّز.

الموضوع في المنطوق والمفهوم (1) لا خصوص المسند إليه والمبتدأ والموضوع في القضيّة الحملية ، فيتعدّد (2) الموضوع في قضيّة واحدة مثلا يجب عليك الصلاة وقت الزوال ، فالوجوب هو المستصحب ، والباقي هو الموضوع على اختلاف الموارد - :

الأوّل : أن يكون المعيار في التميّز هو التدقيق فيقال : باعتبار كلّ ما يحتمل مدخليته في الموضوع من وصف أو حال أو زمان أو مكان أو شرط أو إضافة ونحوها ، فلو أحرزنا جميع ما يحتمل اعتباره في الموضوع يمكن إجراء الاستصحاب وإلاّ فلا (3) ، سواء كان الموضوع محرزا في الأنظار العرفية أو في الأدلّة الشرعية ولو بنحو من العناية فيها ، أو لم يكن ، من غير فرق بين أن يكون الشيء ممّا يحتمل مدخليته في أصل ثبوت الحكم أو في استدامته.

فعلى هذا المعيار تنقسم (4) موارد الاستصحاب على أقسام : فتارة : لا مجرى له مطلقا كما إذا شكّ في اعتبار وصف لا يرجع إلى الزمان في الموضوع ، وأخرى : يجري الاستصحاب قطعا كما (5) إذا كان الشكّ في الرافع (6) ، سواء كان في وجوده أو في رافعيته لما قد تقرّر في الهداية الأخبارية (7) من أنّ الشكّ في الرافع إنّما هو بعد إحراز الموضوع على ما مرّ تفصيل الكلام فيه ، ومرّة : يفصّل بين ما كان المعتبر في الموضوع ولو احتمالا زمانا على وجه الظرفية كما في استصحاب الخيار على بعض الوجوه ، وبين ما كان على وجه القيدية (8) كما في استصحاب الأحكام الطلبية كالوجوب فإنّه ممّا يمكن أن يكون الزمان قيدا له على ما مرّ (9).

الثاني : أن يكون المعيار في التميّز هو الرجوع إلى ما هو الموضوع عند العرف ، فكلّ

ص: 387


1- « ج ، م » : المفهوم والمنطوق.
2- « ج ، ز » : فتعدّد.
3- « ز ، ك » : فلا يمكن.
4- « ز ، ك » : ينقسم.
5- فوقها في « م » : نسخة : ممّا.
6- « م » : الواقع.
7- تقدّم في ص 193.
8- « ز ، ك » : التقيدية.
9- انظر ص 123.

ما يعتبر في موضوع الحكم عرفا لا بدّ من إحرازه ، ثمّ يجري الاستصحاب على منواله ، سواء كان موافقا لما اعتبره العقل موضوعا على الوجه الذي مرّت (1) الإشارة إليه أم مخالفا ، من غير فرق بين موافقته لعنوان (2) الدليل ومخالفته له ، فلو كان المعتبر في الدليل هو الماء المتغيّر مع عدم اعتبار التغيّر (3) في الموضوع العرفي فالمتّجه هو العرف في ذلك ، فلا يفرق فيه الأدلّة اللفظية وغيرها كالإجماع ونحوه ، وقضيّة اعتبار هذا المعيار جريان الاستصحاب في الموارد المتقدّمة في أغلبها ؛ ضرورة اتّساع دائرة الاستصحاب على هذا التقدير جدّا ، ومنه استصحاب نجاسة الكلب بعد صيرورته جمادا بالموت ولو لم يعلم نجاسة الميتة ، كاستصحاب بقاء العلقة الزوجية بعد موت أحد الزوجين ، إلى غير ذلك.

الثالث : أن يكون المرجع عند الشكّ في الموضوع إلى ظواهر الخطابات الشرعية ولا ينافي ذلك ما تقدّم من كون المقسم (4) هو ما كان الشكّ في الموضوع من جهة الشكّ في الأدلّة الشرعية ، فإنّ المراد هو أنّه قد يحتمل أن يكون المأخوذ في العنوان الشرعي على وجه يحتمل أن يكون قيدا في الموضوع ، وأن يكون مجرّد العنوانية والمرآتية من غير مدخلية له فيه ؛ لاحتمال أن يكون هو القدر المتيقّن ، فيؤخذ بما هو الظاهر فيها من اعتبار العنوان قيدا أو عنوانا فقط من غير ملاحظة العرف في انتزاعهم الموضوع والدقّة مخالفا أو موافقا ، واللازم على هذا التقدير عدم إحراز الموضوع في الأدلّة اللبّية ، فإن أقيم دليل على العرف فهو المرجع فيها ، وإلاّ فالمناط هو الدقّة ، وبدونها لا استصحاب ، فلو كان الدليل مشتملا على عنوان كما إذا ورد الماء المتغيّر نجس ونحوه ممّا ظاهره اعتبار الوصف (5) العنواني فعند ارتفاعه لا استصحاب ، بخلاف ما إذا كان

ص: 388


1- « ج ، م » : مرّ.
2- « ز ، ك » : بعنوان.
3- « ج » : التغيير.
4- « م ، ك » : القسم.
5- « ز ، ك » : مما هو ظاهر في اعتبار الوصف.

الوصف المأخوذ في الدليل ظرفا للمحمول كما إذا ورد الماء نجس إذا تغيّر.

لا يقال : بعد ما كان ظاهر الدليل هو القيدية (1) فالمتّجه هو الأخذ به وطرح ما ينتزعه (2) العرف من الموضوع ؛ ضرورة اعتبار الظواهر على وجه الإطلاق ، ومعه لا يتمشّى المعيار الأوّل أيضا ، فالوجه هو القول باختصاص المعيار إلى (3) هذا.

لأنّا نقول : إنّ ظهور الدليل ليس على وجه ينافي حكم العرف بأعمّية الموضوع ، فيبنون في انتزاع الموضوع على تصرّف في الدليل بدعوى فهم المرآتية دون العنوانية ، أو بدعوى أنّه القدر المتيقّن - مثلا - على وجه من وجوه التمحّل (4) والاعتساف ، فلا ضير في المعيارين الأوّلين أيضا ، كذا أفيد ، وللنظر فيه مجال واسع.

وكيف كان ، فالعمدة في المقام هو الترجيح بين هذه الوجوه المذكورة في التميّز ، قال الأستاد دام مجده العالي (5) وأوضح الوجوه المذكورة أوسطها ، فلا عبرة بالتدقيق العقلي ولا بالدليل الشرعي ، فيجري الاستصحاب في جملة من الموارد التي بنينا الأمر فيها على ملاحظة الموضوع.

إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ الميزان العرفي كغيره من الأمور الراجعة إليهم ممّا لا ضبط فيه (6) فربّما يزعمون تبدّل الموضوع كما في انقلاب العلقة حيوانا ولا يحكمون بذلك فيما يساويه في الانقلاب ، بل ولا يبعد أن يكون أوضح تبدّلا ، كما في استحالة الكلب ملحا أو العصير خلاّ ، وكما في استصحاب وجوب تقليد المجتهد بعد موته ، واستصحاب بقاء العلقة بين الزوجين فلا يبالون بالنظر واللمس (7) مع انقلاب الموضوع وتبدّله على وجه القطع والجزم ، فيعتقدون أنّ القضايا التي وردت في بيان أحكام هذه الموضوعات إنّما

ص: 389


1- « ز ، ك » : التقيدية.
2- « ج ، م » : ينزعه.
3- « ز ، ك » : - إلى.
4- « ز ، ك » : المحلّ.
5- « ز ، ك » : دام علاه.
6- « ز ، ك » : فيهم.
7- « ز ، ك » : الحسّ.

هي مشروطة عامّة يبتني الحكم فيها على كون الموضوع متّصفا بالوصف العنواني من غير أخذه فيه ، ومنه استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره حيث تراهم يشيرون (1) إلى الماء فيقولون : إنّ هذا الماء كان نجسا وشكّ في بقائها والأصل بقاؤها مع أنّ من الظاهر أنّ هذا الماء لم يكن نجسا بل بوصف التغيّر (2) ، فما كان معلوم النجاسة قد ارتفع والموجود غير معلوم النجاسة ، ومثله استصحاب نجاسة العذرة إذا استحالت ترابا ، والخشب المتنجّس إذا صار رمادا أو فحما مثلا.

وذلك ممّا يعرف من ديدنهم في الأمور (3) المتعلّقة بهم عادة وغيرها أيضا ، وسواء في ذلك على ما عرفت وجود دليل لفظي أو لبّي على أصل الحكم ، لكن بعد تصرّف منهم في عنوان الدليل فيتخيّلون أنّ الموضوع في الكلب ليس خصوص الصورة (4) النوعية التي بها يتميّز عن غيره من أنواع الحيوان ، ولا مطلق الجسم ، فلو انقلب حجرا لا يحكمون بذلك ، كما لو انقلب الخمر - مثلا - هرّة لا يعلمون بالاستصحاب ، بل يأخذون ما هو أعمّ من الصورة النوعية وما هو أخصّ من مطلق الجسم نظير تصرّفهم في الدليل الدالّ على نجاسة ملاقي النجس ، فإنّ الدقّة العقلية لا يقضي (5) بالفرق بين ورود النجاسة على الماء أو ورودها عليه في صدق الملاقاة ، إلاّ أنّهم يفرّقون في ذلك زعما منهم أنّ النجاسة كباقي الأوصاف الحالّة في الجسم المتعدّية إلى غيره بالملاقاة ، كالحموضة ونحوها فإنّ ورودها يؤثّر في حموضة المورود (6) دون أن يكون الماء واردا على الحموضة.

ومن هنا يعلم وجه اختلاف كلمات العلماء في موارد الاستحالة ، فهذا هو المحقّق قد يحكم (7) باستصحاب نجاسة الخنزير الواقع في المملحة حيث حكم في المعتبر (8) بعدم

ص: 390


1- « ج ، م » : فيشيرون.
2- « ج » : التغيير.
3- « ج ، م » : أمور.
4- « ج ، م » : الصورية.
5- « ج ، ك » : لا يقتضي.
6- « ز ، ك » : المورد.
7- « ز ، ك » : المحقّق في الحكم.
8- المعتبر 1 : 451.

طهارته بالاستحالة وأسند الخلاف إلى أبي حنيفة معرضا عنه محتجّا على ما (1) صار إليه بأنّ النجاسة قائمة بالأعيان ولا تزول بتغيّر (2) الأوصاف والأحوال وقد يتردّد (3) في نجاسة الخشب المتنجّس إذا استحال رمادا أو دخانا. وكذا العلاّمة في القواعد (4) إنّما (5) اقتفى أثر المحقّق في الإسناد المذكور والاحتجاج أيضا ، إلاّ أنّه أسند القول بعدم الطهارة إلى أكثر أهل العلم ، وصريح كلام غيرهما أنّ الاستحالة من المطهّرات.

وبالجملة : فاضطراب كلماتهم (6) على ما يظهر من مطاويها ممّا لا ينكر ، فلعلّه يجمعها ما قلنا من اختلاف الأمور العرفية في الأغلب ولا كلام فيه ، وإنّما المهمّ إثبات الكبرى من وجوب الأخذ بهذا المعيار ، فإنّ الصغرى ظاهرة لا تخفى (7) على أحد ، وما يشعر بذلك قولهم بأنّ الاستحالة من المطهّرات ، فإنّ معنى كون الشيء مطهّر الشيء هو بقاء ذلك الشيء وإزالة نجاسته بذلك المطهّر كما يظهر من كون الماء مطهّرا ، وتوضحه ملاحظة ما احتجّ به العلاّمة في النهاية (8) من أولوية الحكم بالطهارة بعد الاستحالة في المتنجّس ، وتبعه في ذلك صاحب المعالم (9) فحكم بأنّ الخشب المتنجّس إذا طهّر بالماء فبالإحراق أولى ، ويزيد توضيحا أنّهم ممّن عدا كاشف اللثام (10) وجماعة ممّن حذوا حذوه (11) لم يفرّقوا بين النجس والمتنجّس في الحكم بالطهارة في الاستحالة ، ولو لا

ص: 391


1- « ز ، ك » : لما.
2- « ج ، م » : بتغيير.
3- تردّد في الشرائع 4 : 754 ط الشيرازي.
4- قواعد الأحكام 1 : 195 ، وليس فيه إسناد القول بعدم الطهارة إلى أكثر أهل العلم ، بل قاله في المنتهى 3 : 287 وفي ط الحجرية 1 : 179.
5- « ز ، ك » : - إنّما.
6- « ك » : كلامهم.
7- في النسخ : لا يخفى.
8- نهاية الإحكام 1 : 291 ، في المطلب الرابع في أنواع المطهّرات.
9- معالم الدين ( قسم الفقه ) 2 : 776 في مسألة مطهرية النار لما يستحيل بها رمادا.
10- كشف اللثام 1 : 462 وفي ط الحجرية 1 : 57.
11- « ز ، ك » : حذى حذوه ، « ج » : حذوه أحذوه.

أنّ الموضوع عندهم هو الأمر العرفي الباقي في التحويلات مع شدّتها لم يصحّ ذلك منهم في وجه ؛ لعدم الأولوية بعد اختلاف الموضوع ، ولكان التفصيل بين النجس والمتنجّس في محلّ من القبول كما صنعه الفاضل ، إلاّ أنّ عدم تفرقة الأصحاب بينهما يكفي في الردّ على الفاضل في التفصيل.

مضافا إلى استفادة عدم الفرق بينهما من بعض الأخبار ، ففي الخبر عن الجصّ : يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ويجصّص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب عليه السلام بخطّه الشريف : « أنّ النار والماء قد طهّراه » (1) حيث إنّ الراوي لم يفصّل بين العذرة التي هي من النجاسات وعظام الموتى التي هي من المتنجّسات ، ولم يفصّل الإمام عليه السلام بينهما أيضا فحكم بما حكم وإن كان نفس الحكم ممّا لم يعمل به الأصحاب ؛ إذ لا ضير في ذلك ، لجواز الاستناد إلى الرواية في الجهة التي لم يظهر منهم خلافها.

وبالجملة : فالصغرى ممّا لا كلام فيها ، وأمّا الكبرى فيدلّ عليها (2) أمران :

الأوّل - وهو العمدة - : صدق اتّحاد القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة في نظر العرف المأمورين بعدم نقض اليقين إلاّ باليقين المخاطبين بقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ أبدا » فإنّ صدق النقض المنهيّ عنه في تلك الأخبار على تقدير عدم العمل بالاستصحاب في الموارد التي تعدّ (3) عندهم من بقاء الموضوع ظاهر (4) ؛ ضرورة تنزيل الخطابات الشرعية على الأفهام العرفية لا على التدقيقات الفلسفية (5) على ما هو ظاهر ، إذ لا شكّ في أنّ المخاطب بهذه الروايات أهل العرف من العوامّ وغيرهم ، فإذا لا يخلو إمّا أن يكون ما يفهمونه من صدق النقض في أمثال المقامات التي لا مسرح

ص: 392


1- وسائل الشيعة 3 : 527 ، باب 81 من أبواب النجاسات ، ح 1 ، و 5 : 358 ، باب 10 من أبواب ما يسجد عليه ، ح 1 ؛ بحار الأنوار 77 : 152.
2- « م » : عليه.
3- « ز ، ك » : يعدّ.
4- « ز ، ك » : ظاهر ، بل.
5- « ج » : الفلسفة.

للنقض العقلي فيها مرادا للحكيم المخاطب لهم (1) أو لا ، لا سبيل إلى الثاني فإنّه على ما يساعد عليه صحيح الاعتبار وصريح بعض الأخبار أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد خلاف ما يفهمونه ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

الثاني : أنّه لو لم يكن مرجع الموضوع في الاستصحاب هو العرف على وجوه اختلاف موارده لزم أن يكون أمر الاستصحاب موكولا إلى مسألة عقلية تصدّى لها (2) بعض أهل المعقول من تجدّد الأمثال في (3) الأعراض والأكوان وثبوت الحركة الجوهرية على ما بنى عليها (4) بعض أفاضل محقّقيهم (5) ؛ ضرورة امتناع البقاء على أحد التقادير مع لزوم العلم بإمكان البقاء في الزمان الثاني في موارد الاستصحاب ، وبطلان اللازم ممّا لا يكاد يخفى (6) ؛ لعدم مصرّح بذلك منهم ولا مشعر به ، بل ويمكن القول بأنّ القائلين بهذه الأقوال لا مناص لهم من العمل بالاستصحاب ، وذلك أمر ظاهر ويكفيك ملاحظة موارد كلمات العلماء (7) في خصوص بعض الموارد ، فلعلّه يمكن دعوى الاتّفاق على الأخذ بالاستصحاب فيها كالكرّية واستصحاب الليل والنهار وجري الأنهار ، فإنّها من المتّفق عليها بين الأصولية والأخبارية ، ولو لا البناء على بقاء الموضوع العرفي لما صحّ تلك الاستصحابات (8) على ما عرفت الوجه فيها مرارا (9).

وممّا يكشف حجاب الريب عن ذلك تتبّع كلمات (10) أصحابنا الفقهاء في الفروع الفقيهة فإنّهم قد أفتوا فيما إذا كانت العين المرهونة عصيرا فانقلب خمرا بوجوب الردّ مع الفكّ ؛ لعدم ما يتقوّم به الرهان من الأموال في نظر الشارع ، فلو انقلب بعد ذلك

ص: 393


1- « ز ، ك » : - لهم.
2- « ز » : بها.
3- « ز ، ك » : « و ».
4- « ز ، ك » : عليه.
5- هو الملاّ صدرا الشيرازي. انظر ص 352.
6- « م » : يحصى.
7- « ز ، ك » : كلماتهم.
8- « ز ، ك » : ذلك في الاستصحابات ، « ج » : ذلك الاستصحاب.
9- انظر ص 345 - 346.
10- « ز ، ك » : - كلمات.

خلاّ قالوا بعود المالية والملكية والرهنية استصحابا لها مع وضوح أنّ بعد الانقلاب قد ارتفع الملكية والرهنية التابعة لها قطعا ، وهذه الملكية جديدة لم تكن محلاّ للرهنية ، ولو لا أنّ المرجع في الاستصحاب هو حكم العرف ببقاء الموضوع لما صحّ ذلك في وجه ، إلاّ أنّهم يزعمون بقاء الاختصاص الإجمالي في المنقلب خمرا ولهذا يحكمون بوجوب الردّ إلى الراهن ؛ لإمكان العلاج ، فالموضوع عندهم ليس خصوص الصورة النوعية المتقوّمة بالعصير ، بل الأمر المردّد بينه وبين مطلق الجسم وهو باق في الحالتين ، ومنه حكمهم بوجوب ردّ الخمر المنقلب من العصير على الغاصب فيما إذا غصبه عصيرا فانقلب خمرا ، ومع ذلك فعليه الضمان للقيمة ؛ لأنّه بمنزلة التلف كما في عوض الحيلولة ، ومنه حكمهم ببقاء الإطلاق في الماء إذا أريق فيه شيء (1) من الجلاب وغيره من المضاف أو استصحاب الإضافة في العكس ، فإنّ عدم بقاء الموضوع في هذه الموارد دقّة ممّا لا يدانيه شوب الإنكار مع ظهور إطباقهم على اشتراط بقاء الموضوع ، فلا مسرح لنا إلاّ القول بأنّ بقاء الموضوع في العرف على وجه يعدّ عرفا باقيا كاف في الاستصحاب.

وأمثال هذه الأمور في كلماتهم ممّا لا مجال لإنكارها ، ولكن لا بدّ من التفرقة بين المقامات فتراهم (2) لا يعلمون بالاستصحاب في بعض الموارد ويأخذون به في نظيره على ما نبّهنا عليه ، ويمكن أن يكون ذلك بواسطة اختلاف المحمولات فإنّ القضايا العرفية تختلف (3) من هذه الجهة أيضا ، كما هو مشاهد من ملاحظة قولنا : الإنسان ماش ، وقولنا : الحيوان كاتب ، وقولنا : الإنسان ضاحك ، فإنّ المستفاد من الأوّل عموم الموضوع بعموم (4) المحمول ، واختصاصه في الثاني ، وتساويه في الثالث ، ولعمري تشخيص الموارد العرفية في غاية الإشكال ونهاية الإعضال وليس أمرا مطّردا

ص: 394


1- « ج » : شيئا.
2- « م » : فيراهم.
3- في النسخ : يختلف.
4- « ج ، م » : لعموم.

يؤخذ (1) به في جميع المراتب المشكوكة ، فليتأمّل في المقام فإنّه من مزال الأقدام.

بقي في المقام شيء وهو أنّه قد اشتهر في الألسنة ، بل قد يظهر من ثاني الشهيدين (2) الإصرار عليه أنّ الأحكام تتبع الأسماء وهو بظاهره لعلّه ينافي الرجوع في التميّز إلى العرف ، فإنّهم على ما عرفت لا يبالون باختلاف الاسم في إجراء الأحكام الثابتة للعنوانات ، فربّما يحكمون بالحكم مع القطع بعدم صدق الاسم كما في مسألة الاستحالة ، فإنّ أكثر أهل العلم على ما نسبه إليهم العلاّمة (3) على عدم حصول الطهارة فيلحقه حكم النجاسة مع عدم لحوقه الاسم ، إلاّ أنّه قد يظهر من بعضهم القدح فيه بالقطع بأنّ مجرّد اختلاف اللفظ لا يصير منشأ لاختلاف الحكم ، فلو سمّي الكلب إنسانا لم يطهّر إجماعا ، فدوران الأحكام مدار الأسماء ممّا لا معنى له ، وهو وإن أصاب في المطلب لظهور عدم كون القضيّة المعروفة (4) آية أو رواية أو مجمعا عليها ويكفيك في دفعها (5) إسناد العلاّمة القول بخلافها إلى أكثر أهل العلم ، ولكنّه قد أخطأ في الطريق على ما نبّه (6) عليه العلاّمة الطباطبائي في المصابيح ؛ إذ ليس المراد منها أنّ الأحكام تتبع الألفاظ ، بل المراد بتبعيتها للأسماء هو تبعيتها للمسمّيات (7) ، أي الأمور الواقعية التي يستكشف عنها بتلك الألفاظ ، ومن هنا يظهر الوجه في قولهم : الأحكام تتبع الأسماء دون الألفاظ ، فإنّ فيه إيماء إلى أنّ المناط على الأسماء من حيث كونها آلات (8) لتعرّف المسمّيات.

وكيف كان ، فيمكن القول بعدم التنافي بينهما أيضا من وجهين :

ص: 395


1- « ج ، م » : نأخذ.
2- الروضة البهية فى شرح اللمعة الدمشقية 1 : 285 ، و 2 : 22 ؛ مسالك الأفهام 1 : 122 ؛ روض الجنان 1 : 436 ، وفي ط الحجري : 163.
3- تقدّم عنه في ص 391.
4- « ج » : المفروضة.
5- « ز ، ك » : وضعها.
6- « ز ، ك » : - نبّه.
7- « ج ، م » : للأسماء يعني المسمّيات.
8- « ج ، م » : آلة.

الأوّل : أنّ العرف إنّما يفهمون المراد من الأسماء الواردة في مقام التعرّف لتلك المسمّيات ما هو أعمّ ممّا يفهم منه في غير المقام (1) ، فإنّ محصّل ما ذكرنا في ذلك يرجع إلى عدم اقتصار العرف في أمر الموضوع على ما هو المستفاد من ظواهر الأدلّة ولكن لا على وجه لا يكون متعلّقا بموضوع ولو بحسب اقتراحهم ، فإنّ ذلك ممّا لا مناص منه كما هو ظاهر ، فالمراد من القضيّة هذه على ما ذكرنا هو (2) تبعية (3) الأحكام لموضوعاتها المستكشف عنها بتلك الأسامي ولو بحسب ما يقترحون في ذلك الاستكشاف.

الثاني : أنّ المراد من هذه القضيّة يحتمل أن يكون الحكم الجزئي الشخصي المتعلّق بموضوع خاصّ يتبع اسم هذا الموضوع ، وذلك لا ينافي تعلّق حكم مماثل للحكم الأوّل بما هو أعمّ للمسمّى.

إلاّ أنّ الإنصاف عدم استقامة الوجهين كما هو غير خفيّ على من لاحظها ، فالحقّ هو أنّ هذه القضيّة تنافي (4) إحالة أمر الموضوع إلى العرف ، كذا أفاد الأستاد أديمت إفاداته (5).

قلت : وذلك وإن لم يكن محذورا لما عرفت من منافاتها لما نقلنا من العلاّمة من أنّ أكثر أهل العلم على عدم الاعتداد بالاستحالة المغيّرة (6) للأسماء ، إلاّ أنّ الخروج عمّا هو ظاهر الدليل (7) في تعلّق الأحكام بالموضوعات والأخذ بمثل هذه الاقتراحات من جعل الموضوع تارة شيئا خاصّا ، وأخرى عامّا ، ممّا لا يكاد يخفى بطلانه ، سيّما بالنسبة إلى الأحكام المجمع عليها التي لا يدلّ عليها دليل لفظي يستكشف منه الموضوع.

فالذي يقوّى في النظر أنّ أوضح الوجوه المذكورة في تميّز (8) الموضوع هو الرجوع

ص: 396


1- « ج ، م » : أعمّ من المفهوم منه في غير المفروض.
2- « م » : - هو.
3- « ج ، م » : بتبعية.
4- في النسخ : ينافي.
5- « ز ، ك » : مدّ ظلّه.
6- « ج ، م » : المعتبرة.
7- « ز ، ك » : الخروج عن ظاهر ما هو الدليل.
8- « ج » : تمييز.

إلى عناوين الأدلّة بعد أنّ الواضح هو أسدّية المعيار التدقيقي والأخذ بالموضوع التحقيقي ، وذلك لا ينافي عدم اقتصارهم في بعض المقامات على ما هو المستفاد من ظاهر الدليل الوارد في مقام الحكم ؛ لإناطة الحكم إلى ما هو أعمّ من المستفاد من الظاهر ، وليس ذلك على وجه الاقتراح كما هو في المعيار العرفي كذلك ، بل قد يكون ذلك بواسطة فهم العرف إلقاء (1) بعض الخصوصيات في الحكم كما هو كذلك في قولهم : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (2) إلى غير ذلك من الموارد ، فالأخذ بذلك الأمر الأعمّ ليس أخذا بما هو خارج عن مدلول اللفظ الوارد في مقام بيان الحكم ، فإنّ مداليل الألفاظ معتبرة مطلقا ، سواء كانت على وجه المطابقة أو الالتزام كما في الدلالات الإيمائية والاقتضائية ، وهذا الأمر العامّ وإن لم يكن من مدلول اللفظ مطابقة إلاّ أنّ اللفظ يدلّ عليه ولو بوجه من الإيماء والإشارة التزاما ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ ما ذكرنا يختلف غاية الاختلاف باختلاف الأحكام والمحمولات ، فإنّ بعض هذه الأحكام على وجه لا يستفاد من الدليل إلاّ اختصاصه بما هو المستفاد من الدليل مطابقة وليس له مدلول التزامي ، والبعض الآخر يستفاد ذلك منه (3) أيضا ، مثلا الملكية المترتّبة على الكلب الواقع في المملحة مستصحبة قطعا ولكنّ النجاسة يمكن الاختلاف فيها على ما عرفت (4).

وبالجملة : فالرجوع إلى عناوين الأدلّة في تشخيص الموضوع في الاستصحاب على ما يصل إلى النظر أقوى الوجوه ، وعلى ذلك فما نقلنا (5) عن الفاضل في الفرق بين النجس والمتنجّس في محلّه ، ولا يرد عليه النقض بمثل الماء المتنجّس إذا استحال بولا

ص: 397


1- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : إبقاء.
2- الوسائل 3 : 405 ، باب 8 من أبواب النجاسات ، ح 2 و 3. وسيأتي في ص 548 و 554 و 647.
3- « ز ، ك » : منه ذلك.
4- « ز ، ك » : عرفته.
5- نقله في ص 391.

في جوف الحيوان المأكول اللحم أو استحال (1) فاكهة ، أو الحشيش النجس (2) إذا استحال طيبا لما عرفت من أنّ التعدّي عن عنوان الدليل الوارد في مقام بيان الحكم بحذف الخصوصيات وإسقاط ما يحتمل أن يصير وجها للاختلاف ، موقوف على مساعدة العرف في ذلك العنوان ، فحيثما لم يساعده كما في أمثال المقام فلا ضير فيه ، وأمّا إذا لم يكن هناك دليل مشتمل على عنوان من موضوعات الأحكام الشرعية كما إذا كان الدليل إجماعا فإن كان المورد من الموارد التي يظهر (3) صدق النقض على تقدير عدم الاستصحاب فاللازم هو الأخذ بالاستصحاب ، وإلاّ فالمرجع إلى غيره من الأصول ، فليتأمّل في المقام فإنّه بعد في غاية الإبهام (4) ، واللّه الموفّق وهو المعين (5).

ص: 398


1- « م » : استحالة.
2- « ز ، ك » : المتنجّس.
3- في « ج » زيادة : « عدم » وشطب عليها في نسخة « م ».
4- « ج ، م » : الإيهام.
5- « ز ، ك » : واللّه هو الموفّق والمعين والهادي.

هداية [ في عدم جريان الاستصحاب مع وجود المعارض ]

و (1) لا بدّ في جريان الاستصحاب عدم (2) ابتلائه بالمعارض ، وقد يظهر من جملة - كما مرّ (3) في السابق - عدّه في جملة (4) شروط العمل به واعتباره ، وليس في محلّه ، فإنّ التحقيق أنّ الاستصحاب لا مجرى له عند وجود المعارض ، سواء كان من الأدلّة الاجتهادية أو من الأصول العملية ولو كان المعارض استصحابا آخر أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ عدم الاعتداد بالدليل تارة : يكون بواسطة عدم ما يقضي (5) باعتباره (6) ، أو بانتفاء موضوعه ، وأخرى : يكون بواسطة وجود المانع منه ، ففيما إذا لم يكن المقتضي للعمل موجودا لا يصحّ استناد الطرح إلى وجود المانع ، والاستصحاب في مقام المعارضة من هذا القبيل وليس من قبيل معارضته أخبار الآحاد بعضها ببعض ، فإنّ من المعلوم وجود المصلحة الداعية إلى جعلها طريقا حال المعارضة ، فيكون الأخذ بأحدهما من قبيل تزاحم الحقوق كما في إنجاء الغريق وإنقاذ الحريق ، بخلاف الاستصحاب فإنّه في موارد التعارض بما (7) يمكن المكافئة معه ليس كذلك إلاّ أن

ص: 399


1- « ج ، م » : وممّا.
2- « ز ، ك » : من عدم.
3- « ج ، م » : - مرّ.
4- « ز ، ك » : - جملة.
5- « ج » : يقتضي.
6- « ك ، م » : باعتبارها.
7- « ز ، ك » : لما.

يكون مبنيّا على الظنّ الشخصي فإنّه يدور مدار الظنّ وإن لم نعلم بالتزام القائل به بهذا ، وستعرف الوجه في ذلك عند كيفية أنحاء التعارض الواقع بين الاستصحاب وبين غيره من أنحاء الأدلّة.

وكيف كان ، فالمخالف للاستصحاب قد يكون من الأدلّة الاجتهادية ، وقد يكون ممّا هو من سنخه من الأصول العملية ، سواء كانت في عرضه من استصحاب أو مقدّمة عليه أو مؤخّرة عنه كأصالة البراءة والاحتياط وأصالة الصحّة والقرعة واليد ونحوها ممّا ستقف (1) على تفاصيلها ، فلنذكر كلّ واحد منها في هداية على حدّها (2) توضيحا للمقام وتفصيلا لما هو المقصود من الكلام لئلاّ (3) يقع الخلط بينها (4).

ص: 400


1- « م » : سيقف.
2- « ز ، ك » : حدّتها.
3- « ز ، ك » : المرام.
4- « ز ، ك » : - لئلاّ يقع الخطل بينها.

هداية [ في حكومة الأمارات على الاستصحاب ]

اشارة

في بيان الحال في معارضة الاستصحاب مع الأدلّة الاجتهادية ولا بأس ببيان المراد من الأدلّة الاجتهادية ، فنقول : إنّ مقتضى ما اصطلح عليه الأستاد الأكبر المحقّق البهبهاني في تعليقاته على المعالم نظرا إلى حدّي الاجتهاد والفقه من حيث اعتبار الظنّ في الأوّل والعلم في الثاني ، هو أنّ كلّ دليل يكشف عن الحكم الواقعي فهو دليل اجتهادي ؛ إذ (1) به يحصل مرتبة الاجتهاد للعالم ، سواء كان من الأدلّة العملية أو الأدلّة (2) الظنّية كأخبار الآحاد ونحوها ، وكلّ دليل يعلم منه الحكم الفعلي في الواقعة الحاضرة عند الفقيه المتحيّر الشاكّ فهو دليل غير اجتهادي ، وقد اشتهر هذا القسم من الدليل بالدليل الفقاهتي (3) ؛ إذ به يحصل الفقاهة للعالم وبهذا الاعتبار يصير فقيها يعني ما (4) يحصل به الفقاهة في قبال الأوّل فإنّه يحصل به الاجتهاد.

قال المحقّق المذكور في التعليقة المذكورة - بعد تضعيفه لإرادة الظنّ من العلم في تعريف الفقه - : والحقّ أنّ المراد من العلم هو اليقين ؛ لأنّ الفقه هو العلم دون الظنّ ، لأنّ الظنّ هو الاجتهاد كما ظهر وإن كان الاجتهاد لا بدّ فيه من اليقين باعتباره شرعا ،

ص: 401


1- « ز ، ك » : « و » بدل : « إذ ».
2- « ز ، ك » : - الأدلّة.
3- « ز » : بالدليل الفقاهي ، « ج ، م » : بدليل الفقاهة.
4- « ز ، ك » : - ما.

فاعتقاد الفقيه بالنظر إلى حكم اللّه الواقعي اجتهاد ؛ لأنّه ظانّ به ، وبالنظر إلى (1) حكم اللّه الظاهري فقه وعلم ؛ لأنّه عالم به ، كما أنّ له أسامي أخر أيضا مثل أنّه قاض بالنظر إلى أنّه يرفع المخاصمة بين المترافعين إليه بالخصومة ، وحاكم الشرع بالنظر إلى مثل ضبط مال (2) الأيتام والمجانين والغيّب ، وغير ذلك من الأسامي كما بيّناه في الفوائد (3) ولكلّ اسم من تلك الأسامي أحكام مخالفة لأحكام الاسم الآخر ومباينة له ؛ لأنّ الفقيه عمله (4) بالأدلّة الخمسة ولا يجوز للفقيه تقليده وبعد الموت يموت قوله ، بخلاف القاضي فإنّ حكمه باق إلى يوم القيامة وماض على الفقهاء وغيرهم ، وعمله بالشهادة والحلف ونحو ذلك ، قال رحمه اللّه : فتعيّن كون المراد من العلم المعنى الحقيقي ولا محيص عنه قطعا ؛ لما عرفت وستعرف من المفاسد في جعل المراد منه الظنّ أو ما يشمله (5) ، انتهى.

وصريح ما أفاده هو ما ذكرنا من أنّ الدليل على قسمين : قسم : يحصل (6) منه الاجتهاد وهو ما يحكي عن حكم اللّه الواقعي الثابت في نفس الأمر ، وليس للشكّ في موضوعه مدخل في وجه وإن كان محلّ الاستدلال هو مقام الشكّ وعدم العلم كما هو ظاهر لا سترة عليه ، والآخر : ما يحصل منه الفقاهة (7) التي هو العلم بالأحكام الشرعية ، فلا بدّ إمّا من حمل الأحكام على الأحكام الظاهرية باستعمالها فيها أو بتقيّدها بها (8) ، وإمّا من تقدير مضاف للأحكام يكون متعلّقا للعلم كوجوب العمل ، وهو الأولى ؛ لأنّ الظرف حينئذ لا بدّ أن يكون متعلّقا بالأحكام دون العلم ، وعلى تقدير التقييد (9) فيها أو الاستعمال لا يصحّ ؛ إذ الأحكام الظاهرية لا تكون (10) مستفادة من الأدلّة كما لا يخفى.

ص: 402


1- « ج ، م » : - إلى.
2- « ز ، ك » : أموال.
3- الفوائد الحائرية : 499 ، فائدة 33.
4- « ز ، ك » : علمه.
5- حاشية المعالم ( مخطوط ) : 80 / أ.
6- « ج ، م » : ما يحصل.
7- « ز ، ك » : الفقاهية.
8- في النسخ : به.
9- « م » : التقيّد.
10- « ج ، م » : لا يكون.

ولا يرد عليه ما زعمه بعض الأجلّة (1) تبعا لبعضهم من أنّ التصرّف في الأحكام يغني عن ذلك والكلام فيما كان العلم باقيا على معناه المعهود من غير تصرّف فيه ؛ إذ تعلّق العلم بشيء خاصّ لا يوجب التصرّف فيه كما هو ظاهر.

فالعلم بوجوب العمل بالأحكام الواقعية التي هي مستنبطة من الأدلّة التفصيلية هو الفقه ، وليس العلم بوجوب العمل بتلك الأحكام وإن كانت واقعية إلاّ العلم بالحكم الظاهري ، فما يدلّ على هذا الحكم الفعلي وهو وجوب الأخذ بالظنّ - مثلا - من حيث إنّه مشكوك الاعتبار هو دليل الفقاهة كالأدلّة (2) الدالّة على اعتبار الأدلّة الظنّية من الإجماع ، والكتاب والسنّة القطعيين ، وأدلّة الأصول من البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير ، فإنّها هي التي يحصل (3) منها العلم بوجوب العمل ، ولعلّه إنّما أخذه من قول العلاّمة من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا فيه نفسه ، وظنّية الطريق لا ينافي قطعية الحكم ، فالحكم المستفاد من الخبر حكم واقعي ، و (4) وجوب الأخذ بمفاد الخبر حكم ظاهري ، ونفس الخبر دليل الاجتهاد ، والإجماع على اعتبار الخبر دليل الفقاهة.

ثمّ إنّه إن أقيم (5) دليل على اعتبار هذا الظنّ الحاصل من الخبر مثلا ، وإلاّ فلا بدّ من الرجوع إلى عدم الحجّية وقاعدة العدم فهو حكم ظاهري في المسألة الأصولية ، أو (6) إلى البراءة أو إحدى أخواتها من الأصول في المسألة الفرعية وهو حكم ظاهري في المسألة الفرعية ، ويمكن أن يكون دليل واحد دليل الاجتهاد بالنسبة إلى مرتبة كما في الأدلّة (7) الدالّة على حجّية الخبر في المسألة الأصولية ، ودليل الفقاهة بالنسبة إلى مرتبة أخرى كما فيها بالنسبة إلى المسألة الفرعية.

ص: 403


1- انظر الفصول : 7 و 391.
2- « م » : كأدلّة.
3- المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : تحصل.
4- « ج ، م » : - و.
5- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : إنّه أقيم.
6- « ج ، م » : و.
7- « ج » : أدلّة.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الأحكام الظاهرية والواقعية أيضا متدرّجة (1) من حيث إنّ أدلّة الفقاهة (2) وأدلّة الاجتهاد (3) متدرّجة (4) ، فكلّ (5) مترتبة منها واقعي بالنسبة إلى المرتبة المؤخّرة عنها ، وظاهري بالنسبة إلى المرتبة المقدّمة عليها ، فخبر الواحد إذا له جهتان : إحداهما : كشفه عن الحكم الواقعي ، وثانيتهما (6) : اعتباره وعدم الاعتناء باحتمال خلافه ، فهو من الجهة الأولى دليل اجتهادي وموضوع لحكم ظاهري هو وجوب الأخذ به ، ومن الثانية حكم ظاهري في المسألة الفرعية وحكم واقعي في المسألة الأصولية ، والدليل الدالّ على اعتباره دليل الفقاهة على الأوّل ، ودليل الاجتهاد على الثاني ، فيتداخل الأقسام بذواتها وإن كانت متميّزة بحيثياتها.

هذا ما يستفاد ممّا أفاده المحقّق المذكور ، إلاّ أنّه بعد لا يخلو عن مناقشة وإن كانت راجعة إلى الاصطلاح في بعض الوجوه ، فإنّ الموروث من قدماء أرباب الصناعة وأصحاب الفنّ هو الحكم بتقديم أدلّة الاجتهاد مطلقا على أدلّة الأحكام الظاهرية ، ولا يصحّ ذلك بإطلاقه على ما أفاده ؛ إذ لا بدّ حينئذ من ملاحظة الأدلّة الدالّة على الأحكام الظاهرية ، فإن كانت من الأصول العملية كالاستصحاب وأخواتها فيحكم فيها بالتقديم ، وإن كانت غيرها كالإجماع والسنّة ونحوها فلا بدّ من المعارضة على ما قرّر في التراجيح ، على أنّه لم يعهد إطلاق دليل الفقاهة على مثل الإجماع ونحوه فإنّ المعهود منها هي الأصول العملية الكلّية المستعملة في الأحكام ، أو الجزئية المقرّرة فيها وفي موضوعاتها مثلا ، مضافا إلى أنّ ما قرّره في تعريف الفقه ممّا لا يخلو عن نظر ، فتدبّر.

وكيف (7) كان ، فالأنسب بما نحن بصدده من بيان معارضات الاستصحاب هو أن

ص: 404


1- « ز ، م » : مندرجة.
2- « ز ، ك » : الفقاهية.
3- « ك » : الاجتهادية.
4- « ز » : مندرجة.
5- « ج » : بكلّ « ز ، ك » : لكلّ.
6- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : ثانيهما.
7- « ز ، ك » : فكيف.

يقال : إنّ الدليل الاجتهادي هو ما يدلّ على الحكم الواقعي من غير ملاحظة الشكّ في موضوعه ، وما يدلّ على حكم الواقعة (1) من حيث كونها مجهول الحكم كأن يكون مبنيّا (2) لحكم الشكّ فهو دليل عملي مثل الأصول الأربعة الكلّية والأصول الجزئية كالقرعة وأشباهها ، وأمّا الأخبار الآحاد فليست مبنيّة (3) لحكم الواقعة باعتبار الشكّ ، وكذا ما يدلّ على اعتبارها أيضا فإنّ الأدلّة الدالّة عليه إنّما تدلّ على اعتبارها من حيث إنّها طرق إلى الواقع وحكايات عنه وكواشف منه (4) ، وستعرف لذلك زيادة تحقيق.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ المراد بالأدلّة الاجتهادية هو ما عدا الأصول العملية ممّا يكشف عن حكم الواقعة المشكوكة لا من حيث إنّها مشكوكة ، ولا ضير في ذلك أن يكون قطعيا أو ظنّيا أو تعبّديا صرفا ، وفيما ذكرنا أيضا يختلف المراد ، مثلا إنّ الحكم الواقعي في الشكّ في التكليف هو البراءة ، فلو تخلّف عنها المجتهد وحكم بالاحتياط كما عن الأخباريين فهو في حقّه حكم ظاهري ، ولو تردّد في ذلك الحكم فلا بدّ له من الرجوع إلى أصل آخر مقرّر فيما شكّ في كونه من موارد البراءة والاحتياط ، وهو أيضا قد يصير مجهولا إلى الانتهاء إلى حدّ لا يعقل فيه الخطأ كالعلم ، فإنّه ليس وراء عبّادان قرية.

ولا بأس بتوضيح المقال بالمثال ، فيقال : إنّ الدليل الدالّ (5) على حرمة العصير من حيث هو عصير وموضوع واقعي دليل اجتهادي ، وهذه الحرمة المستفادة منه حكم واقعي ، ففي صورة القطع بذلك فلا إشكال ، وكذا في صورة الظنّ فإنّ الدليل الدالّ على اعتباره لا يدلّ عليه من حيث إنّه مجهول الحكم ، وأمّا لو جهلنا بذلك الحكم الواقعي

ص: 405


1- « م » : واقعة.
2- « ز » : مبيّنا.
3- « ج ، م » : فليس مبنيا ، « ز » : مبيّنة.
4- « ج ، م » : طريق إلى الواقع وحاكي عنه وكاشف منه.
5- « ز ، ك » : - الدالّ.

فإن (1) وصلنا إلى ما هو حكم (2) الشاكّ من الأخذ بالبراءة - مثلا - فهو ، ويكون إذا ذلك الحكم حكما ظاهريا ، وذلك الدليل أصلا وقد يعبّر عنه بالواقعي الثانوي ، وإلاّ فالمرجع ما هو مقرّر بعد ذلك فذلك الحكم ظاهري ثانوي ، وذلك الدليل أصل ثانوي ، إلى أن ينتهي (3) في المرتبة الرابعة أو الثالثة إلى ما لا يعقل الشكّ فيه كأحد (4) القضايا البديهية.

وإذ قد عرفت المراد من الدليل الاجتهادي فنقول : إذا وقع التعارض بين الاستصحاب والأدلّة الاجتهادية فتارة : يقع الكلام فيما إذا كان مبنى الاستصحاب على الظنّ ، وأخرى : فيما كان مبناه الأخبار.

فعلى الأوّل لا إشكال في تقديم الأدلّة على الاستصحاب فيما لو كانت مفيدة للقطع ؛ لارتفاع موضوع الاستصحاب بالقطع حقيقة وواقعا ، فلا يعقل الاستصحاب.

وأمّا فيما لم تكن (5) مفيدة للقطع فإن قلنا باعتبار الاستصحاب من حيث الظنّ ولو نوعا ، كما استظهرناه من مذاق القدماء من القوم (6) ، فلا شكّ أيضا في تقديم الأدلّة الاجتهادية على الاستصحاب ؛ لأنّ المدرك فيه هو بناء العقلاء وليس بناؤهم على الأخذ بالحالة السابقة في قبال الدليل القاضي بارتفاعها ، ولعلّ السرّ في ذلك عدم بقاء استعداده لإفادة الظنّ ، ويكون ملحقا بأخبار المجانين - مثلا - في عدم استعداده لإفادة الظنّ النوعي ، فليس عدم إفادته الظنّ من حيث وجود المعارض والمصادمة كما في تعارض الأخبار مثلا ؛ لأنّ المنساق من كلمات بعضهم على ما نبّهنا عليه فيما تقدّم (7) أنّ عدم الظنّ على الخلاف وعدم الدليل مأخوذ في ماهيّة الاستصحاب ، ويزيد ذلك وضوحا فيما لو انتفى الظنّ من غير جهة المعارضة بواسطة الموهنات (8) الأخر.

ص: 406


1- « ج ، م » : وإن.
2- « م » : - حكم.
3- « ج ، م » : ينهى.
4- « ز ، ك » : كأخذ.
5- في النسخ : لم يكن.
6- « ج ، م » : - من القوم.
7- انظر ص 78.
8- « ز ، ك » : الأمارات.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما يثمر في ارتفاع الظنّ الشخصي ، وأمّا الظنّ النوعي فلا معنى لارتفاع استعداده ، ويمكن أن يقال : إنّ الوجه في ذلك أنّ بناء العقلاء على ذلك إنّما هو في مقام التحيّر ، وبعد وجود الدليل فلا حيرة لهم فليس بناؤهم على الأخذ بالحالة السابقة.

وكيف كان ، فالذي يسهّل الخطب في المقام هو اتّفاق القائلين (1) بالاستصحاب من الأصحاب وغيرهم على العمل بالدليل وطرح الحالة السابقة في قباله ، ولم يعهد منهم الخلاف في ذلك من وجه عدا ما يظهر من المحقّق القمي حيث إنّه - بعد ما نقل عن بعض المتأخّرين (2) عدم معارضة الاستصحاب بدليل - قال : إن أراد من الدليل ما ثبت رجحانه على معارضه فلا اختصاص لهذا الشرط بالاستصحاب فإنّه سار في الكلّ.

وإن أراد من الدليل ما يقابل الأصل ، ففيه : أنّ الإجماع على ذلك إن سلّم في أصل البراءة وأصل العدم فهو في الاستصحاب ممنوع ، ألا ترى أنّ جمهور المتأخّرين قالوا :

إنّ مال المفقود في حكم ماله حتّى يحصل العلم العاديّ بموته استصحابا للحالة السابقة مع ما ورد من الأخبار المعتبرة بالفحص أربع سنين ثمّ التقسيم بين الورثة ، فكيف يدّعى الإجماع على ذلك؟

وإن أراد أنّ الاستصحاب من حيث هو لا يعارض الدليل القطعي (3) كما أنّ العامّ والمفهوم من حيث إنّهما كذلك لا يعارضان الخاصّ والمنطوق ، فله وجه إلاّ أنّه لا ينافي تقديمه على الدليل بواسطة الخارج كما فيهما أيضا.

ثمّ أردف ذلك باحتمال أخذ الظنّ في تعريف الاستصحاب كأن يكون الحكم مظنون البقاء فحكم بانتفاء الاستصحاب وحقيقته عند وجود الدليل ، فلا يعقل الاشتراط ، وعلى تقدير عدم اعتباره في ماهيّة (4) ورود (5) الأمر بين اعتباره من جهة الظنّ

ص: 407


1- « ج ، م » : العاملين.
2- هو الفاضل التوني في الوافية : 208.
3- في المصدر : النطقي.
4- « ز ، ك » : اعتباره من جهة.
5- « ج » : مردّد.

ومن جهة (1) الأخبار فأورد على الاشتراط على الأوّل بمثل ما أورده أوّلا من عدم الاختصاص بالاستصحاب لتبدّل الظنّ وهما بعد ورود الدليل ، وعلى الثاني في غير ما إذا كان الدليل قطعيا بأنّ المرجع إلى تعارض الدليلين حينئذ أيضا ، فلا وجه للاختصاص (2) ، هذه (3) خلاصة ما أفاده في القوانين إلاّ أنّه لم نقف على وجه.

أمّا أوّلا : فنختار من الترديدات ثانيها (4) ، و (5) منع الإجماع ممّا لا يصغى إليه بعد ظهوره بالتتبّع في مطاوي كلماتهم ، وأمّا حديث المفقود فممّا لا مساس له بالمقصود ؛ لأنّ القائلين (6) بالاستصحاب على ما يظهر منهم في الفقه إنّما تمسّكوا به من جهة ضعف تلك الأخبار عندهم على ما صرّح به المحقّق في الشرائع (7).

على أنّ بعد التسليم عن ذلك أنّ الكلام في المقام إنّما هو في تقديم الأدلّة الاجتهادية على الاستصحاب بمعنى أنّه لو قام دليل على ارتفاع الحالة السابقة فهل يؤخذ بالاستصحاب ويحكم بحسبه بوجودها وترتيب آثارها عليها ، أو لا بدّ من الأخذ بمفاد ذلك الدليل والحكم بارتفاع الحالة السابقة وعدم ترتيب الآثار عليها ، بل ترتيب آثار العدم عليها كما هو ظاهر؟ مثلا لو قامت (8) البيّنة على موت زيد المشكوك موته فإن قلنا بأنّ من شرط العمل بالحالة السابقة عدم العلم بارتفاعها في الزمان اللاحق ، فلا يجب إنفاق زوجته من ماله ، بل يؤخذ بأحكام موته من عدم تورّثه من مال مورّثه وتقسيم أمواله بين الورثة ونحوها. وإن قلنا بعدم الاشتراط ، فيقع التعارض ؛ لأنّ قضيّة الاستصحاب هو الأخذ بالحالة السابقة ، والبيّنة تقضي (9) بارتفاعها.

ص: 408


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : وصحّة.
2- القوانين 2 : 75 - 76 وفي ط : ص 277.
3- المثبت من « ك » في سائر النسخ : هذا.
4- « ز » : ثانيهما.
5- « م » : « إذ » بدل « و ».
6- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : العاملين.
7- الشرائع 4 : 846 ط الشيرازي.
8- « ز ، ك » : قام.
9- « ج » : يقتضي.

وأمّا لو قام دليل على أنّ حكم المشكوك المسبوق بالحالة السابقة مطلقا أو في خصوص مورد - مثلا - هو كذا بخلاف ما هو المستفاد من دليل الاستصحاب ، فلا شكّ في وقوع التعارض بين أدلّة الاستصحاب وبينه ، كما في الشكّ في عدد الركعات فإنّ قوله : « فابن على الأكثر » في مقام الشكّ ممّا يقضي (1) بعدم الأخذ بالحالة السابقة وترتيب آثار الوجود على المشكوك المسبوق بالحالة السابقة العدمية ، والأخبار الواردة في تقسيم مال المفقود من هذا القبيل ، ولا تعارض بينها (2) وبين الاستصحاب بمعنى أنّ (3) المستفاد منها أنّ المفقود الذي لا يعلم (4) وجوده وعدمه بعد الفحص عنه (5) أربع سنين يقسّم ماله بين ورثته كما أنّه تعتدّ زوجته ، ثمّ تحل للازدواج (6) بعد أن لم تصبر مثلا ، فهذه قاعدة خاصّة وأصل خاصّ وارد في مقام حكم الشيء المشكوك كنفس الاستصحاب ، ولا ريب في تقدّمه عليه على تقدير اعتبار الأخبار الدالّة عليه كما عرفت في تقديم (7) أخبار الشكّ في عدد الركعات عليه كما لا يخفى ، وليس مفادها أنّ الحالة السابقة التي هي مناط الاستصحاب قد ارتفعت وإن كانت مشاركة في الحكم بعدم الأخذ بالآثار المترتّبة على الحالة السابقة مع الدليل القاضي بارتفاع الحالة السابقة ، ولعلّ ذلك هو الوجه في الاختلاط بينهما (8).

وبالجملة : فالمقصود هو القول بعدم الأخذ بالحالة السابقة فيما لو قام دليل على ارتفاعها (9) لا (10) القول بعدم ما يقضي (11) بخلاف ما يقضي به الاستصحاب في مقام عدم

ص: 409


1- « ج » : يقتضي.
2- « ز ، م » : « بينهما » ، ثمّ استدرك في نسخة « م » ما بين السطور « وبين الاستصحاب ».
3- « ز ، ك » : « بل » بدل « أنّ » وكان في نسخة « م » : « أن بل » ثم شطب على « بل ».
4- « م » : لا نعلم.
5- « ز » : فيه ، « ك » : في.
6- « ج ، م » : للأزواج.
7- « م » : تقدّم.
8- « ج » : بينها.
9- « م » : ارتفاعهما؟
10- « ز ، ك » : - لا.
11- « ج » : « يقتضي » وكذا في المورد الآتي.

العلم بالحالة السابقة ، غاية ما يمكن أن يقال : هو أنّ الأحكام المعمولة في الأدلّة اللفظية من تقديم (1) الخاصّ على العامّ ونحوه ، ممّا يجب مراعاتها في المقام أيضا فلا وجه لتقديم أخبار الاستصحاب على مثل هذه الأخبار الخاصّة المبنيّة (2) لحكم الشكّ ، فيجاب عنه بالقضيّة المعروفة من أنّ العامّ مع عمومه ربّما يقدّم على الخاصّ لأمور خارجية عنهما وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من الترديد بين أخذ الظنّ في تعريف الاستصحاب ممّا ليس في محلّه ؛ لعدم اعتبار الظنّ في واحد من التعاريف على ما سمعت الكلام فيها ، نعم يظهر من العضدي (3) أنّ الاستصحاب هو الاستدلال المعهود ، وعلى تقدير تعقّله فليس استصحابا كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره في ثاني شقّي هذا (4) الترديد من عدم الاختصاص بالاستصحاب بعد تبدّل الظنّ المعتبر (5) فيه وهما ، ليس على ما ينبغي ؛ لأنّ اطّراد ذلك وجه للاختصاص ، وإلاّ فلا وجه للقول بالتبدّل على الإطلاق فلعلّه لم يتبدّل في مورد.

وأمّا رابعا : فلأنّ المستفاد من مقالته أخيرا هو وقوع التعارض بين أخبار الاستصحاب وبين الأدلّة الاجتهادية ، وسيأتي بعيد (6) ذلك عدم استقامة أمثال هذه الكلمات على ما هو مذاقنا في الاستصحاب.

هذا تمام الكلام فيما لو قلنا بالاستصحاب من جهة الظنّ النوعي ، ومحصّله : أنّ الاستصحاب مثل الغلبة يزول استعداده للظنّ بعد وجود الدليل ، فإنّ إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب إنّما هو فيما كان الفرد المشكوك ممّا تساوى طرفاه لو لا إلحاقه بالأعمّ ،

ص: 410


1- « ز ، ك » : تقدّم.
2- « ز » : المبيّنة.
3- شرح مختصر المنتهى : 453 وتقدّم عنه في ص 11.
4- « ج » : - هذا.
5- « ز ، ك » : المعتدّ.
6- « ز ، ك » : بعد.

وبعد قيام الدليل على تفرّده من الأفراد الأخر لا يبقى موضوع المفروض في الغلبة كما هو ظاهر ، والعمدة هو الإجماع المدّعى في كلام جماعة (1) المؤيّد بعدم ظهور الخلاف بين العاملين بالاستصحاب على ما عرفت.

وأمّا لو قلنا بالاستصحاب من جهة الظنّ الشخصي فمع قطع النظر عن عمل القائل به قضيّة القاعدة هو القول بدوران الأمر مدار الظنّ ، فعلى فرض وجود الظنّ في طرف الاستصحاب لا معني للقول بتقديم (2) غيره عليه مع وجود ما هو المناط في الاعتبار على ما هو مقتضى الإنصاف إلاّ أنّه لم يعهد منهم ذلك في وجه ، فيبنى طرح الظنّ الاستصحابي في قبال الأدلّة الاجتهادية على دعوى الإجماع على ذلك ، وعلى تقديره فيشكل الأمر في استفادة اعتبار مثل ذلك من الدليل ، فليتدبّر فيه فإنّه ممّا لا يكاد يتمّ في وجه.

وأمّا على الثاني (3) : فلا إشكال في ورود الدليل الاجتهادي على الاستصحاب فيما لو كان مفيدا للقطع ؛ لأنّ الممنوع في تلك الأخبار نقض اليقين بالشكّ وليس المقام منه ؛ إذ المفروض حصول اليقين على ارتفاع الحالة السابقة ، وصريح بعضها هو جواز نقضه بيقين آخر مثله ، بل الأمر به من حيث وقوع الفعل المطلوب في حيّز الخبر من قوله : « لكنّه ينقضه » ومثل ذلك نسمّيه بالورود ، وتحقيقه أن يكون الدليل على وجه بتحقّقه يرتفع محلّ الآخر وينتفي موضوعه.

وأمّا فيما لو كان الدليل الدالّ على ارتفاع الحالة السابقة ظنّيا فقد يقال (4) : إنّه يقدّم على الاستصحاب من قبيل تقديم (5) الأدلّة القطعية ؛ لانتهاء الظنّ إليه ، فعند الدقّة الناقض لليقين ليس إلاّ اليقين ، إلاّ أنّه كلام خال عن التحقيق ؛ لأنّ المناط في الورود

ص: 411


1- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : جملة.
2- « ج ، م » : تقدّم.
3- أي فيما كان مبناه الأخبار.
4- « ز ، ك » : قال. والقائل به بعض الأعيان كما سيأتي في ص 418.
5- « ز ، ك » : تقدّم.

هو ارتفاع موضوع الدليل حقيقة ولا يتحقّق ذلك إلاّ بعد تحقّق اليقين الواقعي الوجداني ، ومن المعلوم أنّ اليقين باعتبار شيء يغاير كون ذلك الشيء يقينا ، فالورود موضوع واقعي متفرّع على موضوع واقعي ، وجعل الشيء بمنزلة اليقين لا يترتّب عليه ما هو من لوازم حقيقة اليقين واقعا كارتفاع الشكّ مثلا ، فالتحقيق أنّه ليس من الورود ، بل هو من جهة التحكيم ، وتوضيحه يحتاج إلى تمهيد مقدّمتين :

الأولى : في أنحاء التصرّفات الواقعة في الأدلّة ولو بحسب ما يظهر منها صورة (1) ، فتارة : يكون بالورود على نحو ما عرفت آنفا ، وربّما يكون بينه وبين التخصّص (2) فرق من أنّ التخصّص (3) قد يكون أعمّ من الورود فإنّه على ما عرفت لا بدّ من أن يكون الوارد رافعا لموضوع المورود (4) فينتفي ما هو المناط بعد وجود ذلك الدليل ، بخلاف التخصّص (5) فإنّه قد يحتمل أن يكون فيما لا ارتباط بين الحكمين أيضا ، فإنّ وجوب إكرام زيد لا ارتباط له بوجوب (6) إهانة عمرو مثلا ، ولا يبعد أن يقال بالتخصّص (7) في ذلك ، فتأمّل.

وأخرى : يكون على وجه التخصيص ولازمه بقاء الموضوع وإخراج الحكم ، كما في قولنا : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا العالم مثلا.

وأخرى : يكون على وجه الصرف عن الظاهر مطلقا كما في قرائن المجاز ، وذلك على وجهين : فتارة : يكون الصارف بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الدليل الأوّل ، كما في قولنا : رأيت أسدا (8) ، وقولنا : أعني الرجل الشجاع مثلا ، وأخرى : لا يكون الصارف كذلك ولكنّ العقل بعد ملاحظة ذلك الصارف وظهوره في مقام الصارفية يحكم بأنّ

ص: 412


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ظهوره.
2- « ج » : « التخصيص ».
3- « ج ، ز » : « التخصيص ».
4- « ج » : الورود.
5- « ج ، ز » : « التخصيص ».
6- « ج ، م » : لوجوب.
7- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : بالتخصيص.
8- « ك » : أسدا يرمي.

ظهوره حاكم على ظهور اللفظ في معناه الحقيقي كما في العامّ والخاصّ أيضا ، فإنّ العقل بعد ما يلاحظ من التناقض بين العامّ والخاصّ - ضرورة رجوعهما إلى سالبة كلّية وموجبة جزئية أو موجبة كلّية وسالبة جزئية - يحتمل عنده ورود ظهور الخاصّ على العامّ بحمله عليه أو التصرّف في الخاصّ بحمل أمره أو نهيه على وجه لا ينافي ظهور العامّ ، وهكذا في القرينة فإنّ من المحتمل ورود ظهور « يرمي » على ظهور المعنى الحقيقي ابتداء ، مثل احتمال ورود ظهور المعنى الحقيقي على ظهور القرينة كأن يحمل على معنى لا ينافي المعنى الحقيقي ، ثمّ (1) بعد ملاحظة التعارض والتناقض يساعد على تقديم (2) ظهور الخاصّ والقرينة في الأغلب على الآخر ، فيحكم بحمل العامّ على الخاصّ ، والحقيقة على المجاز ، ففي هذين القسمين ليس الخاصّ والقرينة ناظرين (3) إلى خلافهما بمدلوليهما ؛ لما عرفت من عدم الارتباط بينهما ، ولهذا قد تراهم يلتزمون بورود العامّ على الخاصّ أيضا ، وقد لا يحكمون بمقتضى القرينة الصارفة أيضا ، بخلاف ما إذا كان أحد المتعارضين ولو في الصورة ناظرا إلى الآخر بمدلوله اللفظي كأن يكون مبيّنا له مفسّرا له كاشفا للمراد عنه ، ولازمه عدم المعارضة وعدم التناقض ؛ ضرورة انتفاء التعارض بين المفسّر والمفسّر ، والبيان والمبيّن ، كيف وهو ناظر إلى ما هو المراد منه وإن كان لا يخلو عن ارتكاب شيء أيضا إلاّ أنّ الفرق بينهما واضح ظاهر غير خفيّ على أحد ، وذلك بحسب الواقع قد يكون عين التخصيص وإن لم يكن منه ظاهرا بواسطة اختلاف وجوه الكلام كما إذا كان المفسّر خاصّا بحسب المفهوم ، وقد يكون غيره كما إذا كان المفسّر مساويا للمفسّر ، وإن جوّزنا التفسير بالأعمّ فمخالفته مع التخصيص أظهر ، ومنه يظهر أنّ ملاحظة النسبة بين المفسّر والمفسّر ليس في محلّه ؛ إذ بعد كونه بيانا فلا يعقل ملاحظة النسبة ، لاختصاصها بالمتعارضين والمفروض انتفاؤه

ص: 413


1- « ز ، ك » : « و » بدل : « ثمّ ».
2- « ز ، ك » : تقدّم.
3- هذا هو الصواب ، وفي « ج ، م » : ناظران. وفي « س. ك » : ناظرا.

على وجه يقضي (1) بذلك.

ثمّ إنّ البيان قد يختلف وضوحا وخفاء ، فأوضح البيانات ما قد يوجد في كلمات اللغويين والمترجمين من بيان معنى اللفظ في تلك اللغة أو في لغة أخرى ، وأخفى من ذلك ما قد عرفت من تفسير الأسد بالرجل الشجاع ، وأخفى من ذلك قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) وآيتي الاستباق (3) والمسارعة (4) على تقدير دلالتها (5) على المطالب المستدلّ بها عليها ، فإنّها بيانات للأحكام الثابتة في الدين بأجمعها ، فكأنّ (6) مفادها أنّ المجعول (7) في (8) الدين هو ما لا حرج فيه ، وأنّ المراد بتلك الأوامر الواردة في الشريعة والمقصود منها الفورية مثلا ، فلا مجال للتعارض على ما زعمه المحقّق القمي ؛ إذ (9) من المعلوم أنّ البيان ليس منافيا للمبيّن ، وأخفى من ذلك ما تسمعه في حكومة الأدلّة الاجتهادية على الأصول العملية ، ومن جملة علامات البيان أنّه لو قطع النظر عن ورود المبيّن كان البيان لغوا صرفا ، كما يظهر من ملاحظة قولنا : أعني الرجل الشجاع ، لو لم يكن كلاما برأسه ، أو (10) قولنا : ما أردت الأسد الحقيقي ، بل أردت الرجل الشجاع ، إذا (11) لم يكونا مسبوقين بقولنا : رأيت أسدا مثلا ، ومن كواشفه أيضا أنّ حمل البيان على وجه لا يكون بيانا ممّا يعدّ في العرف من إخراج الكلام عمّا سيق إليه بالمرّة ، بخلاف التخصيص فإنّ حمل الأمر فيه على الاستحباب أو تصرّف آخر فيه على وجه لا ينافي عموم العامّ ، ليس بهذه المثابة من القبح كما لا يخفى على من

ص: 414


1- « ج » : يقتضي.
2- الحج : 78.
3- قوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة : 148 ؛ المائدة 48.
4- قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) آل عمران : 133.
5- « ز ، ك » : دلالتهما.
6- « ز ، ك » : لكان.
7- « ز » : المجمعون ، « ك » : المجموع.
8- « م » : « من » ، « ز » : « فمن ».
9- « ج » : « و » بدل : « إذ ».
10- « ز ، ك » : إذ.
11- « ك » : إذ ، وكذا غيّرت ب- « إذ » في نسخة « ز ».

ألقى السمع وهو سديد السليقة ومستقيم الطبيعة.

الثانية : قد عرفت في بعض ما قدّمناه من مباحث الظنّ أنّ معنى جعل الشيء طريقا فيما يحتاج إلى الجعل - كالظنّ وما يشاركه في اشتماله على احتمال عدم المطابقة للواقع ممّا يكون أصل مفاده مع قطع النظر عن حجّيته (1) كاشفا عن الواقع حاكيا له ناظرا إلى ما في نفس الأمر مطابقا للواقع بحسب أصل مفاده وإن احتمل الخلاف أيضا عقلا (2) ولو احتمالا مساويا - ليس ما قد يظهر من بعض الأفاضل أنّ ذلك الشيء يكون من الأسباب الشرعية كالزوال - مثلا - للصلاة حتّى يكون معنى اعتبار البيّنة أو خبر الواحد أنّه إذا أقيمت البيّنة على كذا يجب كذا ، وإذا ورد خبر مدلوله كذا يجب الأخذ به مثلا ، كما في غيرها من الأسباب الشرعية التي هي معرّفات للأحكام.

بل التحقيق أنّ معناه جعلها مرآة عن الواقع وطريقا إليها تنزيلا لما ليس من العلم منزلة العلم ، فيترتّب عليه الآثار التي تترتّب (3) على المعلوم ممّا كان العلم طريقا إليها ، تنزيلا لاحتمال الكذب المتطرّق في البيّنة منزلة العدم ، فلا بدّ من طرح الأحكام الشرعية المترتّبة على الاحتمال والشكّ ، والأخذ بالأحكام التي تلحق (4) المعلوم ممّا يكون العلم طريقا إليها ، ويجب الأخذ بقوله وتصديقه والاعتراف بمطابقته للواقع والإذعان بحقّية خبره والاعتقاد بصدق كلامه وعدم الاعتناء (5) باحتمال الكذب وعدم المطابقة في كلامه ، وحيث إنّ الأمر بالتصديق والاعتقاد بالمطابقة بعد وجود الشكّ (6) وجدانا ممّا لا يعقل فلا جرم يؤول المعنى إلى إلغاء أحكام الشكّ (7) ، فتقع الأدلّة الدالّة على الحجّية في تلك الأمارات مفسّرة للشكّ الواقع في أدلّة الأصول ، وهذا هو المراد

ص: 415


1- « ز ، ك » : صحّته.
2- « ز ، ك » : فعلا.
3- في النسخ : يترتّب.
4- « ز ، ك » : يلحق.
5- « ز ، ك » : الاعتداد.
6- « ز ، ك » : شكّ.
7- « ز ، ك » : الأحكام المترتّبة على الشكّ.

بالتنزيل كما في غيره من التنزيلات الشرعية ، مثلا فيما لو لم يكن هذا الاحتمال منزّلا منزلة العدم كان له أحكام منها الأخذ بالبراءة فيما لو كان الشكّ في نفس التكليف ، والأخذ بالاحتياط فيما لو كان الشكّ في المكلّف به بعد العلم بثبوت التكليف ، والأخذ بالاستصحاب فيما لو (1) كان للمشكوك حالة سابقة مثلا ، والأخذ بالتخيير في موارد الحيرة ، كما عرفت تفصيل الكلام فيها بما لا مزيد عليه وكان ثبوت هذه الأحكام للشكّ أمرا قطعيا على وجه كان الحكم بعدم حجّية أمارة مشكوكة مستندة إلى لزوم طرح هذه الأحكام من غير دليل شرعي كما عرفت مرارا ، فإذا حكم الشارع بتنزيل هذا الاحتمال منزلة العدم وجعل ذلك الشيء كما إذا كان معلوما ، كان معناه أنّه يجوز (2) طرح الأحكام الثابتة لهذا (3) الاحتمال شرعا وترتيب آثار الشيء إذا لم يتطرّق إليه احتمال ، ففي مورد البراءة لا يجوز الأخذ بالبراءة ، وفي مورد الاحتياط لا يجب الأخذ بالاحتياط ، وفي مورد الاستصحاب لا مناص من الأخذ بما يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة والأخذ بأحكام الواقع ، وكذا الكلام في التخيير لأوله حقيقة إلى البراءة.

نعم ، لمّا كانت واقعية تلك الأمارة وطريقيتها (4) بواسطة حكم الشارع وتنزيله لها منزلة الواقع لا جرم كانت الأحكام المترتّبة على الواقع هي الأحكام التي تكون بجعل الشارع دون الأحكام العقلية التي لا دخل للشارع في مقام التكليف والشارعية فيها وإن لم تكن (5) خارجة عن قدرته في مقام التكوين كما في غيره من التنزيلات الشرعية على ما عرفت وجه الكلام فيها في بعض الهدايات السابقة.

ومن هنا يظهر الوجه في أنّ حسن الاحتياط ليس ممّا يرتفع بعد دلالة دليل اجتهادي ظنّي على ثبوت حكم مخالف للاحتياط ؛ لأنّ ذلك إنّما كان من آثار عدم

ص: 416


1- « ج ، ز » : - لو.
2- « ز » : لم يجوز.
3- « ج » : بهذا.
4- « ج ، م » : طريقتها.
5- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : لم يكن.

إحراز الواقع في نفسه مع قطع النظر عن (1) الشرع أيضا ، فلم يكن ذلك بوضع الشارع حتّى يرتفع برفعه ، فلو قامت البيّنة على تعيين جهة القبلة بين الجهات المحتملة فغاية ما يستفاد منها هو رفع الوجوب الناشئ من عدم البيان بعد ثبوت التكليف ، وأمّا حسنه فهو من (2) آثار حقيقة الشكّ وعدم العلم عقلا ، والعقل قاض به إحرازا للواقع المطلوب ، فهو ثابت حقيقة ، نعم لو تبدّل الشكّ علما ارتفع الحسن أيضا بارتفاع محلّه كما هو ظاهر.

وبالجملة (3) : فجعل الشيء علما غير العلم واقعا ، فأحكام العلم واقعا غير مترتّب على ما ليس بعلم واقعا.

فإن قلت : لازم ما ذكرت عدم ارتفاع وجوب الاحتياط أيضا ، فإنّ وجوبه أيضا من الأحكام العقلية فإنّ العقل خوفا من وقوع النفس في الضرر المحتمل يحكم بوجوب الاحتياط كما عرفت في موارده ، بل اللازم عدم ارتفاع البراءة أيضا فإنّها أيضا حكم عقلي فلا يرتفع كما في حسن الاحتياط.

قلت : كم من فرق بينهما ، فإنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط إنّما هو بواسطة عدم البيان على وجه تؤمن (4) النفس من وقوعها في الضرر ، و (5) بعد وجود الدليل والبيان المعتبر يرتفع موضوع الحكم ، بخلاف الحسن فإنّه يحكم به (6) العقل من حيث عدم وصوله إلى الواقع ، وبعد إقامة الدليل المعتبر هو موجود أيضا ؛ إذ المفروض عدم كونه واقعا في الواقع فيلحقه حكمه واقعا. وبمثله نقول في البراءة كما سيجيء له زيادة تحقيق إن شاء اللّه.

ص: 417


1- « ز ، ك » : من.
2- « ز ، ك » : « فمن » بدل : « فهو من ».
3- « ج ، م » : فبالجملة.
4- في النسخ : يؤمن.
5- « ز ، ك » : - و.
6- « ز ، ك » : - به.

وإذ قد تمهدت (1) هاتين المقدّمتين فنقول : إنّ نسبة الأدلّة الاجتهادية إلى الأصول العملية نسبة المفسّر إلى المفسّر ، والمبيّن إلى المبيّن ؛ لأنّك قد عرفت أنّ معنى اعتبارها هو إلغاء أحكام الاحتمال التي هي بعينها مفاد الأصول العملية التي منها الاستصحاب ، فإنّ قوله : « لا تنقض » معناه ترتيب أحكام المتيقّن على المشكوك حال الشكّ ، ومفاد قوله : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (2) أو آية النبأ هو أنّ المراد والمقصود من الشكّ هو غير الشكّ في الموارد التي يوجد فيها الخبر أو البيّنة (3) ، فالبيان في هذه الموارد ممّا يشبه التخصيص معنى ؛ لكون المبيّن خاصّا إلاّ أنّه ليس من التخصيص ظاهرا (4) ؛ لما عرفت من اختلاف وجوه الكلام ، فإنّ قولك : أردت الإنسان ، بعد الأمر بإكرام الحيوان ليس من التخصيص ظاهرا ؛ لعدم تعرّض المخصّص بلفظه لمفاد العامّ كما عرفت في المقدّمة الأولى (5) وإن كان في معناه ، ولهذا لا يناقضه إلاّ أنّه كما عرفت من أخفى أفراد البيان.

ولذا قد التبس الأمر في ذلك على بعض الأعيان فزعم أنّ بعد ورود الأدلّة الاجتهادية يرتفع موضوع الاستصحاب حقيقة (6) ، وغفل عن وجود الشكّ الواقعي حسّا (7) في موارد الاستصحاب ، فلا يتحقّق الورود ، فإنّ المتبادر من الأخبار هو اتّحاد مورد اليقين والشكّ والمفروض أنّ متعلّق الشكّ هو الحكم الواقعي ، ولا يجدي في رفع ذلك اليقين بالحكم الظاهري ، فإنّ اليقين بشيء غير اليقين باعتبار شيء فيه ، والموجب للورود هو الأوّل دون الثاني ، ولا ملازمة بينهما (8) كما أشرنا إليه سابقا أيضا (9).

وكذلك قد اختفى الأمر على بعض الأفاضل فزعم أنّ موارد الأدلّة الاجتهادية

ص: 418


1- « ز ، ك » : عرفت.
2- سيأتي في ص 474.
3- « ز ، ك » : البيّنة أو الخبر.
4- « ز ، ك » : في الظاهر.
5- قوله : « لعدم تعرّض ... » إلى هنا ورد في « ص. ك » بعد قوله : « أو الخبر » فيما تقدّم.
6- « ز » : قطعا حقيقة ، « ك » : حقيقة قطعا.
7- كتب فوقها في نسخة « م » : حتّى ما.
8- « ز ، ك » : « هاهنا » بدل : « بينهما ».
9- أشار في ص 411 - 412.

بواسطة أدلّة اعتبارها مخصّصة - بالفتح - عن عموم قوله : « لا تنقض » وهذه الدعوى وإن كانت أقرب من الأولى إلاّ أنّه غير جار على التحقيق أيضا ؛ لمكان الفرق الواضح (1) بين الحكومة والتفسير وبين التخصيص ، ومنشأ التحكيم فيما نحن بصدده هو ما مهّدناه في المقدّمة الثانية من أنّ معنى اعتبار الدليل الاجتهادي ليس ما يظهر من صاحب المعالم (2) أنّه من الأسباب الشرعية المحضة ، بل معناه ما عرفت من أنّ البيّنة من حيث إنّها حاكية عن مدلولها صادقة شرعا لا بدّ من طرح الأصول في قبالها والأخذ باحتمال الواقع وطرح احتمال خلافه وعدم الاعتناء بالشكّ ، ولهذا يكون لكلّ واحد من الأدلّة الاجتهادية جهتان : جهة موضوعية بها (3) صارت (4) حجّة شرعية ، وجهة طريقية لأجلها حكم الشارع باعتبارها (5) شرعا ، فهي إذا برزخ بين الأسباب الصرفة والطرق الصرفة كالعلم مثلا ، فلو لاحظنا قوله : « لا تنقض اليقين » وقوله : « اعمل بالبيّنة » مثلا وتحقّقنا مفادهما نعلم بأنّ الثاني بيان للأوّل ، فكأنّ الثاني يفسّر (6) الشكّ المعتبر في موضوع الاستصحاب وليس من التخصيص في شيء ، وممّا يدلّ على ذلك هو ما عرفته في المقدّمة الأولى من أنّ علامة البيان هو كونه لغوا لو فرض عدم المبيّن كما يظهر من (7) أدلّة العسر والحرج وآيتي المسارعة (8) والاستباق (9) ، فإنّها (10) على تقدير أن لا يكون في الدين أمر أو نهي تقع لغوا صرفا ، بل يكون (11) أضحوكة محضة (12)

ص: 419


1- « ز ، ك » : الواقع.
2- لم نعثر عليه.
3- « ز ، ك » : - بها.
4- المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : صار.
5- « ج ، م » : باعتباره.
6- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : تفسير.
7- « ج ، م » : في.
8- قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) آل عمران : 133.
9- قوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة : 148 ؛ المائدة : 48.
10- « م » : فإنّهما.
11- « ز ، ك » : « حتّى أنّه » بدل : « بل يكون ».
12- « ج » : محضا.

كما لا يخفى ، بخلاف التخصيص كما في قوله : لا تكرم زيدا العالم ، فإنّه كما يصحّ بعد ورود العامّ كذا يصحّ على تقدير انتفاء العامّ رأسا ، وذلك ظاهر في الأدلّة الاجتهادية ؛ إذ بعد ما عرفت من أنّ معنى عدم اعتبارها هو الاعتناء بالشكّ والأخذ بأحكامه بحسب اختلاف الموارد ، ومعنى اعتبارها هو إلغاء تلك الأحكام ، لا ينبغي الارتياب في لغوية اعتبار الأدلّة الاجتهادية لو لم تكن (1) تلك الأحكام ثابتة للشكّ.

وبعبارة أخرى : لو لم تكن هذه الأحكام ثابتة لموارد الشكّ لم يكن لإلغائها - كما هو مفاد اعتبار الأدلّة الاجتهادية - معنى ، بل كان لغوا صرفا.

ثمّ لا فرق في ذلك بين التقديم والتأخير ؛ إذ الجمع بين الأدلّة لا يفرق فيه ذلك كما في العموم والخصوص أيضا ، نعم لو كان معنى اعتبارها كونها أسبابا شرعية كان القول بالتخصيص في محلّه.

ومن هنا ينقدح فساد مقالة من زعم أنّ بين الدليل الدالّ على البيّنة وبين الاستصحاب عموم من وجه ، حيث إنّ الأوّل يعمّ الموارد التي تؤخذ (2) فيها الحالة (3) السابقة وغيرها ، والثاني أعمّ من موارد البيّنة وغيرها ، فلا بدّ من الأخذ بالمرجّحات.

إذ بعد ما تحقّق من كون تلك الأدلّة محكّمة على الأدلّة التي بها يثبت أحكام الشكّ فلا معنى لملاحظة النسبة ، إذ المفسّر وإن كان عامّا مقدّم على المفسّر ، والوجه فيه هو أنّ بعد فرض التفسير فهو عند العرف أظهر ، فلا بدّ من الأخذ به ، على أنّ العموم في المقام ممنوع ، فإنّ دليل البيّنة حاكم على مطلق أحكام الشكّ التي منها الاستصحاب ، ومنشأ الخيال المذكور هو ملاحظته بالنسبة إلى خصوص دليل الاستصحاب ، ونظير ذلك ما مرّ مرارا من أنّ أدلّة نفي العسر والحرج إنّما يلاحظ بالنسبة إلى جميع الأحكام

ص: 420


1- « ج ، م » : « لم يكن » وكذا في المورد الآتي.
2- « ك » : يؤخذ ، « ج » : يوجد ، وفي نسخة « م » كان تمام حروفها مهملا.
3- « ز ، ك » : بالحالة.

الثابتة في الدين ولا يلاحظ بالنسبة إلى خصوص الصلاة.

وبالجملة : فبعد ما عرفت من التحقيق فلا وقع لأمثال هذه الكلمات الواهية.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في تقديم الأدلّة الاجتهادية على سائر الأصول غير الاستصحاب أيضا كالبراءة ونحوها ، فإنّ الكلّ مشتركة في كونها أحكاما للشكّ ، وجميع الأدلّة الاجتهادية أيضا مشتركة في كونها مبطلة (1) لأحكام الشكّ ، ويلزمها اعتبار مدلولها ، ولك أن تقول بأنّ الغرض من جعلها اعتبار مفاد هذه الأدلّة الظنّية ، ويلزمها إلغاء أحكام الشكّ ، إلاّ أنّ الأوّل بالواقع أقرب (2) كما لا يخفى ، فتدرّب وتدبّر (3).

تذنيب

زعم بعض متأخّري المتأخّرين أنّه لو حمل اليقين الناقض في الأخبار على اليقين الواقعي المتعلّق (4) بالحكم النفس الأمري ، كان الدليل الدالّ على اعتبار الأدلّة الاجتهادية مخصّصة لأخبار الاستصحاب بالتقريب الذي عرفت الوجه فيه في كلام القائل بالتخصيص مطلقا ، ولو حمل على الأعمّ من اليقين الظاهري والواقعي كان القول بالورود مطلقا في محلّه ؛ لارتفاع موضوع الشكّ بعد فرض وجود اليقين بالحكم الظاهري ، وأنت بعد ما أحطت خبرا (5) بما قرّرنا لك فيما تقدّم تعرف أنّه كلام ظاهري لا يلتفت إليه ؛ إذ لا يعقل حمل اليقين على اليقين الظاهري ، فإنّ مورد الشكّ واليقين كليهما (6) هو الواقع ، فالمستفاد من أخبار الاستصحاب أنّ الشكّ في الحكم الواقعي لا

ص: 421


1- « ج ، م » : مبطلا.
2- في هامش « م » : والوجه في كونه أقرب أنّ الأمارة الظنّية التي تحكي بمدلولها عن الواقع جهة الواقع منها غير قابلة لأن تصير متعلّقة للجعل ، وإنّما القابلة له هو احتمال خلاف الواقع ، فمقتضى الترتيب الطبيعي هو رفع احتمال المخالفة ، ويلزمه اعتبار الاحتمال المطابق ، فتدبّر. « منه »
3- « ج ، م » : - وتدبّر.
4- « ج ، م » : المعلّق.
5- « ج ، م » : - خبرا.
6- « ج ، م » : كلاهما.

يرفع اليقين بالحكم الثابت أوّلا إلاّ باليقين الواقعي ، واليقين بالحكم الظاهري لا يرفع الشكّ بالحكم الواقعي ، فلا يكون واردا رافعا لموضوع الشكّ ، فلا بدّ من التحكيم على ما عرفت.

فإن قلت : إنّه لو حمل اليقين في الأخبار على اليقين بالحكم الواقعي لما صحّ التمسّك بالاستصحاب في موارد الأدلّة الاجتهادية ؛ لعدم اليقين بالحكم الواقعي في أوّل الأمر.

قلت : المستفاد من الأخبار هو عدم جواز نقض اليقين المتعلّق بالحكم بالشكّ المتعلّق بالواقع إلاّ باليقين المتعلّق بالواقع ، فالحكم الثابت أوّلا ممّا لا يلاحظ فيه الواقعية أو الظاهرية ، بل لفظ اليقين هو عبارة عن إدراك جزمي وهو حاصل ولا دخل لمتعلّقه فيه ، وأمّا الشكّ فلا يعقل تعلّقه إلاّ بالحكم الواقعي ، وإلاّ لم يكن الشكّ في البقاء والارتفاع ، بل مرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في حجّية الدليل الدالّ على الحكم أوّلا.

نعم ، لو كان الشكّ متعلّقا بالحكم الظاهري كأن (1) كان الشكّ في الحجّية فالمشكوك هو بقاء الحجّية (2) وارتفاعها ، واليقين الثاني كان متعلّقا بحجّيته أيضا ، كان من الورود كما لا يخفى ، وكن على بصيرة من الأمر واحفظ ما ذكرنا من الحكومة فإنّه ينفعك في كثير من مباحث التعادل (3) والتراجيح.

ثمّ إنّ لنا نوعا آخر من التحكيم وهو أن يكون الدليل دالاّ على أنّ الحكم الفلاني الثابت للموضوع الفلاني الواقعي ثابت لموضوع ظاهري آخر نزّله الشارع منزلة ذلك الموضوع الواقعي ، كما في موارد الاستصحاب الموضوعي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية المترتّبة على الموضوعات الواقعية كأحكام الطهارة المترتّبة على المتطهّر الواقعي من جواز الجواز في المسجدين ومسّ كتابة القرآن ، فإنّها مترتّبة على موضوع

ص: 422


1- « ز ، ك » : - كأن.
2- « ز ، ك » : الحجّة.
3- « ز ، ك » : من المباحث الآتية في التعادل.

نزّله الشارع منزلة الواقع بالاستصحاب ، وهذا هو المراد ممّا قرع الأسماع من حكومة الاستصحاب الموضوعي بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة على الموضوع الواقعي ، فهذه الحكومة عكس الحكومة في الاجتهاديات فإنّ مقتضاها المضايقة من ترتيب (1) أحكام الشكّ ، وقضيّة هذه الحكومة التوسعة من جريان أحكام الواقع على المستصحب كما عرفت.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الحكومة والورود إنّما تنبّهنا به من ملاحظة كلام الصدوق في اعتقاداته (2) مثل قوله : اعتقادنا في الفلان أنّ أخباره واردة (3) على كذا أو حاكمة (4) عليه ، فليراجعها.

ص: 423


1- « ز ، ك » : ترتّب.
2- الاعتقادات : 114 ، وفيه : « اعتقادنا في الحديث المفسّر أنّه يحكم على المجمل ، كما قال الصادق عليه السلام ». وعنه في وسائل الشيعة 27 : 2. باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 28.
3- « ج ، م » : وارد.
4- « ج ، م » : حاكم.

ص: 424

هداية [ في تعارض الاستصحاب مع الأصول العملية ]

في بيان الحال في تعارض الاستصحاب مع الأصول العملية الدائرة في الأحكام والموضوعات كالبراءة والاحتياط والتخيير ، أمّا تعارض الاستصحاب مع البراءة بمعنى قاعدة البراءة لا استصحابها فإنّه على تقدير تعقّله كما مرّ إليه الإشارة (1) يكون من تعارض الاستصحابين ، وستعرف الكلام فيه إن شاء اللّه ، فلا شكّ في تقديم الاستصحاب عليها ، سواء قلنا بالبراءة من جهة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو بواسطة أخبار الإطلاق والتوسعة فيما ليس فيه علم.

أمّا على الأوّل (2) فالأمر واضح فإنّ حكم العقل لا يزيد على قبح العقاب على ما هو غير معلوم ولا ينافي ذلك جواز العقاب على ما هو معلوم ، ففي مورد تعارض الاستصحاب والبراءة لنا حكمان : أحدهما : الحكم الواقعي في واقعة العصير إذا ذهب ثلثاه بالشمس - مثلا - بعد الاشتداد والغليان الذي هو متعلّق جهل المكلّف ، وثانيهما : حكم الشارع بحرمة نقض الحالة السابقة والمفروض كونه معلوما ، فيختلف مورد الحكمين ، فإنّ حكم العقل (3) بقبح العقاب إنّما هو في شيء غير معلوم ، والعقاب على

ص: 425


1- « ز ، ك » : الإشارة إليه. وأشار إليه في ص 38 وتقدّم الكلام فيه مفصّلا في ج 1. ص 329.
2- في هامش « ج » : تعارض الاستصحاب مع قاعدة البراءة العقلية.
3- « ز ، ك » : - فإنّ حكم العقل.

شيء معلوم ، ويكفي هذه الجهة في الحكم (1) بحرمة العصير العنبي إذا لم يذهب ثلثاه بالنار مثلا.

أمّا على الثاني (2) فلوجوه ثلاثة : أحدها : ما عزاه بعضهم إلى صاحب الذخيرة وتبعه في ذلك سيّد الرياض (3) قدّس اللّه روحهما الزكية (4) من أنّ المنساق من أخبار البراءة هو الشكوك البدوية التي لم يرد فيها من أصل الشريعة أمر أو نهي ، وأمّا ما ورد فيه أمر أو نهي وإن كان بعد ذلك أيضا مشكوكا فلا تشمله هذه الأخبار ؛ إذ لا فرق في الورود بين أن يكون واردا في زمان الشكّ أو قبله ، إذ لا تقييد في قوله : « حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (5) ففيما له حالة سابقة لا تعارض بين الأخذ بالاستصحاب وقاعدة البراءة المستفادة (6) من قوله : « حتّى يرد فيه أمر أو نهي » لدخوله تحت الغاية ، فلا يجوز إعمال البراءة ؛ إذ المفروض أنّه ممّا ورد فيه أمر وليس المقصود هو الأمر الاستصحابي ، بل الأمر الدالّ على ثبوت الحكم في الزمن الأوّل.

وفيه : أنّ المتبادر من الأخبار هو العلاج في حال الحيرة والجهل ، ولا يفرق في ذلك ورود النهي قبل ذلك مع الجهل في الحال ، فتنزيل هذه الأخبار على مثل ما ذكره السيّد في غاية البعد عند الدقيق من النظر وإن كان قد يجلو (7) عند الجليّ من النظر ، فتدبّر (8).

ص: 426


1- « ز ، ك » : يكفي في هذه الجهة الحكم.
2- في هامش « ج » : تعارض الاستصحاب مع قاعدة البراءة الشرعية.
3- في هامش « م » : لا يخفى أنّ المتراءى من السيّد إنّما هو القول بذلك في قاعدة الطهارة لا في أصالة البراءة وإن كان مناط الأمر وملاكه فيهما متّحدا ، فتدبّر. « منه ». انظر ص 430.
4- « ز ، ك » : - قدّس ... الزكية.
5- من هنا إلى قوله : أمر أو نهي ، سقط من نسخة « ك ». وتقدّم الحديث في ج 3، ص 358.
6- « ج ، م » : المستفاد.
7- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : قد يخلو.
8- « ز ، ك » : - فتدبّر.

وثانيها : ما ذكرنا في وجه (1) التقديم على تقدير استنادها (2) إلى العقل ، والفرق بينه وبين الأوّل هو أنّ النهي الملحوظ في الأوّل هو غير النهي الاستصحابي. وفيه هو (3) بعينه.

وثالثها : و (4) هو التحقيق على ما أفاده (5) أستادنا المحقّق رفع اللّه بدره في سمائه (6) أنّ أخبار الاستصحاب حاكمة على أخبار البراءة فتكون (7) مقدّمة عليها.

وأمّا الثاني فلما مرّ الكلام فيه في الهداية السابقة بما (8) لا مزيد عليه.

وأمّا الأوّل فلما عرفت في بعض مباحث البراءة والاحتياط أنّ الحكم الوارد في موضوع الشكّ على قسمين : فتارة : يكون حكما للشكّ من غير أن يكون محتاجا في ترتيب الآثار إلى إحراز شيء كما في البراءة والاحتياط ، فإنّ مجرّد الشكّ يكفي في الحكم بترتيب آثار البراءة والاشتغال بحسب اختلاف مورديهما ، وتارة : يكون حكما للشكّ لكن بعد إحراز شيء آخر كما في الاستصحاب ، فإنّ ما يترتّب على المشكوك ليس من أحكام نفس الشكّ ، بل هو من أحكام الواقع المحرز في مقام الشكّ بالاستصحاب ، فالمنساق من أخبار البراءة هو الأخذ باحتمال عدم التكليف من حيث عدم العلم بالتكليف لا البناء على أنّ هذا الاحتمال هو الواقع ، فلا يستفاد منها جعل أحد (9) طرفي الاحتمال بمنزلة الواقع كما في أخبار الاحتياط أيضا ، فإنّ الأخذ بأطراف الشبهة فيما يحتمل الوجوب ليس باعتبار البناء على أنّ المحتمل منزّل منزلة الواقع ، بل بواسطة احتمال أنّه الواقع ، وكذا فيما يحتمل الحرمة ، فإنّ الفرق بين الإذعان بواقعية احتمال والأخذ به من حيث إنّه واقع وبين الأخذ بشيء باحتمال أنّه الواقع في منار من

ص: 427


1- « ج ، م » : توجيه.
2- « ج » : إسنادها.
3- « ز ، ك » : « ما مرّ » بدل : « هو ».
4- « ز ، ك » : - و.
5- « ز ، ك » : أفاد.
6- « ز ، ك » : - رفع ... سمائه.
7- في النسخ : فيكون.
8- « ز ، ك » : ممّا.
9- « ز ، ك » : أخذ.

الوضوح ، بخلاف أخبار الاستصحاب فإنّ مفادها هو عدم نقض اليقين السابق والإذعان ببقائه والقول بأنّ احتمال عدمه غير مطابق للواقع ، غاية ما في الباب أنّ واقعية الاحتمال جعلي صرف وتعبّدي محض ، ومن هنا ترى أنّ الاستصحاب لا يفيد شيئا وراء ما يفيده الواقع بمعنى أنّ حكم الشيء المشكوك المسبوق بالحالة السابقة هو حكمه عند العلم به من غير اختلاف بينهما ، ولنعم ما أفاده الأستاد في الكشف عن هذا المعنى من أنّ الاستصحاب على ما يعطيه التدبّر إنّما هو بمنزلة المتمّم لأدلّة الاجتهاد كالإجماع المركّب ، فإنّ الحكم في زمان اليقين مستند إلى الدليل الأوّل وفي زمان الشكّ مستند إلى الاستصحاب ، كما هو في الإجماع المركّب أيضا كذلك.

فعلى ما ذكرنا يظهر الوجه في تقديمه على البراءة فإنّه بمنزلة الأدلّة الاجتهادية بالنسبة إلى حكم الشكّ مع (1) القطع النظر عن البناء على أحد طرفي الاحتمال ، فكما عرفت الوجه في تقديم الأدلّة الاجتهادية على الأصول فكذلك تعرف تقديمه عليها من غير فرق بينهما من هذه الجهة ، وتوضيحه : أنّ دليل البراءة يحكم بعدم الحكم في الواقعة المشكوكة ، ودليل الاستصحاب يقضي بالبناء على الحالة السابقة وأخذها واقعا بجعل احتمال بقائها واقعا ، وحيث إنّه (2) لا معنى لجعل الاحتمال واقعا إلاّ بالتنزيل من جعل أحكامه (3) الشرعية في مورد الاحتمال ورفع أحكام الاحتمال في مورد ذلك الاحتمال المنزّل منزلة الواقع ، لا جرم كان مفاد أدلّة الاستصحاب ناظرا إلى أدلّة البراءة ، وهو معنى الحكومة ، فكما قد عرفت حكومة نفس الدليل بالنسبة إلى البراءة لكون دليله بمفاده اللفظي ناظرا إليها ، فكذا فيما (4) هو بمنزلة متمّماته كالإجماع المركّب ، فقوله : « لا تنقض » يكون بيانا للشكّ في مورد البراءة فإنّ المراد به هو في غير ما له حالة سابقة ثابتة بالدليل ، كما أنّ مفاد الدليل الدالّ على الأوّل هو بيان أنّ المراد

ص: 428


1- « ج » : فمع.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : أن.
3- « ز » : الأحكام.
4- « ز » : فكذا ما.

بالشكّ هو في غير موارد الدليل كما لا يخفى.

ومن هنا ينقدح الوجه في عدم ذهابنا إلى القول بالإجزاء فيما لو (1) انكشف الخلاف في الطرق الظاهرية ؛ إذ بعد ما فرضنا من أنّ المصلحة في جعل هذه الطرق لا تزيد (2) على مصلحة الواقع بل إنّما تكون (3) طرقا موصلة إليه ، لا يعقل (4) القول بالإجزاء ؛ ضرورة أنّ اللازم للقول بالإجزاء هو القول ببدليتها عن الواقع كما في التيمّم لا (5) القول بطريقيتها (6).

وكيف كان ، فالحقّ أنّ بعد وجود دليل (7) الاستصحاب لا يجري دليل البراءة ؛ لأنّ عدم العلم المأخوذ في موضوع البراءة على ما يفسّره أخبار الاستصحاب غير الشكّ الذي يكون مسبوقا بالحالة السابقة ، فتكون أخبار الاستصحاب حاكمة (8) على أخبار البراءة ، ولا ينافي ذلك حكومة الأدلّة الاجتهادية على الاستصحاب ؛ لأنّ العارف بصناعة الكلام له فهم هذا المقام فهو على وجه يحكم عليه الدليل ويكون حاكما على هذه الأصول ، والسّر في ذلك اختلاف مراتب الشكّ ، ففي موارد الأصول على ما قرّرنا مرارا لا مناص من اعتبار الشكّ فيها (9) إلاّ أنّه ربّما يكون عدم الشكّ (10) المعتبر في بعضها مأخوذا في موضوع الآخر فيكون حاكما على الآخر ، وربّما يكون أحدهما (11) في عرض الآخر فيتعارضان كما ستعرف.

وأمّا تعارض الاستصحاب مع الاحتياط ، فتقديم الاستصحاب عليه ممّا لا ينكر (12) ،

ص: 429


1- « ز » : « إذا » بدل : « لو » وسقطت من نسخة « ك ».
2- في النسخ : لا يزيد.
3- في النسخ : يكون.
4- « ز » : لا يقضي ، وسقطت من نسخة « ك ».
5- « ز ، ك » : « على » بدل : « لا ».
6- « ج ، م » : بطريقتها.
7- المثبت من « ز » وفي سائر النسخ : - دليل.
8- « ج ، م » : فيكون ... حاكما.
9- المثبت من « ز » ، ولم ترد كلمة « فيها » في سائر النسخ.
10- « ز » : الشكّ المأخوذ.
11- « ز » : « مأخوذا » بدل : « أحدهما ».
12- « ز » : لا يخفى.

والوجه التحقيقي فيه ما عرفت من الحكومة.

وأمّا تعارض الاستصحاب مع أصالة التخيير فيما إذا دار الأمر بين المتباينين ولم يكن للعمل بأحدهما مرجّح في البين ، فمن المعلوم تقديم الاستصحاب عليه ؛ لأنّ التخيير حكم عقلي صرف ومقدّماته لا تجري في موارد وجود الحالة السابقة ؛ لأنّ الأخذ بها مرجّح (1) بمقتضى قوله : « لا تنقض ».

وممّا ذكرنا يظهر وجه تقديم الاستصحاب على أصالة الطهارة المعمولة في الموضوعات والأحكام على بعض الوجوه أيضا ؛ لأنّ ما أفاده السيّد (2) في البراءة جار فيها من غير مناقشة على ما يظهر من سياق دليلها فلاحظها ، مضافا إلى جريان الوجه المطابق للتحقيق فيها أيضا.

هذا تمام الكلام في تقديم الاستصحاب ومعارضته مع الأصول الكلّية الدائرة في الأحكام الشرعية والموضوعات ، فتفطّن (3) فإنّ الوصول إلى حقيقة الأمر دونه خرط القتاد ، بل وأصعب منه ، واللّه الموفّق الهادي (4).

ص: 430


1- « ز ، ك » : لكون الأخذ بها مرجّحا.
2- في هامش « م » : قلت : بل السيّد ما أفاد الوجه إلاّ في المقام ، فتدبّر. « منه ».
3- « ز ، ك » : تفطّن.
4- « ز ، ك » : - واللّه ... الهادي.

هداية [ في تعارض الاستصحاب مع القرعة ]

في تحقيق الكلام فيما إذا تعارض الاستصحاب مع القرعة التي جعلها الشارع لكلّ أمر مجهول ، فإنّها أيضا من الأصول المعمولة في الموضوعات ولا كلام لأحد من المسلمين ولا المنتحلين إليه في أصل مشروعيتها ، ونقل الإجماع عليها متظافر ، والأخبار الواردة فيها على ما جمعها وانتظمها في سلك التحرير بعض أفاضل متأخّري (1) المتأخّرين (2) بالغة حدّ التواتر فإنّها تبلغ حدّ الأربعين ، بل ويزيد عليه خمسة ، ولم نعرف فيها مخالفا إلاّ من لا يعتدّ بخلافه ؛ لعدم اعتداده بمخالفة اللّه ومخالفة رسوله ، بل يمكن (3) استفادة أصل مشروعيتها من الكتاب العزيز من قوله عزّ من قائل (4) في حكاية يونس - على نبيّنا وعليه السلام (5) - : ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (6) وقوله جلّ اسمه (7) في حكاية مريم : ( إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (8) على تأمّل يظهر الوجه فيه من بعض الهدايات السابقة.

ص: 431


1- « ز » : متأخّر وسقطت من « ك ».
2- عوائد الأيّام : 460 - 651 وفي ط الحجري : 225 - 226.
3- « ك » : بل ويمكن.
4- « ز ، ك » : قوله تعالى.
5- « ز » : عليه السلام ، ولم ترد في « ك ».
6- الصافات : 141.
7- « ز ، ك » : قوله تعالى.
8- آل عمران : 44.

وبالجملة : فالأخبار كثرتها في ذلك ممّا تكفي (1) عن تجشّم تصحيح السند وتوضيح الدلالة ؛ إذ لا إجمال في مفادها بحسب المفردات الواقعة فيها ، ولا بحسب الهيئة الملتئمة من (2) ملاحظة بعضها إلى الآخر ، إلاّ أنّ الأخذ بعمومها حتّى في الأحكام ممّا لم يذهب إليه وهم ، ولو عمل بأمثال القرعة في الأحكام الشرعية لم يبق منها عين ولا أثر ويصير الفقه علما جديدا لا يشتمل عليه زبر الأوّلين ولا يوجد شيء منه في كتب الآخرين ، ولعلّك (3) بعد التأمّل في أخبارها تقدر على استخراج ذلك منها أيضا ، إلاّ أنّ الخطب فيه سهل (4) بعد الإجماع القطعي على التخصيص على تقدير العموم.

وأمّا الأخذ به في الموضوعات فلا إشكال فيه من جهة الدلالة اللفظية ؛ لما عرفت من وضوح الدلالة وسلامة السند ، إلاّ أنّ الواقع أنّ دلالتها موهونة في الموارد التي لم يظهر من الأصحاب التعويل عليه والاتّكال به كما في أمثاله من العمومات الموهونة كأخبار نفي الضرر والحرج ونحوهما ، فإنّه لا ينبغي الاجتراء على مثل هذه الأمور بعد إعراض العلماء الأخيار العارفين بمواقع الكلام والآخذين بمجامع الأخبار.

بل قد يتخيّل في وجه ذلك أنّ موارد القرعة لا يخلو إمّا أن يكون موارد الدليل ، أو لا ، وعلى التقديرين فلا مجال للقرعة فيها ، أمّا على الأوّل فواضح ؛ لارتفاع الاشتباه والتحيّر بواسطة الدليل ، وأمّا على الثاني فلأنّ الأصول العملية لمكان أخصّية أدلّتها بالنسبة إلى القرعة مقدّمة عليها ، إلاّ أنّ ذلك لا يتمّ في التخيير ؛ إذ لا دليل عليه سوى حكم العقل به بعد التحيّر ، وبعد إمكان الترجيح بالقرعة لا يحكم العقل به ؛ لانتفاء مقدّماته.

ولا يخفي أنّ هذا الوجه (5) لو تمّ فهو يجري (6) في الأحكام أيضا مع قطع النظر عن

ص: 432


1- « ز ، ك » : يكتفي.
2- « ز ، ك » : عن.
3- « ز ، ك » : فلعلّك.
4- « ز » : فيها يسهل.
5- « ج ، م » : الوجه هذا.
6- « ز ، ك » : « فيجري » بدل « فهو يجري ».

انعقاد الإجماع على التخصيص أيضا ، ومع ذلك فلا يتمّ في التخيير إلاّ بدعوى الإجماع ؛ لما ذكره المتخيّل من انتفاء مقدّماته ، وكيف كان فلا إشكال في خروج الأحكام مع قطع النظر عن هذا الوجه.

وأمّا الموضوعات فالإنصاف أنّ هذا الوجه لا يتمّ فيه أيضا ؛ لأنّ مبنى هذا الوجه على ملاحظة النسبة بين أخبار الأصول وأدلّة القرعة والأخذ بأحكام التعارض من تقديم (1) الخاصّ على العامّ ونحوه ، والذي يقتضيه التدبّر في أخبار القرعة من حيث اشتمال بعضها (2) على أنّ « من فوّض أمره إلى اللّه هداه اللّه إلى ما هو الأصلح بحاله » ونحوه ممّا يقرب مضمونه ؛ لما ذكرنا أنّ القرعة من الطرق الواقعية الموصلة إلى ما هو الثابت في نفس الأمر ، فإنّ من ألطاف اللّه على عباده إهداءهم إلى مثل هذا الطريق (3) الذي ينكشف الواقع به من اللّه ، فيكون مقدّما على الأصلين - البراءة والاحتياط - قطعا بحسب مفاد الأدلّة الدالّة على اعتبارهما ، فإن كان في المقام إجماع على تقديم الأصول على القرعة فهو ، وإلاّ فالقول بتقديم القرعة على ما وراء الاستصحاب في غاية القوّة نظرا إلى استفادة الطريقية من سياق (4) الأدلّة الواردة في اعتبارها.

وأمّا الاستصحاب فالأمر فيه في غاية الإشكال مع قطع النظر عن دعوى الإجماع على تقديمه عليها فيما لو حاولنا استفادة ذلك من الأدلّة ، فإنّك على ما عرفت يظهر من دليله طريقته بالنسبة إلى بعض الأصول كالبراءة والاحتياط والتخيير ، فيحتمل أيضا بالنسبة إلى القرعة أن يكون طريقا فيكون مقدّما عليها ، كما يحتمل العكس ، ويحتمل أيضا أن يكون أحدهما في عرض الآخر فلا يتحقّق حكومة بينهما ولا بدّ (5) من الأخذ

ص: 433


1- « ز ، ك » : تقدّم.
2- انظر وسائل الشيعة 27 : 257 ، باب 13 من أبواب كيفية الحكم ، ح 4 و 5 و 13.
3- « ك » : هذه الطرق ، وفي « ج » : هذا الطرق.
4- « ج ، م » : مساق.
5- « ز ، ك » : « ولا » بدل « ولا بدّ ».

بقواعد المعارضة ، فيقدّم عليه الاستصحاب لمكان الأخصّية.

ومنشأ الاحتمالات هو أنّ الجهل المعتبر في موضوع هذه الأصول قد يكون مأخوذا في أحدهما (1) بعد الشكّ المأخوذ في آخر ، كما في الشكّ المأخوذ في البراءة فإنّ الحقّ على ما مرّ إنّما هو تأخّره عن الشكّ المأخوذ في الاستصحاب ، ولذا قلنا بحكومة الاستصحاب عليها ، وقد يكون أحدهما في عرض الآخر ، كما في الشكّ في أخبار البناء على الأكثر في عدد الركعات مثلا ، فيعارضان فيحكم بالتخصيص أو يؤخذ بالخاصّ حكومة على اختلاف وجوه الكلام الوارد في عنوان الدليل ، فالشكّ المأخوذ في القرعة يحتمل أن يكون متعلّقا بالواقع والظاهر معا لكن بالنسبة إلى الاستصحاب فيقدّم عليها ، ويحتمل أن يكون الشكّ في مورد الاستصحاب كذلك فيقدّم القرعة عليه ، ويحتمل أن يكون المعتبر فيهما شكّ واحد واقعيا فقط أو ظاهريا أيضا ولازمه التكافؤ على ما عرفت.

هذا فيما لو حاولنا استفادة ذلك من الأدلّة وإلاّ فالأمر سهل ؛ إذ بعد ما فرضنا من كون القرعة طريقا فلا يجب الأخذ بها في الموضوعات ، لعدم وجوب الفحص في العمل بالأصول فيهما ، ولا يزيد شأن القرعة على البيّنة فكما أنّ مع إمكان إقامة البيّنة على إثبات موضوع يصحّ العمل بالاستصحاب ، بل وسائر الأصول ، فكذا مع إمكان استخراج الواقع بالقرعة يجوز العمل بالأصل ، بل الأمر كذلك مع إمكان تحصيل العلم القطعي أيضا.

لا يقال : إنّ المستفاد من أخبار القرعة هو وجوب إيجادها ولزوم الإقراع ، وبعد الوجود على ما اعترفت (2) لا بدّ من الأخذ بما استخرجه القرعة فالإشكال باق بحاله.

لأنّا نقول : قد يناقش في استفادة وجوب الإقراع من الأدلّة ، بل لا يزيد حالها على البيّنة كما عرفت ، ومعنى اعتبارها أنّها لو أقيمت فهي معتبرة ، وفي المقام أمر آخر

ص: 434


1- « ج ، م » : أحدها.
2- « ز ، ك » : عرفت.

وهو أنّ الاستصحاب في الموارد الجزئية الفرعية لو سلّم عدم العلم بتقدّمه على القرعة فالاستصحاب في المسألة الأصولية بحاله ؛ إذ يرجع (1) الكلام إلى أنّ المرجع هو القرعة (2) وعدم الأخذ بأحكام الشكّ ، أو يجب الحكم بما يقضي (3) به الاستصحاب ، والأصل يقضي بالثاني.

وقد يتخيّل في المقام : أنّ أخبار القرعة لمكان عمومها لأنواع (4) الشكّ المعتبر (5) في موارد الأصول أعمّ من أخبار الاستصحاب ، وهي بواسطة شمولها للأحكام والموضوعات أعمّ من أخبار القرعة ، فيتعارضان في مورد الاجتماع فلا وجه لتقديم الاستصحاب على القرعة. إلاّ أنّك بعد ما تعلم من أنّ النسبة بين الأدلّة إنّما تلاحظ (6) قبل خروج فرد من أحد المنتسبين لا بعده - إذ المدار على إرادة الخاصّ من العامّ ولا فرق في ذلك بين الفردين كما لا يخفى - لا حاجة إلى تضعيف هذا الخيال وتزييف هذا الاحتمال (7) فإنّه بمكان من الوضوح.

وقد يتخيّل أيضا - في تقديم الأصول على القرعة - : أنّ المتبادر من الاشتباه والجهل هو الاشتباه في جميع المراتب ، فمورد القرعة فيما إذا لم يكن في المقام شائبة من الدليل ولو كان أصلا. إلاّ أنّه مجرّد دعوى لا شاهد عليها.

وقد يقال في ذلك أيضا : إنّ الاستصحاب وكذا سائر الأصول مقدّم على القرعة طبعا ؛ إذ لا معنى للاستصحاب إلاّ الحالة السابقة والشكّ في ارتفاعها ، وبعد تحقّق مورده فلا بدّ من ترتيب (8) آثاره عليه ، فلا يبقى للقرعة موضوع ولا مورد.

ص: 435


1- « ج ، م » : مرجع.
2- « ز ، ك » : الفرعية؟
3- « ج » : يقتضي ، وكذا في المورد الآتي.
4- « ج ، م » : أنواع.
5- « ز ، ك » : - المعتبر.
6- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يلاحظ.
7- « ز ، ك » : - وتزييف هذا الاحتمال.
8- « ز ، ك » : ترتّب.

قلت : ولعلّ (1) ذلك موقوف على عدم استفادة الطريقية من أخبار القرعة ، وإلاّ فهو في الأدلّة الاجتهادية كالبيّنة أيضا كذلك ، فتدبّر.

تنبيه

اعلم (2) أنّ موارد القرعة على قسمين : قسم له واقع غير معلوم عندنا كما في قطيعة الغنم الموطوءة واحدة منها ، والآخر ما ليس له واقع كأكثر موارد القرعة التي قالوا بالقرعة فيها اتّفاقا ، كما إذا وقع التشاحّ بين الزوجات في المضاجعة فيمن قدم (3) من سفره أو من (4) عقد عليهنّ دفعة واحدة - مثلا - [ و ] كما إذا تنازع المتعلّمان في تقديم أحدهما على الآخر في التعليم ، وكما إذا وردا في مكان من المسجد أو من مباح الأصل للحيازة مثلا ، أو إذا تشاجر الإمامان في الجماعة في المسجد ، وأمثال ذلك ممّا يقرب من عشرين موردا على ما عدّها بعض الأكارم.

فبملاحظة هذين القسمين ينقدح لك القول بأنّ تشريع القرعة إنّما هو بواسطة الوصول إلى المصالح الجزئية التي لا تكاد تنضبط ؛ لعدم اجتماعها في عنوان كلّي وأمر جامع لجميعها المكنونة في خصوص الموارد الجزئية والموضوعات الشخصية (5) ، فإنّ المصالح الكلّية المنضبطة المندرجة تحت قاعدة كلّية إنّما بيّنها (6) الحكيم الخبير (7) في ضمن أصول كلّية ، وحيث إنّه كان بعد ذلك مصالح جزئية لم يكن يصل إليها المكلّفون إلاّ بجعل طريق للوصول إليها ، شرّع لنا ما به نهتدي إليها أيضا كالقرعة في الموارد المذكورة التي لا واقع (8) لها ، ومنه (9) الاستخارة في مقام الحيرة ، كذا أفيد.

ص: 436


1- « ز ، ك » : وبعد.
2- « ج ، م » : - اعلم.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : أقدم.
4- « ز ، ك » : - من.
5- « ز ، ك » : الخفية.
6- « ك » : نبّهنا.
7- « ج ، م » : اللطيف.
8- « ز ، ك » : وقع.
9- « ز ، ك » : منها.

قلت : ولعلّ اختصاص الإجماع بالعمل بها في الموارد التي لا واقع (1) لها يكشف عن فهم المجمعين من لفظ الاشتباه والجهل الذي لا يشوبه غيره ظاهرا وواقعا ، فيسهّل الخطب في تقديم الاستصحاب عليه ، إلاّ أنّ دعوى ذلك في الأخبار مكابرة بعد ورود رواية قطيعة الغنم فيما له واقع ، فتدبّر (2).

ص: 437


1- « ز ، ك » : وقع.
2- « ز ، ك » : - فتدبّر.

ص: 438

هداية [ في تعارض الاستصحاب مع اليد ]

في بيان الحال في تعارض الاستصحاب مع اليد وليعلم أوّلا : أنّ (1) اليد تارة : تكون (2) مثبتة للملك كما في الحيازة ، وأخرى : تكون (3) كاشفة عنه ، لا كلام في الأولى (4) منهما ، وأمّا الثانية فلا إشكال في كونها من أمارات الملك وعلامات الاختصاص عرفا ، وأمّا شرعا فلا ينبغي الارتياب في كاشفية اليد عن الملك في الجملة ، بل ونقل الإجماع - على ما قيل - عليها متضافر (5) ، ويكشف عن ذلك (6) حكمهم بتقديم قول ذي اليد على غيره في موارد الخصومات ومظانّ المرافعات ونحو ذلك ، والأخبار في ذلك أيضا كثيرة ، وإلاّ لم يقم للمسلمين سوق.

وليس المقام ممّا ينبغي فيه تحقيق الكلام فيهما وإنّما الشأن في كيفية تعارضها مع الاستصحاب ، فنقول : لا شكّ أنّ الوجه في حجّية اليد إنّما هو باعتبار ظهورها في الملكية فإنّ التعيين الموجود (7) في اليد يحتمل وجوها (8) : كأن تكون (9) مغصوبة أو عارية

ص: 439


1- « ج ، م » : أنّه انّ.
2- « ج ، م » : يكون.
3- « ج ، م » : يكون.
4- « ز ، ك » : الأوّل.
5- « ز ، ك » : متضافرة.
6- « ز ، ك » : عنه.
7- « ز ، ك » : تعيين موجود.
8- « ز ، ك » : وجودها.
9- « ج ، م » : يكون.

أو مستأجرة أو مرهونة أو مملوكة ونحو ذلك من الوجوه المحتملة لها إلاّ أنّ الغالب في غالب أفراد (1) النوع هو الملكية ، وهذا الظهور المستفاد من هذه الغلبة قد اعتبره الشارع ، فاليد المردّدة بين هذه الوجوه المختلفة الظاهرة في الملكية قد جعلها الشارع أمارة للملك بإلغاء احتمال الخلاف وعدم لزوم ترتيب (2) آثار الاحتمال عند الشكّ.

فلا جرم لا بدّ من تقديم اليد على الاستصحاب ، فهي (3) حاكمة على الاستصحاب على نحو حكومة سائر الأدلّة الاجتهادية عليه ، ولا ينافي ذلك ورود البيّنة التي هي أيضا من الأدلّة الاجتهادية والأمارات الواقعية على اليد ؛ لما قد عرفت أنّ اليد المردّدة بين الوجوه المحتملة الظاهرة في واحد منها جعلها الشارع أمارة للملك ، والبيّنة إذا أقيمت فإنّما تدلّ على تعيين واحد من تلك الوجوه ، فتكون (4) حاكمة عليها ، فإنّ مراتب الشكّ متفاوتة ، فربّما يعتبر موضوعا لحكم (5) بعد فرض انتفاء العلم وحصول الشكّ في جميع المراتب ، وربّما يختلف ذلك بحسب ما يقتضيه الدليل ، وذلك نظير (6) ما قرع الأسماع مرارا من لزوم حمل اللفظ على معناه الحقيقي عند دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز لظهوره فيها ، ولا ينافي ذلك الظهور قيام دليل على اعتبار المعنى المجازي في مورد.

وكيف كان ، فالحقّ الحقيق بالتصديق هو حكومة اليد على الاستصحاب ، سواء قلنا به تعبّدا أو ظنّا ، أمّا على الأوّل فظاهر ممّا بيّنّا لك آنفا ، وأمّا على الثاني فقد يتراءى في بعض الأنظار الجليّة تساويهما ؛ لابتنائهما على الظهور والظنّ ، ولا بدّ من الأخذ بالمعالجات المعمولة بين أمثالهما من تقديم الظنّ الشخصي على النوعي مثلا ، والحكم بالمرجّحات عند تساويهما بذهاب الظنّ منهما ، إلاّ أنّه لا وجه لذلك عند

ص: 440


1- « ز » : فرد ، وسقطت من « ك ».
2- « ز ، ك » : ترتّب.
3- « ز ، ك » : فهل هي.
4- « ج ، م » : فيكون.
5- « ز ، ك » : تعتبر موضوعا يحكم.
6- « ز ، ك » : ونظيره.

الأنظار الدقيقة ؛ لأنّ الوجه في ظهور الاستصحاب ليس على ما قيل إلاّ غلبة بقاء الموجودات الممكنات ، ولا ريب في أنّ هذه الغلبة غلبة جنسية لا تكاد تقابل (1) الغلبة الصنفية ، فإنّ الأغلب فيما يوجد في أيدي الناس في معاملاتهم وتقلّباتهم له المحتملة بين وجوه السلطنة وضروب الاستيلاء من الملكية والإجارة والوكالة والوديعة والعارية والعداوة المردّدة بينها أن يكون على وجه الملكية ، فالظنّ حاصل بانتقاض الحالة السابقة التي هي (2) المناط في الاستصحاب.

ولو لا تقديم اليد على الاستصحاب لم يقم للمسلمين سوق ؛ إذ الأغلب سبق الأعيان الموجودة في الأيدي بالحالة السابقة المنافية (3) لمقتضى اليد ، ولا فرق في ذلك بين قيام البيّنة على الحالة السابقة أو علمنا بخلاف مقتضى اليد ؛ لعدم التنافي (4) بين مفاديهما ، فإنّ قضيّة البيّنة هي ملكية العين قبل اليد لغير صاحب اليد ، وقضيّة اليد هي الملكية حالة الاستيلاء ، ولا منافاة بينهما ؛ لإمكان الجمع بينهما ، إذ لا يعقل أن تكون (5) الأمارة المنزّلة منزلة العلم أعلى شأنا من نفس العلم.

نعم ، لو أقرّ ذو اليد على أنّ الموجود في يده كان ملكا لغيره قبل حدوث يده لم يحكم بمقتضى اليد لا لأجل تقديم (6) الاستصحاب على اليد - كما زعمه بعض مشايخنا المعاصرين على ما يظهر من كلامه في بعض فروع المسألة من قوله : من أنّ المتيقّن من أدلّة اليد هو فيما إذا لم يعارضها الاستصحاب فإنّ ذلك بمكان من البعد - بل من حيث إنّ الإقرار منضمّا إلى اليد دليل على دعوى انتقال الملك من المقرّ له إليه ، فعليه إقامة ما يثبت به الدعوى من بيّنة ونحوها ، وبذلك يظهر الفرق بين الإقرار والبيّنة ، فإنّ الإقرار من حيث إنّه فعله يدلّ بالالتزام على انتقاله منه إليه ، دون البيّنة فإنّه لا دلالة

ص: 441


1- « ز ، ك » : لا يكاد يقاوم.
2- « ج ، م » : هو.
3- « ز ، ك » : النافية.
4- « م ، ك » : المنافي.
5- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يكون.
6- « ز ، ك » : تقدّم.

فيها على ذلك كما في صورة العلم ، فلو لم نقل باعتبار الاستصحاب كان الوجه (1) هو ما ذكرنا أيضا وذلك ظاهر.

وفي المقام إشكال آخر وهو أنّهم شكر اللّه مساعيهم (2) لم يفرّقوا في موارد اليد والحكم بتقديمها على الاستصحاب بين ما هو موجود في الأيدي بحسب الظاهر المتعارف من الاستيلاء والسلطنة ، كاستيلاء الرجل على ملبوسه ومأكوله وداره وما يتقلّب به فيها من أثاث وفراش (3) وغير ذلك من العقار والمنقول من خيل وأنعام ونحوها ، وبين ما ليس في اليد بحسب ما هو المتعارف فيها ، كالكنز المدفون في الدار المنقولة إلى الغير بسبب من الأسباب الشرعية ، وكالجوهرة المكنونة في جوف الدابّة والسمكة ، فإنّ اليد على الكنز وتلك الجوهرة إنّما هو بواسطة السلطنة على الدار والدابّة وليس للمالك (4) عليها سلطنة ابتداء كما في غيرها ، فحكموا بتقديم اليد على الاستصحاب في أمثال المقام كما يظهر من حكمهم بوجوب تعريف المال المذكور للمالك المنتقل منه الملك إليه لو كان حيّا ولوارثه لو كان ميّتا مع عدم نهوض المناط في التقديم في هذا القسم ؛ لعدم ظهور في ذلك لا شخصا ولا نوعا.

اللّهمّ إلاّ أنّ يقال : إنّ حكمة التشريع في اليد هي استفادة الظهور منها بكون (5) ما في اليد ملكا لذيها ولا يجب الاطّراد في ذلك ، إلاّ أنّ هذا مجرّد ادّعاء لم يقم عليه دليل ولا وفت به بيّنة ، ولذلك لا يكون المقام خاليا عن الإشكال كما تشعر (6) به عبارة المدارك (7) وإن عاتبه بعض من تأخّر عنه (8) في ذلك بما ليس في محلّه.

ص: 442


1- « ز » : كما انّ الوجه.
2- « ز ، ك » : - شكر اللّه مساعيهم.
3- « ز ، ك » : من أساس ومتاع وفراش.
4- « ز ، ك » : ممالك.
5- « ك ، م » : يكون.
6- « ز ، ك » : يشعر.
7- المدارك 5 : 372.
8- غنائم الأيّام 4 : 300 ، انظر كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : 143 - 144.

نعم ، هناك أخبار يدلّ على وجوب التعريف في بعضها صراحة كما في رواية الصرّة (1) الموجودة في جوف الأضحية يوم النحر ، وعناية في غيرها بدعوى اتّحاد المناط ونحوه ، واللّه الموفّق وهو (2) الهادي.

ص: 443


1- وسائل الشيعة 25 : 452 ، باب 9 من كتاب اللقطة ، ح 1 و 2.
2- « ز ، ك » : - الموفّق وهو.

ص: 444

هداية [ في تعارض الاستصحاب مع قاعدة التجاوز ]

اشارة

في بيان الحال في تعارض الاستصحاب مع الأصل المدلول عليه بجملة من الأخبار المعتبرة الآتية إن شاء اللّه المعبّر (1) عنه بأصالة وقوع الفعل عند الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، وتحقيق الكلام فيه في مقامين :

المقام الأوّل

في أصل مشروعية الأصل المذكور ، فنقول : إنّما يدلّ على الأصل المذكور بعد منقول الإجماع على ما نقله الأستاد دام عزّه المستفيضة (2) من الأخبار :

أحدها : الموثّق : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » (3).

وثانيها : الخبر المنقول عن الصادق عليه السلام : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فليس شكّك بشيء » (4).

وثالثها : قوله عليه السلام أيضا : « كلّ شيء [ شكّ فيه ممّا ] قد جاوزه ودخل في غيره فليمض

ص: 445


1- « ز ، ك » : المعبّرة.
2- « ز ، ك » : - المستفيضة.
3- وسائل الشيعة 1 : 470 ، باب 42 من أبواب الوضوء ، ح 2.
4- سيكرّره في الحديث السابع فلاحظ تخريجه هناك.

عليه » (1).

ورابعها : صحيحة زرارة ففيها : « فإذا قمت من الوضوء وقد فرغت عنه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشكّك في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك [ فيه وضوءه ] لا شيء عليك فيه » (2).

وخامسها : رواية محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام : رجل شكّ في الوضوء بعد ما فرغ عن الصلاة؟ قال عليه السلام : « مضى على صلاته ولا يعيد » (3).

وسادسها : مضمرة بكير بن أعين قال : قلت له الرجل يشكّ بعد ما توضّأ (4)؟ قال :

« هو حين ما يتوضّأ (5) أذكر منه حين يشكّ » (6).

وسابعها : صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام : رجل شكّ في التكبير وقد قرء؟ قال عليه السلام : « يمضي » قلت : رجل شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال عليه السلام : « يمضي » ثمّ قال عليه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء » (7).

وثامنها : الصحيح المشتمل على قوله عليه السلام : « وإن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (8).

وتاسعها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد

ص: 446


1- سيكرّره في الحديث الثامن فلاحظ تخريجه هناك.
2- وسائل الشيعة 1 : 469 ، باب 42 من أبواب الوضوء ، ح 1.
3- وسائل الشيعة 1 : 470 ، باب 42 من أبواب الوضوء ، ح 5 ، وفيه : « يمضي ».
4- في المصدر : يتوضّأ.
5- في المصدر : حين يتوضّأ.
6- وسائل الشيعة 1 : 471 ، باب 42 من أبواب الوضوء ، ح 7.
7- وسائل الشيعة 8 : 237 ، باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 1.
8- وسائل الشيعة 6 : 318 ، باب 13 من أبواب الركوع ، ح 4 ، و 369 ، باب 15 من أبواب السجود ، ح 4.

مضى فامضه كما هو » (1).

وعاشرها : ما رواه في الوسائل عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام ، قال : سألته عن رجل ركع وسجد ولم يدر هل كبّر أو قال شيئا في ركوعه وسجوده؟ هل يعتدّ بتلك الركعة والسجدة؟ قال عليه السلام : « إذا شكّ فليمض في صلاته » (2).

فتلك عشرة كاملة إلى غيرها من الأخبار الواردة في هذا المضمار ، ولا كلام في استفادة ما ذكر (3) منها ؛ لظهورها فيه ، وكثرة الأخبار والاعتبار عند الأصحاب تغنينا عن تجشّم تصحيح أسانيدها ، فلا يعتدّ بما قيل من ضعف في بعض رواتها (4) أو إضمار في بعضها أو إرسال في آخر.

إنّما الكلام في أنّ هذه القاعدة هل بعمومها شاملة لما إذا شكّ في الشيء وجودا و (5) صفة ، أو يختصّ بالوجود فقط وليست شاملة لما إذا شكّ في اعتبار كيفية زائدة على نفس الوجود في الشيء؟ فلو شكّ في نفس الوضوء ووجوده ، فلا إشكال في أنّ الأصل وقوعه بعد تجاوز محلّه على ما ستقف على تفاصيله. وأمّا لو شكّ في الوضوء لا في وجوده ، بل فيه بمعنى تعلّق الشكّ بما هو معتبر فيه من جزء أو شرط ونحوه ، فعلى الأوّل تدخل في القاعدة الشريفة المزبورة ، وعلى الثاني لا تدخل إلاّ أن يلاحظ ذلك الجزء بنفسه من غير تعلّق له بشيء آخر ، فيكون من موارد القاعدة الشريفة (6).

فيه إشكال ، وتوضيح الكلام وتحقيق المقام هو أن يقال : إنّ هناك قاعدتين : إحداهما : أصالة وقوع الفعل عند الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، والأخرى : أصالة حمل

ص: 447


1- وسائل الشيعة 8 : 238 ، باب 23 من أبواب الخلل في الصلاة ، ح 3.
2- وسائل الشيعة 8 : 239 ، باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 9 ؛ قرب الإسناد : 198، ح 755، وفي ط الحجري : 91.
3- « ز ، ك » : ذكرنا.
4- في هامش « م » : فإنّه قد يناقش في وثاقة بكير.
5- « ك » : أو.
6- « ز ، ك » : المذكورة.

فعل المسلم على الصحّة وستعرف تفصيل الكلام في الأخيرة - إن شاء اللّه - في محلّها (1) ، ولا إشكال في شمول تلك القاعدة للموارد التي يشكّ فيها في غير الوجود على تقدير التسرية من فعل الغير إلى فعل النفس كما ستطّلع عليها ، وإنّما الإشكال في شمول القاعدة التي نحن بصددها لهذه الموارد ، ووجه الإشكال أنّ الظرفية المستفادة من كلمة « في » في قوله : « فيه » في الأخبار المذكورة تارة : يراد بها الظرفية المتداولة عندهم في قولهم : « شكّ في شيء » يعني شكّ في أصل وجوده وعدمه ، فكلمة « في » صلة مبيّنة (2) لما وقع في (3) محلّ الشكّ ولما هو مشكوك ، كما في اللام الداخلة على المراد المبيّنة (4) لأنّ ما دخلته هو المراد. وتارة (5) : يراد بها الظرفية التي ليست من هذا القبيل ، فالشكّ (6) في شيء معناه الشكّ في أثنائه لا في نفسه ووجوده.

ولا ريب أنّ المعنيين مختلفان (7) ولا جامع بينهما ، فإن أريد من قوله : « فيه » المعنى الأوّل كما هو الظاهر من قولهم : « شكّ فيه » فلا ريب في عدم اشتمال القاعدة المزبورة لهذه الموارد إلاّ أن يرجع الشكّ إلى نفس ذلك الشيء الذي شكّ باعتباره في أثناء المشكوك فيه كما عرفت وإن كانت هذه الموارد مشمولة لقاعدة حمل الفعل على الصحّة على تقدير التسرية.

وإن أريد من قوله : « فيه » المعنى الثاني فيلزم خروج الموارد التي شكّ في نفس العمل وإن شملت الموارد التي حصل في العمل شكّ مع بعده عن مساق الرواية ، مضافا إلى لزوم تخصيص مورد الخبر ، فإنّ الشكّ في أجزاء الوضوء حين الاشتغال به ممّا يعتدّ به ولا بدّ من الأخذ بأصالة العدم فيها.

ص: 448


1- وهو في الهداية الآتية.
2- « ك » : مبنيّة ( ظ ) وفي « ج » : مثبتة.
3- « ج ، م » : - في.
4- « ك » : المبنية ( ظ ) وفي « ج » : المثبتة ( ظ ).
5- في النسخ : فتارة.
6- « ج » : فانّ الشكّ.
7- « ج » مختلفين.

وإن أريد من قوله : « فيه » كلاهما يلزم إرادة المعنيين من لفظ واحد مع ما قرّر في (1) محلّه من شناعة (2) مثله ، اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك بذيل ما يجمع بين المعنيين من القدر المشترك وهو بعيد في الغاية.

فالأولى إرجاع الشكوك الأثنائية إلى الشكوك الوجودية بملاحظة وجود نفس الجزء أو الشرط وإيجاد الكيفية التي باعتبارها حصل الشكّ في العمل المشتمل عليها كما لا يخفى.

المقام الثاني

في تعارض الاستصحاب مع هذه القاعدة ، فنقول : الحقّ حكومة هذه القاعدة على الاستصحاب أيضا ؛ لمكان تعرّض أخبارها لفظا لأخبار الاستصحاب على ما عرفت في غيرها من الموارد ، وإن أبيت عن ذلك فلا إشكال في تقدّمها على الاستصحاب ؛ لمكان أخصّية هذه الأخبار عن أخبار الاستصحاب ، كما في أخبار البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد الركعات ، على أنّ الإمام عليه السلام إنّما قدّم تلك القاعدة في مواردها على الاستصحاب ، ولو لم يكن هذه القاعدة مقدّمة عليه لم يتحقّق لها مورد أصلا ؛ لاستحالة انفكاكه عنها في شيء من مواردها ، وذلك أمر ظاهر لا سترة عليه.

وينبغي التنبيه على أمور :
[ لتنبيه ] الأوّل

هل المستفاد من هذه الأخبار هو الحكم بوجود المشكوك فيه ليترتّب مطلقا (3) عليه جميع ما يترتّب على وجوده واقعا من الآثار الشرعية كما في الاستصحاب

ص: 449


1- « ج ، ز » ونسخة بدل في « م » : من.
2- « ك » : امتناع.
3- « ز ، ك » : - مطلقا.

الوجودي ، أو وقوعه من الحيثية التي وقع الشكّ باعتبارها فقط لا الحكم بوجوده مطلقا فلا يترتّب عليه إلاّ الآثار الشرعية التي تلحق المشكوك بالحيثية (1) التي يصدق باعتبارها التجاوز عن محلّ المشكوك؟ وجهان ، بل يمكن أن يقال قولان :

يظهر من فيلسوف القوم الشيخ الجليل كاشف الغطاء في مقدّمات الكشف (2) القول بالوجود.

والحقّ على ما يقتضيه القواعد الراجعة إلى استفادة الأحكام من الأدلّة هو الثاني على ما أفاده الأستاد أنار اللّه برهانه (3).

ويظهر الثمرة في ترتيب غير الآثار المترتّبة على تلك الحيثية من الأحكام اللاحقة لمطلق الوجود ، كما إذا شكّ في الوضوء بعد الفراغ من الظهر ، فعلى الأوّل يصحّ الدخول في العصر لوجود الطهارة الشرعية التي يجوز معها الدخول في جميع ما هو مشروط بها شرعا ، وعلى الثاني يجب الاقتصار بالظهر فقط ولا يجوز الاكتفاء به لصلاة العصر ؛ لأنّ الوضوء إنّما تجاوز محلّه بالنسبة إلى الظهر فقط دون العصر ، فلا بدّ من تحصيل الطهارة للعصر شرعا.

وتحقيق المقام يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي أنّه لا يكاد يخفى على أحد أنّ الحكم بوجود الشيء المشكوك مع العلم بكونه مشكوكا ممّا لا يعقل ، فلا بدّ من تنزيل الكلام الدالّ على ذلك على وجه لا ينافي حكم العقل بفساد ذلك كما في غيره من المواضع التي لا بدّ صرف الكلام الوارد فيها إلى خلاف ما يظهر منه صونا لكلام الحكيم عن (4) أمثال هذه (5) المحاذير على ما عرفت في جملة من التنزيلات الشرعية وتعبّديات الشارع

ص: 450


1- « ز ، ك » : فالحيثية.
2- انظر كشف الغطاء 1 : 201 وفي ط الحجري : 35 في البحث السادس والثلاثين.
3- « ز ، ك » : - أنار اللّه برهانه.
4- « ج ، م » : من.
5- « ج ، م » : - هذه.

كما في الاستصحاب أيضا كذلك ، ولا يخفى أيضا أنّ بعد ما بنينا على صرف الكلام عن ظاهره بارتكاب تقدير (1) فيه من قبيل الدلالة الاقتضائية ، فذلك ليس أمرا منضبطا كأن يكون على طور واحد وطرز فارد لا يمكن التخلّص عنه ، بل إنّما هو على حسب ما يظهر للمنزّل من مصالح التنزيل ومفاسده ، فربّما يحكم بوجود شيء مشكوك تنزيلا له منزلة الموجود على وجه الإطلاق لمصلحة دعته إلى التنزيل المذكور على الوجه المذكور ، وربّما يحكم بوجود شيء لا على وجه الإطلاق ، بل يحكم بوجوده معنونا بعنوان خاصّ ، فعلى الأوّل يجوز ترتيب آثار ذلك الشيء عليه حال الشكّ على وجه الإطلاق ، وعلى الثاني لا بدّ من الاقتصار على الأحكام الشرعية المترتّبة على ذلك العنوان فقط.

ومن (2) ذلك يجيء التفكيك بين اللوازم والملزومات العقلية ، بل الشرعية أيضا ، كما فيما لو أقرّ واحد بأبوّته لزيد وأنكرها زيد ، فإنّه يحكم بلوازم الأبوّة للمقرّ ولا يجب أن يقيم زيد بلوازم البنوّة ، فيعطى ميراث الأب ولا يؤخذ من (3) ورثته (4) ميراثه ، وأمثال هذه التفكيكات (5) في الشريعة غير عزيز ، وإنّما المائز بين القسمين الرجوع إلى عنوان الدليل ، فإن استفدنا منه الحكم بوجود الشيء مطلقا كما في الاستصحاب فما يترتّب عليه هي (6) الأحكام الشرعية المترتّبة على ذلك بجميع عناوينه ، وإن استفدنا منه حكمه (7) بوجوده بعنوان خاصّ فلا يجوز التعدّي إلى حكم ذلك الشيء بغير العنوان الذي باعتباره حكم بوجوده ، بل لا بدّ من الاقتصار عليه ؛ لعدم ما يقضي (8) بذلك من دليل عقلي أو نقلي ، والأصل يقضي (9) بعدمه.

ص: 451


1- « ز ، ك » : تقييد.
2- المثبت من « م » وفي النسخ : فمن.
3- « ج » : « قسم » بدل : « من ».
4- « ج ، م » : ورثه.
5- « ج ، م » : أمثال التكليفات.
6- « ج ، م » : هو.
7- « ز ، ك » : حكمه منه.
8- « ج » : يقتضي ، « ز ، ك » : يفضي.
9- « ج » : يقتضي.

وإذ قد تمهّد هذا (1) فنقول : إنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2) إنّما هو تنزيل للمشكوك فيه منزلة الموجود لكن على عنوان مخصوص (3) باعتبار قيد المجاوزة عن المحلّ.

نعم ، لو كان الحكم بوجود الشيء المشكوك من غير أن يكون مقيّدا بهذا القيد كان الحكم بوجوده مطلقا على إطلاقه في محلّه ؛ لعدم ما ينافي ذلك بعد وجود ما يقضي (4) به ، وأمّا بعد التقييد (5) فلا ، فالوضوء إنّما هو شيء قد شكّ فيه ، ولكن باعتبار أنّه معنون بعنوان الوجوب (6) الغيري لصلاة الظهر قد جاوز محلّه ؛ لأنّ محلّ الشرط (7) هو مقارنته مع المشروط والمفروض انقضاء المشروط ، ولكن باعتبار أنّه مقدّمة للعصر ممّا لم يتجاوز محلّه ، نعم لو بنينا على المحلّ العرفي ففيما لو شكّ قبل الشروع في الصلاة مطلقا في الوضوء ، فيحكم بوجوده ويصحّ معه الدخول في الصلاتين ؛ لإحراز القيد الأخير في المشكوك المحكوم بالوجود شرعا.

لا يقال : إنّ الوضوء الواحد حقيقة يكفي عن جملة من الصلوات ، وبعد ما فرضنا من أنّ صلاة الظهر إنّما وقعت على طهارة ووضوء فلا بدّ من الحكم بجواز الدخول في العصر أيضا ، وإلاّ فيلزم أن لا يكون الظهر واقعا على طهارة وقد قال الشارع : « لا صلاة إلاّ بطهور » (8) وبالجملة : فالطهارة أمر مقدّمي ويكفي في وجود المقدّمة وترتيب ذويها (9) عليها ترتيب واحد منها والمفروض تحقّقه بالنسبة إلى صلاة الظهر التي هي

ص: 452


1- « ج ، م » : هذه.
2- تقدّم في ص 446.
3- « ز ، ك » : مخصّص.
4- « ج » : يقتضي ، « ز » : يفضي.
5- « ز » : التقيّد.
6- « ج » : وجوب.
7- « ج » : الشروط.
8- وسائل الشيعة 1 : 315 ، باب 9 من أبواب أحكام الخلوة ، ح 1 ، و 365 - 366 ، باب 1 من أبواب الوضوء ، ح 1 ، و 369 ، باب 2 من أبواب الوضوء ، ح 3 ، و 372 ، باب 4 من أبواب الوضوء ، ح 1 ، وج 2 : 203 ، باب 14 من أبواب الجنابة ، ح 2. وتقدّم في ص 165.
9- « ز ، ك » : ذيها.

واحدة منها.

لأنّا نقول : حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، فإنّ وجود المقدّمة حقيقة وواقعا يكفي في ترتيب ذويها (1) عليها من غير إعادة (2) لها وتكرار فيها (3) ، وأمّا وجودها التنزيلي فلا بدّ من الاقتصار على قدر التنزيل شرعا ، وأمّا حديث الطهور (4) فواه جدّا ؛ لكونه طهارة شرعية على حسب التنزيل كما في الاستصحاب ، فهذه القاعدة أيضا محكّمة على قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » على نحو تحكيم الاستصحاب عليه إلاّ أنّه لا بدّ من مراعاة مقدار التنزيل في كلّ واحد منهما.

وما ذكرنا من مراعاة العنوان المنزّل ومقدار التنزيل ليس بذلك البعيد ، فإنّ كثيرا ما يوجد أمثاله (5) في الأحكام الشرعية ، فإنّ للشيء قد يكون وجوها مختلفة وعناوين متعدّدة يستتبع كلّ واحد منها أحكاما متفاوتة كما عرفت في الوضوء ، وكذلك في الغسل فإنّه من حيث إنّه حركة وسكون له أحكام ومن حيث إنّه تصرّف في مال الغير له أحكام أخر ، فلو شكّ في الغسل بعد التجاوز عن محلّه يحكم بوجوده من حيث إنّه شرط شيء (6) لا يجوز الدخول فيه بدونه مثلا ، ولا يثبت بذلك جميع عناوينه ، فلا يجب على الشاكّ في الغسل بعد البناء على وجوده دفع الأجرة إلى صاحب الحمّام مثلا ، وذلك أمر ظاهر بعد ظهور تعقّل التفكيك بين الأمور المتضايفة في الشريعة والعناوين المتلازمة كما في الأقارير والدعاوي ونحوها ممّا لا حدّ له ولا حصر (7) فيه ، وبعد دلالة الدليل على الوجه المذكور فإنّ قضيّة القواعد المعمولة في استخراج المطالب من الألفاظ الواردة في بيانها هو الأخذ بجميع ما يظهر من القيود في

ص: 453


1- « ز ، ك » : ذيها.
2- « ز ، ك » : إفادة.
3- « ز ، ك » : منها.
4- « ز ، ك » : الظهر.
5- « ز ، ك » : مثاله.
6- « ز ، ك » : - شيء.
7- « ز ، ك » : لا ينحصر.

الدليل عند استفادة المطلوب منه ، وقد عرفت أنّ مضمون هذه الأخبار مع جميع القيود الملحوظة فيه من صدق الشيء والشكّ فيه والتجاوز عن محلّه لا يصدق على الشيء المشكوك فيه بجميع عناوينه وتمام حيثياته ؛ لعدم صدق المضمون على الوضوء في الملاحظة المذكورة ، لانتفاء القيد (1) الأخير ، فيختلف عن أحكام يترتّب (2) على عنوان غير مشتمل على هذا القيد وقد مرّ مرارا بأنّه لا غرو في ذلك.

و (3) من ذلك ما لو نذر قراءة سورة معيّنة كسورة يس - مثلا - في الصلاة ، فإنّ التجاوز من محلّ السورة إنّما يجدي في الحكم بقراءة مطلق السورة لا السورة الخاصّة ؛ لعدم ثبوت هذا (4) العنوان بالأصل.

ونظيره في غير المقام ما (5) لو ثبت اشتغال ذمّة واحد لآخر بإقامة شاهد على استراقه منه شيئا وإتمامه باليمين ، فإنّه يحكم بمجرّد الاشتغال دون عنوان السرقة فلا يجوز قطع يده ، بخلاف ما لو ثبت بشاهدين فإنّ عنوان السرقة يثبت بذلك فيترتّب عليه أحكامها.

ولا مناص ممّا ذكرنا إلاّ بدعوى أنّ المستفاد من الأخبار هو الحكم بوجود المشكوك فيه مطلقا ، وعدم الاعتناء بأمثال هذه النكات والدقائق في استنباط الأحكام من الأدلّة واستخراج المطالب من الألفاظ (6) الواردة في مقامها ولعلّها خارجة عن طريق العلم والاستدلال ، فإنّ الأحكام العرفية مع كمال سهولتها فهي في عين الصعوبة ، فليس كلّ ما يكون حاله إليهم سهلا فإنّه صعب مستصعب ، فتدبّر.

ص: 454


1- في النسخ : قيد.
2- « م » : ترتّب.
3- « ز ، ك » : - و.
4- « ز ، ك » : هذه.
5- « ز ، ك » : - ما.
6- « ز » : ألفاظ.
[ لتنبيه ] الثاني

لا إشكال في شمول هذه القاعدة وجريانها فيما إذا (1) شكّ في وجود شيء يحتمل تركه نسيانا بعد التجاوز عن محلّه ، كما لو شكّ في الوضوء بعد الدخول في الصلاة باحتمال ترك الوضوء نسيانا ؛ لظهور الأخبار المذكورة في هذه الصورة ولا ينبغي الارتياب فيه ، كما أنّه لا إشكال في عدم شمولها وجريانها فيما لو شكّ في صحّة أصل العمل مع العلم بالكيفية (2) التي وقع العمل عليها وحضور صورة العمل عند الشاكّ ، كما إذا علمنا بكيفية أداء « الضاد » في قوله : ( وَلَا الضَّالِّينَ ) وشككنا في كون القراءة المتكيّفة بالكيفية المخصوصة مبرئة أو لا ، والوجه في ذلك أيضا ظاهر ؛ لعدم ظهور الأخبار في مثل هذه الصورة ، ويمكن استظهار عدم الشمول من عدم كون المورد (3) في هذه الأخبار من هذا القبيل ، مضافا إلى أنّ تجاوز المحلّ ممّا لا دخل له في هذا الشكّ ؛ لكونه شكّا في الحكم الشرعي أو ما هو بمنزلة ذلك كما لا يخفى ، لوجود الشكّ قبل العمل وبعده أيضا.

وهل تجري (4) فيما إذا شكّ في العمل بغير النسيان كالعصيان - مثلا - وما إذا شكّ في العمل لا من عذر ، كما إذا شكّ في وصول الماء حال التوضّؤ بالبشرة لاحتمال وجود مانع كالخاتم - مثلا - أو لا؟ وجهان : من الأخذ بعموم بعض الأخبار المتقدّمة ؛ لكونه شكّا بعد التجاوز فلا بدّ من الإمضاء فيه وعدم الاعتداد به ، ومن ظهورها في مورد النسيان فقط.

ولعلّ الثاني أقرب نظرا إلى قوله عليه السلام في مضمرة بكير بن أعين : « هو حين ما يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (5) والتقريب من وجهين :

ص: 455


1- « ز ، ك » : لو.
2- في النسخ : بكيفية.
3- « ز ، ك » : المراد.
4- « ز ، ك » : يجري.
5- تقدّم في ص 446.

أحدهما : أنّ قوله عليه السلام : « هو حين ما يتوضّأ » إلخ إنّما هو وارد في مقام الجواب ؛ لكونه علّة له كما في قوله :

« فانّ المسك بعض دم الغزال »(1)

كما لا يخفى على العارف بصناعة الكلام ، والعلّة لا بدّ من أن تكون (2) مطّردة جامعة لتمام مواردها وجميع مواضعها ، كما أنّه لا بدّ من أن تكون (3) منعكسة غير شاملة لما لا يوجد فيه تلك العلّة ، كما يظهر من قولك : « الخمر حرام ؛ لأنّه مسكر فإنّ بعموم (4) العلّة كما يمكن استكشاف حرمة المسكر في غير الخمر كذا يمكن استكشاف عدم حرمة الخمر الغير المسكر مثلا ، فمفهوم التعليل يخصّص العمومات الدالّة على الإمضاء مطلقا.

وثانيهما : انصراف الشكّ الواقع في السؤال إلى الشكّ في صورة النسيان كما استظهره الإمام عليه السلام فأجابه بما يلائمه من الأذكرية (5) مع تركه الاستفصال بين صور الشكّ في سؤال السائل كما هو ظاهر ، وفهم الإمام إنّما هو إمام الأفهام ، وهو كذلك واقعا ؛ لما عرفت من ظهور الشكّ الواقع في هذه الأخبار في الشكّ النسياني جميعا.

وذلك ممّا لا ريب فيه إلاّ أنّ العموم أيضا بحاله (6) لو قطع عن هذين الوجهين. نعم يمكن الاستناد إلى ظهور حال المسلم فيما لو شكّ في العصيان كما ستقف عليه إن شاء اللّه ، ولا مدخل للمقام له ؛ للفرق الواضح بينهما كما ستعرف فإنّ النسبة هي العموم من وجه.

ص: 456


1- البيت للمتنبّي في مدح سيف الدولة كما في ديوانه : 224 وتقدّم أيضا في ص 93 وصدره : فان تفق الأنام وأنت منهم
2- في النسخ : يكون.
3- في النسخ : يكون.
4- « ك » : من عموم ، « ز » : فانّ العموم.
5- « ز ، ك » : الأذكر.
6- « ز ، ك » : بحالة.
[ لتنبيه ] الثالث

لا إشكال في اعتبار هذه القاعدة الشريفة ؛ لكونها متلقّاة عن معدن الوحي ومهبط التنزيل ولا يخفى شرافتها على أحد ، بل وأقول : لا خفاء في كونها أتقن من القاعدة التي نحن بصددها من قاعدة الاستصحاب ، وإنّما الشأن في بيان المراد من المحلّ الذي اعتبر التجاوز عنه فيما هو المناط في هذه القاعدة ، فهل يتحقّق بمجرّد الفراغ عن الشيء ، أو يعتبر مع ذلك الدخول في شيء غيره؟ وعلى الثاني فهل يكتفى فيه بمجرّد المغايرة ولو مثل تحريك اليد والتنفّس (1) ونحوهما ، أو لا بدّ من الدخول فيما هو من أجزاء المركّب ، أو شيء آخر مستقلّ؟

فنقول : قد عرفت أنّ الشكّ تارة : يتعلّق بما هو معتبر في شيء شرطا أو شطرا ، وأخرى : يتعلّق بنفس الشيء ، فعلى الأوّل لا إشكال في ظهور المراد من المحلّ في الأجزاء ، فإنّ محلّ كلّ جزء هو بعد الجزء الذي اعتبره الشارع قبله وقبل كلّ جزء اعتبره بعده ، كما في قولك : ( نَسْتَعِينُ ) بعد قولك : ( إِيَّاكَ ) وقبل قولك : ( اهْدِنَا ) وهكذا بالنسبة إلى كلّ جزء يفرض ، سواء كان آية مستقلّة أو كلمة ونحوها.

نعم ، لو شكّ في أجزاء الكلمات كما فيما إذا شكّ في نون ( نَسْتَعِينُ ) أو في لين ( وَلَا الضَّالِّينَ ) فالتجاوز عن محلّها إنّما يصدق فيما إذا احتاج التكرار في المشكوك إلى تكرار في الأجزاء الأخر ، فإنّ إعادة لين لا يمكن إلاّ بإعادة ( وَلَا الضَّالِّينَ ) لعدم استفادة شيء ممّا هو المقصود من لين فقط أو النون فقط ، ولا فرق في ذلك بين الدخول في شيء آخر وبين عدمه ، سواء كان ذلك الشيء من الواجبات النفسية أو الغيرية أو المندوبات أو المباحات ؛ لعدم مدخلية شيء (2) منها (3) في ذلك.

وأمّا الشرائط فيحتمل أن يقال : إنّ محلّها قبل الدخول في المشروط ؛ لكونها أمورا (4)

ص: 457


1- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : النفس.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : في شيء.
3- « ز » : منهما.
4- « ز ، ك » : أمور.

خارجة عن حقيقة المشروط ينبغي تحصيلها قبل الدخول في المشروط.

ويحتمل أن يقال : إنّ الشرط لا بدّ من أن يكون مقارنا مع المشروط ، ففيما (1) لو شكّ في أثناء العمل في الشرط لم يكن ممّا تجاوز محلّه ولا بدّ من الإتيان به (2) بالنسبة إلى الأجزاء الباقية ، فلو شكّ في طهارة يده - وكان تطهيرها ممكنا على وجه لا يفوته الترتيب في المأمور به المشروط بالطهارة فطهّرها - صحّ العمل ، نعم لو لم يتمكّن من إيجاد الشرط ولو بواسطة فقد شرط آخر لو حاول إيجاده كفوات الموالات - مثلا - يحتم القول ببطلان العمل ولا ضير فيه.

ويحتمل أن يقال بالتفصيل بين الشرائط ، فإنّ منها ما هو شرط للأفعال الواقعة في العمل كما في الطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، ومنها ما هو شرط للأفعال والأكوان أيضا كما في الستر والاستقبال مثلا ، ففي الأوّل يقال بعدم التجاوز ، وفي الثاني بالتجاوز ، والوجه في ذلك صدق الأخبار وعدمه في المقامين ، فلا قاطع لأصالة عدم الوقوع (3) على تقدير عدم الصدق وعلى تقدير الصدق فالقاطع موجود.

ولعلّ هذا التفصيل هو الأوجه إلاّ أنّه قد يستفاد من رواية عليّ بن جعفر المرويّة في قرب الإسناد عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام ما ينافي هذا التفصيل ، قال : سألته عن رجل يكون على وضوء ويشكّ على وضوء هو أم لا؟ قال : « إذا ذكر وهو في صلاته انصرف وأعادها ، وإن ذكره وقد فرغ من صلاته أجزأ ذلك » (4) فإنّ حكم الإمام عليه السلام بالانصراف والإعادة في الصورة (5) المفروضة ينبئ عن بقاء محلّ الشرط في الأثناء مطلقا ؛ لأنّ الوضوء من شروط الأفعال ، ومع ذلك فالتفصيل أقرب كما يساعده

ص: 458


1- « ز ، ك » : فيما.
2- « ج » : له.
3- « ز ، ك » : الواقع.
4- قرب الإسناد 177 / 651 وفي ط الحجري : 83 ؛ وسائل الشيعة 1 : 473 ، باب 44 من أبواب الوضوء ، ح 2 ، وفيهما : « انصرف وتوضّأ وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك ».
5- « ز ، ك » : الصلاة.

الاعتبار الصحيح بعد ظهور اعتبار تجاوز المحلّ وعدمه في أسباب هذه الشروط وهي الأفعال كما لا يخفى ، والرواية المذكورة معمولة في موردها لا ينبغي التسرية منها إلى مورد آخر ، لكونها قضيّة في (1) واقعة ، وعلى الثاني ففيما إذا تعلّق الشكّ بنفس الشيء مستقلاّ كما إذا شكّ في الاستنجاء أو الغسل أو الوضوء أو التيمّم فهل المدار في محالّها هو المحلّ المعتبر لها شرعا - فلو كان موقّتا بانقضاء وقته ، وبسقوط التكليف في غير الموقّت - أو المناط على محلّ وقوع هذه الأفعال عادة ، سواء يوافق محلّها الشرعي أو (2) لا زيادة ونقصانا؟ وعلى الثاني فهل المعتبر هي العادة النوعية التي عليها مدار معاش أبناء النوع ، أو العادة الشخصية التي اعتادها الشاكّ خاصّة كمن اعتاد الاستبراء بعد البول أو الوضوء بعد إيجاد أسبابه؟ وجوه :

يظهر من العلاّمة وجماعة من متابعيه ومنهم الشهيد في شرح الألفية وكاشف الغطاء في الكشف (3) اعتبار العادة الشخصية حيث حكموا بصحّة الغسل فيما لو شكّ في غسل الشقّ الأيسر إن كان من عادة المغتسل إتمام العمل مع بقاء محلّ الغسل شرعا لعدم وجوب الموالاة فيه ، وعلّله بظنّ الكمال بعد الانتقال عن العمل من دون افتقار إلى تدارك فعل المشكوك ، وحكم بالفساد من دون العادة المذكورة.

ولا يذهب عليك أنّ ذلك لأجل تقديم الظاهر على الأصل عندهم كما قد يتوهّم ، فإنّ ذلك في موارد معدودة كما في عدد ركعات الصلاة على ما قيل ، بل الاستناد (4) إلى الظهور (5) في مثل المقام على ما يستفاد من التعليل المذكور في الروايات السابقة وهو

ص: 459


1- « ز ، ك » : - في.
2- ك : أم.
3- تذكرة الفقهاء 1 : 212 ، وفي ط الحجري 1 : 22 ؛ قواعد الأحكام 1 : 206 ؛ المقاصد العلية في شرح رسالة الألفية : 123 ، وفي ط الحجري : 73 ؛ كشف الغطاء 2 : 108 ، وفي ط الحجري : 103 ( البحث الثاني ) قال : « وذو العادة يقوّى في النظر عدم الالتفات إلى شكّه مع ضبط العادة ؛ لأنّه في ذلك الحال أذكر ».
4- « ز » : الإسناد.
5- « ز ، ك » : الطهور.

قوله : « فإنّه حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (1) ولا ضير في ذلك ؛ لأنّ عمومه معوّل (2) عليه وإن كان مورده خاصّا ، فلا فرق بين أن يكون العمل مربوطا بعمل آخر كما في الأجزاء ، أو (3) مستقلاّ كما في الاستبراء بعد تجاوز محلّ التخلّي.

ولعلّ البناء على العادة الشخصية مناف لما عرفت من التفصيل بين شرط الأكوان والأفعال ؛ لوضوح وجود العلّة في القسمين ولكنّ الإنصاف على ما أفاده الأستاد أدام اللّه أيّام إفادته (4) أنّ البناء على العادة (5) الشخصية في غاية الإشكال ، فإنّ دعوى تنزيل الأخبار عليها والقول بأنّ المراد بمحلّ الشيء هو المحلّ الذي من عادة الفاعل إيقاع ذلك الشيء فيه ، لا يساعدها نقل ولا عقل بعد ظهور أنّ المراد بالمحلّ المأخوذ في أخبار الباب هو محلّه التكليفي دون محلّه التكويني ، ولعلّ العلاّمة أيضا لا يلتزم بذلك في نظير المقام فإنّهم حكموا بوجوب التوضّؤ على من كان من عادته ذلك أوّل الوقت فيما لو شكّ في وقت العصر في ذلك في وقته.

والقول بأنّ ذلك من جهة النصوص القاضية به (6) ، مدفوع : بأنّ نظر الأخبار الآمرة بذلك أيضا إلى عدم تجاوز المحلّ فتدلّ على المقصود ، وحملها على الحكم التعبّدي ممّا يأباه مساقها.

وأمّا التعليل المذكور فشموله للأعمال المستقلّة مشكل ، فإنّ ظاهره هو البناء على الوقوع حال التجاوز فيما إذا علم الدخول في العمل ، وتذكّر الاشتغال (7) به وهو إنّما يكون فيما إذا كان المشكوك جزء كالشكّ في جزء من الوضوء بعد الفراغ ، وغاية ما يتعسّف في الإلحاق به هو ما إذا كان الشيء المشكوك كالجزء للعمل السابق عرفا

ص: 460


1- تقدّم في ص 446.
2- « ك » : معمول.
3- « ك » : أم.
4- « ز ، ك » : دام ظلّه العالي.
5- « ز ، م » : العادية.
6- « ز ، ك » : - به.
7- « ز ، ك » : الاستعمال.

وعادة ولعلّ الاستنجاء منه في العرف ، وأين ذلك من الشكّ في الأفعال المستقلّة التي لا يناط أحدهما (1) بالآخر أصلا؟ نعم لك القول بذلك فيما لو ادّعيت أنّ المستفاد من أخبار الباب أنّ بعد وجود ما يقتضي لشيء (2) شرعا أو عقلا أو عادة وعدم مانع من ذلك إلاّ متابعة السهوي (3) في الأوّل والسهو والنسيان في الأخيرين ، لا بدّ من الحكم بوجوده وصحّته والإمضاء عليه من جهة الظهور المستفاد من وجود المقتضي والشكّ في المانع وأنّى لك بهذا؟

وممّا ذكرنا يظهر (4) ضعف اعتبار العاديّة النوعية وإن كان (5) أقلّ فسادا من سابقها ، فإنّ الظاهر من المحلّ هو محلّ التكليف لا التكوين ، فالأسلم القول بأنّ قبل تجاوز محلّ الفعل شرعا يجب الأخذ بالقاعدة المزبورة وانقطاع الأصل بها ، وبعده فالأصل المذكور في محلّه ولا محلّ للمحلّ العاديّ بقسميه (6) ، وقد عرفت أنّ محلّ الشيء شرعا إمّا بانقضاء زمانه لو كان موقّتا ، أو بسقوط التكليف عنه في غيره ، ثمّ إنّه هل يتوقّف صدق التجاوز على الدخول في الغير أو لا؟ الظاهر هو الثاني ، وعلى الأوّل فالمعتبر في الغير هو ما يترتّب عليه شرعا لا مطلقة ، فيحكم بالقاعدة القاطعة لأصالة عدم وقوع الفعل فيما إذا لم يدخل فيما يترتّب على المشكوك شرعا ، فلا يضرّ التنفّس (7) ونحوه ممّا لا دخل له في المركّب ، فتدبّر.

[ لتنبيه ] الرابع

هل القاعدة المذكورة محكّمة فيما إذا شكّ في صحّة الاعتقاد السابق مطلقا أو فيما إذا لم يكن متذكّرا لموجب الاعتقاد ، أو ليست محكّمة فيها مطلقا؟ وجوه ، بل أقوال : يظهر

ص: 461


1- كذا. والصواب ظاهرا : أحدها.
2- « م » : يقضي بشيء.
3- « ك » : السهو.
4- « ز » : + الوجه. والظاهر أنّه شطب عليها.
5- « ج ، م » : كانت.
6- « ز » : بقسيميه.
7- « م » : النفس.

الأوّل من بعض سادات مشايخ الأستاد دام عزّه (1) في المناهل (2) ، والثاني من فيلسوف القوم في الكشف (3) في ذيل الاستصحاب ، والحقّ على ما أفاده الأستاد المحقّق هو الثالث ، فلو اعتقدنا عدالة زيد أو وقوع فعل في الأمس وشككنا في اليوم في صحّة الاعتقاد السابق ، لا بدّ من البناء على الصحّة على الأوّل ، وفيما إذا لم يكن متذكّرا لدليل الاعتقاد دون ما إذا كان متذكّرا على الثاني ، ولا بدّ من الحكم بالفساد أخذا بأصالة العدم على الثالث.

وما يمكن الاستناد به للأوّلين في مورد (4) وفاقهما وجهان : الأوّل : ما يظهر من الشيخ في ذيل الاستصحاب من ذهابه إلى جريان أخبار الاستصحاب في المقام ، فإنّ ظاهر قوله : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » (5) هو الأخذ بصحّة اليقين السابق والبناء عليه ، وكذا ما يستفاد من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ أبدا » (6) مطابق للرواية المذكورة في الدلالة على المطلوب ، وثانيهما : البناء على صحّة العمل الذي قد جاوز محلّه ولو كان الشكّ في الاعتقاد وصحّته.

ص: 462


1- « ز ، ك » : - دام عزّه.
2- لعلّه ورد في القسم غير المطبوع منه.
3- قال في كشف الغطاء 1 : 201 ، وفي ط الحجري : 35 في بحث 35 : ولو لم يبق علمه باليقين السابق مع علمه بأنّه كان عالما فلا يخلو : إمّا أن ينسى طريق علمه السابق ، أو يذكره ويتردّد في قابليته لإفادة العلم ، أو يعلم عدم قابليّته ، والأقوى جري الاستصحاب في القسمين الأوّلين خاصّة. وأمّا ما وقع منه من العمل فيحكم بصحّته ما لم يعلم بعدم مقتضى علمه. وقال أيضا في كشف الغطاء ٢ : ١٠٣ ، وفي ط الحجري : ١٠٢ : ولو سبق العلم بتقدّم شيء أو تأخّره ثمّ طرأ الشكّ ، غير متذكّر لسبب العلم بنى على علمه على إشكال ، وإن ذكر سببه ورأى أنّه غير قابل لترتّب العلم فلا بناء عليه ؛ لأنّ المراد بعدم نقض اليقين بالشكّ عدم النقض بالشكّ الطارئ بعده بقسميه _ ما اقترن بسبب الاستدامة وغيره _ دون الطارئ عليه ، والظاهر عدم الفرق في شكّ الصلاة والوضوء بين المنصوص عليه وبين غيره ؛ لظاهر الإطلاق.
4- « ز ، ك » : مواد.
5- تقدّم في ص 103.
6- تقدّم كرارا.

وكلاهما فاسدان لا ينبغي للمتأمّل التعويل عليهما ، أمّا الأوّل فقد عرفت (1) في بعض الهدايات (2) السابقة فساد هذا التوهّم بما لا مزيد (3) عليه إلاّ أنّه إلى الآن لم نكن عالمين بأنّ مثل هذا التوهّم ممّا يمكن من أمثال الشيخ الجليل ، بل إنّما أوردناه في قبال بعض أهل العصر وبعض من الطلبة ، ولكنّا بعد محتاجين إلى الإفصاح عن هذا المقصد على وجه لا يشكّ فيه أحد. فنقول : إنّ ملخّص ما ذكره يرجع إلى اعتبار الاستصحاب في الشكوك السارية ، وذلك ليس في محلّه ؛ لاختلاف مناط القاعدتين وموردهما ، فلا يمكن أن يكون اللفظ الواحد مفيدا لهما ، فإنّ ملاك الأمر في الشكوك السارية على مجرّد وصف اليقين والشكّ (4) في صحّة ذلك اليقين ، فلا يلاحظ فيه وجود المتيقّن في السابق ، بل يكفي فيه حصول نفس اليقين وإن لم يكن مطابقا للواقع ، فلو فرض وجود المتيقّن في الواقع مع انتفاء وصف اليقين لم يكن من محلّ الشكوك السارية ؛ لانتفاء ما هو القوام فيه ، فمتعلّق الشكّ واليقين أمر واحد وهو الثبوت ، ومناط الحكم في الاستصحاب على ثبوت متيقّن في السابق والشكّ في وجوده في اللاحق ، فلا حاجة إلى وصف اليقين في الاستصحاب إلاّ من حيث إنّه مرآة عن وجود المتيقّن ، ولذلك لا يفرق بين اقتران وصفي الشكّ واليقين أو (5) سبق أحدهما على الآخر ، فمتعلّق الشكّ واليقين فيه أمران ، فإنّ متعلّق الشكّ هو البقاء ، ومتعلّق اليقين هو الثبوت ، فإحدى القاعدتين تباين الأخرى ، فأخبار الاستصحاب لا يمكن أن تكون (6) مسوقة لبيانهما (7) فلا بدّ من حملها على إحداهما والمفروض دلالتها (8) على الاستصحاب بتسليم من الخصم فتعيّن حملها عليه.

ص: 463


1- انظر ص 319 - 320.
2- « ز ، ك » : الدرايات.
3- « ز ، ك » : ممّا يزيد.
4- « ز ، ك » : ولو شكّ.
5- « ز ، ك » : « و » بدل « أو ».
6- في النسخ : يكون.
7- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لبيانها.
8- « ز ، م » : دلالتهما وكذا في المورد الآتي.

والقول بعدم دلالتها على الشكّ الساري وإن كان اللفظ لا يأبى عن ذلك لو لوحظ مجرّدا عن موارد (1) الروايات ، بل قد نبّهنا (2) على ظهوره بعد امتناع إرادة المعنى الحقيقي من تلك الأخبار لامتناع التناقض بين الشكّ واليقين في الهداية الخوانسارية ، لكن قول الإمام عليه السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » (3) من أقوى الشواهد على إرادة هذا المعنى دون ما هو المناط في الشكوك السارية.

نعم في الروايات التي احتجّ الأصحاب بها على الاستصحاب ما هو محتمل الوجهين كما أشرنا إليه عند (4) الاحتجاج بها وهو رواية الخصال : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » (5) إلاّ أنّه قد يستظهر دلالتها على الاستصحاب أيضا نظرا إلى اتّحاد مساقها لما هو مساق أخبار الاستصحاب.

ولئن سلّمنا إمكان اجتماعهما في الإرادة من دليل واحد فالشكوك السارية ممّا لا عبرة بها ؛ لابتلائها بالمعارض دائما ، فإنّ اليقين بشيء لا محالة مسبوق بحالة سابقة على ذلك اليقين وهي مستصحبة حال الشكّ في صحّة اليقين ؛ إذ المفروض أنّ (6) اليقين السابق مشكوك الصحّة فيؤول الأمر إلى ارتفاع تلك الحالة وبقائها ، الأصل يقضي (7) بالثاني فلو اعتقدنا عدالة زيد بعد العلم بفسقه أو مع جهل حاله فلو شكّ في صحّة ذلك الاعتقاد لا بدّ من استصحاب الفسق (8) أو حكم الجهل ، فإنّ توهّم سقوط الحالة السابقة بمثل اليقين المشكوك صحّته شطط من القول كما هو ظاهر ، فالقول بالصحّة كما هو قضيّة الاستصحاب (9) الساري معارض بالقول بعدمها كما هو قضيّة الاستصحاب (10) الطارئ.

ص: 464


1- « ك » : مورد.
2- نبّه في ص 130 - 132.
3- تقدّم في ص 95.
4- « ز ، ك » : فعند.
5- تقدّم في ص 103.
6- « ز » : - أنّ.
7- « ج » : يقتضي.
8- « ك » : نفس الفسق.
9- « ج ، ز » : استصحاب.
10- « ز ، ك » : استصحاب.

وأمّا الثاني فعدم ظهور أخبار الشكّ بعد الفراغ فيما إذا شكّ في صحّة اليقين ظاهر ، فتأمّل في المقام فلعلّه لا يحتاج إلى زيادة تقرير وبيان واللّه الموفّق وهو الهادي (1).

ص: 465


1- « ز ، ك » : واللّه الهادي.

ص: 466

هداية [ في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحّة ]

اشارة

في بيان الحال في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحّة ، وتحقيق الكلام في المقام (1) في مطلبين :

المطلب الأوّل

المطلب الأوّل (2)

في بيان أصل مشروعيتها وأقسامها ، وتنقيح البحث في موارد :

الأوّل : في أنّ الأصل في الأعيان الموجودة في الخارج هل هو الصحّة أو الفساد؟ الذي يظهر من الشيخ الجليل العلم البارع (3) في مقدّمات الكشف هو الأوّل ، بل ساق الحكم في ذلك إلى كلّ ممكن ، فقال : الأصل فيما خلق (4) اللّه من الأعيان من عرض أو جوهر - حيوان أو غير حيوان - صحّته ، وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال أو أفعال فيبنى فيها على وقوعها على نحو ما وضعت له وعلى وفق الطبيعة التي اتّحدت به من مسلم أو (5) مؤمن أو مخالف أو كافر كتابي أو غير كتابي ، فيبنى أخباره ودعاويه على الصدق ، وأفعاله وعقوده وإيقاعاته على الصحّة حتّى يقوم شاهد على

ص: 467


1- « ز ، ك » : - في المقام.
2- سيأتي المطلب الثاني في ص 483.
3- « ز ، ك » : - العلم البارع.
4- « ج ، م » : خلقه.
5- في المصدر : - أو.

الخلاف إلاّ أن يكون على (1) مقابلته (2) خصم. وقال أيضا : إنّ الأصل في جميع الكائنات من جمادات أو نباتات أو حيوانات أو عبادات أو عقود (3) أو إيقاعات أو غيرها من إنشاءات أو إخبارات أن تكون (4) على نحو ما غلبت عليه حقيقتها من التمام في الذات وعدم النقص في الصفات وعلى طور ما وضعت له مبانيها ، وعلى وجه يترتّب (5) آثارها فيها على معانيها (6) ، انتهى ما أفاده رحمه اللّه.

والتحقيق في المقام هو أن يقال : إنّ المراد بالأصل ليس هو الدليل لظهور عدم مناسبته لما نحن بصدده ، ولا القاعدة لعدم ما يقضي (7) بإقعادها في الأدلّة الشرعية ، فالمراد به إمّا الاستصحاب ، وإمّا الظاهر.

أمّا (8) الأوّل فليس على ذلك الاطّراد ، كما أفاده الشيخ المذكور فإنّ غاية ما يقضي به الصحّة فيما إذا كان الفساد طارئا على الطبيعة ، وأمّا إذا كان الفساد بواسطة عدم وصولها إلى حالة مطلوبة في الطبيعة فالأصل يقضي بعدم الصحّة ، مثلا الجنازة لها حدّ طبيعي مطلوب في ذلك الحدّ وقد يعرضه الفساد من الديدان ، فأصالة عدم الفساد رفع (9) الفساد من الجهة الثانية لا الأولى كما هو ظاهر.

وأمّا الثاني فالظاهر أنّ المراد هو الظهور الناشئ من غلبة سلامة الممكنات وأعيان الموجودات ، وإلاّ فلو لاحظنا مطلق الطبائع - سواء الموجودة فيها والمعدومة - فغلبة السلامة ممنوعة ؛ لظهور أنّ الفاسد مفهوما أكثر من الصحيح ، لتوقّف الصحّة في كلّ موجود على قيود متكثّرة يفسد بانتفاء كلّ قيد منها ، فهذه الغلبة وإن كانت مسلّمة

ص: 468


1- في المصدر : في.
2- « ز ، ك » : مقابلة.
3- « ز ، ك » : عقودات.
4- في النسخ : أن يكون.
5- في المصدر : + عليه.
6- كشف الغطاء 1 : 201 - 202 ، وفي ط الحجري 35 في بحث 36.
7- « ز ، ك » : تقتضي. « ج » يقتضي.
8- « م » : وأمّا.
9- « ج » : يرفع.

غير قابلة للإنكار إلاّ أنّه لا دليل على اعتبارها فيا (1) ليتها كانت معتبرة مع أنّ هذه غلبة جنسية وقد تعارضها الغلبة الصنفية أو النوعية ، فليس المدار على الأخذ بهذه الغلبة ، سيّما في موضوعات الأحكام ، فأصالة الفساد محكّمة عند الشكّ في الصحّة في الأعيان فيما إذا تعلّقت بها العقود وإن كان الظاهر منهم تقديم قول مدّعي الصحّة فيما لو اختلف (2) البيّعان في صحّة المبيع وفساده ، بل علّله غير واحد منهم (3) بأنّ الأصل السلامة ، وهو على إطلاقه كما ترى.

الثاني : هل قضيّة الأصل في الأفعال هو حملها على الصحيح ، أو لا؟ فتارة : في فعل النفس فقد عرفت الكلام فيه (4) في الهداية السابقة بما (5) لا مزيد عليه ، وأخرى : في فعل الغير فنقول : الأصل بمعنى الظاهر المستند إلى الغلبة في وقوع (6) الأفعال صحيحا فهو أمر ظاهر في الغاية وإنّما الكلام في صحّتها (7) كما مرّ آنفا.

وأمّا الأصل بمعنى أصالة العدم فيمكن تقريره بوجه يطّرد في جميع الموارد وهو أن يقال : إنّ قضيّة التديّن بدين الإسلام هو وقوع جميع أفاعيل المسلمين على وجه صدع أحكامها الصادع المقدّس ، إلاّ أن يمنع من وقوعها على وجهها ومشتملة على ما هي معتبرة فيها من إحراز الشروط ورفع الموانع مانع من سهو أو نسيان أو إسهاء أو عصيان ، والأصل عدمه ، فالمقتضي للصحّة موجود بالفرض والمانع مفقود بالأصل.

وفيه : أوّلا : أنّ غاية ما يقضي به الإسلام هو الاعتقاد بالصحّة في الأفعال الجامعة لشرائطها لا إيقاعها على وجهها كما هو المقصود ؛ إذ (8) لا يعتبر في الإسلام بعد الاعتقاد

ص: 469


1- « ز ، ك » : « فيها » بدل « فيا ».
2- « ز ، ك » : اختلفت!
3- انظر : المبسوط 2 : 133 ؛ المهذّب لابن البراج 1 : 401 ؛ الدروس 3 : 117 ؛ جواهر الكلام 37 : 229.
4- « ج ، م » : - فيه.
5- « ز » : ممّا.
6- « ج ، م » : غلبة وقوع.
7- « ج ، م » : حجّيتها.
8- « ز ، ك » : أو.

شيء ، وثانيا : أنّ للإنسان أيضا قوّة تقضي (1) بعدم وقوع الفعل على وجهها خلاف ما يقضي به (2) الإسلام من قوّتيه الغضبية والشهوية ، وثالثا : أنّ الإسلام غاية ما يقضي به هو عدم صدور الفاسد عنه مع علمه بالحكم ، وأمّا الجهل فلا يقضي (3) الإسلام بعدمه ، اللّهمّ إلاّ على ما يراه ابن الجنيد من أنّ الأصل في المسلم العدالة إلاّ أن يكون معلوم الفسق. فكيف كان فالأصل على الوجه المذكور ممّا لا وجه له.

وقد يستند في إثبات هذه القاعدة إلى الأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب العزيز : فقوله تعالى : ( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (4) وجه الدلالة أنّ النهي عن حصول الظنّ لكونه خارجا عن مقدرة (5) المكلّف غير معقول ، فلا بدّ من أن يراد به النهي عن ترتيب (6) أثر الإثم فيما فعله الفاعل ، وقوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (7) فإنّ المستفاد من بعض الروايات (8) أنّ المراد القول في أفعالهم بحملها على الحسن دون الحمل على القبيح ، وبعد ذلك فدلالته ظاهرة على المطلوب ، بل وهو أوضح من الآية الأولى ؛ لاحتمال أن يقال : إنّ (9) عدم ترتيب أحكام الإثم والنهي عنه لا يلازم ترتيب آثار الحسن على الفعل كما هو المقصود.

وأمّا السنّة : فكثيرة : منها : قول الأمير عليه السلام : « ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت سوء وأنت تجد له في الخير محملا » (10) وقول

ص: 470


1- « ز ، ك » : يقضي وفي « ج » : تقتضي.
2- « ز ، ك » : - به.
3- « م » : فلا يقتضي.
4- الحجرات : 12.
5- « ك » : قدرة.
6- « ز ، ك » : ترتّب.
7- البقرة : 83.
8- انظر الوسائل 16 : 340 - 341 ، باب وجوب نصيحة المسلمين وحسن القول فيهم حتّى يتبيّن غيره ، من أبواب فعل المعروف : ح 2 و 3 ؛ بحار الأنوار 71 : 340 - 341 ، باب 20 ، ح 124 - 125.
9- « ز ، ك » : - إنّ.
10- الوسائل 12 : 302 ، باب 161 من أبواب أحكام العشرة ، ح 3 ؛ بحار الأنوار 72 : 196 و 199 ، - باب 62 ، ح 11 و 21. وأورد هذه الروايات سردا النراقي في عوائد الأيّام : 222 وما بعدها ، عائدة 23 في بيان قاعدة أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحّة.

الصادق عليه السلام لمحمّد بن فضيل : « يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا وقال : لم أقله فصدّقه (1) وكذّبهم » (2) ودلالتهما ظاهرة ، سيّما الأخير كما يشعر بذلك حكمه تكذيب السمع والبصر مع أنّهما من أظهر الحواسّ الظاهرة ، وقوله عليه السلام في رواية اليماني في عداد حقّ المؤمن على المؤمن « أن لا يتّهمه (3) فلو اتّهمه انماث الإيمان في قلبه (4) كما ينماث الملح في الماء » (5) ومثله رواية أبي المأمون الحارثي واليماني (6) أيضا بتغيير ما فيهما ، وقوله عليه السلام في رواية عمر بن يزيد : « من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما ، ومن عامل أخاه بمثل ما عامل به الناس فهو بريء عمّا ينتحل » (7) وقوله عليه السلام في رواية أبي حمزة : « ولا يقبل اللّه من مؤمن وهو مضمر من (8) أخيه المؤمن سوء » (9) وقوله : « ملعون ملعون من اتّهم أخاه المؤمن » (10) إلى غير ذلك من الروايات.

وهي مع كثرتها ممّا لا يغني ولا يجدي ؛ لعدم دلالتها على المقصود في وجه ، لأنّ المراد هو إثبات قاعدة تقضي بحمل الأفعال على الصحيح فيما إذا دار الأمر بينه وبين الفاسد ، والصحّة والفساد غير ملازمين للحسن والقبح.

ص: 471


1- في المصدر : قسامة وقال لك قولا فصدّقه.
2- الوسائل 12 : 295 ، باب 157 من أبواب أحكام العشرة ، ح 4.
3- « ج ، ز ، م » : - أن لا يتّهمه.
4- المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : - في قلبه.
5- الوسائل 12 : 206 - 207 ، باب 122 من أبواب أحكام العشرة : ح 8.
6- الوسائل 12 : 207 ، باب 122 من أبواب أحكام العشرة ، ح 10 ، و 12 : 302 ، باب 161 من أبواب أحكام العشرة ، ح 1.
7- الوسائل 12 : 302 ، باب 161 من أبواب أحكام العشرة ، ح 2.
8- في المصدر : على.
9- الوسائل 12 : 299 ، باب 159 من أبواب أحكام العشرة ، ح 2.
10- الوسائل 12 : 231 ، باب 130 من أبواب أحكام العشرة ، ح 5.

وغاية ما يسلّم من دلالة الآيتين والأخبار المذكورة أنّه لا بدّ من عدم حمل الأفعال على القبيح (1) لا حملها على الصحيح ، نعم لو كان كلّ قبيح فاسدا وكلّ صحيح حسنا كان الاستناد إلى مثل هذه الروايات والآيات في محلّه ، ولعلّ الملازمة أغلبية في العبادات ، وأمّا المعاملات فتباين المعنيين فيها غير خفيّ ، مضافا إلى أنّ الآية الثانية ظاهرها ملاحظة اللين في المعاشرة ، فإنّها بظاهرها نهي عن الغضاضة والغلاظة ، وقضيّة قول الأمير هو الحمل على الأحسن (2) ، فلو تردّد الأمر بين القول بوقوع صلاة زيد في الدار أو في المسجد لا بدّ من القول بوقوعها فيه دون الدار ، والإجماع على خلافه ، فلا بدّ من تأويله بخلع معنى التفضيل عن اسمه (3) ، فلا يزيد على سائر الأخبار المذكورة ، وقول الصادق عليه السلام لابن فضيل لا يدلّ على أزيد ممّا ذكرنا مع ما قد يستشكل فيه من أنّ تكذيب خمسين قسامة لتصديق (4) واحد ممّا لا يعلم الوجه فيه ، إلاّ أنّه مدفوع بأنّ التكذيب في نفس الخبر لا غبار عليه لصدق (5) الأوّل بملاحظة المخبر ، وكذب الثاني بملاحظة الخبر ، ولا تعارض.

على أنّ هذه الأخبار معارضة بجملة أخرى تدلّ على خلاف ذلك ، ففيها : « لا تثق بأخيك كلّ الثقة فإنّ سرعة (6) الاسترسال لا (7) تستقال » (8).

وأمّا الإجماع : فهو ثابت نقلا وتحصيلا على ما هو الظاهر ، ويكشف عنه (9) ملاحظة فتاوى الفقهاء في موارد جمّة من تقديم قول مدّعي الصحّة في موارد التداعي على

ص: 472


1- « ز ، ك » : + « و » وشطب عليها في « ك ».
2- « ز ، ك » : الحسن.
3- شطب عليها في « ك » وكتب « أحسنه ».
4- « ز ، ك » : فصدق.
5- « ج » : فصدق.
6- في كثير من المصادر : « صرعة » وفي بعضها كما في المتن.
7- « ج ، ز ، م » : « من »! وما في المتن ورد في بعض المصادر وفي بعضها الآخر : « لن ».
8- الوسائل 12 : 146 و 147 ، باب 102 من أبواب أحكام العشرة ، ح 1 و 4 ، وورد الحديث في كثير من الكتب الخاصّة والعامّة.
9- « ز ، ك » : « عن » بدل « عنه ».

مدّعي الفساد ، وغير ذلك ممّا لا يمكن اختفاؤه على من سلك سبيل الفقه ولو لحظة (1) ، مع اعتضاده بالسيرة القاطعة المستمرّة المتّبعة فإنّ بناء العمل خلفا عن سلف على حمل الأفعال الصادرة عن العباد - عبادة ومعاملة على أنحائها المختلفة وأقسامها - على الصحيح ، ويكفيك ملاحظة الأعمال الصادرة عنهم في مقامات متفاوتة كما لا يخفى (2).

وأمّا العقل : فدلالته على هذا الأصل الشريف أظهر من أن ينكر وأوضح من أن يحرّر ؛ إذ (3) لولاه لاختلّ النظام وينهدم ما عليه القوام فلا يتأتّى التصرّف في الأموال ولا التمتّع منها ولا تقوم (4) جماعة للمسلمين ولا سوق ، بل لا يمكن المعاش في البلدان (5) وشواهق الجبال والبرايا ، وذلك أمر ظاهر جدّا ، إلاّ أن يناقش في ذلك بأنّ بعد إعمال الأصول المقرّرة في الشريعة من الاستصحاب المعتبر في الموضوعات واليد والإقرار (6) ونحوها لا نسلّم لزوم الاختلال على تقدير الإهمال ، ومع ذلك فالإنصاف ممّن جانب الاعتساف قاض باللزوم كما هو ظاهر جدّا.

وبالجملة : فالعمدة في إثبات هذا الأصل هو الإجماع والسيرة والوجه العقلي.

الثالث : قد عرفت (7) أنّ الشيخ الجليل البارع صرّح بأنّ (8) الأصل في الأقوال الصحّة (9) ، وتحقيق القول فيه أنّ القول يلاحظ من وجوه : فتارة : من حيث إنّه فعل من الأفعال مع قطع النظر عن الدلالة ، وأخرى : من حيث إنّه دالّ على المعنى الموضوع تحقيقا أو تقديرا ، وتارة : من حيث مطابقة النسبة المأخوذة فيه للواقع وعدمها.

لا إشكال في لزوم حمله على الصحيح فيما لو دار بينه وبين الفاسد من حيث إنّه

ص: 473


1- « ك » : ولاحظه.
2- في هامش « م » - ولم يتحقّق لي موضعه - : لادّائه إلى سوء الحال والمنايا ، فيجب لتقرأه.
3- « ك » : « و » بدل « إذ ».
4- « ج ، م » : يقوم.
5- « ز ، ك » : معاش البلدان.
6- زاد هنا في هامش « م » : وقاعدة الطهارة.
7- عرفت في ص 467.
8- « ج » : « بجريان » بدل « بأنّ ».
9- « ج ، ز ، م » : - الصحّة.

تحريك للأعضاء على وجه يوجد به الصوت المعتمد على بعض المخارج بعد ما عرفت من لزوم الحمل في مطلق الأفعال ؛ لأنّه منه.

كما أنّه لا ريب في لزوم الحمل على الصحيح فيما لو شكّ في القول من الجهة الثانية بمعنى أنّه لو شكّ أنّ القول الصادر من فلان هل هو صادر منه تعزيرا (1) ، أو (2) استهزاء ، أو هو صادر منه إظهارا لما يكشف عنه ذلك القول؟ فاللازم حمله على الثاني ؛ لكونه هو الغالب في المحاورات ولولاه لا نسدّ باب المحاورة وانفتح طريق المكابرة.

وأمّا الكلام من الجهة الثالثة فتحقيقه أن يقال : لا كلام في قول غير المسلم ، وأمّا المسلم مطلقا فلا دليل على حمل قوله على الواقع وترتيب آثار المطابقة عليه ، أمّا (3) الأدلّة المتقدّمة فالآيتان والأخبار منها قاضية بعدم حملها على الكذب المخبري وهو أعمّ من صدق الخبر كما هو المطلوب ، والإجماع فقده في محلّ الخلاف ظاهر ، والعقل غير قاض بذلك بعد (4) اعتبار قول ذي اليد والإقرار في الملك والطهارة والنجاسة ، أمّا (5) الأدلّة التي يتوهّم نهوضها في المقام فمنها قوله تعالى : ( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (6) وقوله عليه السلام : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (7) وقوله في حقوق المؤمن : « أن لا يكذّبه » (8) وقوله : « المؤمن وحده حجّة » (9) ولا دلالة في شيء منها على المطلوب ؛ لظهورها جميعا سوى الأخير في لزوم التصديق المخبري وعدم تكذيبهم بإنشائهم قولا

ص: 474


1- « ك » : تعييرا.
2- « ز ، ك » : و.
3- « ز ، ك » : وأمّا.
4- « ج » : لعدم.
5- « ج » : وأمّا.
6- التوبة : 61.
7- وسائل الشيعة 19 : 83 ، باب 6 من كتاب الوديعة ، ح 1 ، وفيه : « المؤمنون » بدل : « المسلمون ». وتقدّم في ص 418.
8- وسائل الشيعة 12 : 207 ، باب 122 من أبواب أحكام العشرة ، ح 10 ؛ مستدرك الوسائل 9 : 456 ، باب 105 من أبواب أحكام العشرة ، ح 16.
9- وسائل الشيعة 8 : 297 ، باب 4 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 5.

مخالفا للواقع عملا (1) في اعتقادهم ، وأمّا صدق نفس الخبر ممّا لا رائحة فيها وقد أشبعنا الكلام في ذلك في مباحث الظنّ (2) ، وأمّا الرواية الأخيرة فهي مجملة في غاية الإجمال فكيف يكون المؤمن الواحد حجّة في أفعاله وأقواله؟ ولا إشكال في ذلك وإنّما الإشكال في أنّ الأصل في خبر العادل هو القبول خرج ما خرج من الشهادة ، فلا يكفي فيها إلاّ عادلان ، أو عدم القبول ، ويثمر ذلك في الوكالة والنيابة ونحوها وقد ذكرنا (3) ذلك مفصّلا في محلّه في مباحث الظنّ فراجعه متأمّلا مغتنما ، واللّه الموفّق الهادي إلى طريق السداد وسبيل الرشاد (4).

الرابع : هل يحمل الاعتقاد على الصحّة ، أو لا؟ و (5) الحقّ هو الأوّل من حيث نفس الاعتقاد ، فلا يترتّب عليه الآثار (6) المترتّبة على فساد نفس الاعتقاد ، فيحكم (7) بأنّ اعتقاده (8) حاصل من الوجوه التي ينبغي تحصيل الاعتقاد (9) منها دون الوجوه التي لا يجوز تحصيله منها ، وأمّا صحّته على وجه يتسرّى إلى صحّة المعتقد فلا دليل عليه.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في الأفعال - من لزوم حملها على الصحيح فيما لو دار بينه وبين الفاسد نظرا إلى اختلال نظام المعاش - إنّما هو قضيّة إجمالية ولا بدّ في تفصيلها من التنبيه على أمور :

منها : هل الأصل المذكور ممّا يتساوى فيه العالم والجاهل بالأحكام الشرعية أو لا؟ فنقول : إنّ الصور المتصوّرة في المقام عديدة : فتارة : نعلم بأنّ الفاعل عالم بالأحكام

ص: 475


1- « ج ، م » : عمدا.
2- لم يتقدّم ؛ لأنّ نسخ المطارح كانت ناقصة في ذلك المبحث.
3- « ز ، ك » : ذكر.
4- « ز ، ك » : واللّه الهادي.
5- كذا. والأنسب بدون « و ».
6- « ز » : آثار.
7- « ز ، ك » : والحكم.
8- « ز ، م » : بأنّ اعتقاد ، ثمّ غيّر في « م » ظاهرا ب- « أنّه اعتقاد ».
9- « ز ، ك » : تحصيلها للاعتقاد.

الشرعية عبادة كانت أو معاملة ، ولا ينبغي الارتياب في لزوم حمل فعله على الصحيح ولا سيّما إذا لم يكن ممّن لا يبالي بالأحكام الشرعية ، وأمّا إذا كان منهم كما يرى في بعض الظلمة والفسقة من علمهم بوجوه الصحّة وضروب الفساد فالظاهر نهوض الأدلّة السابقة من السيرة وغيرها على الحمل وذلك ظاهر.

وأخرى : لا نعلم أنّه عالم أو جاهل ، سواء كان ممّن يبالي بالأحكام الشرعية أو لم يكن ، أو لم نعلم بأنّه من أيّ القسمين ، والظاهر أنّ هذه الصورة أيضا بصورها (1) ممّا لا إشكال فيها ، فيجب الحمل على الصحيح للأدلّة السابقة.

ومرّة : نعلم بأنّه جاهل بالأحكام الشرعية ، كما إذا اختلف المتعاقدان في وقوع العقد في الإحرام أو في الإحلال مع العلم بجهلهما بالحكم الشرعي من عدم الصحّة في الإحرام ، فهل يحكم بوقوعه صحيحا ، أو لا؟ وجهان : يظهر من سيّد المدارك (2) الثاني (3) ، والظاهر هو الأوّل ؛ لقيام السيرة على الحمل ، ولعلّها ليس بمحلّ لا يقبل إنكارها (4) ، فتدبّر.

وتارة : يعلم بوقوع الفعل من المسلم على وجه الفساد الظاهري ، كما إذا باع أحد أطراف الشبهة المحصورة ، فهل يجب الحمل على الصحيح بالقول بأنّ الواقع هو كون المبيع هو الفرد الجائز نقله وانتقاله - مثلا - من باب البخت والاتّفاق ، أو لا؟ الظاهر هو الثاني ، لعدم ما يدلّ على ذلك في خصوص الفرض وهو ظاهر لا سترة عليه.

ومنها : هل يجري أصالة الصحّة في كلّ ما يتعلّق بالعقد شرطا كان أو جزء ، ركنا كان أو غيره ، أو يختصّ بغير الأركان؟ وجهان : يستفاد من ثاني المحقّقين (5) الثاني ، فلا محلّ عنده لأصالة الصحّة ما لم يكن أركان العقد محرزا. نعم لو شكّ في الصحّة وعدمها

ص: 476


1- « ز ، ك » : تصورها.
2- مدارك الأحكام 7 : 315.
3- « ز ، ك » : - الثاني.
4- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : إنكاره.
5- جامع المقاصد 7 : 311.

بواسطة عدم إحراز شرط كالقبض في الصرف أو من جهة وجود مانع ، فلا بأس في الاستناد إلى الأصل المذكور.

والظاهر هو الأوّل ؛ لانتهاض الوجوه المتقدّمة في المقام من غير فرق بين الأجزاء والأركان وغيرها ، ولعلّ الوجه فيما ذهب إليه هو أنّ دليل الحمل عنده ليس إلاّ عموم قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) تحكيما له في الشبهة المصداقية ، فعلى هذا لا بدّ من إحراز ما به يصدق العقد على المشكوك من الأركان ، وأمّا بدونه فلا يصدق أنّه عقد فلا يشمله عموم ( أَوْفُوا ) .

وبعبارة أخرى : إنّ الشكّ إذا كان في وجود المقتضي فلا تنهض (2) الآية الشريفة دليلا على الصحّة في العقد فإنّها (3) مقيّد بالقيود التي اعتبرها الشارع في صحّتها ، فلا يصحّ التمسّك بالآية ما لم يحرز المقتضي للصحّة وهو الذي يعبّر عنه بالأركان ، وأمّا إذا أحرز المقتضي وكان الشكّ في ثبوت شرط أو رفع مانع فيصحّ التمسّك بالآية في رفع (4) الشكّ.

وفي كلّ من التفصيل والمبنى نظر ، أمّا المبنى فلأنّ التمسّك بالعامّ المخصّص بمجمل (5) في الشبهة المصداقية محلّ منع ؛ إذ وجوب الوفاء بالعقد مخصّص لا محالة ، والمفروض وقوع الشكّ في أنّ المورد الخاصّ من الأفراد التي لم يصادفها (6) التخصيص أو لا ، فكيف يتأتّى الاستناد إلى (7) العامّ في مثل المقام.

وأمّا أصل التفصيل فلأنّ قضيّة ما ذكره التفصيل بين ما هو من أجزاء المقتضي جزء كان أو شرطا ، وبين المانع ؛ إذ (8) الشروط قد يلاحظ في كلمات الشارع على وجه

ص: 477


1- المائدة : 1.
2- المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : لا ينهض.
3- في النسخ : فإنّه.
4- « ج » : دفع.
5- « ك » : بالمجمل.
6- « ز ، ك » : لم يصادقها.
7- « ز ، ك » : في.
8- « ك » : « و » بدل : « إذ ».

يحتمل أن يكون من أجزاء المقتضي.

نعم ، على تقدير اختصاص ذلك بالموانع يصحّ ما ذكره ، مع أنّ أصالة عدم المانع أيضا (1) تجدي هذه الجدوى كما لا يخفى ، ولعلّه لذلك قد عدل عن المقالة المذكورة إلى جريان الأصل في الشروط أيضا في مقام (2) ، فإنّها تظهر منه عند شرح قول العلاّمة في كتاب الضمان : ولا يصحّ من الصبيّ وإن أذن له الولي ، فلو اختلفا قدّم قول الضامن ؛ لأصالة براءة ذمّته (3) ، وليس لمدّعي الأهلية أصل يستند إليه ولا ظاهر يرجع إليه. فإنّه (4) أفاد في توجيه كلام العلاّمة ما ذكرنا من التفصيل (5) - (6) ، وصرّح بذلك في موضع آخر في كتاب الإجارة أيضا (7) وقال - فيما إذا قال البائع : بعتك وأنا صبيّ - بتقديم قول مدّعي الصحّة واندفاع أصالة عدم البلوغ بهذا الأصل (8) ، فتدبّر.

ومنها : إذا اتّحدت الصحّة عند الفاعل والحامل ، أو كانت الصحّة عند الفاعل أخصّ ، فلا إشكال في الحمل على الصحيح عند دوران الأمر بينه وبين الفاسد ، والوجه فيه ظاهر سيّما على الأخصّية.

وأمّا إذا كانت الصحّة عند الفاعل مباينة للصحّة عند الحامل كما إذا رأى الفاعل أنّ الأخرس طلاقه بالإشارة - مثلا - ولا يقع بالكتابة ، ورأى الآخر أنّ الأخرس طلاقه بالكتابة ولا يقع بالإشارة ، فهل يحمل الفعل على الصحيح عند العامل ، أو عند الحامل؟ وجهان : أظهرهما الحمل على الصحيح عند الفاعل ؛ إذ ربّما يعدّ ذلك من الحمل على الفاسد ولو عند العامل ، بل قد يكون عند العامل حمله على ما هو عند

ص: 478


1- « ز ، ك » : - أيضا.
2- « ز ، ك » : - في مقام.
3- المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : « ذمّتها ».
4- « ز ، ك » : لأنّه.
5- « ز ، ك » : التفاصيل.
6- جامع المقاصد 5 : 315.
7- جامع المقاصد 7 : 307 - 308 و 311 ، و 8 : 175 ( كتاب القراض ).
8- جامع المقاصد 4 : 452.

الحامل معصية (1) كما لا يخفى ، فيشمله أدلّة النهي عن الحمل على الفساد.

وأمّا إذا كانت الصحّة عند الحامل أخصّ من الصحّة عند العامل والفاعل عكس الصورة الأولى ، فعند العلم بوقوعه على وجه يوافق مذهب الحامل فلا إشكال أيضا في الحمل ، وأمّا مع عدم العلم بالمخالفة والمباينة فيصير مثل ما إذا تباينت (2) الصحّتان رأسا ، فلا بدّ من الحمل على الصحيح عند العامل ؛ لأنّ الحمل (3) على ما هو الصحيح عند الحامل إنّما هو حمل على الفاسد ، وهل يحكم بترتيب الآثار بالنسبة إلى غير العامل عند العلم بوقوعه على وجه المخالفة والمباينة ، أو لا؟ وجهان ، فلو حكم أحدهما بصحّة المعاطاة - مثلا - وحكم الآخر بالفساد مع علمه بوقوع المعاطاة من الحاكم بالصحّة ، فعلى الأوّل يجوز التصرّف في المبيع المزبور من غير الفاعل ، وعلى الثاني لا يجوز ، والكلام في هذه المسألة خارج عمّا نحن بصدده ، فإنّ الموضوع (4) المفروض ممّا علم فيه وجه الفعل والمعتبر في أصالة الصحّة عدم العلم بوجه الفعل كأن يكون مردّدا بين وجهي الصحيح والفاسد.

وتحقيق المقام مذكور في محلّه وملخّصه : أنّ مدرك الحكم المذكور إذا كان من المدارك التي يتعاطونها أرباب الاستنباط وأصحاب الاجتهاد من الأخبار والكتاب والعقل والإجماع (5) ، فإن كان الفعل المذكور من قبيل العبادات فلا يحكم بالصحّة فلا يصحّ استنابة من يرى عدم وجوب السورة مع العلم بعدم قراءتها للصلاة ولا يصحّ الايتمام به ، وكذا إذا كان من الأحكام فلا يحلّ أكل الذبيحة التي يرى بعضهم حلّيتها عند فري الودجين مثلا ، وأمّا إذا كان (6) الفعل معاملة كما إذا باع أحدهما بالفارسية أو

ص: 479


1- « ج » : بمعصية.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : تبانت.
3- « ز ، ك » : - لأنّ الحمل.
4- في النسخ : موضوع.
5- « ز ، ك » : الإجماع والعقل.
6- من قوله : « من الأحكام فلا يحلّ » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».

بالمعاطاة فالذي قوّيناه (1) في محلّه هو إمضاء هذه المعاملة بترتيب (2) آثار الملك عليها ، والوجه في الفرق بينهما مذكور في محلّه ، وأمّا إذا كان المدرك أمرا باطلا فلا عبرة به قطعا.

ومنها : هل الأصل المذكور يعمّ المسلم بأقسامه من المؤمن والمخالف والكافر أيضا ، أو يختصّ (3) بالمسلم (4) مطلقا ، أو يخصّ (5) المؤمن فقط؟ وجوه : أقواها الأوّل ؛ لقيام السيرة المستمرّة على حمل أفعال المخالفين والكفّار على الصحيح فيرتّبون (6) عليها آثارها المطلوبة منها من النقل والانتقال وإن كان ظاهر العنوان مخالفا لما ذكرنا كظاهر قول الأمير عليه السلام : « ضع » (7) لانتفاء الاخوة بين المؤمن والمخالف والكافر. ولك أن تقول : إنّ ترتيب (8) الآثار على تلك الأفعال ليس بواسطة حمل أفعالهم على الصحيح فيما لو دار بينه وبين الفاسد ، بل بواسطة وجوب إلزامهم على أمر ألزموا (9) به أنفسهم كما هو مفاد النصّ ، فيجوز التصرّف في المتعارضين في عقودهم وإن كان باطلا عندنا كما في ثمن الخمر ، ولا تحلّ (10) لنا نساؤهم إلى غير ذلك من الآثار ما لم تكن (11) متجاوزة عنهم إلينا ، وأمّا مع التجاوز كما في معاملتهم بشيء معاملة الطهارة أو النجاسة فلا يحمل على الصحّة كما لا يخفى.

ومنها : أنّ أصالة الصحّة لا تقضي (12) إلاّ بإثبات (13) الصحّة من الجهة المشكوكة ،

ص: 480


1- « ز ، ك » : قرّبناه.
2- « ز ، ك » : بترتّب.
3- « ز ، ك » : « يخصّ ».
4- « ك » : المسلم.
5- « ج ، م » : يختصّ.
6- المثبت من « ز » وفي سائر النسخ : فيترتّبون.
7- تقدّم في ص 470.
8- « ز » : ترتّب.
9- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ما لو لزموا.
10- في النسخ : ولا يحلّ.
11- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : لم يكن.
12- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : لا تقتضي.
13- « ك » : إثبات.

وأمّا الجهة التي لا تناط (1) بالجهة المشكوكة فلا سبيل إلى إحرازها بالأصل المذكور ، مثلا لو شكّ في صحّة الإيجاب في العقد فحمله على الصحيح لا ينافي عدم تعقّبه (2) بالقبول ؛ لأنّ صحّة الإيجاب لا يناط بتعقّبه بالقبول.

نعم ، صحّة الإيجاب بمعنى وقوعه مؤثّرا في حصول مضمونه منوط بتعقّبه للقبول وهذه ممّا لم يقم عليها دليل ، ومن هنا ينقدح فساد ما قد توهّمه بعض الأواخر انتصارا للمشهور فيما إذا اختلف الراهن والمرتهن في وقوع البيع على العين المرهونة فيما إذا أذن المرتهن بذلك قبل الإذن وبعده ، فزعم أنّ الوجه في تقديم قول المرتهن هو أصالة صحّة البيع فإنّ صحة البيع معناها وقوعه على وجه يترتّب عليه آثاره الشرعية ، و (3) أمّا وقوعه قبل الإذن أو بعد الإذن فمن الأمور العقلية التي لا مدخل للصحّة فيها (4) ، ونظير ما لو تمسّك بأصالة الصحّة في الإذن فإنّ (5) حمل الإذن على الصحيح لا يقضي (6) بوقوع البيع بعد الإذن كما هو المطلوب ، ومن هنا نقول بتقديم قول منكر الإجارة والقبض في الفضولي والصرف والهبة مع جريان أصالة الصحّة في البيع والهبة كما لا يخفى.

ومنها : قد يظهر من بعض من لا دربة (7) له إنكار جريان أصالة حمل الفعل على الصحيح فيما إذا كان الفاعل هو الغير ، وهو على إطلاقه من أسخف الاحتمالات ؛ لظهور أنّ مدارك الأصل إنّما هي تجري (8) في فعل الغير فقط ، ولذلك أفردناه (9) عن الأصل المتقدّم (10) في هداية مستقلّة.

ص: 481


1- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : لا يناط.
2- « ز ، ك » : « نقصه » وكذا كانت أوّلا في نسخة « م » ثمّ غيّرها بما في المتن.
3- « ز ، ك » : - و.
4- في النسخ : فيه.
5- « ز ، ك » : - فإنّ.
6- « م » : لا يقضي.
7- « ز ، ج » : درية ، « ك » : دراية.
8- في النسخ : يجري.
9- « ز ، ك » : أفردنا.
10- « ز ، ك » : المقدّم.

نعم ، في المقام شيء يجب الالتفات إليه وهو أنّ الأفعال الصادرة عن الغير على وجوه متعدّدة : فتارة : لا يكون متعلقا لتكليف الحامل إلاّ على وجه عرضي فرضي ، كما لو باع شيئا وشكّ في صحّته وفساده ، وتارة : يكون متعلّقا لتكليفه فتارة : على وجه الوجوب الكفائي ، كما في دفن الأموات وكفنها والصلاة عليها والقضاء بين المسلمين ونحوها من الواجبات الكفائية المتعلّقة بجميع أرباب التكليف ، وأخرى : لا على وجه الوجوب الكفائي ، كما فيما (1) لو استناب أحدا ليعمل عنه عملا.

لا شكّ في جريان أصالة الصحّة في الأوّل وإن كان صحّة الفعل مؤدّيا إلى ما هو متعلّق بتكليف (2) الحامل بالعرض ، كما لو نذر التصدّق بشاة مخصوصة باعها غيره ، فإنّ أصالة الصحّة في البيع المذكور يكفي في الحكم ببراءة ذمّته عن النذر فيما لو تصدّق بها كما أنّه لا ريب في كفاية أصالة الصحّة في الواجبات الكفائية ، ولذلك لا تراهم بعد علمهم بمباشرة واحد من أهل الكفّار بالفعل متفحّصين عن وجه الفعل وصحّته وفساده وليس ذلك إلاّ بواسطة الحمل على الصحّة.

وأمّا القسم الأخير فقد يظهر من جماعة اعتبار العدالة في النائب وعدم اكتفائهم بحمل فعله (3) على الصحيح من حيث إنّه متعلّق بتكليفه وإن كان يحمل عليه من جهة تعلّقه بالفاعل ، مثلا لو استناب أحدا للحجّ الواجب عليه فأصالة الصحّة في فعل النائب يجدي في استحقاقه الأجرة ولا يجدي في الحكم ببراءة ذمّة المنوب عنه ، فاعتبروا في ذلك العدالة. وقد يشكل ذلك من حيث عدم ظهور الفرق بينه وبين القسم الثاني من الواجبات الكفائية ، ولعلّ الوجه في الفرق بينهما أنّ المطلوب في الواجب الكفائي هو وقوع الفعل صحيحا في الخارج فهو مركّب من أمرين : أحدهما : أصل وجود الفعل ، وثانيهما : كونه على وجه الصحّة ، وكلاهما محرزان ، أمّا الأوّل

ص: 482


1- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : في.
2- « ج ، م » : لتكليف.
3- « ز ، ك » : فعلهم.

فبالفرض ، وأمّا الثاني فبالأصل ، فلا وجه للقول بعدم الاكتفاء ، والمطلوب في أعمال النائب هو وقوع الفعل في الخارج صحيحا عن المنوب عنه ، فهو مركّب من أمور ثلاثة : أحدها : الأوّل ، وثانيها (1) : الثاني ، وثالثها : وقوعه عنه ، وغاية ما يستفاد من الأصل هو وقوعه صحيحا ، وأمّا وقوعه صحيحا عنه فلا يقضي (2) أصالة الصحّة به فلا بدّ في إحراز ذلك (3) من التماس وجه آخر كاخباره إذا كان ممّن يعتدّ بأخباره كما إذا كان عادلا ، كذا أفاد ولعمري إنّه (4) قد أجاد فهو الجواد الذي لا يكبو.

المطلب الثاني

المطلب الثاني (5)

في تعارضها مع الاستصحاب ، فنقول : لا إشكال في تقدّم (6) أصالة الصحّة على استصحاب حكمي عدمي لا ينفكّ عنه دائما وهو استصحاب الفساد (7) المعمول في كلّ المعاملات والعبادات وعدم وقوع العقد على وجه يترتّب (8) عليه الأثر ، وإلاّ فلم يكن لجعل الأصل المذكور مورد (9) كما قد عرفت ورود أصالة وقوع الفعل فيما تجاوز محلّه على أصالة عدم وقوعه ، ولا ينبغي الإشكال أيضا في تقدّم (10) أصالة الصحّة على استصحاب موضوعي لا ينفكّ عنه دائما أيضا وهو أصالة عدم وقوع هذا الفعل المخصوص المشكوك صحّته وفساده صحيحا ، ولا يعارضه أصالة عدم وقوعه فاسدا كما هو الشأن في جميع الأصول الخارجة في الأمور الحادثة ؛ لعدم ترتّب شيء على

ص: 483


1- « ز ، ك » : الثاني.
2- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : فلا يقتضي.
3- « ز ، ك » : - ذلك ، وفي « ك » : إحرازه.
4- « ز ، ك » : - إنّه.
5- تقدّم الأوّل منهما في أوّل الهداية.
6- « ج » : تقديم.
7- في نسخة « ج » زيادة وهي : « لأنّ الأصل الموضوعي على الأوّل متعارضان ، كما إذا شكّ في وقوع العقد على الخلّ أو الخمر أو وقوعه في الإحلال والإحرام ونحو ذلك ، فكيف كان فهذا الأصل » وستأتي هذه الزيادة في سائر النسخ بعد قوله : « يتعارضان بخلاف الأوّل » الآتي بعد سطور.
8- « ز » : ترتّب.
9- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : موردا.
10- « ج » : تقديم.

أصالة عدم وقوعه فاسدا إلاّ على القول بالأصول المثبتة التي لا تعويل عليها عند التحقيق ، لأنّ القول بتقديم هذا الاستصحاب على أصالة الصحّة هدم لما أسّسناه من القول بالأصل المذكور ، واللازم ضروري الفساد ؛ لما عرفت من المفاسد لولاه.

وإنّما الكلام في تقديم أصالة الصحّة على استصحاب موضوعي ينفكّ عنه في بعض الأحيان ، وهو أصالة عدم وقوع الموضوع الذي يشكّ من جهته في صحّة العقد وفساده ، مثلا إذا شكّ في صحّة العقد بواسطة الشكّ في رؤية المبيع أو بواسطة الشكّ في القبض في الصرف أو في الهبة ، فالأصل عدم وقوع الرؤية وعدم القبض.

وأمّا وجه انفكاكه عنه أنّ الشكّ في الصحّة قد يكون بواسطة وقوع العقد على واحد من الحادثين ، وقد يكون بواسطة وجود أمر معلوم العدم في السابق ، أو انتفاء أمر معلوم الوجود في السابق ، فعلى الأخيرين يتعارضان بخلاف الأوّل ؛ لأنّ الأصل الموضوعي على الأوّل متعارضان ، كما إذا شكّ في وقوع العقد على الخلّ أو الخمر ، أو وقوعه في الإحلال أو الإحرام ونحو ذلك.

فكيف كان ، فهل الأصل المذكور مقدّم على الاستصحاب الموضوعي الذي ينفكّ عنه مع كونه مزيلا للشكّ في الصحّة والفساد ، أو لا؟ فيه إشكال نظرا إلى اختلاف كلمات الفحول في المقام وعدم مساعدة الأصول عليه أيضا ، فإنّ المحقّق في مقامه أنّ الأصول التي هي مزيلة للشكّ المأخوذ في موضوع الأصول الأخر مقدّمة عليها وقضيّة ذلك تقديم الاستصحاب الموضوعي عليه ، ومع ذلك فلا نرى للتقديم وجها وجيها.

ويظهر من العلاّمة (1) تقديم الاستصحاب عليه وتبعه في ذلك أوّل الشهيدين وثاني المحقّقين ، قال العلاّمة في كتاب الضمان من القواعد : ولا يصحّ من الصبيّ وإن أذن له الوليّ ، فإن (2) اختلفا قدّم قول الضامن ؛ لأصالة براءة الذمّة وعدم البلوغ (3). وذكر في

ص: 484


1- من قوله : « تقديم الاستصحاب الموضوعي » إلى هنا سقط من « ز ، ك ».
2- « ك » : ولو ، وفي « ز » : و.
3- قواعد الأحكام 2 : 156.

التذكرة : لو ادّعى المضمون له أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ وقال الضامن : بل ضمنت لك قبله ، فإن عيّنا الضمان (1) وقتا وكان البلوغ (2) غير محتمل فيه قدّم قول الصبيّ ، لحصول العلم بعدم البلوغ ولا يمين على الصبي لأنّها إنّما تثبت في المحتمل ، وإن كان الصغر غير محتمل قدّم قول المضمون له من غير يمين ؛ للعلم بصدقه ، فإن احتمل (3) الأمران و (4) لم يعيّنا له وقتا فالقول قول الضامن مع يمينه (5).

فحكم العلاّمة بتقديم قول الصبيّ في هذه الصورة مع جريان أصالة الصحّة يكشف عن تقديمه أصالة عدم الصبيّ على أصالة الصحّة ، وقوله في القواعد : وليس لمدّعي الصحّة أصل يعوّل عليه ولا ظاهر يستند إليه ، صريح فيما ذكرنا. وصرّح الشهيد رحمه اللّه (6) بمعارضة أصالة الصحّة لأصالة عدم الصبيّ وحكم بالرجوع إلى أصالة البراءة ، وقد عرفت أنّ المحقّق الثاني أيضا قد اختار مذهب مصنّفه في شرح العبارة ، ويظهر من الشهيد الثاني (7) تقديم أصالة الصحّة على الاستصحاب في جملة من الموارد ، ولعلّه هو الأقرب.

وتحقيق المقام يحتاج إلى تمهيد فنقول : لا إشكال في لزوم الأخذ بأصالة الصحّة فيما إذا كان الشكّ في الصحّة وعدمها (8) مستندا إلى الشكّ في وقوع العقد على أحد الحادثين لتساقط الأصل من الجانبين ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصالة الصحّة على تقدير تأخيرها عنه أيضا ، وأمّا إذا كان الشكّ مسبّبا عن الشكّ في وجود أمر غير معلوم كما في الشكّ في الصحة الناشئة عن الشكّ في الرؤية فلا بدّ من ملاحظة أنّ الثابت بأصالة

ص: 485


1- في المصدر : للضمان.
2- المثبت من المصدر وهامش « ك » ، وفي سائر النسخ : الضمان.
3- « ز ، ك » : وإن احتمل.
4- في المصدر : أو.
5- تذكرة الفقهاء 2 : 87 ( الطبعة الحجرية ).
6- نقله عن حواشيه في جامع المقاصد 5 : 315.
7- انظر مسالك الأفهام 3 : 268.
8- « ز » : قدمها.

الصحّة ما ذا فهل هو مجرّد وصف الصحّة بدون الموصوف فيحكم بترتيب (1) آثار الوصف فقط دون الموصوف ، أو وصف الصحّة في موصوف بقدر احتياجه (2) إليه فيحكم بثبوت الموصوف على وجه يتحمّل إثبات الوصف والصحّة ، أو يحكم بثبوت الموصوف على جميع وجوهه وعناوينه فيترتّب عليه جميع الآثار المترتّبة على ذلك الموضوع كما إذا ثبت الموضوع بالاستصحاب ، فلو قلنا بأنّ الثابت بالأصل هو الوصف فقط فلا إشكال في ورود الأصل الموضوعي على أصالة الصحّة ؛ لأنّ المزيل مقدّم على المزال كيف ما كان ، ولو (3) قلنا بأحد الأخيرين فالتحقيق هو تقديم أصالة الصحّة على الأصل الموضوعي من باب الحكومة ، فإنّ السيرة القائمة على الأخذ بأصالة الصحّة تكشف عن أنّ مورد الشكّ المعتبر في الاستصحاب ليس فيما يجري فيه أصالة الصحّة ، وليس الاستصحاب حينئذ مزيلا ؛ لأنّ الثابت بأصالة الصحّة هو نفس الرؤية لا الصحّة المتفرّعة عليها ليكون استصحاب عدم الرؤية كافيا في إثبات عدم الصحّة ف- [ -قضيّة ] عدم وقوع الرؤية وأصالة وقوعها كما هو مفاد الأصلين تعارضهما ، وقضيّة حكومة أصالة الصحّة على أصالة العدم تقدّمها عليها ، وإن أبيت عن الحكومة فلا شكّ في أنّ الظهور في أصالة الصحّة أخصّ من الظهور في الاستصحاب كما في تعارض الغلبة النوعية والصنفية.

ثمّ لا يخفى أنّ التحقيق هو إثبات وصف الصحّة في موصوف لا على جميع عناوينه ، فلا يحكم بوجود الرؤية فيما لو (4) شكّ فيها مطلقا أخذا بأصالة الصحّة ؛ إذ لم يقم عليه دليل ، بل الثابت بالدليل هو إثبات الرؤية على وجه يكفي في قيام الوصف به شرعا ، كما عرفت نظيره في أصالة وقوع الفعل فيما جاوز محلّه فإنّه لا يحكم بوقوعه مطلقا

ص: 486


1- « ز » : بترتّب.
2- « ز ، ك » : احتياجها.
3- « ز ، ك » : فلو.
4- « ج ، م » : - لو.

على جميع وجوهه وعناوينه ، فلو فرضنا أنّ (1) الرؤية ممّا يترتّب عليه أحكام أخر كما لو نذر على تقديرها شيئا لا يحكم بوجوبه كما لا يخفى ، وقد يظهر منهم الحكم بوقوعه مطلقا وليس في محلّه فإنّ أصالة عدم الرؤية محكّمة فيه ، فبالحقيقة يؤخذ بأصالة الصحّة في إثبات الرؤية لأجل إثبات الصحّة ، ويؤخذ بأصالة العدم لإثبات سائر الأحكام ، وذلك ظاهر فيجمع بينهما على الوجه المذكور.

نعم ، فيما إذا كان الشكّ في الصحّة باعتبار الشكّ في وقوع العقد على أحد الحادثين كما لو باع شيئا واختلفا في أنّه الخمر أو الخلّ ، قد يظهر (2) من غير واحد منهم وقوع العقد على الخلّ دون الخمر مع أنّ الاقتصار على ثبوت الصحّة لا يقتضي (3) تعيين (4) الموصوف كما لا يخفى ، فتدبّر في المقام فإنّه في غاية الإعضال (5) ونهاية الإشكال واللّه الموفّق وهو (6) الهادي.

ص: 487


1- « ز ، ك » : - أنّ.
2- « ز ، ك » : وقد يظهر.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لا يقضي.
4- « ز ، ك » : تعيّن.
5- « ز » : الاعتضال.
6- « ز ، ك » : - هو.

ص: 488

هداية في تعارض الاستصحابين

وقد تصدّى بعضهم (1) في المقام بإيراد أقسام التعارض فيهما على حسب اختلاف الوجوه المتصوّرة فيه ، فقسّمهما (2) موردا إلى ما تعارضا في مورد واحد كاستصحابي (3) الطهارة والحدث مع العلم بهما فيما إذا شكّ في السبق واللحوق ، أو في موردين كاستصحاب طهارة الماء الواقع فيه الصيد واستصحاب عدم زهوق روحه مثلا.

ومستصحبا إلى الوجوديين أو العدميين أو مختلفين ، إمّا حكميين أو موضوعيين أو مختلفين.

وباعتبار وجه التعارض إلى ما كان التعارض بينهما بالذات كاستصحابي الطهارة والحدث ، أو بواسطة التضادّ بين لازميهما كما في استصحابي (4) الطهارة والاشتغال إذ لا تعارض بينهما إلاّ (5) بملاحظة أنّ لازم الأوّل عدم المؤاخذة ولازم الثاني العقاب ، أو بواسطة أمر خارج من علم إجمالي كما في الشبهة المحصورة ، أو إجماع كما في استصحاب طهارة الماء إذا انضمّ إليه ماء نجس مجموعهما كرّ واحد.

وباعتبار الشكّ المأخوذ فيهما إلى ما يكون أحد الشكّين دائرا مدار الآخر وجودا

ص: 489


1- ضوابط الأصول : 440.
2- « ز ، ك » : فقسمتها.
3- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : كاستصحاب.
4- « ز ، ك » : استصحاب.
5- « م » : - إلاّ.

وعدما متولّدا منه مسبّبا عنه كما في استصحاب الاشتغال عند الشكّ في الطهارة ، وإلى ما لا يكون أحد الشكّين مسبّبا عن الآخر كما في استصحابي الطهارة والحدث.

وقد توهّم بعضهم (1) : أنّه قد يكون كلّ من الشكّين مسبّبا عن الآخر ومثّله باستصحابي عدم التخصيص في العامّين من وجه في مورد التعارض ، فإنّ الشكّ في تخصيص كلّ منهما مسبّب عن الشكّ في تخصيص الآخر.

وليس بسديد ؛ لعدم معقولية العلّة (2) من الطرفين فإنّه دور ظاهر ، وأمّا ما أورده من التمثيل فواضح السقوط ؛ لأنّ الشكّ إنّما هو من أمر خارج ثالث وهو عدم البيان (3) ، ويشعر بذلك انتفاؤهما عنده فإنّ علّة ارتفاعهما عدمها (4) علّة حدوثهما كما هو ظاهر.

والحقّ أنّ التقسيمات المذكورة (5) ممّا لا يجدي شيئا فيما نحن بصدده إلاّ التقسيم الأخير ، وأمّا باقي الأقسام فلا يختلف الحكم باختلافها (6) ، فلا فائدة في تطويل البحث بإيراد كلّ منها (7) في مقام كما صنعه المتصدّي.

وإذا عرفت ذلك فنقول : إذا كان الأصلان المتعارضان ممّا يترتّب على كلّ منهما شيء لا يترتّب على الآخر ، فإن كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر فالحكم هو تقديم (8) الاستصحاب الذي في مورد الشكّ السببي على الاستصحاب في الشكّ المسبّبي ، وإن لم يكن أحدهما مسبّبا عن الآخر فالحكم هو التساقط لا التخيير ولا الترجيح فالمرجع (9) إلى أصل آخر ، وإذا لم يكن الأصلان ممّا يترتّب على (10) كلّ منهما أثر فالمحكّم هو الأصل الذي يترتّب عليه الأثر ، ومن هنا يظهر الوجه فيما أفتوا به جملة من أنّ الخيّاط لو قطع الثوب قباء فقال المالك بقطعة قميصا ، فالقول قول

ص: 490


1- مناهج الأحكام : 248.
2- « ج » : الغلبة؟
3- « ج ، م » : النسيان.
4- « ج » : عدمهما.
5- « ز ، ك » : التقسيم المذكور.
6- « ز » : باختلافهما.
7- « ز » : منهما.
8- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : تقدّم.
9- « ز » : فالمرجّح؟
10- « ج ، ز » : - على.

المالك ؛ لأصالة عدم الإذن في القطع في القباء ، ولا تعارضها (1) أصالة عدم الإذن في القميص ؛ إذ لا أثر في المعارض إلاّ على وجه لا تعويل عليه من القول بإثبات الأصل أحكاما عاديّة أو عقلية ، وسيظهر لك الوجه في ذلك عن قريب.

قلنا : في المقام دعويان : إحداهما : تقديم الأصل في مورد الشكّ السببي على الأصل في مورد الشكّ المسبّبي ، وثانيتهما (2) - (3) : تساقط الأصلين (4) فيما عدا ذلك على أيّ وجه فرض من الأقسام المذكورة.

أمّا الأولى : فتارة : يقع الكلام من حيث إنّ الاستصحاب من الأمارات الظنّية ، وأخرى : من حيث كونه حكما تعبّديا ، أمّا على الأوّل فلا إشكال في تقديم السببي المزيل على المسبّبي المزال ؛ ضرورة أنّ الظنّ بالسبب يلازم الظنّ بالمسبّب والمفروض قيام الأمارة الظنّية على وجود السبب فلا يعقل (5) الانفكاك.

وتوضيح ذلك : أنّ المسبّب من الأحكام المترتّبة على السبب ومن الأمور اللازمة له والمفروض حصول الظنّ بالملزوم لوجود أمارته ، فالمسبّب (6) لا يخلو إمّا أن يكون مظنونا ، أو مشكوكا ، أو مظنون العدم ، لا سبيل (7) إلى الأخيرين ، أمّا الأوّل منهما فظاهر البطلان ؛ لأنّ الظنّ بالعلّة علّة تامّة للظنّ بالمعلول ولا يمكن التخلّف ، وأمّا الثاني فلأنّ الظنّ بالعدم في جانب المعلول والمسبّب لا يعقل إلاّ بعد ارتفاع الشكّ عن (8) العلّة والسبب ، فالأمارة الظنّية القائمة في جانب المعلول لا بدّ من قيامها في الحقيقة في جانب العلّة على خلاف مقتضى الاستصحاب كأن تكون (9) حاكمة بانتقاض الحالة

ص: 491


1- « ج » : لا تعارضهما.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : ثانيهما.
3- سيأتي الكلام عنها في ص 507.
4- بناء على التعبّد ، وأمّا بناء على الظنّ فظاهرهم الاختلاف في ذلك ، فحكموا بالتساقط في الأغلب ، كما سيأتي في ص 507.
5- « م » : فلا يقل.
6- « ز ، ك » : كالمسبّب.
7- « ز ، ك » : ولا سبيل.
8- « ز ، ك » : من.
9- في النسخ : يكون.

السابقة في جانب العلّة والمفروض خلافه ، وبالجملة فالظنّ كالعلم والشكّ في المعلول (1) مانع للظنّ والعلم والشكّ في العلّة ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ فيما لو كان المستصحب ملتفتا إلى مجرى الاستصحاب في السبب أوّلا ؛ إذ لو فرض التفاته إلى مجرى الاستصحاب في المسبّب يجري فيه الاستصحاب ، فتنعكس (2) القضيّة ؛ إذ كما أنّ الظنّ بالعلّة يوجب الظنّ بالمعلول كذا الظنّ بالمعلول يوجب الظنّ بالعلّة ، فلا يمكن القول بتقديم الاستصحاب (3) السببي ؛ لانتفاء ما هو الملاك في الاستصحاب من لزوم كون المورد مشكوكا ، ولئن سلّمنا عدم حصول الظنّ من المسبّب بوجود السبب فلا أقلّ من القول بعدم حصول الظنّ من الطرفين ، كما إذا فرضنا قيام البيّنة على الطرفين فإنّه لا يكاد يحصل الظنّ عند تعارض الأمارتين في طرفي العلّة والمعلول ؛ لأنّ ما يوجب الظنّ بالعلّة بعينه قائم (4) في طرف المعلول فيكافئان فلا يحصل الظنّ بشيء منهما.

قلت : وهذه غفلة واضحة ؛ لأنّ المفروض أنّ الشكّ في المسبّب ناش عن الشكّ في السبب ، فيمتنع (5) الالتفات إليه من دون التفات إلى الشكّ في السبب ، وبعد الالتفات إليه مع الحالة السابقة فيتحقّق ملاك الاستصحاب فيه وبتحقّقه يرتفع الملاك في المسبّب ، وما ذكره المعترض مبنيّ على أن يكون الشكّ في المسبّب في عرض الشكّ في السبب ، فإنّه لا ملازمة بين الشكّين على تقديره فيمكن الالتفات إلى أحدهما دون الآخر.

وأمّا حديث الانعكاس فواه جدّا ؛ إذ لم يذهب وهم إلى أنّ الأخذ باستصحاب (6) المسبّب يوجب انتقاض الحالة السابقة في السبب ، غاية ما يمكن أن يتوهّم (7) هو الأخذ

ص: 492


1- « ز ، ك » : بالمعلول.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : فينعكس.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : استصحاب.
4- « ز ، ك » : في العلّة بعينه موجود.
5- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : فيمنع.
6- « ز ، ك » : بالاستصحاب.
7- « ز ، ك » : أن يقال.

بالحالة السابقة في السبب في غير ما يترتّب عليها بالنسبة إلى المسبّب أخذا بالاستصحاب في المسبّب أيضا ، والسرّ فيه أنّ دليل الإنّ إنّما يتمّ فيما إذا لم يكن دليل على انتفاء العلّة ؛ إذ لو فرض وجود الدليل على ارتفاع العلّة فوجود الدليل على بقاء المعلول ممّا لا يجدي شيئا ، لكونه شأنا من شئونه وطورا من أطواره.

اللّهمّ إلاّ أن يكون مفاد الدليل الدالّ على وجود المعلول هو ثبوت العلّة فإنّهما حينئذ يتعارضان.

ومن هنا ينقدح أنّ ما ذكره من تعارض الأمارتين في طرفي المعلول والعلّة كالبيّنتين ، ممّا (1) لم يقع في محلّه أيضا أمّا أوّلا فلأنّ قيام البيّنة على المعلول مع أنّ المفروض نشو الشكّ فيه من الشكّ في العلّة من غير تعرّض لوجوده (2) في مفاد البيّنة غير معقول. وأمّا ثانيا : فلأنّ وجود إحدى البيّنتين لا يناط بوجود الأخرى (3) ، فيمكن قيامها على طرفي الخلاف ، بخلاف الاستصحابين ؛ لأنّ ملاك الأمر فيه على الحالة السابقة وهي في المعلول تابع لها في العلّة ، فلا يمكن انتهاضها أمارة في المعلول بوجه ، فظهر (4) فساد ما توهّمه من عدم الظنّ في الطرفين ؛ لمكان التعارض بين الأمارتين كما لا يخفى.

فإن قيل : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ فيما إذا قلنا بالاستصحاب من حيث إفادته الظنّ في خصوص الموارد لامتناع قيام الظنّ على المعلول بعد فرض قيامه على العلّة ، وأمّا إذا (5) كان اعتباره من باب إفادته الظنّ نوعا فلا مانع من الأخذ بأحكام المسبّب نظرا إلى الأمارة القائمة (6) عليه بحسب الشرع.

قلنا : وهذه أيضا غفلة صريحة ؛ إذ الأمارة في طرف العلّة لو كانت مفيدة للظنّ

ص: 493


1- « ز ، ك » : ما.
2- « ج ، م » : لوجودها.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : الآخر.
4- « ز ، ك » : يظهر.
5- « ز ، ك » : إن.
6- « ز ، ك » : أمارة قائمة.

الشخصي فلا مجال لاعتبار الاستصحاب في طرف المعلول ؛ لأنّ الظنّ بالعلّة يلازم الظنّ بالمعلول والمأخوذ في مورد الاستصحاب عدم كونه مظنونا ، وإن لم تكن (1) مفيدة للظنّ ففي جانب المعلول لا نسلّم وجود الأمارة النوعية ، فإنّ المدّعى هو أنّ صنف الحالة السابقة في المعلول فيما إذا كانت العلّة مسبوقة بالحالة السابقة لا يفيد الظنّ ، ومجرّد أنّ الحالة السابقة في كلّي الموجودات يفيد الظنّ لا يجدي في المقام بعد معارضته بخصوص المورد (2) صنفا أو نوعا.

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام جماعة من الفحول كالمحقّق والعلاّمة وأضرابهما مع ذهابهم إلى حجّية الاستصحاب من باب الظنّ حيث إنّهم لا يرون تقديم المزيل على المزال ، فالمحقّق (3) حكم بتعارض استصحاب الطهارة باستصحاب اشتغال الذمّة (4) بالصلاة ، والعلاّمة (5) حكم - في مسألة الصيد المرميّ في الهواء الواقع في الماء مع الشكّ في استناد موته إلى الرمي - بنجاسة الصيد وعدم جواز أكله وطهارة الماء ، فيا للعجب منهم فإنّ القول بحرمة الأكل وانقطاع أصالة الحلّ بالموت وطهارة الماء من العجائب ؛ إذ ترتيب (6) بعض الأحكام المترتّبة على أصالة عدم التذكية من الحكم بحرمة الأكل دون بعض آخر من الحكم بنجاسة الماء الملاقي له مع اشتراكهما في جريان الأصل فيهما ترجيح بلا مرجّح ، وسيأتي لذلك زيادة تحقيق.

ولنعم ما صنعه صاحب الحدائق في المقام مع سلوكه في أمثاله مسلكا وعرا ، فهو حقيق بمن لم ينهج كالعلاّمة منهجا عسرا حيث قال في مقام تعداد المياه (7) المشتبه - بعد ما فرض مثل ما فرضه العلاّمة من الصيد ، وبعد ما ذكر أدلّة الطرفين - : والذي يظهر

ص: 494


1- في النسخ : لم يكن.
2- « ج » : الموارد.
3- انظر المعتبر 1 : 32 ؛ مختصر النافع : 21.
4- « ز ، ك » : بتعارض الطهارة باشتغال الذمّة.
5- تحرير الأحكام 1 : 55 ، وفي ط الحجري : 6 ، انظر أيضا منتهى المطلب 1 : 29 ، ط الحجري.
6- « ز ، ك » : ترتّب.
7- « ز ، ك » : الماء.

لي أنّ كلام الجميع غير خال عن الإجمال ، بل الاختلال ؛ إذ لا يخفى أنّ ثبوت النجاسة للماء وعدمها إنّما نشأت (1) من الصيد والحكم بطهارته أو نجاسته ، فالواجب أوّلا : بيان الحكم فيه بالطهارة أو النجاسة ، ولا ريب أنّ مقتضى عدم التذكية عندهم كما يكون (2) موجبة للتحريم كذلك يكون (3) موجبة للنجاسة كما صرّحوا [ به ] في جملة من المواضع ، منها الجلد (4) ومنها اللحم المطروحان (5) حيث حكموا بالتحريم والنجاسة بناء على الأصل المشار إليه ، وحينئذ فكما يكون العلم بعدم التذكية موجبا للتحريم والنجاسة كذلك حال الاشتباه وعدم العلم موجب لهما ، ولا ريب أنّ الصيد في الصورة المفروضة ممّا اشتبه فيه الحال بالتذكية وعدمها ، والتمسّك بأصالة عدم التذكية يوجب الحكم بتحريمه ونجاسته ، ومتى تثبت (6) نجاسته فوقوعه في الماء القليل موجب لتنجيسه عند القائل بها بالملاقاة (7) والنجاسة لا تختصّ (8) بالترتّب على العلم بعدم التذكية خاصّة الذي هو الموت حتف الأنف حتى يتمّ لهم أنّ النجاسة هنا مشكوك فيها لاحتمال التذكية ، بل كلّ (9) ما يترتّب على ذلك يترتّب (10) على الشكّ أيضا كما عرفت ، فإنّه لمّا كان كلّ من حلّ الصيد وطهارته مترتّبا على العلم بالتذكية كان انتفاؤهما بانتفاء ذلك تحقيقا للسببية ، وعدم العلم بالتذكية كما عرفت أعمّ من العلم بالعدم.

وبالجملة : فنجاسة الماء وطهارته في الصورة المزبورة (11) دائرة مدار طهارة الصيد ونجاسته وقد عرفت أنّ عدم العلم بالتذكية كما يكون سببا في التحريم يكون سببا في

ص: 495


1- في المصدر : نشأ.
2- في المصدر : تكون.
3- في المصدر : تكون.
4- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : أكله.
5- في المصدر : المواضع منها مسألة اللحم والجلد المطروحين.
6- « ز ، ك » : ثبت.
7- في المصدر : القائل بنجاسة القليل بالملاقاة.
8- في النسخ : لا يختصّ.
9- « ز ، ك » : كان.
10- في المصدر : بل كما تترتّب على ذلك تترتّب.
11- « ز ، ك » : - في الصورة المزبورة.

النجاسة ، وحينئذ فقول المستدلّ : إنّ الشكّ في استناد الموت إلى الجرح أو الماء يقتضي الشكّ (1) ، مسلّم لو كانت النجاسة مترتّبة على الموت حتف الأنف خاصّة كما ذكروه ، وأمّا إذا قلنا بترتّبها أيضا على الشكّ في التذكية وعدم العلم بها فلا ، وحينئذ (2) فالظاهر هو القول بالنجاسة (3) ، انتهى ما أفاده بلّغه اللّه مراده (4). وهو جيّد جدّا وإن قصر بيانه عن إفادة السرّ في ذلك كما لا يخفى على من لاحظ ما ذكره بعد ما ذكرنا ، هذا تمام الكلام فيما إذا قلنا بالاستصحاب ظنّا.

وأمّا على الثاني (5) : فالحقّ أيضا تقديم الاستصحاب (6) المزيل على المزال خلافا لما يظهر من محقّق القوانين (7) وإن كان خلافه غير مختصّ بما إذا كان الاستصحاب حجّة تعبّدية كما هو المفروض. وبالجملة : فالذي يراه في أمثال المقام هو الحكم بالجمع بين مقتضى الأصلين ، فيؤخذ في مورد التعارض بالأصل في المزال ، وفي غيره بالأصل في المزيل كما يحكمون بالتفكيك في موارد جمّة في الأحكام الشرعية كما هو ظاهر.

ويدلّ على ما ذكرنا من تقديم المزيل وجوه من الأدلّة :

الأوّل : الإجماع القطعي ، وتقريره هو أنّا نعلم بالحدس الصائب أنّه يمكن تصوير (8) صور فرضية (9) لو سئل عنها عن كلّ قرع سمعه حديث العلم لم يمكنهم الجواب (10) عنها (11) إلاّ على وجه يقدّم فيه المزيل (12) على المزال ، ويكشف عن ذلك ملاحظة بعض الفروض والصور ، فإنّ استصحاب العدالة يجدي في جواز الاقتداء بمن اتّصف بها وحرمة

ص: 496


1- في المصدر : الشكّ في عروض النجاسة.
2- المثبت من « ك » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : فحينئذ.
3- الحدائق الناضرة 1 : 527 - 528.
4- « ز ، ك » : - بلّغه اللّه مراده.
5- أي على كون الاستصحاب حكما تعبّديا ، وتقدّم الكلام بناء على الظنّ في ص 491.
6- « ز » : استصحاب.
7- القوانين 2 : 76 وسيأتي عنه أيضا.
8- « ز ، ك » : ممكن تصوّر.
9- « ج ، ك » : فرضه.
10- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : الجواز.
11- « م » : - عنها.
12- « ز ، ك » : وجه تقديم المزيل.

المطلّقة التي طلّقت بمحضر منه وقبول شهادته والإيصاء به واستنابته وتوكيله فيما كانت مشروطة بها مع أنّ الأصل في جميع ذلك عدم ترتّبها كما لا يخفى ، واستصحاب طهارة (1) الماء يجدي في جواز الغسل به والتطهير به وشربه وتعمير المسجد به ونحو ذلك من الأمور المخالفة للأصل ، واستصحاب طهارة الأرض يجدي في جواز السجود عليه والتيمّم به (2) ، واستصحاب نجاسة العصير يجدي في حرمة أكله ونجاسة ملاقيه من الأجسام ، واستصحاب حياة الزوج يجدي في وجوب نفقتها على الزوج وحرمة تزويجها وعدم جواز تقسيم ماله إلى غير ذلك من الأحكام ، ومنها استصحاب عدم التذكية لحرمة اللحم ونجاسة الجلد وعدم جواز البيع وعدم جواز الاستصباح بالشحم (3) إلى غير ذلك من الأمور المترتّبة عليها من الأحكام المخالفة للأصول في طرف هذه الأحكام ، ولقد أفتوا جميعا بذلك في بعض هذه الموارد ونحن نعلم بعدم الفرق بينهما بوجه.

وقد يقرّر الإجماع بأنّ الاستصحاب (4) المزيل دائما يكون من استصحاب الموضوع واستصحاب المزال من الحكم ، وقد ادّعى الشيخ عليّ في تعليقاته على الروضة (5) الإجماع على تقديم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي.

وبعد ما عرفت من التقرير فنحن في غنى عن تجشّم إثبات الصغرى في هذه الحجّة مع وضوح تطرّق المنع إليها ، فتدبّر.

الثاني : السيرة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار بين العاملين بالاستصحاب في أمور معادهم أو معاشهم في عباداتهم ومعاملاتهم مع عدم انفكاك ذلك عن

ص: 497


1- « ز ، ك » : - طهارة.
2- « م » : - به.
3- « ج ، ز » : الشحم.
4- في النسخ : استصحاب.
5- كما عنه في ضوابط الأصول : 443 ، ثمّ قال : والإجماع الذي نقله وإن لم يكن دليلا في المسألة الأصولية لكن يكفي مرجّحا لأحد المتعارضين.

استصحاب وجودي أو عدمي مسبّب (1) الشكّ فيه عن الشكّ في مجرى الاستصحاب الذي يعوّلون عليه ، وإن شئت التوضيح فلاحظ نفسك هل تجد فيه انتظارا للعمل بأحكام الطهارة فيما إذا حكمت شرعا بطهارة شيء؟

الثالث : أنّه لو لا ذلك لاختلّ النظام وفسد الأمر على الخواصّ والعوامّ فإنّ ذلك في معنى عدم حجّية الاستصحاب ؛ إذ الأحكام المترتّبة على المستصحب لا يخلو من أن تكون (2) مسبوقة بالحالة السابقة الموافقة للمستصحب ، أو تكون مخالفة لها ، أو لا يعلم ذلك ، فعلى الأوّل فلا حاجة إلى استصحاب ذلك الموضوع في استصحابه عند من يزعم (3) المذكور لكفاية استصحابه (4) وإن كان عندنا غير معقول لما عرفت من فساده في الهداية الموضوعية فراجعها (5) ، ولا يصحّ ترتّبها (6) على الأخيرين لمعارضة الاستصحاب في أوّلهما وقاعدة العدم في ثانيهما للاستصحاب الأوّل ، وذلك ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد ، فشناعة (7) القول بعدم التقديم ممّا لا يخفى على أحد ، ولعمري كيف مال إليه ذلك المحقّق النحرير مع أنّه بمكان من الضعف والسقوط على ما شاهدت فيما قدّمناه من التقرير.

ولا مدفع لذلك إلاّ بالتفصيل بين الموارد كأن يقال : إنّه إذا تحقّق مجرى المزيل قبل تحقّق (8) مجرى المزال فلا شبهة في تقديم المزيل على المزال وإجراء جميع ما يترتّب على المستصحب عليه ؛ لعدم (9) المانع عن الترتيب فعلا ، بل وجود الدليل الشرعي عليه كما

ص: 498


1- « ك » : سبب.
2- في النسخ : يكون. وكذا في المورد الآتي.
3- « ج » : زعم وفي « ك » : يوهم ، وفي « م » : الزعم ، وجعل ما بين « من » و « الزعم » علامة استدراك ولكن لم يكتبه.
4- « ز ، ك » : « لكفايته » بدل : « لكفاية استصحابه ».
5- انظر ص 380.
6- « ك » : ترتيبها.
7- « ز ، ك » : يشهد بشناعة.
8- « ز ، ك » : « فهل يتحقّق » بدل : « قبل تحقّق » وفي « م » : « قيل » بدل : « قبل ».
9- « ز ، ك » : « بعده » بدل : « لعدم ».

لو فرضنا الشكّ في طهارة الماء مع الحالة السابقة ، ثمّ استصحبنا (1) الطهارة من غير التفات إلى الشكّ في نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء ، فإنّ الحكم بطهارة الماء شرعا يلازمه طهارة الثوب المغسول به شرعا ، وحيث إنّه لا التفات إلى مجرى الاستصحاب في المزال لعدم الالتفات بالشكّ في النجاسة فلا تحقّق لمجراه مع تحقّق مجرى المزيل وعدم المعارض ، والشكّ بعد الحكم الاستصحابي في المزيل لا يجدي شيئا ؛ لأنّه محكوم بالطهارة شرعا ، والإجماع والسيرة واختلال النظام كلّها مسلّمة في هذا المورد (2).

وأمّا إذا تحقّق مجرى الأصلين دفعة واحدة كما إذا كان الشكّ في نجاسة الثوب مقارنة مع الشكّ في طهارة الماء كما في مسألة الصيد والثوب المنشور على الأرض المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، فلا دليل على تقديم الأصل المزيل لا الإجماع كما هو واضح ، ولا السيرة ؛ لعدم ثبوتها في محلّ الفرض ، ولا يختلّ النظام بذلك ، بل الحقّ هو الأخذ بالأصل في المزال ؛ لأنّه الدليل شرعا ، وأمّا (3) الأصل المزيل فلا يجدي في ذلك الحكم ؛ لأنّه إنّما هو في المقام فرضي ، إذ لو لم يكن الأصل المزال جاريا كان الأخذ به محكّما والدليل الفرضي لا يفيد حكما.

وليس ما ذكر من التفصيل بعيدا عن مذاق الشريعة فإنّ التفصيل بين الالتفات بالشكّ وعدمه (4) في جريان الأصل وعدمه ليس مختصّا بما نحن بصدده ، فإنّه نقول بمثله في بعض موارد أصالة الصحّة أيضا ، كما إذا شكّ قبل الصلاة في الوضوء فذهل (5) عن الشكّ هذا فصلّى من غير تجديد للطهارة ، ثمّ ذكر الشكّ بعد الصلاة ، فإنّه لا يجدي التمسّك بقاعدة الشكّ بعد الفراغ في الحكم بصحّة الصلاة ؛ لأنّ استصحاب الحدث

ص: 499


1- « ج ، م » : استصحبا.
2- « ك » : هذه الموارد.
3- « ز ، ك » : « لا » بدل : « أمّا ».
4- « ز ، ك » : « يجديه » بدل : « وعدمه ».
5- « ز ، ك » : فذاهل.

محكّم عليه ، وأمّا إذا شكّ بعد الصلاة فهي من موارد أصالة الوقوع والشكّ بعد الفراغ فلا يجدي فيه التمسّك باستصحاب الحدث نظرا إلى أنّ الشكّ هذا لو كان قبل الصلاة كان مجرى للاستصحاب ؛ لأنّه دليل فرضي صرف وهو لا يفيد حكما كما أنّه لا يجوز التمسّك بأصالة الوقوع (1) في الصورة الأولى ، لأنّه ليس شكّا بعد الفراغ ، بل هو تذكّر للشكّ قبل العمل وذلك ظاهر.

وبالجملة : فهذا (2) التفصيل يدفع (3) الشناعة الواردة على أصحاب القول بعدم تحكيم المزيل على المزال ، وهذا غاية ما يمكن الانتصار لهم ، ومع ذلك ففساده أجلى من أن يكاد يخفى على من له دربة (4) ، فإنّ الاستصحاب غير محتاج إلى الشكّ الفعلي ، بل الشكّ الفرضي كاف في جريانه كما عرفت في الهداية السبزوارية ، فإنّ استصحاب الطهارة عند عروض المذي كما يفتي به المجتهد لا يتوقّف على فعلية الشكّ في انتقاض الطهارة بالمذي ، وممّا يضحك الثكلى في المقام هو أنّه لو فرض عدم الالتفات إلى الشكّ في نجاسة ثوب بعد استصحاب طهارة الماء والالتفات إلى نجاسة ثوب آخر فلا بدّ من الحكم بطهارة الأوّل ونجاسة الثاني مع وحدة الماء ولا سيّما مع وحدة النجاسة إلاّ أنّ الالتزام بمثله في الأحكام الظاهرية غير عزيز ، فتدبّر.

وكيف (5) كان ، الظاهر عدم الفرق في تقديم الأصل المزيل على المزال فيما إذا فرض تحقّق الشكّ في مجرى المزال كما إذا التفت الشخص إلى الشكّ أوّلا ؛ لأنّ البناء على الأخذ بالمزيل مطلقا سواء كان ملتفتا أو لم يكن ، وأمّا ما ذكرناه من عدم الأخذ بأصالة الوقوع فيما إذا ذهل عن الشكّ قبل العمل وعدم جريان أصالة بقاء الحدث فيما إذا شكّ بعد العمل ، فممّا لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الأوّل ليس موردا لأصالة الوقوع ،

ص: 500


1- سقط قوله : « والشكّ بعد الفراغ ... » إلى هنا من « ر. ك ».
2- « م » : فبهذا.
3- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : يندفع.
4- « ج ، ز » : درية.
5- « ز ، ك » : فكيف.

لأنّه حقيقة شكّ قبل تجاوز المحلّ ، وكذا الثاني ؛ لحكومة أصالة الوقوع على أصالة عدم الطهارة كما عرفت.

الرابع : أنّ الأخبار المذكورة تدلّ على تقدّم المزيل على المزال وذلك بوجهين : أحدهما : أنّ جملة من موارد هذه الأخبار من الاستصحاب (1) المزيل و (2) قدّمه على الاستصحاب (3) المزال معلّلا في ذلك ب- « أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ » ولولاه لزم اختصاص شيء بشيء مع تعليله بعلّة مشتركة بينه وبين غيره.

وتوضيح ذلك : أنّ خبر زرارة (4) دلّ على كفاية استصحاب الطهارة عند الشكّ في عروض النوم ، وكذا خبره الآخر (5) دلّ على كفاية استصحاب الطهارة في الثوب عند احتمال عروض النجاسة مع أنّ استصحاب الطهارة الوضوئية معارض باستصحاب بقاء الشغل بالصلاة ، وكذا استصحاب طهارة الثوب معارض باستصحاب الاشتغال فيما يشترط الدخول فيه بها مثلا ، فالموجود في هذه الموارد يقينان : أحدهما : في السبب ، والآخر : في المسبّب ، وشكّان كذلك ، والإمام مع ذلك حكم باستصحابي الطهارة في المقامين وعلّله ب- « أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ » فلو لا أنّ الشكّ في المسبّب كيفيته كان بمنزلة عدم الشكّ واليقين لم يصحّ التعليل المذكور ؛ لوجود (6) العلّة بعينه في المسبّب أيضا ، ومعنى تنزيل اليقين والشكّ في المسبّب منزلة العدم هو عدم الأخذ بأحكام اليقين والشكّ فيه ، وهذا هو بعنيه هو الحكم بحكومة المزيل على المزال ، فيكون المزيل بمنزلة دليل اجتهادي في مورد المزال ؛ إذ بتحقّقه لم يبق له مورد ولا مجرى ؛ لأنّ ملاك الاستصحاب وهو الشكّ يكون (7) ملغى في مورده وذلك ظاهر ، وقد

ص: 501


1- في النسخ : استصحاب.
2- « ز ، ك » : - و.
3- في النسخ : استصحاب.
4- تقدّم في ص 88.
5- تقدّم في ص 95.
6- « ز ، ك » : بوجود.
7- « ز ، ك » : - يكون.

يتوهّم أنّ رواية القاساني (1) : « اليقين لا يدخله الشكّ » بعد (2) قوله : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » أيضا من الموارد المذكورة ، ولعلّها ممّا لا يساعدها الخصم ؛ لاحتمال القول بأنّ المستصحب فيها هو الحكم فيها (3).

نعم ، بناء على ما حقّقنا من أنّ استصحاب الحكم لا يعقل بدون استصحاب الموضوع يتمّ ذلك بالنسبة إلى الأخذ باستصحاب الموضوع المزيل ، فلا يجري (4) ذلك في مقام التعارض ؛ لأنّ استصحاب جواز الصوم ووجوبه في الشهرين غير معارض لاستصحاب الموضوع ، بل على ما زعمه غيرنا معاضد له ، ولا يمكن دفعه بالتفصيل السابق ؛ لأنّه وإن كان جاريا بالنسبة إلى الرواية الأولى ، لأنّ الشكّ في الاشتغال لم يكن موجودا حين تحقّق مجرى استصحاب الطهارة ، إلاّ أنّ الثانية إنّما هو سؤال عن صحّة الصلاة بعد الشكّ في الطهارة فمجرى الاستصحابين موجود فيها ، ومع ذلك فقد حكم الإمام باستصحاب الطهارة معلّلا بالعلّة المذكورة.

الثاني : أنّ قضيّة عموم أخبار الباب وإعمال أصالة الحقيقة فيها هو تقديم (5) المزيل على المزال ؛ إذ على تقدير الأخذ بالمزيل لا يلزم تخصيص في قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » القائل بعدم جواز نقض كلّ يقين بالشكّ ، وعلى تقدير الأخذ بالمزال ولو في مورد التعارض لا بدّ من تخصيص العامّ الحاكم بعدم (6) جواز نقض اليقين بالشكّ ، فيتوقّف على وجود دليل التخصيص و (7) إذ ليس فليس.

وتوضيح ذلك : أنّ الظاهر من الأخبار بعد تسليم دلالتها على الاستصحاب هو وجوب البناء على المتيقّن بالأخذ بأحكامه وترتيب آثاره الشرعية عليه ، فلو شكّ في

ص: 502


1- تقدّم في ص 101.
2- كذا. والصواب : « قبل ».
3- « ج ، م » : فيهما.
4- « ج ، م » : ولا يجدي.
5- « م » : تقدّم.
6- « ج ، م » : لعدم.
7- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : - و.

طهارة ماء بعد العلم بها في السابق يجب بحكم الاستصحاب من القول بترتيب (1) جميع ما كان يترتّب عليه حال العلم في غير ما يكون العلم موضوعا له من الآثار الشرعية كجواز شربه وصحّة الوضوء منه وطهارة ملاقيه وتطهّر (2) ما يغتسل منه إلى غير ذلك من الآثار الشرعية المترتّبة عليه.

فإن قلنا بأنّ المحكّم (3) فيما إذا غسلنا الثوب بمستصحب الطهارة هو استصحاب طهارة الماء ، فلا يلزم تخصيص في عموم قوله : « لا تنقض » لأنّ الاستصحاب في طرف المزال (4) مرتفع موضوعا ، لأنّ الشكّ فيه بمنزلة عدم الشكّ ، لأنّه كالعلم حينئذ.

فإن قلنا بأنّ اللازم هو الأخذ باستصحاب نجاسة الثوب ، فيلزم تخصيص قوله : « لا تنقض » لأنّه يقين على هذا التقدير يجوز نقضه بالشكّ ؛ لأنّ معنى عدم جواز النقض في المورد المذكور هو الحكم بطهارة الثوب وعند عدمه فالنقض ظاهر كما لا يخفى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكم بنجاسة الثوب يؤثّر في نجاسة الماء فلا يلزم التخصيص (5) ، بل هو أيضا من التخصيص الموضوعي.

وفساده لا يكاد يخفى على أوائل العقول (6) ؛ لأنّ طهارة الثوب من الأحكام الشرعية لطهارة (7) الماء وليس نجاسة الماء من الأحكام الشرعية المترتّبة على نجاسة الثوب ، إلاّ (8) أن يفرض ورود النجاسة عليه مع كونه قليلا فينعكس القضيّة فيه ؛ لأنّ استصحاب النجاسة هو المزيل حينئذ.

ص: 503


1- « ز » : بترتّب.
2- « ك » : تطهير.
3- « ز ، ك » : الحكم.
4- المثبت من « ك » ، وفي سائر النسخ : المزيل.
5- « ز ، ك » : تخصيص.
6- « ك » : « وفساده على أوائل العقول غير خفيّ » وقوله : « غير خفيّ » أو « لا يكاد يخفى » سقط من « ز ».
7- « ز » : بطهارة.
8- « ز ، ك » : - إلاّ.

فإن قلت : لا شكّ أنّ الشكّ واليقين في طرف الأصل المزال من أفراد الشكّ واليقين حقيقة على ما يشهد به الوجدان الصحيح ، وغاية ما ذكر من الوجه إنّما هو أنّ الأخذ بالشكّ واليقين في طرف المزيل يوجب خروج الشكّ الموجود في طرف المزال عن كونه شكّا ؛ لتنزيله شرعا بمنزلة اليقين ، بخلاف الأخذ بالشكّ واليقين في طرف المزال ؛ لأنّه لا يوجب خروج المأخوذ في المزيل عن كونه شكّا فيلزم التخصيص ، وذلك باطل ؛ إذ لا فرق بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ موجبا لخروج الآخر حكما كما إذا كان العامّ شاملا للشكّ المعتبر في المزيل ، أو يكون دخول أحدهما موجبا لخروج الآخر موضوعا كما إذا كان العامّ شاملا للشكّ المأخوذ في المزال ، والوجه في ذلك أنّ الخروج الموضوعي في العامّ لا يلاحظ إلاّ بعد وجوب العمل بالفرد الذي يوجب دخوله خروج الآخر موضوعا ، وشمول العامّ لأفراده في إرادة اللافظ سابق على وجوب الأخذ بالفرد الذي يوجب خروج الآخر موضوعا ؛ لأنّ نسبة العامّ إلى أفراده متساوية ، ففي مقام الإرادة لا سبق فيها ولا لحوق ، فكيف يتأتّى القول بأنّ الأخذ بالمزيل يوجب التخصيص دون الأخذ بالمزال؟ فإنّه لا فرق بينهما في كونهما موجبين للتخصيص في مقام إرادة الأفراد من العامّ.

نعم ، هو كذلك في مقام العمل كما عرفت ، والتخصيص إنّما يلاحظ بالنسبة إلى إرادة (1) الفرد المخصّص وعدمه من العامّ وعدمها لا بالنسبة إلى وجوب العمل وذلك ظاهر ، وإذ قد ثبت أنّ العامّ متساوية النسبة بالنسبة إلى الفردين فيصير مجملا فيهما ، فلا بدّ من الحكم بالتساقط.

قلت : الذي يقتضيه التحقيق هو القول بتقدّم (2) المزيل على المزال لا التساقط ؛ لأنّ الشكّ المأخوذ في المزيل ليس من أفراد العامّ في إرادة اللافظ والمولى ؛ إذ لا إشكال في

ص: 504


1- « ز ، ك » : - إرادة.
2- « ج ، ك » : بتقديم.

دخول الشكّ في المزيل في العامّ وإرادة المولى من العامّ هذا (1) الفرد هو بعينه عدم دخول الشكّ المعتبر في المزال في الإرادة ، فإنّ وجوب العمل إنّما هو فرع دخوله تحت الإرادة ، بل التحقيق أنّه لا فرق بين دخوله تحت الإرادة في العامّ وبين وجوب العمل كما لا يخفى.

وبالجملة فنحن نقول : إنّ خروج الشكّ المعتبر في المزال في إرادة المولى واللافظ بواسطة دخول الشكّ المعتبر في المزيل ودخوله قطعي (2) ، ففي الحقيقة لا يتحقّق مجرى الاستصحاب المسبّبي بواسطة انتفاء الشكّ فإنّه هو الملاك في أمر الاستصحاب ، فالتعارض في المقام صوري صرف ؛ لانتفاء المعارض في الواقع.

فإن قلت : قد سبق - في بعض مباحث الظنّ في الاعتراض على من زعم أنّ نتيجة الانسداد بعد إخراج القياس هو الظنّ الذي لم يقم قاطع على عدم اعتباره ، ورام بذلك (3) القول بعدم (4) حجّية الشهرة ونحوها لقيام (5) الظنّ على عدم حجّيتها مستندا في ذلك بأنّ دخول المانع تحت الدليل يوجب التخصيص ، بخلاف الممنوع فإنّ دخوله يوجب تخصيص حكم العقل بغير المانع - أنّ مفاد الظنّ الممنوع أيضا هو خروج المانع عن الدليل موضوعا ، غاية الأمر أنّ المانع يدلّ على خروج الممنوع مطابقة والمانع (6) يدلّ على خروجه التزاما ، فدخول كلّ واحد منهما دليل قطعي على خروج الآخر ، وبمثله نقول في الاستصحابين ؛ لعدم الفرق بينهما في وجه.

قلت : قد أشرنا سابقا بدفع ذلك ، ونزيدك توضيحا بالفرق بين المقامين ، ففيما إذا كان الحكم من الأحكام العقلية يوجب العمل بالظنّ بعد الانسداد على القول به ، لا

ص: 505


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هو.
2- « ز » : في قطعي ، « ك » : فيه قطعي.
3- « ز ، ك » : ذلك.
4- « ز ، ك » : بعد.
5- « ز ، ك » : بقيام.
6- كذا. والصواب : الممنوض. وقوله : خروجه ، أي خروج المانع.

ضير في ذلك ؛ لأنّ دخول المانع يوجب خروج الممنوع مطابقة ، ودخول الممنوع يوجب خروج المانع التزاما ، فعدم كلّ منهما من الأحكام المترتّبة على وجود الآخر ، بخلاف الاستصحابين في المقام فإنّ ارتفاع كلّ واحد من الشكّين ليس من الأحكام المترتّبة على الآخر ؛ لأنّ الأخذ بالاستصحاب (1) المزيل وإن كان يوجب ارتفاع الشكّ في المزال ولكنّ الأخذ بالاستصحاب (2) المزال لا يوجب ارتفاع الشكّ في المزيل ؛ لأنّ نجاسة الماء ليس من الأحكام المترتّبة على نجاسة الثوب.

فإن قلت : إنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان المتعارضان حكمهما مستفادا من دليلين ليكون أحدهما حاكما على الآخر ، وأمّا إذا كان حكمهما مستفادا من دليل واحد فكيف يتأتّى القول بحكومة دليل واحد في بعض موارده عليه في بعض آخر؟

قلت : ولا ضير في ذلك بوجه ؛ لأنّ العامّ الأفرادي ينحلّ إلى أدلّة متعدّدة حسب تعدّد أفراده ، فيكون لكلّ واحد من أفراد الشكّ دليل على حدّه فيكون حاكما على دليل آخر في شكّ آخر وذلك ظاهر في الغاية.

وبالجملة : فالإنصاف ممّن جانب الاعتساف يقضي (3) بورود المزيل على المزال وحكومته عليه ، فإنّ كلّ من راجع وجدانه يجد من نفسه فيما إذا أراد بيان (4) حكم الشكّين المتولّد أحدهما عن الآخر أنّ الشكّ المتولّد ليس داخلا تحت إرادته ؛ لجعله كعدم الشكّ بواسطة دخول السبب في إرادته ، فتأمّل في المقام فإنّه حقيق به (5).

ومن هنا ينقدح أنّ ما سلكه محقّق القوانين (6) - من الجمع بين الأصلين فيحكم في المثال المذكور بنجاسة الثوب وطهارة الماء والأرض المنشور عليه الثوب - ممّا لا

ص: 506


1- في النسخ : باستصحاب.
2- في النسخ : باستصحاب.
3- « ج » : « يقتضي » وكذا في المورد الآتي.
4- « ز » : فيما إذ أراد بين ، « ك » : فيما دار الأمر بين.
5- « ز ، ك » : - في المقام فإنّه حقيق به.
6- القوانين 2 : 76 - 77.

يقضي به قانون ، وتوضيح ذلك أنّ الجمع غير معقول ؛ لأنّ استصحاب طهارة الماء إن كان مؤثّرا في طهارة الثوب المنشور على الأرض - مثلا - فهو المدّعى ، وإلاّ فإن أريد من استصحاب الطهارة ترتيب الأحكام التي توافق (1) الطهارة في الحالة السابقة فهي بعينها موارد للأصل ، وإن أريد ترتيب الأحكام (2) التي تخالفها (3) في الحالة السابقة فهي بعينها مجار للأصل بخلافها ، فلم يبق للأصل المذكور مورد حتّى يقال : يجمع (4) بين الأصلين كما أوضحنا فيما تقدّم ، فراجعه متأمّلا.

وأمّا الثانية (5) : وهي أنّه متى لم يكن الشكّ في الاستصحابين أحدهما مسبّبا عن الآخر - سواء كان الشكّان مستندين (6) إلى أمر ثالث واحد أو إلى أمرين - فالحكم هو التساقط دون الترجيح والتخيير إذا كان الاستصحاب من باب التعبّد ، وإذا كان من باب الظنّ فظاهرهم الاختلاف في ذلك ، فالكلام تارة : يقع فيما إذا كان الاستصحاب حجّة (7) من باب الظنّ ، وتارة : فيما إذا كان حجّة تعبّدية.

أمّا على الأوّل : فلا كلام في تقديم المفيد للظنّ الشخصي وطرح الآخر على تقدير اعتبار الظنّ الشخصي فيه ؛ إذ الاستصحاب الخالي عن الظنّ ليس حجّة حينئذ ، كما إذا تعارض الشهرتان مع انتفاء الظنّ من واحدة منهما ، وكذا لا كلام (8) في تقديم المفيد له فيما لو قلنا باعتباره من باب الظنّ النوعي ؛ لأنّ المأخوذ فيه أن لا يكون عدمه مظنونا ، وبعد وجود الظنّ في طرف يصير عدم الآخر مظنونا لا محالة ، وأمّا لو لم يفد أحدهما ظنّا فهل يحكم بالتخيير بينهما أو بالترجيح أو التساقط؟ التحقيق أنّه لا بدّ من ملاحظة بناء العقلاء في ذلك فإنّه هو المأخذ في اعتبار الظنّ النوعي في الاستصحاب ،

ص: 507


1- في النسخ : يوافق.
2- « م » : بترتيب الأحكام الأحكام.
3- « ج ، م » : يخالفها.
4- « ز ، ك » : بجمع.
5- أي الدعوى الثانية ، وتقدّمت الأولى منهما في ص 491.
6- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : مستندا.
7- « ز ، ك » : - حجّة.
8- « ك » : وكذا الكلام.

ولعلّ بناءهم على الترجيح في أمثاله لإمكان حصوله على هذا التقدير ، إلاّ أنّه لم يظهر منهم ذلك في موارد التعارض فحكموا بالتساقط في الأغلب ، فكن على بصيرة من ذلك (1).

وأمّا على الثاني : فلأنّ الوجوه المحتملة في المقام أربعة : إمّا الجمع ، وإمّا الطرح ، وإمّا الترجيح ، وإمّا التخيير ، أمّا الجمع فالمفروض عدم إمكانه ، وأمّا الترجيح والتخيير فلا دليل عليهما ، فتعيّن (2) الثاني وهو طرحهما بتساقطهما والرجوع إلى أصل ثالث مؤخّر عنهما في المرتبة ، أمّا الترجيح فلأنّ المرجّح لأحد الأصلين إمّا أن يكون أحد الأدلّة الاجتهادية ، أو واحد من الأصول العملية ، ولا يصلح (3) شيء منهما لذلك.

أمّا الأوّل : فإن كان حجّيته ثابتة معلومة في الشريعة فمع (4) موافقته لأحد الأصلين لا مورد لكلّ واحد منهما ، مخالفا كان أو لا ؛ لاعتبار الشكّ والجهل المرتفع بالدليل في موضوع (5) الأصل ، فلا يتعقّل التعارض بينهما حتّى يتوقّف تقديم أحدهما على الآخر على أخذ الدليل مرجّحا له وذلك ظاهر.

وإن لم يكن معلوم الاعتبار كأن لم يقم دليل على حجّيته كالشهرة الظنّية أو الأولوية - مثلا - فلا يتعقّل الترجيح به أيضا ، أمّا أوّلا : فلأنّ تقديم أحد الأصلين بما لم يقم دليل على اعتباره إنّما هو طرح للأصل المعلوم ، بيان ذلك أنّ مفروض المقام عدم اعتبار مثل الظنّ الحاصل من الأولوية ، ومعنى ذلك على ما قدّمنا في مباحث الظنّ هو حرمة طرح الأصول القطعية الثابتة في الشريعة في قبال الظنّ ، فأصالة عدم ثبوت الترجيح بهذا الظنّ على تقدير الأخذ به يكون مطروحا مع أنّه أصل قطعي ثابت بالدليل.

ص: 508


1- « ز ، ك » : - من ذلك.
2- « ج ، م » : فيعيّن.
3- « ز » : ولا يصحّ.
4- « ز ، ك » : مع.
5- « ز ، ك » : موضع.

نعم ، لو كان حصول الظنّ في أحد الطرفين موهنا للآخر كان القول بتقديم الموافق في محلّه ؛ لأنّه حينئذ دليل قطعي بلا معارض ، أمّا كونه دليلا فلأنّ الظنّ الموافق له ليس بدليل فهو المعتمد ، وأمّا كونه بلا معارض فلأنّ سقوط الآخر بواسطة الظنّ ليس من الأحكام الشرعية له ، بل هو حينئذ من الأحكام العقلية المترتّبة على موضوع الظنّ الحاصل قهرا ، إلاّ أنّ ذلك لا يجدي فيما فرضنا من حجّية الأصل تعبّدا ؛ لأنّ مخالفة الظنّ لا يسقطه عن الاعتبار.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الترجيح لا يحصل بالأمارة الظنّية عند تعارض الأصلين ؛ لأنّ المدار في الأمارة على الواقع ، والمناط في الأصل على التعبّد في مقام الظاهر ، فلا ارتباط بينهما ومن المعلوم أنّ الترجيح يمتنع فيما إذا لم يكن بين المتعارض والمرجّح مناسبة ذاتية كأن يكونا من سنخ واحد.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا قامت الشهرة على وجوب شيء ودلّ الاستصحاب أيضا على وجوبه معارضا باستصحاب آخر يقتضي (1) عدم وجوبه مثلا ، فمفاد الشهرة هو (2) وجوب ذلك الشيء في الواقع ، ومفاد الاستصحاب هو وجوبه من حيث إنّ المكلّف شاكّ بالواقع غير عالم به ، وتقوية الأصل هو أن يدلّ الدليل على أنّ ما يفيده الأصل هو كذلك في مقام الظاهر لا أنّ الحكم هو كذلك بحسب الواقع ، فإنّ الأصل هو علاج عملي ظاهرا ، ومن الظاهر عدم تقوية ذلك في مقام العمل كما لا يخفى ، فالترجيح لا يحصل إلاّ بعد أن يكون المرجّح مفيدا لشيء يطابق ما هو المناط (3) في دليلية المتعارض ، ومن هنا تراهم لا يحكمون بترجيح الوجوه الظنّية فيما إذا تعارضت البيّنتان ، وذلك ظاهر. ومن هنا ينقدح أيضا أنّ الأمارة الظنّية لو كانت حجّة شرعية مع قطع النظر عمّا ذكرنا أيضا لا تصلح (4) لترجيح أحد الأصلين المتعارضين.

ص: 509


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : يقضي.
2- « ز ، ك » : - هو.
3- « ز ، ك » : مناط.
4- في النسخ : لا يصلح.

وأمّا الثاني : فلأنّ ذلك الأصل إمّا أن يكون مقدّما عليه لكونه مزيلا له ، أو مؤخّرا عنه لكونه مزالا (1) بالنسبة إليه ، أو يكون في عرضه ، ولا وجه للترجيح به على الوجوه :

أمّا على الأوّل : لأنّ الأصل المزيل على تقدير جريانه فهو بمنزلة الدليل الاجتهادي ، فلا مورد لشيء من الأصلين كما في صورة الدليل الاجتهادي ، مثلا لو شكّ المكلّف في بقاء طهارته من جهة شكّه في حدوث الناقض فلو فرضنا أنّ استصحاب الطهارة ليس مزيلا لاستصحاب الأمر بالصلاة وقلنا بتعارضهما ، فلا يمكن تقديم استصحاب الطهارة لأصالة عدم الناقض ، إذ على تقدير جريانها لا مورد لشيء من الأصلين ، أمّا الأصل المزال فعدم جريانه ظاهر ، وأمّا الأصل الآخر وإن لم يكن الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في المزيل إلاّ أنّ بعد ما فرضنا من أنّه علم في مورد المزال فهو دليل اجتهادي بالنسبة إليه أيضا.

وأمّا على الثاني : فلما عرفت أيضا من عدم إمكان اجتماع المزيل والمزال في مرتبة واحدة ، فلو فرضنا وجود أصل مزال فهو في الحقيقة ليس مرجّحا ، بل هو المرجع بعد سقوط الأصلين كما في الأدلّة الاجتهادية ، فإنّ معنى الترجيح هو تقوية أحد المتعارضين ، وذلك لا يتحقق إلاّ إذا (2) أمكن اجتماعهما ، والمفروض أنّ النسبة بينهما هو نسبة الأصل والدليل فمتى وجد الدليل ارتفع الأصل ، فالأصل هو الحكم الظاهري بالنسبة إلى الأصلين المذكورين ، فتأمّل.

وأمّا على الثالث : فلما ستعرف تفصيله في مباحث التعادل من أنّ كثرة الأصول ليست (3) من المرجّحات ، والوجه فيه إجمالا أنّ دليل الترجيح إمّا العقل أو النقل ، ولا يقضي (4) به شيء منهما ، والأوّل انتفاؤه ظاهر ؛ لأنّ المناط في كونه دليلا هو التعبّد ولا

ص: 510


1- « ج » : مزيلا.
2- « ج » : فيما إذا.
3- « ج » : ليس.
4- « ج » : لا يقتضي.

يتقوّى جهة التعبّد به بزيادة الأصول (1) ، نعم لو كان المناط هو الواقع كما في الأخبار صحّ الترجيح (2) بالكثرة ففيما هو المناط لا تزيد (3) الكثرة شيئا ، وأمّا الثاني فلأنّ غاية ما يمكن الأخذ به (4) في المقام هو أنّ طرح الأصلين يوجب إخراج فردين من العامّ الدالّ على حجّية الأصل المفروض ، بخلاف ما إذا قلنا بتقديم هذين الأصلين على الأصل فإنّه يلازم تخصيص واحد ، ولا شكّ أنّ ارتكاب أقلّ التخصيص في العامّ أولى ، فأصالة العموم في قوله : « لا تنقض » حاكم بطرح (5) الأصل الواحد وأخذ الأصول المتعدّدة. وفساده ظاهر ؛ لأنّ العامّ إنّما ينهض (6) حجّة فيما إذا شكّ في قلّة التخصيص وكثرته إذا كان الأمر دائرا بين الأقلّ والأكثر على وجه يكون خروج الأقلّ أمرا متّفقا عليه وإنّما كان الشكّ في الزائد ، دون ما إذا كان الشكّ في خروج فردين مباينين للفرد الآخر على أن لا يكون الأقلّ داخلا في الأكثر ، فإنّ التحقيق أنّ العامّ في المقام يبقى بالنسبة إليهما مجملا ؛ إذ لا فرق في نظر العقل بين خروج زيد وبكر من عموم « أكرم العلماء » أو خروج عمرو.

وبالجملة : فالظاهر أنّ كثرة الأصول لا تنهض مرجّحة ، فلا بدّ من التساقط والرجوع إلى أصل آخر مؤخّر عنهما كأصالة البراءة أو الاحتياط وغيرهما من الأصول المعمولة في الأحكام والموضوعات.

وأمّا بطلان التخيير عند تعارض الأصلين فلأنّ الحاكم بالتخيير إمّا أن يكون هو العقل أو النقل ، أمّا الأخير فانتفاؤه ظاهر في الأصلين ؛ لاختصاص أخبار التخيير بالأخبار المتعارضة ، ودعوى جريان فحواها في المقام واهية ، وأمّا العقل فلا يحكم بالتخيير إلاّ إذا كان المتعارضان حال المعارضة حجّتين بمعنى أن يكون كلّ واحد منهما

ص: 511


1- « ز ، ك » : الأصل.
2- « ز ، ك » : يرجع إلى الترجيح.
3- « ز ، ك » : لا يزيد.
4- « ز ، ك » : - به.
5- « م » : يطرح.
6- « ج ، ز » : تنهض.

مشتملا على ما هو مناط الحجّية والأصلان في المقام ليسا كذلك ، أمّا أنّ التخيير لا يكون إلاّ فيما كان الدليلان باقيين على ما هو مناط الحجّية فلأنّه لولاه لا يحكم العقل بالالتزام بأحدهما ؛ لقصر حكم العقل به (1) فيما إذا كان المتعارضان من قبيل تزاحم الحقوق التي يجب على المكلّف تحصيلهما إلاّ أنّه عدم قدرته لهما يوجب سقوط فعلية الطلب لكلّ منهما تعيّنا ، فيجب (2) أحدهما تخييرا كما ستعرفه (3) بعيد ذلك في مباحث التعادل والتراجيح ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا داعي للعقل على التخيير ، فإنّه ينقلب الشبهة بدوية فيصير مورد البراءة فيحكم بالتساقط ؛ لأنّ الأمر دائر بين الدليل وما ليس بدليل ولا حكم للعقل فيه ، وأمّا أنّ الأصلين ليسا كذلك فلأنّ العلم الإجمالي بانتقاض أحد الأصلين في مورد التعارض يوجب انتفاء ما هو المناط في الاعتبار في أحد الأصلين ، فلا يحكم العقل بالتخيير فيهما ، مثلا إذا تعارض استصحاب الطهارة في الماء المتمّم باستصحاب النجاسة (4) في المتمّم نعلم إجمالا إمّا بطهارة الوارد والمورود أو بنجاستهما ، فإحدى (5) الحالتين السابقتين منتقضة لا محالة ، وبعد العلم الإجمالي بارتفاع ما هو المناط في حجّية أحد الأصلين لا يبقى حكم التخيير فيهما بوجه ، وذلك نظير ما لو قلنا بأنّ خبر العادل حجّة ، فجاءنا خبران متعارضان ، علمنا إجمالا بأنّ أحدهما خبر الفاسق ، فارتفع ما هو المناط في الاعتبار في أحدهما ، وبعد ذلك فلا وجه للحكم بالتخيير بينهما وذلك ظاهر لا سترة فيه ، ولعلّ ذلك هو المشهور بينهم ؛ إذ لم نجد من حكم بالتخيير بين الأصلين بعد التعارض وإن كان يوهم بعض كلماتهم الترجيح بكثرة الأصول كما يشاهد في مباحث الألفاظ.

قلت : ولعلّه مبنيّ على أنّ الأصل حجّة من جهة الظنّ ، ولا يبعد دعوى الترجيح على تقديره كما لا يخفى.

ص: 512


1- « ز ، ك » : - به.
2- « ز ، ك » : ويجب.
3- « ز ، ك » : ستعرف.
4- « م » : الطهارة.
5- « م » : فأحد.

هداية نافعة في جميع ما تقدّم

قد عرفت أنّ بعض المتأخّرين (1) ذكر للاستصحاب شروطا : أحدها : بقاء الموضوع ، وثانيها : عدم المعارض ، وثالثها : الفحص عن المعارض ، وقد عرفت أيضا أنّ الشرطين الأوّلين ليسا من الأمور الخارجة عن (2) الاستصحاب المشروطة حجّيته بها ، بل لا يتعقّل الاستصحاب بدون الموضوع كما لا يتعقّل مع وجود الدليل المعارض ، فهما (3) حقيقة شرطان (4) لجريان الاستصحاب.

وأمّا الفحص فهو عند التحقيق شرط للحجّية ؛ لإمكان تعقّله بدون الفحص ، نعم لا يجوز العمل به قبل الفحص (5) فهو شرط للحجّية كما ذكره لكن لا مطلقا ، بل بالنسبة إلى الشبهات الحكمية فيما إذا قلنا بالاستصحاب فيها ، وفي الشبهات الموضوعية التي (6) لا يتعدّى العمل بالأصل فيها إلى العمل بالأحكام الكلّية الشرعية كاستصحاب عدالة الراوي ، فإنّه حينئذ لا بدّ من الفحص أيضا ، وأمّا الشبهات الموضوعية فيما عدا ما عرفت فالحقّ عدم وجوب الفحص فيها عند إعمال الأصل فيها إجماعا ، بل كاد أن

ص: 513


1- عرفت في « هداية تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع » ص 375.
2- « ز ، ك » : من.
3- « م » : العارض لهما.
4- في النسخ : شرط.
5- « م » : - قبل الفحص.
6- « ز ، ك » : الذي.

يكون من الضروريات التي لا يخفى على أوائل العقول من الأطفال والمخدّرات في الحجال ، وما يتراءى منهم الحكم بوجوب الفحص في الموضوع كما عن الشيخ (1) من حرمة الأكل في ليلة رمضان إذا اعتمد الأكل على استصحاب بقاء الليل في أكله من غير فحص ، فهو على خلاف القاعدة ، فالمفتي بها مطالب بالدليل وإن أقام عليها برهان ، وإلاّ فلا نعرف لها وجها ، وقد نبّهنا على مثل ذلك في البراءة حيث أفتوا بوجوب الفحص فيما إذا شكّ في حصول الاستطاعة في الحجّ (2).

وكيف كان ، فهذه قاعدة محكّمة لا يكاد يمكن الخروج عنها إلاّ بدليل متين وسلطان مبين (3) ، والأصل في ذلك بعد الإجماع المذكور إطلاقات أخبار الباب من عدم جواز نقض اليقين إلاّ (4) باليقين ، خرج ما خرج من التقييد بالفحص في موارد الأصول المعمولة في الأحكام [ و ] بقي الباقي تحت العامّ ، والمدّعي للتقييد لا بدّ له من إقامة ما يفيد ذلك ؛ وإذ (5) ليس فليس ، وقد مرّ في الهداية الحاوية للبداية والنهاية عند ذكر الأخبار ما هو صريح في عدم اعتبار الفحص فراجعها (6) ، ولا فرق في ذلك بين الأصول والأدلّة المعمولة في الموضوعات الخارجية من البيّنة والسوق وأصالة الصحّة واليد ونحوها ، والوجه في الكلّ ما عرفت من الإطلاقات والعمومات المثبتة لاعتبار هذه الأصول إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ عدم الفحص فيها مقصور على ما إذا شكّ في وجود دليل به ينتقض الحالة السابقة ، وأمّا إذا شكّ في وجود المعارض الوارد عليه كاحتمال أصل مزيل للأصل المعمول في الموضوع فلا وجه للاتّكال على الأصل بدون الفحص ، فإنّ ما يدلّ على وجوب الفحص في الأحكام يدلّ على وجوبه في المقام أيضا ، ولا فرق في ذلك بين المجتهد والمقلّد فإنّ لكلّ واحد منهما يجوز العمل بالأصل قبل الفحص

ص: 514


1- النهاية : 155.
2- نبّه عليه في ج 3 ، ص 590.
3- « ز ، ك » : بدليل مبين.
4- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : - إلاّ.
5- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : - و.
6- مرّ في ص 98.

بالنسبة إلى ما ينتقض به الحالة السابقة ، ولا يجوز العمل به قبل الفحص بالنسبة إلى المعارض.

ومن هنا قد يشكل الأمر في عمل المقلّد العامّي الذي لا يعرف مورد الأخذ بالاستصحاب فيه به ، فإنّ المجتهد لا بدّ له من أن يعرّفه بموارده ولا يفتي له بالأخذ بالحالة السابقة مطلقا ، فعليه أن يسأل خصوصيات الموارد من المجتهد ، وعليه أن يفتي له بخصوصيات الموارد ، فالمجتهد يعيّن مورد المزيل والمزال ويفتي بمقتضاه ، ولا يمكن دفع احتمال المعارض بالأصل بتقريب أنّ المقتضي للعمل بالأصل في مورد تحقّقه موجود ، والشكّ إنّما هو في وجود ما يمنعنا عن العمل به من المعارض ، والمانع مدفوع بالأصل ، وبعد وجود المقتضي فلا بدّ من الأخذ به ؛ لأنّ عدم المعارض كما عرفت فيما سبق (1) مفصّلا بمنزلة جزء المقتضي للاستصحاب ، فبدونه لا مجرى له (2) كما مرّ ، فالواجب على المجتهد والمقلّد في العمل بالأصل هو ما قلنا من تعريفه له خصوصيات الموارد لئلاّ يقع العامل به في المهالك ، فتدبّر.

لا يقال : إنّ البيّنة المعمولة في الشبهات الموضوعية أيضا يمكن تعارضها (3) ببيّنة (4) أخرى ، ومع ذلك لا يجب الفحص عنها.

لأنّا نقول : الفرق واضح ؛ لأنّ المعارض في البيّنة لا يلزم أن يكون موجودة (5) مع البيّنة الأخرى والاستصحاب في المقام موجود دائما كما لا يخفى ، وأمّا وجوب الفحص في الأحكام أو ما ينتهي إليها كالموضوعات المستنبطة ونحوها فدليله واضح ؛ إذ هو بعد الإجماع عليه يوجب عدمه رفع الأحكام الواقعية والمخالفة القطعية على وجه ربّما يعدّ من الخروج من الدين ، وينهض بذلك جميع أدلّة وجوب التفقّه كقوله : ( فَسْئَلُوا

ص: 515


1- سبق في ص 399.
2- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : - له.
3- « م » : تعارضهما.
4- « ج ، م » : بيّنة.
5- كذا في النسخ ولعلّ الصواب « موجودا ».

أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) وقوله : « هلاّ سألوا ، هلاّ يمّموه ، قاتلهم اللّه » (2) إلى (3) غير ذلك من الوجوه التي قدّمنا (4) ذكرها في مباحث البراءة ، ويؤيّده الأدلّة (5) الآمرة بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مضافا إلى أنّ العمل بالأصل قبل الفحص في الأحكام غير معقول ؛ للعلم الإجمالي بانتقاض جملة كثيرة من موارد هذه الأصول ، ومع ذلك فلا مجرى للأصل.

فإن قلت : إنّ بعد تسليم العلم الإجمالي في مورد الأصل لا معنى للقول به أصلا ؛ لأنّ غاية ما يتصوّر هو القول بوجوب الفحص وهو لا يجدي في دفع الاحتمال (6) ، لأنّ المعلوم الإجمالي بين أطراف الشبهة بعد الفحص أيضا لا يكون محرزا ، إذ به لا يعلم إلاّ ما هو موجود من الأدلّة في هذه الطرق المعمولة عندهم ، وأمّا الموارد الأخر المنقوضة التي لا سبيل إلى العلم بها بهذه الطرق فهي باقية على اشتباهها في موارد الأصل ، ومع ذلك فكيف يصحّ الاستناد إلى الأصل؟

قلت : هذه شبهة ربّما تورد على القول بوجوب الفحص في العمومات لأجل العلم بالتخصيص فيها ، وقد دفعناها في مقامه بالمنع من العلم بوجود المخصّص زائدا على ما يستبان من الأدلّة ، فإحراز عدم التخصيص في هذه الأدلّة المعمولة يوجب الاعتماد على العموم ، وبمثله نقول في المقام فإنّ موارد انتقاض الأصل في غير ما يستفاد من هذه الأدلّة الاجتهادية في محلّ من المنع ، وغاية ما يبقى في المقام بعد ارتفاع العلم بإحراز المعلوم بالإجمال في المشتبهات هو احتمال وجود الناقض ، وقضيّته لا تزيد (7)

ص: 516


1- النحل : 43 ؛ الأنبياء : 7.
2- وسائل الشيعة 3 : 346 ، باب 5 من أبواب التيمّم ، ح 1 - 3 و 6.
3- « ز ، ك » : « و » بدل : « إلى ».
4- تقدّم في ج 3 ، ص 584.
5- « ز ، ك » : الآية.
6- المثبت من « ك » وفي سائر النسخ : - الاحتمال.
7- « ز ، ك » : لا يزيد.

على حسن الاحتياط في العمل بالأصل ، وهو ممّا لا يكاد ينكره أحد فإنّه سبيل النجاة نجانا اللّه تبارك وتعالى وإيّاكم عن التورّط في الشبهات ووفّقنا للفوز بأعلى الدرجات ، وهذا (1) آخر ما أفاده الأستاد (2) المحقّق النحرير ونظمناه في سلك التحرير مستعينا في ذلك من العليم القدير ، فالحمد لله على ما أنعمنا به من نعمه الظاهرة والآية الباهرة والصلاة على خير خلقه وأفضل رسله محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم القيامة (3). وقد فرغ عن تحريره وتنميقه العبد الآثم أقلّ الطلبة والحاجّ في شهر ذي قعدة 1264 (4).

ص: 517


1- « ز ، ك » : هذه.
2- « ز ، ك » : « الأستاد سلّمه اللّه » وبذلك انتهت نسختي « ز ، ك » ونهاية نسخة « ك » : ولقد تمّت كتابة هذه الأجزاء في شهر محرّم الحرام في السامرّاء المنوّرة على مشرّفها آلاف من السلام والتحيّة ، سنة 1297.
3- هنا نهاية نسخة « ج ».
4- هنا نهاية نسخة « م » وبعدها : وقد فرغت من تسويده يوم الأربعاء ثامن وعشرين من شهر محرّم الحرام سنة 1280.

ص: 518

[ التعادل والترجيح ]

اشارة

ص: 519

ص: 520

القول في التعادل والترجيح

القول (1) في التعادل (2) والترجيح

وهما من أحوال التعارض وبذلك يستعلم (3) دخول المبحث في مباحث الفنّ ؛ لرجوع البحث فيه إلى البحث عن أحوال الدليل ، بل وهذا هو القدر المتيقّن (4) المتّفق على (5) دخوله (6) في مباحث الفنّ ، لإمكان الخلاف في سائر المباحث كحجّية الكتاب والأخبار ونحوها بل زعم بعضهم (7) خروجها عن الفن ودخولها في مباحث الكلام نظرا إلى أنّ ما ينبغي أن يثبت في الفنّ هي (8) الأمور اللاحقة للموضوع بعد ما كان نفس الموضوع مفروغ الوجود بأن يكون بنيا أو مبنيّا في الأعلى ، وقد دفعناه في محلّه تارة بأنّ الثابت في هذه المباحث ليس إلاّ حالا (9) من أحوال الموضوع فإنّ الدليل ليس

ص: 521


1- « د » بسم اللّه الرحمن الرحيم. هداية. القول.
2- « س ، م » : في التعارض والتعادل.
3- « ج » : ستعلم.
4- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : - المتيقّن.
5- « س » : - على.
6- « م » : دخولهما.
7- نسبه إلى البعض أيضا من دون تعيينه السيّد باقر اليزدي في وسيلة الوسائل : 376 و 90. قال الآشتياني في بحر الفوائد ٤ : ٣ : وذكروا مباحث الألفاظ في القسم الأوّل ... ومسائل حجّية الأدلّة كحجّية الكتاب والأخبار والإجماع ونقله من المبادئ التصديقية. وقال التبريزي في أوثق الوسائل ٥٨٦ : وأمّا ما أشرنا إليه من إكثارهم الخلاف في أكثر المسائل الأصولية فذلك مثل دعوى دخول مباحث الألفاظ طرّا وكذا البحث عن حجّية الكتاب والسنّة والإجماع والعقل في المبادئ ودخول البحث عن حجّية الأوّلين في الكلام. انظر أيضا أوثق الوسائل ١٢١ ومشكاة المصابيح ٤ _ ٥.
8- « د » : هو.
9- المثبت من « د » ، وفي سائر النسخ : « حال ».

ظاهر الكتاب بل هو مراد اللّه في الواقع وكذا الدليل هو السنّة والخبر حكاية عنها وليس البحث إلاّ عن حجّية الحكاية ، وأخرى بآخر كما مرّ مفصّلا في محلّه (1).

وبالجملة : فلا إشكال في أنّ هذه (2) المسألة من مباحث الأصول بعد ما عرفت ، مضافا إلى انطباق الحدّ (3) عليه فإنّ نفعها في الاستنباط ممّا لا ينبغي إنكاره (4). وكيف كان ، فتحقيق (5) الكلام في طيّ هدايات.

ص: 522


1- انظر ص 18.
2- « ج » : « نوع » بدل : « هذه »!
3- المثبت من « د » وهامش « م » وعليها علامة صحّ ، وفي متن « م » و « س » : « الحجّة » ، وفي « ج » : الخبر.
4- « ج » : إنكارها.
5- « د » : فيتحقّق.

هداية [ في تعريف التعارض ]

في التعارض ، وهو تفاعل من العرض بمعنى الورود ، ومنه قوله تعالى : ( يُعْرَضُونَ عَلَيْها ) (1) وقوله (2) : ويوم العرض الأكبر وقولهم : « عرضت الناقة على الحوض » وفي اصطلاح الأصوليين على ما عرّفه غير واحد منهم (3) عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين فكان أحدهما في عرض الآخر ووارد عليه ، فيمنع كلّ واحد منهما عن الآخر ، فظهر وجه المناسبة بين المعنيين ، كما في قولهم : عرضني في الطريق عارض ، أي ورد عليّ وارد و (4) منعني وسدّني (5) عنه ، ومنه الاعتراض ، والمراد بالمدلول أعمّ من المطابقي والتضمّني والالتزامي ، وخرج بذلك الوارد والمورود كالأدلّة الاجتهادية والأصول العملية ؛ لعدم التنافي بين المدلولين فيهما فإنّ رحى الأصول العملية تدور على عدم العلم ومن المحال اجتماعه مع العلم ، كما هو المعتبر في الدليل الوارد ، وكذا خرج المتحاكمان كما في الأدلّة (6) النافية للعسر والحرج بالنسبة إلى أدلّة سائر الأحكام ؛ إذ لا

ص: 523


1- غافر : 46 ؛ الشورى : 45 ، وفي النسخ : ويوم يعرضون عليها ، وفي « س » : ويوم يعرض عليها. وفي التنزيل العزيز في سورة الأحقاف : 20 و 34 : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) .
2- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : قوله جلّ ذكره.
3- كما في القوانين 2 : 276 وفي تقريرات شريف العلماء للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) 494.
4- « ج ، م » : - و، وفي « د » : أي وارد منعني.
5- « ج » : وحدّني.
6- في النسخ : أدلّة.

تنافي بين الحاكم والمحكوم (1).

وتحقيق ذلك : أنّ الحكم الثابت في موضوع الحاكم مناف للحكم الثابت في المحكوم لا محالة إلاّ أنّ الدليلين لا يعدّان من المتنافيين عرفا بعد ما عرفت من أنّ الحاكم بمدلوله اللفظي متوجّه (2) إلى بيان مدلول المحكوم كما في أدلّة كثير الشكّ ، فإنّ قول الشارع : من كثر عليه الشكّ فلا تعتدّ - مثلا - إنّما هو ناظر بمدلوله لفظا إلى قوله : من شكّ بين الثلاث والأربع - مثلا - ويكشف عن ذلك ورود الحاكم لغوا فيما لو قطع النظر عن المحكوم على ما سبق في محلّه (3) ، ولذلك (4) لا تجد التنافي بينهما لفظا وإن كان حكم كثير الشكّ مخالفا لحكم غيره ، كما لا يخفى على من له ممارسة بصناعة الكلام ، وذلك بخلاف « أكرم زيدا ولا تكرم زيدا » أو « أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم » ونحو ذلك من أنحاء التعارض الواقع في الأدلّة على ما ستطّلع على تفاصيلها - إن شاء اللّه - من غير فرق بين العموم والخصوص أو القرائن الصارفة في المجازات ، وملاك الفرق هو ما ذكرنا من أنّ المتحاكمين لا بدّ وأن يكون أحدهما مفسّرا للآخر ، ومن المعلوم عدم تنافي المفسّر للمفسّر ، بل يؤكّده (5) حقيقة وإن كانا متخالفي الحكمين فتدبّر ، وخرج الأدلّة القطعية ؛ لأنّ مناط اعتبار الأدلّة (6) القطعية ليس إلاّ على نفس الصفة النفسانية وهي الحالة الإدراكية الجازمة ، ومن المعلوم امتناع اجتماع تلك الحالة على طرفي الخلاف كما هو كذلك بالنسبة إلى صفة الظنّ أيضا فإنّ رجحان طرفي النقيض غير

ص: 524


1- في هامش « م » : در حفظ معالم شريعت مى كوش *** تن وتو به خرقه طريقت مى پوش از جام محبّت ولىّ مطلق *** مستانه همى مى حقيقت مى نوش « منه »
2- « ج » : متبوعة.
3- سبق في ص 413.
4- « م » : كذلك.
5- « ج » : بل لو كان؟
6- « س » : أدلّة؟

معقول.

ومن هنا يظهر أنّ ما أورده القوم من العلاّمة في التهذيب والمبادئ (1) - (2) وغيره من اختصاص التعارض بالأدلّة الظنّية ولا يعقل في الأدلّة القطعية في محلّه ، فإنّ مرادهم من الأدلّة الظنّية ما ليس ملاك الدليلية فيها على نفس صفة الظنّ.

وربّما يورد عليهم (3) بأنّهم إن أرادوا القطع بالصدور فهو ممكن في كلّ الأقسام أو بالمضمون نوعا بحيث لو لا أحد المتعارضين لأفاد الآخر القطع ، أو الظنّ فكذلك ، أو فعلا ، فهو محال في الكلّ ، وإن أرادوا في القطعيين والمختلفين الفعلي ، وفي الظنّيين النوعي ، فهو صحيح ولكنّه تفكيك (4) ، انتهى.

وبعد ما تقدّم يظهر لك الوجه في فساد هذا التوهّم ، وتوضيحه : أنّا نختار الشقّ الأخير ولا ضير في التفكيك المذكور بوجه ؛ لأنّ دليلية (5) القطعي لا يعقل من غير أن يكون مفيدا للقطع الفعلي ، فإن أفاد القطع فهو دليل وإلاّ فليس دليلا ، فإنّ ذلك لا يناط بجعل جاعل فيه ، بل من حيث إنّه مرآة عن الواقع وكاشف عنه ، وهذه (6) الحيثية عند انتفاء الصفة منتفية ، بخلاف الأمارة الظنّية فإنّ دليليتها منوطة بجعل الجاعل ، فربّما يجعلها دليلا وحجّة عند وجود الوصف ، وربّما يجعلها حجّة عند عدمه أيضا نظرا إلى وجود المصلحة التي اقتضت ذلك ، فالدليل القطعي بعد انتفاء القطع لو فرض جعله حجّة يكون من الأدلّة الظنّية فيما لو كان مفيدا له ، أو التعبّدية عند عدمه ، وإلاّ فهو باطل أصلا كما لا يخفى ، فالتفكيك إنّما جاء من نفس الدليل القطعي والظنّي ؛

ص: 525


1- « د ، س » : - التهذيب والمبادئ.
2- التهذيب : 278 ؛ مبادئ الوصول الى علم الأصول : 230.
3- المورد شريف العلماء.
4- ضوابط الأصول : 481. انظر أيضا تقريرات شريف العلماء للأردكاني ( مخطوط ) : 395.
5- « ج ، د » : دليله.
6- « ج » : « هو ».

لإمكان (1) اتّصاف الثاني بالدليلية عند انتفاء الوصف ، وعدمه في الأوّل ، فإنّ الظنّ النوعي معقول ، والقطع النوعي غير معقول.

وأمّا تعارض الإجماعين مع أنّ المعتبر في دليليته هو القطع ، فلا ينافي (2) ما ذكرنا من امتناع التعارض بين القطعيين (3) ؛ إذ غاية ما هناك هو القطع بصدور الحكم المجمع عليه عن الإمام ، وأمّا القطع بكونه هو الحكم النفس الأمري الواقعي المطابق للمصلحة في نفس الفعل مع قطع النظر عمّا يقتضيه وجوه الفعل كوقوعه (4) في مقام (5) التقيّة ونحوه ، فهو محال ، فإنّ جهات التعارض متعدّدة (6) ، فربّما كان الصدور قطعيا مع الشكّ في جهة صدوره ، وبذلك يعلم التعارض في الأخبار على القول بحجّيتها من باب الظنّ ، فإنّ الظنّ بالصدور في الخبرين لا ينافي تعارضهما من جهة أخرى لما (7) ستعرف من تعدّد جهات التعارض.

ومحصّل الكلام في المقام : أنّ التعارض بين القطعيين غير معقول كالظنيين الفعليين ، وأمّا التعارض بين المختلفين فلا إشكال في امتناعه فيما إذا كان أحدهما قطعيا مطلقا ؛ لامتناع حصول الظنّ على خلاف القطع ولعدم اعتبار دليل كائنا ما كان إذا كان خلافه مقطوعا به كما هو المفروض ، وأمّا إذا (8) لم يكن أحدهما قطعيا فإن كان أحدهما مفيدا للظنّ شخصا فلا يجوز التعارض فيما إذا كان الآخر اعتباره موقوفا على عدم قيام ظنّ على خلافه كما في الاستصحاب على القول به ظنّا ، ويجوز فيما إذا كان الآخر حجّة نوعية أو تعبّدية.

ثمّ إنّ التعارض قد يكون بين اللبّيين كالشهرتين أو أولوية وشهرة أو استقراء

ص: 526


1- « ج ، س » : « لأنّ » بدل : « لإمكان ».
2- « ج ، د » : فلا تنافي.
3- « ج ، م » : القطعين.
4- « م » : لوقوعه. « د » : بوقوعه.
5- « د » : المقام.
6- « د » : متفاوتة.
7- « ج » : كما.
8- « د » : إن.

وإحداهما على القول بها ، وقد يكون بين اللفظيين كالخبرين (1) ونحوهما ، فعلى الأوّل لا يمكن التعارض إلاّ من جهة واحدة وهي الكشف عن الحكم الواقعي ، وعلى الثاني فيقع التعارض من جهات ثلاث : دلالة ، وصدورا ، وجهة صدور ، فإنّ الدليل اللفظي متى لم يعلم فيه تلك الجهات الثلاث ولو علما شرعيا لا يجوز الاتّكال عليه ، فلا بدّ من إحراز وجه صدوره عن المعصوم فلعلّه صدر عنه تقيّة بعد إحراز أصل صدوره ، كما أنّه لا يجوز التعويل عليه ما لم نعلم بدلالته على ما هو المقصود في الاستدلال به ، وهذه أمور ظاهرة واضحة لا يكاد يستريب فيها أحد ولا سترة عليها ، واللّه الموفّق الهادي.

ص: 527


1- « ج ، م » : كالحديثين.

ص: 528

هداية [ في تعريف التعادل ]

تعادل الدليلين عبارة عن تساوي اعتقاد مدلوليهما (1) ، وقد اختلف الآراء في إمكانه ووقوعه ، فعن أحمد والكرخي المنع ، والباقون على خلافه ، والمنقول (2) في دليل المنع هو أنّ بعد التعادل إمّا (3) يجب الأخذ بهما وهو محال ، أو لا يجب الأخذ بهما وهو لغو في جعلهما حجّتين ، أو يجب الأخذ بأحدهما المعيّن وهو ترجيح بلا مرجّح ، أو الغير المعيّن وهو راجع إلى طرحهما لجواز التخيير دائما بينهما ، فيلزم طرح كلّ منهما ، وهو غير واضح الدلالة على الدعوى (4) المذكورة ؛ لإبهامها في الغاية وعدم وضوحها مع ظهور فسادها رأسا ، إذ لا يعقل في ذلك مانعا ، مضافا إلى وقوعه في الخارج كما في الرعد المتواتر (5) في الصيف وأمثاله ممّا لا نهاية له ، فإنّ موارد التوقّف ممّا لا يحصى (6).

فالأولى صرف عنان الكلام إلى مسألة نافعة في المقام وهي أنّه بعد ما تعارض الدليلان (7) فهل القاعدة هي (8) إعمالهما في الجملة ، أو طرحهما وتساقطهما ، وقبل الخوض في الاستدلال ينبغي بيان المراد من الإعمال والتساقط.

ص: 529


1- كذا عرّفه في القوانين 2 : 282.
2- كما في القوانين 2 : 282.
3- « م » : إمّا أن.
4- « س » : « على المدّعى لدعوى » والظاهر شطب فيها على « المدعى ».
5- « د » : المتواترة.
6- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : لا يخفى.
7- « د » : بعد التعارض بين الدليلين.
8- « د ، ج » : - هي.

فنقول : المراد (1) بالإعمال هو الأخذ بأحدهما المعيّن فيما عيّن العمل به بعد الجمع أو الترجيح من أحد وجوه الجمع و (2) الترجيح كما ستعرف ، أو بأحدهما الغير المعيّن على أن يكون الخيرة في التعيين بيد المكلّف بواسطة المرجّحات المتقدّمة في نفسه عند العمل والتعارض.

والمراد بالتساقط يحتمل أحد الأمرين (3) : الأوّل : أن يكون المراد من تساقطهما انتفاءهما رأسا وعدم الأخذ بهما أصلا والرجوع إلى (4) الأصول التي ينبغي الأخذ بها على حسب اختلاف المقامات موافقا لأحدهما كما إذا كان أحدهما مبيحا ، أو مخالفا لهما كما إذا كانا تكليفيين. وثانيهما : أن يكون المراد به تساقطهما في مورد التعارض والأخذ بهما في نفي الاحتمال (5) الثالث ، فالمرجع هو الأصل الموافق لأحدهما لو فرض وإلاّ فالتخيير بين الاحتمالين عقلا ، وعلى القول بالتساقط لا بدّ من ملاحظة المتعارضين ، فربّما يتعيّن الوجه الثاني ، كما إذا كان المتعارضان أمارتين من الأمارات الظنّية كالأولوية والشهرة مثلا ، فإنّه يمكن حصول الظنّ منهما على نفي الثالث والمفروض حجّية مطلق الظنّ ، فيكون الظنّ الحاصل من الأمارتين حجّة ، وأمّا إذا كان المتعارضان خبرين فالظاهر أنّ المتعيّن (6) هو الوجه الأوّل ؛ لأنّ الخبرين المتعارضين في الأغلب لا يستفاد منهما نفي الثالث ، لأنّ المخبر ليس إلاّ في صدد الإخبار عمّا هو المدلول المطابقي ، وأمّا الالتزامي فقلّ (7) ما يوجد أن يكون المخبر في صدد الإخبار به على أن يكون خبره منحلاّ إلى خبرين ، كما في المتواترات المعنوية التضمّنية أو الالتزامية.

ص: 530


1- « د » : إنّ المراد.
2- « ج » : « أو » بدل : « و ».
3- « س ، م » : أمرين.
4- « ج » : على.
5- في النسخ : احتمال.
6- « د ، م » : المعيّن.
7- « م » : فقيل.

والفرق (1) بين احتمالي التساقط والتخيير ظاهر ، أمّا على الأوّل فلا حاجة إلى توضيحه لكن ذلك يتمّ فيما إذا لم نقل بترجيح أحد المتعارضين بالأصل ، وإلاّ فالمقدّم منهما هو الموافق للأصل ، وأمّا على الثاني فلأنّ المراد بالتخيير هو الأخذ بأحد الدليلين شرعا لا الأخذ بمجرّد الاحتمالين عقلا ، ومن هنا يظهر سقوط ما تمسّك به البعض في إثبات التخيير بأنّ نفي الثالث المستفاد من المتعارضين دليل على التخيير ، أمّا أوّلا : فلأنّ المتعارضين لا دلالة فيهما على نفي الثالث على الإطلاق ، وأمّا ثانيا : فلأنّ التخيير المتنازع فيه هو التخيير الشرعي بين المتعارضين دون التخيير العقلي وقد عرفت أنّ ذلك لا دلالة فيه عليه.

وإذ قد عرفت هذا فنقول : قد يقال (2) بأنّ الأصل في المتعارضين هو التساقط دون الإعمال نظرا إلى أنّ الدليل الدالّ على اعتبار المتعارضين لا يخلو إمّا أن يكون من الأدلّة اللبّية كالإجماع ودليل العقل ، أو من الأدلّة اللفظية ، لا إشكال في التساقط على الأوّل ؛ إذ القدر المعلوم من حجّيتهما هو حال خلوّهما عن المعارض ، وأمّا عند التعارض فيبقى كلّ واحد منهما خاليا عن دليل الاعتبار ، وأمّا على الثاني فإمّا أن يقال بعدم شموله للمتعارضين ، أو يقال بشموله لهما ، أو لأحدهما ، لا سبيل إلى الأخيرين ، فتعيّن (3) الأوّل وهو المطلوب.

بيان ذلك - بعد الغضّ عن القول بعدم انصراف المطلق إلى المتعارضين - : أنّ شموله لهما على وجه الوجوب العيني محال عقلا ، وعلى وجه الوجوب التخييري حال التعارض موجب لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ؛ لأنّ قوله : « اعمل بالخبر » مثلا عند عدم التعارض يراد منه الوجوب العيني ، فلو استفيد منه الوجوب التخييري لزم

ص: 531


1- « س » : فالفرق.
2- قاله السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : 683. وسيكرّره مع جوابه في ص 653.
3- « س » : فيتعيّن.

استعماله فيهما ، وشموله لأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجح ، ولأحدهما الغير المعيّن عندنا والمعيّن عند اللّه خلاف المفروض ؛ لأنّ المفروض تساويهما فيما دلّ الدليل عليه ، وأمّا مطابقة الواقع فخارجة (1) عن ملاك الدليلية (2) ، على أنّ ذلك يوجب الطرح ؛ لدوران الأمر بين الحجّة واللاحجّة المحرّم الأخذ بها لدخولها فيما وراء العلم ، ولأحدهما الغير المعيّن مطلقا أيضا باطل ؛ لأنّه ليس من أفراد العامّ والمطلق فإنّه أمر انتزاعي صرف ليس مشمولا للدليل ، فلو فرض القول بالتخيير لا بدّ وأن يكون مستندا إلى أخبار التخيير الواردة في علاج المتعارضين. هذا غاية ما يمكن الاستدلال به للتساقط (3).

ولكنّ الإنصاف أنّ الأصل هو الإعمال (4) دون التساقط ؛ لعموم الأدلّة الدالّة على اعتبار هذه الأدلّة وإطلاقهما على وجه شامل للمتعارض (5) ولغيره.

وأمّا ما عرفت من دليل المنع فواه جدّا ، أمّا أوّلا : فلأنّ مجرّد كون الدليل لبّيا لا يقضي بعدم شموله للمتعارض ؛ لاحتمال قيام الإجماع على وجه يشمل المتعارض (6) أيضا كما يحتمل دلالة العقل على اعتبار الدليل حال التعارض أيضا وذلك كما في الأخبار ، فإنّ التحقيق (7) أنّ الإجماع على حجّية الأخبار الموثوق بها منعقد حال التعارض ، كما استكشفنا ذلك في محلّه من الأمارات المذكورة هناك ، وكذا دليل الانسداد على تقدير تماميته قضيّته عامّة (8) للمتعارض وغيره ، سيّما بناء على ما هو التحقيق فيه من الحكومة.

وبالجملة : فسخافة هذه المناقشة وأمثالها في أمثال المقام ظاهرة ؛ إذ ليس كلّ ما كان لبّيا غير معلوم التناول حتّى يؤخذ بالقدر المتيقّن والمعلوم.

ص: 532


1- « م » : فخارج.
2- « د » : الأصلية.
3- « م » : للتصادق.
4- « د » : الإجمال.
5- « م ، س » : التعارض.
6- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : التعارض.
7- « د » : المتحقّق.
8- « د » : عامّ.

وأمّا ثانيا : فنختار أنّ الدليل الدالّ على الحجّية شامل للمتعارضين معا ، ولا محذور.

قوله : « وهو محال (1) عقلا » ممنوع (2) ولكنّه غير مجد ؛ إذ التكليف بالمحال تارة : يتصوّر من حيث إنّ المكلّف به في نفسه محال كالأمر بالمحالات العقلية أو العاديّة كالطيران إلى السماء (3) ونحو ذلك (4) ، وتارة : يلاحظ من حيث إنّ اجتماع الأمرين محال ، فيتفرّع محالية المكلّف به على التكليف ، بخلاف الأوّل فإنّ الأمر يتوجّه إلى مطلوب ممتنع الوجود فيه ، وفي الثاني يستحيل اجتماع المطلوبين من حيث إنّهما مطلوبين ، فالامتناع إنّما نشأ من الأمرين ، ولا شكّ أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ استحالة مطلوبية العمل بأحد الخبرين ليس بواسطة عدم إمكان الامتثال به في نفسه كما في التكليف بالطيران إلى السماء ونحوه ، وإنّما جاءت بواسطة وجود مقتضي (5) العمل ووجوب الأخذ به في الثاني أيضا ؛ ضرورة إمكان الامتثال لكلّ واحد من الخبرين لو لا الآخر ، ولا ريب أيضا أنّ كلّ واحد من الأدلّة المطلقة أو العامّة الدالّة بإطلاقها أو عمومها (6) على وجوب شيء من الأشياء أو (7) عمل من الأعمال كائنا ما كان مقيّد بصورة الإمكان بالامتثال بذلك الشيء والعمل (8) عقلا كما قرّر في محلّه ، وقضيّة ذلك هو عدم

ص: 533


1- « د » : ولا محالة.
2- « س » : - ممنوع.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : كطيران السماء ، وكذا في المورد الآتي.
4- في هامش « م » : لا يخفى أنّ ما ذكرنا - من أنّ الامتناع إنّما نشأ من نفس التكليف ، فالممتنع إنّما تحقّق موضوعه بعد التكليف لا قبله ، وذلك لا يوجب إلاّ سقوط الممتنع عن كونه مكلّفا به دون الممكن - إنّما يقضي بامتناع التساقط واستحالته ، ووجهه هو أنّ من المحال عقلا أن يكون وجود الشيء مقتضيا لعدمه ، والقول بالتساقط لازمه ذلك ؛ لأنّ المفروض أنّ استحالة الجميع إنّما هو بعد الوجوب ، فلو فرض أنّ ذلك يوجب عدم وجوبه يلزم من وجوبه عدم وجوبه وهو محال عقلا ، فتدبّر. « منه رحمه اللّه ».
5- « ج » : وجود ما يقتضي.
6- « د » : بإطلاقهما أو عمومهما؟
7- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : و.
8- « د » : العمل به.

التساقط بالإعمال في الجملة على حسب اختلاف المقامات من وجود المرجّح تارة ، والتخيير أخرى ، والجمع مرّة.

نعم ، لو كان استحالة وجوب كلّ واحد منهما على وجه استحالة المحالات قبل تعلّق التكليف بالمكلّف كان الوجه هو القول بالتساقط ، ولكن قد عرفت أنّ الامتناع إنّما نشأ من نفس الأمر وإطلاقه وتقييده بالإمكان عين مفاد القول بعدم التساقط.

لا يقال : إنّ اجتماع المطلوبين في نفسه محال ؛ لكونه عملا بالمتضادّين مثلا ، فلو فرض عدم الأمر بهما أيضا كان اجتماعهما في مقام العمل محالا.

لأنّا نقول : المطلوب هو كلّ واحد من الأفراد ، والاجتماع ليس مطلوبا أصلا ، والمفروض أنّ العمل بكلّ واحد في نفسه ممكن ، والامتناع إنّما نشأ من الجمع (1) وهو لازم الأمرين ، ومحاليته يستلزم عدم كونه مكلّفا به لا عدم كون الأفراد مكلّفا بها أصلا ليلزم التساقط ، ومعنى عدم وجوب الجمع (2) بين العمل بالدليلين مع بقاء مقتضي العمل بكلّ (3) واحد منهما هو الإعمال على وجه التخيير مثلا ، وذلك كما في تزاحم الحقّين والواجبين كإنقاذ الغرقى وإنجاء الحرقى ، فإنّ القول بعدم وجوب إنجاء كلّ واحد من الغريقين عند دوران الأمر بينهما وعدم إمكان الجمع بينهما ملحق (4) بأقوال أصحاب السوداء ، وليس الوجه في ذلك إلاّ بقاء مصلحة الوجوب في كلّ واحد منهما على وجه لو فرض انتفاء الآخر كان الواجب هو بعينه ولذلك (5) مع عدم وسعة الزمان لإنجائهما معا امتنع اجتماعهما في الوجود ، ومن المعلوم أنّ امتناع شيء لا يوجب رفع التكليف عن شيء ممكن آخر ، فالاجتماع إنّما ارتفع التكليف به ، فيبقى (6) الممكن في مقام التكليف وهو الإتيان بأحد الفردين على أن يكون الخيرة بيد المكلّف.

ص: 534


1- المثبت من « د » ، وفي سائر النسخ : الجميع.
2- « ج ، س » : الجميع.
3- « ج ، م » : لكلّ.
4- « ج » : يلحق.
5- « ج ، د » : كذلك.
6- « م » : فبقي.

لا يقال : إنّ ذلك مسلّم فيما علم وجود المصلحة فيهما عند التعارض ، وهو فيما نحن فيه أوّل الكلام ؛ لاحتمال أن لا يكون المصلحة موجودة في الخبرين عند التعارض كأن يكون في أحدهما دون الآخر أو لا يكون في شيء منهما.

لأنّا نقول : المتّبع ظواهر الأدلّة والمفروض إطلاقها (1) لكلّ واحد منهما ، وبذلك يستكشف وجود المصلحة فيهما ولو عند التعارض ، ولهذا قلنا في مباحث الأمر والنهي بصحّة صلاة الجاهل بالغصب في المكان المغصوب ؛ إذ لو لم يكن إطلاق الأمر باقيا حال الغصب لم يكن للقول بالصحّة وجه.

وبالجملة : فكم من فرق بين أن يكون عدم القدرة مسبّبا عن التكليف ، أو كان سابقا عليه ، والوجوب العيني المتعلّق بكلّ واحد من المتعارضين استحالته من قبيل الأوّل لا الثاني ، فإنّ مقتضى الأوّل هو التخيير ؛ لثبوت التكليف أوّلا ، بخلاف الثاني ؛ إذ الامتناع السابق يمنع (2) عن تعلّق التكليف ابتداء.

وتوضيح الفرق هو أنّ الامتناع موجب لامتناع تعلّق (3) التكليف بالممتنع ، وهذه الصفة لا بدّ وأن تكون (4) مقدّمة على التكليف بذلك الممتنع الذي فرض امتناع تعلّق التكليف به ؛ لكونه ممتنعا إلاّ أنّ موضوع ذلك الممتنع تارة : يتحقّق قبل التكليف بشيء ، وأخرى : بعده ، وفي المقام الممتنع الذي يمتنع التكليف به هو امتثال الجميع وذلك فرع التكليف بالأفراد (5) ، وإلاّ فلا معنى لعنوان الامتثال فإنّه فرع الأمر ، فلا يجب (6) الامتثال في الجميع لامتناعه ، ويجب الأخذ بأحدهما لإمكانه (7).

ص: 535


1- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : « إطلاقهما ».
2- « س ، م » : يمتنع.
3- « ج » : للامتناع لتعلّق.
4- في النسخ : يكون.
5- « ج » : بالأفراد ذلك.
6- « ج » : « فلا يجدي » وكذا في المورد الآتي.
7- في هامش « م » : ملخّص القول في المقام : أنّ إطلاق الأمر بالأخذ بالدليل قاض باعتبار كلّ واحد من الدليلين حتّى عند التعارض ، وتوهّم عدم الانصراف إلى الصورة المفروضة واه جدّا ، والعمل بكلّ واحد ممكن ، نعم الجمع بينهما اللازم من الأمرين وهو العمل بأحدهما عند العمل بالآخر ممتنر. والجمع بينهما ليس من الأمور التي يتعلّق به التكليف بالأصالة ، بل إنّما وجب بملاحظة الأمر بكلّ واحد منهما ، واستحالته يوجب رفع التكليف الذي فرضنا إجزاءه من الأمرين بالفردين عنه ولا يجدي ذلك في رفع التكليف عنهما ، فكلّ واحد منهما مأمور به ، ولهذا صار الخيرة بيد المكلّف في الإتيان بأيّهما شاء ، مع أنّ كون الاختيار بيد المكلّف غير معقول في الأحكام الشرعية إلاّ فيما لا يختلف فيه الفعل عند اختلاف اختياراته كما في الواجب المخيّر ، غاية ما في الباب أنّ الطلب التخييري لكلّ واحد منهما منتف ؛ لمكان استحالة الجمع اللازم على تقدير الطلب الفعلي بهما ، فالمختار من شقوق الترديدات هو أنّ كلّ واحد منهما واجب شأنا ، والعقل حاكم بالوجوب التخييري بعد تقيّد كلّ واجب بصورة الإمكان ، وليس لفظ الأمر مستعملا إلاّ في معنى واحد ليلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ولا ضير في مثل هذا الطلب كما في تكليف الغافل والجاهل ممّا لا يختلف الطلب باختلافه ، غاية الأمر كونه معذورا عن الجهل والغفلة [ وذلك ] لا يقضي بانتفاء أصل الطلب رأسا ، ولذلك لا حاجة إلى طلب جديد بعد الإفاقة من الجهل والغفلة ، فتدبّر « منه ».

ومن هنا يظهر وجه ما أفاده شيخنا البهائي (1) في بعض مباحث الأمر من أنّ الواجب المضيّق الأهمّ يقدّم على غير الأهمّ منه على اختلاف مراتب الأهمّية ، فقد يكون أحدهما من حقوق الناس فيقدّم على حقّ اللّه للاتّكال على كرمه والتعويل على (2) فسحة (3) فضله ، وضعف ما نوقش فيه (4) من أنّ الواجب حينئذ ملاحظة أدلّة الحقوق فإنّهما إمّا قطعيان ، أو ظنّيان ، أو مختلفان ، ويرجّح أحدهما على الآخر بحسبه.

وتوضيح الضعف : أنّ ملاحظة حال الدليل بعد أنّ المفروض تساويهما في وجوب

ص: 536


1- « س » : + رحمه اللّه ، نقل عنه أيضا الشيخ حسين القمي في حاشيته على القوانين المسمّى بالتوضيح انظر هامش القوانين 1 : 113 - 114 ؛ وانظر أيضا هداية المسترشدين : 224 ؛ مطارح الأنظار ( بحث الضدّ ) 1 : 542.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : إلى.
3- « د » : فسيحة.
4- « ج » : - ما نوقش فيه. وفي « د » : وضعّف بالمناقشة فيه.

العمل بكلّ واحد منهما ممّا لا وجه له (1) ، بل اللازم مراعاة (2) الأهمّية في نفس الحقوق المتعارضة ، ولا معنى للرجوع إلى ملاحظة حال الدليل ، فلا تغفل (3).

ثمّ إنّ القول بعدم التساقط لعلّه هو المشهور ، بل نفى الخلاف عنه في المعالم (4) ، ولا فرق في ذلك بين الأمارة القائمة على الأحكام أو الموضوعات ، فإنّ القول بتساقط البيّنتين فيما إذا تعارضتا كاد أن يكون مخالفا للإجماع وإن حكاه بعضهم عن العلاّمة فيما إذا أقيمتا على وقوع النجاسة في أحد الإناءين إلاّ أنّ المشهور على دخول الفرض في الشبهة المحصورة ، بل لم نجد مثل ذلك منه أيضا في أمثاله.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كما هو ظاهر إنّما يتمّ إذا كان الدليلان حال التعارض باقيين على كونهما دليلين ، وأمّا إذا لم يكن كذلك كما في الظنّ الشخصي المعارض بالظنّ النوعي إذا لم يكن ذلك دليلا أيضا فالأقوى هو التساقط ؛ لدوران الأمر حينئذ بين الحجّة واللاحجّة كما نبّهنا على ذلك فيما إذا تعارض الأصلان ، فإنّ ملاك الدليلية مرتفع عن أحدهما عند التعارض بواسطة العلم الإجمالي بانتفاض (5) إحدى الحالتين السابقتين ، وليس كذلك في الأخبار ؛ إذ غاية ما يمكن أن يقال : هو أنّ القطع بمخالفة أحد الخبرين للواقع يقضي بالحكم بعدم كون أحدهما دليلا كما في الأصلين ، وهو ليس بسديد ؛ لأنّ المدار على دخول المتعارضين (6) تحت عنوان ما دلّ على حجّيتهما كأن يكون كلّ واحد منهما من أخبار العدول ، أو كان كلّ واحد منهما موثوق الصدور ، ونحوه ممّا دلّ الدليل على اعتبار ذلك العنوان على حسب اختلاف مشاربهم في ذلك.

نعم ، لو كان مناط الدليلية على الواقع بعد القطع بالمخالفة لم يكن بدّ من القول بالتساقط ، فتأمّل في المقام واللّه الموفّق وهو الهادي.

ص: 537


1- « ج ، م » : - له.
2- « س » : ملاحظة.
3- ما بين السطور في نسخة « م » : والتحقيق في المقام استحالة التساقط رأسا.
4- المعالم : 250.
5- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : بالتعارض.
6- « س » : أحد المتعارضين.

ص: 538

هداية [ في قاعدة الجمع مهما أمكن ]

بعد ما عرفت في الهداية السابقة من أنّ قضيّة القواعد هو عدم تساقط الدليلين فهل يجب الجمع بين الدليلين بإعمال الوجوه الدلالية بينهما وارتكاب جهات التأويل فيهما أو في أحدهما نظرا إلى أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، أو لا؟ وجهان : بل يمكن أن يقال قولان ، والتحقيق في المقام أنّ هذه قضيّة مشهورة لا أصل لها وإن بالغ فيها المحدّث [ ابن ] أبي (1) جمهور الإحسائي ، بل ادّعى عليها إجماع العلماء حيث قال في غوالى اللآلى بعد ذكر المقبولة (2) : إنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أوّلا البحث عن معناهما وكيفيات دلالات ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات فاحرص (3) عليه واجتهد في تحصيله فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء ، فإذا لم تتمكّن (4) من ذلك أو لم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث (5) ، انتهى.

وقد اشتهرت هذه القضيّة بحيث صارت من الأمثال السائرة ، والمراد بها الجمع في الدلالة بإخراج المتعارضين عن ظاهرهما وحملهما على ما لا تنافي بينهما ، وبالطرح رفع

ص: 539


1- في النسخ : أبو.
2- كذا. والصواب : المرفوعة.
3- « ج ، م » : فاحرض.
4- « د ، ج ، م » : لم يتمكّن.
5- عوالى اللآلى 4 : 36.

اليد عن سندهما في الجملة ، والجمع وإن استلزم طرحا في الجملة إلاّ أنّ بعد ما عرفت من أنّ مرادهم منه ما ذكرنا لا وجه لما قد يتوهّم في دفعه بأنّ الجمع على أيّ وجه فرض يستلزم الطرح ، فيلزم من وجوده عدمه ، ومع ذلك فالحقّ كما عليه بعض أعاظم المحقّقين (1) أنّه لم يقم على الجمع مطلقا دليل.

نعم ، تتّجه تلك المقالة في بعض المقامات دون غيرها ، وتفصيل الكلام وتوضيحه أن يقال : إنّ للجمع مراتب : فتارة : لا يحتاج إلى شاهد لاكتفاء نفس الدليلين (2) عنه ، وأخرى : يحتاج (3) إلى شاهد واحد ، ومرّة : يحتاج إلى شاهدين لعدم اكتفاء نفس الدليلين عنهما.

أمّا الأولى فالواجب فيها الجمع بين الدليلين ، كما في العامّ والخاصّ المطلقين وما يقاربهما في كون أحدهما بمنزلة النصّ بالنسبة إلى الآخر كما في المطلق والمقيّد والقرائن الصارفة بالنسبة إلى الحقائق.

أمّا في الأوّل فلأنّ المتبادر من الدليلين والمنساق منهما عرفا هو الأخذ بالخاصّ بعد مخالفته لحكم العامّ ؛ لأنّ شمول العامّ للفرد ليس في مرحلة الخاصّ لذلك الفرد ، فيقدّم الخاصّ على العامّ مطلقا إلاّ فيما إذا كان العامّ أقوى من الخاصّ دلالة بواسطة اعتضاده بأمارة خارجية (4) كأن يكون الخاصّ على خلاف مذاق الشريعة أو ينافي أصول المذهب وقواعده أو يكون مساق العامّ آبيا عن التخصيص كما فيما دلّ على جواز نكاح أمة الزوجة بدون إذنها وكما في قوله : « أجمع لك السهو في كلمتين إذا شككت فابن على الأكثر » (5) فإنّ هذه الموارد لا بدّ من تقديم العامّ فإنّه ربّما يقدّم على

ص: 540


1- هو الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية : 233 - 237 ، فائدة 23 ؛ انظر أيضا الرسائل الأصولية للوحيد : 451 - 452.
2- « ج » : شاهد اكتفاء بنفس الدليل.
3- « م » : - يحتاج.
4- « ج » : خارجة.
5- الوسائل 8 : 212 ، باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 1.

الخاصّ.

فكيف (1) كان ، ففي غير أمثال هذه الموارد لا إشكال في وجوب الجمع بين الدليلين بحمل العامّ الدالّ على وجوب إكرام العلماء - مثلا - على الخاصّ الحاكم بعدم وجوب إكرام زيد العالم ، ولعلّ السرّ في ذلك هو دوران الأمر بين الأخذ بأصالة الحقيقة التي هي من الأصول المعمولة في العامّ وبين طرح دليل اجتهادي دلّ على لزوم الأخذ بسند الخاصّ ؛ إذ المفروض أنّه لا كلام في كون الخاصّ أيضا حجّة شرعية يجب الأخذ به بإجماع (2) ونحوه ، ولا ريب أنّ الأخذ بالدليل الاجتهادي لازم عند دوران الأمر بينه وبين الأصل ؛ لأنّ الشكّ المأخوذ في موضوع (3) الأصل يرتفع بعد وجود الدليل الاجتهادي ، فإنّ الشكّ في شمول العامّ للخاصّ يرتفع بعد العلم بلزوم العمل بالخاصّ بواسطة الدليل ، لكن هذا إذا فرض دلالة الدليل على الخاصّ على وجه لا حاجة إلى إعمال أصالة الحقيقة في ذلك الدليل كأن يكون إجماعا أو نحو ذلك ، وأمّا إذا احتاج إلى إعمال أصالة الحقيقة في دليل الخاصّ على وجه لا يعلم بدخوله تحت العامّ الدالّ على الحجّية ، فالظاهر تعارض الأصلين في دليل الخاصّ وفي نفس العامّ إلاّ أنّ الأصل المعمول في دليل الخاصّ وحجّيته (4) مزيل لغيره.

وأمّا في المطلق والمقيّد فالأمر أظهر ؛ لأنّ دلالة العامّ على الأفراد ربّما يعدّ أظهر من دلالة المطلق (5) عليها ، لأنّها وضعية في العامّ على بعض الوجوه وعقلية في المطلق نظرا إلى أنّ إثبات الحكم للماهيّة التي هي مذكورة في مقام البيان يوجب حصول الامتثال بأيّ فرد منها ، فشمول المطلق للأفراد على وجه يكفي في الامتثال به بأيّ فرد كان إنّما هو بواسطة عدم البيان ، والمقيّد هو البيان بعد وروده ، فالمطلق كأنّه برزخ بين الأدلّة

ص: 541


1- « ج » : وكيف.
2- « م » : بالإجماع.
3- « ج » : موضع.
4- « س ، د » : الحجّية.
5- « د » : المطلقة.

الاجتهادية والأصول العملية بواسطة استناد (1) الدلالة فيه إلى اللفظ والعقل معا ، فالعرف قاض بتقديم (2) المقيّد ووروده على المطلق ، ومنه يستظهر اتّحاد التكليف فلا حاجة إلى اشتراط العلم بالاتّحاد في الحمل كما قدّمناه في مباحثه ، ومثل ما ذكر (3) في لزوم الحمل والتقديم (4) كلّ ما كان أحد الأمارتين أظهر في العرف من الآخر على وجه يكفي في الحمل ملاحظة نفسهما من غير حاجة إلى استشهاد من الخارج كما إذا ورد في قولهم عليهم السلام : « يجب غسل الجمعة » وقولهم (5) : « لا ينبغي تركه » وقلنا بأنّ دلالة « يجب » على الوجوب أظهر من دلالة « لا ينبغي » على الاستحباب ، فإنّه لا إشكال في أنّ الظاهر يحمل على الأظهر ويحكم بأنّ المراد من « لا ينبغي » هو الوجوب كما يستفاد ذلك من القرائن اللفظية الصارفة ، فإنّ حمل « يرمي » على شيء لا ينافي الحيوان المفترس أيضا معقول إلاّ أنّه لمكان الأظهرية لا بدّ من ارتكاب التأويل في « الأسد » دون قولك : « يرمي ».

وبالجملة : فالمعيار في هذا القسم هو صلوح حمل أحد المتعارضين على الآخر بقرينة موجودة في نفسهما (6) ، بل والتحقيق (7) أنّ هذا القسم خارج عن الأخبار العلاجية ولا شكّ في وجوب الجمع ، ولم نعلم في ذلك مخالفا ؛ إذ لم نجد من أوّل الفقه إلى آخره من حكم بالتخيير بين العامّ والخاصّ بعد اعتقاد وجود الموضوع كما هو ظاهر (8) ، ومن

ص: 542


1- « ج » : إسناد.
2- « د » : بتقدّم.
3- « ج » : ذكرنا.
4- « د » : التقدّم.
5- « س » : + عليهم السلام.
6- « د » : نفسها.
7- « د » : ويتحقّق.
8- قال في مصباح الأصول 3 : 353 : وظهر بما ذكرنا أنّ ما ذكره صاحب الحدائق واحتمله صاحب الكفاية أخيرا من أنّه يعامل مع العامّ والخاصّ معاملة المتعارضين من الرجوع إلى المرجّحات ، وإلى التخيير مع فقدها ، ليس في محلّه ؛ إذ مع وجود الخاصّ يرتفع موضوع حجّية العامّ ، وبعد عدم كون العامّ حجّة لا معنى للتعارض بينه وبين الخاصّ ؛ لأنّ التعارض هو تنافي الحجّتين من حيث المدلول.

المعلوم أيضا أنّ (1) الأخذ بالمرجّحات السندية كالموافقة للكتاب أو مخالفة العامّة ونحوهما ممّا (2) لا وجه في مثل المقام ، وقد يظهر من بعضهم تقديم المطلق على المقيّد نظرا إلى كونه مخالفا لما عليه العامّة ، فإن تخيّل أنّه من الموارد التي يحكم بتقديم الظاهر على الأظهر لخصوصية خارجية كما في تقديم العامّ على الخاصّ فهو ، وإلاّ فهو سهو ظاهر كما لا يخفى ، ولا فرق فيما ذكرنا من لزوم الحمل بين القول بحجّية أصالة الحقيقة تعبّدا وبين القول بها من باب إطباق العقلاء (3) على العمل بها ؛ لأنّ بناءهم على العمل بالخاصّ أيضا ؛ إذ الحكم بالأخذ بظاهر العامّ عندهم أيضا معلّق على عدم ورود الخاصّ والقرينة أو البيان ، ولا إشكال في ذلك أبدا.

نعم ، قد استشكل بعضهم في المقام بأنّه (4) كيف يعقل حمل العامّ على الخاصّ مع اختلاف المتكلّم بهما؟ فإنّ كلام أحد لا يصحّ أن يجعل قرينة على كلام غيره.

وهو في غاية السخافة ؛ لأنّ ذلك مسلّم في غير أمناء الشرع ، وأمّا في كلمات الأئمّة والمعصومين عليهم السلام فالحقّ هو ذلك فإنّهم عليهم السلام بمنزلة متكلّم واحد ، ولكنّ الكلام في كيفية ذلك ؛ إذ لا يخلو إمّا أن يكون الخاصّ الوارد في كلام الصادق عليه السلام قرينة للعامّ الوارد في الكتاب أو كلام النبي (5) ، أو كاشفا عن القرينة ، وعلى التقديرين لا وجه له ، أمّا على الأوّل فلاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فإنّ قبل زمان الصادق (6) كان الواقعة محتاجا إليها أيضا ، وأمّا على الثاني فلأنّ المعلوم عندنا أنّ عمل السابقين لم يكن على وجه الخصوصية حتّى يصحّ القول بأنّ الخاصّ كاشف عن القرينة المقترنة للعامّ ، وذلك ظاهر في الغاية عند ملاحظة أحوال السلف وأحكام الشريعة.

ص: 543


1- « د » : - « أنّ » ، وسقط من قوله : « ومن المعلوم » إلى « كما لا يخفى » من نسخة « ج ».
2- « س » : - ممّا.
3- « م » : العلماء.
4- « د ، س » : بأن.
5- « س » : + صلى اللّه عليه وآله.
6- « س » : + عليه السلام.

فإن قلت : يحتمل أن يكون المراد بالعامّ الوارد في الصدر الأوّل هو العموم الواقعي ، ويكون ورود الخاصّ في العصر المتأخّر ناسخا له أو كاشفا عن كونه منسوخا بناء على الخلاف في جواز النسخ بعد انقطاع زمن الوحي وعدمه.

قلنا : ذلك وإن كان في محلّه إلاّ أنّه بعيد جدّا فإنّ موارد ذلك لا يعدّ من التخصيص الأزماني في شيء والظاهر أنّها (1) من موارد التخصيص الأفرادي ، وإليه يؤذن كلماتهم في مقامات مختلفة.

ويمكن الجواب عنه بأنّ العامّ قبل ورود التخصيص يحتمل أن يكون الحكم به من الأحكام الظاهرية ، والحكم الواقعي هو الخاصّ ، وإنّما أخّره الشارع الصادع لمصلحة اقتضت ذلك نظرا إلى لزوم التوسعة على المسلمين في أوّل الأمر تأليفا لقلوبهم ، فإنّ الشريعة استقرّت تدريجا ولم يتبيّن (2) جميع الأحكام في أوّل الأمر كما يظهر من ملاحظة الأحكام الشرعية فإنّ الأغلب إنّما استفدناه (3) من الأخبار الصادقية والباقرية عليهما السلام والصلاة وليس ذلك من الإغراء بالجهل نظير من لم يطّلع على الخاصّ بعد وروده ؛ إذ هو حكم ظاهري لغير المطّلع على الخاصّ ، وهذه الشبهة بجوابها ممّا أفادها الوحيد البهبهاني في رسالته (4) المعمولة في الجمع بين الدليلين (5) على ما حكاها (6) الأستاد دام عزّه.

قلت : وهو بعيد أيضا غاية البعد ؛ إذ الالتزام بأنّ تلك الأحكام الكثيرة أحكام ظاهرية أيضا ممّا لا يقبلها مستقيم الذهن (7) بل لا يكاد يعقل ؛ للقطع بأنّ عدم بيان بعض الأحكام المتعلّقة بالشكّ أو (8) المناسك ونحوها إنّما هو بواسطة عدم السؤال عنها ، نعم يمكن القول بأنّ بعض الموارد يحتمل أن يكون من هذا القبيل كما يحتمل أن يكون

ص: 544


1- « د » : انّهما.
2- « س » : لم يبيّن.
3- « س ، م » : استفدناها. « ج » : استفيدها.
4- « د » : الرسالة.
5- انظر الرسائل الأصولية : 465 - 471.
6- « د » : حكاه.
7- « د » : المستقيم في الذهن.
8- « د » : و.

من قبيل النسخ في بعض آخر ومن قبيل الكشف عن القرينة في بعض آخر. وكيف (1) كان فما أفاده لم يكن حاسما لمادّة الشبهة ، فتأمّل.

وأمّا الثالثة (2) : وهي التي يحتاج الجمع فيها إلى شاهدين ، فكما (3) إذا كان الدليلان متباينين بحيث لا يكفي في رفع التناقض والتعارض بينهما التصرّف في أحدهما فقط ، كما إذا ورد أكرم زيدا ، ولا تكرم زيدا مع عدم إمكان حمل الأمر على التهديد - مثلا - فإنّ إخراج أحدهما عن الظاهر لا يكفي في رفع التعارض ؛ لتناقض ظاهر الآخر للمعنى المأوّل (4) في الآخر أيضا ، فإنّ حمل الأمر على الاستحباب ينافي ظهور النهي في التحريم ، وهكذا (5) في نظائر المثال المذكور.

وهل يجب الجمع بإخراج كلّ واحد من الدليلين ، أو لا بدّ من الأخذ بالترجيح فيما إذا وجد ، والتخيير (6) عند عدمه؟ ظاهر العبارة المنقولة عن غوالى اللآلى (7) هو وجوب الجمع ، فإنّ عبارته بإطلاقها تدلّ على المقام وإن احتملت المعنى الذي ذكرناه آنفا في العامّ والخاصّ كما لا يخفى على من أعطاه حقّ النظر ، والتحقيق هو عدم وجوب الجمع ، بل لا بدّ من الأخذ بالمرجّح عند وجوده ، والحكم بالتخيير بين الدليلين عند عدمه ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ بناء العرف في أوامرهم في أمثال المقام على الأخذ بالترجيح والتخيير دون الجمع بطرح الظاهرين والأخذ بمعنى ثالث (8) ، فإنّهم إذا ورد عليهم نظير المقام لا يتأمّلون في أخذ المرجّح ثمّ التخيير فيعاملون في الظاهرين معاملة الصريحين (9) وإنّما

ص: 545


1- « د » : فكيف.
2- سيوافيك الكلام عن المرتبة الثانية في ص 548.
3- « ج » : وكما.
4- « م » : الأوّل.
5- « ج » : وكذا.
6- « م » : وجدوا التخيير؟
7- تقدّم عنه في ص 539.
8- « ج » : بالمعنى ثالثا.
9- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : تصريحين.

يهتمّون في صرف السند ، وذلك ظاهر لمن لاحظ الأوامر العرفية ، ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ صرف الظاهرين عن ظاهرهما يتوقّف على وجود قرينة صارفة لهما ، فعند انتفائها لا يعقل الحكم بصرف الظاهر عن ظاهره ؛ لانتفاء ما يقضي بذلك ، ولا يصلح لذلك في المقام شيء عدا ما قد يتوهّم من أنّ الأخذ بدليل السند والحكم بصدوره قاض برفع الظهور وارتكاب التأويل في الظاهر ، وهو ليس بسديد ؛ لأنّ مجرّد الحكم بالصدور لا يقضي بكون الصادر قرينة صارفة لشيء آخر ، إذ كون الشيء قرينة من الأمور التي مرجعها إلى أظهرية مفادها عن مفاد ما فرض كونها قرينة له والمفروض أنّ الحكم بالصدور ليس كذلك.

وتوضيح المقام : أنّ مفاد أدلّة التصديق بالخبر هو الحكم بصدوره (1) عن الإمام ومطابقة الحكاية للمحكيّ عنها (2) وواقعية هذه الحكاية ، وأمّا وجوب الأخذ بظاهره - سواء كان ظهوره مستندا إلى نفس اللفظ أو إلى قرينة صارفة - فلا دلالة في أدلّة تصديق (3) الخبر عليها بوجه ، بل الوجه في ذلك هو الأخذ بالطرق العرفية في تشخيص المرادات في الألفاظ من إعمال أصالة الحقيقة والأخذ بمفاد القرينة الصارفة في الاستعمالات المجازية لمكان أظهرية القرينة من ظهور الوضع بالنسبة إلى الحقيقة ، فالصرف إنّما هو من لوازم نفس الظهور ، فلو لم نقل أنّ الأخذ بظهور الدليلين قرينة على طرح أحد الصدورين فلا مجال للقول بالعكس ؛ لانتفاء ما يقضي (4) بذلك ، وأمّا ما (5) قد عرفت في المرتبة الأولى من الحكم بتقديم ظهور الخاصّ على العامّ لدوران الأمر بين طرح السند في الخاصّ والدلالة في العامّ ، فلا ينافي ما في المقام ؛ للفرق الظاهر بين المقامين من صلاحية الخاصّ للصرف دون المقام لعدم الارتباط بينهما.

ص: 546


1- « ج » : بصدورها.
2- كذا. والأولى : عنه.
3- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : التصديق.
4- « ج ، د » : يقتضي.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - ما.

وبالجملة : إنّ التصرّف في الدلالة في المتباينين ممّا لا يقضي به دليل ، وأمّا طرح أحدهما تخييرا والأخذ بالآخر فهو ممّا يقضي به العرف في أمثال المقام بعد العلم ببقاء المصلحة عند دوران الأمر بين المتعارضين.

فإن قلت : إذا فرضنا رواية ظاهرة في معنى غير واقع أو غير ممكن فاللازم صرفها عن ظاهرها وحملها على معنى واقع ممكن قريب من معناها الحقيقي ، كما ينادي بذلك قولهم : إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات ، ولا فرق في ذلك بين رواية واحدة أو روايتين ، فلا بدّ من حمل الخبرين المتعارضين على معنى لا منافاة بينهما جمعا بينهما ودفعا للتعارض.

قلت : القاضي بالفرق بين الرواية الواحدة وما نحن بصدده هو العرف ، فإنّ البناء في الواحدة على الحمل دون المقام.

أقول : ولعلّ الوجه في ذلك أنّ الامتناع في الرواية الواحدة بعد الحكم بالصدور قاض بالتأويل ، فيصير قرينة عقلية على وجوب الحمل ، بخلاف المقام لإمكان رفع الامتناع بالتخيير فإنّه إعمال في الجملة ، فهو بمنزلة التأويل في الرواية الواحدة ، فالطرح في المقامين بعد التأويل ، فتأمّل.

فإن قلت : إذا علمنا بصدور الخبرين من (1) الإمام عليه السلام كأن سمعنا منه شفاها فلا بدّ من صرف الدلالة قطعا ، وبعد ما فرضنا من قيام الأخبار الظنّية مقام العلم من حيث وجوب التصديق بها والأخذ بها فيجري فيها ما يجري في الأخبار العلمية (2) ، وقضيّة ذلك هو التصرّف في الدلالتين (3) والحكم بسلامة السندين.

قلت : نعم ولكنّه يجب أن يعلم أنّ صرف الدلالة في القطعيين وعدم التعرّض للسند فيهما بالتخيير إنّما هو من آثار نفس القطع واقعة ، وتنزيل (4) الظنّ منزلة القطع لا يقضي

ص: 547


1- « م » : عن.
2- « م ، د » : العملية.
3- « د ، س » : الدليلين.
4- « د » : ينزّل. « ج » : وترتّب.

إلاّ بما يمكن ترتّبه من آثار القطع عليه ، والآثار الواقعية (1) غير ممكن اللحوق بشيء آخر كما لا يخفى. وبعبارة أخرى : القطع بالصدور في المتناقضين يصلح قرينة لصرف الظاهر فيهما بواسطة خاصّية في نفس القطع بخلاف ما يقوم مقامه من التنزيلات التعبّدية.

الثاني : أنّ الجمع بين الدليلين على الوجه المذكور ينافي أخبار التخيير ، فإنّ الحكم بانحصار مورد التخيير في الأخبار بما إذا لم يكن الجمع بينهما ممكنا بوجه من الوجوه كأن يكون المعاني المجازية فيهما معلومة (2) الانتفاء و (3) غير محتمل الإرادة (4) خلاف الظاهر ؛ إذ على تقدير وجود مثل هذا المورد فهو في غاية القلّة لا ينبغي أن يحمل هذه الأخبار مع كثرتها واشتهارها وتعاضدها على مثل هذا المورد النادر الذي يكاد أن لا يوجد منها عين ولا أثر ، إذ ما من (5) لفظ إلاّ ويحتمل معان (6) مجازية عديدة فكيف يصحّ حملها عليه؟ فإنّ إطلاقها قاض بذلك ومع عدم مساعدة العرف على الحمل كما في العامّ والخاصّ فاللازم (7) هو الأخذ بالإطلاق ، على أنّ مورد السؤال في بعضها في الأمر والنهي وهو يكشف عمّا ذكرنا.

بقي الكلام في المرتبة الثانية (8) وهي ما يكفي في رفع التعارض صرف أحد المتعارضين عن ظاهره فقط فيحتاج إلى شاهد ، كما تعارض العامّين (9) من (10) وجه (11) كما في قولنا : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق » وما ورد منهم عليهم السلام من قولهم : « اغسل ثوبك

ص: 548


1- « ج ، س » : الواقعة.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : معلوم.
3- « د » : أو.
4- « ج » : للإرادة.
5- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : - من.
6- « ج » : لمعان.
7- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : اللازم.
8- قدّم المرتبة الثالثة في ص 545.
9- كذا. والصواب ظاهرا : العامّان.
10- المثبت من هامش « د » وفي النسخ : في.
11- « س » : في وجه به.

من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (1) وقولهم : « لا بأس بخرء الطير » (2) وفي حكمه ما إذا تعارض ظاهران لا يكون بينهما (3) ترجيح في نفس الظهور على وجه يكفي في التأويل صرف أحدهما ، كما إذا قيل : « لا ينبغي ترك غسل الجمعة واغتسل للجمعة » على القول بعدم أظهرية الأمر في الوجوب من دلالة قولنا : « لا ينبغي الترك » في الاستحباب فإنّه حينئذ يكفي في رفع التنافي حمل الأمر على الاستحباب أو حمل « لا ينبغي » على الوجوب.

وكيف كان ، فهل يجب الجمع بين الأدلّة بطرح الظهورين للإجمال نظرا إلى انتهاض كلّ منهما صارفا لظهور الآخر ، أو يجب التخيير نظرا إلى إطلاق ما دلّ على التخيير عند التعارض ، أو يفصّل بين العامّين من وجه - ففي (4) مورد التعارض يتوقّف ويرجع إلى ما يقتضيه الأصل أو غير ذلك كما إذا لم يكن ذلك - وبين ما هو في حكمه فيجب الأخذ بأخبار التخيير؟ وجوه : قد يقال بالأوّل نظرا إلى صلاحية كلّ واحد من الظهورين لصرف ظهور الآخر ، فيحكم في مورد التعارض بالإجمال كما يقضي بذلك ملاحظة العرف في المقام وفي نظائره ، فإنّ (5) بعد وجود ما يصلح لأن يكون قرينة من الطرفين لا مفرّ من ذلك إذا لم يكن بينهما ترجيح ، وأمّا عند الترجيح فمن المعلوم هو الأخذ بما فيه الترجيح ، كما إذا كان التخصيص في أحدهما بالمورد ، أو كان أحدهما أقلّ (6) أفرادا من الآخر ، أو نحو ذلك ، فيلحق بالعامّ والخاصّ المطلقين من حمل العامّ

ص: 549


1- الوسائل 3 : 405 ، باب 8 من أبواب النجاسات ، ح 2. وتقدّم في ص 397 وسيأتي في ص 554 و 646.
2- انظر الفقيه 1 : 71 ، باب ما ينجس الثوب ، ح 164 ؛ مستدرك الوسائل 2 : 560 ، باب 6 من أبواب النجاسات والأواني ، ح 2 و 4. وسيأتي في ص 646.
3- « م » : منهما.
4- « ج » : وهي.
5- شطب عليها في نسخة « د » وكتب فوقها : « فإنّه ».
6- « س » : أقوى.

على الخاصّ ، والسرّ في ذلك أنّ العرف متى ما لم ينزّلوا الظاهر منزلة النصّ في المتعارضين لا يلتفتون إلى صرف السند وطرحه ، وتنزيل الظاهر منزلة النصّ إنّما هو بواسطة عدم قرينة يوجب (1) الصرف وعدم صلاحية شيء لذلك كما في المتباينين ، وأمّا إذا وجد عندهم ما يصلح لذلك فإن كان معيّنا (2) في أحد الظاهرين كما في العامّ والخاصّ وما يقرب منه من المطلق والمقيّد والظاهر والأظهر والعامّين من وجه فيما إذا كان شمول أحدهما لمحلّ التعارض أظهر من الآخر بوجه من الوجوه ، فمن الواضح تقديمه على غيره في جميع الأقسام ، وقد عرفت الوجه في ذلك كلّه فيما (3) تقدّم.

ويزيدك توضيحا في المقام أنّه متى فرض أحد المتعارضين أظهر من الآخر وجب تقديمه ؛ لدوران الأمر بين الأخذ بدليل عملي وهو أصالة الحقيقة (4) في العامّ وبين الدليل الاجتهادي أو (5) ما هو بمنزلته في حكومته على الأصل المعمول في الظاهر.

وبيان ذلك : أنّ دليل الأظهر إمّا أن يكون مختصّا به نصّا فيه كأن يكون إجماعا مثلا ، أو لا ، فعلى الأوّل فلا إشكال في تقديم الأظهر على الظاهر ، فإنّ الإجماع الدالّ على حجّية الأظهر ووجوب الأخذ به رافع للشكّ في مورد أصالة الحقيقة للقطع بالتخصيص عند وجود ما يصلح له مع القطع باعتباره. وأمّا على الثاني فلأنّ العامّ الدالّ (6) على حجّية الخاصّ كما في آية النبأ - مثلا - إعمال الأصل فيه مزيل لإعمال الأصل في العامّ الذي تعارض الخاصّ ؛ لأنّ الشكّ في تخصيص المعارض ناش من الشكّ في شمول دليل الحجّية للخاصّ ، وبعد إعمال الأصل في دليل الخاصّ نقطع باعتباره فيحصل القطع بالتخصيص.

فإن قلت : كما أنّ آية النبأ تدلّ على حجّية الخاصّ كذلك تدلّ على حجّيته ، فأصالة

ص: 550


1- كذا في النسخ ولعلّ الأنسب : توجب.
2- « م » : مغنيا.
3- « س » : كما.
4- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : + وما.
5- « ج ، س » : إذ.
6- « س » : - الدالّ.

الحقيقة في دليل الحجّية متعارضة ، فإنّ إعمال الأصل في دليل الحجّية بالنسبة إلى الخاصّ يوجب تخصيصه (1) بالنسبة إلى العامّ في مورد التخصيص ، وإعمال الأصل فيه بالنسبة إلى مورد التخصيص في العامّ يوجب تخصيصه بالنسبة إلى الخاصّ ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.

قلت : نعم ولكن إعمال الأصل بالنسبة إلى الخاصّ أولى ؛ لأنّ بعد ما فرض من شمول العامّ الدالّ على الحجّية للخاصّ لا يبقى لأصالة الحقيقة فيه بالنسبة إلى مورد التخصيص محلّ فكأنّه خارج عن الإرادة في أوّل الأمر ، بخلاف ما إذا أخذنا (2) بالأصل في دليل الحجّية بالنسبة إلى مورد التخصيص فيلزم تخصيصه بالنسبة إلى الخاصّ من غير مخصّص يقضي (3) بذلك ؛ لأنّ شموله لمورد (4) التخصيص لا ينهض قرينة على خروج الخاصّ مثل ما عرفت في استصحابي (5) المزيل والمزال ، ومرجع ذلك كلّه إلى نفس الظهور كما لا يخفى.

هذا إذا كان ما يصلح للصرف معيّنا في أحد المتعارضين ، وأمّا إذا كان ذلك موجودا فيهما كما في العامّين من وجه وما في حكمه فيقضي كلّ واحد منهما بالصرف ، ومع عدم المرجّح لا مجال لإنكار الإجمال ، وما ذكرنا كما يكفي في رفع توهّم الأخذ بأحدهما تعيينا (6) في مقام التعارض كذلك يكفي في رفع توهّم التخيير بينهما أيضا ؛ لأنّ مورد التخيير فيما إذا كان الدلالة مفروغا عنها كأن كانت غير محتملة التأويل بحسب الأوضاع والقرائن العرفية واللغوية ، وأمّا عند احتمال التأويل لوجود ما يصلح للصرف فليس من مورد التخيير بوجه.

وتحقيق ذلك : أنّ لكلّ واحد من العامّين من وجه سندا ودلالة ، والدليل قد دلّ على لزوم الأخذ بالسند فيهما وفي دلالتهما ، فالأمر دائر بين طرح دليل السند فعلا

ص: 551


1- « ج » : الحقيقة.
2- « د » : أخذ. « ج ، س » : أخذها.
3- « ج ، م » : تقضي.
4- « ج » : كمورد.
5- « س » : استصحاب.
6- « ج ، د » : تعيّنا.

والحكم بالتخيير وبين طرح دليل الدلالة والحكم بالإجمال ، والثاني أولى ؛ لما قد عرفت من أنّه (1) بمنزلة الدليل الاجتهادي ، ونظير ذلك في الرواية الواحدة إذا لم يمكن حملها على مدلولها الحقيقي مع تعدّد وجوه المجاز وتساويها (2) في القرب إلى الحقيقة. والفرق بين المقام والمتباينين حيث حكمنا فيهما بالتخيير دون المقام هو أنّ وجه التصرّف فيهما منحصر في التصرّف في السند ؛ لعدم إمكان التصرّف الدلالتي فيهما ، لانتفاء ما يقضي به من القرينة الصارفة ، بخلاف المقام فإنّ وجه التصرّف في الدلالة ممكن (3) أيضا مع الأولوية فكأنّ السند فيهما مفروض الصدور والتنافي إنّما هو بين الدلالتين ، فيحكم (4) بالإجمال فيتوقّف في الحكم ويرجع في العمل إلى أصل عملي مطابق لأحدهما ، وعلى تقدير انتفائه فإن استفدنا منهما نفي الثالث فلا بدّ من التخيير العقلي بين الاحتمالين وإلاّ فالمرجع أصل (5) ثالث.

ويمكن الاستناد (6) للوجه الثاني بإطلاق أدلّة التخيير عند التعارض بعد انقطاع اليد عمّا يصلح مرجّحا لأحدهما ، وربّما يمكن دعوى مساعدة العرف على ذلك أيضا ، إلاّ أنّه لا يخلو عن إشكال فإنّ موارد التميز مختفية (7) غالبا فإنّها سهل عسر (8) كما لا يخفى ، ومنه يظهر وجه التفصيل بعد ما عرفت وجه الأوّل أيضا ولعلّه الأقرب أيضا ، فإنّ مساعدة العرف على التخيير فيما هو بمنزلة العامّين من وجه لا يخلو من (9) قوّة ، وأمّا فيهما فالتخيير بعيد في الغاية ، سيّما بعد ملاحظة أنّ التخيير في العامّين من وجه يوجب التفكيك في السند ، فإنّ في غير مورد التعارض لا وجه للتخيير فلا بدّ من الحكم بصدورهما في غيره وترتيب (10) آثار الصدور ، وفي محلّ التعارض لا بدّ من طرح

ص: 552


1- « ج » : أنّ السند. « س » : كونه.
2- « م » : تساويهما.
3- « د » : يمكن.
4- « س » : للحكم.
5- « د » : أمر.
6- « م » : الاستثناء.
7- « ج ، د » : مخفية.
8- « د » : عسير.
9- « د » : عن.
10- « ج » : ترتّب.

أحدهما ، وهذا وإن كان غير عزيز في الأحكام الشرعية الظاهرية إلاّ أنّ الالتزام به في الأوامر العرفية مستهجن في النهاية ومستبعد في الغاية ، وذلك بخلاف ما في حكم العامّين من وجه فإنّه لا استبعاد في التخيير بينهما ، مضافا إلى أنّ صلاحية الصرف في العامّين (1) في كلّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر لعلّها أقوى من الصلاحية في غيرهما ، فتدبّر.

هذا هو تمام الكلام في المراتب الثلاثة المتقدّمة ولكنّه مقصور في الأدلّة الناهضة في الأحكام ، وأمّا الجمع بين الأمارات القائمة على الموضوعات الخارجية كما إذا تعارضت البيّنتان فلوجوب الجمع بينهما بالحكم بالتنصيف ونحوه ، وعدمه محلّ آخر يطلب منه (2) تفصيله.

وأمّا إجماله فنقول : إذا تعارض الأمارتان في حقّ من حقوق الناس فهل يحكم بالتساقط والرجوع إلى أمارة أخرى ، أو يجمع بينهما حيث ما يمكن الجمع بينهما؟ فإذا شهد عندك عدلان بأنّ الملك الفلاني لزيد وشهد آخران بأنّ المشهود عليه لعمرو فهل يحكم بالتنصيف بينهما ، أو لا؟ الظاهر هو الأوّل ، بل عليه جماعة من الفحول (3) فإنّ فيه إعمالا للأمارتين وتصديقا للبيّنتين في الجملة ، بخلاف القول بالتساقط ؛ إذ لا تصديق فيه أصلا مع أنّه من الأمور الواجبة ، والأخذ بأحدهما بالكلّية تضييع لحقّ الآخر بالكلّية ، ولعلّه يساعده العرف أيضا.

ومن هنا يظهر أنّ الجمع في المقام غير الجمع في الأدلّة ؛ إذ كما عرفت أنّ الجمع هناك عبارة عن صرف أحد الظاهرين بقرينة ظهور الآخر ، بل المراد بالجمع هو التنصيف.

وربّما يقال : إنّ الجمع بهذا الوجه يوجب المخالفة القطعية بالنسبة إلى غير من له الحقّ ، بخلاف الحكم لأحدهما فإنّه يوجب المخالفة الاحتمالية ؛ إذ كما يحتمل أن يكون

ص: 553


1- « م » : عامّين.
2- « د » : من.
3- كالشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 284 ، قاعدة 97.

لغير من له الحقّ يحتمل أن يكون له (1).

وفيه : أنّ التنصيف كما يوجب المخالفة القطعية يوجب الموافقة القطعية فالأمر دائر بين تحصيل الموافقة الاحتمالية في الكلّ وإن استلزم مخالفة احتمالية كذلك ، أو تحصيل الموافقة القطعية في البعض وإن استلزم المخالفة القطعية كذلك ، ولا يبعد ترجيح الأخير على الأوّل في كلّ ما للبعض أثر أيضا كما في حقوق الناس ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في الجمع بين الدليلين على اختلاف أقسامه ، وقد عرفت أنّ الجمع فيما يجب الجمع إنّما هو موافق للقواعد ، وفيما لا يجب لا دليل على الجمع من الخارج أيضا ، وأمّا موارد التخيير فحيثما لا يمكن الجمع مع الانقطاع عن المرجّحات الصدورية.

وربّما يظهر من بعضهم (2) في بعض موارد التعارض في العامّين من وجه كقوله :

« اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » وقوله : « لا بأس بخرء الطير » (3) إعمال المرجّحات الصدورية ، وقال بالتخيير فيهما بعد الانقطاع إلاّ فيما قام الإجماع (4) على عدم التخيير.

وضعفه ظاهر فإنّ عدم الحكم بالتخيير في موارد تعارض العامّين من وجه ليس مخالفا للقواعد حتّى يحتاج في دفعه إلى دليل خارجي من إجماع ونحوه ، بل لا محلّ للتخيير فيهما كما هو ظاهر ممّا مرّ.

وممّا قرّرنا يظهر أيضا فيما إذا تعارض جهة الصدور في الخاصّ والعامّ ، وهكذا باقي الأقسام ، واللّه الموفّق وهو الهادي.

ص: 554


1- « س » : له الحقّ.
2- قال النراقي في عوائد الأيّام : 349 ، عائدة 40 : إذا تعارض العامّان من وجه يرجع إلى الترجيح إن كان ، وإلاّ فيحكم بالتخيير إن أمكن ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل السابق عليهما. انظر الرياض 2 :344- 345 ، وفي ط الحجري 1 : 83.
3- تقدّما في ص 548.
4- « د » : دليل الإجماع.

هداية [ في المرجّحات الدلالية ]

[ في المرجّحات الدلالية ] (1)

في بيان الوجوه التي يقع الترجيح بها وهي أربعة : الأوّل : الترجيح من حيث الصدور كتقديم ما رواه الأعدل أو الأورع على غيره.

الثاني : الترجيح من حيث جهة الصدور فيحكم بتقديم ما لا يحتمل إلاّ الفتوى على ما يحتمل التقيّة.

الثالث : الترجيح من حيث المتن فيقدّم ما هو متنه أفصح على غيره نظرا إلى أنّ احتمال صدوره أقرب من الآخر ، فيرجع إذا إلى الوجه الأوّل.

الرابع : الترجيح من حيث الدلالة كالحكم بتقديم الأظهر على الظاهر.

وبعد ما عرفت من رجوع الثالث إلى الأوّل فالضابط أنّ وجوه الترجيح يختلف باختلاف وجوه التعارض ، وهو قد يكون في السند ، وقد يكون في وجه الصدور ، وقد يكون في الدلالة ، فإنّ ما هو المناط في دليلية الأدلّة اللفظية هو إحراز هذه الجهات في الدليل كما مرّ غير مرّة.

أمّا الكلام في المرجّحات التي بها يترجّح أحد الدليلين على الآخر دلالة ، فتحقيقه أنّ يقال : إنّ الكبرى في ذلك مفروغ عنها وهو الحكم بتقديم الأظهر في أيّ مرتبة كانت على الظاهر كذلك ، بعد ما هو المعهود من أنّ مناط الدلالة في الألفاظ على

ص: 555


1- سيستدرك هذه الهداية بهداية أخرى في ص 643.

الظهور والأخذ بأصالة الحقيقة ما لم يوجد ما يصلح لأن يكون قرينة صارفة للظهور في طرف الأصل ، وأمّا بعد وجود ما يصلح لذلك فالمعهود من طريقة أهل اللسان التي هي المرجع في باب الألفاظ وكشف القناع عن وجوه المرادات هو الأخذ بذلك ، ولا غائلة في ذلك بوجه ، إنّما الكلام في تميّز موارده وتشخيص الصغريات ، وهو في غاية الإشكال ؛ إذ ما من أمر يرجع فيه إلى العرف إلاّ وفيه أمور خفيّة لا يكاد يطمئنّ الناظر في إلحاقها بأحد الطرفين ، فيلحق بالمجملات لمكان التردّد فيها ، ومع ذلك فقد تكلّفوا لبيان هذه الموارد تفصيلا وعقدوا لذلك بابا سمّوه بباب تعارض الأحوال من وجوه التصرّف في أحد الظاهرين على وجه يندفع به التعارض بينهما ، وهي أمور خمسة : النسخ ، والإضمار ، والمجاز ، والتخصيص ، والتقييد ، فإنّ تعارض الدليلين بحسب الدلالة يرجع إلى تعارض أحد هذه الوجوه بعضها مع بعض.

ثمّ إنّ التعارض قد يقع بين نوع واحد منها كتعارض التخصيص بمثله والمجاز كذلك كالتقييد والإضمار مثلا ، وقد يكون بين أفراد نوعين منها وهو قد يكون ثنائيا ، وقد يكون ثلاثيا ، وقد يكون رباعيا ، وقد يكون خماسيا.

ونحن نتعرّض لأحكام التعارض الثنائي ويعلم أحكام البواقي منها ، فنقول : إن كان التعارض بين نوعين منها فإذا وقع التعارض بين النسخ وغيره ، فالظاهر تأخّر النسخ عن غيره ؛ لأنّ الغالب هو عدم النسخ حتّى بالنسبة إلى الإضمار أيضا ، إلاّ أنّه قد يمكن أن يكون في خصوص مورد يحكم فيه بتقديم النسخ على غيره مطلقا لخصوصية في نفس ذلك المقام لا تتعدّاه ؛ لما عرفت من أنّ (1) المعيار هو الظهور العرفي.

وإذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص فالمعروف بينهم تقديم الثاني ؛ لأنّ العرف يساعد على التقديم في الغالب للغلبة ، ولست أقول : إنّ التخصيص بالنسبة إلى سائر أنواع المجازات المعمولة في الحقائق أغلب ، ولأنّ أغلب العمومات مخصّصة كما يظهر

ص: 556


1- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : - أنّ.

من بعضهم (1) لفساد الأوّل قطعا والحكم بتقديم التخصيص فيما لو دار الأمر بينه وبين المجاز ولو في كلمة أخرى ، بل أقول : إنّ ارتكاب التخصيص في العامّ أكثر من ارتكاب سائر أنواع المجاز في الحقائق. وبعبارة واضحة : إنّ إرادة غير زيد من العلماء ونحوه أكثر من إرادة الرجل الشجاع من الأسد ، فلو دار الأمر بين ارتكاب نوع من المجاز في العامّ أو في غيره وبين التخصيص فيحكم بالثاني ، وهذه الغلبة مسلّمة في الواقع وتصير منشأ للظهور العرفي.

وإذا تعارض التخصيص والتقييد فالمعروف بينهم (2) تقديم الثاني ، وتحقيق المقام إنّما يظهر بعد ما هو التحقيق في مسألة (3) الإطلاق والتقييد ولا بأس بإشارة إجمالية إليها تتميما للمطلب.

فنقول : الذي وقفنا عليه في تضاعيف كلماتهم أنّ الإطلاق والتقييد إنّما يعتبران على وجوه :

فتارة : يعتبر الإطلاق من حيث ملاحظة الأحوال على وجه لا يعدّ الأحوال المختلفة المقارنة (4) للمطلق من أفراده كما في إطلاق الأمر بالنسبة إلى الحالات التي يقع المأمور والمأمور به فيها ، فإنّ تلك الحالات لا يعقل أن تكون (5) من أفراد الطلب ولكن يعتبر إطلاق الأمر وتقييده بالنسبة إليها ، مثلا يحكم بإطلاق الطلب ويؤخذ فيما شكّ في تقييده بوقوع حادثة وعدمه مع ظهور أنّ الصادر من الآمر من (6) الإرادة الجازمة التي كشف عنها باستعمال الأمر فيها أمر واحد شخصي يمتنع فرض صدقه على كثيرين. اللّهمّ إلاّ أن يكون تلك التقييدات راجعة إلى المطلوب فيمكن أن يكون الطبيعة المطلوبة تختلف أفرادها بواسطة احتفاف (7) تلك الحالات بها وانضمامها إليها ،

ص: 557


1- انظر مشكاة المصابيح : 279.
2- « د ، م » : منهم.
3- « ج ، م » : مثله.
4- « ج » : المقاربة. « د » : المتقاربة.
5- في النسخ : يكون.
6- « س » : - من.
7- « ج » : اختلاف.

إلاّ أنّ ذلك لعلّه ممّا لا يساعده كلماتهم وإن كان مطابقا لما حقّقناه في مباحث المتقدّمة ، وإن شئت التفصيل فراجعها.

وتارة : يعتبر الإطلاق من حيث ملاحظة التعيّنات المتبادلة والتشخّصات (1) المتعاقبة ، كما يلاحظ في إطلاق الفرد المنتشر والنكرة (2) بالنسبة إلى خصوصيات أفراد (3) الطبيعة التي قيّدت بالفردية المحتملة على وجه لا يضرّ في ذلك اختلاف التعيّنات الطارئة عليها.

وتارة : يعتبر الإطلاق بالنسبة إلى الطبيعة المرسلة التي ليست في نفسها إلاّ نفسها محذوفا عنها جميع ما عداها.

والفرق بين هذين الوجهين ظاهر ؛ إذ هما بعد اشتراكهما (4) في أنّ الإطلاق فيهما ملحوظ بالنسبة إلى الأفراد ضرورة أنّ الرقبة إنّما (5) يلاحظ إطلاقها بالنسبة إلى المؤمنة والكافرة ، وكذا قولك : « جاء (6) رجل » إنّما يلاحظ إطلاق الرجل بالنسبة إلى زيد وعمرو ، إنّما يمتاز الأوّل عن الثاني بأنّ إطلاقه للأفراد بدلي ، بخلاف الثاني فإنّه شمولي لا بمعنى العموم الأصولي ، بل بمعنى الإحاطة دفعة واحدة وذلك ظاهر.

ووجه اختلاف هذين الوجهين للوجه الأوّل أيضا ظاهر لا يكاد يخفى.

وإذ قد عرفت هذه الوجوه فاعلم أنّهم اختلفوا في أنّ تقييد المطلق هل هو (7) يوجب مجازا في المطلق ، أو لا؟ على أقوال ثالثها ما جنح (8) إليها بعض المتأخّرين (9)

ص: 558


1- « د » : التعيينات ... التشخيصات.
2- سقط قوله « من حيث » إلى هنا من نسخة « س ».
3- « س » : - خصوصيات أفراد.
4- « ج » : التزامهما.
5- « ج » : « فيهما » بدل : « إنّما ».
6- المثبت من « م » ، وفي سائر النسخ : وجاء.
7- « س » : - هو.
8- « د ، م » : احتجّ.
9- نسبه أيضا إلى بعض الأواخر في مشكاة المصابيح : 315. انظر بحث المطلق والمقيّد من مطارح الأنظار 2 : 9. وفي هامشه نسبه إلى صاحب ضوابط الأصول : 225 - 226.

- على ما حكي - التفصيل بين ما قيّد بمقيّد متّصل بالمطلق كقولك : « رجل مؤمن ورقبة مؤمنة » وبين ما قيّد بمنفصل كما إذا كان المقيّد عقلا أو إجماعا مثلا ، ولم يظهر منهم الفرق بين وجوه المطلق من الاعتبارات المتقدّمة.

وكيف كان فالحقّ أنّ التقييد ليس مجازا مطلقا ، سواء كان متّصلا أو لا ، وسواء في ذلك وجوه الإطلاق.

أمّا بالنسبة إلى الوجه الأوّل : فذلك أظهر من أن يخفى على أوائل العقول ، فإنّ المجاز عبارة عن الكلمة المستعملة في خلاف ما وضعت له ، وهل ترى قولنا : « اضرب رجلا » يفترق قولنا (1) : « اضرب رجلا في الدار أو قائما أو ضربا شديدا » إلى غير ذلك من وجوه متعلّقات الفعل كأن يكون اضرب باعتبار ما يدلّ على الطلب من الصيغة مستعملا (2) في خلاف ما وضعت له من الطلب ، ولو كان الأمر على ما ذكر لأدّى إلى أن يكون اللفظ مستعملا في مجازات متعدّدة عند تعدّد وجوه (3) التقييد على وجه الإحاطة بها ، ومستعملا في معنى مجازي وحقيقي إذا (4) اعتبر التقييد بالنسبة إلى (5) بعض الوجوه القابلة (6) له.

والإنصاف أنّه لم يظهر من المشهور القائلين بالمجازية ذهابهم إلى ذلك أيضا ، نعم ربّما يظهر من بعضهم (7) المجازية بالنسبة إلى التقييد (8) بالشرط حيث يحكمون بأنّ الأمر حقيقة في الطلب المطلق مجاز في الطلب المشروط ، وفيه - بعد أنّ التفكيك بين أقسام التقييد ممّا لا يقضي به دليل - : أنّ الطلب المشروط ليس خارجا عن حقيقة الطلب على ما هو المحقّق في مقامه ، فلا وجه للقول بأنّ اللفظ الموضوع بإزاء الطلب إنّما يصير مجازا إن استعمل لأن يكشف الطالب عن هذا القسم من الطلب على تقدير القول

ص: 559


1- « د » : قولنا يفرق. « ج » : يفترق عن قولنا.
2- « م ، س » : مستعملة.
3- « س » : وجود.
4- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : إذ.
5- « ج » : « على » بدل : « بالنسبة إلى ».
6- « ج » : المقابلة.
7- انظر كفاية الأصول : 100.
8- « د ، م » : التقيّد.

باختلافه للطلب المطلق ، وكيف كان ففساد هذه الدعوى في إطلاق الهيئة والصيغة ظاهر.

وأمّا بالنسبة إلى الوجه الثاني : فمرجع النزاع فيه إلى تعيين مدلول النكرة من حيث إنّ المعتبر فيها التجرّد عن أمور بها تتعيّن تلك الخصوصيات التي مدلولها مردّد بينها على ما يراه البعض من جزئية مدلولها ، أو التجرّد عنها وعن الخصوصيات أيضا على ما يظهر من مقالة المشهور من كونها كلّيا ، أو لا يعتبر في مدلولها التجرّد ، بل مدلولها مأخوذ لا بشرط شيء من الأمور المعيّنة أو نفس التشخّصات على اختلاف القولين ، فلعلّ القائل بالمجازية إنّما زعم أنّ مدلولها مأخوذ بشرط أن لا يكون معه قيد ، فإذا انضمّ إليه القيد (1) يجب تجريده عن قيد التجرّد ليصحّ التقييد (2) فيصير مجازا ، ولكنّ التحقيق خلافه كما يساعد بذلك العرف ؛ إذ لا استنكار (3) في التقييد عندهم أبدا ، فلو استعمل النكرة مرادا بها فرد خاصّ إذا لم يكن الخصوصية مقصودة باللفظ على أن يكون اللفظ مرآة وكاشفا عن المركّب لم يكن مجازا وإن كان اللفظ مستعملا في الفرد الغير المعيّن من حيث تعيّنه (4) بذلك المعيّن المدلول عليه بلفظ آخر ، وأمّا إذا كانت الخصوصية مدلولا عليها بلفظ النكرة فلا ينبغي الارتياب في كونها مجازا ، إلاّ أنّ ذلك خلاف المفروض فإنّ الكلام في عنوان التقييد وخروجه عنه ظاهر.

وأمّا بالنسبة إلى الوجه الثالث : فالأمر أيضا ظاهر ؛ لأنّ الحقّ على ما يشهد به العرف أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة السارية في حدّ ذاتها في جميع الأفراد والخصوصيات على وجه لا يذبّ عنها شيء منها في هذه المرتبة وهي موجودة في جميعها ، فإنّ الفرد عين الماهيّة الخارجية وإذا تحصّلت في الذهن تصير ماهيّة مطلقة ، فتارة : يلاحظ مأخوذا معها شيء آخر ، وتارة : لا يلاحظ معها شيء آخر ، فقد يجرّد

ص: 560


1- « م » : إليها. « د » : هذا القيد.
2- « د » : التقيّد.
3- « د » : لا إشكال.
4- « د » : نفسه.

عن هذه الملاحظة أيضا فهي في هذه المرتبة ليست إلاّ هي فإنّها حينئذ نفس المعنى والماهيّة في نفسها مع قطع النظر عن (1) جميع ما عداها ، وهذا (2) هو المقسم للاعتبارات اللاحقة للماهيّة (3) ، ويمايز (4) القسم بأنّ المعتبر في المقسم ليس إلاّ نفس الماهيّة والقسم هي (5) الماهيّة (6) مع الالتفات بكونها نفس الماهيّة من غير اعتبار هذه الملاحظة والالتفات في القسم وإلاّ لكان الماهيّة مأخوذة بشرط شيء ، فالقيود المعتورة (7) على الماهيّة إنّما تلحق الماهيّة (8) في هذه المرتبة السارية التي هي مع الكثير كثير ومع الواحد واحد وتتصف بالأمور المتقابلة (9) في حدود ذواتها كالفصول اللاحقة لها ، وذلك معنى ما قيل من أنّ اللابشرط لا ينافي ألف شرط ويجتمع معها.

فلو فرض لحوق قيد بتلك الطبيعة المطلقة فإمّا أن يراد من اللفظ الدالّ على المطلق تلك الطبيعة المقيّدة ، فذلك وإن لم يوجب تصرّفا في نفس المعنى لما عرفت من عدم تطرّق التغيير (10) في الماهيّة المطلقة بواسطة لحوق الشرط والقيد ، إلاّ أنّه يوجب تصرّفا في اللفظ الدالّ على الماهيّة حيث إنّه لم يجعل مرآة للمعنى من حيث هي هي ، بل المقصود باللفظ (11) كشف الماهيّة المقيّدة ولا ريب في كونه مجازا.

وإمّا أن يراد من اللفظ نفس المعنى ولو حال حصوله مع شرط خاصّ على وجه يكون لتلك (12) الخصوصية كاشفا (13) آخر غير ما كشف عن نفس المعنى من اللفظ المطلق من عقل أو لفظ ، فممّا لا ينبغي الارتياب فيه كونه حقيقة من دون شائبة

ص: 561


1- « س » : في.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : هذه.
3- « م » : عن الماهيّة.
4- « د » : تمايز.
5- « ج » : هو.
6- « س » : - والقسم هي الماهيّة.
7- « ج » : المعتبرة.
8- « م » : - إنّما تلحق الماهيّة.
9- « د » : المتضادّة.
10- « د ، م » : التغيّر.
11- « د » : من اللفظ.
12- « د ، س » : لذلك.
13- كذا. والصواب : كاشف.

المجازية.

وممّا ذكرنا يظهر لك ضعف ما أفاده بعض المحقّقين في تعليقاته على المعالم حيث زعم اختصاص كون المطلق فيما إذا قيل بأنّ اللفظ موضوع للماهيّة التي هي تنقسم إلى أقسامها بخلاف ما إذا قيل بكونه موضوعا للقسم من حيث إنّ المعتبر في القسم هو التجرّد كأن يكون التقييد بكونها لا بشرط معتبرا فيها ، وقد عرفت فساده ؛ إذ ذلك ناش من عدم الفرق بين القسم والمقسم وقد قلنا بأنّ التميّز (1) حاصل بالاعتبار بمعنى أنّ الماهيّة اللابشرط تارة : تلتفت النفس إلى كونها منشأ لانتزاع (2) هذا الاعتبار منها ، وتارة : لا تلتفت إلاّ إلى نفسها وإن كانت منشأ لانتزاع هذه الصفة حال الالتفات إلى نفسها أيضا ، فلا فرق فيما نحن بصدده بين أن يكون اللفظ موضوعا للقسم أو يكون موضوعا للمقسم.

نعم ، لو قيل بأنّ قيد التجرّد مأخوذ في معنى اللفظ كان التقييد مستلزما لإلغاء قيد التجرّد عن المعنى ليصلح لأن يكون مقيّدا ، فيكون المطلق مجازا من حيث استعماله في جزء المعنى الموضوع له.

ولكنّه فاسد قطعا كما يشعر بذلك كلمات اللغويين ويساعده الاعتبار الصحيح والوجدان الصريح ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون القيد مرادفا للمطلق أو لم يكن مرادفا كأن يكون منفصلا (3) ؛ إذ مجرّد كون القيد غير متّصل بالمطلق لا يدلّ على أنّ المراد من لفظ المطلق ليس معناه الحقيقي ، فلعلّ القرينة المنفصلة جزء من الدالّ على تمام المراد ، نعم ربّما يمكن ذلك وقد قلنا بإمكانه في المتّصل أيضا كأن يكون المراد من المطلق هو خصوص المقيّد ويكون القيد المذكور قرينة للمجاز.

فظهر بطلان ما زعمه المفصّل أيضا ، فالتحقيق أنّ التقييد لا يوجب مجازا في

ص: 562


1- « ج » : التمييز.
2- « ج » : للانتزاع ، وكذا في المورد الآتي.
3- « س ، د » : مفصّلا.

المطلق ، وما هو مجاز منه في الحقيقة خارج عن عنوان التقييد.

وإذ قد عرفت ما قدّمنا لك فاعلم أنّ المشهور القائلين بالمجازية أيضا زعموا أنّ التقييد مقدّم على التخصيص إذا دار الأمر بينهما ، فإن كان ذلك بواسطة الغلبة فربّما يتطرّق إليها المنع ، فإنّ ذلك ليس في مرتبة من الظهور بحيث لا يتطرّق إليه المنع كما هو الإنصاف ، بل ربّما يدعى خلافه وإن كان بعيدا في الغاية.

وإن كان بواسطة صحّة إطلاق المطلق كالرقبة على المقيّد كالمؤمنة دون العامّ على الخاصّ فإنّه لا يصحّ إطلاق العلماء على جماعة خاصة ويصحّ إطلاق الرقبة على المؤمنة ، فهذا إن لم يكن راجعا إلى ما هو التحقيق من أنّ المطلق لا يوجب التقييد (1) مجازا فيه ، ممّا لا دليل على اعتباره في استكشاف المرادات به.

وإن كان بواسطة أنّ العرف مع تساوي العلّتين ربّما يقدّمون التقييد على التخصيص فهو في محلّه إلاّ أنّ ذلك في الحقيقة يؤول إلى أنّ التقييد ليس مجازا ، ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ شمول المطلق للأفراد ليس شمولا وضعيا مثل شمول العامّ للأفراد ، ففيما إذا ورد العامّ في قبال المطلق تنهض العامّ بيانا للمطلق فيكون بمنزلة المقيّد للمطلق ويجب الأخذ به ورفع (2) اليد عنه.

وتوضيح ذلك أنّ مراتب الأدلّة في حكومة بعضها على بعض [ و ] ورودها على آخر متفاوتة جدّا ، فربّ دليل يرتفع به الدليل الآخر وإن كان اجتهاديا كما عرفت من ارتفاع العامّ بالخاصّ وإن كان أوله في الحقيقة إلى أصل عملي ، ومنشأ ذلك فيها اختلاف دليليتها ، مثلا فيما نحن بصدده من المطلق وجه كونه دليلا في الأفراد ليس كونه موضوعا للأفراد كما أنّ العامّ موضوع لها ، بل قد عرفت أنّ المطلق موضوع للماهيّة المعرّاة عن جميع الاعتبارات واللواحق ، وعند إطلاقه يسبق إلى الذهن نفس المعنى ، وحيث إنّه لو كان المراد غير تلك الماهيّة المطلقة كان على المتكلّم أن يكشف عن

ص: 563


1- « د » : التقيّد. « س » : التعبّد.
2- « س » : يرفع.

مراده بلفظ مقيّد للمطلق لئلاّ يكون كلامه قاصرا عن الإحاطة بتمام مقصوده ومراده ، والمفروض في مقام الإطلاق انتفاؤه بحكم العقل بضميمة هذه المقدمة الخارجية بشموله للأفراد صونا لكلام الحكيم عن وروده في مقام البيان مع قصوره عن الإفادة ، فالمقتضي للإطلاق هو عدم وصول البيان مع وروده في مقامه ، نعم مجرّد عدم وصول البيان يكفي في سريان الحكم المعلّق بالمطلق في جميع الأفراد حيث إنّ الماهيّة المرسلة سارية فيها فكأنّ كونه دليلا مستند (1) إلى أمرين : أحدهما : صلاحية سريان الطبيعة في الأفراد وهذا الأمر من لوازم نفس الماهيّة المطلقة ومقتضياتها ، الثاني : عدم ما يقضي بقصر تلك الطبيعة في بعض الأفراد ، فكلّ ما يصلح لأن يكون بيانا من الأمور المعتبرة عرفا وعادة ينهض بالتقييد ويصير سببا لتقصير (2) الماهيّة على بعض الأفراد ، وليس كذلك القول بالعكس ؛ لأنّ الأخذ بعموم العامّ ليس بواسطة عدم المخصّص ، لأنّ المخصّص مانع عن مقتضى الوضع الثابت في العامّ ، بخلاف المطلق فإنّ عدم البيان من مقتضيات الشمول فيه ، ولذلك قلنا بأنّه البرزخ بين الأدلّة الاجتهادية والأصول العملية ، فتدبّر.

وخلاصة ما ذكرنا هو الحكم بتقديم التقييد على التخصيص نوعا على القول بالمجازية وعلى ما هو التحقيق أيضا إلاّ أنّ القائل بالمجازية إنّما قال بذلك نظرا إلى ما هو الواقع مع كونه غافلا (3).

وإذا تعارض التقييد مع المجاز أو (4) الإضمار فالظاهر تقديمه عليهما (5) ؛ لتقدّمه على التخصيص المقدّم عليه نوعا ، فإنّ المجاز يكون (6) مشهورا (7) ، و (8) مع عدم مساعدة العرف

ص: 564


1- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : مستندا.
2- « ج » : لقصر.
3- « م » : عاقلا.
4- « د » : و.
5- « س » : عليها.
6- « س ، ج » : قد يكون.
7- « د » : فيه مشهورا ، وفي « م » : فيه يكون مشهورا.
8- « م » : - و.

على التخصيص.

وإذا تعارض الإضمار والمجاز فالمقدّم غالبا هو الثاني ؛ لأنّه الأغلب ، وأمّا الإضمار فهو قليل بالنسبة إليه.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان التعارض بين نوعين من الوجوه المذكورة ، وإن وقع التعارض بين فردين من نوع واحد كالتخصيصين والتقييدين ونحو ذلك فقد ذكروا لتقديم أحدهما على الآخر وجوها : أقواها ملاحظة قلّة التخصيص وكثرته ، فربّما يصل التخصيص حدّا يعدّ في العرف مستهجنا ، ومن الظاهر أنّ ارتكاب التخصيص فيما كثر فيه التخصيص أولى ؛ لارتفاع ظهوره بزيادة التخصيص ، ويحتمل أن يقال : إنّ ظهوره أقوى من غير المخصّص ، والمدار على العرف ، ولا يجري ذلك في التقييد أو يجوز ذلك مطلقا وإن انحصر في فرد ، وقد يرجّح أحد التخصيصين على الآخر فيما إذا كان أحدهما مسبوقا بالسؤال بأنّ التخصيص في العامّ الغير المسبوق أولى منه في المسبوق ، فإن أريد منه تخصيص المورد فهو حقّ ، وإن أريد الإطلاق فهو ممنوع.

ثمّ إنّ جملة من الأصوليين قالوا بتقديم المنطوق على المفهوم عند عدم الاختلاف إلاّ من هذه الجهة ، فإن أرادوا بذلك مفهوم المخالفة فربّما يكون له وجه ؛ لأنّ المنطوق لعلّه أقرب عرفا وأظهر دلالة منه ، وإن أرادوا الأعمّ منه ومن الموافقة ، ففيه : أنّ الأولوية قد تصير على وجه يكون اللفظ منساقا لبيان الحكم في الفرد الأولى ، فاللفظ ظهوره العرفي إنّما هو يلاحظ بالنسبة إليه ، وقد يكون اللفظ نسبته (1) إليهما متساوية ، وقد يكون على وجه يستفاد منه حكم الأولى أيضا وإن لم يكن سياق اللفظ لإفادة الأولى كما أنّه (2) في المعاني الكنائية أيضا تحتمل (3) الوجوه المذكورة ، ففي الصورة الأخيرة يحتمل تقديم المنطوق عليه ، وأمّا في الصورتين الأوليين فلا وجه للحكم بالتقديم كما لا

ص: 565


1- « م » : يستند.
2- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : أنّ.
3- في النسخ : يحتمل.

يخفى.

وقد يظهر من بعضهم أيضا تقديم الحقيقة على المجاز مع القرينة الصارفة فيما إذا دار الأمر بين التصرّف فيما هو ظاهر وضعا وبين ما هو ظاهر بواسطة القرينة ، فإن أريد بذلك أنّ العرف يحكمون بالتقديم (1) فهو مسلّم فيما يساعده العرف إلاّ أنّ المدّعى اطّراد ذلك ، وهو ممنوع كيف ومرجعه إلى دعوى أقوائية الظهور (2) الناشئ من الوضع من الظهور الناشئ من القرينة؟ وفيه : أنّ المجاز مع القرينة يعامل معه معاملة الحقيقة من غير فرق.

والسرّ فيه أنّ القرينة إمّا لفظية ، أو غير لفظية ، والثاني (3) إمّا قطعية ، أو ظنّية ، لا كلام في الثاني ؛ لعدم اعتبار الظنّ الغير (4) المستند إلى لفظ في استكشاف المرادات ، فلا يجوز طرح أصالة الحقيقة في قبال أمثال هذه الظنون ممّا لا يعتبرها العقلاء في استكشاف مطالبهم من عبائرهم ، وعلى تقدير اعتبارها فالأمر يدور مدار أقوائية الظنّ ولا عبرة بمجرّد الاستناد إلى الوضع كما هو ظاهر.

وأمّا القطع فالأمر فيه ظاهر لا ريب في تقدّمه على غيره ، فلا يجوز (5) طرح المقطوع في قبال أصالة الحقيقة المعمولة في الحقيقة المقابلة لهذا المجاز المقطوع.

وأمّا الأوّل فالقرينة اللفظية لا بدّ وأن يكون ظهورها مستندا (6) إلى الوضع ، كما في « يرمي » من قولك : « أسد يرمي » ، وعند التأمّل يعلم أن لا معارضة بين نفس المجاز والحقيقة وإنّما التعارض في الواقع بين القرينة الصارفة وبين الحقيقة والمفروض استناد الظهورين كليهما (7) إلى الوضع ، والحكم بتقديم أحدهما على الآخر تحكّم.

ص: 566


1- « د » : بالتقدّم.
2- في النسخ : ظهور.
3- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : فالثاني.
4- المثبت من « س » ، وفي سائر النسخ : المغيّر.
5- « د » : إذ لا يجوز.
6- « س ، ج » : مستندة.
7- في النسخ : كلاهما.

لا يقال : إنّ القرينة الصارفة بعد تعارضها لما اعتبرت صارفة بالنسبة إليها يهوّن أمره فلا يقاوم (1) ظهور هذه الحقيقة.

لأنّا نقول : المناط على (2) قوّة الظهور فلعلّ الصارفة ، لها قوّة تدفع بها كلتا الحقيقتين ، فتأمّل.

وكيف كان ، فالمعيار على ما سمعت مرارا هو قوّة الظهور ، ومن هنا تراهم يقدّمون الكلام المشتمل على التأكيد وأداة القسم على ما ليس فيه عند التعارض. هذا تمام الكلام فيما إذا تعارض الدليلان.

وأمّا إذا وقع التعارض بين أزيد منهما فالحكم في التقديم والتأخير هو ما عرفت من تقديم الأظهر على غيره ، ولكن قد يقال في المقام : إنّ المعالجة بين الأدلّة لا بدّ أن يلاحظ فيها الترتيب ، فإذا (3) كان في المقام عامّ ، وبعد ذلك وقفنا على خاصّ ، ثمّ على خاصّ غيره ، فزعم بعضهم (4) أنّ بعد التخصيص الأوّل تنقلب النسبة بين الدليلين وتصير عموما من وجه ، والمقصود في المقام إزاحة مثل هذه الأوهام والتنبيه عليها لئلاّ يقع غيره في مثله وإلاّ فهذه أمور واضحة جليّة لا يكاد يعتريها شكّ ولا يدانيها ريب.

فنقول : إنّ التعارض بين الأدلّة الزائدة على اثنين (5) يقع على وجهين : الأوّل : أن يكون التعارض بين واحد منها وبين الآخرين ، الثاني (6) : أن يكون التعارض بين الجميع ، وعلى الأوّل فالخبران المعارضان للآخر إمّا أن يكونا نصّين ولو بالنسبة إلى معارضهما ، أو ظاهرين ، أو يكون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا ، فهذه صور ثلاثة :

ص: 567


1- « ج » : فلا يفاد من.
2- « س » : - على.
3- « د » : فإن.
4- انظر عوائد الأيّام : 349 - 353 ، عائدة 40 ؛ مناهج الأحكام : 330 - 331.
5- « د » : الاثنين.
6- سيأتي الكلام فيه في ص 573.

الأولى : أن يكونا نصّين ، كما إذا ورد عامّ كقولنا : « أكرم العلماء » ثمّ ورد بعد ذلك خاصّ ، ثمّ خاصّ آخر ، فإن كانت النسبة بين الخاصّين تباينا كما إذا كان أحدهما « لا تكرم زيدا » والآخر « لا تكرم بكرا » فلا إشكال في عدم ملاحظة الترتيب بمعنى أنّه لا يتفاوت الحال في ذلك ، سواء اعتبر التخصيص بهما دفعة واحدة ، أو اعتبر التخصيص بأحدهما مقدّما على الآخر ، فإنّ العامّ المخرج منه فرد بعد باق على عمومه بالنسبة إلى فرد مباين للفرد المخصّص ، فيخصّص بالآخر أيضا من غير إشكال ، فإن كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا كقولك : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفقهاء ، ولا تكرم فقهاء البصرة » فإن اعتبرنا التخصيص (1) بأعمّ المخصّصين فلا إشكال ؛ لعدم التنافي بينه وبين الأخصّ ، فيكون مؤكّدا والنسبة باقية بحالها ، وإن اعتبرنا التخصيص بالأخصّ مقدّما فتقلب النسبة بين العامّ الأوّل والمخصّص العامّ عموما من وجه لتعارضهما (2) في فقيه غير البصرة واختصاص العامّ بالأصولي واختصاص الخاصّ بفقيه البصرة.

ومثله ما إذا كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه كقولك : « لا تكرم الأصوليين » و « لا تكرم الفقهاء » بعد قولك : « أكرم العلماء » فإنّ ملاحظة الترتيب توجب انقلاب النسبة بعد التخصيص بأحدهما إلاّ أنّ الواقع عدم ملاحظة الترتيب بينهما ، بل يجب التخصيص بهما دفعة ؛ لأنّهما قرينتان على التخصيص في العامّ وملاحظة الترتيب بينهما ترجيح من غير مرجّح ؛ لتساويهما في الكشف عن المراد من لفظ العامّ ولا مدخل للسبق واللحوق في ذلك ولا في العلم بأحدهما قبل الآخر.

نعم ، قد (3) يجب ملاحظة الترتيب فيما إذا كان لتقديم (4) أحد التخصيصين مرجّح مع تفاوت الحال في ملاحظة الترتيب ، مثل ما إذا قيل : « أكرم العلماء » ثمّ بعد ذلك « لا

ص: 568


1- « ج » : اعتبر بالتخصيص.
2- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : لا لتعارضهما.
3- « ج » : - قد.
4- « د » : التقدّم.

تكرم الأصوليين » و « لا يجب عليك إكرام العلماء » فإنّه لا إشكال في كونهما نصّين بالنسبة إلى قوله : « أكرم العلماء » أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلأنّ دلالة « لا يجب » على عدم الوجوب أظهر من دلالة الأمر على الوجوب ، ولا خفاء أيضا في تفاوت الحال فيما لو فرض الترتيب في المعالجة فإنّه على تقدير عدم ملاحظة الترتيب يلزم ارتكاب تخصيص ومجاز ، أمّا الأوّل فلقوله : « لا تكرم الأصوليين » وأمّا الثاني فلقوله « لا يجب » فلا بدّ من حمل الأمر على الاستحباب مع تخصيص العلماء (1) بغير الأصوليين ، بخلاف ما إذا فرض التخصيص أوّلا فإنّ بعد ذلك يصير العامّ الأوّل أخصّ مطلقا من العامّ الظاهر في عدم وجوب الإكرام ، فيخصّص به ؛ لدوران الأمر بين التخصيص في قوله : « لا يجب » والمجاز في قوله : « أكرم » وقد عرفت أنّ التخصيص أولى من ارتكاب سائر أنواع المجاز.

وكيف كان ، فحيث إنّ المقام ممّا يتفاوت فيه الحال (2) مع وجود المرجّح لأحد التصرّفين فلا بدّ من الأخذ وهو العلم بالتخصيص بالنسبة إلى الخاصّ قطعا ، سواء حمل الأمر فيه على الاستحباب أو لا ، فإنّ الخاصّ قرينة صارفة للعامّ قطعية من غير توقّف (3) على أمر غير حاصل ، فيدور الأمر بين ارتكاب المجاز في العامّ الأوّل أو تخصيص العامّ الثاني بحمله على الأصوليين في المثال المذكور وقد عرفت الأولوية فيما سبق آنفا.

فمحصّل الكلام في الصورة الأولى أنّ بعض الموارد ممّا لا فائدة في ملاحظة الترتيب كما إذا كانا متباينين ، وبعض ممّا يتفاوت فيه الحال لانقلاب النسبة إلاّ أنّه بواسطة عدم

ص: 569


1- « د » : العامّ.
2- من هنا إلى قوله : « وإن كان الظاهران متباينين » قدر ثلاث صفحات تقريبا لم ترد في نسخة « ج » ولعلّ نسخة الأصل لها سقطت منها ورقة.
3- « د ، م » : توقّفها.

المرجّح لا يجوز ملاحظة الترتيب ، وبعض الموارد ممّا يجب الملاحظة لوجود المرجّح كما عرفت ، ولا بدّ أن يعلم أنّ ما ذكرنا من اختلاف الأقسام وأحكامها إنّما هو ملحوظ في المخصّصات المنفصلة كما عرفت في الأمثلة المذكورة ، وأمّا المخصّصات المتّصلة كالصفة والشرط والغاية وبدل البعض ونحوها فاللازم فيها ملاحظة الترتيب ؛ لكونها جزء من العنوان ، فما يحتمل معارضته للعنوان إنّما يؤخذ معارضا بعد أخذ العنوان على جميع أنحاء قيوده.

نعم ، قد يشكّ في بعض المخصّصات في أنّه ملحق بأيّ الفرقتين فيشكّ في حكمه أيضا كالاستثناء ؛ إذ يحتمل أن يكون من قيود الموضوع كالصفة ، ويحتمل أن يكون كالمخصّص المنفصل كقولك : « لا تكرم زيدا » بعد الأمر بإكرام العلماء ، والظاهر إلحاق الاستثناء بالمخصّصات المتّصلة فإنّ قولك : « ما جاءني القوم إلاّ زيد » يجري مجرى « ما جاءني غير زيد » ولا يعدّ عندهم من الكلامين المنفصل أحدهما عن الآخر.

وربّما يكون ما ذكرنا من الإشكال في إلحاق الاستثناء وجها لاختلافهم في العارية حيث إنّهم نفوا فيها الضمان إلاّ عند اشتراطه ، ثمّ إنّهم اختلفوا في الذهب والفضّة ، فقال بعضهم بالضمان ولو عند عدم الشرط ، وبعضهم خصّ الحكم بالدراهم والدنانير وحكم بعدم الضمان في غيرهما كما عن الإيضاح (1) محتجّا في ذلك برواية دلّت على استثناء الدراهم والدنانير فحكم بتخصيص ما دلّ على استثناء مطلق الذهب والفضّة ، وأورد عليه ثاني المحقّقين (2) بأنّه لا تعارض ؛ لأنّ استثناء الذهب والفضّة في الرواية يقتضي ثبوت الضمان في هذين الجنسين ، واستثناء الدراهم والدنانير في الرواية التي تضمّنه يقتضي كون المخرج من العموم الدراهم والدنانير ، ولا تعارض بين المخصّصين ، فيحكم بخروج الجنسين ، وظاهر المورد أنّه فرض الاستثناء من قبيل المعارض المنفصل ، وإلاّ فعلى تقدير الاتّصال فلا بدّ من سلوك ما سلكه سيّد الرياض تبعا

ص: 570


1- ايضاح الفوائد 2 : 129 - 130.
2- جامع المقاصد 6 : 79.

للفاضل السبزواري (1) من أنّ النسبة بين ما دلّ على ثبوت الضمان في الذهب والفضّة وبين المستثنى منه في الرواية التي استثني فيها الدراهم والدنانير عموم من وجه ؛ لتصادقهما في غير النقدين من الجنسين وافتراقهما في النقدين وفي غيرهما من غير الجنسين كالثوب مثلا ، ففي مورد التعارض يرجع إلى عموم ما دلّ على عدم الضمان.

وكيف كان ، فاختلاف المذاهب في هذه المسألة منشؤه اختلافها في المسألة التي نحن بصددها ، ولعلّ الأقوى هو الإلحاق بالمخصّصات المتّصلة كما عرفت ، كما أنّه لا يبعد دعوى أقوائية ما أوضحه صاحب الإيضاح ؛ لدوران الأمر بين رفع اليد عن (2) الحصر المستفاد من المستثنى والمستثنى منه في رواية الدراهم والدنانير ، وبين إطلاق المطلق وهو الذهب والفضّة وإرادة المقيّد ، ولعلّ الثاني أولى ؛ لأنّ الرواية الأولى أظهر دلالة في الحصر من دلالة المطلق على الماهيّة (3) المطلقة كما لا يخفى ، هذا إذا كان المتعارضان نصّين مع إمكان العمل بهما كما عرفت في الموارد المذكورة.

وأمّا إذا لم يمكن العمل بهما لتباينهما كما في قولك : « أكرم العلماء » وقولك : « لا تكرم العلماء العدول » وقولك : « لا تكرم الفسّاق من العلماء » حيث إنّ التخصيص بهما يوجب استغراق العامّ ، فلا بدّ من التخصيص بأحدهما دون الآخر ، فإن وجدنا مرجّحا لأحدهما دلالة فهو ، وإلاّ فالمرجع إلى المرجّحات الصدورية من غير إشكال.

الصورة الثانية : أن يكون المعارضان (4) للثالث ظاهرين فلا يخلو إمّا أن يكون النسبة بينه وبينهما تباينا ، أو عموما وخصوصا من وجه بالنسبة إليهما جميعا ، أو بالنسبة إلى أحدهما ، فعلى الأوّل فلا إشكال في لزوم الأخذ بالمرجّحات الصدورية إن وجدت وإلاّ فالتخيير ، وعلى الثاني فالحكم في مورد التعارض هو الإجمال بناء على

ص: 571


1- رياض المسائل 9 : 179 - 180 ، وفي ط الحجري 1 : 625 ؛ ذخيرة الأحكام : 135.
2- « د ، م » : من.
3- « د » : الماهية.
4- « س » : المتعارضان.

ما هو المختار ، وعلى الثالث كما إذا ورد « أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق » فالحكم بالنسبة إلى المتباينين هو الرجوع إلى مرجّحات الصدور ، فإن وجد مرجّح في طرف النهي فلا معارضة بينه وبين النهي في الثالث ، وإن وجد في طرف الأمر فيطرح النهي ويصير التعارض بين الأمر والنهي في العالم الفاسق ومرجعه إلى التوقّف كما مرّ ، وإن لم يوجد مرجّح في أحد الطرفين فلا بدّ من الحكم بالتخيير بين المتباينين ، فإن اختار المكلّف النهي الثاني فلا إشكال ، وإن اختار الأمر فهل في مورد التعارض يحكم بالإجمال ، أو المرجع إلى العامّ المطروح في قبال الأمر؟ وجهان : من أنّ حكم الشارع بالتخيير مرجعه إلى الترجيح بما ينقدح في نفس المكلّف فالمرجّح موجود ، ومن أنّ في مورد التعارض يتساقطان فلا بدّ من الرجوع إلى « لا تكرم الفسّاق » لسلامته عن المعارض ، وحكم الشارع بالتخيير ليس من لوازمه رفع اليد عن الثالث ، ولعلّ الثاني أقوى.

الصورة الثالثة : أن يكون أحد المعارضين للثالث نصّا والآخر ظاهرا فإن (1) كان الظاهران عامّين من وجه فلا إشكال ؛ لأنّ الخاصّ إمّا أن يكون مخرجا لمورد التعارض ، كالعالم الفاسق فيما إذا أمر بإكرام العلماء مع النهي عن إكرام الفسّاق ، فيختصّ الأمر بالعالم الغير الفاسق والنهي بمطلق (2) الفاسق ، وبذلك يرتفع التعارض.

وإمّا أن يكون الخاصّ مخرجا لمورد الافتراق كأن يكون مفاده النهي عن إكرام الفاسق الغير العالم ، فينحصر مورد قوله : « لا تكرم الفسّاق » بالعالم الفاسق ، فيصير خاصّا مطلقا بالنسبة إلى الأمر فيقدّم عليه. وإمّا أن يكون مخرجا لعنوان يعمّ النوعين كقوله : « لا تكرم الأصوليين » فالنسبة باقية بحالها فلا يتفاوت الحال فيه (3).

وإن كان الظاهران متباينين كما إذا قيل : « أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ولا تكرم

ص: 572


1- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : وإن.
2- « م » : لمطلق.
3- نهاية ما سقط من نسخة « ج ».

الأصوليين » فالأقوى تقديم العلاج في الدلالة على العلاج في الصدور ؛ لأنّ العرف لا يتأمّلون في ذلك ولازمه تخصيص العامّ الأوّل بالخاصّ ، ثمّ تخصيص العامّ الثاني بالعامّ المخصّص ؛ لأنّه في نفس الأمر يكون المراد به الأخصّ ، وقد يحتمل القول باندراجه في الأخبار العلاجية لتباينهما ظاهرا ، كما أنّه قد يحتمل التفصيل بين ما كان الخاصّ دليلا لفظيا ، أو لبّيا فيحكم بالأوّل في الأوّل ، وبالثاني في الثاني ، إلاّ أنّ الأقوى هو ما عرفت.

هذا تمام الكلام في الصور الثلاثة المتفرّعة على ما إذا كان التعارض بين واحد من الأدلّة وبين الباقي.

وأمّا إذا كان التعارض بين الجميع (1) فالصور المفروضة فيما تقدّم جارية فيه أيضا ؛ إذ المعارضان منها (2) بالنسبة إلى الثالث لا بدّ وأن يكونا على إحدى الصور ، مضافا إلى أنّ هذين المعارضين إمّا أن يكون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا ، أو كلاهما ظاهرين ، فإنّ نصوصية كلّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر غير معقول.

الصورة الأولى : أن يكون المعارضان نصّين بالنسبة إلى الثالث مع ظهورهما في نفسهما أيضا ، كما في قوله : « أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من العلماء ويستحب إكرام الأصوليين » فكلّ واحد من الأخيرين ينهض بتخصيص الأوّل ، ويعالج بينهما بما هو المعالجة لهما من الأخذ بالمرجّحات في الدلالة ، وإلاّ فالحكم بالإجمال.

الصورة الثانية : الأولى بحالها مع نصوصية أحد المتعارضين أيضا ، كما في قول القائل : « لا تكرم العلماء ، ويستحب إكرام الأصوليين ، ويجب إكرام الأصولي من أهل المشهد » فيحمل العامّ الأوّل على العامّ (3) الثاني فيحكم بحرمة إكرام ما عدا الأصولي من العلماء ، وللعامّ الثاني على الخاصّ فيحكم بوجوب إكرام أصولي المشهد ، ولا

ص: 573


1- هذا هو الوجه الثاني ، وتقدّم الأوّل منهما في ص 567.
2- « ج ، د » : منهما.
3- « س » : - العام.

يتفاوت الحال في ملاحظة الترتيب في هذين الصورتين كما لا يخفى.

الصورة الثالثة : أن يكون المعارضان ظاهرين بالنسبة إلى الثالث مع (1) ظهورهما أيضا ، فالنسبة بين الكلّ إمّا أن يكون التباين ، أو العموم من وجه ، أو في بعض الأوّل وفي الآخر الثاني ، فعلى الأوّل كما إذا ورد : « لا تكرم العلماء ، ويستحب إكرام العلماء ، ويباح إكرام العلماء (2) » لأنّه من الرجوع إلى مرجّحات الصدور ، وعلى الأوّل (3) كما إذا ورد : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ويباح إكرام أهل البصرة » ففي مورد التعارض وهو العالم الفاسق البصري ، يحكم بالإجمال كما أنّه يحكم بالإجمال في العالم البصري ، والفاسق العالم ، والفاسق البصري ، وعلى الثالث كما إذا ورد : « أكرم العلماء ، ويباح إكرام العلماء ، ولا تكرم الفسّاق » فيعالج أوّلا بين المتباينين بالتخيير عند عدم المرجّح ، وعلى تقديره فيؤخذ به ، ثمّ يعالج بين الراجح أو المختار وبين الثالث.

الصورة الرابعة : الثالثة بحالها مع نصوصية أحدهما أيضا.

الصورة الخامسة والسادسة : أن يكون أحد المتعارضين نصّا والآخر ظاهرا بالنسبة إلى الثالث مع ظهورهما في نفسهما أو نصوصية أحدهما بالنسبة إلى الآخر أيضا ، والأمثلة (4) كثيرة والحكم ظاهر ، والضابط في الكلّ هو تقديم الأظهر على الظاهر من غير ملاحظة الترتيب في حمل الظواهر على النصوص و (5) تفصيل الأمثلة بذكرها يحتاج إلى زمان أوسع ممّا أحاط بنا من هذا الجزء من الزمان ، واللّه (6) الموفّق وهو الهادي (7).

ص: 574


1- « ج » : ومع.
2- كذا. والظاهر وقع هنا سقط ، لأنّه ما جاء حكم الأوّل وجاء تعليله.
3- كذا. والصواب ظاهرا : الثاني.
4- « ج » : « السابعة » بدل : « الأمثلة » وموضعه في « س » بياض.
5- « ج ، س ، م » : « في » بدل « و ».
6- « م » : « إنّه » بدل « اللّه ».
7- في « د » : بدل « واللّه ... » : وإنّه الموفّق والمعين.

هداية [ في المرجّحات الصدورية ]

بعد ما عرفت تحقيق القول في المرجّحات التي يتقوّى بها أحد الدليلين على الآخر دلالة لا بدّ من تحقيق الكلام في المرجّحات الصدورية ، وقبل الخوض في المطلب لا بدّ من أن يعلم أنّ الحكم برجحان أحد الدليلين على الآخر وإثبات الحكم الشرعي بأحدهما دون الآخر يحتاج إلى دليل ، وعند عدمه لا يجوز الحكم بالترجيح ؛ لأنّ عند عدم الترجيح فالحكم إمّا التخيير كما هو التحقيق ، أو التساقط والتوقف ، والمفروض إقامة البرهان من الطرفين على المذهبين ، فالأخذ بالترجيح على كلّ واحد من المذهبين بدون دليل ، يوجب طرح البرهان القائم على المذهبين بغير دليل ، وفساد ذلك أجلى من أن يبيّن.

وكيف كان ، فقد مرّت الإشارة منّا في الهدايات السابقة إلى أنّ المرجّحية كالحجّية تتوقّف على دلالة ، وعند عدمها يحكم بعدمها ؛ لأنّ الشكّ في ذلك يكفي في الحكم بعدمها ، فلا بدّ من الاقتصار على ما ثبت بدليل معتبر كونه مرجّحا مثل ما ورد في الأخبار العلاجية على تقدير انتهاضها عليها كما ستعرف ، إلى غير ذلك من وجوه الأدلّة الناهضة على الأخذ بوجوه التراجيح التي تعرف تفصيلها عن قريب إن شاء اللّه.

ص: 575

ولنبدأ بذكر الأخبار الواردة في هذا المضمار تيمّنا ، فنقول : إنّها كثيرة جدّا ، بل تبلغ إلى نيّف وثلاثين على ما حكي (1) ، إلاّ أنّ أظهرها دلالة وأشهرها رواية مقبولة عمر بن حنظلة ، وتتلوها في بعض الوجوه مرفوعة زرارة المرويّة في (2) غوالى اللآلى ، فالأنسب هو إيرادهما والاكتفاء بهما عن غيرهما.

فقد روى المشايخ الثلاثة ، بل الأربعة - لوجودها في الاحتجاج (3) أيضا - هذه الرواية ، ففي الكافى : محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن عيسى عن صفوان [ بن يحيى ] عن داود بن حصين عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال عليه السلام : « من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذه (4) سحتا وإن كان حقّا ثابتا له ؛ لأنّه أخذه (5) بحكم الطاغوت وقد أمر اللّه أن يكفر به ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (6) » قلت : فكيف يصنعان؟ قال عليه السلام : « ينظران إلى من كان

ص: 576


1- قاله المحقّق القمي في القوانين 2 : 289 ، حيث قال : تنيف على ثلاثين وتقرب أربعين.
2- « د » : عن.
3- الكافى 1 : 67 - 68 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 ، و 7 : 413 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 إلى قوله : « حدّ الشرك باللّه » ؛ الفقيه 3 : 8 ، باب الاتّفاق على عدلين في الحكومة ، ح 3233 ؛ التهذيب 6 : 218 ، باب 87 ، ح 6 وص 301 ، باب 92 ، ح 52 ؛ الوسائل 1 : 34 ، باب 2 من أبواب مقدّمة العبادات ، ح 12 ، و 27 : 13 ، باب 1 من أبواب صفات القاضي ، ح 4 ، وص 106 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 1 ، وص 136 ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، ح 1 ؛ الاحتجاج 2 : 260 / 232 ط أسوة.
4- في المصدر : يأخذ ، وفي باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور : فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا.
5- « ج » وبعض نسخ الرسائل 3 : 57 : أخذ وفي المصدر في باب كراهية الارتفاع : حقّه ثابتا ؛ لأنّه أخذ.
6- النساء : 60.

منكم ممّن قد روى أحاديثنا (1) ونظر في حلالنا وفي حرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا (2) به حكما فإنّي جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله (3) منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه وعلينا ردّ والرادّ علينا رادّ (4) على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه » قلت : فإن كان كلّ واحد (5) اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين (6) في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم (7) به الآخر » قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال عليه السلام : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما [ به ] المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم » قلت : فإن كان الخبران عنهما (8) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : « ينظر [ فما ] وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : « يؤخذ (9) ما خالف العامّة ففيه الرشاد » قلت :

ص: 577


1- في المصدر : حديثنا.
2- في المصدر في باب كراهية الارتفاع : فارضوا.
3- في « ج » والرسائل : فلم يقبل.
4- في المصدر : الرادّ.
5- في المصدر : رجل.
6- في المصدر : الناظرين.
7- في المصدر : يحكم.
8- في المصدر : عنكما.
9- في المصدر : - يؤخذ.

جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : « ينظر إلى ما هو أميل إليه (1) حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر » قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

والكلام في هذه الرواية تارة : يقع في السند ، وأخرى : في الدلالة.

أمّا الأوّل : فنقول : لا إشكال في اعتبار سند هذه الرواية ، ولذلك اشتهرت بالمقبولة ، ولعلّ تسميتها بها ليس بواسطة كونها معمولا بها عندهم ، بل لأنّ هذه الرواية لا تندرج في أحد أقسام الحديث ؛ لاختلاف الأصحاب في بعض رواتها على وجه لا يدخل في واحد منها اصطلاحا ، إلاّ أنّه يظهر منهم الاعتماد عليها ، فتأمّل.

وكيف كان ، فرواة هذه الرواية ممّن عدا داود وعمر بن حنظلة كلّهم موثّقة فإنّ محمّد بن يحيى العطّار ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب من أعاظم الأصحاب كمحمّد بن عيسى وصفوان ممّا قيل (2) في حقّه : لا يروي إلاّ عن ثقة كالبزنطي مع أنّه من أصحاب الإجماع ، وأمّا داود فقد قال الشيخ (3) وابن عقدة : إنّه واقفي ، ووثّقه النجاشي (4) ، فتصحيح الفاضل التوني (5) للرواية مبنيّ على ترجيح قول النجاشي لكونه أضبط ، وقد يقال بأنّ أضبطية النجاشي يعارضه صراحة كلام الشيخ في الحكم بوقفه ،

ص: 578


1- في المصدر : ما هم إليه أميل.
2- قاله الشيخ في عدّة الأصول 1 : 152 ، حيث قال : وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم.
3- رجال الطوسى 349 / 5.
4- رجال النجاشى 159 / 421.
5- الوافية : 327.

فإنّ التوثيق ظاهر في الإمامية بخلاف كلام الشيخ ، وعلى ذلك يبنى في الردّ على من زعم أنّ صراحة كلام الشيخ تنهض قرينة لصرف كلام النجاشي عن ظاهره ، وفساده غير خفيّ على أحد ؛ إذ لا معنى لصرف كلام متكلّم عن كلام متكلّم آخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مرجع كلام الشيخ إلى العلم بكونه واقفيا ، ومرجع كلام النجاشي إلى عدم العلم ، فلا تعارض بينهما كما لا تعارض بين مطلق المعدّل والجارح ، وهو كما ترى.

وأمّا عمر بن حنظلة فقد قيل : إنّه ممّن لم يصرّح فيه أهل الرجال بمدح ولا قدح إلاّ أنّ المحكيّ عن الشهيد الثاني في حاشية الخلاصة (1) أنّه حقّق توثيقه في مقام آخر ، وقد حكم بوهن التوثيق المذكور ابنه صاحب المعالم فيما حكى عنه : بأنّي رأيت بخطّ والدي أنّ الوجه في توثيقه ما رواه الشيخ في التهذيب عن يزيد بن خليفة في باب المواقيت عن الصادق عليه السلام ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال عليه السلام : « إذا لا يكذب علينا » ولا دلالة فيه على التوثيق (2).

وهو ممّا لا يصغى إليه ، أمّا أوّلا : فلأنّ الحكم بتوثيقه أوّلا كاف من الشهيد رحمه اللّه فلعلّ توثيقه لم يكن مستندا إلى هذه الرواية لاحتمال تأخّره عمّا كتبه. وأمّا ثانيا : فلأنّ دلالة الرواية على التوثيق ظاهرة ؛ لأنّ عدم الكذب في حيال ذاته لا يصلح أن يكون مترتّبا على الإتيان بالوقت ، كما أنّه يترتّب الدخول في الجنّة على الإسلام في قولك - بعد ما قيل : أسلمت - : إذا تدخل الجنة ، فلا بدّ أن يكون قوله : « إذا لا يكذب علينا »

ص: 579


1- لم أجده في حاشية الخلاصة ونقل عن الرعاية : 131 ابنه وغيره في المنتقى كما سيأتي.
2- منتقى الجمان 1 : 19 ، وفيه ناقش في سند الحديث لا في دلالته. وأمّا حديث الوقت فقد ورد في : التهذيب ٢ : ٢٠ و ٣١ ، باب ٤ ، ح ٧ و ٤٦ ؛ الاستبصار ١ : ٢٦٠ ، باب ١٤٨ ، ح ٧ وص ٢٦٧ ، باب ١٤٩ ، ح ٢٦ ؛ الكافى ٣ : ٢٧٥ ، باب وقت الظهر والعصر ، ح ١ ، وص ٢٧٩ ، باب وقت المغرب والعشاء الآخرة ، ح ٦ ؛ الوسائل ٤ : ١٣٣ و ١٥٦ ، باب ٥ و ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٦ و ١ ، و ٢٧ : ٨٥ ، باب ٨ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٠.

علّة لأمر محذوف ، والظاهر هو ما له مدخل في عدم الكذب كالوثاقة ونحوها.

وبالجملة : فهذه الرواية لا تنقص من توثيق بعض علماء الرجال في الدلالة على الوثاقة ، فتأمّل.

وأمّا الثاني : فقد أورد عليها (1) بوجوه : الأوّل : بأنّه أخصّ من المدّعى ؛ لاختصاص مورده بحكم القاضي في القضاء في الموضوعات كالدين والإرث ونحوهما (2).

الثاني : أنّ الترجيح بالشهرة بعد تساويهما في العدالة يستلزم الأخذ بالأعدل وإن خالف المشهور ، وفساده ظاهر ؛ ضرورة استقرار عملهم على الأخذ بالضعاف المطابق للمشهور وطرح الصحاح في قباله وإن بلغ في الصحّة ما بلغ.

الثالث : أنّ الأخذ بظاهر الرواية يوجب جواز تعدّد الحاكمين في واقعة واحدة ، وهذا ممّا لا يكاد الالتزام به.

والجواب أمّا عن الأوّل : فبمنع (3) الاختصاص كما يشعر بذلك احتجاجهم بالرواية في القضاء والرواية والفتوى ، فإنّ العامّ لا يخصّص بالمورد.

وعن الثاني : فبما نبّهنا عليه في بعض مباحث الظنّ (4) من أنّ المراد بالشهرة هي (5) الشهرة في الرواية دون الفتوى أو الأعمّ منهما ، ولا إجماع على وجوب تقديم الرواية المشهورة في النقل على الرواية التي رواها (6) الأعدل.

وعن الثالث بأنّها محمول على ما هو المعهود من استحباب مشاورة العلماء في الحكم كما هو المذكور في آداب القضاء.

وقد يورد أيضا بوجوه ضعيفة أخر على الرواية وليس بشيء.

والتحقيق في الإيراد عليها أمور : منها : أنّه قد اعتبر فيها في مقام الترجيح اجتماع

ص: 580


1- « د » : عليه.
2- « س ، م » : نحوه.
3- « د » : فيمتنع.
4- انظر ج 3 ، ص 117 - 118 ، وسيأتي الكلام عن الشهرة أيضا ص 607.
5- « س » : هل.
6- المثبت من « م » وفي « د » : راوينا.

أمور أربعة : الأعدلية ، والأورعية ، والأفقهية ، والأصدقية ، ولا أكاد أظنّ أنّ الأخباري أيضا يلتزم بذلك ؛ إذ قلّ ما يوجد ما يجتمع فيه الأمور الأربعة (1) ، والتفكيك بينهما ممّا ينافيه ظاهر العطف ، وعلى تقدير التفكيك فلا دلالة في الرواية على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة في مقام الترجيح ، بل تكون (2) على هذا التقدير واردة في مقام إراءة الطريق كما لعلّه يومئ إليه ظاهر الأصدقية كما ستعرف.

ومنها : أنّ العلم بالأعدلية متعسّر في الأغلب ؛ إذ غاية ما يتكلّف في المقام هو الظنّ بمجرّد الملكة ، وأمّا شدّتها في واحد دون واحد فممّا لا سبيل لنا إليه جدّا ، فإنّ مدار تشخيص هذه الأمور في أمثال زماننا إلى الرجوع إلى ما ذكره أهل الرجال في أوصاف الرواة ، ومن الظاهر أنّه لا يستفاد منها ذلك ؛ لأنّ تمجيد بعض الرواة بذكر بعض مدائحه ممّا لا دلالة فيه على عدم اتّصاف غيره به وذلك أمر ظاهر ، ومن هنا قلنا بأنّ ما قد يوجد في بعض الأخبار من الثمرات المترتّبة على بعض الأعمال لا يدلّ على أفضلية ذلك العمل بالنسبة إلى غيره ، فتأمّل.

ومنها : أنّ ذكر موافقة الكتاب في عداد المرجّحات مقارنة لمخالفة العامّة ، ثمّ بعد ذلك أمر بالأخذ بما خالف العامّة لعلّه لأجل لطيفة هي أنّ كلّ ما وافق الكتاب فقد خالف العامّة ، وإلاّ فلا وجه لذلك ؛ لأنّ توسيطه بين الأخذ بالمشهور وبين ما خالف العامّة ممّا لا نعرف له وجها.

بيان ذلك : هو أنّه لا يخلو إمّا أنّ نقول بتخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، أو لا نقول ، فعلى الأوّل لا بدّ من ذكرها بعد تمام المرجّحات ؛ إذ لا إشكال على هذا التقدير في وجوب التخصيص بعد ما ترجّح أحد المتعارضين على الآخر ولو بواسطة مخالفة العامّة ، وعلى الثاني فلا بدّ من ذكرها قبل كلّ مرجّح ولا أقلّ من أن يكون في عرض المشهور حينئذ.

ص: 581


1- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : الأربع.
2- في النسخ : يكون.

ومنها : أنّ الأمر بالإرجاء والتوقّف ممّا لا يصحّ على إطلاقه ؛ إذ ربّما لا يمكن ذلك ، فلعلّ ذلك ممّا يؤذّن باختصاص الرواية فيما يمكن تحصيل العلم فيه في أمثال أزمنة الأئمة عليهم السلام (1). هذا تمام الكلام في المقبولة.

وأمّا المرفوعة فهي ما نسبها في القوانين إلى غوالى اللآلى مرفوعة إلى زرارة قال : سألت الباقر عليه السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه السلام : « يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر » فقلت : يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم؟ فقال : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان؟ فقال : « انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم » فقلت : ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ [ فقال : « إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط » فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ ] فقال : « إذا فتخيّر أحدهما وخذ (2) به وتدع الآخر » وفي رواية : « فإذا فأرجه حتّى تلقى إمامك فتسأله » (3).

والإنصاف أنّ هذه الرواية مع كونها قاصرة السند لكونها مرفوعة مع عدم ظهور حال الكتاب الذي رفعها فيه كما طعن فيه بعض من ليس له سجيّته الطعن في الروايات كصاحب الحدائق (4) ، ممّا لا يغني عن شيء ؛ لعدم وضوح وجوه الترجيح المذكورة فيها عندنا ، كما أذعن الشيخ الجليل ثقة الإسلام في ديباجة الكافى (5) بذلك

ص: 582


1- من هنا سقط من نسخة « ج » قدر أربع صفحات تقريبا.
2- في القوانين والعوالى : فتأخذ.
3- القوانين 2 : 290 ؛ عوالى اللآلى 4 : 133 / 229 - 230 وما بين المعقوفين منهما.
4- الحدائق 1 : 99.
5- الكافى 1 : 9. في هامش « م » : اعلم يا أخي - أرشدك اللّه - أنّه لا يسع أحد تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلاّ ما أطلقه العالم بقوله : « اعرضوها على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ فذخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فذروه » ، وقوله : « دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم » ، وقوله : « خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله : « بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم » ، انتهى موضع الحاجة من كلامه. ولعمري إنّه قد أفصح عمّا نحن بصدده غايته ، فتدبّر.

حيث أفاد : أنّ ما سوى التخيير بين الأدلّة المتعارضة ممّا لا يمكن (1) استفادته من الأخبار العلاجية ؛ لاختلاف مواردها وعدم العلم بوجوه الجمع بينها (2) ، فهذه المرفوعة تعارض المقبولة في ترتيب المرجّحات ، فإنّ المقدّم في الترجيح في المقبولة هو الأعدلية ، ثمّ بعد ذلك الترجيح بالشهرة ، بخلاف المرفوعة فإنّ الترجيح بالشهرة مقدّم عليها وإن كان يمكن ترجيح المقبولة على المرفوعة على الوجهين ؛ لأعدلية رواتها مع استشهارها أيضا بالنسبة إلى المرفوعة ، إلاّ أنّ وجوه الاختلاف بين هذه الروايات كثيرة ظاهرة : فتارة : آمرة بأخذ ما وافق الكتاب ، وأخرى بطرح ما خالف العامّة ، وتارة : حاكمة بالتوقّف ، ومرّة : ناطقة بوجوب التخيير ، إلى غير ذلك ، فلا تكاد (3) يستقيم شيء منها كما هو ظاهر على المتأمّل في مساقها.

ومن هنا يعلم سقوط ما توهّمه بعض الأخبارية - في الطعن على أساطين العلماء كالعلاّمة الذي هو بين أرباب العلوم كالبدر الطالع بين النجوم ، فإنّه هو الذي قد منّ اللّه تعالى بوجوده على الفرقة الناجية - من أنّ هؤلاء إنّما تركوا الأخبار العلاجية وأخذوا بالظنّ (4) في مقام الترجيح تبعا للعامّة ، فإنّ هذه الأخبار ممّا لا يستفاد (5) منها شيء ، بل لنا أن نقول : إنّ اختلاف طرق هذه الروايات من أقوى الشواهد على عدم اختصاص المذكورات بالترجيح ، فعليك بالإنصاف في المقام والاجتناب عن الاعتساف في تحصيل المرام ، واللّه الموفّق وهو الهادي.

ص: 583


1- « د » : لا يكون.
2- « د » : بينهما.
3- « د ج م » : فلا يكاد.
4- « س » : بالطعن.
5- « س » : ممّا يستفاد.

ص: 584

هداية [ في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة ]

بعد ما عرفت عدم وفاء الأخبار العلاجية بما هو المطلوب في مقام الترجيح فهل لنا في المقام دليل يدلّ على الأخذ بما يترجّح أحد الدليلين على الآخر وإن لم يكن من المرجّحات المنصوصة ، أو لا؟ التحقيق : نعم ، فتارة : نتكلّم فيما يستفاد من الروايات من وجوب الأخذ بما هو الأقرب من الواقع من المتعارضين ، وتارة : فيما هو قضيّة المذاهب على اختلافها في حجّية الأخبار.

واعلم أوّلا : أنّ المقصود في المقام إنّما هو إثبات أنّ أقوائية أحد الدليلين مطلقا يوجب ترجيح الأقوى على غيره ، والمراد من الأقوائية (1) هو أعمّ من أن يكون في أحد الخبرين احتمال لا يوجد في الآخر ، كما إذا علمنا مثلا بورود أحد الخبرين في مقام (2) بيان الحكم الواقعي واحتملنا صدور الآخر تقيّة ، أو (3) يكون الاحتمال في أحدهما أضعف من الاحتمال في الآخر كما إذا احتمل ورودهما تقيّة إلاّ أنّ الاحتمال في أحدهما أضعف منه في الآخر.

وإذ قد عرفت هذا فنقول : أمّا الكلام فيما يستفاد من الروايات فهو أن يقال : إنّ اختلاف الأخبار العلاجية دليل على أنّ المناط في الترجيح على مطلق الأقوائية

ص: 585


1- « م » : أقوائية.
2- « س » : - في مقام.
3- « د » : و.

والأقربية كما أومأنا إليه مرارا وأشار إليه أيضا محقّق القوانين (1) ، وهذا وإن كان قويّا إلاّ أنّه ربّما يمنعه مانع ويطالب على استكشاف ذلك من الأخبار بدليل ، فالأولى أن يقال : إنّ هناك (2) إشعارات وتلويحات ينبّه بها البصير ويعترف بها الخبير على اعتبار مطلق الأقوائية ، فمن تلك ما يلوح من الأخبار المشتملة على لفظ « الثقة » و « الوثوق » كرواية الاحتجاج وغيره عن الحسن بن جهم عن الرضا عليه السلام : يجيء الأحاديث عنكم متخالفة (3)؟ قال عليه السلام : « ما جاءك عنّا فقسه على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا » قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلم يعلم (4) أيّهما الحقّ؟ فقال : « إذا لم يعلم (5) فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (6).

وكرواية الغوالى « خذ بما هو أوثقهما » (7).

وكرواية الاحتجاج أيضا في احتجاج أبي عبد اللّه عليه السلام عن الحارث بن مغيرة ، قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه السلام [ فتردّه إليه ] » (8) والتقريب في ذلك واضح حيث إنّ المعصوم عليه السلام قد وكّل أمر الترجيح والاختيار في الأخبار على الوثوق ، ومن الظاهر أنّ مناط الوثوق هو الأقربية إلى الواقع ؛ ضرورة فساد احتمال التعبّد في الوثاقة وإن كان يمكن ذلك في العدالة ، ولذلك

ص: 586


1- انظر القوانين 2 : 290 ، وما بعدها.
2- « د » : هنا.
3- في المصادر : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة.
4- في المصادر : فلا نعلم ، وفي الوسائل : ولا نعلم.
5- في المصادر : لم تعلم.
6- الاحتجاج 2 : 264 / 233 وسيأتي عنه في ص 633 ؛ الوسائل 27 : 121 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 40 ؛ البحار 2 : 224 ، باب 529.
7- تقدّم في ص 582 وفيه : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.
8- الاحتجاج 2 : 264 / 234 ؛ الوسائل 27 : 122 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 41.

عدلنا في المقام إلى الأخبار المشتملة على الوثوق. نعم لا يبعد دعوى أنّ العدالة أيضا معتبرة من حيث إنّها طريق لا من حيث إنّها موضوع لكن مجال المنع فيها واسع بخلاف الوثاقة ، والأمر في ذلك موكول إلى استقامة الطبيعة كما لا يخفى.

ومنها : ما في رواية عمر بن حنظلة من الأمر بأخذ ما قاله أصدق المخبرين ، فإنّ اعتبار الصدق في الترجيح ممّا لا يحتمل التعبّد قطعا فليس إلاّ بواسطة أنّ رواية الأصدق أقرب مطابقة إلى الواقع وأبعد عن احتمال الكذب من غيره.

لا يقال : إنّ المدار على صدق الراوي لا على صدق الرواية ولا تنهض على المطلوب إلاّ على تقدير الثاني ؛ إذ لا منافاة بين صدق المخبر وكذب الخبر.

لأنّا نقول : إنّ العرف قاض بأنّ ترجيح أحد الخبرين على الآخر بواسطة صدق مخبره ليس إلاّ بواسطة صدق الخبر كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ومنها : ما يظهر في المقبولة أيضا من قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » فإنّه يمكن الاستظهار من عموم التعليل المذكور ، وبيان ذلك أنّه حكم في الرواية بتقديم (1) الرواية المشهورة على الرواية الشاذّة وعلّل ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب [ فيه ] ولا ريب في أن ليس المراد بنفي الريب هو نفي الريب (2) من جميع الوجوه المحتملة كما هو كذلك في المجمع عليه بحسب مصطلحهم في الفتاوى ، أمّا أوّلا : فلأنّ مجرّد كون الرواية ظاهرة ممّا نقلها غير واحد من الرواة لا يستلزم أن يكون مقطوعا بها ، وإلاّ لزم أن يكون الرواية الشاذّة ممّا يقطع بفسادها (3) ، وفساده قطعي ؛ إذ على تقديره يكون التعارض بين الحجّة واللاحجّة ، مع (4) أنّه يمتنع أن يكون الخبران على هذا التقدير مشهورين كما هو صريح الرواية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ غاية ما يستفاد من الشهرة هو القطع بالسند ، وأمّا الدلالة أو

ص: 587


1- « د » : بتقدّم.
2- « س » : - نفي الريب.
3- « د » : بفساده.
4- « س » : فمع.

جهة (1) صدور الرواية فلا مدخل للشهرة في نفي الريب عنها من هذه الجهة ، فاحتمال التقيّة غير مدفوع فلا بدّ أن يكون المراد بنفي الريب هو الريب الموجود في الطرف المخالف للشهرة ، فلا بدّ أن يكون المراد بعدم الريب هو انتفاؤه بالنسبة إلى الريب الموجود في خلاف المشهور ، ومتى حقّقنا انتفاء الريب في أحد الخبرين مع وجوده في الآخر ولو من جهة واحدة يجب الأخذ بما ليس فيه الريب أخذا بعموم التعليل.

لا يقال : لا يجوز التسرية إلى غير مورد العلّة ؛ إذ لعلّ المناط في العلّية هو القدر المخصوص من الأقوائية الحاصلة في الخبر المشهور بالنسبة إلى الشاذّ ، وهذا المقدار (2) المخصوص وإن كان يمكن حصوله في أحد الخبرين وإن لم يكن مشهورا إلاّ أنّه حوالة على المجهول ؛ إذ لا سبيل إلى تشخيصه ، فلا بدّ من الاقتصار على المورد المعلوم حصول المقدار المذكور.

لأنّا نقول : بعد الغضّ عن إطلاق العلّة لنا أن نقول : إنّ الأقوائية الحاصلة في المشهور لا تزيد على سائر المرجّحات كما لا يخفى.

وأمّا احتمال إرادة الشهرة الفتوائية في المقام فضعيف جدّا لا ينبغي الالتفات إليه.

وأضعف منه ما وجدناه في كلمات بعض المعاصرين (3) من أنّ المراد بكون الخبرين مشهورين أن يكون أحدهما مطابقا للشهرة عند القدماء والآخر عند المتأخّرين ، وهذا الكلام لغاية سخافته لا يليق بأنظار العلماء إلاّ أنّ ذكره للتنبيه لئلاّ يتوهّم في المقام ، وإلاّ فهو ممّا يضحك الثكلى.

ومنها : ما ورد في الروايات : « أنّ لكلّ حقّ حقيقة ولكلّ صواب نورا ، فما (4) وافق كتاب

ص: 588


1- نهاية ما سقط من نسخة « ج ».
2- « د » : القدر.
3- « د » : المتأخّرين تقدّم عنه أيضا في بحث القطع : ج 3 ، ص 118.
4- المثبت من المصادر ، وفي النسخ : وما.

اللّه فخذوه » (1) وجه الدلالة ظاهر بعد وضوح أنّ المناط هو أن يكون لكلّ حقّ حقيقة فإنّه يؤذّن بأنّ المدار على استكشاف الواقع.

ومنها : الأخبار الآمرة بالأخذ بما خالف العامّة ، وتوضيح المقام : أنّ الوجه في ترجيح ما خالف العامّة على ما وافقهم يحتمل أن يكون أمورا :

الأوّل : ما علّله شيخ الطائفة وتبعه في ذلك المحقّق (2) أيضا من أنّ المخالف للعامّة أبعد عن التقيّة وأقرب إلى ما يرد في بيان الحكم الواقعي ، وهذا الوجه وإن كان يساعده صحيح الاعتبار إلاّ أنّه لا يظهر من الأخبار ، نعم ربّما يستشعر من بعض الروايات مثل ما رواه الشيخ في باب الخلع عن الحسن بن سماعة عن الحسن بن أيّوب عن ابن بكير (3) عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ما سمعت منّي يشبه قول الناس

ص: 589


1- الوسائل 27 : 109 - 110 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 10 ؛ المستدرك 17 : 325 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 13. وتقدّم بتمامه في ج 3، ص 124.
2- عدّة الأصول 1 : 147 ؛ معارج الأصول : 225 ، قال الشيخ الطوسي : فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة ويترك العمل بما يوافقهم. قال المحقّق _ بعد نقل كلام الشيخ _ : والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السلام ، ثمّ ناقش فيه. كما سيأتي في ص ٦١٣ نصّ عبارته. قال الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول ٤ : ١٢١ : إنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه : الأوّل : مجرّد التعبّد ، كما هو ظاهر كثير من أخباره ، ويظهر من المحقّق استظهاره من الشيخ. وقال أيضا في الفرائد ١ : ٦١٣ : إنّ الوجه في الترجيح بمخالفة العامّة أحد وجهين : أحدهما : كون الخبر المخالف أبعد من التقيّة ، كما علّل به الشيخ والمحقّق ، فيستفاد منه اعتبار كلّ قرينة خارجية توجب أبعدية أحدهما عن خلاف الحقّ ولو كانت مثل الشهرة والاستقراء ، بل يستفاد منه عدم اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي تطرّق احتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر ... الثاني : كون الخبر المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع. والفرق بين الوجهين : أنّ الأوّل كاشف عن وجه صدور الخبر ، والثاني كاشف عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع.
3- هذا هو الصواب ، وفي النسخ : « أبي بكر ».

ففيه (1) التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » (2) فإنّه يمكن استفادة الوجه المذكور من هذه الرواية.

ثمّ إنّه ليس المراد بأنّ (3) جميع ما يشبه قول الناس فيه التقيّة ، كما أنّه ليس المراد بالثاني هو الجميع (4) ؛ للقطع بموافقة بعض الأحكام الواقعية لأقوالهم كالقطع بورود التقيّة فيما لا يشبه قولهم كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد بالمشابهة أعمّ من (5) أن يكون نفس الفتوى مشابهة لفتاويهم (6) ، أو يكون استنباط الفتوى من المدارك شبيها لاستنباطهم كأن يكون الدليل استحسانا أو قياسا ونحو ذلك ، والمحمول على التقيّة هي الجهة المشابهة فقط ، فالمحمول على التقيّة - في قول أبي جعفر عليه السلام لزرارة حيث سأله بقوله : أصلّي نافلة وعليّ فريضة أو في وقت فريضة؟ قال : « لا إنّه لا تصلّي (7) نافلة في وقت فريضة ، أرأيت إن كان عليك [ صوم ] من شهر رمضان أكان لك أن تطوّع حتّى تقضيه؟ » قال : قلت : لا ، قال : « فكذلك الصلاة » قال : فقايسني وما كان يقايسني (8) - هو الاستدلال لا نفس الحكم فإنّ (9) المشابه (10) هو الاستدلال فقط ، ومثله قياسه الحجّ عن الأب على الدين الواجب له.

الثاني : هو أقربية مضمون المخالف للواقع من الموافق.

والفرق بين الوجهين هو أنّ الأوّل يرجّح (11) جهة صدور الرواية ، والثاني يقوّي

ص: 590


1- في المصادر : « فيه ».
2- تهذيب الأحكام 8 : 98 ، باب 4 ، ح 9 ؛ الاستبصار 3 : 318 ، باب 183 ، ح 10 ؛ الوسائل 22 : 285 ، باب 3 من كتاب الخلع ، ح 7 ، و 27 : 123 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 46.
3- « م » : أنّ.
4- « س ، م » : الجمع.
5- « ج ، س » : - أعمّ من.
6- « م ، د » : لفتواهم.
7- في النسخ : لا يصلّي.
8- المستدرك 3 : 160 ، باب 46 من أبواب المواقيت ، ح 3.
9- « س » : لأنّ.
10- « د » : المشابهة.
11- « ج » : ترجيح.

مضمون الرواية كما هو ظاهر ، وهذا الوجه ممّا يظهر من جملة من الأخبار كما في المقبولة حيث علّل ذلك بقوله : « ففيه الرشاد » وفي المرفوعة : « فإنّ الحقّ فيما خالفهم » بناء على ما هو الظاهر من أنّ كلمة « ما » موصولة وفي رواية أخرى : « فإنّ الرشد في خلافهم » (1) وفي رواية عليّ بن أسباط قال : قلت للرضا عليه السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، فقال عليه السلام : « ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه » (2). وأوضح دلالة من ذلك مرفوعة أبي إسحاق الأرجاني (3) إلى أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : قال عليه السلام : « أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله (4) العامّة ». فقلت : لا أدري فقال : « إنّ عليّا عليه السلام لم يكن يدين اللّه بدين إلاّ خالف عليه الأمّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشيء (5) الذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء (6) جعلوا له ضدّا من عند أنفسهم (7) ليلبسوا على الناس » (8) ولعلّ المراد أنّ أصول مطالبهم الموروثة (9) من أسلافهم التي يتفرّع عليها فروع مذاهبهم في الموارد المتفرّقة في الفقه والأصول مخالفة لما بيّن لهم الأمير عليه السلام ، وإلاّ فأغلب المخالفات في المسائل الفقهية إنّما نشأ بعد زمان الأمير عليه السلام في زمان السامري من هذه الأمّة ، نعم ذلك الشقيّ ما قصر في مخالفة الصادق عليه السلام حتّى قال - فيما حكى ابنه - : خالفت جعفرا في كلّ ما يقول أو يفعل لكنّي لا أدري هل

ص: 591


1- الوسائل 27 : 112 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 19 ، عن مقدّمة الكافى.
2- الوسائل 27 : 115 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 23.
3- « س » والبحار : الأرجائي.
4- في المصادر : تقول.
5- « ج ، م » : - الشيء.
6- لم ترد في المصادر « بشيء ».
7- في المصادر : عندهم.
8- علل الشرائع : 531 ، باب 315 ، ح 1 ، وعنه في الوسائل 27 : 116 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 24 والبحار 2 : 237 ، باب 29 ، ح 25.
9- « د » : المورّثة.

يغمض عينيه في الركوع أو يفتحهما؟ (1) قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.

الثالث : أن يكون الوجه في المخالفة هو مطلوبية مخالفتهم على أن يكون المخالفة معتبرة من حيث الموضوعية ، فلا يكون المناط في كشفها عن صدور الرواية من غير جهة التقيّة كما هو المدار في الوجه الأوّل ، أو أقربية المضمون للواقع على ما هو المناط في الوجه الثاني ، ويمكن استظهار ذلك من قوله : « فإنّ الرشد في خلافهم » إذا جعلنا الخلاف مصدرا ، فيكون المعنى فإنّ الرشد في مجرّد مخالفتهم ومحض خلافهم ، وكذا يستفاد من قوله : « فإنّ الحقّ فيما خالفهم » إذا اعتبر كلمة « ما » مصدرية لا موصولة.

وإذ قد تحقّق هذه الوجوه فنقول : إنّ الوجه الثالث ممّا يلتصق بما نحن بصدده لكنّه كما عرفت مبنيّ على استظهار غير ظاهر وإن كان محتملا ، والوجه الأوّل وإن كان يساعده الاعتبار إلاّ أنّه لم يكن معلوما من الأخبار ، نعم يمكن الاتّكال عليه عند ما يراد تشخيص عمل العلماء بمطلق القوّة ، والوجه الثاني لو تمّ كما عرفت من دلالة الأخبار عليه ينهض بما هو المقصود حيث إنّ المناط فيه هو الأقربية إلى الواقع ، فيعلم منه أنّ الأقرب إلى الواقع مقدّم على غيره ، وهذا هو الوجه في تعويل الأصحاب على الأخذ بما هو الأقرب إلى الواقع عند المعارضة ، وليس في ذلك متابعة للعامّة كما افتراهم بذلك بعض القاصرين ، فحاشاهم عن متابعة من ملئوا طواميرهم عن وجوب مخالفتهم ، وهل يرتضي المنصف من نفسه أن يظنّ في حقّ الشيخ والمحقّق والعلاّمة مثل هذا الظنّ؟ فإنّ بعض الظنّ إثم.

وقد يستدلّ على ذلك - مضافا إلى ما عرفت - بوجهين (2) آخرين : أحدهما : ظهور الإجماع على ذلك وليس بكلّ البعيد ، وقد نقل الإجماع غير واحد من أصحابنا

ص: 592


1- زهر الربيع : 522 نقلا من هامش الرسائل 1 : 615 و 4 : 125.
2- « س » : جهتين.

كالعلاّمة في النهاية والأستاد الأكبر في بعض رسائله وسيّد المفاتيح (1) ، ويستكشف ما ذكرنا من الرجوع إلى كلماتهم حيث يقتصرون في مقام الاستدلال بإحراز صغرى (2) الأقوائية من غير ملاحظة أنّ مجرّد إحراز الصغرى لا يجدي في إثبات الحكم المستدلّ عليه نظرا إلى أنّ الكبرى مفروغ عنها ، وقد عرفت (3) تعليل الشيخ والمحقّق في مخالفة العامّة فراجع.

وثانيهما : قاعدة الاشتغال فإنّ الأمر دائر بين الأخذ بما في طرفه المرجّح الظنّي والتخيير ؛ إذ المفروض انتفاء التساقط على المختار.

فإن قلت : قد علم ممّا مرّ (4) في بعض مباحث الظنّ أنّ الاشتغال في المسألة الفرعية ربّما يقدّم على الاشتغال في المسألة الأصولية ، وعلى ذلك بنيت في ردّ من زعم إهمال النتيجة الحاصلة من دليل الانسداد ، ثمّ حاول التعميم بالقاعدة المزبورة ، فلعلّ المقام أيضا من الموارد التي يقدّم الاشتغال في المسألة الفرعية عليه في الأصولية.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين ؛ إذ أدلّة التخيير بين الدليلين الواردة في مقام علاج المتعارضين ناطقة بأنّ الطريق هو أحد الخبرين ، وبعد قيام الدليل الاجتهادي على

ص: 593


1- قال في النهاية كما عنه في مفاتيح الأصول : 686 : لنا الإجماع على العمل بالترجيح والمصير إلى الراجح من الدليلين. قال الوحيد في الفوائد الحائرية :220- 221 : وعند الأخباريين أنّ بناء المرجّحات على التعبّد ... وأمّا المجتهدون فلمّا كان بناؤهم على التحرّي وتحصيل ما هو أقرب إلى ظنّهم في السند والدلالة والتوجيه فلا يستشكلون في هذه الأخبار أيضا ، وكلّ يبني الأمر فيها على ما هو الأقرب عنده. قال السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٧١٧ : ولظهور اتّفاقهم على صحّة الترجيح بكلّ ما يفيد الظنّ عدا القياس. قال العلاّمة في مبادئ الوصول : ٢٣٢ : لنا أنّه لو لم يعمل بالراجح لعمل بالمرجوح وهو خلاف المعقول ، ولأنّ الإجماع من الصحابة وقع على ترجيح بعض الأخبار على البعض. ونقل ذلك أيضا في مفاتيح الأصول : ٦٨٦ عن الآخرين.
2- « د » : الصغرى.
3- عرفت في ص 589.
4- مرّ في ج 3 ، ص 251.

التخيير لا وجه للاحتياط في المسألة الفرعية بخلاف ما ذكرنا في مباحث الظنّ ، كذا أفاد سلّمه اللّه (1).

قلت : وفيه ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلأنّ المفروض في دليل الانسداد حجّية مطلق الظنّ بواسطة الاحتياط في المسألة الأصولية ، وبعد اعتبار الظنّ وقيامه على أنّ السورة ليست جزء في الصلاة لا وجه للشكّ في كونها جزء حتّى يتحقّق موضوع الاشتغال في المسألة الفرعية ، فكلّما فرض حجّية دليل ولو بواسطة الاحتياط لا يعقل الشكّ الشرعي في المسألة الفرعية ؛ لأنّ الشكّ في المسألة الفرعية مسبّب عن الشكّ في المسألة الأصولية ، وهو دام ظلّه العالي تفطّن بذلك أيضا إلاّ أنّه دفعه بعدم المنافاة بين مفاد الظنّ القائم على عدم الوجوب وبين ما يدلّ على وجوبه بالفرض (2) ؛ لكونه واقعا في أطراف العلم الإجمالي في المسألة الفرعية ، وظنّي أنّه غير مجد ؛ لأنّ العلم الإجمالي القاضي بالاحتياط إنّما ارتفع بواسطة حجّية الظنّ القائم على أحد أطراف العلم الإجمالي ، نعم ذلك يجدي فيما لو كان الشكّ ناشئا من غير الجهة التي أقيمت عليها الحجّة الظنّية وذلك ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إطلاق أدلّة التخيير لا يفرق فيه بين ارتفاع الاحتياط في الفرع وبين ارتفاعه في المسألة الأصولية ، فلو أخذ ما به (3) يلزم القول بالتخيير (4) مطلقا كما لا يخفى ، فالحقّ عدم استقامة الوجه المذكور نظرا إلى ما حقّقنا من أنّ أصالة البراءة محكّمة فيما دار الأمر بين التعيين والتخيير وإن قلنا بتقديم الاشتغال في المسألة الأصولية على الاشتغال في المسألة الفرعية ، على أنّه قد يحتمل أن يكون المرجّح النصوص في طرف آخر ، فلا يمكن الاستناد إلى الاشتغال ؛ لتعارضه من الطرفين ، فتأمّل.

ص: 594


1- « د » : أفاده الأستاد.
2- « م ، س » : بالعرض.
3- « س ، ج » : « بأنّه » بدل « ما به ».
4- « س » : بالنتيجة.

هذا تمام الكلام فيما يستفاد من الروايات والأدلّة الخاصّة ، وأمّا الكلام فيما هو قضيّة لمذاهب (1) بتقريب أنّ ما مرّ من التلويحات الأخبارية والإجماعات المنقولة ربّما يمنع عنها مانع ، وحيث إنّ دائرة المنع أوسع ممّا يمكن أن يحاط به فنحن إرخاء لعنان الخصم وإغماضا عمّا ذكرنا نفصّل الكلام على مقتضى المذاهب وإلاّ فالخبير تنبّه ممّا ذكر (2) قطعا ، فنقول : إنّه قد يدّعى جريان دليل الانسداد القاضي بحجّية مطلق الظنّ في نفس مسألة الترجيح ، وتقريره هو أنّه لا ريب في وجوب الترجيح على المجتهد في الأخبار المتعارضة ؛ إذ لو لم يؤخذ به لزم طرح الأخبار الكثيرة المستلزمة للمخالفة القطعية ، والمرجّحات المنصوصة قد (3) عرفت (4) حالها من عدم انضباطها وقلّة مواردها وعدم إمكان الجمع بينها في الروايات المختلفة ، والاحتياط بالجمع بين مدلولي المتعارضين غير ممكن أو غير واجب إجماعا ، فلا بدّ من الأخذ بالظنّ القائم على أحد الطرفين ، ضرورة بطلان ترجيح المرجوح على الراجح.

فإن قيل : فليراجع إلى التخيير في كلّ الموارد. قلنا : مردود بالعلم الإجمالي بالمخالفة القطعية على تقديره.

ولكنّ الإنصاف عدم استقامة الوجه المذكور ؛ لأنّ الأغلب ارتفاع التعارض بين المتعارضين بإعمال المرجّحات الإجماعية كحمل الظاهر على النصّ والأظهر ، ونحو ذلك من المرجّحات المعمولة في الدلالة على ما عرفت شطرا منها ؛ إذ أغلب موارد التعارض كما يظهر بالتتبّع مرجعها إلى التعارض في الدلالة ، وبعد إعمال المرجّحات المنصوصة أيضا على الوجه المعلوم اعتبارها من اجتماع الأخبار (5) العلاجية لا نسلّم أنّ الرجوع إلى التخيير يستلزم المخالفة القطعية.

ص: 595


1- « د » : المذهب.
2- « س » : ذكرنا.
3- « ج » : وقد.
4- قد عرفت في ص 582 - 583.
5- « ج » : « أخبار » وكذا في المورد الآتي.

وتوضيح المقام : هو أنّه قد عرفت (1) أنّ التعارض الواقع بين الأدلّة قد لا يحتاج الجمع بينها إلى قيام شاهد خارجي على الجمع ، وقد يحتاج ، وعلى الثاني فتارة : يكفي في الجمع إخراج أحدهما عن الظهور ، وتارة : لا يكفي ، بل لو أريد الجمع فاللازم إخراجهما عن ظاهريهما ، قد عرفت وجوب الجمع على الأوّل ، والرجوع إلى الأصل في الثاني ما لم يظهر لأحد الظاهرين مرجّح به يتقوّى ظهوره بالنسبة إلى الآخر ، فإنّ المطابقة المضمونية (2) ممّا لا يكفي في حمل ظهور أحد الظاهرين على الآخر ما لم يرجع إلى قوّة نفس الظهور ، وأغلب موارد التعارض يرجع إلى هذين القسمين ، وأمّا القسم الثالث فبعض المرجّحات المتّفق على الترجيح بها الأخبار العلاجية - كالترجيح بالشهرة فيما لم يكن (3) معارضة بالأعدلية - مثلا - أو كانت وقلنا بتقديم المقبولة على المرفوعة كما عرفت (4) - ممّا لا كلام في لزوم الأخذ بذلك البعض ، وأمّا ما يبقى بعد ذلك فالعلم الإجمالي ببقاء التكليف بين الأخبار المتعارضة من جهة الترجيح ممنوع وعلى المستدلّ إقامة الدليل على ذلك وأنّى له بذلك؟ فلا وجه للاعتماد على دليل الانسداد في نفس مسألة الترجيح ؛ لعدم تمامية مقدّماته ، وهل يجدي في ذلك ملاحظة الأدلّة (5) الدالّة على حجّية أخبار الآحاد ، أو لا؟ فيه تفصيل.

وتحقيقه : أنّه اختلف آراء المتمسّكين بعروة الانسداد ، فمنهم من يرى أنّ نتيجة البرهان حجّية الظنّ بنفس الحكم الفرعي ، وهذا هو المشهور بينهم ، ومنهم من زعم أنّها حجّية الظنّ المتعلّق بطرق الأحكام كما علم في محلّه مستوفى ، ومنهم من قال بأنّ النتيجة بعد تسليم المقدّمات هو الحكم بوجوب تفريغ الذمّة وتحصيل الامتثال الظنّي ، والظنّ بالفراغ كما يحصل بإتيان نفس الواقع الظنّي كذلك يحصل بالأخذ بما هو قضيّة

ص: 596


1- قد عرفت في ص 540.
2- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : المضمونة.
3- كذا. والصواب ظاهرا : لم تكن.
4- عرفت في ص 583.
5- في النسخ : أدلّة.

ما يظنّ كونه بدلا عن الواقع وهو الإتيان بما يستفاد من الطريق الظنّي.

فأصحاب المقالة المشهورة لا يعقل لهم مباحث التراجيح حيث إنّ الظاهر أنّ نتيجة الدليل هو الظنّ الفعلي.

قلت : ذلك على ما هو التحقيق من حكومة العقل باعتبار الظنّ بعد إبطال البراءة والاحتياط والرجوع إلى الأصول المحرّمة (1) ، وأمّا على تقدير الكشف كأن يكون (2) الانسداد مع بطلان المحتملات كاشفا عن كون الظنّ حجّة كما هو المعتمد عند أصحاب هذه المقالة فيمكن أن يكون الحجّة عندهم نوع الأمارة الظنّية فيتعقّل عندهم مسألة الترجيح (3) كما لا يخفى. وكيف كان ، فعلى ما هو التحقيق لا يمكن التعارض عند القائلين بالظنون الشخصية ، نعم يتأتّى ذلك في حقّهم بالنسبة إلى الأدلّة التي يعتمدون عليها من جهة أدلّة خاصّة كالصحاح الأعلائية الموثوق بها مثلا.

وأمّا أصحاب المقالة الثانية فقد يظهر من بعض الأجلّة على ما استظهره الأستاد دام مجده وعلاه من تضاعيف كلماته أنّه يكفي في الأخذ بالخبر المقرون بالمرجّح الظنّي عند التعارض ما زعمه من اعتبار الظنّ في الطريق ولا حاجة إلى ملاحظة اعتبار الظنّ في مسألة الترجيح بالانسداد أو بغيره.

وتوجيهه على ذلك المذهب أن يقال : إنّ الحاصل من دليل الانسداد هو إعمال الظنّ في طريق الأحكام والأخذ بما يظنّ (4) فعلا في كلّ واقعة أنّه هو الطريق ، ولا خفاء في أنّ الطريق الظنّي فعلا في الواقعة التي توارد فيها الطريقان (5) هو المعاضد (6) بالوجه الظنّي دون الآخر ، فلا بدّ من الأخذ به وطرح مقابله بحسب نفس دليل حجّية الأخبار وإن لم يكن ذلك المرجّح الظنّي معلوم الاعتبار ، وهو ضعيف جدّا ؛ لأنّ قضيّة العلم

ص: 597


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : محرّمة.
2- « د ، س » : + بعد.
3- « م » : التراجيح.
4- « د » : الأخذ بالظنّ.
5- « س » : الطريق.
6- « د » : فهو المعارضة.

الإجمالي بوجود الطريق المنصوب بين الأمور المحتملة لذلك على هذا المذهب ليس إلاّ اعتبار الظنّ في تشخيص نوع الطريق بين الأنواع المحتملة ، وأمّا تشخيص شخص الطريق بين المتعارضين فليس يقضي بذلك شيء من وجوه الأدلّة التي أقامها هو وبعض موافقيه هنالك ، ونظير ذلك هو القول بحجّية الظنّ الحاصل بالموضوع كالوقت - مثلا - استنادا إلى جريان دليل الانسداد في الأحكام الشرعية.

وتوضيح المقام وتحقيقه : أنّ العلم الإجمالي الذي هو الملاك في دليل الانسداد تارة : يدّعى على وجه يقضي بحجّية الظنّ المتعلّق بنوع الأمارة ، فيكون الظنّ المتعلّق بخصوصية الأمارة في الواقعة الخاصّة خارجا عن مقتضى العلم الإجمالي ، فيحتاج التعويل عليه في مقام الترجيح من التماس دليل آخر وذلك كأن يقال : إنّا نعلم إجمالا بأنّ الشارع الحكيم قد جعل لنا طريقا إلى مطلوبه ولا تكليف إلاّ بما يستفاد من ذلك الطريق وقد تشابه علينا ذلك الطريق ، فلا بدّ من الأخذ بالظنّ التفصيلي في تشخيص ذلك المعلوم الإجمالي ، فإنّ هذا الدليل لا يستفاد منه إلاّ حجّية الطريق المظنون بحسب نوعه ، وأمّا أنّ المقدّم في مقام التعارض هو أيّهما؟ فلا دلالة فيه بوجه.

وأخرى : على وجه يقضي بحجّية الظنّ المتعلّق بشخص الطريق كأن يقال : إنّا نعلم إجمالا أنّ الشارع الحكيم قد جعل لنا في كلّ واقعة طريقا إلى ما هو مطلوبه في تلك الواقعة ، وحيث لا نعلمه بخصوصه فلا بدّ من الأخذ بالظنّ في تشخيصه.

ونظير الأوّل ما إذا قلنا بثبوت الأحكام الشرعية الواقعية مع عدم العلم بها ولو من وجه شرعي ، وبعد بطلان الوجوه المحتملة يحكم العقل باقتناع الامتثال الظنّي ووجوب تفريغ الذمّة على وجه ظنّي ، وأمّا لو تعلّق الظنّ بموضوع الحكم الشرعي كما إذا ظنّ بدخول الوقت المستلزم للظنّ بوجوب الصلاة فيه على الظانّ فهو خارج عن مفاد الدليل ، فإنّ العلم الإجمالي في نفس الأحكام لا يقضي إلاّ بحجّية الظنّ في نفس الأحكام.

ص: 598

ونظير الثاني ما إذا قلنا بأنّا نقطع بأنّ هذه الحركات والسكنات الصادرة منّا طول الليل والنهار تشتمل على أمور واجبة علينا وأمور محرّمة بالنسبة إلينا ، ولمّا انسدّ باب العلم في تشخيص هذه الحركات انفتح طريق الظنّ بها بالاقتناع به في مقام الامتثال.

والمذكور في كلام الزاعم المذكور هو الوجه الأوّل وقد عرفت أنّه غير واف بإثبات المطلوب.

وأمّا الوجه الثاني فمع فساده في أصله غير مذكور في كلماتهم كما يظهر بالتتبّع في مطاويها ، ولعلّ ذلك هو منشأ الخلط ، وقد تفطّن بذلك في نظير المقام حيث لم يعتبر الظنّ بالعدالة مع أنّ الظنّ بها أيضا مثل الظنّ بأنّ المقدّم من المتعارضين هو الموافق للمرجّح الظنّي فراجع كلامه ، بل الحقّ أنّ أرباب هذه المقالة الباطلة كما ليس لهم العمل بالمرجّحات الظنّية كذلك ليس لهم العمل بالمرجّحات المنصوصة ، فإنّ العلاج المهديّ إليه بواسطة الأخبار العلاجية إنّما يعالج به فيما هو الحجّة عند السائل لا فيما هو الحجّة مطلقا.

وتحقيق ذلك : أنّ القائلين بالظنون الخاصّة يعوّلون عليها بواسطة قيام حجّة شرعية كالإجماع على حجّية أمارة خاصّة كأخبار الآحاد ، ولا شكّ أنّ قضيّة ذلك حجّية الخبر في نفس الأمر لجميع المكلّفين ، فما هو حجّة لنا فهو حجّة للسائل في الأخبار العلاجية أيضا وبذلك يصحّ الأخذ بالمرجّحات المنصوصة عند تعارض الظنون الخاصّة بخلاف ما إذا اشتبه الحجّة والطريق في أمور محتملة لذلك فإنّ الظنّ بأنّ الأمارة (1) (2) الفلانية هي الحجّة التي يجب عليها التعويل يحتمل أن يكون مخالفا للواقع ولو عند الظانّ أيضا ، فما ظنّه حجّة يحتمل أن لا يكون حجّة واقعية والسائل إنّما سأل عمّا هو الحجّة في الواقع ، والوجوه المذكورة في الترجيح بناء على ذلك يختصّ بما هو الحجّة الواقعية ، فليس لهذا القائل إعمال المرجّحات المنصوصة فيما ظنّه طريقا وحجّة ؛

ص: 599


1- « س » : الظنّ بالأمارة.
2- « س » : الظنّ بالأمارة.

إذ لا يعلم بأنّه هو الطريق الذي يجب الأخذ بتلك المرجّحات عند تعارضه بمثله مثلا.

لا يقال : فتلك الأمارة المظنونة وإن لم يعلم بكونها الحجّة الواقعية إلاّ أنّها حجّة قطعية نظرا إلى الدليل القاضي بذلك ، فيصحّ الأخذ بالمرجّحات المنصوصة فيها أيضا.

لأنّا نقول : هذه المرجّحات ليست بمرجّحات لمطلق ما هو الحجّة ، بل لما هو كذلك عند السائل كما لا يخفى ، فإنّ ظهور اختصاص السؤال بما هو المتعارف بينهم من الأخبار ممّا لا يقبل الإنكار ، فتأمّل.

نعم ، يمكن القول باكتفاء الظنّ عند الانسداد بما هو الحجّة الواقعية في ترتيب مثل هذه الآثار أيضا إلاّ أنّه لا يخلو من شيء.

وأمّا على المذهب المختار (1) من أنّ نتيجة البرهان هو وجوب تفريغ الذمّة الحاصل بإتيان ما هو الواقع وبإتيان ما هو بدل منه ، فالتحقيق أنّه لا يتصوّر التعارض أيضا كما عرفت من مذاق المشهور.

أمّا بالنسبة إلى الظنّ (2) بالواقع فظاهر ؛ لأنّ النتيجة هو الظنّ الشخصي ولا يعقل التعارض بين الظنّين كما في القطعين (3).

وأمّا بالنسبة إلى الظنّ بما هو مسقط عن الواقع وبدل منه - وإن كان يعقل (4) القول بتعلّق الظنّ بنوع الأمارة فيصير الظنّ المتعلّق بتقديم أحد أفراد ذلك النوع على الآخر خارجا عمّا هو مفاد الدليل كما عرفت على تقدير القول بحجّية الظنّ في خصوص الطريق فقط ، فيحتاج في إثبات حجّية مثل هذا الظنّ إلى دليل آخر غير الدليل الأوّل - إلاّ أنّه ليس على ذلك المنوال ، فإنّا (5) ندّعي أنّ الظنّ بالفراغ لا يحصل من خبر

ص: 600


1- عطف على « أمّا أصحاب المقالة الثانية » في ص 597.
2- « ج » : الطريق.
3- « س ، د » : الظنّيين كما في القطعيين.
4- « س » : يعلّق.
5- « د » : لأنّا.

العادل فيما يعارضه خبر الأعدل - مثلا - فالمفرّغ (1) للذمّة عند التعارض منحصر فيما هو الأقوى ، وعلى هذا فلا تعارض ، وبالجملة فنوع الأمارة مظنون الحجّية فيما إذا لم يعارض بعضها ما هو أقوى منه ، فتدبّر.

نعم ، قد يشكل الأمر في ذلك فيما إذا تعلّق الظنّ بحسب الواقع بخلاف ما هو المظنون كونه بدلا ، ودفعه بالتزام الأخذ بما هو أقوى الظنّين (2) كما مرّ ذلك مفصّلا في محلّه.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى دليل الانسداد ، وأمّا الكلام في سائر الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد فتحقيقه أن يقال : إنّ بعد فرض انتفاء الأدلّة الخاصّة على حجّية مطلق الأقوائية في مقام الترجيح لا وجه للأخذ بها على مذهب من زعم وجوب العمل بقول العادل تعبّدا كما عرفت فيما مهّدنا لك من الأصل ، فلا بدّ من الاقتصار على المرجّحات المنصوصة الثابتة.

نعم ، يصحّ الأخذ بها على تقدير القول بحجّية الأخبار الصادرة ظنّا عن الأئمّة الأطهار ، فإنّ الأقوائية مرجعها إلى أقوائية الظنّ بصدور الأقوى ممّا (3) هو الملاك في الحجّية ، والمناط في الاعتبار متأكّد في الأقوى دون الآخر ، وبذلك يظهر أنّ الأخذ بما هو الأقوى (4) صدورا لازم على ما هو التحقيق من حجّية الأخبار الموثوق بها ، فإنّ سكون النفس وركونها في الأخذ بما هو الأقوى من الدليلين (5) ، ولا حاجة إلى إقامة برهان غير ما انتهض على اعتبارها في محلّه ، ولا يلزم من ذلك عدم اعتبار المعارض الآخر نظرا إلى انتفاء الوثوق فيه كما هو المفروض حتّى يؤول الأمر حقيقة إلى انتفاء التعارض كما عرفت نظير ذلك على القول بحجّية الظنّ المطلق ، والوجه في ذلك أنّ

ص: 601


1- « س » : كالمفرغ وفي « ج » : فالمفروغ.
2- « س » : الظنيين.
3- « ج ، د » : فيما. خ ل بهامش « م » : فما.
4- « د » : أقوى.
5- « س » : الدليل.

زوال الوثوق بالمعارضة لا يقضي بعدم الحجّية كما أنّ الذاهب إلى حجّية الخبر المظنون الصدور أيضا يلتزم بذلك ، وليس لك إجراء مثله على القول بمطلق الظنّ كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في المرجّحات التي بها يتقوّى أحد الدليلين على الآخر بإحدى الجهات الراجعة إلى كونه دليلا كتقوية الدلالة والصدور وجهة الصدور.

وفي المقام مرجّحات أخر لا دخل لها في تقوية الجهات الراجعة إلى الدليلية وهي ما يتقوّى بها أحد الدليلين مضمونا على الآخر كموافقته للأمارات (1) الظنّية كالاستقراء والشهرة الفتوائية ونحوها ، فالظاهر جريان الأدلّة المذكورة فيها أيضا إلاّ أنّ الإجماع المنقول في المقام السابق لعلّه لا ينهض في المقام بدعوى ظهور اختصاصه بما إذا أفاد المرجّح تقوية للدليل من حيث هو دليل ، وأمّا مجرّد الموافقة المضمونية (2) فلا يورث تقوية في الدليل ، ولعلّك بعد الرجوع إلى وجوه التراجيح الواقعة في كلماتهم كما يظهر بالتصفّح في مطاويها تقدر على فكّ هذه العقدة فراجعها.

لا يقال : إنّ غاية ما يستفاد من الوجوه المذكورة في مقام الترجيح بالوجوه الظنّية هو الظنّ وهو لا يغني من الحقّ شيئا فكيف يجوز التعويل بمثله في المسألة الأصولية مع أنّ الشيخ نفى الخلاف في عدم اعتباره فيه كما عن العدّة (3) ونقل السيّد الإجماع عليه ونسبه السيّد الشارح في شرحه للوافية (4) إلى المحقّقين؟ فالتعويل على الظنّ في الترجيح يرجع إلى التعويل عليه في المسألة الأصولية وقد عرفت فساده في مذهب أهل التحقيق.

لأنّا نقول : بعد الغضّ عن ظنّية الوجوه المذكورة كما ربّما هو ظاهر لمن راجع نفسه منصفا أنّ ذلك وإن اشتهر عندهم غاية الاشتهار إلاّ أنّ عدم الفرق بينها (5) وبين غيرها

ص: 602


1- « س » : كموافقة الأمارات.
2- « م » : المضمونة.
3- لم أجده.
4- انظر شرح الوافية ( مخطوط ) 200 / ب - 201 / أ.
5- « د » : بينهما.

من المسائل الفرعية في منار كما يقضي بذلك الإنصاف.

قلت : ولعلّ الوجه في ذلك هو تخيّل أنّ المرجع في المسائل الفرعية هو المسألة الأصولية ، فاعتمدوا فيها على العلم قطعا للدور والتسلسل اللازمين على تقدير الظنّ فيها.

وذلك ليس على ما ينبغي ؛ لإمكان انتهائه إلى العلم في مدرك المسألة الأصولية كما لا يخفى.

وكيف كان فغاية ما يلزم من نقل الإجماع المذكور هو الظنّ بذلك ، فيؤول الأمر إلى تعارض الظنّ المانع والممنوع وقد مرّ في محلّه أنّ الأقوى هو الأخذ بأقوى الظنّيين ، فتأمّل في المقام فلعلّك تهتدي إلى ما هو التحقيق في الكلام واللّه الموفّق وهو الهادي.

ص: 603

ص: 604

هداية [ في بيان المرجّحات المنصوصة ]

قد مرّ تفصيل القول في حكم التراجيح بحسب الكبرى فلنعطف الكلام إلى تفاصيل الصغريات فتارة : في المرجّحات المنصوصة ، وأخرى : في غيرها في طيّ هداية أخرى.

واعلم أوّلا : أنّ التعارض بين الدليلين إمّا أن يكون بحسب الدلالة وقد عرفت أنّ المناط فيه على الظهور ، فالمقدّم منهما هو الأظهر.

وإمّا أن يكون بحسب الصدور وقد عرفت أيضا أنّ المقدّم هو الأقرب إلى الواقع.

وإمّا أن يكون بحسب جهة الصدور وقد مرّ أيضا أنّ المقدّم هو الأبعد عن التقيّة من الآخر.

وقد يكون التعارض بين كلّ واحد من هذه الجهات وبين الجهة الأخرى ، كما إذا دار الأمر بين حمل الرواية على التقيّة أو تصرّف (1) في الدلالة ، فالظاهر هو تقديم الترجيح في الدلالة على العلاج في السند مطلقا ولو كان المرجّح بحسب الدلالة في غاية الضعف ، وقد مرّ التنبيه (2) على فساد مقالة من زعم تقديم المطلق على المقيّد بواسطة موافقة المقيّد لمذهب العامّة ، ولعلّ ذلك محلّ وفاق عندهم ، ولا فرق فيه بين أن يكون المرجّح في الدلالة داخليا كما مرّ أو خارجيا وستعرف تفصيله ، والوجه في

ص: 605


1- « د » : التصرّف.
2- مرّ في ص 543.

ذلك هو ملاحظة طريقة العرف في امتثال أوامر الموالي.

وإذا وقع التعارض بين الترجيح بحسب السند بالأخذ بالمرجّحات السندية الداخلية كالأعدلية ونحوها وبينه بالأخذ بالمرجّحات الخارجية كالشهرة - مثلا - فيظهر من سيّد المفاتيح (1) طاب ثراه تقديم المرجّح الخارجي على الداخلي مطلقا ولعلّه ليس في محلّه على إطلاقه ؛ إذ ربّما يكون الأقرب هو المرجّح الداخلي ، نعم ، لا يبعد القول بأنّ الغالب هو تقديم الخارجي ؛ لأنّه هو الأقرب ، فالمناط هو الأقربية.

وإذا عرفت (2) ذلك فاعلم أنّ المرجّحات المنصوصة مختلفة غاية الاختلاف ، وأوضح الروايات الواردة فيها هي المقبولة فنسوق الكلام فيها توضيحا لما اشتملت عليها من الفقرات وتحقيقا لتقديم بعضها على الآخر ، فنقول : إنّه قد اعتبر فيها الترجيح أوّلا بعدّة أمور وهي : الأعدلية ، والأفقهية ، والأورعية ، والأصدقية ، والأخذ بظاهرها كما مرّ غير نافع في مقام الترجيح لندر اجتماعها في الغاية ، بل ينبغي أن يكون المراد الترجيح بكلّ واحد منها ويكشف عن ذلك أمور :

أمّا أوّلا : فالعارف بصناعة الكلام ومن له ذوق في تحصيل المرام إذا تأمّل في مساق الخبر وأعطاه حقّ النظر لعلّه يقطع بذلك ، فإنّ اجتماع أمور في مقام التعبير مع اعتبار كلّ واحد منها على حدّه في مقام التأثير ممّا ليس بذلك البعيد.

وأمّا ثانيا : فالسائل لم يعدّ إلى السؤال عن اجتماع بعضها دون الآخر مع أنّ الترتيب الطبيعي على تقدير اعتبار الأمور الأربع يقضي بذلك.

وأمّا ثالثا : فانفراد الأعدلية عن أخواتها في مرفوعة زرارة شاهد صدق على اعتبار كلّ واحد منها في مقام الترجيح.

وأمّا رابعا : فلأنّ اعتبار الأعدلية مع الأصدقية في غاية البعد ، فإنّ ما هو المعتبر من العدالة في الخبر هو التحرّز عن الكذب ، وأمّا الاجتناب عن غيره من المعاصي فممّا

ص: 606


1- مفاتيح الأصول : 689.
2- « س » : إذ قد عرفت.

لا دخل (1) له في صدق الخبر إلاّ أن يكون المدار على التعبّد الصرف ولا نقول به ، فما هو الحاصل من أحدهما يحصل من الآخر.

فينبغي أن يحمل على أنّ المعتبر في مقام الترجيح هو أحد هذه الأمور ، ولا يضرّ في ذلك تكرار أحدهما ولو بعبارة أخرى غير العبارة التي عبّر بها أوّلا ؛ إذ لا شبهة أنّ خبر العادل أقرب إلى الواقع من غيره وقضيّة ذلك أقربية الأعدل من غيره ، وذلك أمر ظاهر بالرجوع إلى كلماتهم فإنّ المناط عندهم الأقربية ولذلك يقدّمون روايات حسن بن عليّ بن فضّال مع كونه فطحيا على رواية بعض آخر وإن كان إماميا حيث إنّه لم يتّكل على الروايات التي رواها عن أبيه ؛ لعدم بلوغه حال التحمّل مع أنّ المعتبر عندهم هو البلوغ حال الرواية ، ومن هنا ينقدح لك الوجه في تقديم رواية صاحب الواقعة على غيره ؛ لكونه على حرص من ضبط الرواية في الأغلب.

ومن المرجّحات المذكورة في المقبولة اشتهار أحد الخبرين دون الآخر بحسب الرواية وقد عرفت (2) المراد منه ، وتوضيحه أنّ الشهرة في المقام المراد منها معناها اللغوي كقولهم : سيف شاهر ، أي ظاهر بارز لا سترة عليه ولا يخفى عند أحد ، ولذلك أردفه في الرواية بقوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » فالرواية التي تتداول (3) بين الرواة ويحكيها جماعة من الثقات تعدّ مشهورة ، وما انفرد في روايتها بعض الرواة على وجه يستراب فيها هو الشاذّ النادر.

ثمّ المراد باشتهار الرواية هو اشتهارها على وجه ينتهي اشتهارها إلى المعصوم ، وأمّا لو اشتهرت في بعض الطبقات دون أخرى فالظاهر أنّ الرواية ليست شاملة لها وإن كان لا يبعد إلحاق مثلها بالمشهورة حكما كما لا يخفى.

ثمّ إنّ في أمثال هذه الأزمنة قد يشكل العلم بموضوع هذه الشهرة ؛ لاجتماع

ص: 607


1- « س » : مدخل.
2- عرفت في ص 580.
3- « ج » : يتداولون « د » : يتداولوه.

الأحاديث في الأغلب في الكتب المشهورة عندنا من تصانيف المشايخ الستّة وافتراق الأصول التي أخذوا منها من الأصول الأربعمائة ، نعم يمكن استظهار ذلك من تعدّد طرق الرواية فإنّ بعضها مرويّة في جميع تلك الكتب ومع ذلك قد يكون طريق صاحب الكتاب متعدّدا فيها وبعضها ينفرد في ذكرها بعضهم.

وبالجملة : فلا ريب في اعتبار مثل هذه الشهرة في الرواية عند الأصحاب فلا ينبغي فيها الإطناب.

ثمّ إنّه قد زعم بعضهم شمول الشهرة هذه للشهرة في الفتوى ، وقد دفعناه في محلّه بما لا مزيد عليه (1) ، إلاّ أنّ الشهرة في الفتوى أيضا قد يمكن أن تكون (2) مرجّحة للرواية ، فلا بأس بذكرها إجمالا تتميما للمبحث وهي على أقسام : فتارة : لا يحصل منها الترجيح لإحدى (3) الروايتين ولا التوهين للأخرى (4) ، وتارة : يحصل الترجيح فقط وحينئذ فقد يكون من المرجّحات الداخلية ، وقد يكون من المرجّحات الخارجية ، وتارة : يحصل منها التوهين أيضا.

أمّا القسم الأوّل : فيتحقّق في موارد : منها : ما إذا علم بفساد مدرك المشهور كاستنادهم إلى رواية عادمة الدلالة على مطلبهم مع القول بأنّها لا تصلح لأن تكون (5) قرينة صارفة كما هو التحقيق ، أو مع عدم كشفها عن القرينة كشفا قطعيا ، وأمّا إذا قلنا بالأوّل فالشهرة تنهض قرينة على إرادة خلاف الظاهر كما إذا كانت كاشفة.

ومنها : ما إذا كان مأخذ المشهور أمرا لا يصلح للترجيح كما إذا كان أصلا من الأصول العملية.

ومنها : أن يكون مآخذهم مختلفة ، كما إذا زعموا استحباب شيء فبعضهم

ص: 608


1- انظر ج 3 ، ص 117 - 118.
2- في النسخ : يكون.
3- « د ، س » : لأحد.
4- « م ، ج » : للآخر.
5- في النسخ : يكون.

للاحتياط والآخر (1) لتضعيف الرواية - مثلا - والآخر للتسامح - مثلا - إلى غير ذلك من وجوه اختلاف المدارك ، فيكون الشهرة تقييدية نظير الإجماع التقييدي.

ومنها : ما إذا كان المأخذ مردّدا بين واحد من الأمور المذكورة وبين ما يصلح للترجيح.

وبالجملة : ففي أمثال هذه الموارد لا وجه للتعويل على الشهرة في مقام الترجيح.

وأمّا القسم الثاني : فكما إذا علم استناد المشهور إلى الرواية على وجه يورث اطمئنانا في صدورها أو جهة صدورها أو دلالتها وكما إذا أفاد الظنّ الواقعي بالحكم المطابق لمضمون أحد الخبرين ، فعلى الأوّل يكون الشهرة من المرجّحات الداخلية ، وعلى الثاني تكون (2) من المرجّحات الخارجية.

وأمّا القسم الثالث (3) : فكما إذا علم استناد المشهور إلى أحد الخبرين مع إعراضهم عن الآخر على وجه يكشف عن ضعف فيه وقوّة لمعارضه ولذا قيل : كلّما ازدادت الصحاح في قبال المشهور ازداد وهنا.

ومن المرجّحات موافقة الكتاب والسنّة (4) ومخالفة العامّة ، قد سبق (5) ما يرشدك إلى أنّ كلاّ من مخالفة العامّة وموافقة الكتاب والسنّة مرجّح في حيال ذاتهما ، فيكون اجتماعهما في الرواية تنبيها على لطيفة الملازمة بينهما ، وإلاّ فلا يكون لذكر المخالفة بعد ذلك وجه.

قلت : يحتمل أن يكون المعتبر في الترجيح أوّلا اجتماعهما ، ثمّ على تقدير عدم الاجتماع فالمرجّح هو المخالفة كما نبّهناك على مثله في الأصدقية فراجعه ، وكيف فالأولى تخصيص كلّ واحد منهما بالبحث.

ص: 609


1- « د » : الأخرى.
2- في النسخ : يكون.
3- « د ، س » : الثاني.
4- من هنا إلى قوله : « مرجّح » سقط من نسخة « د ».
5- سبق في ص 581.

فنقول : أمّا موافقة الكتاب فتحقيق الكلام فيه يتوقّف على بيان وجوه المخالفة المتصوّرة بين الكتاب والخبر وهي على أنحاء شتّى : أحدها : أن يكون مفاد الخبر المخالف رافعا لموضوع الحكم الكلّي المستفاد من عمومات الكتاب ، مثل ما ورد في الموارد الخاصّة من أدلّة الأحكام المخالفة للأصول العملية المأخوذة من العامّ الكتابي كقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1) ونحو ذلك.

وثانيها : أن يكون الثابت بالخبر أخصّ مطلقا ممّا ثبت بالكتاب ، مثل ما ورد من تخصيص وجوب الإنصات عند القراءة بحال قراءة الإمام (2) ، ومثل ما ورد في وجوب الغسل على المريض المتعمّد بالجنابة وإن أصابه ما أصابه (3) فإنّه تخصيص لقوله : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (4).

وثالثها : أن يكون بين مفاد الخبر والكتاب عموما من وجه ولا يحضرني الآن مثالا لهذا القسم.

ورابعها : أن يكون المخالفة على وجه المباينة.

فعلى الأوّل : لا ينبغي الارتياب في تقديم الخبر على الكتاب ؛ إذ لولاه لم يثبت تكليف قطعا بالأخبار ، والسرّ فيه انتفاء المخالفة حقيقة وإنّما يظنّها مخالفة من لا يكاد يعقل معنى المخالفة ، كما أنّه لا إشكال في لزوم طرح الخبر على الرابع فإنّ الاخبار الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب ربّما تعدّ (5) من المتواترات وليس بذلك البعيد فإنّها زخرف لا بدّ من ضربها على الجدار.

ص: 610


1- الطلاق : 7.
2- انظر الوسائل 8 : 355 ، باب 31 ، باب عدم جواز قراءة المأموم خلف من يقتدي به في الجهرية ووجوب الإنصات لقراءته.
3- انظر التهذيب 1 : 198 ، باب 8 ؛ الاستبصار 1 : 162 ، باب 96 ؛ الوسائل 3 : 373 ، باب 17 ، باب وجوب تحمّل المشقّة الشديدة في الغسل لمن تعمّد الجنابة دون من احتلم.
4- البقرة : 185.
5- في النسخ : يعدّ.

وعلى الثاني : فلا ريب في وجوب تخصيص الكتاب بالخبر المخالف للكتاب على تقدير جواز التخصيص مع وجود مرجّح لذلك الخبر ولو في أدنى مراتب المرجّحية ؛ لعدم المانع منه ووجود المقتضي له ، وعلى تقدير عدم جواز التخصيص فلا تعارض ؛ لعدم اعتبار الخبر المخالف للكتاب ، فيكون المخالفة موهنة للخبر ، وعلى تقدير عدم المرجّح فالمرجع هو عامّ الكتاب لسقوط الخبرين بالمعارضة عن الحجّية ، وليس المقام محلّ التخيير ؛ لادّائه إلى عدم حجّية الكتاب ، إذ على تقديره كما يجوز (1) الأخذ بما يوافق كذلك يجوز الأخذ بما يخالف الكتاب ، وذلك طرح للكتاب من غير وجه.

قلت : ولعلّك تقول : إنّ التخيير بين الخبرين والأخذ بالمخالف يقوم مقام الأخذ بالخبر مع الترجيح ، فكما لا غائلة في التخصيص مع الترجيح لا غائلة فيه مع ما هو بمنزلته شرعا وليس ذلك طرحا للكتاب من غير وجه ، وكيف كان فعلى ما أفاده مدّ اللّه ظلاله على رءوس العالمين (2) ليس المورد من موارد التخيير ، ولا من موارد ترجيح (3) الموافق للكتاب (4) على الآخر ، أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلأنّ الترجيح بالعموم إنّما يحصل بعد فرض بقائه على عمومه وهو حينئذ دليل مستقلّ.

قلت : كونه دليلا مستقلاّ لا ينافي أن يكون مرجّحا للدليل الموافق ، فإنّ كثرة الدليل أيضا من وجوه الترجيح كما هو معلوم وستعرفه.

وبالجملة : فالذي يفضي إليه النظر هو الأخذ بالخبر الموافق وطرح الخبر المخالف (5) ؛ لحصول الترجيح له بالموافقة ، ولا سيّما فيما قلنا باعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ ، ولو تنزّلنا عن ذلك فالحكم - كما نبّهت عليه - هو التخيير ، وعلى تقدير الأخذ بالخبر

ص: 611


1- « س » : لا يجوز.
2- « د » : دام ظلّه.
3- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : - ترجيح.
4- « س ، ج ، م » : بالكتاب.
5- « ج ، د ، م » : - المخالف ، وشطب عليها في « س ».

المخالف (1) فلا ضير في تخصيص الكتاب ؛ لأنّ التخيير بمنزلة الترجيح ولا مانع من ذلك بعد ما هو المعلوم من إطلاق أدلّة التخيير وقد أوردت عليه دام ظلّه فلم ينكره عليّ.

وعلى الثالث : فإن قلنا بأنّ مرجع التعارض في العامّين (2) من وجه إلى تعارض سنديهما فمن المعلوم وجوب تقديم الكتاب ؛ لكونه معلوم الصدور ، فيبقى الخبر الموافق سليما عن المعارض ؛ إذ المفروض أنّ المخالف بمعارضته للكتاب (3) فقد سقط عن الاعتبار كما في صورة التباين ، فالمخالفة موهنة حينئذ.

وإن قلنا بأنّ مرجع التعارض إلى (4) الدلالة مع قطع النظر عن السند مطلقا ، فالظاهر تقديم الموافق على المخالف ؛ لدوران الأمر بين طرح ظاهر واحد والحكم بسقوطه من الاعتبار وبين طرح ظاهرين ، والأوّل على القول باعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ أولى ، ولا يبعد ذلك بناء على الأخذ بها من حيث بناء العقلاء أيضا (5) ، فتدبّر.

وإن قلنا بالتفصيل بين العامّين من وجه وأخواتهما كما عرفت ممّا فصّلناه لك في محلّه ، فيلحق بكلّ من القسمين حكمه من غير إشكال. وينبغي أن يعلم أنّ المراد من العموم والخصوص المطلق أو من وجه هو ذلك باعتبار موضوع الحكم وذلك أمر ظاهر لا يكاد يخفى على أوائل العقول.

وأمّا موافقة السنّة فالمراد (6) بها قول الحجّة (7) أو فعله أو تقريره على وجه قطعي ولا اختصاص لها بالنبيّ وإن كان يظهر من بعض تلك الأخبار ذلك.

وأمّا السنّة الظنّية فهي (8) في عرض الأخبار المتعارضة و (9) لا يصلح للترجيح في

ص: 612


1- « م » : الموافق.
2- « د » : عامّين.
3- « د » : بمعارضة الكتاب.
4- « س » : + ملاحظة.
5- « م » : - أيضا.
6- في النسخ : والمراد.
7- « س » : + عليه السلام.
8- « د » : وهي.
9- « س » : - و.

حيال ذاتها ، اللّهمّ إلاّ لمعاضدة أو شهرة في الرواية ونحو ذلك ممّا هو خارج عمّا نحن بصدده ، والكلام فيه كالكلام في الكتاب تحقيقا وتنقيحا.

وأمّا مخالفة العامّة فلا إشكال في حصول الترجيح بها في الجملة ، بل وبموافقتهم (1) يسقط الآخر عن الحجّية فيما إذا انضمّت قرائن التقيّة إليه.

قال شيخ الطائفة في العدّة (2) : إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما عن قول العامّة وترك العمل بما يوافقهم.

واعترضه المحقّق في المعارج بأنّ الظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية (3) رويت عن الصادق عليه السلام وهو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد ، ولا يخفى عليك ما فيه مع أنّه قد طعن فيه (4) فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره.

فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلاّ الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقية فوجب (5) الرجوع إلى ما لا يحتمل.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلاّ الفتوى ؛ لأنّه (6) كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل مراعاة لمصلحة يعلمها الإمام وإن كنّا لا نعلمها.

فإن قال : ذلك يسدّ باب العمل بالحديث.

ص: 613


1- « ج ، د » : لموافقتهم.
2- العدّة 1 : 147.
3- « ج ، م ، س » : رواية؟
4- أي في الاحتجاج به. قال المفيد في جوابات أهل الموصل ( رسالة العدد ) ص 47 وعنه في مستدرك الوسائل 17 : 306 : وإنّما المعنى في قولهم عليهم السلام : « خذوا بأبعدهما من قول العامّة » يختصّ ما روي عنهم في مدائح أعداء اللّه والترحّم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان فقالوا عليهم السلام : إذا أتاكم عنّا حديثان مختلفان أحدهما في قول المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه السلام والآخر في التبرّي منهم ، فخذوا بأبعدهما من قول العامّة ؛ لأنّ التقيّة تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامّة بما يذهبون إليه من أئمّتهم.
5- المثبت من « م » وهو موافق للمصدر وفي سائر النسخ : يوجب.
6- « ج ، س » : ولأنّه.

قلنا : إنّما (1) يصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا ، فلم يلزم سدّ باب العلم (2) ، انتهى.

وضعّفه في المعالم أوّلا بأنّ ردّ الاستدلال بالخبر بأنّه إثبات لمسألة علمية بخبر واحد ، ليس بجيّد إذ لا مانع من إثبات مثله بالخبر المعتبر من الآحاد ، ونحن نطالبه بدليل منعه (3). إلاّ أنّه رحمه اللّه بناء على ما سلكه في الأخبار إنّما منع من صحّة الخبر في المقام ، وليس بجيّد ؛ لأنّ الأخبار في هذا المعنى فوق حدّ الاستفاضة ، بل وكاد تبلغ حدّ التواتر.

وثانيا بأنّ الإفتاء بما يحتمل التأويل وإن كان محتملا إلاّ أنّ احتمال التقيّة على ما هو المعلوم من أحوال الأئمّة عليهم السلام أقرب وأظهر ، وذلك كاف في الترجيح ، فكلام الشيخ عندي هو الحقّ (4) ، انتهى.

وهو كذلك ، والسرّ فيه : أنّ بناء العرف واللغة على الأخذ بالأصول المعمولة في الألفاظ من الأمور المشخّصة (5) لنفس الإرادة وتعيين ما هو المراد منها ما لم يظهر دلالة يمكن التعويل عليه في صرف تلك الأمور ، والإنصاف أنّ الاعتماد على أصالة عدم التقيّة في أمثال المقام ربّما لا يساعده المقام ، فيدور الأمر بين الأخذ بتلك الأصالة دفعا لاحتمال التقيّة وبين الأخذ بأصالة عدم القرينة وأصالة الحقيقة دفعا لاحتمال التأويل من غير جهة التقية ، ولا ريب أنّ الثاني في كلماتهم أغلب فالأخذ به أقرب كما أفاده محقّق المعالم ، نعم قد يمكن أن يكون المقام بواسطة احتفاف القرائن والشواهد الدالّة

ص: 614


1- « ج ، س » : « ربّما ».
2- معارج الأصول : 225 - 226 وقارن بما تقدّم في ص 589.
3- ثمّ قال صاحب المعالم : « نعم هذا الخبر الذي أشار إليه لم يثبت صحّته فلا ينهض حجّة » وما ذكره في المتن من قوله : « إلاّ أنّه رحمه اللّه » إلى قوله : « حدّ التواتر » اعتراض منه على صاحب المعالم.
4- المعالم : 255 - 256.
5- « س » : المستحقّة.

على عدم التقيّة مردّدا بينهما ، وقد يزيد ذلك فيرجّح كما لا يخفى.

وبالجملة : فلا ينبغي إنكار كفاية المخالفة في مقام الترجيح على أحد الوجوه التي مرّ (1) إليها الإشارة من الأخذ بالمخالفة تعبّدا ، أو من جهة أنّ الموافق لا يحتمل إلاّ الفتوى ، أو من جهة أنّ الواقع في خلاف مقالتهم ، أو من جهة أنّ في خلافهم حسنا ومصلحة تزيد على مصلحة الواقع وإن لم تدرك نظير جلوس النبيّ حين ما سمع قيام اليهود عند دفن الأموات إبداء لمخالفتهم وإرغاما لأنفهم (2) ، فقاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.

ثمّ إنّ بعض الأخبار يشتمل على الأخذ بما خالفهم وهو ظاهر في المخالفة القولية ، وبعض الآخر يشمل على الأخذ بما يخالف أخبارهم ، فمن الأوّل ما قد سمعت مرارا ، ومن الثاني ما قد رواه الصدوق عن الرضا عليه السلام : « فانظروا إلى ما وافق أخبارهم فدعوه » (3) وما رواه القطب الراوندي عن الصادق عليه السلام : « فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه » (4) والظاهر أنّ المآل في ذلك إلى أمر واحد كما يكشف عن ذلك اجتماعهما في رواية الصدوق عن محمّد بن موسى بن المتوكّل عن [ عليّ بن الحسين ] السعدآبادي عن أحمد بن أبي عبد اللّه [ البرقي ] عن أبيه عن محمّد بن عبد اللّه (5) قال : قلت للرضا : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : « إذا ورد عليكم خبران مختلفان

ص: 615


1- مرّ في ص 589 - 592.
2- الخلاف 1 : 719 ، مسألة 534 ؛ البحار 79 : 25 ، باب 12.
3- هذه الرواية قطعة من الرواية الآتية بعد سطور.
4- مختصر رسالة القطب الراوندي المطبوع في ميراث حديث شيعة 5 : 272 - 273 ؛ وعنها في الفوائد المدنية : 381 وفي ط الحجري : ص 187 ؛ الوسائل 27 : 118 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي. ونقل عنها بالواسطة في البحار ٢ : ٢٣٥ ، باب ٢٩ ، ح ٢٠. وسيأتي بتمامه في ص ٦٢١.
5- في مختصر الرسالة وفي الفوائد المدنية : عبيد اللّه.

فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة ، فخذوه وانظروا إلى ما وافق (1) أخبارهم فدعوه » (2).

ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا ينبغي الارتياب فيه وإنّما الإشكال في تعيين ما هو المقصود من المخالفة في هذه الأخبار الكثيرة ، فإنّ الأخذ بظاهرها يوجب اختصاص هذه الأخبار بموارد قليلة لا يكاد يلتزم به الخبير في مثل هذه الروايات ، فإنّ مخالفة جميع العامّة كما هو الظاهر من الروايات لا يوجد إلاّ أقلّ قليل من الأحكام وهي تعدّ في (3) ضروريات المذهب في الغالب ، بل الأغلب (4) ، نعم قد يتّفق ذلك في غاية الندرة كما في روايات طهارة البئر مثلا.

وعلى تقدير التأويل (5) فيها بأنّ المراد مخالفة البعض فهل المدار على مخالفة أيّ الفرق منهم؟ فإنّهم مع اجتماعهم على أمر باطل متفرّقين (6) على وجوه شتّى ومذاهب لا تنتهي.

والأظهر في النظر أنّ هذه الأخبار إنّما وردت أنموذجا لما هو اللائق أن يؤخذ به ودستورا لما هو الحقيق لأن يعمل به ، وليس المراد بها تشخيص موارد المخالفة فإنّها مختلفة جدّا لا تكاد تنضبط ، فإنّ المقتضي للتقيّة تارة : يوجد في المتكلّم ، وأخرى : في المخاطب بحسب بلديهما أو بلد آخر ، أو السامع ، أو (7) الحاكم في ذلك الزمان أو زمان آخر ، والفقيه يستشعر (8) بذلك في موارده ، فإنّ ذلك محال على أنظار أرباب النظر وأصحاب البصر.

ص: 616


1- في المصادر : يوافق.
2- مختصر رسالة قطب الراوندي المطبوع في ميراث حديث شيعة 5 : 274 - 275 ؛ وعنها الفوائد المدنية : 382 وفي ط الحجري : ص 187 ؛ الوسائل 27 : 119 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 34. ونقل عنها بالواسطة في البحار ٢ : ٢٣٥ ، باب ٢٩ ، ح ١٩.
3- « د » : - في.
4- « د » : في الأغلب.
5- « ج » : + منع هنا.
6- « ج ، د » : مفترقين.
7- « د » : و. « س » : إذ.
8- « س » : يشعر.

وهل يلزم في التقيّة وجود قول من العامّة على طبق ما يحتمل التقيّة ، أو لا؟ وجهان :

قال المحدّث البحراني في مقدّمات الحدائق : المقدّمة الأولى : غير خفيّ على ذوي العقول من أهل الإيمان وطالبي الحقّ من ذوي الأذهان ما أصاب بهذا الدين (1) من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيّد المرسلين وغصب الخلافة من وصيّه سيّد الوصيين (2) ، وتواثب أولئك الكفرة عليه وتزايد الأمر شدّة بعد موته صلوات اللّه عليه وما بلغ به (3) حال الأئمّة عليهم السلام من الجلوس في زوايا التقيّة والاصطبار (4) على كلّ محنة وبليّة ، وحثّ الشيعة على استشعار شعار التقيّة والتديّن بما عليه تلك الفرقة الأموية الغويّة حتّى كوّرت شمس الدين النيّرة وخسفت كواكب (5) المقمرة ، فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلاّ القليل ؛ لامتزاج أخبارنا (6) بأخبار التقيّة كما اعترف بذلك ثقة الإسلام وعلم الأعلام محمّد بن يعقوب الكليني نوّر اللّه مرقده في جامع (7) الكافى حتّى أنّه قدس سره تخطّأ العلم برجحان الرواية (8) عند تعارض الأخبار والتجأ إلى مجرّد الردّ والتسليم للأئمّة الأبرار ، فصاروا صلوات اللّه عليهم محافظة على أنفسهم وشيعتهم يخالفون بيّن الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنعام ، فتراهم يجيبون في مسألة واحدة أجوبة (9) متعدّدة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين كما هو ظاهر لمن تتبّع قصصهم وأخبارهم واحتدى (10) سيرهم (11) وآثارهم ، وحيث إنّ أصحابنا رضوان اللّه عليهم خصّوا الحمل على

ص: 617


1- في المصدر : ما بلي به هذا الدين.
2- « س » : الأوصياء. « ج » : من وصيّ سيّد المرسلين. وفي المصدر : من وصيّة أمير المؤمنين.
3- في المصدر : إليه.
4- في المصدر : زاوية ... والإغضاء.
5- في المصدر : كواكبه.
6- في المصدر : أخباره.
7- في المصدر : جامعه.
8- في المصدر : تخطّأ العمل بالترجيحات المرويّة.
9- في المصدر : في المسألة الواحدة بأجوبة.
10- في المصدر : وتحدّى.
11- « ج » : بسيرهم.

التقيّة بوجود قائل من العامّة وهو خلاف ما أدّى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم رأينا أن نبسط الكلام بذكر جملة من الأخبار الدالّة على ذلك لئلاّ يرمينا (1) الناظر إلى مخالفة الأصحاب [ من غير دليل ] وينسبنا إلى الضلال والتضليل.

ثمّ أخذ بذكر الأخبار المشعرة بذلك ناقلا ما ذكره من المحدّث الأمين أيضا وذكر في عدادها ما رواه في الكافى في الموثّق عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاءه رجل آخر (2) فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء (3) رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله [ رجلان ] من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كلّ واحد [ منهما ] بغير ما أجبت به صاحبه؟! فقال : « يا زرارة إنّ هذا خير لنا [ وأبقى لنا ولكم ] فلو (4) اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم » ثمّ قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا [ وهم يخرجون من عندكم مختلفين ] قال : فأجابني بمثل جواب أبيه (5).

قال في الحدائق - بعد توجيه دلالة الرواية على ما هو مطلوبه وذكر طرف من الأمور - : ولعلّك بمعرفة (6) ذلك تعلم أنّ الترجيح بين الأخبار [ بالتقيّة ] بعد العرض على الكتاب العزيز من أقوى المرجّحات ، فإنّ جلّ الاختلاف الواقع في أخبارنا ، بل كلّه عند التأمّل والتحقيق ناش (7) عن التقيّة (8) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه ، وهو كما

ص: 618


1- « س » : يريبنا. وفي المصدر : يحملنا الناظر على.
2- لم ترد كلمتي « فيها » و « آخر » في مصادر الحديث.
3- المثبت من « د » وهو موافق للمصادر ، وفي « س ، ج ، م » : جاءه.
4- في المصادر : ولو.
5- الكافى 1 : 65 ، باب اختلاف الحديث ، ح 5 ؛ ورواه الصدوق في العلل : 395 ، باب 131 ، ح 16 ؛ وعنه في البحار 2 : 236 ، باب 29 ، ح 24.
6- في المصدر : بمعونة.
7- في المصدر : نشأ.
8- الحدائق الناضرة 1 : 4 - 6 و 8.

ترى صريح في أنّ الحمل على التقيّة لا يستلزم وجود قول من العامّة على طبقه.

واعترضه الوحيد البهبهاني في فوائده بوجوه : منها : أنّ الحكم إذا لم يكن موافقا لمذهب العامّة يكون رشدا وصوابا ؛ لأنّ الرشد في خلافهم إذا المراد هو الرشد الواقعي مع قطع النظر عن وقوع الفعل من جهة التقيّة ، وإلاّ فهذه الجهة قد تعرض (1) لمذهب من مذاهب العامّة فيصير رشدا.

ومنها : أنّ ذلك لا يصلح وجها للتقيّة ؛ لأنّ القول بخلاف ما ذهب إليه العامّة ولو واحدا أدخل في وقوع الأذى منهم على الشيعة فإنّهم كانوا يتّهمونهم بأمور جزئية فكيف بالقول بما هو خلاف الكلّ منهم؟

ومنها : أنّ التقيّة اعتبرت لأجل ترجيح الخبر الذي هو الحقّ على الذي هو ليس بحقّ ورشد على ما يظهر من الأخبار وهذا ينافي ما ذكر قطعا (2).

والتحقيق في المقام : أنّ المحدّث المذكور إنّما قال بذلك روما إلى أنّ وجه الاختلاف بين الأخبار لا ينحصر في التقيّة بالمعنى المعهود بين الأصحاب ، بل يمكن أن يكون التقيّة على هذا الوجه ولم يرد بذلك أنّ التقيّة على هذا الوجه تنهض مرجّحة للخبر ، وإنّما ساق الكلام في ذلك المقام لا في مقام الترجيح ، نعم قد نبّه على ذلك بقوله : « ولعلّك » فلو أراد بذلك الترجيح بمثل هذه التقيّة كما يشعر به قوله : « من أقوى المرجّحات » فيرد عليه : أنّه لا يعقل أن يكون هذه التقيّة من المرجّحات ، كيف والخبران متساويان في هذا الاحتمال؟ كما اعترضه المحقّق البهبهاني ، إلاّ أنّ الظاهر منه في تضاعيف كلماته في الموارد الفقهية عدم الاعتداد بمثل هذه التقيّة في مقام الترجيح ، فالإنصاف أنّ مقصوده ما عرفت من إبداء وجه الاختلاف بين الأخبار ، وإنّما رام بذلك إبطال تقسيم الأخبار عند المتأخّرين من أصحابنا إلى الأقسام الأربعة.

ص: 619


1- في النسخ : يعرض.
2- الفوائد الحائرية ( الفوائد الجديدة ) : 353 - 354 مع تلخيص.

وعلى ذلك فلا يرد عليه شيء من الوجوه المذكورة : أمّا الأوّل : فلاختصاص (1) كون الرشد في خلافهم بصورة التعارض ، وعلى إشكال في ذلك أيضا ؛ إذ الأخذ بعمومه ربّما يخالف الإجماع ، بل الضرورة.

وأمّا الثاني : فلأنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، فلعلّ المقام يقضي بالتقيّة على ذلك الوجه ولا دليل يقضي بامتناعه.

وأمّا الثالث : فلما عرفت من أنّ المقصود بذلك ليس إلاّ بيان وجه الاختلاف كما هو الإنصاف ، فراجعه متدبّرا ، وما ذكره من وجه الاختلاف ليس بذلك البعيد أيضا ، ويكشف عنه - مضافا إلى ما ذكره - رواية الخثعمي قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّا فليكتف بما يعلم منّا ، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك دفاع منّا عنه » (2) ويحتمل أن يكون الأخبار التي يتراءى اختلافها بحسب أنظارنا واقعة على وجه من الوجوه المحتملة في الواقع إلاّ أنّها خفيت (3) علينا لقصورنا عن الإحاطة بجميع وجوه الواقع (4) وأنحاء نفس الأمر ، ويؤيّد ذلك ما قد روي عنهم من النهي عن إنكار ما قد ينسب إليهم عليهم السلام صونا عن وقوعنا في الكفر من حيث لا نشعر ، ومن هنا أفتى بعضهم بحرمة الإنكار عند سماع الخبر والرواية ، ويستعلم ذلك من بعض التعليلات الواردة في الروايات القاصرة عنها عقولنا كقولهم : « ربّ الماء ربّ التراب » (5) وممّا روي (6) أنّ بعض أهل العراق سألهم (7) أنّه كم آية يقرأ في الزوال؟ فقال عليه السلام : « ثمانون » ، ولم يعد السائل سؤاله في توضيحه وانصرف ، فقال الإمام عليه السلام : « وهذا يظنّ أنّه من أهل الإدراك مع أنّه لم يستفسر عمّا قلت له من وجوبه وندبه وسائر كيفياته » ،

ص: 620


1- « س » : فلأنّ اختصاص.
2- الوسائل 27 : 108 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 3 ؛ البحار 2 : 220 و 244 ، باب 29 ، ح 1 و 47.
3- « س » : جعلت.
4- « س » : الترافع.
5- الوسائل 3 : 370 ، باب 14 من أبواب التيمّم ، ح 15 و 17.
6- عطف على « من النهي ... ».
7- سأل عن الصادق عليه السلام.

فقيل له (1) : ما أردت بذلك وما هذه الآيات؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيدان على عشرة وهي ثمان ركعات (2). وما ورد (3) من حكمهم بوجوب الوتر ، ثمّ التفسير بوجوبه على النبيّ ، إلى غير ذلك من الموارد ، وكيف كان فهذه أحد الوجوه المحتملة في الجمع بين الأخبار المختلفة واللّه أعلم.

ثمّ لا يخفى أنّ ظاهر المقبولة المشتملة على هذه المرجّحات تقديم الترجيح بمخالفة الكتاب على موافقة العامّة وهو محمول على ما إذا كان الخبر المخالف للكتاب مباينا (4) ، مثل ما رواه القطب الراوندي عن الصادق عليه السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه (5) ، وإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه » (6).

والوجه في ذلك الحمل أنّ بعد القول بحجّية الأخبار الظنّية فعلى تقدير أن يكون الخبر خاصّا يجوز تخصيص الكتاب به ، فلو فرضنا أنّ أحد الخبرين المتعارضين يكون مخالفا للعامّة مع كونه أخصّ من الكتاب فيترجّح على الآخر وينهض مخصّصا بعموم الكتاب ؛ لأنّ العمل بأصالة الحقيقة في الكتاب إنّما يصحّ فيما لم يوجد ما يصلح لأن يكون قرينة والمفروض وجود ذلك ، وأمّا إذا كان الاختلاف بين الكتاب وبين الخبر المخالف على وجه العموم والخصوص من وجه ، فإن قلنا برجوع التعارض فيهما إلى السند فمن المعلوم لزوم طرح المخالف بعد مقاومته للكتاب حينئذ ، وإن قلنا برجوعه إلى الدلالة فيعاضد الدلالتان ويرتفع بذلك الخبر المخالف أيضا ، فلا وجه

ص: 621


1- فسّره عليه السلام من دون سؤال.
2- الوسائل 6 : 64 ، باب 13 من أبواب القراءة ، ح 3 والحديث منقول بالمعنى.
3- الوسائل 4 : 68 ، باب 16 من أبواب أعداد الفرائض ، ح 6.
4- « د » : متباينا.
5- « س » : فذروه.
6- تقدّم في ص 615.

لتقديم العلاج الكتابي على العلاج بالمخالفة مطلقا ، وإنّما يصحّ ذلك فيما عرفت (1) من المباينة والعموم من وجه ، كما لا وجه لتقديم العلاج بالمخالفة على العلاج بالكتاب مطلقا ، وإنّما يصحّ فيما إذا كان الخبر أخصّ من الكتاب.

ومن المرجّحات المذكورة في المقبولة قوله عليه السلام أخيرا : « ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر » بعد قوله : « فإن وافقهما الخبران » لا يخفى أنّ موافقة الخبرين للعامّة على وجهين : أحدهما : أن يكون بعضهم موافقا لأحد الخبرين وبعض الآخر منهم للآخر وهو الظاهر من السياق ، والثاني : أن يكون كلّ واحد من الخبرين موافقا لجميعهم بأن يكون حكم الواقعة عندهم هو التخيير بين حكمين (2) يستفاد أحدهما من أحدهما والآخر من الآخر.

وقوله : « أميل إليه قضاتهم » أيضا يحتمل بعد ما ذكرنا وجهين : أحدهما : أن يكون المقصود باسم التفضيل ما هو المعهود منه من إفادته كثرة الفعل وشدّته ، وثانيهما : أن يكون المقصود به كثرة المائلين لا شدّة الميل على ضرب من التأويل ، وهذا الوجه يلائم الوجه الأوّل من الموافقة فإنّ كثرة الميل بعد اختلاف المدارك بعيد ، سيّما بعد ملاحظة اختلاف مذاهب القضاة ، فإنّ الكلام فيمن هو المرجع عندهم في الأحكام الشرعية فقضاة مذهب الشافعي - مثلا - لا يتصوّر بعد أخذهم مذهب الشافعي كثرة ميلهم إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة ، فلا بدّ من الحمل على كثرة المائلين ، نعم يصحّ ذلك على الوجه الثاني ؛ إذ بعد ما هو المفروض من أنّ حكم الواقعة عندهم التخيير فيمكن كثرة ميل قضاتهم إلى طرف من أطراف التخيير ، و (3) هذا وإن كان مناسبا لظاهر لفظ العامّة فإنّه ظاهر في الجميع وملائما (4) لاسم التفضيل إلاّ أنّه بعيد عن السياق كما عرفت ، كذا أفيد.

ص: 622


1- « م » : عرفت فيه.
2- المثبت من « س » ، وفي سائر النسخ : احتمالين.
3- « د ، س » : - و.
4- « س » : ملائم.

قلت : ويحتمل أن يكون المراد بالموافقة هو موافقة البعض ، ومع ذلك فلا ينافي كثرة ميلهم إلى طرف ؛ إذ ليس بناؤهم على إصابة الواقع على ما هو عليه ، نعم لو فرض انحصار المطلوب في إصابة الواقع فبعد اختلاف المدارك لا وجه لكثرة الميل ، وأمّا بعد ما هو المعهود منهم من التخلّف عن العترة الطاهرة والأخذ بمشتهيات نفوسهم القاصرة فلا استبعاد في كثرة الميل إلى طرف من أطراف المسألة الخلافية كما هو ديدنهم في الحال.

فيكون محصّل المراد على هذا الوجه : إذا وافق الخبران العامّة بأن يكون أحدهما موافقا لبعضهم والآخر لبعض آخر فينظر إلى (1) كثرة ميل أكابر قضاتهم وسلاطينهم إلى أحدهما فيترك ويؤخذ بالآخر ، ولا حزازة في ذلك إلاّ بواسطة تقدير مضاف للقضاة ، ولا بأس به بعد مساعدة السياق عليه وذلك يستقيم وجها للأخذ بالآخر ، فيكون الرواية الشريفة إشارة إلى اغتشاش أمورهم في الفتوى والقضاء ونحو ذلك ، وكم من إشارة مثلها في أخبار أهل البيت ، عليهم من الصلاة أفضلها ومن السلام أزكاه وأنماه.

ثمّ إنّ الترجيح بهذا المرجّح ممّا لا ينبغي الارتياب فيه فإنّه على منار من الوضوح ، والذي ينبغي أن ينظر فيه هو أنّه لو فرضنا تعارض الترجيح الصدوري لترجيح جهة الصدور فهل المقدّم في العمل أيّهما؟ مثلا لو دار الأمر بين روايتين ، إحداهما مخالفة للعامّة ، والأخرى راويها أعدل (2) ، فهل يجب الأخذ بالمخالفة ، أو يجب الأخذ بالأعدلية؟ ظاهر المقبولة والمرفوعة المتقدّمين هو الأوّل ؛ لاعتبار الترجيح بالأعدلية فيهما مقدّما على الترجيح بالمخالفة ، إلاّ أنّ قضيّة القاعدة هو الثاني ؛ لدوران الأمر بين ارتفاع اليد عن عموم الدليل الدالّ على الحجّية بواسطة الأخذ بالترجيح الصدوري إذ يستلزم ذلك خروج الآخر عن عموم الدليل ، وبين ارتفاع اليد عن أصالة عدم التقيّة ، ولا ريب أنّ الثاني أهون فإنّ العمل بتلك الأصالة وإن كان بواسطة الدليل الدالّ عليها إلاّ أنّ التصرّف فيها لا يوجب التصرّف في أمر لفظي ، فالأخذ بمرجّح جهة الصدور

ص: 623


1- « ج » : إلى ما هو.
2- « س » : الأعدل.

أولى ، ويحتمل القول بعدم الفرق ؛ إذ الأخذ بمرجّح الصدور لا يفيد في الأخذ بعموم الدليل ؛ إذ المفروض كونه متروك العمل بعد حمله على التقيّة ، وليس بسديد كما لا يخفى.

قلت : ويحتمل أن يقال : إنّ الأخذ بمرجّح الصدور أيضا لا يستلزم التصرّف في دليل الحجّية فإنّ الحجّية في مقام النوع لا تنافي (1) عدم اعتبار فرد منه في مقابل الفرد المقارن للمرجّح ، بل عنوان الترجيح قاض بذلك أيضا ، سيّما على ما قدّمنا من أنّ القاعدة تقضي بالتخيير بين الخبرين عند فقد الترجيح بينهما فإنّ ذلك بمنزلة تزاحم الحقوق ، ولا ريب في أنّ حصول الترجيح لأحد الواجبين لا يوجب التصرّف في دليل الوجوب كما نبّهناك عليه ، فتدبّر ، وجه التدبّر أنّ (2) التصرّف في الدليل لازم بوجه من الوجوه ولو بواسطة التقييد بالإمكان على ما ستعرف.

وفي المقام أخبار تدلّ على تقديم المرجّح المعمول في جهة الصدور على مرجّح الصدور ، والظاهر أنّ عملهم أيضا على ذلك كما يظهر بالتتبّع في مطاوي كلماتهم.

فمنها : ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن سماعة بن مهران قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام قلت : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالعمل (3) والآخر ينهانا عن العمل (4)؟ قال : « لا تعمل بواحد منهما حتّى تأتي (5) صاحبك فتسأله عنه » قال : قلت : لا بدّ أن يعمل (6) بأحدهما ، قال : « اعمل (7) بما فيه خلاف العامّة » (8).

ومنها : ما رواه الصدوق رحمه اللّه بإسناده عن يونس بن عبد الرحمن عن حسين بن السري قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف

ص: 624


1- المثبت من « ج » وفي سائر النسخ : لا ينافي.
2- « د » : « إذ » بدل : « وجه التدبّر أنّ » ومن قوله : « وجه التدبّر » إلى « ستعرف » لم يرد في « ج ». وورد في هامش « م » ولعلّه الأنسب.
3- في المصدر : يأمرنا بالأخذ به.
4- في المصدر : عنه.
5- في المصدر : تلقى.
6- في المصدر : نعمل.
7- في المصدر : خذ.
8- الاحتجاج 2 : 357 ، عنه في الوسائل 27 : 122 ، باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، ح 42.

القوم » (1) وما رواه أيضا بإسناده إلى ابن فضّال عن الحسن بن الجهم قال : قلت للعبد الصالح : هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلاّ التسليم [ لكم ] ، فقال : « لا واللّه [ لا يسعكم ] إلاّ التسليم لنا » قلت : فيروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام شيء ويروى عنه خلافه فبأيّهما نأخذ؟ قال : « خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه » (2) والتقريب في ذلك ظاهر حيث إنّهم عليهم السلام أمروا بالأخذ بما خالف العامّة من غير تقديم شيء على ذلك ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في المرجّحات المنصوصة في المقبولة والمرفوعة ، وأمّا ما اشتمل عليه الأخبار الأخر فأمران :

أحدهما : الأخذ بالأحدث ويدلّ عليه أخبار : منها : رواية حسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام فقال : « أرأيتك لو حدّثتك بحديث العامّ ، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ » قال : لكنت آخذ بالأخير ، فقال : « رحمك اللّه » (3).

ومنها : ما رواه معلّى بن خنيس قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إذا جاء حديث من (4) أوّلكم وحديث من آخركم فبأيّهما نأخذ؟ فقال : « خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله » (5).

ومنها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ، ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلافه ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ » قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، فقال : « قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى (6) اللّه إلاّ أن يعبد

ص: 625


1- الوسائل 27 : 118 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 30 ، عن رسالة الراوندي.
2- الوسائل 27 : 118 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 31 ، عن رسالة الراوندي.
3- الوسائل 27 : 109 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 7.
4- في المصدر : « عن » ، وكذا في المورد الآتي.
5- الوسائل 27 : 109 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 8.
6- في النسخ : وأبى.

سرّا » (1).

والحقّ في المقام أن يقال : إنّ الأخذ بالأحدث في يومنا هذا يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون من باب التعبّد الشرعي ، وهذه الأخبار لا تنهض بإثباته فإنّ الظاهر منها أنّ الأخذ بالأحدث إنّما هو بواسطة احتمال التقيّة في الأوّل وإلاّ فما الوجه في سؤال المعصوم عليه السلام عن الراوي : « بأيّهما كنت تأخذ؟ » فإنّه في مقام بيان الحكم التعبّدي لا بدّ من أن يظهر الحكم بنفسه كما هو ظاهر ويرشدك إليه قوله : « أبى اللّه إلاّ أن يعبد سرّا ».

وثانيها : أن يكون الأخذ بالثاني من باب احتمال التقيّة في الأوّل وهو أيضا لا يخلو من وجهين : أحدهما : أن يكون صدور الحكم ثانيا منهم قرينة واقعية على أنّ الأوّل صادر تقيّة ، والثاني : أن يكون قرينة تعبّدية على أنّ الأوّل صادر تقيّة ، والأوّل ليس مطّردا ؛ إذ قد يكون آثار التقيّة لائحة من الثاني كما لا يخفى على من تتبّع ، والثاني خلاف الظاهر من الرواية.

وثالثها : أن يكون الثاني ناسخا للأوّل وذلك لا يتمّ في الأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام ولا بأس بالتزامه في الأخبار النبوية.

والحاصل : فهذه الأخبار على إطلاقها ليست معمولا بها عند أصحابنا ؛ للإرسال في بعضها وضعف بعض رواة (2) الآخر كإسماعيل وأبي عمرو ، فلا يصلح وجها لعدم الأخذ بإطلاق أخبار التخيير كما لا يخفى.

الثاني : الاحتياط على ما نطق به المرفوعة وبعد ما عرفت من طعن بعض الأخبارية (3) في الكتاب الذي اشتمل عليها لا وجه للتعرّض لذلك فاللّه الموفّق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 626


1- الوسائل 27 : 112 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 17.
2- « د » : رواة بعض.
3- وهو صاحب الحدائق كما تقدّم في ص 582.

هداية [ في المرجّحات غير المنصوصة المضمونية ]

بعد ما عرفت تفصيل القول في المرجّحات المنصوصة فلا بدّ من الإشارة إلى بعض المرجّحات التي ذكرها القوم وهي أمور :

منها : الترجيح بموافقة الأصل ومخالفته ، والموافق يسمّى مقرّرا والمخالف ناقلا ، واختلفت (1) كلماتهم في ذلك ، فعن العلاّمة وأكثر العامّة (2) اختيار الناقل ، وذهب شيخ الطائفة (3) إلى اختيار المقرّر ، وتوقّف في ذلك قوم ، وصار إلى التخيير آخرون ، وعن المحقّق في المعارج (4) اختيار التخيير في أخبار الأئمّة عليهم السلام والأخذ بالأحدث في أخبار الرسول صلى اللّه عليه وآله على تفصيل في ذلك ستطّلع عليه (5) ، وكأنّه ليس منطبقا على هذا العنوان وإنّما هو قول في المسألة المتقدّمة كما لا يخفى.

وينبغي أن يكون المراد بالأصل في هذا المقام هي الأصول العملية كالبراءة والاستصحاب لا القواعد الكلّية مثل قاعدة نفي العسر والحرج ونفي الضرر والضرار (6) ونحوهما فإنّ ذلك خارج عمّا نحن بصدده ؛ لرجوع الترجيح في ذلك إلى الترجيح

ص: 627


1- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : اختلف.
2- مبادئ الوصول : 237 ؛ تهذيب الوصول : 279 ، وعن العلاّمة وأكثر العامّة في المعالم : 253.
3- العدّة 1 : 152 ، وفيه ذهب إلى التوقّف أو التخيير ، ونسب أيضا ذلك - أي اختيار المقرّر - إلى الشيخ في المعالم : 253.
4- معارج الأصول : 225.
5- ستطّلع عليه في ص 631.
6- « س » : - والضرار.

بالعامّ للخاصّ.

كما أنّه ليس المراد بالأصل التخيير فإنّ موافقة أحد الخبرين للتخيير غير معقول ؛ إذ التخيير مورده فيما إذا تعارض الخبران أو الاحتمالان مع عدم المرجّح لأحدهما ، فعلى الأوّل ظاهر فساده ، وعلى الثاني فلأنّ كلاّ من الخبرين موافق لأحد احتمالي الواقعة.

اللّهمّ إلاّ أن يكون مفاد أحد الخبرين هو التخيير ويكون مفاد الآخر هو أحد الاحتمالين ، وذلك أيضا فاسد ؛ لأنّ ورود الرواية على وجه يكون مفادها التخيير بين الفعل والترك في غير ما يكون مفادها إباحة (1) غير معقول ، وعلى تقدير ذلك لا يكون أحد الخبرين حينئذ موافقا لأصالة التخيير ؛ إذ المقصود من الموافقة هو أنّ الأصل على وجه لو فرض ارتفاع الدليلين بالتساقط - مثلا - صحّ الرجوع إلى الأصل الموافق ، وفي المقام ليس كذلك ؛ إذ بعد فرض التساقط في ذلك المورد يدور الأمر بين التخيير والتعيين ، والأصل فيه ليس التخيير ، بل الاشتغال أو البراءة من التعيين.

وأمّا الاشتغال فليس المراد بالأصل في المقام هو أيضا ؛ إذ المراد به إمّا الاحتياط اللازم ، أو غيره ، والثاني لا يجدي (2) في مقام الترجيح ، والأوّل غير معقول أن يكون مرجّحا ؛ لأنّ موارد وجوب الاحتياط فيما إذا ثبت التكليف الإجمالي ودار الأمر بين أمور محصورة في تعيين المكلّف به ، كما في دوران الأمر بين الظهر والجمعة والصلاة بالجهات الأربع والاجتناب عن الإناءين - مثلا - كما مرّ وجوه ذلك في موارده مفصّلا فأحد الخبرين لو دلّ على وجوب الظهر بخصوصه لم يكن موافقا للاحتياط (3) ، كما إذا دلّ الدليل على وجوب الصلاة بجهة خاصّة ، ولو دلّ على وجوب الجمع بين المحتملين لم يكن ذلك من موافقة الخبر للاحتياط ؛ إذ مدلول الخبر حينئذ هو الاحتياط ، ألا

ص: 628


1- « د » : الإباحة.
2- « س » : فلا يجدي.
3- من هنا إلى قوله « إذ مدلول الخبر » سقط من نسخة « ج ».

ترى أنّ واحدا من القوم لم يذهب إلى ترجيح أخبار الاحتياط على القول بتحقّق المعارضة بينها وبين أخبار البراءة أنّ (1) الترجيح لأخبار الاحتياط لموافقتها للاحتياط وذلك أمر ظاهر لا يكاد يخفى.

ومن هنا ينقدح لك أنّ الترجيح بالأصل على تقديره إنّما هو ترجيح مدلولي ولا مدخل للسند فيه ، نعم على القول باعتبار الأصل ظنّا يزيد على ذلك شيء وهو كشفه عن مطابقة مضمون الموافق للواقع ، بخلاف ما إذا قيل به تعبّدا فإنّ المطابقة اللازمة على هذا التقدير عملية صرفة ، ولذلك قلنا بأنّه ترجيح مدلولي صرف ، فتدبّر.

وإذ قد تحقّقت ذلك فاعلم أنّه احتجّ القائل بتقديم الناقل بأنّه يستفاد منه ما لا يستفاد إلاّ منه ، والموافق حكمه معلوم بالعقل فلا يحتاج حكمه إلى البيان ، ولمّا كان وظيفة الشارع بيان أمور غير معلومة كان اعتبار الناقل أولى.

وهذه الحجّة ظاهرة الضعف وبيّنة الفساد وسبيل المنع إلى مقدّمتيها واضح ؛ إذ لا نسلّم الأولوية أوّلا ولا غضاضة فإنّ وظيفة الشارع بيان ما يحتاج إليه العباد على أيّ وجه يكون ، وهل ترى أنّ الإمام عليه السلام أحال أمرا من الأمور في حكم من الأحكام إلى (2) أصل من الأصول؟ كلاّ ثمّ كلاّ فإنّ الأصل إنّما هو علاج لمرض الشكّ في الواقع عند عدم إمكان الوصول إليه ومن هو في الواقع يستتبع الواقع كيف يوكل السائل عن الواقع إلى ما هو علاج للشكّ فيه؟! وذلك ظاهر ، وعلى تقدير التسليم لا دليل على جواز الاتّكال بمثل هذه الظنون العقلية التي منشؤها استحسان عقلي في مقام الترجيح ولا ينافي ذلك ما تقدّم من عموم حجّية الظنّ في مقام الترجيح ؛ إذ لم يكن التعويل هناك إلاّ على العمل والإجماع ، وانتفاؤها في المقام معلوم.

واحتجّ أيضا القائل بتقديم الناقل بأنّ العمل به يقتضي تقليل النسخ ؛ لأنّه يزيل

ص: 629


1- كذا. والصواب : « وأن » أو « بأنّ ».
2- « م » : على.

حكم العقل فقط ، بخلاف المقرّر فإنّه يوجب تكثيره (1) ؛ لإزالته حكم الناقل بعد إزالة الناقل حكم الأصل المستفاد بالعقل.

أقول : وهذه الحجّة مبنيّة (2) على مقدّمتين : إحداهما : أنّ الأخذ بأحدث الخبرين لازم ، والثانية : أنّ الأحدث ينبغي أن يكون الناقل ؛ إذ لو كان المقرّر هو الأحدث يلزم ارتفاع حكم الناقل به وارتفاع حكم الأصل بالناقل ، فالنسخ اللازم على تقدير الأخذ بالمقرّر أكثر من النسخ اللازم على تقدير الأخذ بالناقل ؛ لأنّ ورود المقرّر ليس نسخا للأصل ، بل هو مقرّر له و (3) مؤكّد له.

وفسادها ظاهر أمّا أوّلا : فلأنّ رفع الحكم الثابت بالأصل لا يعدّ من النسخ في شيء ، اللّهمّ إلاّ أن يراد منه مطلق الإزالة وهو مع كونه خلاف مصطلحهم لا يلائم قول المحقّق كما ستعرفه (4).

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأخذ بالأحدث قد عرفت (5) القول فيه على وجه يغني عن إعادة (6) الكلام في المقام.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الاعتماد على هذه الاعتبارات الضعيفة ممّا لم يعلم جوازه في مقام الأحكام الشرعية.

واحتجّ القائل بتقديم المقرّر بأنّ حمل الحديث على ما لا يستفاد إلاّ من الشرع أولى من حمله على ما يستقلّ (7) العقل بمعرفته ؛ إذ فائدة التأسيس أقوى من فائدة التأكيد ، وحمل كلام الشارع على الأكثر (8) فائدة أولى ، والحكم بترجيح الناقل يستلزم الحكم بتقديم المقرّر عليه وذلك يقتضي كونه واردا حيث لا حاجة إليه ؛ لأنّ مضمونه معلوم - إذ ذلك بالعقل - فلا يفيد سوى التأكيد وقد علم مرجوحيته ، بخلاف ما إذا رجّحنا

ص: 630


1- « ج ، س » : تكثره.
2- « س » : مبتنية.
3- « س » : « بل » بدل : « و ».
4- ستعرفه في الصفحة الآتية.
5- عرفت في ص 626.
6- المثبت من « س » ، وفي سائر النسخ « إفادة ».
7- « س » : ما لا يستقلّ.
8- « د » : أكثر.

المقرّر فإنّ ترجيحه يقتضي تقديم (1) الناقل عليه ، فيكون كلّ (2) منهما واردا في موضع الحاجة ، أمّا الناقل فظاهر ، وأمّا المقرّر فلوروده بعده فيؤسّس ما رفعه الناقل فيكون هذا أولى.

ولا يخفى أنّ هذه الحجّة متّحدة مناطا مع احتجاج القائل بالناقل ؛ إذ بعد اشتراكهما فيما نبّهنا عليه من المقدّمتين بتفاوت (3) قليل في تشخيص الصغرى استند المستدلّ الأولى إلى تقليل النسخ وتكثيره ، والمستدلّ بالثانية إلى ورود كلّ منهما في مقام الحاجة حملا لكلام الشارع على ما هو الأكثر فائدة ، فما هو المذكور في دفعها ينهض بدفع هذه الحجّة أيضا.

ومن هنا يظهر صحّة ما ذهب إليه المحقّق (4) من التفصيل بين أخبار الأئمّة عليهم السلام فيحكم بالتخيير لانقطاع النسخ في أخبارهم عليهم السلام ، وبين أخبار الرسول صلى اللّه عليه وآله فيحكم بوجوب الأخذ بالأحدث لو علم التاريخان ، سواء كان مطابقا للأصل أو مخالفا ، ويتوقّف عند جهل التاريخ.

والتحقيق في المقام : هو أنّ الترجيح بموافقة الأصل ومخالفة الأصل لا يبتني على القول بلزوم الأخذ بأحدث الروايتين ، ولذلك قلنا (5) بأنّ قول المحقّق لا ينطبق على العنوان وإنّما هو قول في مسألة (6) الأخذ بالأحدث ، وهو حقّ في تلك المسألة كما يظهر ممّا أومأنا إليه فيها من المحتملات (7) وإحقاق الحقّ منها وإبطال ما سواه ، إلاّ أنّ التزام النسخ فيما يحتمل النسخ كأخبار الرسول صلى اللّه عليه وآله أيضا مشروط بما يصحّ معه النسخ كمضيّ زمان العمل - مثلا - لئلاّ يلزم النسخ قبل حضور وقت الفعل ، فتدبّر.

ص: 631


1- « د » : تقدّم.
2- « س » : كلّ واحد.
3- « ج ، د » : يتفاوت.
4- معارج الأصول : 225 ، وتقدّم عنه في ص 627.
5- قاله في ص 627.
6- في النسخ : المسألة.
7- أومأ في ص 626.

وأمّا التحقيق في مسألة ترجيح أحد الخبرين بالأصل وإن قطعنا النظر عن وجوب الأخذ بالأحدث فهو أن يقال : إنّ الأصول العملية بناء على التعويل عليها من باب الظنّ بعدم التكليف في البراءة وببقاء المستصحب في الاستصحاب فلا ينبغي النزاع في الترجيح بالأصول فإنّها حينئذ تفيد تقوية فيما هو ملاك الحجّية ومناط الاعتبار كما في صورة تعدّد الدليل ، وأمّا بناء على القول بها بواسطة القاعدة العقلية والأخبار الواردة فيها من حيث التعبّد بها وإن لم تفد ظنّا كما هو المعروف بين المتأخّرين ، فلا يكاد يعقل الترجيح بالأصل ؛ إذ مفاد كلّ من الأصل والخبر غير مفاد الآخر فإنّ هذا من واد وذاك (1) من آخر ، فلا يحصل تقوية فيما هو المناط في دليلية الرواية ، والترجيح التعبّدي ممّا لا دليل عليه كما هو المفروض ، فلا بدّ من الأخذ بإطلاق أخبار التخيير ، وبذلك يرتفع الشكّ في مورد الأصل فيحكم بالتخيير بين الدليلين وذلك ظاهر.

وقد يتراءى في بادئ النظر تفصيلا وهو أن يقال : إنّ موضوع الأصول قد يكون الشكّ والحيرة ، وقد يكون عدم العلم بالخلاف ، فعلى الأوّل لا وجه للترجيح بالأصل لما عرفت من اختلاف مناطهما ، وعلى الثاني كما ربّما يستظهر من بعض أدلّة الأصول كقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ ) (2) في البراءة ، وقوله عليه السلام : « لا حتّى يستيقن » في الاستصحاب ، وقوله عليه السلام : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (3) في أصالة الطهارة ، فإنّ ظاهر هذه الأدلّة جريان الأصول عند عدم العلم بالخلاف ، وذلك لا ينافي العلم بالوفاق ، فيمكن الترجيح بهذه الأصول ؛ إذ لا مانع من ذلك بعد تحقّق مورد الأصل وجريانه.

وهو كلام ظاهري خال عن التحصيل أمّا أوّلا : فلعدم جريان الأصل في مورد

ص: 632


1- « م » : ذلك.
2- البقرة : 286 ؛ الطلاق : 7.
3- تقدّم في ص 107 مع اختلاف ، فلاحظ.

التعارض على ما ذكر أيضا ؛ إذ لا أقلّ من اعتبار عدم العلم بالخلاف في مجرى الأصل ، وذلك أيضا غير معلوم في محلّ التعارض ؛ لأنّ الخبر المخالف للأصل ما لم يحكم بسقوطه ، فلا يعلم عدم العلم بخلاف الأصل فلا يعلم بتحقّق مورد الأصل ولا يحكم بسقوطه ما لم يعلم بترجيح معارضه عليه ، فيلزم توقّف الجريان عليه ، وهو محال ظاهرا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الوجه في عدم الترجيح على ما عرفت هو عدم حصول التقوية بالأصل لأحد الدليلين ؛ لاختلاف مفادهما من حيث إنّ مفاد الأصل هو حكم الواقعة المشكوكة من حيث إنّها مشكوكة ومفاد الخبر هو الحكم الواقعي لها ، وما ذكر في وجه التفصيل ممّا لا ينهض (1) بدفع هذا الوجه بوجه ، فهو خارج عن قانون التوجيه ؛ إذ اللازم للمفصّل دفع ما جعله النافي وجها للنفي ، فتدبّر.

فالتحقيق في المقام : هو الأخذ بإطلاق أخبار التخيير لا الترجيح بالأصل ، ولا الحكم بالتساقط والرجوع إلى الأصل ، أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلقول الرضا عليه آلاف التحية والثناء فيما رواه الطبرسي في الاحتجاج : « إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (2) وفي المرفوعة : « فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » (3).

ومن محاسن الاتّفاق أنّ الإمام عليه السلام حكم بالتخيير في مورد الأصل ، كما في صحيحة عليّ بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم : « صلّى (4) في المحمل » وروى بعضهم : « لا يصلّيها إلاّ على الأرض » فأعلمني كيف أصنع؟ وأعلمني (5) كيف تصنع أنت لأقتدي بك؟ فوقّع عليه السلام : « موسّع عليك بأيّة

ص: 633


1- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : لا يلتصق.
2- الاحتجاج 2 : 264 / 233 ، وتقدّم عنه في ص 586.
3- تقدّم في ص 582.
4- في المصادر : أن صلّهما.
5- ليس في المصادر قوله : « كيف أصنع وأعلمني ».

عملت » (1).

وفيما رواه في الوسائل فإنّه قال : قال أحمد بن عليّ الطبرسي في الاحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام : يسأله (2) عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ إلى أن قال عليه السلام في الجواب : « إنّ في ذلك حديثين أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى (3) حالة أخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ، ثمّ جلس ، ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » (4) فإنّ مفاد الخبر القائل بجواز الصلاة في المحمل مطابق للأصل وقد حكم الإمام عليه السلام بالتخيير ، كما أنّ الرواية الدالّة على عدم ثبوت التكبير موافقة للأصل وقد (5) أفاد عليه السلام بالتخيير ، اللّهمّ إلاّ أن يكون الخبران واردين في بيان الحكم الواقعي في نفس الواقعة ، وهو كما ترى.

نعم ، في الرواية الأخيرة يمكن أن يستشكل فيها بأنّ سياق الجواب فيها ممّا لا يشاكل كلام الأئمّة عليهم السلام فإنّه ليس شأنهم الاجتهاد و ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (6). ويجاب عنه بأنّهم قد يستعملون هذه الوجوه إراءة لشيعتهم طريق الاجتهاد وسبيل الاستنباط.

وقد يقال أيضا : إنّ النسبة بين ما يدلّ على تكرار التكبير في كلّ انتقال وبين ما دلّ

ص: 634


1- تهذيب الأحكام 3 : 228 ، باب 23 ؛ الوسائل 4 : 330 ، باب 15 من أبواب القبلة ، ح 8 ، و 27 : 122 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 44.
2- في المصدر : يسألني بعض الفقهاء.
3- المثبت من « س » وهو موافق للمصدر ، وفي سائر النسخ : من.
4- الوسائل 6 : 363 ، باب 13 من أبواب السجود ، ح 8 ، و 27 : 121 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 39.
5- « س » : فيه.
6- ص : 27.

على عدم لزومه بعد السجدة الثانية عموم مطلق ، وقضيّة ذلك هو الحمل دون التخيير ، وقد يتعسّف في دفعه بأنّ العامّ لعلّه كان غير قابل للتخصيص ، فتدبّر.

ومنها : الترجيح بموافقة الحظر والإباحة وقد عرفت فيما قدّمنا لك أن لا محصّل لهذا الترجيح ، ومع ذلك فلا يخلو كلماتهم عن تشويش وتناقض أيضا فإنّ اختلافهم في تلك المسألة إلى الأقوال المختلفة وانحصار القول في هذه المسألة مع كونها من جزئيات تلك المسألة ممّا لم نعرف له وجها.

قلت : قد سبق (1) أنّ أقوال تلك المسألة تنطبق على مسألة الأخذ بالأحدث وإنّما راموا بالموافقة (2) والمخالفة تشخيص الصغرى ، كما ينادي بذلك ما عرفت من الأدلّة التي تمسّك بها أصحابها ، وهذه المسألة إنّما يلاحظ فيها مطابقة الرواية للاحتياط كما ورد به المرفوعة ، فلا غائلة في اختلاف الأقوال.

نعم ، قد يشكل (3) المقام بأنّ المشهور - على ما هو المحكيّ - قالوا بتقديم الحظر في المقام ، وهذا ينافي ما هو المعروف من مذهب المجتهدين من الأخذ بالبراءة فيما تعارض فيه النصّان وعدم الأخذ بالاحتياط.

ودفعه أيضا ظاهر ؛ إذ لم يعلم ذهاب المجتهدين من أصحابنا في المقام أيضا إلى الاحتياط ، بل المختار هو التخيير كما هو ظاهر ، فلا تناقض أيضا.

وقد يتمسّك في ذلك بما اشتهر عندهم من أنّ دفع المضرّة أولى من جلب المنفعة وبقوله : « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وقد غلب الحرام الحلال » (4) ، ولا يستقيم شيء منهما ؛ لعدم قطع العقل بالأوّل ، نعم ربّما يستحسنه العقول وليس بذلك البعيد كما أومأنا إليه في مباحث البراءة ، وعدم دلالة الثاني ؛ لظهوره في الشبهات الموضوعية.

ص: 635


1- سبق في ص 631.
2- « س » : لموافقة.
3- « ج » : يستشكل.
4- هذا هو الصواب. وفي النسخ : الحلال الحرام. وتقدّم تخريجه مع تفصيل في بحث البراءة : ج 3، ص 463.

ومنها : كون مفاد أحد الخبرين حكما وضعيا فيرجّح على ما هو مفاده حكم تكليفي ، والمستند في ذلك عدم احتياج الأوّل إلى الفهم بخلاف الثاني ، وقيل : فيرجّح الثاني على الأوّل ؛ لأنّه يترتّب عليه الثواب.

وضعف هذه الوجوه ممّا لا يكاد يخفى على ذي فطنة ؛ إذ قدّمنا في بعض مباحث الاستصحاب ما يغني عن إطالة الكلام في المقام ، وعلى التنزّل فهذه الاعتبارات الضعيفة ممّا لا دليل على اعتبارها ، فإطلاق أخبار التخيير في محلّه وقد ذكروا أمورا ليس شيء منها بشيء.

ثمّ إنّ الترجيح بالمرجّحات هذه ليس كالترجيح بالشهرة ونحوها فإنّها ليست أمارة على الحكم في نفسها كما في الشهرة.

فالمرجّحات المضمونية على قسمين : قسم ما يكون من الأمارات على الأحكام كالشهرة والاستقراء ونحوهما ، وقسم لا يكون كذلك كموافقة الأصل وكون مفاد أحد الخبرين حكما وضعيا وأمثال ذلك ، وقد عرفت الكلام في هذا القسم.

وأمّا القسم الأوّل فلا بدّ من تفصيل الكلام فيه أيضا ، فنقول : إنّ مثل هذه الأمارات تارة : يعلم اعتبارها ، وتارة : يشكّ في ذلك ، وتارة : يعلم عدم اعتبارها : فعلى الأوّل فلا إشكال في حصول الترجيح بها بعد القول بها ؛ إذ كثرة الأدلّة معتبرة في مقام الترجيح ، وعلى الثاني فالقول بالترجيح بها موكول إلى ما قدّمنا من اعتبار مطلق الظنّ في مقام الترجيح وعدمه ، وعلى الثالث كما في القياس وأضرابه من الظنون التي دلّ الدليل على عدم اعتبارها فهل يصحّ (1) التعويل عليها في مقام الترجيح ، أو لا؟ قولان :

قال المحقّق قدّس اللّه نفسه الزكية في المعارج : ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر

ص: 636


1- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : يصلح.

على معارضه ، ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين فلا يمكن (1) العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن أن يعمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلا بدّ من العمل بأحدهما من مرجّح والقياس ممّا يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه. لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة ، لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين على الآخر ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه دافعا (2) للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ويكون العمل به لا بذلك القياس ، وفي ذلك نظر (3) ، انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

والحقّ الحقيق بالتصديق هو أنّ ما ذهب إليه الذاهب ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ولا أن يكون مسرحا لأنظار العلماء ، فإنّ بداهة (4) بطلان التعويل على القياس على أيّ وجه يقاس ممّا لا ينبغي أن يقاس بأجلى الضروريات وأوّل البديهيات في مذهب القائلين بإمامة الأئمّة عليهم أفضل الصلاة والسلام ومع ذلك فحيث إنّ المحقّق مع جلالة قدره وعظم مرتبته قد تصدّى لذكره ، فنحن اقتفاء له بخيل الطرف في هذا الميدان فنقول : يدلّ على فساد ما ذهب إليه الذاهب - أعاذنا اللّه وإخواننا عن أمثال هذه المذاهب الباطلة - أمور :

الأوّل : إجماع الفرقة المحقّة بأجمعهم على ترك التعويل عليه والركون إليه ، وبذلك يشهد كلّ موافق ومخالف ويذعن كلّ منافق ومؤالف وبهذا كانوا معروفين عند خصومهم ويبرءون (5) ممّن زعم ذلك حتّى أنّهم تركوا بعض من ربّما يظهر منه الميل إليه ، وقصّة هجر بعض الكتب المنسوب إلى بعض أصحاب هذا القول معروفة إلى أن صار

ص: 637


1- « م » : ولا يمكن.
2- « ج ، ش » : رافعا.
3- معارج الأصول : 261 - 262.
4- « ج ، د » : بداهته.
5- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : ينزّلون.

الأمر بمرتبة لم يمكن إنكار ذلك عليهم.

والذاهب إن زعم أنّ الترجيح به ليس تعويلا عليه والقدر المعلوم من بطلانه هو ما إذا كان القياس دليلا لأحد طرفي الحكم في الواقعة فبعد أنّ ذلك فاسد في نفسه والمدّعي لذلك لا بدّ له من الرجوع إلى كلمات الأصحاب في المسائل الفقهية كي يتّضح له الحال ويظهر له صدق المقال (1) ، فإنّا بعد ما استقصينا التتبّع في مطاويها واستوفينا التصفّح في تضاعيفها ما وقفنا على مورد اتّكل فيه الأصحاب في مقام الترجيح عليه على وجه يظهر منه إعراضهم عنه ؛ إذ كثيرا ما لا يكون المورد خاليا عن قياس معتبر عند العامل به كما لا يخفى.

يرد (2) عليه : أنّ الترجيح بالقياس يرجع إلى التعويل عليه والأخذ به دليلا أمّا أوّلا : فلظهور أنّ الوجه في تقديم الخبر الموافق للقياس وطرح الآخر هو القياس ، ولا معنى للأخذ بشيء دليلا إلاّ جعله مناطا لحكم على وجه يرتفع به الأصل المحكّم في محلّ ذلك الحكم لولاه ، والأصل في المسألة الأصولية على ما يفيده الأخبار هو التخيير أو التوقّف ، فلو لم يكن القياس دليلا في المسألة الأصولية لم يجز رفع اليد عن الأصل المذكور ، فقوله : بمعنى أنّه ليس بدليل مسلّم ، ونقول : إنّ الترجيح به راجع إلى اعتقاد كونه دليلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحكم في المسألة الفرعية أيضا مستند إليه فإنّ في دفع المعارضات وتوضيح الدلالات وغيرها - ممّا يتوقف تمامية الدليل الشرعي عليه من الأصول وغيرها - مدخلا في الحكم الشرعي الفرعي المستنبط من الدليل ، بل (3) ربّما يكون الحكم في العادة مستندا إلى القياس بتمامه من حيث استناد الحكم المعلول إلى ما هو الأخير من أجزاء علّته التامّة كما يقضي بذلك العرف والعادة ، وهل ذلك إلاّ افتراء

ص: 638


1- « س » : المقام.
2- المثبت من « م » وفي « س ، د » : ويرد وفي « ج » : « فتدبّر » بدل : « ويرد ».
3- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : - بل.

على اللّه؟

وإن زعم أنّ أمر الترجيح ممّا قد يتساهل فيه كما زعمه بعض الأفاضل (1) فيما نبّهنا عليه في بعض مباحث الظنّ (2) ، فيمكن الاعتماد فيه بأمور لا يجوز التعويل عليه في غير مقام الترجيح.

فهو زعم باطل وتوهّم عاطل قد برهنّا على فساده فيما سلف بما لا مزيد عليه.

الثاني : الأخبار المستفيضة (3) ، بل المتواترة القائلة بأنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول ، وأنّه ليس شيء أبعد في (4) دين اللّه من عقول الرجال ، وأنّ في القياس محق الدين وفساد شريعة سيّد المرسلين ، وأنّه ليس على دين الرسول من استعمل القياس فيه ، وأنّ مقاييس الأوهام تقصر عن إدراك المطالب والأحكام.

ولا يكاد يخفى أنّ الأخذ بالقياس في مقام الترجيح استعمال للقياس في الدين ، وليس المذكور في عناوين هذه الروايات لفظ الدليل حتّى يتوهّم الذاهب أنّه ليس بدليل مع أنّك قد عرفت على تقدير ذلك ، فالحقّ أنّ التعويل عليه مرجعه إلى جعله دليلا وإنكاره ربّما يعدّ في إنكار الضروريات.

لا يقال : هذه الأخبار تعارض الأخبار الدالّة على اعتبار مطلق القوّة في الترجيح تعارض العموم والخصوص من وجه ، وعند عدم المرجّح في مادّة التعارض يسقط

ص: 639


1- قال في الفصول : 445 : ويظهر من رواية الحسن بن الجهم المتقدّمة ترجيح المعتضد بالقياس على الحكم الثابت بالكتاب أو الحديث المأثور عنهم عليهم السلام على غيره ، وله وجه ، ولا ينافيه الأخبار الدالّة على عدم حجّية القياس ؛ لأنّ الحجّية غير المعاضدة.
2- انظر ج 3 ، ص 315.
3- الوسائل 27 : 41 ، باب 6 من أبواب صفات القاضي ، ح 10 ، و 29 : 352 ، باب 44 من أبواب ديات الأعضاء ، ح 1 ، و 27 : 45 ، باب 6 من أبواب صفات القاضي ، ح 22 ؛ المستدرك 17 : 262 ، باب 6 من أبواب صفات القاضي ، ح 25 ؛ بحار الأنوار 2 : 303 ، باب 34 ، ح 40.
4- « س » : من.

الاعتبار فيهما معا ، فلا وجه للاستناد بهذه الأخبار الواردة في مقام المنع عن العمل بالقياس.

لأنّا نقول : إنّ دلالة الأخبار على (1) حرمة العمل بالقياس أظهر (2) من دلالة هذه الأخبار على حجّية مطلق القوّة ، ولعلّك تذكّر بعد الرجوع إليها فإنّها إشعارات محضة مستفادة من موارد جمّة لا يصحّ اجتماعها في عنوان لفظي حتّى يؤخذ بلوازمه من ملاحظة النسبة بينه وبين ما يعارضه ، فإنّ ذلك أمر قد استشعرنا به بأنّه بعد إعمال أنواع العنايات والتنويرات.

الثالث : أنّ أصحابنا الإمامية قد أولعوا في تحقيق المباحث التي يتوقّف عليها الاستنباط في الكتب (3) الأصولية كما يشهد بذلك مراجعتها ، ولو لا أنّ من المحظور عندهم الترجيح بالقياس كان الواجب عليهم التعرّض لمباحثه كعلماء الجمهور وتشخيص أقسامه ، وعدم الاعتناء به في مقام الدليلية كما زعمه الذاهب لا يوجب عدم الاعتناء به مطلقا ، فلا يصلح (4) ذلك عذرا في عدم تعرّضهم ، وهذا إجماع آخر منهم على عدم الاعتناء به ، وما عسى يظهر من البعض من الاستناد بوجوه ظنّية في تشخيص الأحكام الشرعية ، كما يلوح من استناد كاشف اللثام (5) في طهارة الماء الموجود في البئر : بأنّ الكرّ الموجود في خارج البئر لا ينجّس بالملاقاة فكيف ينفعل فيها مع اتّصاله بالمادّة ، ونحو ذلك ، فمحمول على إرادة التأييد بمثل هذه الاعتبارات ، وليس مستندهم في الحكم إلاّ ما هو المعتبر شرعا كما هو ظاهر من ديدنهم في غير هذه الموارد (6).

ص: 640


1- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : « أخبار » من دون لفظه « على ».
2- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : - أظهر.
3- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : كتب.
4- « د » : يصحّ.
5- كشف اللثام 1 : 276 - 277.
6- « ج ، د » : هذا المورد. قال الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية : 452 : والفقهاء رحمهم اللّه ربّما يجعلون القياس المفيد للظنّ مؤيّدا مطلقا وإن اتّفقوا على عدم حجّيته وحرمة العمل به لا بأن يكون دليل الحكم ومستنده.

وبالجملة : فالقياس وجوده وتقارنه لأحد الخبرين - لو لم ينقص من عدمه ؛ إذ ربّما يعدّ المخالف للقياس مخالفا لطريقة العامّة - لا يوجب شيئا من الأحكام الشرعية حتّى أنّ الاحتياط في مورده أيضا غير مطلوب ، فلا وجه للأخذ بالخبر الموافق (1) بواسطة قاعدة الاشتغال على تقدير تماميتها ، فإنّ العالم بواقعيات الأشياء قد منع من الاتّكال على الوجوه الظنّية ، كما رواه في العيون عن مولانا الرضا عليه السلام في رواية - بعد الترجيح فيها بموافقة الكتاب والسنة ، ثمّ التخيير - : « وما لم تجدوه في شيء من ذلك الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا » (2).

ويغنينا عن ذلك كلّه ما ورد في ذيل المرفوعة (3) من قوله : « فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » والتقريب ظاهر ؛ إذ ليس المقصود من الوقوف هو الوقوف عند عدم المرجّح في النفس ؛ إذ يستحيل صدور الفعل بدون المرجّح ، بل المراد به عدم الاعتناء بالمرجّحات التي لم ينصّ عليها بالخصوص أو بوجه من الوجوه التي عرفت سبيل الاستنباط فيها من الأدلّة الدالّة عليها كما تقدّم.

فالإنصاف أنّ التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها موقوف على حصول الاطمئنان بعمل الأصحاب فيه ونحوه ، فعليك بإمعان النظر في هذا المقام مراعيا أحسن الأوصاف مجانبا عن الاعتساف ، واللّه الموفّق وهو الهادي سواء السبيل.

ص: 641


1- « ج ، د » : المخالف.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 20 ، باب (30) فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار ، ح 45 ؛ وعنه في الوسائل 27 : 115 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 21 ، و 27 : 165 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 36.
3- كذا. والصواب : المقبولة ، وقد تقدّمت بتمامها في ص3. 578.

ص: 642

هداية [ في بعض آخر من المرجّحات الدلالية ]

قد قدّمنا (1) بعض القول في المرجّحات (2) بحسب الدلالة ولنشر إلى بعض (3) آخر ممّا أمسكنا منه ، فنقول : كما أنّ المرجّحات الصدورية تنقسم إلى داخلية كالأعدلية والشهرة في الرواية ، وخارجية كالشهرة في الفتوى والقياس ونحوهما من الأمارات ومثل أن يكون مفاد الرواية حكما وضعيا من غير الأمارات ، كذلك المرجّحات المعمولة في الدلالة أيضا على قسمين : فتارة : يقع الترجيح بأمور مرتبطة بالدلالة ، وتارة بأمور خارجة عنها غير منوطة بها.

وقبل الخوض فيه ينبغي أن يعلم أنّ ملاحظة (4) الترجيح في الدلالة إنّما هو متأخّر عن ملاحظته في الصدور وجهته ، فلا يفيد التعرّض في الدلالة ، إلاّ بعد فرض المتعارضين معلومي الاعتبار من هاتين الجهتين ، كما في تعارض الكتابين أو المتواترين من الأخبار أو أحدهما بالآخر بعد عدم الأخذ باحتمال التقيّة في المتواترين ، وكما في أخبار الآحاد فيما لا سبيل إلى قدح في السند أو منع في جهة الصدور.

ومن هنا يظهر أنّ أخبار التخيير أيضا ممّا لا مسرح لها في تعارض الدلالة ؛ إذ لا

ص: 643


1- قدّم في ص 555.
2- « ج » : بالمرجّحات.
3- « د » : ولنشرع ببعض ، وفي « م » كتب أوّلا « لنشرع » ثمّ شطب على « ع ».
4- « ج ، د » : - ملاحظة.

وجه لملاحظة الدلالة إلاّ بعد فرض التكافؤ من سائر الجهات مع احتمال وجود الترجيح من هذه الجهة ، والمنساق من أخبار التخيير ليس إلاّ حال عدم ما يصلح للترجيح مطلقا.

وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنّه لا ريب في اعتبار المرجّحات الداخلية المعمولة في الدلالة ممّا يعتبرها أهل اللسان في كشف المراد من الأمور المكتنفة بالألفاظ ، والأغلب رجوعها إلى الغلبة ، والمعتبرة منها ما كانت بحيث يصحّ التعويل عليها عرفا في التفهيم عند التخاطب ، فلا عبرة بالحادثة بعد الاستعمال ولا بما لا يعلم تعويل المتكلّم عليها ؛ لعدم العلم بتحقّقها حال الاستعمال.

وتوضيح ذلك : أنّه تارة : يعلم بتحقّق الغلبة على وجه يصحّ الاتّكال عليها في مقام التفهيم والتفهّم ، كما في غلبة التخصيص على سائر أنواع المجاز فإنّها غلبة واقعية قابلة لأن يعتمد عليها المتكلّم بكلامين يحتمل أحدهما التخصيص ، والآخر مجازا آخر ، في تقديم التخصيص في أحدهما على المجاز في الآخر (1) ، وتارة : تحصل (2) الغلبة بعد الاستعمال على وجه يكون الاستعمال المقترنة (3) بالقرينة موجبة لحدوث الغلبة ، ففي تلك الاستعمالات لا وجه للتعويل على الغلبة ؛ إذ بها تحصل وإنّما تثمر بعد حصولها ، وتارة : لا يعلم تعويل المتكلّم عليها - مثلا - أنّ الأمر في عرف الأئمّة عليهم السلام إنّما غلب (4) استعماله في الندب كما زعمه صاحب المعالم رحمه اللّه (5) ، فهذه الغلبة على تقدير صحّتها إنّما يجدي فيما يعلم التعويل عليها ، وأمّا لو فرضنا أنّ أحدا سأل الإمام عليه السلام عن شيء فأمره فلا يصلح (6) لأن يكون هذه الغلبة معوّلا عليها في صرف الأمر عن ظاهره وحمله على المجاز ، فالغلبة المعتبرة هي الغلبة على الوجه الأوّل ، وأمّا الأخيران فلا

ص: 644


1- « م » : آخر.
2- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : يحصل.
3- « د » : المقرونة.
4- « س » : غلبت.
5- المعالم : 53.
6- « د » : فلا يصحّ.

عبرة بهما.

وأمّا المرجّحات الخارجية فكالشهرة والإجماع (1) المنقول ونحوهما ممّا لا مدخل لها في الدلالة ؛ إذ لا يعقل أن يصير اللفظ دالاّ بعد تقارنه بالشهرة ، لكونها أجنبية عن اللفظ.

فإن قلنا باعتبار هذه الأمور الخارجية ، فالترجيح لمضمون الخبر الموافق لها لا لنفس الخبر ؛ لأنّ التعويل على أصالة الحقيقة إنّما يصحّ فيما لم تكن معارضة بمثلها ، ودفع المعارض فرع ما يصلح لأن تكون (2) قرينة صارفة والمفروض انتفاؤها ؛ إذ الأمر الخارجي ممّا لا يصلح للصرف في عرف أهل اللسان ، فيحكم بالإجمال والتساقط ، والمفروض حجّية المقارن المطابق لأحد المضمونين فيرجع إليه.

وإن قلنا بعدم اعتبارها ، فالحقّ أنّها لا تأثير لها في شيء فلا يكون شيء منها مرجعا ، ولا مرجّحا ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ ترجيح أحد الظاهرين على الآخر فرع وجود ما يصلح لأن يكون مانعا عن الآخر ، والشهرة الحادثة بعد صدور الخبر أو (3) الإجماع (4) المنقول كيف يعقل أن يكون سببا لظهور اللفظ؟

اللّهمّ إلاّ أن تكون (5) كاشفة عن القرينة فيدور الأمر مدارها (6) من حيث الاكتفاء بها ولو كانت مظنون الوجود أو لا ، نعم لو كشفت (7) على وجه اليقين عن وجود القرينة المعتبرة في صرف اللفظ عند العرف ولو كانت ظنّية في حيال ذاتها صحّ التعويل عليها ، وعلى تقديره فالعبرة بالقرينة لا بالشهرة ، مثلا قوله تعالى : ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ

ص: 645


1- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : إجماع.
2- في النسخ : يكون.
3- « د » : و.
4- في النسخ : إجماع.
5- في النسخ : يكون.
6- « س » : مداره.
7- قوله : « نعم لو كشفت » ورد في نسخة « س » بعد « وجه اليقين ».

أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) (1) ظاهر يشمل الزوجة المتوفّى عنها زوجها وغيرها أيضا ، وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (2) أيضا يشمل القبيلتين فإبقاء الظاهر الأوّل والحكم باختصاص الثاني بغير المتوفّى عنها زوجها ، أو (3) الحكم باختصاص الأوّل وإبقاء الثاني بحاله من دون ما يصلح لذلك ، ترجيح بلا مرجّح ، فعلى المجتهد الأخذ بالأصول المعمولة عنده في مثل المقام.

نعم ، لو فرض أنّ المتعارضين يمكن رفع اليد عن أحدهما سندا كما في الأخبار الظنّية يمكن القول بترجيح المطابق للشهرة على بعض الوجوه المتقدّمة ، إلاّ أنّ ذلك رجوع عمّا نحن بصدده من انحصار وجه التعارض في الدلالة وقد عرفت صعوبة الخطب في (4) ذلك المقام ومن هنا أذعن سيّد المدارك (5) بأنّ مخالفة الأصحاب أشكل من طرح الخبر الصحيح.

وبالجملة ، ففيما لو فرض الكلام في الدلالة فقط لا نرى وجها للأخذ بالشهرة ، ومن هنا ترى أنّ السيّد المذكور ما تبع الشهرة في الحكم بنجاسة رجيع الطير الغير المأكول لحمه فقال (6) : المتّجه القطع بطهارة الذرق تمسّكا بالأصل السالم من (7) المعارض ، مع تعارض رواية عبد اللّه بن سنان : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (8) ورواية الشيخ عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله » (9) في خصوص المسألة ، فظهر أنّ كلام السيّد وأمثاله إنّما هو فيما أمكن التصرّف السندي في الرواية دون ما كان الكلام متمحّضا في الدلالة على ما هو المفروض.

ص: 646


1- الطلاق : 4.
2- البقرة : 234.
3- « س » : « و » بدل : « أو ».
4- « س » : فيما.
5- مدارك الأحكام 4 : 95.
6- المدارك 2 : 262.
7- « م » : عن.
8- تقدّم في ص 397 و 548.
9- تقدّم في ص 458 - 549.

وكيف كان ، فزعم سيّد الرياض عليه الرحمة (1) إلى جواز الترجيح بمثل هذه الشهرة كما يظهر منه في جملة من موارد الكتاب المذكور ، وفصّل بعض المشايخ المعاصرين في بعض كلماته فقال بأنّ الشهرة تنهض قرينة معيّنة لأحد احتمالي المشترك ولا تصلح (2) لأن تكون (3) قرينة صارفة للحقيقة ، ومن هنا حكم بأنّ المراد بالرطل في مسألة تحديد الكرّ هو الرطل العراقي ؛ لأنّ الشهرة تنهض قرينة معيّنة للفظ الرطل المشترك بين العراقي والمدني ، وليت شعري ما أبعد قول المفصّل عن الواقع فكأنّما اعتمد على مخاطرة وقعت في باله ، وإلاّ فليس بالحريّ ضبط أمثاله في الكتاب كما لا يخفى ذلك عند أولي الألباب.

وكلاهما فاسدان : أمّا الأوّل : فلأنّ الشهرة على تقدير عدم الحجّية ليست مختلفة الحال ، فكما لا يجوز الركون إليها في محلّ رواية لا يجوز التمسّك في مورد الروايتين إن أريد التمسّك بها في نفسها ، وإن أريد الترجيح فقد عرفت عدم معقولية الترجيح بحسب الدلالة بالشهرة إلاّ في صورة الكشف عن القرينة ، وعلى تقدير معقولية الترجيح بها فلا بدّ من أن يكون ممّا يعتمد عليها العرف في مقام استكشاف المراد ، اللّهمّ إلاّ أن يكون قرينة تعبّدية ، وفساد هذه الأمور من أجلى (4) الضروريات ، نعم لو كان حجّية أصالة الحقيقة مقيّدة بعدم قيام ظنّ على خلافها أو اعتبرناها من حيث إفادتها الظنّ بالمراد جاز التعويل على الخبر الموافق للشهرة ، ولكنّه غير خفيّ أنّها حينئذ لا تكون (5) من المرجّحات ؛ إذ بعد فرض إفادتها الظنّ يرتفع موضوع الحجّة في الآخر فهي بأن تكون موهنة (6) أولى (7) ، وأمّا على القول بالتعبّد فلا مجال لطرح الظهور

ص: 647


1- انظر الرياض 2 : 217 و 344 - 345 ، وفي ط الحجري 1 : 63 و 83.
2- « د » : يصحّ وفي سائر النسخ : يصلح.
3- في النسخ : يكون.
4- « ج ، د » : أعلى.
5- في النسخ : لا يكون.
6- « س » : موهونة.
7- « س » : أولى من الترجيح.

إلاّ بدليل معتبر شرعا والمفروض عدم اعتبار الشهرة ، فلا تصلح (1) لذلك.

وأمّا الثاني : فلا ينطبق على شيء من الأقوال والمذاهب ولا يساعده وجه من الوجوه الاعتبارية ؛ إذ لا فرق في نظر العقل والعرف في ذلك ، فالصالح لأحدهما ينبغي أن يكون صالحا للآخر والفرق تحكّم والإنكار تباهت وصرف العمر في تزييفه بطالة ، فإنّه إنّما نشأ منه بواسطة عدم استئناسه بالمطالب الأصولية وإلاّ فهو أجلّ شأنا من هذه الخيالات ، فتدبّر في المقام واللّه الموفّق وهو الهادي.

ص: 648


1- في النسخ : فلا يصلح.

هداية [ في حكم المتكافئين : التخيير أو التوقّف؟ ]

قد استوفينا أحكام التراجيح على حسب ما هو في وسعنا وقدّمنا الكلام في التعادل أيضا إلاّ أنّه لا بأس بإعادة الكلام فيه تنبيها على مطالب لم يسبق إليها الإشارة ، قد اختلفت كلمة أصحابنا المتمسّكين بالعروة الوثقى في أنّ الحكم بعد فقد الترجيح في الأخبار هل هو التوقّف ، أو التخيير؟ فالمنسوب إلى الأخباريين من أصحابنا رضوان اللّه عليهم هو الأوّل ، والمشهور من مذهب المجتهدين منهم شكر اللّه مساعيهم هو الثاني ومنشأ الخلاف بينهم اختلاف الأخبار ، وربّما يعاضد كلّ منهما بوجوه أخر على ما قدّمنا في بيان الأصل هل هو التساقط أو التخيير.

وكيف كان ، فتدلّ على الأوّل طائفة من الأخبار وهي صنفان : أحدهما : الأخبار العامّة الواردة في مقام حكم المشتبه وقد مرّ بجوابها في مباحث البراءة والاحتياط (1) ، الثاني : الأخبار الخاصّة بما إذا تعارض الخبران الآمرة بالتوقّف والإرجاء والاحتياط وهي كثيرة :

منها : ما في منقول الوسائل عن محمّد بن إدريس نقلا من كتاب مسائل الرجال [ ومكاتباتهم ل ] عليّ بن محمّد [ الهادي عليه السلام مسائل ](2) محمّد بن [ عليّ بن ] عيسى

ص: 649


1- تقدّمت أخبارها في ج 3 ، ص 369 - 370 وجوابها في ص 376 - 384.
2- بدل ما بين المعقوفين في النسخ : « بن ».

[ حدّثنا محمّد بن أحمد بن زياد وموسى بن محمّد بن عليّ بن عيسى ] كتب إليه مسألة عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك : فقد اختلف (1) علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه والردّ إليه فيما اختلف فيه؟ فكتب : « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموه فردّوا (2) إلينا » (3).

ومنها : خبر جابر عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال : « انظروا إلى (4) أمرنا وما جاءكم عنّا فما (5) وجدتموه للقرآن موافقا فخذوه (6) ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، فإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم [ من ذلك ] ما شرح لنا » (7).

ومنها : موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام [ سألته ] عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه ، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال عليه السلام : « يرجئه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة حتّى يلقاه » (8).

ومنها : موثّقة ابن بكير المرسلة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال : « إذا جاءكم منّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوه (9) ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم » (10).

ومنها : ما ذيل المقبولة بعد ما قال : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا ، قال : « إذا

ص: 650


1- في المصادر : قد اختلف.
2- في الوسائل والسرائر : وما لم تعلموا فردّوه.
3- الوسائل 27 : 119 - 120 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 36 ؛ السرائر 3 : 584 ؛ وعنه في بحار الأنوار 2 : 245 ، باب 29 ، ح 55 ، وصدره في الوسائل : نقلا من كتاب مسائل الرجال لعليّ بن محمّد عليه السلام أنّ محمّد بن عليّ بن عيسى كتب ... وتقدّم في ج 3. ص 123.
4- لم ترد « إلى » في المصادر.
5- في المصادر : فإن.
6- في المصادر : فخذوا به.
7- الوسائل 27 : 120 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 37. وتقدّم في ج 7. ص 123.
8- الوسائل 27 : 108 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 5.
9- في المصدر : فخذوا به.
10- الوسائل 27 : 112 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 18. وتقدّم في ج 10. ص 124.

كان ذلك فأرجه وقف حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (1).

وتدلّ على الثاني أيضا أخبار كثيرة قد أشير فيما مرّ إلى جملة منها فراجعها (2).

والإنصاف : أنّ الراجح في النظر هو ما ذهب إليه المجتهدون فإنّ الظاهر من هذه الأخبار الخاصّة اختصاص موردها بما إذا تيسّر تحصيل العلم بالواقع والمفروض في زماننا هذا تعذّره ، فليس المنساق منها بيان حكم المشتبه فيما إذا لم يكن مرجوّ الزوال كما يرشد إليه قوله : « حتّى تلقى إمامك » وقوله : « حتّى نشرح لكم ما شرح لنا ».

وعلى تقدير التنزّل فأخبار التخيير أخصّ من هذه الأخبار ، فلا بدّ من الأخذ بالأخصّ تحكيما له على العامّ ، فإنّ موارد التوقّف بناء على عدم اختصاصها بصورة التمكّن من العلم يعمّ حال التمكّن وعدمه ، وأخبار التخيير تختصّ بما إذا كان المكلّف متحيّرا من جميع الجهات وهي حالة عدم التمكّن.

ولئن سلّمنا تواردهما في مورد واحد فالحقّ أنّ الترجيح لأخبار التخيير من وجوه : الأوّل : كثرتها فإنّها تبلغ نيّفا وعشرا على ما حكي ، الثاني : اعتضادها بذهاب المشهور إليه ، بل في المعالم : لا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب وعليه أكثر أهل الخلاف (3) ، الثالث : صحّة أسانيدها كما هو ظاهر بعد الرجوع إليها.

ولعلّ بعد ملاحظة ما ذكر يحصل الاطمئنان بأنّ الحكم في الواقعة هو التخيير دون التوقّف.

فإن قلت : إنّ ملاحظة حالات العقلاء في العمل بما في أيديهم من الطرق المعمولة عليها عندهم يعطي التوقّف ؛ إذ ربّما ينسبون القائل بالتخيير فيما تعارض عنده قول زيد بقول عمرو في واقعة إلى الهجر والهذيان (4) ، وذلك من أقوى المرجّحات لأخبار

ص: 651


1- تقدّم في ص 576 - 578.
2- راجع ص 633 - 634.
3- المعالم : 250. وتقدّم عنه في ص 537.
4- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : الهليان.

التوقّف.

قلت : وذلك مسلّم ومع ذلك لا يجدي فيما نحن (1) بصدده ؛ للفرق الظاهر بين العقلاء في الأمور المتعلّقة بمعاشهم وبينهم (2) في الأمور المتعلّقة بمعادهم ، لأنّ (3) المفروض عدم إمكان الوصول إلى واقع الواقعة عندهم في أمور المعاد ، بخلافه في أمور المعاش لإمكان الوصول إلى الواقع في ذلك ، وقد لوّحنا أنّ اللازم عند إمكان الوصول إلى الواقع هو التوقّف.

وتوضيح ذلك : أنّ بناء العرف في الأمور المستقبلة على الأخذ بالظنّ كما لا يخفى ، وعند عدم الظنّ لا يجترءون بالعمل ، وبعد فرض تعارض الأمارتين مع عدم المرجّح لا حامل لهم على الفعل ؛ لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فلا مجال لعدم التوقّف عندهم ولا يجوز قياس حالهم بحالنا من حيث نحن متعبّدون بأحكام الشارع ، وإنّما الملحوظ عندنا رفع ما هو الواجب علينا والملحوظ عندهم التوصّل إلى الواقع ، ولو فرض استواء الحالين نلتزم بالتوقّف.

وتحقيق المقام وتوضيح المرام : أنّ المقامات مختلفة : فتارة : لا بدّ من الحكم بالتخيير كما عليه المشهور (4) ، وتارة : يحكم بالتوقّف والاحتياط بين الدليلين ، وتارة : يحكم بالتساقط. أمّا مقام التخيير ففيما إذا قلنا بحجّية خبر العادل تعبّدا صرفا من غير أن يلاحظ فيها (5) كونه طريقا إلى الواقع كما ربّما يظهر من بعضهم ، فإنّ قضيّة القاعدة التي قدّمناها في أوائل الباب هو التخيير بحسب حكم العقل بين الدليلين ، ونزيدك توضيحا ونقول : إنّ التوقّف على ذلك التقدير ممّا لا يقضي به دليل ، بل الدليل على خلافه ، كما في صورة تزاحم الحقّين (6) والواجبين فإنّ إطلاق الدليل الدالّ على لزوم

ص: 652


1- « س » : نحن فيه.
2- « ج ، د » : - بينهم.
3- « م » : فلأنّ. وفي « ج » : أمّا أوّلا فلأنّ.
4- بل نفى الخلاف عنه في المعالم كما تقدّم في ص 537 والصفحة السابقة.
5- « د » : فيه.
6- « د » : الحقوق.

الأخذ بالدليل تعبّدا قاض بذلك مطلقا ولو حال التعارض ، وعند ذلك فيلاحظ نفس الحقّين فإن كان أحدهما أهمّ من الآخر يؤخذ به كما إذا دار الأمر بين حقوق اللّه وحقوق الناس على تقدير أهمّية أحدهما بالنسبة إلى الآخر كما عليه البعض ، وإن لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر فمع وجود المرجّحات الخارجية يجب الأخذ بها ، وبدونه يحكم بالتخيير ، وليس ملاحظة الدليل الدالّ على الوجوب حينئذ وجيها ، بل يدور الأمر مدار تعيين الواجبين من غير حاجة إلى ملاحظة الدليل.

فإن قلت : لا سبيل إلى القول بوجوب العمل بكلّ من الدليلين حال التعارض ؛ لأنّ مفاد الأدلّة الدالّة على ذلك هو الوجوب العيني ، ولا يعقل تعلّق الوجوب العيني بالمكلّف حال التعارض بالنسبة إلى كلّ منهما ، والوجوب التخييري غير مستفاد منها و (1) إلاّ على وجه (2) استعمال الألفاظ (3) الواردة في تلك الأدلّة في الوجوب العيني والوجوب التخييري ، وهو محظور عندهم (4).

قلت : قد قدّمنا (5) دفع هذه الشبهة بما لا مزيد عليه ونقول أيضا : إنّ جميع الأوامر الصادرة في الشريعة مقيّدة بالإمكان العقلي ، وهذا التقييد يكفي في دفع هذه العويصة من غير حاجة إلى ملاحظة أمر آخر ، وبيانه : أنّ خبر العادل حينئذ بمنزلة قول الوالدين من وجوب العمل بقولهما ، فإذا أمر الوالدة بأمر يناقض ما أمر به الوالد لا ريب في أنّ الوجوب الفعلي الذي هو المناط في تحقّق الإطاعة والعصيان وعليه يدور الثواب والعقاب غير متحقّق بالنسبة إلى الأمرين ؛ لامتناع ذلك على قواعد العدلية ، إلاّ أنّ ذلك لا يقضي (6) بالتصرّف في الدليل الدالّ على وجوب امتثال (7) أوامر الوالدين ، كما أنّ عدم العلم بالتكليف لا يوجب التصرّف في دليل التكليف على

ص: 653


1- كذا. والظاهر زيادة « و ».
2- « ج » : سبيل.
3- « س » : الاستعمال للألفاظ. « م » : استعمال للألفاظ.
4- « د » : محظور عنهم.
5- تقدّم ص 531.
6- « د » : لا يقتضي.
7- « س » : الامتثال.

وجه يوجب (1) تخصيصا وإخراجا لفرد من عموم اللفظ مع أنّ العقاب على ترك الامتثال قبيح عند عدم العلم ، فكان التصرّف في أمر عقلي لا يوجب خروج اللفظ عن ظاهره ، بل اللفظ الدالّ على الوجوب بحاله.

نعم ، لا يمكن الجمع في الامتثال وهذا حكم عقلي يلتزم به على حسب ما هو المقدور وهو العمل بأحدهما ، ومنه جاء التخيير ، وإلاّ فكيف يعقل أن يكون الحكم الشرعي دائرا مدار خيرة المكلّف من دون استواء الأفراد في المصلحة؟

فالمختار من شقّي السؤال هو أنّ الدليل يدلّ على الوجوب العيني بالنسبة إليهما معا وذلك لا يوجب محذورا ؛ إذ الامتثال بغير الممكن ممّا لا يلتزم به العقل ولا يدلّ عليه دليل من الشرع ، فيقتصر في الامتثال بالممكن وهو أحدهما وهو المعنيّ من التخيير ، ويكشف عن ذلك أنّه لو تمكّن من العمل بهما بعد ما كان أحدهما غير ممكن العمل يكفي الخطاب الأوّل عن ذلك ، كما فيما إذا أفاق المكلّف من جهله ؛ إذ لا حاجة إلى خطاب جديد وإنشاء للتكليف ثانيا بعد العلم ، ولا غائلة في صدور مثل هذه الخطابات عن الحكيم بعد فرض اشتمالها على حكم غير (2) المتمكّن أيضا كما في جميع الواجبات المشروطة ، ولئن سلّمنا أنّ التصرّف حينئذ في أمر لفظي فلا شكّ أنّ اللازم أيضا هو الحكم بالتخيير ؛ لأنّ عنوان الفرد الخارج عن العموم قاض بذلك.

وبيانه : أنّ التخصيص بأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، وأحدهما لا بعينه ليس فردا للعامّ حتّى يصحّ الحكم بخروجه ، فلا بدّ أن يكون الخارج هو عنوان الفرد الغير المقدور ، والداخل هو الفرد المقدور (3) ، ولا ريب في أنّ هذين العنوانين ممّا تتبادل (4) أفرادهما ، كما إذا كان عنوان الخارج عن العامّ هو العالم - مثلا - فإنّ تبادل أفراد العالم ظاهر فقد يكون الرجل عالما فيصير عامّيا جاهلا ، ثمّ يصير عالما بعد ذلك ، إلى غيره.

ص: 654


1- « د » : لا يوجب.
2- « ج ، د ، م » : - غير.
3- « س » : - والداخل هو الفرد المقدور.
4- « س » : تتناول.

ولا ريب أيضا أنّ تبادل أفراد عنوان الخارج تارة : لا يكون باختيار المكلّف كما عرفت من صيرورة العالم جاهلا ؛ إذ لا يناط علمه وجهله إلى اختيار من توجّه إليه التكليف بذلك العامّ الخارج منه العالم ، وتارة : يكون باختيار المكلّف كما إذا قيل : « أكرم العلماء - مثلا - إلاّ من أجرته دارك » فإنّ تبادل عنوان المستأجر للدار في أفراده إنّما هو باختيار المكلّف ، فأيّ منهم اختار أن يؤجره الدار يكون خارجا عن العموم ، والآخر داخلا يجب الحكم بإكرامه مثلا ، وما نحن فيه من قبيل الثاني فإنّ الخارج هو عنوان المعجوز عنه وذلك العنوان يختلف أفراده باختيار المكلّف ، فكلّ ما اختاره (1) المكلّف في مقام العمل بوجوه مرجّحة منقدحة في نفس العامل يصير الآخر غير مقدور ، وذلك أمر شائع في الأوقاف والوصايا كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

والحاصل : أنّ قضيّة القواعد في الأدلّة التعبّدية هو القول بالتخيير ، ولا ينافي ذلك عدم توجّه الخطاب الفعلي على المكلّف كما في تزاحم الحقوق وتعارض الواجبين ، ولذلك قلنا بأنّ الحكم هو ملاحظة نفس الحكمين من وجود المرجّحات الداخلية من الأهمّية ونحوها والخارجية وعدمها من غير ملاحظة حال دليلهما ، فتدبّر.

وأمّا مقام التوقّف ففيما إذا قلنا باعتبار الخبر من حيث إنّه طريق معمول به عند العقلاء ، مرآة للواقع ، كاشف عنه ، فإذا تعارض - بناء على هذا القول - خبران لا بدّ من التوقّف ؛ إذ يستحيل أن يكون طريق الواقع على طرفي الخلاف ، فيقطع بأنّ الواقع في أحدهما ، والآخر ليس ممّا يتوصّل به إلى الواقع ، وحيث إنّه لا مزيد لأحدهما على الآخر فالعقل يقضي بالتوقّف ؛ لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ، ومن هنا قلنا بأنّ العمل المعهود من العقلاء هو التوقّف فيما يتعلّق بأنفسهم من أمور المعاش ؛ إذ ليس المعتبر عندهم إلاّ نفس الواقع ، فعند الترديد فيه لا يجوز الخروج عن أطراف الترديد فلا

ص: 655


1- « ج » : اختار.

وجه للرجوع إلى أصل ثالث مخالف لهما ؛ للقطع بارتفاع الأصل المخالف بواسطة العلم الإجمالي بأنّ الواقع في أحدهما فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما حينئذ أو التخيير العقلي بين الاحتمالين.

قلنا : في المقام مطلبان : أحدهما : أنّ بعد القول بحجّية الأخبار من حيث الطريقية لا بدّ من التوقّف وعدم جواز التخيير بينهما ، الثاني : أنّه لا يجوز الرجوع إلى أصل ثالث مخالف لهما ، أمّا الأوّل فلما عرفت من دوران الأمر بين الطريق وما هو ليس بطريق من دون ترجيح لأحدهما على الآخر ، وأمّا الثاني : فلاعتضادهما في نفي الثالث كما يومئ إليه عمل العقلاء فيما هو طريق إلى مطالبهم ، فالأصل فيما هو حجّة من حيث كونه طريقا هو التوقّف ، سواء كان طريقا للأحكام أو الموضوعات ، إلاّ ما خرج بالدليل كالأخبار فإنّها على ما هو التحقيق حجّيتها بالخصوص مع قطع النظر عن دليل الانسداد من حيث الطريقية ، ومع ذلك فنقول فيهما بالتخيير بواسطة إطلاق أخبار التخيير.

فإن قلت : من البعيد جدّا أن يكون أخبار التخيير واردة على خلاف القاعدة المعمولة عند العقلاء وقد مرّ (1) أنّ الحكم بالتخيير إنّما هو فيما إذا قلنا باعتبار أمارة تعبّدا من غير ملاحظة الطريقية ، ولازم ذلك إمّا القول باعتبار الأخبار تعبّدا ، وإمّا القول بعدم التخيير فيما هو حجّة من باب الطريقية.

قلنا : نعم ولكنّ الإنصاف أنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الأخبار ظهورها في كونها طرقا واقعية ممّا لا مجال لإنكاره فالعمل عليها لعلّه أقرب ، وأمّا الأخذ بأخبار التخيير في المقام فلا ضير في كونه تعبّديا عند عدم إمكان الوصول إلى الواقع ، كأن يكون التخيير أيضا من الأصول العملية التي حكم به الشارع فيما لا دليل على التعيين مع عدم إمكان إحراز الواقع كما أنّه لا بعد في جعل الشارع الأخذ بالحالة السابقة

ص: 656


1- مرّ في ص 652.

علاجا للشاكّ والمتحيّر كما لا يخفى.

وأمّا مقام التساقط ففيما إذا تعارض أصلان من الأصول العملية إذا لم يكن أحدهما مزيلا للآخر كأصالتي البراءة والاستصحابين كما في الشبهة المحصورة واستصحاب طهارة الماء المتمّم ونجاسته المتمّم بعد الإجماع على أنّ الماء الواحد في السطح الواحد لا يختلف (1) حكمه بالطهارة والنجاسة ، والسرّ في ذلك : أنّ الأصل عبارة عن حكم ظاهري جعله الشارع للواقعة المشكوكة في مقام علاج الشكّ ، وذلك يمتنع أن يكون مجعولا في مقام التعارض بالنسبة إلى المتعارضين جميعا ، وبالنسبة إلى (2) أحدهما أيضا.

أمّا بالنسبة إلى الأوّل : فلأنّ قوله : « لا تنقض » وقوله : « ليس على من لا يعلم شيء » إلى غير ذلك من أدلّة الأصول مرجعها (3) إلى طلب الشارع ترتيب الآثار الشرعية على المشكوك على حسب اختلاف الموارد ، فترتيب آثار الطهارة على الماء المتمّم وآثار النجاسة على المتمّم يناقض القطع الحاصل من الإجماع على أنّ حكم الماء في السطح الواحد واحد ، وكذا القطع بنجاسة أحد الإناءين يناقض جعل الشارع حكم الطهارة لكلّ واحد من الإناءين ، فلا بدّ إمّا من القول بعدم شمول أدلّة الأصول لموارد التعارض بالنسبة إلى جميع المتعارضين أخذا بالإجماع الدالّ على اتّحاد الحكم وبالأدلّة الواقعية التي تدلّ على وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي الموجود بين الإناءين ، وإمّا من القول بعدم وجوب امتثال الأوامر الواقعية وعدم لزوم اتّباع الإجماع الموجود في محلّ التعارض دفعا للتناقض ، ولا ريب أنّ بعد وجود الإجماع كما هو المفروض وكذا بعد فرض وجود الدليل الواقعي الدالّ على لزوم الاجتناب يمتنع عقلا تجويز عدم وجوب الامتثال ؛ لعدم لزوم اتّباع الإجماع ، لأنّه يؤول إلى إيجاب شيء على الغير مع عدم إرادة امتثاله ، وذلك محال عندنا فلا بدّ من القول بعدم شمول

ص: 657


1- « س » : الواحد قد يختلف.
2- « د ، ج ، م » : - إلى.
3- « س » : ومرجعها.

أدلّة الأصول لموارد التعارض بالنسبة إلى المتعارضين معا.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني : فلأنّ أحدهما المعيّن دخوله تحت قوله : « لا تنقض » يحكم بعدم ما يوجب ذلك بعد اشتراك الآخر له في ذلك ، وأحدهما المعيّن في الواقع لا يجوز أن يكون الدليل الدالّ على الأصل شاملا له ؛ إذ الواقع أنّ أحدهما طاهر والآخر نجس ، ولا وجه لإنشاء حكم ظاهري لذلك الواقع ، وأحدهما الغير المعيّن ليس فردا ثالثا للعامّ حتّى يقال بأنّ الخارج هو أحدهما والداخل هو أحدهما الآخر ؛ إذ المفروض أنّ ذلك أمر انتزاعي من ذوات الأفراد وقد عرفت أنّ ذوات الأفراد لا تصلح (1) لأن تكون خارجة ، فذلك الأمر الانتزاعي يلحق بمنشإ انتزاعه في ذلك ، فلا يعقل أن يكون المراد من الشكّ (2) المأخوذ في أدلّة الأصول هو الشكّ الموجود في أطراف العلم الإجمالي كما في الشبهة المحصورة ، فلا بدّ في مورد التعارض من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى أصل ثالث مؤخّر عنهما ، وهل ذلك من باب التخصيص أو التخصّص؟ التحقيق (3) أنّه من واد آخر ؛ إذ قد عرفت (4) أنّ الأصل عبارة عن علاج شرعي مجعول في مقام الشكّ ومرجعه إلى طلب الشارع وإنشائه وخطابه ولا يتوجّه خطاب الشارع إلى مثل هذا المورد ، ومنه يظهر الفرق بين المقام وبين ما مرّ من مورد التخيير فإنّ عدم توجّه الخطاب في مورد التخيير بواسطة عذر من قبل المكلّف من عدم قدرته ، وفي المقام حيث إنّ مرجعه - على (5) ما عرفت - إلى (6) إنشاء حكم ظاهري ترخيصا أو غير ذلك لا يجوز من المكلّف صدوره ؛ لاستلزامه نقض الغرض على تقدير الجعل فيهما معا ، والترجيح بلا مرجّح على تقدير الجعل في أحدهما في وجه

ص: 658


1- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : لا يصلح.
2- « س » : بالشكّ.
3- « س » : والتحقيق.
4- عرفت في الصفحة السابقة.
5- « س » : إلى.
6- المثبت من « م » وفي سائر النسخ : - إلى.

وعدم معقوليته في وجه آخر كما عرفت ذلك مفصّلا (1).

فإن قلت : قد قرّر في مقامه أنّ الشارع إذا طلب شيئا فيمتنع أن يرخّص في ترك الامتثال ؛ لأنّ ارتفاع الأمر منحصر في النسخ أو البداء أو الامتثال ، والأخير مفروض الانتفاء ، والأوّلان فاسدان أيضا كما هو ظاهر ، وأمّا إذا جعل بدلا عمّا هو المطلوب فيصحّ الاقتناع بالبدل وترك الامتثال بما يوجب اليقين بوقوع المطلوب فيه.

فنقول : إذا علمنا إجمالا بوجوب شيء مردّد بين أمور فلو جوّز الشارع ترك الامتثال عن ذلك الواجب المردّد يلزم ما ذكرت من اللوازم الفاسدة ، ولم لا يجوز أن يجعل الشارع بدلا عمّا هو المطلوب الواقعي في تلك الأمور بأن يقتنع بترك بعض المحتملات ويجوّز ارتكاب البعض فيحكم بأنّ ارتكاب أحد الإناءين غير جائز بدلا عمّا هو النجس في الواقع ، وارتكاب الآخر ممّا لا ضير فيه كما أذن بذلك فيما إذا اشتبهت القبلة بين جهات عديدة؟

قلت : نعم وذلك أمر معقول ولكنّ الكلام فيما يدلّ على ذلك ولا يمكن أن يكون دليل ذلك دليل الأصل ، وتوضيح ذلك : أنّ مفاد قوله : « لا تنقض » هو النهي عن عدم ترتيب الآثار المترتّبة على المعلوم سابقا ، وكذا مفاد قوله : « كلّ شيء مطلق » (2) مثلا هو ترخيص عدم ترتيب آثار التكليف على المشكوك ، وكذا قوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه » (3) مثلا يستفاد منه الإباحة الظاهرية للمشكوك ، والدليل (4) الدالّ على البدلية لا بدّ من أن يكون مفاده بدلية أحد الأطراف عن الواقع بحيث لو فرض ترك الواقع في خلال العمل بالبدل لم يكن المكلّف معاقبا ، كما في الأدلّة (5) الدالّة على ترخيص الترك فيما إذا اشتبهت القبلة.

ص: 659


1- عرفت في ص 654.
2- تقدّم في ج 3 ، ص 159.
3- تقدّم في ج 3 ، ص 359.
4- المثبت من « د » وفي سائر النسخ : دليل.
5- في النسخ : أدلّة.

وبالجملة : ففرق ظاهر بين أن يقنع الأمر عن الواقع ببدله كما إذا قامت البيّنة على أنّ النجس هو هذا الإناء المعيّن فيجب الاجتناب عنه ولا يجب الاجتناب (1) عن الآخر ، وبين أن يجعل للمشكوك حكما ظاهريا في مقام الشكّ علاجا ، ومفاد الأصل هو الثاني ، ومفاد الدليل الدالّ على البدلية لا بدّ وأن يكون على الوجه الأوّل ، ولا يجوز أن يكون الكلام المنساق لأحدهما منساقا للآخر ، نعم بعد ما بنى المكلّف على الأخذ بالعلم الإجمالي بالامتثال بجميع أطراف الشبهة يجوز جعل الطريق إلى الواقع والبدل ، وأمّا الاستناد بدليل الأصل في هذا المقام فليس بسديد كما عرفت ، فلا بدّ إمّا من القول بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة وأمثالها كما هو التحقيق ، وإمّا القول بجواز الارتكاب بالنسبة إلى الجميع على وجه غير مرضيّ من حكومة أدلّة الأصول بالنسبة إلى الأدلّة الواقعية بتخصيص التكاليف إلى صورة العلم التفصيلي على ما فرغنا (2) عن إبطاله في مباحث البراءة والاحتياط من دون تفصيل بين إبقاء (3) ما يساوي الحرام وبين ارتكاب الجميع.

والحاصل : أنّ حكم الأصلين المتعارضين هو التساقط والرجوع إلى أصل ثالث ، أمّا الأوّل فلما عرفت من امتناع ترخيص الشارع بعد العلم الإجمالي عدم الامتثال ، وأمّا الثاني فلأنّ الأصلين وجودهما كعدمهما حقيقة في نفي الثالث فلا بدّ من الرجوع إليه.

واعلم أنّ ما ذكرنا من أنّ حكم الأصلين المتعارضين هو التساقط إنّما هو فيما إذا قلنا باعتبار الأصول تعبّدا ، وأمّا على القول باعتبارها من باب إفادة الظنّ فالظاهر أنّ حكم الأصل لا يخالف حكم الطرق الواقعية ، فتدبّر في المقام فلعلّك تطّلع على ما ربّما أسقطناه مخافة الإطالة ، واللّه الموفّق وهو وليّ الهداية.

ص: 660


1- المثبت من « س » وفي سائر النسخ : - الاجتناب.
2- انظر ج 3 ، ص 448 - 449.
3- « ج » : إلغاء.

هداية [ في لزوم الفحص عن المرجّح ]

قد عرفت فيما تقدّم وجوه التراجيح المعمولة في الأدلّة على وجه لا مزيد عليه كما عرفت (1) موارد التساقط والتخيير والتوقّف ، فهل يجوز الأخذ بمقتضى المذكورات قبل الفحص ، أو لا بدّ في إعمالها من الفحص؟ الحقّ هو الثاني فلا يجوز التعويل على ما يصل من وجوه التراجيح إلى نظر المجتهد ، نعم لو علم بأنّ بعد الفحص أيضا لا يزيد على ما وصل (2) إليه نظره أوّلا جاز له التعويل عليه ، والدليل على ذلك هو بعينه ما دلّ على عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ، والعمل بالأصل قبل الفحص عن الدليل.

والسرّ في ذلك : هو أنّ الجهل في الأحكام إنّما يصلح لأن يكون عذرا شرعا أو عقلا إذا لم يكن جهلا ابتدائيا ؛ إذ مع احتمال تحصيل العلم لا دلالة في العقل على قبح المؤاخذة عن الجاهل ، وأمّا ما يرى من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية فهو إنّما تفضّل من الشارع الحكيم ، وذلك هو الوجه في عدم معذورية الجاهل المقصّر في الأحكام ؛ إذ المراد بالتقصير هو أن لا يطلب العلم ولا يتفحّص مع إمكانه في حقّه ، وبالجملة فذلك من الأمور الواضحة الجليّة.

ص: 661


1- عرفت في الهداية السابقة ص 652 وما بعدها.
2- « س » : يصل.

نعم ، قد يشكل في المقام من أنّ معيار وجوب الفحص هو العجز عن الوصول إلى الأحكام فهل العجز المعتبر هو العجز النوعي أو العجز الشخصي؟ فلو فرض أنّ مجتهدا - مثلا - قد عجز عن الوصول إلى الواقع في واقعة لعارض خارجي لظلمة أو حبس ونحوه فهل يسقط بذلك عنه الفحص ويجوز له العمل بما يراه راجحا ، أو يجب عليه التقليد؟ الظاهر هو الثاني واعتبار العجز لنوع المجتهد من أمثاله وأقرانه ؛ إذ لا دليل على (1) جواز العمل بما يظنّه حينئذ فيكون ملحقا بالعامّي فيجب عليه التقليد أو يحتاط ، وذلك أمر ظاهر في الغاية لا حاجة إلى إطالة الكلام فيه أطال اللّه أعمارنا ووفّقنا لصرفها فيما يرضيه ونجتنب عمّا يسخطه بحقّ محمّد وآله الأطهار الأمجاد. هذا آخر ما أفاده الأستاد المحقّق نوّر اللّه شمس سماء تحقيقه وأكمل بدر فلك تدقيقه (2) على يد أقلّ الطلبة الحاجّ أبي القاسم بن المرحوم الحاجّ محمّد عليّ الطهراني عاملهما اللّه بلطفه الخفي بالنبيّ وآله ، قد فرغت عن تسويد هذه النسخة الشريفة يوم الخميس أحد عشر من شهر جمادى الثاني (3) سنة 1276 (4).

ص: 662


1- « م » : إلى.
2- « ج » : تحقيقه. وهنا نهاية نسخة « ج » وبعدها في نسخة « د » وبذلك أيضا نهايتها : بمنّه وجوده تمّت بعون اللّه تعالى عزّ شأنه.
3- من قوله : « بالنبيّ » إلى هنا من نسخة « م ».
4- هذا هو الصواب ظاهرا حيث رجع المؤلّف إلى موطنه طهران سنة 1277 ، وفي نسخة « م » : 1279.

الفهارس العامّة

اشارة

1. فهرس الآيات

2. فهرس الأحاديث

3. فهرس الأشعار والأمثال

4. فهرس الأعلام

5. فهرس الكتب

6. فهرس الفرق والجماعات

7. فهرس الأماكن

8. فهرس الأشياء والحيوانات

9. فهرس مصادر التحقيق

10. فهرس المطالب

ص: 663

ص: 664

فهرس الآيات

سورة الفاتحة (1)

( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (5)... 2 : 457

( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (6)... 2 : 457

( وَلَا الضَّالِّينَ ) (7)... 2 : 455 ، 457

سورة البقرة (2)

( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (29)... 1 : 125 ، 367 ؛ 2 : 341

( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (83)... 2 : 470

( حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ( 144 ، 150 )... 1 : 443

( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (185) 2 : 156 ، 610

( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ) (187)... 2 : 153

( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ ) (228)... 2 : 165

( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) (234)... 2 : 646

( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (238)... 1 : 54

( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (264)... 2 : 293 - 294

( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (275)... 1 : 390

( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ ) (281)... 1 : 368

ص: 665

( لا يُكَلِّفُ اللّهُ ) (286)... 2 : 632

سورة آل عمران (3)

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ) (7)... 1 : 89

( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (39)... 2 : 217 ، 372

( إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (44)... 2 : 431

( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ ... ) (97) ... 1 : 583 ؛ 2 : 93

( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (102)... 1 : 368

سورة النساء (4)

( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (24)... 1 : 390

( وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) (36)... 2 : 370

( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ) (60)... 2 : 576

( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) (86)... 1 : 140

( الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ) (98)... 1 : 297 ، 298

( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (103)... 2 : 165

سورة المائدة (5)

( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1)... 1 : 93 ، 125 ، 306 ، 390 ؛ 2 : 139 ، 293 ، 335 ، 336 ، 337 ، 338 ، 477

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (3) 1 : 389، 391؛ 2 :

ص: 666

... 341 ، 354

( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ... فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ ) (4)... 1 : 391 ؛ 2 : 341

( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (5)... 2 : 341

( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (6)... 2 : 350

( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ) (90)... 2 : 76 ، 168

سورة الأنعام (6)

( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (143)... 1 : 70

( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ) ( 143 ، 144 )... 1 : 70

( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) (145)... 1 : 70 ، 367

( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (149)... 1 : 582

سورة الأعراف (7)

( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) (33)... 1 : 367

( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) (204)... 1 : 86 ، 140

سورة الأنفال (8)

( اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) (25)... 1 : 193

( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (42)... 1 : 353

سورة التوبة (9)

( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (61)... 2 : 474

ص: 667

( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (102)... 1 : 298

( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) (122)... 1 : 582

سورة يونس (10)

( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (59)... 1 : 69

سورة هود (11)

( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (114)... 1 : 172

سورة يوسف (12)

( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (72)... 2 : 371 ، 372

( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (82)... 2 : 254

سورة الرعد (13)

( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (11)... 1 : 354

سورة النحل (16)

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (7) 1 : 204 ، 582 ؛ 2 : 515 - 516

( أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) (45)... 1 : 166

( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) (92)... 2 : 130

ص: 668

سورة الإسراء (17)

( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (15)... 1 : 29 ، 341

( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (36) 1 : 84 ، 94 ، 147 ، 369 ، 584

( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (78)... 2 : 142

سورة الأنبياء (21)

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (7) 1 : 204 ، 582 ؛ 2 : 515 - 516

سورة الحج (22)

( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (78) 1 : 83 ، 457 ، 489 - 490 ، 570 ؛ 2 : 414

سورة المؤمنون (23)

( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (7)... 1 : 44

سورة النور (24)

( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) (63)... 1 : 167

سورة القصص (28)

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (8)... 2 : 369

( أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ) (27)... 2 : 373

ص: 669

سورة لقمان (31)

( إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (18)... 2 : 95

سورة الأحزاب (33)

( لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (33)... 2 : 157 ، 370

سورة الصافّات (37)

( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (141)... 2 : 431

سورة ص (38)

( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (27)... 2 : 634

( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (44)... 2 : 372

سورة غافر (40)

( يُعْرَضُونَ عَلَيْها ) (46)... 2 : 523

سورة الشورى (42)

( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (15)... 2 : 370

( يُعْرَضُونَ عَلَيْها ) (45)... 2 : 523

( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) (49)... 1 : 296

ص: 670

سورة محمّد (47)

( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (19)... 1 : 300

( وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ) (32)... 2 : 293

( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (33)... 2 : 293 ، 294

سورة الحجرات (49)

( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً ) (6) 1 : 126 ، 129 ، 130 ، 131 ، 137 ، 139 ، 142 ، 145 ، 146 ، 167

( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (12)... 2 : 470

سورة الصف (61)

( إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ ) (6)... 2 : 215

سورة التغابن (64)

( خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (2)... 1 : 296 ، 298

سورة الطلاق (65)

( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ) (4)... 2 : 645 - 646

( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (7)... 1 : 125 ، 353 ، 412 ؛ 2 : 610

سورة المعارج (70)

( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (31)... 1 : 44

ص: 671

سورة القيامة (75)

( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (14)... 2 : 91

سورة البيّنة (98)

( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (5) 2 : 369 ، 370

ص: 672

فهرس أحاديث المعصومين عليهم السلام

طرف الحديث... الجزء والصفحة

« أ تدري لم أمرتكم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ »... 2 : 591

« اتركوا ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس »... 1 : 464

« أجمع لك السهو في كلمتين »... 2 : 540

« أخوك دينك فاحتط لدينك »... 1 : 369 ، 506

« إذا استيقنت أنّك قد توضّأت فإيّاك أن تحدث وضوء »... 2 : 105

« إذا أمرتكم بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم »... 1 : 561 ؛ 2 : 311

« إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا »... 1 : 124 ؛ 2 : 650

« إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره »... 2 : 445

« إذا ذكر وهو في صلاته انصرف »... 2 : 458

« إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة »... 2 : 586

« إذا شكّ فليمض في صلاته »... 2 : 447

« إذا شككت فابن على الأكثر »... 2 : 16

« إذا شككت فابن على اليقين »... 2 : 101

« إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره »... 2 : 320 ، 445

« إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم »... 2 : 418 ، 474

« إذا كان ذلك فأرجه »... 2 : 650

« إذا لا يكذب علينا »... 2 : 579

ص: 673

« إذا لم تعلم فموسّع عليك »... 2 : 633

« إذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع »... 2 : 147

« إذا ورد حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه »... 2 : 621

« إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف القوم »... 2 : 624

« إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف العامّة »... 2 : 615

« أرأيتك لو حدّثتك بحديث العامّ »... 2 : 625

« أربع من كنّ فيه ، لم يهلك على اللّه بعدهنّ »... 1 : 16

« أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ... وتأخذ بالحائطة »... 1 : 369

« اسكتوا ممّا سكت اللّه عنه »... 1 : 353 - 354

« اطلبوا العلم ولو بالصين »... 1 : 300

« اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه »... 2 : 397 ، 548 ، 554 ، 646

« اقض بين الناس بالبيّنات »... 1 : 227

« ألم آت بها بيضاء نقيّة؟ »... 2 : 216

« أما علمت؟ »... 1 : 582

« أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل »... 2 : 106

« أمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه ورسوله »... 1 : 378

« أ من أجل أنّه مكان واحد يجعل فيه الميتة »... 1 : 465

« إنّ اللّه حلّل حلالا ، وحرّم حراما »... 1 : 70

« أنّ عالما من علماء بني إسرائيل قد ناجى إلى اللّه »... 1 : 227

« إنّ في ذلك حديثين »... 2 : 634

« إنّ كلّ شيء طاهر »... 2 : 76

« أن لا يكذّبه »... 2 : 474

ص: 674

« أن لا يتّهمه فلو اتّهمه انماث الإيمان »... 2 : 471

« إنّ لكلّ حقّ حقيقة ولكلّ صواب نورا »... 2 : 588

« إنّ لله حجّتين حجّة في الظاهر وهي الرسل »... 1 : 24

« إنّ النّار والماء قد طهّراه »... 2 : 392

« أن يقولوا ما لا يعلمون »... 1 : 370

« إنّ اليقين لا يدفع بالشك »... 2 : 132

« انظروا إلى أمرنا وما جاءكم منّا »... 1 : 123 ؛ 2 : 650

« إنّك قد أخذتني بالقياس »... 1 : 312

« إنّما خلّد أهل النار في النار »... 1 : 15

« إنّما الشك في شيء لم تجزه »... 2 : 325

« ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك »... 2 : 591

« أيّما امرئ ركب بجهالة أمرا »... 1 : 375

« بأنّ ذلك وأشباهه يعرف من كتاب اللّه »... 1 : 570

« بعثت على الملّة السمحة السهلة »... 1 : 490

« به يثاب ويعاقب »... 1 : 24

« البيّعان بالخيار »... 2 : 165

« تارك فيكم الثقلين »... 1 : 83

« تصوم وتصلّي وتتّقي اللّه لا تدري ما أمركم؟ »... 1 : 298

« تعيد الصلاة وتغسله »... 2 : 95

« تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّها قد أصابها »... 1 : 462 - 463

« تمعّكت كما تتمعّك الدابّة »... 1 : 584

« ثمانون » في جواب أنّه كم آية يقرأ في الزوال... 2 : 620

ص: 675

« حتّى تعرف الحرام منه بعينه »... 1 : 363

« حتّى علمت أنّه مذكّى »... 1 : 389

« حتّى يرد فيه أمر أو نهي »... 2 : 426

« حديث يأخذه صادق عن صادق خير من الدنيا »... 1 : 257

« حلاله حلال وحرامه حرام »... 2 : 218

« خذ بما اشتهر بين أصحابك »... 1 : 117 ، 244

« خذوا بما رووا وذروا ما رأوا »... 1 : 155 ، 211

« خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ »... 2 : 625

« دع ما يريبك إلى ما لا يريبك »... 1 : 369 ، 506 ؛ 2 : 101

« دين اللّه لا يصاب بالعقول »... 1 : 22

« ذلك وأشباهه يعرف من كتاب اللّه »... 1 : 83

« الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم »... 1 : 13

« ربّ الماء ربّ التراب »... 2 : 620

« رفع عن أمّتي تسعة »... 1 : 355 ، 528 ، 553

« رفع عن أمّتي ستّة »... 1 : 554

« سأخبرك عن الجبن وغيره »... 1 : 365

« صلّ فيه ولا تغسله »... 2 : 106

« صلّى في المحمل »... 2 : 633

« ضع أمر أخيك على أحسنه »... 2 : 470 ، 480

« الضعيف من لم ترفع إليه الحجّة »... 1 : 298

« طلب العلم فريضة »... 1 : 294 ، 300

« الطواف بالبيت صلاة »... 2 : 254 ، 261

ص: 676

« العقل ما عبد به الرحمن »... 1 : 24

« العمري ثقتي ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّي »... 1 : 257

« العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي ، فعنّي يؤدّيان »... 1 : 257

« على مثل هذا فاشهد أو دع »... 1 : 10

« عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا »... 1 : 211

« فابن على الأكثر »... 2 : 409

« فإذا قمت من الوضوء وقد فرغت عنه »... 2 : 446

« فإنّ الرشد في خلافهم »... 2 : 591

« فانظروا إلى ما وافق أخبارهم فدعوه »... 2 : 615

« فإنّك كنت على يقين من وضوئك »... 2 : 186

« فإنّه حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ »... 2 : 460

« فإنّه على يقين من وضوئه »... 2 : 325

« فتخيّر أحدهما فتأخذ به »... 2 : 633

« فما علمت أنّه مذكّى فهو حلال »... 2 : 354

« فما وافق أخبارهم فذروه »... 2 : 615

« فليمض على يقينه فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ »... 2 : 147

« فما لكم والقياس؟ »... 1 : 273

« فما يمنعك عن محمّد بن مسلم الثقفي »... 1 : 257

« فهو كافر »... 1 : 295 - 296

« في الغنم السائمة زكاة »... 1 : 135

« قتلوه قاتلهم اللّه ألاّ سألوا »... 1 : 584

« قد تنام العين ولا ينام القلب »... 2 : 88 ، 91

ص: 677

« القضاة أربعة : ثلاثة في النار »... 1 : 70

« كافر يا أبا محمّد »... 1 : 299

« كلّ أمر مجهول ففيه القرعة »... 1 : 466

« كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره »... 2 : 446 ، 452

« كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف »... 1 : 456

« كلّ شيء قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه »... 2 : 320 ، 446

« كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه »... 2 : 659

« كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام »... 1 : 364 ، 366

« كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان »... 1 : 589

« كلّ شيء مباح حتّى تعلم أنّه حرام »... 2 : 76

« كلّ شيء مطلق » 1 : 159 ، 328 ، 358 ، 376 ، 412 ، 523 ، 545 ؛ 2 : 659

« كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر »... 2 : 107

« كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله »... 2 : 646

« كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال » 1 : 359 ، 412 ، 448 ، 455 ، 491 ، 589 ؛ 2 : 37 ، 107

« كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر »... 2 : 107

« كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو »... 2 : 447

« كلّ ما غلب اللّه فيه فهو أولى بالعذر »... 1 : 354 - 355

« كلّما اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال »... 1 : 402

« لا » في جواب هل على من لم يعرف شيئا شيء؟... 1 : 375

« لا ، أمّا إذا كان بجهالة ، فليتزوجها »... 1 : 507

« لا إنّه لا تصلّي نافلة في وقت فريضة »... 2 : 590

ص: 678

« لا بأس بخرء الطير »... 2 : 548 - 549 ، 554

« لا بل عليهما جميعا ويجزي كلّ واحد منهما الصيد »... 1 : 506 - 507

« لا تبطلوا أعمالكم بالشرك »... 2 : 294

« لا تثق بأخيك كلّ الثقة »... 2 : 472

« لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة »... 1 : 556

« لا تعمل بواحد منهما حتّى تأتي صاحبك »... 2 : 624

« لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم »... 1 : 558

« لا تنقض اليقين بالشك »... 1 : 10 ، 432 ؛ 2 : 185 ، 392 ، 462 ، 502

« لا صلاة إلاّ بطهور »... 2 : 165 ، 452 ، 453

« لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب »... 2 : 165

« لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل »... 2 : 165 ، 200

« لا ضرر »... 1 : 306

« لا عمل إلاّ بالنية »... 2 : 165

« لأنّك كنت على يقين من طهارتك »... 2 : 247 ، 464

« لا واللّه لا يسعكم إلاّ التسليم لنا »... 2 : 625

« لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون »... 1 : 369

« لقد سألت عن طعام يعجبني »... 1 : 589

« لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا »... 1 : 299

« ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط »... 1 : 375

« ليس على ديني من استعمل القياس »... 1 : 314

« ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وقد غلب الحرام على الحلال »... 1 : 463 ؛ 2 : 635

« ما أجهلك بلسان قومك »... 1 : 79

ص: 679

« ما أدري ما الخفقة والخفقتان »... 2 : 91

« ما أسوأ حالك لو كنت تموت على مثل هذه الحالة » 1 : 224 ، 499 - 500 ، 584

« ما جاءك عنّا فقسه على كتاب اللّه »... 2 : 586

« ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم »... 1 : 353 ، 528

« ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقية »... 2 : 589 - 590

« ما علمتم أنّه قولنا فالزموه »... 1 : 123 ؛ 2 : 650

« ما غلب اللّه شيئا على العباد إلاّ وهو أولى به »... 1 : 193

« ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه »... 1 : 561 ، 569 ؛ 2 : 311

« ما لكم والقياس إنّما هلك من هلك »... 1 : 369

« ما من شيء أبعد في دين اللّه من عقول الرجال »... 1 : 22

« ما يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب من نفسه »... 1 : 422

« مضى على صلاته ولا يعيد »... 2 : 446

« ملعون ملعون من اتّهم أخاه المؤمن »... 2 : 471

« ملعون من همّ بها »... 1 : 13

« من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما »... 2 : 471

« من أفتى الناس بغير علم فليتبوأ »... 1 : 70

« من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت »... 2 : 576

« من دان اللّه بغير سماع من صادق ألزمه اللّه التيه »... 1 : 22 ، 76

« من زاد في صلواته شيئا ، فعليه الإعادة »... 1 : 559

« من شكّ في اللّه وفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فهو كافر »... 1 : 295

« من عرف الاختلاف فليس بمستضعف »... 1 : 297 - 298

« من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّا »... 2 : 620

ص: 680

« من فوّض أمره إلى اللّه هداه اللّه إلى ما هو الأصلح »... 2 : 433

« من قاس شيئا من الدين قرنه اللّه مع إبليس »... 1 : 306

« من قال لا إله إلاّ اللّه غرس له في الجنّة كذا »... 2 : 294

« من قام جميع ليله وصام ... ولم يعرف وليّ اللّه فيواليه ... لم يكن له على اللّه حقّ » 1 : 22

« من قضى بالحقّ وهو لا يدري »... 1 : 72

« من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه »... 2 : 103 ، 317 ، 462 ، 464

« موسّع عليك بأيّة عملت »... 2 : 633

« المؤمن وحده حجّة »... 2 : 474

« المؤمنون عند شروطهم »... 1 : 93 - 94

« الميسور لا يسقط بالمعسور »... 1 : 440 ، 561

« الناس في سعة ما لم يعلموا »... 1 : 158 ، 355 ، 357 ، 528 ، 586

« نحن نحكم بينكم بالظاهر ، واللّه أعلم بالسرائر »... 1 : 227

« نعم » في جواب أفيونس بن عبد الرحمن ثقة؟... 1 : 211 ، 256

« نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الغرر أو عن بيعه »... 1 : 572

« وإن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض »... 2 : 446

« وإنّما ينقضه بيقين مثله »... 2 : 176

« الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة »... 1 : 124

« ولا يختلط أحدهما بالآخر »... 2 : 147

« ولا يعتدّ بالشكّ »... 2 : 147

« ولا يقبل اللّه من مؤمن وهو مضمر من أخيه »... 2 : 471

« ولا ينقض اليقين بالشك »... 2 : 155

« ولكن ينقض الشكّ باليقين »... 2 : 147

ص: 681

« وليكن فيه شيء من السدر »... 1 : 568

« وما لم تجدوه في شيء من ذلك الوجوه فردّوا إلينا »... 2 : 641

« هلاّ سألت »... 1 : 461

« هلاّ سألوا ، هلاّ يمّموه »... 2 : 516

« هلك من حيث لا يعلم »... 1 : 352

« هو الذي لا يهدي حيلة إلى الكفر »... 1 : 300

« هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك »... 2 : 320 ، 446

« يا أبان إنّك قد أخذتني بالقياس »... 1 : 281

« يا زرارة إنّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم »... 2 : 618

« يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك »... 2 : 582

« يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب »... 2 : 177

« يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك »... 2 : 471

« يرجئه حتّى يلقى من يخبره »... 2 : 650

« يركع ركعتين وأربع سجدات »... 2 : 98

« يريقهما جميعا ويتمّم »... 1 : 465

« اليقين لا يدخل فيه الشك »... 2 : 101 ، 132 ، 155 ، 501

« يكون فيه حلال وحرام »... 1 : 365 - 366

« يمضي »... 2 : 44

« ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به »... 1 : 117 ، 370

ص: 682

فهرس الأشعار والأمثال

وإن تفق الأنام وأنت منهم

فإنّ المسك بعض دم الغزال

ج 4 ، ص 93 ، 456

چگونه شكر اين نعمت گذارم

كه دست مردم آزارى ندارم

ج 3 ، ص 13

الغريق يتشبّث بكلّ حشيش

ج 3 ، ص 248 ، 283

ليس وراء عبّادان قرية

ج 4 ، ص 405

من لا يعرف الفقه صنّف فيه

ج 4 ، ص 166

ص: 683

فهرس الأعلام

آدم عليه السلام : ج 3 ، ص 79 ، 92.

2 بن الجنيد : ج 4 ، ص 470.

الآمدي : ج 4 ، ص 160.

ابن حمزة : ج 4 ، ص 269 ، 285.

أبان بن تغلب : ج 3 ، ص 25 ، 26 ، 247 ، 271 ، 281 ، 312.

ابن الزبعرى : ج 3 ، ص 79.

إبراهيم بن عبد الحميد : ج 3 ، ص 155.

ابن زهرة : ج 3 ، ص 121 ، 331.

إبراهيم بن هاشم : ج 3 ، ص 138 ، 287 ، 288.

ابن طاوس ، علي رضي الدين : ج 3 ، ص 154.

ج 4 ، ص 88 ، 96 ، 99.

ابن عقدة : ج 3 ، ص 288 ج 4 ، ص 578.

إبليس : ج 3 ، ص 306.

ابن الغضائري : ج 3 ، ص 258.

ابن أبي جمهور الإحسائي : ج 4 ، ص 539.

ج 4 ، ص 103.

ابن أبي عمير : ج 3 ، ص 124.

ابن فضّال : ج 3 ، ص 258 ، 288.

ابن إدريس الحلّي : ج 3 ، ص 32 ، 36 ، 121 ، 122 ، 185 ، 464.

ج 4 ، ص 625.

ج 4 ، ص 292 ، 649.

ابن قبة : ج 3 ، ص 62 ، 63 ، 148 ، 173 ، 209.

ابن بابويه : ج 3 ، ص 121.

ابن محبوب : ج 3 ، ص 589.

ابن البرّاج : ج 3 ، ص 121.

ابن المغيرة : ج 4 ، ص 134.

ابن بكير : ج 3 ، ص 124.

ابن الوليد : ج 3 ، ص 257 ، 258.

ج 4 ، ص 105 ، 589 ، 650.

ابن يعقوب : ج 4 ، ص 134.

ص: 684

أبو إسحاق الأرجاني : ج 4 ، ص 591.

أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد اللّه بن محمّد الحجّال : ج 3 ، ص 256.

أبو بصير : ج 3 ، ص 299 ، 559.

أحمد بن محمّد بن الوليد : ج 3 ، ص 258.

ج 4 ، ص 103.

الأردبيلي ، المقدّس ، المحقّق : ج 3 ، ص 277 ، 500 ، 580.

أبو الجارود ، زياد بن منذر : ج 3 ، ص 465 ، 491.

الأستاذ - الأنصاري مرتضى.

أبو جعفر من القرّاء : ج 3 ، ص 111.

الأستاذ الأكبر - الوحيد البهبهاني.

أبو حمزة الثمالي : ج 4 ، ص 471.

الأسترآبادي محمّد أمين : ج 3 ، ص 17 ، 19 ، 120 ، 408.

أبو حنيفة : ج 3 ، ص 585.

ج 4 ، ص 49 ، 50 ، 52 ، 62 ، 188 ، 193 ، 194 ، 195 ، 618.

ج 4 ، ص 390 ، 591 ( السامري من هذه الأمّة ) ، 622.

إسحاق بن عمّار : ج 4 ، ص 101.

أبو الصلاح الحلبي : ج 3 ، ص 285.

إسماعيل بن مرار : ج 4 ، ص 626.

أبو علي سينا - الشيخ الرئيس.

الأسنوي : ج 4 ، ص 44.

أبو عمرو الكناني : ج 4 ، ص 625 ، 626.

الأصفهاني الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين : ج 3 ، ص 501 ( فخر الأعاظم ).

أبو المأمون الحارثي : ج 4 ، ص 471.

الأصفهاني الشيخ محمّد حسين صاحب الفصول - بعض الأجلّة.

أبو هاشم : ج 3 ، ص 15.

أمين الأخبارية - لأسترآبادي.

أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي : ج 4 ، ص 615.

الأنصارى مرتضى ، الأستاذ : ج 3 ، ص 43 ، 154 ، 184 ، 280 ، 281 ، 283 ،

أحمد بن إسحاق أبو علي : ج 3 ، ص 257.

أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد اللّه بن محمّد الحجّال : ج 3 ، ص 256.

أحمد ابن حنبل : ج 4 ، ص 529.

أحمد بن محمّد بن الوليد : ج 3 ، ص 258.

أحمد بن عبدون : ج 3 ، ص 258.

الأردبيلي ، المقدّس ، المحقّق : ج 3 ، ص 277 ، 500 ، 580.

أحمد بن محمّد بن عيسى : ج 3 ، ص 589.

الأستاذ - الأنصاري مرتضى.

ج 4 ، ص 88 ، 90 ، 102.

الأستاذ الأكبر - الوحيد البهبهاني.

ص: 685

323 ، 475 ، 510 ، 544 ، 577.

2 لبزنطى : ج 4 ، ص 578.

ج4 ، ص12 ، 13 ، 39 ، 42 ، 52 ، 98 ،

بعض الأجلّة ( صاحب الفصول ، الشيخ محمّد

99 ، 112 ، 120 ، 127 ، 129 ، 187 ،

حسين الأصفهاني ) : ج 3 ، ص 29 ، 59 ،

237، 316 ، 354 ، 389 ، 396 ، 427 ،

74 ، 77 ، 131 ( صاحب الفصول ) ، 144

428، 445 ، 450 ، 460 ، 462 ، 517 ،

( صاحب الفصول ) 167 ، 205 ، 223 ،

544 ، 597 ، 662.

276 ،328 ، 329 ، 343 ، 374 ، 377 ،

أيوب عليه السلام : ج 4 ، ص 372.

378 ، 446 ، 458 ، 460 ، 500 ، 534 ،

الباقر عليه السلام : ج 3 ، ص 70 ، 117 ، 123 ، 124 ، 298 ، 300 ، 465 ، 589.

542 ، 543.

ج 4 ، ص 88 ، 96 ، 106 ، 176 ، 247 ، 447 ، 582 ، 590 ، 618 ، 650.

ج 4 ، ص 28 ، 59 ، 60 ، 61 ، 65 ، 109 ، 146 ، 148 ، 151 ، 170 ، 176 ، 340 ، 342 ، 361 ، 379 ، 403 ، 597.

بحر العلوم السيّد مهدي الطباطبائي : ج 4 ، ص 339 ، ( بعض أفاضل السادات ) ، 342 ( الفاضل المذكور ) ، 395.

بعض الأواخر ( السيّد عبد اللّه شبّر ) : ج 3 ، ص 78.

البحراني الشيخ يوسف صاحب الحدائق :

بكير بن أعين : ج 4 ، ص 446 ، 455.

ج 3 ، ص 20 ، 23 ، 33 ، 45 ، 49 ، 120 ، 185 ، 196 ، 373 ، 462 ، 476 ، 481 ، 482.

البهائي : ج 3 ، ص 154 ، 187 ، 263 ، 265 ، 293.

ج 4 ، ص 494 ، 582 ، 616 ، 619.

ج 4 ، ص 8 ، 55 ، 56 ، 68 ، 361 ، 537.

بخت نصر : ج 4 ، ص 214.

البهبهاني - الوحيد البهبهاني.

البرقي : ج 4 ، ص 89 ، 103.

التفتازاني : ج 4 ، ص 51 ، 229.

ج 4 ، ص 615.

التوني الملا عبد اللّه : ج 3 ، ص 121 ، 134 ، 159 ، 360.

ج 4 ، ص 113 ، 116 ، 117 ، 120 ،

ص: 686

123 ، 243 ، 353 ، 578.

الحسن بن راشد : ج 4 ، ص 103.

جابر بن يزيد الجعفي : ج 3 ، ص 123 ج 4 ، ص 650.

الحسن بن سماعة : ج 4 ، ص 589.

جاثليق : ج 4 ، ص 204 ، 215.

الحسن بن علي بن فضّال : ج 3 ، ص 288.

جبريل : ج 3 ، ص 223.

ج 4 ، ص 607.

الجزائري السيّد نعمة اللّه : ج 3 ، ص 19 ، 20.

حسين بن الحسن بن أبان : ج 4 ، ص 88.

جمال المحقّقين - الخوانساري آقا جمال.

حسين بن السري : ج 4 ، ص 624.

جميل بن درّاج : ج 3 ، ص 124.

الحسين بن سعيد الأهوازي : ج 4 ، ص 88 ، 91 ، 95.

الجواد عليه السلام : ج 3 ، ص 465.

حسين بن عثمان : ج 4 ، ص 91.

ج 4 ، ص 99 ، 102.

حسين بن مختار : ج 4 ، ص 625.

جواد الفضلاء - فاضل جواد.

الحلّي ، ابن إدريس صاحب السرائر - ابن إدريس الحلّي.

الحاجبي : ج 3 ، ص 166 ، 185.

الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهر - العلاّمة الحلّي.

ج 4 ، ص 161 ، 166.

الحلّي ، المحقّق الأوّل : ج 3 ، ص 108 ، 121 ، 153 ، 167 ، 321 ، 330 ، 336 ، 373 ، 374 ، 376 ، 387 ، 389 ، 515.

الحارث بن مغيرة : ج 4 ، ص 586.

ج4 ، ص 15 ، 24 ، 28 ، 40 ، 50 ، 53 ،

الحرّ العاملي : ج 3 ، ص 120 ، 408.

54 ، 68 ، 126 ، 234 ، 269 ، 274 ،

ج 4 ، ص 50 ، 183 ، 187.

283 ، 285 ، 312 ، 387 ، 389 ، 390 ،

حريز بن عبد اللّه السجستاني : ج 3 ، ص 355.

391 ، 408 ، 494 ، 589 ، 593 ، 613 ، 627 ، 630 ، 631 ، 636 ، 637.

ج 4 ، ص 88 ، 89 ، 90 ، 95 ، 98.

الحسن بن أيّوب : ج 4 ، ص 589.

الحسن بن جهم : ج 4 ، ص 586 ، 625.

ص: 687

حمّاد بن عيسى : ج 4 ، ص 88 ، 95 ، 98.

السيّد الرضي صاحب نهج البلاغة : ج 3 ، ص 34 ، 579.

حمزة بن طيّار : ج 3 ، ص 369.

الرقيب العتيد : ج 3 ، ص 413.

الخثعمي : ج 4 ، ص 620.

زرارة بن أعين : ج 3 ، ص 84 ، 117 ، 287 ، 298 ، 299 ، 462 ، 558.

خلف من القرّاء : ج 3 ، ص 111.

ج 4 ، ص 88 ، 95 ، 96 ، 97 ، 98 ، 154 ، 157 ، 177 ، 247 ، 446 ، 501 ، 576 ، 582 ، 590 ، 618.

الخوانساري آغا جمال الدين ، جمال المحققين ، المحقق الجمال : ج 3 ، ص 102 ، 130 ، 133 ، 185 ، 188 ، 223 ، 228 ، 500 ، 539 ، 581.

زكريّا بن آدم : ج 3 ، ص 211.

الخوانساري آغا حسين : ج 3 ، ص 77 ، 498 ، 561.

زيد الشحّام : ج 4 ، ص 91.

ج 4 ، ص 42 ، 46 ، 60 ، 61 ، 63 ، 104 ، 125 ، 131 ، 132 ، 136 ، 140 ، 145 ، 150 ، 152 ، 154 ، 157 ، 159 ، 171 ، 178 ، 230 ، 316.

زيد بن علي بن الحسين الشهيد : ج 3 ، ص 70.

داود بن حصين : ج 3 ، ص 379.

السامري من هذه الأمّة : ج 4 ، ص 591.

ج 4 ، ص 576 ، 578.

السبزواري صاحب الذخيرة : ج 3 ، ص 516 ، 580 ، 581.

الدزفولي الشيخ أسد اللّه : ج 3 ، ص 108.

ج 4 ، ص 60 ، 61 ، 62 ، 63 ، 92 ، 93 ، 175 ، 187 ، 230 ، 426 ، 571.

الراوندي قطب الدين سعيد بن هبة اللّه :

سعد بن عبد اللّه الأشعري : ج 3 ، ص 124 ، 256.

ج 3 ، ص 124.

ج 4 ، ص 102 ، 103.

ج 4 ، ص 615 ، 621.

السكاكي : ج 3 ، ص 51.

الرضا عليه السلام : ج 4 ، ص 99 ، 586 ، 591 ، 615 ، 633 ، 641.

سلطان العلماء : ج 3 ، ص 290.

ص: 688

سماعة بن مهران : ج 3 ، ص 273 ، 369 ، 464.

صاحب الإيضاح ( فخر المحقّقين ) : ج 4 ، ص 571.

ج 4 ، ص 624 ، 650.

صاحب الحدائق - البحراني.

السيّد - المرتضى.

صاحب الرياض - الطباطبائي السيّد علي.

الشافعي : ج 4 ، ص 622.

صاحب الفصول - بعض الأجلّة.

شبر السيّد عبد اللّه ( بعض الأواخر ) : ج 3 ، ص 78.

صاحب المدارك : ج 3 ، ص 36 ، 45 ، 213 ، 318 ، 443 ، 472 ، 481 ، 500 ، 543 ، 579 ، 581.

شريف العلماء : ج 3 ، ص 276.

ج 4 ، ص 46 ، 50 ، 230 ، 476 ، 646.

ج 4 ، ص 42 ، 316.

صاحب المعالم ، حسن بن الشهيد الثاني :

شعيب عليه السلام : ج 4 ، ص 373.

ج 3 ، ص 79 ، 80 ، 96 ، 99 ، 102 ،

الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي : ج 3 ، ص 14 ، 58 ، 112 ، 115 ، 374 ، 389 ، 515 ، 573.

105 ، 116 ، 131 ، 141 ، 185 ، 187 ، 213 ، 232 ، 263 ، 287 ، 330 ، 397 ، 400.

ج 4 ، ص 8 ، 36 ، 60 ، 136 ، 169 ، 269 ، 285 ، 484 ، 485.

ج 4 ، ص 11 ، 12 ، 50 ، 53 ، 88 ، 89 ، 90 ، 391 ، 419 ، 579 ، 614 ، 644.

الشهيد الثاني ، زين الدين بن علي العاملي :

الصادق عليه السلام : ج 3 ، ص 15 ، 70 ، 83 ،

ج 3 ، ص 111 ، 112 ، 116 ، 117 ، 258 ، 290 ، 391 ، 394 ، 485 ، 555.

117 ، 124 ، 256 ، 295 ، 299 ، 355 ،

ج 4 ، ص 57 ، 161 ، 167 ، 269 ، 285 ، 335 ، 338 ، 394 ، 459 ، 485 ، 579.

359 ، 364 ، 369 ، 464 ، 589.

الشيخ - الطوسي محمّد بن الحسن.

ج 4 ، ص 89 ، 90 ، 91 ، 103 ، 105 ،

الشيخ الرئيس أبو علي سينا : ج 3 ، ص 62.

ص: 689

106، 446 ، 471 ، 472 ، 543 ، 579 ،

الطباطبائي ، السيّد علي صاحب الرياض :

586، 589 ، 591 ، 613 ، 615 ، 618 ،

ج 3 ، ص 177 ، 252 ، 303 ، 318 ، 567.

620 ، 621 ، 624 ، 625 ، 646 ، 650.

ج 4 ، ص 43 ، 111 ، 337 ، 426 ، 430 ، 570 ، 647.

صالح العلماء - المازندراني ملاّ صالح.

الطباطبائي ، السيّد المجاهد صاحب المفاتيح : ج 4 ، ص 43 ، 462 ( بعض سادات مشايخ الأستاذ ) ، 593 ، 606.

السيّد صدر الدين القمي شارح الوافية :

الطباطبائي ، السيّد مهدي بحر العلوم : ج 4 ، ص 339 ، 342 ( بعض أفاضل السادات ) ، 395.

ج 1 ، ص 23 ، 87 ، 360 ، 361 ، 408.

الطبرسي ، أحمد بن علي صاحب الاحتجاج : ج 4 ، ص 624 ، 633 ، 634.

ج 4 ، ص 79 ، 83 ، 84 ، 115 ، 132 ،

الطبرسي ، صاحب مجمع البيان : ج 3 ، ص 126 ، 130.

136 ، 144 ، 145 ، 146 ، 160 ، 175 ، 199 ، 602.

الطوسي ، محمّد بن الحسن ، شيخ الطائفة :

صدقة : ج 3 ، ص 365.

ج 3 ، ص 39 ، 41 ، 43 ، 95 ، 108 ،

الصدوق ، محمّد بن علي ابن بابويه القمي :

111 ، 113 ، 121 ، 122 ، 126 ، 130 ،

ج 3 ، ص 124 ، 183 ، 342 ، 355 ، 359 ، 376 ، 515 ، 545.

138 ، 138 ، 153 ، 154 ، 181 ، 183 ،

ج 4 ، ص 101 ، 423 ، 615 ، 624.

217 ، 330 ، 331 ، 480 ، 506 ، 558.

الصفّار ، محمّد بن الحسن : ج 3 ، ص 123 ، 257 ، 258.

ج 4 ، ص 41 ، 50 ، 88 ، 89 ، 90 ، 91 ،

ج 4 ، ص 88 ، 101 ، 102.

صفوان بن يحيى : ج 3 ، ص 295 ، 379 ، 506.

ج 4 ، ص 576 ، 578.

الصيرفي : ج 4 ، ص 51.

ضريس : ج 4 ، ص 106.

ص: 690

95 ، 101 ، 105 ، 269 ، 298 ، 514 ، 578 ، 579 ، 589 ، 593 ، 602 ، 613 ، 614 ، 627 ، 646.

عبد اللّه بن محمّد : ج 4 ، ص 633.

الطوسي ، خواجه نصير الدين : ج 3 ، ص 293.

عبد الرحمن بن الحجّاج : ج 3 ، ص 506 ، 507.

ج 4 ، ص 361.

ج 4 ، ص 91.

الطهراني ، أبو القاسم ( المؤلّف ) : ج 4 ، ص 662.

عبد السلام بن سالم : ج 3 ، ص 257.

العاملي ، الشيخ حسين والد البهائي : ج 4 ، ص 56.

عبيد بن زرارة : ج 4 ، ص 589.

العاملي ، حسين بن شهاب الدين : ج 3 ، ص 90.

العسكري ، أبو محمّد عليه السلام : ج 3 ، ص 257.

العاملي ، زين الدين بن علي العاملي - الشهيد الثاني.

العضدي : ج 3 ، ص 65 ، 185.

العاملي ، السيّد محمّد - صاحب المدارك.

ج 4 ، ص 11 ، 51 ، 56 ، 60 ، 78 ، 160 ، 161 ، 166 ، 229 ، 230 ، 410.

عبد الأعلى مولى آل سام : ج 3 ، ص 570.

العقيقي : ج 3 ، ص 258.

عبد الأعلى بن أعين : ج 3 ، ص 83.

العلاء بن رزين : ج 3 ، ص 256.

عبد اللّه بن أبي يعفور : ج 3 ، ص 256.

العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهّر :

عبد اللّه بن الحسن : ج 4 ، ص 447.

ج 3 ، ص 33 ، 36 ، 37 ، 41 ، 43 ، 52 ، 65 ، 66 ، 112 ، 133 ، 134 ، 135 ، 150 ، 154 ، 165 ، 184 ، 195 ، 376 ، 476 ، 515 ، 576 ، 579.

عبد اللّه بن سليمان : ج 3 ، ص 589.

ج 4 ، ص 37 ، 39 ، 65 ، 66 ، 89 ، 90 ، 100 ، 102 ، 103 ، 160 ، 189 ، 269 ، 285 ، 312 ، 391 ، 395 ، 397 ، 403 ، 459 ، 460 ، 478 ، 484 ، 485 ، 494 ، 525 ، 537 ، 583 ، 593 ، 627.

عبد اللّه بن سنان : ج 3 ، ص 359 ، 589.

ج 4 ، ص 105 ، 646.

ص: 691

علم الهدى - السيّد المرتضى.

ج 4 ، ص 101.

علي بن إبراهيم القمي : ج 3 ، ص 295.

عمّار بن ياسر : ج 3 ، ص 584.

ج 4 ، ص 98.

عمر بن حنظلة : ج 3 ، ص 117 ، 124 ، 370 ، 379.

علي بن أبي طالب عليه السلام : ج 4 ، ص 91 ، 103 ، 470 ، 472 ، 591 ، 617.

ج 4 ، ص 576 ، 578 ، 579 ، 587.

علي بن أحمد بن محمّد بن طاهر : ج 4 ، ص 102.

عمر بن الخطّاب : ج 4 ، ص 216.

علي بن أسباط : ج 4 ، ص 591.

عمر بن يزيد : ج 4 ، ص 471.

علي ابن بابويه القمي أبو الحسن والد الصدوق : ج 3 ، ص 111 ، 115 ، 204.

العمري : ج 3 ، ص 257.

علي بن جعفر : ج 4 ، ص 447 ، 458.

العميدي ، السيّد عميد الدين : ج 3 ، ص 134 ، 135.

علي بن الحسن بن فضّال : ج 3 ، ص 138.

العيّاشي : ج 3 ، ص 156.

علي بن الحسين السعدآبادي : ج 4 ، ص 615.

عيسى بن مريم عليه السلام : ج 4 ، ص 204 ، 212 ، 213 ، 214 ، 215 ، 216 ، 217.

علي بن سندي : ج 3 ، ص 506.

الغزالي : ج 4 ، ص 29 ، 51 ، 61 ، 199.

علي بن شيرة : ج 4 ، ص 102.

الفاضل الجواد شارح زبدة الأصول : ج 4 ، ص 35 ، 53 ، 54 ، 160.

الشيخ علي بن محمّد بن زين الدين الشهيد الثاني : ج 4 ، ص 497.

الفاضل الهندي ، كاشف اللثام : ج 3 ، ص 39 ، 391.

علي بن محمّد بن شيرة القاساني : ج 4 ، ص 101 ، 102 ، 155 ، 501.

ج 4 ، ص 391 ، 640.

علي بن مهزيار : ج 4 ، ص 633.

الفخر الرازي ، الفخري : ج 3 ، ص 93.

عمّار الساباطي : ج 3 ، ص 465.

ج 4 ، ص 68.

فخر المحقّقين صاحب الإيضاح : ج 4 ، ص

ص: 692

571.

462 ، 463 ، 467 ، 468 ، 473.

فضالة : ج 3 ، ص 91.

كاشف اللثام - الفاضل الهندي.

الفضل بن شاذان : ج 4 ، ص 98 ، 99.

الكاظم عليه السلام : ج 3 ، ص 273 ، 298 ، 369 ، 506 ، 507.

الفضيل ( الفضل ) بن عثمان المرادي : ج 3 ، ص 16.

ج 4 ، ص 90 ، 99 ، 101 ، 447 ، 458 ، 625 ، 633.

الفيروزآبادي : ج 3 ، ص 94.

الكاظمي ، صاحب شرح الوافية : ج 3 ، ص 133 ، 134 ، 135 ، 184.

القاسم بن يحيى : ج 4 ، ص 103.

الكرخي : ج 4 ، ص 529.

القمي الميرزا أبو القاسم : ج 3 ، ص 29 ، 59

الكركي ، المحقّق الثاني : ج 3 ، ص 111 ، 285 ، 391 ، 485 ، 488 ، 494 ، 560.

، 74 ، 77 ، 79 ، 80 ، 96 ، 99 ، 136 ،

ج 4 ، ص 269 ، 278 ، 285 ، 335 ، 337 ، 338 ، 476 ، 484 ، 485 ، 570.

141 ، 145 ، 167 ، 188 ، 201 ، 222،

الكشّي : ج 3 ، ص 256.

232 ، 263 ، 270 ، 272 ، 275 ، 279،

ج 4 ، ص 90.

283، 285 ، 343 ، 360 ، 377 ، 427 ،

الكلباسي : ج 4 ، ص 159 ( بعض من تأخّر عن الخوانساري ) ، 171 ( بعض الأعيان من المعاصرين ).

446 ، 498 ، 543 ، 544 ، 548.

الكليني ، محمّد بن يعقوب ثقة الإسلام :

ج4 ، ص10 ، 28 ، 30 ، 42 ، 56 ، 62 ،

ج 1 ، ص 15 ، 273 ، 297.

84 ، 109 ، 110 ، 111 ، 115 ، 128 ،

ج 4 ، ص 99 ، 103 ، 582 ، 617 ، 618.

146 ، 183 ، 187 ، 204 ، 205 ، 211،

كميل بن زياد : ج 3 ، ص 369.

212، 218 ، 316 ، 359 ، 361 ، 368 ،

407 ، 496 ، 506.

كاشف الغطاء ، الشيخ جعفر النجفي : ج 3 ، ص 27 ، 566.

ج 4 ، ص 267 ، 268 ، 274 ، 284 ،

318، 321 ، 322 ، 323 ، 450 ، 459 ،

ص: 693

المازندراني ملاّ صالح ، صالح العلماء : ج 3 ، ص 102.

محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب : ج 4 ، ص 576 ، 578.

المأمون : ج 4 ، ص 204.

محمّد بن عبد اللّه ( عبيد اللّه ) : ج 4 ، ص 615.

المتنبي ، أبو الطيّب : ج 4 ، ص 93.

محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري : ج 4 ، ص 634.

المجلسي : ج 3 ، ص 123 ، 446.

محمّد بن علي بن عيسى : ج 4 ، ص 649.

ج 4 ، ص 103 ، 318.

محمّد بن عيسى : ج 4 ، ص 576 ، 578.

المحقّق - الحلّي.

محمّد بن عيسى اليقطيني : ج 4 ، ص 90 ، 103.

المحقّق الأوّل - الحلّي.

محمّد بن فضيل : ج 4 ، ص 471 ، 472.

المحقّق الثالث : ج 3 ، ص 125.

محمّد بن قولويه : ج 3 ، ص 256.

المحقّق الثاني - الكركي.

محمّد بن مسلم الثقفي : ج 3 ، ص 256 ، 257 ، 298.

محقّق الجمال - الخوانساري آغا جمال.

ج 4 ، ص 103 ، 446 ، 447.

المحقّق القمي - القمي أبو القاسم.

محمّد بن موسى بن المتوكّل : ج 4 ، ص 615.

محمّد بن أبي عمير : ج 3 ، ص 124.

محمّد بن يحيى العطّار : ج 3 ، ص 589.

محمّد بن أحمد بن زياد : ج 4 ، ص 649.

ج 4 ، ص 576 ، 578.

محمّد بن إسماعيل البندقي النيشابوري : ج 4 ، ص 98 ، 99.

السيّد المرتضى ، علي بن الحسين الموسوي ، الشريف المرتضى ، علم الهدى : ج 3 ، ص 69 ، 95 ، 98 ، 108 ، 113 ، 121 ،

محمّد بن إسماعيل بن بزيع : ج 4 ، ص 99.

محمّد بن الحسن الصفّار : ج 3 ، ص 123 ، 257 ، 258.

ج 4 ، ص 88 ، 101 ، 102.

محمّد بن عبد الحميد : ج 3 ، ص 257 ، 258.

ص: 694

122 ، 150 ، 181 ، 184 ، 209 ، 256 ، 330 ، 516 ، 579.

النجاشي : ج 3 ، ص 138 ، 258 ، 379.

ج 4 ، ص 41 ، 50 ، 54 ، 230 ، 602.

ج 4 ، ص 89 ، 90 ، 102 ، 578 ، 579.

مريم عليها السلام : ج 4 ، ص 431.

النجفي الشيخ جعفر - كاشف الغطاء.

المزني : ج 4 ، ص 51.

النراقي ، ملاّ أحمد : ج 3 ، ص 239 ، 245 ، 593 ( بعض أفاضل متأخري المتأخّرين ).

مسعدة بن صدقة : ج 3 ، ص 364.

ج 4 ، ص 239 ( بعض أفاضل متأخّري المتأخرين ) ، 368 ، 431 ( بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين ).

معلّى بن خنيس : ج 4 ، ص 625.

النظّام : ج 4 ، ص 352.

المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان : ج 3 ، ص 257 ، 258.

الوحيد البهبهاني ، محمّد باقر الأستاذ الأكبر : ج 3 ، ص 71 ، 247 ، 321 ، 416.

ج 4 ، ص 53 ، 88 ، 89 ، 189 ، 235 ، 613.

ج 4 ، ص 103 ، 230 ، 401 ، 404 ، 544 ، 593 ، 618 ، 619.

المفيد الثاني : ج 3 ، ص 582.

وليد بن عقبة : ج 3 ، ص 138 ، 145.

منصور بن حازم : ج 3 ، ص 295.

الهادي عليه السلام : ج 3 ، ص 123 ، 257.

موسى بن عمران عليه السلام : ج 4 ، ص 204 ، 211 ، 212 ، 213 ، 214 ، 215 ، 216 ، 373.

ج 4 ، ص 102 ، 649.

موسى بن محمّد بن علي بن عيسى : ج 4 ، ص 649.

هاشم جدّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ج 4 ، ص 306 ، 309.

مهدي صاحب الزمان عليه السلام : ج 4 ، ص 634.

هشام بن الحكم : ج 3 ، ص 24.

ميسر بن عبد العزيز : ج 3 ، ص 257 ، 258.

هشام بن سالم : ج 3 ، ص 369.

ص: 695

ج 4 ، ص 625.

يوسف عليه السلام : ج 4 ، ص 371.

يحيى عليه السلام : ج 4 ، ص 217 ، 372 ، 373.

يونس عليه السلام : ج 4 ، ص 431.

يحيى بن أكثم : ج 3 ، ص 465.

يونس روى عنه محمّد بن عيسى اليقطيني : ج 4 ، ص 89.

يزيد بن خليفة : ج 4 ، ص 579.

يونس بن عبد الرحمن : ج 3 ، ص 211 ، 256.

يعقوب من القرّاء : ج 3 ، ص 112.

ج 4 ، ص 624.

يعقوب بن يزيد : ج 3 ، ص 124.

اليماني : ج 4 ، ص 471.

ص: 696

فهرس الكتب

الاحتجاج : ج 4 ، ص 576 ، 586 ، 624 ، 633 ، 634.

تعليقة المعالم ( هداية المسترشدين ) : ج 3 ، ص 162 ، 205 ، 223 ، 227 ، 238 ، 260 ،

الإحكام : ج 4 ، ص 160.

276 ، 283.

الاختصاص : ج 3 ، ص 257.

تعليقة المعالم للوحيد البهبهاني : ج 4 ، ص

إرشاد الأذهان : ج 3 ، ص 195.

401.

إشارات الأصول : ج 4 ، ص 8.

تعليقة منهج المقال : ج 4 ، ص 103.

الأصول الأربعمائة : ج 4 ، ص 608.

تمهيد القواعد : ج 3 ، ص 392.

الاعتقادات للصدوق : ج 3 ، ص 342.

التنقيح الرائع : ج 4 ، ص 9.

ج 4 ، ص 423.

التوراة : ج 4 ، ص 216.

الأنوار النعمانية : ج 3 ، ص 20.

كتاب التوحيد للصدوق : ج 3 ، ص 355.

إيضاح الفوائد : ج 4 ، ص 570.

تهذيب الأحكام : ج 3 ، ص 92 ، 121 ،

بحار الأنوار : ج 3 ، ص 123 ، 257.

164 ، 258.

الأصول الأربعمائة : ج 4 ، ص 608.

ج 4 ، ص 88 ، 95 ، 101 ، 157 ، 579.

ج 4 ، ص 103.

تهذيب الوصول إلى علم الأصول للعلاّمة الحلّي :

بصائر الدرجات : ج 3 ، ص 123.

ج 3 ، ص 39 ، 135.

تحف العقول : ج 3 ، ص 70.

ج 4 ، ص 43 ، 160 ، 525.

تذكرة الفقهاء : ج 4 ، ص 484.

جامع المقاصد : ج 3 ، ص 111.

تعليقة الروضة البهية - حاشية الروضة البهية.

ج 4 ، ص 278 ، 335.

ص: 697

حاشية الخلاصة للشهيد الثاني : ج 3 ، ص 258.

ج 4 ، ص 616 ، 618.

ج 4 ، ص 579.

الخصال : ج 4 ، ص 103 ، 147 ، 317 ، 325 ، 463.

حاشية الروضة البهية لآغا جمال الدين الخوانساري : ج 3 ، ص 539.

الخلاصة : ج 4 ، ص 89 ، 90.

حاشية الروضة البهية للشيخ علي حفيد الشهيد الثاني : ج 3 ، ص 391.

الدروس : ج 4 ، ص 286.

ج 4 ، ص 497.

ذكرى الشيعة : ج 3 ، ص 58 ، 112 ، 389 ، 515.

حاشية الشرائع للمحقّق الثاني : ج 3 ، ص 391.

ج 4 ، ص 36.

حاشية شرح اللمعة - حاشية الروضة البهية.

رجال الطوسي : ج 4 ، ص 102.

حاشية العضدي لآغا جمال الخوانساري :

الرسالة الاستصحابية للوحيد البهبهاني :

ج 3 ، ص 130 ، 188.

ج 4 ، ص 8 ، 44.

حاشية كتاب ابن الغضائري للشهيد الثاني : ج 3 ، ص 258.

رسالة البراءة والاحتياط ، للوحيد البهبهاني : ج 3 ، ص 416.

حاشية المعالم للسلطان : ج 3 ، ص 290.

رسالة الجمع بين الدليلين للوحيد البهبهاني : ج 4 ، ص 544.

حاشية المعالم للوحيد البهبهاني : ج 4 ، ص 401.

رسالة مقدّمة الواجب لآغا حسين الخوانساري : ج 4 ، ص 278.

الحبل المتين : ج 4 ، ص 55.

روض الجنان : ج 3 ، ص 112.

الحدائق الناضرة : ج 3 ، ص 20 ، 185 ، 472.

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية :

ص: 698

السرائر : ج 3 ، ص 123.

ج 4 ، ص 41 ، 602 ، 613.

شرائع علي ابن بابويه القمي : ج 3 ، ص 115.

غاية المأمول في شرح زبدة الأصول : ج 4 ، ص 160.

شرائع الإسلام : ج 4 ، ص 269 ، 270 ، 275 ، 278 ، 408.

غنية النزوع : ج 3 ، ص 113 ، 146 ، 331.

شرح الألفية ( المقاصد العلية ) : ج 3 ، ص 111.

غوالي اللآلي : ج 4 ، ص 539 ، 545 ، 576 ، 582 ، 586.

ج 4 ، ص 459.

الفصول الغروية : ج 3 ، ص 205 ، 206 ، 223 ، 283.

شرح تهذيب الأحكام ( غاية المرام ) للسيّد نعمة اللّه الجزائري : ج 3 ، ص 19.

ج 4 ، ص 341.

شرح الروضة البهية ( المناهج السوية ) للفاضل الهندي : ج 3 ، ص 391.

الفقيه - من لا يحضره الفقيه.

شرح زبدة الأصول ( غاية المأمول في شرح زبدة الأصول ) : ج 4 ، ص 160.

الفوائد الحائرية : ج 3 ، ص 321.

شرح الوافية للسيد صدر الدين القمي : ج 3 ، ص 23.

ج 4 ، ص 618.

ج 4 ، ص 132 ، 175 ، 199 ، 201 ، 602.

الفوائد الطوسية : ج 4 ، ص 50 ، 184.

شرح الوافية للكاظمي : ج 3 ، ص 133 ، 184.

الفوائد المدنية : ج 3 ، ص 17 ، 120.

الصحاح للجوهري : ج 4 ، ص 91.

ج 4 ، ص 49 ، 188 ، 189.

العدّة : ج 3 ، ص 126 ، 183 ، 330 ، 331.

الفوائد المكيّة : ج 4 ، ص 188.

الفهرست للطوسي : ج 4 ، ص 89.

القاموس المحيط : ج 3 ، ص 94.

قرب الإسناد : ج 4 ، ص 447 ، 458.

قواعد الأحكام : ج 4 ، ص 391 ، 484 ، 485.

القواعد والفوائد للشهيد الأوّل : ج 3 ، ص

ص: 699

14.

649.

ج 4 ، ص 169.

مسائل محمّد بن علي بن عيسى : ج 4 ، ص 649.

القوانين : ج 4 ، ص 73 ، 408 ، 582.

مستطرفات السرائر : ج 3 ، ص 123.

الكافي : ج 3 ، ص 24 ، 164 ، 257 ، 258 ، 273 ، 295 ، 297 ، 298 ، 299 ، 359 ، 589.

مشارق الشموس في شرح الدروس : ج 4 ، ص 7 ، 9 ، 60 ، 125.

ج 4 ، ص 98 ، 576 ، 582 ، 617.

مشرق الشمسين : ج 3 ، ص 154.

كتاب الصفّار : ج 3 ، ص 258.

المصابيح للسيّد بحر العلوم : ج 4 ، ص 395.

كشف الغطاء : ج 3 ، ص 27 ، 566.

معارج الأصول : ج 3 ، ص 167 ، 173 ، 315 ، 321 ، 373.

ج 4 ، ص 284 ، 322 ، 450 ، 459 ، 462 ، 467.

ج 4 ، ص 38 ، 45 ، 53 ، 56 ، 65 ، 613 ، 627 ، 636.

كشف اللثام : ج 3 ، ص 289.

معالم الدين : ج 3 ، ص 103 ، 116 ، 127

مبادئ الوصول : ج 4 ، ص 525.

، 265.

مجمع البحرين : ج 4 ، ص 8.

ج 4 ، ص 38 ، 39 ، 45 ، 54 ، 537 ،

مجمع البيان لعلوم القرآن : ج 3 ، ص 85.

613 ، 651.

المحاسن : ج 3 ، ص 465.

المعتبر في شرح المختصر : ج 3 ، ص 153 ،

المحصول : ج 4 ، ص 68.

330 ، 387.

مدارك الأحكام : ج 3 ، ص 112.

ج 4 ، ص 28 ، 40 ، 54 ، 312 ، 390.

ج 4 ، ص 51 ، 442.

مفاتيح الأصول : ج 4 ، ص 43.

مسالك الأفهام : ج 3 ، ص 290.

المقاصد العلية في شرح رسالة الألفية : ج

ج 4 ، ص 285 ، 335.

مسائل الرجال ومكاتباتهم : ج 4 ، ص

ص: 700

3 ، ص 111.

391.

ج 4 ، ص 459.

نهاية الوصول للعلاّمة الحلّي : ج 3 ، ص 37 ، 65 ، 135 ، 150 ، 154 ، 165.

كتاب من لا يحضره الفقيه : ج 3 ، ص 92 ، 164 ، 258 ، 359.

ج 4 ، ص 37 ، 199 ، 593.

ج 4 ، ص 101.

نهج البلاغة : ج 3 ، ص 13 ، 16.

مناهج الأحكام : ج 3 ، ص 593.

نهج المسترشدين : ج 3 ، ص 184.

المناهج السوية - شرح الروضة البهية.

الوافي : ج 3 ، ص 164 ، 258.

المناهل : ج 4 ، ص 462.

الوافية : ج 3 ، ص 121 ، 159 ، 360.

منتقى الجمان : ج 4 ، ص 88 ، 90 ، 99.

ج 4 ، ص 8 ، 59 ، 113 ، 188 ، 189 ، 353.

منتهى المطلب : ج 4 ، ص 312.

وسائل الشيعة : ج 3 ، ص 258 ، 554.

المنهاج للإسنوي : ج 4 ، ص 44.

ج 4 ، ص 447 ، 634 ، 649.

المنتهى : ج 4 ، ص 59.

الوسيلة : ج 4 ، ص 269.

المنية : ج 4 ، ص 44.

هداية المسترشدين - تعليقة المعالم.

النهاية للطوسي : ج 3 ، ص 480.

نهاية الإحكام للعلاّمة الحلّي : ج 4 ، ص

ص: 701

فهرس الفرق والجماعات

الأخبارية ، الأخباريون ، الأخباري : ج 3 ، ص

ج 4 ، ص 70.

24 ، 79 ، 80 ، 85 ، 92 ، 120 ، 171 ،

الأصوليون ، الأصولية ، الأصولي : ج 3 ، ص

222، 321 ، 342 ، 351 ، 368 ، 371 ،

120 ، 141 ، 171 ، 342 ، 352 ، 371 ،

383 ، 386 ، 408 ، 587.

373 ، 383 ، 408 ، 516 ، 540 ، 587.

ج4 ، ص 62 ، 63 ، 116 ، 119 ، 127 ،

ج 4 ، ص 7 ، 9 ، 43 ، 189 ، 346 ،

142، 150 ، 151 ، 178 ، 179 ، 183 ،

393 ، 523 ، 565 ، 568 ، 569 ، 573.

187 ، 327 ، 346 ، 393 ، 581 ، 649.

الأطفال : ج 4 ، ص 514.

أرباب التواريخ : ج 3 ، ص 156.

الإماء : ج 3 ، ص 271.

الأشاعرة ، الأشعرية : ج 3 ، ص 165 ، 242.

الإمامية : ج 4 ، ص 100 ، 120 ، 247 ، 366 ، 640.

ج 4 ، ص 301.

الأموية : ج 4 ، ص 617.

الإشراقيون : ج 3 ، ص 19.

أهل البصرة : ج 4 ، ص 574.

أصحاب الإجماع : ج 4 ، ص 578.

أهل التخطئة : ج 4 ، ص 172.

أصحاب الأعراف : ج 3 ، ص 299.

أهل الخلاف : ج 4 ، ص 651.

أصحاب الأئمّة : ج 3 ، ص 195 ، 223.

أهل الرجال : ج 4 ، ص 581.

أصحاب السوداء والجنون : ج 3 ، ص 166 ، 174 ، 462 ، 492.

أهل العراق : ج 4 ، ص 681 ، 620.

أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله : ج 3 ، ص 90 ، 223.

أهل المدينة : ج 3 ، ص 322.

ص: 702

أهل الكتاب : ج 4 ، ص 204.

الشافعية : ج 4 ، ص 189.

الأيتام : ج 4 ، ص 402.

الشيعة ، شيعة : ج 3 ، ص 21.

أئمّة اللغة : ج 3 ، ص 156.

ج 4 ، ص 101 ، 613 ، 617 ، 619 ، 634.

البربر : ج 3 ، ص 465.

الصبيان : ج 3 ، ص 71.

البصري : ج 4 ، ص 574.

الصحابة : ج 3 ، ص 82.

بنو إسرائيل : ج 3 ، ص 227.

العامّة : ج 3 ، ص 322.

التابعون : ج 3 ، ص 82.

ج 4 ، ص 100 ، 188 ، 198 ، 199 ،

الجمهور : ج 4 ، ص 68.

577 ، 581 ، 582 ، 583 ، 589 ، 591 ،

جمهور المتأخرين : ج 4 ، ص 407.

605 ، 609 ، 612 ، 613 ، 615 ، 616 ،

الجواري : ج 3 ، ص 84 ، 224 ، 584.

617 ، 618 ، 619 ، 621 ، 622 ، 623 ،

الحجّام : ج 4 ، ص 50.

624 ، 625 ، 627 ، 641.

الحشوية : ج 3 ، ص 151.

العبيد ، عبيد: ج3 ، ص 271 ، 500 ، 538 ،

الحنفية : ج 4 ، ص 51 ، 60 ، 189 ، 229.

576.

الخوارج : ج 4 ، ص 90.

ج 4 ، ص 85.

الخيّاط : ج 4 ، ص 490.

العجائز : ج 3 ، ص 235.

الذمّي : ج 4 ، ص 105.

لعدلية : ج 3 ، ص 1 ، 165 ، 166 ، 171 ،

الرجاليون : ج 3 ، ص 64 ، 154.

ا 241 ، 429.

رومي ، الرومي : ج 4 ، ص 211.

ج 4 ، ص 190 ، 653.

الزنج ، زنجية ، الزنجي : ج 4 ، ص 82 ، 211.

العشّار : ج 3 ، ص 381 ، 467.

السفهاء : ج 3 ، ص 538.

علماء الجمهور : ج 4 ، ص 640.

سلاطين العامّة : ج 4 ، ص 623.

علماء الرجال : ج 4 ، ص 580.

السودان : ج 3 ، ص 465.

الشافعية : ج 4 ، ص 189.

ص: 703

عوام الطلبة : ج 4 ، ص 14 ، 286.

373 ، 387 ، 635.

الغيّب : ج 4 ، ص 402.

ج 4 ، ص 649.

الفقهاء : ج 3 ، ص 342 ، 443 ، 490.

المخدّرات : ج 4 ، ص 514.

ج 4 ، ص 189 ، 285 ، 393 ، 402 ، 568.

مشايخ الإجازة : ج 3 ، ص 258.

فقهاء البصرة : ج 4 ، ص 568.

ج 4 ، ص 88 ، 90.

القرّاء العشرة : ج 3 ، ص 111.

مشايخ الرواية : ج 3 ، ص 156.

القصّار : ج 4 ، ص 50.

مشايخ القراءة : ج 3 ، ص 111.

القضاة ، قضاة : ج 3 ، ص 72.

المشّاءون : ج 3 ، ص 19.

ج 4 ، ص 576 ، 622 ، 623.

المشركون : ج 4 ، ص 106.

القميون : ج 4 ، ص 103.

المعتزلة : ج 3 ، ص 21.

الكفّار : ج 3 ، ص 224 ، 296 ، 297 ، 397 ، 407 ، 417 ، 499 ، 584.

موالي ، الموالي : ج 3 ، ص 500 ، 538 ، 576.

ج 4 ، ص 169 ، 480 ، 482.

ج 4 ، ص 85.

الكوفيّون : ج 3 ، ص 136 ، 138 ، 288.

النسوان ، النساء : ج 3 ، ص 71 ، 146 ، 271.

ج 4 ، ص 88.

النصارى : ج 4 ، ص 204 ، 218.

اللغويون : ج 4 ، ص 414 ، 562.

اليهود : ج 3 ، ص 266 ، 367 ، 368.

المترجمون : ج 4 ، ص 414.

ج 4 ، ص 204 ، 211 ، 212 ، 218 ، 615.

المجانين : ج 4 ، ص 402 ، 406.

اليهودي : ج 4 ، ص 204 ، 211.

المجتهدون : ج 3 ، ص 321 ، 351 ، 352 ،

ص: 704

فهرس الأماكن

البصرة : ج 4 ، ص 568 ، 574.

ج 4 ، ص 618 ، 620.

البيت ( بيت اللّه الحرام ) : ج 4 ، ص 254 ، 261.

قم : ج 3 ، ص 136 ، 138 ، 288.

الروم : ج 4 ، ص 106.

ج 4 ، ص 88.

سجستان : ج 4 ، ص 89 ، 90.

الكوفة : ج 3 ، ص 89.

الصين : ج 3 ، ص 21 ، 300.

اللوح المحفوظ : ج 3 ، ص 190 ، 367.

عبّادان : ج 4 ، ص 405.

المدينة : ج 4 ، ص 101.

العراق : ج 3 ، ص 312.

الهند : ج 3 ، ص 471.

ص: 705

فهرس الأشياء والحيوانات

ابن آوى : ج 4 ، ص 108.

أواني الذهب والفضّة : ج 3 ، ص 471.

أثاث : ج 4 ، ص 442.

الإيارج : ج 3 ، ص 537.

الأرنب : ج 4 ، ص 108.

البحار : ج 4 ، ص 83.

الأسد ، أسد : ج 3 ، ص 317.

البدر : ج 4 ، ص 583.

ج 4 ، ص 378 ، 412 ، 414 ، 542 ،

البروج : ج 4 ، ص 346.

557 ، 566.

البعير : ج 3 ، ص 270.

الأشجار : ج 4 ، ص 85.

ج 4 ، ص 371.

الأضحية : ج 4 ، ص 443.

البقر : ج 3 ، ص 270.

الأقمشة : ج 4 ، ص 69.

البقّم : ج 3 ، ص 590.

الإناء ، الإناءان ، الإناءات : ج 3 ، ص 38 ،

بلدة ، البلدة ، بلد ، البلد : ج 4 ، ص 83 ، 282 ، 352 ، 591.

44 ، 50 ، 166 ، 360 ، 401 ، 402 ،

البهائم : ج 3 ، ص 179.

419، 450 ، 451 ، 452 ، 453 ، 454 ،

البيت : ج 3 ، ص 517.

455، 457 ، 462 ، 464 ، 468 ، 469 ، 470، 472 ، 473 ، 474 ، 476 ، 480 ،

البئر : ج 3 ، ص 270 ، 287 ، 340 ، 515.

481 ، 482 ، 496 ، 530.

ج 4 ، ص 640.

ج 4 ، ص 137 ، 537 ، 628 ، 657 ، 659.

التتن : ج 3 ، ص 54 ، 159 ، 353 ، 358 ، 360 ، 363 ، 367 ، 587.

أنعام : ج 4 ، ص 442.

التراب ، تراب : ج 3 ، ص 79 ، 329 ،

ص: 706

474.

حشيش ، الحشيش : ج 3 ، ص 248 ، 283.

ج 4 ، ص 261 ، 390 ، 620.

ج 4 ، ص 397.

ترياق : ج 3 ، ص 172 ، 418.

حصاة ، الحصاة ، الحصى : ج 3 ، ص 70.

ثوب ، ثوبان ، الثياب ، الثوب : ج 3 ، ص 32 ، 33 ، 38 ، 39 ، 45 ، 228 ، 579.

ج 4 ، ص 68.

ج4 ، ص56 ، 83 ، 95 ، 96 ، 97 ، 98 ،

حمار : ج 4 ، ص 351.

105، 125 ، 126 ، 137 ، 178 ، 179 ،

الحمّام : ج 4 ، ص 69 ، 162 ، 453.

184، 259 ، 260 ، 375 ، 498 ، 499 ،

الحنطة : ج 3 ، ص 185.

500 ، 501 ، 503 ، 505 ، 506 ، 548 ، 554 ، 571.

حوصلة : ج 3 ، ص 393 ، 470 ، 471.

الجبن : ج 3 ، ص 365 ، 465 ، 491 ، 589.

الحوض : ج 3 ، ص 471.

ج 4 ، ص 106.

ج 4 ، ص 75 ، 272 ، 523.

الجدار : ج 4 ، ص 610.

الحيوان الصاهل : ج 3 ، ص 567 ، 570.

الجصّ : ج 4 ، ص 392.

الحيوان المتولّد من الحيوانين : ج 3 ، ص 392 ، 394.

الجلاب : ج 3 ، ص 394.

ج 4 ، ص 327 من الكلب والغنم ، 327 من الكلب.

الجلد المطروح : ج 4 ، ص 51 ، 353 ، 495.

الحيوان الناطق : ج 3 ، ص 567 ، 570.

الجواد : ج 4 ، ص 483.

الحيوانات البحرية : ج 3 ، ص 393.

الجورب : ج 4 ، ص 268 ، 272.

الحيوانات البرّية : ج 3 ، ص 393.

الجوهرة : ج 4 ، ص 442.

الحيوانات العجم : ج 3 ، ص 228.

حجر ، أحجار : ج 4 ، ص 125 ، 134 ، 135 ، 139 ، 141 ، 152 ، 390.

الحيوانات المختلف فيها : ج 3 ، ص 391.

الخاتم : ج 4 ، ص 455.

ص: 707

خرء الطيور ، خرء الطير : ج 3 ، ص 318.

دخان : ج 4 ، ص 391.

ج 4 ، ص 548 - 549 ، 554 ، 646.

درهم ، دراهم ، الدراهم : ج 3 ، ص 9 ، 40 ، 340 ، 480 ، 487 ، 589 ، 591.

خزانة ، خزائن : ج 3 ، ص 471.

ج 4 ، ص 570 ، 571.

الخشب : ج 4 ، ص 390 ، 391.

الدفاتر : ج 4 ، ص 377.

الخلّ ، خلّ : ج 3 ، ص 419 ، 457 ، 588.

الدواء ، دواء : ج 4 ، ص 221 ، 222.

ج 4 ، ص 162 ، 389 ، 393 ، 487.

الديدان ، دود : ج 4 ، ص 32 ، 81 ، 203 ، 468.

الخمر ، خمر : ج 3 ، ص 28 ، 44 ، 65 ،

دينار ، الدنانير : ج 3 ، ص 156 ، 310.

67 ، 168 ، 307 ، 346 ، 413 ، 419 ،

ج 4 ، ص 274 ، 275 ، 570 ، 571.

448، 450 ، 451 ، 452 ، 453 ، 454 ،

الذباب : ج 4 ، ص 32 ، 204.

455، 456 ، 457 ، 458 ، 460 ، 470 ،

الذرق : ج 4 ، ص 646.

471 ، 474 ، 476 ، 499 ، 552 ، 588.

الذهب : ج 3 ، ص 471 ، 535.

ج 4 ، ص 105 ، 106 ، 170 ، 172 ، 179 ، 180 ، 274 ، 275 ، 359 ، 375 ، 384 ، 390 ، 393 ، 394 ، 456 ، 487.

ج 4 ، ص 570 ، 571.

الخنزير : ج 4 ، ص 105 ، 274 ، 275 ، 390.

رجيع الطير : ج 4 ، ص 646.

خيل : ج 4 ، ص 442.

الرطل العراقي والمدني : ج 4 ، ص 647.

الدابّة ، دوابّ : ج 3 ، ص 366.

رغيف ، أرغف : ج 3 ، ص 446.

ج 4 ، ص 442.

الركية : ج 4 ، ص 294.

الدار ، دار : ج 3 ، ص 46 ، 51.

رماد : ج 4 ، ص 390 ، 391.

ج 4 ، ص 81 ، 201 ، 211 ، 309 ، 353 ، 442 ، 472 ، 655.

الرمان : ج 3 ، ص 129 ، 146 ، 568 ( ماء الرمّان ).

زبر الأوّلين : ج 4 ، ص 432.

ص: 708

الزبيب ، زبيب : ج 4 ، ص 331.

الشمس : ج 3 ، ص 10 ، 500.

الزيت : ج 4 ، ص 89.

ج 4 ، ص 163 ، 166 ، 200 ، 346 ، 425.

ساحل بحر : ج 4 ، ص 79.

شواهق الجبال والبرايا : ج 4 ، ص 473.

السدر : ج 3 ، ص 567 ، 568 ، 569.

الصرّة : ج 4 ، ص 443.

السراب : ج 4 ، ص 236.

الصعيد : ج 3 ، ص 79.

السراج : ج 3 ، ص 4.

الصندوق : ج 3 ، ص 423.

السرير : ج 3 ، ص 517.

الصيد : ج 4 ، ص 489 ، 494 ، 495 ،

السمّ ، السموم : ج 3 ، ص 166 ، 172 ، 418 ، 462.

499.

ج 4 ، ص 384.

صيصة : ج 3 ، ص 393.

السمسم : ج 3 ، ص 487.

طومار : ج 3 ، ص 183.

السمك : ج 3 ، ص 393.

طين ، الطين : ج3 ، ص290 ( طين الطريق ) ،

السمكة : ج 4 ، ص 442.

474.

السمن : ج 3 ، ص 463 ، 465.

ظفر : ج 3 ، ص 83 ، 570.

ج 4 ، ص 89 ، 106.

العذرة : ج 4 ، ص 390 ، 392.

السهم : ج 4 ، ص 267.

العصفور : ج 4 ، ص 32.

سيف : ج 3 ، ص 118 ، 377.

العصير العنبي ، العصير: ج3 ، ص 54 ، 168 ،

ج 4 ، ص 90.

199.

شاة ، ج 4 ، ص 482.

ج 4 ، ص 326 ، 330 ، 331 ، 339 ،

الشطرنج : ج 3 ، ص 592.

389 ، 393 ، 394 ، 425 ، 497.

الشعير : ج 3 ، ص 185.

عظام الموتى : ج 3 ، ص 392.

الشماريخ : ج 4 ، ص 372.

العقار : ج 4 ، ص 442.

ص: 709

العنب : ج 4 ، ص 331.

القرص : ج 4 ، ص 346.

عين : ج 3 ، ص 535.

قرية ، القرية : ج 4 ، ص 79 ، 352.

غذاء ، الغداء : ج 3 ، ص 173 ، 589.

القمر : ج 4 ، ص 68.

ج 4 ، ص 261.

قميص : ج 4 ، ص 490.

الغزال : ج 4 ، ص 93 ، 456.

الكلب : ج 3 ، ص 474.

غسالة الحمّام : ج 3 ، ص 290.

ج 4 ، ص108 ( كلب الماء ) ، 326 ، 327 ،

الغنم : ج 3 ، ص 130 ، 133 ، 135 ( الغنم السائمة ).

329 ، 330 ، 379 ، 382 ، 388 ، 389 ، 390 ، 396 ، 397.

ج 4 ، ص 329 ، 359 ، 378 ، 437.

الكنز : ج 4 ، ص 442.

فاكهة : ج 4 ، ص 397.

كواكب المقمرة : ج 4 ، ص 617.

فحم : ج 4 ، ص 390.

كوز ، كوزين : ج 3 ، ص 19.

فراش : ج 4 ، ص 442.

لباس : ج 3 ، ص 62 ، 268.

فرس ، الفرس : ج 4 ، ص 203 ، 204.

الماء ، ماء : ج3 ، ص 8 ، 19 ، 43 ، 189 ،

الفضّة : ج 3 ، ص 471 ، 535.

193 ، 464 ، 465 ، 471 ، 472 ، 499 ،

ج 4 ، ص 570 ، 571.

515 ، 567 ( ماء الورد ، الماء المطلق ، ماء

الفلك الدوّار : ج 4 ، ص 85.

السدر ) ، 568 ( ماء السدر ، ماء الرمّان ) ،

فئران : ج 4 ، ص 203.

569 ( ماء السدر ).

قباء ، القباء : ج 4 ، ص 490 ، 491.

ج 4 ، ص 47 ، 75 ، 83 ، 111 ، 115 ،

القتاد : ج 3 ، ص 312 ، 324 ، 377 ، 378 ، 494.

134 ، 136 ، 138 ، 163 ، 164 ، 177 ، 194 ، 227 ، 237 ، 259 ، 260 ، 267 ،

ج 4 ، ص 39 ، 195 ، 276 ، 430.

272 ، 273 ، 283 ، 306 ، 379 ، 388 ،

القدح : ج 3 ، ص 45 ، 49.

389 ، 390 ، 391 ، 397 ، 471 ، 489 ،

ص: 710

494 ، 495 ، 497 ، 498 ، 502 ، 503 ، 505 ، 506 ، 512 ، 620 ، 657.

528 ، 533 ، 538.

المحلّة : ج 4 ، ص 83.

الملح ، ملح : ج 4 ، ص 379 ، 389 ، 471.

المحمل : ج 4 ، ص 633 ، 634.

المملحة : ج 4 ، ص 379 ، 390 ، 397.

مرآة : ج 3 ، ص 4 ، 6 ، 225 ، 294 ، 310 ، 311.

الميزاب : ج 3 ، ص 45 ، 473.

ج 4 ، ص 256 ، 324 ، 360 ، 368 ،

الناقة : ج 4 ، ص 523.

463 ، 525.

النبيذ : ج 3 ، ص 307.

المرقد : ج 3 ، ص 355.

ج 4 ، ص 106.

المسجد ، المساجد : ج 3 ، ص 56 ، 57 ،

النرد : ج 3 ، ص 592.

156.

النمل : ج 4 ، ص 204.

ج 4 ، ص 324 ، 350 ، 392 ، 436 ،

النواة ، نواة : ج 3 ، ص 70.

472 ، 497.

النجوم : ج 4 ، ص 583.

المسك : ج 4 ، ص 93 ، 456.

النهر ، الأنهار : ج 4 ، ص 346 ، 352 ، 393.

المسكر : ج 3 ، ص 355.

الودجين : ج 4 ، ص 479.

ج 4 ، ص 456.

هرّة : ج 4 ، ص 390.

معجون ، المعجون ، المعاجين : ج 3 ، ص

الهلال : ج 3 ، ص 54 ، 594.

ج 4 ، ص 145.

ص: 711

فهرس مصادر التحقيق

1. أجود التقريرات تقرير بحث محمّد حسين النائيني ، السيد أبو القاسم الخوئي ( م 1413 ) ، قم ، مؤسسة مطبوعاتي ديني.

2. الاحتجاج ، أحمد بن علي الطبرسي ( ق 6 ) ، تحقيق : إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به ، ط 1 ، 1413 ، انتشارات اسوه.

3. أحسن الوديعة في تراجم أشهر مشاهير مجتهدي الشيعة أو تتميم روضات الجنّات ، السيّد محمّد مهدي الأصفهاني الكاظمي ( م 1390 ) ، بغداد ، مطبعة النجاح ، 1348.

4. الإحكام في أصول الأحكام ، علي بن محمّد الآمدي ( م 631 ) ، تحقيق : عبد الرزاق عفيفى ، دمشق - بيروت ، ط 2 ، 1402 ، المكتب الإسلامي.

5. اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق : حسن المصطفوي ، مشهد المقدّسة ، جامعة مشهد ، 1348 ش.

6. الأربعون حديثا ، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي ( م 1110 ) ، تحقيق : محمّد التفرشي الدرودي ، قم ، 1358 ش - 1399 ق ، دار الكتب إسماعيليان.

7. إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق : فارس الحسّون ، قم ، ط 1 ، 1410 ، مؤسسة النشر الإسلامي.

8. إرشاد القلوب ، حسن بن أبي الحسن الديلمي ، ( م 841 ) ، قم ، 1412 ، منشورات الشريف الرضي.

ص: 712

9. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق : السيّد حسن الموسوي الخرسان ، طهران ، ط 4 ، 1363 ش ، دار الكتب الإسلامية.

10. إشارات الأصول ، محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكلباسي ( م 1261 ) ، طبع قسم مباحث الألفاظ منه بالمطبعة المعتمدية ( منوچهر خان معتمد الدولة ) سنة 1245 ، وقسم الأدلّة الشرعية منه مخطوط استفدنا من مخطوطة مكتبة آية اللّه المرعشي برقم 3018 ، قوبل مع نسخة المؤلّف.

11. الإشارات والتنبيهات ، حسين بن عبد اللّه بن سينا ( م 427 ) ، قم ، ط 1375 ش ، نشر البلاغة.

12. الاعتقادات ، محمّد بن علي ابن بابويه ، الشيخ الصدوق ( م 381 ) ، تحقيق : عصام عبد السيّد ، المطبوع في سلسلة مصنّفات الشيخ المفيد.

13. أعيان الشيعة ، السيّد محسن الأمين العاملي ( م 1371 ) ، تحقيق السيّد حسن الأمين ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، 1403 ه. ق - 1983 م.

14. الألفيّة والنفليّة ، محمّد بن مكي العاملي ، الشهيد الأوّل ( م 786 ) ، تحقيق : علي الفاضل القائني ، قم ، ط 1 ، 1408 ، مكتب الإعلام الإسلامي.

15. الأمالي ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسسة البعثة ، قم ، ط 1 ، 1414 ، دار الثقافة.

16. الأمالي ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، الشيخ المفيد ( م 413 ) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري وحسين استاد ولي ، قم ، مؤسسة النشر الإسلامي.

17. الانتصار ، علي بن الحسين الموسوي ، السيّد المرتضى ( م 436 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1415.

18. الأنوار النعمانية ، السيّد عبد اللّه الجزائري ( م 1112 ) مطبعة شركت چاپ ، تبريز.

ص: 713

19. أوثق الوسائل في شرح الرسائل ، ميرزا موسى بن جعفر التبريزي الغروي ( م ح 1295 ) ، الطبعة الحجرية.

20. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد ، محمّد بن الحسن بن يوسف الحلّي فخر المحقّقين ( م 771 ) ، تحقيق : الكرماني والاشتهاردي والبروجردي ، ط 1 ، 1378 ، المطبعة العلمية.

21. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار ، محمّد باقر المجلسي ( م 1110 ) ، بيروت ، ط 2 ، 1403 ق - 1983 م ، مؤسسة الوفاء.

22. بحر الفوائد في شرح الفرائد ، ميرزا محمّد حسن الآشتياني ( م 1319 ) الطبعة الحجرية.

23. بدائع الأفكار ، ميرزا حبيب اللّه الرشتي ( م 1312 ) ، الطبعة الحجرية.

24. بشرى الوصول إلى أسرار علم الأصول ، محمّد حسن بن عبد اللّه المامقاني ( م 1321 ) ، مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 2 / 1116.

25. بصائر الدرجات ، محمّد بن الحسن الصفّار ، ( م 290 ) ، تحقيق : ميرزا محسن كوچه باغي ، طهران ، 1362 ش - 1404 ق ، مؤسسة الأعلمي.

26. البيان ، محمّد بن جمال الدين محمّد مكي العاملي ، الشهيد الأوّل ( م 786 ) ، قم ، مجمع الذخائر الإسلامية. وعن طبعة بنياد فرهنگى إمام مهدي عليه السلام ، بتحقيق : محمّد الحسّون ، ط 1 ، 1412.

27. البيان في تفسير القرآن ، السيّد أبو القاسم الخوئي ، ( م 1413 ) ، طهران ، 1364 ش.

28. تاج العروس من جواهر القاموس ، السيّد محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي ( م 1205 ) ، بيروت ، منشورات مكتبة الحياة.

29. التبيان في تفسير القرآن ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق : أحمد حبيب قصير العاملي ، قم ، ط 1 ، 1409 ، مكتبة الإعلام الإسلامي بالأفست.

30. تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ،

ص: 714

العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق : إبراهيم البهادري ، قم ، ط 1 ، 1420 ، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، وعن الطبعة الحجرية.

31. تحرير وسائل الشيعة وتحبير مسائل الشريعة ، محمّد بن الحسن ، الحرّ العاملي ( م 1104 ) ، تحقيق : محمّد القائني ، ط 1 ، 1422 ، نصائح.

32. تحف العقول ، الحسن بن علي ابن شعبة الحرّاني ( ق 4 ) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، قم ، ط 3 ، 1363 ش - 1404 ق ، مؤسسة النشر الإسلامي.

33. التذكرة بأصول الفقه ، محمّد بن محمّد النعمان ، الشيخ المفيد ( م 413 ) المطبوع في سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد.

34. تذكرة الفقهاء ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، ط 1 ، لم يصدر حاليا كلّ الأجزاء منه ، وعن الطبعة الحجرية.

35. تذكره مدينة الأدب ، محمّد علي مصاحبي النائيني المتخلّص ب- « عبرت » ( م 1321 ش؟ ) ، مكتبة مجلس الشورى الإسلامي ، طهران ، 1376 ه. ش.

36. تقريرات شريف العلماء ، المولى حسين بن محمّد إسماعيل الأردكاني الحائري ، الفاضل الأردكاني ( م 1302 ) ، مخطوطة مكتبة السيّد النجومي ، ومنها مصوّرة في مركز إحياء التراث.

37. تكملة نجوم السماء ، الميرزا محمّد مهدي اللكهنوي الكشميري ( م 1309 ) ، منشورات مكتبة بصيرتي ، قم.

38. تمهيد القواعد ، زين الدين بن علي العاملي ، الشهيد الثاني ( م 965 ) ، تحقيق ونشر : مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1416 ق - 1374 ش.

39. التنقيح في شرح العروة الوثقى ، تقرير بحث السيّد أبي القاسم الخوئي ، الشهيد الميرزا علي الغروي التبريزى ، قم ، ط 3 ، 1410 ، دار الهادي.

ص: 715

40. كتاب التوحيد ، محمّد بن علي ابن بابويه ، الشيخ الصدوق ( م 381 ) ، تحقيق : السيّد هاشم الحسيني الطهراني ، قم ، منشورات جماعة المدرّسين.

41. تهذيب الأحكام ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق : السيد حسن الموسوي الخرسان ، طهران ، ط 4 ، 1365 ش ، دار الكتب الإسلامية.

42. تهذيب الأصول ، السيّد روح اللّه الموسوي الخميني ( م 1412 ) ، قم ، 1410 ، دار الفكر.

43. تهذيب الوصول إلى علم الأصول ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق : السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، لندن ، 1421 ق - 2001 م ، منشورات مؤسّسة الإمام علي عليه السلام.

44. الجامع للشرائع ، يحيى بن سعيد الحلّي ( م 690 ) ، تحقيق : لجنة التحقيق بإشراف الشيخ جعفر السبحاني ، قم ، 1405 ، مؤسّسة سيّد الشهداء عليه السلام.

45. جامع المدارك في شرح مختصر النافع ، السيّد أحمد الخوانساري ( م 1405 ) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، طهران ، ط 2 ، 1355 ، مكتبة الصدوق.

46. جامع المقاصد في شرح القواعد ، علي بن الحسين ، المحقّق الكركي ، المحقّق الثاني ( م 940 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، ط 1.

47. جنّة النعيم والعيش السليم في أحوال السيّد عبد العظيم الحسني ، محمّد باقر واعظ كجوري ( م 1313 ) ألّف كتابه في سنة 1295 ، تحقيق السيّد صادق الحسيني ، طبع مؤتمر السيّد عبد العظيم الحسني ، ط 1 ، 1383 ه. ش ، ومن الطبعة الحجرية.

48. جوابات أهل موصل ( رسالة العدد ) ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، الشيخ المفيد ( م 413 ) ، تحقيق : الشيخ مهدي نجف ، المطبوع في مصنّفات الشيخ المفيد ، الناشر : المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد.

49. جوامع الجامع ، الفضل بن الحسن الطبرسي ( م 548 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1418.

ص: 716

50. جواهر الفقه ، القاضي عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي ( م 481 ) ، تحقيق : إبراهيم البهادري ، قم ، ط 1 ، 1411 ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

51. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ، محمّد حسن النجفي ( م 1266 ) ، تحقيق : عبّاس القوچاني و ... ، قم ، ط 3 ، 1367 ش ، دار الكتب الإسلامية.

52. حاشية الخلاصة ، المطبوع في رسائل الشهيد الثاني ، زين الدين بن علي العاملي ( م 965 ) ، تحقيق ونشر : مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1421 ق - 1379 ش.

53. حاشية شرائع الإسلام ، علي بن الحسين بن عبد العالي ، المحقّق الكركي ( م 940 ) المطبوع في حياة المحقّق الكركي وآثاره ، تحقيق : محمّد الحسّون ، قم ، 1423 ، منشورات الاحتجاج.

54. الحاشية على الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، جمال الدين محمّد بن الحسين الخوانساري ( م 1125 ) ، قم ، منشورات مدرسة الرضوية بالأوفست من الطبعة الحجرية.

55. حاشية مجمع الفائدة والبرهان ، محمّد باقر بن محمّد أكمل ، الوحيد البهبهاني ( م 1205 ) ، تحقيق ونشر مؤسّسة العلاّمة المجدّد الوحيد البهبهاني ، قم ، ط 1 ، 1417.

56. حاشية المعالم ، محمّد باقر بن محمّد أكمل ، الوحيد البهبهاني ( م 1206 ) ، مخطوطة مكتبة آية اللّه المرعشي برقم 9644.

57. الحبل المتين في أحكام الدين ، محمّد بن الحسين العاملي ، الشيخ البهائي ( م 1030 ) ، تحقيق : السيّد بلاسم الموسوي الحسيني ، مشهد المقدّسة ، ط 1 ، 1424 ق - 1382 ش ، مجمع البحوث الإسلامية ، ومن الطبعة الحجرية.

58. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ، يوسف بن أحمد البحراني ( م 1186 ) ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

ص: 717

59. الحديقة الهلالية ، محمّد بن الحسين العاملي الشيخ البهائي ( م 1030 ) ، تحقيق : السيّد علي الموسوي الخرسان ، قم ، ط 1 ، 1410 ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.

60. الخصال ، محمّد بن علي ابن بابويه ، الشيخ الصدوق ( م 381 ) ، تحقيق : على أكبر الغفاري ، قم ، منشورات جماعة المدرسين.

61. خلاصة الأقوال في معرفة الرجال ، الحسن بن يوسف ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق : السيّد محمّد صادق بحر العلوم ، قم ، منشورات الرضي بالأوفست من منشورات الطبعة الحيدرية ، النجف ، 1381 ق - 1961 م.

62. الخلاف ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1417.

63. الدرر النجفية ، يوسف بن أحمد البحراني ( م 1186 ) ، الطبعة الحجرية.

64. الدروس الشرعية في فقه الإمامية ، محمّد بن مكي العاملي ، الشهيد الأوّل ( م 786 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1412.

65. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام ، النعمان بن محمّد المغربي ( م 363 ) ، تحقيق : آصف بن علي أصغر فيضي ، القاهرة ، 1383 ق - 1963 م ، دار المعارف.

66. ديوان أبي الطيب المتنبي ، أحمد بن عبد الصمد ( م 354 ) ، تحقيق : عبد الوهّاب عزّام ، بيروت ، 1398 ق - 1978 م.

67. الذريعة إلى أصول الشريعة ، علي بن الحسين الموسوي ، السيّد المرتضى ( م 436 ) ، تحقيق : أبي القاسم گرجى ، طهران ، جامعة طهران.

68. الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، آقا بزرك الطهراني ( م 1389 ) ، قم ، دار الكتب العلمية ، إسماعيليان.

69. ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد ، محمّد باقر بن محمّد المؤمن السبزواري ، ( م 1090 ) ، الطبعة الحجرية.

ص: 718

70. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة ، محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي ، الشهيد الأوّل ( م 786 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، ط 1 ، 1419.

71. الرجال ، أحمد بن علي النجاشي ( م 450 ) ، تحقيق : السيّد موسى الشبيري الزنجاني ، قم ، ط 5 ، 1416 ، مؤسسة النشر الإسلامي.

* رجال الكشّي - اختيار معرفة الرجال.

72. الرجال ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، قم ، منشورات الرضي بالأوفست عن طبع النجف منشورات الحيدرية ، 1380 ق - 1961 م.

73. الرسائل الأصولية ، محمّد باقر بن محمّد أكمل الوحيد البهبهاني ، ( م 1205 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة العلاّمة المجدّد الوحيد البهبهاني ، قم ، ط 1 ، 1416.

74. الرسائل التسع ، جعفر بن الحسن ، المحقّق الحلّي ( م 676 ) ، تحقيق : رضا الأستادي ، قم ، ط 1 ، 1371 ش - 1413 ق ، مكتبة آية اللّه المرعشي.

75. رسائل الشريف المرتضى ، علي بن الحسين ، السيّد المرتضى ( م 436 ) ، إعداد : السيّد مهدي الرجائي ، قم ، 1405 ، دار القرآن الكريم.

76. رسائل الشهيد الثاني ، زين الدين بن علي العاملي ( م 965 ) ، قم ، مكتبة بصيرتي.

77. رسائل المحقّق الكركي ، علي بن الحسين ، المحقّق الكركي ، المحقّق الثاني ( م 940 ) ، تحقيق : محمّد الحسّون ، ج 1 و 2 ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، ط 1 ، 1409 ، وج 3 ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، ط 1 ، 1412.

78. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان ، زين الدين بن علي العاملي ، الشهيد الثاني ( م 965 ) ، تحقيق ونشر : مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1422 ق - 1380 ش ، ومن الطبعة الحجرية.

79. الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، زين الدين بن علي العاملي ، الشهيد الثاني ( م 965 ) ، تحقيق : السيّد محمّد الكلانتر ، قم ، ط 1 ، 1410 ، انتشارات داوري ،

ص: 719

بالاوفست عن طبعة النجف.

80. رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل ، السيد علي الطباطبائي ( م 1231 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، ط 1 ، 1412 ، ومن الطبعة الحجرية.

81. زبدة الأصول ، محمّد بن حسين العاملي ، الشيخ البهائي ( م 1030 ) ، تحقيق : فارس حسّون كريم ، قم ، 1423 ق - 1381 ش ، مدرسة ولي عصر عليه السلام العلمية.

82. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي ( م 598 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، 1410.

83. سفينة النجاة ، المطبوع مع الأصول العملية ، فيض الكاشاني ( م 1091 ) ، تحقيق وإصدار : دار إحياء الإحياء ، قم ، ط 3 ، 1412.

84. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام ، جعفر بن الحسن ، المحقّق الحلّي ( م 676 ) ، تحقيق : السيّد صادق الشيرازي ، طهران ، ط 2 ، 1409 ، انتشارات الاستقلال ، ومن طبع مؤسّسة المعارف الإسلامي ، قم ، بتحقيق : محمّد علي البقّال.

* شرح اللمعة الدمشقية - الروضة البهية.

85. شرح نهج البلاغة ، عبد الحميد ابن أبي الحديد ( م 655 أو 656 ) ، تحقيق : محمّد أبي الفضل إبراهيم ، قم ، 1404 ق ، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي ، بالاوفست من طبع دار إحياء الكتب العربية.

86. شرح الوافية ، السيّد صدر الدين محمّد بن مير محمّد باقر الرضوي القمي الهمداني ( م 1165 ) ، مخطوطة مكتبة آية اللّه المرعشي برقم 12086.

87. الصحاح ، إسماعيل بن حمّاد الجوهري ( م 393 ) ، تحقيق : أحمد عبد الغفور عطّار ، بيروت ، دار العلم للملايين.

88. الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم ، علي بن يونس العاملي النباطي البياضي ( م 877 ) ، تحقيق : محمّد باقر البهبودي ، ط 1 ، 1384 ، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار

ص: 720

الجعفرية.

89. ضوابط الأصول ، السيّد إبراهيم بن محمّد باقر القزويني ( م 1262 ) ، الطبعة الحجرية سنة 1275.

90. طبقات أعلام الشيعة ( الكرام البررة ونقباء البشر ) ، محمّد محسن آغا بزرك الطهراني ( م 1389 ) ، تحقيق : السيّد عبد العزيز الطباطبائي ، مشهد ، دار المرتضى ، ط 2 ، 1404.

91. العدّة في أصول الفقه ، محمّد بن الحسن الطوسي ( م 460 ) ، تحقيق : محمّد رضا الأنصاري القمي ، قم ، ط 1 ، 1417 ق - 1376 ش ، المطبعة ستاره.

92. عقد الطهماسبي ( الحسيني ) ، حسين بن عبد الصمد العاملي ، والد الشيخ البهائي ( م 984 ) ، تحقيق ونشر : السيّد جواد المدرّسي ، ط گلبهار ، يزد.

93. علل الشرائع ، محمّد بن علي ابن بابويه ، الشيخ الصدوق ( م 381 ) ، النجف ، 1385 ق - 1966 م ، منشورات المكتبة الحيدرية.

94. عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية ، محمّد بن علي بن إبراهيم الإحسائي ، ابن أبي جمهور ( م ح 880 ) ، تحقيق : مجتبى العراقي ، قم ، ط 1 ، 1403 م - 1983 م ، مطبعة سيّد الشهداء.

95. عوائد الأيّام ، المولى أحمد النراقي ( م 1245 ) ، تحقيق ونشر : مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1417 ق - 1375 ش ، ومن الطبعة الحجرية.

96. العويص ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، الشيخ المفيد ( م 1413 ) ، تحقيق : محسن أحمدي ، قم ، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.

97. عيون أخبار الرضا عليه السلام ، محمّد بن علي ابن بابويه ، الشيخ الصدوق ( م 381 ) ، بيروت ، ط 1 ، 1404 ، منشورات الأعلمي.

98. غاية المأمول في شرح زبدة الأصول ، جواد بن سعد بن جواد الكاظمي ، الفاضل

ص: 721

الجواد ( ق 11 ) ، مخطوطة مكتبة آية اللّه المرعشي ، بخطّ المؤلّف برقم 3794 ، ونسخة أخرى برقم 10495 تاريخ كتابتها سنة 1070.

99. غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام ، السيّد نعمة اللّه الجزائري ( م 1112 ) ، مخطوطة مكتبة آية اللّه المرعشي بخطّ المؤلّف برقم 6127.

100. غاية المسئول ونهاية المأمول في علم الأصول ، السيّد محمّد حسين الشهرستاني ( م 1315 ) ، الطبعة الحجرية.

101. غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام ، الميرزا أبو القاسم القمي ( م 1221 ) ، تحقيق ونشر : مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1417 ق - 1375 ش.

102. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع ، حمزة بن علي الحلبي ( م 585 ) ، تحقيق : إبراهيم البهادري ، قم ، 1417 ، مؤسسة الإمام الصادق ، طبع منه قسم الفروع وراجعت قسم الأصول منه إلى الطبعة الحجرية المطبوع في الجوامع الفقهية.

103. فرائد الأصول ، الشيخ مرتضى الأنصاري ، ( م 1281 ) ، إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم ، ط 5 ، 1424 ، مجمع الفكر الإسلامي.

104. فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ، السيّد علي بن موسى ابن طاوس ( م 664 ) ، قم ، ط 1 ، دار الذخائر للمطبوعات.

105. الفصول الغروية في الأصول الفقهية ، محمّد حسين بن عبد الرحيم الأصفهاني ( م 1250 ) ، الطبعة الحجرية.

106. الفصول المختارة ، محمّد بن محمّد بن النعمان الشيخ المفيد ( م 413 ) ، تحقيق : السيّد علي مير شريفي ، قم ، ط 2 ، 1414 ق - 1993 م ، دار المفيد.

107. الفصول المهمّة في أصول الأئمّة ، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ( م 1104 ) ، تحقيق : محمّد القائني ، قم ، ط 1 ، 1418 ، مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا عليه السلام.

108. الفوائد الحائرية ، محمّد باقر بن محمّد أكمل الوحيد البهبهاني ( م 1205 ) ، تحقيق ونشر :

ص: 722

مجمع الفكر الإسلامي ، ط 2 ، 1424.

109. الفوائد الطوسية ، محمّد بن الحسن ، الحرّ العاملي ( م 1104 ) ، تحقيق : السيّد مهدي اللاجوردي الحسيني والشيخ محمّد الدرودي ، قم ، المطبعة العلمية.

110. الفوائد المدنية ، محمّد أمين الأسترآبادي ( م 1036 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1424 ، ومن الطبعة الحجرية.

111. فهرست كتب الشيعة وأصولهم ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق : السيّد عبد العزيز الطباطبائي ، إعداد ونشر : مكتبة المحقّق الطباطبائي ، قم ، ط 1 ، 1420.

112. القاموس المحيط ، محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي ( م 817 ) ، بيروت ، ط 1 ، 1991 م - 1412 ق ، دار إحياء التراث العربي.

113. قرب الإسناد ، عبد اللّه بن جعفر الحميري ( ق 3 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، ط 1 ، 1413.

114. قواعد الأحكام ، حسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1413.

115. القواعد والفوائد ، محمّد بن مكّي العاملي ، الشهيد الأوّل ( م 786 ) ، تحقيق : الشهيد الدكتور السيّد عبد الهادي الحكيم ، قم ، مكتبة المفيد.

116. القوانين المحكمة ، الميرزا أبو القاسم القمي ( م 1231 ) ، الطبعة الحجرية بخطّ عبد الرحيم في مجلّدين ، ومن طبعة حجرية أخرى في مجلّد طبعت في سنة 1299 بخطّ كلب علي القزويني ، أشرت إليها ب- « ط ».

117. الكافي ، محمّد بن يعقوب الكليني ( م 329 ) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، طهران ، ط 3 ، 1388 ، دار الكتب الإسلامية.

118. كتاب الخمس ، الشيخ مرتضى الأنصاري ( م 1281 ) ، إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ

ص: 723

الأعظم ، قم ، ط 1 ، 1415 ، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري قدس سره.

119. كتاب الخمس ، مرتضى بن عبد الكريم الحائري ( م 1406 ) ، تحقيق : محمّد حسين أمراللّهي ، قم ، ط 1 ، 1418 ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

120. كتاب الزكاة من مستند العروة الوثقى ، تقرير بحث السيّد أبي القاسم الخوئي ، الشهيد مرتضى البروجردي ، قم ، ط 1 ، 1413 ، مدرسة دار العلم.

121. كتاب الصلاة ، الشيخ مرتضى الأنصاري ( م 1281 ) ، إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم ، ط 1 ، 1415 ، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الشيخ الأنصاري.

122. كتاب الصلاة ، تقرير بحث الميرزا حسين النائيني ، محمّد علي الكاظمي الخراساني ( م 1365 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1411.

123. كتاب الصلاة من التنقيح ، تقرير بحث السيّد أبي القاسم الخوئي ، الشهيد الميرزا علي الغروي التبريزي ، قم ، ط 3 ، 1410 ، دار الهادي.

124. كتاب الطهارة ، الشيخ مرتضى الأنصاري ( م 1281 ) ، إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم ، ط 1 ، 1415 ، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الشيخ الأنصاري ، ومن الطبعة الحجرية.

125. كتاب الطهارة من التنقيح ، تقرير بحث السيّد أبي القاسم الخوئي ، الشهيد الميرزا علي الغروي التبريزي ، قم ، ط 3 ، 1410 ، دار الهادي.

126. كتاب القضاء ، الميرزا حسن الآشتياني ( م 1319 ) ، قم ، ط 2 ، 1404 ق - 1363 ش ، دار الهجرة.

* الكرام البررة - طبقات أعلام الشيعة

127. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ، إسماعيل بن

ص: 724

محمّد العجلوني ( م 1162 ) ، بيروت ، ط 3 ، 1988 م - 1408 ق ، دار الكتب العلمية.

128. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء ، جعفر بن خضر ، كاشف الغطاء ( م 1228 ) ، تحقيق ونشر : مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، 1422 ق - 1380 ش ، ومن الطبعة الحجرية.

129. كشف القناع عن وجوه حجّية الإجماع ، أسد اللّه بن إسماعيل التستري ، المحقّق الكاظمي (1237) ، الطبعة الحجرية.

130. كشف اللثام عن قواعد الأحكام ، محمّد بن الحسن الأصفهاني ، الفاضل الهندي ( م 1137 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، ط 1 ، 1416 ، ومن الطبعة الحجرية.

131. كفاية الأحكام ، محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري ( م 1090 ) ، الطبعة الحجرية.

132. كفاية الأصول ، الآخوند محمّد كاظم الخراساني ( م 1329 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، قم.

133. كلّيات سعدي شيرازي ( ق 7 ) ، تصحيح محمّد علي فروغي ، ط 5 ، 1361 ش ، انتشارات جاويدان.

134. لباب الألقاب في ألقاب الأطياب ، حبيب اللّه الشريف الكاشاني ( م 1340 ) ، مكتبة بوذرجمهرى ، ط 1 ، 1378.

135. المآثر والآثار ، محمّد حسن خان اعتماد السلطنة ( م 1313 ) ، تصحيح : إيرج أفشار ، انتشارات أساطير ، طهران ، ط 1 ، ومن طبع مكتبة سنائي.

136. مبادئ الأصول إلى علم الأصول ، الحسن بن يوسف ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق : عبد الحسين محمّد علي البقال ، قم ، ط 3 ، 1404 ، مكتب الإعلام الإسلامي.

137. المبسوط ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، تحقيق : السيّد محمّد تقي الكشفي ، طهران ، 1387 ، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

138. مجمع البحرين ومطلع النيرين ، فخر الدين الطريحي ( م 1087 ) ، تحقيق : السيّد أحمد

ص: 725

الحسيني ، ط 2 ، 1408 ، مكتب نشر الثقافة الإسلامية.

139. مجمع البيان لعلوم القرآن ، الفضل بن الحسن الطبرسي ( م 548 ) ، طهران ، ط 1 ، 1365 ، انتشارات ناصر خسرو بالاوفست من طبع بيروت ، دار المعرفة. ومن طبع بيروت ، مؤسّسة الأعلمي ، ط 1 ، 1415.

140. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان ، المولى أحمد الأردبيلي ، المحقّق الأردبيلي ( م 993 ) ، تحقيق : العراقي والاشتهاردي واليزدي ، قم ، 1403 ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

141. المجموع في شرح المهذّب ، محيي الدين بن شرف النووي ( م 676 ) ، بيروت ، دار الفكر.

142. المحاسن ، أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ( م 274 ) ، تحقيق : السيّد جلال الدين الحسيني ، المحدّث الأرموي ، قم ، ط 2 ، دار الكتب الإسلامية.

143. المحصول في علم الأصول ، محمّد بن عمر ، الفخر الرازي ( م 606 ) ، تحقيق : طه جابر فياض العلواني ، بيروت ، ط 2 ، 1412 ، مؤسّسة الرسالة.

144. مختلف الشيعة ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1412.

145. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام ، السيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي ( م 1009 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث ، قم ، ط 1.

146. مرآة الشرق ، محمّد أمين الخوئي ( م 1367 ) ، مخطوط ، وسينشر بتحقيق صديقنا الشيخ علي الصدرائي الخوئي.

147. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام ، زين الدين بن علي العاملي ، الشهيد الثاني ( م 965 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة المعارف الإسلامية ، قم ، ط 1 ، 1413 ؛ وعن الطبعة الحجرية قليلا.

ص: 726

148. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ، ميرزا حسين النوري الطبرسي ( م 1320 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، ط 1 ، 1408.

149. المستصفى ، محمّد بن محمّد الغزالي ( م 505 ) ، قم ، دار الذخائر بالأوفست عن الطبعة الأميرية ببولاق مصر ، سنة 1322.

150. مستند الشيعة في أحكام الشريعة ، المولى أحمد بن محمّد مهدي النراقي ( م 1245 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، ط 1 ، 1415.

* مستند العروة الوثقى - كتاب الزكاة.

151. مشارق الشموس في شرح الدروس ، حسين بن جمال الدين محمّد الخوانساري ( م 1099 ) ، الطبعة الحجرية.

152. مشرق الشمسين وإكسير السعادتين ، محمّد بن الحسين العاملي ، الشيخ البهائي ( م 1030 ) ، تحقيق : السيّد مهدي الرجائي ، مشهد المقدّسة ، ط 1 ، 1414 ق - 1372 ش ، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضوية.

153. مشكاة المصابيح في التعادل والتراجيح ، السيّد محمّد بن علي الحسيني التبريزي الخسروشاهي « فرغ منه في سنة 1269 » ، الطبعة الحجرية.

154. مصباح الأصول ، تقرير بحث السيّد أبي القاسم الخوئي ، السيّد محمّد سرور الواعظ البهسودي ، قم ، ط 5 ، 1417 ، مكتبة الداوري.

155. مصباح الفقيه ، آغا رضا بن هادي الهمداني ( م 1322 ) ، الطبعة الحجرية.

156. مطارح الأنظار ( مباحث الألفاظ ) ، أبو القاسم النوري الطهراني ( م 1292 ) ، تحقيق ونشر : مجمع الفكر الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1425.

157. معارج الأصول ، جعفر بن الحسن المحقّق الحلّي ( م 676 ) ، تحقيق : السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، لندن ، 1423 ه - 2003 م ، منشورات مؤسّسة الإمام علي عليه السلام.

158. معالم الدين وملاذ المجتهدين ، الحسن ابن الشهيد الثاني زين الدين العاملي ( م

ص: 727

1011 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1406 ق - 1365 ش ؛ وقسم الفقه منه بتحقيق : السيّد منذر الحكيم ، قم ، ط 1 ، 1418 ، مؤسّسة الفقه للطباعة والنشر.

159. المعتبر في شرح المختصر ، جعفر بن الحسن ، المحقّق الحلّي ( م 676 ) ، تحقيق : لجنة التحقيق بإشراف آية اللّه مكارم الشيرازي ، قم ، 1364 ش ، منشورات مؤسّسة سيّد الشهداء.

160. المعجم الوسيط ، إبراهيم مصطفى و ... ، استانبول ، 1410 ق - 1989 ، دار الدعوة.

161. مفاتيح الأصول ، السيّد محمّد الطباطبائي ، السيّد المجاهد ( م 1242 ) ، الطبعة الحجرية.

162. مفاتيح الشرائع ، فيض الكاشاني ( م 1091 ) ، تحقيق : السيّد مهدي الرجائي ، قم ، 1401 ، مجمع الذخائر الإسلامية.

163. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة ، السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي ( م 1226 ) ، تحقيق : محمّد باقر الخالصي ، قم ، ط 1 ، 1419 ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

164. مقالات الأصول ، ضياء الدين العراقي ( م 1361 ) ، تحقيق : محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم ، قم ، ط 1 ، 1414 ، مجمع الفكر الإسلامي.

165. المقاصد العلية في شرح رسالة الألفية ، زين الدين علي العاملي ، الشهيد الثاني ( م 965 ) ، تحقيق ونشر : مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، ط 1 ، 1420 ق - 1378 ش ، من الطبعة الحجرية.

166. المقنع ، محمّد بن علي ابن بابويه ، الشيخ الصدوق ( م 381 ) ، تحقيق ونشر : مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام ، قم ، 1415.

167. المقنعة ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، الشيخ المفيد ( م 413 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي.

168. كتاب المكاسب ، الشيخ مرتضى الأنصاري ( م 1281 ) ، إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، قم ، ط 1 ، 1415.

169. كتاب من لا يحضره الفقيه ، محمّد بن علي ابن بابويه ، الشيخ الصدوق ( م 381 ) ، تحقيق :

ص: 728

على أكبر الغفّاري ، قم ، ط 2 ، 1404 ، منشورات جماعة المدرّسين.

170. مناقب آل أبي طالب ، محمّد بن علي بن شهرآشوب ( م 588 ) ، النجف الأشرف ، 1376 ق - 1956 م ، المطبعة الحيدرية.

171. مناهج الأحكام والأصول ، المولى أحمد النراقي ( م 1245 ) ، الطبعة الحجرية.

172. المناهل ، السيّد محمّد الطباطبائي ، السيّد المجاهد ( م 1242 ) ، الطبعة الحجرية.

173. منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان ، الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني ( م 1011 ) ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، قم ، ط 1 ، 1362 ش ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

174. منتهى المطلب في تحقيق المذهب ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) تحقيق ونشر : مجمع البحوث الإسلامية ، مشهد المقدّسة ، ط 1 ، 1412 ، وعن الطبعة الحجرية.

175. منتهى المقال في أحوال الرجال ، محمّد بن إسماعيل المازندراني ، أبو علي الحائري ( م 1216 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، ط 1 ، 1416.

176. المهذّب ، القاضي عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي ( م 481 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، 1416.

177. المهذّب البارع في شرح المختصر النافع ، أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي ( م 841 ) ، تحقيق : مجتبى العراقي ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

178. ميراث حديث شيعة ، باهتمام : مهدي المهريزي وعلي الصدرائي الخوئي ، قم ، ط 1 ، دار الحديث.

179. نضد القواعد الفقهية ، مقداد بن عبد اللّه السيوري الحلّي ( م 826 ) ، تحقيق : السيّد عبد اللطيف الكوهكمري ، قم ، 1403 ، مكتبة آية اللّه المرعشي.

* نقباء البشر - طبقات أعلام الشيعة

180. نور البراهين أو أنيس الوحيد في شرح التوحيد ، السيّد نعمة اللّه الجزائري ( م 1112 ) ، تحقيق : السيّد مهدي الرجائي ، قم ، ط 1 ، 1417 ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

ص: 729

181. النهاية ، محمّد بن الحسن الطوسي ، شيخ الطائفة ( م 460 ) ، قم ، منشورات قدس ، بالأوفست عن طبعة بيروت ، دار الأندلس.

182. نهاية الإحكام في معرفة الأحكام ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق : السيّد مهدي الرجائي ، قم ، ط 2 ، 1410 ، مؤسسة إسماعيليان.

183. نهج البلاغة ، محمّد بن الحسين الموسوي ، السيّد الرضي ( م 406 ) ، تحقيق : صبحي الصالح ، بيروت.

184. نهج الحق وكشف الصدق ، الحسن بن يوسف ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، قم ، 1407 ، دار الهجرة.

185. نهج المسترشدين في أصول الدين ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي ( م 726 ) ، تحقيق : السيّد أحمد الحسيني والشيخ هادي اليوسفي ، قم ، مجمع الذخائر الإسلامية.

186. الوافية في أصول الفقه ، المولى عبد اللّه بن محمّد البشروي الخراساني ، الفاضل التوني ( م 1071 ) ، تحقيق : السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، قم ، ط 1 ، 1412 ، مجمع الفكر الإسلامي.

187. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، محمّد بن الحسن ، الحرّ العاملي ( م 1104 ) ، تحقيق ونشر : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، ط 2 ، 1414.

188. الوسيلة إلى نيل الفضيلة ، محمّد بن علي الطوسي ، ابن حمزة ( ق 6 ) ، تحقيق : محمّد الحسّون ، قم ، 1408 ، مكتبة آية اللّه المرعشي.

189. وسيلة الوسائل في شرح الرسائل ، السيّد محمّد باقر بن مرتضى اليزدي الطباطبائي ( م 1298 ) ، الطبعة الحجرية ، سنة 1291.

190. هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار ، حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي ( م 1076 ) ، تحقيق : رءوف جمال الدين الحسيني ، النجف ، ط 1 ، 1396.

191. هداية المسترشدين ، محمّد تقي بن عبد الرحيم الأصفهاني ( م 1248 ) ، الطبعة الحجرية.

ص: 730

فهرس المطالب

القول في الاستصحاب

تعريف الاستصحاب.......................................................... 7

الاستصحاب القهقرى ( أصالة تشابه الزمان ).................................. 14

(1) هداية في أنّ الاستصحاب من الأدلّة أو من القواعد الفقهية....................... 15

لنا مقامان :

المقام الأوّل في أنّه على إفادته الظن فهو حينئذ من الأدلّة ، وعلى الأخبار فإنّه حينئذ كإحدى القواعد الشرعية 15

المقام الثاني في أنّه هل البحث في الاستصحاب بحث عن المسألة الأصولية أو بحث عن المسألة الفرعية؟ 17

تحقيق البحث موقوف على تمهيد مقدّمة :

المعيار في تميّز مسائل العلوم أمور :

الأوّل ملاحظة رجوع البحث إلى البحث عن عوارض الموضوع في ذلك العلم...... 17

الثاني حدّ العلم.............................................................. 18

الثالث تدوين أهل العلم لها فيه ، أو تنصيص أهل الفنّ بذلك..................... 19

بعد تمهيد المقدّمة تحقيق الكلام في مقامين :

المقام الأوّل في تشخيص أصناف الاستصحاب.................................. 20

المقام الثاني في أنّ الاستصحاب على أيّ وجه من أيّ المسائل..................... 25

(2) هداية في تقسيمات الاستصحاب.............................................. 27

ص: 731

ينقسم الاستصحاب باعتبارات مختلفة إلى أقسام متعدّدة :

منها تقسيمه من حيث المستصحب إلى حال العقل وحال الشرع.................. 27

منها تقسيمه باعتبار الدليل إلى استصحاب حال النصّ إلى أن يثبت الناسخ وإلى استصحاب حال الإجماع 31

منها تقسيمه باعتبار المشكوك فيه إلى استصحاب الحكم الشرعي ، وإلى استصحاب الموضوع الخارجي 31

منها تقسيمه باعتبار الشك................................................... 31

أقسام الشك في المقتضي..................................................... 31

أقسام الشك في المانع........................................................ 32

(3) هداية في تعميم النزاع لأقسام الاستصحاب..................................... 35

الكلام فيها في المقامات الأربع :

المقام الأوّل في أنّه هل النزاع في حجّية الاستصحاب وعدمها يعمّ البراءة الأصلية ، أو يخصّ بغيرها؟ 35

المقام الثاني في أنّه هل يعمّ ما إذا كان المدرك إجماعا ، أولا؟...................... 48

المقام الثالث في أنّه هل يختصّ النزاع بالأحكام الشرعية ، أو يجري في الموضوعات أيضا؟... 49

المقام الرابع في أنّه هل يجري النزاع في أقسام الشك في المقتضي ، أو يختصّ بأقسام الشك في المانع؟ 53

تذنيب في أنّه هل النزاع في حجيّة الاستصحاب من جهة الظنّ أو من حيث إنّها قاعدة تعبّدية ، فعلى الأوّل يكون كسائر الأدلّة الاجتهادية ، وعلى الثاني يكون كالبيّنة واليد من التعبّديات؟..................... 55

(4) هداية في ذكر الأقوال في اعتبار الاستصحاب................................... 59

(5) هداية في ذكر حجج المطلقين في الحجّية من حيث الظنّ.......................... 65

ص: 732

وهي كثيرة :

الأوّل ما احتجّ به في المعارج.................................................. 65

المناقشة فيه................................................................. 66

الثاني ما ذكره شيخنا البهائي والمناقشة فيه...................................... 68

الثالث في أنّ الاستصحاب يفيد الظنّ ، والظنّ الحاصل منه حجّة ، فالاستصحاب حجة 69

أمّا الصغرى فلوجهين :

أحدهما : الوجدان........................................................... 69

ثانيهما : جري السيرة القطعية................................................ 69

أمّا الكبرى فلوجهين أيضا :

الأوّل : بناء العقلاء.......................................................... 70

الثاني : باب العلم في الأحكام منسدّ........................................... 73

وجوه النظر فيه :

أمّا أوّلا فبمنع الصغرى...................................................... 74

أمّا ثانيا فبمنع الكبرى....................................................... 75

كلام السيّد الصدر شارح الوافية.............................................. 79

المناقشة فيه................................................................. 80

(6) هداية حاوية للنهاية والبداية في ذكر أدلّة حجّية الاستصحاب..................... 87

الاستدلال بالأخبار العامّة :

1 - صحيحة زرارة الأولى.................................................. 88

تقريب المرام يحتاج إلى رسم أمرين :

الأمر الأوّل في بيان سند الرواية............................................... 88

الأمر الثاني في توجيه فقرات الرواية............................................ 90

2 - صحيحة زرارة الثانية................................................... 95

ص: 733

الكلام في سندها............................................................ 96

الكلام في دلالتها............................................................ 96

3 - صحيحة زرارة الثالثة................................................... 98

الكلام في سندها............................................................ 99

الكلام في دلالتها............................................................ 99

4 - الاستدلال بموثّقة إسحاق بن عمّار..................................... 101

5 - مكاتبة علي بن محمّد القاساني.......................................... 101

تمامية دلالتها..................................................... 101 - 102

المناقشة في سندها.......................................................... 102

6 - رواية الخصال........................................................ 103

الكلام في سندها.......................................................... 103

الكلام في دلالتها.......................................................... 104

قد يتمسّك لإثبات حجّية الاستصحاب بالإجماعات القائمة في موارد مخصوصة

................................................................ 104 - 105

الاستدلال بأخبار خاصّة :

1 - رواية ابن بكير....................................................... 105

2 - رواية عبد اللّه بن سنان................................................ 105

3 - رواية ضريس........................................................ 106

الاستدلال بأخبار أخر لا دلالة فيها :

1 - رواية عبد اللّه بن سنان « كلّ شيء يكون فيه حلال ... »............... 107

2 - كلّ ماء طاهر ... 3 - وموثّقة عمّار « كلّ شيء نظيف ... ».......... 107

(7) الهداية التونية في حجّية الاستصحاب في الوضعيات دون الطلبيات............... 113

نقل كلام الفاضل التوني.................................................... 113

ص: 734

اعتراض المحقّق القمي عليه.................................................. 115

ذبّ إيرادات المحقّق القمي عنه............................................... 116

التحقيق في دفع ما أفاده الفاضل التوني....................................... 117

تأييد كلام الفاضل التوني بوجه وجيه........................................ 120

تنبيه في أنّ عدّ الفاضل التوني في عداد المفصّلين ليس على ما ينبغي.............. 123

(8) الهداية الخوانسارية في اختصاص الأخبار بالشك في الرافع...................... 125

نقل بعض كلام المحقّق الخوانساري........................................... 125

توضيح كلامه............................................................. 126

نقل بعض كلام المحقّق الخوانساري وتوضيح ما أفاده........................... 127

نقل بعض كلام الخوانساري وتوضيح ما أفاده................................ 129

نقل بعض كلامه أيضا وتوضيح ما أفاده...................................... 133

نقل بعض آخر من كلامه.................................................. 134

كلام آخر للخوانساري في حاشية المشارق على ما حكاه شارح الوافية.......... 136

توضيح ما أفاده............................................................ 140

حاصل مذهب الخوانساري................................................. 140

ايرادات المقرّر الطهراني عليه................................................ 141

ايرادات شارح الوافية على الخوانساري...................................... 144

الإيراد الأوّل.............................................................. 144

الإيراد الثاني.............................................................. 145

المناقشة في الإيراد الأوّل.................................................... 145

المناقشة في الإيراد الثاني..................................................... 146

المناقشة في كلام الخوانساري في حاشية المشارق............................... 150

تذنيب في ذكر كلام صاحب الفصول....................................... 151

ص: 735

المناقشة فيه................................................................ 152

(9) هداية استطرادية في الأحكام الوضعية........................................ 159

كلام المحقّق الخوانساري في رجوع الأحكام الوضعية إلى الأحكام التكليفية....... 159

إيراد الكلباسي عليه........................................................ 159

ذكر القائلين من الطرفين................................................... 160

تحرير محلّ الخلاف......................................................... 161

لنا على ما صرنا إليه من النفي وجهان :

الوجه الأوّل............................................................... 163

الوجه الثاني............................................................... 170

المناقشة في كلام الكلباسي.................................................. 171

تنبيه في ثمرة الخلاف بين القولين في موردين :

الأوّل.................................................................... 172

الثاني..................................................................... 173

ذكر بعض الثمرات وردّها......................................... 173 - 174

(10) الهداية السبزوارية في اعتبار الاستصحاب عند الشك في عروض القادح........ 175

كلام المحقّق السبزواري..................................................... 175

اعتراض جماعة عليه........................................................ 175

المناقشة فيه................................................................ 175

التحقيق في الجواب......................................................... 176

قد ينسب إلى المحقّق السبزواري التفصيل بين الأحكام والموضوعات والمناقشة فيه.. 178

(11) الهداية الأخبارية في التفصيل بين الأحكام الكلّية والأحكام الجزئية............. 183

ينسب هذا التفصيل إلى الأخباريين وتعرّضوا للجواب عن أخبار الاستصحاب تارة بالمعارضة لأخبار الاحتياط ، وأخرى بعدم شمولها للأحكام الكلّية الشرعية ولهم في بيان

ص: 736

الثاني طريقان :

الطريق الأوّل ما أفاده الشيخ الحرّ في الفوائد الطوسية.......................... 183

الجواب عمّا أفاده الشيخ الحرّ............................................... 186

الطريق الثاني ما زعمه أمين الأسترآبادي في الفوائد المكّية....................... 188

توضيح ما أفاده............................................................ 190

الجواب عنه تارة بالنقض................................................... 190

وأخرى بالحلّ في مقامين.................................................... 191

المقام الأوّل................................................................ 192

المقام الثاني................................................................ 193

(12) الهداية الغزالية في التفصيل بين كون دليل المستصحب الإجماع أو النصّ......... 197

(13) هداية في جواب المحقّق القمي عن استصحاب الكتابي وردّه.................... 203

نقل كلام المحقّق القمي..................................................... 204

المناقشة فيه................................................................ 205

الأولى في الجواب عن التمسّك بالاستصحاب وجوه :

الوجه الأوّل............................................................... 212

الوجه الثاني............................................................... 213

الوجه الثالث.............................................................. 214

(14) هداية في استصحاب الأحكام العقلية....................................... 221

لو كان دليل الحكم هو العقل فتحقيق القول في جريان الاستصحاب فيه في مقامين :

المقام الأوّل فيما إذا كان الشك في موضوع حكم العقل........................ 221

المقام الثاني فيما إذا كان الشك في نفس الحكم العقلي.......................... 223

(15) الهداية الحنفية في التفصيل بين كون المستصحب وجوديا فليس بمعتبر وبين كونه عدميا فهو عتبر 229

ص: 737

الكلام فيما كان المستصحب عدميا.......................................... 229

الكلام فيما كان المستصحب وجوديا........................................ 234

(16) هداية في كلام النراقي في معارضة الاستصحاب الوجودي والعدمي............ 239

نقل كلام النراقي في أنّ استصحاب حال الشرع - يعني الاستصحاب الوجودي - ليس معتبرا ، واستصحاب حال العقل - يعنى الاستصحاب العدمي - معتبر............................................... 239

وجوه النظر في كلامه :

أمّا أوّلا................................................................... 243

أمّا ثانيا................................................................... 244

أمّا ثالثا................................................................... 246

أمّا رابعا.................................................................. 247

(17) هداية في الاستصحاب في الاعتقاديات...................................... 249

(18) هداية في أصل المثبت...................................................... 253

تمهيد..................................................................... 253

تحقيق الكلام في مقامات :

المقام الأوّل في عدم ترتّب الأمر المقارن الاتّفاقي على المستصحب بالاستصحاب.. 254

المقام الثاني في عدم ترتيب الملزوم على اللازم عند استصحابه ، وعدم ترتيب أحد المتشاركين في اللزوم على استصحاب الآخر ، سواء كانا عقليين أو عاديّين أو شرعيين بناء على اعتبار الاستصحاب من حيث التعبّد بالأخبار 256

الكلام بناء على الظنّ...................................................... 257

المقام الثالث في عدم ثبوت اللازم العقلي أو العاديّ على المستصحب بناء على الأخبار 259

موارد الأصول المثبتة في غاية الاختلاف...................................... 267

أمثلة من عدم اعتناء الفقهاء بالأصول المثبتة................................... 267

ص: 738

فروع تمسّكوا فيها بالأصول المثبتة........................................... 268

توجيه كلمات الفقهاء :

1 - لعلّ الاعتماد عليها من باب إفادتها الظنّ كما عليه بناء العقلاء.............. 27

الإشكال فيه بعدم الاطّراد.................................................. 271

2 - خفاء الواسطة........................................................ 271

3 - اتّحاد الواسطة والمستصحب وجودا.................................... 272

انطباق بعض الموارد لخفاء الواسطة........................................... 272

انطباق بعض الموارد للاتّحاد في الوجود...................................... 272

الإشكال في خفاء الواسطة والاتّحاد في الوجود بعدم الاطّراد وعدم الانعكاس..... 273

4 - في مواضع التداعي.................................................... 274

المناقشة فيه................................................................ 276

الإنصاف عدم وجود وجه جامع لتوجيه كلمات القوم ولعلّ العمدة البناء عليها من جهة الظنّ 278

(19) هداية في أصالة تأخّر الحادث............................................... 279

المراد من الأصالة.......................................................... 279

مقامان :

المقام الأوّل في إثبات تأخّر شيء حادث عن بعض أجزاء الزمان................. 280

المقام الثاني في إثبات تأخّر حادث عن حادث آخر مثله......................... 282

تذنيب في الاستصحاب القهقرى............................................ 286

(20) هداية في استصحاب الصحّة............................................... 289

الكلام في قسمان :

القسم الأوّل إذا كان الشك في الأجزاء المادّية................................. 290

تقرير الاستصحاب في هذا المقام بوجوه إلاّ أنّه لا يجدي في الكلّ................ 291

ص: 739

الأوّل استصحاب القابلية والمناقشة فيه....................................... 291

الثاني استصحاب وجوب الإتمام والمناقشة فيه.................................. 291

الثالث استصحاب حرمة القطع والمناقشة فيه.................................. 291

تحقيق آية البطلان :

استدلال جماعة بها......................................................... 292

تقريب الاستدلال بها....................................................... 292

الإنصاف عدم دلالة الآية على ذلك ؛ إذ الوجوه المحتملة فيها كثيرة :

الأوّل : أن يكون المراد بها إحداث صفة البطلان في العمل...................... 293

الثاني : أن يكون المراد بها إحداث الموصوف بالبطلان متّصفا بهذه الصفة......... 294

الثالث : أن يكون المراد بها ما هو مناط الاستدلال المذكور من وجوب المضيّ على العمل 294

جملة الكلام في هذا المقام................................................... 295

القسم الثاني إذا كان الشك في الجزء الصوري................................ 296

التحقيق جريان الاستصحاب فيه............................................ 296

(21) هداية في استصحاب الاشتغال............................................. 299

الكلام في مقامين :

المقام الأوّل فيما إذا كان الشك في البراءة والاشتغال بواسطة الشك في حصول المبرئ المعلوم المبرئية ، أو بواسطة الشك في مبرئية الفعل الموجود............................................................. 300

التحقيق عدم الاحتياج إلى الاستصحاب فيهما ، أمّا الأوّل...................... 300

أمّا الثاني.................................................................. 301

اللّهم إلاّ أن يقال في المقام بأنّ الاستصحاب مجد من وجهين :

أحدهما................................................................... 302

ثانيهما................................................................... 303

ص: 740

المقام الثاني فيما إذا كان الشك في البراءة والاشتغال بواسطة الشك في أصل التكليف ( الشبهات الحكمية ) وفي الشبهات الموضوعية......................................................................... 303

(22) هداية في استصحاب الفرد المردّد........................................... 305

تحقيق المقام على ما يقتضيه جليّ النظر....................................... 305

تحقيق المقام على ما يقتضيه دقيق الفكر....................................... 308

(23) هداية في الاستصحاب في الأجزاء بعد تعذّر الكلّ............................ 311

إجراء حكم الكلّ في الأجزاء الباقية بطرق :

أحدها الأخذ بالعمومات................................................... 311

ثانيها الاستقراء............................................................ 311

ثالثها الاستصحاب........................................................ 312

تقريره بوجهين :

الأوّل.................................................................... 312

المناقشة فيه................................................................ 314

الثاني والمناقشة فيه......................................................... 315

جريان الاستصحاب على مشرب القوم من المسامحة في أمره موضوعا ومحمولا..... 316

(24) هداية في قاعدة اليقين..................................................... 317

تحقيق الكلام في مقامين :

المقام الأوّل في بيان حكم الأعمال السابقة.................................... 318

المقام الثاني في بيان تلك الواقعة بالنسبة إلى الوقائع المستقبلة..................... 321

تنبيه في عدم شمول أخبار الاستصحاب للشكوك السارية....................... 323

تذنيب في عدم جواز التمسّك باستصحاب الحكم الظاهري في موارد سريان الشك 326

(25) هداية في الاستصحاب التعليقي............................................ 329

(26) هداية في بيان استصحاب الحكم المخصّص.................................. 335

ص: 741

نقل كلام المحقّق والشهيد الثانيين في الأخذ بالاستصحاب...................... 335

تحقيق الكلام.............................................................. 335

ذكر ما أفاده السيّد بحر العلوم على ما لخّص كلامه صاحب الفصول............ 339

اعتراض صاحب الفصول عليه.............................................. 340

الجواب عن بعض ما أورده صاحب الفصول.................................. 341

(27) هداية في الاستصحاب في الأمور التدريجية................................... 345

(28) هداية في استصحاب الكلّي................................................ 349

ذكر صور ثلاث لاستصحاب الكلّي......................................... 349

جريان الاستصحاب في الصورة الأولى على المسامحة العرفية في ضبط الموضوع بل وعلى التدقيق أيضا 349

جريان الاستصحاب في الصورة الثانية بعد البناء على المسامحة العرفية............ 351

جريان الاستصحاب في الصورة الثالثة بعد البناء على المسامحة العرفية............ 351

إشكال المقرّر الطهراني على الشيخ الأستاذ.................................... 351

كلام الفاضل التوني يقرب ممّا ذكرنا......................................... 353

بعض المناقشات فيما فرّع عليه..................................... 353 - 354

تفصيل الأستاد في سالف الزمان بين الكلّيات الذاتية للأفراد وبين العرضية لها 354 - 355

(29) هداية في استصحاب أحكام الشرائع السابقة................................ 357

الكلام فيما إذا كان الحكم ثابتا في شريعة واحدة.............................. 357

الكلام فيما إذا تعدّدت الشرائع............................................. 359

تفصيل صاحب القوانين والمناقشة فيه........................................ 359

الذي يقتضيه جليّ النظر القول بجريان الاستصحاب........................... 360

قصارى ما يتوهّم في الفرق بينهما........................................... 360

الجواب عنه............................................................... 360

ص: 742

الفرق في جريان الاستصحاب بين القول بذاتية الصفات المستتبعة للأحكام من الحسن والقبح وبين القول باختلافها بالوجوه والاعتبار......................................................................... 361

نقل كلام صاحب القوانين في الفرق في ذلك................................. 361

وجوه النظر فيه............................................................ 361

إيراد صاحب الفصول على الاستصحاب المذكور............................. 361

المناقشة فيه................................................................ 362

في المقام شيئان آخران في دفع الاستصحاب :

الأوّل أنّ الاستصحاب ممّا لا مجرى له بعد العلم الإجمالي بورود النسخ في الشرائع السابقة 362

قد يجاب عنه.............................................................. 363

المناقشة فيه................................................................ 363

التحقيق في الجواب......................................................... 363

الثاني وهو المختار في عدم جريان الاستصحاب................................ 366

تذنيب في ذكر الثمرات المذكورة وليس شيء منها بشيء :

الأولى على القول بجريان الاستصحاب فالأصل في كلّ أمر مجرّد عن قرائن التعبّدية أو التوصّلية أن يكون محمولا على التعبّد ووجوه النظر فيها................................................................. 369

الثانية صحّة الجعالة مع جهالة الجعل وجواز الضمان فيما لم يجب والمناقشة فيها... 371

الثالثة المستفادة من آية ( خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ... ) والمناقشة فيها................. 372

الرابعة أرجحية العبادة على التزويج والمناقشة فيها............................. 372

الخامسة صحّة الإجارة على تقدير الترديد في زمان الإجارة والمناقشة فيها......... 373

(30) هداية في تقوّم الاستصحاب ببقاء الموضوع............................. 375

الكلام في أنّ بقاء الموضوع من المقوّمات لا من الشروط........................ 375

المراد ببقاء الموضوع........................................................ 375

ص: 743

الدليل على هذه الدعوى................................................... 377

يعتبر في الاستصحاب أيضا بقاء المحمول لا بوصف الحمل...................... 378

الكلام في جريان الاستصحاب عند الشك في بقاء الموضوع وارتفاعه............ 378

إذا كان الشك في الموضوع من جهة الاشتباه في الدليل الشرعي فيمكن تمييز الموضوع بوجوه 386

المراد بالموضوع في المقام.................................................... 386

1 - أن يكون المعيار في التمييز التدقيق...................................... 387

2 - أن يكون المعيار في التمييز العرف...................................... 387

3 - أن يكون المرجع إلى ظواهر الخطابات الشرعية........................... 388

أوضح الوجوه المذكورة أوسطها............................................. 389

الميزان العرفي لا ضبط فيه................................................... 389

وجه اختلاف الفقهاء في موارد الاستحالة.................................... 390

الدليل على الكبرى - وهو وجوب الأخذ بهذا المعيار - أمران :

الأوّل - وهو العمدة - صدق اتّحاد القضية المتيقّنة والقضيّة المشكوكة......... 393

الثاني لو لم يكن المرجع العرف لزم أن يكون أمر الاستصحاب موكولا إلى مسألة عقلية من تجدّد الأمثال وثبوت الحركة الجوهرية......................................................................... 393

وممّا يكشف عن ذلك تتبّع كلمات الفقهاء................................... 393

تنافي الرجوع إلى العرف مع قولهم : « الأحكام تتبع الأسماء ».................. 394

يمكن القول بعدم التنافي بينهما بوجهين....................................... 395

الإنصاف عدم استقامة الوجهين............................................. 396

كلام المقرّر في أنّ أوضح الوجوه في تمييز الموضوع الرجوع إلى عناوين الأدلّة..... 396

(31) هداية في عدم جريان الاستصحاب مع وجود المعارض........................ 399

(32) هداية في حكومة الأمارات على الاستصحاب............................... 401

ص: 744

تعريف الوحيد البهبهاني الدليل الاجتهادي والدليل الفقاهتي.................... 401

المناقشة فيما أفاده.......................................................... 404

الأنسب في تعريف الدليل الاجتهادي........................................ 405

ملخّص الكلام............................................................ 405

لا شكّ في تقديم الأدلّة الاجتهادية على الاستصحاب بناء على الظنّ النوعي...... 406

كلام المحقّق القمي......................................................... 407

وجوه النظر فيه............................................................ 408

الكلام فيه بناء على الظنّ الشخصي......................................... 411

الكلام فيه بناء على الأخبار :

لا إشكال في ورود الدليل الاجتهادي على الاستصحاب فيما لو كان مفيدا للقطع 411

أمّا فيما لو كان الدليل ظنّيا فقد يقال بالورود................................. 411

التحقيق أنّه ليس من الورود بل هو من جهة التحكيم.......................... 412

توضيحه يحتاج إلى تمهيد مقدّمتين :

الأولى في أنحاء التصرّفات الواقعة في الأدلّة من الورود والتخصّص والتخصيص والحكومة 412

الثانية في معنى جعل الشيء طريقا فيما يحتاج إلى الجعل......................... 415

بيان حكومة الأدلّة الاجتهادية على الاستصحاب.............................. 417

ردّ كلام بعض الأعيان حيث زعم أنّه من الورود............................. 418

انقداح فساد مقالة من زعم أنّ بين الدليل الدالّ على البيّنة وبين الاستصحاب عموم وخصوص من وجه 420

ظهور وجه تقديم الأدلّة الاجتهادية على سائر الأصول......................... 421

تذنيب في الكلام مع بعض متأخّري المتأخّرين في المراد من اليقين الناقض في الأخبار 421

ص: 745

نوع آخر من الحكومة...................................................... 422

ما ذكرنا من الحكومة والورود تنبّهنا به من كلام الصدوق في اعتقاداته.......... 423

(33) هداية في تعارض الاستصحاب مع الأصول العملية........................... 425

بيان تقديم الاستصحاب على البراءة العقلية................................... 425

تقديم الاستصحاب على البراءة الشرعية بوجوه ثلاثة :

الأوّل منسوب إلى صاحبا الذخيرة والرياض والمناقشة فيه....................... 426

الثاني بعين ما ذكر في البراءة العقلية.......................................... 426

الثالث - وهو التحقيق - حكومة الاستصحاب على البراءة................... 427

حكومة الاستصحاب على الاحتياط......................................... 429

بيان تقديم الاستصحاب على أصالة التخيير................................... 430

بيان تقديم الاستصحاب على أصالة الطهارة.................................. 430

(34) هداية في تعارض الاستصحاب مع القرعة................................... 431

الكلام في أصل مشروعيتها................................................. 431

وهن دلالتها في الموارد التي لم يظهر من الأصحاب التعويل عليه................. 432

تخيّل في تقديم الدليل والأصول العملية على القرعة والمناقشة فيه................. 432

تخيّل في أنّ النسبة بين أخبار القرعة وأخبار الاستصحاب عموم من وجه فلا وجه لتقديم الاستصحاب والمناقشة فيه 435

تخيّل أيضا في تقديم الأصول على القرعة والمناقشة فيه.......................... 435

تخيّل وجه آخر في تقديم الأصول على القرعة والمناقشة فيه...................... 435

تنبيه في أنّ موارد القرعة على قسمين........................................ 436

(35) هداية في تعارض الاستصحاب مع اليد...................................... 439

بيان كيفية تعارض اليد مع الاستصحاب..................................... 439

حكومة اليد على الاستصحاب.............................................. 440

ص: 746

(36) هداية في تعارض الاستصحاب مع قاعدة التجاوز............................ 445

تحقيق الكلام فيه في مقامين :

المقام الأوّل في أصل مشروعيتها............................................. 445

المقام الثاني في حكومة هذه القاعدة على الاستصحاب.......................... 449

تنبيهات :

التنبيه الأوّل هل المستفاد من هذه الأخبار هو الحكم بوجود المشكوك فيه ليترتّب عليه جميع الآثار الشرعية ، أو وقوعه من الحيثية التي وقع الشك باعتبارها فقط؟................................................. 449

التنبيه الثاني هل تجري القاعدة فيما إذا شك في العمل بغير النسيان كالعصيان؟... 455

التنبيه الثالث في بيان المراد من الحلّ الذي اعتبر التجاوز عنه.................... 457

التنبيه الرابع هل القاعدة المذكورة محكّمة فيما إذا شكّ في صحّة الاعتقاد السابق مطلقا ، أو فيما إذا لم يكن متذكرا لموجب الاعتقاد ، أو ليست محكّمة فيها مطلقا؟.............................................. 461

(37) هداية في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحّة............................. 467

تحقيق الكلام في مطلبين :

المطلب الأوّل في بيان أصل مشروعيتها وأقسامها.............................. 467

تنقيح البحث في موارد :

الأوّل في أنّ الأصل في الأعيان الموجودة في الخارج هل هو الصحّة أو الفساد؟.... 467

الثاني هل قضيّة الأصل في الأفعال هو حملها على الصحيح ، أو لا؟.............. 469

الثالث في تحقيق القول في أنّ الأصل في الأقوال الصحّة......................... 473

الرابع هل يحمل الاعتقاد على الصحّة ، أو لا؟................................ 475

المطلب الثاني في تعارضها مع الاستصحاب.................................... 483

لا شك في تقدّم أصالة الصحّة على استصحاب حكمي عدمي لا ينفك عنه دائما وهو استصحاب الفساد 483

لا إشكال في تقدّم أصالة الصحّة على استصحاب موضوعي لا ينفك عنه دائما وهو

ص: 747

أصالة عدم وقوع هذا الفعل المخصوص...................................... 483

الإشكال في تقديم أصالة الصحّة على استصحاب موضوعي ينفك عنه في بعض الأحيان وهو أصالة عدم وقوع الموضوع الذي يشكّ من جهته في صحّة العقد وفساده............................................ 484

(38) هداية في تعارض الاستصحابين............................................. 489

أقسام التعارض في الاستصحابين............................................ 489

عدم الجدوى في التقسيمات المذكورة إلاّ التقسيم الأخير....................... 490

هنا دعويان :

الأولى تقديم الاستصحاب السّببي المزيل على المسبّبي المزال بناء على الظنّ......... 491

الثانية تقديم الاستصحاب السّببي المزيل على المسبّبي المزال بناء على التعبّد......... 496

الدليل على تقديم المزيل بوجوه :

الأوّل الإجماع القطعي...................................................... 496

الثاني السيرة المستمرّة....................................................... 497

الثالث أنّه لو لا ذلك لاختلّ النظام.......................................... 498

الرابع الأخبار............................................................. 501

الدعوى الثانية فيما إذا لم يكن الشك في أحدهما مسبّبا عن الآخر أمّا بناء على الظنّ فظاهرهم الاختلاف على ذلك ، فحكموا بالتساقط في الأغلب....................................................... 507

أمّا بناء على التعبّد فالحكم هو التساقط...................................... 507

(39) هداية نافعة في جميع ما تقدّم في الفحص عن المعارض.......................... 513

القول في التعادل والترجيح

الكلام في دخول المبحث في مباحث الفن..................................... 521

(1) هداية في تعريف التعارض................................................... 523

(2) هداية في تعريف التعادل.................................................... 529

ص: 748

هل القاعدة في المتعارض هي إعمالهما في الجملة ، أو تساقطهما؟................ 529

المراد بالإعمال............................................................ 530

المراد بالتساقط............................................................ 530

كلام السيّد المجاهد في أنّ الأصل في المتعارضين هو التساقط..................... 531

الإنصاف أنّ الأصل هو الإعمال............................................ 532

وجوه النظر في كلام السيّد المجاهد........................................... 532

القول بعدم التساقط هو المشهور............................................. 537

(3) هداية في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.............................. 539

الكلام في المراد بها......................................................... 539

تتّجه تلك المقالة في بعض المقامات........................................... 540

إنّ للجمع مراتب :

المرتبة الأولى : لا يحتاج إلى شاهد لاكتفاء نفس الدليلين عنه ، فالواجب فيها الجمع بين الدليلين 540

الكلام في العامّ والخاصّ.................................................... 540

الكلام في المطلق والمقيّد..................................................... 541

المرتبة الثالثة : يحتاج الجمع فيها إلى شاهدين كالمتباينين........................ 545

التحقيق عدم وجوب الجمع بل لا بدّ من الأخذ بالمرجّح عند وجوده ، والحكم بالتخيير عند عدمه 545

ذلك لوجهين :

الأوّل بناء العرف في أوامرهم في أمثال المقام.................................. 545

الثاني الجمع بين الدليلين على الوجه المذكور ينافي أخبار التخيير................. 548

المرتبة الثانية يحتاج الجمع فيها إلى شاهد كالعامّين من وجه..................... 548

إجمال الكلام في الجمع بين الأمارات القائمة على الموضوعات الخارجية كما إذا تعارضت

ص: 749

البيّنتان................................................................... 553

(4) هداية في المرجّحات الدلالية................................................. 555

التصرّف في أحد الظاهرين على وجه يندفع به التعارض بينهما هي أمور خمسة... 556

أحكام التعارض الثنائي :

الكلام في التعارض بين النسخ وغيره......................................... 556

الكلام في التعارض بين المجاز والتخصيص..................................... 556

الكلام في التعارض بين التخصيص والتقييد................................... 557

تعارض التقييد مع المجاز أو الإضمار.......................................... 564

تعارض الإضمار والمجاز..................................................... 565

الكلام فيما إذا كان التعارض بين فردين من نوع واحد كالتخصيصين.......... 565

الكلام في تقديم المنطوق على المفهوم......................................... 565

الكلام في تقديم الحقيقة على المجاز........................................... 566

انقلاب النسبة............................................................. 567

التعارض بين الأدلّة الزائدة على اثنين يقع على وجهين :

الوجه الأوّل أن يكون التعارض بين واحد منها وبين الآخرين................... 567

الصور المفروضة ثلاثة :

1 - أن يكونا نصّين...................................................... 568

2 - أن يكون المعارضان للثالث ظاهرين.................................... 571

3 - أن يكون أحد المعارضين للثالث نصّا والآخر ظاهرا...................... 572

الوجه الثاني إذا كان التعارض بين الجميع..................................... 573

الصور المفروضة :

1 - أن يكون المعارضان نصّين بالنسبة إلى الثالث مع ظهورهما في نفسهما أيضا. 573

2 - الأولى بحالها مع نصوصية أحد المتعارضين أيضا........................... 573

ص: 750

3 - أن يكون المعارضان ظاهرين بالنسبة إلى الثالث مع ظهورهما أيضا.......... 574

4 - الثالثة بحالها مع نصوصية أحدهما أيضا.................................. 574

5 و 6 - أن يكون أحد المتعارضين نصّا والآخر ظاهرا بالنسبة إلى الثالث مع ظهورهما في نفسهما أو نصوصية أحدهما بالنسبة إلى الآخر أيضا............................................................... 574

(5) هداية في المرجّحات الصدورية............................................... 575

ذكر الأخبار الواردة في هذا المضمار :

مقبولة عمر بن حنظلة...................................................... 576

الكلام في سندها.......................................................... 578

الكلام في دلالتها.......................................................... 580

مرفوعة زرارة............................................................. 582

المناقشة في سندها ودلالتها.................................................. 582

تعارض المرفوعة والمقبولة في ترتيب المرجّحات................................ 583

(6) هداية في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة..................................... 585

إثبات أقوائية أحد الدليلين مطلقا يوجب ترجيح الأقوى على غيره............... 587

المراد من الأقوائية.......................................................... 587

الكلام فيما يستفاد من الروايات وجوب الأخذ بما هو أقرب من الواقع.......... 585

اختلاف الأخبار العلاجية دليل على أنّ المناط في الترجيح على مطلق الأقوائية والأقربية 585

إشعارات على مطلق الأقوائية منها الأخبار المشتملة على لفظ « الثقة » و « الوثوق » 586

منها ما في المقبولة من الأمر بأخذ ما قاله أصدق المخبرين....................... 587

منها ما يظهر من المقبولة أيضا من قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه »........ 587

منها ما ورد في الروايات : « أنّ لكلّ حقّ حقيقة ... »........................ 588

منها الأخبار الآمرة بالأخذ بما خالف العامّة................................... 589

ص: 751

الوجه في ترجيح ما خالف العامّة أمور :

الأوّل ما علّله شيخ الطائفة من أنّ المخالف للعامّة أبعد عن التقية وأقرب إلى الواقع 589

الثاني هو أقربية مضمون المخالف للواقع من الموافق............................ 590

الثالث هو مطلوبية مخالفتهم على أن يكون المخالفة معتبرة من حيث الموضوعية.... 592

تضعيف الوجه الأوّل والثالث وتقوية الوجه الثاني............................. 592

وقد يستدلّ على ذلك بوجهين آخرين :

أحدهما ظهور الإجماع...................................................... 592

ثانيهما قاعدة الاشتغال..................................................... 593

الكلام فيما هو قضية المذاهب على اختلافها في حجّية الأخبار.................. 595

قد يدعى جريان دليل الانسداد في مسألة الترجيح............................. 595

عدم استقامة الوجه المذكور................................................. 595

الكلام في سائر الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد.......................... 601

مرجّحات أخر لا دخل لها في تقوية الجهات الراجعة إلى الدليلية................. 602

(7) هداية في بيان المرجّحات المنصوصة........................................... 605

تقديم الترجيح في الدلالة على العلاج في السند مطلقا.......................... 605

تقديم المرجّح الخارجي على الداخلي غالبا..................................... 606

الكلام في المقبولة.......................................................... 606

الترجيح بكلّ واحد من الصفات لا اجتماعها................................. 606

الكلام في اشتهار أحد الخبرين دون الآخر.................................... 607

الكلام في موافقة الكتاب................................................... 609

أنحاء المخالفة.............................................................. 609

الكلام في موافقة السنّة..................................................... 612

الكلام في مخالفة العامّة..................................................... 612

ص: 752

كلام الشيخ في العدّة....................................................... 613

اعتراض المحقّق عليه........................................................ 613

تضعيف صاحب المعالم الاعتراض............................................ 613

مآل المخالفة القولية ومخالفة أخبارهم إلى أمر واحد............................ 615

ما هو المقصود من المخالفة؟................................................. 616

هل يلزم في التقية وجود قول من العامّة على طبق ما يحتمل التقية ، أو لا؟........ 616

ذهب صاحب الحدائق إلى الثاني............................................. 616

اعتراض الوحيد البهبهاني عليه............................................... 618

التحقيق في المقام........................................................... 619

ظاهر المقبولة تقديم الترجيح بمخالفة الكتاب على موافقة العامّة وهو محمول....... 621

الكلام في الترجيح بميل حكّامهم وقضاتهم.................................... 622

الكلام في تقديم ترجيح جهة الصدور على الترجيح الصدوري.................. 623

ما اشتمل عليه سائر الأخبار أمران :

1 - الأخذ بالأحدث..................................................... 625

الأخذ بالأحدث يحتمل وجوها ثلاثة......................................... 626

الحاصل عدم مرجحيّة تأخّر الصدور......................................... 626

2 - الاحتياط على ما نطق به المرفوعة والمناقشة فيه........................... 626

(8) هداية في المرجّحات غير المنصوصة المضمونية.................................. 627

المرجّحات المضمونية على قسمين :

قسم يكون من الأمارات على الأحكام كالشهرة والاستقراء.

قسم لا يكون كذلك.

الكلام في ذكر موارد القسم الثاني :

1 - الترجيح بموافقة الأصل ( المقرّر ) ومخالفته ( الناقل )...................... 627

ص: 753

ذكر القائلين به............................................................ 627

المراد بالأصل في المقام...................................................... 627

ذكر احتجاج القائل بتقديم الناقل والمناقشة فيه................................ 629

ذكر احتجاج آخر للقائل بتقديم الناقل والمناقشة فيه................... 629 - 630

ذكر احتجاج القائل بتقديم المقرّر............................................ 630

المناقشة فيه................................................................ 631

التحقيق في المسألة هو التفصيل بين التعويل عليها من باب الظنّ وغيره........... 631

التحقيق في المقام هو الأخذ بإطلاق أخبار التخيير.............................. 633

2 - الترجيح بموافقة الحظر والإباحة والمناقشة فيه............................. 635

3 - كون مفاد أحد الخبرين حكما وضعيا فيرجّح على ما هو مفاده حكم تكليفي والمناقشة فيه 636

الكلام في القسم الأوّل من المرجّحات المضمونية............................... 636

تارة يعلم اعتبار تلك الأمارات فلا إشكال في حصول الترجيح بها.

وتارة يشك في ذلك فالقول بالترجيح بها موكول إلى اعتبار مطلق الظنّ.

وتارة يعلم عدم اعتبارها كالقياس وأضرابه فهل يصحّ الترجيح بها ، أو لا؟....... 636

قولان :

القول بالترجيح بالقياس.................................................... 636

المناقشة فيه بأمور :

الأوّل إجماع الفرقة على ترك التعويل عليه.................................... 637

الثاني الأخبار المستفيضة بل المتواترة.......................................... 639

الثالث عدم تعرّض الأصحاب لمباحثه........................................ 640

الإنصاف أنّ التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها موقوف على حصول الاطمئنان بعمل الأصحاب فيه 641

ص: 754

(9) هداية في بعض آخر من المرجّحات الدلالية.................................... 643

تأخّر الترجيح في الدلالة عن الترجيح في الصدور وجهته....................... 643

تقسيم المرجّحات الدلالية بقسمين : 1 - الترجيح بأمور مرتبطة بالدلالة. 2 - بأمور خارجة عنها 643

اعتبار مرجّحات الداخلية والأغلب رجوعها إلى الغلبة.......................... 644

عدم اعتبار المرجّحات الخارجية.............................................. 645

(10) هداية في حكم المتكافئين : التخيير أو التوقّف؟............................... 649

المنسوب إلى الأخباريين التوقّف والمشهور من المجتهدين التخيير.................. 649

تدلّ على الأوّل طائفة من الأخبار........................................... 649

تدلّ على الثاني أيضا طائفة من الأخبار....................................... 651

الراجح مذهب المجتهدين.................................................... 651

تحقيق المقام أنّ المقامات مختلفة : 1 - التخيير. 2 - التوقّف. 3 - التساقط.... 652

أمّا مقام التخيير ففيما إذا قلنا بحجّية الخبر تعبّدا................................ 652

أمّا مقام التوقّف ففيما إذا قلنا بحجّية الخبر من حيث إنّه طريق معمول به عند العقلاء 655

أمّا مقام التساقط ففيما إذا تعارض أصلان من الأصول العملية بناء على اعتبارها تعبّدا 657

أمّا على القول باعتبارها بناء على الظنّ فحكم الأصل حكم الطرق الواقعية....... 660

(11) هداية في لزوم الفحص عن المرجّح.......................................... 661

الفهارس العامّة

فهرس الآيات............................................................. 665

فهرس الأحاديث.......................................................... 673

فهرس الأشعار والأمثال.................................................... 683

ص: 755

فهرس الأعلام............................................................. 684

فهرس الكتب............................................................. 697

فهرس الفرق والجماعات................................................... 702

فهرس الأماكن............................................................ 705

فهرس الأشياء والحيوانات................................................... 706

فهرس مصادر التحقيق..................................................... 712

فهرس المطالب............................................................ 731

ص: 756

رسالة في المشتقّ

اشارة

تقرير أبحاث الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف

الميرزا أبي القاسم النوري الطهراني

( 1236 - 1292 )

تحقيق

علي الفاضلي

قام بنشره معهد الامام الخمينى والثورة الاسلامية للتحقيق والدراسات العليا 1386 ( ذي الحجة الحرام 1428 )

ص: 757

ص: 758

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد ، فهذه رسالة في بحث المشتقّ من مباحث ألفاظ أصول الفقه وكانت من تقريرات بحث الشيخ الأعظم الأنصاري للميرزا أبي القاسم النوري الطهراني وجفّ قلمه الشريف ولم يف عمره بإتمامها.

ذكرها الطهراني وقال : وهي بمضمونها مندرجة في مطارح الأنظار (1) ، لكن لم تندرج في المطبوع منه ، فينبغي أن تطبع في مباحث الألفاظ من المطارح ؛ لتكميل مباحثه.

النسخ المعتمدة

1. النسخة المطبوعة على الحجر في سنة 1305 مع رسائل أخر (2) للشيخ الأعظم الأنصاري والشيخ الشهيد فضل اللّه النوري وجاء في آخر الرسالة : « به سعى واهتمام عالى جناب قدسى انتساب آقا شيخ موسى [ النورى ] وعالى جاه ... آقا ميرزا حسين [ الكجورى ] زيد عزّه سنه يك هزار وسيصد وپنج در دار الخلافه طهران منطبع شد ».

2. نسخة المكتبة الرضوية برقم 24236 ( فهرست الرضوية : ج 6 ، ص 246 )

ص: 759


1- الذريعة 21 : 40 - 41.
2- طبعت عنها مكتبة المفيد في سنة 1404 بترصيف آخر مع أغلاط مطبعية والخلط في نسبة الرسائل إلى مؤلّفيها.

وكتب في الصفحة الأولى : « ممّا قرّره الفاضل الحاج ميرزا أبو القاسم الطهراني عن شيخه المحقّق الأنصاري » وجاء في آخرها : « تمّت بيد الواقف الجاني محمّد بن داود الحسيني ( ظ ) رحم اللّه من استغفر للواقفين وذكرهما بالخير وبالفاتحة بعد موتهما » والظاهر أنّه بخطّ آخر غير كاتب النسخة.

وجعلنا رمزها « ق ».

وينبغي أن أنبّه أنّ نسخة من المطارح التي تشتمل على مبحث المشتقّ أيضا عرّفت في فهرست مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 7445 ( الفهرست : ج 25 ، ص 424 ) وبعد أن حصلنا على مصوّرتها تبيّن أنّها لم تكن مطارح الأنظار.

ص: 760

الصورة

ص: 761

الصورة

ص: 762

الصورة

ص: 763

الصورة

ص: 764

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

القول في المشتقّ وهو اسم مفعول من الاشتقاق ، وهو افتعال من الشقّ - بالكسر - وهو نصف الشيء كما صرّح به في الصحاح (1) ، فالاشتقاق أخذ شقّ الشيء وهو نصفه ، وحينئذ فالمشتقّ هو المأخوذ من الشيء نصفا مثلا ، ومن هنا يجري اعتبار الأصل والفرع بجعل المأخوذ منه أصلا ، والمأخوذ فرعا.

وقد جرى اصطلاح القوم على تسمية اللفظ المأخوذ من لفظ آخر مشتقّا ، فكأنّ الواضع لاحظ في وضعه مادّة قابلة لأن يرد عليها صور مختلفة وإن كانت لتلك المادّة في نفسها أيضا صورة فعلية كالمصدر ؛ فإنّ القابل لورود الصور عليها هو مادّة المصدر لا صورتها ، فكلّ واحدة من تلك الصور - المصوّرة المأخوذة في المشتقّات غير الصورة المصدرية - واردة على مادّة المصدر بناء على أنّه الأصل وغيره فرع عليه كما يقضي به الذوق السليم ، فإنّ مداليل المشتقّات من مراتب مدلول المصدر وموارد ظهوره ، فيكون أولى بأن تعتبر أصلا لغيره ، وكأنّ من جعله فرعا إنّما لاحظ كون مدلوله جزءا من مداليل غيره من المشتقّات ، فيكون اللائق بالمعنى اللغوي جعله فرعا ؛ لأنّ الكلّ هو الشيء ، وجزءه شقّ منه ، فاللفظ الدالّ على ذلك الجزء مشتقّ من اللفظ الدالّ على الكلّ إلاّ أنّ الأوّل أولى كما لا يخفى.

ص: 765


1- الصحاح 3 : 1502.

وكيف كان ، فقد ذكر جماعة أنّ أقسام الاشتقاق ثلاثة ؛ لأنّ الفرع إمّا أن يشتمل على اصول حروف الأصل وترتيبه ، أو يشتمل على الأوّل دون الثاني ، أو لا يشتمل على شيء منهما بعد وجود مناسبة في الجملة في اللفظ والمعنى على وجه يصحّ معه اعتبار أحدهما أصلا ، والآخر فرعا.

فالأوّل : هو المشتقّ بالاشتقاق الصغير ، وقد يقال له : الأصغر أيضا ، كقولك : « ضارب » المأخوذ من الضرب المشتمل على حروف الأصل وترتيبه.

والثاني : هو المشتقّ بالاشتقاق الكبير ، وقد يقال له : الصغير ك- « جذب » المأخوذ من « الجبذ » أو « جبذ » المأخوذ من « الجذب » مثلا.

والثالث : هو المشتقّ بالاشتقاق الأكبر ، وقد يقال له : الكبير أيضا ك- « ثلم » و « ثلب ».

وعرّف المشتقّ بالاشتقاق الأصغر بأنّه لفظ وافق أصلا باصول حروفه ولو حكما ، مع مناسبة المعنى ، وموافقة الترتيب.

واشكل على الحدّ بلزوم الدور ؛ فإنّ معرفة الأصل موقوفة على معرفة الاشتقاق مع توقّف معرفة المشتقّ عليه (1).

واجيب عنه بوجوه (2) جلّها بل كلّها لا يخلو عن نظر :

والأولى في الدافع أنّه يكفي في معرفة الأصل ما عرفت في معناه اللغوي ؛ فإنّ المراد به ما يجعل أمرا آخر شقّا منه سواء كانا لفظيين أو غيرهما ، وهو بهذا المعنى لا يتوقّف على معرفة الاشتقاق الذي هو أخذ اللفظ من مادّة لفظ آخر كما هو المراد في المقام ؛ فإنّه من موارده ، ولا يتوقّف تصوّر العامّ على تصوّر الخاصّ وإن أمكن جعل

ص: 766


1- نقله في الفصول : 59.
2- انظر الفصول : 59.

العامّ مرآة لتصوّر الخاصّ بإضافة الامور المخصّصة اللاحقة له كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ الوجه في اعتبار القيود المأخوذة في التعريف ظاهر كما أنّ المغايرة الاعتبارية لازمة وكافية في صدق الاشتقاق بالزيادة والنقصان ، حركة وحرفا ، مفردا ومركّبا ، ثنائيا ، أو ثلاثيا ، أو رباعيا ، وقد قالوا (1) بارتقاء الأقسام إلى خمسة عشر ، وذكروا أمثلة كلّ واحد من الأقسام ، وطوينا عن ذكرها روما للاختصار ، واشتغالا بما هو الأهمّ.

فنقول : إنّ تنقيح البحث في المشتقّ في طيّ هدايات.

هداية

لا خلاف ظاهرا في صدق المشتقّ مع اتّصاف المورد فعلا بمبدإ الاشتقاق ، والوجه فيه ظاهر ، فإنّه القدر المتيقّن في موارد الاستعمال ، كما لا خلاف أيضا في عدم الصدق إلاّ على وجه المسامحة والمجاز كما ستعرف وجه ذلك إن شاء اللّه بالنسبة إلى مورد لم يتّصف بعد ، وإنّما يتّصف في الزمان المستقبل ، وقد يحكى من بعضهم صدقه في المستقبل أيضا.

وفي صدقه على المورد بعد انقضاء المبدأ وارتفاعه عن المورد خلاف ، فالمنسوب إلى أصحابنا الإمامية رضوان اللّه تعالى عليهم أنّه صادق مع عدم اتّصاف المورد بالمبدإ فعلا ، وأنّه يكفي فيه الاتّصاف قبل زمان الإطلاق ، واختاره بعض العامّة أيضا.

والمحكيّ عن جماعة من العامّة أنّه لا يكفي فيه ، وإنّما الشرط في الصدق بقاء المبدأ فعلا ، واختاره جماعة من أصحابنا المتأخّرين ، وهو الذي يساعد عليه النظر ، وفي

ص: 767


1- كما في نهاية الوصول 1 : 188 وفي الفصول : 59.

المقام أقوال مستحدثة ، ومفصّلة بين الموارد ، ستقف عليه إن شاء اللّه.

وقبل الخوض في الاستدلال لا بدّ من رسم امور يتّضح معها (1) المقصود :

الأوّل : في تحرير محلّ الخلاف وهو من وجوه :

أحدها : قد عرفت تقسيم المشتقّ إلى الأصغر والصغير والكبير ، والظاهر عدم الفرق في جريان النزاع في الأقسام الثلاثة ؛ إذ لا نجد ما يوجب ذلك وإن كان ظاهر العنوان والأمثلة اختصاصه بالأصغر ؛ فإنّه (2) المتبادر من العنوان إلاّ أنّ التأمّل في المقام يوجب القطع بوجود المناط في الخلاف في الجميع.

قال بعض الأجلّة : « وحيث يطلق المشتقّ هنا ، فالمراد منه [ ال ] قسم الأوّل » (3) فإن أراد أنّ أغلب موارد الإطلاق هو ذلك ، فله وجه إلاّ أنّه لا وجه لاختصاصه بالمقام ، وإن أراد اختصاص محلّ الخلاف بذلك ، فلا نعرف وجهه.

وثانيها : الظاهر خروج الأفعال في المصادر المزيدة ، على القول بأنّها مشتقّة من المصادر المجرّدة عن مورد الخلاف ، أمّا الأخير ، فلأنّ مجرّد الاشتقاق من المصدر لا يوجب جريان النزاع المذكور ؛ فإنّ تلك المصادر بمنزلة نفس المصادر المجرّدة في الدلالة على الحدث ، ولا يتوهّم صدقها إلاّ في موارد وجود المعنى الحدثي ، وذلك بخلاف الأوصاف ؛ فإنّ ارتفاع الصفة لا يوجب ارتفاع الموصوف ، فيمكن توهّم صدق الصفة ولو بعد ارتفاعها حيث كانت عنوانا للذات كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر أنّ خروج أسماء المعاني عن محلّ النزاع أولى عن خروج الجوامد التي يمكن ورود الصور المختلفة عليها من انقلاب الماء هواء ، ثمّ انقلابه نارا مثلا.

وجه الأولوية : أنّ الباقي في الحالتين الواردتين إنّما يمكن جعله بمنزلة مورد

ص: 768


1- « ق » : منها.
2- « ق » : وإنّه.
3- الفصول : 58.

الاتّصاف في المشتقّ وجعل الصورتين بمنزلة الأوصاف الواردة على ذلك المورد ، فيتوهّم فيه جريان النزاع المذكور وذلك بخلاف أسماء المعاني ؛ فإنّ هذا التفكيك فيها غير معقول.

وأمّا الأوّل ، فلأنّ المطلوب بالنزاع هو بيان أنّ العنوان المفروض اتّحاده مع شيء آخر في زمان الاتّصاف هل يوجب زوال ذلك العنوان عدم اتّصاف المورد وعدم صدقه عليه ، أو لا؟ وهذا لا يجري في الفعل ؛ لعدم اتّحاده مع الغير.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الكلام في صدق المشتقّ على ذلك المورد المفروض زوال الوصف عنه بعد فرض الاتّصاف وهو بعينه معنى الاتّحاد الذي يوجب الحمل.

لا يقال : لا نسلّم اعتبار الحمل في النزاع ؛ فإنّ الكلام في تعيين مدلول المشتقّ مع قطع النظر عن وقوعه في تركيب فضلا عن كونه محمولا.

لأنّا نقول : لا ينبغي الارتياب في أنّ النزاع في الصدق الموصوف على اعتبار الحمل كما نشاهد في عنوان جماعة من أهل الفنّ حيث عنونوا هل يشترط في صدق المشتقّ بقاء المبدأ ، أم لا؟ ولا ينافي ذلك اعتبار كون النزاع في تعيين مدلول المشتقّ أيضا كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الفعل في مرتبة كونه فعلا لا يعقل اتّحاده مع شيء ؛ لأنّ مدلول الفعل مركّب من الحدث والنسبة إلى فاعل ما الواقعة في زمان خاصّ وهو المدلول المركّب يمتنع اتّحاده مع شيء.

نعم ، يمكن انتزاع معنى آخر بسيط من ذلك المركّب وجعله محمولا على الفاعل وهو عين مدلول المشتق مثلا كما لا يخفى.

فإن قلت : لا ريب في أنّ الفعل إنّما يقع مسندا وهو مع الفاعل - ضميرا أو ظاهرا - معدود في القضايا ، والجمل الخبرية في الماضي والمضارع مثلا وهو في معنى

ص: 769

الحمل.

قلت : لا ريب في أنّ الإسناد مغاير للحمل ؛ فإنّ الأوّل عبارة عن تعيين الفاعل المبهم المأخوذ من مدلول الفعل الذي نسب إليه صدور الفعل إمّا بالمخاطبة كما في الأمر ، وإمّا بذكر الفاعل ظاهرا أو مضمرا في الماضي والمضارع وهو الوجه في الجمل الخبرية ، ومناط الحمل هو بيان أنّ أحد الأمرين عين الآخر في الوجود الخارجي ، وهذا المعنى (1) ملازم لجعل كلّ واحد من المتّحدين في الوجود موضوعا ، والآخر محمولا في الجملة ، ولا شكّ في انتفاء ذلك في الفعل ، وإلاّ لصحّ جعله مبتدأ أيضا مع أنّه باطل إجماعا من القوم فضلا عن عدم مساعدة الوجدان على الحمل.

وممّا يشعر بمغايرة الإسناد والحمل هو وجود الإسناد في الجمل الإنشائية دون الحمل كما هو ظاهر.

وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : إنّ الزمان الخاصّ مأخوذ في مفهوم الفعل وحينئذ ، فإن كان ذلك زمان الماضي ، فلا بدّ من انقضائه حتّى يصحّ إسناد الفعل إلى الفاعل في ذلك الزمان ، وإن كان زمان الحال ، فلا بدّ من صدور الفعل في ذلك الزمان حتّى يسند إليه الفعل ، وإن كان زمان المستقبل ، فلا بدّ من عدم صدوره حتّى يسند إليه الفعل في ذلك الزمان ، فلا يعقل فيه النزاع المذكور كما هو ظاهر ، ولا ينبغي قياس سائر المشتقّات بالفعل ؛ لما ستعرف من عدم اعتبار الزمان في مدلولها لا قيدا ولا جزءا ، وعلى تقدير التنزّل فالفرق بين اعتبار الزمان في الفعل وفيها في غاية الوضوح.

وثالثها : الظاهر جريان الخلاف في غير اسم الفاعل من المشتقّات كاسم المفعول والصفة المشبهة وصيغة المبالغة وأسماء المكان والزمان والآلة ؛ لعموم الأدلّة

ص: 770


1- « ق » : - المعنى.

والعناوين ، مع عدم ظهور فرق بين الموارد وهو المصرّح به في كلام جماعة من أرباب الفنّ.

ولا وجه لما قد يحكى عن بعضهم (1) من اختصاصه باسم الفاعل ؛ لأنّ الأمثلة الواردة في كلام القوم لا تتجاوز منه ، لقوّة احتمال أن يكون ذلك في كلامهم من حيث إنّه مثال للمطلوب ، فلا يفيد الاختصاص.

ولو فرضنا ظهورها في الاختصاص ، فنقول : إنّه لا وجه له بعد صحّة جريان النزاع في غيره أيضا ؛ لوجود المناط بعينه في غيره أيضا.

وما ربّما يتوهّم - من الفرق بأنّ الغالب في اسم المفعول هو الصدق بعد الانقضاء ، وفي الصفة المشبهة هو عدم الصدق بخلاف اسم الفاعل فإنّ موارده مختلفة - مدفوع بمنع الفرق المذكور ، وإنّما الوجه في ذلك هو ملاحظة الصدق باعتبار زمان التلبّس في الجميع كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما صنعه بعض الأجلّة (2) من ذكر مداليل سائر المشتقّات قبل الدخول في المسألة مع اعتقاد اختلاف المداليل فيها أيضا ، فإنّ الظاهر عدم الفرق في الجميع.

وممّا يدلّ على عموم النزاع لاسم المفعول ما ذكره جماعة (3) في ثمرات المسألة من بناء الكراهة في استعمال الماء المشمّس والمسخّن ، فإنّهما من اسم المفعول كما هو ظاهر.

ص: 771


1- قال الرشتي في بدائع الأفكار : 176 : فزعم بعض من أدركنا عصره من الأفاضل اختصاص النزاع المعروف باسم الفاعل وما بمعناه ؛ بدلالة تمثيلهم به.
2- الفصول : 59.
3- نسبه إلى جمع من المحقّقين في الفصول : 60 وإلى غير واحد من الفقهاء الأصفهاني في هداية المسترشدين : 83 والرشتي في بدائع الأفكار : 177.

وأبعد من ذلك ما يحكى عن التفتازاني (1) من تخصيص النزاع باسم الفاعل بمعنى الحدوث دون مثل المؤمن والكافر والأبيض والحرّ والعبد ، فإنّه لا وجه له أبدا.

وأمّا دعوى الإجماع (2) على عدم تسمية المؤمن اللاحق كافرا ، فإن أراد الإجماع على عدم ترتيب الآثار ، فهو مسلّم ، ولا يجدي في نفي الموضوع ، وإن أراد الإجماع على عدم التسمية ، فهو ممنوع ؛ لوجود الخلاف قطعا في التسمية وإن لم يترتّب عليه الأحكام كما هو ظاهر.

نعم ، يمكن دعوى اتّفاق العرف على السلب وهو صحيح ، ودليل على اشتراط التلبّس في الصدق كما ستعرف.

ورابعها : أنّه يحكى عن جماعة منهم الشهيد الثاني قدس سره (3) باختصاص النزاع بما إذا لم يطرأ على المحلّ ضدّ وجودي ، فإنّه معه لا يصدق اتّفاقا.

ولعلّ الوجه فيه أنّه مع طريان الضدّ أو صدق الآخر يلزم اجتماع الضدّين ، ولو صحّ ذلك ، فارتفاع نفس الوصف وإن لم يطرأ عليه الضدّ أولى بأن لا يكون محلاّ للخلاف ؛ لأنّ التنافي بين الوجود والعدم أشدّ من التنافي بين الوجوديين وإن استند نفي منع التنافي على تقدير الصدق ، لاختصاص التنافي بما (4) إذا لم يتّصف المورد بالمرّة بذلك الوصف بناء على شمول المشتقّ لما انقضى عنه المبدأ ، فيلتزم به في المتضادّين أيضا إلاّ أنّ ذلك فيهما على خلاف التحقيق ؛ لأنّ بناء الفرق والاستعمال على الفعلية كما ستعرف.

ص: 772


1- حكى عنه في هداية المسترشدين : 83 وفي الفصول : 60 وفي المناهج : 35 ونقله أيضا الرشتي في بدائع الأفكار : 176 - 177.
2- انظر الفصول : 60.
3- تمهيد القواعد : 85 ، قاعدة 19 ، وعنه في المناهج للنراقي : 35.
4- « ق » : بهما.

وخامسها : أنّه قد يحكى عن بعضهم (1) اختصاص النزاع بما إذا كان المشتقّ محكوما به وأمّا إذا كان محكوما عليه ، فلا خلاف في عدم اشتراط بقاء المبدأ ؛ لعدم الخلاف في أنّ الزاني والسارق في آية الجلد والقطع (2) لا يعتبر فيهما الاتّصاف.

وفيه : أنّ الإجماع على كفاية وجود العنوان في الزمان الماضي في وجوب إجراء الحدّ عليهما هو لا يدلّ على صدق العنوان لغة عليهما بعد الانقضاء.

مع أنّه لم يعهد اختلاف مدلول اللفظ بجعله موضوعا أو محمولا بحسب الأوضاع اللغوية كما هو ظاهر ، وقد تبيّن وجه الخروج بأنّه اتّفق المسلمون على أنّ قوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ) إلخ (3) و ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ) إلخ (4) و ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (5) ونحو ذلك يتناول من لم يتّصف بهذه المبادئ حال النزول.

وفيه أوّلا : أنّ آية القتل لا ربط لها بالمقام ؛ لأنّ المشركين في الآية لا يكون محكوما عليه.

وثانيا : أنّ عدم الاتّصاف حال النزول ممّا لا ربط له بالمقام ؛ لأنّ الكلام في الصدق بالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدأ لا بالنسبة إلى من لم يتّصف بعد كما هو ظاهر ، وكيف كان ، فالوجه في الاستعمال المذكور في الآيات هو ملاحظة حال المتلبّس كما لا يخفى ، فلا ينبغي جعل ذلك منشأ للخروج عن الخلاف.

الثاني (6) : قد صرّح جماعة من أهل التحقيق أنّ الزمان خارج عن مدلول المشتقّ المقصود بالبحث عنه في المقام وهو الذي يقتضيه التأمّل في مدلوله في موارد

ص: 773


1- هو الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 85. انظر الفصول : 60.
2- النور : 2 والمائدة : 38.
3- النور : 2.
4- المائدة : 38.
5- التوبة : 5.
6- أي الأمر الثاني مرّ الأوّل في ص 12.

الاستعمالات العرفية سيّما بناء على ما ستعرفه من بساطة مداليل المشتقّات ؛ فإنّها عنوانات حينئذ للذوات التي يفرض اتّحادها معها في الخارج ، فيكون تلك الأسماء تعبيرات عن بعض مراتب وجود الذوات الخارجية ، فكما أنّ زيدا لا دلالة فيه على الزمان ، فكذا العالم ، وافتقار وجود هذا المفهوم الواقع في الزمان ليس إلاّ كافتقار وجود الحوادث الزمانية إلى الزمان ، وذلك لا يدلّ على أخذ الزمان في مدلوله.

وممّا يوضّح ذلك ملاحظة افتقار الجسم إلى الحيّز ، فإنّه لم يذهب وهم إلى أخذ المكان في مدلول الجسم كما هو ظاهر ، وليس افتقار العنوان المذكور إلى استلزام ذلك الزمان بأشدّ من افتقار نفس المعنى الحدثي إليه ، مع أنّه لا كلام في عدم دلالة المصدر على الزمان.

وممّا يرشد على ذلك اتّفاق علماء العربية ظاهرا كما حكاه جماعة أيضا على عدم أخذ الزمان في مداليل الأسماء التي منها المشتقّ المبحوث عنه هنا كما يدلّ عليه الحدود الواردة عنهم للأسماء كما هو ظاهر ، ومع ذلك كلّه فقد يتراءى من بعضهم (1) أنّ الزمان معتبر في مدلول المشتقّ بل ولم يرض بذلك حتّى ادّعى اتّفاق الاصوليين على ذلك ؛ حيث إنّهم حكموا بكونه حقيقة في الحال ، وإنّما اختلفوا في كونه حقيقة في الماضي إمّا على وجه الاشتراك اللفظي ، أو القدر المشترك بين الزمانين مثلا ، ثمّ حاول الجمع بين الإجماعين بحمل إجماع أهل العربية على عدم الدلالة مطابقة ، وحمل إجماع الاصوليين على الدلالة التزاما.

وقال بعض الأجلّة : « إنّ مفهوم الزمان خارج عن مدلول المشتقّ [ وضعا ] ، وقيد لحدثه باعتبار الصدق والإطلاق ، فالفاعل - مثلا - إنّما وضع ليطلق على الذات المتّصفة

ص: 774


1- وهو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 14 وعنه في بدائع الأفكار : 178.

بمبدئه الخاصّ ، أعني المبدأ المأخوذ باعتبار زمن الاتّصاف ، أو الأعمّ منه وممّا بعده » (1).

قلت : الظاهر سقوط كلّ واحد منهما :

أمّا الأوّل ، فلأنّ معنى اتّفاق الاصوليين على كونه حقيقة في الحال هو الاتّفاق على صدقه على تقدير وجود المبدأ في المورد واتّحاده معه ، والخلاف في كونه حقيقة في الماضي هو أنّ الاتّصاف الفعلي هل هو شرط في الصدق ، أو يكفي فيه الاتّصاف قبل زمان الصدق أيضا في الجملة؟ وهذا المعنى ممّا لا يتوهّم معه دخول الزمان في مدلول المشتقّ كما يرشد إلى ذلك ملاحظة حال الجوامد وإمكان جريان هذا النزاع فيها (2) وإن كان التحقيق عدم وقوعه فيها للاتّفاق على توقّف الصدق على الفعلية ، فلا وجه لحمل الماء على الهواء المنقلب منه كما هو ظاهر ، فكما أنّ الاتّفاق على ذلك لا يوجب توهّم دخول زمان الحال في الجوامد ، فكذا في المقام.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الظاهر من كلامه حيث فرض خروج الزمان وضعا عن مدلول المشتقّ ، واعتبره قيدا للحدث أنّه معتبر في وضع المبدأ والمعنى الحدثي وهو في غاية السقوط كما تقدّم.

وإن أراد نفي كونه جزءا وإنّما هو شرط خارج - على أن يكون التقييد داخلا والقيد خارجا كما هو أبعد الاحتمالين في كلامه - فهو أيضا ممّا لا وجه له ، فإنّه ممّا لا يقضي (3) به شيء ، ومناف لكلمات جلّ القوم بل كلّهم بعد ما عرفت من معنى الخلاف والوفاق المذكورين.

مع أنّ قوله : « مفهوم الزمان » خارج فاسد قطعا ؛ لأنّه لو كان داخلا على وجه

ص: 775


1- الفصول : 60.
2- في النسختين : « فيه ».
3- في النسختين : « لا يقتضي ».

الشرطية ، أو الشطرية ، فليس ذلك الداخل هو مفهوم الزمان ، وإلاّ كان قولك الضرب الواقع في الزمان تفسيرا للضارب وهو ظاهر البطلان.

الثالث : قد عرفت عدم اعتبار الزمان لا جزءا ولا قيدا في مدلول المشتقّ.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأزمنة المذكورة مقيسة إلى حال النطق ، أو حال التلبّس ؛ لأنّ ما تقدّم من الوجوه التي يستكشف منها خروج الزمان عنه لا فرق فيها بين الوجهين.

والمراد بحال التلبّس المذكور في جملة من عبارات أصحاب التحقيق ليس الحال المقابل للماضي والمستقبل ليكون قسما من أقسام الزمان حتّى يقاس تارة بالنسبة إلى حال النطق ، واخرى بالنسبة إلى حال التلبّس ، بل المراد به هو تحقّق اتّصاف المورد واقعا بالعنوان ومفهوم المشتقّ كما هو ظاهر.

والمراد بالماضي هو عدم اتّصاف المورد به بعد الاتّصاف واقعا ، ولمّا كان تصوّر هذا المعنى موقوفا على تصوّر (1) قبليته وبعديته ، فقد يوهم ذلك اعتبار الزمان المقيس إلى زمان التلبّس معتبرا فيه ، وليس كذلك بل المقصود واقعا بيان الاتّصاف الفعلي وعدم الاتّصاف الفعلي بعد أن كان متّصفا من دون أن يكون للزمان المذكور مدخلا ، ولعلّ ذلك أمر واضح بعد ملاحظة الأطراف.

ومع ذلك فكلمات جماعة في المقام غير خالية عن شوب الإبهام إلى خلاف المقصود ، حيث إنّهم (2) في مقام بيان أنّ المراد بالحال هو حال التلبّس دون حال النطق ، يذكرون أنّ المراد بالحال في المقام هو حال التلبّس يعني الحال الذي يطلق عليه اللفظ بحسبه سواء كان ماضيا بالنسبة إلى حال النطق ، أو حالا ، أو مستقبلا ، فلو قلت :

ص: 776


1- في النسختين : « تصوير ».
2- نقل كلمات صاحب هداية المسترشدين.

« زيد كان ضاربا » أو « سيكون ضاربا » كان حقيقة لإطلاقه على الذات المتّصفة بالمبدإ بالنظر إلى حال اتّصافه وتلبّسه به وإن كان ذلك التلبّس في الماضي أو المستقبل.

وأمّا إذا اريد به الاتّصاف في حال النطق ، فهو أيضا حقيقة إلاّ أنّه لا قائل باعتبارها بالخصوص في صدق المشتقّات حتّى يكون إطلاقها على من تلبّس في ماضي النطق ، أو مستقبله مجازا مطلقا (1). انتهى.

ولا يخفى أنّ قوله : « يعني الحال الذي يطلق عليه اللفظ بحسبه » ظاهر في أنّه قسم من أقسام الزمان ، غاية الأمر أنّ المضيّ والاستقبال فيه إنّما يلاحظ بالنسبة إلى زمان التلبّس لا بالنسبة إلى زمان النطق مع أنّه خلاف المقصود كما لا يخفى.

وبالجملة ، فليس حال المشتقّات في ذلك بأخفى من حال الجوامد ، فكما أنّه لا ينبغي أن يتوهّم ذلك فيها ، فكذلك في المقام لكن ذلك لا ينبغي أن يجعل منهم خلافا في المقام ؛ فإنّ الإنصاف أنّهم في مقام بيان أنّ الحال ليس حال النطق والتكلّم وإن أوهم أنّه من أقسام الزمان كما يشعر بذلك تصريحهم بأنّ الزمان خارج عن مدلول المشتق في مقام آخر.

نعم ، يظهر من بعضهم (2) أنّ المراد بالحال هو حال النطق ، ويومئ إليه احتجاجهم بقول بعض النحاة على صحّة قولنا : « ضارب أمس » على كونه حقيقة في الماضي ، فإنّه لو كان المراد به حال التلبّس ، فهو غير محتاج إلى الاحتجاج ، فالمراد به ماضي التكلّم كما ربّما يرشد إليه ما ذكره جماعة من أنّ قولنا : « ضارب غدا » مجاز بل عن العضدي (3) دعوى الاتّفاق على ذلك.

ص: 777


1- هداية المسترشدين : 81.
2- انظر الفصول : 60 ؛ هداية المسترشدين : 82.
3- حكى عنه في هداية المسترشدين : 82.

وهو لا يتمّ إلاّ على تقدير إرادة حال النطق ، فإنّه لو اريد به حال التلبّس ، فيصير ذلك بمنزلة قولنا : « سيكون ضاربا » وعلى هذا لا ينبغي القول بكونه مجازا ، فكيف بالاتّفاق على ذلك كما هو واضح جدّا.

قلت : قد عرفت خروج الزمان عن مدلول المشتقّ أوّلا ، فلا وجه لإرادة حال التكلّم ، أو غيره من « الحال » فإنّه مناف لما ذكره المحقّقون من أنّ المراد به حال التلبّس ، وما عرفت - من المراد من حال التلبّس ، والاحتجاج بقول بعض النحاة - وارد على خلاف التحقيق.

وأمّا دعوى اتّفاق العضدي على مجازية قولنا : « ضارب غدا » فبعد أنّه مخالف لصريح الوجدان من انتفاء وجه المجاز في ذلك ، فإنّا لا نجد فرقا بين قولنا : « سيكون ضاربا » أو « ضارب غدا » إلاّ من حيث تعيين الزمان في الثاني دون الأوّل ، فكما أنّه لا ينبغي أن يذهب الوهم إلى مجازية الأوّل ، فكذا الثاني كما هو واضح ، فلا بدّ من توجيهه بما لا ينافي ما تقدّم ، كأن يقال : إنّ المراد بالمجازية في التركيب المذكور هو إرادة خصوص الزمان المستقبل من قولك : « ضارب » وذكر « الغد » قرينة على ذلك كما زعمه جماعة في مدلول المطلق والمقيّد حيث إنّهم لا يرون أنّ الإطلاق والتقييد من باب تعدّد الدوالّ والمداليل ، بل يقولون : إنّ المراد من قولك : « أعتق رقبة » هو خصوص المؤمنة وقولك : « مؤمنة » قرينة عليه ؛ لأنّ التركيب أفاد ذلك ، وهذا التوهّم بعيد في قولك : « سيكون ضاربا » فلا ينافي القول بالمجازية في « ضارب غدا » والقول بخلافه في « سيكون ضاربا ».

الرابع : الظاهر أنّ هذا النزاع من الأبحاث اللفظية المتعلّقة بتعيين مدلول المشتقّ لفظا كما يظهر من ملاحظة كلماتهم وأمثلتهم واستدلالات الطرفين بالتبادر وصحّة السلب ونحوها ، فلا تنافي بين الذهاب على أنّ المشتقّ ظاهر في الفعلية بالمعنى المتقدّم

ص: 778

وبين ما هو المعروف من علماء الميزان من أنّ الوصف (1) العنواني في الموضوع في القضايا المتعارفة في المحاورات هل يكفي فيه مجرّد إمكان اتّصاف ذات الموضوع به - كما هو المنسوب إلى الفارابي - أو يجب فيه تحقّق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة التي يعبّر عنه بالفعلية التي يؤخذ جهة في قبال الإمكان والضرورة والدوام - كما هو المنسوب إلى الشيخ [ الرئيس ] - حيث إنّ القول بالإمكان في تلك المسألة ينافي اعتبار الفعلية بالمعنى المذكور هناك ، فكيف بالمعنى المردّد في المقام؟

ووجه عدم التنافي أنّ الظاهر أنّ ذلك النزاع في صحّة الحكم والقضية بحسب المعنى والعقل ؛ إذ لا يعقل الحكم على ما لا يمكن اتّصافه بعنوان الإنسانية في قولك : « الإنسان كاتب » أو « ضاحك » ولا يجري المحاورة على شيء يمتنع اتّصافه بوصف الإنسانية مثلا ، فالإمكان هو القدر المتيقّن ، فلا حاجة إلى فرض تحقّق النسبة في زمان في صحّة الحكم والقضية كما أفاده الشيخ ، وذلك لا ينافي أن يكون العبارة الدالّة على ثبوت عنوان الموضوع أو المحمول ظاهرا في الفعلية أو في غيرها كما هو المطلوب بالنزاع في المقام كما هو ظاهر على المتأمّل.

والحقّ في المقام أنّ النزاع المذكور أيضا من الأبحاث اللفظية المتعلّقة بتعيين مدلول اللفظ (2) الواقع موضوعا في القضية كما يظهر ممّا أورده شارح المطالع في بيان الخلاف الواقع بين الشيخ والفارابي ، وما اختاره الشيخ في تلك المسألة هو بعينه ما اختاره المحقّقون في المقام من توقّف الصدق على التلبّس الفعلي - وإن فرض ذلك قبل زمان التلبّس أو بعده - لكنّ الإطلاق باعتبار زمان التلبّس.

قال بعد ما بيّن المراد من الإمكان : « ثمّ إنّ الفارابي اقتصر على هذا الإمكان ،

ص: 779


1- في النسختين : « وصف ».
2- في النسختين : « لفظ ».

وحيث وجده (1) الشيخ مخالفا للعرف ، زاد [ فيه ] قيد « الفعل » لا فعل الوجود في الأعيان بل ما يعمّ الفرض الذهني والوجود الخارجي ، فالذات الخالية عن العنوان يدخل في الموضوع إذا فرضه العقل موصوفا به بالفعل ، مثلا إذا قلنا : « كلّ أسود كذا » فيدخل في الأسود ما هو أسود في الخارج ، أو (2) ما لم يكن أسود ، ويمكن أن يكون أسود إذا فرضه العقل أسود [ بالفعل ] » (3). انتهى.

وهو بعينه هذا النزاع اللفظي ، وإلاّ فلا وجه لقوله : « وجده الشيخ مخالفا للعرف » فإنّ الاستدلال بالعرف دليل على ذلك ، ولا يراد بالفعلية تحقّق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة وإن لم يفرض معه التلبّس في زمان الحكم كما لا يخفى.

وحينئذ فقول الفارابي مخالف للعرف جدّا حيث إنّه اكتفى في الصدق بمجرّد الإمكان وهو بعيد جدّا ، ولم يحك في المسألة قولا لأحد من أصحاب النظر ، فلعلّ نظره إلى ما تقدّم من صحّة الحكم ولو في القضية المعقولة ، وقد عرفت على تقديره أنّ المتّجه ما أفاده ، ولا يحتاج إلى الفعلية إلاّ أنّه لا تنافي (4) قول الشيخ بتوقّف الصحّة في القضية الملفوظة على الفعلية بالمعنى المتقدّم ، فمورد النفي والإثبات في كلامهما غير متّحد.

إذا تمهّد هذه الامور ، فنقول : الظاهر المستفاد من موارد استعمال المشتقّات بأسرها هو كونها موضوعات للمفاهيم التي تتّحد مع الذوات الصادقة عليها باعتبارات مختلفة ؛ من صدور الفعل منها ، ووقوعها عليها ، وكونها محلاّ لها ، وكونها آلة

ص: 780


1- المثبت من المصدر وفي النسختين : « وجدوا ».
2- في المصدر : و.
3- لوامع الأنوار فى شرح مطالع الأنوار : 135 ( البحث الثاني ).
4- كذا.

لإيجادها ، أو مكانا ، أو زمانا لذلك ، وهذه العلقة أوجبت (1) صدق تلك المفاهيم وحملها عليها ، فيدور ذلك مدار الاتّحاد واقعا ، وعند الانقضاء والتبدّل - سواء كان بمجرّد الارتفاع ، أو ورود ضدّ آخر عليه - لا يصدق تلك المفاهيم عليها ، فلا وجه لدعوى الصدق.

والقول بأنّ مجرّد الاتّصاف في زمان قبل فرض الحمل والاتحاد يوجب الصدق - كما قد يتمسّك في ذلك ببعض الموارد المشتبه - مدفوع بعدم مساعدة العرف على ذلك من دون قرينة ، وأغلب مواضع الاشتباه إنّما يكون الإطلاق باعتبار حال التلبّس على الوجه المتقدّم ، فيكون ذلك على خلاف مطلوبهم أدلّ.

وعند التحقيق يكون ما ذكر استنادا إلى التبادر وصحّة السلب عن مورد لا يكون الذات متّحدة مع المفاهيم المذكورة ولو بحسب الفرض والاعتبار ، والوجدان الصحيح الخالي عن شوائب الأوهام الحاصل لنا في أربعين سنة بعد تتبّع موارد الاستعمالات في جميع اللغات أعدل شاهد على ذلك من غير فرق بين المبادئ على اختلافها من الأفعال والكيفيات الراشحة وغيرها.

إلى هنا جفّ قلمه الشريف طيّب اللّه نفسه ، وروّح اللّه رمسه بمحمّد وآله صلوات اللّه عليهم.

ص: 781


1- في النسختين : « أوجب ».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.