مطارح الأنظار المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

المحقق: مجمع الفكر الإسلامي

الناشر: مجمع الفكر الاسلامي

المطبعة: شريعت

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-5662-50-5

المكتبة الإسلامية

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الأوّل

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 1

اشارة

ص: 2

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الأوّل

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 3

سرشناسه : كلانتری نوری ، ابوالقاسم بن محمد علی

محل نكهداری نسخه : قم

مركز نگهدارنده نسخه : كتابخانه زنجانی (آیة اللّه)

شماره بازیابی نسخه : 39

عنوان و نام پدیدآور : مطارح الانظار[نسخه خطی]

وضعیت استنساخ : رجب 1283

یادداشت كلی : آغاز كتاب: الحمدلله رب العالمین .. القول فی الاستصحاب و تحقیق المقصود فیه فی طی هدایات انجام كتاب: علی القول بالتصویب و یظهر من بعضهم بالتبعیض مطلقاً و لاوجه كما عرفت. مباحث ظن تاریخ تالیف:1246 ق. تدوین و گردآوری: موسسه فرهنگی پژوهشی الجواد

یادداشت مشخصات ظاهری : خط: شكسته نستعلیق

خصوصیات نسخه موجود : مقابله شده با نسخه اصل. با مهر كتابخانه حاج شیخ فضل اللّه نوری. در آغاز و انجام

منابع اثر، نمایه ها، چكیده ها : منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: الذریعة136/21 و369/4 و 513/28 منابع كتابشناسی: مرعشی9/9 و 184/28و 185/28 و 126/31 و 252/31 منابع كتابشناسی: مجلس424/25 منابع كتابشناسی: مشارعربی/875 منابع كتابشناسی: فهرست آستان قدس 81/6 و 404/16 و 436/16-438 منابع كتابشناسی: معجم المؤلفین 120/8 منابع كتابشناسی: بیروت، داراحیاء التراث العربی منابع كتابشناسی: الذریعة 136/21 منابع كتابشناسی: آیة اللّه زنجانی ص 203 منابع كتابشناسی: عكسی مركز احیاء میراث 213/5 و 351/5 منابع كتابشناسی: ذریعه 136/21 شماره 4305 منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: كتابخانه مدرسه آخوند ص 1361 منابع كتابشناسی: مجلس شورا 564/23 و425/16 و 667/23 و 114/26 و 424/25-426 منابع كتابشناسی: نامه دانشوران 472/1 منابع كتابشناسی: مكتبة امیرالمؤمنین 322/4 منابع كتابشناسی: شورا 150/24/2 منابع كتابشناسی: سید محمد باقر طباطبائی ص40و 41 منابع كتابشناسی: الذریعة: 107/6 منابع كتابشناسی: ریحانة الادب: 244/5 منابع كتابشناسی: آغاز نامه: 459/1. ماخذ: آشنائی با چند نسخه خطی

یادداشت باز تكثیر : بیروت، دار احیاء التراث العربی؛ مشار عربی 875 ؛ دارالخلافه طهران ، سنگی ، 1308 ، رحلی ، بدون شماره صفحه . و در تهران 1308و 1314 به همراه تقلید المیت و الاعلم حبیب اللّه رشتی چاپ سنگی شده و اخیرا به تحقیق علی قاضلی در قم 1386-1383 به چاپ رسیده.

معرفی نسخه : معرفی كتاب: تقریراتی است كه مرحوم كلانتر از درس اساتید خود تحریر نموده است . این تقریرات از دروس شیخ انصاری و میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر گردیده است . با عناوین <هدایة -هدایة> تنظیم شده و پس از مؤلف فرزندش <میرزا ابوالفضل كلانترتهرانی> آنها را جمع آوری و بدین نام موسوم گردانیده است . مطارح الانظار درتهران به صورت چاپ سنگی در307 صفحه رحلی درسال 1308 ق به چاپ رسیده ، ولی ناشر تصرفاتی در اصل كتاب داده ، و بخش قطع و ظن و برائت و استصحاب را به استناد آنكه نظرات شیخ انصاری دراین مسائل دركتاب رسائل بیان گردیده ، چاپ نكرده و از مسئله اجتهاد و تقلید بحث تقلید میت و اعلم راچاپ نموده است . نسخه حاضر پنج بخش از مطارح را شامل است . سه بخش اول همان است كه در مطارح الانظار چاپی به چاپ رسیده و از تقریرات درس شیخ انصاری است . اما بخش پنجم و چهارم چاپ نشده ومؤلف د رپایان بخش چهارم ، تصریح نموده كه این بخش از تقریرات درس میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر شده است . بخش پنجم نیز گویا از تقریرات درس رشتی است . ترتیب و عنوان بخشهای كتاب چنین است : 1- مسالة الاجزاء بسمله هدایة اختلفوا فی ان الاتیان بالمامور به علی وجهه 1-33 2- مقدمة الواجب : بسمله القول فی وجوب مقدمة الواجب وتحقیق الكلام 34-132 3- الضد ، بسمله القول فی ان الامر بالشی هل یقتضی النهی عن ضده اولا 132-158 4- الاجتهاد والتقلید ( تقریرات درس شیخ حبیب اللّه رشتی ) آغاز حمدله وبعد اختلف بعد اتفاقهم علی جواز التقلید عند تعذر العلم 163-215 5- الاستصحاب ، آغاز : حمدله القول فی الاستصحاب وتحقیق المقصود فیه فی طی هدایات 221-445

عنوان افزوده توسط فهرستنو یس : التقریرات attaqrīrāt

موضوع های كنترل نشده : اصول فقه

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

ص: 6

كلمة المجمع :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطاهرين.

لقد أطبقت كلمة المحقّقين في علم الاصول على أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره هو الرائد لأرقى مرحلة من مراحل تطوّر هذا العلم التي مرّ بها ، وهي مرحلة الرقيّ والكمال العلمي التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الاستاذ الوحيد البهبهاني.

فاستفاد الشيخ الأعظم من جميع الجهود التي بذلت قبله ، وقرأها ووعاها ثمّ استخدم مواهبه الفكرية ورؤيته الثاقبة في النقد والتجديد والبناء في المحتوى والمنهج ، فأصبحت مدرسته هي الممثّلة للفكر الاصولي منذ قرنين تقريبا حتى اليوم.

كما أنّ كتابه الفذّ « فرائد الاصول » أصبح محورا من المحاور المهمّة للتدريس في قسم الدراسات العليا في حوزاتنا العلمية.

ولكنّ مصنّفه هذا لم يحتو إلاّ على نصف المباحث الاصولية ، وهي مباحث الحجج والاصول العملية ، ويفتقد المباحث اللفظية التي تشكّل النصف الآخر لمباحث علم الاصول تقريبا.

ص: 7

وقد درّس الشيخ الأعظم رحمه اللّه تلكم المباحث المذكورة وتبلورت في تقريرات تلامذته ، وكان الأبرز في هذا المجال كتاب « مطارح الأنظار » لمقرّر بحثه الميرزا أبي القاسم الكلانتري رحمه اللّه. فكان هذا المصنّف تعبيرا واضحا وأمينا عن آراء الشيخ الأعظم في مباحث الألفاظ ، وكذا في مباحث الأدلة العقلية التي لم يتطرّق لها الشيخ في فرائده.

وقد بادرت لجنة إحياء تراث الشيخ الأعظم رحمه اللّه في مجمع الفكر الإسلامي إلى طبع تراث الشيخ قدس سره بما فيه كتاب « فرائد الاصول » طبعة محقّقة أنيقة والحمد لله ، ونظرا لضرورة عرض الفكر الاصولي للشيخ الأعظم الأنصاري في سائر مجالات علم الاصول ، قامت اللجنة بتحقيق كتاب « مطارح الأنظار » وإخراجه في ثوبه الجديد.

وها نحن نقدّم هذا السفر القيّم لعلمائنا الأعلام وحوزاتنا العلمية الكريمة ، راجين لهم من اللّه سبحانه التوفيق والسداد لخدمة الدين الحنيف.

مجمع الفكر الإسلامي

شوّال 1424 ه-

ص: 8

مقدّمة التحقيق :

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد سنتطرّق في هذه المقدّمة أوّلا إلى نبذة من حياة المؤلّف قدس سره ثمّ نبحث عن الكتاب ومسيرته التحقيقيّة إن شاء اللّه تعالى.

نبذة من حياة المؤلف

اشارة

هو الميرزا أبو القاسم بن محمد علي بن هادي النوري الكلانتري الطهراني.

لقّب ب- « النوري » نسبة إلى مدينة نور بمحافظة مازندران في شمال إيران ، حيث كانت موطن أجداده ؛ وب « الكلانتري » (1) نسبة إلى خاله محمود خان النوري الذي تولّى في طهران منصب كلانتر ، وهو رئيس الأصناف التجارية في عهد ناصر الدين شاه القاجاري.

ص: 9


1- كلانتر : كلمة فارسية تتكوّن من : « كلان » بمعنى كبير ، و « تر » علامة التفضيل. ولها معان ، منها : محافظ المدينة ورئيس نقابة التجّار ورئيس عشيرة ورئيس مخفر الشرطة. انظر فرهنگ معين ، ولغت نامه دهخدا ، والمعجم الفارسي الكبير : « كلانتر ».

ولادته :

ولد قدس سره بطهران في الثالث من ربيع الثاني سنة ( 1236 ه ) أيام الملك فتحعلي شاه القاجاري.

أسرته :

1 - جدّه الحاج هادي النوري ، وكان من التجار الأخيار المعروفين في مدينة نور بمازندران. هاجر منها مع أهله إلى طهران وسكن فيها.

2 - أبوه الحاج محمد علي النوري ، وكان مع ثلّة التجار المشتغلين بطلب العلم.

3 - أمّه ، وهي اخت الميرزا محمود خان النوري ، من بيت شرف وتقوى بطهران.

وقد خلّف أولادا لا نعرف منهم إلاّ :

4 - نجله الأكبر الميرزا محمد علي الطهراني ، وهو عالم فاضل عاش في طهران ، وتوفّي بعد أبيه بقليل ودفن بجواره في مرقد السيد عبد العظيم الحسني بالري.

5 - ولده الأصغر الميرزا أبو الفضل الطهراني ، وكان فقيها حكيما شاعرا وأديبا. ولد سنة ( 1273 ه ) بطهران. قرأ على والده وجماعة من الأعلام أمثال السيد المجدد الشيرازي والميرزا حبيب اللّه الرشتي والشيخ محمد رضا القمشئي والميرزا أبي الحسن جلوه الفقه والاصول وغيرها. له كتب كثيرة ، منها : « شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور » و « حاشية الأسفار » و « ديوانه » وقد احتوى على أبيات كثيرة في مدح المعصومين ومدح استاذه السيد محمد محسن الشيرازي ، و « صدح الحمامة في أحوال الوالد العلاّمة » كتب فيه حياة والده ، توفي بطهران سنة ( 1316 ه ) ودفن في مقبرة والده بجوار السيد عبد العظيم الحسني.

ص: 10

6 - حفيده الميرزا محمد بن أبي الفضل الثقفي الطهراني مؤلف تفسير « روان جاويد » ولد سنة ( 1313 ه ) بطهران ودرس على آقا ميرزا كوچك الساوجي وآقا شيخ بزرگ الساوجي ، ثم هاجر إلى قم المقدسة وتلمّذ في المعقول على السيد أبي الحسن الرفيعي القزويني وقرأ الفقه والاصول على جماعة ، منهم : الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ومنحه إجازة الاجتهاد. له تأليفات كثيرة ، منها : « غرر الفوائد في الحاشية على درر الفوائد » لاستاذه الشيخ عبد الكريم الحائري و « تقريرات مبحث النكاح » لاستاذه الحائري ، وغيرهما.

وفاته :

نظرا لكثرة مطالعته وتأليفه الكتب المتعدّدة لذا فقد لحقه مرض الرمد ، وعلى أثره اصيب بالعمى في أواخر عمره ، فلزم بيته طوال فترة حتى دنا أجله والتحق بالرفيق الأعلى ، وذلك في مدينة طهران في الثالث من ربيع الثاني سنة ( 1292 ه ) ، ودفن في مدينة الري بجوار مرقد السيد عبد العظيم الحسني بمقبرة أبي الفتوح الرازي بظهر مرقد حمزة بن موسى عليه السلام.

ومن الطريف أنّه توفّي في نفس التاريخ الذي ولد فيه ، وقد بلغ عمره الشريف (56) عاما دون زيادة أو نقصان.

وقد رثاه نجله الأديب الشاعر الميرزا أبو الفضل الطهراني بقصيدة يائية مطلعها :

دع العيش والآمال واطو الأمانيا *** فما أنت طول الدهر واللّه باقيا

إلى أن قال :

رمى الدهر من سهم النوائب ماجدا *** أغرّ كريما طاهر الأصل زاكيا

ص: 11

هماما من العلياء في عقر دارها *** أناخ ويوم الفخر فاق الأعاليا

وعلاّمة الدنيا وأوحد أهلها *** ومن كان عن سرب العلوم محاميا (1)

حياته العلمية :

تعلّم القراءة والكتابة وبعض مقدّمات العلوم الدينية لدى علماء مدينته. كان يمتاز بذكاء مفرط ونبوغ كبير في تلقّي الدروس العلمية ، والإحاطة بها.

سافر مع عمّه حدود سنة ( 1246 ه ) - وهو ابن عشر سنين - إلى حوزة أصفهان العلمية - وهي من المراكز العلمية المهمّة آنذاك - وبقي فيها ثلاث سنين ، وأتقن خلالها مقدمات العلوم ، ثم عاد إلى طهران فمكث فيها سنتين.

ثمّ هاجر إلى العراق في نحو سنة ( 1251 ه ) - وهو بسنّ الخامسة عشرة - لإكمال دراسته ، فمكث في العتبات المقدسة بعض سنين ، ولكن لمّا لم يتيسّر له المكوث هناك بسبب ضنك العيش رجع إلى طهران ثانية في سنة ( 1253 ه ) تقريبا. وحيث قد استوعب علوم الأدب التحق بمدرسة المروي وأخذ العلوم العقلية فيها عن الملاّ عبد اللّه الزنوزي ، والفقه والاصول عن عدد من أساتذتها ، منهم : الشيخ جعفر بن محمد الكرمانشاهي.

عرف بالفضل والعلم عند علماء زمانه فأشاروا عليه بالعودة إلى العراق ، فهاجر إليه سنة ( 1256 ه ) وهو آنذاك ابن عشرين سنة ، فقرأ في مدينة كربلاء على الفقيه الكبير السيد إبراهيم القزويني - المعروف بصاحب الضوابط - ولازمه في درسي الفقه والاصول.

ص: 12


1- وهذه القصيدة مطبوعة في ديوانه : 390 - 404 في (230) بيتا.

وقد حدثت في سنة ( 1258 ه ) واقعة هجوم محمد نجيب باشا العثماني على كربلاء وأدّت إلى قتل سكّانها ، فاضطرّ قدس سره إلى الخروج منها ، فهاجر إلى أصفهان حتى هدأت الفتنة ، فعاد بعدها إلى محلّ هجرته واستقرّ به المقام في النجف الأشرف ملتحقا بحوزتها العلمية التي كانت تعتبر أكبر الحوزات الشيعية.

فحضر درس خاتم المجتهدين الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره ما يقرب من عشرين سنة ، وأصبح يتعاظم منزلة يوما فيوما حتى ذاع صيته ونبغ في الوسط العلمي من بين أقرانه وصار أحد أركان حوزته ومعتمد استاذه ومقرّر أبحاثه ، وفي حينها صرّح استاذه باجتهاده في مواقع من مجالسه ، واشتهرت علميّته وفضله ، فكان بعد فراغ استاذه من الدرس يقرّر ما أخذه في الفقه والاصول لجماعة من أقرانه وجلسائه في حلقة الدرس.

عزم على الرجوع إلى طهران سنة ( 1277 ه ) ، فالتقى استاذه الشيخ الأنصاري فطلب منه الشيخ الأعظم القيام بوظيفته الشرعية أينما حلّ وارتحل ، وبذلك أصبح قدس سره من زعماء الدين الذين يشار إليهم بالبنان ، فعاد مرجعا في الفتيا والتدريس ونشر العلم وسائر أحكام الدين. وكان يحضر دروسه جمع غفير من العلماء والفضلاء ، فدرّس الفقه والاصول (7) سنوات في مدرسة المروي.

تلامذته :

1 - نجله الميرزا أبو الفضل الطهراني ( ت 1316 ه ). وقد روى عنه بطريقه.

2 - الشيخ محمد صادق الطهراني المعروف ب- « البلور » ، ( ت 1317 ه ).

3 - الملاّ علي بن فتح اللّه النهاوندي النجفي ( ت 1322 ه ).

4 - الشيخ علي أكبر بن محمد مهدي الحكمي ( ت 1322 ه ).

ص: 13

5 - الشيخ حسن علي الطهراني ( ت 1325 ه ).

6 - الشهيد الشيخ فضل اللّه النوري ( 1327 ه ).

7 - السيد حسين بن صدر الحفّاظ القمّي الطهراني ( ت ح 1335 ه ).

8 - الملاّ حبيب اللّه الشريف الكاشاني ( ت 1340 ه ) ، تلمذ عليه شطرا من اصول الفقه.

9 - الشيخ عبد النبي النبوي النوري ( ت 1344 ه ).

مؤلّفاته :

اشارة

إضافة إلى مهارته واضطلاعه في أغلب العلوم فإنّه رحمه اللّه يعتبر أحد جهابذة العلماء في الفقه والاصول ، وقد ترك أسفارا جمّة أغنى المكتبة الإسلامية بها ، وإليك عناوين ما وقفنا عليه من تراثه القيّم :

1 - التقريرات في الفقه :

أطلق عليه الشيخ الطهراني في الذريعة ( 16 : 282 ) اسم « الفقه الاستدلالي » ، وقد احتوى على محاضرات استاذه الشيخ الأنصاري في أبواب : الطهارة وصلاة المسافر والزكاة والغصب والوقف واللقطة والرهن والإجارة وإحياء الموات والقضاء والشهادات ، ولكن لم نعثر على مخطوطته إلاّ على بحث القضاء والشهادات منها في مكتبة كلّية الإلهيات بمدينة مشهد المقدسة برقم (893). ( راجع : فهرستها ، فهرست الكلية 2 / 58 ).

2 - التقريرات في اصول الفقه :

تضمن محاضرات استاذه الشيخ جعفر بن محمد الكرمانشاهي الطهراني التي ألقاها بطهران ، وهو جزءان ، ألّفه سنة ( 1266 ه ). رأى الشيخ آقا بزرك الطهراني

ص: 14

مخطوطته. ( راجع الذريعة 4 : 369 ).

3 - رسالة في بعض فروع الإرث :

وهي رسالة في الردّ على « الرسالة الإرثية » لمعاصره السيد إسماعيل البهبهاني ( ت 1295 ه ) من علماء طهران ، كان قد حكم فيها بإثبات وارثية رجل اسمه رجب ولد من جارية لرجل يقال له : عزيز اللّه بن أحمد الطهراني. ألّفها باللغة العربية سنة ( 1287 ه ) ، ثم ترجمها إلى الفارسية لاستفادة العموم ، مخطوطتها في مكتبة معهد الشهيد مطهّري العالي في طهران برقم (2426). ( فهرستها : فهرست مكتبة مدرسة الشهيد المطهري 1 : 418 ).

4 - رسالة في المشتقّ :

وهي بحث في تحرير محلّ نزاع الاصوليّين بشأن الامور السبعة للمشتقّ ، وذكر الأقوال في المسألة ، وفي خاتمتها تنبيهات أربعة وتذنيبان. أشار الشيخ الطهراني في الذريعة ( الذريعة 21 : 40 ) إلى أنّ مضامينها قد درجت في « مطارح الأنظار » لكن لم نجدها في المطبوع منه ، ولم يعثر على مخطوطتها. وقد طبعت الرسالة مرّتين : الاولى بطهران سنة ( 1305 ه ) ضمن مجموعة رسائل الشيخ الأنصاري ، والثانية بقم سنة ( 1404 ه ) ضمن « مجموعة رسائل فقهية واصولية ».

5 - مطارح الأنظار :

وهو هذا السفر الذي بين يديك ، وسيأتي الكلام عنه.

قالوا فيه :

ذكر أرباب المعاجم وأهل التراجم الرجالية آراءهم فيه ، وما قاله العلماء والأفاضل من أساتذته ومعاصريه وتلامذته من مدحهم وإطرائهم له وجزيل

ص: 15

الثناء عليه ، نسرد هنا بعضا ممّا جاء في إجلالهم وتكريمهم له :

1 - قال ابنه الفاضل الميرزا أبو الفضل رحمه اللّه في شأن أبيه :

« حكيم الفقهاء الربّانيين ، وفقيه الحكماء الإلهيّين ، وحيد عصره وزمانه ، وفريد دهره وأوانه ، علاّمة العلماء والمجتهدين ، وكشّاف حقائق العلوم بالبراهين » (1).

2 - قال فيه الخطيب الشهير الملاّ محمد باقر الواعظ وهو أحد معاصريه :

« علاّمة العلماء العاملين ، وفحل الفضلاء المحقّقين ، مقرّر الفروع والاصول ، جامع المعقول والمنقول ، الأديب الأريب ، المحقّق المدقّق الورع العالم ، واستاذ أساتيذ الأعاظم ، الحاج ميرزا أبو القاسم الرازي الطهراني ، أفاض اللّه عليه شآبيب الغفران ، وأسكنه في أعلى مساكن الجنان » (2).

3 - قال تلميذه الملاّ حبيب اللّه شريف الكاشاني :

« كان من أكابر تلامذة الشيخ المرتضى ، فاضلا كاملا ، ومجتهدا فقيها اصوليا ، حكيما عارفا ، ذا سليقة مستقيمة وفطانة قويمة ، وكان حاذقا ماهرا في الفقه والاصول ، مسلّما عند الفحول ... » (3).

4 - عبّر عنه معاصره الشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني ب- « بعض الأفاضل المقرّر لبحثه » أو « بعض الأجلّة » (4).

ص: 16


1- الكرام البررة 1 : 160 ، عن كتاب صدح الحمامة في أحوال الوالد العلاّمة لابن المترجم له.
2- مقدمة ديوان ابنه الميرزا أبي الفضل الطهراني.
3- لباب الألقاب : 111.
4- كفاية الاصول : 96 و 171.

5 - قال الميرزا محمد مهدي الكهنوئي الكشميري :

« كان من أعاظم المجتهدين ، وأكابر العلماء العاملين ، المقدّس المتورّع ، وصاحب المراتب الجليلة والمناقب الفخيمة ... » (1).

6 - قال عنه المحدّث الشيخ عباس القمّي رحمه اللّه : « عالم فاضل محقّق مدقّق فقيه اصولي » (2).

7 - قال بشأنه السيد محسن الأمين العاملي :

« كان المترجم له من عباد اللّه الصالحين ، وفي أيام قراءته على الشيخ مرتضى كان من وجوه تلاميذه ، وكان بعد فراغ استاذه من الدرس في علمي الاصول والفقه يعيده ويقرّره لجماعة من حاضري الدرس » (3).

8 - قال الشيخ آقا بزرك الطهراني فيه :

« من أعاظم علماء عصره ... كان من الصلحاء الأتقياء المتورّعين ، لم يأل جهدا في إعلاء كلمة الحقّ وتأييد المذهب والدين ... أصبح أحد أركان حوزة الأنصاري ومن عمد ذلك المعهد الشريف ، وصار معتمد أستاذه ومقرّر بحثه ... » (4).

9 - قال حفيده الشيخ محمد الثقفي الطهراني في وصف جدّه :

« كان جنابه معروفا بين أهل العلم بأنّ من تلمذ عنده بلغ رتبة الاجتهاد ، بل الإفتاء » (5).

ص: 17


1- تكملة نجوم السماء 1 : 469.
2- الكنى والألقاب 1 : 144.
3- أعيان الشيعة 2 : 414.
4- الكرام البررة 1 : 59 - 60.
5- مقدمة ديوان ابنه الميرزا أبي الفضل الطهراني.

مطارح الأنظار ومسيرة تحقيقه

اشارة

وهو تقريرات لمحاضرات استاذه الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري في علم اصول الفقه ، ألّفه بعناوين « هداية ... هداية » وضمّنه العناوين الآتية :

الصحيح والأعمّ ، اجتماع الأمر والنهي ، الإجزاء ، مقدمة الواجب ، مسألة الضدّ ، العام والخاصّ ، المجمل والمبيّن ، المطلق والمقيّد ، المفهوم والمنطوق ، المشتقّ ، الاستصحاب ، أصالة البراءة ، حجيّة القطع ، حجيّة الظنّ ، الحسن والقبح العقليين والشرعيين ، الاجتهاد والتقليد ، التعادل والتراجيح.

فكان الكتاب يحتوي على أغلب مباحث الاصول ، ولما تصدّى ابن المؤلف الميرزا أبو الفضل الطهراني لترتيب الكتاب وطبعه اكتفى بالمباحث التي لم يذكرها الشيخ الأنصاري في فرائده فاختار من تقريرات والده مباحث الألفاظ والأدلة العقلية والاجتهاد والتقليد وسمّاه ب- « مطارح الأنظار » ورتّبه كما يلي :

الصحيح والأعمّ ، الإجزاء ، مقدمة الواجب ، التجرّي ، مسألة الضدّ ، اجتماع الأمر والنهي ، اقتضاء النهي الفساد ، المفاهيم ، العام والخاصّ ، المطلق والمقيّد ، المجمل والمبيّن ، الأدلّة العقلية ، الاجتهاد والتقليد.

انتشر الكتاب انتشارا واسعا في الأوساط العلمية المختصّة ؛ لأنّه مثّل الحلقة المفقودة لآراء الشيخ الأنصاري في مباحث الألفاظ والأدلّة العقلية ؛ ولأنّ مقرّره يتمتّع بمنزلة علمية سامية زكّاها الشيخ الأنصاري نفسه وصرّح باجتهاده وفضله مرارا ، ولشخصية جامعه والمشرف على طباعته حيث عرف بفضله ودقّته ووفائه للعلم ولدور والده فيه.

ص: 18

واستقطب اهتمام العلماء وحرصهم على الاستفادة منه أو جعله محورا لبحوثهم أو تعليقاتهم ، فمثلا نقل عنه كثيرا الآخوند محمد كاظم الخراساني في كتابه المشهور « كفاية الاصول » وأشار إليه ب- « ما أفاده بعض الأفاضل المقرّر لبحثه » ، و « على ما في تقريرات بعض الأجلّة » ، و « تقريرات بحث شيخنا الاستاذ » (1) ، ويمكن أن يقال : إنّ كلّ ما ذكره في كتابه من آراء الشيخ الأنصاري في مباحث الألفاظ مأخوذ من « مطارح الأنظار » ، كما نقل عنه كثير من أعلام علم الاصول فيما يخصّ تلك المباحث.

وعلّق عليه كلّ من الشيخ مهدي الحكمي القمّي ( ت 1360 ه ) (2) ، والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي وسمّاه ب- « مسارح الأفكار في توضيح مطارح الأنظار » (3).

إضافة إلى ما حازه من تقاريظ وثناء الكتّاب عليه ، فذكره السيد محسن الأمين قائلا : « سمّي مطارح الأنظار ، ولاقى رواجا عظيما ؛ لأنّه من أحسن ما قرّر فيه مطالب الشيخ مرتضى » (4) ، وأطراه السيد مير جلال الدين الحسيني المعروف ب- « المحدث الارموي » بهذه الأسطر : « من أمعن النظر في كتابه مطارح الأنظار علم أنّ ما ذكره ابنه في حقّه ليس بجزاف ، فكيف لا وقد سمعت من بعض جهابذة فن الاصول يقول : لم يصنّف في اصول الفقه مثله. فهو شاهد صدق ودليل متين وبينة

ص: 19


1- كفاية الاصول : 96 ، 171 ، 219.
2- المسلسلات للسيد المرعشي 2 : 343.
3- المسلسلات للسيد المرعشي 1 : 29.
4- أعيان الشيعة 2 : 414.

واضحة على كونه في غالب العلوم ، ولا سيما فن الاصول ، في أعلى درجة الكمال » (1).

نسخ التحقيق :

استندنا في تحقيق كتاب « مطارح الأنظار » إلى النسخ الآتية :

1 - نسخة مؤسسة آل البيت عليهم السلام المطبوعة في قم سنة ( 1404 ه ) بالاوفست عن النسخة الحجرية التي جمعها نجل المؤلّف ورتّبها وأشرف على طبعها في طهران سنة ( 1308 ه ) بالقطع الرحلي وفي (307) صفحة ، ورمزنا لها بالحرف « ط ».

2 - نسخة مصوّرة عن مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران برقم (7613) ضمّت (216) صفحة ، وقد رمزنا لها بالحرف « م ».

3 - نسخة مصوّرة عن مخطوطة مكتبة المرعشي النجفي في قم برقم (3206) ، ضمّت (285) صفحة ، ورمزنا لها بالحرف « ع ».

مراحل التحقيق والمشاركون فيها :

مرّ هذا الكتاب بعدّة مراحل خلال تحقيقه نذكرها بالنحو الآتي :

أ - مقابلة النسخ ، تصدّى عدد من الإخوة إلى مقابلتها على النسخ المعتمدة وأثبتوا الاختلافات فيما بينها ، وهم :

1 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.

2 - الشيخ صادق الحسّون.

3 - الشيخ رعد المظفّر.

4 - الشيخ مضر فرج اللّه.

ص: 20


1- ديوان الميرزا أبي الفضل الطهراني ( المقدمة ).

ب - استخراج مصادر النصوص ، وعهد به إلى :

1 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.

2 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد جواد شفيعي.

3 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.

4 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.

5 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.

6 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد حافظ موسى زاده الخلخالي.

7 - حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمد رضي الحسيني الاشكوري.

ج - تقويم النصّ ، وتولّى ذلك :

1 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ رحمة اللّه الرحمتي الأراكي.

2 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد علي الأنصاري.

3 - حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين أحمدي الشاهرودي.

د - المراجعة العامة للكتاب ، وانبرى لها حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد حسين الأحمدي الشاهرودي وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ صادق الكاشاني.

كما نشكر حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ أمر اللّه الشجاعي لإعداده مقدّمة الكتاب.

ولقد تظافرت جهود هذه المجموعة من العلماء والفضلاء أصحاب الخبرة لتحقيق الكتاب بدقّة علمية عالية ، ومع كلّ ذلك ننوّه إلى اعتزازنا بالملاحظات البنّاءة التي ترفع من مستوى هذا العمل. راجين من اللّه تعالى أن يتقبّله منّا بقبول حسن ، إنه سميع الدعاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لجنة التحقيق / مجمع الفكر الإسلامي شوال 1424 ه-

ص: 21

ص: 22

خطبة الكتاب

بسم اللّه الرحمن الرحيم

أحمدك اللّهمّ على ما طهّرتنا من دنس الإشراك ، وفضّلتنا بعبادتك على ملأ الأفلاك ، مسترشدا إليك عمّا أضلّت العقول ، ومستهديا منك في تفريع الاصول ، لنحتذي حذو ما أمرت ، وننتحي نحو ما أردت.

واصلّي واسلّم على من أحيا موات القلوب بحكمه (1) الشافية ، ونقّاها عن صفات العيوب بكلمة الوافية ، ورفع عن فطرتها الرذائل وألبسها العافية ، ودفع عن نيّتها الزلازل بوقايته الكافية ، فلم يزل صلى اللّه عليه وآله في تفجير صلودها ، ومبالغا في تخضير عودها ، حتّى اعشوشبت قفارها بالخشوع ، واحلولت ثمارها بالخضوع ، واستولت على أرجائها القنوع ، واشتكلت بهيئة الإيمان ، واشتملت على الحكمة والبرهان ، وامتثلت ما اقتضاه القرآن ، واختزل عن جنانها الشيطان ، وصار الملك يومئذ لله الواحد المنّان.

وعلى آله الذين أفصحوا عن مراده ، ودلّوا على صراطه ، خلفائه على الامّة ، وامنائه على الملّة والسنّة ، مناهج الحقّ ومسالك اليقين ، ومالكي الدين ، أئمّة

ص: 23


1- الكلمة غير مقروءة ، والظاهر ما أثبتناه.

الخلائق ، وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين ، صلاة كثيرة لا يحصيها العادّون ، ولا يبلغ غايتها المجتهدون ، ما اختلف الليل والنهار واعترف الربيع بالأزهار.

فإنّ العلم نور أشرقت له السماوات ، وانكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر المخلوقات. وهو المنهج الأشمّ ، والاسم الأعظم ، والترياق الأكبر ، والكبريت الأحمر ، والذروة العليا ، والجنّة المأوى ، والمدينة التي أنفت بالعلاء أركانها ، والحظيرة التي شرّفت بالسناء جدرانها ، وكلمة اللّه التي لو كان البحر مدادا لنفد البحر قبل ما يعتريها النفاد ، وحكمة اللّه التي أوتي خيرا كثيرا من اوتيها من العباد.

وهو السراج الوهّاج ، والماء الثجّاج ، وفضل اللّه ورحمته ، وصراط الحقّ وعصمته ، والمدّة في الحياة ، والعدّة بعد الممات ، والمنهاج الواضح المسالك ، والدليل إذا عميت المهالك ، وبه يقترب القاصي ، وينتدب العاصي ، وتملك النواصي ، وتستخلص الصياصي.

فلعمري إنّه الفضل الذي لا يجحد ، والشرف الذي لا يحدّ ، والرتبة التي لا ينالها إلاّ من اختاره اللّه وقدّمه ، أو الذي اصطفاه وولاّه وحكّمه.

أكرم به من أسماء علّمها آدم عليه السلام ، وأعظم به من أسرار جرت في ولده إلى خاتم ، خصّ بالتحيّة والإكرام.

فاستودعها صلى اللّه عليه وآله أطائب عترته ، واستأمن عليها أكارم أرومته ، تشييدا لقواعد الدين ، وتمهيدا لأساس اليقين ، وحفظا لحوزة المؤمنين ، وردعا لبادرة الكافرين.

فمن تداركه فضل من الرحمن اغترف من فضالتهم ، ومن أدركه عون من الديّان اقتبس جذوة من نبالتهم.

ص: 24

فإذن ، العلماء معادن الحكمة وتراجمة الأوحاء (1) وأسفاط الفضيلة ومستودع الأنباء ، احتجّ اللّه بهم على العباد في دار الدنيا ويوم التناد. فقاموا بما استحفظوا - كثّر اللّه أمثالهم - خير القيام ، وقعدوا في تدوينه - شكر اللّه سعيهم - عن طيب المأكل والمنام ، وصبروا في نشره على الأذى والآلام ، وحسروا عن ذراع الهمّة لتمكين الخلائق في الحلال والحرام ، فتناولوه يدا عن يد ، وتداولوه واحدا بعد أحد.

فلم يزل ذلك دأبهم من قديم الزمان وديدنهم في كلّ وقت وآن ، حتّى انتهى الفضل إلى خاتمة المجتهدين ، وانحصر العلم في رأس الملّة والدين ، مرجع العلماء المحقّقين ، وفخر الفقهاء المتبحّرين ، معقل الأنام وكهف المسلمين والإسلام ، الكاشف بسنا أنواره غياهب الظلام عن وجوه الأحكام ، طود التقى ، بحر النهى ، ملاذ الورى ، علم الهدى ، مرتضى المصطفى ، مصطفى المرتضى ، مولى العصابة وعبد الباري ، المهاجر إلى الحقّ مرتضى الأنصاري ، أجزل اللّه في الدارين مثوبته ، ورفع في العلّيين [ درجته ](2).

فارتقى في العلم مرتقى لم يسبقه الأوّلون ، واحتوى في الفضل رتبة ما أدركه الآخرون ، وفاز بمقام يغبطه العالمون ، فشخصت إليه الأبصار ، ورنت لديه الأنظار ، ومدّت نحوه الأعناق ، وألمت عنده الآفاق ، وانيخت بفنائه الركاب ، وأحدقوا به من كلّ باب ، روما للاغتراف من لجج بحاره ، وميلا للالتقاط من درر نثاره ، وطمعا في الاستنارة بتألّق أنواره ، وحرصا على اقتناء (3) آثاره ، فامتلى كلّ إناء قدر ما وعاه ، وحكى كلّ زجاجة ما حاذاه ، ربّيون كثير ما وهنوا عن تناوش جداه.

ص: 25


1- كذا ، فإنّ جمع « وحي » ، هو « وحيّ » بكسر الحاء وتشديد الياء ، لا « أوحاء » كما جاء في الخطبة.
2- الزيادة اقتضاها السياق.
3- في « ط » بدل « اقتناء » : « الثناء » ، والمناسب ما أثبتناه.

وحيث إنّ حكيم الفقهاء الربّانيّين ، وفقيه الحكماء الإلهيّين ، وحيد عصره وزمانه ، وفريد دهره وأوانه ، علاّمة العلماء والمجتهدين ، وكشّاف حقائق العلوم بالبراهين ، صاحب المفاخر والمكارم ، الحاج ميرزا أبو القاسم النوري الرازي - قدّس اللّه تربته وأعلى في الجنان رتبته - كان الذي اقتطفه من تلك الشجرة أحلاها ، وما التقطه من تلك الثمرة أزكاها ، وما استظهره من الحقائق أجلاها ، وما استنبطه من الدقائق أنقاها ، مشتملا على فوائد نفعها أعم ، ومحتويا لزوائد فيضها أتمّ ، تاقت نفوس الطالبين إلى مناله ، وراقت عيون المشتغلين رؤية مثاله ، فذهبت عليه نفسهم حسرات ، وطلبت نسخته من كلّ حاجز وآت.

فاعتنى لطبع هذا الكتاب المستطاب المسمّى ب- « مطارح الأنظار » - إعانة على البرّ واكتسابا للصواب - بعض من وفّقه اللّه لمراضيه ، وجعل مستقبل أيّامه خيرا من ماضيه ، عمدة الأخيار وزبدة التجّار ، المبرّأ من كلّ شين ، الآقا ميرزا محمّد حسين النوري ، أدام اللّه عزّه وإقباله.

فبحمد اللّه والمنّة خرج كتابا يسير في الأيدي مسير الصبا في الأمصار ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الأطهار (1) (2).

ص: 26


1- لم ترد الخطبة في غير « ط ».
2- جاء في الذريعة 21 : 136 : « وقد رتّب مباحثه [ مطارح الأنظار ] وسمّاه بهذا الاسم ، وطبعه ولده الفاضل الحاج ميرزا أبو الفضل المتوفى : 1316 » فلعلّ المقدمة منه أيضا.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

القول في الصحيح والأعم

اشارة

ص: 27

ص: 28

قد اختلف أنظار أهل النظر في أنّ ألفاظ العبادات هل هي أسام (1) للصحيح (2) أو الأعم منه ومن الفاسد؟ (3) على أقوال (4).

ثالثها : التفصيل بين الأجزاء والشرائط (5) ، بالمصير إلى الأوّل في الأوّل وإلى الثاني في الثاني.

وربما يعدّ من الأقوال في المقام ، ما أفاده الشهيد في قواعده بقوله : الماهيّات

ص: 29


1- في « ع » و « م » : « أسامي ».
2- ذهب إليه جماعة ، منهم : صاحب الفصول وأخوه الشيخ محمّد تقي ، انظر الفصول : 46 ، وهداية المسترشدين 1 : 442 وما بعدها ، وكذا الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 103.
3- ذهب إليه جماعة اخرى ، منهم : المحقّق القمّي في القوانين 1 : 44 ، والفاضل النراقي في مناهج الأحكام : 27 ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 44 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 22.
4- انظر تفصيل الأقوال والقائلين في هداية المسترشدين 1 : 436 - 437 ، ومفاتيح الاصول : 44 ، ومناهج الأحكام : 27.
5- حكاه في الفصول : 52 عن بعض متأخّري المتأخّرين ، وفي مناهج الأحكام : 27 ، وهداية المسترشدين 1 : 437 عن بعض.

الجعليّة - كالصلاة والصوم وسائر العقود - لا يطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ (1) ... إلى آخر ما أفاده. وستعرف الكلام فيه إن شاء اللّه (2).

ثمّ إنّ تحقيق المقام على وجه يرتفع غواشي الأوهام في طيّ هدايات :

ص: 30


1- القواعد والفوائد 1 : 158.
2- انظر الصفحة 38.

هداية

لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وهل جريانه موقوف عليه فلا يجري على تقدير عدمه أو لا؟ قولان.

ظاهر بعض الأفاضل (1) هو الأوّل ، وهو المحكيّ عن بعض الأجلّة (2) ، تبعا لبعض أفاضل سادات المتأخّرين (3).

والحقّ - وفاقا لصريح جماعة من المحقّقين (4) - هو الثاني.

واستظهر الأوّل من ملاحظة العناوين ؛ فإنّ في التعبير ب- « الأسامي » تلويحا بل تصريحا بالوضع. ويؤيّده أدلّة الطرفين : من دعوى التبادر وغيره من خواصّ الحقيقة والمجاز ، مضافا إلى عدم تعقّل النزاع على تقدير عدم الوضع ؛ لأنّ القائل بالأعم حينئذ إن أراد صحّة استعمال اللفظ في الأعم أو وقوعه مجازا ، فهو ممّا لا سبيل لإنكاره ؛ فإنّ القائل بالصحيح يعترف في الجواب عن أدلّة الأعميّ بوقوعه وصحّته ، كما أنّه لا سبيل لإنكار استعمال اللفظ في الصحيح إذا (5) لم يدّع القائل به أنّه على وجه الحقيقة خاصّة.

ص: 31


1- كالفاضل النراقي في المناهج : 26.
2- انظر الفصول : 46.
3- وهو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 44.
4- منهم : المحقّق القمّي في القوانين 1 : 40 ، والشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين 1 : 434 - 435 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 21 ، والكلباسي في إشارات الاصول : الورقة 17.
5- في « ع » : « إذ ».

أقول : الوجه في اختصاص العنوان - بعد تسليم دلالة الاسم على الوضع - : أنّ عنوان النزاع إنّما هو من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وإنّما تبعهم في العنوان من لا يقول بها جريا على ما هو المعنون في كلامهم ، محافظة لما قد يتطرّق إليه من الاختلال (1).

ومنه يظهر الوجه في اختصاص الأدلّة ؛ فإنّها تابعة لما هو الواقع في العنوان ، ولم يظهر من النافي للحقيقة الشرعيّة - مع ذهابه في المقام إلى أحد الوجهين - التمسّك بما ينافي ما اختاره من العدم.

وأمّا ما ذكر (2) في الإضافة ، فلا ينافي جريان النزاع على تقدير العدم ؛ لجواز اختلاف مراتب المجازات ، فيمكن أن ينازع في أنّ المجاز الغالب في لسان الشارع هل هو الصحيح على وجه يحمل عليه اللفظ عند وجود الصارف عن المعنى الحقيقي أو الأعم؟

وأمّا ما قد يتخيّل : من أنّ الغلبة ممّا لا وجه لادّعائها على القول بالصحيح ؛ ضرورة كثرة الاستعمال في الأعم على وجه لا يكاد ينكر غلبته على الصحيح أو مساواته له ، فهو على تقدير صحّته ينهض حجّة للقول بالأعم أو القول بالتوقّف حينئذ ، ولا يمنع من جريان النزاع على تقدير العدم ، كما لا يخفى.

والأولى أن يقال في تصوير النزاع على تقدير العدم : إنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ الاستعمال في الفاسدة ليس مجازا غير اللازم من الاستعمال في الصحيحة ، بل إنّما الاستعمال في الفاسدة من وجوه الاستعمال في الصحيحة ، تنزيلا لها منزلتها بوجه من وجوه صحّة التنزيل ، من (3) تنزيل ما هو المعدوم من الأجزاء والشرائط

ص: 32


1- في « م » : « الاختلاف ».
2- في « ع » : « ما ذكره ».
3- في « ع » بدل « من » : « التي منها ».

منزلة الموجود ، والقائل بالأعم يدّعي مساواتهما في المجازيّة. وما ذكرنا ليس بذلك البعيد ، كما ستطّلع على تفصيله في توجيه (1) المختار (2) ، وهو المعهود في أنواع المركّبات الكمّية في العرف والعادة.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يتخيّل في المقام : من لزوم سبك المجاز عن مثله على تقدير جريان النزاع بناء على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، ولا ريب في كونه نادرا على تقدير صحّته ووقوعه ، فلا ينبغي حمل هذا النزاع المعروف على ما لم نجد له شاهدا في كلام العرب. وأمّا الملازمة ، فلأنّ استعمال اللفظ في الصحيحة حينئذ (3) إنّما هو لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، من علاقة الإطلاق والتقييد أو غيرها - كما في الحجّ على ما قيل (4) - واستعماله في الأعم لا بدّ وأن يكون بواسطة مشابهة ومشاكلة بينه وبين الصحيحة في الصورة ، فاستعماله فيه إنّما هو بواسطة علاقة بينه وبين المعنى المجازي ، وهو المراد باللازم.

وجه الفساد : هو ما عرفت ، من أنّ ذلك ليس مجازا لفظيّا آخر غير ما هو اللازم من الاستعمال في الصحيحة ، ولا نرى بعدا في وقوع مثل هذا التصرّف العقلي على تقدير المجازيّة ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يتّضح حال النزاع على تقدير ثبوت الحقيقة المتشرّعة (5) ، فإنّه جار عليها بوجه أولى ؛ فإنّ النقل فيها لا بدّ وأن يكون تعيّنيّا ، وهو مسبوق بكثرة الاستعمال على وجه الغلبة بل الأغلبيّة ، فالقائل بالصحيح يدّعي أنّ ما هو الآن

ص: 33


1- في « ع » بدل « توجيه » : « وجه ».
2- انظر الصفحة 56.
3- لم يرد « حينئذ » في « ع ».
4- انظر المعالم : 35 ، وستأتي الإشارة إليه في الصفحة 35.
5- كذا ، والمناسب : « المتشرّعيّة ».

حقيقة هو المستعمل فيه في عرف الشارع ؛ لأنّ عرف المتشرّعة ميزان لعرفه ومرآة له ، والقائل بالأعم يدّعي خلافه في عرف الشارع ، نظرا إلى ادّعائه خلافه في عرف المتشرّعة الكاشف عن عرفه.

وهل هو موقوف على ثبوت تصرّف من الشارع في المعنى ، فلا وجه للنزاع بناء على ما نسب إلى الباقلاني (1) ، أو لا ، فيجري على مقالته أيضا؟ الظاهر هو الأوّل.

وتوضيح الحال : أنّ المعنى إمّا أن يكون بسيطا غير مربوط بشيء شطرا أو شرطا ، وإمّا أن يكون مركّبا ولو بملاحظة تقييده بأمر خارج عنه.

والأوّل غير قابل لأن يحرّر فيه النزاع ؛ لعدم قابليّة اتّصافه بالصحّة والفساد ، فإنّ الفاسد إمّا أن يراد به الناقص جزءا أو شرطا ، أو ما لا يترتّب عليه الأثر المقصود منه. والأوّل خلاف المفروض من كونه بسيطا ، والثاني ممّا لا سبيل إليه ؛ إذ على تقدير وجوده واقعا فما هو المقصود منه واقعا لا يعقل عدم ترتّبه عليه ، وعلى تقدير عدمه لا يعقل ترتّبه عليه. فهو إمّا صحيح على الوجهين دائما وإمّا ليس بشيء.

والثاني إمّا أن يكون التركيب فيه بواسطة التقييد ويكون القيد خارجا ، وإمّا أن يكون القيد داخلا على وجه الجزئيّة كما في أنواع المركّبات ، وعلى التقديرين لا إشكال في صحّة إطلاق لفظ « الصحيح » ومقابله على ذلك المركّب ؛ فإنّ المعنى الملحوظ باعتبار دخول شيء فيه قابل لأن يتّصف بالصحّة والتماميّة التي يعبّر عنها ب- « درست » في الفارسيّة على تقدير وجوده مع ما اعتبر فيه ، وبالفساد على تقدير وجوده خاليا عمّا اعتبر فيه وإن اتّصف بالصحّة بالنسبة إلى نفسه ؛ إذ اتّصافه بالفساد من حيث التركيب لا ينافي صحّته من حيث نفسه.

ص: 34


1- انظر ما نسب إليه في نهاية الوصول ( مخطوط ) : 40 ، وشرح مختصر الاصول : 52 - 53 ، والفصول : 43 ، وحاشية سلطان العلماء على المعالم : 9.

وقد عرفت جريان النزاع على تقدير أن يكون المعنى مركّبا على القولين على الوجه الثاني ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون ذلك المعنى المركّب مباينا للمعنى اللغوي باعتبار مناسبة بينهما ، كما في لفظ « الحجّ » الموضوع لغة للقصد المنقول منه شرعا إلى المناسك المخصوصة - كما قيل (1) - أو يكون المعنى اللغوي جزءا من الأجزاء المعتبرة في ذلك المعنى ، كلفظ « الصلاة » الموضوعة لغة للدعاء ، المنقول إلى الأركان المخصوصة والماهيّة المعهودة.

وأمّا إذا كان الاختلاف بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي بالإطلاق والتقييد ، فإمّا أن نلتزم بالوضع والنقل - كما يدّعيه القائل بالحقيقة الشرعيّة - أو لا نلتزم ، فعلى الأوّل يجري النزاع دون الثاني.

أمّا الأوّل ، فلأنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ اللفظ إنّما هو منقول لخصوص المطلق الذي يحصل في ضمن القيد الخاصّ ، والقائل بالأعم يدّعي الوضع للمعنى الأعم من ذلك المطلق الذي هو فاسد شرعا ومن خصوص المقيّد ، فاستعمال اللفظ في خصوص المقيّد إنّما هو على وجه الحقيقة على القولين ، بخلاف ما إذا لم نقل بالحقيقة الشرعيّة ؛ فإنّ الاستعمال المذكور مجاز لابتنائه على إرادة الخصوصيّة من لفظ المطلق.

لا يقال : على القول بالأعم لا بدّ وأن يكون استعماله في خصوص المقيّد مجازا ؛ لأنّه يكون كسائر الألفاظ المطلقة - كما هو ظاهر - والقائل (2) بالأعم لا بدّ وأن لا يلتزم بالوضع في هذا القسم ؛ إذ المعنى المنقول إليه هو المعنى المنقول منه حينئذ بعينه ، كما لا يخفى.

ص: 35


1- انظر المعالم : 35.
2- في « ط » : « فالقائل ».

لأنّا نقول : الظاهر من القائل بالأعم عدم التزامه بأنّ الصحيحة ليست موضوعا لها اللفظ على وجه الخصوصيّة ، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص - كما سيظهر وجهه إن شاء اللّه (1) - وعلى التسليم فلا يمنع ذلك ما نحن بصدده من جريان النزاع ، غاية الأمر أنّ القائل حينئذ لا يلتزم بالوضع.

وأمّا الثاني ، فلأنّ القائل بالصحيح إمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للمعنى الملحوظ على وجه التقييد ، أو يقول : بأنّه المستعمل فيه على وجه المجازيّة. والأوّل خلاف الفرض ؛ لأنّ الوضع للمطلق هو المسلّم عندهم ، وهو بعينه القول بالصدق عند عدم القيد اللازم للأعم ، فلا يعقل التنازع. والثاني - على تقدير تسليم إثباته ؛ لكفاية التقييد عن استعمال المطلق في المقيّد (2) - لا يجدي ؛ فإنّ جواز استعمال المطلق في المقيّد على وجه المجاز ممّا لا سبيل إلى إنكاره لأحد ، فالفريقان فيه على شرع سواء.

ومن هنا يجوز لكلّ واحد منهما التمسّك بإطلاق اللفظ في دفع ما شكّ في اعتباره قيدا لتلك المطلقات ، وهو المصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين (3).

والوجه فيه : أنّ المجاز اللازم من التقييد لا ينافي التمسّك بالإطلاق ؛ لما هو المقرّر في محلّه : من أنّه بمنزلة التخصيص في العام المخصّص لو كان مجازا ، فإنّه لا ينافي ظهوره في الباقي ، بل الأمر في التقييد أظهر ، كما لا يخفى. وذلك بخلاف المجاز اللازم على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة مع تصرّف الشارع في المعنى ، كأن يكون المعنى اللغوي جزءا من المعنى الشرعي أو مباينا

ص: 36


1- انظر الصفحة 54 و 55.
2- العبارة في « ط » هكذا : « وكذا الثاني لكفاية التقييد عن استعمال المطلق في المقيّد وعلى تقدير التسليم ... ».
3- انظر الفصول : 49 ، وضوابط الاصول : 23 ، وهداية المسترشدين 1 : 485.

له ، فإنّه على القول بعدم (1) ثبوت الحقيقة الشرعيّة لا وجه للتمسّك بالإطلاق في هذا النحو من المجاز.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما زعمه بعضهم (2) : من أنّ مقالة الباقلاني لا ينبغي أن تعدّ ثالث الأقوال في تلك المسألة ؛ لأنّها بعينها مقالة النافين للحقيقة الشرعيّة ، سيّما على ما ذهب إليه المشهور من أنّ التقييد بالمنفصل يوجب المجاز.

وجه الفساد : ما عرفت من الفرق بين المجازين ؛ فإنّه على مقالة القاضي لا مانع من التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ علاقة الإطلاق والتقييد لا ينافي الإطلاق من جهة اخرى ، وعلى مقالة النافي علاقة الكلّ والجزء أو علاقة اخرى ، ولا يبقى ظهور للمطلق بعد القول بالمجازيّة على هذا الوجه حتّى يعوّل عليه عند الشكّ ، مضافا إلى إمكان منع المجازيّة على مقالة القاضي ؛ بناء على ما هو التحقيق : من أنّ التقييد لا يوجب مجازا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد تلخّص ممّا تقدّم : أنّ مدار النزاع على أحد أمرين ، إمّا التصرّف في المعنى على وجه يكون المعنى اللغوي مغايرا للمعنى الشرعي غير (3) المغايرة الحاصلة بين المطلق والمقيّد كما عرفت ، وإمّا التصرّف في اللفظ على وجه النقل من الكلّي والمطلق إلى الفرد والمقيّد ، كما تقدّم تفصيلا.

وهل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات - كما هو المأخوذ في العنوان - أو يعمّ ألفاظ المعاملات؟

ص: 37


1- في « ع » بدل « القول بعدم » : « تقدير عدم ».
2- لم نعثر عليه.
3- لم يرد « غير » في « ع » و « م ».

ظاهر جماعة (1) - منهم الشهيدان (2) - هو الثاني ، وارتضاه (3) بعض الأجلّة (4).

قال الشهيد في قواعده : الماهيّات الجعليّة - كالصلاة والصوم وسائر العقود - لا تطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ ؛ لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة ، وهو الدخول فيهما (5) ، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث. ويحتمل عدمه ؛ لأنّه لا يسمّى (6) صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. وأمّا لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع [ من الدخول ](7) لم يحنث (8) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وقوله : « لا يطلق » وإن كان ظاهرا في عدم الإطلاق مطلقا ، إلاّ أنّ بداهة إطلاقها على الفاسدة مانع عن الحمل المذكور ، فلا بدّ أن يقال : إنّه لا يطلق على وجه الحقيقة - كما أفاده بعض الأجلّة (9) - إلاّ أنّ الاستثناء المذكور في كلامه لا يلائم ذلك ؛ فإنّ التعليل بوجوب المضيّ فيه لا بدّ وأن يكون علّة للوضع حينئذ ، وهو ممّا لا يرتبط ، كما لا يخفى.

ص: 38


1- كصاحب الفصول في الفصول : 52 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 52.
2- القواعد والفوائد 1 : 158 - 159 ، والمسالك 11 : 263.
3- في « ع » و « م » بدل « وارتضاه » : « ولعلّه مختار ».
4- في « ع » و « م » زيادة : « على ما نقل » ، انظر مناهج الأحكام : 26 - 27.
5- كذا في المصدر ، وفي النسخ : « فيها » ، وكذا في ضمير « أفسدهما ».
6- في المصدر : « لأنّها لا تسمّى ».
7- من المصدر.
8- القواعد والفوائد 1 : 158 - 159.
9- وهو صاحب الفصول في الفصول : 52.

فالظاهر - بقرينة الاستثناء والتعليل - هو أنّ الفاسد في الشريعة غير مأمور به إلاّ في الحجّ ، فإنّ المضيّ في فاسده واجب ومأمور به ، كما يشير إليه المحقّق القمّي (1). (2)

ص: 39


1- القوانين 1 : 47.
2- في « ع » و « م » هنا زيادة ، كتب عليها في « ع » : « زائد » ، وهي كما يلي : واعترض عليه بعض الأجلّة : بأنّه إن أراد ب_ « الفاسدة » ما يكون فاسدا على تقدير عدم الأمر به ، فلا ريب أنّ جميع العبادات فاسدة بهذا المعنى ، وإن اعتبر الصحّة بحسب الواقع ، فلمانع أن يمنع لزوم تقدّمها على الأمر لجواز إنشائها به ، وإن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى أمر آخر ، فهذا _ مع بعده عن مساق كلامه _ لا يساعد عليه تفريع مسألة الحنث. وفيه : أنّ المراد ب_ « الفاسد » هو الناقص جزءا أو شرطا بالنسبة إلى ما هو المأمور به في الشريعة مع قطع النظر عن طروّ الفساد ، ولا بعد لذلك عن مساق كلامه. مع أنّ قوله : « فلمانع » ، فيه : أنّ الصحّة في وجه لا بدّ أن تكون متأخّرة عن الأمر وفي وجه لا بدّ أن تكون متقدّمة ؛ لأنّها إمّا عبارة عن الصفة المشرعة عن المأتيّ به باعتبار موافقته للمأمور به فهي موقوفة على الأمر ووجود المأمور به في الخارج أو ملاحظة وجودهما ، ولا معنى لإنشائها بالأمر ، وإمّا عبارة عن كمال الموضوع الذي يتعلّق به الأمر وتماميّته فهي من الصفات المشرعة عن متعلّق الأمر المتقدّم على الأمر قطعا فلا يعقل إنشاؤها بالأمر ، مع أنّها أيضا غير محتاجة إلى الإنشاء على الوجهين كما تقرّر في محلّه ، مع أنّ هذه الترديدات لو تمّت فإنّما هو إشكال في معنى « الصحّة » و « الفساد » ولا مدخل له بكلام الشهيد كما لا يخفى. ومن هنا يظهر فساد ما تنظّر في كلام الشهيد _ بعد النقض بفاسد الصوم _ بأنّه لا ملازمة بين وجوب الإمضاء والوضع. وجه الفساد : ما عرفت من أنّ كلام الشهيد يمكن حمله على الإطلاق في الأوامر الشرعيّة ، فلا وجه للإيراد بما ذكره المتنظّر فيه. وأمّا النقض بفاسد الصوم فيمكن دفعه : بأنّ الإمساك عن المفطرات واجب في شهر رمضان وإن لم يسمّ صوما. وأمّا تفريع مسألة الحنث في كلامه فلا نعرف وجهه إلاّ إذا كان مراد الحالف والناذر مجرّد الشروع في العمل لا نفس العمل ؛ إذ على الثاني لا يفرق بين الأمرين على المذهبين ، وعلى الأوّل فعلى القول بالصحيح اكتفي بمسمّى الصحّة ، ولو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ، وعلى القول بالأعم لو دخل في العبادة على وجه الفساد يحصل الحنث. نعم ، التفريع المذكور يلائم ما ذكره بعض الأجلّة في تفسير كلامه قدس سره. والإنصاف أنّه لم يظهر لنا من كلامه شيء يمكن التعويل عليه ، فتدبّر لعلّك تطّلع على أمر لم نقف عليه ، ومن هنا يمكن التأمّل في إسناد التفصيل المتقدّم في صدر المبحث إليه.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون مراده رحمه اللّه : أنّ إطلاق ألفاظ العبادات والمعاملات لا ينصرف إلى ما هو معلوم الفساد ، كما أفاده المحقّق في الشرائع بقوله : إطلاق العقد ينصرف إلى الصحيح (1) ، وعن العلاّمة في قواعده : المطلب الرابع في العقد ، وإطلاقه ينصرف إلى الصحيح (2). فلا دلالة في كلامه على الوضع وعدمه.

نعم يظهر من الشهيد الثاني في شرح ما عرفت من الشرائع ما هو صريح في إرادة الوضع ، حيث قال : إنّ عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم : فلان باع داره ، وغيره - ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه ، حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم تسمع إجماعا - وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّه ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد يقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة (3) ، انتهى.

أقول : دعوى وضع ألفاظ المعاملات لخصوص ما أمضاه الشارع والحكم

ص: 40


1- شرائع الإسلام 3 : 177.
2- قواعد الأحكام 3 : 275.
3- المسالك 11 : 263.

بترتيب الأثر المقصود منها عليها ينافي ما استقرّ عليه ديدن أهل العلم كافّة : من التمسّك بعموم ما دلّ على مشروعيّة المعاملة عند الشكّ فيها أو في اعتبار أمر لا دليل على اعتباره فيها ، حتّى أنّ الشهيد قد ملأ الأساطير من ذلك ، بل ولولاه لما دار رحى الفقه ، كما لا يكاد يخفى على المستأنس بكلامه ، وقد ادّعى الفاضل (1) الإجماع على جواز التمسّك بعموم قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (2).

وأمّا ما استند إليه من التبادر ، فربما يكون منشؤه - على تقدير التسليم - هو ما ذكره المحقّق والعلاّمة : من دعوى الانصراف ، فلا بدّ أن يكون مستندا إلى غير اللفظ ، إمّا بواسطة الارتكاز في أذهان المتشرّعة : من حمل الفعل الصادر عن الفاعل على الصحّة - كما لعلّه هو الوجه في بعض الموارد - أو غيره. ويشهد بما ذكرنا - من منع التبادر - أنّه لو نذر أن لا يبيع الخمر فباعه لا يعقل دعوى تبادر الصحيح منه مع حصول الحنث معه ، فتأمّل.

وقد تصدّى بعض المحقّقين (3) في تعليقاته على المعالم لدفع التنافي ، وأطال في بيانه ، وملخّصه : أنّ المراد من كون أسامي المعاملات موضوعة للصحيحة ، أنّ المعنى العرفي أيضا هو الصحيح ، لا أنّها أسام (4) للصحيح الشرعي الذي لازمه الإجمال ويكون موقوفا على بيان الشارع ، وإنّما يكون إطلاقها على الفاسدة من باب المشاكلة ونحوها (5) من المجاز ، فلا اختلاف بين الشرع والعرف في أصل المفهوم

ص: 41


1- لم نعثر عليه.
2- البقرة : 275.
3- هو الشيخ محمّد تقي الأصفهاني.
4- في « ع » و « م » : « أسامي ».
5- في « ط » و « م » بدل « ونحوها » : « ونحو ».

والمعنى ، غاية الأمر أنّ العرف ربما يزعمون صدق ذلك المعنى والمفهوم على أمر ليس ذلك مصداقا له في الواقع يكشف عنه الشارع ، فالاختلاف إنّما هو في المصداق الشرعي والعرفي بعد الاتّفاق على نفس المعنى والمفهوم. وحينئذ فإذا ورد من الشارع أمر بإمضاء معاملة من تلك المعاملات على وجه الإطلاق من دون ملاحظة قيد من القيود يحكم بالمشروعيّة عند الشكّ على وجه الإطلاق ، من دون حزازة ولا محذور (1).

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكره مخالف لصريح كلام الشهيد (2) ، كما لا يخفى على الناظر فيه.

وتوضيحه : أنّ الفاسد العرفي هو ما يصحّ عنه سلب الإسم حقيقة ، كبيع الهازل ، فإنّه ليس بيعا عندهم ، وإنّما إطلاقه عليه بنحو من المشابهة الصوريّة (3). وأمّا الفاسد الشرعي - كبيع الخمر وبيع المنابذة والحصاة - فهو بيع عند أهل العرف حقيقة. والفاسد في كلام الشهيد إنّما يراد به الفاسد الشرعي دون الفاسد العرفي ، وهو في غاية الظهور.

وثانيا : أنّ التوجيه المذكور لا ينهض بدفع الإشكال بوجه.

وبيانه : أنّ الوجه في الرجوع إلى متفاهم العرف عند إطلاق الألفاظ الواردة في المحاورات ، إمّا لتشخيص المفاهيم العرفيّة واللغويّة ؛ من حيث إنّ أنظارهم تكشف عن حقيقة المسمّى وواقع المعنى والمفهوم عند طروّ ما يوجب نحوا من الإجمال في المفهوم ، وإمّا لتشخيص موارد تلك المفاهيم ومصاديقها. والاشتباه في

ص: 42


1- هداية المسترشدين 1 : 491 - 492.
2- المتقدّم في الصفحة 38.
3- في « ط » و « م » زيادة : « مثلا ».

المصاديق قد يكون تابعا للاشتباه في المفهوم ، من حيث إنّ المفهوم قد عرضه نحو من الإجمال على وجه يمكن استعلامه بعد تلطيف النظر وتدقيقه ، وقد لا يكون كذلك - للعلم بحقائق تلك المفاهيم على ما هي عليها في الواقع - وإنّما المجهول وجود ذلك المفهوم المعلوم في المورد الخاصّ ، وذلك ينحصر فيما إذا اشتبه المورد بغيره بواسطة عروض حالة خاصّة ، كما إذا اشتبه الرجل بالمرأة لعارض الظلمة ونحوها ، ولا نعقل وجها آخر للاشتباه في المصاديق غير ذلك بعد العلم بالمفهوم على ما هو عليه في الواقع.

فالموجّه إمّا يعترف بعدم الإجمال في المفهوم بوجه من الوجوه ، أو يلتزم بالإجمال على وجه لا يرتفع إجماله بالرجوع إلى العرف.

فعلى الأوّل ، لا وجه لعدم الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق.

فإن قلت : إنّ الشارع إنّما يحكم بخطإ العرف في الحكم بوجود ذلك المفهوم المعلوم عندهم في ذلك المورد والمصداق.

قلت : ذلك يجدي فيما إذا تبدّل حكم العرف بعد كشف الشارع عن الخطأ ، مثل حكمه بخطإ العرف في اعتقادهم طهارة الكافر ونظافته ؛ لاحتمال أن يكون هناك قذارة معنويّة يطّلع عليها الشارع دون غيره. وأمّا إذا لم يتبدّل الاعتقاد وكان حكمهم بوجود المصداق بعد الكشف مثل حكمهم به قبل الكشف ، كما في البيع بالفارسيّة ؛ إذ لا فرق قطعا في صدق البيع بدون الشرائط المقرّرة بعد العلم بحكم الشارع باعتبارها وقبله ، وليس الفاقد الشرعي كبيع الهازل في نظر العرف قطعا ، فلا وجه لما ذكره ، بل لا بدّ من الالتزام بأنّ الفاقد للشرائط الشرعيّة من حقيقة البيع ، لكن وجوب الوفاء بالعقد يختصّ بواجدها ، فيكون ذلك خروجا حكميّا.

وعلى الثاني ، فلا وجه للرجوع إلى العرف أصلا ، بل المعنى حينئذ ملحق بالمفاهيم المجملة التي لا مسرح للعرف فيها ، وقد فرّ الموجّه منه.

ص: 43

سلّمنا إمكان وقوع الاشتباه في المصاديق بعد العلم بالمفهوم من غير الجهة التي فرضناها ، ومع ذلك فلا ينهض قول الموجّه دافعا للإشكال ؛ إذ بعد فرض اختلاف نظر الشارع والعرف في تشخيص المصداق ، لا وجه للتمسّك بالإطلاق ؛ إذ غاية ما هناك حكم العرف بوجود ذلك المفهوم في المورد المشكوك على ما وصل إليه أنظارهم ، وهو لا يجدي ، بل لا بدّ أن يكون ذلك مصداقا في نظر الشارع. ولا دليل على أنّ ما هو المصداق العرفي هو المصداق الشرعي كما هو المفروض ، فاللازم تحصيل معيار شرعيّ لا مدخل للعرف فيه لأجل التشخيص المذكور.

فإن قلت : إنّ الرجوع إلى الإطلاق إنّما هو لأجل تحصيل ما هو المصداق واقعا ، وحيث إنّه لا يمكن الوصول إلى الواقع من دون أن يكون اعتقاد المكلّف طريقا إليه - كما يظهر ذلك بملاحظة ما لو جعل الشارع أيضا معيارا لتشخيص المصداق ، فإنّ وجود ذلك المعيار الشرعي أيضا منوط بنظر العرف دفعا للتسلسل - فلا بدّ أن يكون لاعتقاده مدخل فيه ، فما لم يعلم من الشارع الحكم بخطإ العرف ، فهم يعتقدون أنّه هو المصداق الشرعي ، ويجب عليهم إجراء أحكامه عليه.

قلت : ذلك يتمّ فيما إذا اتّحد نظر العرف والشرع في التشخيص ، وأمّا إذا اختلفا فلا وجه لذلك ، كما هو المفروض. وأمّا لزوم التسلسل ، فهو إنّما يكون بواسطة التزام (1) اختلاف الأنظار العرفيّة والشرعيّة ، كما لا يخفى. وأمّا الحكم بالخطإ فقد عرفت أنّه لا يجدي فيما لا فرق في الصدق بعده وقبله.

وبالجملة : فلا نعلم وجها لتصحيح ما أفاده الشهيد رحمه اللّه ، ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ النزاع لا يجري في ألفاظ المعاملات ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل والموفّق.

ص: 44


1- في « ط » : « إلزام ».

هداية

قد تقدّم منّا (1) الإشارة إلى ما هو المراد بلفظ « الصحيح » ونزيد توضيحا في المقام ، فنقول :

ليس المراد به ما هو المنسوب إلى الفقهاء : من أنّ الصحيح ما أسقط القضاء (2) ، أو إلى المتكلّمين : من أنّه ما وافق الشريعة (3) ؛ إذ الصحّة على الوجهين من الصفات الاعتباريّة المنتزعة عن محالّها بعد تعلّق الأمر بها ، ولا يعقل أن يكون داخلا في الموضوع له.

بل المراد به الماهيّة الجعليّة الجامعة للأجزاء والشرائط التي لها مدخل في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها عليها ، ويعبّر عنه في الفارسية ب- « درست » وهو معناه لغة. وقد ذكرنا في محلّه أنّ الفقهاء والمتكلّمين أيضا لم يصطلحوا على إبداع معنى جديد غير ما هو المعهود منه في اللغة.

وعن الوحيد البهبهاني (4) : أنّه نسب إلى القوم أنّهم غير قائلين بدخول الشرائط ، فهم أعمّيون بالنسبة إلى الشرائط.

وهو غير ثابت ، مضافا إلى ما هو المعروف بينهم (5) من أنّ قوله : « لا صلاة

ص: 45


1- راجع الصفحة 33 - 34.
2- انظر نهاية الوصول : 2. وزبدة الاصول : 45 ، والقوانين 1 : 157.
3- انظر نهاية الوصول : 2. وزبدة الاصول : 45 ، والقوانين 1 : 157.
4- لم نعثر عليه ، انظر الفوائد الحائريّة : 103.
5- انظر ضوابط الاصول : 28.

إلاّ بطهور » (1) لا إجمال فيه على القول بالصحيح ؛ فإنّ الطهور من جملة الشرائط ، واعتباره جزءا يوجب سقوط التفصيل ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد من الأجزاء والشرائط هل هي الشخصيّة أو النوعيّة؟ يعني أنّ المراد منها ما هي ثابتة في حقّ القادر المختار العامد العالم ، أو ما هي واجبة على المكلّفين المختلفين حسب اختلاف الموضوعات : من الجهل والنسيان والاضطرار والاختيار والعلم والعمد ونحوها؟ وجهان غير خاليين عن محذور وإشكال.

إذ على الأوّل ، يلزم أن لا يكون غيره من الأفعال الواقعة من المكلّفين في هذه الموضوعات صلاة على وجه الحقيقة ، وتكون أبدالا عنها مسقطا لها ، والتزامه وإن كان لا يستلزم محالا إلاّ أنّه بعد في غاية الإشكال.

وعلى الثاني ، فإمّا أن يكون لفظ « الصلاة » مقولا بالاشتراك اللفظي على تلك الماهيّات المختلفة ، أو بالاشتراك المعنوي. والأوّل فساده ظاهر ، والثاني غير معقول في وجه ومستلزم لمحذور في وجه آخر.

بيان ذلك : أنّ القدر الجامع بين تلك الماهيّات لا بدّ وأن يكون بحيث يوجد في كلّ منها إذا وقعت صحيحة ومنتفية (2) إذا وقعت فاسدة ، وقد تكون الصحيحة من مكلّف بعينها فاسدة من آخر ، فصلاة المريض تصحّ بدون القيام وهي فاسدة من الصحيح ، وصلاة ناسي القراءة (3) كذلك ، كصلاة الغريق والمطاردة والمسايفة ونحوها.

فذلك القدر الجامع لا يعقل أن يكون أمرا مركّبا موجودا في تلك الماهيّات ؛ لما عرفت من أنّه كلّ ما يتصوّر جامعا فيحتمل أن يكون ذلك المركّب فاسدا

ص: 46


1- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.
2- كذا في النسخ ، والمناسب : « ومنتفيا ».
3- في « ع » و « م » بدل « القراءة » : « الفاتحة ».

وصحيحا بالنسبة إلى موضوعين ، فلا محالة لا بدّ من أن يكون ذلك القدر الجامع أمرا بسيطا يحصل في الواقع بواسطة تلك الأفعال المركّبة الخارجيّة (1) ، وتكون هذه المركّبات محقّقة له إذا وقعت صحيحة دون ما إذا وقعت فاسدة.

وهو إمّا أن يكون هو المطلوب أو ما هو في مرتبته ، وإمّا أن يكون ملزوما مساويا للطلب.

والأوّل غير معقول ؛ ضرورة توقّفه على الموضوع ، ولا يعقل أن يؤخذ في الموضوع ما هو موقوف عليه ، مضافا إلى استلزامه ترادف الصلاة والمطلوب ، وهو بديهيّ الفساد ، ومع كلّ (2) ذلك فيرد عليه ما ستعرفه.

والثاني مناف لذهاب المشهور القائلين بالوضع للصحيح (3) إلى جواز التمسّك بأصالة البراءة ، بل وقد ادّعي الإجماع على جوازه (4).

وتوضيحه : أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن لا يعلم عنوان المكلّف به بوجه.

الثاني : أن يكون العنوان معلوما ، وإنّما الشكّ في حصول ذلك العنوان في ضمن الأقلّ أو الأكثر.

فعلى الأوّل ، فالمشهور - كما هو التحقيق عندنا - على البراءة.

وعلى الثاني ، فاللازم هو الاحتياط ؛ للقطع بالمكلّف به مع الشكّ في حصوله في الخارج ، مضافا إلى أصالة عدم حصول ذلك المفهوم المعيّن بهذه الأفعال في

ص: 47


1- لم يرد « الخارجيّة » في « ع ».
2- « كلّ » من « ع ».
3- في « ع » و « م » بدل « بالوضع للصحيح » : « للصحيحي ».
4- انظر مناهج الأحكام : 28 ، وضوابط الاصول : 23 ، والقوانين 1 : 52 و 55.

الخارج ، كما في الطهارة على القول بعدم إجمالها ، فإنّه إذا شكّ في حصولها بالغسل مرّة أو مرّتين يجب الاحتياط في ذلك. ولعلّه لم نجد مخالفا فيه بعد تسليم الصغرى.

والعمدة في إثبات الأخذ بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة هو ملاحظة هذه المقدّمة ، فإنّ نظر القائل بالاشتغال إلى أنّ الصلاة إنّما هو عنوان للمكلّف به فيجب العلم بحصولها في الخارج ، ونظر القائل بالبراءة أنّ الصلاة إذا كانت مجملة - غير معلومة المعنى والمراد - ليست عنوانا ، بل إنّما الواجب هو امور خاصّة كالتكبير والركوع والقراءة ونحوها ، والتعبير عنها بالصلاة إنّما يجدي إذا كانت تلك الأجزاء هي الصلاة ، وبعد ما فرض عدم العلم بها وإجمالها ، إنّما يكون تعبيرا صوريّا ، كما أوضحنا سبيله في محلّه.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ الالتزام بوجود قدر مشترك بسيط بين تلك الماهيّات المختلفة - كالماهيّة المبرئة للذمّة ، أو التركيب الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر بالخاصّية ونحو ذلك - وقلنا : بأنّ الصلاة إنّما هي موضوعة له في الواقع ، يوجب المصير إلى الاشتغال عند الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة ؛ لأنّ مرجع الشكّ إلى أنّ تلك الأفعال الواقعة في الخارج هل أوجب حصول ذلك الأمر البسيط وسقوط الاشتغال أو لا؟ بعد القطع بوجوب تحصيل ذلك الأمر. وهذا هو بعينه مورد الاشتغال والاحتياط اللازم.

لا يقال : إنّ مجرّد العلم بوجود قدر مشترك بسيط لا يوجب ذلك ، بل لو كان معلوما على وجه التفصيل ، والمفروض إجمال اللفظ وعدم العلم بالموضوع له ، وكلّ ما يتصوّر من العناوين - كالمبرئ وغيره - فإنّما هو أمر يحتمل أن يكون هو الموضوع له ، لا أنّه هو.

لأنّا نقول : لا فرق في ذلك بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، فمتى علم بوجوب أمر واشتغال الذمّة به وجب تفريغ الذمّة عنه قطعا ، وهذا هو المراد بالمحذور.

ص: 48

فالوجه في المقام هو الالتزام بأنّ المراد من الأجزاء والشرائط الشخصيّة منها.

وأمّا ما عرفت من الإشكال على ذلك التقدير : من لزوم استعمال اللفظ في غير المركّب الجامع للشرائط الواقعيّة الاختياريّة مجازا ، فيمكن دفعه بأنّ المتشرّعة توسّعوا في تسميتهم إيّاها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع ، من حيث حصول ما هو المقصود من المركّب التام من غيره أيضا ، كما سمّوا كلّ ما هو مسكر خمرا وإن لم يكن مأخوذا من العنب ، مع أنّ الخمر هو المأخوذ منه ، وليس بذلك البعيد.

ونظير ذلك لفظ « الإجماع » فإنّه في مصطلح العامّة والخاصّة - على ما يظهر من تحديداتهم (1) - هو اتّفاق الكلّ ، ثمّ إنّهم لمّا وقفوا على حصول ما هو المقصود من اتّفاق الكلّ في اتّفاق البعض الكاشف ، توسّعوا في إطلاق « الإجماع » على مثل ذلك الاتّفاق ، وصار من موارد استعمال لفظه على وجه الحقيقة عندهم.

فكان مناط التسمية ب- « الصلاة » موجودا عندهم في غير ذلك المركّب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي.

فإن قلت : فعلى هذا إذا ورد كون شيء شرطا في الصلاة - كالطهارة مثلا - لا وجه لاشتراط غير ذلك الجامع بالشرط المذكور ؛ إذ المفروض أنّ الصلاة عند الشارع هو ذلك المركّب ، فثبوت ذلك الشرط لغيرها موقوف على دلالة دليل.

قلت : ولعلّ ثبوت الاشتراط لذلك الجامع كاف في ثبوته لغيره ؛ للإجماع على عدم اختلاف تلك الأبدال في جميع الامور المعتبرة في المبدل منه إلاّ ما تعذّر.

فإن قلت : الظاهر ثبوت الشرط بغيره بواسطة كونه صلاة ، ولا يلتفت إلى ذلك الإجماع (2) ، بل لو ثبت الإجماع فإنّما هو أيضا بواسطة كونه صلاة.

ص: 49


1- انظر فرائد الاصول 1 : 184 - 185.
2- في « ع » بدل « الإجماع » : « الجامع ».

قلت : ذلك ممنوع عند التأمّل كما لا يخفى. وما يتراءى في الأنظار من ثبوت ذلك بواسطة صدق اسم « الصلاة » ، فهو إنّما يكون من حيث عدم التأمّل وحسبان أنّ لفظ « الصلاة » كسائر الألفاظ المعلومة الغير المجملة.

والإنصاف : أنّ القول بأنّ الصلاة شرعا هو المركّب التام ، وباقي الأفعال إنّما سمّيت صلاة توسّعا في التسمية - كما عرفت نظيره في لفظ « الإجماع » - ليس بعيدا ، بل الظاهر والمظنون بالظنّ القوي أنّه كذلك في نفس الأمر. ولا يلزم ما تقدّم من المحذور ، وهو عدم جواز الرجوع إلى البراءة ؛ فإنّ الصلاة حينئذ تكون اسما لذلك المركّب الغير المعلومة الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر ، وحصول الإبراء أو النهي عن الفحشاء إنّما هو من لوازم المأمور به ، لا نفسه. وقد تحقّق في مورده جريان البراءة إذا كان نفس المكلّف به دائرا بين الأقلّ والأكثر ، لا ما به يتحقّق (1) المكلّف به ، كما عرفت إجمالا. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 50


1- في « ط » : « ما يتحقّق ».

هداية في بيان المراد من القول بالأعم

اشارة

فاعلم أنّ الظاهر من كلماتهم وجوه :

أحدها : ما يظهر من المحقّق القمّي (1) : كون ألفاظ العبادات أسماء للقدر المشترك بين أجزاء معلومة ، كالأركان الأربعة في الصلاة ، وبين ما هو أزيد من ذلك ، وإن لم يقع شيء من تلك الأركان أو ما هو زائد عليها صحيحة في الخارج ، فجميع هذه الأفراد - أعني الصحيحة المشتملة على الأركان والزائدة عليها والفاسدة المقتصرة عليها والزائدة عليها - من حقيقة الصلاة ، ويطلق (2) على جميعها لفظ « الصلاة » على وجه الاشتراك المعنوي.

ولعلّ نظره - بعد ما ذهب إليه من القول بالأعم - إلى الحكم بإجزاء الصلاة المشتملة على الأركان وإن لم يشتمل على جزء غيرها إذا وقعت سهوا أو نسيانا ، فجعل الأركان مدار صدق التسمية. ولازمه انتفاء الصدق بانتفاء أحد (3) الأركان وإن اشتملت على بقيّة الأجزاء ، والصدق مع وجودها وإن لم يشتمل على شيء من الأجزاء والشرائط.

ص: 51


1- القوانين 1 : 43.
2- في « ع » بدل « يطلق » : « يصدق ».
3- لم يرد « أحد » في « م ».

وهو ممّا ينبغي القطع بفساده ؛ لأنّه منقوض طردا وعكسا ، كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّ ذلك أمر غير معقول ؛ إذ لا يعقل القدر المشترك بين الزائد والناقص على وجه يكون الزائد أيضا من حقيقة ذلك القدر المشترك ولا يكون الزيادة من أجزاء الفرد.

وتوضيحه : أنّ القدر المشترك بين الزائد والناقص :

تارة : يراد به أن يكون الزيادة في الفرد الزائد داخلا في حقيقة الفرد خارجا عن حقيقة القدر المشترك ، ويكون الزيادة معتبرة بالنسبة إلى نفس القدر المشترك - لو قلنا بإمكان وجوده مع قطع النظر عن لحوق شيء مخصّص له من الفصول أو شيء آخر - وبالنسبة إلى الفرد الآخر الزائد على القدر المشترك أيضا ، لو قلنا بامتناع وجود القدر المشترك (1) من دون لحوق المخصّص.

وتارة : يراد به أن يكون الزيادة داخلة في حقيقة القدر المشترك ، فيكون ماهيّة واحدة تارة زائدة واخرى (2) ناقصة.

والأوّل - لو قلنا بإمكانه ومعقوليّته - فهو ممّا لا يلتزم به القائل المذكور ؛ لظهور كلماته طرّا في أنّ الصحيحة من حقيقة الصلاة كالفاسدة ، فإطلاق لفظ « الصلاة » على كلّ واحدة من الصحيحة والفاسدة ليس من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في الفرد ، ليكون حقيقة في وجه ومجازا في آخر.

والثاني غير معقول ؛ ضرورة امتناع اختلاف معنى واحد بالزيادة والنقصان.

فإن قلت : ما ذكرته مبنيّ على امتناع التشكيك في الذاتيّات ، ولم يثبت ذلك ، كيف! وقد ذهب جماعة من أرباب المعقول إلى إمكانه (3).

ص: 52


1- في « ط » زيادة : « أيضا ».
2- في « م » بدل « اخرى » : « تارة ».
3- انظر الأسفار الأربعة 1 : 432 - 433.

قلت : ما ذكرنا (1) باطل وإن قلنا بإمكان التشكيك ؛ ضرورة وجود الفرق بين المقامين ، فإنّ القائل بإمكانه إنّما يقول به فيما كان الزائد بعينه من جنس الناقص ، ويكون ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك ومن سنخه ، بخلاف المقام ؛ فإنّ الزائد مباين للناقص ، وهو مستحيل بالضرورة لا يحتاج إلى تجشّم الاستدلال وتطويل المقال.

فإن قلت : نحن لا نقول بأنّ تلك الأركان المخصوصة قدر مشترك بين الزائد والناقص ليلزم ما ذكر من المحذور ، بل نقول : إنّ لفظ « الصلاة » مثلا موضوعة للأركان المخصوصة ، وباقي الأجزاء خارجة عنها وعن المسمّى ، لكن مقارنتها لغيرها لا يمنع من صدق اللفظ على مسمّاه.

قلت : ذلك أيضا ممّا لا يلتزم به القائل المذكور ؛ إذ بناء على ذلك يصير استعمال اللفظ في الصحيحة المستجمعة للشرائط والأجزاء من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، وهو مجاز قطعا ، والظاهر من كلامه كونه حقيقة ، بل واستعماله في الفاسدة مع الزيادة على الأركان أيضا مجاز.

ولا وجه لما يتوهّم : من أنّه يمكن أن يكون الاستعمال المذكور حقيقة ، من قبيل استعمال الحيوان الموضوع للجزء في الإنسان ؛ لأنّ استعماله في الحيوان الناطق مجاز ولو بملاحظة علاقة الكلّي والفرد ، فكيف بملاحظة علاقة الكلّ والجزء ، وهو في غاية الظهور.

والحاصل : أنّ القائل بالأعم على هذا الوجه ، إمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للقدر الجامع بين الأقلّ والأكثر والناقص والزائد على وجه تكون الزيادة من حقيقة القدر المشترك ، وإمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للأجزاء المعيّنة

ص: 53


1- في « ع » : « ما ذكرت ».

والأركان المخصوصة. والأوّل غير معقول ، مضافا إلى استلزامه أن يكون إطلاق « الصلاة » على كلّ واحد من الناقص والزائد - صحيحة أو فاسدة - من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون به. والثاني يستلزم أن يكون إطلاقها على الصحيحة الزائدة والزائدة الفاسدة (1) إطلاقا مجازيّا ، وهو ممّا لا يلتزم به القائل المذكور قطعا ، كما يظهر بملاحظة كلامه.

الثاني : ما نسبه البعض (2) إلى جماعة من القائلين بالأعم - بل قيل (3) وهو المعروف بينهم - : أنّ لفظ « الصلاة » موضوعة لمعظم الأجزاء ، وهو ما يقوم به الماهيّة (4) العرفيّة ، ومعها لا يصحّ سلب الاسم عنها ، فكلّما حصل صدق الاسم عرفا يستكشف به عن وجود المسمّى فيه. فعلى هذا عكسه وطرده سليمان عن الانتقاض ؛ إذ متى ما تحقّق معظم الأجزاء صدق الاسم من دون نقص (5).

لكن يرد عليه : أنّه إن اريد أنّ اللفظ موضوع لمفهوم معظم الأجزاء الذي لا يختلف ذلك المفهوم باختلاف مصاديقه ، ففساده غنيّ عن البيان ؛ بداهة أنّ لفظ « الصلاة » لا ترادف لفظ « معظم الأجزاء » ، وإن اريد أنّه موضوع لمصداقه ، فلا ريب في اختلاف تلك المصاديق بواسطة تبادل الأجزاء وجودا وعدما.

وحينئذ فإمّا أن يقال : بأنّ اللفظ موضوع لمصداق واحد من تلك المصاديق المختلفة بالتبادل.

ص: 54


1- في « م » : « الفاسدة الزائدة ».
2- لم نعثر عليهما.
3- لم نعثر عليهما.
4- في « ط » بدل « الماهيّة » : « الهيئة ».
5- كذا ، وفي نسخة بدل « ط » بدل « نقص » : « نقيض » ، والمناسب : « نقض ».

وإمّا أن يقال : بوضعه للقدر المشترك بين تلك المصاديق.

وإمّا أن يقال : بأنّه موضوع لكلّ واحد منها على وجه الاشتراك اللفظي ، أو على الوضع العام والموضوع له الخاص.

والأوّل - بعد الإغماض عن سؤال تعيينه - يوجب أن لا يكون حقيقة في غيره ، صحيحة كانت أو فاسدة.

والثاني غير معقول ؛ ضرورة بطلان تبادل أجزاء ماهيّة واحدة بذهاب جزء وقيام آخر مقامه.

والثالث والرابع ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم ، مضافا إلى استلزامه أن يكون استعمال اللفظ فيما زاد عن معظم الأجزاء مجازا ، صحيحة كانت أو فاسدة. والقول بكونه حقيقة فيما زاد يلازم الاشتراك اللفظي ، وهو ممّا لا يلتزم به. والاشتراك المعنوي بين المعظم والتمام قد عرفت حاله.

الثالث : أن يكون اللفظ موضوعا للمركّب من جميع الأجزاء ، لكن لا من حيث هو ، بل من حيث كونه جامعا لجملة أجزاء هي ملاك التسمية ومناطها ، فإذا فقد بعض الأجزاء وصدق الاسم عرفا يعلم منه أنّ مناط التسمية باق ، نظير الأعلام الشخصيّة التي توضع للأشخاص ، فإنّ « زيدا » إذا سمّي بهذا الاسم في حال صغره كان الموضوع له هذه الهيئة الخاصّة ، لكن لا من حيث إنّها تلك الهيئة الخاصّة ، ولذا لا يفترق في التسمية مع طريان حالات عديدة وهيئات غير متناهية بين الرضاع والشيخوخيّة ، وليس ذلك بأوضاع جديدة ، بل تلك الاستعمالات في تلك المراتب من توابع وضع الأوّل.

ولا وجه لما قد يتخيّل : من أنّ الأعلام الشخصيّة ليست موضوعة للمركّبات ، بل إنّما هي موضوعة للنفوس الناطقة المتعلّقة بالأبدان ، فإنّ من المعلوم

ص: 55

كون زيد حيوانا ناطقا (1) ، ولازمه أن يكون جسما ، وليس زيد من المجرّدات ، كما لا يخفى. مضافا إلى أنّ الوضع في جميع المركّبات الكمّية الخارجيّة كذلك - كما في لفظ « السرير » و « البيت » و « المعاجين » - فالتزام ذلك في الأعلام الشخصيّة لا يجدي في دفع المحذور. مضافا إلى أنّه يكفي في المحذور مجرّد ارتباط بالبدن ، كما هو ظاهر ، فتدبّر. ولعلّه مراد من قال : بأنّ المسمّى شرعيّ والتسمية عرفيّة.

وفيه : أنّ القول بالوضع لمعنى - لكن لا من حيث إنّه ذلك المعنى ، بل من حيث كونه جامعا لملاك التسمية - راجع في الحقيقة إلى القول بكون المسمّى هو القدر المشترك بين الزائد والناقص ؛ إذ لا يعقل أن يكون شيء مورد الوضع ولا يكون هو الموضوع له بالخصوص على وجه لا يكون له شريك في ذلك من حيث تعلّق ذلك الوضع الخاصّ به. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّه من باب الوضع الخاص والموضوع له العام ، على عكس ما هو المعروف من الوضع في المبهمات ، إلاّ أنّ ذلك أيضا غير خارج عن الاشتراك المعنوي إذا كان الموضوع له هو نفس العام ، وعن الوضع العام والموضوع له الخاص إذا كان الموضوع له مصاديق ذلك العام. والأوّل - كما مرّ غير مرّة - غير معقول ، والثاني ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم ، ولا يساعده شيء من كلماتهم في الأدلّة والأجوبة ، كما لا يخفى.

وهناك وجه آخر في تصوير مذهب القائل بالأعم ، وهو أن يكون الموضوع له هو المركّب من جميع الأجزاء من حيث هو ، لكنّ العرف تسامحوا في إطلاق اللفظ على فاقد بعض الأجزاء ؛ لما هو المودع في سجاياهم والمركوز في طبائعهم : من عدم ملاحظتهم في إطلاق الألفاظ الموضوعة للمركّبات أن يكون المستعمل فيه جامعا لجميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، بل يطلقون على الناقص اسم الكامل مسامحة ، لكن لا على سبيل المجاز ، بل على سبيل الحقيقة بأحد من الوجهين :

ص: 56


1- لم يرد « ناطقا » في « ع ».

أحدهما : تنزيل ما هو المعدوم منزلة الموجود ، ثمّ إطلاق اسم الكامل على الناقص ، فإنّ ذلك لا يستلزم مجازا في اللفظ - كما في الاستعارة على ما يراه السكّاكي (1) - بل التصرّف إنّما هو في أمر عقلي.

وثانيهما : دعوى حصول الوضع للناقص على وجه التعيّن دون التعيين ، إلاّ أنّه ليس كسائر الأوضاع التي يتوقّف على كثرة الاستعمال وامتداد مدّة طويلة ، بل يكفي فيه عدّة استعمالات من حيث المشابهة الصوريّة والانس ، وذلك ممّا لا ينبغي أن يستبعد عند الملاحظ المتأمّل في طريقة المحاورات العرفيّة ، فإنّ من اخترع معجونا سمّاه « المفرّح الياقوتي » يتسامح في إطلاقه على الناقص جزءا (2) ، تنزيلا له منزلة الموجود ، بل ولا يبعد دعوى حصول الوضع له سيّما إذا كانت عمدة التأثير الحاصل بالمركّب التام حاصلا به أيضا ، كما أومأنا إليه في تصوير مذهب القائل بالصحيح. إلاّ أنّ الفرق بين القولين - بعد توافقهما في أنّ الصلاة بحسب الوضع الشرعيّ مخصوص بذلك المعجون التامّ - : أنّ القائل بالأعم يدّعي حصول الحقيقة في الأفراد الفاسدة أيضا ، والقائل بالصحيح يقصر في دعوى ذلك على الأفراد الصحيحة.

وهو أيضا مشكل ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ القائل بالأعم أيضا لا يتأتّى منه الأخذ بالإطلاق.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المفروض أنّ الناقص جزءا قد تكون صحيحة من أحد وفاسدة من آخر ، ولا يعقل كون اللفظ حقيقة في الناقص من حيث كونه صحيحا ومجازا من حيث كونه فاسدا. فتأمّل في المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

ص: 57


1- مفتاح العلوم : 164 - 165.
2- لم يرد « جزءا » في « م ».

تذنيب :

إذا كانت العبادة مشتملة على أجزاء مسنونة فهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون جزءا لأفضل أفراد العبادة ، بحيث يكون العبادة الجامعة لها مستحبّة ، ويكون هذا الجزء مقدّمة لحصولها. ولازمه استحباب الجزء على وجه الغيريّة ؛ لكونه مقدّمة للوصول إلى ذلك المستحبّ النفسي ، ولا ينافي ذلك وجوبه تخييرا ، كما قرّر في محلّه.

وثانيهما : أن يكون نفس الجزء مطلوبا نفسيّا في أثناء تلك العبادة ، فهو في الحقيقة خارج عنها ، وإنّما يتوصّل بالعبادة إليه لأنّه ممّا ينبغي إيجاده فيها ، فيترشّح منه إليها استحباب تبعيّ مقدّميّ على العكس من الأوّل.

وعليه يصير من جملة أفعال تلك العبادة كالصلاة - مثلا - فيجب تلبّسه بالشروط المقرّرة لأفعالها ، فلو خلا عنها فسدت الصلاة ، كأن يكون في الإتيان به مرائيا ، وعلى الثاني يفسد الجزء من دون سراية إلى تلك العبادة.

نعم ، لا فرق بين القسمين فيما إذا كانت الشروط شروطا لأكوان العبادة ، لكنّ الوجه فيه بطلان نفس العبادة بواسطة فقد الشرط ، ولا مدخل لفساد الجزء فيه ، كما لا يخفى.

وعلى الأوّل - أيضا - لو قلنا باستحباب التسليم ، فلو شكّ فيه (1) قبله وبعد التشهّد لم يكن شكّا بعد الفراغ ، وعلى الثاني يكون شكّا بعد الفراغ ، فإنّه حينئذ خارج عن الصلاة ، واستحبابه عقيب التشهّد إنّما هو من قبيل استحباب عمل مشروط بلحوقه بعمل آخر ، وذلك لا يقضي كونه محسوبا من أجزائه ليحكم عليه بأحكامها ، كما لا يخفى.

ص: 58


1- لم يرد ( فيه ) في « ط » و « م ».

قال العلاّمة رحمه اللّه في المنتهى : من عليه فائتة ، هل يستحبّ له الإتمام في مواطن التخيير؟ الأقرب نعم ؛ عملا بالعموم ، وكان والدي رحمه اللّه يمنع ذلك ؛ لعموم قوله عليه السلام : « من عليه فريضة لا يجوز له فعل النافلة » (1)(2).

أقول : إن كان الوجه فيه كون الركعتين الأخيرتين من النوافل - بناء على القول بعدم كون نيّة الإتمام ملزما ، ويكون المصلّي بعد التشهّد مخيّرا بين القصر والإتمام - فهو مبنيّ على المضايقة. وإن كان الوجه فيه كون الركعتين الأخيرتين من الأجزاء المستحبّة ومن عليه فائتة لا يجوز له الإتيان بها ، فلازمه منع القنوت والتكبيرات المستحبّة وغيرها ، ولم نقف على ملتزم به. واللّه الموفّق وهو الهادي.

ص: 59


1- انظر الوسائل 3 : 166 ، الباب 35 من أبواب المواقيت ، الحديث 7 ، 8 و 9.
2- منتهى المطلب 6 : 367.

ص: 60

هداية

اشارة

قد ذكر بعضهم (1) للنزاع المذكور (2) ثمرات ، عمدتها : البيان فيمكن التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار شيء في المسمّى شطرا أو شرطا على القول بالأعم ، والإجمال فلا إطلاق حتّى يتمسّك به على القول بالصحيح.

وتوضيحه : أنّ الشكّ المتعلّق بالأجزاء والشرائط قد يكون على وجه يشكّ معه في الصدق فلا إطلاق على القولين ، وقد يكون في اشتراط أمر خارج عمّا هو المسمّى عرفا : فعلى القول بالأعم يتوجّه في دفعه التمسّك بالإطلاق ، وعلى القول بالصحيح لا يكتفى بصدق المسمّى عرفا ، بل إنّما هو محمول عنده على أحد الوجوه التي قد عرفت بعضها وستعرف بعضا آخر ، فلا إطلاق عنده ، فيكون من موارد الرجوع إلى الاصول العمليّة ، كما هو قضيّة الإجمال ، فإمّا قولا بالبراءة كما هو المختار ، وإمّا قولا بالاحتياط كما عليه بعض الأواخر (3).

وقد يقال : إنّ الثمرة تظهر في إجراء الأصل ، فعلى القول بالصحيح لا تجري أصالة البراءة عند الشكّ في اعتبار شيء في العبادة جزءا أو شرطا ، وعلى القول بالأعم تجري.

ص: 61


1- انظر هداية المسترشدين : 113 ، والفصول : 49 ، ومفاتيح الاصول : 49.
2- لم يرد « المذكور » في « ط ».
3- كالشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين 1 : 486.

واورد عليه (1) : بأنّ المشهور على البراءة مع ذهابهم إلى القول بالصحيح ، فلا ملازمة بينهما.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّه تفريع على ما اختاره من لزوم الاحتياط عند الإجمال ، لا أنّه تفريع على الصحيحة (2)(3).

وفيه : أنّ الظاهر من حكاية كلامه دعوى الملازمة. ولعلّ الوجه فيه ما عرفت في تصوير القول المذكور : من أنّ الالتزام بوضع اللفظ لمعنى بسيط حاصل بذلك العمل المركّب ملازم للقول بالاشتغال ، فلعلّ القائل المذكور إنّما تخيّل القول على هذا الوجه. وقد عرفت القضيّة في النقل (4) عنه.

وربما يظهر من بعضهم (5) : أنّ الدليل إذا كان من مقولة اللفظ لا بدّ من الاحتياط وإن كان مجملا ، وجواز الرجوع إلى البراءة أيضا إنّما هو (6) فيما إذا كان الدليل لبّيا.

ولعلّ نظره إلى أنّ الدليل إذا كان لفظيّا فيستكشف منه وجوب إحراز مدلوله في الخارج ولا يعلم به إلاّ بعد الاحتياط.

وفيه : أنّ الدليل المجمل ملحق بالدليل اللبّي ، وصحّة انتزاع المدلول والمسمّى غير مفيد بعد كونه مجملا ؛ لأنّه غير مأمور به ، لإمكان انتزاع نحوه فيما إذا علم بالدليل اللبّي أمرا مردّدا بين الأقلّ والأكثر.

ص: 62


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم ادّعى في ضوابط الاصول : 23 الإجماع على ذلك.
2- انظر ضوابط الاصول : 28.
3- في « ع » زيادة : « فلا ملازمة بينهما ».
4- لم يرد « في النقل » في « ط » و « م ».
5- انظر ضوابط الاصول : 28.
6- لم يرد « إنّما هو » في « ع ».

ثمّ إنّه قد يعترض على ما ذكرنا من الثمرة بوجوه :

منها : أنّه لا وجه للقول بالإجمال على القول بالصحيح (1) ؛ إذ بعد تتبّع الأخبار الكافلة لبيان تلك الأفعال - مثل رواية حمّاد (2) - وتصفّح المدارك الشرعيّة من الإجماع المستفاد من فتاوى الأخيار ، يحكم بكون الصلاة هي الأجزاء المعهودة ، فإذا شكّ في اعتبار جزء فيها من غير دلالة تطمئنّ بها النفس ، دفعناه بالأصل. وأيضا العادة قاضية بأنّه لو كان للصلاة أجزاء أخر غير ما هو المتعارف المعهود منها لكانت معلومة ؛ لتوفّر الدواعي على نقلها وضبطها.

وفيه : أنّ الأخبار البيانيّة بأنفسها معدودة في عداد المجملات ، ولا يكاد يتبيّن منها شيء ؛ فإنّ قوله عليه السلام في خبر حمّاد : « هكذا صلّ » وفي رواية الوضوء : « هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاّ به » (3) لا يعلم المشار إليه باسم الإشارة فيهما ؛ لدورانه بين وجوه مختلفة من الامور التي يحتمل مدخليّتها فيه ، مثل الحالات المكتنفة بالإمام عليه السلام زمانا ومكانا وغيرهما.

ثمّ إنّه لو علمنا المشار إليه فيهما ، فنعلم إجمالا بأنّ تلك الصلاة كانت مشتملة على أجزاء مسنونة غير متميّزة عن الواجبة عندنا ، فإذا وقع الشكّ في وجوب تلك الأجزاء لا وجه لاستكشاف وجوبها بالرواية ، للعلم بكونها غير باقية على ظاهرها. سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ تلك الأخبار تجعل تلك الألفاظ مبيّنة على وجه يرجع إلى إطلاقها عند الشكّ في اعتبار شيء ؛ ولذا اعترف المعترض بالرجوع إلى

ص: 63


1- القوانين 1 : 56.
2- الوسائل 4 : 673 ، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث الأوّل. وفي « ع » و « م » بدل « حمّاد » : « عمّار ».
3- الوسائل 1 : 308 ، الباب 31 من أبواب الوضوء ، الحديث 10.

الأصل عند عدم دلالة تطمئنّ بها النفس ، اللّهمّ إلاّ أن يريد به أصالة الإطلاق ، وهو كما ترى. وأمّا ظهور اختلاف كلمات العلماء في الأجزاء والشرائط فهو على وجه لا ينبغي إنكاره من المتتبّع. وأمّا توفّر الدواعي فلا نعرف له في المقام مزيّة اختصاص بالنسبة إلى غيره من الأحكام الشرعيّة.

ومنها : أنّه على القول بالأعم لا وجه للتمسّك بالإطلاق في استكشاف المطلوب (1) ؛ لأنّ المطلوب لا بدّ وأن يكون صحيحا ، لامتناع تعلّق طلب الشارع بالفاسد ، فكلّ واحد من المذهبين في حدّ واحد من عدم التمسّك بالإطلاق.

بل ربما قيل : بأنّه على القول بالأعم لا يعقل وجه صحّة لذلك ؛ لأنّ الصحّة إذا صارت قيدا للمأمور به فلا بدّ من تحصيل هذا القيد ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء فلا بدّ من الاحتياط ولا يجري البراءة ؛ إذ ليس هناك قدر متيقّن حينئذ ، بخلافه على القول بالصحيح ، فإنّ المكلّف به فيه نفس تلك الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر من دون عنوان ، فيصير الأقلّ قدرا متيقّنا في المكلّف به ، كما قرّر في محلّه (2).

وفيه : أنّه مغالطة ناشئة عن عدم تعقّل معنى الصحّة في المقام.

وتوضيحه : أنّ قول المعترض : « إنّ المطلوب لا بدّ وأن يكون صحيحا » إن أراد به الصحّة المنتزعة من الماهيّة التي تعلّق بها الطلب والأمر قبل تعلّق الطلب بها (3) فهذا ممّا يجب استكشافه بالإطلاق ، إذ لا سبيل إلى العلم بها بحسب الأسباب الظاهريّة إلاّ به. والسرّ في ذلك : أنّ المتكلّم إذا حاول طلب أمر على وجه من الوجوه فلا بدّ له من إظهار مقصوده على وجه مفيد لمقصوده ، فإذا أمر بعتق رقبة

ص: 64


1- انظر القوانين 1 : 56 - 57.
2- انظر فرائد الاصول 3 : 341 - 347.
3- لم يرد « بها » في « ط ».

على وجه الإطلاق وكان في مقام بيان تمام المراد من مطلوبه كان تمام مراده ومطلوبه هو المطلق ، وإلاّ كان عليه بيان مطلوبه على وجه التقييد ، وهذا أمر لا يكاد يختلف فيه من له دراية بأدنى المطالب النظريّة. فعلى هذا يكون المراد بالصحّة هو تماميّة الأجزاء وعدم اعتبار أمر آخر غير المطلق فيه ، واستكشاف ذلك من الإطلاق ممّا لا يدانيه شائبة الريب.

وإن أراد الصحّة المنتزعة من الماهيّة بعد تعلّق الطلب بها فهو محال أن يكون مأمورا به أو عنوانا له ؛ لأنّه من الامور الاعتباريّة المنتزعة من الفعل بواسطة مطابقته في الخارج لعنوان المأمور به.

وهذه المغالطة نظيرة لما غالط به بعض المحدّثين من أصحابنا (1) في التمسّك بعمومات البيع - من قوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) : من أنّ المراد بالعقود هي الصحيحة ، فالتمسّك بالعموم موقوف على العلم بكون العقد صحيحا ، فإذا اريد استكشاف الصحّة من العموم لزم الدور.

ووجه الدفع : ما أشرنا إليه من أنّ العموم كاشف عن الصحّة بالمعنى المذكور ، بل لا سبيل إليها إلاّ به ظاهرا.

فإن قيل : الفاسد خارج عن العموم قطعا ، والفرد المشكوك يحتمل أن يكون فاسدا ويحتمل أن يكون صحيحا ، فلا وجه للتمسّك بالعام عند الشكّ في دخول الفرد في العنوان المخصّص أو في العام ، كما قرّر في محلّه.

قلنا : ليس الفاسد خارجا عن العموم ، بل ليس الخارج إلاّ فاسدا ، وبعبارة ظاهرة : الفساد ليس عنوانا للأفراد الخارجة ، وإنّما هو وصف اعتباريّ منتزع من

ص: 65


1- هو المحدّث البحراني في الحدائق 18 : 374.
2- المائدة : 1.

الأفراد بعد اتّصافها بالخروج ، فكونها فاسدة موقوف على خروجها ، والعموم حاكم بدخولها ، فلا يتّصف بالفساد ، بل يجب اتّصافها بالصحّة ، إذ لا معنى للصحّة إلاّ هذا. وقد قرّرنا في محلّه جواز الرجوع بل وجوبه إلى العموم فيما إذا امتنع الوصف جعله عنوانا للعام أو للمخصّص - كما في وصفي الصحّة والفساد - بل قد يستكشف بالعموم دخول ما يمكن أن يؤخذ عنوانا للمخصّص ، ولكنّه لم يؤخذ ، كما في قولك : « أضف جيراني » مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه بالعموم يستكشف أنّه في جيرانه ليس من هو عدوّه.

وأمّا ما زعمه المعترض : من تقييد المطلوب بالصحيحة فيحصل الشكّ في حصول المكلّف به في الخارج ، فيظهر النظر فيه ممّا ذكرنا.

وتوضيحه : أنّه ناش عن عدم الفرق بين كون الصفة مأخوذة في موضوع الحكم وبين أن يكون لازما مساويا للموضوع ، فعلى الأوّل يجب إحرازه ، وعلى الثاني فما هو الموضوع بحكم اللفظ يلازم وجوده وجود لازمه ، وما ذكرنا بمكان من الظهور.

ومنها : أنّه على القول بالأعم لا إطلاق حتّى يتمسّك به ، ويقرّر ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ الخطابات الواردة في الشريعة - كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) مثلا - غير معلومة المراد حتّى عند المخاطب بها ، ومجرّد علم المخاطب بعدم إرادة المعنى اللغوي لا يوجب البيان. لا يقال : ذلك خطاب بالمجمل. قلنا : لا ضير فيه بعد البيان في محلّ الحاجة. وتكرّر فعل الصلاة منهم في كلّ يوم لا يلازم رفع الإبهام والإجمال من نفس الخطاب ؛ إذ من المعلوم عدم اطّلاعهم على تلك الماهيّة المخترعة قبل الخطاب ، وأمّا بعده في مقام الحاجة إلى العمل فلا يسلّم حصول البيان بالنسبة إلى المفهوم ، فهذه الإطلاقات على القول بالأعم أيضا من المجملات.

ص: 66


1- البقرة : 43 و 110 ، والنور : 56 ، والمزّمّل : 20.

وفيه : أنّ ذلك في غاية السخافة ؛ فإنّه إمّا أن يقال بعدم البيان ولو في محلّ الحاجة ، أو به عندها ، والأوّل باطل ، والثاني يلازم المطلوب ؛ إذ في محلّ الحاجة لا بدّ وأن يعلم المراد من الخطاب المجمل قبل الخطاب. اللّهمّ إلاّ بالقول بالبيان مع عدم التفات المخاطب إلى أنّه بيان لذلك المجمل ، وهو كما ترى.

وبالجملة : فمن المستبعد جدّا - لو لم نقل باستحالته - إجمال جميع هذه الخطابات المتكثّرة الواردة في ألسنة امناء الشرع من لدن بعث النبيّ صلى اللّه عليه وآله إلى زمان الغيبة.

وثانيها : أنّ هذه الإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة - على وجه لا يشذّ منها إلاّ شاذّ - بين أمرين كلّ منهما مانع عن الأخذ بالإطلاق :

فإمّا أن تكون واردة في مقام الإهمال دون البيان.

وإمّا أن تكون واردة في مقام بيان الخواصّ المترتّبة على العبادة المدلول عليها بالإطلاق والآثار المنتهية إليها.

فمن الأوّل : قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (2) وقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (3) ونحوها ، فإنّ الظاهر عدم ذهاب وهم إلى جواز التمسّك بهذه الإطلاقات الواردة في مقام الإهمال ، كأوامر الطبيب بشرب الدواء الموقوف بيانه على حضور زمان الحاجة.

ص: 67


1- آل عمران : 97.
2- البقرة : 183.
3- البقرة : 43.

ومن الثاني : قوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ) (1) وقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) و « الصلاة خير موضوع » (3) فإنّ هذه الإطلاقات نظيرة لما يتلهّج به الوعّاظ في مقام الإيعاد على ترك العبادة وبيان ما يترتّب عليها من الثواب ، فيكون المراد بها ما هو المفروغ كونه تلك العبادة بعد تشخيص مفاهيمها وتعيين أجزائها وشرائطها ، وأين ذلك من ورود المطلق في مقام يمكن التعويل عليه في دفع الشك في جزئية شيء أو شرطيّته ، كما لا يخفى.

وقد يمنع من ذلك ، بل يعدّ دعوى ورود هذه الإطلاقات المتكثّرة في غير مقام البيان مكابرة.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ الاطمئنان بورودها في مقام البيان غير حاصل بعد العلم بعدم ورود جميعها في مقام البيان.

لا يقال : إنّ العلم بورود البعض في مقام البيان كاف في الأخذ بالإطلاق.

لأنّا نقول : لو سلّم ذلك فإنّما هو فيما إذا كان معلوما على وجه التفصيل ، وأمّا إذا علم إجمالا واختلف مفاد تلك الإطلاقات فلا بدّ من الاقتصار على ما هو المتيقّن منها.

ثالثها : أنّ كثرة التقييدات الواردة على تلك المطلقات إنّما أوجبت وهنا في الرجوع إليها عند الشك.

وفيه - بعد الإغماض عن اطّراده - : أنّ كثرة القيد لو كان كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان فهو راجع إلى الوجه الثاني ، وإن لم يكن كاشفا

ص: 68


1- البقرة : 238.
2- العنكبوت : 45.
3- مستدرك الوسائل 3 : 43 ، الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث 9.

عن ذلك فلا مانع من الرجوع إلى الإطلاق وإن بلغ التقييد ما بلغ. نعم ، ورود القيد كاشف عن عدم ورود المطلق في مقام البيان من جهة ذلك القيد خاصّة دفعا للتنافي ، ولا مدخل له بسائر الجهات التي يمكن الأخذ بإطلاق المطلق فيها ، كما لا يخفى.

ورابعها : أنّ هذه الإطلاقات إنّما تكون مقيّدة بالمجمل ، كما في قوله صلى اللّه عليه وآله : « صلّوا كما رأيتموني اصلّي » (1) وقوله : « خذوا عنّي مناسككم » (2).

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان التقييد بذلك الأمر المجمل معلوما ، وأمّا إذا شكّ في أنّه هل هو قيد له أولا؟ فأصالة الإطلاق مصونة عن المانع. وما نحن فيه من قبيل الثاني ؛ فإنّ قوله : « صلّوا » يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ليكون حكاية عن فعل الملائكة والأنبياء ليلة المعراج ، ويحتمل أن يكون أمرا ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون واجبا ، وأن يكون مستحبّا ، فعلى الأوّل والثالث لا مدخل له بذلك المطلق ، فلا نعلم بكونه مقيّدا حتّى يؤخذ بقاعدة إجمال المقيّد. وكذا قوله : « خذوا عنّي مناسككم » يحتمل الوجهين ، كما هو ظاهر.

لا يقال : إنّ ظاهر الأمر هو الوجوب كما هو قضيّة أصالة الحقيقة ، وبعد ذلك لا بدّ أن يكون مقيّدا ، فيتمّ المطلوب.

لأنّا نقول : إنّ ما ذكرنا إنّما هو على سبيل التنزّل والمماشاة ، وإلاّ فمن المعلوم وجوب حمل تلك الأوامر على الاستحباب ؛ ضرورة اشتمال صلاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله على الأجزاء المسنونة ، فيكون الأمر بها نظير الأمر بأفضل أفراد الواجب التخييري الموصوف بالاستحباب قطعا.

ص: 69


1- عوالي اللآلي 1 : 198 ، الحديث 8.
2- عوالي اللآلي 1 : 215 ، الحديث 73.

وقد يذكر للنزاع ثمرة أخرى (1) ، وهو برء النذر فيما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم وعدمه ، فعلى القول بالأعم لو شاهد مصلّيا وأعطاه درهما تبرأ ذمّته من غير حاجة إلى الفحص عن صحّة صلاته ، وعلى القول بالصحيح لا تبرأ ذمّته بدون الفحص.

وفيه : أنّه إن اريد أنّ مجرّد صدق اسم الصلاة يوجب البرء من دون إحراز الصحّة بوجه شرعي ، فهو مبنيّ على أن يكون مراد الناذر إيجاد صورة الصلاة صحيحة كانت أو فاسدة ، وعلى تقديره فلا فرق فيه بين المذهبين ، غاية الأمر أنّه على الصحيح يكون استعمال اللفظ من عموم المجاز - كما لا يخفى - ولا ضير فيه بعد ما فرض من أنّ مراد الناذر هو إيجاد الصورة.

وإن اريد أنّه مع الصدق لا بدّ من إحراز الصحّة بواسطة أصالة الصحّة المعمولة في الأفعال ، فلا فرق أيضا بين المذهبين ؛ فإنّ الصحيحي أيضا يحمل الأفعال المشكوك في صحّتها وفسادها على الصحيح الواقعي ، والقول بحملها على الصحّة عند الفاعل - بعد فساده في نفسه - ممّا لا يجدي في المقام.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ الصحيحي وإن كان يقول بلزوم الحمل على الصحّة ، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يكفي في البرء ، بل لا بدّ من صدق الصلاة أيضا ، والمفروض أنّ الصحّة الواقعيّة لا تلازم صدق العنوان بحسب الظاهر ، فإنّ حمل الكلام المردّد بين الشتم والسلام على الصحيح لا يوجب صدق عنوان السلام - كما قرّر في محلّه - إلاّ أنّ ذلك إنّما هو ناش من إجمال لفظ « الصلاة » على القول بالصحيح ، فلا بدّ أن يراد به الأعمال المعهودة التي يعلم وجودها ووجوبها في الخارج ، وإلاّ كان باطلا ، لعدم تعقّل (2) تعلّق النذر في قصد الناذر

ص: 70


1- ذكرها المحقّق القمّي في القوانين 1 : 43.
2- لم يرد « تعقّل » في « ع ».

إلى أمر مجمل غير معيّن. وإمكان الاحتياط لا يجدي في تصحيح إرادة الناذر ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر (1) فساد ثمرة اخرى للنزاع ، وهو : جواز الاقتداء بمن يراه يصلّي بعد العلم بعدالته من دون فحص عن الصحّة - حتّى أنّ بعض من لا خبرة له زعم مثل ذلك دليلا على القول بالأعم ، من حيث استقرار السيرة على عدم الفحص - وعدمه على القول بالصحيح.

تذنيب :

يختلف الأصل على حسب اختلاف وجوه القول بالصحيح والأعم في المسألة :

فعلى القول بكون المراد من الأعم كون الألفاظ موضوعة للقدر المشترك بين الصحيح والفاسد يدور الأمر بين الاشتراك المعنوي والحقيقة والمجاز ، فإن بني على ترجيح الأوّل تعويلا على الغلبة فهو ، وإلاّ فالواجب التوقّف ؛ لعدم ما يوجب التعيين من الاصول ، ولا متيقّن في البين ؛ لأنّ الصحيح كونه موردا للوضع بخصوصه أو من حيث كونه فردا للقدر المشترك محل تردّد ، فاللازم التوقّف.

وعلى القول بأنّ مورد الوضع هو الصحيح لكن مناط التسمية موجود في الباقي باعتبار الاشتمال على معظم الأجزاء أو دعوى المسامحة في الإطلاق على الفاسدة ، فالأصل يوافق القول بالصحيح ؛ إذ المعلوم حينئذ تعلّق الوضع بالصحيح. وأمّا كون المناط في التسمية هو أمر آخر غير معلوم منفيّ بالأصل ، كما أنّ ثبوت المسامحة موقوف على دليل ، وعند الشكّ فيه ينفى بالأصل. واللّه الهادي.

ص: 71


1- في « ع » زيادة : « وجه ».

ص: 72

هداية في ذكر احتجاج القول بالصحيح

وهو من وجوه :

أحدها - وهو المعتمد - : قضاء الوجدان الخالي عن شوائب الريب بذلك ؛ فإنّا إذا راجعنا وجداننا بعد تتبّع أوضاع المركّبات العرفيّة والعاديّة واستقرائها ، وفرضنا أنفسنا واضعين اللفظ لمعنى مخترع مركّب ، نجد من أنفسنا في مقام الوضع عدم التخطّي عن الوضع لما هو المركّب التام ، فإنّه هو الذي يقتضي حكمة الوضع - وهي مساس الحاجة إلى التعبير عنها كثيرا والحكم عليها بما هو من لوازمه وآثاره - أن يكون موضوعا له.

وأمّا استعماله في الناقص فلا نجده إلاّ مسامحة ، تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود ، فإنّ الحاجة ماسّة إلى التعبير عن المراتب الناقصة أيضا أحيانا ، وليس من دأبهم أن يضعوا لها بأجمعها أسماء مخصوصة - كما هو المتعارف في الأوضاع - فتوسّعوا في إطلاق اللفظ الموضوع للتمام على تلك المراتب الناقصة من باب المسامحة والتنزيل ، فليس هناك إلاّ مجاز في أمر عقليّ.

ويرشدك إلى ما ذكرنا ملاحظة استعمال لفظ « الإجماع » في الاصطلاح على الاتّفاق الكاشف عن قول الحجّة ، مع إطباقهم على أنّ المعنى المصطلح عليه عند الخاصّة والعامّة هو اتّفاق جميع الامّة من أرباب الحلّ والعقد ، وهو ظاهر.

ثمّ إنّ الناقص الذي يستعمل فيه اللفظ بعد المسامحة على وجهين :

ص: 73

الأوّل : أن يكون الباقي ممّا يترتّب عليه ما يترتّب على التام ، ويوجد فيه الخاصيّة بدون الجزء الفاقد أيضا ، كما عرفت في لفظ « الإجماع » ، فإنّ خاصّية اتّفاق الكلّ موجودة في اتّفاق البعض الكاشف عن قول الحجّة.

والثاني : أن لا يكون كذلك ، بل يزول الخاصّية بزوال الجزء الفاقد ، كما هو قضيّة الجزئيّة غالبا.

فالأوّل في نظر العرف صار عين الموضوع له حقيقة ، بحيث لا يلتفتون إلى التسامح في إطلاقه عليه ، فلا حاجة إلى ملاحظة القرينة الصارفة في الاستعمال ؛ ولهذا يتراءى في الأنظار أنّ اللفظ موضوع للقدر المشترك بين القليل والكثير مع أنّه غير معقول ، أو الاشتراك اللفظي - كما عرفت مرارا (1) - حتّى أنّه لو شكّ في تعيين مراد المتكلّم إذا دار الأمر بين المعنى الأوّل والثاني لا وجه لتعيينه بالأصل. بخلاف القسم الثاني ؛ فإنّ استعمال اللفظ الموضوع للتمام في الناقص لا يكون إلاّ بواسطة التسامح والالتفات إليه ، فهو مجاز عقلي.

فإن قلت : إنّ ما ذكر على تقدير التسليم لا يقضي بأن يكون وضع الشارع لتلك الأسماء مطابقا لما تجده من نفسك في أوضاعك.

قلت : أمّا المنع المستفاد من أوّل الكلام فدفعه موكول إلى الرجوع إلى الوجدان ، وأمّا ما ذكره أخيرا فهو مدفوع بأنّا نقطع بأنّ الشارع لم يسلك في أوضاعه - على تقدير ثبوته - مسلكا آخر غير ما هو المعهود من أنفسنا في أوضاعنا.

وما ذكرنا ليس استدلالا بالاستحسان في إثبات اللغات - كما ربما يتبادر إليه بعض الأوهام - بل المحصّل هو : أنّا نجد أنفسنا مقتصرين عند إرادة الوضع لهذه

ص: 74


1- راجع الصفحة 46 و 55.

المعاني المختلفة المركّبة على ما هو التمام ، وليس فيه شائبة استحسان ، كما هو ظاهر لمن تدرّب. كما نجد من أنفسنا أنّ العلاقة المصحّحة لاستعمال اللفظ في الناقص هو التنزيل والمسامحة ، دون سائر الروابط والعلائق المجوّزة للتجوّز.

وهذه هي الطريقة المألوفة في استعمال الألفاظ الموضوعة للمقادير والأوزان في مرتبة خاصّة على ما هو زائد عليها أو ناقص عنها بضرب من التنزيل والمسامحة.

الثاني : دعوى تبادر خصوص الصحيحة عند الإطلاق بلا قرينة.

واعترض عليه : بأنّ التمسّك بأمثال ذلك من الأمارات ليس من وظيفة الصحيحي ؛ من جهة ما تقرّر عندهم وقد صرّحوا به : من أنّها امور توقيفيّة متلقّاة من صاحب الشريعة ، لا يصحّ الرجوع فيها إلى عرف ولا عادة (1).

وأجاب عنه بعضهم (2) : بأنّ قضيّة القول بالصحيح هو التوقّف في تعيين الأجزاء والشرائط تفصيلا ، وأمّا تشخيص مفهوم الصلاة إجمالا وبوجه ما - كأن يقال : ليس المراد المعنى اللغوي بل المعنى الشرعي ، أو أنّ المراد منه ما جمع الأجزاء والشرائط - فلا غبار عليه.

وزاد بعضهم (3) : بأنّه على المذهبين يصحّ الرجوع إلى العرف ، نظرا إلى أنّ عرف الشارع يستكشف من عرف المتشرّعة ؛ لأنّ الحاصل من عرفهم هو الموروث من الشارع المحفوظ في أيدي تابعيه الواصل من كلّ مرتبة سابقة إلى لاحقتها ، وهذا هو المراد بقولهم : إنّ عرف المتشرّعة ميزان لعرفه عليه السلام إن صحيحا فصحيحا وإن فاسدا ففاسدا. واختلاف عرف المتشرّعة لا يوجب رفع اليد عنه وعدم الاعتداد به ، لجريانه في العرف العام بعينه ، كما ترى من الاستشكال في حقيقة الغسل (4) ، فقيل

ص: 75


1- لم نظفر بها.
2- لم نظفر بها.
3- لم نظفر بها.
4- انظر مفتاح الكرامة 1 : 171 - 176.

بدخول العصر فيما يحتاج إليه كالثياب ، وقيل بدخول الخروج من الماء ، وقيل باشتراط الصبّ ، إلى غير ذلك من موارد اختلاف العرف بحسب اختلاف أنظار المحصّلين.

أقول : لا إشكال في أنّ لفظ « الصلاة » وأمثالها عند القائل بالصحيح تعدّ في عداد الألفاظ المجملة التي لا مسرح للعرف فيها ولو كان عرف المتشرّعة ، فإنّ ذلك ينافي الإجمال المتّفق عليه عند القائلين بالصحيح. ولا ينافي ذلك العلم بنقله من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي ؛ فإنّ مجرّد ذلك لا يوجب رفع الإجمال.

وأمّا القول بأنّ المتبادر هو تمام الأجزاء فهو في غاية الفساد ؛ فإنّه إن اريد أنّ المتبادر من لفظ « الصلاة » هو هذا المفهوم - أعني مفهوم تمام الأجزاء وما يقاربه - ففيه ما عرفت فيما تقدّم من محذور لزوم الاشتغال ، مضافا إلى لزوم مرادفة لفظ « الصلاة » مع لفظ « تمام الأجزاء » ، ووجوه فساده غير خفيّة. وإن اريد أنّ المتبادر من لفظ « الصلاة » هو مصداق تمام الأجزاء ، فهو يلازم رفع الإجمال من اللفظ ، كما هو قضيّة دعوى التبادر من اللفظ.

ودعوى العلم بكون الموضوع له للفظ « الصلاة » لا بدّ وأن يكون هو المركّب التامّ الأجزاء بواسطة البرهان ، لا يرتبط بتصوّر ذلك المركّب التام بواسطة اللفظ كما هو قضيّة التبادر ، على ما يظهر لمن تدبّر. ومن هنا تقدر على دفع الجواب عن الاعتراض.

وأمّا ما ذكر في الزيادة فواضح الفساد ؛ لما عرفت من أنّ عرف المتشرّعة في لفظ « الصلاة » ممّا لا يجدي عند القائل بالصحيح ، لأنّه من الألفاظ المجملة عندهم. والفرق بين موارد اختلاف العرف في تشخيص المفهوم - كما في لفظ « الغسل » ونحوه - وبين موارد الإجمال ظاهر على الأنظار المستقيمة ؛ فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

ص: 76

بل قد تقدّم الإشكال في رجوع القائل بالأعم أيضا إلى عرف المتشرّعة ؛ حيث إنّ غير النبي صلى اللّه عليه وآله ومن هو بمنزلته غير عارفين بالماهيّة المخترعة المباينة عن الماهيّة اللغويّة ، فالخطاب المشتمل على وجوب الصلاة إنّما يكون مجملا بالنسبة إليهم. وتكرّر الفعل منهم إنّما يوجب البيان لهم دفعا لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأمّا البيان لنا فهو موقوف على عدم ثبوت تغيير فيه ، والمظنون بل المقطوع ثبوته ، وإلاّ لم يعقل الإجمال على القول بالصحيح ، كما هو المتّفق عليه عندهم.

ثمّ إنّه قد يجاب عن التبادر (1) : بأنّه لا دليل فيه على الوضع ؛ لأنّه ناش عن الغلبة. ويستكشف ذلك من عدم صحّة السلب عن الفاسدة ؛ لجواز تكذيب من أخبر : « بأنّ زيدا لا يصلّي » إذا كانت صلاته فاسدة ، وذلك نظير تبادر الصحيح من المعاملات ، ومن أنّ المتبادر (2) إنّما هو الفرد الكامل من الصلاة المشتملة على جميع الآداب والمسنونات.

وأنت بعد الإحاطة بما قرّرنا تعرف وجوه الفساد في هذه الكلمات ؛ فإنّ أكثرها غير واقعة (3) في محلّها ، مضافا إلى أنّ تسليم التبادر - و (4) لو لم يكن ناشئا عن الوضع - يوجب هدم ما أسّسه القائل بالأعم من التمسّك بالإطلاقات ، إذ على تقدير الانصراف لا إطلاق في البين.

وقد يجاب عن دعوى التبادر (5) : بأنّه لو كان المتبادر من لفظ « الصلاة » العمل الصحيح لما جاز لأحد أن يخبر بأنّ « فلانا قد صلّى » إلاّ بعد علمه باستجماعه

ص: 77


1- هذا الجواب من هداية المسترشدين 1 : 442 - 443.
2- عطف على « من عدم صحّة السلب ».
3- في « ع » بدل « واقعة » : « واردة ».
4- لم يرد « و» في « ع ».
5- هذا الجواب وما يليه من الجواب والاعتراض من السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 45.

جميع الامور المعتبرة فيها ، كما لا يجوز أن يخبر بأنّ « هذا زيد » إلاّ بعد العلم بكونه زيدا ، والتالي باطل ؛ للاتّفاق على جواز الإخبار ولو مع عدم العلم بالصحّة.

واجيب عنه : بأنّ صحّة الإخبار في المفروض إنّما هو بواسطة إحراز الصحّة بطريق شرعي ، وهو : أصالة الصحّة المعمولة في جميع موارد اشتباه الصحيح بالفاسد.

واعترض عليه : بأنّ التعويل على الأصل المزبور يوجب صحّة الإخبار بأنّ « صلاة زيد صحيحة » وهي ممنوعة ، مضافا إلى أنّ الإخبار - بناء على ظاهر الحال - مبنيّ على التجوّز ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ، لا لما يعتقده المتكلّم (1).

وفيه : أنّ المنع المزبور - بعد تسليم الأصل - راجع إلى منع المقدّمة المفروض ثبوتها ؛ إذ لا يراد بالصحيحة المخبر عنها إلاّ ما هي حاصلة بواسطة الأصل المذكور المفروض ثبوته بالأدلّة المقرّرة في محلّها ، كما يصحّ الإخبار بطهارة ثوب محكوم بالطهارة بواسطة الاستصحاب. نعم ، قد عرفت أنّ الأصل المذكور لا يجدي في إطلاق لفظ « الصلاة » بواسطة إجمال لا دخل للأصل في ارتفاعه ، كما لا يخفى.

وأمّا ما زعمه من لزوم التجوّز لو كان بناء الإخبار على ظاهر الحال :

فإن أراد منه أنّ الصحّة المعتبرة في المحمول إنّما هي صحّة اعتقاديّة لا واقعيّة ، بمعنى أن يكون لاعتقاد الفاعل أو الحامل مدخل في معنى الصحّة - كما هو ظاهر التعليل بقوله : لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ... إلى آخره - فعدم استقامته ممّا لا يكاد يخفى ؛ إذ لم نقف على ملازمة بين دخول الاعتقاد في مفهوم الصحّة وبين حملها على الظاهريّة.

وإن أراد منه أنّ لفظ « الصحيح » موضوع لما هو صحيح واقعا ، فاستعماله فيما هو صحيح شرعا - كما هو مفاد الأصل المذكور - مجاز ، كما أنّ لفظ « الماء » موضوع

ص: 78


1- انتهى كلام السيّد المجاهد قدس سره.

للجسم السيّال الرطب واقعا مثلا ، فلو شكّ في انقلابه حجرا يحكم بكونه ماء شرعا. لكن استعمال لفظ « الماء » فيما شكّ في كونه ماء حقيقة - وإن وجب إجراء أحكام الماء عليه بحسب الشرع - لا يخلو عن التجوّز ؛ فإنّ جريان أحكام الماء شرعا على أمر لا يوجب إطلاق لفظ « الماء » عليه على وجه الحقيقة.

ففيه أوّلا : منع (1) كون هذه الاستعمالات مجازيّة ، أمّا في صورة الحمل فظاهر ؛ لاحتمال أن يكون التصرّف في النسبة ، كقولك : هذا أسد. وأمّا في صورة الاستعمال - كقولك : رأيت طاهرا ورأيت ماء ، إذا كان مستصحب الطهارة والمائيّة - فباعتبار الحمل الضمني الملحوظ بين ذات الشيء والوصف العنواني له. نعم ، في قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (2) لا يبعد دعوى المجازيّة لو قلنا بأنّ الطهارة من الموضوعات الواقعيّة من دون ثبوت حقيقة شرعيّة فيها.

وثانيا : أنّه لا وجه للتعليل المذكور في كلامه.

وثالثا : لو سلّمنا المجازيّة ، لكنّه لا ريب في أنّ المخبر عنه في قولك : « صلاة زيد صحيحة » ليس إلاّ هذا المعنى المجازي ، نظير إطلاق « الطهارة » على ما حكم بطهارته شرعا. والتزام التجوّز ممّا لا بدّ منه بعد العلم بعدم صلاحيّة إرادة المعنى الحقيقي ، كما هو ظاهر في المقام لمن تأمّل فيه.

الثالث : صحّة سلب الاسم عن الفاسدة ، كما يشهد به - بعد مساعدة العرف والاعتبار - طائفة من الأخبار ، كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (3) و « لا صلاة

ص: 79


1- في « ط » و « م » إمكان منع.
2- مستدرك الوسائل 2 : 583 ، الباب 30 من أبواب النجاسات والأواني ، الحديث 4.
3- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.

إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) وغير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ؛ لما تقرّر في محلّه : من ظهور هذه التراكيب في نفي الحقيقة والماهيّة ، فالخبر (2) المحذوف هو الوجود ، بل ربما نسب إلى المحقّقين (3) : أنّ « لا » غير محتاجة إلى الخبر ، فيكون العدم المستفاد منه عدما محموليّا (4) ، وهو أقرب لتسميته بنفي الجنس ؛ حيث إنّ المنفي هو نفس الجنس لا وجوده وإن صحّ الثاني أيضا ، وأولى من حيث الدلالة على المطلوب.

ولا يرد فيه ما أوردنا على التبادر ؛ فإنّ الإجمال لا ينافي العلم بعدم صدقه على بعض الموارد ، فيعلم بذلك أنّ المورد المسلوب عنه الاسم ليس من حقيقة ذلك المسمّى ، وذلك لا يلازم تعيّنه المنافي لإجماله المفروض عند القائل بالصحيح.

وبما ذكرنا يظهر اندفاع ما اورد على الاحتجاج (5) : بأنّ هذه التراكيب ظاهرة (6) في نفي الكمال والصفات ، إمّا بدعوى الوضع الثانوي ، وإمّا بملاحظة النظائر والاستقراء في أخوات هذا التركيب ، وإمّا بلزوم الدور - فإنّ الحمل على نفي الذات موقوف على كون الصلاة اسما للصحيحة ، فإذا أردنا إثبات كونها اسما للصحيحة بالحمل على نفي الذات بمقتضى الحقيقة القديمة يلزم الدور - وإمّا بلزوم التخصيص في أغلب الموارد.

ووجه الاندفاع : حكم العرف بظهور التركيب في نفي الحقيقة ، فلا يصغى إلى دعوى الوضع الثانوي ، ولا إلى ملاحظة النظائر ؛ إذ بعد تسليم أنّ الحكم في النظائر

ص: 80


1- مستدرك الوسائل 4 : 158 ، الباب الأوّل من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث 5.
2- في « ع » : « والخبر ».
3- انظر البهجة المرضيّة 1 : 133 - 134.
4- في « م » زيادة : « لا رابطيّا ».
5- انظر القوانين 1 : 44 - 47.
6- في « ع » بدل « ظاهرة » : « منحصرة ».

كما زعمه ، لا وجه للتعدية إلى ما ليس نظيرا له بحكم العرف ، فإنّ المجاز مع القرينة لا يوجب رفع اليد عن أصالة الحقيقة عند عدمها. وبعد ظهور التركيب في نفي الذات عرفا يصير دليلا على الصحيح من دون توقّف ، فلا دور. والتخصيص ممّا لا ينكر في العمومات ونحوها ، فلا وجه لرفع اليد عنها بواسطة لزوم التخصيص ، مع أنّ التخصيص لازم على كلّ حال (1).

الرابع : ظواهر جملة من الأخبار والآيات الواردة في مقام بيان خواصّ العبادات وآثارها ، كقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) وقوله عليه السلام : « الصلاة خير موضوع » (3) ونحو ذلك ؛ فإنّ هذه - بحكم عكس النقيض - تدلّ على أنّ ما لا تنهى ليس بصلاة.

وفيه : أنّ ذلك مبنيّ على أن يكون تلك الخطابات واردة في مقام بيان أحكام تلك العبادات على وجه الإطلاق ، وذلك وإن لم يكن منافيا للإجمال المفروض فيها عند المستدل ؛ إذ لا ينافي الإجمال مع كون الحكم ساريا في جميع أفراد المجمل ، إلاّ أنّه غير معلوم ، بل قد عرفت فيما تقدّم أنّها غير واردة في هذا المقام.

وقد يستكشف ورود قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ ) (4) في مقام البيان عن كونه تعليلا لقوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) ولا وجه لذلك ؛ لاحتمال عدم وروده أيضا في مقام البيان ، فينطبق التعليل على مورده ، كما لا يخفى.

ص: 81


1- في « ط » بدل « حال » : « تقدير ».
2- العنكبوت : 45.
3- مستدرك الوسائل 3 : 43 ، الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث 9.
4- العنكبوت : 45.

الخامس : أنّه قد تقرّر في محلّه : أنّه إذا علم اختلاف أمرين في حكم - كأن يكون ثابتا لأحدهما دون الآخر - وشككنا في أنّ الفرد الذي انتفى عنه الحكم ، هل هو من أفراد الأمر الذي ثبت له الحكم ، ليكون ذلك تقييدا لإطلاقه أو تخصيصا لعمومه؟ أو أنّه خارج عنه مباين له ليس من أفراده ، لئلاّ يكون ذلك تقييدا؟ فبأصالة عدم التقييد يستكشف كونه مباينا له وخارجا عنه.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الأمر دائر بين أن يكون الفاسدة من حقيقة الصلاة ، ليكون عدم جريان حكم الصلاة عليها من الوجوب وغيرها تقييدا للإطلاق - كما أنّ عدم جريان حكم البيع على البيع بالفارسيّة تقييد لإطلاقه - وبين أن لا تكون من حقيقة الصلاة وتكون مباينة لها خارجة عنها ، ولذلك لم نشاركها في الحكم ، فبأصالة عدم التقييد يستكشف أنّ الصلاة ليست مطلقة شاملة للفاسدة الخارجة ولو لم يكن بهذا العنوان ؛ لما مرّ من أنّ الفاسدة ليست عنوانا للمقيّد. وفيه تأمّل.

السادس : أنّ هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للصحيحة كان لها وجه ضبط في المعنى الموضوع له ك- « الصحيحة » و « المبرئة للذمّة » و « المطلوبة للشارع » ونحو ذلك من المعاني التي يمكن تعقّلها والوضع بإزائها ، بخلافه على القول بالأعم ؛ لعدم انضباط الموضوع له على وجه يمكن تعقّله ثمّ وضع اللفظ.

وفيه : أنّ المحذور إن كان مجرّد عدم الانضباط ، فيمكن دفعه على القول بالأعم : بأنّ المفاهيم العرفيّة ممّا لا يمكن ضبطها في الأغلب ، والأمر فيها محال إلى العرف. وإن كان مع عدم المعقوليّة فما جعله وجه الضبط على القول بالصحيح أولى بعدم التعقّل ؛ لأنّ الصحّة وما يشابهها لا يعقل أن يكون داخلا في الموضوع له ، ومع ذلك فالأمر أيضا غير منضبط ؛ لاختلاف الصحّة باختلاف الموضوعات الطارئة على المكلّفين ، كما تقدّم في تصوير القول بالصحيح.

ص: 82

اللّهمّ إلاّ أن يقال (1) : بأنّ الموضوع له هو مصداق هذا المفهوم ، وهو المركّب المستجمع للأجزاء والشرائط ، وهذا أمر يعقل أن يكون موضوعا له ، بخلاف القول بالأعم ، إذ الموضوع له فيه غير معقول ؛ ضرورة بطلان القدر المشترك بين الناقص والزائد ، وهو المراد من قولهم : بأنّه على الأعمّي يلزم بقاء الكلّ مع انتفاء الجزء.

ولا وجه لما يقال في دفعه : من أنّ الجزء تارة يكون جزءا في حالتي الوجود والعدم ، واخرى يكون جزءا ما دام موجودا ، فإنّ قضيّة ارتفاع الكل بارتفاع الجزء ضروريّة لا يعقل فيها الفرق بين الحالتين ، كما لا يخفى على المتدبّر المتدرّب.

السابع : أنّه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للأعم لكان الرجوع إلى عرف المتشرّعة كافيا في معرفة تفاصيل هذه المعاني المقرّرة في الشريعة ، مع أنّه ليس كذلك ، بل لا يعرف تلك التفاصيل إلاّ بالرجوع إلى الأدلّة التفصيليّة المقرّرة في الكتب الاستدلاليّة ، وهذا هو المراد من كون العبادات توقيفيّة موقوفة على بيان الشارع ، وبهذا يفرق مع المعاملات المحالة إلى العرف. ومجرّد الرجوع في المعاملات إلى العرف العام وفي العبادات إلى عرف المتشرّعة لا يصلح فارقا ؛ لما عرفت من عدم الكفاية ، للاحتياج إلى مراجعة الأدلّة بعد الرجوع إليهم أيضا.

والسرّ في ذلك : أنّ تشخيص الموضوع في العبادات راجع في الحقيقة إلى تشخيص الأحكام التي لا مسرح للعرف فيها ، فإنّ (2) معنى جزئيّة السورة ليس إلاّ وجوب قراءتها والإتيان بها في عداد الأفعال المقرّرة في الأوقات

ص: 83


1- في « ط » و « ع » بدل « يقال » : « يقول ».
2- في « ط » زيادة : « المحصّل من ».

الخاصّة ، بناء على ما قرّرنا في محلّه (1) : من أنّ الجزئية واشباهها أحكام انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة.

واجيب عنه (2) تارة بالنقض : بأنّ رجوع الصحيحي إلى العرف والتمسّك بالتبادر أيضا ينافي التوقيفيّة.

وثانية : بأنّ المراد من التوقيفيّة هو أنّ المرجع فيها ليس العرف العام ، ولا ينافي ذلك استعلام الموضوع له من عرف المتشرّعة ، وهو يوجب الانتهاء إلى الأخذ من الشارع ولو بواسطة عرفهم.

وممّا ذكرنا يظهر (3) اندفاع الجواب :

أمّا الأوّل ، فلأنّ الحقّ - كما عرفت - أنّه لا وجه للتمسّك بالتبادر ، مع إمكان الفرق أيضا - كما تكلّفه بعض المحقّقين (4) - من الإجمال الحاصل بالعرف ، والتفصيل الحاصل بالرجوع إلى الأدلّة ، وقد مرّ ما فيه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ انتهاء الرجوع إلى عرف المتشرّعة إلى الأخذ من الشارع لا يجدي في رفع المحذور ، وهو : لزوم عدم الاحتياج إلى الكتاب والسنّة وإعمال القوة النظريّة في استخراج الأجزاء والشرائط من الأدلّة. ولعلّ ما ذكرنا يظهر بأدنى التفات.

فإن قلت : إنّ غاية ما يتصوّر على القول بالأعم أن يتحصّل له من الرجوع إلى العرف إطلاق ، ومن المقرّر عندهم عدم جواز الرجوع إلى الإطلاق إلاّ بعد

ص: 84


1- راجع فرائد الاصول 3 : 126.
2- انظر هداية المسترشدين 1 : 455.
3- في « ط » و « ع » زيادة : « وجه ».
4- انظر هداية المسترشدين 1 : 445 - 456.

الفحص عن مقيّداته ، وذلك يوجب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، ولأجل ذلك لا يخرج العبادات عن التوقيفيّة.

قلت : المفروض عند الأعمّي دخول القيد في مفهوم الصلاة أيضا ، والمفروض إمكان استكشاف المفهوم من عرف المتشرّعة ، فلا وجه للرجوع إلى الكتاب والسنّة. نعم ، لو لم يكن القيد داخلا في المفهوم بعد العلم الإجمالي بطروّ التقييد للإطلاق لا بدّ من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، ومع ذلك لا يكون ذلك المطلق من التوقيفيّات ، كما أنّ الحال في المعاملات كذلك ، وليست منها.

الثامن : أنّ العبادة مطلوبة للشارع ، ولا شيء من مطلوبه بفاسدة ، فلا شيء من العبادة بفاسدة ، فلا شيء من الصلاة بفاسدة ، لأنّها عبادة.

وفيه : أنّ الأعمّي لا يسلّم أنّ مسمّى الصلاة على وجه الإطلاق عبادة ، بل المسلّم عنده أنّ من الصلاة ما هي عبادة وهي ليست بفاسدة قطعا ، مع إمكان استكشاف كون مطلق الصلاة عبادة من إطلاق قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) إلاّ ما خرج بالدليل ؛ إذ لا يراد بالعبادة إلاّ الفعل المأمور به مع النيّة ، والإطلاق على تقدير سلامته عن الموانع دليل على ذلك ، إلاّ أنّ الكلام في السلامة ، كما عرفت. فليتدبّر في المقام ، لكي يهتدى إلى المرام ، واللّه الهادي.

ص: 85

ص: 86

هداية في ذكر احتجاج القائلين بالأعم

وهو وجوه :

أحدها : دعوى وجود الأمارات الدالّة على الوضع للأعم : من التبادر ، وعدم صحّة السلب عن الفاسدة ، وصحّة التقسيم إليها وإلى الصحيحة الظاهرة في أنّ لفظ المقسم حقيقة فيه.

وقد بالغ في تقرير هذه الأدلّة بعض أرباب هذه المقالة (1) ، ولا حاجة إليه ، فلعلّه يبالغ في تعقّل المراد من الأعم ، وقد عرفت فيما تقدّم (2) أنّه لم يعقل ذلك القول بوجه (3) حتّى يدّعى عليه التبادر ، والوجه المعقول منه - وهو الوجه الرابع - مشارك مع القول بالصحيح في عدم صحّة التعويل على التبادر ، كما يظهر بالرجوع إليه.

وبالجملة : فالإطلاق على الفاسدة في العرف وكلمات الشارع والعلماء ممّا لا ينبغي إنكاره ، إلاّ أنّ تعقّل المراد منه بعد لم يثبت (4) ، فيا ليتنا كنّا نعقل المراد منه.

والوجه في هذه الإطلاقات - على ما هو المظنون عندنا - هو ما عرفت مرارا : من أنّها مبنية على المسامحة والتنزيل. وأمّا التزام حصول الوضع فيما يترتّب

ص: 87


1- كالقزويني في ضوابط الاصول : 22 - 23.
2- راجع الصفحة 51 - 56.
3- في « ط » بدل « ذلك القول بوجه » : « لذلك القول وجه ».
4- لم ترد عبارة « إلاّ أنّ تعقّل المراد منه بعد لم يثبت » في « ط ».

عليه الأثر بعد التنزيل المذكور وعدمه فيما لا يترتّب عليه الأثر فبعيد جدا ؛ لاستلزام كونه حقيقة من جهة ومجازا من جهة اخرى - كما عرفت - وإن تقدّم منّا احتمال حصول الوضع في المركّبات الخارجيّة الكمّية - من المعاجين ونحوها - بل قد لا يصحّ ذلك في استعمال واحد للفظ « الصلاة » فيما هو كذلك مع قطع النظر عن ملاحظة حال الموضوع الذي يترتّب عليه الأثر والموضوع الذي لا يترتّب عليه الأثر ، كما لا يخفى على من أمعن النظر فيما ذكرنا سابقا.

الثاني : أنّه يلزم على القول بالصحيح ألف ماهيّة للصلاة مثلا ، باعتبار الاختلافات المعهودة في الصلاة بواسطة الحالات الطارئة على المكلّف ، من الحضر والسفر والصحّة والمرض والأمن والخوف ونحوها ؛ لعدم القدر المشترك بين تلك الماهيّات المختلفة ، فلا بدّ من الالتزام بالاشتراك اللفظي ، وهو ممّا لم يلتزم به أحد فيما نعلم (1). وأمّا على القول بالأعم فلا يلزم ذلك ؛ لأنّها أحكام مختلفة تعتور على ماهيّة واحدة لوجود الجامع القريب بينها ، وهو ما يطلق عليه لفظ « الصلاة » ، فإنّ هذا المعنى موجود في الكل.

والجواب عن ذلك هو ما عرفت مفصّلا : من أنّ ذلك مشترك الورود ؛ إذ لا يعقل وجود القدر المشترك بين الزائد والناقص ، ولا يعقل تبادل أجزاء ماهيّة واحدة. والاستناد في دفع ذلك إلى العرف وبعض الأمثلة المتشابهة - كالأعلام الشخصيّة ونحوها - ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها بعد ضرورة بطلان ذلك بالعقل.

ولا معنى لما قد يتوهّم : من أنّ العرف يغاير حكمه حكم العقل ؛ بل العرف هم العقلاء من حيث انسهم بالأوضاع اللغويّة واستفادة المعاني بواسطتها ، فما يستحيله العقل يستحيل عند العرف أيضا.

ص: 88


1- في « ط » بدل « لم يلتزم به أحد فيما نعلم » : « لم يظهر من أحد التزامه ».

نعم ، قد عرفت أنّ العرف ربما يتسامحون في إطلاق اسم الكلّ على البعض - على ما ذكرنا في وجه المسامحة بعد الاعتراف بعدم تحقّق المسمّى - إلاّ أنّ ذلك لا يحتاج إلى التفات تفصيلي ، بل الوجه في استعمالهم في الناقص إنّما هو مركوز في أذهانهم ، كما هو كذلك في الأغلب ، ولا ضير فيه ولا غائلة.

الثالث : إطلاق لفظ « الصلاة » وغيرها من العبادات في جملة من الأخبار على الأعم ، كقوله عليه السلام : « بني الإسلام على الخمس : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه (1) ، فلو أنّ أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية ، لم يقبل له صوم ولا صلاة » (2)فإنّ قوله عليه السلام : « فأخذ الناس بالأربع » ظاهر في الأربعة المتقدّمة ، ولا شكّ أنّ عبادة هؤلاء فاسدة ، فلا بدّ أن يراد منها الأعم من الصحيحة والفاسدة ؛ إذ لو كان المراد هو الصحيحة لم يكن التارك للولاية آخذا بالأربع.

والجواب : أنّ هذا مجرّد استعمال ، ولا دليل فيه على المطلوب ؛ إذ لا وجه لإنكار الاستعمال في الأعم ، كما أنّه لا نفع في إثباته.

مع أنّ المستعمل فيه في الفقرة الاولى لا بدّ وأن يكون هو الصحيح ؛ إذ الإسلام غير مبنيّ على الفاسدة قطعا. وأمّا الفقرة الثانية ، فالمراد من الأخذ بالأربع إن كان هو الاعتقاد بها - بقرينة الولاية - فلا دلالة فيها على مطلب الخصم ؛ فإنّ إطلاق « الأربع » على ما اعتقدوه صلاة وزكاة وصوما وحجّا إطلاق على ما هو

ص: 89


1- الكافي 2 : 18 ، باب دعائم الإسلام ، الحديث 3.
2- لم نعثر على هذه العبارة في المصادر الحديثيّة ، وإن ورد بمعناها أحاديث كثيرة ، انظر البحار 27 : 166 - 202 ، باب أنّه لا تقبل الأعمال إلاّ بالولاية.

الصحيح منها باعتقادهم وإن كان غير مطابق للواقع. وإن كان المراد تلك الأفعال فإطلاق الأربع عليها يكون إطلاقا من الإمام عليه السلام على الفاسدة ، ولا دليل فيه على الوضع ، كما عرفت.

ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله عليه السلام : « دعي الصلاة أيام أقرائك » (1) فإنّه لا بدّ وأن يكون المراد بها الفاسدة ؛ إذ لو كان المراد بها الصحيحة لزم الأمر بترك ما لا يقدر عليه المكلّف ، لعدم تمكّنه من الصلاة المشروطة بالطهارة التي يمتنع حصولها بأقسامها في زمان حصول نقيضها ، وهو الحيض.

وتوضيح الجواب : أنّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، مع احتمال أن يقال : إنّ المستعمل فيه في الرواية هو خصوص الصحيحة ويكون النهي إرشادا إلى عدم وقوع العبادة المعهودة في أيّام الحيض ، وهل هذا إلاّ مثل قولك : السورة جزء للصلاة ، أو التكفير مانع عنها ، ونحو ذلك؟ ولا ريب أنّ المراد بها في هذه العبارة هي الصحيحة ، فكذا فيما نحن فيه من غير فرق ، إلاّ أنّ التعبير عن ذلك المطلب إنّما وقع بعبارة النهي المفيد للإرشاد ، كما عرفت.

الرابع : ما اعتمد عليه بعض الأفاضل في مناهجه ، حيث قال - بعد ذهابه إلى القول بالأعم - : لنا الاستقراء المفيد للعلم. بيانه : أنّا نرى أنّ كلّ من اخترع شيئا مركّبا من أجزاء أو مشروطا بشرائط ، ويضع له اسما ، لا يضعه [ له ](2) بجميع أجزائه وشرائطه ، بل نرى الناس أنّهم يطلقون الاسم عليه ولو انتفى بعض شرائطه أو نقص بعض أجزائه إطلاقا حقيقيّا غير مقترن بقرينة ؛ كما أنّ من وضع معجونا

ص: 90


1- عوالي اللآلي 2 : 207 ، الحديث 124.
2- من المصدر.

مركّبا من أجزاء معيّنة بأوزان مقرّرة وسمّاه « أيارج » (1) ولو نقص وزن جزء أو زاد أو نقص جزء منه يطلق الاسم عليه عرفا (2) ، ولا يجوز السلب عنه في العرف. وكذا من صنّف كتابا وسمّاه باسم ونقص عنه ورقة أو ورقتان ، أو بنى بلدة أو دارا أو بستانا أو حفر قناة وسمّاه باسم ، أو وضع اسما لعبد ، ثمّ نقص عنها دار أو بيت أو شجر أو بئر أو إصبع أو أزيد ، فلا يشك أحد في صحّة الإطلاق الحقيقي للاسم على الناقص وعدم صحّة السلب ، بل لا يشكّ في الوضع للأعم مع عدم مشاهدته للواضع ولا علمه بكيفيّة الوضع ، وهذه عادة الناس سلفا وخلفا. ولو بقيت لك شبهة ، فتأمّل في أنّك لو سمعت وضعا لأحد المذكورات من غير مشاهدتك للواضع ولا إسماعك بكيفيّة الوضع ، تقطع بالوضع للأعم من غير تشكيك ، حتّى لو سلب أحد الاسم عن بعضها بنقص شيء يسير منه يستهزئ عليه ؛ فمن أيّ طريق حصل لك العلم بذلك فهو جار في المتنازع فيه ، من دون تفاوت (3) ، انتهى كلامه.

ثمّ أكّد ذلك بالاستعمالات الكثيرة الغير المحصورة التي يعلم بالتتبّع في الأخبار وكلمات علمائنا الأخيار في أبواب مبطلات الصلاة وخللها وأبواب العبادات والمحاورات العرفيّة.

أقول : إنّ ما ادّعاه أوّلا : من أنّ المخترع للمركّب لا يضع الاسم لجميع الأجزاء ، الظاهر أنّ مراده أنّ جميع الأجزاء لا يكون مورد الوضع بخصوصه على وجه يكون الاستعمال في غيره مجازا ، وإلاّ فاللازم أن يكون استعمال اللفظ في جميع الأجزاء مجازا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك.

ص: 91


1- « الأيارج » باللغة اليونانية دواء ، الفوائد الحائريّة : 480.
2- في « ط » و « ع » زيادة : « حقيقة ».
3- مناهج الأحكام : 27.

وحينئذ فنقول : إنّ الموضوع له إمّا خصوص المراتب المتفاوتة بالزيادة والنقصان ، أو القدر المشترك بين المراتب.

فعلى الأوّل ، يلزم الاشتراك اللفظي لو كان الأوضاع متعدّدة أو بمنزلتها (1) ، والوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لو كان الوضع واحدا ، وكلّ منهما قطعيّ الفساد لمن أنصف ؛ يكفيك شاهدا ملاحظة الوجدان في أوضاعك لما تخترعه من المركّبات.

وعلى الثاني ، يلزم أن يكون الموضوع له هو القدر المشترك بين المراتب ؛ ونحن إلى الآن لم نقف على وجه يمكن معه التصوير للقدر المشترك بين الزائد والناقص على وجه تكون الزيادة داخلة في حقيقة المسمّى.

ومنه يظهر أنّ عدم صحّة السلب في تلك المراتب إنّما هو مبنيّ على ضرب من التأويل ونوع من التسامح ، وما ذكر من الاستهزاء إنّما هو في الامور التي مبناها على المسامحة على وجه لو استعمل فيه الدقّة من أيّ أنواعها يصير المستعمل للدقّة موردا للاستهزاء عندهم. وعليه يتفرّع ما ذكره : من التأييد والتأكيد والتشديد في الاستعمالات العرفيّة وكلمات الفقهاء.

وبالجملة : فنحن في ضيق من تصوير القول بالأعم ، فيا ليت هذا المستدلّ يبيّن المراد منه ، وما بالغ في بيان الحجّة ممّا لا حاجة إليه بعد بيان المراد ، كما لا يخفى على من أنصف.

الخامس : أنّها لو كانت أسامي للصحيحة لزم فيما إذا حلف أن لا يصلّي في مكان مكروه أو مباح ، من وجود الشيء عدمه ، وبطلان التالي قاض ببطلان المقدّم.

بيان الملازمة : أنّه على القول بالصحيح يكون متعلّق الحلف في كلام الحالف

ص: 92


1- لم يرد « أو بمنزلتها » في « م ».

هو الصحيح ، فيصير منهيّا عنه لحصول الحنث بفعله ، والنهي يقتضي الفساد ، فيكون متعلّق الحلف فاسدا ، وذلك يوجب عدم تعلّق الحلف به ، فلزم من تعلّق الحلف به عدم تعلّق الحلف به.

وبوجه آخر : أنّ ثبوت اليمين - كما هو المفروض - يقتضي النهي ؛ لعدم جواز الحنث ، والنهي يقتضي الفساد ، والفساد يقتضي عدم تعلّق اليمين ؛ لأنّ المفروض تعلّقه في كلام الحالف بالصحيح ، وهو يقتضي الصحّة لعدم تعلّق الحلف به ، وهو يقتضي الفساد ؛ لما تقدّم.

والجواب عنه أوّلا : أنّ الفساد إنّما يقتضي عدم تعلّق الحلف به فيما إذا كان متعلّقه مع قطع النظر عن تعلّق الحلف به فاسدا ، كما إذا كان المحلوف على تركه فعل الصلاة بدون الركوع مثلا ، وأمّا الفساد الذي جاء بواسطة تعلّق الحلف بتركه فهو لا يقتضي عدم تعلّق الحلف به ، بل هو من آثار تعلّق الحلف به ، فهو لا ينافي تعلّقه به بل يؤكّده ، كما لا يخفى على من أمعن النظر.

فإن قلت : فهل يحصل الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان أو لا؟ فلو قيل بالأوّل يلزم عدم اقتضاء النهي الفساد ؛ لأنّ الحنث لا يحصل إلاّ بفعل المحلوف على تركه - والمفروض أنّه الصحيح - ووقوع الصلاة صحيحة يقضي بعدم اقتضاء النهي الناشئ من حرمة الحنث الفساد. ولو قيل بالثاني يلزم عدم إمكان الحنث ، مع أنّ الفريقين لا يقولان به ، فلا بدّ من التزام إرادة الأعم ، ليحصل الحنث بفعله.

قلت : لا نسلّم أنّ القائل بالصحيح يلتزم بإمكان الحنث ، ولو سلّم فلا ينافي إرادة الصحيح ؛ لأنّ متعلّق الحلف لا يراد بصحّته إلاّ كونه تامّ الأجزاء والشرائط بحيث لو تعلّق به الأمر وقع صحيحا ، غاية الأمر أنّ قبل تعلّق الحلف به كان متعلّقا للأمر ، وبعد تعلّق الحلف ارتفع الأمر ؛ لورود نقيضه وهو النهي عليه ، فاقتضى الفساد ووقوع الحنث لو وقع تامّ الأجزاء والشرائط كما كان متعلّقا للأمر قبل تعلّق النهي به.

ص: 93

نعم ، لو فرض أنّ متعلّق الحلف هو الصحيح بمعنى ما يكون متعلّقا للأمر بالفعل ، كان الوجه عدم إمكان الحنث. وهو ممنوع ، بل قد مرّ فساده بما لا مزيد عليه.

نعم ، يشكل ذلك بناء على ما تقرّر عندهم : من أنّ نيّة القربة إمّا جزء للصلاة أو شرط فيها ، وإن كان دخول غاية الشيء في الشيء شرطا أو شطرا أيضا ممّا لا يعقل ، فتدبّر.

وثانيا : أنّ ذلك لا يجدي نفعا في إثبات المطلوب ؛ إذ لا يزيد على مجرّد الاستعمال بعد الغضّ عمّا ذكرنا ، مع إمكان المعارضة بما لو صرّح الحالف بوصف الصحّة في متعلّق الحلف ، كما لا يخفى ، فتدبّر.

السادس : أنّ قضية وضع اللفظ للصحيح أن يكون المراد منه في موارد النهي هو الصحيح الجامع لجميع الأجزاء المعتبرة والشرائط المقرّرة ، ولا شكّ أنّ الإتيان بالماهيّة الجامعة للأجزاء والشرائط كاف في انتزاع وصف الصحّة ، فيلزم أن يكون المنهي عنها صحيحة ، وهو بعينه ما ذهب إليه أبو حنيفة (1) : من اقتضاء النهي للصحّة.

والجواب : أنّه إن اريد من الصحّة المنتزعة استجماع الماهيّة للأجزاء والشرائط من دون أن يكون موافقة للأمر ، فالملازمة مسلّمة ، وبطلان اللازم ممنوع بحسب القواعد اللفظيّة. وإن اريد من الصحّة موافقة الأمر فلا نسلّم أنّ الإتيان بالماهيّة الجامعة للأجزاء والشرائط كاف في انتزاع الصحّة بهذا المعنى ، بل هو موقوف على الأمر المضادّ للنهي المرفوع بواسطة ورود الضدّ على المحلّ القابل لهما.

فإن قلت : إنّ الماهيّة الواحدة من دون اختلاف فيها يمتنع أن يكون مأمورا بها تارة ومنهيّا عنها اخرى ، فالمأمور بها لا بدّ وأن يكون مغايرا للمنهيّ عنها ، إمّا

ص: 94


1- انظر الإحكام للآمدي 2 : 214 ، ونهاية الوصول : 122 ، والقوانين 1 : 163.

باعتبار زيادة جزء أو نقص شرط ونحوه ، فالمنهيّ عنها لا يعقل أن تكون صحيحة بمعنى استجماع الأجزاء والشرائط. وأمّا ما تقرّر عندهم : من صحّة الصلاة في الدار المغصوبة إذا وقعت في حالة النسيان (1) ، فلا دليل فيه على تعلّق الأمر والنهي بطبيعة واحدة ، بل المنهي عنه يغاير المأمور به ، غاية الأمر أنّ الذي أوجب بطلان الصلاة - وهو الغصب - إنّما يرتفع في حال النسيان ؛ لاختصاص وجوده واقعا بحالة الذكر ، كما لا يخفى. ولذا لا يرتفع الكراهة بمعنى قلّة الثواب في الصلاة في الحمّام إذا وقعت حال النسيان (2) ، كما يشعر بذلك تصريح بعضهم بثبوت الكراهة في التوضّؤ بالماء المشمّس إذا كان منحصرا (3).

قلت : قولك أمر يجب الالتزام به بواسطة دليل عقليّ خارج عن مفاد اللفظ بحسب الأوضاع اللغويّة ، وأمّا بملاحظة القواعد اللغويّة يجب المصير إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بالمعنى الذي ذكرنا ، كما ذهب إليه فخر الدين ، ونبّهنا عليه في مبحث اقتضاء النهي للفساد (4). نعم ، ذلك ليس من مقتضيات النهي - كما زعمه أبو حنيفة - بل بواسطة وضع اللفظ للمعنى الجامع للأجزاء والشرائط. هذا بحسب القواعد اللفظيّة ، وأمّا بحسب الدليل العقلي فلا بدّ من الالتزام بأنّ المستعمل فيه هو الأعم ، ولا دليل فيه على الوضع لكونه أعم.

السابع : أنّها لو لم تكن موضوعة للأعم لزم أن لا يكون فرق بين الجزء والشرط ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ص: 95


1- انظر الشرائع 1 : 71 ، والمدارك 3 : 219 ، والجواهر 8 : 293.
2- لم ترد عبارة « لاختصاص وجوده - إلى - حال النسيان » في « ع ».
3- صرّح به الشهيد الثاني في الروض 1 : 430.
4- راجع مطارح الأنظار 763 - 764.

أمّا الملازمة ، فلأنّ معنى الوضع للصحيحة هو اعتبار الأجزاء والشرائط في الماهيّة على حدّ سواء.

والجواب أوّلا : أنّ ذلك المحذور على تقدير لزومه وكونه محذورا ممّا لا دخل للوضع فيه ، بل لو فرض عدم اللفظ والوضع كان اللازم من اعتبار الشروط في الماهيّة عدم الفرق بينها وبين الأجزاء.

وثانيا : أنّ ذلك غير لازم ؛ إذ وجه اعتبار الشرط في الماهيّة ليس وجه اعتبار الجزء فيها ؛ فإنّ المعتبر من الجزء نفسه ومن الشرط تقييده.

وثالثا : أنّ ذلك لا نسلّم كونه محذورا ، بل التحقيق أنّ الفرق بين الشرط والجزء اعتباريّ ، يمكن أخذه جزءا أو شرطا في الواقع بحسب ما بأيدينا من الموارد ، وأمّا بحسب الأدلّة فالتميّز موكول إلى الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة وعناوينها ، كما لا يخفى.

الثامن : أنّه لو كانت للصحيحة لزم تكرار الطلب في الأوامر المتعلّقة بها ؛ لرجوع الأمر إلى طلب المطلوب ، بل هو دور صريحا ، كما لا يخفى.

والجواب : ما تقدّم مرارا من المراد من الصحّة المعتبرة في المقام ، وعليه فلا تكرار ولا دور. نعم ، يرد ذلك فيما إذا كان المراد من الصحّة هنا موافقة الأمر ، كما لا يخفى.

وأجاب عنه بعضهم (1) : بعدم لزوم التكرار ؛ نظرا إلى استفادة خصوص الوجوب أو الاستحباب من الأوامر ، واستفادة مطلق المطلوبيّة من الوضع.

ص: 96


1- الجواب وما يليه من الإيراد عليه هو من الشيخ محمّد تقي ، انظر هداية المسترشدين 1 : 476.

واورد عليه : بأنّ الأمر حقيقة في الطلب المطلق فيلزم التكرار.

وكلّ واحد من الجواب والإيراد وهم في خلط ، كما لا يخفى على من تدبّر.

التاسع : ما ادّعاه بعض سادات مشايخنا (1) - طاب ثراه - من إطباق الفقهاء جلاّ على التمسّك بالإطلاقات الواردة في العبادات ، على حسب اختلاف المطالب المتعلّقة بها في إثبات مشروعيّتها أو رفع توهّم اعتبار شيء فيها شطرا أو شرطا ، وذلك دليل على اتّفاقهم على الوضع للأعم بحسب العمل وإن كانوا لا يعتقدون ذلك بحسب القول ، فالصحيحيّون أعمّيون من حيث لا يشعرون.

والجواب عن ذلك : أنّ هذه الدعوى محتاجة إلى بيّنة عادلة من كلمات أرباب القول بالصحيح ، وإلاّ فبمجّرد الدعوى لا يتمّ المطلب (2) ، ونحن لم نقف إلى الآن على تمسّك أرباب القول بالصحيح بالإطلاق وإن لم يكن من أرباب التتبّع ، فلا بدّ من الرجوع إلى كلماتهم في تشخيص ذلك.

وبعد تسليم ذلك فالمسألة ليست ممّا ينفع فيه الإجماع على تقدير تحقّقه ؛ إذ لا بدّ للمدّعي أوّلا من تصوير القول بالأعم وإمكانه ، ثمّ دعوى الإجماع والاستدلال عليه.

فإن قلت : إنّ المركّبات الخارجية - كالسرير والبيت والطبيخ والمعاجين ونحوها - إنّما حقائقها مركّبة من أجناس وفصول لا نعرفها ، وهذه الأجزاء الخارجيّة ليست بأجزاء لتلك المركّبات ، بل إنّما هي أجزاء لما يحصل في ضمنها ذلك الجنس والفصل ، على وجه يكون ذلك الجنس والفصل محفوظا (3) في تلك

ص: 97


1- لم نعثر عليه.
2- في « م » بدل « فبمجرّد الدعوى لا يتمّ المطلب » : « فمجرّد الدعوى لا يثبت المدّعى ».
3- في « ع » بدل « محفوظا » : « ملحوظا ».

الاختلافات الحاصلة بواسطة ارتفاع الأجزاء وتبادلها ، فالباب على هذا لا يكون جزءا لماهيّة الدار ، كما أنّ الأخشاب ليست أجزاء لماهيّة السرير المحفوظة في أنواع التقلّبات الحادثة عليه ، فالقائل بالأعم يدّعي أنّ لفظ « الصلاة » أيضا - كأحد ألفاظ هذه المركّبات - موضوعة لماهيّة صادقة مع الكثير والقليل من الأجزاء. ولا يلزم من ذلك اختلاف الماهيّة ؛ إذ لزومه موقوف على أن يكون الماهيّة هي تلك الأجزاء الخارجيّة ، وهو غير مسلّم.

قلت : ذلك على تقدير صحّته في ما ذكره من المركّبات الخارجيّة ؛ إذ نجد من أنفسنا الوضع لتلك الأجزاء الخارجيّة (1) بعينها ، فهو ممّا لا ينبغي القطع بفساده في خصوص لفظ « الصلاة » وما شاكلها من العبادات ؛ حيث إنّهم مطبقون على أنّ السورة - مثلا - من أجزاء الصلاة ومقوّمات ماهيّتها ، وليست من مقوّمات الفرد ، من غير فرق في ذلك بين القائل بالصحيح والقائل بالأعم. وقد تقدّم فساد ذلك بما لا مزيد عليه.

وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا ، فعليك بالتتبّع في كلمات الأعميّين ، حيث تراهم مطبقين بحسب ظواهر كلماتهم على أنّ الأجزاء الزائدة في الصلاة الجامعة لجميعها من حقيقة الصلاة.

العاشر : أنّ الفقهاء قد أطبقوا على بطلان الصلاة بزيادة أحد أركانها عمدا أو سهوا كالركوع مثلا ، ولا ريب في كونه منهيّا عنه ، مع أنّهم يعدّونه ركوعا ويطلقون عليه اسم الركوع ، وهو لا يتمّ إلاّ بكون الركوع حقيقة في الأعم ؛ إذ لا معنى لزيادته على القول بالصحيح ؛ لعدم تحقّقه من أصله.

لا يقال : إنّ مرادهم من الركوع صورته.

ص: 98


1- لم ترد عبارة « إذ نجد من أنفسنا الوضع لتلك الأجزاء الخارجيّة » في « ع » و « م ».

لأنّا نقول : إنّ زيادة صورة الركوع لا توجب بطلان الصلاة ؛ ألا ترى أنّهم جوّزوا الانحناء لأخذ شيء من الأرض أو (1) لقتل العقرب وإن كان بقدر المكث في الركوع ، بل ولو احتاج إلى وضع اليدين على الركبتين على وجه يظنّ كونه راكعا.

والجواب أوّلا : أنّ لفظ « الركوع » لم يثبت تصرّف من الشارع فيه لفظا أو معنى (2) ، وقد عرفت عدم جريان النزاع على تقدير إمضاء أحد التقديرين.

وثانيا : أنّ المراد من الركوع صورته لكن بقصد أنّه ركوع (3) ، وبذلك يفترق مع الانحناء لأجل قتل العقرب أو لأخذ شيء من الأرض ، فعلى تقدير جريان النزاع فيه لا يثبت منه إلاّ الاستعمال ، وهو أعمّ من الوضع.

ثمّ إنّ بعض هذه الوجوه المتقدّمة - على تقدير تماميّتها - لا يجدي في إثبات المطلوب على وجه الكلّية ، ولا سبيل إلى دعوى الإجماع المركّب في هذه المسائل ، كما لا يخفى على من أمعن النظر. وهو الهادي.

ص: 99


1- لم يرد « أو » في « ع » و « م ».
2- في « ط » بدل « فيه لفظا أو معنى » : « في لفظه أو معناه ».
3- في « م » بدل « أنّه ركوع » : « الركوع ».

ص: 100

هداية

اشارة

قد عرفت في ما تقدّم (1) ذهاب بعضهم إلى التفصيل (2) بين الأجزاء والشرائط. ولعلّ الوجه فيه : أنّ ملاحظة المركّبات الخارجيّة على اختلاف أقسامها يعطي الظنّ بأنّ الشروط خارجة عن المسمّى ، وإلاّ لم يفرق بين الأجزاء والشرائط ؛ لدخول كلّ منهما في الماهيّة. والتزام الدخول - بعد الفرق بأنّ الداخل من الجزء هو نفسه ومن الشرط تقييده (3) - ممّا لا يرتضيه المنصف.

وبالجملة : فبعد ملاحظة ما تقدّم (4) - من الوجدان الذي هو العمدة في أدلّة القول بالصحيح - مضافا إلى ما ذكرنا في المقام ، يظهر الوجه في التفصيل المذكور ، وأنّه ليس ساقطا عن أصله ، بل يظهر من شيخنا - دام علاه - الميل إليه أو التوقّف فيه.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا وجه له ، ولا مجال للتوقّف فيه :

أمّا على ما يراه الأعمّي في الأجزاء - على وجه يكون الشرط تارة معتبرا في الصدق (5) واخرى لا يكون - ففساده قد ظهر بما لا مزيد عليه.

ص: 101


1- راجع الصفحة 29.
2- في « ع » و « م » بدل « ذهاب بعضهم إلى التفصيل » : « في نقل الأقوال أنّ من جملتها القول بالتفصيل ».
3- في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».
4- راجع الصفحة 73.
5- في « ع » بدل « الصدق » : « المصداق ».

وأمّا على غيره ، كأن يقال إنّ الشرط خارج عن الماهيّة في جميع المركّبات : فإن اريد أنّ ذات الشرط خارج (1) فهو حقّ لا مناص عنه ، لكنّه لا يجديه ؛ لكفاية دخول تقييده (2) في الماهيّة. وإن اريد أنّ تقييده (3) أيضا خارج ، فهو ممنوع ، بل هو مقطوع العدم ؛ نظرا إلى ما تقدّم من الوجدان وسائر الوجوه المتقدّمة ، بل بعض ما تقدّم من الأدلّة - كقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (4) - نصّ في دخول الشرط في المسمّى ، كما لا يخفى.

نعم ، الشرط يكون على وجهين :

أحدهما : أن يكون شرطا لوجود الماهيّة وتحقّقها مثلا ، ويلازمه توقّف الآثار المطلوبة من الماهيّة عليه أيضا ، كالكيفيّات الخاصّة المعتبرة في المعاجين من الأوزان المخصوصة وملاحظة الفصول الزمانيّة ونحوها.

الثاني : ما يتوقّف عليه فعليّة التأثير وظهور الآثار ، مثل خلاء المعدة لظهور الآثار المطلوبة من المعاجين من الإسهال والتفريح (5) ونحوهما مثلا.

فالأوّل ، ممّا لا ينبغي الإشكال في دخوله في الماهيّة بملاحظة تقييده ، ولا غرو في افتراقه الجزء بدخول نفسه في الماهيّة ودخول تقييده فيها ، كما تقدّم. ولا ينافيه الاتّصاف.

وأمّا الثاني ، فإن قلنا : بأنّ اسم الكل إنّما هو بملاحظة التأثير الفعلي على وجه لو لم يكن مؤثّرا بالفعل لم يكن المسمّى موجودا ، وجب الحكم بدخوله

ص: 102


1- في « م » زيادة : « عنها ».
2- في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».
3- في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».
4- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.
5- في « ط » بدل « التفريح » : « التقريح ».

في المسمّى أيضا. لكنّه بعيد جدّا ، بل قطعيّ الفساد. وإن لم نقل بذلك - كما هو الحقّ - فالظاهر خروج الشرط عن المسمّى.

وأمّا ما يظهر من بعض الأدلّة الشرعيّة : من خروج الشرط بأقسامه عن المسمّى ، كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. ) .. الآية (1) ، وقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (2) وقوله : « لا تصلّ في النجس » (3) فغايته الاستعمال ، نظير الاستعمالات المتقدّمة بالنسبة إلى الأجزاء في أدلّة الأعمّي. وقد عرفت الجواب عنها.

فائدتان :

الاولى : يتوقّف تمييز الأجزاء عن الشرائط على مراجعة الأدلّة الشرعيّة.

وقد يقال : إنّ الشرط هو كلّ ما يتوقّف عليه تأثير العمل ، مثل الطهارة التي استفيد من قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (4) توقّف تأثير الصلاة عليها ، والجزء إنّما هو مطلوب في الفعل.

وظنّي أنّه غير مطّرد ولا منعكس - كما لا يخفى - بل المدار على استفادة اعتبار ذات الشيء في شيء فيكون جزءا ، أو تقييده فيكون شرطا.

وقد يشكل الأمر في موارد لتشابه الأدلّة وعدم وضوح المراد منها ، كما في دليل الفاتحة ودليل الوضوء.

ص: 103


1- الإسراء : 78.
2- المائدة : 6.
3- ورد هذا المضمون في أحاديث كثيرة ، انظر الوسائل 2 : 1059 - 1068 ، الباب 40 - 46 من أبواب النجاسات.
4- تقدّم تخريجه آنفا.

فمن موارد الإشكال : النيّة ، حيث إنّهم اختلفوا في كونها جزءا أو شرطا (1) ؛ لإمكان استفادة كلّ منهما من قوله : « لا عمل إلاّ بنيّة » (2). والظاهر أنّها شرط على تقدير كونها « الإخطار ». وعلى ما هو التحقيق من أنّها « الداعي » ، فلا يعقل كونها شرطا أو جزءا من العمل المنوي ؛ فإنّ غاية الشيء غير معتبرة فيه بوجه ، كما لا يخفى.

ومنها : الطمأنينة ، إلاّ أنّ الظاهر كونها جزءا ، لا شرطا ؛ إذ لو كانت شرطا ، فإمّا أن يكون شرطا للأجزاء السابقة أو اللاحقة ، ولا سبيل إليهما :

أمّا الأوّل ، فلانعدامها بالدخول في اللاحقة ، اللّهمّ إلاّ أن يكون الشرط تعقّب الأجزاء السابقة بها ، وهو خلاف الظاهر من اعتبار الطمأنينة بنفسها.

وأمّا الثاني ، فلعدم تحقّقها قبل الإيجاد ، وحديث التعقّب كما عرفته.

ومنها : الوضوء إلاّ أنّه لا إشكال في خروج أفعاله من الصلاة ، وأمّا الحالة الحاصلة منها فهي معتبرة في الصلاة على وجه الشرطيّة ، كما هو الظاهر من دليله.

الثانية : قد ذكروا للجزء والشرط ثمرات (3) :

منها : أنّ الشروط كلّها امور توصّلية ، لا يجب قصد التقرّب فيها والرياء لا يفسدها ، بخلاف الأجزاء ؛ فإنّ تعبّدية الكل كافية في كونها تعبّدية ، فلو دخلها الرياء تفسد. وفيه نظر.

ومنها : أنّ الأجزاء يجب تحصيلها بخلاف الشروط ، فإنّه يكفي حصولها ؛ ولعلّ الوجه فيها الثمرة الاولى.

ص: 104


1- انظر مفتاح الكرامة 2 : 319 ، والمدارك 3 : 308.
2- الوسائل 4 : 711 ، الباب الأوّل من أبواب النيّة ، الحديث 1 و 4.
3- انظر مفاتيح الاصول : 532 ، وضوابط الاصول : 333.

ومنها : جريان حكم الشكّ بعد تجاوز المحلّ في الأجزاء دون الشرائط ؛ إذ للأوّل محلّ مقرّر ، ولا محلّ للثاني ؛ لاعتباره في جميع الأجزاء.

وفيه : أنّ الشرط أيضا يمكن فرض محلّ له فيما إذا كان حاصلا بواسطة الأفعال الخارجة عن نفس الشرط ، كالوضوء ، فإنّ محلّه قبل الصلاة.

تذنيب

تذنيب (1)

قد عرفت فيما تقدّم خروج ألفاظ المعاملات التي لم يثبت فيها حقيقة شرعيّة عن النزاع المذكور. فالحقّ أنّها باقية على معانيها اللغويّة من دون تصرّف في نفس المعنى ، على وجه يصدق المعنى مع القيود المعتبرة شرعا في ترتّب الأثر في نظر الشارع عليها وبدونها أيضا.

وبهذا الوجه يمكن أن يقال : إنّها للأعم ، يعني أنّها صادقة مع القيد وبدونه.

وحيث إنّ ذات المعنى ممّا لا يختلف ، ويكون جميع ما هو معتبر في صدق مفهومها موجودا فيه ، يمكن أن يقال : إنّها موضوعة للصحيح ، كما في سائر الألفاظ العرفيّة والمعاني اللغويّة ، كما لا يخفى على من له خبرة بها.

هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه المسألة الشريفة المنيفة ، المشتملة على ما أفاده الاستاذ المحقّق والعالم المدقّق ، أنار اللّه برهانه ، متّعنا اللّه ببقائه ، بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، وسلّم تسليما كثيرا (2).

ص: 105


1- في « م » بدل « تذنيب » : « هداية ».
2- في « م » زيادة : قد فرغت من تسويد هذه النسخة الشريفة في شهر ذي الحجّة ويوم الأحد ، وأنا العبد المذنب محمّد بن حسين الخوئيني ، في سنة 1296 من الهجرة النبويّة ، عليه آلاف التحيّة.

ص: 106

الكلام في الإجزاء

اشارة

ص: 107

ص: 108

اختلفوا في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أولا؟ على قولين (1) ، ستعرف الحقّ منهما.

وقبل الخوض في المطلب ينبغي رسم امور :

الأوّل : الظاهر أنّ البحث هذا إنّما هو في اقتضاء الإتيان بالمأمور به عقلا الإجزاء ، فليس البحث من الأبحاث اللغويّة التي يطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعا أو انصرافا (2) ، فيعمّ البحث ما إذا كان الأمر مستفادا من الإجماع ونحوه من الأدلّة الغير اللفظيّة ، ويشهد لذلك ملاحظة أدلّة الطرفين.

قلت : ويمكن توجيه البحث على وجه يرجع إلى الأبحاث اللفظيّة ، كأن يقال : إنّ الماهيّات التي تقع موردا للأمر على قسمين : فتارة يكون الوجه الذي يدعو إلى طلبها والأمر بها على وجه لا يسقط بالإتيان بها دفعة واحدة ، واخرى على وجه يسقط عند الإتيان بها مرّة واحدة ، فيمكن أن يكون النزاع في أنّ هيئة الأمر هل هي موضوعة للطلب المتعلّق بالقسم الأوّل أو القسم الثاني؟

ويؤيّد ذلك ما قد تمسّك للقول بعدم الإجزاء بمثل الأمر بالزيارة والأمر بالصلاة بعد معلوميّة أنّ حسن الزيارة والصلاة ممّا لا يسقط بالإتيان بها مرّة ، ولكنّه مناف لظاهر لفظ « القضاء » أو « الإعادة » ونحوهما ممّا هو متداول في ألسنة أرباب القول بعدم الإجزاء ، كما حكي عن أبي هاشم وعبد الجبّار (3) ، على ما ستعرفه.

ص: 109


1- انظر تفصيل ذلك في مفاتيح الاصول : 126.
2- في « ط » بدل « انصرافا » : « غيره ».
3- حكاه عنهما العلاّمة في نهاية الوصول : 107.

وبالجملة : فما ذكرنا هو المناسب لبعض عناوينهم أيضا ؛ حيث إنّ بعضهم عنون البحث بأنّ الأمر هل يفيد الإجزاء أو لا؟ ولو كان البحث في الاقتضاء العقلي كان الوجه هو التعبير بما عرفته في العنوان ؛ فإنّ الإتيان بالمأمور به هو الذي يصلح لأن ينازع فيه أنّه يقتضي الإجزاء أو لا ، دون الأمر ؛ إذ لا شكّ في أنّ مجرّد الأمر لا يقتضي ذلك. ومع ذلك كلّه ، فالأقوى أنّ النزاع إنّما هو في الاقتضاء العقلي ، كما يظهر من الرجوع إلى الأدلّة (1).

الثاني : الإجزاء - لغة - معناه الكفاية (2) ، وفسّروه في المقام بوجهين :

أحدهما : كون الفعل المأتيّ به مسقطا للتعبّد به (3) مع قطع النظر عن إسقاط الإعادة والقضاء ، كما يؤيّده ما نقل من الاتّفاق على اقتضاء الإتيان بالمأمور به الإجزاء بهذا المعنى (4).

وثانيهما : إسقاط القضاء (5). والمراد من القضاء - على ما قيل (6) - هو مطلق التدارك أعم من الإعادة والقضاء ؛ إذ لو كان باقيا على ظاهره من فعل المأمور به

ص: 110


1- لم ترد عبارة « قلت : ويمكن - إلى - الرجوع إلى الأدلّة » في « ط ».
2- انظر مجمع البحرين 1 : 85 ، مادة « جزأ ».
3- فسّره به المحقّق في المعارج : 72 ، والعلاّمة في نهاية الوصول : 11 و 107 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 129.
4- انظر القوانين 1 : 130 ، وضوابط الاصول : 163 ، ومناهج الأحكام : 64.
5- فسّره به الفاضل النراقي في المناهج : 64 ، وحكاه المحقّق في المعارج : 72 عن القاضي ، وانظر الفصول : 116.
6- قاله في ضوابط الاصول : 163 ، وانظر القوانين 1 : 130 ، ومناهج الأحكام : 64.

خارج الوقت ، يكون عدم الإجزاء عبارة عمّا لا يسقط القضاء وإن أسقط الإعادة ، وهو باطل ؛ لأنّ ما لا يسقط القضاء لا يسقط الإعادة بطريق أولى.

ويمكن التأمّل فيما ذكر ؛ بعدم الملازمة - كما هو ظاهر - وإن لم يبعد دعواه بالنسبة إلى إرادة مطلق التدارك من القضاء في المقام.

والنسبة بين المعنيين عموم مطلق ؛ لأنّ ما يسقط القضاء يسقط التعبّد أيضا ، ولا عكس ، كما في الصلاة بالطهارة الاستصحابيّة ؛ فإنّ الإتيان بها موجب للامتثال - لأنّ الاستصحاب من الأدلّة الشرعيّة الظاهريّة - ولا يوجب سقوط القضاء ، على ما هو التحقيق عندنا ، كما ستعرف.

وقد يتوهّم : أنّ النسبة بين المعنيين عموم من وجه ؛ لأنّ ما يقع في الخارج فاسدا قد يصدق معه سقوط القضاء ولو بواسطة عدم مشروعيّة القضاء له في الشرع ، فليس كلّ ما يسقط القضاء يسقط التعبّد به (1).

إلاّ أنّه ظاهر الفساد ؛ ضرورة عدم استناد سقوط القضاء حينئذ إلى الإتيان بالفعل الفاسد ، بل استناده إنّما هو إلى عدم الجعل له (2) ، كما هو ظاهر لا سترة عليه ، سيّما بعد ملاحظة السقوط فيما لو ترك الواجب من أصل. نعم ، لو اريد من إسقاط القضاء إسقاط الإتيان بمثل الفعل المأتيّ به في الزمن الثاني على نحو التدارك ، كان إسقاط القضاء لازما مساويا لسقوط التعبّد ؛ ضرورة أنّ الإتيان بالصلاة مع الطهارة الاستصحابيّة يقتضي سقوط الإتيان بصلاة اخرى مع الطهارة المستصحبة ، وإن لم يقتض سقوط الإتيان بها مع الطهارة المائيّة.

ص: 111


1- « به » من « ع ».
2- لم يرد « له » في « ع ».

ثمّ إنّ المراد بالإجزاء في المقام (1) - كما ستعرف - هو المعنى الثاني. وعلى تقديره لا اختلاف بينهما إلاّ بحسب القيود المعتبرة في المعنى الاصطلاحي ، فيكون المعنى : أنّ الإتيان بالفعل المأمور به على وجهه هل يقتضي الكفاية عن الإتيان به ثانيا؟ ولا يفرق في ذلك بين كون المأتيّ به مماثلا للمأتي به أوّلا أو مغايرا له بزيادة شيء عليه ؛ لعدم اختلاف معنى الكفاية بذلك.

فما قد يتوهّم : من أنّ العلاقة في المماثلة هي الفرديّة وفي الثاني هي المشابهة ممّا لا وجه له ؛ إذ على ما عرفت لا يكون هناك مجاز في استعمال الإجزاء أصلا ، غاية ما في الباب اختلاف متعلّق لفظ « الإجزاء » على الوجهين ، ولا مدخل لاختلافه فيه.

فالظاهر أنّه لم يثبت لأهل الاصول في لفظ « الإجزاء » اصطلاح جديد ؛ وتفسيرهم له بإسقاط القضاء إنّما هو من باب بيان محصّل المراد ، لا أنّه يراد من لفظ « الإجزاء » خصوص إسقاط القضاء المترتّب عليه كون العلاقة المشابهة أو الفرديّة ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في عدم حاجة إرادة معنى آخر غير الكفاية من لفظ « الإجزاء » بالنسبة إلى المعنى الأوّل أيضا ؛ إذ المعنيّ من العنوان على ذلك التقدير ، هو أنّ الإتيان بالمأمور به هل يوجب الكفاية عن التعبّد به أم لا؟ فلا حاجة إلى اعتبار علاقة السببيّة بالنسبة إلى المعنى الأوّل (2) ؛ نظرا إلى أنّ إسقاط التعبّد به ليس هو الكفاية ، بل هو مسبّب عن الكفاية.

واعلم : أنّ المراد ب- « الوجه » في العنوان هو الإتيان بالمأمور به مشتملا على جميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا.

ص: 112


1- في « ع » بدل « في المقام » : « هنا ».
2- لم ترد عبارة « أيضا إذ المعنيّ - إلى - المعنى الأوّل » في « ع ».

وقد يتوهّم : أنّ المراد به هو « وجه الأمر » الموجود في ألسنة المتكلّمين : من نيّة الوجوب أو الندب.

ويزيّفه دخول كلمة « على » عليه ؛ إذ المناسب على ذلك التقدير هو دخول اللام.

وقد يتعسّف في دفع ذلك بالتزام تضمين الاشتمال في لفظ « الإتيان ».

وهو - مع ركاكته - لا يلائم عنوان بعضهم (1) : من أنّ الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي امر به هل يقتضي الإجزاء أو لا؟ إذ الظاهر رجوع الضمير المجرور في قولهم « به » إلى المأمور به. ومع ذلك كلّه فلا وجه لتخصيص ذلك بالذكر من بين الشرائط والأجزاء المعتبرة في المأمور به ، كما لا يخفى.

الثالث : قد يستشكل في الفرق بين ما عرفت من العنوان وبين إفادة الأمر التكرار أو المرّة ، ثمّ بينه وبين النزاع المعروف : من تبعيّة القضاء للأداء.

ووجه الإشكال في المقامين ، هو : أنّ القول بعدم الإجزاء عين القول بالتكرار ، وعين القول بتبعيّة القضاء للأداء.

والظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في الفرق بعد كمال وضوحه ؛ حيث إنّ الكلام في مسألة المرّة والتكرار إنّما هو في تشخيص مدلول الأمر : من الدلالة على المرّة أو التكرار أو عدم الدلالة على شيء منهما ، والكلام في المقام إنّما هو في أنّ الإتيان بمدلول الأمر على القول بالمرّة أو التكرار أو الماهيّة ، هل يقتضي الكفاية والإجزاء عن الإتيان به على الوجوه ثانيا (2) ، أو لا؟ فلا ربط بين المسألتين مفهوما ، وأمّا

ص: 113


1- كالشيخ الطوسي في العدّة 1 : 213.
2- ثانيا من « ط ».

مصداقا فقد يكون القول بعدم الإجزاء ملازما للقول بالتكرار فيما إذا قيل بأنّ عدم اقتضاء الأمر للإجزاء يقتضي الإتيان بالفعل مرّة بعد مرّة.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده في القوانين في الفرق بين القول بالتكرار والقول بعدم الإجزاء (1).

وأمّا ما أفاده في الفرق بين القول بالإجزاء والقول بالمرّة : من أنّ عدم الإتيان ثانيا على الأوّل مستند إلى عدم الدليل ، وعلى الثاني مستند إلى دلالة اللفظ ، فلا ينهض فرقا بين القول بالإجزاء والقول بالماهيّة ؛ إذ عدم الإتيان فيه أيضا بواسطة عدم الدليل.

وأمّا الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء فلا يكاد يخفى ؛ إذ من المعلوم أنّ المراد بالقضاء في المقام هو الإتيان بالفعل ثانيا سواء كان في الوقت أو في خارجه بعد الإتيان به أوّلا في الوقت ، والمراد منه في تلك المسألة هو الإتيان بالفعل الفائت في الوقت ، فما أبعد إحدى المسألتين من الاخرى.

الرابع : قد أشرنا إلى أنّ الإجزاء بمعنى سقوط التعبّد به ليس من محلّ الخلاف في شيء. وصرّح بذلك جماعة ، على ما قيل (2). وينبغي أن يكون كذلك ؛ إذ لا يعقل عدم سقوطه بعد الإتيان بالفعل مستجمعا لجميع ما هو معتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، فالقول بعدم سقوطه ملحق بأقوال أصحاب السوداء.

وأمّا الإجزاء بالمعنى الثاني : فإن اريد من القضاء (3) ما هو المعروف منه - كما

ص: 114


1- القوانين 1 : 131.
2- قاله صاحب الفصول في الفصول : 116.
3- في « ع » زيادة : « فيه ».

عرفت في الفرق المذكور آنفا - فلا ينبغي التأمّل في فساده وسقوطه ؛ فإنّ عنوان التدارك يستحيل حصوله بعد فرض وجود المتدارك على ما هو عليه في الواقع ، فلا يصحّ قيام الدليل على وجوب التدارك.

وإن اريد منه الإتيان بالفعل بعد الإتيان به مرّة اخرى ، فهذا يتصوّر على وجهين :

فتارة يكون المأتيّ به ثانيا عين المأتيّ به في المرّة الاولى (1).

وتارة يكون المأتيّ به ثانيا أكمل من المأتيّ به في المرّة الاولى.

وعلى التقديرين لا يستحيل أن يقع فيه النزاع (2).

وما يظهر من ملاحظة أدلّة القول بالإجزاء أنّ النزاع إنّما هو في القضاء بالمعنى الأوّل ؛ إذ لولاه لم يلزم من القول بعدم الإجزاء تحصيل الحاصل ، إذ لا استحالة في الإتيان بالفعل ثانيا على وجه العينيّة أو الأكمليّة.

وما يظهر من أدلّة النافين - من قضاء الصلاة مع الطهارة الاستصحابيّة - أنّ النزاع إنّما هو في الإتيان بالفرد الأكمل ؛ إذ لا شكّ أنّ الصلاة مع الطهارة المعلومة أكمل ، بل الظاهر من استدلالهم بوجوب قضاء الحجّ الفاسد مع الأمر بإتمامه هو وجود النزاع في الإتيان بالمثل أيضا.

وبالجملة : فلا يكاد يظهر وجه تطمئن به النفس في تشخيص محلّ الخلاف في المسألة ، وإن استظهر بعضهم (3) كون النزاع في القضاء بالمعنى الأوّل ، لكنّه قد عرفت عدم تحقّق عنوان القضاء بالمعنى المصطلح بعد فرض الإتيان بالمأمور به على وجهه.

ص: 115


1- في « م » زيادة : « فهذا لا يستحيل لو قام الدليل على وجوبه ».
2- لم ترد عبارة « وعلى التقديرين لا يستحيل أن يقع فيه النزاع » في « ع » و « م ».
3- هو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 131.

وأفسد من ذلك ما لو اريد التدارك على وجه يعمّ القضاء في خارج الوقت والإعادة فيه ؛ إذ الإعادة بالمعنى المعروف من لوازم نفس الأمر الأوّل ووجوده ، بخلاف القضاء ؛ إذ يحتمل ثبوته بالأمر الجديد دون الأمر الأوّل ، فالمفسدة اللازمة على القول بوجوب الإعادة من - خلاف الفرض - آكد منها على القول بوجوب القضاء.

والأولى صرف عنان البحث إلى ما هو أهمّ : من تحقيق مطلب النافين ، فنقول :

إنّ الأمر إمّا أن يكون واقعيّا أو ظاهريّا.

وعلى الأوّل : إمّا أن يكون ثابتا في حالة الاختيار أو واقعا في حالة الاضطرار.

وعلى الثاني : إمّا أن يكون عقليّا أو شرعيّا.

فهذه أقسام أربعة ، في بعضها يجب أن يكون الإتيان بالمأمور به مقتضيا للإجزاء ويمتنع عدمه ، وفي بعض آخر يمتنع اقتضاؤه الإجزاء ويجب عدمه ، وفي بعضها يمكن الاقتضاء وعدمه ، فتارة مع وقوع ذلك بواسطة قيام دليل على الإجزاء ، واخرى مع عدمه.

أمّا القسم الذي يجب اقتضاؤه الإجزاء ، فهو الأمر الواقعي الاختياري ، كالأمر بالصلاة في حالة الاختيار مع الطهارة المائيّة مستجمعا لجميع ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط ، فإنّه يجب اقتضاؤه الإجزاء ؛ إذ لو لم يقتض ، فإمّا أن يكون بواسطة خلل في المأتيّ به والمفروض خلافه ، أو بواسطة أمر آخر يقتضي الإتيان بالفعل ولو لم يكن بعنوان التدارك - إذ اقتضاء الأمر الأوّل لذلك ظاهر البطلان - وهو أيضا مفقود لا يصغى لمدّعيه لا عقلا ولا نقلا ، وعلى تقديره فليس من محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّه وجوب الإتيان به ثانيا ، كما نبّهنا عليه.

ص: 116

قلت : هذا بناء على ما حرّروه في المقام ، وأمّا بناء على ما احتملته من أنّ النزاع في مدلول الأمر ، فلا يتّجه ذلك ، بل لا بدّ من القول : بأنّ هيئة الأمر لا دليل على كونها موضوعة للطلب المتعلّق بماهيّة لا ينقطع حسنها بالإتيان بها مرّة ، وعند عدم الدليل يكتفى بالإتيان مرّة ؛ لعدم الدليل على الزائد ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في ما يجب فيه الإجزاء ؛ ولنقرّر الكلام في الأقسام الأخر في طيّ هدايات ، وهو الهادي.

ص: 117

ص: 118

هداية

قد عرفت حال الأمر الواقعي الاختياري.

وأمّا الأمر الواقعي الاضطراري - مثل الصلاة مع الطهارة الترابيّة ، أو الوضوء مع المسح على الخفّين عند الضرورة ، ونحو ذلك - فالحقّ فيه الإجزاء مع إمكان عدمه ، بمعنى : أنّ مقتضى القواعد الشرعيّة هو كفاية المأتيّ به في حال الضرورة عن الأمر الواقعي الاختياري بعد زوال الضرورة ، إلاّ أنّه لا دليل على امتناع طلب المأمور به ثانيا في حال الاختيار بعد ما زالت الضرورة ، تداركا للفعل الواقع أوّلا.

لا يقال : فعلى ذلك يمتنع اقتضاؤه الإجزاء ، كما هو ظاهر ، بعد ملاحظة تحقّق التدارك.

لأنّا نقول : لا إشكال في أنّ المأتيّ به في حال الضرورة أنقص منه في حال الاختيار ، والمدّعى هو كفاية الناقص عن الكامل ، ولا ضير في الأمر بالفعل ثانيا إحرازا للكامل ، ويصدق على الفرد الكامل لفظ « التدارك » من دون غائلة.

فلنا في المقام دعويان :

إحداهما : كفاية الناقص عن الكامل ، وإجزاء الفعل الواقع في حالة الاضطرار عنه في حالة الاختيار.

وثانيتهما : إمكان عدم الإجزاء.

أمّا الاولى منهما ، فنقول : لا إشكال في كفاية الأمر الاضطراري عند الإتيان بالمأمور به على وجهه عن نفس المأمور به في حال الاضطرار ، بمعنى

ص: 119

أنّه لا يجب الإتيان به ثانيا لعين ما تقدّم في الأمر الاختياري ، بل وذلك جار في القسمين الأخيرين أيضا ، كما ستعرف.

وأمّا كفايته عن الواقعي ، فتارة يقع الكلام بالنسبة إلى الإعادة ، واخرى بالنسبة إلى القضاء ؛ لعدم الملازمة بين حكمهما ، فإنّ الثاني يدور مدار الفوت.

وربما يتوهّم صدق الفوت في المقام ولو بالنسبة إلى الأمر الواقعي (1) ، إلاّ أن يدّعى الإجماع المركّب بين سقوط الإعادة وسقوط القضاء ، أو يدّعى الأولويّة بالنسبة إلى القضاء.

وكيف كان ، فيتّضح البحث في مقامين :

المقام الأوّل : في أنّ قضيّة القواعد الشرعيّة عدم وجوب الإعادة في الوقت ؛ لأنّ الواجب الموسّع هو القدر المشترك بين الأفعال الواقعة عن المكلّفين بحسب اختلاف تكاليفهم في موضوعات مختلفة ، فقوله : « أقيموا الصلاة » هو الواجب ، ويتخصّص للحاضر في ضمن أربع ركعات ، وللمسافر في ضمن ركعتين ، وللواجد للماء في ضمن الصلاة مع الطهارة المائيّة ، وللفاقد له في ضمنها مع الطهارة الترابيّة ، فيكون الأمر الواقعي الاضطراري أحد أفراد الواجب الموسّع ، ولا إشكال في أنّ الإتيان بفرد من الماهيّة يوجب سقوط الطلب بالنسبة إليها ، وبعد سقوط الطلب لا وجه لوجوب الإعادة.

وتوضيح ذلك : أنّ فاقد الماء - مثلا - إمّا أن يجوز له المسابقة إلى الصلاة مع رجاء الماء ، أو لا يجوز. لا كلام على الثاني وإن كان بطلانه يظهر من المقام أيضا. وعلى الأوّل ، فالمفروض بقاء الواجب الموسّع على توسعته ، ومقتضى ذلك هو الإذن في إيقاع الفعل في أيّ جزء من أجزاء الزمان ،

ص: 120


1- في « م » بدل « الأمر الواقعي » : « الواقع ».

فعند عدم الماء يكون التكليف بالنسبة إليه هو الصلاة مع الطهارة الترابيّة ، كما أنّ المسافر تكليفه القصر ، وبعد وقوع الفعل المكلّف به في الخارج لا وجه لطلبه ؛ لسقوط الطلب بوجود المطلوب.

وببيان آخر : أنّ ما دلّ على جواز الصلاة مع السعة ورجاء الماء منضمّا إلى دليل وجوب الصلاة مع وجدان الماء ، يدلّ على أنّ المكلّف مخيّر بين إيجاد مطلق الصلاة التي هي واجبة على نحو الاتّساع في ضمن الفردين ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بأحد أفراد الواجب المخيّر مسقط عن الإتيان بالفرد الآخر.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا يعقل الأمر بالإعادة لمجرّد الأمر بالصلاة ؛ لاستلزامه طلب الحاصل.

وبالجملة : فالنظر في الأوامر الشرعيّة الواردة في أنواع الصلاة بحسب اختلاف أحوال المكلّفين يعطي أنّ إيجاد نوع من تلك الأنواع يكفي عن التكليف المتعلّق بكلّي تلك الأنواع ، مضافا إلى الاصول العمليّة ؛ فإنّ قضيّة الاصول أيضا ذلك ، فإنّ بعد زوال العذر يرجع الشكّ إلى ثبوت التكليف ، والأصل براءة الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ما لم يقم دليل شرعيّ عليها.

ولا يصحّ الاستناد في مقام إثبات التكليف بإطلاق الأوامر وعموم الأدلّة ، كأن يقال : إنّ إطلاق ما دلّ على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة قاض بتحصيله في كلّ صلاة ، خرج من العموم - بواسطة دليل الضرورة - حالة الضرورة ، وإذا زالت لا بدّ من الرجوع إلى العموم والأخذ بأصالة عدم التخصيص ؛ لأنّ المقام من موارد استصحاب حكم المخصّص ؛ إذ ليس في المقام عموم زمانيّ على وجه يؤخذ كلّ زمان فردا للعامّ الزماني ، حتّى لو قيل بالتخصيص الزماني لزم عدم الأخذ بأصالة الحقيقة في العام.

ثمّ إنّ ما تقدّم من اعتبار القدر المشترك ، إنّما يلائم قول الأعمّي والصحيحي

ص: 121

في بعض الوجوه. وأمّا على المختار من وجوهه فلا بدّ في تقرير الدليل المذكور من تمحّل لا يخفى على الفطن (1).

المقام الثاني : في أنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي الاضطراري هل يجزي عن الإتيان به قضاء أولا؟

قد يقال : إنّ مقتضى عموم دليل القضاء هو عدم الإجزاء ؛ فإنّ ما يقضي بالقضاء ليس هو الأمر الأوّل ، بل قوله : « اقض ما فات » ونحوه من الأدلّة التي اقيمت عليه في مقامه ممّا يتوقّف صدقه على صدق الفوت ، وهو معلوم في المقام ؛ ضرورة عدم وصول المكلّف إلى المنفعة الحاصلة من الأمر الاختياري ، وفوات المصلحة المترتّبة على المأمور به الواقعي الأوّلي.

فإن قلت : إنّ فوت المصلحة إنّما هو فرع لأن يكون المكلّف في معرض الوصول إليه ، ومع عدم توجّه الخطاب الواقعي الاختياري إلى المكلّف ليس في معرض الوصول إليه ، فلا يصدق الفوت بالنسبة إليه.

قلت : لا نسلّم كونه تابعا للخطاب الفعلي ، بل يكفي فيه وجود المصلحة في الفعل مع كونه ممّن يصلح لأن يخاطب بإيجاده ؛ كما يشهد به ملاحظة ما عدّوه من أسباب القضاء : من الجنون والحيض والتعمّد والنوم والإغماء ، فإنّ أغلب تلك الأسباب ممّا لا يصلح (2) معها وجود الخطاب الفعلي ، فما هو الملاك في الأمر بالقضاء في تلك الأسباب موجود في المقام أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ مراتب الفوت متفاوتة مختلفة :

فتارة : يكون بسبب الترك العمدي بعد وجود الطلب الفعلي.

ص: 122


1- لم ترد عبارة « ثمّ إنّ ما تقدّم - إلى - على الفطن » في « ع » و « م ».
2- في « ع » بدل « يصلح » : « يصحّ ».

وثانيتها : أن يكون بواسطة وجود مانع عن إدراك تلك المصلحة ، كما في ذوي الأعذار الشرعيّة أو العقليّة ، كالإغماء والجنون والنوم ونحوها من السهو والنسيان.

وثالثتها : أن يكون بواسطة كون المكلّف أهلا لأن يتحصّل منه الفعل المشتمل على المصلحة ، كما في الحيض ، فإنّ المرأة أهل - ولو بحسب نوعها - لأن يوجد منها الصلاة - مثلا - أو الصوم.

لا إشكال في صدق الفوت على الاوليين.

وأمّا الثالث ، فالظاهر ذلك فيها أيضا ؛ كما يشهد به ما ورد في حقّ النساء :

من أنّهن « ناقصات العقول والحظّ والأديان » (1) وعلّل الأخير : بأنّها تمكث شطرا من دهرها لا تصلّي (2)(3).

وبالجملة : فالظاهر صدق الفوت في المقام ، بل يظهر من العلماء صدق الفوت مع عدم اجتماع شرائط التكليف وعدم الشأنيّة ؛ حيث إنّهم عدّوا عدم البلوغ والعقل من أسباب الفوت (4) ، فمقتضى عموم دليل القضاء وجوب القضاء وعدم الإجزاء بالنسبة إليه.

وعلى هذا فيمكن القول بعدم الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ؛ للإجماع المركّب بين وجوب القضاء ووجوب الإعادة ، بل وبالأولويّة القطعيّة.

ص: 123


1- نهج البلاغة : 105 - 106 ، الخطبة 80. وفيه : « إنّ النساء نواقص الإيمان ، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول ... ».
2- في « ط » : « ولا تصلّي ».
3- نهج البلاغة : 106 ، وفيه : « فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ ».
4- انظر المبسوط 1 : 125 ، والشرائع 1 : 120 ، وإرشاد الأذهان 1 : 270.

ولا يمكن القلب بأن يقال : إنّ قضيّة ما ذكرناه هو الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ، والإجماع المركّب منضمّا إلى الأولويّة يوجب الإجزاء بالنسبة إلى القضاء ؛ لأنّ ما يوجب القضاء - وهو عموم دليله - أقوى من دليل عدم (1) وجوب الإعادة.

هذا غاية ما يمكن الانتصار به للقول بوجوب القضاء.

لكنّك خبير بما فيه ؛ لعدم صدق الفوت بعد إحراز المصلحة المترتّبة على الفعل الاضطراري على وجه يوجب قضاء ذلك الفعل. وكونها أكمل من المصلحة المترتّبة على الاضطراري لا يوجب ذلك ؛ لعدم عموم في دليل القضاء ، فإنّ الموجود في كتب الرواية - على ما أفاده الاستاذ - ليس ما هو المشهور في الألسنة ، من قولهم (2) : « اقض ما فات كما فات » بل الموجود فيها قوله عليه السلام : « ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك » (3) ، ومن المعلوم عدم صدقه في المقام ، سيّما بعد ملاحظة وروده (4) في مقام بيان الكيفيّة. نعم ، يصدق الفوت بالنسبة إلى الزيادة المترتّبة على الفعل الاختياري ، ولا دلالة في الرواية على وجوب تدارك كلّ فائتة ، والمقدار المذكور ليس من الفرائض كما لا يخفى.

فظهر من جميع ما ذكرنا : أنّ قضيّة القواعد الشرعيّة هو الإجزاء. وهذه هي الدعوى الاولى.

ص: 124


1- في « ع » بدل « من دليل عدم » : « من عدم دليل ».
2- لم يرد « من قولهم » في « م ».
3- لم نعثر عليه بلفظه في المصادر الحديثيّة من الخاصّة والعامّة ، نعم ورد ما يقرب منه ، انظر عوالي اللآلي 3 : 107 ، الحديث 150 ، والوسائل 5 : 359 ، الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث الأوّل.
4- في « م » بدل « وروده » : « ما ورد ».

وأمّا الثانية - أعني إمكان عدم الإجزاء بواسطة ورود دليل على وجوب الإعادة - فلأنّه لا استحالة عقلا وشرعا وعرفا في أن يقول الآمر للفاقد للماء : متى قدرت على الماء فتطهّر ؛ إذ المفروض أكمليّة المصلحة الموجودة في الطهارة المائيّة ، فيصحّ الأمر بها إحرازا لها.

ودعوى عدم صدق الإعادة على مثل المفروض بعد كونه ممّا لا فائدة يتعلّق بإثباتها أو نفيها (1) - لظهور المراد بها في المقام - دعوى فاسدة ؛ إذ لا يراد من الإعادة إلاّ ما يكون تداركا وتلافيا للفعل الواقع أوّلا وإن لم يكن مستفادا من الأمر الأوّل ، وإن كان الظاهر من عنوان الإعادة ذلك ؛ ولذلك قلنا : بأنّ القول بوجوب الإعادة في الأمر الاختياري أفسد من القول بوجوب القضاء ، ولكنّه قد تستعمل في عرفهم في مجرّد التدارك ولو بأمر آخر (2) ، كما ترى في أمر الشارع بإعادة الصلاة مع الجماعة مع وقوعها فرادى (3) ، وغير ذلك من موارد الإعادة (4) ، كما هو ظاهر.

ص: 125


1- لم يرد « أو نفيها » في « م ».
2- في « ط » و « ع » زيادة : « أيضا ».
3- راجع الوسائل 5 : 455 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة.
4- راجع الوسائل 5 : 153 ، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف.

ص: 126

هداية

في أنّ الأمر الظاهري العقلي لا يقتضي الإجزاء ، بل يمتنع ذلك فيه.

وبيانه إجمالا : أنّ الإجزاء فرع الأمر والإتيان بالمأمور به بعد ذلك على ما يعتبر فيه من الامور الداخليّة والخارجيّة ، ومع انتفاء الأمر - كما في محلّ الكلام - يمتنع الإتيان بالمأمور به على أنّه مأمور به ، فلا يتحقّق الامتثال ، فيمتنع حصول الإجزاء والكفاية عن الإعادة والقضاء.

وتوضيح ذلك على وجه التفصيل : أنّ ما هو مسلّم من الأمر العقلي الظاهري ، كحكم العقل بوجوب الاحتياط ، أو حكمه بوجوب دفع الضرر الموهوم أو المظنون ، لا يعقل أن يكون محلاّ للكلام ؛ إذ البحث في الإجزاء وعدمه إنّما يعقل فيما إذا انكشف الخلاف ، وحكم العقل بوجوب الاحتياط أو دفع الضرر لا معنى لكشف الخلاف فيه ؛ فإنّ ذلك هو مجرّد إحراز الواقع ، فلا يتصوّر فيه المخالفة على تقدير وجود الأمر الواقعي ، وعلى تقدير عدمه فلا واقع حتّى ينكشف عدم مطابقة الاحتياط أو دفع الضرر له ، وذلك ظاهر جدّا.

بل الكلام في ذلك إنّما هو فيما لو قيل بالأمر الظاهري فيه ، كالعمل بالقطع عند عدم المطابقة ، والعمل عند السهو والنسيان ، وكالعمل بالظنّ - عند انسداد باب العلم - الحاصل من غير الطرق الشرعيّة.

والحقّ أنّه لا أمر في هذه الموارد :

أمّا الأوّل ، فلأنّ الحامل للقاطع على الإتيان بما تخيّله الواقع هو الأمر الواقعي بحسب معتقده ؛ إذ بعد قطعه بوجود الأمر الواقعي يحكم العقل بوجوب الخروج عن

ص: 127

عهدته وامتثاله. ولا فرق في ذلك بين مطابقة اعتقاده للواقع ومخالفته ، فإنّ ذلك أمر خارج عن إدراك المدرك. وكما أنّه ليس عند المطابقة أمر آخر غير الأمر الواقعي الذي يدعو إلى وجود المأمور به ، فكذا عند المخالفة ليس شيئا آخر ؛ والمفروض عدم الأمر واقعا ، فلا أمر عند المخالفة.

والسرّ في ذلك هو ما حقّقناه - في بحث حجّية القطع - : من أنّ القطع ليس إلاّ مرآة للواقع كاشفا عنه ، فلا يعقل تأثيره في ترتّب الأحكام المترتّبة على المعلوم (1) ، ولا مدخل له في متعلّقه ؛ فإنّه أمر يتفرّع وجوده (2) على وجوده ، فكيف يعقل تأثيره في متعلّقه! فلو كان موجودا كان العلم به واقعا ، وإلاّ (3) فالعلم لا يصير علّة لوجوده ، وذلك ظاهر.

فعند الجهل المركّب لا يكون إلاّ اعتقاد الأمر الغير المؤثّر في وجود الأمر ، ومن الواضح الجليّ عدم كون اعتقاد الأمر أمرا ، فلا وجه لتوهّم الإجزاء ؛ ضرورة توقّفه على وجود الأمر ، والمفروض عدمه في المقام.

وما يتوهّم : من حصول امتثال أوامر الإطاعة حينئذ ؛ حيث إنّه اعتقد كونه مأمورا به فامتثل أوامر الإطاعة ، مضافا إلى وجود حكم العقل بلزوم الإتيان بما اعتقده مأمورا به ، فممّا لا يجدي شيئا ؛ إذ المقصود بالإجزاء في المقام هو كفاية المأتيّ به حال المخالفة للمأمور به واقعا ، وامتثال أوامر الإطاعة ممّا لا مدخل له في سقوط ذلك الأمر الواقعي الذي لم يحم حوله المكلّف أبدا. وكذلك حكم العقل ؛ فإنّ حكمه موافق لأدلّة الإطاعة ، على أنّ الإطاعة الواقعيّة غير حاصلة قطعا ؛ إذ من

ص: 128


1- انظر فرائد الاصول 1 : 30.
2- لم يرد « وجوده » في « م ».
3- في « م » زيادة : « فلا ».

المعلوم في محلّه أنّ وجود موضوع الإطاعة وتحقّق ماهيّتها في الواقع موقوف على تحقّق الأمر ، وحيث إنّه لا أمر في الواقع فلا إطاعة في الواقع (1) ، غاية الأمر تخيّل المكلّف بحسب (2) معتقده وجود الإطاعة ، واعتقاده لو كان مؤثّرا في وجودها لكان الأمر المعتقد أيضا موجودا.

وبوجه آخر : أنّ من المعلوم توقّف الإجزاء على الأمر ، وقد عرفت أنّ الأمر إمّا واقعيّ أو ظاهري ، وعلى التقديرين إمّا عقليّ أو شرعي ، ولا خامس لهذه الأقسام الأربعة ، وشيء منها لا يوجد في مقام تخلّف الاعتقاد عن الواقع.

أمّا الأمر الواقعي الشرعي فلأنّ المفروض عدمه ، كالواقعيّ العقلي.

وأمّا الظاهري الشرعي فغير موجود ؛ إذ لا يعقل تكليف القاطع من حيث كونه جاهلا بالواقع على العمل بمعتقده ؛ لعدم احتماله خلاف الواقع ، فلا يمكن توجيه (3) هذا الخطاب إليه ، والخصم أيضا لا يقول به.

وأمّا الظاهري العقلي فلعدم تعقّل حكم العقل بكونه مكلّفا بالعمل بقطعه من حيث كونه جاهلا بالواقع ؛ إذ بعد قطعه بخلاف الواقع لا احتمال للواقع عنده ، فكيف يقال في حقّه ذلك. نعم ، العقلاء المطّلعون على حاله وعلى الواقع يحكمون بكونه جاهلا بالواقع ومعذوريّته بالنسبة إلى الواقع للزوم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا أوامر الإطاعة والنهي عن المعصية فتحقّقها موقوف على الأوامر الواقعيّة ، والمفروض (4) انتفاؤها.

ص: 129


1- في « ع » و « م » زيادة : « أيضا ».
2- في « م » بدل « بحسب » : « بسبب ».
3- في « م » : « توجّه ».
4- في « ع » زيادة : « في المقام ».

نعم يبقى في المقام عنوان « التجرّي » و « الانقياد » وهو أيضا لا يجدي شيئا ؛ إذ بعد تسليم وجوب الانقياد وحرمة التجرّي ، فهذا الفعل الذي ارتكبه الجاهل يصير حسنا أو قبيحا باعتبار كونه انقيادا أو تجرّيا مع قطع النظر عن الأوامر الواقعيّة ؛ فإنّ موضوع التجرّي والانقياد ممّا لا يتحقّق إلاّ بعد تخلّف الواقع - كما هو ظاهر - فإيجاد فعل يكون منشأ لانتزاع عنوان « الانقياد » ممّا لا يجدي في عنوان المأمور به الواقعي الذي لم يحم حوله المكلّف أبدا ، فالأمر به بعد العلم به باق بحاله ، والعقل الحامل على وجوب امتثال أوامر اللّه ورسوله (1) موجود ، فيحكم بوجوبه ، ولا مخلص عنه إلاّ بالامتثال. ولو قام دليل على عدم التكليف بعد الكشف لا بدّ من طرحه ؛ إذ ليس الكلام في الخارج عن الوقت. وأمّا في الوقت (2) فلا بدّ أن يحمل على النسخ أو حصول البداء أو غير ذلك من وجوه سقوط التكليف ، والكلّ باطل ؛ ولذلك قلنا بامتناع الإجزاء في المقام.

وأمّا الثاني (3) - يعني صورة النسيان - كما إذا نسى شيئا من أجزاء المركّب وأتى ببعض أجزائه ، فقضيّة القاعدة عدم الإجزاء فيما إذا كان الجزء من الأجزاء الواقعيّة لذلك المركّب.

وأمّا إذا كان التكليف بالإتيان بذلك الجزء مختصّا بحالة الذكر ، على وجه يكون المكلّف به هو المشترك بين حالة الذكر والذهول ، فمرجعه إلى الواقعيّ الاضطراري ، وهو - كما عرفت - يفيد الإجزاء ، ففيما إذا كان الجزء واقعيّا

ص: 130


1- في « ع » و « م » بدل « أوامر اللّه ورسوله » : « الأوامر الإلهيّة والنبويّة ».
2- في « م » : « وأمّا ما في الوقت ».
3- عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة 127.

والشرط كذلك وأتى المكلّف بالفعل من دون إتيانه ذلك يمتنع الإجزاء ؛ إذ لا أمر هناك أيضا لا واقعا ولا ظاهرا :

أمّا الأمر الواقعي فمعلوم العدم ؛ إذ المفروض تعلّقه بمركّب مشتمل على الجزء المنسي ، فليس ما عداه مأمورا به واقعا.

وأمّا الأمر الظاهري فلأنّ مرجعه - كما ستعرف - إلى بيان حكم لموضوع من حيث هو جاهل بالواقع ، كما في الأحكام المجعولة في موارد الاصول العمليّة - كالبراءة والاستصحاب - فإنّ المكلّف من حيث هو شاك بالواقع حكمه الأخذ بالحالة السابقة مثلا ، ومن المعلوم أنّ حكم موضوع من الموضوعات غير متوجّه إلى أحد إلاّ على تقدير التفاته بأنّه داخل في ذلك الموضوع ، فالغافل والناسي والساهي لو كان لها أحكام ظاهريّة من حيث عدم الوصول إلى الواقع ، لا تتوجّه تلك الأحكام إلى المكلّف إلاّ على تقدير التفاته - في حال السهو والنسيان والغفلة - بكونه ساهيا غافلا ناسيا ، ومن المعلوم بالضرورة فساد ذلك ؛ إذ على تقدير التفاته بالسهو والنسيان والغفلة يلتفت إلى الواقع (1) ، فإن علم به لا بدّ من الإتيان به ، وإلاّ فعليه الفحص ، ويخرج بذلك عن موضوع الساهي والناسي والغافل ، وذلك ظاهر جدّا. على أنّ العمل الصادر من المكلّف حال النسيان إنّما يعتقد فيه أنّه الواقع ، فعلى تقدير وجود الحكم الظاهري لذلك الموضوع وتعلّقه بالنسبة إليه ليس العمل الذي ارتكبه صادرا منه بذلك الاعتبار ، وهو واضح.

وأمّا الثالث (2) ، أعني صورة حصول الظنّ من الأمارات الغير المجعولة شرعا عند انسداد باب العلم - نظرا إلى استقلال العقل بكون الظنّ المطلق طريقا إلى الواقع

ص: 131


1- في « ع » و « م » زيادة : « أيضا ».
2- عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة 127.

منجعلا من دون حاجة إلى الجعل كما في العلم - فلأنّ الداعي إلى إيجاد الفعل والعمل في الخارج ليس إلاّ الأمر الواقعي الذي استكشفه العامل بالظنّ الذي ليس فيه شائبة (1) الموضوعيّة ، بل اعتباره حينئذ بمجرّد كشفه الظنّي عن الواقع ، وبعد كشف الخلاف يظهر أنّه كان لاغيا في العمل ، وإنّما كان متخيّلا لوجود الأمر ، والمفروض عدم تأثير تخيّله في وجود الأمر واقعا ، فلا أمر في الواقع ، فلا إجزاء ؛ ضرورة تفرّعه على الأمر. وذلك ظاهر بعد ما عرفت القول في ذلك عند القطع مع عدم المطابقة. وعنوان « التجرّي » و « الانقياد » قد عرفت عدم اتّجاه الاستناد إليه ، فتدبّر. واللّه الهادي.

ص: 132


1- في « ع » و « م » بدل « شائبة » : « شأنيّة ».

هداية في الأمر الظاهريّ الشرعي

وينبغي تمهيد مقدّمة في بيان المراد من الحكم الظاهري ، فنقول :

قد يطلق الحكم الظاهري في قبال الأحكام المستفادة من الأدلّة الاجتهاديّة ، كأخبار الآحاد ونحوها من الأمارات الكاشفة عن الأحكام الواقعيّة التي لا مدخل للعلم والجهل فيها ، وإن كان لغيرهما من الصفات واللواحق والطوارئ مدخل فيه ، كالصحّة والمرض والسفر والحضر وأمثالها. فتكون الأحكام الظاهرية مختصّة بموارد الاصول العمليّة : من البراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها.

وقد يطلق ويراد بها الأحكام المستفادة من الأمارات التي يحتاج في اعتبارها إلى جعل ، فيعمّ الأمارات الاجتهادية وغيرها من الاصول العمليّة.

فالمراد من الحكم الظاهري هو الوجوب المستفاد من الأدلّة التي يجب الأخذ به بواسطة ما دلّ على اعتبار ما دلّ على ذلك الوجوب ، من الخبر والأصل ونحوهما ، وإن كان ذلك الخبر مثلا ناظرا إلى الواقع ومبيّنا لما نزل به جبرئيل عليه السلام ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن ذلك البيان والكشف علميّا احتاج إلى دليل آخر يفيد اعتباره.

فلمثل هذه الأخبار جهتان : إحداهما : كونها ناظرة إلى الواقع ، والثانية : احتياجها إلى دليل الاعتبار ، فمن حيث إنّها كواشف عن الواقع يقيّد بالأحكام الواقعيّة الاجتهاديّة ، ومن حيث احتياجها إلى دليل الاعتبار يطلق على ما يستفاد منها : الأحكام الظاهريّة ، وهذا إنّما هو في مثل الأخبار.

ص: 133

وأمّا الاصول فلها جهة واحدة ؛ إذ لا كشف فيها جدّا ، وهو الوجه في تقديم الأدلّة الاجتهاديّة عليها مع اشتراكهما في كون الأحكام المستفادة منهما أحكاما ظاهريّة ، وليس المقام محلّ توضيحه.

وكيف كان ، فالمراد من الأحكام الظاهريّة في المقام ، هي : المحمولات الثابتة للموضوعات الواقعيّة باعتبار قيام أمارة عليها التي دلّت الأدلّة القطعيّة على وجوب العمل بها وترتّب الأثر عليها ، سواء كانت تلك الأمارة دليلا اجتهاديّا حكميّا كأخبار الآحاد ، أو موضوعيّا كالبيّنة ونحوها ، أم أصلا من الاصول ، سواء كان من الاصول المعمولة في الأحكام الكلّية الإلهيّة كالبراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها ، أم من الاصول (1) المعمولة في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الجزئيّة كأصالة الصحّة ، واليد ، والسوق ونحوها.

وإذ قد عرفت المراد من الحكم الظاهري في المقام ، فنقول :

الحقّ أنّ بعد كشف الخلاف في الأحكام الظاهريّة مع الإتيان بالمأمور به الظاهري لا إجزاء واقعا وإن أمكن الإجزاء ؛ فلنا في المقام دعويان ، يظهر وجه الثانية في ضمن بيان الاولى.

وتوضيحها يحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّ من المقرّر في مقامه (2) أنّ جعل الطرق المفيدة للأحكام الظاهريّة باعتبار وجوب العمل بمفادها مع إمكان التخلّف عن الواقع - بل وقوع التخلّف كثيرا - قبيح ما لم يشتمل سلوك ذلك الطريق على مصلحة زائدة أو مساوية لمصلحة الواقع ؛ لئلاّ يلزم تفويت المصلحة الواقعيّة ونقض الغرض في جعل الأحكام الواقعيّة.

ص: 134


1- في « م » زيادة : « الفقهيّة ».
2- انظر فرائد الاصول 1 : 108 - 124.

ووجه اللزوم لولاه ظاهر ، ونزيده توضيحا بملاحظة جواز الرجوع إلى البيّنة في تشخيص الوقت مع إمكان تحصيل العلم به بالإحساس وغيره من أسباب العلم ، فقضيّة اللطف الواجب على اللطيف الحكيم اشتمال ذلك الطريق على مصلحة متداركة لما هو الفائت - على تقدير التخلّف - كما أوضحنا ذلك في الردّ على « ابن قبة » (1) حين أنكر جواز العمل بالخبر (2).

وتلك المصلحة يمكن أن تكون على وجهين :

أحدهما : أن يكون تلك المصلحة في الموارد التي دلّ على حكمها تلك الطرق لا من حيث ذواتها ، بل من حيث قيام تلك الطرق عليها واستفادة أحكامها منها ، فيكون قيام تلك الأمارة ودلالتها على حكم موردها موجبا لحدوث مصلحة في ذلك المورد ، عدا ما فيه من المصلحة المقتضية لجعل الحكم الواقعي على طبقه ، وتلك المصلحة هي الداعية لجعل الشارع تلك الأمارة حجّة (3) في قبال مصلحة الواقع.

مثلا إذا دلّ الدليل على حرمة العصير العنبي ، فهذا الموضوع له مصلحتان : إحداهما : ما هي مكنونة فيه مع قطع النظر عن كونه مدلولا للأمارة التي اقتضت جعل الحكم الواقعي على طبقها من الحلية وجواز الأكل ونحوهما ، والثانية : ما يعتريه ويعرضه باعتبار كونه من موارد الأمارة الفلانيّة ، من مصلحة الحرمة وعدم جواز الأكل منه. ولازم ذلك تقييد الأدلّة الواقعيّة وتنويع ذلك الموضوع به ، فإنّه لا بدّ من القول بأنّ حلّية العصير فيما لم يكن أخبر العدل بحرمته ، فالعصير

ص: 135


1- هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي ، من متكلّمي الإماميّة ، وكان معتزليّا ، ثمّ تبصّر ، انظر رجال النجاشي : 375.
2- راجع فرائد الاصول 1 : 105 - 111.
3- في « ع » و « م » زيادة : « حينئذ ».

فيما إذا طرأ له كونه ممّا أخبر العدل بحرمته يغايره فيما إذا لم يخبر العدل بحرمته ، فهو إذن نوعان ، فالحكمان إنّما هما واردان على موضوعين ، كالحاضر والمسافر والصحيح والمريض.

وتسمية مثل ذلك حكما ظاهريّا إنّما هو من مجرّد الاصطلاح الذي لا مشاحّة فيه ، وإلاّ فهو حكم واقعيّ في موضوعه ؛ إذ لا حكم في الواقع لذلك الموضوع إلاّ ذلك ، فيلزم التصويب على ذلك التقدير (1) ، ووجه اللزوم ظاهر.

والثاني : أن يكون ذلك الطريق على وجه لا يوجب وجود مصلحة متداركة لمصلحة الواقع - على تقدير التخلّف - في مورده ومتعلّقه ، ولا يصير منشأ لحدوث (2) المصلحة في مدلوله من حيث دلالته عليه ، فلا بدّ من أن يكون المصلحة في جعله طريقا ، من غير أن تسري تلك المصلحة إلى الموارد التي دلّت تلك الطرق عليها ، وإلاّ لزم تحليل الحرام وتحريم الحلال من دون ما يقضي بذلك ، وهو قبيح ، كما عليه المانع من العمل بالطريق الظنّي.

وتوضيح الفرق بين الوجهين ، هو : أنّ المصلحة على الأوّل إنّما هي في الموضوعات التي يدلّ عليها الطرق الظنّية ، وعلى الثاني إنّما هي في جعلها طرقا إلى الواقع ووجوب الأخذ بمداليلها على أنّها هي الواقع ، فليس فيها إلغاء الواقع ، بل هو عين مراعاة الواقع بجعل الطريق إليه. ففيما إذا لم يخالف تلك الطرق عن الواقع فلا إشكال ، وعند التخلّف يكون مداليلها واقعيّا جعليّا ، لا لوجود المصلحة في نفس المدلول حتّى يكون من هذه الجهة في عرض الواقع وإن كان من جهة اخرى مرتّبا عليه - كما لا يخفى - بل لاقتضاء الحكمة والمصلحة نفس (3) الجعل والتنزيل الذي

ص: 136


1- لم يرد « التقدير » في « م ».
2- في « ع » زيادة : « تلك ».
3- في « ع » و « م » بدل « والمصلحة نفس » : « وجود المصلحة في نفس ».

يقضي بوجوب الأخذ به في مقام الظاهر وترتيب الآثار الواقعيّة على مداليلها ، كما هو ظاهر. ولازم ذلك هو بقاء الأحكام الواقعيّة وعدم تقييدها ، فهي إذن بالنسبة إلى العالم والجاهل سواء. ولا يفرق وجود الأمارة وعدمها في الأحكام الواقعيّة المتعلّقة بالموضوعات الواقعيّة (1) من غير تقييد فيها. نعم ، ما يدلّ على ذلك الجعل - من أدلّة حجّية تلك الأمارات - حاكمة على أدلّة (2) الواقع ، بمعنى تنزيل مداليل تلك الطرق منزلة الواقع ، ووجوب الأخذ بها على أنّها الواقع ، ولزوم ترتيب آثار الواقع عليها.

وإذ قد عرفت هذين الوجهين والفرق بينهما ، فاعلم أنّ لازم الوجه الأوّل هو الإجزاء وعدم لزوم الإعادة فيما لو انكشف الخلاف في الوقت - نظير ما مرّ القول فيه (3) في الواقعي الاضطراري - لما عرفت : من أنّ لازمه تقييد أدلّة الواقع وتنويع موضوعاتها - كالمسافر والحاضر - فيكون المكلّف به هو أحد الأمرين ؛ لما قرّر في محلّه : من أنّه لو تساوى شيئان في المصلحة فلا وجه للتكليف بأحدهما على وجه التعيين.

ولا معنى لبقاء التكليف بعد الإتيان بأحد الأبدال في الواجبات التخييريّة - كالخصال (4) - بل ومن المعلوم أولويّة المقام من الأمر الاضطراري ؛ لما مرّ : من أنّ المصلحة المترتّبة على الناقص ربما يكون غير مساوية للمصلحة المترتّبة على الكامل ، فلا مانع من أن يأمر به الحكيم تحصيلا للمصلحة الكاملة بعد زوال العذر

ص: 137


1- لم يرد « المتعلّقة بالموضوعات الواقعيّة » في « م ».
2- لم يرد « أدلّة » في « ع ».
3- في « ع » بدل « مرّ القول فيه » : « هو القول ».
4- لم يرد « كالخصال » في « ط ».

والاضطرار ، والمفروض في المقام هو مساواة المصلحة المترتّبة على الفعل من جهة ملاحظة نفسه ومن حيث (1) قيام الأمارة عليه ، وبعد فرض التساوي لا وجه للأمر ؛ لامتناع طلب الحاصل.

وبالجملة : بعد ملاحظة ما دلّ على كون العالم مكلّفا بالواقع ، والجاهل بما أدّى إليه الطريق كما هو المفروض ، مع كون الوقت موسّعا ، كما هو مفروض المقام - لعدم تعقّل الإعادة على تقدير عدم التوسعة - مع ملاحظة ما دلّ على الترخيص في إيجاد الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت الموسّع ، يفهم منه أنّ المكلّف به هو القدر المشترك بين مؤدّى الطريق والواقع ، وأنّ المكلّف مخيّر بينهما على حسب أجزاء الزمان ، وعلى حسب ما يطرأ له من حالاته علما وجهلا وحضرا وسفرا إلى غير ذلك. وقد عرفت مرارا أنّ الإتيان بالفرد مسقط عن التكليف بالقدر المشترك ، فلا وجه للقول بالإعادة على ذلك التقدير ، إلاّ أنّ الكلام في نفس التقدير ، كما سيجيء.

ولازم الوجه الثاني هو وجوب الإعادة وعدم الإجزاء عند كشف الخلاف ؛ إذ المفروض عدم تقييد الواقع وبقاء الأحكام الواقعيّة بحالها وعدم اختلافها بالعلم والجهل وعدم تغيّرها بوجود الأمارة المتخلّفة وعدمها ، فقضيّة ما دلّ على وجوب الخروج عن عهدة التكاليف الواقعيّة - بعد العلم بها من العقل والنقل - هو لزوم الإتيان بالواقع ووجوب امتثال أوامره ونواهيه.

فإن قلت : إنّ وجود الأمارة وإن لم يوجب حدوث المصلحة في موردها - على ما مرّ في الوجه الأوّل - إلاّ أنّه لا بدّ من أن يكون جعلها حجّة وأمارة مشتملا على مصلحة مساوية لمصلحة الواقع عند التخلّف عنه ، وإلاّ لزم تفويت المصلحة الواقعيّة من غير تدارك لها. وبعد الأخذ بالأمارة والعمل بمدلولها قد حاز المكلّف ما يساوي مصلحة الواقع ، فيكون ذلك الأخذ في مرتبة العمل بالواقع ، وقد قرّر في

ص: 138


1- في « ع » بدل « حيث » : « جهة ».

مقامه أنّ العمل بما يشتمل على مصلحة شيء مجز عن ذلك الشيء ، فلا بدّ أن يكون الأخذ بالأمارة مجزيا عن الواقع.

قلت : إنّ ما ذكرنا إنّما يجدي فيما لم ينكشف الخلاف ، وأمّا بعد انكشافه في الوقت ، فلا ينبغي الإشكال في عدم اشتمال الأمارة على مصلحة الفعل ؛ إذ بعد العلم بوجوب الواقع واشتماله على المصلحة ، لا يلزم تفويت المصلحة منه تعالى ، وذلك ظاهر. نعم ، لو فرض ترتّب فائدة على وقوع الفعل في الزمان الذي وقع فيه على حسب دلالة الأمر - مثل المسارعة في العمل - فمقتضى الحكمة واللطف هو ترتّب تلك الفائدة على الأخذ بالأمارة ؛ فإنّ تفويت تلك الفائدة مستند إلى اللّه حيث جعل تلك الأمارة حجّة.

وينبغي أن يعلم أنّ ما ذكرنا لا يجري فيما لو كان هناك حكم مترتّب على العلم ؛ فإنّه لا بدّ من القول بالإجزاء فيه ، لأنّ موضوع ذلك الحكم واقع في الواقع ، فلا وجه لعدم ترتّبه عليه.

فلو دلّ الخبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة ، وامتثلها المكلّف ، ثمّ أتى بالنافلة المبتدأة اتّكالا على فراغ ذمّته عن الواجب - بمقتضى الخبر - فانكشف الخلاف ، بأنّ الواجب عليه في الواقع هو الظهر دون الجمعة ، فهنا امور : أحدها : وجوب إعادة الصلاة ظهرا ، وثانيها : لزوم ترتّب فائدة التعجيل والمسارعة - التي لم يبق محلّها بعد الكشف - على العمل بالأمارة ، وثالثها : صحّة النافلة المبتدأة فيما لو قلنا بأنّ صحّتها متفرّعة على العلم بعدم اشتغال الذمّة بالفريضة ، كما قد يستظهر ذلك من كلمة « الاستعلاء » في قوله : « لا تطوّع لمن عليه الفريضة » (1) وأمّا لو قلنا بأنّ صحّتها موقوفة على عدم اشتغال الذمّة واقعا بالفريضة ، فلا وجه للقول بالصحّة حينئذ.

ص: 139


1- المستدرك 3 : 144 ، الباب 28 من أبواب المواقيت ، الحديث 2.

ونظير ذلك : إذا صلّى الإمام في الثوب النجس تعويلا على أصالة الطهارة ، فصحّة صلاة المأموم يحتمل تفرّعها على علم الإمام بصحّة صلاته ، ويحتمل تفرّعها على صحّتها في الواقع ، فعلى الأوّل لا وجه للإعادة مطلقا ؛ لحصول ما هو الوجه في الصحّة واقعا ، وعلى الثاني لا بدّ من القول بالإعادة إذا لم نقل بأنّ الصلاة في الثوب النجس تعويلا على استصحاب الطهارة صحيحة في الواقع بحيث لا يجب إعادتها لو انكشف نجاسته في الوقت ، وأمّا إذا قلنا بذلك فتصحّ صلاة المأموم قطعا ؛ لأنّ شرط صحّة الاقتداء صحّة صلاة الإمام واقعا ، وهي حاصلة على هذا. ولذا فرّع العلاّمة صحّة صلاة المأموم في الفرض على ذلك (1).

وبالجملة : فكلّ ما كان من آثار العلم بالواقع فهو مترتّب على العمل بالأمارة ، وكلّ ما هو من آثار الواقع فلا وجه لترتّبه على العمل بعد الكشف.

وهذا هو المراد من القول بإمكان الإجزاء في صورة التخلّف في الأحكام الظاهريّة الشرعيّة ، إلاّ أنّ ذلك غير خال عن المسامحة.

وأمّا تمييز ذلك ومعرفة أنّ الحكم من الأحكام المتفرّعة على العلم أو من الآثار المترتّبة على الواقع ، فلا بدّ في ذلك من الرجوع إلى ما يفيد ذلك الحكم من الأدلّة ، فإن استظهرنا من الدليل تفرّعه على العلم فيحكم بالإجزاء ، وإن استكشفنا منه ترتّبه على الواقع فلا وجه للقول بالإجزاء. وذلك كلّه ظاهر.

إنّما الإشكال في أنّ جعل الطرق الظاهريّة ، على أيّ وجه من الوجهين المعلومين؟ فنقول : إنّ الظاهر هو الوجه الثاني ؛ فإنّ مقتضى الأدلّة الدالّة على حجّية تلك الطرق هو مراعاة الواقع ، فلا تكون هذه الأمارات في عرض الواقع ، بل المستفاد منها أنّها طرق إليه عند الجهل ، إمّا مطلقا من دون تقييدها بالفحص

ص: 140


1- انظر قواعد الأحكام 1 : 318.

وعدمه ، كما في الأمارات المعمولة في الموضوعات - مثل الاستصحاب واليد والسوق ونحوها - وإمّا مع الفحص ، كما في الأمارات المعمولة في الأحكام ؛ كما يرشدك إلى ذلك ملاحظة أدلّة الاصول العمليّة ، كقوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام ... إلى آخره » (1) وغير ذلك ، فإنّ المستفاد منها هو وجود الحرام الواقعي مع قطع النظر عن العلم والجهل ، وأنّ الشارع جعل في موارد الاصول أحكاما كلّية في مقام العلاج.

ويظهر ذلك - غاية الظهور - من ملاحظة الأخبار الواردة في حجّية الأخبار الموثوق بها (2) ، وملاحظة الأخبار الواردة في مقام علاج الأخبار المتعارضة (3) ، وملاحظة كلمات العلماء في الأبواب الفقهيّة والقوانين الاصوليّة وغيرها.

ويكفيك شاهدا في المقام الإجماع على حسن الاحتياط في الموارد التي قامت فيها الطرق الشرعيّة والأخبار الآمرة على وجه الإرشاد بالأخذ بما هو الحائط (4) ، والنهي عن ارتكاب الشبهات (5) ، والاجتناب عمّا لم يعلم (6).

ص: 141


1- الوسائل 12 : 60 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.
2- انظر الوسائل 18 : الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 27 ، 33 و 40 ، والكافي 1 : 330 ، الحديث الأوّل.
3- انظر الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، والمستدرك 17 : 303 ، الحديث 2.
4- الوسائل 18 : 111 ، الحديث 1 و 54 و 58.
5- الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، والصفحة 111 ، الباب 12 من الأبواب ، الحديث 2 ، 15 ، 43 و 50.
6- الوسائل 18 : 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20 و 27 ، والباب 4 من الأبواب ، الحديث 14.

والوجه في ذلك كلّه ظاهر ؛ إذ لو لا أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة عند الجهل والعلم ، لوجب أن يكون بدل قوله : « حتّى تعرف الحرام » ، « حتّى يصير حراما بالمعرفة » ومن هنا قلنا : بأنّ مقتضى تلك الأخبار هو وجوب الاجتناب عن الحرام المعلوم إجمالا في أطراف الشبهة المحصورة.

وأظهر من ذلك قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (1) فإنّ القذارة أمر لا مدخل للعلم والجهل فيها وتكون ثابتة على التقديرين ، غاية الأمر جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك من حيث هو مشكوك الطهارة ، لا أنّ موارد الشكّ طاهرة في الواقع بواسطة الاصول المعمولة فيها.

وما ذكرنا غير خفيّ على المتتبّع الماهر ، سيّما بعد ملاحظة وجوب الفحص والسؤال عن الأحكام الواقعيّة ؛ إذ المكلّف يمتنع خلوّه عن موارد الاصول العمليّة ، وعلى أيّ تقدير يصل إليه ما يساوي الأحكام الواقعيّة المجعولة على طبق الصفات الكامنة (2) من جهة المصلحة ، ومن المعلوم أنّ وصول ما يساوي لمصلحة الشيء يوجب سقوط ذلك الشيء ، وقضيّة ذلك عدم وجوب الفحص والسؤال - كما قلنا - مع أنّه مأمور به في جملة من الروايات (3) ، بل وهو ممّا اتّفقت عليه كلمة أصحاب التخطئة (4).

ص: 142


1- الوسائل 2 : 1054 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 4 ، وفيه : « كلّ شيء نظيف ... ».
2- في « ع » بدل « الكامنة » : « الكائنة ».
3- انظر الكافي 1 : 40 ، باب سؤال العالم ، الحديث 2 و 5 ، والوسائل 2 : 967 ، الباب 5 من أبواب التيمّم ، الحديث 1 و 6 ، وانظر فرائد الاصول 2 : 412 - 413.
4- لم ترد عبارة : « بل وهو ممّا اتّفقت عليه كلمات أصحاب التخطئة » في « ع » و « م ».

وبما ذكرنا يظهر اندفاع ما عسى أن (1) يتوهّم : من أنّ وجود المصلحة في موارد الطرق لا ينافي وجوب الفحص عن الأحكام الواقعيّة ؛ لإمكان اشتراط وجودها بالفحص.

ووجه الاندفاع : أنّه لا وجه لذلك الاشتراط بعد عدم الاعتناء بالواقع ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد عرفت فيما تقدّم : أنّ لازم الطريقيّة هو عدم الإجزاء ، ولازم الموضوعيّة هو الإجزاء.

وقد ظهر بذلك وجه القول المختار : من عدم الإجزاء في الأوامر الظاهريّة الشرعيّة عند التخلّف عن الواقع فيما إذا كان الوقت باقيا ؛ لبقاء الأوامر الواقعيّة بحالها ، والطريق بعد تخلّفه عن الواقع وانكشاف ذلك في الوقت ممّا لا دليل على اشتماله على مصلحة متداركة ، فإنّ قضيّة اللطف ونقض الغرض في التكاليف الواقعيّة لا تزيد على التزام وجود المصلحة في جعل الأمارة حجّة فيما إذا لم ينكشف الخلاف مع عدم المطابقة واقعا ، وأمّا مع انكشاف الخلاف فلا دليل على وجود المصلحة في الطريق ؛ إذ المفروض بقاء الوقت ، ولا حاجة إلى تكليف جديد ، فيكفي في تحصيل المصلحة وجود الأمر الواقعي المعلوم - كما هو المفروض - فلا يلزم تفويت منه ، كما أنّه لا دليل على ذلك مع المطابقة.

هذا كلّه مع إمكان الوصول إلى الواقع.

وأمّا مع تعذّره - كما في صورة الانسداد - فجعل الطريق لا دليل على اشتماله على المصلحة ؛ إذ يكفي في جعل الطريق وكونه حسنا كونه مطابقا للواقع في الأغلب ، فعند التخلّف عن الواقع من دون الكشف أيضا لا دليل على وجود المصلحة في العمل بالطريق ؛ لعدم استناد التفويت إليه تعالى ، فلا يلزم خلاف اللطف.

ص: 143


1- لم يرد « عسى أن » في « ع » و « م ».

ومن هنا ذكرنا في مباحث الظنّ : أنّ كلام المانع من العمل بالخبر (1) الظنّي لو اختصّ بصورة الانفتاح فله وجه (2) ، ولا بدّ في دفعه من التزام وجود المصلحة في الطريق على وجه يساوي مصلحة الواقع عند التخلّف - كما عرفت في الوجهين السابقين - وإنّ عمّ كلامه صورة الانسداد فلا وجه له ؛ إذ المفروض عدم إمكان الوصول إلى الواقع ، فيكفي في الجعل كون المجعول غالب المطابقة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإعادة ، فإنّ قضيّة القواعد عدم الإجزاء عنها ، ولا بدّ من الإعادة عند الكشف القطعي ، مضافا إلى دعوى الإجماع في ذلك عن كاشف الغطاء (3) ، ولعلّه الظاهر.

وأمّا القضاء ، فإن قلنا بأنّه تابع للأمر الأوّل من دون حاجة إلى بيان زائد عليه ، فلا إشكال في وجوبه أيضا ؛ لأنّه حينئذ كالإعادة ، غاية الأمر أنّ المكلّف بواسطة التأخير آثم عند العلم ، وبدونه لا بدّ من التدارك عند الانفتاح - كما عرفت - ولكنّه لم يسقط عنه الواجب.

وكذا لو قلنا بأنّ أدلّة « القضاء » قرينة عامّة على بقاء الأمر الأوّل (4) بعد الوقت ، كما أنّ أدلّة « الميسور » حاكمة على أدلّة المركّبات الشرعيّة ؛ إذ لا ينبغي الإشكال حينئذ في وجوب القضاء ، إذ على تقدير بقاء الأمر الأوّل لا يلزم التفويت منه تعالى ، إلاّ أنّه يلزم التدارك فيما لا يصل إليه المكلّف من إيقاع الفعل في الوقت تعويلا على الطريق واتّكالا على الأمارة.

ص: 144


1- في « ع » زيادة : « الواحد ».
2- راجع فرائد الاصول 1 : 108 - 110.
3- لم نعثر عليه حسب تتبّعنا.
4- لم يرد « الأوّل » في « ع » و « م ».

وأمّا لو قلنا بأنّ أدلّة « القضاء » إنشاء أمر جديد من دون أن تكون حاكمة على أدلّة الواجبات الموقّتة - كما هو الظاهر من لفظ « الفوت » المأخوذ في تلك الأدلّة - :

فيحتمل القول بالإجزاء ؛ إذ الفوت إنّما يصدق مع عدم وصول المصلحة والمنفعة إلى المكلّف ، وحيث إنّ ترك الواقع في المقام مستند إلى الاعتماد على الأمارة والركون إليها ، فيجب التدارك منه تعالى وإيصال المصلحة إلى العبد ، ومع ذلك فلا فوت.

ويحتمل القول بعدم الإجزاء ؛ فإنّ وجوب القضاء مستند إلى أمر جديد دائر مدار ترك المأمور به واقعا ، وذلك معلوم فيما نحن بصدده. وأمّا حديث إيصال المصلحة إلى العبد - فبعد صدق الترك الموجب لوجوب القضاء لأجل (1) تدارك المتروك - فلا دليل عليه.

وممّا ذكرنا يتّضح فساد القول بالإجزاء في الأوامر الظاهريّة الشرعيّة.

وأوضح فسادا من ذلك ما قد يتراءى (2) من البعض في المباحث الفقهيّة (3) من الاحتجاج على ذلك :

تارة : بأصالة البراءة عن حكم آخر.

واخرى : باستصحاب عدم وجوب الإعادة ، مضافا إلى المنع من شمول أدلّة الأحكام الواقعيّة للجاهل العامل بالطرق الشرعيّة ، مستندا في ذلك إلى اختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين ، والإجماع على الاشتراك - بعد وجود الخلاف في الإجزاء وعدمه - غير موجود.

ص: 145


1- كذا صحّحنا ، وفي « ط » بدل « لأجل » : « لأصل » ، وفي « م » : « لا قصد ».
2- في « ع » و « م » بدل « يتراءى » : « ترى ».
3- لم يرد « المباحث الفقهيّة » في « م ».

وتارة اخرى : بدعوى بدليّة الأحكام الظاهريّة عن الأحكام الواقعيّة.

والكلّ ممّا لا ينبغي الركون إليه :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه بعد الانكشاف ووجود الأمر الواقعي لا وجه لأصالة البراءة.

وأمّا الاستصحاب ، فلا مجرى له في المقام ؛ لأنّ الشكّ في وجوب الإعادة بعد الكشف ممّا لا يقين له أوّلا ، والمتيقّن من جهة الأمر الظاهري متيقّن بعد الكشف ، إذ لا إشكال في عدم (1) وجوب الإعادة بالنسبة إلى الأمر الظاهري. وأمّا المنع المذكور فممّا لا يصغى إليه ؛ إذ قد قامت البراهين القطعيّة على ثبوت التكاليف الواقعيّة من غير تعليق على العلم والجهل ، غاية الأمر عدم العقاب مع المعذوريّة ، إذ ليس العقاب من آثار نفس التكاليف الواقعيّة ، بل هو من لوازم المخالفة التي لا يتحقّق موضوعها بدون العلم ، فالمقدّمة الممنوعة ممّا قد استدلّ عليها فلا يتوجّه إليها المنع ، فلا بدّ من دعوى المسقط كما في الدعوى الأخيرة : من بدليّة الأحكام الظاهريّة.

وبعد ما عرفت : من أنّ النظر فيما يفيد اعتبار تلك الطرق ، يعطي كونها طرقا إلى الواقع من دون مداخلة (2) لها فيه ، فلا وجه لتلك الدعوى أيضا.

ومن هنا يتطرّق النظر في ما أفاده المحقّق القمّي (3) : من بناء المسألة على كون الحكم الظاهري بدلا عن الواقعي (4) على وجه الإطلاق أو ما لم ينكشف الخلاف ؛ إذ لا وجه للقول بالبدليّة ، وعلى تقديره فلا معنى للترديد في كونه بدلا على وجه

ص: 146


1- لم يرد « عدم » في « م ».
2- في « ع » و « م » بدل « مداخلة » : « مدخليّة ».
3- انظر القوانين 1 : 130.
4- في « ط » بدل « الواقعي » : « الواقع ».

الإطلاق ، فإنّ قضيّة البدليّة - كما عرفت في الواقعي الاضطراري - هو السقوط ؛ لرجوعه إلى فعل أحد الأبدال ، كما في الواجب التخييري. كما أنّه لا ينبغي الترديد (1) في عدم السقوط على القول بعدم البدليّة وكون الأمارات طرقا صرفة (2) من دون شائبة (3) الموضوعيّة على تقدير الكشف.

هذا كلّه بالنسبة إلى مسألة الإجزاء في الأمر الظاهري وعدمه ، إلاّ أنّ القول باشتمال جعل الطريق للمصلحة المساوية للمصلحة الكامنة يستلزم محذورا بحسب الظاهر ، وهو محذور التصويب وتعدّد الأحكام الواقعيّة.

وبيان ذلك : أنّا لمّا قلنا بأنّ الواجب على الحكيم بواسطة العدل والحكمة إيصال المصلحة الواقعيّة إلى العبد عند تخلّف ما جعله طريقا إلى الواقع عنه ، فيكون الأخذ بالطريق والعمل به عند عدم المطابقة وعدم (4) ظهور الخلاف في الوقت أو مطلقا - بناء على لزوم القضاء إذا انكشف في خارج الوقت أيضا على ما عرفت - مشتملا على مصلحة الواقع ، فيكون أحد الأبدال للواجب الواقعي ؛ لما أرسله المتكلّمون : من أنّ كلّ فعل يشتمل على مثل مصلحة الواجب يكون أيضا واجبا.

ويستتبع ذلك عدم حسن الاحتياط فيما إذا قامت الأمارات الشرعيّة ، إذ بعد اشتمال الأخذ بالطريق على مثل مصلحة الواقع لا حسن في الاحتياط ، وذلك ظاهر.

إلاّ أن يقال : إنّ حسن الاحتياط لا يزول بواسطة اشتمال الطريق على مصلحة الواقع ؛ فإنّ ذلك غير معلوم ، إذ يحتمل انكشاف الخلاف في الوقت أو في

ص: 147


1- في « م » : « لا معنى للترديد ».
2- لم يرد « صرفة » في « م ».
3- في « م » : « شأنيّة ».
4- لم يرد « عدم » في « ع ».

غيره فيجب الإعادة والقضاء. نعم ، لو قطع بعدم اختلاف حاله لم يحسن منه الاحتياط في اعتقاده ، وإن كان قد يؤثّر في الواقع لو ظهر له خطأ في اعتقاده.

وكيف كان ، فمحذور التصويب لازم في الأحكام ، بل وفي الموضوعات أيضا. ولا يراد بذلك لزوم اختلاف الموضوعات الواقعيّة باختلاف الأمارات القائمة فيها ، كأن يكون قيام البيّنة أو وجود الحالة السابقة مؤثّرا في موت زيد وحياته ؛ فإنّ ذلك غير معقول ، بل المراد التصويب في الأحكام الجزئيّة المتعلّقة بها ، كما التزم به صاحب الحدائق في خصوص الطهارة والنجاسة (1) ، حيث زعم أنّهما ليستا من الامور الواقعيّة (2) التي يتعلّق بها الأحكام الشرعيّة ، بل ليست النجاسة إلاّ حكم الشارع بعد العلم بوجود الخمر بالاجتناب عنه ، كنفس الحرمة المتعلّقة به. وليست الطهارة إلاّ حكم الشارع بعدم الاجتناب عن مشكوك الخمريّة أو المعلوم عدم الخمريّة ، مستندا في ذلك إلى روايات ، منها قوله : « ما ابالي أبول وقع عليّ أم ماء إذا لم أدر » (3).

وكما التزم به بعض من تأخّر عنه (4) في جملة من الأحكام المتعلّقة بالموضوعات الجزئيّة نظرا إلى سيرة الأئمة ، حيث إنّهم كانوا يخالطون الناس ومعاشرين لهم مع ما يرى في هذه المخالطة والمعاشرة من المفاسد المترتّبة عليها من ارتكاب المحرّمات الواقعيّة ؛ لعدم مبالاة أكثر الناس فيما يتعاطونه في معاشهم وعدم

ص: 148


1- الحدائق 1 : 134 - 136 ، و 5 : 248 - 258.
2- لم يرد « الواقعيّة » في « م ».
3- الوسائل 2 : 1054 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 5 ، وفيه : « ما ابالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم ».
4- لم نعثر عليه.

احترازهم عن النجاسات في المياه الموجودة عندهم والأطعمة واللحوم وغير ذلك ، فإنّه لو كانت تلك الامور - من النجاسة والحلّية والحرمة - امورا واقعيّة لا مدخل للعلم والجهل فيها لزم فساد عباداتهم في الواقع من جهة عدم اجتماع الشرائط الواقعيّة فيها.

ولكنّ الإنصاف : أنّ التزام مثل ذلك بعيد في الغاية ، كيف! وجلّ الأدلّة بل كلّها ممّا ينافي ذلك ، كما هو غير خفيّ على المتتبّع العارف بموارد الكلام ، كما أومأنا إليه فيما تقدّم (1). والأدلّة القائمة في المشكوكات صريحة على ثبوت الواقع عند الشكّ.

وأمّا الاستناد إلى سيرة الأئمّة ، فلا يجدي شيئا في المقام ؛ فإنّ المعلوم من ذلك هو ابتلاؤهم بالموضوعات المشكوكة عندنا ، ولا دليل على ارتكابهم عليهم السلام للمحرّمات الواقعيّة حتّى يدفع بما ذكر : من أنّ الأحكام المذكورة مترتّبة على العلم بها من وجه خاص ، وإلاّ فلو قيل بأنّها من أحكام مطلق العلم أيضا لم يكن لما ذكر وجه على تقدير القول بإحاطة علمهم عليهم السلام فعلا لجميع الموضوعات وأحكامها. فعلى هذا يحتمل عدم وقوعهم في المحرّمات الواقعيّة إمّا بدعوى العلم بها ، وإمّا بواسطة أنّهم عليهم السلام مؤيّدون بالتأييدات الإلهيّة ومسدّدون بالتسديدات الربّانيّة محفوظين عن الوقوع في الامور الدنيّة ، فما يرتكبونه وإن كان في أنظارنا من الموارد المشتبهة إلاّ أنّه في الواقع من الموضوعات التي يجوز ارتكابها.

وأمّا قول الأمير عليه السلام (2) ، فدلالته على ثبوت النجاسة الواقعيّة عند عدم العلم أظهر من دلالته على انتفائها عند عدم العلم. نعم ، يظهر منه ما يفيد النجاسة للصلاة عند العلم ، وأين ذلك من ارتفاع موضوعها عند عدم العلم؟ ويؤيّد ما ذكر بعض

ص: 149


1- راجع الصفحة 140 وما بعدها.
2- المراد قوله عليه السلام : « ما ابالي أبول وقع عليّ أم ماء إذا لم أدر ».

الأخبار ، كما عن الإمام الهمام علي بن الحسين عليه السلام : من أمره بإهراق ماء أحضره عبده فتبيّن وقوع الفأرة فيه (1).

وبالجملة : فلا وجه للالتزام بأنّ الأحكام المتعلّقة بالموضوعات (2) مختصّة بصورة العلم ومع عدمه لا حكم لها في الواقع ؛ فإنّ التصويب في ذلك يسري إلى التصويب في الأحكام الكلّية الإلهيّة ، إذ الأحكام الجزئيّة من شعب الأحكام الكلّية ، فلو لم يلتزم بالتصويب فيها لم يجز الالتزام به فيما ينشعب منها.

والأولى أن يقال : إنّ الأحكام الواقعيّة ممّا لا يختلف بواسطة وجود الأمارات الشرعيّة وعدمها ونهوضها على موضوع وعدمه ، إلاّ أنّ عند عدم المطابقة واختفاء ذلك لا ضير في التزام اشتمال الأخذ بالأمارة على المصلحة المساوية لمصلحة الواقع ، وهو وإن كان نوعا من التصويب إلاّ أن الإجماع على بطلانه ممنوع ، كيف (3)! ووجوب اللطف عند الإماميّة مما لا سبيل إلى إنكاره ، وقضيّة ذلك اشتمال الأخذ بالطريق على المصلحة التي تفوت بواسطة الجعل عن العبد - كما عرفت - والأخبار المتواترة في انتفاء التصويب (4) إنّما هي مسوقة لنفي التصويب على وجه لا يكون في الواقع أحكام واقعيّة ، وأمّا التصويب على الوجه المذكور فلا دليل على امتناعه لا عقلا ولا نقلا.

ص: 150


1- الوسائل 1 : 116 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 15 ، والمأمور هو ابنه وليس عبده.
2- في « ط » و « م » : « بتلك الموضوعات ».
3- لم يرد « كيف » في « م ».
4- أشار إلى هذه الأخبار في الفصول : 406 - 407 ، وراجع الكافي 1 : 40 باب سؤال العالم وتذاكره ، والصفحة 58 الحديث 19 ، والصفحة 59 الحديث 12 ، والصفحة 199 الحديث الأوّل ، والبحار 1 : 178 ، الباب الأوّل من أبواب العقل والجهل الحديث 58 ، وكنز العمّال 6 : 7 الحديث 14597.

هذا إذا قلنا بأنّ جعل الطريق إنّما هو في حال الانفتاح.

وأما في حال الانسداد فالأمر فيه أوضح ؛ إذ الوجه في الانسداد هو عدم موافقة العباد للحجّة عليه السلام كما قرّر في محلّه (1) فلا يجب على الحكيم إيصالهم إلى المصالح الواقعيّة ، فإنّهم هم السبب في امتناع ذلك في حقّهم ، فقضية اللطف لا مجرى لها في حال الانسداد. ويكفي حينئذ في مصلحة الجعل كون الطريق مطابقا لما هو الطريق إليه في الأغلب أو في الغالب ، فلا يكون الأخذ بالطريق مشتملا على المصلحة الزائدة على مصلحة الواقع ، فلا محذور.

وقد يجاب عن محذور التصويب في المقام : بأنّ الشارع الحكيم لمّا كان عالما بأنّ اقتصار المكلّفين على الأحكام الواقعيّة - بأن لا يجوز لهم تناول اللحم إلاّ بعد العلم بكونه حلالا واقعيا لا يدانيه ريبة الحرمة - مما يوجب مفاسد شتّى ولو بواسطة ضيق يشاهد في دار التكليف وعدم اتّساع عالم المكلّفين لذلك ووقوعهم في محاذير أخر من جهات اخرى ، فلا ضير في جعل الأمارات التي قد تتخلّف عن الأحكام الواقعيّة نظرا إلى إدراك (2) تلك المصالح عند جعل تلك الأمارات. وهذا هو المراد مما عسى أن يقال في المقام ، من أنّ التسهيل في أمر العباد يقتضي جعل تلك الطرق.

وقد يقال : إنّ الشارع قد منّ على عباده بجعل تلك الطرق وعفى عن الواقع ولم يوجب عليهم تحصيله.

وكلا الوجهين ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه :

أمّا الأوّل ، فلأنّ التسهيل لو كان من الوجوه التي يختلف بها الأحكام الواقعيّة ويقتضي جعل حكم على طبقه ، فالأولى أن يكون وجها لإسقاط الواقع ؛ فإنّ مجرّد المصلحة في وجود الشيء لا يقضي بالأمر به ، بل لا بدّ مع ذلك من عدم

ص: 151


1- انظر كشف المراد : 361 - 362 ، والقوانين 1 : 353.
2- في « م » بدل « إدراك » : « تدارك ».

معارضة شيء آخر لها ، والمفروض في المقام هو أنّ الاقتصار على المصالح الواقعيّة يوجب مفاسد اخرى من جهات أخر ، فمع ذلك لا وجه لجعل الأحكام الواقعيّة.

هذا إذا اريد من التسهيل ما ذكرنا من أنّ الاقتصار على الواقع يوجب رفع (1) مصلحة واقعيّة اخرى عن المكلّف في مورد آخر ، من غير أن يكون مصلحة التسهيل في العمل بالطريق.

وإن اريد من التسهيل : أنّ العمل بالطريق فيه تسهيل على العباد من دون أن يكون موجبا لإحراز مصلحة اخرى في مورد آخر ، فعدم اتّجاهه في المقام أظهر ؛ إذ تلك المصلحة : إما أن تزيد على مصلحة الواقع ، أو تكون مساوية لها ، أو تنقص عنها ، لا سبيل إلى الأخير ؛ لمنافاته قضية اللطف ، ومن هنا تعرف فساد ما قد يتخيّل في دفع ما ذكرنا - من أنّ اللازم حينئذ عدم حسن الاحتياط - بأنّ الوجوب التخييري بين الواقع ومفاد الطريق لا يوجب رفع حسن الاحتياط ؛ إذ يمكن أن يكون الواقع أفضل فردي الواجب التخييري. والأوّلان لا يدفعان الخصم ؛ فإنّ ذلك هو التصويب جدّا ؛ إذ المفروض وجود المصلحة في نفس الطريق. ولعلّ ذلك ظاهر.

وأمّا الثاني ، ففساده أجلى من أن يذكر ؛ فإنّه إن اريد أنّ الامتنان إنّما هو في رفع الأحكام الواقعيّة عند العمل بالطريق المخالف ، فذلك - على تقدير صحّته - لا يقضي بعدم اشتمال الطريق على المصلحة ، ومعه - كما هو قضيّة اللطف - يلزم المحذور.

وإن اريد أنّ الامتنان في عدم اشتمال الطريق للمصلحة ، فهو مما لا سبيل إلى تعقّله فضلا عن التصديق به.

فالأولى ما ذكرنا من الالتزام ومنع ما يدلّ على خلاف ذلك. هذا كلّه مع انكشاف الخلاف على وجه القطع. واللّه الهادي.

ص: 152


1- في « م » : « دفع ».

هداية

في أنّ الأمر الظاهري الشرعي هل يقتضي الإجزاء فيما لو انكشف الخلاف بواسطة قيام أمارة ظنّية اخرى؟

واعلم أولا : أنّ ذلك تارة يتحقّق في الموضوعات ، كما إذا بنى المصلّي على طهارة ثوبه بواسطة الاستصحاب أو غير ذلك من الاصول المقرّرة لتميّز الموضوعات التي لا تشترط بالفحص ، ثمّ قامت عنده بيّنة شرعيّة على نجاسة ذلك الثوب.

واخرى يتحقق في الأحكام : فتارة بالنسبة إلى المجتهد ، واخرى بالنسبة إلى المقلّد.

أمّا بالنسبة إلى المجتهد ، فكما إذا حكم بعدم وجوب السورة في الصلاة بواسطة أمارة ظاهريّة : من آية أو رواية أو أصل ونحوها ، ثمّ ظهرت (1) أمارة اخرى حاكمة بوجوبها فيها. ولا بدّ أن يكون العمل بالأمارة الاولى مقرونا بما يعتبر فيه من الشروط واقعا ، كأن يكون المجتهد متفحّصا عن المعارض للأمارة الاولى على وجه يعتبر في الفحص ؛ إذ بدون ذلك لا يكون هناك أمر ظاهريّ شرعي ، بل هو ملحق بالظاهريّ العقلي ، كما إذا توهّم اقترانها بالشرائط أو تخيّل دلالة الرواية على شيء فبدا له خطؤه أو إلى العمل (2) بالأمارة مع اعتقاد فساده.

ص: 153


1- في « ع » و « م » بدل « ظهرت » : « ظهر له ».
2- كذا في النسخ ، والمناسب : « أو العمل ».

وأمّا بالنسبة إلى المقلّد ، فكما إذا رجع عن تقليد المجتهد في موارد وجوبه - كفسقه أو موته أو زوال ملكته أو حصول ملكة الاجتهاد له - أو موارد جوازه على القول به ، مع المنافاة بين ما يأخذ به في الحال من رأي مجتهد آخر أو رأيه وبين ما عمل به أوّلا.

فمن فروع هذه الهداية ما قد يعنون في مباحث الاجتهاد والتقليد من تجدّد رأي المجتهد.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ بعد قيام الأمارة اللاحقة في الموارد المتقدّمة وأشباهها لا إشكال في وجوب الأخذ بها في الوقائع اللاحقة الغير المرتبطة بالوقائع السابقة ، فإنّ ذلك هو مقتضى اعتبار تلك الأمارة ، فبعد قيام البيّنة على نجاسة الثوب المستصحب الطهارة لا بدّ من ترتيب آثار النجاسة عليه من عدم جواز الصلاة معه ونحوه. وكذا فيما إذا ظهر خطأ المجتهد له فيما أفتى به من طهارة الغسالة مثلا ، وكذا فيما إذا رجع المقلّد عن تقليد المفتي بالطهارة إلى فتوى القائل بالنجاسة مثلا. ولا ينبغي أن يكون ذلك مطرحا للأنظار.

كما أنّه لا إشكال في مضيّ الوقائع السابقة التي لا يترتب (1) عليها في الزمان اللاحق حكم ، كما إذا كان المبادرة والتعجيل واجبا فبادر إليه المكلّف ثمّ تبيّن خطؤه فيما بادر إليه ، فإنّ قضية اللطف - كما مرّ (2) - إيصال مصلحة التعجيل إلى المكلّف ، ولا يعقل القول بعدم مضيّ مثل تلك الواقعة.

ص: 154


1- في « ع » و « م » بدل « يترتّب » : « يطرأ ».
2- راجع الصفحة 139.

وإنّما الإشكال في الوقائع اللاحقة (1) المرتبطة بالوقائع السابقة ، مثل عدم اشتغال المكلّف في الوقت بإعادة ما عمل به بمقتضى الأمارة السابقة ، أو معاملة الطهارة مع ما لاقى شيئا مستصحب الطهارة بعد قيام البيّنة على نجاسته ، أو معاملة الزوجيّة مع الزوجة المعقودة بالفارسيّة بعد اعتقاد فساد العقد بها ، إلى غير ذلك من الأمثلة في الموارد المختلفة ، كما هو ظاهر.

فذهب جماعة من متأخّري المتأخّرين - ممّن عاصرناهم أو يقارب عصرهم عصرنا - إلى الإجزاء وعدم لزوم الإعادة (2) ، حتّى أنّ بعض الأفاضل (3) قد نسبه إلى ظاهر المذهب في تعليقاته على المعالم.

وقضيّة ما زعموا : أن يكون قيام الأمارة اللاحقة بمنزلة النسخ للآثار المترتّبة على الأمارة السابقة ، ففي الوقائع المتجدّدة الغير المرتبطة يؤخذ بالناسخ ، فلا يجوز إيقاع المعاطاة بعد ذلك ، ولكنّه يؤخذ بالمنسوخ في الآثار المرتبطة ، فلا يحكم بعدم ملكيّة المبيع المعاطاتي. وقد صرّح بذلك بعض الأجلّة (4) أيضا.

والحقّ الحقيق بالتصديق هو عدم الإجزاء ، فلا بدّ من الإعادة وعدم ترتيب (5) الأحكام المترتّبة على الأمارة (6) السابقة ، وفاقا للنهاية (7) والتهذيب (8)

ص: 155


1- لم يرد « اللاحقة » في « ع » و « م ».
2- كالمحقّق القمّي في القوانين : 399 ، وصاحب الفصول في الفصول : 409.
3- وهو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 3 : 711.
4- وهو صاحب الفصول في الفصول : 409.
5- في « ع » و « م » : « ترتّب ».
6- في « م » بدل « الأمارة » : « الآثار ».
7- نهاية الوصول : 440.
8- تهذيب الوصول : 102.

والمختصر (1) وشرحه (2) وشرح المنهاج (3) - على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم (4) - بل وفي محكيّ النهاية الإجماع عليه (5).

وادّعى (6) العميدي قدس سره الاتّفاق على ذلك ، قال - في مسألة نكاح امرأة خالعها زوجها في المرّة الثالثة معتقدا أنّ الخلع فسخ لا طلاق ثمّ تبدّل اجتهاده واعتقد كونه طلاقا - ما هذا لفظه : « فإن كان قد حكم بصحّة ذلك النكاح حاكم قبل تغيّر اجتهاده بقي النكاح على حاله ، وإن لم يحكم به حاكم لزمه مفارقتها اتّفاقا » (7).

وفي المقام وجوه من التفصيل يطّلع عليها إن شاء اللّه.

لنا على ما اخترناه في المقام : أنّ المقتضي للإعادة وعدم ترتيب (8) الآثار على الأمارة السابقة موجود ، والمانع عن ذلك غير موجود ، فلا بدّ من القول به.

أما الأوّل ، فلما تقدّم في الهداية السابقة : أنّ الطرق المجعولة الشرعيّة إنّما جعلت طرقا إلى الواقع ، من دون أن يكون تلك الطرق مخصّصة للأحكام الواقعيّة المتوجّهة (9) إلى المكلّفين - على ما هو المتّفق عليه عند أرباب التخطئة ، كما هو الصواب - ففيما إذا انكشف فساد الأمارة القائمة على الواقع لا بدّ من الأخذ بما هو

ص: 156


1- انظر المختصر وشرحه للعضدي في شرح مختصر الاصول : 473.
2- في النسخ : « شروحه » ، وفي المفاتيح : « شرحه للعضدي ».
3- لم نعثر عليه.
4- مفاتيح الاصول : 581.
5- حكاه عنه في مفاتيح الاصول : 582.
6- في « ط » : وبل ادّعى.
7- منية اللبيب : 364.
8- في « ع » و « م » : « ترتّب ».
9- في « م » : « الموجّهة ».

الواقع ؛ فإنّ ما يدلّ على وجوب امتثال الأوامر الواقعيّة - من العقل والنقل - موجود في المقام ، فإن كان معلوما فلا كلام - كما تقدّم - وإلاّ فيجب الأخذ بما جعله الشارع طريقا إليه ، وهي الأمارة اللاحقة. ولازم الأخذ بها هو فساد الأمارة الاولى وبقاء التكاليف الواقعيّة.

فإنّ الخبر الدال على جزئيّة السورة ، مفاده أنّ السورة في الواقع جزء للصلاة الواقعيّة ، ولا يفرق في ذلك بين من عمل بالأمارة الاولى ومن لم يعمل بها ، كما إذا كان الشخص تاركا للصلاة مثلا ، وقضيّة ذلك عدم تحقّق الصلاة بدون ذلك الجزء ، فيترتّب على ذلك - بحكم الأدلّة الدالّة على إطاعة الأوامر الواقعيّة وامتثال أوامر اللّه تعالى - إيجاد الصلاة ثانيا وعدم الاتّكال بما فعله في المرّة الاولى مطابقا للأمارة التي انكشف فسادها.

ولعمري أنّ بعد هاتين المقدّمتين - اللتين إحداهما : أنّ الأمارة التي أخذ بها سابقا ليست مغيّرة للواقع ، والثانية : أنّ مفاد الأمارة الثانية هو جزئيّة السورة مثلا للصلاة في الواقع ، من غير فرق بين العامل بالأمارة الاولى وتاركها - كان الحكم بعدم الإجزاء وعدم ترتّب الآثار على منار ، بحيث لا يعدّ منكره إلاّ مكابر ، أو غير ملتفت إلى حقيقة المقدّمتين.

والحاصل : أنّ فساد الأمارة الاولى يوجب حصول صغرى عند العامل ، مفادها : فساد العبادة أو المعاملة التي وقعت على طبقها ، ويتلوها كبرى شرعيّة ثابتة بالقطع : من لزوم إعادة الواجب الواقعيّ الثابت بمقتضى الأمارة الثانية التي يجب العمل بها بالفرض.

فإن قلت : لا دليل على وجوب العمل بالأمارة بالنسبة إلى الوقائع السابقة ، بل المأتيّ به أوّلا إنّما كان تكليفه في ذلك الزمان ، وتكليفه بعد الوصول إلى الأمارة الثانية إنّما هو العمل بها.

ص: 157

قلت : ما ذكر إنّما يلائم (1) القول بأنّ الطرق الشرعيّة موضوعات لما يستفاد منها ، فيكون مفادها في عرض الواقع وقد فرغنا عن إبطال ذلك فيما مرّ (2) ؛ فإنّ لازمه التصويب الباطل ، مضافا إلى ظواهر الأدلّة الدالّة على حجيّة الطرق الشرعيّة ، فإنّها تنادي بأعلى صوتها على بقاء الواقع وعدم تخصيصه بواسطة تلك الطرق. وأمّا وجوب الإعادة والقضاء فهو من الوقائع اللاحقة ، فإنّ التعويل على الأمارة السابقة وعدم الاشتغال بإعادة ما قد امر به في الوقت أو في خارجه من الامور الطارئة للمكلّف في اللاحق ، غاية الأمر أنّ منشأ وجوب ذلك هو فساد المأتيّ به بمقتضى الأمارة الاولى ؛ ولذا قلنا : بأنّ الإعادة والقضاء من الوقائع اللاحقة (3) المرتبطة بالوقائع السابقة ، وذلك أمر ظاهر.

فإن قلت : سلّمنا أنّ الإعادة والقضاء من الوقائع اللاحقة ، لكن لا نسلّم وجوب الأخذ بالأمارة بالنسبة إلى (4) الوقائع الغير المرتبطة بالسابقة. وذلك وإن كان تبعيضا بالنسبة إلى مدلول الأمارة ، لكن التبعيض في الشرعيّات كثير ، أمّا بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة على الاصول فممّا لا حصر له ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها فكثير أيضا ، كما إذا ورد خبر واحد يدلّ على نجاسة من فوّض أمر الخلق والرزق إليهم عليهم السلام ، فإنّ ذلك لا يصير مستندا في المسألة الاعتقاديّة ، لكنّه يؤخذ به بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة. وكما إذا حصل الظنّ بالقبلة المستلزم لحصول الظنّ بالوقت ، فإنّه يتبعّض بالنسبة إليهما ، فيؤخذ بالظنّ في الأوّل دون الثاني. وكما إذا

ص: 158


1- في « م » بدل « يلائم » : « يلزم ».
2- راجع الصفحة 140 - 141.
3- لم يرد « اللاحقة » في « ع ».
4- في « ع » و « م » زيادة : « غير ».

قيل بعدم اعتبار الخبر الظنّي في اللغات ، مع ورود رواية دالّة على ثبوت موضوع من الموضوعات اللغويّة مع استلزامه حكما شرعيّا ، فإنّه يؤخذ به في الثاني دون الأوّل ، كما في رواية زرارة عن الإمام عليه السلام في تفسير آية « المسح » حيث استدلّ الإمام عليه السلام بورود « الباء » للتبعيض مثلا (1) ، إلى غير ذلك ، فلا ضير في الأخذ بالأمارة في بعض الوقائع دون بعض ، ونحن ندّعي أنّ الأدلّة الدالّة على حجيّة الأمارات لا تدلّ على اعتبارها إلاّ في الوقائع اللاحقة الغير المرتبطة بالوقائع السابقة.

قلت : وهذه الدعوى دون إثباتها خرط القتاد بعد ملاحظة الأدلّة الدالّة على حجيّة تلك الأمارات ، ومتى يمكن إثباتها! فإنّ أخبار الاستصحاب (2) والروايات الدالّة على حجيّة الأخبار الظنيّة (3) وغير ذلك ممّا لا مجال لأن يتوهّم فيها التقييد ببعض الآثار ، وذلك أمر ظاهر لمن راجعها وانصف ، وإن كان قد يمكن أن يناقش في أمارة دلّ على اعتبارها بعض الوجوه اللبيّة ، مثل الإجماع ونحوه. ولكنّ الإنصاف أنّ مثل هذه التعسّفات لا ينبغي أن يرتكب فيها أيضا.

وأما الثاني (4) - وهو بيان فقدان المانع عمّا ذكرناه - فذلك (5) موقوف على إيراد ما يمكن أن يكون مستندا للخصم في المقام ، وبيان عدم صلاحيّته للمنع.

ص: 159


1- الوسائل 1 : 290 ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.
2- راجع فرائد الاصول 3 : 55 - 82.
3- راجع فرائد الاصول 1 : 297 - 310.
4- عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة 156.
5- كذا في « ق » ، وفي غيرها : « وذلك ».

فنقول : إنّ من بعض القائلين بالإجزاء يظهر دعوى تطبيقه على القواعد (1) ، ويظهر من بعض آخر وجود الدليل عليه المخرج عن القاعدة القاضية بعدم الإجزاء (2).

أمّا ما يمكن أن يكون وجها للأوّل فامور :

أحدها : ما مرّ ذكره سابقا وأشرنا إليه آنفا (3) ، من أنّ مفاد الأمارات الظاهريّة إنّما يكون في عرض الواقع ، فيختلف الأحكام الواقعيّة على حسب اختلاف الأمارات (4) فيكون الآتي بما دلّ عليه وجه من الوجوه الظنيّة آتيا بما هو المأمور به في الواقع ، على نحو ما عرفت فيما تقدّم.

وقد فرغنا عن إبطال هذا التوهّم في الطرق الشرعيّة (5) ، فهو سخيف جدّا لا يكاد يلتفت إليه العاقل فضلا عن الفاضل ، مضافا إلى أنّ القول بذلك يوجب سقوط الإعادة والقضاء فيما لو ظهر فساد الأمارة الاولى على وجه قطعي - كما مرّ - والكلام في المقام إنّما هو بعد التسليم على أنّ الكشف القطعي يوجب الإعادة ، وذلك ظاهر.

ثمّ إنّ الطريقية في الأمارات الظاهريّة لا أظنّ أن يشكّ فيها أحد من أصحابنا ، كما يعاضده طريقة العرف والعقلاء ، إلاّ أنّه مع الشك في كون الأمارات طرقا إلى الواقع فالأصل يقضي بالبناء على الطريقيّة أيضا ، إذ البدليّة والتخصيص

ص: 160


1- كصاحب الفصول في الفصول : 409.
2- لم نعثر عليه.
3- راجع الصفحة 135.
4- في « ع » ومصحّحة « ط » زيادة : « والموضوعات ».
5- راجع الصفحة 139 - 140.

- كما هو مقتضى الموضوعيّة - يحتاج إلى دليل ، وعند عدمه - كما هو ظاهر - فالأصل عدم سقوط الواقع بعد الإتيان بما هو أجنبيّ عنه ، فإنّ الصلاة بدون السورة - بعد فرض وجوبها معها - ممّا لا ربط لها بالواقع ، فيشكّ في كونها مجزية عنها ، والأصل بقاء الواجب وعدم سقوطه بذلك.

وبالجملة : فالقول بالسقوط ملازم للتصويب ، ولذا فرّع في تمهيد القواعد وجوب الإعادة والقضاء على مسألة التخطئة والتصويب (1).

الثاني : ما قد قيل : من أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين (2) ، ولعلّ المراد به منع الدليل الدال على وجوب اتّباع الأمارة الثانية في الواقعة المجتهد فيها ، وإلاّ فهو بظاهره ممّا لا يكاد يعقل. وقد عرفت فيما تقدّم فساده بما لا مزيد عليه (3).

الثالث : أن يقال - بعد تسليم عدم الموضوعيّة ، والقول بكون الأمارات الظاهريّة طرقا إلى الواقع ، ودلالة الدليل على لزوم اتّباع الآخذ بها في جميع ما يستفاد منها - : إنّه يكفي في صحّة الأعمال الواقعة على حسب الأمارة الاولى - سواء كانت عبادة أو معاملة ، كالصلاة بدون السورة والعقد على المرضعة عشر رضعات - وقوعها عند العامل حال صدور العمل على الوجه الصحيح وإن اعتقد بعد ذلك فساده ، فالزوجيّة وسقوط القضاء من آثار النكاح الصحيح والصلاة الصحيحة ، والمفروض وقوع الصلاة الصحيحة والنكاح الصحيح حال وقوعهما لدى العامل ، فلا يجب عليه الإعادة (4) ولا على وليّه القضاء بعد موته وإن كان الولي ممن يرى فساد الصلاة بلا سورة بحسب اجتهاده أو تقليده.

ص: 161


1- تمهيد القواعد : 323.
2- قاله صاحب الفصول في الفصول : 409.
3- راجع الصفحة 156 - 159.
4- لم يرد « الإعادة » في « ع ».

وربما يؤيّد ذلك بما أفاده الفخر في الإيضاح (1) ، حيث استدلّ على صحة نكاح الكفّار حال كفرهم ، بقوله تعالى : ( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ ) (2) وقوله : ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (3) فإنّ التعبير عنهما على وجه الإضافة كاشف عن تحقّق نسبة الزوجيّة الواقعيّة بينهما وبين بعليهما. ولكنّه بعيد جدّا ؛ لإمكان كون الإضافة على وجه المناسبة ، وذلك ظاهر (4).

وكيف كان ، فهذا الوجه أيضا أضعف من سابقيه (5) ؛ إذ بعد ما هو المفروض : من أنّ الطرق الظاهريّة من قبيل المرايا للواقع ولا يعقل فيها اعتبار الموضوعيّة ، لا معنى للقول بأنّه يكفي في ترتيب الآثار وجود الفعل عند العامل صحيحا حين صدور العمل ، فلا يجوز لمن يرى خلافه بمرآة معتبرة عنده ترتيب الآثار المرتّبة عليه ، سواء في ذلك العامل وغيره ، فإنّ العلقة الواقعيّة والرابطة الحقيقيّة بين المرء وزوجه لا تتحقّق في الواقع إلاّ فيما لم يتحقّق بينهما الرضاع المحرّم ، ولا مدخل لاعتقاد الزوج والزوجة في ذلك ، فإنّ تأثير العلم في الواقعيّات التي يتعلّق بها غير معقول ؛ لكونه دورا ظاهرا ، غاية الأمر رفع العقاب عن الجاهل بعد عدم التقصير ؛ لعدم تحقّق مقتضيه ، وهي المخالفة التي لا واقع لها إلاّ بعد العلم.

فالاجتهاد والتقليد وغيرهما طرق إلى الواقع ، ولا يترتّب على الطريق شيء بعد كشف فساده على وجه منزّل منزلة العلم ، وهي الأمارة الثانية - كما هو المفروض - مضافا إلى أنّ ذلك يقتضي القول بالإجزاء على تقدير كشف الفساد على

ص: 162


1- إيضاح الفوائد 3 : 102.
2- القصص : 9.
3- المسد : 4.
4- لم يرد « وذلك ظاهر » في « م » و « ع ».
5- في « ع » و « م » : « سابقه ».

وجه القطع ، ولا فارق بينهما. ولعلّه لا ينبغي الالتزام به ، وإن كان ممّن يقول بالإجزاء في مثل المقام على مقتضى القاعدة ليس بذلك البعيد.

وليت شعري! كيف يعقل أن يقال : إنّ العصير العنبي الموجود بين أيدينا إنّما كان طاهرا قبل قيام الأمارة الثانية على نجاسته ، فيحكم بطهارة ملاقيه قبل ذلك ، ولكنّه نجس بعد قيام الأمارة فيجب الاجتناب (1) عنه وعن ملاقيه؟!

الرابع : استصحاب الآثار المترتّبة على ما قامت عليه الأمارة الثانية ، من الطهارة والنجاسة وجواز الأكل والبيع والوطء ، فإنّ قبل قيامها كانت تلك الأحكام ثابتة ، ولا يعلم تميّز بينهما بعد قيام الأمارة ، فيجب (2) الحكم بالاستصحاب بعده.

وفساده ممّا لا يكاد يخفى على أوائل (3) العقول ؛ إذ من المعلوم عدم ترتّب تلك الآثار بنفسها ، بل إنّما كان ذلك (4) بواسطة قيام الأمارة الاولى ، والمفروض ظهور فسادها بما هو منزّل منزلة العلم ، فلا وجه للاستصحاب ، وذلك ظاهر في الغاية.

الخامس : أنّ الأخذ بالأمارة الثانية في الوقائع المترتّبة على الوقائع السابقة دون الأمارة الاولى ترجيح بلا مرجّح وتخصيص بدون ما يقضي به ؛ فإنّ المفروض أنّ الأمارتين كلتاهما ظنّيتان ، فلا يعلم بمطابقة إحداهما دون الاخرى للواقع ، ولا وجه للأخذ بإحداهما دون الاخرى.

قال الشيخ الأجل كاشف الغطاء عن وجوه التحقيقات - بعد كلام له في المقام - ما لفظه : على أنّه لا رجحان للظنّ على الظنّ السابق حين ثبوته ، انتهى (5).

ص: 163


1- في « م » بدل « الاجتناب » : « الاحتياط ».
2- في « ع » بدل « فيجب » : « فينسحب ».
3- في « ع » و « م » بدل « أوائل » : « أهل ».
4- لم يرد « ذلك » في « م ».
5- كشف الغطاء 1 : 217.

قلت : وفساد هذا الوجه ممّا لا يكاد يخفى :

أمّا أوّلا : فلأنّ المفروض قيام الدليل على اعتبار الظنّ الثاني ، ومعنى اعتباره - على ما هو ظاهر تنزيله منزلة العلم - أنّه يجب الأخذ به على حسب كشفه عن الواقع ، ومن المعلوم عدم سقوط الواقع بمقتضى كشف الظنّ الثاني عن الواقع ، فيجب الإتيان بما هو مسقط عنه عقلا ونقلا. فإن اريد من عدم الترجيح عدم دلالة الأمارة الثانية على فساد العمل الواقع أوّلا على حسب الأمارة الاولى فهو في غاية السقوط ؛ فإنّ ذلك أمر قهريّ لازم من الظنّ بجزئيّة السورة. وإن اريد عدم دلالة دليل على اعتبار الظنّ بالنسبة إلى غير الواقعة الغير المرتبطة بسابقتها فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه بعد فرض عدم الترجيح لأحد الظنّين على الآخر لا وجه للأخذ بالأمارة الاولى فيها أيضا.

لا يقال : إنّ ذلك طريق جمع بينهما.

لأنّا نقول : كلاّ ، بل ذلك طرح للأمارة الثانية ، ولا قاضي بالجمع بعد كشف فساد الاولى بالثانية.

وبالجملة : فمطالبة الترجيح ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ فإنّ ذلك إنّما يستقيم عند التعارض ، ولا يعقل التعارض في المقام ، سواء قلنا بأن الأمارات المعمولة في الأحكام مغيّرة للواقع أم لا نقول به. أمّا على الأوّل فهو ظاهر ؛ إذ لا يعارض (1) بعد اختصاص كلّ منهما بموضوع لا يرتبط بموضوع الآخر. وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ قضيّة اعتبار الثاني فساد الأوّل ، ولا تعارض بين الدليل وما ليس بدليل.

وأمّا ما يمكن أن يكون وجها لخروج ما نحن بصدده عن القاعدة المقرّرة ، فوجوه :

ص: 164


1- كذا ، والمناسب : « لا تعارض ».

أحدها : وهو عمدة ما يتمسّك به في عدم جواز الأخذ بالأمارة الثانية ، من أنّ ذلك يوجب حرجا عظيما ويورث عسرا شديدا ، وهو منفيّ في الشريعة السمحة السهلة.

وبيان اللزوم : أنّ من رأى طهارة الغسالة وجواز العقد بالفارسيّة وعدم وجوب السورة وعدم نشر الحرمة بعشر رضعات في أوائل بلوغه بواسطة تقليد أو اجتهاد ، وعمل بتلك الوقائع في مدّة مديدة ، فلم يجتنب عن الغسالة وصاحب مع ذلك جمعا كثيرا وجمّا غفيرا ، واشترى عقارا كثيرا بالعقود الفارسيّة ، وصلّى جميع دهره بلا سورة ، وعقد على المرتضعة المذكورة أو مرضعتها ، ثمّ بدا له - باجتهاد أو تقليد - نجاسة الغسالة وفساد العقود الفارسيّة ووجوب السورة ونشر الحرمة ، إلى غير ذلك من الأحكام في الموارد المختلفة ، لو وجب عليه النقض بالنسبة إلى تلك الآثار ، كأن يجب عليه قضاء الصلاة التي صلّى مع عدم الاجتناب عن الغسالة ، وتطهير ثيابه وغيرها من عقاره ومنقوله ، ويكون أملاكه معزولة عنه ، والمرأة بائنة عنه من دون طلاق ، إلى غير ذلك ، كان ذلك عسرا شديدا وحرجا أكيدا يقطع بنفيه في هذه الشريعة.

والجواب عن ذلك - بعد النقض بصورة العلم بالخلاف فإنّه يجب حينئذ نقض الآثار السابقة قطعا ، وما (1) لو وقع الأعمال السابقة منه على وجه النسيان فإنّ بعد التذكّر لا ينبغي الإشكال في وجوب الأخذ بما يراه طريقا ، ولزوم نقض الأحكام التي رتّبها على المنسيّ فيه حال النسيان ، كما لو نسي نجاسة الشيء الفلاني أو أوجد عقدا فارسيّا بواسطة نسيانه فساده ، فإنّه يجب الأخذ بأحكام النجاسة وعدم الملك ونحو ذلك - : بأنّ الحرج قد يكون شخصيّا فيدور سقوط التكليف مدار ثبوته ، وقد

ص: 165


1- في « ع » و « ط » بدل « وما » : « بما ».

يكون نوعيّا ، كأن يكون تشريع الحكم عسرا في الغالب على الغالب ، فلا يكون سقوطه دائرا مدار ثبوته في شخص الواقعة.

فإن اريد من لزوم الحرج لزومه في شخص بعض الوقائع لبعض الأشخاص ، فذلك لا يقضي بالقول بالإجزاء وعدم النقض على وجه الاطّراد ؛ فإنّ بعض الوقائع - لو لم نقل بأكثرها - ممّا لا يوجب ذلك ، كما إذا عمل بالأمارة وقت الفريضة فصلّى بلا سورة ثمّ اطّلع في الوقت على أمارة اخرى دالّة على وجوبها ، فإنّه لا ريب في عدم الحرج في إعادة صلاة واحدة.

وإن اريد منه الحرج الغالبي :

فلا نسلّم ثبوته أوّلا.

ولا دليل على اعتبار الحرج الغالبي في نفي الأحكام ثانيا.

أمّا بيان الثاني فتفصيله موكول إلى غير المقام - كما أومأنا إليه في الشبهة المحصورة - وملخّصه هنا : أنّ الأدلّة الدالّة على رفع العسر والحرج يستفاد من ظاهر ما هي العمدة منها إناطة الرفع بوجود العسر والحرج وجودا وعدما ، فيكون العسر من قبيل العلّة دون الحكمة ، وإن كان قد يستأنس لكونه من قبيل الحكمة ببعض الآثار الواردة فيه التي مضمونها : أنّ التكاليف وضعت على حسب أقلّ الناس طاقة (1) ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا وجه لجعل مثل هذه الآثار حاكمة على الأدلّة الواقعيّة في غير مورد العسر والحرج.

وأما بيان الأوّل ففي غاية الظهور ؛ إذ لا إشكال في أنّ القول بالنقض لا يوجب العسر على الغالب.

وتوضيحه : أنّ موارد الرجوع وظهور الخلاف على قسمين : فتارة

ص: 166


1- في « ع » بدل « طاقة » : « طاعة ».

يكون الرجوع من الأحوط إلى غيره ، كما إذا رجع المفتي بنجاسة الغسالة إلى الإفتاء بطهارتها.

واخرى يكون الرجوع من غير الأحوط إلى الأحوط ، كما إذا رجع القائل بالطهارة إلى النجاسة.

والقسم الثاني أيضا على قسمين : فتارة يكون العمل مطابقا للاحتياط ، واخرى يكون مخالفا للاحتياط. والقسم الثاني أيضا ينقسم إلى قسمين ؛ إذ العمل به إمّا أن يكون على وجه الاجتهاد أو التقليد.

لا ينبغي التأمّل في عدم لزوم الحرج فيما إذا رجع عن الاحتياط إلى غيره ، وفيما إذا رجع عن غيره إليه مع العمل بالاحتياط ، وفيما إذا عمل بغير الاحتياط على وجه التقليد مع إمكان العمل بقول من يطابق رأيه رأي المفتي بخلاف الاحتياط ، فينحصر فيما إذا رجع عن غير الاحتياط إلى الاحتياط مع العمل بخلافه مع كونه مجتهدا ، أو (1) انحصار المجتهد في القائل بالنجاسة بالنسبة إلى المقلّد.

وهذا أيضا على قسمين ؛ لأنّ العمل به قد يكون في زمان قليل وقد يكون في مدّة طويلة ، والقول بالنقض في الأوّل لا يوجب عسرا وحرجا جدّا ، وفي الثاني على تقدير استلزامه فهو قليل في الغاية ، وهو لا يستلزم رفع الحكم عن جميع الموارد التي لا يوجب الحرج ؛ كيف! ولو لا ذلك لكان أكثر الأحكام الثابتة في الشريعة منفيّة ؛ إذ ما من حكم منها إلاّ ويمكن فرض استلزامه في بعض الصور والفروض عسرا ، كما يلاحظ في الوضوء والصلاة والحجّ والزكاة ونحوها.

وبالجملة : فالقول بأنّ عدم الإجزاء والنقض يلازم الحرج الغالبي على غالب الناس ، فيه منع قوي ، بل التحقيق أنّ التعويل على عموم نفي

ص: 167


1- في « ط » بدل « أو » : « إذ ».

الحرج في الموارد التي يتحقّق فيها الحرج شخصا (1) من دون أن يكون موردا لعمل الأصحاب في غاية الإشكال.

الثاني من الوجوه : جريان السيرة على عدم النقض.

ومخالفته للواقع يظهر ممّا مرّ : من ندرة الوقوع ، فإنّ ما هو المعلوم بحسب السيرة هو الأخذ بالوقائع السابقة وعدم ترتّب آثار خلافها ، وهو أعمّ من المدّعى من وجوه شتّى ، فإنّ ذلك ربّما يكون بواسطة عدم الرجوع ، وعلى تقديره فربّما لا يكون من موارد النقض ، وعلى تقديره فربّما لا يكون العمل مطابقا للمنقوض ، وعلى تقديره فربّما ينتقل من تقليده إلى تقليد موافق للأوّل. وفي مورد الانحصار أو رجوع المجتهد لا نسلّم جري السيرة على عدم النقض ، بل الظاهر جريانها على النقض.

هذا ، مضافا إلى ندرة تحقّق الرجوع لا سيّما بالنسبة إلى أرباب الأنظار الصائبة التي تعسر اجتهادهم ، فإنّ العلاّمة - رحمه اللّه - مع اشتهاره باختلاف الفتاوى في كتبه ممّا لا سبيل إلى اثبات الرجوع في فتاويه المختلفة على الوجه المذكور.

الثالث : أنّ ذلك يوجب رفع الوثوق والهرج والمرج.

وفيه : أنّه إن اريد بذلك ما يكون رجوعه إلى قاعدة اللطف الواجب على الحكيم في مقام التشريع ، فهو يوجب القول بالعصمة. وإن اريد ما هو أهون من ذلك ، فهو وجه استحسانيّ لا نقول به مطلقا ، ولا سيّما في قبال الأدلّة الواقعيّة القاضية بالإعادة والقضاء.

ومنه يظهر الوجه في فساد ما قد يوجد في كلمات الشيخ الأجل كاشف الغطاء (2) : من خلوّ الخطب والمواعظ عن ذلك ؛ فإنّ ذلك لا يرجع إلى دليل.

ص: 168


1- في « م » : « شخصيّا ».
2- كشف الغطاء 1 : 217.

الرابع : ما يظهر من البعض (1) ، من دعوى كونه ظاهر المذهب ، بل قد ادّعى بعض من لا تحقيق له (2) الإجماع بل الضرورة.

وفيه - مع كونه معارضا بدعوى الإجماع من العميدي (3) والعلاّمة (4) على خلافه - : أنّ ذلك ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المتتبّع الماهر في مطاوي كلماتهم يظهر له بطلان الدعوى المذكورة ؛ إذ لم نجد فيما وصلنا من كلمات المتقدّمين والمتأخّرين ما يلوح منه الحكم بعدم النقض ، بل يظهر من جملة من الفتاوى في نظير المقام خلاف ذلك ، كما ستطّلع عليه (5) ، مثل ما إذا اقتدى القائل بوجوب السورة بمن لا يرى ذلك مع غلبة (6) تركها منه ، إلى غير ذلك.

وبالجملة : فعلى تقدير كون الطرق الظاهريّة طرقا إلى الواقع لا وجه للقول بالإجزاء إلاّ بواسطة دليل خارج ، وقد عرفت انتفاء ما يصلح لذلك.

وفي المقام وجوه من التفصيل لا بأس بإيرادها :

فمنها : ما زعمه بعض الأجلّة في الفصول ، قال :

« إن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق ، فيترتّب عليه لوازمها بعد الرجوع ؛ إذ الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين ؛ لعدم دليل عليه ؛ ولئلاّ يفضي إلى العسر والحرج المنفيّين عن الشريعة السمحة ، لعدم وقوف المجتهد غالبا

ص: 169


1- هداية المسترشدين 3 : 711.
2- في « م » بدل « من لا تحقيق له » : « المحقّقين عليه ».
3- منية اللبيب : 364.
4- نهاية الوصول : 440.
5- انظر الصفحة 189 - 190.
6- في « ط » بدل « غلبة » : « علمه ».

على رأي واحد ، فيؤدّي إلى الاختلاف (1) فيما يبني فيه عليها (2) من الأعمال ؛ ولئلاّ يرتفع الوثوق في العمل ، من حيث إنّ الرجوع في حقّه محتمل ، وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد.

ولا يعارض ذلك بصورة القطع ؛ لندرته وشذوذه ؛ ولأصالة بقاء آثار الواقعة ، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد ولا قطع بارتفاعها بعده ؛ إذ لا دليل على تأثير الاجتهاد المتأخّر فيها ، فإنّ القدر الثابت من أدلّته جواز الاعتماد عليه بالنسبة إلى غير ذلك ، فيستصحب.

وأمّا عدم جريان الأصل بالنسبة إلى نفس الحكم - حيث لا يستصحب بالنسبة إلى الموارد المتأخّرة عن زمن الرجوع - فلمصادمة الإجماع ، مع اختصاص مورد الاستصحاب - على ما حقّقناه - بما يكون قضيّته البقاء على تقدير عدم طروّ المانع ، وليس بقاؤه بعد الرجوع منه ؛ لأنّ الشكّ فيه في تحقّق المقتضي ، فإنّ العلّة في الثبوت الظن ، فأصالة بقاء الحكم يعارضه أصالة عدم علّة اخرى ، والقول بأنّ العلّة في المقام إعداديّة وربّما يستغنى عن العلل الإعدادية في البقاء ، غير مجد ؛ لأنّ الأصل بقاء الحاجة. ولا يتوجّه مثله في استصحاب بقاء الآثار ؛ فإنّ المقتضي لبقائها حينئذ متحقّق ، وهو وقوع الواقعة على الوجه الذي ثبت كونه مقتضيا لاستتباع آثارها ، وإنّما الشكّ في مانعيّة الرجوع.

وبالجملة : فحكم رجوع المجتهد من الفتوى حكم النسخ من حيث بقاء آثار موارده المتقدّمة ، فلو بنى على عدم جزئيّة شيء للعبادة وعدم شرطيّته ، فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثمّ رجع ، بنى على صحّة ما أتى به ، حتّى أنّها لو كانت صلاة وبنى فيها على عدم وجوب السورة ثمّ رجع بعد تجاوز المحل بنى على صحّتها

ص: 170


1- في المصدر : « الاختلال ».
2- في « م » : « عليه ».

من جهة ذلك ، أو بنى على صحّتها في شعر الأرانب ثمّ رجع ولو في الأثناء إذا نزعها (1) قبل الرجوع ، وكذا لو بنى على طهارة شيء ثمّ صلّى في ملاقيه (2) ورجع ولو الأثناء ، فلا يلزمه الاستئناف.

وكذلك الأمر في بقيّة مباحث العبادات وسائر مسائل العقود ، فلو عقد بصيغة يرى صحّتها ثمّ رجع بنى على صحّتها واستصحاب أحكامها ، من بقاء الملكيّة والزوجيّة والبينونة والحريّة وغير ذلك.

ومن هذا الباب حكم الحاكم ، فالظاهر أنّ عدم انتقاضه موضع وفاق.

ولا فرق بين بقاء حكم فتواه التي فرّع عليه الحكم وعدمه.

فمن الأوّل : ما لو ترافع إليه المتعاقدان بالفارسيّة في النكاح فحكم بالزوجيّة ، أو في البيع فحكم بالنقل والملكيّة ، فإنّ حكم فتواه التي يتفرّع عليها الحكم - وهي صحّة هذا العقد - يبقى بعد الرجوع.

ومن الثاني : ما لو اشترى أحد المتعاقدين لحم حيوان بقول الحاكم بحلّيته ، فترافعا إليه فحكم بصحّة العقد وانتقال المثمن إلى المشتري ، ثمّ رجع إلى القول بالتحريم ، فإنّ الحكم بصحة العقد وانتقال الثمن إلى البائع يبقى بحاله ، ولا يبقى الحكم بحلّيته في حق المشتري بحاله ، وهكذا.

وقد يتخيّل : أنّ الحاكم إذا حكم بطهارة (3) ماء قليل لاقاه النجاسة - أو ما أشبه ذلك من الأحكام - ثمّ رجع ، لم ينتقض حكمه بالطهارة بالنسبة إلى ذلك الماء ؛ للإجماع على أن الحكم لا ينتقض بالرجوع.

ص: 171


1- في « ع » و « م » بدل « إذا نزعها » : « أو انتزعها ».
2- كذا في « ق » ، وفي سائر النسخ والمصدر : « ملاقيها » ، وهو سهو لرجوع الضمير إلى « شيء ».
3- كذا في المصدر ، وفي النسخ : « بنجاسة » وهو سهو.

وهو غير جيّد ؛ لأنّ المراد بالحكم هناك ما يتعلّق بالدعاوى والمرافعات ، ولهذا لا يلزم متابعته في الحكم بالطهارة.

ولو كانت الواقعة ممّا لا يتعيّن (1) أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد ؛ كما لو بنى على حلّية حيوان فذكّاه ثمّ رجع ، بنى على تحريم المذكّى منه وغيره (2). أو على طهارة شيء - كعرق الجنب من الحرام - فلاقاه ثمّ رجع ، بنى على نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده. أو على عدم تحريم الرضعات العشر فتزوّج من أرضعته ذلك ثمّ رجع ، بنى على تحريمها ؛ لأنّ ذلك كلّه رجوع عن حكم الموضوع ، وهو لا يثبت بالاجتهاد على الإطلاق ، بل ما دام باقيا على اجتهاده ، فإذا رجع ارتفع ، كما يظهر من تنظير ذلك بالنسخ.

وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد (3) ، فهي في الحقيقة إمّا من مشخّصات عنوان الموضوع - كالملاقاة - أو من المتفرّعات على حكم الموضوع - كالتذكية والعقد - فلا أثر فيها (4) في بقاء حكم الموضوع » (5).

ثمّ أطال في دفع ما استدلّ به على عدم النقض في القسم الأوّل بجملة من الإيرادات المذكورة فيما سبق.

ولعمري ، إنّ التفصيل المذكور ممّا لا يرجع إلى معنى معقول ؛ فإنّا وإن بالغنا في التأمّل في كلامه لم نجد له معنى محصّلا على وجه ينطبق عليه الأمثلة المذكورة في الموردين.

ص: 172


1- كذا في المصدر ، وفي النسخ بدل « لا يتعيّن » : « لا ينتقض ».
2- في « م » : أو غيره.
3- في المصدر زيادة : « السابق ».
4- في المصدر بدل « فيها » : « لها ».
5- الفصول : 409 - 410.

ولعلّ مراده رحمه اللّه على ما يظهر من تفسير (1) القسمين مع قطع النظر عن الأمثلة - أنّ الوقائع على قسمين :

قسم : يتعيّن فيه الأخذ بمقتضى الاجتهاد والتقليد على وجه لو وقع من العامل التارك للطريقين لا يقع صحيحا ، سواء كان العمل مطابقا للواقع أم لا.

وقسم : يعتبر فيه مطابقة الواقع ولا يلاحظ فيه الاجتهاد والتقليد على وجه لو صدر من الجاهل نقول بصحّته فيما لو طابق الواقع.

ففي القسم الأوّل لا نقض ؛ إذ المقتضي للصحّة - وهو وقوع الواقعة على طبق الاجتهاد والتقليد - واقع ، ولا مدخل للواقع في ذلك ، فيكون من قبيل النسخ من حيث ارتفاع حكم المنسوخ عن الموارد المتأخّرة دون المتقدّمة.

وأمّا في القسم الثاني فلمّا كان المدار على الواقع (2) وإنّما يكون الاجتهاد طريقا إليه - لو وقع الفعل على طبق الاجتهاد - كان الحكم بالنقض في محلّه.

ولو فرض أنّ مراده هو ما ذكرناه ، ففيه أنّه :

إن اريد من اعتبار وقوع الواقعة على وجه الاجتهاد أن يكون الاجتهاد موضوعا لثبوت الأحكام المترتّبة عليه ، من صحّة الصلاة والزوجيّة والبينونة والحرّية والرقّية والملكيّة ونحوها - كما كنّا نقول به فيمن علم بنجاسة ثوبه بين الصلاة بالنسبة إلى العلم - فهو القول بالتصويب ؛ إذ لا واقع في البين حينئذ.

وإن اريد من اعتبار وقوع الواقعة بمقتضى الفتوى أن يكون وقوعها صحيحة في الخارج متوقّفا على الأخذ بالاجتهاد والفتوى - ولازمه وجود الواقع إلاّ أنّ

ص: 173


1- في « ط » ، « ق » و « م » بدل « تفسير » : « نفس ».
2- في « ع » زيادة : « دائما ».

الطريق إليه لا بدّ وأن يكون الاجتهاد - فهذا خلاف الإجماع على ما حكي أوّلا بالنسبة إلى بعض الأحكام ، كما في المعاملات ، فإنّها من قبيل الأسباب التي لا مدخل للاجتهاد والتقليد في صحّتها ، فلو أوقع المكلّف بيعا مشتملا على جميع ما يعتبر فيه من دون اجتهاد أو تقليد ، فالحقّ هو الصحّة.

ولعلّ المفصّل المذكور - أيضا - مذعن بالصحّة في غير المقام.

بل التحقيق - على ما بسطنا فيه الكلام في محلّه - : أنّ المدار في جميع الأحكام هو وقوعها مطابقة للواقع - سواء كانت عبادة أو معاملة - ولا مدخل للاجتهاد والتقليد فيها بعد إحراز مطابقتها للواقع.

سلّمنا أنّ الاجتهاد ممّا يؤثّر في صحة العمل ، ولكنّه ما الفرق بين القسمين ، حتى أنّه التزم بعدم النقض في الأوّل وبه في الثاني؟ إذ لا مائز بينهما في الواقع.

سلّمنا وجود المائز بينهما ، ولكن اشتراط صحّة العمل بوقوعه على طبق الاجتهاد لا يلازمه عدم النقض ؛ إذ المفروض عدم كون الاجتهاد موضوعا صرفا ، على وجه يكون الواقع غير ملحوظ فيما وقع على طبق الاجتهاد. نعم ، غاية ما يلزم من ذلك فساد العمل على تقدير المخالفة وإن طابق الواقع ، وأين ذلك من الحكم بالصحّة وعدم النقض بعد الكشف بفساد الاجتهاد على وجه معتبر؟

ثمّ إنّ ما استند إليه في القول بعدم النقض في القسم الأوّل من الوجوه المذكورة ، قد عرفت أنّها لا ينبغي أن يعوّل عليها في قبال ما ذكرنا من القاعدة القاضية بالنقض.

وأمّا ما (1) فصّله بين استصحاب الحكم واستصحاب الآثار المترتّبة على الاجتهاد الأوّل ، فزعم عدم جريانه في الأوّل وجريانه في الثاني ، فهو ممّا لا يقضي

ص: 174


1- لم يرد « ما » في « ط » و « م ».

به فاضل ؛ فإنّ جواز التصرّف في المثمن بواسطة وقوع العقد الفارسي أو جواز وطي المعقودة أو جواز بيع المملوك - ونحوها من الأحكام التي يتفرّع على موضوعاتها - بواسطة الظنّ المعتبر عند العامل القائم على وجود تلك الموضوعات المستتبعة لتلك الآثار ؛ إذ لا ريب في أنّها أحكام ظاهريّة من حيث وقوع الظنّ واسطة فيها ، وبعد انتفاء الواسطة لا معنى لاستصحاب تلك الأحكام ، كما اعترف به في نفس الحكم.

وأمّا ما زعمه : من أنّ تلك الآثار من مقتضيات وقوع الواقعة على الوجه الذي ثبت كونه مقتضيا لاستتباع آثارها ، فلم نعرف له وجها ؛ فإنّ ذلك الوقوع من مقتضيات الظن ، وبعد ارتفاعه لا وجه لاستصحاب مقتضاه ؛ من جهة ارتفاع الموضوع ، لا من جهة الشك في المقتضي.

واحتمال وجود موضوع آخر لتلك الآثار - بعد كونه غير معقول أصلا ؛ إذ ليس ذلك من الاستصحاب في شيء أصلا - مدفوع بأصالة العدم ، مع أنّه جار في نفس الحكم أيضا ، كما تفطّن إليه ودفعه بمثل ما ذكرنا.

وأمّا ما أفاده إجمالا بقوله : « وبالجملة فحكم رجوع المجتهد حكم النسخ » ففيه : أنّه من سخيف القول ؛ إذ الناسخ إنّما يكشف عن فساد الحكم من حينه ، ولو فرض مدلول الناسخ مثل ما نحن فيه - من كشفه عن فساد العمل على الوجه (1) الواقع قبل حدوث النسخ - كان الوجه في النسخ أيضا لزوم (2) النقض. اللّهم إلاّ بالقول بعدم اعتبار تلك الأمارة بالنسبة إلى الوقائع المتقدّمة ، وقد عرفت دفعه بما لا مزيد عليه.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يتوهّم : من أنّه إذا أثّر السبب في إيجاد المسبّب فلا وجه لتعطيل الأحكام المترتّبة على المسبّب بعد ارتفاع حكم السبب ، نظرا إلى أنّ

ص: 175


1- في « ع » بدل « على الوجه » : « في ».
2- لم يرد « لزوم » في « ع ».

ذلك إنّما يقضي بعدم تأثيره في إيجاد مسبّب آخر ، ولا مدخل فيه بالنسبة إلى آثار المسبّب الأوّل ، نظير ما (1) لو صار الوكيل معزولا ، فإنّ تصرفاته قبل العزل ماضية وإن لم يجز له التصرّف بعد العزل.

وجه الفساد : أنّ ذلك يتمّ في الأسباب الواقعيّة الموجودة حقيقة على وجه صحيح ، كما في مثال الوكالة. وأمّا لو فرض فساد الوكالة عن أصلها ، فلا يعقل القول بإمضاء تصرّفاته. وما نحن بصدده من هذا القبيل ، كما هو ظاهر على من ألقى السمع وهو شهيد.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ الوجه المذكور لو تمّ ، لكان مقتضاه عدم النقض في صورة القطع بالخلاف ؛ فإنّ المقتضي للصحّة - وهو وقوع الواقعة بمقتضى الفتوى - موجود فيه. ونحن لا نجد فارقا بين القطع بالخلاف والظنّ المعتبر القائم على خلاف العمل الواقع أوّلا.

وأمّا اعتذاره عن ذلك بندرة وقوعه فهو لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ لأنّ ندرة الوقوع لا ينافي جواز استصحاب الأحكام الثابتة للحكم السابق ، غاية ما في الباب أنّ التعليل المذكور إنّما يدفع عدم الوثوق ، وأمّا الحرج فهو أيضا ممّا لا مدخل لندرة الوقوع وكثرته فيه ، كما لا يخفى.

ويحتمل قريبا - بقرينة قوله أخيرا : « وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد » وغير ذلك ممّا يومي إليه - أن يكون مراده رحمه اللّه هو التفصيل الذي ذكره بعض آخر (2) ، حيث جعل المسائل الاجتهاديّة - معامليّا كانت أو عباديّا - على قسمين :

ص: 176


1- كذا في نسخة بدل « ط » ، وفي سائر النسخ بدل « نظير ما » : « كما يظهر بما » ، وفي « ع » : « كما يظهر ممّا ».
2- لم نقف عليه.

أحدهما : ما هو من قبيل الإنشاءات التي لم يتصرّف فيها الشارع إلاّ بالأمر بإمضائها وترتيب الآثار المطلوبة من متعلّقاتها عليها بعد صدورها وحدوثها ، أو النهي عن ذلك فلا يترتّب عليها ما هو المقصود منها ، كالعقود والإيقاعات : من البيع والنكاح والطلاق وغيرها ، فإنّ الشارع إنّما أمضى في تلك الأسباب ما هو المعهود بين العرف من آثارها.

وثانيهما : ما لا يكون كذلك ، كسائر الامور ما عدا الآثار الحاصلة من العقود والإيقاعات ، فإنّه من قبيل الأحكام المجعولة من الشارع المقدّس في موضوعات خاصة ومتعلّقات مخصوصة ، كالطهارة المعلّقة على الموضوعات الطاهرة ، والنجاسة الثابتة للأعيان النجسة ، وحلّية الأكل في الذبيحة ونحوها.

ولا ريب أنّ الأحكام المتعلّقة بتلك الموضوعات - وضعية أو تكليفية - إنّما هي أحكام جعليّة شرعيّة قرّرها الشارع لتلك الموضوعات ، فتكون منوطة بالاجتهاد الذي هو الطريق إليها ، فإذا رأى طهارة العصير العنبي بالاجتهاد فلا بدّ من إجراء حكمها عليه ، وإذا بدا له نجاسته فيجب إجراء حكمها عليه في الوقائع السابقة أيضا ، وكذا لو بنى على كفاية قطع الحلقوم في التذكية وعمل بها ثمّ بدا له حرمة الذبيحة المعهودة فلا بدّ من البناء على الحرمة والنجاسة من أوّل الأمر.

وذلك بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه يؤخذ فيه بالنسبة إلى موارد وجود تلك الأسباب فيها بمقتضيات تلك الأسباب فيها ، فلو عقد على المرضعة عشر رضعات بناء على اجتهاده أو تقليده ، ثمّ عدل عن ذلك وظنّ حرمتها ، لم يجز له العقد على مثلها وإن لم يؤثّر في العقد السابق وصحّ نكاحها (1).

والوجه في هذا التفصيل - الراجع حقيقة إلى التفصيل بين الإنشائيّات

ص: 177


1- انتهى التفصيل.

وغيرها - هو : أنّ الأثر الحاصل منها ممّا يكفي في الحكم بوجوده وقوعها على وجه الإمضاء الشرعي ، والمفروض هو الوقوع بحسب الاجتهاد الأوّل ، فلا يؤثّر في ارتفاعها إلاّ ما قرّره الشارع رافعا لها ، كالفسخ في البيع والطلاق في النكاح. وليس من الرافع تبدّل الاجتهاد ، فالأصل قاض ببقاء الآثار المترتّبة عليها ، كما في البيع الصادر من الوكيل بعد انعزاله.

وأمّا النقض في غير الإنشائيّات ، فلأنّه ليس هناك آثار حاصلة كما في البيع ونحوه ، بل إنّما هي أحكام شرعيّة تابعة في مواردها للاجتهاد والتقليد وغيرهما من الطرق الشرعيّة ، فتبقى ببقائها وترتفع بارتفاعها.

فحاصل التفصيل : أنّ الامور الراجعة إلى إمضاء الشارع ، من الأسباب الواقعيّة المعمولة عندهم (1) ، لا وجه للنقض فيها ؛ فإنّ تلك الأسباب غير محتاجة في التأثير إلى حكم ، وإنّما يكفيها مجرّد إمضاء الشارع ولو في وقت ما. وأمّا غيرها ممّا هو راجع إلى جعل الأحكام لموضوعات خاصّة خارجيّة - كحلّية الذبيحة وطهارة الغسالة ونجاسة الثوب المتنجّس بالبول المغسول مرّة بالكرّ ونحوها - فالوجه فيه النقض.

وهذا التفصيل - على تقدير انطباقه بكلامه أيضا - ممّا لا وجه له ، مع أنّ الأمثلة التي أوردها في القسمين ممّا لا يلائم ذلك.

وبالجملة : فلا نزاع لنا في ما وافقنا من الحكم بالنقض وإن لم يظهر لنا وجه ذلك منه.

وأمّا فيما زعم عدم النقض فيه ، فيرد عليه : أنّ الأحكام الشرعية بأسرها - سواء كانت من قبيل الإنشائيّات التي تعلّقت بموضوعات خاصّة ، كما في الأحكام التكليفيّة ، كوجوب الإتيان بالصلاة ، وحرمة شرب العصير ، ووجوب الوفاء بالنذر

ص: 178


1- لم يرد « عندهم » في « ع ».

والعقد والشرط ، ووجوب ردّ العوضين عند تحقّق ما يوجب حلّ العقد ، ونحوها ممّا لا حصر لها ، أو كانت من الإخبار بوقوع امور واقعية ، على مسامحة في إطلاق الحكم الشرعي على هذه الأخبار على الوجه المصطلح كما فصّلناه في محلّه ، كنجاسة الملاقي للنجاسة ، وكخباثة (1) المنبعثة من الجنابة ، ومثل تحقّق ملك الخيار غير الاشتراط وملك الثمن والمثمن عند جريان العقد ، ونحوها - امور واقعية لا سبيل لنا إليها إلاّ بواسطة الإدراكات التي منها الاجتهاد والتقليد. ولا يعقل تأثير تلك الواسطة فيما توصّلنا إليه. وعلى تقديره فلا فرق بين المطالب التي تجعل تلك الإدراكات واسطة في نيل المدرك إليها. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل المذكور.

وأمّا ما زعمه : من الفرق بين الأسباب الواقعيّة (2) التي لا يلحقها إلاّ إمضاء الشارع وبين غيرها ، فممّا لا يجدي شيئا ؛ فإنّ الكلام إنما هو في إمضاء الشارع ولو آناً ما ، فإنّ المفروض انكشاف فساد الأمارة الاولى بالأمارة الثانية. نعم ، لو قيل بأنّ اعتقاد الإمضاء إنّما يقوم مقام الإمضاء حقيقة ، في الحكم بوجود المعتقد ، كان ذلك هو الوجه ، إلاّ أنّه كما ترى!

وربّما يفصّل بين مطلق الأسباب - سواء كانت عرفيّة كما في الإنشاءات أو شرعيّة كالغسل والتذكية والطهارة (3) والحلّية - وبين غيرها ، مثل الأحكام التكليفيّة الصرفة ، فيقال بعدم النقض في الأوّل وبه في الثاني.

ويفارق التفصيل المتقدّم بأنّ موارد النقض في الأوّل أكثر منه ، حيث إنّ عدمه كان مختصّا بالأسباب العرفيّة فقط بخلافه ، فإنّه يشمل الأسباب الشرعيّة أيضا.

ص: 179


1- كذا ، والمناسب : « كالخباثة ».
2- لم يرد « الواقعيّة » في « ع ».
3- في « ط » و « ع » بدل « والطهارة » : « للطهارة ».

وكيف كان ، فالدليل عليه : أنّ كلّ ما تعلّق الاجتهاد على سببيّة شيء - كالبيع للملك ، أو الغسلة الواحدة للطهارة ، أو الذبح للتذكية ، أو غير ذلك - ثمّ أوجد المكلّف ذلك السبب في الخارج على حسب الاجتهاد أو أحد الطرق الشرعيّة ، فقد وقع ذلك السبب في الخارج من أهله في محلّه ، ولا وجه لارتفاع أثره إلاّ بما جعله الشارع رافعا له ، من الإقالة والفسخ وحدوث النجاسة ونحوها ، وليس تبدّل الاجتهاد منه. بخلاف الأحكام التكليفيّة الصرفة ، فإنّها منوطة بالاجتهاد والتقليد ، ويختلف باختلافهما.

وملخّص الفرق ، هو : أنّ مرجع النقض في القسم الأوّل إلى نقض الآثار الحاصلة في الخارج بواسطة وجود السبب القاضي بوجودها على حسب الاجتهاد الأوّل ، ومرجع النقض في القسم الثاني إلى رفع الأحكام الثابتة بالاجتهاد والتقليد.

ومن هنا يمكن أن يقال : إنّه ليس بنقض في الحقيقة ؛ إذ ليس في المقام ما من شأنه البقاء ، مثل الآثار الحاصلة من الأسباب العرفيّة أو الشرعيّة ؛ وإنّما يسمى نقضا إذا لوحظ كلّي (1) الواقعة ، لاختلاف أحكام أفرادها في زمانين ، ولا ريب أنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن العصير بواسطة الاجتهاد في زمان لا يناقض الحكم بطهارته في زمان آخر. وقد عرفت ما لا حاجة معه إلى إطالة الكلام في النقض والإبرام.

ومن أجود (2) طرق التفصيل ما سلكه بعض أفاضل المتأخّرين في مناهجه ، حيث قال : « اعلم أنّ جميع العقود والإيقاعات بل كلّ ما جعله الشارع المقدّس سببا أو شرطا أو مانعا - ممّا وقع فيه الخلاف - لها حقائق نفس أمريّة واقعيّة هي ما

ص: 180


1- لم يرد « كلّي » في « ع ».
2- لم يرد « أجود » في « ع » و « م ».

قرّره الشارع أوّلا ، وحقائق ظاهريّة وهي ما يظنّه المجتهد أنّه ما وضعه الشارع ، وهي قد تطابق الواقعيّة وقد تخالفها ، ولمّا لم يكن لنا سبيل إلى الحقائق الواقعيّة ، ولا تكليف فوق الوسع ، فالسبب والشرط والمانع وأمثالها لنا هي هذه الحقائق الظاهريّة.

ومن البديهيّات التي انعقد عليها الإجماع بل الضرورة : أنّ ترتّب الآثار على هذه الحقائق الظاهريّة يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ، فقد يترتّب الأثر بالنسبة إلى شخص ولا يترتّب عليه بالنسبة إلى آخر ، كما أنّ ملاقات النجاسة سبب لنجاسة الماء القليل عند القائل بها ، وليست سببا عند آخر ، ولا شكّ أنّ القليل الملاقي نجس للأوّل وطاهر للثاني. وكذا قطع الحلقوم فقط سبب لحلّية الذبيحة بالنسبة إلى مجتهد دون آخر. وكذا إيقاع العقد بالفارسيّة - مثلا - سبب للانتقال عند مجتهد دون آخر.

ولم يقل أحد بأنّ كلّ ما هو سبب عند مجتهد وفي نظره أو شرط يجب أن يكون كذلك عند كلّ الناس ، بل مقتضى الأصل أيضا العدم ، فلا يترتّب الأثر إلاّ فيما دلّ الدليل عليه ، وهو في حقّ من ظنّه كذلك خاصّة.

ومن هذا يظهر : أنّ ترتّب الآثار على العقود الظاهريّة وأمثالها ليس من اللوازم الواقعيّة التي لا يتخلّف عنها البتّة.

نعم ، القدر الثابت أنّها من اللوازم بالنسبة إلى مجتهد يعلمها كذلك أو مقلّده ، ولذا يبنى على الصحّة في حقّهما ويترتّب عليهما الآثار بالنسبة إليهما ، بل بالنسبة إلى مجتهد آخر إذا وقع عن المجتهد الأوّل ومقلّده وكان أثرا مترتّبا على ترتّب الآثار بالنسبة إلى المجتهد الأوّل ومقلّده ، كما مرّ مفصّلا.

وأما ترتيب الآثار بالنسبة إلى كلّ مجتهد ومقلّده فكلاّ ؛ إذ لم يقل أحد بأنّ المجتهد الذي لا يكتفي بالفارسيّة إذا أتى بها يترتّب عليه الأثر بالنسبة إليه (1).

ص: 181


1- مناهج الأحكام : 309.

وما ذكرنا من نقل كلامه هذا إنّما هو توطئة لنقل كلام آخر له في تحقيق المقام ، حيث قال : « فنقول - ومنه جلّ شأنه التوفيق - : إذا استقرّ رأي المجتهد في زمان على فتوى وعمل نفسه ومقلّده (1) ، ثم تجدّد رأيه ، فنقض الاولى في الزمان الثاني يتصوّر على وجوه :

الأوّل : إبطالها من رأس والحكم بعدم (2) حكم اللّه فيما مضى ، والحاصل جعلها لاغية بالمرّة حتّى في الزمان المتقدّم ، مثلا إذا أفتى أوّلا بكون استتار القرص مبدأ الليل ، ثمّ استقرّ رأيه بأنّه زوال الحمرة ، يحكم بقضاء الصوم الذي أفطر قبل الزوال.

الثاني : إبطال الآثار المتقدّمة في هذا الزمان الثاني ، يعني أن لا يعمل بالاولى في الثاني ، ويبني أعماله المتجدّدة على الثانية (3).

الثالث : إبطال الآثار المترتّبة على عمل صادر في الزمان الأوّل بفتواه الاولى التي لو لا تغيّر الرأي لقطع بترتّب هذه الآثار على ذلك العمل ، مثل أن ينكح بالفتوى الاولى باكرة بغير إذن الولي ، فإنّه يترتّب على ذلك النكاح آثار لو لا تجدد الرأي لقطع بترتّبها عليه.

أمّا الأوّل ، فلا خلاف في عدم جواز النقض بهذا المعنى ، والإجماع بل الضرورة ولزوم الحرج واستصحاب عدم شغل ذمته وعدم البطلان يدلّ عليه ، ولولاه لزم على كلّ أحد قضاء عباداته المبنيّة على رأي مجتهد تبدّل رأيه ، وردّ ما اشتراه واسترداد ما باعه ؛ وكذا في الزكاة المخرجة ، وغير ذلك ، وهو ممّا لم يقل به أحد.

ص: 182


1- في المصدر : « أو مقلّده بها ».
2- في المصدر زيادة : « كونها ».
3- كذا في المصدر ، وفي النسخ : « الثاني ».

وأمّا الثاني ، فلا خلاف في جواز النقض بهذا المعنى بل وجوبه ؛ فإنّه لازم تغيّر الرأي وتعبّد كلّ باجتهاده واجتهاد مجتهده ، وهو ضروريّ أيضا.

وأمّا الثالث ، فيظهر عدم جوازه من عدم جواز النقض بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ العمل الصادر في الزمان الأوّل كان صحيحا مستتبعا للأثر وقد صدر في الأوّل ، وبعد تجدّد الرأي لا يجوز الحكم بكون هذا العمل باطلا في الزمان الأوّل وليس حينئذ موجودا ، حتّى يصير موردا للفتوى الثانية ؛ فما وقع لم يرد عليه البطلان ، فلم لا يترتّب عليه أثره؟!

والحاصل : أنّ المفروض أنّ العمل المذكور مستتبع لأثره ما لم يطرأ عليه الفساد ، ولم يطرأ عليه ؛ أمّا في السابق فظاهر ، وأمّا في اللاحق فلعدم وجوده. وأيضا لم يحدث في اللاحق إلاّ استقرار الرأي بأنّ هذا العمل لو وقع في هذا الزمان لم يترتّب عليه الأثر ، ولا تأثير لذلك في ارتفاع أثر العمل السابق (1).

ثم إنّه رحمه اللّه فرّع على هذا بقاء نكاح البكر بحاله بعد التغيّر ، ثمّ استدلّ عليه باستصحاب استتباع الآثار ، واستصحاب نفس الأثر - كالزوجيّة - وبعمل السلف والخلف ، ثمّ أورد على الاستصحاب بأنّه شكّ في استعداد تلك الآثار للبقاء ، وأجاب بأنه شكّ في تحقّق المبطل.

ثمّ قال بعد ذلك كلّه : والتوضيح أنّ الأفعال الجزئيّة المتحقّقة حال الرأي الأوّل ، من الأسباب والشروط والموانع على قسمين :

أحدهما : ما يكون تأثيره وعدم تأثيره بالنسبة إلى شخص خاص أو أشخاص معيّنين من غير تجاوز منه - كالأمثلة الاولى - فإنّ العقد الجزئي الواقع على مرأة ، إنّما يصير سببا لحلّيتها على الزوج المعيّن من غير مدخليّة غيره أصلا ، وإذا كان باطلا يكون غير مؤثّر في حقّه كذلك.

ص: 183


1- مناهج الأحكام : 287.

وثانيهما : ما ليس كذلك ، كغسل الثوب المعيّن من البول ، فإنّه يصير سببا لطهارة هذا الثوب لكلّ من يرى الاكتفاء بالمرّة ، وغير مؤثّر في حقّ كلّ من لا يراه كذلك. وكذلك قطع الحلقوم في التذكية إذا قطعه ، فإنّه يصير المذبوح المعيّن حلالا على كلّ من يكتفي في التذكية بقطع الحلقوم وعلى مقلّديه ، ويكون حراما على كلّ من لا يكتفي فيها به.

فإن كان من الأوّل فلا يجوز النقض فيه ، وما مرّ من الإجماع وسائر الأدلّة يدلّ عليه.

وأمّا ما كان من الثاني فإنّه ينتقض بعد التغيّر ، فيقال : إنّ من يرى غسل المرّة فيه غير كاف إذا غسل الثوب مرّة يكون نجسا ما دام على ذلك الرأي ، وإذا تبدّل رأيه ورأى كفاية المرّة يطهر له هذا الثوب ؛ وذلك لأنّ هذا الغسل الجزئي لذلك الثوب المعيّن - مثلا - حال ظنّ عدم كفايته كان غير مؤثّر في حقّه ، لأجل أنّ هذا الشخص مندرج تحت عنوان « من يظنّ عدم كفايته » ولذا كان نجسا لكلّ من يظنّ كذلك ، وهذا الغسل بعينه لهذا الثوب بعينه في هذا الحال سبب للطهارة في حقّ كلّ من يرى الكفاية بالإجماع والضرورة ، ولأنّه لا يشترط في طهارة الثوب كون الغسل صادرا عمّن يرى كفاية المرّة ، ولا كون الثوب ملكا له ، فإذا تغيّر رأي الشخص الأوّل واندرج تحت العنوان الثاني ، لا بدّ أن يكون الثوب طاهرا في حقّه. ولا يشترط أن يكون أيضا صادرا حال تغيّر الرأي ؛ لأنّ ظنّه حينئذ حجة في حقّه ، ومظنونه الحاصل بسبب الأدلّة الشرعيّة : أنّ الغسل مرة سبب للتطهير مطلقا ، وليس مقيّدا بأنّ الغسل المتحقّق حال هذا الظن كذلك ، إذ لا تقييد في شيء من الأدلّة الظنّية بذلك أصلا.

ولذا ترى المجتهدين إذا حدثت الوقائع قبل اجتهادهم فيها واستفتي منهم ، يتأمّلون في حكم المسألة بعد حدوثها ، ويحكمون على الحادثة السابقة بما استقرّ

ص: 184

رأيهم بعد الاجتهاد. وليس المراد أنّ الغسل السابق صار سببا حينئذ ، بل سببيّته تحقّقت أوّلا ، ولكن لم يكن هذا الشخص داخلا في عنوان « من تحقّقت في حقّه السببيّة » ، ودخل فيه حينئذ ، كما أنّ من وقف شيئا على ضيفه فصار شخص بعد مدّة ضيفا له ، فإنّ الوقفيّة عليه لا تتحقّق حينئذ ، بل الدخول في العنوان تحقّق في هذه الحالة. وعلى هذا فلا أثر للاستصحاب المذكور ؛ لثبوت السببيّة في حقّ من دخل في هذا العنوان ، ولأنّ عدم السببيّة أوّلا كان لمن دخل في عنوان آخر ، فقد تغيّر الموضوع.

وأمّا الإجماع المذكور فاختصاصه بالأوّل ظاهر ، بل يمكن دعوى الإجماع على النقض في الثاني. وكذا الحال في غير هذا المثال (1) ، انتهى ما أفاده في توضيح المقام.

وأنت بعد ما عرفت من مبنى النقض وعدمه تعرف مواضع الفساد في هذه الكلمات. ولا بأس بالإشارة إلى بعض وجوه النظر فيه :

فنقول : أمّا ما أفاده أوّلا : « من أنّ الأسباب الشرعيّة وشرائطها وموانعها لها حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة » فهو ممّا لا يطابق الواقع ؛ إذ ليس الطرق الشرعيّة إلاّ مثل الطرق التي يستعملونها العقلاء والعرف في استكشاف مقاصدهم واستظهار مطالبهم ؛ فكما أنّ المسترشد من الطريق الموصل إلى بلد ، لو اتّكل في سلوك سبيله إلى قول من يورث له الظنّ بالطريقيّة والوصول إلى ذلك البلد ، لا يعقل له القول بأنّ ما يوصل إلى ذلك البلد له حقيقة واقعيّة وحقيقة ظاهريّة ، فكذلك في الطرق الموصلة إلى الأحكام الشرعيّة ، فإنّ كلّها يكشف عن تلك الأسباب الواقعيّة والأحكام الموجودة في نفس الأمر المخزونة عند أهلها.

ص: 185


1- مناهج الأحكام : 288.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الأحكام الوضعيّة كالشرعيّة التكليفيّة التي يتحقّق بواسطة الإنشاء والجعل المساوق له ، وبين القول بانتزاعها من الامور التكليفيّة ، أو كونها امورا واقعيّة كما هو مقتضى مذاق التحقيق - على ما قرّر في محلّه (1) - ولا (2) يعقل أن يكون للطريق مدخل فيما هو طريق إليه ، فليس عندنا إلاّ الأسباب الواقعيّة التي يستكشف عن وجودها وتحقّقها في محالّها تارة بالعلم واخرى بالظن ، غاية الأمر أنّ العلم غير محتاج في الأخذ بما يترتّب على كشفه عن الواقع إلى دليل ، بخلاف الظن ، فإنّ ترتيب الآثار الواقعيّة على المظنون بواسطة الكشف الظنّي يحتاج إلى دليل. وهذا الفارق ليس قاضيا بما زعمه : من اختلاف الماهيّات على وجه الظاهريّة والواقعيّة.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الوجه في عدم جواز الأخذ بالأسباب الظاهريّة لكلّ أحد ، ليس لما زعمه : من أنّ تلك الماهيّة إنّما تكون سببا بالنسبة إلى شخص دون آخر ، بل الوجه هو وجود الدليل على جواز الاعتماد على ذلك الكشف الظنّي وعدمه (3).

وأمّا ما أفاده في التقسيم إلى الأقسام الثلاثة فكلامه فيه متهافت ؛ فإنّه صرّح في القسم الثاني بالنقض ، وقضيّة ذلك النقض بالنسبة إلى الوقائع الحادثة في القسم الثالث أيضا ، فإنّ جواز الوطي في البكر المعقود عليها بغير إذن الولي بعد تغيّر الرأي لا وجه لإلحاقه بالقسم الأوّل مع إمكان إلحاقه بالقسم الثاني ،

ص: 186


1- راجع فرائد الاصول 3 : 125 - 130.
2- في « م » : إذ لا.
3- لم يرد « وعدمه » في « ع » و « م ».

فإنّ ذلك هو لازم تغيّر الرأي بعد القول بوجود الواقع أوّلا (1) ، فلا وجه للنقض في القسم الثاني (2) أيضا.

وأمّا ما ذكره في التعليل - من أنّ العمل المذكور مستتبع لأثره ما لم يطرأ عليه الفساد ، ولم يطرأ عليه ؛ أما في السابق فظاهر ، وأما في اللاحق فلعدم وجوده - فهو بمكان من الوهن والضعف ؛ فإنّه لو فرض فساد العقد الواقع أوّلا ولو بمقتضى الاجتهاد الأوّل ، فيجري فيه الكلام المذكور ، فإنّه غير موجود ، وما نحن فيه إنّما يظهر فساده من أوّل الأمر.

وأما ما استدلّ به على عدم النقض فقد عرفت فيما تقدّم عدم الملازمة في بعض منها ، وعدم الدليل على بطلان اللازم في الآخر ، وعدم تحقّق بعض آخر ، كما مرّ مفصّلا.

وأمّا ما أورد في السؤال والجواب عن الاستصحاب فكلاهما ضعيفان ؛ فإنّه ليس شكّا في مقدار الاستعداد ، ولا شكّا في حدوث المبطل ، بل الواقع أنّه ظهور فساد بدليل معتبر ، فيكون من الشكوك السارية ، كما هو ظاهر.

وأمّا ما أورده في التوضيح ، فملخّصه يرجع إلى التفصيل بين الامور التي لا مدخل لها (3) إلاّ لشخص معيّن أو أشخاص معينين فلا يحكم فيها بالنقض ، وبين غيرها فيحكم فيها به. وليت شعري! ما الفرق بينهما بعد الغضّ عمّا فيه من حيث الموضوع؟ فإنّ ما زعمه من القسم الأوّل كالنكاح ليس من الامور المختصّة ؛ فإنّ أحكام زوجيّة هند لزيد - مثلا - لا تختصّ بزيد فقط أو بهند كذلك ، بل من جملة أحكامها حرمتها على غير زيد ، وهو يعمّ جميع الآحاد.

ص: 187


1- لم يرد « أوّلا » في « م ».
2- في « م » : « بالقسم الثاني ».
3- في « ط » و « ع » بدل « لها » : « فيها ».

وكيف كان ، فالمطّلع على وجوه النظر واختلاف الأنظار في الصحّة والسقم لا ينبغي له الإصغاء إلى هذه الوجوه.

وأضعف من الكلّ ما قد نسب إلى بعض أجلّة السادات (1) : من التفصيل بين المجتهد فحكم بالنسبة إليه بالنقض ، والمقلّد فحكم فيه بعدمه. واستدلّ على العدم بالاستصحاب والحرج. وعلى تقدير التماميّة لا يعقل الفرق بين المجتهد وغيره. واللّه الهادي.

ص: 188


1- انظر مفاتيح الاصول : 582.

هداية

قد أشبعنا الكلام في الإجزاء وعدمه وترتيب الآثار وعدمه بالنسبة إلى من ظهر له فساد العمل السابق بأمارة ظنّية معتبرة ، ولنذكر طرفا منه بالنسبة إلى فعل الغير ، كما إذا اعتقد المجتهد أو المقلّد خلاف ما يراه المجتهد الآخر أو المقلّد الآخر ، فنقول : إنّ قضيّة ما قرّرنا في الهداية السابقة - من أنّ الطرق الشرعيّة إنّما هي طرق إلى الواقع من دون تصرّف لها فيه - هو عدم ترتيب آثار الواقع على فعل الغير المخالف في الاعتقاد له ، فلا يجوز الأكل من الدبس المشترى بالبيع معاطاة لمن لم يجوّز ذلك ، ولا يجوز الاقتداء بمن لا يعتقد وجوب السورة مع العلم بمطابقة عمله لاعتقاده. وأمّا عند عدم العلم فيحتمل جواز الاقتداء ؛ نظرا إلى أصالة الصحّة في فعله ولو لم يكن الصحّة معتبرة في اعتقاده ، كما قرّر في محلّه.

والمسألة في غاية الإشكال نظرا إلى بعض اللوازم ؛ إذ على تقديره يجوز العقد على المعقودة بالفارسيّة لمن لم يجوّز ذلك وأمثاله ، كما لا يخفى.

إلاّ أنّه لم نجد مصرّحا بالخلاف أيضا ، بل يظهر ممّا في تمهيد القواعد كونها مفروغا عنها بعد القول بالتخطئة ، حيث ذكر في ثمرات التخطئة لزوم إعادة الصلاة إلى القبلة الاجتهاديّة إذا انكشف كونها خطأ ، وعدم جواز الاقتداء عند مخالفة الإمام والمأموم في الأجزاء والشرائط (1) بل المحكي عن العلاّمة في التذكرة (2)

ص: 189


1- تمهيد القواعد : 322 - 323.
2- التذكرة 4 : 283.

والتحرير (1) ونهاية الإحكام (2) ، وعن الشهيد في الدروس (3) والذكرى (4) والبيان (5) ، وعن الصيمري (6) وابي العباس (7) : أنّ المخالف في الفروع لا يجوز الاقتداء به (8) إذا فعل ما يقتضي فساد الصلاة عند المأموم ، كترك السورة ، والصلاة في المغسول مرّة ، ولبس السنجاب ، ونحوها.

وهذا الحكم وإن كان بعيدا عن مذاق المعاصرين - على ما استكشفناه منهم (9) - فإنّ منهم من يصرّح بعدم النقض في بعض الأمثلة (10) ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّ ذلك ناش عن عدم التعمّق فيما يوجب ذلك من المدارك ، بل إنّما هو قول منهم بمجرّد الاستبعاد ، وإن كانوا هم غافلين عن ذلك ومتخيّلين أنّ ذلك منهم إنّما هو بواسطة دليل دلّهم على ذلك ، وأنّى لهم بذلك بعد ما عرفت من القاعدة التي لا مخرج عنها؟

والذي يسهّل الخطب عدم وقوع أمثال تلك الوقائع (11) في الخارج إلاّ نادرا ، وعلى تقديره فلا يعلم به ، فلا يكون من موارد الابتلاء والتكليف ، ولا يجب الفحص عن أمثال ذلك.

ص: 190


1- انظر التحرير 1 : 52.
2- نهاية الإحكام 2 : 140 - 141.
3- الدروس 1 : 218.
4- الذكرى 4 : 393.
5- البيان : 229.
6- غاية المرام 1 : 218.
7- الموجز ( الرسائل العشر ) : 111.
8- « به » من « ق ».
9- لم ترد « منهم » في « م ».
10- انظر الجواهر 13 : 393.
11- في « ط » و « م » زيادة : « أوّلا ».

ثمّ إنّ بعض التفاصيل المتقدّمة أيضا يجري فيما نحن بصدده ، كما صرّح به في المناهج عند الاعتراض على ما زعمه المحقّق القمّي رحمه اللّه ، بعد (1) ما نفى الشكّ من مزاحمة مجتهد لمجتهد آخر ومزاحمة مقلّده ، فإنّه أطلق القول بالبناء على الآثار المترتّبة على الاجتهاد (2) ، حيث قال : والظاهر جواز بنائه على صحّة ما حصل بفعلهما (3).

فاعترض عليه في المناهج : « انّ عدم المزاحمة حقّ ؛ وأمّا البناء على صحّة ما حصل بفعلهما ، فإن أراد أنّه يجوز له أن يحكم بترتيب جميع الآثار عليه - حتّى ما يتعلّق بهذا المخالف وفي حقّه - فليس بإطلاقه ، بل الأثر المترتّب عليه إمّا في حقّ الفاعل أو هذا المخالف ، فما كان من الأوّل فيحكم بترتّبه ، وما كان من الثاني فإن كان مترتّبا على صحّته في حقّ الفاعل فكذا ، وإن كان مترتّبا على نفس الفعل فلا » (4). ثمّ أخذ في بيان الأمثلة لما ذكره.

وذلك التفصيل وإن كان مخالفا في التحرير لما فصّله في الهداية السابقة ، لكنّه يؤول إليه عند التحقيق والاستظهار.

وأنت خبير بأنّ المبنى في الكلّ واحد ، وبعد الاعتراف بأحد الوجهين في كيفيّة الطرق الكاشفة للواقع لا وجه للأخذ بما ينافيه.

ثمّ إنّه يظهر من بعض من ذهب إلى جواز ترتيب الأثر على فعل الغير عند المخالفة ، طور آخر من الاستدلال (5) ، حيث استند في ذلك إلى عدم الدليل على

ص: 191


1- في « ط » و « م » : وبعد.
2- في « ق » زيادة : « الأوّل ».
3- القوانين 2 : 400.
4- مناهج الأحكام : 289.
5- لم نقف عليه.

اشتراط الصحّة الواقعيّة في ترتيب الآثار ، مثل الاقتداء في الصلاة مع تخالف الإمام والمأموم ، وجواز الأكل من الخبز المشترى بالمعاطاة ، ونحو ذلك ، بل زعم كفاية الصحّة في الجملة ولو في نظر الشخص ، وكون الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة لا يقضي بالصحّة الواقعيّة - بعد التسليم - فإنّ ذلك فرع كوننا مخاطبين بالخطابات المزبورة ، وهو خلاف التحقيق ؛ لما حقّق في محلّه : من أنّ الخطابات مختصّة بالمشافهين ، واشتراكنا معهم إنّما هو في الأحكام الثابتة بالنسبة إليهم ، لا في العمل بظواهر الخطابات ، وقاعدة الاشتراك في التكاليف الواقعيّة وإن كانت قاضية بالفساد ؛ ضرورة تعلّق تكاليفهم بالامور الواقعيّة ، إلاّ أنّ العمدة في إثبات تلك القاعدة هو الإجماع ، وفقده في محلّ الكلام غنيّ عن البيّنة.

وفيه - بعد الغضّ عن جميع ما في تفاصيل كلامه - : أنّ الاجماع ثابت على الاشتراك ، وهذه قاعدة لا بدّ من الخروج عنها إلى دليل ، وليس يكفي في ذلك مجرّد وجود الخلاف ، بل لا بدّ من دليل قاض بذلك ، وهو ظاهر في الغاية ، كما يوضّحه ملاحظة القواعد الإجماعيّة في مواردها ، كموارد الاشتغال ، فإنّ وجود الخلاف في مورد لا يقضي بعدم الاستناد إلى تلك القاعدة ، بل لا بدّ من إقامة الدليل على المخالفة.

ص: 192

تذنيب

قد ذكر غير واحد منهم في باب الحجّ (1) : أنّه لو أحرم بغير غسل الإحرام أو صلاتها عامدا أو جاهلا أو ناسيا أو ذاكرا يستحبّ له التدارك لما تركه من الغسل والصلاة وإعادة الإحرام (2).

والوجه فيه ما ورد في الصحيح (3) ، بعد السؤال عما تقدّم من لزوم الإعادة ، فإنّه محمول على الاستحباب عند المشهور ، ومنهم الشيخ (4).

وأورد عليه ابن ادريس - كما هو المحكيّ عنه (5) - : بأنّه إن أراد أنّه نوى الإحرام وأحرم ولبّى من دون صلاة وغسل فقد انعقد إحرامه ، وأيّ إعادة تكون عليه؟ وكيف يتقدّر عليه؟ وإن أراد أنّه أحرم بالكيفيّة الظاهرة من دون النيّة والتلبية فيصحّ ذلك ويكون لقوله وجه (6) ، انتهى.

أقول : إنّ بعد ما عرفت فيما تقدّم : من أنّه يمكن الأمر بإعادة الفعل المأتيّ به على وجه الصحّة الواقعيّة استيفاء لما هو الأكمل من الفعل المأتيّ به ، لا وجه لما

ص: 193


1- كالشيخ في المبسوط 1 : 315 ، والعلاّمة في المنتهى ( الطبعة الحجرية ) 2 : 673 ، والشهيد الثاني في المسالك 2 : 229 - 230.
2- لم يرد « وإعادة الإحرام » في « م ».
3- الوسائل 9 : 28 ، الباب 20 من أبواب الإحرام ، الحديث الأوّل.
4- المبسوط 1 : 315.
5- حكاه عنه في المختلف 4 : 49.
6- السرائر 1 : 532.

أورده الحلّي على الشيخ ؛ فإنّ انعقاده لا ينافي استحبابه (1) ثانيا ؛ لما في الفرد الثاني من الكمال ما ليس في الأوّل.

على أنّ ما ذكره أخيرا - على تقدير الإحرام الظاهري بدون النيّة - غير موجّه ؛ إذ على تقديره فيجب الإعادة ، إذ لم ينعقد إحرامه بمجرّده ، وذلك نظير استحباب الإعادة في الصلاة التي لم يؤذّن فيها بعد انعقاد إحرام الصلاة. ولا ينافي ذلك كون إحرام الحج بعد انعقاده ممّا لا ينقطع إلاّ بمثل الصدّ والإحصار ونحوه ؛ لورود النصّ بذلك أيضا في خصوص المقام (2).

ومن هنا قد التزم سيد الرياض بوجوبه (3) ، إلاّ أنّ ذلك منه في غير محلّه ؛ فإنّ إفادة الأمر (4) الاختياري للإجزاء أمر لا يقبل أن ينازع فيه ، والوجوب ثانيا ينافي ذلك. نعم ، استحبابه غير مناف لذلك ، كما لا يخفى على المتدبّر فيما ذكرنا.

وقد يقال : بإمكان الأمر الوجوبي بالفرد الكامل ، كما في الواقعي الاضطراري.

وليس بشيء ؛ لأنّ المنشأ لو كان ترك الواجب في حالة الإجزاء صحّ ذلك ، بخلاف ترك الأجزاء المستحبّة.

هذا آخر ما أفاده الاستاذ المحقّق في هذه المسألة الشريفة المذكورة ، أعني مسألة الإجزاء.

ولعمري ، إنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل ، وتكلّم الاستاد فيها من أعظم الكلمات. خذها واغتنم ، فلله الحمد ، إنّه خير موفّق.

ص: 194


1- عبارة « فإنّ انعقاده لا ينافي استحبابه » من « ط » ، وفي « ع » و « م » ذكرت العبارة بعد قوله « إحرام الصلاة » الآتي بعد سطور.
2- لم نعثر عليه.
3- انظر الرياض 6 : 228 - 229 ، وفيه : « وكيف كان فلا ريب في الاستحباب ».
4- في « ع » زيادة : « الواقعي »

القول في وجوب مقدّمة الواجب

اشارة

ص: 195

ص: 196

وتحقيق الكلام على وجه يرتفع به غواشي الأوهام في طيّ هدايات.

هداية

اعلم : أنّ من الامور التي ينبغي مراعاتها في التعاليم هو معرفة المسألة التي يقع البحث فيها قبل الخوض في الاستدلال نفيا أو إثباتا ، من حيث دخولها في أيّ فنّ من الفنون المدوّنة ، ثمّ في لحوقها بأيّ باب من أبواب ذلك الفنّ ، ليكون الطالب على بصيرة من ذلك من حيث ملاحظة أخواتها في الحكم ومقايستها عليها. وذلك وإن لم يكن من الامور اللازمة ، إلاّ أنّ فيها جدوى كثيرة.

فنقول : ربّما يتوهّم دخول المسألة في المسائل الفرعيّة ، لرجوع البحث فيها إلى البحث عن العوارض اللاحقة لفعل المكلّف من حيث الاقتضاء والتخيير - كما في البحث عن وجوب الصلاة والزكاة ونحوهما - فيكون من المسائل الفرعيّة.

ولكنّه ليس على ما يتوهّم ؛ إذ مرجع البحث فيها إلى أنّ العقل هل يحكم بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها أو لا؟ فيرجع البحث فيها إلى البحث عن تحقّق (1) الملازمة بين الإرادة الجازمة المتعلّقة بشيء وبين إرادة مقدّماته. وذلك كما ترى ليس بحثا عن فعل المكلّف ، بل هو بحث عن اقتضاء نفس التكليف والطلب وإن استلزم العلم بها العلم بكيفيّة عمل المكلّف من حيث وجوب الإتيان به وإباحته ، كما هو الشأن في جميع المسائل الاصوليّة ، فإنّها مهّدت لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعيّة منها.

ص: 197


1- في ( م ) ، ( ع ) بدل « تحقّق » : نفس.

ومن ذلك يظهر شمول الحدّ المذكور للاصول لها أيضا. ويتّضح ما ذكرنا غاية الاتّضاح عند ملاحظة أنّ علم المقلّد بهذه المسألة ممّا لا يجديه في شيء من أعماله وأفعاله. وذلك ظاهر لا سترة عليه بعد ملاحظة أنّ تشخيص موضوعها موقوف على الاجتهاد الذي ليس للمقلّد فيه حظّ ولا نصيب ؛ مضافا إلى ما يشاهد من درجها في مسائل الاصول في كتب مهرة الفنّ وأساطين الصناعة ؛ وبذلك يكفي شاهدا ودليلا.

ثمّ إنّ من هنا ينقدح لك القول بأنّ الترتيب الطبيعي يقضي بأن تكون ملحقة بالمسائل المذكورة في المبادئ الأحكامية - كما صنعه العضدي تبعا للحاجبي (1) - فإنّ من المناسب عند تحقيق الحكم الشرعي وتقسيمه إلى الوضعي والتكليفي وتنويعه إلى الأنواع الخمسة المعروفة تحقيق لوازم تلك الأحكام ، من حيث إنّ الوجوب المتعلّق بشيء يستلزم وجوب مقدّماته أو لا. أو مذكورة (2) في مباحث الأدلّة العقليّة - كما صنعه آخرون (3) - من حيث ثبوت حكم العقل (4) في هذه المسألة ، كما في مسألة ثبوت حكمه في أصالة الإباحة ؛ إذ لا اختصاص لها بما يتفرّع على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ولا بما يستقلّ العقل باستفادة حكمه ولو من غير توسيط للخطاب الشرعي ، بل قد عدّت (5) في عدّة مواضع من كلمات المحقّقين الملازمات العقليّة في عداد أدلّتها (6).

ص: 198


1- راجع مختصر الاصول وشرحه للعضدي : 3 و 90 ، حيث جعل علم الاصول في امور أربعة أوّلها في المبادئ ، وأورد البحث عن مقدّمة الواجب في الأمر الأوّل.
2- عطف على قوله : ملحقة.
3- كالفاضل التوني في الوافية : 291 ، وانظر هداية المسترشدين 2 : 84 ، وضوابط الاصول : 83.
4- في ( ع ) و ( م ) : الحكم للعقل.
5- في « م » بدل « عدّت » : حقّق.
6- راجع الفصول : 336 - 337 ، وهداية المسترشدين 3 : 496.

وأمّا ذكرها في مباحث الألفاظ - كما صنعه صاحب المعالم (1) وتبعه في ذلك جماعة (2) - فليس على ما ينبغي ؛ إذ غاية ما يمكن أن يقال فيه هو : أنّ الوجوب لمّا كان من مداليل الألفاظ صحّ ذكرها في مباحثها.

وذلك ظاهر الفساد ، إذ فيه - بعد الغضّ عن أنّ الوجوب كما قد يكون الدليل عليه هو اللفظ فكذلك قد يكشف عنه العقل أو الإجماع أو الضرورة ونحوها ممّا ليس بلفظ ، والنزاع المذكور كما يتأتّى فيما يدلّ عليه اللفظ يجري في غيره أيضا من غير اختصاص بأحدهما ، كما أشار إليه المدقّق الشيرواني (3) - أنّه لا يعقل أن يكون البحث في المقام بحثا لغويّا ونزاعا لفظيّا.

وتحقيقه : أنّ المتعارف في الأبحاث اللغويّة هو تسليم المتخاصمين لوجود المعنى المتنازع في وضع اللفظ له وعدمه ، وإنّما التشاجر بينهم في ثبوت العلقة الجعليّة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى على وجه يصحّ أن يكون اللفظ مرآة وكاشفا عن ذلك المعنى الثابت في محلّ ثبوته.

وذلك كما في نزاعهم في أنّ الأمر للوجوب أو لا؟ فإنّ المعقول من هذا النزاع هو أنّ هيئة الأمر على نحو وضع الهيئات هل هي موضوعة لمعنى يلزمه الوجوب أو لا؟ مع اعتراف المتخاصمين بتحقّق هذا المعنى في الواقع وتسليمهما لاختلاف مراتب الطلب والإرادة ، فتارة يتأكّد الطلب فيصير

ص: 199


1- المعالم : 60.
2- كالمحقّق القمّي في القوانين 1 : 99 ، وصاحب الفصول في الفصول : 82 ، والفاضل النراقي في المناهج : 48.
3- في حاشيته على المعالم المطبوعة مع المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 60 ، ذيل قول المصنّف : لنا.

في تلك المرتبة منشأ لانتزاع الوجوب من الفعل ، وتارة لا يصل إلى تلك المرتبة فلا يصحّ انتزاع الوجوب من الفعل الذي تعلّق الطلب به. وبالجملة : فلا اختلاف بينهم في اختلاف مراتب الطلب ، كما لا خلاف في تحقّق المرتبة الملزومة للوجوب وثبوتها ، وإنّما النزاع في أنّ هيئة الأمر هل هي موضوعة لأيّ مرتبة منه؟

وكذلك القول في المفاهيم ، فإنّ العلقة بين التالي والمقدّم تارة تلاحظ على وجه يتفرّع وجود أحدهما على الآخر ، وتارة ملحوظة على وجه يلازم عدم أحدهما عدم الآخر أيضا ، فمع قطع النظر عن النزاع في مفهوم الشرط لا كلام في تحقّق هذين المعنيين ؛ وإنّما النزاع في أنّ لفظة « إذا » مثلا هل هي موضوعة للعلقة المذكورة على وجه يلاحظ أحدهما معلّقا على الآخر وجودا فقط أو وجودا وعدما؟

والنزاع في المقام ليس بهذه المثابة ؛ إذ الكلام في ثبوت أصل الملازمة العقليّة وتحقّقها بين الإرادة المتعلّقة بشيء وبين إرادة مقدّماته ، فالقائل بالوجوب يدّعى ثبوتها ، والقائل بالعدم ينفيها. وليس الوجوب في الواقع تارة على وجه يحكم العقل بثبوت الملازمة وتارة على وجه لا يحكم العقل بها ، فيكون النزاع في أنّ اللفظ موضوع لأيّ الوجوبين ، كما لا يخفى.

فظهر : أنّ البحث عن الملازمة المذكورة لا يشبه الأبحاث اللغويّة والنزاعات الراجعة إلى تشخيص مسمّى اللفظ. نعم ، على القول بتحقّقها يكون من المداليل الالتزامية للّفظ الدالّ على وجوب ذيها فيما إذا قلنا بأنّها من اللوازم التي لا يحتاج التصديق بها إلى وسط في الإثبات ، ومجرّد ذلك لا ينهض وجها لدخولها في مباحث الألفاظ.

ص: 200

ومن هنا يظهر لك الوجه في فساد ما استدلّ به صاحب المعالم على النفي : من انتفاء الدلالات (1) ، وفساد ما اعترض عليه بعض المحقّقين (2) : من أنّ عدم الدلالة بواسطة القرينة ممّا لا ينافي ثبوت الوضع ، إلى غير ذلك من هذه الوجوه المنبئة عن كون البحث في المقام بحثا لفظيّا ونزاعا لغويّا ، فتدبّر.

ص: 201


1- المعالم : 62.
2- وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 60 ، ذيل كلام الماتن : لنا.

ص: 202

هداية

اشارة

المقدّمة لغة : اسم فاعل من « قدّم » ، أو اسم مفعول منه ، فعلى الأوّل لا بدّ من تمحّل ، إمّا بالقول بأنّها من كثرة ارتباطها إنّما قدّمت نفسها فيكون « قدّم » - على ما هو المعهود من استعماله - متعدّيا ، وإمّا بالقول بأنّ « قدّم » بمعنى « تقدّم » فيكون التفعيل للتكثير ، كما في قوله تعالى ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) (1) وقولهم : « موّتت الإبل » وقولهم : « فرّح » بمعنى « تفرّح ». وعلى الثاني فلا إشكال ؛ لأنّها مأخوذة من مقدّمة الجيش ، وهي على الظاهر طائفة من الجيش تقدّم في المسير ليكون عيونا لهم من الأعداء ، فيكون التفعيل للتعدية ، لأنّهم قدّموهم على أنفسهم.

ومن هنا يظهر : أنّ التاء فيها للتأنيث من حيث اعتمادها على موصوف مؤنّث ، كما في قولهم : « باقية » و « سارية » و « باغية » و « طاغية » ، لاعتمادها على « النفس » المحذوفة لفظا. وليست للنقل - كما توهّم - لعدم ثبوت النقل أوّلا ، وعدم ثبوتها ثانيا. أمّا الأوّل : فلأنّ المنساق منها عرفا واصطلاحا وإن كان مختلفا ، فإنّ المراد منها اصطلاحا أخصّ ممّا هو المراد منها عرفا ؛ إذ لا يلاحظ الارتباط بين المقدّم والمؤخّر في العرف ، وفي الاصطلاح لا بدّ من ملاحظة الارتباط والتوقّف بينهما ، فوجود زيد وإن كان سابقا على وجود عمرو ، لا يكون مقدّمة لوجود عمرو اصطلاحا إذا لم يتوقّف وجوده عليه ، ويكون مقدّما عليه لغة وعرفا ، إلاّ أنّ مجرّد الاختلاف لا يقضى بالنقل. وأمّا الثاني : فلما قرّر في محلّه.

ص: 203


1- يوسف : 23.

وبالجملة : فالمقدمة بحسب مصطلح الاصوليّين عبارة عمّا يتوقّف عليه الشيء ، والمناسبة بين المعنيين ظاهرة.

وكيف كان ، فلها تقسيمات مختلفة باعتبارات متفاوتة :

منها : تقسيمها إلى الداخليّة والخارجيّة.

فالمراد بالأوّل : ما كان داخلا في ذيها ، كأجزاء الماهيّة المركّبة ، فإنّها ممّا يتوقّف عليها ، ضرورة احتياج الكلّ إلى الأجزاء (1) مع دخولها في حقيقته وماهيّته.

والمراد بالثاني : ما كان خارجا عنها فيما إذا كان ممّا يتوقّف عليه وجود ذيها. وهذا القسم في الواقع يقع على أنحاء : فتارة يكون على وجه يمتنع تخلّف ذيها عنها ، وتارة يكون على وجه لو لم يكن ما يمنع منه لكان مترتّبا عليه ، وتارة يكون ممّا يستند إليه بعد حصول الشرائط المعتبرة في تأثيره أو في تأثّر المحلّ منه ، وتارة يكون على وجه له مدخل ، في وجود ذي المقدّمة ، فتارة : بوجوده (2) فقط ، واخرى : بعدمه فقط ، ومرّة : بهما معا.

وقد جرى اصطلاح أرباب النظر على تسمية القسم الأوّل بالعلّة التامّة - كما يظهر من مطاوي كلماتهم - والقسم الثاني بالمقتضي ، ويدلّ على ذلك ملاحظة موارد استدلالاتهم في المقامات المختلفة من وجود المقتضي وارتفاع المانع ، فلولا أنّ المقتضي هو مجموع ما يتوقّف عليه الشيء ما عدا المانع لم يكن الاستدلال موجّها ؛ لاحتمال انتفاء (3) شرط من شروط التأثير.

ويظهر من بعضهم : أنّ السبب في مصطلح الفقهاء هو المقتضي. وليس كذلك ، بل الظاهر أنّ السبب في مصطلحهم هو القسم الثالث.

ص: 204


1- في ( م ) و ( ع ) : افتقار الكلّ إلى أجزائه.
2- في ( م ) و ( ع ) : « لوجوده » ، وهكذا فيما يأتي : لعدمه ، لهما.
3- في ( م ) و ( ع ) بدل « انتفاء » : « فقد ».

وعلى تسمية القسم الرابع (1) بالشرط ، والخامس بالمانع ، والسادس بالمعدّ.

ولا يخفى : أنّ ما ذكرنا - من انحصار المقدّمات في الامور الستّة - إنّما هو بملاحظة أوّلية ، وإلاّ فلا حصر في ذلك ؛ فإنّ جزء المقتضي أو السبب أو الشرط فيما إذا كان مركّبا لا يكون شيئا من الامور المذكورة ، مع أنّه من الامور التي يتوقّف عليها المعلول ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ المقصود من هذا التقسيم في المقام تشخيص ما هو مراد المفصّل بين السبب وغيره ؛ إلاّ أنّه لمّا كان منوطا بذكر الحدود التي هي مذكورة في كتب القوم لهذه الأنواع من المقدّمات ، فلا بأس بإيرادها وملاحظة ما يرد عليها ، ثمّ نذكر ما هو الظاهر من مراد المفصّل.

فنقول : قد عرّفوا السبب بأنّه : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته ، وإنّما قيّد بقولهم : « لذاته » لئلاّ ينتقض عكس الحدّ بالسبب الذي لم يستلزم وجوده وجود المسبّب بواسطة وجود المانع أو عدمه العدم لقيام سبب آخر مقامه ، فإنّ السبب المجامع للمانع أو لعدم الشرط لا يوجب وجودا ، كما أنّ عدمه مع قيام مثله محلّه لا يورث عدما.

وهذا هو الذي اختاره المحقّق القمّي (2) في المقام ، واعترض عليه بعض الأجلّة (3) - بعد أنّ المعنى المذكور بعيد عن مراد المفصّل (4) في المقام على ما ستعرف الوجه فيه - بأنّه : إن اريد بالاستلزام دوامه لم يتناول السبب الناقص ، وكذا إن أراد

ص: 205


1- عطف على قوله : على تسمية القسم الأوّل.
2- القوانين 1 : 10.
3- وهو صاحب الفصول في الفصول : 84.
4- كالسيّد المرتضى في الذريعة 1 : 83.

الاستلزام بحسب الذات - كما هو الظاهر من لفظ الحدّ - لامتناع تخلّف ما بالذات عنها. وإن أراد الاستلزام في الجملة دخل الشرط أيضا ، لأنّه قد يستلزم ذلك إذا اخذت بشرط المقارنة لغيرها.

وفيه : أنّ المراد بالاستلزام هو ما يقتضيه المقتضي لوجود الشيء الذي يجامع وجود المانع من غير اعتبار شيء زائد في المقتضي ، فلا يرتبط المقام بما زعمه من امتناع تخلّف ما بالذات ، فإنّ قولنا : « لذاته » ، تارة يعتبر على وجه يراد منه ملاحظة نفس الشيء وذاته من غير اعتبار شيء آخر فيه أو معه من وجود شيء آخر أو عدمه أو غير ذلك. وتارة يلاحظ على وجه يستفاد منه استناد الحكم المذكور في الكلام إلى ذات الشيء وحقيقته وهويّته. والمعترض إنّما خلط بين الوجهين ؛ فإنّ قولهم : « لذاته » في التعريف المذكور من قبيل الأوّل ، والمعترض إنّما حمله على الوجه الثاني ، فاعترض عليه بامتناع تخلّف ما بالذات ، كما لا يخفى.

واعترض أيضا بأنّ قوله : « ويلزم من عدمه العدم » مستدرك ، إذ ما يقيّد وجود الشيء به لا محالة يرتفع ذلك الشيء بارتفاعه ، فلا حاجة إلى ذكره.

فإن قلت : فلعلّ ذكره بواسطة إخراج المانع.

قلنا : ذلك واه جدّا ؛ لأنّه صرّح بخروج المانع من الجملة الاولى. هذا ما ذكره بعد التوضيح.

وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الجملة الثانية بمنزلة الجنس لماهيّة السبب وحقيقته ، واستيفاء ذاتيّات المعرّف أو ما هو بمنزلتها من الامور العامّة في صناعة التعريف. ثمّ ذكر الخواصّ المميّزة له عن مشاركات تلك الامور العامّة ليس بأمر عجيب ولا بشيء مرغوب عنه ، بل من الامور المستحسنة بل اللازمة. نعم ، يبقى في المقام بيان وجه تقديم ما هو بمنزلة الفصل على ما هو بمنزلة الجنس ، فإنّ الترتيب الطبيعي في

ص: 206

التعاريف هو ذكر الجنس أوّلا ثمّ الفصل - كما هو ظاهر - فلعلّ الوجه في تقديم ذلك في المقام هو التنبيه على أنّ المقصود الأصلي من السبب هو الوجود أو غير ذلك من النكات. وبالجملة : فأمثال ذلك لا يعدّ من المستدرك. نعم ، لو كان ما هو بمنزلة الجنس ممّا يغني عمّا هو بمنزلة الفصل كان الإيراد بالاستدراك موجّها.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما زعمه في توجيه كلامه في غاية السخافة ؛ إذ لا ينبغي لذي مسكة أن يتوهّم أنّ ذكر الجملة الثانية لإخراج المانع ؛ إذ هو ممّا يلزم من وجوده العدم ، فكيف يراد خروجه من قوله : « يلزم من عدمه العدم » وذلك أمر ظاهر.

نعم ، يرد على التعريف المذكور : أنّ السبب المجامع لعدم الشرط لو خلّي وطبعه لا يقتضي الوجود ؛ للفرق الظاهر بين عدم الشرط والمانع ، فإنّ المقتضي تامّ الاقتضاء مع وجود المانع. فيمكن القول بأنّ السبب لو خلّي وطبعه يلزم من وجوده الوجود ، بخلاف السبب المقارن لعدم الشرط ، فإنّ الشرط له مدخل في الوجود إمّا لكونه جزءا مؤثّرا - كما توهّم - أو لكونه شرطا في اقتضاء ما هو بعد احتفافه بالشرائط يكون مقتضيا - كما هو ظاهر - فلا وجه لإلحاق أحدهما بالآخر.

وأمّا ما ذكره : من إخراج الأسباب المتعدّدة من القيد المذكور في جانب العدم ، فيمكن أن يناقش فيه : بأنّ بعد ما هو المقرّر من امتناع ورود الأسباب المتعدّدة على مسبّب واحد ، ففي الموارد التي يتراءى تعدّده فيها ، إمّا أن يقال : بأنّ كلّ واحد من تلك الأسباب إنّما يؤثّر في وجود مسبّب خاصّ على وجه لا يترتّب عليه غيره ، أو يقال : بأنّ السبب هو القدر المشترك بين الامور المتعدّدة. وعلى التقديرين لا وجه للقيد المذكور ، أمّا على الأوّل : فلأنّ قيام سبب آخر لا يجدي في ترتّب ذلك المسبّب الّذي فرض عدم سببه. وأمّا على الثاني : فلأنّ السبب لم يرتفع ؛ لأنّ ارتفاع الكلّي وانعدامه إنّما هو بانعدام جميع ما يصدق عليه ، وارتفاع الخاصّ لا يدلّ على ارتفاع العامّ ؛ وذلك أيضا أمر ظاهر.

ص: 207

وعرّف الشرط في كلام المحقّق المذكور (1) : بأنّه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده.

واعترض عليه المعترض المزبور (2) أيضا : بأنّه منقوض طردا بالمقتضي المجامع لعدم الشرط أو لوجود المانع ، وبأجزاء المقتضي والمشروط إن كان مركّبا. وعكسا بالشرط المتأخّر عن المقتضي ، كالإجازة في الفضولي على القول بحصول الانتقال حين الإجازة.

وفيه أوّلا : أنّ المقتضي عبارة عن العلّة المفيدة لوجود المعلول ما عدا المانع ، فلا وجه لإطلاق المقتضي على المجامع عدم الشرط.

وثانيا : أنّ من المقرّر في محلّه أنّ عدم المعلول مستند إلى عدم الجزء السابق من الأجزاء المعدومة للعلّة التامّة ، ومع فرض انتفاء الشرط أو وجود المانع ، فعدم المعلول مستند إلى عدم الشرط ووجود المانع ، ولا يلزم من عدم المقتضي حينئذ عدم المعلول ، إذ لا يعقل اللزوم فيما هو حاصل.

وأمّا النقض بأجزاء المشروط والمقتضي ففي محلّه ؛ ولذلك يجب أن يحافظ عليه - كما عرفت من تقسيم المقدّمة الخارجيّة إلى الأقسام المذكورة ، دون الداخليّة - ومع ذلك فالنقض بأجزاء المقتضي باق بحاله.

وأمّا ما أورده على عكسه : من خروج الشرط المتأخّر (3) - كما في إجازة الفضولي - فكلامه غير محرّر فيه. والظاهر أنّه أراد به النقض بالشرط فيما إذا وقع جزءا أخيرا للعلّة التامّة ، فإنّه يصدق عليه أنّه يلزم من عدمه العدم ويلزم

ص: 208


1- أي المحقّق القمي ، انظر القوانين 1 : 100.
2- أي صاحب الفصول ، انظر الفصول : 83.
3- الفصول : 83.

من وجوده الوجود. وهو فاسد جدّا ، لأنّ لفظة « من » في الحدّ نشويّة ، والوجود حقيقة ناش من العلّة التامّة الحاصلة بوجود الجزء الأخير.

نعم ، يصحّ استناد المعلول إليه تسامحا ، والحدّ غير مبنيّ عليه.

وبذلك يظهر فساد ما قد يورد على تعريف السبب بالجزء الأخير وبما هو في مرتبة المعلول وعرضه في الاستناد إلى العلّة ؛ من حيث إنّ وجودها ملازم لوجود المعلول ، بل مقتضى التضايف أنّه كلّما وجد أحد المتضايفين يجب وجود الآخر ، فيلزم من وجود المعلول وجود العلّة ومن عدمه عدمها ، فينتقض التعريف بالمسبّب أيضا.

وجه الفساد : هو ما عرفت من أنّ الظاهر من لفظة « من » أن يكون المسبّب ناشئا منه (1) ، وليس الأمر كذلك فيهما.

لا يقال : فعلى ما ذكر من معنى لفظة « من » يكون التعريف دوريّا ، فإنّ العلم بالنشوء المذكور في مرتبة العلم بالسبب.

لأنّا نقول : هذه الحدود حدود لفظيّة لا يراد منها حصول معرفة جديدة غير حاصلة في الغريزة ، بل المقصود بها التنبيه على ما هو مسمّى تلك الألفاظ بين المعاني المرتسمة في الذهن ، وإلاّ فالواقع هو ما نبّهنا عليه من اختلاف مراتب التوقّف بحسب نفس الأمر والواقع ، وإنّما حاولوا بذلك التنبيه على تلك المراتب المختلفة.

هذا خلاصة الكلام في تحقيق معنى السبب والشرط ، ومنه يعرف الكلام في حدود ساير أنواع المقدّمة : من المعدّ والمانع.

ولنرجع إلى ما هو المقصود ، فنقول : إنّ النظر في موارد كلماتهم يعطي عدم إرادة العلّة التامّة - كما قد يراد منه العلّة في مصطلح أرباب المعقول - ويدلّك على

ص: 209


1- في ( ع ) و ( م ) : أن يكون نشويّة.

هذا ملاحظة الحدود المذكورة في كلماتهم للسبب : من اعتبار القيد المذكور وتقسيم المقدّمة إلى السببيّة والشرطيّة ؛ مضافا إلى أنّ العلّة التامّة لأفعال المكلّفين لا محالة مشتملة على الامور الخارجة عن قدرة المكلّف واختياره ، ولا أقلّ من وجود الفاعل ، فإنّه من جملة ما يتوقّف عليه وجود الفعل قطعا ، وليس ممّا يحتمل أن يكون واجبا لكونه من أجزاء العلّة التامّة.

وظاهر كلام السيّد رحمه اللّه حيث حكم بامتناع أن يكون المقدّمة السببيّة شرطا للوجوب لاستلزامه إيجاب الشيء على تقدير وجوبه وطلب الحاصل (1) ، هو أنّ المراد بالسبب العلّة التامّة ، إذ الملازمة المذكورة متحقّقة بينها وبين المعلول دون بعض أجزائها ، وقد عرفت أنّ العلّة التامّة في وجود الأفعال الاختياريّة يمتنع أن يكون فعلا اختياريّا ؛ فلا وجه لأن يكون المراد بالسبب هو العلّة التامّة.

وأمّا كلام السيّد رحمه اللّه فغير محصّل المراد ؛ مع أنّ المذكور في « المعالم » (2) من كلامه ما يمنع من أن يكون المراد به العلّة التامّة ، وهو قوله : « ما لم يمنع منه مانع » ؛ فإنّ فرض المانع ينافي العليّة التامّة ، اللّهم إلاّ على تأويل بعيد ، كما ارتكبه بعض المدقّقين في كلامه ، قال : لعلّه يرى السبب من الملزومات العاديّة كضرب السيف لجزّ الرقبة ، فإنّه ملزوم له عادة ، لكن قد يمنع منه بطريق خرق العادة (3).

وزعم بعضهم (4) : أنّ المراد بالسبب هو الجزء الأخير من الأفعال الاختياريّة التي هي من جملة العلّة التامّة.

ص: 210


1- الذريعة 1 : 85.
2- المعالم : 61.
3- وهو المحقق الشيرواني في حاشيته المطبوعة في هامش المعالم ( الطبعة الحجرية ) : 58 ، ذيل كلام الماتن : إلاّ أن يمنع مانع.
4- وهو صاحب الفصول ، انظر الفصول : 84.

والأولى أن يقال : إنّ المراد بالسبب هو ما يستند إليه الأثر في الأفعال الاختياريّة وإن كان بعد اجتماع الشرائط ورفع الموانع.

وقد يقال : إنّ المراد مجموع الأفعال الاختياريّة الّتي يترتّب عليها الفعل.

وعلى هذا فلا فائدة في التفصيل المذكور ؛ إذ لعلّه لا نزاع في وجوب أجزاء الواجب ، وبعد القول بوجوب الكلّ يلزم وجوب الأجزاء ؛ ومن هنا حكم بعضهم (1) بخروج المقدّمة الداخليّة من النزاع.

وتحقيق ذلك أن يقال : إنّ الجزء له اعتباران : أحدهما : اعتباره لا بشرط ، وهو بهذا الاعتبار عين الكلّ ومتّحد معه ؛ إذ لا ينافي ذلك انضمام سائر الأجزاء إليه ، فيصير مركّبا منها ، ويكون هو الكلّ. وثانيهما : اعتباره بشرط لا ، وهو بهذا الاعتبار يغاير الكلّ.

ويمكن أن يكون النزاع متوجّها إليه في أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ هل يلازم وجوب الجزء أو لا؟ وحيث إنّ ذات الجزء لا يختلف بالاعتبارين - وإن كان نفس الاعتبارين مختلفين - فلا محالة يتّصف الجزء بالوجوب على الوجه الأوّل ، ضرورة وجوب الكلّ بالفرض ، فلا ثمرة في النزاع ؛ لأنّ الوجوب على ذلك الوجه قطعيّ ، وهو يغني عن النزاع في وجوبه على الوجه الثاني.

وربّما يتوهّم : أنّ وجوب الكلّ مركّب من وجوبات متعلّقة بأجزائه. وهو فاسد جدّا ؛ ضرورة أنّ الوجوب المتعلّق بالكلّ أمر بسيط ، وهي الحالة الطلبيّة

ص: 211


1- لم نعثر على هذا البعض ، نعم نسب إلى السيّد نعمة اللّه وسلطان العلماء ، انظر توضيح القوانين المطبوع في هامش القوانين 1 : 108 ، وقال المحقّق القمّي في نفس الموضع من القوانين : « وربّما نفى الخلاف عن الوجوب في الجزء ... » ، وجاء في ضوابط الاصول : 82 « ثمّ اعلم أنّ بعضهم ادّعى الإجماع على كون المقدمات الداخليّة واجبة ، وقال : إنّ النزاع في المقدّمات الخارجيّة ».

والإرادة الفعليّة ؛ ولا يعقل التركيب فيها. نعم ، المراد مركّب تعلّق به الطلب من حيث إنّه مركّب وأمر وحداني.

وبالجملة ، فقد يظهر من بعضهم - على ما عرفت - اختصاص النزاع بالمقدّمات الخارجيّة. فإن أراد بذلك ما قلنا : من أنّ ثبوت الوجوب للمقدّمات الداخليّة باعتبار ممّا يغني عن النزاع عنه باعتبار آخر ، فهو سديد. وإن أراد بذلك أنّ النزاع فيها غير معقول ، فهو ممّا لا يصغى إليه ؛ إذ قد عرفت أنّ اعتبار الجزء بشرط لا اعتبار ظاهر ، وعلى تقديره يتّجه النزاع في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها.

ومن جميع ما ذكرنا

يظهر ما في كلام المحقّق القمّي في الثمرة المتعلّقة بدخول الجزء في محلّ النزاع وعدمه ، حيث حكى (1) عن العلاّمة جواز الصلاة في الدار المغصوبة على القول بعدم الوجوب ؛ من جهة أن الكون الذي هو جزء للصلاة غير واجب فلا ضير في كونه حراما ، وعدم صحّتها فيها على القول به بواسطة اجتماع الأمر والنهي. وذلك لأنّ الثمرة المذكورة ممّا لا يفرق على القولين.

دفع (2) وهم وتنبيه :

لعلّك تقول : إنّه على القول بوجوب المقدّمة يلزم تكرار الطلب بالنسبة إلى الأجزاء ؛ إذ المفروض أنّ ذات الجزء يكون موردا للطلب حينئذ بالاعتبارين. بل ويمكن القول بذلك في المقدّمات الخارجيّة ؛ إذ الموصوف بالمطلوبيّة هو عنوان المقدّميّة ، ومن المعلوم تعدّد مراتب ذلك العنوان بواسطة اختلاف ما يمكن انتزاع

ص: 212


1- انظر القوانين 1 : 108 ، ولكنّ المحكي في القوانين يخالف المحكيّ هنا ، وراجع تهذيب الوصول : 28.
2- لم يرد « دفع » في ( م ) و ( ط ).

تلك الصفة منه ، فإنّ العلّة التامّة مقدّمة مثلا ، وبعد انتزاع ذلك العنوان منه يتّصف بالمطلوبيّة عند العقل ويتعلّق به الطلب ، وكذا أجزاء العلّة التامّة ، فإنّ كلّ واحد منها منفردا أو ملحوظا مع غيره ممّا يصح انتزاع وصف المقدّميّة منه ، فيصير موردا للطلب. وكذا الكلام في السبب وأجزائه وشرائطه وفي المقتضي والشرط أيضا.

وحلّ ذلك : أنّه لا مانع من تكرار الطلب على الوجه المذكور ؛ إذ ليس ذلك انشاء جديدا متعلّقا بالمقدّمة في جميع مراتب اختلافها ليلزم التكرار على وجه يغني وجوده في مرتبة منها عنه في ساير المراتب ، بل التحقيق : أنّ العقل بعد إدراك وجوب شيء يحكم حكما إجماليّا بثبوت الملازمة بين وجوب ذلك الشيء وبين وجوب ما يتوقّف عليه وجود ذلك الشيء من المقدّمات ؛ فكما أنّ اتّصاف تلك الامور بعنوان المقدّميّة مكرّرا ممّا لا ضير فيه ، فكذلك اتّصافها بالمطلوبيّة.

والسرّ في ذلك : أنّ المطلوبيّة المقدّميّة كنفس المقدّميّة ونحوها ، عنوانات انتزاعيّة اعتباريّة يعتبرها العقل في تلك الامور بملاحظة توقّف شيء عليها أو غيرها ، فكلّما لاحظ العقل أمرا يتوقّف عليه المطلوب ينتزع منه المطلوبيّة الّتي حكم بها بواسطة توقّف المطلوب عليه ، فتارة يلاحظ أمرا واحدا ، وتارة مشاركا مع غيره على وجوه اختلاف صور المشاركة ، فليس هناك طلب آخر غير ما تعلّق بذي المقدّمة ، بل إنّما تعلّقه به صار واسطة لانتزاع العقل تلك الأوصاف المتعدّدة بحسب الاعتبارات المتّحدة بحسب الذات من محالّها بحسب اعتبارات عقليّة متعدّدة.

ونظير ذلك ما إذا قيل باستفادة العموم الجمعي من الجمع المحلّى باللام ، فإنّ الجماعات المتصوّرة في ذلك الجمع متكرّرة بواسطة اختلاف اعتبار آحادها ، فإذا قيل : « أكرم الناس » ولاحظنا زيدا مع بكر وخالد يجب إكرامهم مثلا ، وإذا لاحظناه مع خالد وعمرو أيضا يجب إكرامهم ، مع أنّه لا يتكرّر الطلب بالنسبة إلى زيد. والوجه في ذلك أيضا ما عرفت : من أنّ المنشأ لذلك أمر واحد ، واختلاف العنوانات والاعتبارات ممّا لا يوجب اختلاف ذلك المنشأ.

ص: 213

وإن كان بين المقامين فرق آخر من جهة اخرى ، هي أنّ الإكرام يتعدّد في الجماعات ، ولكن الإتيان لا يتعدّد في المقدّمات ، فالحركة الخاصّة المقدّميّة لا يجب إيجادها تارة لذاتها ، واخرى من حيث توقّف العلّة التامّة عليها. والخبير بمواقع الكلام يقدر أن يتنبّه ممّا ذكرنا بكيفيّة وجوب المقدّمة ، فتدبّر.

ومنها : تقسيم المقدّمة إلى العقليّة والشرعيّة والعاديّة :

فالعقليّة : هي ما يتوقّف وجود الشيء عقلا عليه ، كالعلوم النظريّة ، فإنّ حصولها على وجه النظر موقوف على العلم بالمقدّمات ، ضرورة امتناع حصول المعلول بدون العلّة المقتضية لذلك.

والعاديّة : هي ما يتوقّف وجود الشيء عادة عليه ، كنصب السلّم للصعود على السطح ، فإنّ العقل لا يستحيل عنده الصعود عليه بدون ذلك ، كأن يطير مثلا ، إلاّ أنّه خرق للعادة.

والشرعيّة : هي ما يتوقّف عليه الشيء شرعا ، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، فإنّها موقوفة عليها شرعا ؛ إذ لا توقّف للحركات المخصوصة وجودا ولا عدما على الطهارة ، كذا يقال.

والتحقيق : أنّ المقدّمة الشرعيّة مرجعها إلى المقدّمة العقليّة ، بيان ذلك : أنّه لا يخلو الأمر من وجهين :

أحدهما : أن يكون المقدّمة المذكورة من القيود المعتبرة في المأمور به شرطا ، أو غير ذلك ، كأن يكون المأمور به في قوله : « صلّ » هي الصلاة المأخوذة مع الطهارة.

الثاني : أن لا يكون من القيود المأخوذة فيه.

وعلى التقديرين : فالمقدّمة الشرعيّة مقدّمة عقليّة ؛ أمّا على الأوّل : فلظهور امتناع حصول المقيّد بدون القيد ، فإيجاد القيد ممّا يتوقّف عليه إيجاد المقيّد. وأمّا

ص: 214

على الثاني : فلأنّ الفعل الصادر من الفاعل وإن كان بحسب الذات هي الحركة الخاصّة ، إلاّ أنّ من المعلوم اختلاف وجوهها ، ومن الممكن أن يكون وقوع الخاصّة على وجه خاصّ ممّا يتوقّف على وجود الطهارة ، فلو كان المأمور به هو الفعل على ذلك الوجه الخاصّ يمتنع حصول الفعل في الخارج على الوجه المذكور بدون الطهارة.

وإذ قد عرفت ما قلنا ، فاعلم : أنّ من المحقّق في مقامه (1) أنّ الأحكام الوضعيّة ممّا لا تقبل الجعل ، فإنّها امور واقعيّة قد كشف عنها المطّلع عليها ، فمرجع اشتراط الصلاة بالطهارة إلى أنّ الشارع قد كشف عن توقّف وجود الصلاة بحسب الواقع على الطهارة ، فالصلاة الواقعيّة ممّا يمتنع حصولها بدون حصول الشرائط ، فمرجع المقدّمة الشرعيّة إذا لم يكن على وجه التقييد (2) أيضا إلى المقدّمة العقليّة ؛ وذلك أمر ظاهر بعد الاطّلاع على ما هو المحقّق في محله.

ولا خفاء في دخول الأقسام الثلاثة كلّها في النزاع.

ومنها : تقسيمها إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب ومقدّمة العلم ومقدّمة الوجود.

والتحقيق رجوع الثلاثة الاول إلى الأخيرة ، فإنّ وجود الصحّة والوجوب والعلم موقوف على مقدّماتها ، إلاّ أنّهم لاحظوا الموصوف بهذه الأوصاف فاعتبروا تقسيم المقدّمة بالنسبة إليه ملاحظا فيه حال تلك الأوصاف ، فما يتوقّف عليه وجود ذلك الموصوف هي مقدّمة الوجود ، وما يتوقّف عليه الأمر به هي مقدّمة الوجوب ، وما يتوقّف عليه صحّته هي مقدّمة الصحّة ، وما يتوقّف عليه العلم بوجوده وتحقّقه هي مقدّمة العلم. والأمثلة ظاهرة ، كنصب السلّم ، والاستطاعة ، والطهارة ، وإيقاع الصلاة في أربع جهات عند اشتباه القبلة.

ص: 215


1- انظر فرائد الاصول 3 : 126 - 130.
2- في ( ع ) : التقيّد.

ثمّ إنّه لا شكّ في دخول مقدّمة الوجود في النزاع وخروج مقدّمة الوجوب ؛ إذ لا يعقل أن يكون مقدّمة الوجوب واجبة ، لأنّ وجوب ذيها متفرّع على وجودها ، فما لم يوجد لم يتحقّق وجوب ، وعلى تقدير وجوده لا يعقل وجوبه ؛ لامتناع طلب الحاصل. ولا فرق في ذلك بين أن يكون مقدّمة الوجوب فقط أو كانت مع ذلك مقدّمة للوجود أيضا. ولا كلام في دخول مقدّمة الصحّة أيضا.

وهل المقدّمة العلميّة داخلة في حريم الخلاف مطلقا؟ أو فيما إذا كانت خارجة عن حقيقة الواجب ولم يحتمل أن يكون هو الواجب ، كمسح جزء من الكعبين وغسل جزء من الرأس وما فوق المرفق للعلم بحصول الواجب منها؟ وأمّا إذا كانت المقدّمة العلميّة ممّا يحتمل مدخليّتها في حقيقة الواجب شرطا أو شطرا ومن جهة احتمال كونها نفس الواجب فلا خلاف فيها ، لأنّها من موارد القاعدة الّتي قد أجمع الكلّ عليها : من أنّ الشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، أو تكون خارجة عن النزاع مطلقا لقطع العقل بوجوبها مطلقا؟ وجوه بل وأقوال.

والتحقيق أن يقال : إنّه لا ينبغي النزاع في المقدّمة العلميّة مطلقا ، بل ينبغي أن يكون وجوبها مفروغا عنه على تقدير وعدم وجوبها كذلك على تقدير آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجوب المتنازع فيه في المقام إن كان المراد به ما يترتّب على فعل الواجب المتّصف به الثواب وعلى تركه العقاب - كما زعمه بعضهم (1) - فينبغي أن لا يكون المقدّمة العلميّة محلاّ للنزاع في عدم وجوبها. وإن كان المراد به الطلب الحتمي الّذي يكشف عنه العقل - على وجه يكفي في حامل التكليف نفس حكم العقل من دون مدخليّة لما يترتّب عليه من الثواب والعقاب - فالمقدّمة العلميّة ممّا لا ينبغي النزاع في وجوبها.

ص: 216


1- الفصول : 87 ، وراجع تفصيله في ضوابط الاصول : 83.

بيان الأوّل يحتاج إلى تمهيد ، فنقول : إنّ الطلب يقع على وجهين :

أحدهما : ما ينقدح في نفس الطالب والآمر ، من الإرادة المتعلّقة بالفعل على وجه المولويّة والآمريّة وإن كان الداعي إلى ذلك الطلب والأمر هو ما يترتّب على نفس الفعل المطلوب ، بناء على ما ذهب إليه العدليّة من الملازمة (1).

الثاني : ما يوجده الطالب على جهة الإرشاد إلى ما هو كامن في المأمور به ، لكن لا على وجه الآمريّة والمولويّة ، كما في أوامر الطبيب بالنسبة إلى المريض ، فإنّها طلب حقيقيّ إلزامي لا يرضى بترك ما تعلّق به أصلا. ووقوع الطلب على هذين الوجهين ممّا لا ينبغي أن ينازع فيه.

ومن لوازم الأوّل : ترتّب الذمّ والعقاب عند المخالفة فيما إذا كان الأمر ممّن له أهليّة ذلك ، والمدح والثواب عند الإطاعة.

ومن لوازم الثاني : ترتّب ما هو مترتّب على نفس الفعل المطلوب من المنافع والمضارّ ؛ فقول الطبيب : « برّد » مثلا ينحلّ إلى جزء مادّيّ - وهو التبريد - وجزء صوريّ يفيد تعلّق إرادة الطبيب بوجود التبريد من المريض ، لما فيه من المنافع الملاءمة لطبيعة المريض ، ومخالفة قوله لا يترتّب عليها شيء عدا ما يترتّب على نفس ترك التبريد ، فالهيئة في الأمر لا يترتّب على مخالفتها شيء. وقول المولى للعبد : « اضرب زيدا » يترتّب على مخالفة الضرب ما هو من لوازم عدمه من المفاسد ، ويترتّب على نفس مخالفة المولى وترك ما هو مراده الذمّ والعقاب ، فالهيئة الأمرية الكاشفة عن الإرادة الحتميّة الطلبيّة لا يترتّب على مخالفتها شيء آخر سوى ما يترتّب على عدم (2) نفس المادّة وانتفائه (3) من المفاسد.

ص: 217


1- انظر كشف المراد : 319.
2- لم يرد « عدم » في ( ط ).
3- كذا ، والظاهر : انتفائها.

وإذ قد تقرّر ذلك ، فاعلم : أنّ الإتيان بالمقدّمة العلميّة في مورد الاحتياط اللازم إنّما هو بواسطة تحصيل العلم بوجود ما هو المأمور به في الواقع ؛ والعلم بالامتثال وإن كان من الامور الواجبة التي يستقلّ بها العقل ، إلاّ أنّ ذلك الوجوب وجوب عقليّ إرشادي لا يترتّب على امتثاله مصلحة زائدة على مصلحة المأمور به ، ولا على مخالفته عقاب آخر غير العقاب اللازم على تقدير ترك المأمور به ، وإذا كان حال ذي المقدّمة على هذه المثابة فكيف يعقل أن يكون المقدّمة ممّا يترتّب على تركه العقاب أو على فعله الثواب ، فإنّ ذلك في الحقيقة راجع إلى وجوب الإطاعة وحرمة المعصية.

ومن الامور التي ينبغي أن لا يخفى على أوائل العقول : أنّ الأمر بالإطاعة ولو كان أمرا شرعيّا يمتنع أن يكون أمرا تكليفيّا ، إذ الأمر الأوّل إمّا أن يكون كافيا في حمل المكلّف على التكليف أو لا يكون. فعلى الثاني : لا يكون الأمر الثاني أيضا كافيا لاستوائهما في الطلب ؛ واختلافهما في المادّة ممّا لا يفيد شيئا ، إذ الحامل على التكليف هو الكاشف عن الطلب ولا دخل للمادّة فيه. وعلى الأوّل : لا حاجة إليه ، ولا يعقل أن يكون تأكيدا للأوّل ؛ لأنّ المؤكّد إنّما يكون في مرتبة المؤكّد ، والأمر بالإطاعة إنّما هو متفرّع على الأوّل ، إذ الإطاعة عبارة عن الإتيان بالمأمور به ، فلا يتحقّق لها مصداق إلاّ بعد تحقّق مصداق الأمر ، فكيف يكون اللفظ الدالّ على طلب الإطاعة مطابقا في المدلول للأمر الأوّل؟ كما في قولك : « اضرب ، اضرب » مثلا. نعم ، المطلوب منه في لبّ المعنى هو المطلوب في الأمر الأوّل ، وذلك هو معنى الإرشاد في هذه الأوامر.

ص: 218

وبالجملة ، فقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) لا يترتّب على مخالفته بترك الإطاعة سوى ما يترتّب على عدم مادّة الإطاعة التي هي عبارة عن موافقة الأمر الأوّل : من الذمّ المترتّب على ترك المأمور به والمفاسد المترتّبة على ترك نفس الفعل المأمور به في الأمر الأوّل ؛ ولا يترتّب على مخالفة الهيئة في هذا الأمر شيء آخر.

وحيث إنّ المرجع في وجوب الإتيان بالمقدّمة العلميّة إلى وجوب الإطاعة - كما عرفت - فلا وجه للقول بوجوبها على وجه لو تركها المكلّف يترتّب عليها العقاب بخصوصها بناء على أنّ النزاع في مثل هذا الوجوب ، إلاّ أنّ ذلك ضعيف ، كما ستقف عليه.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ربما يتخيّل : من انحصار الأوامر الإرشادية في الاستحباب ؛ فإنّ تحقّقها في الواجبات معلوم عقلا - كما عرفت في وجوب الإطاعة - وعرفا كما في أوامر الطبيب ، إذ لا نعني بالوجوب إلاّ بلوغ الطلب حدّا لا يرضى الطالب بترك الفعل المطلوب ، وذلك ضروريّ الوجود في موارده. وكذلك يظهر فساد ما قد زعمه بعضهم : من أنّ وجوب الإطاعة شرعيّ (2) ، إذ على ذلك التقدير لا ينتهي الأمر إلى حدّ ؛ وذلك ظاهر (3).

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا : من أنّ وجوب الاحتياط عقليّ ، إنّما هو بناء على التحقيق عندنا : من أنّ الأخبار الواردة في مقام وجوب الاحتياط لا يزيد على ما هو مفاد حكم العقل. وأمّا على القول بأنّ الاحتياط في موارده واجب شرعيّ - كأن يكون الصلاة في أربع جهات مأمورا بها حال الاشتباه مع قطع النظر عن أنّ الواقع

ص: 219


1- الأنفال : 20.
2- لم نعثر عليه.
3- في ( ع ) و ( م ) : باطل.

في ضمنها ، أو قلنا بأنّ قضيّة الاستصحاب هو ذلك - فالعقاب لازم على ترك المقدّمة ؛ وذلك أمر ظاهر لا سترة عليه.

وبيان الثاني أيضا يحتاج إلى تمهيد. وهو : أنّ الشيء الواحد قد يكون مصداقا لامور متعدّدة باعتبارات مختلفة ومحكيّا عنه بحكايات متكثّرة بوجوه متفاوتة. وهذه الامور ينتزع من ذلك الشيء تارة على وجه لا ترتيب في انتزاع واحد منها عنه ، بل كلّ واحد منها في عرض الآخر ، وتارة على وجه لا ينتزع منه عنوان إلاّ بعد اعتبار عنوان آخر فيه وانتزاعه منه ، فيكون أحد العنوانين موقوفا على عنوان آخر ؛ فلو فرضنا أنّ الآمر تصوّر العنوان المترتّب على ذلك العنوان وأراد وقوعه من المأمور في الخارج ، فلا بدّ من أن يطلبه على ذلك الوجه ، والمكلّف لو أراد امتثال هذا الأمر لا بدّ له من إيجاد العنوان المأمور به ، وحيث إنّ المفروض توقّف العنوان المأمور به على العنوان الآخر فلا بدّ أوّلا من قصد ذلك العنوان وإيجاده ، وحيث إنّ ذات المعنون واحد فيهما بحسب الوجود الخارجي يلزم وجود العنوان المأمور به أيضا ، لأنّ وجوده عين وجوده في الواقع.

فالترتيب إنّما هو في لحاظ العقل ؛ وأمّا في الخارج فلا ترتيب ، بل الموجود منهما هو شيء واحد ، وذلك كما في الإلقاء في النار والإحراق ، فإنّ الموجود منهما هو الفعل الخاصّ والحركة الخاصّة ، مع أنّ عنوان الإحراق ممّا ينتزع عن الفعل الموجود في الخارج بعد اعتبار العنوان الأوّل ، وهو الإلقاء.

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ النزاع في وجوب المقدّمة وعدمه ينبغي أن يكون في المقدّمات التي تباين ذيها في الوجود الخارجي والتحصّل الأصلي ، كما في مقدّمات الصلاة والصعود إلى السطح. وأمّا المقدّمات التي متّحدة مع ذيها وجودا وإن اختلفتا عنوانا وحكاية ، فلا ينبغي لعاقل الارتياب في وجوب هذه المقدّمات ، فإنّ الأمر بالإحراق لا يعقل أن لا يكون ملازما لوجوب الإلقاء في النار ، بعد أنّ ذات الإلقاء عين ذات الإحراق ؛ والمقدمة العلميّة من قبيل الثاني ، لا الأوّل.

ص: 220

بيان ذلك : أنّ الواجب هو تحصيل العلم بالامتثال بالنسبة إلى الأمر المعلوم بالإجمال المردّد بين الامور المتعدّدة ، والمقدّمة هي الصلاة بجهة خاصّة ثمّ بجهة اخرى ؛ وهما وإن كانا متعدّدين بحسب المفهوم ، إلاّ أنّ مجرّد التعدّد المفهومي الراجع إلى تعدّد الاعتبار لا يجدي بعد الاتّحاد في الحقيقة والذات ، فإنّ إيقاع الصلاة في الجهات هو عين تحصيل العلم في الخارج ؛ إذ المريد لتحصيل العلم بفراغ ذمّته ليس له بدّ من ذلك ، فإنّه عين مطلوبه.

لا يقال : إنّ الواجب هو العلم ومغايرته لهذه المقدّمات ضروريّة ، فكيف يتأتّى القول باتّحاد المقدّمة وذيها في الوجود.

لأنّا نقول : إنّ من المعلوم في محلّه أنّ من شرائط التكليف كون المكلّف به فعلا اختياريّا ، ولا يعقل أن يكون نفس العلم من الامور التي يتعلّق بها التكليف ، فالمكلّف به هو تحصيل العلم ، ولا مصداق لذلك المفهوم إلاّ إيقاع الصلاة بالجهات الأربع الذي هو ذات المقدّمة. نعم ، الحركات الخاصّة التي يعبّر عنها تارة بالصلاة واخرى بتحصيل العلم ملحوظة عند العقل بلحاظين ، يترتّب أحدهما في الملاحظة على الآخر ، فيمكن أن يقال : إنّ الداعي لإيجاد هذه الحركة الخاصّة ليس هو العنوان الملحوظ أوّلا - على تقدير عدم القول بوجوب المقدّمة - بل الداعي لذلك الفعل هو العنوان الملحوظ ثانيا والمنتزع أخيرا ؛ بخلاف ما إذا قيل بوجوب المقدّمة ، فإنّ الداعي له ذلك العنوان. وهذا وإن كان النزاع فيه أمرا معقولا ، إلاّ أنّه بعيد من أنظار العلماء - كما قد عرفت نظيره في حديث خروج المقدّمات الداخليّة عن حريم الخلاف - فلا ينبغي أن يكون هذه الامور محلاّ للخلاف.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد تجشّمه بعض الأعاظم (1) : من منع وجوب

ص: 221


1- وهو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 108.

المقدّمة في استدلال المشهور بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، بعد تسليمه أصل الوجوب. وليت شعري! ما ذا يقول المانع فيما لو أراد دفع الضرر المحتمل في أطراف الشبهة من نفسه ، فهل له بدّ من الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي في الأطراف ، من إيجادها أو تركها جميعا؟ والمكابر في ذلك مباهت.

ومن جميع ما ذكرنا يهتدي الخبير بمواقع الكلام إلى تقسيم آخر للمقدّمة إلى قسمين : أحدهما ما يتّحد مع ذيها وجودا. والآخر ما يباينه. وما ينبغي أن يكون محلاّ للنزاع هو الثاني ، لا الأوّل - كما قد عرفت تفصيله - وباللّه التوفيق ومنه الهداية.

ص: 222

هداية

اشارة

قد عرفت تحقيق القول في تقسيمات المقدّمة وما هو ينبغي أن يكون محلاّ للخلاف من تلك الأقسام ، فليعرف الآن محلّ الخلاف من « الواجب » الذي اضيف إليه لفظ « المقدمة ».

فنقول : إنّ الواجب باعتبارات عديدة له أقسام متعدّدة ، وليس المقصود في المقام إحصاء جميع أقسامه : من الكفائي والتخييري والعيني والموسّع والمضيّق والمحدود وغير المحدود مثلا ، بل اللازم في المقام هو بيان ما له دخل في تحقيق المسألة التي نحن بصددها ، أو ما يرتبط به ولو بنحو من العناية والتنوير ، حرصا على تكثير الفائدة.

فمن جملة التقسيمات للواجب تقسيمه إلى :

المطلق والمشروط

فالأوّل على ما عرّفه به عميد الدين في شرح التهذيب (1) ، هو : ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف : من العقل والعلم والبلوغ والقدرة. والمشروط : ما كان وجوبه موقوفا على أمر آخر أيضا. وعرّفه التفتازاني (2) والمحقّق الشريف (3) : بأنّه ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه

ص: 223


1- منية اللبيب : 121.
2- انظر حاشية التفتازاني والسيّد الشريف المطبوعتين ضمن شرح المختصر 1 :2. 245 ، طبع مكتبة الكلّيات الأزهرية ، سنة (1393).
3- انظر حاشية التفتازاني والسيّد الشريف المطبوعتين ضمن شرح المختصر 1 :2. 245 ، طبع مكتبة الكلّيات الأزهرية ، سنة (1393).

وجوده ، والمشروط : بما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده. وزاد بعضهم قيد « الحيثيّة » في الحدّين (1).

وملاك الحدّ الأوّل للمطلق والمشروط على ملاحظة مطلق التقييد والإطلاق ، سواء كان القيد من المقدّمات الوجوديّة أو لا ، فالواجب بالنظر إلى ملاحظة الامور التي لا دخل لها في تحقّق الواجب مطلق ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى طيران الغراب والنظر إلى السماء مطلق. وملاك الحدّ الثاني على ملاحظة الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى ما له دخل في وجود الواجب ، فيتحقّق الواسطة على التعريف الثاني بين القسمين ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى النظر إلى السماء لا تعدّ من الواجب المطلق ولا من المشروط.

ومن لوازم الأوّل : امتناع اجتماع وصفي الإطلاق والتقييد في الواجب ؛ لأنّ المأخوذ في الحدّ عدم التوقّف على شيء بعد الامور الأربعة ؛ ومفاد ذلك سالبة كلّية ، وهي تناقض الموجبة الجزئيّة ؛ وهو التوقّف في مورد خاصّ.

ومن لوازم الثاني : إمكان اجتماعهما في الواجب ؛ لأنّ المقدّمة الوجوديّة التي لا مدخل لها في الوجوب يوجب انتزاع وصف الإطلاق على تحديدهم عن الواجب ، ولا يضرّ في ذلك توقّف وجوبه على شيء آخر الذي هو يوجب انتزاع وصف التقيّد منه ؛ إذ لا تناقض بين الموجبة الجزئيّة وسالبتها.

ومن هنا يمكن أن يناقش في التحديد الأوّل : بأنّه لم يظهر منهم إطلاق الواجب المطلق بالنسبة إلى غير الامور التي لها مدخل في وجود الواجب ، فإنّ ذلك غير معهود منهم ، كما لا يخفى. إلاّ أنّ ذلك مدفوع : بأنّه لم يثبت في ذلك للقوم

ص: 224


1- انظر شرح المعالم للمولى صالح المازندراني : 77 ، ومناهج الأحكام : 48 ، وضوابط الاصول : 73.

اصطلاح جديد ، بل المراد بالمطلق والمقيّد هو المراد بهما في غير المقام ؛ فإنّ لفظ « الواجب » مثل لفظ « الرجل » فكما أنّ إطلاقه لا يلاحظ بالنسبة إلى شيء دون آخر بل المطلق منه ما هو مطلق كذلك ، فكذلك لفظ « الواجب » المطلق منه ما هو كذلك مطلقا.

وأما التقييد بالامور الأربعة : فبملاحظة مفروغيّة التقييد (1) بالنسبة إليها ، فممّا لا يضرّ في إطلاق المطلق على الواجب ، بل قد يقال : بأنّ بعضا منها ممّا لا يمكن توجيه الخطاب بدونه إلى المكلّف ، فلا مفرّ من التقييد المذكور.

فظهر : أنّ الأقرب هو ما عرّفه السيّد رحمه اللّه (2) ؛ لكونه ملائما لما هو المعهود منه في غير المقام. وذلك ظاهر جدّا (3).

مضافا إلى أنّه يرد على التحديد الثاني للمطلق والمشروط انتقاضهما - منعا في أحدهما وجمعا في الآخر - بدخول الحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة الشرعيّة في تعريف المطلق ؛ إذ ليس مقدّمة الوجوب فيه هو مقدّمة الوجود - لإمكان وجود الحجّ بدون ما هو وجوبه مشروط به - وخروجه عن تعريف المشروط.

وقد يذبّ عن ذلك : بأنّ المراد هو ما يتوقّف عليه وجود الواجب من حيث إنّه واجب ، فإنّ تحقّقه بعنوان الوجوب يتوقّف على الاستطاعة الشرعيّة ، فإنّ الوصف المعنون به ذات الفعل هو الواجب ، فلا بدّ أن يكون تحقّقها بهذا العنوان موقوفا على المقدّمة المفروضة.

وذلك ركيك في الغاية! فإنّ الظاهر هو تقسيم الواجب بالنسبة إلى المقدّمات التي يتوقّف عليها وجود ذات الواجب ؛ ولا مدخل للعنوان فيه ، إذ على تقديره

ص: 225


1- في ( ع ) و ( م ) : التقيّد.
2- تقدّم كلامه في الصفحة 223.
3- لم ترد عبارة « وذلك ظاهر جدّا » في ( ع ) و ( م ).

يكون المراد بالحدّ في الواجب المشروط هو ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده أو وجوبه ؛ وذلك مع أنّه تفكيك - إذ المراد بلفظ « الوجود » الواقع في الحدّين لعلّه واحد كما هو الظاهر - ممّا لا يرجع إلى محصّل.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده المحقّق القمّي في الحدّ ، من اعتبار قوله : « وإن كان في العادة أو في نظر الآمر » (1).

قلت : يمكن توجيهه بما مرّ من رجوع المقدّمة الشرعيّة إلى المقدّمة العقليّة. ولا ينافيه استحباب الحجّ بدون الاستطاعة ؛ إذ لعلّ وجود ما هو حجّة الإسلام في الواقع موقوف على الاستطاعة الشرعيّة ، كما قرّرنا. ومن ذلك القبيل اشتراط وجوب العبادات بالبلوغ على تقدير القول بشرعيّة عبادات الصبيّ ، فتدبّر.

ثمّ إنّ « الحيثيّة » التي زادها بعضهم في الحدّين (2) ، فالظاهر أنّه أراد بذلك بيان أنّ الإطلاق والتقييد في الواجب من الامور الإضافيّة التي تختلف باختلاف أطراف الإضافة ، كما في الفوقيّة ، فإنّها تقاس بالنسبة إلى ما هو تحتها وإن كان بالقياس إلى شيء آخر تحتا ، إلى غير ذلك من الأعراض الإضافيّة. وكأنّه حاول بذلك دفع ما قد نبّهنا عليه ممّا هو لازم حدّ المشهور : من اجتماع الوصفين في شيء واحد ؛ ومع ذلك فلا وجه لذكرها في الحدّ ، لأنّ الغالب في القيود التي تذكر في الحدود من الحيثيات إنّما هو تعلّقها بالفعل المذكور فيها على وجه يقيّد ذلك الفعل بها ، وليس يصحّ تعلّق الحيثيّة المذكورة على الفعل المذكور في الحدّ وهو قولهم : « يتوقّف » ؛ لأنّ التوقّف غير متحيّث بتلك الحيثيّة ، إذ لا تعدّد في التوقّف. والمتعارف في ذكر القيود في الحدود من الحيثيّات هو صدق الحدّ بتمامه على فرد صادق عليه حدّ آخر ، يراد بتلك الحيثيّة تميّزه عنه ، وليس المقام من هذا القبيل.

ص: 226


1- القوانين 1 : 100.
2- تقدّم في الصفحة 224.

نعم ، الحيثيّة المذكورة مثمرة في صدق ماهيّة المحدود ومفهومه على أفراده ومصاديقه ؛ لما عرفت : من أنّ الإطلاق والتقييد من الامور الإضافيّة. فالوجه في ذلك ذكرها بعد تمام ماهيّة المحدود وتميّزها عمّا عداها عند ما يراد تشخيص الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى مقدّمة مخصوصة ، كأن يقال مثلا : الصلاة من حيث إنّها لا يتوقّف وجوبها على الطهارة التي يتوقّف وجودها عليها من الواجبات المطلقة ، ومن حيث إنّها يتوقّف وجوبها على كذا من الواجبات المقيّدة.

وعرّف بعض الأجلّة (1) الواجب المطلق - بعد ما ذكر تعريف السيّد المذكور على اختلاف يسير - : بأنّه ما لا يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على أمر غير حاصل ، سواء توقّف على غير ما مرّ من الامور العامّة وحصل كالحجّ بعد الاستطاعة ، أو لم يتوقّف كالمعرفة. ثمّ قال : ويقابله المشروط ، وهو ما يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل. والنسبة بين كلّ من المطلقين مع مشروطه تباين ، وبين كلّ منهما وكلّ من الآخرين عموم من وجه.

وبيّن بيان النسبة بتمامها فيما علّقه على المقام ، قال : النسبة بين المطلقين عموم من وجه ، لاجتماعهما في المعرفة في واجد الشرط ، وافتراق الأوّل عن الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ، وافتراق الثاني عن الأوّل في المعرفة قبل البلوغ. وكذلك النسبة بين المشروطين ؛ فإنّه يصدق الأوّل بدون الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ، ويصدق الثاني بدون الأوّل في المعرفة قبل البلوغ ، ويتصادقان في الحجّ قبل الاستطاعة. وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الأوّل والمشروط بالمعنى الثاني ؛ لتصادقهما في المعرفة قبل استكمال الشروط ، وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط ، وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة. وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الثاني والمشروط بالمعنى الأوّل ؛ لتصادقهما في الحجّ بعد الاستطاعة ،

ص: 227


1- وهو صاحب الفصول ، انظر الفصول : 79.

وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط ، وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة (1) ، انتهى.

وظنّي أنّ ما دعاه إلى التحديد المذكور هو ملاحظة أنّ الحجّ بعد الاستطاعة ممّا يبعد أن يكون واجبا مشروطا (2) لزعمه أنّ وصفي الإطلاق والتقييد إنّما يعتبران في الواجب بالنسبة إلى ما تنجّز تعلّقه على المكلّف ، وبعد حصول الشرط فالواجب منجّز على المكلّف ، فيجب أن يكون مطلقا. إلاّ أنّه زعم في غير محلّه ؛ لأنّ الملحوظ في الإطلاق والتقييد هو الأوامر الواردة في أصل الشرع ، وإلاّ فما الذي حمله على جعل المعرفة قبل البلوغ من الواجب المطلق مع أنّه لا تعلّق لها على المكلّف؟ وحيث إنّ الخطاب بها مشروط (3) بالبلوغ في الشريعة صحّ إطلاق الواجب عليها بتلك الملاحظة.

وبالجملة : فالظاهر أنّ ما ذكره ممّا لا وجه له ، فلا فرق بين الحدّين. إلاّ أنّ المعتبر في تحديد العميدي (4) هو اعتبار التوقّف وعدمه بعد الامور العامّة ، والمعتبر فيما ذكره مطلق الامور ، فيكون الثاني أعمّ مطلقا ممّا ذكره العميدي بعد ملاحظة أنّ الإطلاق في الواجب (5) إنّما هو بواسطة ملاحظة وروده في أصل الشرع من دون مدخليّة في خصوصيّات التكاليف المتعلّقة بآحاد المكلّفين. ومن ذلك تطّلع (6) على فساد ما ذكره في ساير النسب ، كما لا يخفى.

ص: 228


1- الفصول : 79 ، في الهامش.
2- في ( ع ) و ( م ) : ممّا يبعد أن لا يكون واجبا مطلقا.
3- في ( ع ) و ( م ) : به غير مشروط.
4- المتقدّم في الصفحة 221.
5- لم يرد « في الواجب » في ( ع ) و ( م ).
6- في ( ع ) و ( م ) : تقطع.

والأسدّ الأخصر هو أن يقال : إنّ الإطلاق والتقييد إن جعلناهما من الامور الإضافيّة ، فينبغي أن يقال : إنّ الواجب بالنسبة إلى كلّ شيء يلاحظه الملاحظ معه ، إمّا أن يكون وجوبه موقوفا عليه أو لا ، فعلى الأوّل هو واجب مشروط ، وعلى الثاني هو واجب مطلق. وإن لم نجعلهما من الامور الإضافيّة ، فينبغي أن يقال : إنّ الواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على شيء والمشروط ما كان وجوبه موقوفا على شيء.

إلاّ أنّ ذلك يوجب أن لا يكون للواجب المطلق مصداق ، إذ لا أقلّ من الاشتراط بالامور العامّة. ولا ضير في ذلك بعد ما عرفت من أنّه الملائم لما هو المعهود من لفظي « الإطلاق » و « التقييد » في غير المقام وعدم ثبوت وضع جديد له منهم في المقام. وإن كان ولا بدّ فالأقرب هو ما عرّفه العميدي ، كما نبّهنا عليه (1).

وإذ قد عرفت ذلك ، فهل النزاع المذكور يعمّ مقدّمة كلتا القبيلتين من الواجب ، أو يخصّ بمقدّمة الواجب المطلق؟ الّذي صرّح به غير واحد منهم هو الثاني ، فقالوا بأنّ مقدّمة الواجب المشروط ليست واجبة إجماعا (2) ؛ ولذلك اعتبر بعضهم (3) الإطلاق في عنوان النزاع ورام بذلك التعريض على من لم يعتبره فيه ، بل صرّح بعضهم بلزوم التقييد واعترض على من لم يقيّد العنوان بذلك (4).

واعتذر عنهم شيخنا البهائي : بأنّ النزاع وإن كان في مقدّمات الواجب المطلق ، إلاّ أنّ لفظ « الواجب » حقيقة فيه ، فلا حاجة إلى التقييد ، لخروج الواجب

ص: 229


1- في الصفحة 225.
2- كالمحقّق القمّي في القوانين 1 : 101 ، وصاحب الفصول في الفصول : 82.
3- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 100 ، وراجع المعالم : 60 ، والفصول : 82.
4- وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 57.

المشروط عن العنوان بواسطة لفظ « الواجب » المحمول على الحقيقة (1). وفرّع على ذلك عدم الحاجة إلى ما أخذه بعضهم في العنوان من قيد القدرة (2) ؛ لأنّ الواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة مشروط ولا نزاع في مقدّمات الواجب المشروط ، كما استكشفنا من أصالة الحقيقة المعمولة في لفظ « الواجب » ، فلا حاجة إلى التقييد المذكور.

والتحقيق في المقام : أنّ القائلين باختصاص النزاع بمقدّمات الواجب المطلق إن حاولوا بذلك إخراج الواجب المشروط بالنسبة إلى مقدّماته الوجوبيّة مع عموم النزاع بالنسبة إلى مقدّمات وجوده فهو كلام سديد لا محيص عنه ، إلاّ أنّ ذلك تخصيص في المقدّمة لا في الواجب ؛ ولقد نبّهنا على خروج المقدّمات الوجوبيّة فيما مرّ (3) ، والمتراءى منهم تخصيص الواجب ، كما يظهر ممّا قدّمنا من أخذ بعضهم قيد الإطلاق في العنوان ؛ فإنّ الظاهر منه أنّ مقدّمة المشروط لا نزاع فيها سواء كانت وجوبيّة أو وجوديّة.

ويظهر ذلك في الغاية بملاحظة كلام المعترض ، ويتّضح غاية الوضوح من التأمّل فيما أورد المعتذر من إعمال أصالة الحقيقة في لفظ « الواجب » ، وكفاك شاهدا في المقام ملاحظة جميع عنواناتهم ، فإنّ المنساق من قولنا : « مقدّمة الواجب » أو « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به » هو ما يتوقّف عليه الوجود ، فإنّ المقدّمة الوجوبيّة يتوقّف عليها الوجوب لا الوجود ، فعلى ذلك لا وجه لقيد الإطلاق ؛ إذ ينحصر النزاع على تقديره في مقدّمات وجود الواجب المطلق.

ص: 230


1- الزبدة : 46.
2- كما في مبادئ الوصول إلى علم الاصول : 106 ، وتهذيب الوصول : 27 ، والمعالم : 60.
3- راجع الصفحة 216.

وبالجملة : فلو أنّهم حاولوا إخراج المقدّمة الوجوبيّة لم يكن محتاجا إلى هذه التكلّفات ، كما هو ظاهر ؛ مع أنّ ذلك أمر سهل ، كما عرفت ممّا صنعنا فيما مرّ.

وإن أرادوا بذلك تعيين الواجب الذي يقع النزاع في وجوب مقدّماته ليكون الكلام في مقدّمات الواجب المشروط خارجا عمّا هو عقد الباب له - كما يظهر ذلك من ملاحظة كلماتهم في تعليلاتهم ذلك بأن وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها وحيث لم يتعلّق الوجوب إلى ذيها لا يعقل وجوبها ، إلى غير ذلك ممّا هو صريح فيما ذكرنا - فهو تخصيص من دون ما يقضي بذلك ؛ إذ كما عرفت محصّل النزاع يرجع إلى ثبوت الملازمة العقليّة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته. ولا يفرق في ذلك أنحاء الوجوب على تقدير أن يكون الطلب المتعلّق بشيء على نحو الإطلاق مغايرا له على نحو الاشتراط ؛ فكلّما ثبت الوجوب على أيّ نحو كان يمكن النزاع في وجوب مقدّمات المتّصف بذلك الوجوب ، فإنّه لا يراد من إثبات الوجوب لمقدّمة المشروط إثبات الوجوب المطلق لها ؛ فكما أنّ وجوب نفس الواجب مشروط بالمقدّمة الوجوبيّة ، كذا وجوب مقدّمته بمعنى تنجّزه وفعليّته - على وجه لم يكن للمكلّف بدّ من فعله - مشروط بذلك الشرط. وما ذكر من التعليل إنّما ينفي الوجوب الزائد على الوجوب الثابت لنفس الواجب ، لا وجوبا على نحو ذلك الوجوب إن مطلقا فمطلقا وإن مقيّدا فمقيّدا ، فالسعي للحجّ داخل في حريم الخلاف كالطهارة للصلاة ، مع أنّ الأوّل مشروط والثاني مطلق.

ولو لا عموم النزاع للمقدّمات الوجوديّة للواجب سواء كان مشروطا أو مطلقا لم يكن وجه لتحرير المسألة عن أصل ؛ إذ قد عرفت أنّ جميع الواجبات مشروط ولو بالامور العامّة التي هي شرائط التكليف ؛ اللّهمّ إلاّ أن يكون النزاع في المقدّمات بعد حصول شرائط الوجوب ، فيكون النزاع في وجوب السعي بعد

ص: 231

حصول الاستطاعة - كما زعمه بعض الأجلّة (1) - ولعمري! إنّ ذلك تقييد بارد وترويج (2) كاسد لا يقضي به دليل ولا يساعده اعتبار.

ومن هنا تعرف الوجه في عدم تقييد العنوان في كلام جماعة من القدماء في تحرير المسألة بقيد « الإطلاق » (3) لأنّ ذلك - على ما عرفت - مخلّ.

ومن هنا يظهر فساد ما أورده المعتذر عذرا لعدم التقييد : من أنّ الواجب حقيقة في الواجب المطلق فلا حاجة إلى التقييد (4) ؛ لأنّ ذلك - بعد ما ستعرف (5) فساد نفس التعليل المذكور في كلامه - ممّا ينادي باختصاص النزاع كما عرفت بالواجب المطلق ، مع أنّ كلماتهم خالية عنه ؛ اللّهم إلاّ أن يكون مراد المعتذر هو ما ذكرنا : من أنّ المقصود بالقيد المذكور إخراج المقدّمة الوجوبيّة عن حريم الخلاف ، فيتوجّه عليه - على ذلك التقدير - أنّ التعليل المذكور في كلامه ممّا لا مساس له بما نحن فيه ، كما هو ظاهر ؛ مضافا إلى أنّ التأويل المذكور مناف لتفريعه عدم الحاجة إلى التقييد بالمقدورة ، فإنّ ذلك إن (6) أمكن تطبيقه على التأويل المذكور - كأن يقال : إنّ المقصود من ذلك إخراج نفس القدرة لا ذات المقدّمة الموصوفة بعدم القدرة إذ الواجب مشروط بالنسبة إلى القدرة - إلاّ أنّه كلام عار عن التحصيل ؛ إذ لا يعقل وجوب القدرة ، فالمقصود من ذلك إخراج المقدّمة الغير المقدورة ،

ص: 232


1- انظر ضوابط الاصول : 83.
2- في ( ع ) : ترجيح.
3- مثل السيّد المرتضى في الذريعة 1 : 83 ، والشيخ الطوسي في العدة 1 : 186.
4- راجع الزبدة : 46.
5- في ( ع ) و ( م ) : عرفت.
6- كذا ، والظاهر : وإن.

من حيث إنّ الواجب قبل القدرة واجب مشروط ، ولا نزاع في مقدّمات الواجب المشروط ، لأنّ الواجب المأخوذ في العنوان واجب مطلقا بمقتضى أصالة الحقيقة ، كما هو ظاهر كلامه.

ويرد عليه ما أوردنا عليهم : من أنّه لا قاضي للتخصيص المذكور في كلامهم بعد عموم الدليل وشمول عناوين جماعة من القدماء لذلك ، كما ينادي به الاعتراض المذكور واعتذاره عن ذلك. نعم ، كلام المعتذر موجّه على مذاق المشهور القائلين باختصاص النزاع ؛ وكأنّه منهم فنسج على منوالهم.

وينبغي أن يعلم في المقام : أنّ المقدّمة الغير المقدورة على تقدير عموم النزاع لا ينبغي إخراجها عن النزاع ، لأنّ القدرة شرط الوجوب لا المقدّمة الغير المقدورة ، فإنّ المقدّمة ليست إلاّ ذات المقدّمة والواجب المشروط بالقدرة واجب مطلق بالنسبة إلى ذات المقدّمة ؛ غاية ما في الباب أنّ عدم القدرة المتعلّق بذيها بواسطة عدم الاقتدار عليها ، وذلك لا يقضي بأن لا تكون متّصفة بالوجوب على نحو اتّصاف ذيها بالوجوب الشرطي. فتدبّر في المقام كي لا يشتبه عليك حقيقة المرام فإنّه من مزالّ الأقدام ، وتهتدي إلى ما هو المقصود من هذا الكلام بعون اللّه الملك العلاّم.

ص: 233

ص: 234

هداية

قد عرفت في كلام شيخنا البهائي : أنّ لفظ الواجب حقيقة في المطلق منه وأنّه مجاز في المشروط (1) ، ويظهر منه أيضا : أنّ العلاقة فيه هي المشارفة أو علاقة الأول.

والتحقيق : أنّ ذلك مبنيّ على كون التقييد مجازا أو حقيقة.

فعلى الأوّل : فالواجب المشروط مجاز تقييدي ولا مدخل للأول والمشارفة فيه ؛ لأنّ المدار في صدق المشتقّ على وجه الحقيقة هو قيام المبدأ بمورده في الحال ، والوجوب في الواجب المشروط حاليّ إلاّ أنّ الواجب شيء مخصوص بتقدير خاصّ ، وذلك لا يوجب أن لا يتّصف المورد بالوجوب في الحال.

وعلى الثاني - كما هو الحقّ - فهو حقيقة ، كما في سائر المطلقات. نعم ، عند تجرّده عن القيود يحمل على أنّ المورد متّصف بالوجوب على جميع التقادير - كما في غيره من المطلقات أيضا - ولا إشكال في ذلك.

وهل هيئة الأمر حقيقة في الطلب على وجه الإطلاق ومجاز في الطلب المشروط أو بالعكس؟ أو مشترك بينهما لفظا أو معنى؟ وعلى الأخير : فعند الإطلاق هل يحمل على الإطلاق أو يتوقّف؟ وعلى الأوّل : فهل ذلك بواسطة الانصراف أو بواسطة عدم البيان؟ وجوه :

لا إشكال في فساد الأوّلين ولا سيّما الثاني منهما ؛ إذ لم يجوّزه عاقل ولا تعرّض للخلاف فيه ناقل (2).

ص: 235


1- تقدّم في الصفحة 229 - 230.
2- العبارة في المطبوع : ولا خلاف فيه أيضا ولا ناقل.

ويدلّ على فساد الأوّل : أنّه لو كان الأمر موضوعا للطلب لا على وجه التقييد يلزم أن يكون جميع الأوامر مجازات ؛ إذ لا أقلّ من اشتراطها بالامور العامّة ، فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له من الطلب المطلق ؛ على أنّه غير معقول قطعا ، إذ لا فرق بين التقييد على وجه الاشتراط أو غيره من القيود المتعلّقة بالمأمور به بحسب القواعد العربيّة ؛ فهل ترى أنّ أحدا يقول بأنّ قولنا : « اضرب زيدا في المسجد أو راكبا أو ضربا شديدا أو بالسوط أو نحو ذلك » مجاز ، وقولنا : « اضرب زيدا » حقيقة؟

وتوضيح المقال وتفصيل هذا الإجمال هو أن يقال : إنّ هيئة الأمر موضوعة - بالوضع النوعي العامّ والموضوع له الخاصّ - لخصوصيّات أفراد الطلب والإرادة الحتميّة الإلزاميّة التي يوقعها الآمر ويوجدها عند ما ينبعث في نفسه دواعي وجود الفعل المطلوب من المأمور ، ولا اختلاف في تلك الأفراد من حيث ذواتها إلاّ فيما يرجع إلى نفس تعدّد ذواتها من تعدّد الوجودات الخاصّة ، فإنّها يجمعها عنوان واحد هو الطلب والإرادة.

نعم ، الاختلاف إنّما هو فيما تعلّق به الطلب بعد اجتماع شرائط وجوده : من الطالب والمطلوب والمطلوب منه في الجملة ؛ فتارة : يكون المطلوب شيئا عامّا ، كالضرب المطلق على أيّ نحو وقع وعلى أيّ وجه حدث زمانا ومكانا وآلة وحالة ووجها ، إلى غير ذلك. وتارة : يكون المطلوب أمرا خاصّا - على اختلاف مراتب الخصوصيّة - ففي جميع هذه الأقسام صيغة الأمر وهيئته مستعملة في الطلب الواقع والإرادة الحادثة في نفس الأمر. ولا يعقل أن يكون الفرد الموجود من الطلب مطلقا ، إذ الإطلاق إنّما هو واسطة في التعقّل ، لا في الوجود ؛ والألفاظ إنّما تتّصف بالإطلاق والتقييد باعتبار المعنى ، وبعد ما فرضنا من أنّ المعنى المقصود بالهيئة هو خصوصيّات الطلب وأفراده فلا وجه لأن يقال : إن الهيئة مطلقة أو مقيّدة ، بل

ص: 236

المطلق والمقيّد هو الفعل الذي تعلّق به الطلب ؛ فإنّ معنى الضرب في حدّ ذاته معنى كليّ ، واللفظ الكاشف عنه مطلق ، والضرب الواقع في الدار مقيّد.

فظهر من ذلك : أنّ معنى الهيئة ممّا لا يختلف باختلاف المطلوب وإن كان لهذه الاختلافات مدخل في تعدّد أفراد الطلب - كما لا يخفى - إلاّ أنّه لا دخل له بما نحن بصدده.

ولا خفاء أيضا في أنّ الشرط أيضا من الامور الراجعة إلى المطلوب ، فإنّ الفعل تارة : يكون متعلّقا للطلب على جميع تقاديره - من قيام عمرو وقعود بكر وحياة زيد وموت خالد ونحو ذلك - وتارة : يكون متعلّقا للطلب على تقدير خاصّ ؛ فلا اختلاف في حقيقة الطلب ، كما لا اختلاف فيها عند اختلاف سائر قيود الفعل من الزمان والمكان.

وإذ قد تحقّقت ذلك عرفت أنّه لا وجه للقول بكون هيئة الأمر حقيقة في الوجوب المطلق مجازا في المشروط ، فإنّ ذلك ممّا لا يرجع إلى طائل ، بل التحقيق : أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ للأعمّ من الطلب الواقع على الماهيّة المطلقة أو المقيّدة. نعم ، عند عدم القيد بواسطة القاعدة - التي قد شيّدنا أركانها في المطلقات - يحمل الفعل المطلوب على المطلق من دون مدخل لذلك فيما دلّ على الطلب.

فإن أراد القائل بالاشتراك المعنوي ما ذكرنا فهو حقّ لا محيص عنه. وإن أراد بذلك الاشتراك المعنوي بمعنى أن يكون هيئة الأمر موضوعة لمفهوم الطلب الشامل للطلب المشروط والطلب المطلق فذلك ممّا لا يعقل.

أمّا أوّلا : فلأنّ المعقول عندنا عدم اختلاف الطلب المشروط للطلب المطلق إلاّ بالإطلاق والتقييد ، فلا بدّ أن يكون الطلب المطلق - الذي وقع قسيما (1) - شاملا

ص: 237


1- في ( ط ) : قسما.

له على نحو شمول الماهيّة المطلقة التي هي قسم (1) للماهيّة المأخوذة بشرط شيء أو بشرط لا ، فيكون الاختلاف اعتباريّا ويكون هيئة الأمر موضوعة للطلب المقسم المخالف للقسم اعتبارا ، وذلك ممّا لا يقضي به دليل ولا يساعده اعتبار.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المتبادر من الهيئة هو خصوصيّات الطلب والإرادة ، فلا وجه للقول بكونها موضوعة لمفهوم الطلب ؛ وذلك أمر ظاهر بعد تصوّر أطرافه.

ومن هنا يظهر فساد القول بالانصراف أيضا ؛ إذ لا إطلاق في الهيئة حتى يقال بالانصراف. وأمّا إطلاق الفعل المطلوب فالانصراف فيه إلى المطلق غير معقول ؛ إذ الانصراف إنّما هو يلاحظ فيه بالنسبة إلى أفراده ، والمطلق هو عين الفعل فلا ينصرف إليه. وذلك أيضا ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه.

بقي احتمال الاشتراك اللفظي في هيئة الأمر بالنسبة إلى الطلب المطلق والطلب المشروط ، كأن يقال : إنّ الواضع تارة لاحظ أفراد الطلب المتعلّق بالمطلوب المطلق وجعل هيئة الأمر لها ، واخرى لاحظ أفراد الطلب الواقع على الماهيّة المقيّدة وجعل الهيئة لها أيضا بوضع مستقلّ.

وهو أيضا في غاية الضعف والسقوط ؛ إذ نحن لا نجد من أنفسنا فرقا بين استكشافنا معنى الهيئة في المقامين ، ولو كان ذلك فيهما بوضعين يجب أن يكون الانتقال إلى أحدهما من اللفظ مغايرا - ولو بنحو من الاعتبار - عن الانتقال إلى الآخر ، وهو ظاهر في الغاية.

فإن قلت : إنّ سنخ الطلب وماهيّته ممّا يختلف عند الإطلاق والاشتراط ، بحيث إنّه لا يجمعهما عنوان واحد في الملاحظة إلاّ مفهوم الطلب الشامل لهما ، فيكون المطلق والمشروط نوعين من مطلق الطلب ؛ وحيث قد ظهر لك أنّ الهيئة ليست

ص: 238


1- كذا ، والظاهر : قسيم.

موضوعة لمفهوم الطلب ، فالموافق للاعتبار هو أن يكون الآلة في ملاحظة الواضع خصوصيّات أفراد الطلب في كلّ من النوعين هو ذلك النوع ، ولازم ذلك الاشتراك اللفظي. كما أن « من » - مثلا - موضوعة تارة لخصوصيّات التبيين وتارة لأفراد التبعيض ؛ فالهيئة الأمريّة موضوعة للقبيلتين بوضعين.

قلت : أمّا أوّلا : فلا نسلّم أنّ الطلب مختلف بحسب أصل الماهيّة في المقامين ، والوجه في هذا المنع يظهر عند ملاحظة نظير المقام في الجمل الإخباريّة ، فإنّ حقيقة التصديق في القضية الحمليّة والقضيّة الشرطيّة ليست مختلفة على وجه يكون أحدهما نوعا من العلم والآخر نوعا آخر. وكيف ذلك! مع أنّ رجوع القضية الشرطيّة إلى القضيّة الحمليّة (1) :

إمّا على ما يراه البعض : من أنّ المطلوب فيها هو الحكم بالملازمة وأنّ المقدّم ملزوم للتالي (2) ، وإن كان قد يناقش في ذلك : بأنّ المقصود بالإخبار في المقام ليس الإخبار عن الملازمة ، فإنّها ملحوظة تبعا ومرآة ، فلا يكون من موارد الحكم.

وإمّا ما زعمه التفتازاني : من أنّ المقصود فيها هو التصديق بثبوت المحمول للموضوع في التالي على تقدير المقدّم (3). وبيان ذلك : أنّ المخبر عن ثبوت شيء لشيء قد يكون في صدد الإخبار عن ثبوت المحمول للموضوع على جميع التقادير المتصوّرة لذلك الموضوع من الوقائع المربوطة به ، وقد يكون مقصوده الإخبار عنه لكن على تقدير خاصّ كطلوع الشمس للحكم بوجود النهار ، فعلى الأوّل : لا مناص من التعبير بالقضيّة الحمليّة ، فإنّها تفيد ثبوت المحمول للموضوع على أيّ

ص: 239


1- في ( ط ) زيادة : الصرفة.
2- راجع الفصول : 147 - 148 ، وهداية المسترشدين 2 : 421.
3- لم نعثر عليه.

تقدير فرض. وعلى الثاني فلا بدّ من إيراده على وجه الاشتراط ، وذلك أمر ظاهر فيهما (1). وعليك بملاحظة ذلك في المقام أيضا.

فالقول باختلاف حقيقة الطلب في الطلب المطلق والمشروط لا بيّن ولا مبيّن ، بل الوجدان الخالي عن شوائب الوهم قاض بعدم الاختلاف النوعي فيهما.

وأمّا ثانيا : فعلى تقدير التسليم فلا نسلّم أنّ ذلك يمنع عن الاشتراك المعنوي على وجه قلنا به ؛ إذ الآلة في الملاحظة قد يمكن أن يكون أعمّ من النوعين ، فيكون كلّ واحد من خصوصيّات الأفراد موضوعا له بوضع واحد ، ولا ضير في ذلك.

ودعوى الغلبة على خلافه بأنّ الغالب هو أنّ المرآة للمعنى هو القدر المشترك القريب - على تقدير تسليمها - ممّا لا دليل على اعتبارها ، فإنّه مبنيّ على اعتبار الظنّ المطلق في تشخيص الأوضاع ، وقد منعنا عن ذلك في محلّه (2) ، وإن بالغ فيه جماعة كثيرة (3).

فظهر : أنّه لا وجه للقول المذكور في وجه.

ثمّ إنّ هذا القول ممّا قد نسب إلى السيّد المرتضى (4) ولعلّه بواسطة ما قد وجدوا من عادة السيّد (5) الحكم بالاشتراك في أمثال المقام ، وإلاّ فكلام السيّد في الذريعة والشافي ممّا لا دليل فيه على هذه الحكاية.

ص: 240


1- في ( ع ) و ( م ) : فيها.
2- راجع فرائد الاصول 1 : 173 - 176.
3- كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 61 ، وقد بالغ في الاستدلال عليه ونسبه إلى المعظم.
4- لم نعثر على من نسبه إلى السيّد المرتضى ، نعم حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 61 ، عن السيّد الاستاذ.
5- في ( ع ) و ( م ) زيادة : كثيرا.

قال السيّد في الذريعة : فصل - هل الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به؟

اعلم : أنّ كلّ من تكلّم في هذا الباب أطلق القول بأنّ الأمر بالشيء هو بعينه أمر بما لا يتمّ ذلك الشيء إلاّ به ؛ والصحيح أنّه يقسّم ذلك ، فنقول : إن كان الذي لا يتمّ ذلك الشيء إلاّ به سببا فالأمر بالسبب يجب أن يكون أمرا به ، وإن كان غير سبب وإنّما هو مقدّمة للفعل وشرط لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر به أنّه أمر به. والذي يدلّ على صحّة ما ذكرناه : أنّ ظاهر الأمر يقتضي ما تناوله لفظه ، وليس يجوز أن يفهم منه وجوب غيره ممّا لا يتناوله اللفظ إلاّ بدليل غير الظاهر ؛ لأنّه إذا قيل : « صلّ » فالأمر يتناول الصلاة ، والوضوء الذي ليس بصلاة إنّما يعلم وجوبه بدليل غير الظاهر.

وممّا يوضّح ذلك : أنّ الأمر في الشريعة قد ورد على ضربين : أحدهما : يقتضي إيجاب الفعل دون إيجاب مقدّماته ، نحو الزكاة والحجّ ، فإنّه لا يجب علينا أن نكتسب المال لتحصيل النصاب أو نتمكّن به من الزاد والراحلة ، بل متى اتّفق لنا النصاب وحال عليه الحول وجب الزكاة ؛ وكذلك في الزاد والراحلة. والصورة الاخرى : يجب فيه مقدّمة الفعل كما يجب هو نفسه ، وهو الوضوء للصلاة وما جرى مجراها ، فإذا انقسم الأمر في الشريعة إلى قسمين ، فكيف نجعلهما قسما واحدا؟ فإذا قيل : مطلق الأمر يقتضي تحصيل مقدّماته ، فأمّا ما كان مشروطا منه بصفة - كالزكاة والحجّ - فلا يجب ذلك فيه. قلنا : هذه دعوى ، ما الفرق بينكم وبين من عكسها؟ فقال : إنّ مطلق الأمر يقتضي إيجابه دون غيره ، فإذا علمنا بوجوب المقدّمات كالوضوء في الصلاة علمناه بدليل خارج عن الظاهر. والصحيح أنّ الظاهر محتمل للأمرين احتمالا واحد وإنّما يعلم كلّ واحد منهما بدليل. فإذا تعلّقوا بالسبب والمسبّب وأنّ إيجاب المسبّب إيجاب السبب لا محالة ، قلنا : هو كذلك ، والفرق بين الأمرين أنّه محال أن يوجب علينا المسبّب بشرط اتّفاق وجود السبب ،

ص: 241

وإنّما فسد ذلك ، لأنّ مع وجود السبب لا بدّ من وجود المسبّب إلاّ لمنع ، ومحال أن يكلّفنا الفعل بشرط وجود الفعل. وليس كذلك مقدّمات الأفعال ، لأنّه يجوز أن يكلّفنا الصلاة بشرط أن (1) يكلّفنا الطهارة (2) ، كما جرى ذلك في الزكاة والحجّ ، فبان الفرق بين المقامين ، انتهى ما أفاده السيّد المرتضى ، عليه الرحمة (3).

ولا يخفى أنّ كلام السيّد صريح في أنّ المقدمة السببيّة واجبة ، وأنّ المقدّمة (4) الغير السببيّة ممّا يحتمل الوجوب وعدم الوجوب ، وتشخيص ذلك موقوف على الدليل الخارج عن مقتضى الأمر.

وأمّا الوجه في هذا التوقّف ، فلا يظهر من كلامه شيء ، فيحتمل أن يكون الوجه في ذلك هو ما نسب إليه في حواشي المعالم : من أنّ السيّد حيث ذهب إلى اشتراك الأمر بين المطلق والمشروط ، فبمجرّد ورود الأمر لا دليل على الحكم بوجوب مقدّماته ، إذ يحتمل أن يكون واجبا مشروطا ، والمقدّمة الوجوبيّة لا تقبل الوجوب كما عرفت (5).

فعلى ذلك لا مانع من أن يكون الأمر بالشيء أمرا بما لا يتمّ إلاّ به إلاّ احتمال أن يكون الواجب مشروطا بوجود (6) المقدّمة ، وحيث إنّه قد علم اشتراط (7)

ص: 242


1- في ( ط ) زيادة : يكون.
2- العبارة في المصدر هكذا : لأنّه يجوز أن يكلّفني الصلاة بشرط أن أكون قد تكلّفت الطهارة.
3- الذريعة 1 : 83 - 85.
4- لم ترد عبارة « السببيّة واجبة وأنّ المقدّمة » في ( ع ) و ( م ).
5- راجع هداية المسترشدين 1 : 671 و 2 : 111 و 200 ، وحاشية المولى صالح على المعالم : 79.
6- في ( ط ) : بوجوب.
7- كذا ، والظاهر : امتناع اشتراط.

الوجوب بالمقدّمة السببيّة - لامتناع تحصيل الحاصل - قلنا بوجوبه ، لعدم المانع من ذلك ، فيكون كلام السيّد راجعا إلى أنّ الواجب لا يمكن أن يكون بالنسبة إلى المقدّمة السببيّة واجبا مشروطا ، ويمكن أن يكون بالنسبة إلى غيرها مطلقا ومشروطا ، وحيث إنّه لا يعلم الاشتراط والإطلاق فلا يصحّ الحكم بالوجوب ؛ إذ لعلّه يكون الواجب مشروطا ولا يجب تحصيل المقدّمة الوجوبيّة.

وأنت خبير بأنّ المستفاد من كلام السيّد أنّه لا مقتضي لوجوب المقدّمة في الأمر ، حيث إنّه يقتضي ما تناوله. فالظاهر أنّ حكمه بعدم الوجوب لعدم المقتضي له لا لوجود المانع ، وإن كان قد يوهم ذلك الفرق الذي أبداه بين السبب وغيره ؛ حيث إنّه اكتفى بمجرّد ارتفاع المانع والحكم بامتناع الاشتراط فيه ، فالوقف في وجوب غير السبب إنّما هو بواسطة عدم الدليل على الوجوب.

ولا مدخل للاشتراك اللفظي في كلامه ، بل الظاهر منه دعوى وجود الدليل في السبب دون غيره من حيث الملازمة الواقعيّة الموجودة بين السبب والفعل الواجب ، فيعقل أن يكون الأمر به دالاّ على الأمر به دلالة التزامية ، مع عدم (1) احتمال وجود المانع في السبب ، لامتناع اشتراط وجوب الشيء بوجوده ؛ وحيث إنّ هذه الملازمة ليست متحقّقة بين الفعل وسائر المقدّمات لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به مع احتمال وجود المانع. وعلى هذا فالمشهور : من استناد التفصيل في نفس المسألة إلى السيّد ، لعلّه في محلّه.

نعم ، بناء على ما حرّر النزاع في الملازمة العقليّة لا يعدّ قول السيّد فيها تفصيلا ؛ لأنّ الظاهر من تحريره أنّ النزاع في الدلالة اللفظيّة ، فلا ينطبق عليها على ظاهره ، كما لا يخفى.

ص: 243


1- لم يرد « عدم » في ( ع ).

وأمّا على الوجه الذي أشار إليه في المعالم (1) ، فإسناد التفصيل إنّما هو مبنيّ على أن يكون المنع الصغروي تفصيلا. وفيه بعد ظاهر.

وبالجملة ، فكلام السيّد كما ترى خال عن الاشتراك اللفظي ، فلا يدرى من أين يستفاد ذلك من كلامه! ولعلّهم تنبّهوا لذلك من موضع آخر.

ويحتمل قريبا أن يكون مراد السيّد الحكم بالوقف فيما إذا ثبت الاشتراط في الجملة. ولكن لا يعلم أنّ الشرط من شرائط الوجوب أو شرائط الوجود ؛ فإنّ القائل بالاشتراك المعنوي أيضا لا بدّ من أن يتوقّف في هذا المقام. كما إذا شكّ في أنّ الإقامة من شرائط وجود الصوم لمن يجب عليه الصوم مضيّقا كقضاء رمضان قبل دخول السنة اللاحقة ، أو من شرائط الوجوب ، فعلى الأوّل يجب تحصيله ، وعلى الثاني لا يجب. نعم ، إذا أقام يجب عليه.

وليس المقام من موارد الأخذ بالإطلاق عند الشكّ في التقييد ؛ لدوران الأمر بين أن يكون القيد راجعا إلى الأمر أو إلى المأمور به ، ولا مزيّة لاحدهما على الآخر ، فلا بدّ من التوقّف بناء على مذهب المشهور أيضا.

ويرشدك إلى هذا الاحتمال ما أورده السيّد في الشافي (2) في نقض استدلال المعتزلة على أنّ نصب الإمام واجب على الرعيّة : من أنّ إقامة الحدود واجب على الإمام لتوجّه الآيات الدالّة على وجوب إقامتها إلى الإمام ، ولا يمكن التوصّل إلى ذلك إلاّ بنصب الإمام ، إمّا من اللّه أو الرسول ، والمفروض انتفاؤه ، فلا بدّ من نصبنا الإمام ، لأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به. فإنّ وجوب نصب الإمام مثل وجوب الإقامة للصوم ؛ فكما يحتمل أن يكون الإقامة واجبة ، فكذلك يحتمل أن

ص: 244


1- المعالم : 60 - 61.
2- الشافي 1 : 107.

يكون نصب الإمام أيضا واجبا ، لاحتمال إطلاق الأمر. ويحتمل أن لا يكونا واجبين لاحتمال إطلاق المادّة وتقييد الهيئة - على ما ستعرف المراد من تقييد الهيئة - وإلاّ فعلى ما ذكرنا سابقا لا وجه للقول بتقييد الهيئة ، إذ لا يتصوّر في مفاد الهيئة إطلاق كما عرفت.

وبالجملة ، ففيما دار (1) الأمر بين المتباينين لا يصحّ التمسّك بالإطلاق ؛ لعوده إلى الترجيح من دون ما يقضي بذلك.

فإن قلت : إنّ تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادّة من دون عكس ، فتقييد المادّة أولى ، لقلّة التقييد على تقديره.

قلت : ذلك يتمّ بناء على ما احتملنا من رجوع المقدّمة الشرعيّة إلى المقدّمة العقلية ، وأمّا على المشهور فلا وجه لذلك. وسيجيء ما يفيدك توضيح هذا المقال بتوفيق اللّه وهدايته.

ص: 245


1- في ( ط ) : إذا دار.

ص: 246

هداية

اشارة

إذا ثبت وجوب شيء وشكّ في كونه مشروطا أو مطلقا بملاحظة أمر من الامور المحتملة لذلك ، فهل الأصل الإطلاق؟ أو الاشتراط؟ أو فيما إذا كان الوجوب ثابتا باللفظ فالأوّل ، وفيما إذا كان من الوجوه الراجعة إلى غير اللفظ فلا بدّ من التعلّق بما هو قضيّة الاصول العمليّة في مواردها؟ وجوه ، أقواها الأخير ، كما ستعرف وجهه. وتوضيح المقال في موردين :

الأوّل

فيما إذا كان الدليل لفظيّا ، فنقول : إذا تعلّق الأمر بشيء ، فهناك وجوه :

أحدها : أن يكون الأمر غير معلّق على صفة مع إطلاق الفعل المأمور به ، كأن يكون الأمر مطلقا مادّة وهيئة ، نحو قولنا : « أكرم رجلا » فإنّه ليس في المقام ما يحتمل رجوعه بحسب القواعد العربيّة إلى الهيئة ليكون قيدا للأمر بحسب ما هو الظاهر - وإن كان راجعا إلى تقييد المادّة كما عرفت - ولا ما يحتمل أوله إلى المادّة ، فعند الشكّ في قيد سواء كان قيدا للوجوب أو للفعل يجب التمسّك بالإطلاق في دفع الشكّ ، كما هو الشأن في الأخذ بالإطلاق عند احتمال التقييد فيما إذا كان المطلق في مورد البيان ؛ حذرا من الإغراء بالجهل القبيح ، فيحكم العقل بملاحظة ذلك بوجوب إكرام الرجل ، سواء طار الغراب أو جرى الميزاب أو أمطرت السحاب أم لا ؛ فإنّه لو كان الواجب هو وجوب إكرامه عند حدوث حادثة خاصّة (1) كان على المتكلّم

ص: 247


1- في ( ع ) و ( م ) : عند حدوث حادث أو عارض.

الحكيم إيراد لفظ يكون وافيا بتمام مقصوده ، لا التكلّم بما لا يفيد إلاّ بعضا منه ، وذلك ظاهر في الغاية ؛ فيجب على المكلّف حينئذ إيجاد المقدّمات الوجوديّة للإكرام وتحصيل المأمور به ، من دون حالة منتظرة من الامور المحتملة اشتراطه بها. هذا على مذاق المشهور القائلين بالاشتراك المعنوي.

وأمّا على ما هو المنسوب إلى السيّد من الاشتراك اللفظي (1) فيكون اللفظ مجملا ؛ لاحتمال إرادة وجوب الإكرام على تقدير خاصّ من تقادير الفعل المأمور به ، وعدم البيان لا يقضي بتعيّن المطلق ؛ فإنّ القرينة المعيّنة إذا انتفت يصير اللفظ مجملا بلا خفاء في ذلك ، من غير فرق بين اشتراك اللفظ بين معنيين لا ربط بينهما بالإطلاق والتقييد - كما في لفظ العين بالنسبة إلى الذهب والفضة - وبين اشتراكه بين معنيين أحدهما أعمّ من الآخر ، كما في لفظ « الإمكان » فإنّ انتفاء قرينة الخاصّ لا يوجب تعيّن إرادة العامّ ، فإنّه في هذه الملاحظة في عرض الخاصّ ، فسقط ما قد ينساق (2) إلى الوهم : من أنّ الاشتراك اللفظي بين الإطلاق والتقييد - كما في هيئة الأمر - لا يقضي بالإجمال.

وثانيها : أن يكون الهيئة خالية عمّا يحتمل رجوعه إليها بحسب القواعد العربيّة ، لكنّ المطلوب فعل مقيّد بقيد خاصّ ، كما إذا أمر المولى بأداء فعل خاصّ في مكان خاصّ - كالصلاة في المسجد أو الطواف بالبيت - فيجب على المخاطب بخطاب الحجّ السعي إليه لتحصيل الطواف المأمور به ، وعند الشكّ في قيد من القيود الغير الثابتة للمادّة فالحكم ما عرفت في الوجه الأوّل. ومن ذلك ما إذا شكّ في اشتراط الوجوب بالقيد المذكور أيضا ، فإنّ الأصل في المقام هو الإطلاق أيضا.

ص: 248


1- كما تقدّم في الصفحة 242.
2- في ( ع ) : ينسبق.

وتحقيق ذلك : أنّ وجوه مصالح الفعل - بناء على ما هو التحقيق عندنا من اختلاف الحسن والقبح في الأفعال الاختياريّة بالاعتبارات - مختلفة.

فتارة : يكون الفعل مع قطع النظر عن التكليف به حسنا مقتضيا للأمر به أو قبيحا موجبا للنهي عنه.

وتارة : يكون الفعل على وجه لو امر به وأتى به المكلّف امتثالا لأمر المولى صار حسنا ؛ وحيث إنّه لا يعقل الأمر بالفعل أوّلا على ذلك الوجه ، فما يحمله في إيصال المكلّف إلى المصلحة المكنونة في الفعل على الوجه المذكور أن يأمر بالفعل أوّلا تحصيلا لموضوع الفعل الحسن ، ثمّ تنبيه المكلّف بأن يأتي بالفعل المذكور على وجه الامتثال.

وتارة : يكون الفعل حسنا على تقدير عدم الإلزام به ، فيختلف حكمه بحسب اختلاف مراتب عدم الإلزام.

وقد يكون الفعل المقيّد بقيد ذا مصلحة ملزمة على وجه يكون متعلّق التكليف كلاهما.

وقد يكون ذا مصلحة لكن على تقدير وقوع القيد لا على وجه التكليف.

ففي كلّ من هذه الصور ينبغي للحكيم أن يعبّر عن المقصود بلفظ يكون وافيا لمقصوده ، فيستكشف من اختلاف التعبيرات - بعد ما عقلنا اختلاف (1) المعاني - أنّ مقصود المولى هو ما يمكن أن يكون مفاد ذلك التعبير بحسب القواعد الثابتة في اللغة.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الأمر إذا كان مشروطا بشرط - كما إذا قيل : « إن جاءك زيد فأكرمه » أو « إن دخلت الدار فافعل كذا » أو « إن استطعت فحجّ » مثلا - فيستفاد منه وجوب الفعل المتعقّب بالشرط المذكور. وحيث إنّ الدالّ عليه

ص: 249


1- لم يرد « اختلاف » في ( ع ) و ( م ).

هو حرف الشرط المستفاد منه في العرف واللغة العلقة الذاتيّة بين وجود الشرط والمشروط وبين عدمهما ، فنقول : إنّ الواجب هو ذلك الفعل عند حصول الشرط ، فلا يجب عند عدمه بمقتضى اللفظ ، فيكشف ذلك عن وجود المصلحة في الفعل المقيّد بالقيد المذكور ، لكن (1) على وجه كان وجوده غير متعلّق للتكليف ، وإذا عبّر عن القيد المذكور لا على هذا الوجه ، كأن يقول : « صلّ في المسجد » فيستكشف ذلك عن وجود المصلحة في الفعل المقيّد بالقيد المذكور مطلقا ، بمعنى أنّ عدم التكليف ممّا لا مدخليّة له في إيراث الفعل حسنا ، فيكون من المقدّمات الوجوديّة ويجب تحصيلها عند إرادة امتثال تكليف ذيها ، فالآمر لا بدّ أن يكشف عن مقصوده في جميع هذه المراتب بلفظ قابل لذلك المطلب. وذلك ظاهر.

ففيما نحن بصدده نقول : إنّ تقييد المأمور به ثابت وتقييد الأمر ليس ثابتا والأصل عدمه. ولا ينافي ذلك ما قلنا : من أنّ قيد الأمر يرجع إلى المأمور به ، فإنّ المقصود بالأصل المذكور هو ما عرفت : من أنّ التقييد ثابت على الوجه الذي لا يستفاد منه عدم الوجوب عند عدم القيد - كما في الجمل الشرطيّة أو فيما يقوم مقامها في الإفادة المذكورة - بل المستفاد منه هو الوجوب المطلق التابع للمصلحة على وجه الإطلاق ، فظهر المراد بأصالة الإطلاق في المقام.

وثالثها : عكس الثاني ، كأن يكون الهيئة مقيّدة دون المادّة. ومرجعها - على ما عرفت - إلى تقييد المادّة بقيد لا يحسن أن يكون القيد موردا للتكليف ، فالواجب المشروط بالنسبة إلى المقدّمة الوجوبيّة والواجب التعبّدي في طرفي الخلاف ، فإنّ المصلحة في الأوّل على وجه لا يكون المقدّمة المقدورة موردا للتكليف ، والمصلحة في الثاني على وجه يحتاج إحرازها للمكلّف وإيصاله إليها إلى التكليف لطفا ، كما ستعرفه في محلّه.

ص: 250


1- في ( م ) زيادة : لا.

وإذا شكّ في اشتراط المادّة بشيء آخر على ذلك أو على وجه آخر ، فالمرجع هو الإطلاق.

ورابعها : ما اجتمع فيه القيدان ، والحكم يظهر ممّا مرّ من غير فرق.

وخامسها : أن يثبت قيد ، ولكن لا يعلم أنّه من القيود الّتي يجب الإتيان بها حتّى يكون من قيود الفعل مطلقا ، أو من القيود التي لا يجب الإتيان بها حتّى يكون من قيود الفعل بوجه خاصّ ، وهو اعتبار وجوده لا على وجه التكليف. وهذه الصورة هي ما قلنا بأنّها يحتمل أن يكون مراد السيّد.

وكيف كان ، فقد يظهر من بعض المتأخّرين : أنّه لا بدّ من التوقّف في مقام الاجتهاد ، ويجب الرجوع إلى ما هو قضيّة الاصول في العمل ، بل لعلّه عليه المشهور (1) أيضا.

أمّا الأوّل ، فللقطع بورود المقيّد على أحد الإطلاقين ، ولا مرجّح لأحدهما ، فلا مناص من التوقّف.

وأمّا الثاني ، فستعرف الوجه فيه في المورد الثاني.

وأمّا التمسّك بأصالة الإطلاق في جانب الهيئة - لأنّ تقييد المادّة معلوم على الوجهين ، إذ تقييد الهيئة لا ينفكّ عن تقييد المادّة ، بخلاف تقييد المادّة ، فينبغي (2) إطلاق الهيئة - في محلّه.

فقد يجاب عنه : بأنّ تقييد المادّة غير معقول بما هو مقيّد للهيئة ، لأنّ موضوع التكليف والأمر لا بدّ أن يكون قبل تحقّق الأمر متحقّقا ، وإذا فرض تقييد المأمور به بشيء فلا يتعقّل اعتباره في الوجوب ؛ لأنّه يلزم إتيانه بمقتضى تقييد المادّة به - كما في

ص: 251


1- في ( ع ) و ( م ) : ولعلّه المشهور.
2- في ( ع ) و ( م ) : فيبقى.

نحوه من قيودها - ولا يلزم الإتيان به بمقتضى كونه من قيود الهيئة ، فلا يصحّ اعتبار شيء واحد في المادّة والهيئة معا.

نعم ، يصحّ التقييد بالنسبة إلى المقدّمة الوجوديّة الواقعيّة ، لكن لا على وجه يكون تلك المقدّمة معتبرا في المادّة في نظر الآمر ، لما عرفت من التناقض على تقديره.

وبعبارة واضحة : أنّ المقدّمة المعتبرة في المأمور به حكمها من حيث الوجود مثل نفس المأمور به ، فلا يجب الإتيان بالقيد ما لم يتحقّق شرط الوجوب ، والمفروض أنّ من القيود المعتبرة في الفعل نفس المقدّمة الوجوبيّة ، فيلزم وجوبها على تقدير وجودها ، وهو محال.

نعم ، ذلك إنّما يتمّ بناء على ما احتملناه : من رجوع المقدّمة الشرعيّة المأخوذة في المأمور به إلى المقدّمة العقليّة المحضة على وجه لا يكون من قيود الفعل المأمور به ، فلا يجب إيجادها بما هو مفاد الأمر ، وحيث إنّها من المقدّمة العقليّة الواقعيّة صحّ التقييد بها ، فلا يجب عند عدمها. كما هو كذلك بالنسبة إلى القدرة ، فإنّ من شرائط وجود الفعل المأمور به في الواقع هو التمكّن ، مع أنّه من شرائط الوجوب أيضا ، ولكن ذلك خلاف ما يظهر منهم في الموارد ، كما لا يخفى.

وكيف ما كان ، ففي هذه الصورة بناء على مذاق القوم لا بدّ من الأخذ بالإطلاق في جانب الهيئة والحكم بتقييد المادّة بوجهين :

أحدهما : أنّ تقييد الهيئة وإن كان راجعا إلى تقييد المادّة - كما عرفت - إلاّ أنّ بين إطلاق المادّة على الوجهين فرقا ، إذ على تقدير إطلاقه من جهة الهيئة يكون إطلاقه شموليّا - كما في شمول العامّ لأفراده - فإنّ وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع تقادير الإكرام من الامور التي يمكن أن يكون تقديرا للإكرام ، وإطلاق المادّة من غير جهة الأمر إطلاق بدلي ، فإنّ المطلق غير شامل للفردين في

ص: 252

حالة واحدة. والسرّ في ذلك ما قرّر في محلّه : من الفرق بين الإطلاق الملحوظ في الأحوال أو في الأفراد ، فتأمّل.

وثانيهما : أنّ تقييد الهيئة وإن لم يستلزم تقييد المادّة - لما عرفت من المحذور - إلاّ أنّه مع ذلك فالحكم بتقييد المادّة أولى ، لدوران الأمر بين تقييدين : أحدهما يبطل محلّ الإطلاق في الآخر ويرتفع به مورده ، والآخر لا يؤثّر شيئا في مورد إطلاقه ، ولا شكّ أنّ التقييد الثاني أولى.

فلنا في المقام أمران : أحدهما إثبات أنّه متى ما دار الأمر بين هذين التقييدين فالثاني أولى ، وثانيهما إثبات الصغرى.

أمّا الأوّل ، فلا يكاد يستريب أحد فيه بعد ما هو المدار في أمثال المقام من الرجوع إلى قاعدة العرف واللغة ، ولا شكّ أنّ التقييد وإن لم يكن مجازا ، إلاّ أنّه خلاف الأصل ، ولا فرق في لبّ المعنى بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل فيه عملا يشرك مع التقييد في الأثر وإن لم يكن تقييدا ، مثل ارتفاع محلّ بيانه الّذي هو العمدة في الأخذ بالإطلاق.

وأمّا إثبات أنّ المقام من هذا القبيل ، فقد عرفت في محلّه : أنّ الأخذ بالإطلاق ليس إلاّ بواسطة قبح تأخير البيان عن مورد الحاجة ، فإذا فرضنا أنّ مطلقا من المطلقات ليس له محلّ بيان ، فلا يمكن الأخذ بإطلاقه ، فإذا قلنا بتقييد الهيئة لزم أن لا يكون لإطلاق المادّة محلّ حاجة وبيان ، لأنّها لا محالة مقيّدة به ، بمعنى أنّ وجودها لا ينفكّ عن وجود قيد الهيئة ، فبذلك لا محلّ لإطلاقه. بخلاف تقييد المادّة ، فإنّ الأخذ بإطلاق الهيئة مع ذلك في محلّه ، فيمكن الحكم بوجوب الفعل على تقدير وجود القيد وعدمه. ولا ينافي ذلك ما قلناه من رجوع قيد الهيئة إلى المادّة أيضا ، لما عرفت من الاختلاف بين جهتي الإطلاق. نعم ، لو ترتّب على إطلاق المادّة على تقدير رجوع القيد إلى الهيئة فائدة - كأن لا يستلزم ذلك التقييد ارتفاع محلّ بيانه مطلقا - كان التوقّف في محلّه.

ص: 253

وتوضيح المقام : أنّ الشيء الّذي يحتمل أن يكون قيدا للمادّة أو للهيئة قد يكون وجه اشتراطهما به واحدا ، كأن يكون حدوثه شرطا فيهما أو يكون وجوده مستمرّا شرطا فيهما. وبعبارة اخرى : أنّ ما يحتمل أن يكون شرطا في المادّة هو حدوث الشيء وهو بعينه يحتمل أن يكون شرطا في الهيئة ، أو يكون ما يحتمل القيديّة في المادّة (1) هو البقاء وهذا بعينه يحتمل القيديّة في الهيئة. وقد يكون وجه اشتراطهما به (2) متعدّدا ، كأن يكون الشرط في أحدهما حدوث ذلك الشيء وفي الآخر بقاؤه.

ففيما إذا كان وجه الاشتراط واحدا - كأن يكون الشرط فيهما هو الحدوث أو البقاء - فالحكم هو ما عرفت : من أولوية تقييد المادّة من تقييد الهيئة ؛ إذ العكس يوجب ارتفاع الإطلاقين وإن كان في أحدهما التقييد حكميّا ، وذلك كما فيما إذا شكّ في أنّ الصوم الواجب هل وجوبه مشروط بالإقامة الدائمة أو الحادثة أو وجوده موقوف على أحدهما ، فإنّ تقييد الصوم لا يوجب تقييد الوجوب ، وتقييد الوجوب سواء كان بحدوث الإقامة أو بقائها يوجب تقييد الصوم ولو معنى - على ما عرفت - إذ لا يمكن تحقّق الصوم بدون الإقامة حينئذ.

وفيما إذا كان وجه الاشتراط متعدّدا - كأن يكون الشرط ما يحتمل الاشتراط في الهيئة هو الحدوث وفي المادّة هو البقاء - فالحكم في هذه الصورة هو التوقّف ؛ لأنّ تقييد المادّة - كما عرفت - لا يوجب تقييد الهيئة ، وتقييد الهيئة أيضا لا يوجب تقييد المادّة ، لكن بالنسبة إلى استمرار وجود ذلك القيد المحتمل. وأمّا بالنسبة إلى حدوثه فالتقييد ولو معنى لازم ، كما لا يخفى. وحينئذ ، فيمكن التمسّك بإطلاق

ص: 254


1- في ( ع ) و ( م ) : للمادّة.
2- لم يرد « به » في ( ع ).

المادّة ، ففي المثال المذكور يحكم بوجوب الصوم ولو بعد ارتفاع الإقامة ، ويحكم بوجوب الحجّ ولو بعد ارتفاع الاستطاعة. وأمّا عكس هذه الصورة فالتقييد أيضا لازم ، كما لا يخفى.

أقول : ويمكن الحكم بعدم التوقّف في الجميع ؛ لأنّ التقييد ولو في وقت ما لازم. فتأمّل فإنّ المقام من مضطرب الأفهام.

المورد الثاني

فيما إذا كان الدليل الدالّ على الوجوب لبّيا - كالإجماع ، والشهرة على القول بها - فهل الأصل هو الإطلاق أو الاشتراط؟

فنقول : إنّ الموارد في ذلك مختلفة باختلاف صور الشكّ ، فإنّ أحكام الشكّ متفاوتة في الشريعة.

فتارة : يجب الأخذ بالاشتراط ، كما إذا ثبت وجوب شيء إجمالا مع القطع بعدم اشتراطه باستمرار الشيء المشكوك اشتراطه حدوثا (1) في المأمور به ، لأنّ عند عدم الشرط (2) يرجع الشكّ في الحقيقة إلى ثبوت التكليف مع عدم ما يقضي به.

والأصل في المقام البراءة ، إلاّ أنّ بعد الوجود لا بدّ من الإتيان بالواجب وإن طرأ له العدم ، لأنّ المفروض حصول العلم بعدم اشتراط الواجب ببقائه وأنّ حدوثه يكفي في ثبوت التكليف.

نعم ، لو شكّ في اشتراطه ببقائه أيضا ، فعند عدم الشرط ولو كان عدمه حادثا بعد وجوده فالأصل أيضا البراءة ؛ لرجوعه إلى الشكّ في نفس التكليف.

ص: 255


1- لم يرد « حدوثا » في ( ع ) و ( م ).
2- في ( ع ) و ( م ) : الاشتراط.

لكن ذلك يتمّ بناء على ما هو التحقيق : من عدم صحّة الاستناد إلى الاستصحاب في مثل المقام ، لاختلاف القضيّة المشكوكة مع القضية المعلومة. وأمّا بناء على مذاق القوم : من أنّ أمر الاستصحاب في وحدة القضيّة موكول إلى العرف ويكفي في وحدة الموضوع اتّحاده العرفي ، فالمورد حينئذ من موارد الاستصحاب. ولا يعارضه أصالة البراءة كما قرّرنا في محلّه (1).

وتارة : يشكّ في كون الشيء شرطا للوجوب حدوثا أو شرطا للوجود بقاء ، فعند عدم ذلك الشيء لا إشكال في الأخذ بالبراءة إذا لم يكن مسبوقا بالوجود. وأمّا بعد الوجود فمع بقائه أيضا لا إشكال في الوجوب ، وأمّا مع عدمه ثانيا فهل يجب إيجاده في المأمور به أولا؟ وجهان مبنيّان على الأخذ بالبراءة أو الاشتغال فيما إذا شكّ في اشتراط الواجب بشيء ، ونحن رجّحنا القول بالبراءة في محلّه (2) ، فلا يجب إيجاده ثانيا في المأمور به. والتفصيل موكول إلى محلّه.

وتارة : يعلم الاشتراط في الجملة ولكن لا يدرى المشروط به ، فلا إشكال قبل الوجود ، لأنّ الأصل الاشتراط والبراءة. وبعد حدوثه فالحكم ما عرفت : من رجوع الأمر إلى الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة فيما إذا انعدم ثانيا.

وتارة : يشكّ في اشتراط الواجب بشيء مع كون نفس الواجب من أطراف العلم الإجمالي ، كما إذا علمنا إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة مع الشكّ في اشتراط الأخير بوجود الإمام عليه السلام. ولا بدّ من الأخذ بالاحتياط والجمع بين الصلاتين ، ولا وجه لإعمال البراءة ؛ لأنّ الاصول العمليّة ممّا لا حكم لها في قبال العلم الإجمالي.

ص: 256


1- انظر فرائد الاصول 3 : 378.
2- انظر فرائد الاصول 2 : 359 و 400 - 401.

وقد يقال : بأنّ العمل بالبراءة في أحد أطراف العلم الإجمالي ممّا لا ضير فيه إذا لم يكن العمل بها من حيث الشكّ الموجود في أطراف العلم الإجمالي ، كما في المقام ، فإنّ إعمال البراءة في صلاة الجمعة ليس من حيث إنّها واقعة في أطراف العلم الإجمالي ، بل من حيث الاشتراط بشيء وعدمه. فتأمّل.

وكيف كان ، ففيما إذا كان الدليل غير اللفظ لا بدّ من الاقتصار على المعلوم في مقام الاجتهاد والعمل بالاصول المشهورة في الشريعة للشاكّ على حسب مواردها.

ولا يخفى أن إطلاق الدليل كما يعتبر في جانب الواجب فكذلك يعتبر بالنسبة إلى الدليل الدالّ على الاشتراط عند الشكّ في وجوه الاشتراط (1).

ص: 257


1- في ( ع ) و ( م ) : الاعتراض.

ص: 258

هداية

اشارة

قد عرفت في تضاعيف ما قدّمنا القول فيه : أنّ المقدّمات الوجوديّة للواجبات المشروطة ممّا يتّصف بالوجوب على نحو اتّصاف ذيها به. وقضيّة ذلك عدم وجوب الإتيان بها قبل وجوب الإتيان بذيها ؛ إذ لا يعقل أن يكون المقدّمة أعلى شأنا من ذيها ، كأن يكون موردا للوجوب التخييري من دون اتّصاف ذيها بالوجوب التخييري.

ومع ذلك فقد يظهر منهم في موارد مختلفة الحكم بوجوب الاتيان بالمقدّمة قبل اتّصاف ذيها بذلك ، كحكمهم بوجوب الغسل قبل الصبح في ليالي رمضان (1) ، وقولهم بوجوب السعي إلى الحجّ قبل أن يهلّ هلال ذي الحجّة (2) ، وحكمهم بوجوب تحصيل العلم بأجزاء الصلاة وشرائطها قبل دخول الوقت (3) ، وحكمهم بوجوب حفظ الماء وإحرازه للعالم بتعذّره له بعد دخول وقت الصلاة (4) ، كما هو صريح الاستاذ الأكبر في شرح المفاتيح (5) - على ما حكي عنه - وحكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن حاول المسافرة إلى البلدان النائية ، كما يظهر من الشهيد الثاني فيما حكي

ص: 259


1- راجع المقنعة : 345 - 347 ، والنهاية : 154 ، والسرائر 1 : 377 ، والشرائع 1 : 189 - 190.
2- راجع الروضة البهية 1 : 437 ، والذخيرة : 54 ، وكشف الغطاء 1 : 169.
3- لم نعثر عليه بعينه ، نعم حكموا بوجوب التعلّم من باب المقدّمة في العاجز عن الصحيح في التكبير والقراءة ، راجع جامع المقاصد 2 : 238 ، وروض الجنان 2 : 688.
4- راجع البيان : 84 ، والجواهر 9 : 89 - 90 ، ومستند الشيعة 3 : 359 - 360.
5- شرح المفاتيح ( مخطوط ) الورقة : 211.

عن الروض (1) ، ومنها حكمهم بوجوب تعلّم مسائل القصر والإتمام للمسافر ... إلى غير ذلك من الموارد التي تظهر جملة منها للمتتبّع في مطاوي كلمات الفقهاء.

ولهم في التفصّي عن هذه العويصة طريقان :

الأوّل : ما سلكه بعض أعاظم المحقّقين في تعليقاته على المعالم ، ولعلّه تبع في ذلك غيره. وملخّصه : أنّ وجوب الإتيان بهذه المقدّمات ليس من حيث استلزام وجوب ذيها وجوبها كما هو المراد بوجوب المقدّمة ، بل وجوبها نفسيّ وإن كانت المصلحة في وجوبها النفسي إمكان التوصّل بها إلى ذيها.

قال فيما حكي عنه : إن فسّر الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا بوجوب غيره وحاصلا من جهة حصوله من غير أن يكون له مطلوبيّة بحسب ذاته بل يكون مطلوبيّته لأجل مطلوبيّة غيره ، لم يتعلّق وجوبه الغيري قبل حصول الوجوب النفسي للغير ؛ لتفرّع حصوله على حصوله وتقوّيه به وإن تعلّق به أمر أصلي. وإن فسّر الوجوب الغيري بما لا يكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة في نفسه بل يكون تعلّق الطلب له لأجل مصلحة تحصل بفعل غيره لا يجوز تفويت المكلّف لها فيجب عليه ذلك ليتمكّن من إتيانه بذلك الغير ، أمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها ، لا من جهة الأمر الذي تعلّق بذيها ، بل بأمر أصلي يتعلّق به ، ويكون الحكمة الباعثة على تعلّق الطلب به تحصيل الفائدة المترتّبة على فعل آخر يكون ذلك الفعل موصلا إليه إن بقي المكلّف على حال يصحّ تعلّق التكليف به عند حضور وقته ، وقضيّة ذلك استحقاق المكلّف للعقاب عند تركه. لكن عدّ ذلك من الوجوب الغيري محلّ تأمّل. بل لا يبعد كونه من الوجوب النفسي (2). انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

ص: 260


1- روض الجنان 2 : 523 - 524.
2- هداية المسترشدين 2 : 170 - 171.

وفيه : أنّ الوجوب الغيري على التفسير الثاني ، إمّا أن يكون من لوازم نفس المقدّميّة ووجوبها كأن يكون وجوب ذي المقدّمة يلازم هذا النحو من الوجوب في المقدّمة ، وإمّا أن لا يكون هذا النحو من الوجوب من لوازم وجوب ذيها. فعلى الأوّل لا وجه لاختصاص ذلك ببعض المقدّمات بعد استوائها فيما هو المناط للوجوب. وعلى الثاني فلا مدخل له في المقام ؛ إذ الإشكال ناش من جهة وجوبها الغيري على التفسير الأوّل. والتزام الوجوب النفسي لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير.

الثاني : ما أفاده بعض الأجلّة ، من الفرق بين الواجب المشروط والواجب المعلّق ، وما يجب فيه الإتيان بالمقدّمة قبل ذيها إنّما هو في الواجب المعلّق دون المشروط ، ولا محذور ؛ لأنّ المعلّق وجوبه حالي ، دون المشروط فإنّ الطلب فيه مشروط.

قال في جملة كلام له في إبداء الفرق بين هذين النوعين من الوجوب : إنّ الموقوف عليه في المشروط شرط الوجوب وفي المعلّق شرط الفعل ، فلا تكليف في الأوّل بالفعل ولا وجوب قبله ، بخلاف الثاني كما أشرنا إليه ، ففرق إذن بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وقوله : « افعل كذا في وقت كذا » فإنّ الاولى جملة شرطيّة مفادها تعلّق الأمر والإلزام بالمكلّف عند دخول الوقت ، وهذا قد يقارن وقت الأداء فيه لوقت تعلّق الوجوب وقد يتأخّر عنه ، كقولك : « إن زارك زيد في الغداة فزره في العشاء » ، والثانية جملة طلبيّة مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي.

وحاصل الكلام : أنّه ينشئ في الأوّل طلبا مشروطا حصوله بمجيء وقت كذا ، وفي الثاني طلبا حاليّا والمطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا (1). انتهى ما أردنا نقله.

ص: 261


1- الفصول : 80.

وتوضيح ما ذكره : أنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، فكما أنّه يمكن أن يكون الفعل المطلوب مقيّدا بوقوعه في مكان خاصّ - كالصلاة في المسجد - كذا يمكن أن يكون وجوبه مشروطا بوقوعها في مكان خاصّ. فعلى الأوّل فاللفظ الكاشف عن ذلك الطلب لا بدّ أن يكون على وجه الإطلاق ، كأن يقول : « صلّ في المسجد » وعلى الثاني لا بدّ أن يكون على وجه الاشتراط ، كأن يقول : « إذا دخلت المسجد فصلّ » وهذان الوجهان بعينهما جاريان في الزمان أيضا ، فيمكن أن يلاحظ الآمر (1) المقيّد بوقوعه في زمان خاصّ ، فيطلب على هذا الوجه من المكلّف ، ولا بدّ أن يكون التعبير عن ذلك المعنى على وجه الإطلاق ، كأن يقول : « صلّ صلاة واقعة في وقت كذا ». ويمكن أن يلاحظ الفعل المطلق (2) لكن وجوبه المتعلّق به وطلبه مشروط بمجيء وقت كذا.

فالوجوب على الأوّل فعليّ ، ولا بأس باتّصاف مقدّمات الفعل الواجب على هذا الوجه بالوجوب ، إذ لا خلف حينئذ ، لأنّ ذاها أيضا متّصف بالوجوب. بخلاف الوجوب على الوجه الثاني ، فإنّ الفعليّة إنّما هي منتفية في الواجب المشروط ، فيمتنع اتّصاف مقدّماته بالوجوب الفعلي.

ففي الموارد التي حكموا فيها بوجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها يلتزم بأنّ الواجب (3) معلّق ، بمعنى أنّ المطلوب هو الفعل المقيّد بوقت كذا ، ووجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها ، لا أنّه تابع لنفس الواجب ، فيمكن أن يكون وقت إيقاعها قبل زمان إيجاده ، لأنّ زمان اتّصاف الفعل المقيّد بالوجوب ليس متأخّرا عن زمان

ص: 262


1- في ( م ) زيادة : « الفعل » تصحيحا. والصواب في العبارة : أن يلاحظ الآمر الفعل مقيّدا.
2- في ( م ) شطب على « المطلق » وكتب عليه : « مطلقا » والتصحيح في محلّه.
3- في ( ع ) زيادة : « فيه » ، والمناسب : فيها.

اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، بل يقارنه وإن كان زمان وقوع الفعل متأخّرا عن زمان وقوع المقدّمة. هذا غاية توضيح ما أفاده رحمه اللّه. ولكنّه ليس في محلّه.

وتحقيق ذلك موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّ وجوب المقدّمة على القول به وجوب عقليّ تابع للوجوب المتعلّق بذيها ، بمعنى أنّه بعد ما أدرك العقل تعلّق الطلب بشيء يتوقّف ذلك الشيء على امور عديدة يحكم بتعلّق ذلك الطلب في مرتبة من المراتب وطور من الأطوار على تلك الامور ، ولا يختلف ذلك باختلاف كواشف الطلب من اللفظ وما يصلح لأن يكون كاشفا عنه ، فالوجوب المنتزع من المقدّمة بواسطة مطلوبيّتها المتفرّعة على مطلوبيّة ذيها ، ويتبع نفس الطلب المتعلّق بذيها وواقعه وإن كان التعبير في ذلك أيضا مختلفا ما لم يؤدّ إلى اختلاف معنى الطلب ولبّه. فلو فرضنا أنّ الأمر المنقدح في نفس الطالب ممّا لا يختلف باختلاف ما يكشف عنه من الألفاظ ، فلا يعقل اختلاف الطلب المتعلّق بالمقدّمة ، إذ المدار في وجوبها وإيجاد وجوبه هو وجوب ذيها المفروض عدم اختلافه في نفس الأمر باختلاف التعبير. ولعلّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه.

وإذا قد عرفت هذا ، فنقول : الذي يظهر لنا بعد التأمّل في موارد استعمال العبارتين اللتين أوردهما المجيب في بيان الفرق بين ما تخيّله من نوعي الوجوب ، هو : أنّ الموجود في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه على الوجهين ، وإنّما الاختلاف راجع في الحقيقة إلى التعبير وإن استلزم ذلك اختلاف ملاحظات المعنى المعبّر عنه بهذه التعبيرات.

وذلك يظهر عند ملاحظة اختلاف وجوه التراكيب اللغويّة والنحويّة ، فإنّ الموجود في الواقع هو أمر واحد ، لكنّه تختلف عباراته بوجوه مختلفة ، كما يرى ذلك فيما هو ثابت لشيء ، كالركوب لزيد ، فإنّه قد يلاحظ خبرا عنه محمولا عليه ، وقد يلاحظ صفة له ونعتا منه ، وقد يعتبر حالا عنه ، مع أنّ الواقع في جميع هذه الصور هو ثبوت الركوب وحصوله لزيد.

ص: 263

وما نحن فيه بعينه من هذا القبيل ، فإنّه لا يفرق عندنا فيما ينقدح في أنفسنا عند طلبنا شيئا في زمان ، بين أن يجعل الزمان بحسب القواعد النحويّة قيدا للحكم الذي هو الوجوب ، وبين أن يجعل قيدا للفعل الذي تعلّق به الحكم ، وذلك ظاهر لمن راجع وجدانه وأنصف من نفسه. ويتّضح ذلك غاية الظهور فيما لو تجرّد الطلب من الكواشف اللفظيّة وثبت تحقّقه في نفس الطالب بدليل لبّي ، فهل تجد من نفسك فرقا فيما علمت بوجوب شيء في زمان بين الوجهين؟ كلاّ! فلا فرق في محصّل المعنى بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وبين قوله : « افعل كذا في وقت كذا » إذ المعنى الموجود الذي يدعو إلى إظهاره وداعي الأمر فيهما أمر واحد لا تعدّد فيه. نعم ، يمكن التعبير عنه بأحد هذين الوجهين.

فإن قلت : إنّ الأحكام الشرعيّة تابعة لما يستفاد من عنوان الدليل ، واختلاف ورود الأدلّة فيما نحن فيه بصدده يكفي ، كما قد سبق نظيره في الفرق بين الواجب المطلق والواجب المشروط. قلت : وذلك ظاهر الفساد بعد ما قرّرنا في التمهيد ، من أنّ وجوب المقدّمة تابع لما هو واقع الطلب ولبّه (1) ، وبعد تسليم اتّحاده لا وجه لاختلاف لوازمه. وأمّا الفرق بين المشروط والمطلق فنحن بعد ما بيّنّا اختلاف المعنى فيهما استكشفنا من كلّ لفظ وارد في مقام البيان ما يناسبه من المعنى ، ولم نقل بأنّ مجرّد الاختلاف في العبارة كاف في الفرق. كيف؟ ولا يعقل أن يكون ذلك مناطا فيما هو راجع إلى المعنى.

لا يقال : إنّ ذلك المعنى الواحد المعبّر عنه بالعبارتين لا محالة يختلف وجوبه واعتباراته عند اختلاف العبارة ، كما يظهر ذلك عند ورود الركوب حالا أو صفة أو خبرا ، إذ لا شكّ في اختلاف ملاحظات ذلك المعنى الموجود المحكيّ عنه بهذه الخطابات.

ص: 264


1- راجع الصفحة 197.

لأنّا نقول : وذلك أيضا ممّا لا مدخل فيه لما نحن بصدده ، لاختصاص التبعيّة بما هو واقع المعنى ، كما يظهر ذلك فيما هو متعلّق بما هو الواقع في المثال المذكور ، فإنّ حقيقة ثبوت الركوب لزيد يقتضي اتّحاد الركوب المأخوذ لا بشرط شيء أو المشتقّ منه مع زيد في الوجود ، وذلك لمّا كان من لوازم ذلك المعنى فلا يختلف باختلاف ملاحظاته ولا باختلاف عباراته. نعم ، الامور الراجعة إلى الألفاظ أو ملاحظات المعنى كالأحكام اللفظيّة من الرفع والنصب والتنكير والتعريف يختلف باختلاف العبارات ، وقد عرفت في التمهيد أنّ الوجوب العارض للمقدّمة من لوازم واقع الطلب.

فإن قلت : قد ذكر في كلامه (1) أنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، والفعل قد يؤخذ المكان فيه قيدا على وجه يختلف المعنى الموجود في نفس الطالب فيه إذا كان المطلوب ممّا يختصّ بكونه وحصوله في ذلك المكان ، كما إذا قيل : « جئني بالبطّيخ الموجود في بلد كذا » ، فإنّ التقييد على ذلك الوجه يغاير التقييد على وجه آخر ، كما إذا لم يكن المطلوب ممّا يختصّ بكونه في مكان خاصّ ، كما إذا قيل : « جئني بالبطّيخ في مكان كذا » ، فإنّ المأمور به على الأوّل هو البطّيخ الحاصل في ذلك المكان ، بحيث لو أتى بدلا عنه ما يكون في بلد آخر لم يكن مجزئا. وعلى الثاني هو مطلق البطيّخ ، ولكنّه يريده منه في مكان كذا. وقد يؤخذ المكان في الفعل على وجه لا يختلف المعنى فيه كما إذا قيل : « إذا دخلت في مكان كذا فجئني بالبطّيخ » أو قيل : « جئني بالبطّيخ في مكان كذا » وحيث إنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، فيمكن أن يكون الزمان قيدا على وجه يختلف المأمور به فيه ، كما عرفت في المكان.

ص: 265


1- أي كلام صاحب الفصول.

قلت : الظاهر من كلامه - كما يظهر من تمثيله - إنّما هو إبداء الفرق بين هذين الوجهين من التعبير ، فالتكليف المذكور لعلّه ممّا لا يرضى هو به.

وتوضيح ذلك : أنّ الزمان والمكان قد يؤخذان ظرفين لنفس الفعل المأمور به ، كما إذا أخذ المكان ظرفا للصلاة التي هي عبارة عن فعل خاصّ وحركة مخصوصة ، أو اخذ الزمان ظرفا له ، كأن يقال : « صلّ في المسجد » أو « في الظهر » مثلا. وقد يؤخذان ظرفين لما يتعلّق به الفعل المأمور به ، كما في مثال البطّيخ ، فإنّ المكان فيه ليس ظرفا للفعل الذي أمر به الآمر وطلبه منه وهو الإتيان ، وإن أمكن تقييد الفعل بالمكان المذكور أيضا ، والكلام إنّما هو فيما إذا كان الزمان قيدا لنفس الفعل لا لمتعلّقه ، كما يظهر ذلك من الأمثلة التي فيها الإشكال ، كما في الغسل للصوم وتعلّم المسائل للصلاة ، وغير ذلك ممّا عرفت آنفا.

وبالجملة ، فالاحتمال المذكور ممّا لا مساس له بكلام المجيب ، وإنّما يحتمله من لا خبرة له بالمقام. نعم ، ذلك ينهض وجها من وجوه اختلاف الفعل المطلوب ، إذ باختلاف المتعلّق عموما وخصوصا يختلف الفعل أيضا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فلا فرق فيما ينقدح في نفس الآمر بين أن يكون الزمان بحسب القواعد اللغويّة قيدا للفعل كما إذا قيل : « افعل في وقت كذا » وللحكم كما إذا قيل : « إذا جاء وقت كذا افعل كذا ». وبعد ما عرفت من أنّه هو المناط في الأحكام التي نحن بصددها من لوازم الوجوب ينبغي العلم بفساد الوجه المذكور في مقام دفع الإشكال.

ولعلّ اتّحاد المعنى على الوجهين ظاهر ، بناء على ما ذهب إليه الإماميّة : من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ؛ إذ الفعل يختلف مصالحه ومفاسده باعتبار قيوده الطارئة عليه ووجوهه اللاحقة له ، ومن جملة وجوهه وقوعه في زمان خاصّ ، فالطالب إذا تصوّر الفعل المطلوب فهو إمّا أن يكون المصلحة الداعية إلى طلبه

ص: 266

موجودة فيه على تقدير وجوده في ذلك الزمان فقط ، أو لا يكون كذلك بل المصلحة فيه تحصل على تقدير خلافه أيضا. فعلى الأوّل فلا بدّ من أن يتعلّق الأمر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة ، كأن يكون المأمور به هو الفعل المقيّد بحصوله في الزمان الخاصّ. وعلى الثاني يجب أن يتعلّق الأمر بالفعل المطلق بالنسبة إلى خصوصيّات الزمان. ولا يعقل أن يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب ، فإنّ تقييد الطلب حقيقة ممّا لا معنى له ؛ إذ لا إطلاق في الفرد الموجود منه المتعلّق بالفعل حتّى يصحّ القول بتقييده بالزمان أو نحوه. فكلّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدلّ عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادّة. وبعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعنى الذي هو المناط في وجوب المقدّمة.

بل التحقيق أنّ ذلك غير مبنيّ على مذهب العدليّة ، إذ على القول بانتفاء المصلحة والمفسدة أيضا يتمّ ما ذكرنا ؛ فإنّ العاقل إذا توجّه إلى أمر والتفت إليه : فإمّا أن يتعلّق طلبه بذلك الشيء أو لا يتعلّق طلبه به ، لا كلام على الثاني. وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون ذلك الأمر موردا لأمره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طوارئه أو على تقدير خاصّ. وذلك التقدير الخاصّ قد يكون شيئا من الامور الاختياريّة ، كما في قولك : « إن دخلت الدار فافعل كذا » وقد يكون من الامور التي لا مدخل للمأمور فيه لعدم ارتباطه بما هو مناط تكليفه ، كما في الزمان وأمثاله.

لا إشكال فيما إذا كان المطلوب مطلقا. وأمّا إذا كان مقيّدا بتقدير خاصّ راجع إلى الأفعال الاختياريّة فقد عرفت فيما تقدّم اختلاف وجوه مصالح الفعل ، إذ قد يكون المصلحة في الفعل على وجه يكون ذلك القيد خارجا عن المكلّف به ، بمعنى أنّ المصلحة في الفعل المقيّد لكن على وجه لا يكون ذلك القيد أيضا موردا للتكليف ، هذا على القول بالمصلحة. وأمّا على تقدير عدمها - كما هو المفروض - فالطلب

ص: 267

متعلّق بالفعل على هذا الوجه فيصير واجبا مشروطا. وقد يكون المصلحة في الفعل المقيّد مطلقا فيصير واجبا مطلقا ، لكن المطلوب شيء خاصّ يجب تحصيل تلك الخصوصيّة أيضا. وممّا ذكرنا في المشروط يظهر الإطلاق أيضا بناء على عدم المصلحة لتعلّق الطلب بالفعل على الوجه المذكور (1).

وأمّا إذا لم يكن راجعا إلى الامور الاختيارية فالمطلوب في الواقع هو الفعل المقيّد بذلك التقدير الخاصّ ، ولا يعقل فيه الوجهان كما إذا كان فعلا اختياريّا ، كما عرفت. فرجوع التقييد تارة إلى الفعل واخرى إلى الحكم بحسب القواعد العربيّة ممّا لا يجدي (2) بعد اتّحاد المناط في هذه المسألة العقليّة. فقد ظهر من جميع ما مرّ أنّ سلوك هذا الطريق ممّا لا يجدي في رفع الإشكال.

ولنا في المقام مسلك آخر لعلّه حاسم لمادّة الشبهة بحذافيرها. وربّما يظهر من بعضهم أيضا ، كما نشير إليهم.

وتقريره - بعد ما عرفت من أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة إنّما هو العقل على القول بالوجوب ، فالقاضي في أمثال هذه الاختلافات الواقعة فيه هو ذلك الحاكم ، ولا بدّ من ملاحظة حكم العقل الخالي عن شوائب الوهم في ذلك - أن يقال : إنّ الفعل الواجب الموقوف على حضور زمان تارة يكون ذلك الزمان واسعا صالحا لوقوع الفعل بجميع مقدّماته فيه ، وتارة يكون بقدر وقوع ذات الفعل فقط من غير أن يصلح لوقوع المقدّمات أيضا (3). والأوّل كما في الصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، والثاني كما في الصوم بالنسبة إلى الغسل.

ص: 268


1- لم ترد عبارة « وممّا - إلى - المذكور » في ( ع ) و ( م ).
2- في ( ع ) و ( ط ) : لا يجهل.
3- في ( ط ) بدل « أيضا » : فيه.

وعلى الأوّل ، إمّا أن يكون المكلّف عالما باقتداره من المكلّف به وقت حضور زمانه بإتيانه على جميع أجزائه وشرائطه ولواحقه ، أو يشكّ في ذلك ، أو يعلم بعدم اقتداره له في ذلك الزمان ، لكنّه قادر على تمهيد مقدّماته قبل حضوره.

لا كلام في جواز التأخير عند علمه باقتداره من المكلّف به على وجهه. وصورة الشكّ أيضا ممّا لا دخل لها بالمقام ؛ لأنّ المرجع في ذلك إلى الاصول العمليّة ، ولعلّ الأصل عدم الوجوب في ذلك الزمان ، والظنّ به ملحق إمّا بالعلم أو بالشكّ.

وأمّا عند العلم بعدم اقتداره في ذلك الوقت مع تمكّنه من المقدّمات قبله ، كما إذا أمر المولى عبده بالمسافرة بعد الزوال مع علمه بعدم تمكّنه من الراحلة بعده وتمكّنه قبله ، فإن تهيّأ الإتيان (1) بذلك الواجب بترتيب مقدّماته من شراء الزاد وإجارة الراحلة ونحو ذلك ، فلا ينبغي أن يتأمّل في أنّ ذلك العبد مطيع لأمر مولاه. وإن تخلّف عنها ولم يتهيّأ للواجب وأهمل في تمهيد المقدّمات ، فالعقل المستقيم حاكم جزما باستحقاقه العقاب المترتّب على ترك الواجب عند تركه ما يمكن التوصّل به إليه ، ولا يتوقّف ذلك على حضور زمان الفعل.

ويكشف عمّا ذكرنا ملاحظة الوجدان الخالي عن الاعتساف وملاحظة طريقة العقلاء أيضا ، فإنّه يحسن من المولى ذمّ العبد حينئذ ، ولو اعتذر بعدم حضور الوقت فلا يستحقّ أن يصغى إلى اعتذاره ، كيف وهو عاص قطعا ومخالف جدّا!

وعلى الثاني - وهو ما إذا لم يكن الزمان واسعا للمقدّمة أيضا - فالأمر في المخالفة عند تركه المقدّمة أظهر ولا قبح في عقابه عند العقل ، وحيث إنّك قد عرفت أنّ القاضي بالوجوب فيما نحن بصدده هو العقل ، فلا مانع من اتّصاف المقدّمة

ص: 269


1- كذا ، والمناسب : للإتيان.

بالوجوب قبل حضور زمان الواجب ، لأنّ العلم بمجيء زمان الفعل الواجب مع عدم اقتداره عليه بدون إحراز المقدّمة قبله كاف في انتزاع المطلوبيّة والوجوب من المقدّمة عند العقل ، فيحكم بوجوب إتيانها وإحرازها.

وبذلك يرتفع الإشكال عن أصله ؛ إذ لا محذور في أن يكون الشيء الواجب موقوفا على مقدّمة يجب تحصيلها قبل زمان الواجب بعد ما هو المفروض من تعلّق الوجوب بذلك الشيء على ما حقّقنا : من أنّ الوجوب في الواجب المشروط أيضا وجوب فعلي ، غاية الأمر أنّ الواجب فعل مخصوص على تقدير خاصّ. وليس ذلك بمزيّة الفرع على الأصل ؛ فإنّ مراعاة المقدّمة عين مراعاة ذيها.

لا يقال : إنّ الوجوب في الواجب المشروط يتعلّق بالفعل بعد حضور زمانه ووجود الشرط ، فليس وجوبه فعليّا ، ومع ذلك لا يعقل الوجوب الفعلي في المقدّمة ؛ إذ لو كان فيلزم مزيّة الفرع على الأصل كما ذكر.

لأنّا نقول : إنّ الواجب صفة منتزعة من الفعل الواجب الذي تعلّق به الطلب في نظر الطالب ، وبعد تحقّق الطلب - كما هو المفروض - لا وجه لعدم اتّصاف ذلك الفعل بالوجوب ، لوجوب ما هو المناط في انتزاعه عن محلّه.

وما قد يتوهّم : من أنّ الطلب ليس علّة تامّة لانتزاع تلك الصفة عن محلّها ، بل هو مقتض له فلا ينافي وجود المانع من ذلك - وهو عدم حضور زمان الواجب أو وجود الشرط مثلا - فهو ليس في محلّه ؛ إذ لا نعني بالوجوب إلاّ كون الفعل على أيّ وجه فرض في تعلّق الطلب به غير جائز الترك إن مطلقا فمطلقا وإن مشروطا فمشروطا ، وهو حاصل في الواجب الموقوف على حصول شيء زمانا كان أو غيره ، لأنّ المناط في ذلك هو الإنشاء والطلب ، والمفروض أنّ الطالب قد تعلّق طلبه بالفعل وأقام بجميع وظائف الطالبيّة ، ويكفي ذلك في انتزاع الصفة المذكورة.

فإن قلت : الفعل المطلوب إمّا أن يكون قبل الوقت جائز الترك أو لا ، فعلى

ص: 270

الأوّل يلزم اتّصاف المقدّمة بالوجوب وعدم جواز الترك قبل ذيها ، وعلى الثاني يلزم اتّصاف الفعل المذكور بجواز الترك قبله كما هو المفروض أوّلا ، وعدمه كما هو اللازم ثانيا.

قلت : اتّصاف الفعل في الحال بالوجوب في وقته يكفي في اتّصاف المقدّمة بعدم (1) جواز الترك فيما لو علمنا بأنّ تركها يفضي إلى تركه في الوقت.

فإن قلت : إنّ القدرة على الفعل في زمانه شرط لوجوب الفعل ، إذ القدرة من شرائط الوجوب ، وبعد تركه في الحال مقدّمة الفعل يصير المكلّف داخلا في عنوان « غير القادر » و « العاجز » ولا تكليف على العاجز ، فلا مخالفة ؛ لأنّها فرع التكليف. والقول بلزوم تحصيل القدرة يوجب القول بوجوب المقدّمة الوجوبيّة ، ولعلّه ممّا لا يمكن الالتزام به.

قلت : إنّ الحاكم باشتراط الوجوب بالقدرة هو العقل ، لامتناع التكليف بما لا يطاق في حقّ الحكيم العدل ، وليس يمتنع التكليف بالفعل مع تمكّنه واقتداره قبل الوقت. وأمّا منعه نفسه من تعلّق التكليف به فهو أمر راجع إلى المعصية الحكميّة ؛ إذ كما أنّ العقل حاكم بقبح المخالفة كذلك أيضا حاكم بقبح تفويت التكليف ، كما يظهر من ملاحظة (2) إطباق العدليّة على استحقاق العقاب لمن سمع دعوى النبوّة ولم ينظر في المعجزة. وكما يظهر ذلك فيما إذا أراد المولى إعلام عبده لمراده مع امتناع العبد من أن يصغى إلى أمره ، بل وذلك ربما يكون أعظم مخالفة من تفويت المكلّف به ، كما لا يخفى.

بل ربما يقال : بأنّ العاجز المذكور حينئذ مكلّف بالفعل واقعا وإن لم يكن قادرا عليه ، لأنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، إذ لا اختصاص لهذا القول

ص: 271


1- في ( ع ) و ( م ) : اتّصاف المقدّمة به لعدم.
2- لم يرد « ملاحظة » في ( ع ) و ( م ).

عند أصحابه بما إذا كان التكليف منجّزا كما إذا قطع يده بعد الزوال ، بل يجري مناط كلامهم فيما إذا صار المكلّف سببا لارتفاع نفس التكليف على أيّ وجه كان ، فيشمل المورد أيضا.

إلاّ أنّ التحقيق : أنّ الممتنع بالاختيار ينافي الاختيار تكليفا وخطابا ولو كان ابتلائيّا ، لعلم الممتنع عليه بامتناعه في حقّه ، فلا يصلح للخطاب أصلا ، وإنّما لا ينافي الاختيار عقابا ، كما ستعرف الوجه في ذلك فيما سيأتي إن شاء اللّه. فعلى هذا فالتارك المذكور معاقب ، ولكنّه ليس مخاطبا ، وعقابه إنّما هو عقاب تفويته التكليف على نفسه.

فإن قلت : ذلك يلازم القول بوجوب جميع المقدّمات قبل الوقت مع العلم بعدم تمكّنه منها بعد الوقت ، مع أنّ الظاهر عدم وجوب بعض المقدّمات قبل الوقت وإن أدّى ذلك إلى ترك ذيها في الوقت ، كما في إحراز الماء قبل الظهر.

قلت : قد عرفت أنّ الماء يجب إحرازه قبل الوقت ، كما صرّح بذلك الوحيد البهبهاني (1) ، ووجهه ما ذكرنا. ولو سلّم فكلّما علمنا بجواز ترك المقدّمة قبل الوقت - كما إذا استفدنا ذلك من إجماع أو دليل آخر - نقول : إنّ شرط الوجوب في ذلك الواجب هو القدرة على ذلك الواجب وشرائطه في زمان وجوبه ، فيكون من الشروط الشرعيّة. وليس ذلك تخصيصا لحكم العقل ، إذ القدرة المعتبرة في الفعل إذا قدرة خاصّة بحسب حكم الشرع ، فلا يجب تحصيل الراحلة قبل حصول الاستطاعة وإن علم باستطاعته فيما بعد ، ولا يجب إحراز الماء أيضا ، كما قد يمكن استفادة ذلك من دليل الوضوء ، فإنّ إقامة الصلاة إنّما هي بعد الوقت وقد توقّف وجوب الوضوء (2) بوجدان الماء حال إرادة الإقامة التي هي توجد بعد الوقت ، كما لا يخفى.

ص: 272


1- شرح المفاتيح ( مخطوط ) الورقة : 211 ، وقد تقدّم في الصفحة 259.
2- في ( ط ) : « وجود الوجوب » ، وفي ( ع ) : « وجوب الوجوب ».

وبالجملة ، فإن دلّ دليل على عدم الوجوب ، فلا بدّ من القول بأنّ الشرط هو القدرة الخاصّة ، وإلاّ فيجب الإتيان بالمقدّمة.

وقد يفرق في ذلك بين ما إذا كان الأمر الموقوف عليه الوجوب صفة راجعة إلى جنس المكلّف على وجه يختلف بها أنواعه كالمسافر والحاضر والمستطيع وغيره وواجد النصاب وغيره ، وبين ما إذا لم يكن كذلك.

فيقال بعدم وجوب المقدّمة الوجوديّة في مثل الأوّل ؛ لأنّ التكليف غير متوجّه إلى غير المستطيع ، لأنّه لا يكون عرضة للتكليف حال عدم الاستطاعة ، فلو أخلّ بشرط من شروط الواجب - كأن لم يحصّل الراحلة - فليس في ذلك تفويت التكليف ، فلا مخالفة لا حقيقة ولا حكما. ومن هنا تراهم يقولون بأنّ إدخال المكلّف نفسه في موضع التكليف ليس بواجب.

ويقال بالوجوب فيما لا يرجع إلى اختلاف موضوع (1) المكلّف.

وبيان ذلك : أنّ الصفة تارة تؤخذ عنوانا في الحكم على وجه لا مدخل للوصف العنواني في موضوع (2) المكلّفين ، فيكون قيدا للفعل المكلّف به ، فيكون المكلّف حينئذ هو الذات التي تكون تلك الصفة عنوانا فيها ، وانتفاء الشرط في الفعل وإن كان يوجب انتفاء التكليف ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب انتفاء موضوع المكلّف.

وتارة يؤخذ قيدا للمكلّف ، كما إذا قيل : « يجب الحجّ على المستطيع » كما يقال في الأوّل : « إن دخلت الدار فافعل » فيما إذا لم يكن الملحوظ تنويع المكلّفين ، بل كان المقصود تقسيم الفعل المكلّف.

كذا أفاد - دام ظلّه - ولكنّه بعد محلّ تأمّل ؛ إذ لا نجد فرقا في محصّل المعنى

ص: 273


1- في ( ط ) : موضع.
2- في ( م ) : موضع.

بين العبارتين على ما هو المناط في المقام. وعلى تقدير الفرق ففي الموارد ما لا يمكن استفادة ذلك الفرق ، كما لا يخفى.

وقد يؤيّد ما نحن بصدده من حرمة تفويت التكليف ببعض الأخبار :

فمنها : ما رواه الشيخ في زيادات التهذيب عن محمد بن الحسن ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام : « سئل عن الرجل يقيم في البلاد الأشهر ، ليس فيها ماء ، من أجل المراعي وصلاح الإبل؟ قال عليه السلام : لا » (1). ويظهر منه : أنّ وجه منعه عليه السلام الإقامة في مثل ذلك المكان إنّما هو تفويته التكليف على نفسه قبل مجيء زمانه.

ومنها : ما رواه أيضا عن العبيدي ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد إلاّ الثلج أو ماء جامدا ، قال : هو بمنزلة الضرورة يتيمّم ، ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي توبق دينه » (2) والظاهر منه أيضا المنع من تفويت التكليف.

ومنها : الأخبار الدالّة على عدم جواز الإقامة في البلاد التي لا يتمكّن المكلّف فيها من إقامة أحكام اللّه وحدوده (3).

ومنها : ما دلّ على أنّ المفتري بالرؤيا يؤمر بأن يعقد شعيرة وما هو بعاقدها (4) ، فإنّه يدلّ على أنّ التكليف الذي نشأ من المكلّف امتناعه لا ضير في ذلك.

ص: 274


1- التهذيب 1 : 405 ، الحديث 1270 ، والوسائل 2 : 999 ، الباب 28 من أبواب التيمّم ، الحديث الأوّل.
2- التهذيب 1 : 191 ، الحديث 553 ، والوسائل 2 : 973 ، الباب 9 من أبواب التيمّم ، الحديث 9.
3- راجع تفسير القمي 2 : 151 ، ومجمع البيان 4 : 291.
4- البحار 7 : 208 ، الحديث 128 و 76 : 339 - 340 ، الحديث 7 و 8.

والظاهر أنّ هذه الروايات ممّا لا ربط لها بما نحن بصدده ، لعدم التعويل عليها في مواردها ، وإنّما أوردناها تأييدا.

والعمدة هو ما عرفت من حكم العقل باستحقاق العقاب في الموارد المذكورة.

والخبير بمطاوي كلمات الأساطين يطّلع على أمثال ما ذكرنا ، فممّن تنبّه لمثل ما ذكرنا استاذ الكلّ في الكلّ (1) المحقّق السبزواري (2) والسيّد العلاّمة بحر العلوم في المصابيح (3).

ويستفاد ذلك من أصحابنا في الفروع الفقهيّة أيضا :

فمن جملتها : حكمهم بأنّ المرتدّ الفطري مأمور بالعبادات المشروطة صحّتها بالإسلام (4) الغير الممكن في حقّه - بناء على عدم قبول توبته - إذ لا يعقل لذلك وجه إلاّ عقابه على تفويته التكليف على نفسه قبل مجيء زمان التكليف.

ومنها : حكمهم بعقاب الكافر على ترك قضاء عباداته (5) مع أنّه غير ممكن في حقّه ، إذ هو مشروط بالإسلام ، فإمّا يراد امتثال التكليف بالقضاء بدون الإسلام أو مع الإسلام ، فعلى الأوّل فهو تكليف بما لا يطاق ، إذ التكليف بالشيء المشروط بدون الشرط تكليف بغير المقدور. وعلى الثاني لا يراد منه ، لأنّ المفروض أنّ « الإسلام يجبّ عمّا قبله » فعقابه على ترك مثل التكليف ليس إلاّ بواسطة تفويته التكليف على نفسه بإدخاله في الكفّار الممتنع في حقّهم أداء تكليف

ص: 275


1- في ( ع ) و ( م ) : بدل « استاذ الكل في الكل » : « هو ».
2- الذخيرة : 54.
3- مصابيح الأحكام ( مخطوط ) : 211.
4- المنتهى ( الحجرية ) 1 : 421 ، ومجمع الفائدة 3 : 202 ، والجواهر 41 : 605 - 606.
5- انظر العدّة 1 : 190 - 192 ، والغنية 2 : 304 - 305 ، والمنتهى 2 : 182 - 188 ، وتمهيد القواعد : 76 - 77 ، وعوائد الأيّام : 282.

القضاء ، إذ لو كان مسلما صحّ منه الامتثال. وأمّا وجه صحّة الأمر بالقضاء فله محلّ آخر لعلّك تطّلع عليه.

ومنها : حكمهم بعقاب الجاهل المقصّر (1) ، سواء كان من جملة من يعلم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة ولم يبذل جهده في تحصيلها ولا يبال بفوتها منه أو كان شاكّا صرفا ، فإنّ الظاهر منهم حكمهم بترتّب عقاب نفس التكاليف الواقعيّة.

نعم ، بعض أصحابنا - كالمحقّق الفيض (2) وأمين الأخباريّة (3) والمحدّث البحراني (4) - ذهبوا إلى أنّ الكافر باللّه مكلّف بالإيمان به ، وحين كفره باللّه لا يكون مكلّفا بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ، والمؤمن باللّه مكلّف بالإيمان بالرسول ، والمؤمن بالرسول مكلّف بالإيمان بالإمامة ، والمكلّف بالإمامة مكلّف بالأحكام الفرعيّة.

واستندوا في ذلك إلى بعض الروايات ، وتعلّقوا بذيل التأويل في قوله تعالى بعد قوله : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ، ( لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) (5).

والمشهور أنّ الجاهل المقصّر معاقب. أمّا إذا لم يكن له علم إجمالي أيضا فظاهر أنّ عقابه بالامور الواقعيّة ليس إلاّ بواسطة تفويت التكليف في حقّهم. وأمّا

ص: 276


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم يستفاد ذلك من حكم بعضهم بأنّ الجاهل المقصّر في حكم العامد ، كالمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة 3 : 36 ، والمحقّق النراقي في المستند 12 : 150 ، وما نسب الى المعروف من عدم معذوريّة الجاهل ، كما في الفصول : 427 ، والقوانين 2 : 111 ، والحدائق 1 : 77.
2- الوافي 2 : 82 ، وتفسير الصافي 4 : 352.
3- الفوائد المدنيّة : 226.
4- الحدائق 3 : 39 - 40.
5- راجع العدة 1 : 192 ، ومعارج الاصول : 76 ، ومبادئ الوصول : 110 ، والمنتهى 2 : 188 ، والآيات من سورة المدثّر : 42 - 44.

مع العلم الإجمالي فإن كان يمكن القول بالعقاب على ترك تكليفه المعلوم له ، فإنّه يجب عليه الاحتياط ، إلاّ أنّ الواقع أنّ الاحتياط أيضا واجب إرشادي لا عقاب على تركه ، وإنّما العقاب على ترك الواجبات ، فيكون العقاب عليها مع عدم العلم بها تفصيلا وامتناع امتثالها في حقّه بواسطة تفويت التكليف.

ومنها : حكمهم بعقاب من توسّط أرضا مغصوبة حال الخروج منها (1) مع أنّه يمتنع تكليفه بعدم الغصب حال الأمر بخروجه الذي هو غصب ، وليس ذلك إلاّ بواسطة أنّه فوّت التكليف على نفسه حال الدخول أوّلا.

ومنها : ما ذكره الشهيدان ، من حرمة النوم الثاني في ليلة الصيام لمن لم يعزم على الانتباه ولم يكن معتادا (2) ، مع ذهابهما إلى المضايقة في حديث الغسل قبل الفجر ، إذ لو قيل بالمواسعة يمكن القول بالحرمة ، لأنّ زمان النوم زمان التكليف ، وأمّا على المضايقة فليس الحرمة إلاّ بواسطة احتمال تفويت التكليف في حقّه ، وإلاّ فيمكن أن يقال : إنّ زمان النوم ليس زمان التكليف ولا يجب إبقاء القدرة فلا يحرم النوم وإن علم بعدم الانتباه قبل الفجر.

ومنها : ما ذكره غير واحد منهم (3) ، من أنّه متى نذر واحد التصدّق بشاة مخصوصة على تقدير خاصّ - كقضاء حاجته مثلا - لا يجوز له التصرّف فيها من نقل ونحوه مطلقا أو فيما إذا علم تحقّق المنذور عليه ... إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع في كلماتهم.

ص: 277


1- راجع الفصول : 138 ، والقوانين 153 ، وكشف الغطاء 1 : 168 - 169 ، والجواهر 8 : 294 - 295.
2- راجع الدروس 1 : 271 ، وغاية المراد 1 : 315 - 316 ، والمسالك 2 : 18.
3- راجع المسالك 1 : 360 ، والمدارك 5 : 31 ، ومستند الشيعة 9 : 48 - 49 ، والجواهر 15 : 42 - 46.

وبالجملة ، فلا قبح في العقول فيما إذا عاقب المولى عبده عند تقصيره فيما أمره به ولو بواسطة تفويته التكليف على نفسه. ولا ينافي ذلك إطباقهم على عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ؛ لما عرفت من أنّ المقدّمة الوجوبيّة مع كونها من قيود الفعل لا ينبغي أن تكون موردا للتكليف ؛ لأنّ الطلب إنّما يتعلّق بالفعل الملحوظ على وجه مخصوص. وأمّا المقدّمات الوجوديّة الأخر ، فتارة نقول بأنّها لو قام الدليل على عدم وجوبها قبل الوقت فلا بدّ من الالتزام بأنّ القدرة المعتبرة في هذه الواجبات التي يتوصّل إليها بهذه المقدّمات قدرة خاصّة ، لا مطلق الاقتدار. وتارة نقول بأنّ ذلك يتمّ فيما لم يكن الشرط راجعا إلى تقسيم موضوع المكلّف ، كأن كان راجعا إلى تقسيم الفعل. وقد عرفت تفصيل ذلك ، فلا نطيل بالإعادة ، فتدبّر في المقام ، فإنّه حقيق بذلك جدّا.

تتميم تحصيليّ :

قد عرفت أنّ وجوب المقدّمة على القول به وجوب يدعو إليه العقل بعد اطّلاعه على وجوب ذيها ، وبذلك يرتفع الإشكال في الموارد المذكورة. وهل العقل يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة قبل زمان ذيها في كلّ زمان يقتدر عليه ولا يفرق بين الزمان المقارن لزمان ذيها وبين غيره ، أو يقتصر حكمه به في آخر زمان لا يتمكّن بعده من الامتثال؟ وجهان بل قولان ، كما يظهر ذلك من ملاحظة أقوالهم في الغسل قبل الفجر ، فقال بعضهم : بأنّ الواجب هو الغسل في زمان يمكن أن يقع فيه قبل الفجر ، وهو المنسوب إلى المشهور (1). وقال بعضهم : إنّ الواجب هو الغسل في أيّ جزء من أجزاء الليل كان ، وهو خيرة المحقّق الخونساري (2). وهو المنصور.

ص: 278


1- نسبه اليهم صاحب الجواهر ، انظر الجواهر 1 : 34.
2- انظر مشارق الشموس : 386.

ويمكن أن يكون مستند المشهور امورا :

أحدها : دعوى أنّ الغسل قبل زمان التضيّق ليس مقدّمة للواجب ولا شرطا له ؛ فإنّ الشرط - على ما ذكر في تحديده (1) - هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، ولا يلزم من عدم الغسل في غير آخر الوقت عدم المشروط ، إذ لو عدم في الأوّل يمكن إيجاده في آخر الوقت ، فلا يلزم من عدمه عدمه ، فلا يكون شرطا. وهذا ممّا أفاده بعض مشايخنا المعاصرين (2).

والإنصاف أنّه ليس في محلّه ؛ فإنّ المراد بالعدم المأخوذ في تعريف الشرط الذي يلزم منه عدم المشروط هو عدمه مطلقا في جميع الأزمان ، لا عدمه في زمان خاصّ ، وإلاّ فعدمه في الزمان الآخر أيضا لا يلزم منه العدم إذا كان مسبوقا بوجود الشرط قبله. وبالجملة ، فإن أراد أنّ عدمه في الجزء الأخير يلزم منه العدم وإن سبقه الوجود ، فهو باطل جدّا. وإن أراد أنّ عدمه فيه مع عدمه في زمان قبله يلزم منه العدم ، فهو مسلّم لكنّه لا يجديه ، إذ عدمه في الجزء الأوّل مع عدمه في باقي الأجزاء أيضا يلزم منه العدم.

الثاني : إنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة قبل الوقت لا يدلّ على أزيد من الزمان الذي يمكن أن يقع فيه الفعل المقدّمي قبل زمان الواجب. وهذا هو الذي اعتمد عليه الاستاذ في مباحث الطهارة (3).

وتوضيحه : أنّ الداعي إلى إيجاد المقدّمة في الخارج قبل الوقت ليس إلاّ العقل ، وهو لا يظهر منه التحريك إلى الفعل قبله ، لاطمئنانه بفعله بعده ، فلا دليل على الوجوب فيما عدا زمان التضيّق.

ص: 279


1- في ( ع ) و ( م ) : « على ما ذكروه ».
2- هو صاحب الجواهر في الجواهر 1 : 42.
3- راجع كتاب الطهارة 2 : 53 - 63.

فإن قلت : إنّ العقل يحكم بالوجوب في تمام الزمان ، إلاّ أنّ التوسعة فيه هو الباعث على اطمئنانه وعدم اضطرابه ، كما إذا كان الوجوب متعلّقا بماهيّة ذات أفراد مجتمعة في الوجود ، فإنّ العقل لا يبالي بترك بعض الأفراد ما لم ينحصر في الفرد الأخير. فكما لا يمكن القول بأنّ الواجب من هذه الأفراد المجتمعة هو الفرد الأخير ، فكذا فيما نحن فيه.

قلت : فرق بين المقامين ، فإنّ التخيير في الأفراد المجتمعة في الوجود ممّا لا ضير فيه ، بخلاف التخيير بين غيرها كما في الأفراد المختلفة بحسب اختلاف مراتب الزمان تقدّما وتأخّرا ، فإنّ ذلك يشبه أن يكون التخيير بينها في الواجبات العقليّة تخييرا بين الواجب وما هو مسقط عنه ، كما إذا جعل التخيير بين الصوم والسفر المسقط له.

والإنصاف أنّ ذلك أيضا ممّا لا وجه له ؛ إذ لا نجد فرقا بين الأفراد المجتمعة وبين غيرها. وليس ذلك من التخيير بين الواجب ومسقطه ، فإنّ المصلحة الداعية إلى طلب الشيء في العقل حاصلة في جميع أفراد الواجب ، كما هو المعنيّ من الواجب الموسّع شرعا أيضا ، ولو لم يكن دليل على عدم وجوبه قبل الليل لكنّا نفتي بذلك في ذلك الزمان أيضا ، ولكنّ الإجماع متحقّق ظاهرا على عدم الوجوب قبل الليل.

لا يقال : الحكم المذكور عقليّ يمتنع تخصيصه ، فكيف يقول بقيام الإجماع؟

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ الدليل المذكور يكشف عن أنّ الشرط هو القدرة في زمان خاصّ ، فلا غائلة في ذلك.

الثالث : إنّ العقل لا يحكم بوجوب مقدّمة الواجب المشروط قبل الوقت ، ولكن ضيقه وعدم اتّساعه للفعل ومقدّماته يقوم مقام دخول الوقت ، فلا بدّ من الاقتصار على ما هو القدر المعلوم من ذلك.

ص: 280

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّه لا ضير في وجوب المقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ، فإنّه تابع للإرادة المتعلّقة بذيها قبل زمانه. نعم ، لا يتعقّل ذلك قبل علمه بتحقّق إرادته ، بل لا يبعد ذلك فيما إذا علم العبد تعلّق إرادة المولى بعد ذلك بفعل لا يمكن امتثاله له إلاّ بإحراز مقدّمته في الحال ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ قيام الضيق مقام دخول الوقت لو كان بلا دليل ففساده ممّا لا يحتاج إلى البيان ، وإن كان القاضي بذلك العقل فأوله إلى ما ذكرنا. ولا فرق في نظر العقل بين أجزاء الزمان الذي يمكن أن يقع فيه المقدّمة كائنا ما كان ، فالتحقيق في المقام هو القول بالتوسعة. واللّه وليّ التوفيق والهداية.

ص: 281

ص: 282

هداية

يصحّ اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرّم مقدّم عليه زمانا ، سواء كان من المقدّمات الوجوديّة لذلك أم لا ، بل ذلك واقع في الشريعة.

فمن الأوّل : الحجّ المشروط بطيّ المسافة على دابّة مغصوبة ، فإنّه من مقدّماته الوجوديّة ، ومع ذلك فعل محرّم ويشترط وجوب الحجّ بوقوعه عند انحصاره في وجه محرّم. ولا ضير في ذلك ، إذ قبل وقوعه لا وجوب وبعده يجب ، والمحرّم واقع عند ذلك ، فلا محذور.

ومن الثاني : أنواع الكفّارات المترتّبة على الأفعال المحرّمة ، من الإفطار والاصطياد في الإحرام والظهار وغير ذلك ممّا لا يمكن الإحاطة بها عن قريب.

وهل يصحّ أن يكون الواجب مشروطا بمقدّمة محرّمة مقارنة للفعل في الوجود أولا؟ وجهان ، بل قولان.

الذي يظهر من ثاني المحقّقين في جامع المقاصد هو الأوّل (1). وتبعه في ذلك الشيخ الأجلّ الفيلسوف (2) في مقدّمات الكشف (3) وتبعه في ذلك صهره الصفيّ التقيّ في تعليقاته على المعالم (4) وتبعه أخوه الجليل في الفصول (5)

ص: 283


1- سيأتي كلامه في الصفحة 286.
2- لم يرد « الفيلسوف » في ( م ).
3- سيأتي كلامه في الصفحة 287.
4- سيأتي كلامه في الصفحة 289 - 290.
5- الفصول : 80.

فحكم فيه بصحّة الوضوء فيما إذا انحصر الماء في آنية مغصوبة وتوقّف الوضوء على الاغتراف منها.

والمشهور على الثاني ، فحكموا بفساد الوضوء ؛ لعدم الأمر به حال انحصار مقدّمته في فعل محرّم ، إذ لا يعقل طلب فعل مع تحريم مقدّماته. وهو المنصور.

وتوضيح المقام أن يقال : إذا انحصرت مقدّمة الواجب في فعل محرّم ، فتارة يعلم تخصيص دليل الوجوب - إذا كان قابلا للتخصيص - بما دلّ على الحرمة ، فينحصر الوجوب بموارد لا يكون ذلك الواجب فيها موقوفا على فعل محرّم. وتارة يعلم تخصيص دليل الحرمة بما دلّ على الوجوب ، فلا يكون ذلك الفعل حراما فيما إذا توقّف عليه فعل الواجب ، كما في حفظ النفس الموقوف على التصرّف في ملك الغير مثلا. وتارة لا يعلم تخصيص أحدهما بالآخر ، لعدم ما يقضى بتخصيص أحدهما بخصوصه.

وحينئذ فالمقدّمة إمّا أن يكون الاشتغال بها قبل الاشتغال بذيها ، لأنّها مقدّمة عليه زمانا أيضا ، كغسل الثوب للصلاة وطيّ المسافة للحج ونصب السلّم للصعود على السطح. وإمّا أن يكون الاشتغال بها حال الاشتغال بذيها ، كترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر وكالاغتراف من الآنية المغصوبة حال الاشتغال بالوضوء ، وإن كان بين هذين المثالين فرق آخر.

لا كلام ولا إشكال فيما إذا كان دليل الوجوب مخصّصا لدليل الحرمة ؛ إذ لا مانع في ذلك لا عقلا ولا شرعا. كما أنّه لا ينبغي أن يرتاب في عدم الوجوب إذا كان دليل التحريم مخصّصا لدليل الوجوب.

وأمّا الصورة الأخيرة ، فلا إشكال أيضا في وجوب الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة فيما إذا أقدم المكلّف بسوء اختياره على ارتكاب الفعل المحرّم وكانت المقدّمة مفارقة لذيها زمانا ، إذ لا محذور على ذلك التقدير ، فإنّ قبل وجودها لا

ص: 284

تكليف وبعدها لا توقّف للفعل الواجب على فعل محرّم ، فلا ضير في التكليف بالحجّ فيما إذا توقّف على ركوب دابّة مغصوبة موصلة إلى الميقات بعد وجود الموقوف عليه باختيار المكلّف الفعل المحرّم.

وليس في العقل ولا في الشرع ما ينافي ذلك. أمّا الأوّل فظاهر. وأما الثاني فلاشتراط الوجوب شرعا بنفس المعصية ، فعند عدم الشرط لا تكليف بالمشروط من دون تعلّق التكليف والوجوب بالمقدّمة الوجوبيّة أيضا ، وبعد وجوب المعصية وحصول الشرط يجب المشروط ولا يعقل تعلّق الطلب بالحاصل ، فلا محذور أصلا.

وإنّما الإشكال فيما إذا توقّف الواجب على فعل محرّم مقارن له في الوجود ، كترك أحد الضدّين الموقوف عليه فعل الآخر ، وكالاغتراف من الآنية المغصوبة للوضوء الموقوف على ذلك في أثناء العمل.

فالمشهور على سقوط التكليف في هذه الصورة ؛ إذ لو كان الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة واجبا : فإمّا أن يكون وجوبه مشروطا بحصول الشرط أو مطلقا أو معلّقا ، ولا رابع بحسب الفرض ، وإن كان الثالث أيضا فاسدا ؛ لما عرفت في الهداية السابقة. والكلّ فاسد.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المفروض عدم تحقق الشرط قبل زمان الاشتغال بالفعل ، فلا تكليف بالفعل عند عدم الشرط.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التكليف بالفعل الموقوف على مقدّمة محرّمة تكليف بما لا يطاق ، لامتناع ارتكاب مقدّمته الوجوديّة شرعا ، والمانع الشرعي كالمانع العقلي. وأيضا لو كان واجبا مطلقا يلزم أن يكون المقدّمة الوجوديّة المفضية إليه واجبة مع أنّها محرّمة ، والتالي واضح الفساد ، والملازمة ظاهرة.

وأمّا الثالث ، فلأنّ الواجب المعلّق على تقدير تعقّله فهو إنّما يثمر في غير ما هو المعلّق عليه ، وأمّا في نفس المقدّمة المعلّق عليها ، فالأمر فيها لا يخلو :

ص: 285

إمّا (1) أن يكون متعلّقا للتكليف كما في المقدّمات الوجودية المحضة ، أولا يكون كما في المقدّمات الوجوبيّة ، وعلى التقديرين لا يعقل التكليف بالفعل المعلّق عليه. أمّا على الأوّل ، فلما عرفت من اجتماع الحرمة والوجوب في شيء واحد ، مضافا إلى التكليف بما لا يطاق. وأمّا على الثاني - فبعد أنّه فاسد في أصله ، لأنّ هذه المقدّمة المعلّق عليها من الأفعال الاختياريّة وطلب ذيها قاض بطلبها أيضا ، فيلزم المحذور المذكور - لا بدّ من القول باشتراط الوجوب بوجوده ، فيكون من المقدّمات الوجوبيّة ، ولا يعقل التكليف قبل وجود الشرط. وهؤلاء الأجلّة زعموا عدم سقوط التكليف في هذه الصورة على اختلاف يسير في ذلك بينهم ، كما ستقف عليه.

قال المحقّق الثاني في شرح قول العلاّمة رحمه اللّه : « ولا يصحّ الصلاة في أوّل وقتها ممّن عليه دين واجب الأداء فورا » مستدلاّ على الحكم المذكور بأنّ الأمر بالأداء على الفور يقتضي النهي عن ضدّه ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد. قال : وكلّ من المقدّمتين مبيّن في الاصول. ثمّ اختار القول بالصحّة وأبطل الاستدلال بمنع الصغرى. ثمّ قال في جملة كلام له في ذلك :

فإن قيل : يمكن الاحتجاج بأنّ أداء الدين مأمور به على الفور ، ولا يتمّ إلاّ بترك العبادة الموسّعة ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب ، وما وجب تركه ففعله منهيّ عنه فتثبت الصغرى. قلنا : في قوله : « وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب » بحث ، فإنّه إن اريد بذلك العموم منع ، لأنّ الواجب الموسّع لم يقم دليل على أنّ تركه يكون مقدّمة لواجب آخر مضيّق ، وظاهر الأوامر الواردة به الإطلاق في جميع وقته إلاّ ما أخرجه الدليل. وإن اريد به ما سوى ترك الواجب فهو حقّ ، إلاّ أنّ المتنازع فيه من هذا القبيل.

ص: 286


1- في ( ط ) بدل « إمّا » : « من ».

فإن قيل : وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسّع ، لأنّه حين وجوب الصلاة إذا تحقّق وجوب القضاء على الفور يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإن لم يبق خرج الواجب عمّا ثبت له من صفة الوجوب الفوري. قلنا : لا نسلّم لزوم التكليف بما لا يطاق ، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلاّ من الأمرين ، لكن أحدهما مضيّق والآخر موسّع فإن قدّمت المضيّق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. قال : والحاصل أنّ الأمر يرجع إلى وجوب التقديم وكونه غير شرط في الصحّة ، انتهى ما أفاده (1).

ويظهر مراده إجمالا ممّا أفاده الشيخ في الكشف ، قال في مبحث اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه : انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية ، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت معصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب ، لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد (2) ، انتهى.

قلت : وكأنّه يشير بقوله : « كما هو أقوى الوجوه » إلى الإشكال المعروف بينهم ، من صحّة صلاة الجاهل بهما ولو كان مقصّرا مع التكليف بالواقع. وحلّه - على ما زعمه - هو : أنّ التكليف بالواقع مقدّم على تكليفه بما يخالفه ، فعلى تقدير المخالفة يصحّ صلاته وإن كان آثما في التأخير. ومنشأ هذا التوهّم هو الخلط بين اشتراط الوجوب بمقدّمة محرّمة مقدّمة على الواجب زمانا - كما عرفت في طيّ المسافة إلى الميقات للحجّ - وبين اشتراطه بمقدّمة مقارنة له في الوجود.

ص: 287


1- جامع المقاصد 5 : 12 - 14.
2- كشف الغطاء 1 : 171.

ويظهر من بعضهم - تقريبا للمطلب المذكور - تمثيل في المقام ، وهو أنّه لا يمتنع عند العقل أن يقول المولى الحكيم لعبده : « احرّم عليك الكون في دار زيد ، ولكن لو عصيتني وكنت فيها فيجب عليك الكون في زاوية خاصة منها » فالعبد حال كونه في تلك الزاوية منهيّ عن الكون فيه مطلقا ومأمور به بشرط الكون فيها.

أقول : فساده غير خفيّ ، إذ لا يعقل أن يكون الأمر متعلّقا بالكون الخاص على تقدير تعلّق النهي بمطلق الكون. وأمّا ما يرى من تجويز ذلك في بعض المراتب ، فذلك ممّا لا يجدي ، إذ الموارد التي لا يستقبح فيها ذلك إنّما هي فيما إذا كانت المراتب المنهيّ عنها مختلفة شدّة وضعفا بواسطة اختلاف المفسدة الموجودة فيها ، ألا ترى أنّ مراتب الضرر الواردة على الإنسان كلّها مكروهة له ، ومع ذلك فلو خيّرنا بين الأقلّ والأكثر فالمختار هو الأقلّ ، وليس في ذلك محبوبيّة أبدا ، بل الأقلّ أيضا مكروه جدّا ، وحيث إنّه لا سبيل إلى دفعه يختار الأقلّ. وعلى قياسه اعتبار النفع.

ولا وجه لقياس ما نحن فيه بذلك ، إذ المقصود هو حصول الامتثال بالواجب الموسّع وموافقة الأمر وتحصيل المطلوب ، وامتناع هذه الامور ضروري فيما إذا كانت المقدمة منهيّة ، كما لا يخفى.

ولذلك سلك بعض أصحاب هذا القول مسلكا آخر في تعليقاته على المعالم ، ومحصله : أنّه زعم أنّ العصيان إنّما هو من مقدّمات الوجوب فلا يتّصف بالوجوب ، لما عرفت من أنّ المقدّمة الوجوبيّة غير واجبة ، فالأمر بالصلاة ليس منجّزا ما لم يحصل الشرط (1).

وهو وإن استقام كلامه بما زعمه من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق ولا اجتماع الأمر والنهي في المقدّمة ، إلاّ أنّه مع ذلك غير مستقيم ، إذ الكلام في جواز

ص: 288


1- سينقل كلامه في الصفحة الآتية.

الدخول في الفعل قبل حصول الشرط. واستغربه ودفعه بأمر غير معقول عندنا ، وهو جواز تأخّر الشرط عن المشروط. قال في جملة كلام له في ذلك :

فإن قلت : إنّ ترك الأهمّ لمّا كان مقدّمة للإتيان بغير الأهمّ وكان وجوب الشيء مستلزما في حكم العقل لوجوب مقدّمته بحيث يستحيل الانفكاك بينهما ، كما مرّ الكلام فيه ، وكيف يعقل وجوب غير الأهمّ مع انحصار مقدّمته إذا في الحرام؟ فيلزم حينئذ أحد الأمرين : من اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المفروضة أو القول بانفكاك وجوب المقدّمة عن ذيها ، ولا ريب في فسادهما.

قلت : ما ذكرناه من كون تعلّق الطلب على فرض عصيان الأهمّ إنّما يفيد كون الطلب المتعلّق به مشروطا بذلك ، فيكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بترك الأهمّ وإخلاء ذلك الزمان عن اشتغاله به. ومن البيّن عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ، فلا مانع من [ توقّف ](1) وجود الواجب على المقدّمة المحرّمة إذا توقّف وجوبه عليها.

فإن قلت : لو كانت المقدّمة المفروضة متقدّمة على الفعل المفروض تمّ ما ذكر ، لتعلّق الوجوب به بعد تحقّق شرطه فيصحّ تلبّسه. وأمّا إذا كان حصول المقدّمة مقارنة لحصول الفعل - كما هو المفروض في المقام - فلا يتمّ ذلك ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدّمة وجوبه ، فلا يصحّ صدوره من المكلّف ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

قلت : إنّما يتمّ ذلك إذا قيل بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود وعدم جواز توقّف الشيء على الشرط المتأخّر بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط. وأمّا إذا قيل بجواز ذلك - كما هو الحال في الإجازة

ص: 289


1- في النسخ : « تقديم » ، وما أثبتناه من المصدر ، وهو الصواب.

المتأخّرة الكاشفة عن صحّة عقد الفضولي ، وتوقّف صحّة الأجزاء المتقدّمة من الصلاة على الأجزاء المتأخّرة منها - فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقّن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق به الوجوب وصحّ عنه الإتيان بالفعل.

فإن قلت : من أين يستفاد كون الشرط الحاصل في المقام من هذا القبيل حتّى يصحّ الحكم بصحّة العمل مع أنّ الأصل عدمها.

قلت : إنّ ذلك قضيّة إطلاق الأمر المتعلّق بالفعل ، إذ أقصى ما يلزم في حكم العقل تقييده بصورة الإتيان بالأهمّ ، وأمّا مع خلوّ زمان الفعل عن الاشتغال به بحسب الواقع فلا مانع من تعلّق التكليف بغير الأهمّ ، فالتقييد حينئذ ممّا لا قاضي به (1) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه بتفاوت قليل.

وفيه ما عرفت : من أنّه لا يعقل اشتراط الشيء بالشرط المتأخّر ، إذ حال عدم الشرط يمتنع وجود المشروط ، وإلاّ لم يكن شرطا. وأمّا الإجازة في الفضولي فقد بيّنّا في محلّه (2) أنّ القاعدة تقضي بالنقل فيها ، وعلى القول بالكشف لا بدّ من الكشف الحكمي ، وأمّا الكشف الحقيقي فممّا لا واقع له وإن بالغ فيه بعض الأفاضل (3).

وبالجملة ، فنحن لا نؤمن بما لا نعقله بعد كونه من الامور التي من شأنها التعقّل كما في المقام ؛ ولذلك قد أعرض عن هذا المسلك أيضا بعض من تبعهم في أصل المطلب (4) وزعم تفريع ذلك على ما توهّمه من الفرق بين الواجب

ص: 290


1- هداية المسترشدين 2 : 272 - 273.
2- راجع المكاسب 3 : 408.
3- وهو صاحب الفصول في الفصول : 80 ، وراجع المكاسب 3 : 402 أيضا.
4- وهو صاحب الفصول كما سيجيء كلامه.

المشروط والواجب المعلّق ، وتصدّى لدفع ما ذكرنا من عدم معقوليّة تأخّر الشرط عن المشروط : بأنّ الشرط هو الوصف الاعتباري المنتزع عن الشيء باعتبار لحوق الشرط له.

قال بعد إبداء الفرق بين ما تخيّله من نوعي الوجوب :

واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور - وقد عرفت بيانه - كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور ، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله ، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب دابّة مغصوبة ، فالتحقيق أنّ وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدّمة ، وليس مشروطا بحصولها ، كما سبق إلى كثير من الأنظار.

ثمّ فرّع على ذلك صحّة العبادة الموقوفة على المقدّمة المحرّمة الأثنائيّة (1) واستدلّ على ذلك بإطلاق الأدلّة الواردة في هذه العبادات مع عدم ما يقضي بتقييدها من العقل وغيره.

ثمّ قال : فتوقّف الواجب على حصول هذه المقدّمة الاختياريّة من قبيل توقّفه على حصول المقدّمة الغير الاختياريّة ، كتذكّر المكلّف وقت الفعل ، وقدرته فيه بمعنى خلوّه في تمام الوقت من الموانع الاضطراريّة بالنسبة إلى زمن التكليف مع ثبوت الوجوب على تقدير حصولها قبله أيضا ، وأمّا القدرة مطلقا فليس حصولها معتبرا ؛ لجواز أن يمتنع الفعل في الوقت مع ثبوت التكليف قبله ، كما في المتقاعد عن الحجّ. فالموقوف عليه في الحقيقة في هذه الصورة هو كون المكلّف بحيث يأتي بالمقدّمة ولو في زمن لا حق ، أو كونه بحيث يكون وقت الفعل متذكّرا خاليا من الموانع الغير

ص: 291


1- في ( م ) : الإنشائية.

المستندة إليه. وهذا وصف اعتباريّ ينتزع من المكلّف باعتبار ما يطرأ عليه في الزمن المستقبل من هذه الصفات ، وهو غير متأخّر عن زمن الوجوب ، وإن تأخّرت عن الصفة التي ينتزع عنه باعتبارها. ولو كان نفس العلم والخلوّ من الموانع شرطا لتأخّر زمن الوجوب عن زمن الفعل ، فلا يبقى مورد للتكليف.

قال : ومن هذا القبيل كلّ شيء يكون وقوعه مراعى بحصول شيء آخر ، كالصحّة المراعاة بالإجازة في الفضولي ، فإنّ شرط الصحّة فيه كون العقد بحيث يتعقّبه الإجازة ، وليست مشروطة بنفس الإجازة ، وإلاّ لامتنعت قبلها (1) ، انتهى ما أفاده قدس سره.

وفيه أوّلا : ما عرفت من فساد أصل المبنى ، أقول : مضافا إلى تناقض صريح كلماته ؛ إذ الكلام إنّما هو في الواجب المعلّق - على ما زعمه - وهو يغاير المشروط ، فكيف يقول : بأنّ الشرط والموقوف عليه في الحقيقة هو كون المكلّف بحيث يأتي بالمقدّمة؟

وثانيا : أنّ التعليق إنّما يتصوّر في الامور الغير المقدورة. وأمّا الأفعال الاختياريّة ، فالتعليق فيها غير معقول ؛ لأنّ الواجب إمّا أن يكون على وجه يجب مقدّماته الاختياريّة كما في الواجب المطلق ، وإمّا أن يكون على وجه لا يجب مقدّمته لكونها من شروط الوجوب. ولا يعقل أن يكون الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الواجب خاليا عن هذين القسمين ، فعلى الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق واجتماع الحرمة والوجوب فيه ، وعلى الثاني يلزم عدم صحّة العبادة لعدم تحقّق الشرط.

وأمّا القول بأنّ الشرط هو الصفة الانتزاعية ، وإن احتمل استقامته على تقدير التعقّل من حيث اندفاع ما أوردنا عليهم من بطلان تأخّر الشرط عن

ص: 292


1- الفصول : 80.

المشروط ، إلاّ أنّه لا يجدي في دفع الإشكال بالنسبة إلى نفس العصيان الذي ينتزع باعتبار لحوقه الشرط المذكور ، فإنّ ذلك فعل اختياريّ مقدّمة لفعل واجب ، ووجوب ذيها دليل على وجوبها. وأمّا الاستناد في ذلك إلى إطلاق الأدلّة الدالّة على تلك الامور الموقوفة على المقدّمات المحرّمة فإنّما يصحّ التعويل عليها فيما أمكن التكليف بها عقلا ، وأمّا عند امتناعه فالتقييد لازم عقلا. وقد نبّهنا على مثل ذلك في بعض مباحث التراجيح.

فالإنصاف أنّه بعد القول بوجوب المقدّمة واقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه الخاصّ وتسليم مقدّميّة ترك أحد الضدّين لفعل الضدّ الآخر ، يشكل تصحيح العبادة الموسّعة ؛ لبطلان جميع أقسام التكليف المتصوّرة فيها ، إذ التكليف التنجيزي ظاهر البطلان ، والتكليف التعليقي بقسميه أيضا باطل ، أمّا الشرطي فلامتناع تحقّق المشروط قبل حصول الشرط ، وأما التعليقي - على ما زعمه بعض - فبالنسبة إلى الصفة المنتزعة من لحوق العصيان فهو مشروط ، كما صرّح به في العبارة المنقولة. وأمّا بالنسبة إلى نفس العصيان فكأنّه غفل عنه ، مع أنّه هو منشأ الإشكال ، فلا بدّ من أوله إمّا إلى الوجوب المطلق أو إلى المشروط ، وعلى كلّ تقدير يلحقهما حكمهما.

وليت شعري ما أبعده عن الواقع ؛ حيث إنّ الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الواجب لا يخلو عن القسمين ، كما هو غير خفيّ على أوائل العقول.

نعم ، يمكن تصحيح التكليف في المقام بوجه آخر ، وهو : أنّ تعلّق الطلب بشيء إنّما يكون بواسطة حثّ المطلوب منه على الفعل المطلوب وحمله عليه ، وعلى تقدير علم الطالب بأنّ المطلوب منه لا محالة يشتغل بما هو مطلوبه فلا وجه لطلبه منه ، لكونه لغوا ، إلاّ إذا كان المقصود التعبّد بذلك المطلوب ، فلا ضير في الأمر به وحمله عليه ، إذ على تقدير عدم الطلب والأمر يمتنع أن يكون الداعي إليه هو الأمر كما هو المقصود ، وحيث إنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمة ليس إلاّ طلبا توصّليّا لا يحتمل

ص: 293

فيه التعبّد ، فعند علم الطالب بتحقّق المطلوب لا يتعلّق به الطلب حذرا عن اللغويّة ، ففيما إذا توقّف الفعل على المقدّمة المحرّمة مع علم الطالب بأنّ تلك المقدّمة ممّا تقع لا محالة ولو عصيانا ، ليس تلك المقدمة موردا للطلب اللازم من طلب ذيها ، فلا يلزم محذور.

قلت (1) : وذلك على تقدير التسليم إنّما يجدي بالنسبة إلى لزوم اجتماع الأمر والنهي ، وأمّا بالنسبة إلى المحذور الآخر - وهو التكليف بما لا يطاق - فلا يجدي قطعا ، إذ التكليف بالفعل حال تحريم مقدّمته تكليف بما لا يطاق ، إذ لا كلام في حرمة المقدّمة المفروضة. وستعرف لذلك زيادة تحقيق في بعض المباحث الآتية.

فإن قلت : على ما بنيت عليه الأمر في الهداية السابقة من وجوب المقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ، لا مانع من التكليف المذكور ؛ إذ نلتزم بأنّ الوجوب فيه وجوب شرطي وشرطه العصيان ، وبعد علم المكلّف بتحقّق الشرط يجب عليه الإتيان بمقدّمات المشروط فيما إذا انحصرت ، كما هو المفروض.

قلت : ليس الكلام في مقدّمات ذلك الواجب المشروط ، بل المقصود هو الاشتغال بنفس الواجب ، ولا يعقل الاشتغال بالواجب قبل تحقّق الشرط. مع أنّ القول بامتناع اشتراط الواجب بمقدّمة محرّمة مقارنة لذيها في الوجود ، حيث إنّ تمام الشرط لا يمكن إلاّ بتمام الفعل ، كما في مثال الاغتراف وكذلك في مثال الصلاة والإزالة ، وذلك ظاهر ، فلا يجب المقدّمات أيضا.

ثم إنّه يرد على أصحاب هذه المقالة الفاسدة أمران آخران :

ص: 294


1- الظاهر كونه جوابا عن قوله : « نعم ، يمكن ... ».

أحدهما : التزام تعدّد العقاب في المسألة المفروضة ؛ لأنّه إذا غصب (1) ولم يتوضأ فقد ارتكب فعلا محرّما وترك أمرا واجبا. وكذلك إذا ترك الواجبين المضيّقين مع أهميّة أحدهما من الآخر.

وثانيهما : التزام صحّة العمل فيما إذا تعلّق النهي بنفس العمل والعبادة ؛ ضرورة ممانعة غير الأهم عن فعل الأهمّ - ومن هنا كان تركه مقدّمة له - والمانع عن العبادة منهيّ عنه ، فغير الأهمّ بنفسه منهيّ عنه.

ولقد تصدّى لدفعه في التعليقة. وستعرف التحقيق فيه إن شاء اللّه تعالى. وهو وليّ التوفيق والهداية.

ص: 295


1- في ( ع ) و ( م ) : عصى.

ص: 296

هداية

قد عرفت فيما سبق أنّ للواجب أقساما عديدة باعتبارات مختلفة ، وقد عرفت الكلام في تحقيق الواجب المطلق و (1) المشروط وما يتفرّع عليه.

وينقسم باعتبار آخر إلى تعبّدي وتوصّلي.

وقد يعرّف الأوّل ب- « ما لا يعلم انحصار مصلحته في شيء » والثاني ب- « ما يعلم انحصارها في شيء ». والثاني غير منعكس ؛ لخروج جملة من التوصّليّات التي لا يعلم وجه المصلحة فيها فضلا عن انحصارها في شيء ، كتوجيه الميّت حال الاحتضار إلى القبلة ، ومواراته ، ونحو ذلك.

فالأوجه أن يعرّف أنّ التعبّدي « ما يشترط فيه القربة » والتوصّلي « ما لا يشترط فيه القربة » سواء في ذلك كون الواجب من الماهيات المخترعة كالصلاة والحجّ ونحوهما ، أو لا كالذبح والنحر والحلق والتقصير ونحوهما.

وبين كلّ من التعبّدي والتوصّلي والنفسي والغيري عموم من وجه ، والصور أربع ، والأمثلة ظاهرة غير خارجة عن الوضوء والصلاة وتوجيه الميّت إلى القبلة وغسل الثوب.

ومنه يظهر فساد ما قد زعمه بعضهم (2) في تحديدهما : أنّ التوصّلي ما كان الغرض من الأمر به الأمر بشيء آخر ، والتعبّدي بخلافه.

ص: 297


1- لم يرد « المطلق و» في ( ع ) و ( م ).
2- مثل المحقّق القمي في القوانين 1 : 103.

فإنّ ذلك سهو ظاهر. وكأنّه تشابه الأمر عليه في إملاء التوصّل ب- « الصاد » مع التوسّل ب- « السين » وهو يساوق الوجوب الغيري ، وإلاّ فكيف يعقل أن يكون تغسيل الأموات وتكفينها ودفنها من الواجبات التوصّليّة.

فحاصل الفرق بين القسمين : أنّ التعبّدي مشروط بالقربة والتوصّلي لا يشترط فيه ذلك.

وقد يفرق بينهما بوجهين آخرين :

أحدهما : لزوم المباشرة في الأوّل بخلاف الثاني ، إذ يجري فيه حصول الفعل في الخارج ولو بمباشرة من غير المكلّف.

الثاني : اجتماع الثاني مع الحرام بخلاف الأوّل ، إذ لا يعقل أن يكون العبادة (1) محرّمة.

وكلاهما فاسدان (2).

أمّا الأوّل : فلأنّ القائل بالفرق المذكور إن أراد به أن ظاهر الأوامر التوصّلية يقضي بعدم لزوم المباشرة من المخاطب بالخطابات الدالّة على هذه الواجبات ، فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ ضرورة أنّ ظاهر الصيغ الأمريّة توجّه التكليف المستفاد منها إلى خصوص المخاطب بها ، كيف! وحال الفاعل ونفس الفعل سواء ، فلو احتمل أن لا يكون الفاعل المخاطب مباشرا له ، فيحتمل أن لا يكون نفس الفعل مأمورا به أيضا. وذلك ظاهر جدّا.

وإن أراد بذلك أنّ مجرّد كون الواجب توصّليّا يقضي بأن لا يكون المباشرة للفعل المأمور به واجبا وإن كان ظاهرا في المباشرة بحسب القواعد اللفظيّة ، فهو

ص: 298


1- في ( ع ) و ( م ) زيادة : التعبّديّة.
2- في ( ع ) و ( م ) : فاسد.

أوضح فسادا من سابقه ؛ إذ ليس فيها ما يقضي بذلك ، إذ لا نعني بالتوصّليّة إلاّ ما لا يكون قصد القربة معتبرا فيه ، وذلك لا يقتضي شيئا.

وإن أراد بذلك أنّ أدلّة جواز الاستنابة إنّما هي حاكمة على ظاهر الأوامر الواردة في الأفعال الخاصّة ، وهي لا تجري في التعبّديّات ، فهو منقوض بجملة من التوصّليّات التي لا يجوز فيها الاستنابة كالمضاجعة والجماع ، وبجملة من التعبّديّات التي يصحّ الاستنابة فيها كالحجّ والزيارة ونحوهما. والوجه في ذلك أنّ أدلّة النيابة لا اختصاص لها بواجب دون واجب ، ففيما يكون محلّه لا يفرق بين التعبّدي والتوصّلي.

فإن قلت : لا ينبغي إنكار عدم لزوم المباشرة في الواجبات التوصّلية ، ضرورة حصول الواجب فيها بفعل الغير ، كما في غسل الثوب إذا التزم غسله غير المكلّف ، بل ولو حصل من دون مباشرة آدميّ أيضا كان مجزئا.

قلت : فرق ظاهر بين حصول الواجب في الخارج وبين ارتفاع موضوعه ومحلّه في الخارج ، وما يرى من الأمثلة إنّما هي من قبيل الثاني ، كما إذا ارتفع موضوع التعبّدي أيضا ، مثل ما إذا احترق الميّت فلا يجب عليه الصلاة.

وبالجملة ، ظاهر الأمر هو المباشرة ، والقائل بعدم لزوم المباشرة إنّما اختلط عليه الأمر بين الوجهين مع ظهور افتراقهما.

وغاية ما يمكن أن يقال في المقام توجيها لكلامه ، هو : أنّ الأمر وإن كان ظاهرا في تعلّق الطلب بشخص خاصّ ، إلاّ أنّ الغرض تعلّقه بحصول الفعل في الخارج على أيّ وجه وقع. وهو فاسد جدّا ، إذ حقّ التعبير حينئذ هو التأدية بكلام لا يكون مفاده التخصيص بالمخاطب ، كأن يقال : « فليفعل كذا » وغير ذلك.

لا يقال : يصحّ أن يكون المراد بالأمر إيجاد المأمور به ولو بفعل غيره في الخارج.

ص: 299

لأنّا نقول : إن اريد بذلك من غير تأويل في نفس الفعل فهو فاسد قطعا ، لامتناع إرادة فعل الغير عن المأمور. وإن اريد به ذلك مع التأويل - كأن يكون المراد التسبيب - فهو مجاز لا ينبغي أن يصار إليه من دون دليل ، على ما صرّح به جماعة في أمثال قوله تعالى : ( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ) (1) وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا الثاني : فلأنّ الفرق المذكور لو تمّ - على ما ستعرف الوجه فيه - فهو من فروع الفرق الأوّل ، وهو اشتراط التعبّدي بالنيّة دون التوصّلي ، وليس بفرق آخر.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه متى ما علمنا بامتياز أحدهما عن الآخر مصداقا فلا إشكال ، فإنّه يجب الإتيان بالتعبّدي على وجه الامتثال ، كأن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل في الخارج هو الأمر ، وهو المراد بالقربة التي قلنا باعتبارها في التعبّدي. ولا يجب الإتيان بالتوصّلي على وجه الامتثال ، فلو أتى بالفعل المأمور به في الخارج لا بداعي الأمر ، بل بواسطة الدواعي الموجودة في نفسه ممّا لا يتعلّق بالأمر ، لم يجز في الأوّل ويجزئ في الثاني.

أمّا الأوّل ، فللإخلال بما هو المقصود من الفعل وعدم وقوعه على وجهه ، فيجب الإتيان به ثانيا على ما هو المطلوب.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض حصول المطلوب من المكلّف في الخارج على وجهه ، فلا بدّ من سقوط الأمر.

نعم ، استحقاق العبد للثواب المترتّب على الفعل - على ما هو المصرّح به في كلام المتكلّمين - إنّما هو فيما إذا أتى بالفعل على وجه الامتثال والقربة ، والكلام ليس في ذلك.

وإذا شكّ في واجب من الواجبات أنّه من الأوّل أو من الثاني ، فهل ظاهر الأمر قاض بأيّهما؟

ص: 300


1- غافر : 36.

ذهب جماعة من أصحابنا - ومنهم بعض الأفاضل (1) - إلى أنّ ظاهر الأمر قاض بالتعبّديّة.

ويظهر من جماعة اخرى أنّ الأمر ظاهر في التوصّليّة (2). ولعلّه الأقرب.

واحتجّوا في ذلك بامور ، أقواها : أنّ العقل قاض بوجوب الامتثال بعد العلم بالأمر ، ولا يتحقّق إلاّ بقصد القربة والإطاعة.

وفيه : أنّه مصادرة محضة ؛ إذ الكلام إنّما هو في وجوب الامتثال ، فإن اريد بالامتثال مجرّد عدم المخالفة والإتيان بالفعل فهو مسلّم ، لكنّه ليس بمفيد. وإن اريد به الإتيان بالفعل على وجه التقرّب - كأن يكون الداعي إلى الفعل نفس الأمر - فهو ممنوع. والقول بأنّ العقل قاض بذلك ليس بسديد ، إذ غاية ما يحكم به العقل بعد العلم بالأمر هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج. فإن استند في ذلك إلى أنّ الإتيان بنفس الفعل في الخارج على تقدير أن يكون الامتثال به مطلوبا للآمر يعدّ من المخالفة التي يحكم بقبحها العقل - على ما عرفت - نقول : نعم ، ولكن الكلام بعد في اعتبار الامتثال في المأمور به ، وليس المستفاد من الأمر إلاّ مطلوبيّة الفعل فقط ، فلا مخالفة على تقدير الإتيان به ، كما لا يخفى. مع أنّ الاستدلال المذكور خارج عمّا نحن بصدده ، إذ الكلام إنّما هو في أنّ الأمر ظاهر في الوجوب التعبّدي أو التوصّلي. والوجه المذكور ممّا لا مساس له به على ما هو غير خفيّ.

ص: 301


1- مثل العلاّمة في مبادئ الوصول : 114 ، وكاشف الغطاء في كشف الغطاء 1 : 163.
2- منهم : الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 1 : 679 - 683 ، وصاحب الفصول في الفصول : 69 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 153 ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 132.

واحتج بعض موافقينا (1) على التوصّليّة : بأنّ إطلاق الأمر قاض بالتوصّليّة ، إذ الشكّ إنّما هو في تقييد الأمر ، والإطلاق يدفعه. نعم ، لو كان الدليل الدالّ على الوجوب إجماعا أو نحوه من الأدلّة اللبّية لا وجه للاستناد إلى الإطلاق ، فيكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرّر في محلّه من الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة (2) ، فإن قلنا بالاشتغال لا بدّ من القول بالتعبّديّة وإلاّ فلا.

وهو أيضا ليس في محلّه ؛ إذ الاستناد إلى إطلاق الأمر في دفع مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد ممّا لا يتحقّق إلاّ بعد الأمر.

توضيحه : أنّ الإطلاق إنّما ينهض دليلا فيما إذا كان القيد ممّا يصحّ أن يكون قيدا له ، كما إذا قيل : « أكرم إنسانا » أو « أعتق رقبة » فإنّه يصحّ أن يكون المطلق في المثالين مقيّدا بالإيمان والكفر والسواد والبياض ونحوها من أنواع القيود التي لا مدخل للأمر فيها. وأمّا إذا كان القيد من القيود التي لا تتحقّق إلاّ بعد اعتبار الأمر في المطلق فلا يصحّ الاستناد إلى إطلاق اللفظ في دفع الشكّ في مثل التقييد المذكور ، وما نحن بصدده من قبيل الثاني.

فلا بدّ لنا في المقام من بيان أمرين : أحدهما يتكفّل بيان الصغرى ، والآخر بيان الكبرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ القربة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على وجه يكون الداعي إليه هو الأمر ، فهذه من الاعتبارات اللاحقة للفعل بعد ملاحظة كونه مأمورا به ، وأمّا قبل أن يعقل الفعل مأمورا به لا وجه لأن يلاحظ مقيّدا بالقربة أو مطلقا ، كما يصحّ أن يلاحظ مقيّدا بوقوعه في زمان كذا أو مكان كذا أو عن آلة كذا ونحوها وأن يلاحظ مطلقا. ولعلّ ذلك ظاهر لمن له أدنى فطانة ولطافة قريحة.

ص: 302


1- مثل صاحب الفصول في الفصول : 69 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 153.
2- راجع فرائد الاصول 2 : 400 - 402.

وأمّا الثاني : وهو أنّه إذا كان القيد من القيود التي يعتور على المطلق بعد لحوق الأمر له لا يصحّ دفعه عند الشكّ بالإطلاق ، فلأنّ المراد به إمّا الإطلاق المعتبر في المادّة ، أو الإطلاق المتوهّم في الهيئة. ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فبعد ما عرفت من معنى القربة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، لأنّ المفروض أنّها ليست من قيوده مع قطع النظر عن الأمر ، فالقول بارتفاع الشكّ في التقييد المذكور بالاستناد إلى إطلاق المادّة في نفسها مع عدم ملاحظة الأمر فيها يستلزم التناقض : من اعتبار الأمر ليصحّ اعتبار القيد فيها ، ومن عدمه كما هو المفروض. ومن هنا قلنا في بعض المباحث المتقدّمة بأنّ الطالب لو حاول طلب شيء على وجه الامتثال لا بدّ له من أن يحتال في ذلك ، بأن يأمر بالفعل المقصود إتيانه على وجه القربة أوّلا ، ثم ينبّه على أنّ المقصود هو الامتثال بالأمر. ولا يجوز أن يكون الكلام الملقى لإفادة نفس المطلوبيّة مفيدا للوجه المذكور.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّه لا معنى لإطلاق الهيئة ، إذ مفادها ممّا لا يتصوّر فيه الاختلاف. وذلك ظاهر.

لا يقال : إنّ التمسّك بإطلاق المادّة في محلّه ؛ إذ يصحّ أن يقيّد الفعل بعدم الدواعي المنتقشة في النفس باعتبار قواها الشهوانيّة وغيرها ممّا لا يرجع إلى الأمر ، وحيث إنّ المفروض استحالة صدور الفعل الاختياري من الفاعل من دون ما يدعوه إلى الفعل ، فلا مناص للمكلّف إلاّ إتيانه بداعي الأمر ، ففيما إذا شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة يمكن الأخذ بإطلاق الفعل المحتمل تقيّده بعدم الدواعي النفسانيّة ؛ لأنّا نقول ذلك وهم فاسد ، إذ لا فرق فيما يمتنع تقييده بشيء بين أن يكون القيد هو ذلك الشيء أو عدم أضداده على وجه يفضي بالأخرة إليه ، وعلى تقدير عدم الإفضاء لا يجدي شيئا ، إذ لعلّه يكتفى بغيره ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فالفعل الملحوظ فيه لحوق الأمر موضوع للامتثال ، ولا يعقل اعتبار شيء في نفس الفعل فيما إذا كان عروضه عليه بواسطة الأمر المتأخّر عنه رتبة.

ص: 303

ومن ذلك يعرف أنّ التفصيل بين ما إذا كان الكاشف عن الطلب هو اللفظ وما إذا كان الطلب مدلولا عليه بوجه من الوجوه اللبّية ممّا لا وجه له ؛ إذ الدالّ على التقييد المذكور على تقدير وجوده ممّا لا يفرق فيه الأدلّة اللفظيّة واللبّية على نحو اختلاف فيهما ، كما لا يخفى. وعلى تقدير عدمه فلا فرق بينهما أيضا.

فالحقّ الحقيق بالتصديق هو : أنّ ظاهر الأمر يقتضي التوصّليّة ، إذ ليس المستفاد من الأمر إلاّ تعلّق الطلب - الذي هو مدلول الهيئة للفعل - على ما هو مدلول المادّة ، وبعد إيجاد المكلّف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب ، لامتناع طلب الحاصل. وذلك في الأدلّة اللفظيّة ظاهر.

وأمّا فيما إذا كان الدليل هو الإجماع ، ففيه أيضا يقتصر على ما هو المعلوم استكشافه منه ، والمفروض أنّه ليس إلاّ مطلوبيّة الفعل فقط ، وبعد حصوله لا بدّ من سقوطه.

وأمّا الشكّ في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنّه لا يعقل أن يكون مفادا بالكاشف عن الطلب لا بدّ له من بيان زائد على بيان نفس الطلب ، والأصل عدمه. واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان - كما هو المحرّر في أصالة البراءة - من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظيّة أو غيرها ، ومن غير ابتناء له - على ما قرّر في محلّه من الخلاف المشهور بينهم في البراءة والاشتغال عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة (1) - إذ لا ينبغي للقائل بالاشتغال فيما إذا كان المكلّف به مجملا - كالصلاة على الصحيح مع الشكّ في اعتبار شيء فيه - القول به فيما إذا كان المطلوب أمرا معلوما مع الشك في اعتبار أمر آخر فيه ، كما فيما نحن فيه.

فظهر فساد ما قرّره المستدلّ : من أنّه على تقدير أن يكون الدليل لبّيا يكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرّر.

ص: 304


1- راجع فرائد الاصول 2 : 400 - 402.

نعم ، قد يمكن القول بالاشتغال فيما يكون الشكّ في كيفيّة الامتثال بعد معلوميّة وجوب نفس الامتثال من الشرع ، لأنّ الكيفيّات المتعلّقة بالامتثال من الامور التي وكلها الشارع إلى العقل ولا يحتاج إلى بيان منه في ذلك ، فلا قبح في العقاب عليه بعد إمكان الاحتياط.

كما أنّه يمكن القول بالاشتغال فيما إذا لم يكن الامتثال معلوما أيضا ، نظرا إلى أنّ الشكّ في المكلّف به ، حيث إنّ المقصود في الواقع هو أمر واحد وإن احتاج بيانه على تقدير التعبّدية إلى أمر زائد على بيان نفس مطلوبيّة الفعل ظاهرا ، كما لا يخفى ، فتأمّل.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من احتياج التعبّد إلى بيان زائد غير ما دلّ على الطلب لا يلازم أن يكون للفعل ثوابان : أحدهما لنفس الفعل وثانيهما للامتثال ، لتعدّد الأمر الملحوظ فيهما ، كما توهّمه بعض من لا درية (1) له ، لما عرفت من أنّ المقصود حقيقة واحدة ، فلا يعقل تعدّد الثواب والعقاب. واللّه وليّ التوفيق والهداية.

ص: 305


1- في ط : دراية. ولعلّ الأصل : من لا دربة له.

ص: 306

هداية

بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الأوامر قاض (1) بالتوصّليّة ، فهل هناك ما يقضي بخلافه من الأدلّة الخارجة عن مقتضى الأمر؟ قيل : نعم (2).

والتحقيق : أنّه لا دليل على ذلك.

ويمكن الاحتجاج للأوّل بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (3).

ونسبه بعض الأجلّة (4) إلى العلاّمة. والموجود من كلامه في المنتهى (5) يخالف ذلك ، حيث إنّ المطلوب في المقام هو إثبات الأصل في الأوامر ، وما رام به العلاّمة فيه إثبات اشتراط العبادة بنيّة القربة قبالا لأبي حنيفة حيث زعم عدم اشتراط الوضوء بالقربة (6). والظاهر أنّه تبع في ذلك المحقّق في المعتبر ، حيث أفاد في بحث الوضوء : ويشترط استحضار نيّة القربة ، لقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ولا يتحقّق الإخلاص إلاّ مع قصد القربة (7).

ص: 307


1- في ط : ظواهر الأوامر قاضية.
2- راجع مبادئ الوصول : 114 ، ومفاتيح الاصول : 132.
3- البيّنة : 5.
4- وهو صاحب الفصول في الفصول : 69.
5- راجع منتهى المطلب 2 : 7 - 10.
6- راجع المجموع 1 : 355 وبداية المجتهد 1 : 8.
7- المعتبر 1 : 138 - 139.

وكيف كان فالاستدلال بالآية على وجه ينطبق على المدّعى في المقام بأحد وجهين :

أحدهما : أنّه تبارك وتعالى حصر المأمور به لأهل الكتاب في العبادة ، ولا يتحقّق العبادة إلاّ بقصد الامتثال ، فيجب عليهم الامتثال وينسحب هذا الحكم في شريعتنا أيضا ، لما قرّر من جواز استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع الماضية (1). وإن أبيت عن ذلك فيدلّ عليه قوله : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (2) أي المستقرّة الثابتة التي لا ينالها (3) النسخ.

وثانيهما : أنّهم قد امروا بالإخلاص في الدين ، وهو عبارة عن مجموع الأعمال والعقائد الشرعيّة ، والإخلاص بها لا يتمّ إلاّ عند قصد الامتثال ، ويتمّ في حقّنا بالوجهين.

والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل ، فبأنّه إن اريد من حصر المأمور به في العبادة أنّ التعبّد بالأوامر الواردة في الإنجيل والتوراة تنحصر غاياتها بالتعبّد ، على أن يكون كلمة « اللام » للغاية - كما يظهر من استدلال بعض أصحابنا بالآية في قبال الأشعري القائل بالجزاف في أفعاله تعالى - فهو فاسد جدّا ، لأنّ المنساق من الآية أنّها ليست للغاية ، بل من المعلوم بواسطة ملاحظة نظائره في الآيات القرآنيّة أنّها لام الإرادة (4) الداخلة على المراد (5) ، كما في قوله : ( وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (6)

ص: 308


1- فرائد الاصول 3 : 225.
2- في النسخ و( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) والصواب ما أثبتناه ، وإن ورد في سورة يوسف الآية 40 (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) لأنّ الكلام في آية سورة البيّنة.
3- في ( ع ) و ( م ) : المستقرّ الثابت الّذي لا يناله.
4- في ط زيادة : والأمر.
5- في ط زيادة : والمأمور به.
6- الأنعام : 71.

و ( أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) (1) و ( أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (2) و ( يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (3) فمدخول اللام هذه يكون مفعولا به - على ما صرّح به بعضهم (4) - حتّى أنّ المصرّح به في كلام ابن هشام (5) - على ما حكي - : أنّ القائل بعدم التقوية في مثل هذه إنّما زعم ذلك لعدم قصور الفعل وعدم الحاجة إلى التقوية ، فالمفعول به عنده مقدّر ، لكنّه لا يخالف المذكور ، بل يكون من جنسه. فالتقدير في آية التطهير : يريد اللّه الإذهاب ليذهب.

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في أن اللام هذه ليست للغاية ، لما عرفت. مضافا إلى عدم استقامة العطف في قوله تعالى : ( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) (6) فإنّهما معطوفان على قوله : ( لِيَعْبُدُوا ) وقضيّة ذلك تكرار العامل كما يؤذن به حذف النون (7) منهما أيضا ، مع أنّهما ليسا غايتين بل هما مأمور بهما. وذلك ظاهر.

ومع التنزّل فلا دلالة في الآية على المطلوب ، لاحتمال أن يكون الأوامر المتعلّقة بهم لطفا في التعبّد ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (8) فتكون العبادة والتذلّل من الغايات المترتّبة على الأوامر ، سواء كانت تعبّدية أو توصّليّة.

ص: 309


1- الأنعام : 14.
2- الشورى : 15.
3- الأحزاب : 33.
4- راجع مغني اللبيب 1 : 285.
5- لم نعثر عليه.
6- البيّنة : 5.
7- في ( ع ) و ( م ) : حذف المفعول.
8- العنكبوت : 45.

وإن اريد (1) من حصر المأمور به في العبادة أنّ العبادة هي المأمور بها فقط على وجه لا يكون غيرها مأمورا به كأن يكون اللام للصلة والتقوية - كما هو الظاهر - ففيه : أنّ المراد بالعبادة على وجه الإخلاص ليس إلاّ التوحيد ، كما فسّرت بذلك في لسان بعض أهل التفسير ، فعن الطبرسي أنّه قال بعد قوله : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ... : ) أي لم يأمرهم اللّه تعالى إلاّ لأن يعبدوا اللّه وحده لا يشركون بعبادته ، فهو ممّا لا يختلف فيه ملّة ولا يقع فيه التبدّل (2).

قلت : ولعلّه يشير بذلك إلى تفسير قوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. )

وعنه أيضا بعد قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لا يخلطون بعبادته عبادة ما سواه (3).

وعن الصافي بعد ذكر الآية : أي لا يشركون به (4).

ويساعد ذلك ورودها في مقابلة المشركين ، ويعاضده نظائرها من الآيات القرآنيّة ، كقوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) (5) وقوله تعالى : ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) (6)(7) وقوله عزّ من قائل : ( قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي* فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ ) (8) فإنّ ملاحظة مساقها يكفي عن الاستدلال في إرادة التوحيد منها.

وكيف كان ، فالآية مفادها نفي الشرك ، فهي مشتملة على أمّ المسائل الإلهية

ص: 310


1- عطف على قوله : « فبأنّه إن اريد من حصر المأمور به » في الصفحة ...
2- مجمع البيان 5 : 523.
3- مجمع البيان 5 : 523.
4- تفسير الصافي 5 : 354.
5- الزمر : 2.
6- الزمر : 3.
7- لم ترد « وقوله تعالى : أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ » في ( ط ).
8- الزمر : 14 و 15.

والأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، وهي الصلاة والزكاة ، على حسب ما يقتضيه المقام. كما أنّه جمع بين التوحيد وحقوق الوالدين في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) (1).

وبالجملة ، فالمنصف لا مجال له من تسليم ذلك ؛ إذ العبادة ليست على ما اصطلح عليها الفقهاء بحسب اللغة ، فإنّ المراد بها لغة هو : التذلّل والانقياد ، ويعبّر عنه بالفارسيّة ب- « پرستش وبندگى كردن ، وستودن وستايش كردن » ونحو ذلك ممّا لا مدخل لها بالأفعال التي اصطلح عليها الفقهاء. ولعلّ ذلك ظاهر لا ينبغي الإطالة فيه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثاني (2) ، فبأنّ « الدين » له احتمالات وإطلاقات.

فتارة : يكون المراد به ما عرفت من معنى العبادة ، كما يظهر من الآيات السابقة.

واخرى : يكون المراد به الطاعة ، كما قيل في قوله تعالى : ( وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ ) (3) أي لا يطيعون طاعة الحق (4).

ومرّة : يكون المراد به الجزاء ، كما في قوله تعالى : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (5).

وتارة : يكون المراد به الإسلام ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ ) (6).

ص: 311


1- الإسراء : 23.
2- عطف على قوله : « والجواب أمّا عن الوجه الأوّل » في الصفحة ...
3- التوبة : 29.
4- حكاه في مجمع البيان ( 3 : 22 ) عن أبي عبيدة.
5- الفاتحة : 4.
6- آل عمران : 19.

وقيل : إنّه وضع إلهيّ لاولي الألباب يتناول الاصول والفروع (1).

لا إشكال في أنّ المراد به في الآية ليس هو الجزاء ، لعدم تعقّله فيها على ما هو ظاهر ، والكلّ محتمل ، وعلى التقادير لا يتمّ التقريب ، إذ الاستدلال موقوف على أن يكون المراد ب- « الدين » خصوص الأعمال الفرعيّة المأمور بها في الشريعة. ولا دليل على أنّ المراد به في المقام هو خصوص ذلك مع كونه معنى مجازيّا غير ظاهر من مساق الاستعمال.

لا يقال : يتمّ التقريب على تقدير إرادة المعنى الأعمّ من الأعمال الفرعيّة والعقائد الأصليّة ، كما هو أحد الوجوه المحتملة فيما سبق.

لأنّا نقول : ذلك يتمّ على تقدير أن يكون المراد بالإخلاص هو قصد التقرّب ، وهو غير معقول في العقائد.

فإن قلت : لعلّ المراد ب- « الدين » هو الأعمال التي يجزى بها ، تسمية للسبب باسم المسبّب.

قلت : بعد كونه مجازا لا يصار إليه إلاّ بعد دلالة ، لا يجديك شيئا ؛ إذ يكون محصّل مفاد الآية على ذلك التقدير : وما امروا إلاّ بالعبادة والانقياد حال كونهم قاصدين للتقرّب بالأعمال التي يجزى بها ، فيكون قصد القربة معتبرا فيما يترتّب عليه الجزاء. وظاهر أنّ استحقاق الثواب مشروط بالامتثال ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم. والكلام في اشتراط سقوط التكليف بالقصد ، وأين أحدهما من الآخر؟ لجواز سقوط التكليف مع عدم ترتّب الثواب والجزاء.

والإنصاف : أنّ الظاهر من « الدين » هو العبادة التي يرادف الانقياد ، والإخلاص فيه عبارة عن عدم اختلاطه بالانقياد لغير وجهه الكريم ، فيكون المراد

ص: 312


1- لم نعثر عليه.

به أنّهم مأمورون بالانقياد والتذلّل حال كونهم مخلصين له التعبّد والانقياد من غير اختلاطه بانقياد غيره ، كما ينظر إلى ذلك التفاسير المنقولة والآيات المشابهة لها في المساق ، على ما عرفت.

ولو تنزّلنا وأغمضنا عن ذلك كلّه ، فيجب حمل الآية على الاستحباب ، إذ على تقدير إرادة وجوب نيّة القربة يلزم تخصيص مستبشع لا يمكن التزامه ، إذ الأغلب في الأوامر الواردة في شريعتنا أنّها واجبات توصّليّة. ولعلّ ذلك ممّا لا يقبل الإنكار.

الثاني : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1).

وجه الدلالة : أنّ الإطاعة ممّا قد امر بها في هذه الآية ، ولا تصدق إلاّ بقصد الامتثال ، فيجب ذلك في الأوامر نظرا إلى وجوب الإطاعة. فتكون هذه الآية حاكمة على ظواهر الأوامر الواردة في المقامات الخاصّة ، نظير ورود قوله تعالى : ( وَسارِعُوا ) (2) على الأوامر الخاصّة على القول بدلالتها على الفور.

والجواب عنه : أنّ الإطاعة تارة تطلق ويراد بها ما لا يصدق بدون قصد الامتثال على ما هو مناط الاستدلال ، وتارة يطلق ويراد بها مجرّد عدم المعصية.

وليس يجوز أن يكون المراد بها في المقام هو الأوّل ، إذ على تقديره يلزم أن يكون إطاعة الرسول واجبة أيضا بمعنى قصد التقرّب إليه تعالى ، مع أنّ الإجماع قائم بعدم وجوب إطاعة الرسول بهذا المعنى ، إذ لم يقل بوجوب قصد التقرّب إليه تعالى أحد من العلماء ، ولا يكفي في ذلك أنّ إطاعة اللّه بعينها هي إطاعة الرسول ، إذ الظاهر من تكرار الأمر في الآية تكرار المأمور به ، ولذلك أوردنا في الاستدلال هذه الآية ، مع أنّه يمكن الاستدلال بآية لم يكرّر فيها الإطاعة ، فتدبّر.

ص: 313


1- النساء : 59.
2- آل عمران : 133.

سلّمنا ولكنّه تخصيص للأكثر على وجه لا يكاد يلتزم به المنصف ، فلا بدّ من أن يحمل على المعنى الثاني ، كما يشعر بذلك ورودها بهذا المعنى في كثير من الموارد في القرآن الكريم وغيره ، كما في الأمر بإطاعة الوالدين (1) ، إذ ليس المراد بها فيه إلاّ مجرّد عدم المخالفة. وكما في قوله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (2) فإنّ مقابلة التولّي بالإطاعة من أقوى الشواهد على أنّ المراد بها في الآية عدم المخالفة ، وقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) (3) ، وقوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) (4) ، وفي الزيارات : « من أطاعكم فقد أطاع اللّه ومن عصاكم فقد عصى اللّه » (5) فإنّ مقابلة العصيان - كمقابلة التولّي - يؤذن بالمراد منها.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّ المراد بالإطاعة هو عدم المعصية ، ليس على وجه المجازيّة ، لما ستعرف : من أنّه قد يمكن أن يكون المقصود أعمّ من مدلول اللفظ بحسب الظاهر ، على وجه لا سبيل إلى التأدية عن ذلك المعنى المقصود الأعمّ إلاّ على الوجه الغير المفيد لخصوص المراد ، على خلاف الواجبات التعبّديّة ، فإنّ المقصود منها التعبّد بها ، مع أنّه لا يمكن أن يكون المفاد للأمر الدالّ عليه.

وبالجملة ، فالمقصود بهذه الأوامر ليس إلاّ مجرّد عدم الترك ، إلاّ أنّ اللفظ المفيد لذلك المعنى يفيد معنى آخر ليس مرادا. وإن أبيت عن ذلك فالمجاز ممّا يجب

ص: 314


1- الإسراء : 23 - 24.
2- النساء : 80.
3- النور : 54.
4- آل عمران : 32.
5- كما في الزيارة الجامعة ، انظر الفقيه 2 : 617.

أن يصار إليه إذا دلّ عليه الدليل كما عرفت ذلك. ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا : بأنّ المراد من الإطاعة معناها الحقيقي ، فلا نسلّم أنّها حاكمة على الأدلّة الخاصّة ؛ إذ لعلّها واجبة في حدّ ذاتها من غير أن يكون مناطا لأمر آخر ، فالامتثال واجب مستقلّ وفعل الصلاة واجب آخر ، ويمكن سقوط الأمر الأوّل مع عدم سقوط الأمر الثاني بمعنى حصول المكلّف به فيها ، إذ الأمر الأوّل موضوع للإطاعة - على ما عرفت - فيكون سقوط الأمر الأوّل رافعا للعقاب المترتّب على مخالفته وإن كان موجبا للعقاب المترتّب على العصيان بواسطة الأمر بالإطاعة.

إلاّ أنّ ذلك خلاف الإنصاف ، إذ الالتزام بمثل ذلك لعلّه خلاف الإجماع ، فإنّ سقوط الواجب لو كان موجبا لعدم ترتّب العقاب المترتّب على تركه ، لا يعقل أن يكون موجبا للعقاب المترتّب على ترك الإطاعة بواسطة ارتفاع موضوعه كما لا يخفى. فتدبّر في المقام جدّا.

الثالث : قوله عليه السلام : « لا عمل إلاّ بنيّة » (1) ونظيره قوله عليه السلام : « إنّما الأعمال بالنيّات » (2) وقوله عليه السلام : « لا قول إلاّ بالعمل ، ولا عمل إلاّ بالنيّة ، ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة » (3) وقوله عليه السلام : « لكلّ امرئ ما نوى » (4).

وجه الدلالة : أنّ العمل عبارة عن مطلق الأفعال التي يتعلّق بها الأمر والطلب من الامور الواجبة ، والنيّة عبارة عن قصد القربة ، ونفي العمل بدون النيّة يوجب الكذب ، فلا بدّ من حمله على نفي الأثر كما في روادفه ، كقوله : « لا صلاة

ص: 315


1- الوسائل 1 : 33 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 1 - 3.
2- المصدر المتقدم : 35 ، الحديث 10.
3- المصدر المتقدم : 33 ، الحديث 2.
4- المصدر المتقدم : 35 ، الحديث 10.

إلاّ بطهور » (1) فالمعنى : أنّه لا يترتّب على واجب من الواجبات أثر من الآثار المطلوبة منها - من سقوط الأمر وفراغ الذمّة واستحقاق الثواب - إلاّ بقصد القربة. وهو المطلوب.

والجواب عنه : أوّلا : منع كون المراد من العمل مطلق الأفعال الواجبة ، بل الظاهر بملاحظة ورود لفظ « العمل » في مقامات عديدة نظائر (2) المقام : أنّ المراد بالعمل خصوص العبادات ، كما في قوله : « والعالمون كلّهم هالكون إلاّ العاملون » (3) وفي قوله : « لا عمل لي أستحقّ به الجنّة » (4) وإن أبيت عن ذلك فلا بدّ من حمله على ظاهره لغة ، وهو مطلق الأفعال من دون اختصاص له بالواجبات ، ولازمه عدم ترتيب الأثر على كلّ فعل ولو كان من الأفعال المحرّمة إلاّ بنيّة القربة. وفساده غنيّ عن البيّنة.

وثانيا : نمنع كون المراد بالنيّة هو قصد القربة ، إذ المقصود من لفظ « النيّة » عرفا ولغة ليس إلاّ مجرّد القصد إلى الفعل ، ولا دليل على أنّ المراد بها في المقام هو قصد القربة. غاية ما في الباب دلالته حينئذ على اعتبار قصد العنوان في العمل ، فما لم يتحقّق قصد الفاعل إلى عنوان الفعل والعمل لا يتحقّق عمل منه ولا فعل.

ومع ذلك فليس يجوز حمله على هذا المعنى أيضا ، ضرورة وجود ذات العمل مع عدم القصد إلى عنوان الفعل ، فلا يصحّ رجوع النفي إلى الذات ،

ص: 316


1- المصدر المتقدم : 256 ، الباب 6 من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.
2- في ( ع ) و ( ط ) : تناظر.
3- تنبيه الخواطر 2 : 437 مع تفاوت يسير.
4- لم نعثر عليه.

فلا بدّ أن يحمل العمل على الأفعال الاختياريّة من حيث إنّها اختياريّة ، فيكون المراد : ليس الفعل الاختياري موجودا ما لم يكن مقصودا.

ومع ذلك ، فلا يجوز حمله على هذا المعنى أيضا ، ضرورة وجود الفعل الاختياري من غير قصد إلى عنوان الفعل إذا كان له عناوين متعدّدة مع تعلّق القصد بأحدها ، فإنّه يكفي في وقوع الفعل اختيارا أن يكون أحد عناوينه مقصودا للفاعل.

نعم ، لا يكون اختياريّا باعتبار عنوانه الغير الملتفت إليه ، كما هو ظاهر. فلا بدّ من أن تحمل الرواية على أنّ الفعل الاختياري بعنوانه الاختياري غير واقع إلاّ بالقصد إلى ذلك العنوان. هذا ما تقتضيه قواعد اللغة.

وأمّا ما يمكن استظهاره من الرواية فهو ما عرفت من أنّ المراد بها خصوص الأفعال العباديّة ، ويدلّ على اعتبار القربة فيها ، فلا دلالة فيها على المطلوب بوجه. على أنّه لو حمل على ما زعم يلزم تخصيص بشيع (1) لا يكاد يلتزم به من له مسكة ، فالأمر دائر بين التصرّف في الرواية بأحد الوجوه المذكورة.

ونحن لو لم ندّع ظهور الاحتمال الأخير لا نسلّم ظهورها في غيره ، فلا وجه للاستدلال ؛ لمكان الإجمال.

وأمّا قوله : « إنّما الأعمال بالنيّات » فقد ادّعي تواتره لفظا (2). إلاّ أنّ بعض أصحابنا (3) - على ما حكاه الاستاذ - قال باتّصال إسناده إلى الخليفة الثاني. وكيف كان ، فهو بمنزلة أن يقال : « كلّ عمل بالنيّة » وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : « كلّ ما ليس متلبّسا بالنيّة ليس بعمل » فيكون مفادها مفاد الرواية السابقة في الاحتمالات المتصوّرة. وعلى قياسه الرواية الاخرى.

ص: 317


1- في ( ع ) و ( م ) : شنيع.
2- كشف الغطاء 4 : 23.
3- وهو المحقّق في المعتبر 1 : 390 ، وراجع السنن الكبرى للبيهقي 1 : 215.

وأمّا قوله : « لكلّ امرئ ما نوى » فمن الظاهر عدم انتهاضه بشيء من المقصود ، فلا وجه للاستناد إليه.

فالتحقيق أنّ مقتضى الأوامر الخاصّة - على ما عرفت - لا يزيد على التوصّليّة ، والأدلّة المذكورة لا تنهض حجّة على إثبات الأصل الثانوي ، فعند الشكّ لا بدّ من الأخذ بمقتضى أصالة البراءة أو أصالة العدم ، على ما نبّهنا عليه في الهداية (1).

ص: 318


1- لم ترد عبارة « على ما نبّهنا عليه في الهداية » في ( ع ) ، وفي ( م ) ورد بدله : واللّه الهادي.

هداية

اشارة

بعد ما عرفت من أنّه لا دليل على لزوم قصد القربة في الأوامر ، فهل هناك ما يدلّ على اعتبار قصد العنوان في المأمور به ، أم لا؟ وجهان ، بل قولان ، فذهب جماعة إلى الأوّل (1). والحق هو الثاني.

وقبل الدخول في الاستدلال ينبغي أن يعلم أنّه لا إشكال في أنّ الفعل إذا لم يصحّ استناده إلى المكلّف بوجه من الوجوه ليس مجزيا في الأمر ، مثل ما إذا فرض الإكراه والإجبار في صدور الفعل ، دون ما إذا حصل له الداعي إكراها ، للفرق الظاهر بين الوجهين ؛ وذلك لأنّ المنساق من الفعل المأمور به هو ما يكون مستندا إلى المكلّف ، إمّا بدعوى أنّ لفظ « الفعل » حقيقة فيما يصحّ انتسابه إليه وإن كان بعيدا عن التحقيق ، لما قرّر في مقامه من تقسيم الفعل إلى الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الفاعل المختار وغيرها ممّا يصدر عن الفاعل الموجب ؛ مضافا إلى أنّ لفظ « الفعل » ممّا لا يجدي كونه حقيقة ، إذ ليس المأمور به عنوان الفعل بل مصاديقه كالضرب ونحوه ، فلا بدّ من التكلّم فيها. وإمّا بواسطة أنّ الضرب المأمور به منصرف عرفا إلى ضرب يصحّ استناده إلى الضارب ، فلو أمر المولى عبده بالضرب مثلا وأخذ يده واحد من غلمانه وأوقعها على واحد لم يكن العبد ممتثلا. ولعلّ ذلك مفروغ عنه عندهم.

ويلحق بذلك ما إذا صحّ استناده إليه ولكن لم يكن الفعل واقعا على شعور ،

ص: 319


1- كالعلاّمة في مبادئ الوصول : 114 ، ولم نعثر على غيره.

كما إذا وقع منه نائما. ولا ينافيه أدلّة الضمانات ، إذ الفعل لا يصحّ سلبه عنه حينئذ ، وهو كاف في تصحيح الضمان. إلاّ أنّ الواقع في تلو الأوامر التكليفيّة لعلّه ينصرف إلى ما هو مقصود (1) له ولو بوجه ، فلو وقع من غير أن يكون مشعورا به لا يبعد دعوى عدم الإجزاء فيه وإن لم يكن في الظهور بمرتبة القسم الأوّل ، كما لا يخفى.

ولا إشكال أيضا في لزوم القصد إذا كان الفعل ممّا لا يقع إلاّ بالالتفات إليه.

وتحقيق ذلك : أنّ الفعل ذاته عبارة عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق مثلا ، وتحقّق تلك الذات لا يتوقّف على قصد ، إلاّ أنّ لذلك الفعل وجوها واعتبارات ، يلحقها بعضها من غير أن يكون مقصودا ، ك- « الضرب » فإنّه اسم للحركة المخصوصة وإن لم يقع على وجه الضرب ، ويلحقها بعضها إذا كان ذلك الوجه مقصودا ، فلا يقال للحركة : إنّها تعظيم ، ما لم يكن التعظيم مقصودا. فإذا تعلّق الأمر بمثل هذا العنوان فلا مناص من القصد إليه تحصيلا للموافقة بعد العلم بالاقتضاء. فالفرق بين الضرب وبين التعظيم : أنّ الضرب بدون القصد صادق ، فيمكن القول بالإجزاء ، بخلاف التعظيم. ولعلّ ذلك أيضا ظاهر.

وإنّما الإشكال في عنوان يقع على وجه الاختيار مع وقوع ذات الفعل ولو بعنوان آخر اختياريّا وصدق العنوان الذي لم يقع على وجه الاختيار.

وكيف كان ، فاحتجّ الذاهب إلى اعتبار القصد بوجوه ، أقواها امور :

أحدها : دعوى تبادر الفعل الواقع على وجه (2) الاختيار بعنوانه من الفعل الواقع في تلو الأوامر. فإن اريد منه أنّ الضرب حقيقة في الواقع مقصودا منه فذلك دعوى محالة ، وإن اريد الانصراف وإن كان يمكن ذلك إلاّ أنّه ممنوع أشدّ المنع.

ص: 320


1- في ( ع ) : المقصود.
2- في ( ط ) : جهة.

الثاني : إنّ من الامور المقرّرة في محلّه أنّ الأفعال الاختياريّة لا تقع اختيارية إلاّ بالقصد إليها ، وهي محالّ التكاليف الشرعيّة ؛ إذ الأفعال الاضطرارية خارجة عن مقدور المكلّف ، ويمتنع تعلّق التكليف بالأفعال الغير المقدورة ، فيجب أن يكون متعلّق التكليف هي العناوين المقصودة ، وهو المطلوب (1).

الثالث : ما نهجه بعض الأفاضل في مناهجه ، وهو : أنّه لا بدّ من (2) نسبة العمل إلى شيء من كونه مؤثّرا فيه ، وهذا بديهيّ. والتأثير قد يكون مع المباشرة ، وقد يكون بالأمر والبعث كما يقال « قتل السلطان فلانا » ، والأفعال المطلوبة من المكلّف لمّا كانت مطلوبة ممّا هو انسان ، يعني النفس دون البدن ، وتأثيره لا يكون إلاّ بالأمر والبعث للبدن ، وهما لا يتصوّران إلاّ مع القصد والشعور ، فيلزم أن لا يصدر عمل عمّا هو المكلّف حقيقة إلاّ بالقصد (3).

والرابع : قوله : « لا عمل إلاّ بنيّة » على أن يكون المراد من نفي العمل نفي الآثار بالنسبة إلى عنوانه الغير المقصود ، كسقوط التكليف ونحوه.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فقد عرفته.

وأمّا عن الثاني فيحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّ الامور العارضة للمأمور به والقيود اللاحقة له على وجوه :

أحدها : ما يؤخذ فيه قبل لحوق الطلب به ، كتخصيص الضرب بمكان أو زمان أو فاعل أو نحو ذلك ممّا لا يحصى.

وثانيها : ما يلحقه بعد ملاحظة لحوق الطلب به ، كالامتثال على ما عرفته.

وثالثها : ما يعرض فيه بعروض نفس الطلب والأمر.

ص: 321


1- في ( ط ) زيادة : وذلك ظاهر.
2- كذا ، والمناسب : « لا بدّ في ».
3- لم نعثر عليه.

فالقيود التي من قبيل الأوّل لا مجال من اعتبارها في المأمور به ، على ما لا إشكال فيه. والقيود التي تعرضه بعد الأمر أيضا يلحقها حكمها على ما مرّ. وأمّا القيود التي تحدث بنفس الطلب في المأمور به فلا وجه لاعتبارها فيه ، إذ المطلوب إنّما هو الفعل من غير تقييد ، غاية الأمر أنّ الطلب حينما يتعلّق به يحدث فيه قيدا ، ولا دليل على اعتباره.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم : أنّ القدرة المعتبرة في المأمور به تارة تكون معتبرة فيه مع قطع النظر عن قبح تعلّق الطلب بالفعل الغير المقدور ، وتارة تكون بواسطة امتناع تعلّق الطلب بغير المقدور. فإذا كان من القسم الأوّل لا بدّ من القول بعدم الاكتفاء فيما إذا أتى المكلّف بالغير المقدور ، لأنّ الواقع غير مأمور به ، والمأمور به غير واقع. وأمّا إذا كان من القسم الثاني فعلى ما عرفت لا يؤثّر في التقييد بعد إطلاق المادّة.

وبالجملة ، فنحن نقول : إنّ الطالب إذا تصوّر فعلا غير مقيّد بقيد ولاحظ فيه ما يوجب وقوعه من المكلّف على وجه الإطلاق بالنسبة إلى ذلك القيد ، يتعلّق طلبه بذلك الفعل المطلق. وأمّا عدم وفاء نفس الطلب بجميع أفراده لا يؤثّر في دفع الإطلاق ، لأنّه قصور في الطلب لا تقييد في المطلوب.

وبعد ما عرفت - فيما تقدّم - من صدق العناوين التي يقع مأمورا بها على الأفعال الواقعة من جهة من الجهات اختياريّة ، لا ينبغي الإشكال في كفاية كلّ فرد من الأفراد التي ينطبق عليها عنوان المأمور به ، لسقوط التكليف وحصول المأمور به.

فالمستدلّ إن أراد من امتناع تعلّق الطلب بغير المقدور أنّ مقصود الآمر هو الفعل المقيّد بالقدرة فلا سبيل له إلى إثباته ، فهو ممنوع. وإن أراد عدم تعلّق الطلب به بواسطة مضايقة حاصلة في نفس الطلب وقصور موجود فيه فهو مسلّم ، لكنّه لا

ص: 322

يجديه ، إذ قد يكون ما أراد أن يطلبه الطالب أمرا عامّا لا يمكن أن يقع عليه الطلب على عمومه ، كما أنّه يمكن أن يكون أمرا مخصوصا لا يمكن إظهاره أوّلا بنفس الطلب ، كما في الأوامر التعبّديّة على ما عرفت.

فإن قلت : إنّ الفعل لا يكون واجبا إلاّ بالطلب ، والمفروض عدم تعلّقه - ولو بواسطة قصوره - إلى مطلق الفعل الشامل للمقدور ولغير المقدور ، فلا يكون الفعل بعمومه واجبا. وحينئذ لا معنى لسقوط التكليف به ، وإنّ (1) سقوط التكليف بغير الواجب لا بدّ له من دليل ، ولا دليل عليه.

قلت : إنّ سقوط التكليف بغير الواجب فيما إذا كان ذلك بواسطة قصور الطلب بعد معلوميّة أنّ ما أراد أن يطلبه هو الفعل المطلق ، ممّا لا يحتاج إلى دليل ، لحصول المقصود الحقيقي بذلك ، ولا يعقل طلب الحاصل.

فإن قلت : هب أنّ المطلوب مطلق ، ولكنّه يجب الأخذ بمقتضى الطلب وتقييداته.

قلت : ذلك ظاهر الفساد بعد أنّ الوجدان قاض بأنّ المطلوب هو الفعل المطلق فيما إذا كان القيد غير مأخوذ في المطلوب ، ضرورة لزوم اختلاف نسبة الطالب إلى الأفراد ولو (2) كان المطلوب مقيّدا ، والمفروض خلافه لإطلاق المطلوب.

فإن قلت : لو علمنا بأنّ المقصود هو الأعمّ كان الوجه ما ذكر ، ومن أين لك العلم بالمقصود؟

قلنا : يستكشف ذلك من إطلاق المادّة ، حيث إنّ المقصود لو كان أمرا مخصوصا لكان على المتكلّم بيان ذلك.

ص: 323


1- كذا ، والمناسب : فإنّ.
2- في ( ع ) و ( م ) : ولو.

قلت : قد عرفت فيما تقدّم أنّ الإطلاق إنّما يعتبر بواسطة قبح ترك البيان مع ورود الكلام في مقامه. وأمّا إذا كان في المقام ما يصلح لأن يكون بيانا ، فهل ترى صحّة الاستناد إلى الإطلاق؟ حاشا! كما فيما نحن بصدده ، فإنّه لو كان المقصود هو الفعل الخاصّ المقيّد بالقدرة لا ضير في ترك التقييد به ، لجواز الاعتماد على ما يستفاد من نفس الطلب ، إذ المفروض أنّ الطلب - ولو بواسطة قصوره - يمتنع تعلّقه بغير المقدور.

مضافا إلى أنّه يمكن القول بأنّ القدرة مأخوذة في نفس الفعل قبل لحوق الطلب في الأحكام الشرعيّة ، لما تقرّر عند العدليّة من تبعيّة الأحكام الشرعيّة للصفات المحسّنة والمقبّحة ، فما لم يكن الفعل موردا للحسن لا يصير متعلّقا للطلب ولا يكون موردا للحسن إلاّ إذا كان فعلا اختياريّا ، فإنّه مهبط للحسن والقبح اتّفاقا ، ولا يكون فعلا اختياريّا إلاّ إذا كان مقدورا ، ولا يكون مقدورا إلاّ أن يكون مقصودا. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّ الحسن والقبح أيضا يقتضيان الاختياريّة في الأفعال كنفس الطلب.

كذا أفاده الاستاذ بعد ما أوردت عليه ذلك ، إلاّ أنّه بعد في إجمال لا بدّ له من التأمّل ، فتأمّل (1).

وأمّا الجواب عن الثالث : فبأنّه فاسد عن أصله ؛ إذ نسبة النفس إلى الجوارح العمّالة ليست نسبة البعث والأمر ، بل إنّما هي آلات لوقوع أفاعيلها على حسب اختلاف دواعيها ، فالمباشر حقيقة في الأفعال الصادرة عنّا إنّما هو نفوسنا الناطقة بواسطة آلاتها الظاهريّة أو الباطنيّة ، دون الآلات.

أغمضنا عن ذلك ، ولكن يتمّ ما ذكره فيما إذا قيل بأنّ النفس مأمور بالأمر بالجوارح على أن يقع منها الأفعال ، حيث إنّ الأمر لا بدّ له من ملاحظة المأمور به ،

ص: 324


1- العبارة في ( ط ) : ولا بدّ من أن يقع فيه التأمّل.

إذ لولاه لامتنع أمره به ، إذ عند عدم تصوّره لا يجد من نفسه ما يدعوه إلى طلبه ، فلا يقع الطلب من دون تصوّر المطلوب. إلاّ أنّ ذلك بمراحل عن التحقيق ، لإمكان أن يقال على ذلك التقدير : إنّ النفس مأمور بالتسبّب وليس يلزم من التسبّب تصوّر الفعل المأمور به. كذا أفاد الاستاذ.

وفيه نظر ؛ إذ بعد فرض أنّ المباشر هو الآلة دون النفس وأنّ نسبة النفس إليها نسبة التسبّب (1) ، لا يعقل التسبّب (2) مع عدم ملاحظة عنوان المأمور به ، إذ لا فرق بين التسبيب والبعث والأمر ، فإنّ دواعي التسبّب (3) ليس يدعو إلاّ بالتسبيب بالنسبة إلى عنوان المأمور به ، لا مطلق الفعل ولو بعنوان آخر ، فتدبّر.

وأمّا الجواب عن الرابع : فبما مرّ في الهداية السابقة ، ومحصّله : أنّه لا يستفاد من الرواية بعد تعدّد الوجوه المحتملة فيها شيء ، بل لو كان ولا بدّ فيدلّ على اعتبار القصد في الأعمال العباديّة فقط ، ومن البيّن اعتبار القصد إلى العنوان فيها (4).

فالتحقيق في المقام : أنّ الأوامر التي ثبت في الشرع أنّها من العبادات يجب فيها قصد العنوان ، لأنّ الداعي فيها لا بدّ وأن يكون هو الأمر ، وهو لا يدعو إلاّ بالعنوان الذي تعلّق به الطلب ، فلو فرض وجود الفعل في الخارج من غير أن يكون عنوان المأمور به مقصودا لا يعقل أن يكون هو الداعي إلى إيجاده ، فلا يتحقّق القربة ، والمفروض وجوبها. وهذا هو السرّ في عدم صدق الامتثال عرفا عند عدم القصد. وأمّا ما لم يثبت كونها من العبادات فلا يجب فيها قصد القربة على ما عرفت ، ولا قصد العنوان ؛ لعدم دليل يدلّ على ذلك.

نعم ، لو اريد الامتثال بالأوامر التوصّلية يجب قصد العنوان ، لتوقّف قصد القربة عليه. ولعلّه ظاهر.

ص: 325


1- في ( ع ) : التسبيب.
2- في ( ع ) : التسبيب.
3- في ( ع ) : التسبيب.
4- في ( ط ) زيادة : « وذلك ظاهر ».

تذنيب :

قد قرع سمعك فيما تقدّم (1) : أنّ بعض المعاصرين تخيّل جواز اجتماع الحرام مع الواجب التوصّلي (2) ، وبذلك توهّم امتيازه عن التعبّدي ، وقد نبّهنا فيما تقدم أنّ ذلك على تقدير صحّته ليس فرقا جديدا ، بل ويتفرّع على اعتبار قصد القربة. ونزيدك في المقام بما هو التحقيق عندنا في ذلك ، فإنّ ذلك كان منّا على سبيل التنزّل ومعارضة الباطل بمثله.

فنقول : لا ريب في عدم حصول الامتثال في الواجب التعبّدي بالإتيان بالفرد المحرّم ؛ إذ مع كونه حراما لا يعقل توجّه الأمر إليه ، ومع عدم الأمر يمتنع أن يكون الداعي في الإتيان هو الأمر. وأمّا الواجب التوصّلي فلا إشكال أيضا في عدم حصول الامتثال به إذا اريد الإتيان على ذلك الوجه ، وهل هو مسقط للتكليف لارتفاع موضوع الواجب إذا أوجده المكلّف في الفرد المحرّم أو أنّه الواجب حقيقة وإن لم يكن على وجه الامتثال؟ وجهان ، ظاهر المتوهّم المذكور هو الثاني.

والتحقيق هو الأوّل ؛ إذ لا وجه لإرادة الفرد المحرّم بالأمر الدالّ (3) على الوجوب ، لأدائه إلى اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد ، وستعرف في محلّه بطلانه.

نعم ، يصحّ ذلك على القول بجوازه. وحينئذ لا يفرق بين التعبّدي والتوصّلي ، فإنّ القائل بالجواز يدّعي حصول الامتثال في التعبّديات أيضا. وبالجملة ، فعلى القول بالامتناع لا وجه للفرق بين أقسام الطلب على أيّ وجه يفرض ، كما ستقف عليه.

ص: 326


1- في ( ع ) و ( م ) : قد عرفت فيما تقدّم أو قرع سمعك.
2- راجع القوانين 1 : 101 و 103.
3- في ط بدل « بالأمر الدالّ » : ممّا دلّ.

فإن قلت : يمكن له القول بأنّ الإتيان بالفرد المحرّم ليس مسقطا بواسطة انتفاء الموضوع ، بل هو الإتيان بالواجب نظرا إلى ما تقدّم من إمكان أن يكون المقصود أعمّ من المطلوب ، فيحتمل أن يكون عدم إرادة الفرد المحرّم بواسطة قصور الطلب مع وجود المصلحة فيه أيضا.

قلت : وذلك وإن كان يبدو في ظاهر النظر ، إلاّ أنّ الواقع خلافه ، فإنّ المتراءى من أوامرنا هو تقييد العنوان أوّلا بغير المحرّم ثمّ يعرضه الطلب ، لا أنّه يخرج الفرد المحرّم بعروض الطلب كما قلنا بذلك هناك. ويظهر الثمرة فيما لو أتى بالفرد المحرّم نسيانا ، كأن صلّى في الدار المغصوبة مع عدم التفاته إلى الغصبيّة والحرمة ، فعلى ما ذكرنا لا يصحّ صلاته فيها ؛ لخروج الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة من عنوان الأمر بالصلاة ، ويصحّ على ما ذكره. ولا اختصاص لذلك بالتوصّلي حينئذ كما لا يخفى ، لجريانه في غيره أيضا.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ الامور الراجعة إلى تصرّف الآمر على وجه لو لم نقل بذلك التصرّف يلزم نسبة القبح إليه - كإرادة الفرد المحرّم من المأمور به - معتبرة في المأمور به مع قطع النظر عن لحوق الأمر ، وإلاّ يلزم اجتماع الإرادة والكراهة في أمر واحد. وأمّا الامور التي لا مدخل لإرادة الآمر فيها - مثل العجز والجهل ونحو ذلك - فالظاهر أنّ اختصاص المطلوب بالمعلوم والمقدور بواسطة امتناع تعلّق الطلب من جهة قصور في نفس الطلب. فبان الفرق ، وفسد القياس.

لا يقال : يجوز تعلّق الطلب بالقدر المشترك بين الواجب والحرام ، إذ القبح إنّما يتأتّى بملاحظة خصوص الفرد المحرّم ، وبطلان الخاص من حيث الخصوصيّة لا يستلزم بطلان العامّ من حيث إنّه عامّ.

لأنّا نقول : إن اريد التسرية إلى الفرد المحرّم بذلك فغير سديد. وإن اريد مجرّد العموم وإن لم يسر الحكم إلى الفرد المحرّم فغير مفيد ، كما هو ظاهر لمن تبصّر.

وتفصيل الكلام في المقام موكول إلى بعض المباحث الآتية ، إن شاء اللّه تعالى.

ص: 327

ص: 328

هداية

اشارة

ينقسم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب على وجه خاصّ - كما ستعرفه - إلى غيريّ ونفسيّ. وتحقيق القول في تحديدهما موقوف على تمهيد ، وهو :

انّ متعلّق الطلب قد يكون أمرا مطلوبا في ذاته على وجه يكفي في تعلّق الطلب تصوّره من غير حاجة إلى غاية خارجة عن حقيقة المطلوب ، فلا بدّ أن يكون ذلك غاية الغايات ، فإذن هو الداعي إلى كلّ شيء وهو المدعوّ بنفسه ، كما في المعرفة باللّه الكريم والتقرّب إليه بارتكاب ما يرضيه والاجتناب عمّا يسخطه ، فإنّه هو الباعث على فعل الطاعات والداعي إلى ترك المناهي والسيّئات ، ويلزمه أن يكون المطلوب في الأمر حصوله في نفسه ، لا حصوله لأجل ما يترتّب عليه.

وقد يكون أمرا يترتّب عليه فائدة خارجة عن حقيقة المطلوب ، وهذا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون ما يترتّب عليه أمرا لا يكون متعلّقا لطلب في الظاهر ، فيكون من قبيل الخواصّ المترتّبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلّف حتّى يتعلّق الأمر بها بنفسها.

وثانيهما : أن يكون الغاية الملحوظة فيه تمكّن المكلّف من فعل واجب آخر ، فالغاية فيه هو الوصول إلى واجب آخر بالأخرة وإن كانت الغاية الأوّليّة هو التمكّن المذكور.

وهذا القسم أيضا يتصوّر على قسمين ؛ لأنّ الفعل الآخر الذي يتوقّف على وجود الفعل المطلوب : قد يكون مطلوبا حال تعلّق الطلب بالفعل الأوّل ، كما في

ص: 329

جميع المقدّمات الوجودية للواجب بعد دخول الوقت. وقد يكون مطلوبا بعد وجود الفعل الأوّل في الحال ، كما في المقدّمات التي يجب إيجادها قبل دخول وقت الواجب ، مثل ما عرفت في بعض المباحث الماضية. واللازم في هذين القسمين أن يكون الغير مطلوبا إمّا في وقت تعلّق الطلب بالفعل أو بعده ؛ إذ لا يعقل أن يتعلّق الطلب بفعل بواسطة التوصّل إلى فعل آخر مع عدم تعلّق الطلب بذلك الآخر أصلا (1).

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم : أنّه قد فسّر في كلام غير واحد منهم الواجب النفسي ب- « ما امر به لنفسه » والغيري ب- « ما امر به لأجل غيره » (2) وعلى ما ذكرنا في التمهيد (3) يلزم أن يكون جميع الواجبات الشرعيّة أو أكثرها من الواجبات الغيريّة ، إذ المطلوب النفسي قلّ ما يوجد في الأوامر ، بل جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ، فيكون أحدهما غير منعكس ، ويلزمه أن يكون الآخر غير مطّرد ، لانتفاء الواسطة.

لا يقال : المراد بكونه « مطلوبا لنفسه » أنّه مطلوب لأجل مصلحة حاصلة في نفسه ، فيكون المراد بالغيري ما امر به لأجل مصلحة حاصلة في غيره ، فيتمّ عكس الأوّل ، وبه يصحّ طرد الآخر أيضا (4).

لأنّا نقول : ذلك فاسد جدّا ، ضرورة امتناع أن يكون المصلحة الداعية إلى طلب الشيء حاصلة في غيره ، غاية ما في الباب أنّ المصلحة في فعل المقدّمة هو الوصول إلى الغير الحاصل في نفسه ، وفي ذيها القرب الحاصل في نفسه. وذلك لعلّه ظاهر.

ص: 330


1- في ( ط ) زيادة : « وهو ظاهر في الغاية ».
2- راجع الفصول : 80 ، وهداية المسترشدين 2 : 89 ، ومناهج الأحكام : 48.
3- راجع الصفحة 329.
4- في ( ط ) : وبه يصحّ الطرد أيضا في الثاني.

فالأولى في تحديدهما أن يقال : إنّ الواجب الغيري ما امر به للتوصّل إلى واجب آخر ، والنفسي ما لم يكن كذلك ، فيتمّ العكس والطرد.

فإن قلت : إنّ النفسي بهذا المعنى يشمل الواجب الذي امر به للغير مع عدم وجوب الغير.

قلت : قد عرفت استحالة ذلك. ومن هنا ينقدح لك أنّه لو لم يؤخذ في التحديد صفة الوجوب لكان كافيا ، إذ الأمر بالمقدّمة لأجل الغير لا ينفكّ عن وجوب الغير.

ثمّ إنّه قد نبّهنا فيما تقدّم أنّ النسبة بين كلّ من النفسي والغيري هو التباين ، وبين كلّ واحد منهما مع كلّ واحد من التوصّلي والتعبّدي عموم من وجه. والأمثلة الأربعة (1) غير خارجة عن الصلاة الصادق عليها النفسي والتعبّدي ، ومواراة الميّت الصادق عليها التوصّلي والنفسي (2) ، وغسل الثوب الصادق عليه الغيري والتوصّلي ، والوضوء الجامع للتعبّدي والغيري على إشكال ستعرفه في محلّه ، إلى غير ذلك من الصور المفروضة فيها (3).

ثمّ إنّه إذا علمنا بأحد القسمين فلا إشكال. وإذا شكّ في واجب أنّه من الواجبات الغيريّة أو النفسيّة فهناك صور.

ولا بدّ أن يعلم أنّ صور الشكّ في النفسية والغيرية : تارة يتعلّق القصد بتشخيص حال الغير الذي يشكّ في وجوب الواجب لأجله ، واخرى بتشخيص حال نفس الواجب الذي يشكّ في وجوبه للغير أو لأجل نفسه.

ص: 331


1- في ( ع ) و ( م ) بدل « الأربعة » : أيضا.
2- في ( ع ) و ( م ) بدل « والنفسي » : دون التعبّدي.
3- في ( ط ) زيادة « كما يظهر ذلك بأدنى ملاحظة ».

وحيث إنّ مرجع الأوّل إلى الشكّ في اشتراط الغير بشيء فلا بدّ من إعمال الاصول التي تجري عند الشكّ في الاشتراط والإطلاق من الأخذ بإطلاق اللفظ الدالّ على الوجوب ونحوه.

ولمّا كان مرجع الثاني إلى أنّ وجوب الشيء هل يقتضي النفسيّة أو الغيريّة ، فلا بدّ من إعمال الاصول التي تجري عند ذلك من الأخذ بإطلاق اللفظ.

وتحقيق الكلام في مقامين :

الأوّل : في أنّ قضيّة الاصول اللفظيّة هل هي النفسيّة أو الغيرية؟

فعلى الأوّل فالدليل الدالّ على وجوب الغير والدالّ على وجوب الواجب الذي شكّ في غيريّته متطابقان في نفي الغيريّة ، إذ كلّ منهما ظاهر في النفسيّة.

وعلى الثاني ينفرد دليل الواجب بإفادة الغيريّة ، ولا يعارضه إطلاق دليل الغير ؛ لأنّ اعتبار الإطلاق من جهة عدم البيان والأمر الدالّ على وجوب الواجب الظاهر في الغيريّة بيان لذلك ، فلا بدّ من الحكم بالاشتراط.

فكيف كان ، فيحتمل أن يكون ظاهر الأمر هو الوجوب النفسي فيكون مجازا في الغيري ، أو العكس ، أو الاشتراك لفظا أو معنى مع انصراف الأمر إلى أحدهما ، أو مع عدمه.

والتحقيق : هو القول بأنّ هيئة الأمر موضوعة لخصوصيّات الطلب المنقدحة في نفس الطالب باعتبار دواعيها التي تدعو إليها ، ولا يختلف تلك الأفراد باختلاف الدواعي اختلافا يرجع إلى اختلاف الطلب نوعا حتّى يقال بالاشتراك المعنوي بين النوعين. وعلى تقدير التنزّل فليس مشتركا معنويّا ، إلاّ أن يراد به أنّ آلة الملاحظة حين الوضع هو القدر المشترك بين النوعين. فإن أراد القائل بالاشتراك المعنوي في المقام ما ذكرنا في الواجب المشروط : من عموم آلة الملاحظة حين الوضع فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها ، ولا حاجة إلى إقامة دليل على ذلك بعد شهادة الوجدان بأنّ

ص: 332

المستفاد من الأمر خصوص أفراد الطلب ، من غير فرق بين اختلاف الدواعي التي تعتور باعتبارها (1) النفسيّة والغيريّة ، فلا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد.

نعم ، لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صحّ القول بالإطلاق ، لكنّه بمراحل عن الواقع ؛ إذ لا شك في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا يعقل اتّصاف المطلوب بالمطلوبيّة بواسطة مفهوم الطلب ، فانّ الفعل يصير مرادا بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها. وذلك أمر ظاهر لا يكاد يعتريه ريب.

نعم ، يصحّ التمسّك بالإطلاق من جهة المادّة ، حيث إنّ المطلوب لو كان هو الفعل على وجه يكون شرطا للغير يجب التنبيه عليه من المتكلّم الحكيم ، وحيث ليس ما يصلح أن يكون بيانا فيجب الأخذ بالإطلاق ويحكم بأنّ الواجب نفسيّ غير منوط بالغير على وجه لو فرض امتناع الغير يجب الإتيان به مع إمكانه. ومن هنا تعلم ضعف الاحتمالات التي تقدّم ذكرها.

أمّا الحقيقة والمجاز في النفسيّة والغيريّة ، فإن اريد في مدلول الهيئة فقد عرفت أنّه لا فرق فيها إلاّ اختلاف أفرادها التي لا يعقل مدخليّة الدواعي في كونها حقيقة ومجازا. وإن اريد في مدلول المادّة فهو مبنيّ على ما تقرّر في محلّه من أنّ التقييد حقيقة أو مجاز.

وأمّا الاشتراك اللفظي ، ففساده ظاهر ؛ لعدم ما يقضي به في مدلول الهيئة ، كأن يقال : إنّ الواضع جعل الهيئة تارة بإزاء خصوصيّات الطلب التي تدعو إليها دواعي الوجوب النفسي ، واخرى جعلها لخصوصيّات الأفراد التي تدعو إليها

ص: 333


1- في ( ط ) : باعتوارها.

دواعي الوجوب الغيري. وأمّا بالنسبة إلى مدلول المادّة ، فقلّ من احتمله ، بل لم يحتمله من يعتدّ بشأنه من العلماء.

وأمّا الانصراف ، فلا معنى له في مدلول الهيئة. وأمّا في المادّة فلا دليل عليه ، إذ التقييد على وجه الغيريّة كثير جدّا فلا شيوع حتّى يقال بالانصراف. وذلك أمر ظاهر.

ثمّ إنّ لفظ « الواجب » هل هو حقيقة في الواجب النفسي مجاز في الغيري ، أو مشترك بينهما معنى أو لفظا؟ وعلى الأوّل ، فهل ينصرف إلى النفسي أو لا؟ وجوه ، أقواها الاشتراك المعنوي ، فيكون مطلقا على نحو سائر المطلقات ، وعند عدم القيد ظاهر في المعنى المطلق ، فيكون المراد به النفسي ، إذ لو كان غيره لوجب أن يكون مقيّدا ، كما يقال : الوضوء واجب عند إرادة الصلاة ، ولا يصحّ إطلاق الواجب عليه من دون تقييد.

هذا إذا كان المراد من مادّة الوجوب مفهومها ، ولازم ذلك أن يكون الجمل التي يقع لفظ الوجوب فيها جملا إخباريّة دون الإنشائيّة ، إذ على تقدير إرادة الإنشاء من مادّة الوجوب لا يفرق مدلول الهيئة ، كما لا يخفى على المتفطّن.

ويظهر من بعضهم التفصيل بين المادّة والهيئة ، فقال بالظهور في النفسي من حيث الإطلاق وعدم البيان في مادّة الوجوب ، وبالانصراف في مدلول الهيئة ، ورام بذلك ظهور الثمرة فيما إذا وقع لفظ « الوجوب » في تلو الشرط ، فإنّه ينفي (1) الوجوب النفسي في طرف المفهوم فيما إذا كان الحكم في المنطوق إيجابيّا. بخلاف ما إذا وقع الأمر في تلو الشرط ، فإنّ المتبادر من المنطوق حينئذ بواسطة الانصراف هو الوجوب النفسي ، بخلاف الوجوب المنفيّ في طرف المفهوم.

ص: 334


1- في ( م ) : ينتفي.

وفساده على ما ذكرنا - من عدم الفرق بين المادّة والهيئة فيما إذا كان المراد منها إنشاء الوجوب - ظاهر. وأمثال هذه الكلمات لعلّها ناشئة من سوء التدبّر أو قلّته ، وإلاّ فما الّذي أوجب ارتكاب هذه المفاسد؟

فظهر ممّا مرّ : أنّه إذا كان دليل الواجبين لفظيّا ؛ نظرا إلى الأخذ بإطلاق المادّة يجب الحكم بكونهما واجبين نفسيّين. وأمّا إذا كان أحد الدليلين لفظيّا فيلحقه حكمه من الأخذ بإطلاق المادّة ، ويلزمه الحكم بالنفسيّة.

أمّا على تقدير أن يكون دليل الواجب المفروض لفظيّا فيحكم بكونه واجبا نفسيّا. وأمّا الغير ، فإن ثبت فهو تابع لدليله المفيد لوجوبه ، فإن كان الإجماع المفيد لوجوبه متحقّقا عند عدم الواجب أيضا فهو واجب نفسي أيضا ، وإلاّ فعند عدم الواجب الذي يحتمل اشتراطه به يحكم بعدم الوجوب ؛ لأصالة البراءة ، كما تقدّم.

وأمّا إذا كان دليل الغير لفظيّا دون دليل الواجب ، فإن تحقّق الإجماع على وجوبه - ولو عند سقوط التكليف من الغير - فلا شكّ في كونه واجبا نفسيّا ، وإن لم يقم إجماع على وجوبه ولو حال سقوط التكليف عن الغير ، فمرجع الشك إلى ثبوت التكليف به ، والأصل البراءة.

ويمكن إثبات الوجوب النفسي للواجب بعد العلم بوجوبه في الجملة مع الشكّ في كونه غيريّا أو نفسيّا بإطلاق الدليل الدالّ على وجوب الغير ، إذ لو كان ذلك واجبا غيريّا لوجب تقييد الإطلاق الأوّل ، وهو خلاف الأصل.

كذا أفاده الاستاذ ، ولعلّه لا يتمّ ، لا لما قد يتخيّل : من أنّ أصالة عدم التقييد لا يؤثّر في إثبات عنوان الوجوب النفسي للواجب لأنّها من الاصول التي يعوّل عليها وإن كانت مثبتة لما تقرّر في محلّه ، بل لأنّ الإطلاق لمّا كان ظهوره في الأفراد بواسطة عدم البيان فلا ينهض فيما إذا كان ما يصلح أن يكون بيانا موجودا في المقام ، فتأمّل.

ص: 335

المقام الثاني : في أنّه هل الاصول العمليّة تقضي بالنفسيّة أو الغيريّة فيما إذا كان دليل الواجب ودليل الغير كلاهما لبّيين؟

فنقول : إنّه تختلف الصور أيضا في ذلك ، فربّما يقضى بالنفسيّة ، كما إذا قلنا بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، فيثبت عدم اشتراط الواجب به ، فنقول بالبراءة قبل دخول الوقت وبالاشتغال بعده ، إذ هو واجب قطعا بعد دخول وقته ، إمّا لنفسه وإمّا لغيره.

نعم ، لو ترتّب فائدة على اشتراط الغيريّة (1) لا يحكم بواسطة حكمنا بالبراءة ، مثل بطلان الواجب على تقدير تأخّره عن الغير مثلا.

ثمّ إنّه لو انقضى وقت الغير وشكّ في وجوب الواجب باعتبار النفسيّة والغيريّة ، فالاستصحاب قاض بوجوبه على مذاق القوم. وقد يجب الأخذ بالاحتياط بالجمع بين ما علم بوجوب أحدهما نفسا والآخر بواسطة الغير مع اشتباه أحدهما بالآخر في الوقت أو بعده مع وجوب قضاء الآخر ، وإلاّ فيرجع الأمر إلى البراءة ، كما لا يخفى وذلك ظاهر جدّا.

تنبيه :

هل يجوز اتّصاف الواجب الغيري بالوجوب قبل وجوب الغير أو لا؟

وجهان ، قد تقدّم التحقيق فيهما فيما مرّ في الهدايات المتعلّقة بالوجوب الشرطي ، فراجعها. فلا حاجة إلى إطالة الكلام بإعادتها في المقام.

والموفّق هو اللّه وهو الهادي.

ص: 336


1- كذا ، والظاهر : الغير به.

هداية

اشارة

لا ريب في استحقاق العقاب عقلا على مخالفة الواجب النفسي ، ولا إشكال في ترتّب الثواب على امتثاله. ولا نعرف في ذلك خلافا بين العدليّة ، وإن كان قد يمكن المناقشة بعدم استقلال العقل على استحقاق الثواب على الامتثال فيما إذا فسّر الثواب بما يرجع إلى المنافع الاخرويّة ، لجواز الاكتفاء عنه بالنعم العاجلة. إلاّ أنّه لا منع في العقل عن ترتّبه في الآخرة ، فتحمل الأدلّة الدالّة على الثواب على ظاهرها من غير منافرة ولا حزازة.

وهل يصحّ ترتّب الثواب والعقاب على الواجبات الغيريّة ، بمعنى استحقاق الآتي بالواجب الغيري وتاركه على وجه الامتثال والمخالفة للثواب والعقاب عقلا مطلقا ، أو لا يترتّب مطلقا ، أو يفصّل بين ما إذا كان الوجوب الغيري مستفادا من خطاب أصليّ فيترتّب أو تبعي (1) فلا يترتّب ، أو يفصّل بين الثواب والعقاب ويقال بعدمه في الأوّل وبترتّبه في الثاني؟ وجوه ، بل لعلّه أقوال ؛ حيث ذهب جماعة إلى الأوّل.

منهم بعض أفاضل المتأخّرين في إشاراته ، قال : المشهور بين الاصوليّين ترتّب العقاب على ترك المأمور به شرعا على تقدير كون الأمر للوجوب. واستدلّ على ذلك بآية الإطاعة والعصيان. ثمّ أفاد بقوله : فما قيل من أنّ الواجبات الغيريّة واجبات اصطلاحيّة ومع ذلك لا عقاب عليها أصلا ، ليس على ما ينبغي. ثمّ قال :

ص: 337


1- في ( ع ) و ( م ) : بدل « أو تبعي » : وبين غيره.

وممّن عاصرناهم من قال - بعد تقسيم الواجب إلى الواجب لنفسه ولغيره - : وترك الأوّل موجب للعقاب على نفس الترك ، وأمّا الواجب الغيري فالّذي يقتضيه النظر أنّ تركه يوجب العقاب من حيث إفضائه إلى ترك ما هو علّة في إيجابه ، لا على تركه في نفسه ، لأنّ المطلوب حقيقة هو الواجب النفسي الّذي يتوقّف عليه ، وإنّما وجب هذا لأجل التوقّف (1).

ثمّ إنّه رحمه اللّه بعد ما نقل كلام معاصره إلى حيث ما أراد ، أفاد : ويرد عليه أنّ ما دلّ على ترتّب العقاب على مخالفة الأمر - كما مرّ - يعمّ القسمين ، فإنّ بحصول المخالفة فيهما يحصل العصيان وعدم الطاعة ، وهو المناط في ترتّب العقاب نظرا إلى ظاهر الأدلّة ، مع تأيّدها بالشهرة التامّة ، مع عدم مانع من بقائه على حاله عقلا وشرعا. فتعيّن بقاء الظواهر بحالها كما في الوضوء ونحوه ، فلو تركه وترك الصلاة يترتّب عليه عقابان. ولا ينافيه كون المصلحة في الواجب الغيري في الغير ، فإنّ المفروض أنّه مطلوب في مرتبة ذاته ، غاية الأمر مصلحته في الغير ونحوه يأتي في الواجب لنفسه ، انتهى (2). وهو كما ترى صريح في تعدّد الثواب والعقاب.

ومنهم السيّد الجليل البارع في المناهل (3) - على احتمال في كلامه - حيث إنّه في مقام إثبات الوجوب الشرعي للطهارات ونفي الوجوب الشرطي ، استند إلى أمرين :

أحدهما : أنّ الظاهر من لفظ « الوجوب » في عرف الأئمّة واصطلاح الفقهاء هو المعنى المصطلح عليه ممّا يترتّب على تركه الذمّ والعقاب.

الثاني : أنّه لو كان المراد هو الوجوب الشرطي لم يستقم قولهم : « الوضوء للصلاة الواجبة واجب » إذ الاشتراط به ثابت في المندوب منها أيضا.

ص: 338


1- إشارات الاصول ، الورقة : 44.
2- إشارات الاصول ، الورقة : 44.
3- لا يوجد لدينا.

فإنّ من المحتمل في كلامه أن يكون مراده نفي الوجوب الشرطي وإثبات الوجوب الشرعي في قباله - بمعنى أنّه مطلوب طلبا حتميّا - لا إثبات العقاب على تركه.

ويظهر من المحقّق القمّي التفصيل بين الخطاب الأصلي والتبعي. ولعلّه لا ينافي التفصيل بين الثواب والعقاب ، كما يشعر به أيضا كلامه ، لكنّه على خلاف ما اختاره الغزالي (1). قال : بل لا نضايق في ترتّب العقاب على ترك الوضوء من جهة خصوص الأمر به وإن كان وجوبه للغير ، كما هو مدلول أصل لفظ « الأمر » (2).

وعلّق بكلامه هذا ما هو لفظه : الذي ينادي بأنّ مرادهم في الوجوب الغيري هو الوجوب المصطلح وأنّه يترتّب على ترك المقدّمة العقاب إذا تعلّق به خطاب على حدة ، أنّهم قسّموا الوضوء والغسل وغيرهما إلى واجب ومندوب (3).

ثمّ إنّه دفع توهّم ما يقال بصدق الوجوب المصطلح على المقدّمة باعتبار ترتّب العقاب على ذيها : بأنّ الظاهر ترتّبه على نفس الواجب لا لغيره. وهو صريح في التفصيل المذكور مع إشعار بالتفصيل الآتي على العكس. وحكى عن الغزالي التفصيل بين الثواب والعقاب.

قال المحقّق القمّي : وأمّا المدح والثواب على فعلها فنقله بعض المحقّقين عن الغزالي. ولا غائلة فيه ظاهرا ، إلاّ أنّه قول بالاستحباب. وفيه إشكال ، إلاّ أن يقال باندراجه تحت الخبر العام في : « من بلغه ثواب على عمل فعمله

ص: 339


1- المستصفى 1 : 72.
2- القوانين 1 : 108.
3- المصدر المتقدم.

التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه » (1) فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ ، حتّى فتوى الفقيه. فتأمّل (2).

وقال فيما علّق على هذا المقام : إشارة إلى أنّه يخرج عن المستحبّ المصطلح الّذي تسامح في أدلّته ، لكنّه لا مانع من التزامه إلاّ تسديس الأحكام أو تسبيعه ، إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما هو في الأحكام الأصليّة فلا يضرّ حصول ذلك في التبعيّات (3).

وكيف كان ، فهذه جملة ما حضر عندنا من كلمات القائلين بالثواب والعقاب على اختلاف مشاربهم وتباعد مذاقهم.

والتحقيق عندنا هو القول الثاني ، والّذي يدلّ على ذلك هو : أنّ الحاكم بالثواب والعقاب إمّا العقل أو النقل ، وليس في شيء منهما دلالة على ذلك في المقام.

أمّا العقل فهو مستقلّ بعدم استحقاق الآتي بالمقدّمة للثواب غير ما يترتّب على ذيها ، فضلا عن حكمه باستحقاقه له. والسرّ في ذلك : أنّ الثواب على ما هو المعقول عندنا هو النفع المترتّب جزاء على فعل الطاعات ، فهو إذا من فروع الامتثال ، والمعقول من الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجه يكون الداعي إلى إيجاده هو الأمر ، والأمر الغيري لا يصلح لأن يكون هو الداعي إلى إيجاد ما تعلّق به ، فإنّ الشيء المطلوب بواسطة الغير من حيث إنّه مطلوب بالغير لا داعي إلى إيجاده إلاّ التوصّل إلى ذلك الغير ، فالمطلوب الحقيقي هو الغير والامتثال بمقدّماته ليس الامتثال بذلك الغير. وذلك ظاهر لمن راجع وجدانه وأنصف من نفسه. ويستكشف ذلك بملاحظة أوامر الموالي المتعلّقة بمراداتهم في الموارد المختلفة ، فإنّ

ص: 340


1- الوسائل 1 : 60 ، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.
2- القوانين 1 : 104.
3- راجع التعليق في القوانين 1 : 105.

العقلاء بكافّتهم مطبقون على أنّ الإتيان بواجب واحد يتوقّف على مقدّمات عديدة ولو بلغ ما بلغت إطاعة واحدة وامتثال واحد ، والتارك لواجب واحد وإن تعدّدت مقدّماته لم يعص إلاّ معصية واحدة ، ولا يترتّب على إطاعة واحدة أو معصية واحدة إلاّ جزاء واحد.

ولا فرق في ذلك في نظر العقل بين أن يكون المقدّمة ملحوظة في نفسها في ضمن خطاب أصليّ وبين أن لا يكون مدلولا عليها إلاّ بخطاب تبعيّ ، إذ تأثير الملاحظة التفصيليّة والتعبير عن مطلوبيّتها بعبارة مستقلّة فيما نحن بصدده غير معقول ، فإنّ مناط استحقاق الثواب والعقاب متعدّد بتعدّد (1) الإطاعة والعصيان ، والمفروض أنّهما متّحدان حينئذ أيضا. والقول بأنّ ذلك يوجب التعدّد فاسد جدّا ، كيف! وذلك تفصيل في نفس الأمر بالنسبة إلى سائر المقدّمات على القول بوجوبها ، كما ستعرف.

نعم ، يبقى في المقام نكتة التصريح بالبعض دون الآخر. والخطب فيه من أسهل الخطوب ، كما هو ظاهر.

وأمّا التفرقة بين الثواب والعقاب فلعلّه ممّا لا يرجع إلى طائل بالنظر إلى حكم العقل ، لما عرفت من إمكان المناقشة في استحقاق الثواب على فعل الطاعات النفسيّة ، فكيف يقال باستحقاق الثواب في الغيري دون العقاب؟

وأمّا النقل فغاية ما يمكن الاستناد إليه أمران :

أحدهما : الآيات الدالّة على ترتّب الثواب والعقاب بوجوب (2) الإطاعة والعصيان ، الشاملين بعمومها لجميع المطلوبات الشرعيّة غيريّا كان أو نفسيّا ،

ص: 341


1- في ( ع ) و ( م ) : تعدّده على تعدّد.
2- كذا ، والمناسب بدل « وجوب الإطاعة » : على الإطاعة.

كقوله : ( مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) (1) وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً ) (2) إلى غير ذلك.

والجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من عدم صدق الإطاعة والمعصية في الواجبات الغيريّة (3).

وثانيهما : الأدلّة الدالّة على ترتّب الثواب في خصوص بعض المقدّمات ، ويستكشف عن ذلك جواز ترتّبه عليها مطلقا ، فيكون من الطاعات ، أو يستند في الباقي إلى دعوى عدم الفصل ، وذلك مثل قوله تعالى : ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (4).

فإنّ دلالة الآية على ترتّب الثواب على المقدّمات التي يترتّب عليها الجهاد - من قطع البوادي وإنفاق الأموال وصرف المؤنات - ممّا لا ينبغي إنكارها.

مضافا إلى ما ورد في زيارة مولانا الحسين عليه السلام : من أنّه « لكلّ قدم ثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل » (5) وغيره من الأخبار الصريحة في ذلك على ما أوردها غوّاص بحار أنوار الأئمّة فيها (6).

ص: 342


1- النور : 52.
2- النساء : 14.
3- في ( ط ) زيادة : وذلك ظاهر.
4- التوبة : 120 - 121.
5- البحار 101 : 36 ، الحديث 48.
6- راجع البحار 101 : 28 ، باب أنّ زيارته عليه السلام تعدل الحج والعمرة والجهاد والاعتكاف.

وما ورد في ثواب الوضوء والغسل (1) وغير ذلك.

والإنصاف أنّ منع ظهور هذه الروايات أو دلالتها على ترتّب الثواب على فعل المقدّمات ممّا لا وجه له. إلاّ أنّه مع ذلك لا دلالة فيها على المدعى ، إذ المقصود في المقام إثبات الاستحقاق ، ولا أثر من ذلك فيها. فلعلّه مستند إلى فضل الربّ الكريم ، فإنّ الفضل بيده يؤتيه من يشاء.

مع أنّ من المحتمل أن يقال (2) : إنّ الثواب المترتّب عليها في هذه المقامات في الحقيقة هو الثواب المترتّب على فعل ذي المقدّمة. ولكنّه إذا وزّع على الأفعال الصادرة من المكلّف في تحصيله يكون لكلّ واحد من أفعاله شيء من الثواب ، نظير ما يقول التاجر المسافر الساعي في تحصيل الأرباح عند توزيعه : ما حصل له على أيّام مسافرته.

ولا يخفى أنّ هذا احتمال قريب (3) ، وممّا يؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من ترتّب الثواب على الأقدام بعد المراجعة من الزيارة الحسينيّة عليه السلام (4) ، فإنّها ليست من المقدّمات جدّا ولا سيّما بملاحظة أنّ ثوابها ضعف ثواب الرواح ، كما لا يخفى.

لا يقال : لو كان الثواب المترتّب على فعل المقدّمات هو الثواب المترتّب على ذويها من دون مدخليّة لها فيه يلزم مساواة زيارة البعيد والقريب.

لأنّا نقول : لا ريب في أنّ عسر المقدّمات يوجب ازدياد ثواب الواجب ، فانّ أفضل الأعمال أشقّها ، ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا سترة عليه جدّا.

ص: 343


1- الوسائل 1 : 263 ، الباب 8 من أبواب الوضوء ، والصفحة 269 ، الباب 11 منها ، الحديث 3 ، والصفحة 466 ، الباب 2 من أبواب الجنابة ، الحديث 3.
2- في ( ط ) زيادة : احتمالا ظاهرا.
3- لم ترد عبارة « ولا يخفى أنّ هذا احتمال قريب » في ( ط ).
4- انظر كامل الزيارات : 132 - 135 ، الباب 49 ، والصفحة 144 ، الباب 57.

فان قلت : لا ريب في استحقاق المدح لمن ارتكب المقدّمات وإن لم يات بالواجب ، وذلك يكشف عن خلاف ما ذكرته.

قلت : نعم ، ولكنّه لا يجديك شيئا ، إذ العقلاء يحاولون بمدحهم الآتي بالمقدّمة الكشف عن حسن سريرته وعدم كدورة طينته ، وأين ذلك من استحقاق الثواب على فعل المقدّمة؟ وذلك نظير ما نبّهناك عليه في الانقياد والتجرّي (1).

فإن قلت : قد ذكر بعض المتكلّمين (2) : أنّ كلّ فعل قصد به الإطاعة ففاعله يستحقّ الثواب عليه ، والمقدّمة لا تنقص عن أحد الأفعال المباحة ، فإذا فرض ترتّب الثواب عليها فترتّبه عليها بطريق أولى.

قلت : إن اريد بذلك من حيث دخول المباح تحت عنوان المطلوب نفسا فهو مسلّم ولكنّه غير مفيد إذ لا إشكال في ترتّب الثواب على المطلوبات النفسيّة ، فالمضاجعة مثلا تصير مطلوبة نفسيّة (3) لو وقعت على وجه قضاء حاجة الزوجة المؤمنة ، إلى غير ذلك من العناوين المطلوبة. وإن اريد بذلك ولو مع قطع النظر عن اندراجه تحت عنوان مطلوب فغير سديد ، ضرورة عدم تحقّق الإطاعة إلاّ بعد تحقّق الأمر والإرادة ، وعند عدمه - كما هو المفروض - لا سبيل إلى التزام وجود الإطاعة وصدقها.

والعجب من بعض المحقّقين! حيث إنّه جنح إلى إثبات الثواب بمثل ما ذكرناه في السؤال.

وممّا ذكرنا تقدر على استخراج مواضع النظر فيما أفاده بعض الأجلّة ، حيث إنّه ردّد في المقام بين أن يكون المراد بالثواب هو الاجرة أو المدح ، فقال : إن أرادوا

ص: 344


1- راجع فرائد الاصول 1 : 39.
2- تقدّم كلامهم في الصفحة 300.
3- في ( ع ) : مطلوبا نفسيّا.

بالثواب أمرا غير المدح والقرب فربّما كان له وجه ؛ نظرا إلى أنّ العقل لا يستقلّ بإثباته في جميع موارده ، وثبوته في بعض الموارد شرعا - كالسير إلى الجهاد ونحوه - لا يثبت الكلّيّة ، وقوله تعالى : ( لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ) (1) لا دلالة له على تعيين أثر غيرهما. وإن أرادوا الأعمّ فترتّب الأوّل - أعني المدح - ممّا لا ريب فيه ، بشهادة العقل والعادة. ثمّ استشهد لذلك بحسن تعليل المدح بالفعل. ثمّ قال :

وكذا الأمر الثاني أعني القرب ، واستند في ذلك إلى صدق الإطاعة والانقياد المستلزمين للقرب (2).

ووجه النظر هو : أنّه ما أجاد في حكمه بعدم استقلال العقل على ترتّب الثواب بمعنى الأجر ، إذ التحقيق على ما عرفته هو استقلاله بعدمه ؛ على أنّ الترديد في الثواب في غير محلّه ، فإنّ المراد به - على ما هو صريح المتكلّمين (3) - هو العوض ، فيكون اجرة. مضافا إلى أنّ نفي ظهور الآية في الأجر على تقدير عدم استقلال العقل خلاف الإنصاف ، كما ارتكبه ، فإنّ ظهورها ممّا لا ينكر. بل التحقيق في ردّها هو : ما عرفت من لزوم تأويلها بعد مخالفتها لصريح العقل. مع أنّ الوجه في ترتّب المدح هو ما عرفته من ملاحظة العقلاء في ذاته سريرة طيّبة ، وذلك ظاهر بعد ما عرفته.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ القول بأنّ « فعل المقدّمة يوجب الثواب وتركها لا يورث العقاب » قول باستحباب المقدّمة ، إذ لا يعقل أن يكون الفعل موجبا لاستحقاق الثواب وتركه لا يوجب عقابا مع كونه واجبا ، فهو إمّا قول بالاستحباب وهو باطل ، إذ لا قاضي به ، فإنّ الطلب الاستحبابي لا يستفاد من

ص: 345


1- آل عمران : 195.
2- الفصول : 87.
3- راجع شرح تجريد العقائد ( للقوشجي ) : 350 ، وكشف المراد : 319 - 320.

وجوب ذيها ولا من غيره لانتفائه. وإمّا قول بتسبيع الأحكام - كما (1) أفاده المحقّق القمّي (2) - إذ القاضي بالحكم المذكور هو وجوب ذيها ، وحيث إنّه ليس وجوبا لعدم استحقاق العقاب على فعله بنفسه ، ولا ندبا لعدم ما يقضي به ، فلا بدّ أن يكون قسما سادسا. وبمثله نقول في الموانع ، فلا يكون محرّما لعدم ترتّب العقاب على فعلها امتثالا (3) وترتّب الثواب على تركها ، ولا مكروها لعدم ما يقضي به ، فهو قسم سابع. وليس مراده أنّه وجوب ظاهريّ لا واقعيّ - كما يظهر منه في بعض المباحث - إذ على تقديره فاللازم تعشير الأحكام ، مع أنّه لا محذور كما لا يخفى.

وأمّا ما قد يدفع عن ذلك باختلاف حدّي الوجوب الغيري والنفسي - كما تكلّفه بعض الأجلّة (4) - فليس يجدي شيئا بعد ما عرفت أنّ الكلام في الاستحقاق ، ولا يعقل التفرقة في الوجوب بين أحد لازميه كما صنعه.

وأمّا ما أفاده (5) من استناد استحباب المقدّمة إلى قاعدة التسامح فهو تسامح في إصابة الواقع ، إذ بعد الغضّ عن شمول الأخبار لمثل فتوى الفقيه أوّلا ثمّ لفتوى مثل الغزالي - كما لعلّه تفطّن له ، كما يشعر به قوله : فتأمّل - فهو ممّا ليس ينبغي ، إذ الكلام مع الغزالي القائل بهذه المقالة الفاسدة ، فالنزاع إنّما هو في أمر واقعي يدّعيه الغزالي ، ونحن ندّعي أنّ الواقع على خلافه. وليس المقام من موارد إثبات الحكم المتنازع فيه بالتسامح.

نعم ، إذا فرض البحث مع غيره فيمكن لمدّعي الاستحباب الاستناد إلى قول

ص: 346


1- في ( ط ) : على ما.
2- تقدّمت عبارته في الصفحة 340.
3- لم يرد « امتثالا » في ( ط ).
4- وهو المحقّق القمّي كما تقدّم في الصفحة 339.
5- أي المحقق القمي ، كما تقدّم في الصفحة 340.

الغزالي به ، من حيث إنّه قد أفتى بالاستحباب لا من حيث إنّه مقدّمة. وأمّا ما التزم به في الحاشية : من أنّه لا مانع من التسبيع في الأحكام التبعيّة ، فممّا لا يرجع إلى طائل ؛ لعدم الفرق بين الأحكام الأصليّة وغيرها أصلا ، إذ الحصر في الخمسة بعد ملاحظة الاستحقاق واقعي ، فلا يعقل قسم سادس أو سابع.

وينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : لا يستبعد دعوى معلوميّة ترتّب الثواب على فعل الطهارات الثلاث شرعا ، فإنّ الأخبار في ذلك فوق حدّ الاستفاضة (1).

وكأنّه ممّا لم يقع فيه الخلاف أيضا ، فيشكل الأمر نظرا إلى ما مرّ من استقلال العقل بعدم الاستحقاق. ولا سبيل إلى دفعه بمثل ما دفعناه في مطلق المقدّمات : من احتمال التفضّل أو التوزيع ، إذ لعلّه يأباه مساق الأخبار الدالّة على ذلك. وقد عرفت فساد توهّم الفرق بين الخطاب الأصلي وغيره أيضا.

ويمكن التفصّي عن ذلك : بأنّ الطهارات ليس ممحّضة في التوصّليّة ، بل لها جهات نفسيّة ؛ فإنّها عبادات في أنفسها مستحبّة في حدود ذواتها ، وإن كان قد يعرض لها الوجوب التبعي ، فلا ينافي ترتّب الثواب عليها على وجه الاستحقاق.

إلاّ أنّه مع ذلك لا ينهض بدفع الإشكال ، إذ ليس الكلام في الطهارة التي تقع على وجه المطلوبيّة النفسيّة ، بل الكلام فيما هي مقدّمة للصلاة الواجبة مثلا ، وبعد عروض الوجوب على ما هو المفروض يمتنع بقاء المطلوبيّة النفسيّة ، لطريان ما هو أقوى منها

ص: 347


1- انظر الوسائل 1 : 263 ، الباب 8 من أبواب الوضوء ، والصفحة 265 ، الباب 9 من أبواب الوضوء ، والصفحة 466 ، الباب 2 من أبواب الجنابة ، الحديث 3 ، والمستدرك 1 : 294 ، الباب 8 من أبواب الوضوء ، والصفحة 296 ، الباب 9 منها ، والصفحة 450 ، الباب 2 من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.

تأثيرا وأشدّ مطلوبيّة ، فلا يعقل ترتّب الثواب عليها بعد عروض الوجوب ، إذ لو لم يكن قاصدا إلى الجهة النفسيّة لم يقع على وجه الامتثال ، فلا يستحقّ ثوابا عليها ، وبعد ارتفاع الأمر النفسيّ - ولو بواسطة طريان الأمر الوجوبي الغيري - لا يعقل ان يكون الداعي إليها هو الأمر ؛ لانتفائه ، فلا امتثال.

ويمكن أن يقال في دفعه : بأنّ ارتفاع الطلب تارة يكون بواسطة ارتفاع ما هو الوجه في طلبه كانقلاب المصلحة الموجبة له مفسدة ، واخرى يكون بواسطة طريان ما هو أقوى منه ، فإنّ ارتفاعه إنّما يكون بواسطة امتناع اجتماع الأمثال ونحوه. والفرق بين الوجهين ظاهر. والقدر المسلّم من عدم استحقاق الثواب عند ارتفاع الطلب إنّما هو فيما إذا كان ارتفاعه على الوجه الأوّل. وأمّا إذا كان على الوجه الثاني فلا نسلّم أنّه لا يستلزم ثوابا ؛ لأنّ لحوق المرتبة القويّة للمرتبة الضعيفة إنّما ينافيها من حيث تحدّدها بحدّ ضعيف وتشخيصها بتشخيص قاصر ، وذلك لا مدخل له فيما هو مناط الطلب على ما هو ظاهر. فعروض الوجوب لا ينافي الطلب الموجود بواسطة جهة نفسيّة ، بل يؤكّده ، فيصحّ القصد إليه بوجوده ولو على وجه قويّ.

وذلك أيضا لا يدفع الإشكال ؛ إذ لا أقلّ من أن يكون اللازم على ذلك التقدير هو القصد إلى الطلب النفسي ولو في ضمن الطلب الوجوبي ، والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتّب الثواب على الطهارات وإن انحصر الداعي إلى إيجادها في الأمر المقدّمي على وجه لو لم يعلم باستحبابها النفسي أيضا يكون كافيا في ذلك. على أنّ الاستحباب النفسي في التيمّم لعلّه ممّا لا دليل عليه وإن كان قد يستفاد من بعض الروايات ، إلاّ أنّه ممّا لم يعتمد عليه أحد ظاهرا. وبالجملة ، فالقول بأنّ الثواب من جهة عموم فضله وسعة رحمته أو احتمال التوزيع لعلّه أقرب ، فتأمّل.

ص: 348

الأمر الثاني : قد عرفت فيما تقدّم أنّ النسبة بين الواجب الغيري والتعبّدي عموم وخصوص من وجه ؛ لافتراق الأوّل في غسل الثوب ، والثاني في الصلاة ، واجتماعهما في المقدّمات العباديّة التي يشترط فيها نيّة القربة كالطهارات الثلاث ، فإنّها كما أطبقوا على كونها ممّا يترتّب عليها الثواب - كما هو منشأ الإشكال في الأمر الأوّل - كذلك أطبقوا على كونها عبادة مشروطة بقصد القربة.

ويشكل : بأنّ القربة عبارة - على ما عرفت مرارا - عن الإتيان بالفعل بواسطة الأمر ، ولا مصحّح لها في الأوامر المقدّميّة ، إذ الأمر المقدّمي لا يعقل أن يكون مستتبعا لذلك ، ضرورة معلوميّة الغرض الداعي إلى المقدّمة ، وهو التوصّل بها إلى ذيها ، وبعد العلم بأنّ المقصود والغرض هو التوصّل لا معنى للقول بوجوب الإتيان بالمقدّمة على وجه القربة.

والسرّ في ذلك أيضا هو ما عرفت : من أنّ امتثالها تابع لامتثال ذيها ، كما أنّ وجوبها على القول به وجوب تبعي منتزع من وجوب ذيها ، وهو لا يستتبع امتثالا ولا قربة ، كما لا يوجب ثوابا.

ويمكن التفصّي عن هذا الإشكال بوجوه :

أحدها : أنّها مطلوبات نفسيّة ومندوبات ذاتيّة يصحّ قصد التعبّد بها من حيث مطلوبيّتها النفسيّة.

وذلك فاسد جدّا ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ التيمّم - على ما هو المشهور - ممّا لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيّا ، فالإشكال فيه باق.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك غير مجد فيما نحن بصدده ، إذ لا إشكال في صحّة قصد القربة فيما هو المطلوب النفسي ، والكلام إنّما هو في قصد التعبّد بالمقدّمة من حيث إنّها مقدّمة ، فالوضوء لأجل الصلاة لا بدّ وأن يكون على وجه القربة بواسطة الأمر المقدّمي.

وتوضيحه : أنّه تارة يستشكل في أنّ العبادة كيف تكون مقدّمة مع تنافي

ص: 349

قضيّة كلّ منهما للآخر ، حيث إنّ المقدّميّة لا تقتضي إلاّ التوصّليّة ، والعباديّة قاضية بالتعبّديّة ، وهما متنافيان متباينان ، على ما عرفت في تحديدهما. فيجاب بأن لا تنافي بينهما لاختلاف الجهة ، حيث إنّ الأمر المقدّمي متأخّر اعتباره في العبادة عن الأمر الّذي تعلّق بها وبه صارت عبادة ، كما لو فرض اشتراط الصلاة بعبادة خارجة مستقلّة مأمور بها في حيال ذاتها كالصوم مثلا ، إذ لا ضير في ذلك ، فإنّ المصحّح للعباديّة فيها هو الأمر الأوّل ، والاشتراط قاض بمقدّميّة العبادة المفروضة من غير غائلة.

واخرى يستشكل في أنّ الأمر المقدّمي كيف يقضي بالتعبّديّة من حيث إنّها مقدّمة بعد معلوميّة الغرض من الأمر بها كما هو مناط الإشكال في المقام؟ والجواب المذكور لا ينهض بدفعه ، لاتّحاد جهتي التعبّد والتوصّل حينئذ ، كما لا يخفى.

الثاني : أنّ المقدّمة التي تكون عبادة ليست من الأفعال العاديّة (1) التي تعلم بارتباط ذيها بها على نحو معلوميّة ارتباط الصعود على السطح بمقدّماته التي يتوقّف عليها ، فإنّ المعلوم عندنا من الصلاة ليس إلاّ نفس الحركات والسكنات ، ونحن لا نعقل توقّفا لهذه الصورة على الأفعال الواقعة عند تحصيل الطهارات (2). نعم ، بعد ما كشف الشارع الحكيم عن توقّف الصلاة عليها لا بدّ من إيجادها للتوصّل بها إليها ، وحيث إنّ الأفعال الواقعة في الطهارات أيضا ممّا لا نعرف منها إلاّ الحركة الخاصّة ، فلا بدّ أن يكون الداعي إلى إيجادها هو توقّف الصلاة عليها في نظر الآمر ، كما أنّه لا بدّ من إيجاد هذه الحركات على وجه يكون في الواقع ممّا يترتّب عليها فعل الصلاة. ولا سبيل لنا إلى العلم بذلك إلاّ أن تقع هذه الحركات على وجه تعلّق الأمر بها ، ولا نعني بالقربة إلاّ ذلك.

ص: 350


1- في ( ع ) و ( م ) : العباديّة.
2- في ( ط ) زيادة : كما لا يخفى.

وتوضيحه : أنّ الفعل الواحد قد يختلف وجوهه ، وذلك يلازم اختلاف مصالحه ومفاسده كما هو المقرّر في مقامه ، فتارة يكون الفعل معنونا بعنوان حسنا وبعنوان آخر قبيحا ، فإن علمنا بالعنوان القبيح والحسن فهو ، ويكون الفعل حينئذ من الواجبات العقليّة فعلا أو تركا. وإن لم نعلم بذلك مع العلم بأنّ الشارع لا يأمرنا إلاّ بما هو الحسن واقعا من عناوين معتورة على ذات الفعل ، وحيث إنّه لا علم لنا به بخصوصه فيجب اتّباع الأمر في ذلك للوصول إلى العنوان الحسن واقعا ، لأنّ الأمر حينئذ مرآة لذلك العنوان. وعلى قياس ذلك عنوان المقدّميّة ، فإنّ ذوات الحركات الخاصّة ربّما لا تكون محصّلة لما هو المقصود بالأمر بها ، فلا بدّ من قصد الحركة التي امر بها لأجل الصلاة تحصيلا للمقدّمة لأن يلاحظ مطلوبيّة تلك المقدّمة ، وتوقّف المأمور به عليها عنوان إجمالي لما هو المتوقّف عليها ومرآة لها.

وبالجملة ، فنحن لا ندّعي في الطهارات أنّ الأمر المقدّمي فيها يقضي بالتعبّديّة حتّى يقال بفساده قطعا ، مع أنّه لو صحّ ذلك لكان جاريا في المقدّمات التي نقطع بانتفاء ذلك فيها. بل نقول : إنّ ذلك إنّما هو من قبل نفس المقدّمة ، حيث إنّها لا نعرف وجه التوقّف فيها.

كذا افيد ، ولكنّه منقوض بجملة من المقدّمات الشرعيّة التي لا نعرف وجه التوقّف فيها أيضا ، فإنّ ذلك غير مختصّ بالطهارات كما لا يخفى ، فتدبّر.

الثالث : أنّك قد عرفت فيما تقدّم (1) أنّ الأوامر العباديّة من حيث تعلّقها بمتعلّقاتها يغاير الأوامر التوصّلية ، حيث إنّ نفس الأمر واف بتمام المقصود في الثاني دون الأوّل ، فلا بدّ فيه من بيان زائد على أصل الفعل المطلوب بالطلب المستفاد من الأمر أوّلا. ولا فرق في ذلك بين المقدّمة وذيها ، فما هو المصحّح لأحدهما مصحّح للآخر من غير حاجة إلى القول باستفادة التعبّديّة من الأمر المقدّمي.

ص: 351


1- راجع الصفحة 297 - 298.

وتوضيحه : أنّه كما يمكن أن يكون الفعل ذا مصلحة على تقدير الامتثال به ، فيجب على المريد لإيصال تلك المصلحة إلى المكلّف أن يأمره أوّلا بذلك الفعل ثم يبيّن له أنّ المقصود هو الامتثال بذلك الأمر ، كذلك يمكن أن يكون الفعل موقوفا على عنوان بشرط أن يكون الداعي إلى إيجاد ذلك العنوان هو توقّف ذلك الفعل عليه ، فهو بحيث لو وجد في الخارج ولم يكن الداعي إليه ترتّب الغير عليه لا يكون موقوفا عليه ، وإذا وجد في الخارج على الوجه المذكور يترتّب عليه الغير ، فالطالب لوجود ذي المقدّمة ، له أن يحتال في ذلك بأن يأمر أولا بذيها ويلزم من ذلك الأمر بما هو مقدّمة له في الواقع ، وهو الفعل المقدّمي على الوجه المذكور ، إلاّ أنّه حيث لا يمكن له الاكتفاء بذلك الأمر فيحتال بالقول بأنّ المطلوب موقوف على ذلك الفعل على وجه يكون الداعي إلى إيجاده هو التوقّف المذكور.

فما يقتضيه الأمر (1) المقدّمي في الحقيقة ليس هو إلاّ التوصّل بالموقوف الذي هو الواجب النفسي ، غاية الأمر أنّ ذات المقدّمة حينئذ - حصولها وتكوّنها في الخارج - موقوفة على القصد المذكور ، فلا بدّ من طلب آخر من سنخ طلب المقدّمة ، لا أن يكون طلبا نفسيّا ليلزم ما أوردناه على الوجه الأوّل ليصحّ الطلب المذكور.

ولتكن على بصيرة من ذلك لعلّك تطّلع على وجه آخر في التقصّي عن هذه العويصة. ولله التوفيق والهداية.

ص: 352


1- في ( ع ) و ( م ) : فما يقضى بالأمر :

هداية

زعم صاحب المعالم - على ما يوهمه ظاهر عبارته في بحث الضدّ - توقّف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير ، وقال : وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر (1).

وربّما يقال في توجيهه : إنّ وجوب المقدّمة لمّا كان متمحّضا في التوصّليّة نظرا إلى انحصار حكمة وجوبه في التوصّل بها إلى ذيها ، فعند وجود الصارف وعدم الداعي إلى المأمور به لا دليل على وجوبها. ونحن بعد ما أعطينا النظر في الأدلّة الناهضة على وجوب المقدّمة حقّ النظر واستقصينا التأمّل فيها ما وجدنا رائحة من ذلك فيها ، كيف! وإطلاق وجوب المقدّمة واشتراطها تابع لإطلاق وجوب ذيها واشتراطه. ولا يعقل اشتراط وجوب الواجب بإرادته ؛ لأدائه إلى إباحة الواجب ، فما يدلّ على وجوب ذيها عند عدم إرادته فهو دليل على وجوب المقدّمة أيضا ، والحجّة المفروضة القائمة على وجوب المقدّمة جارية بعينها حال الإرادة وعدمها من غير فرق في ذلك.

وبالجملة ، فلا إشكال في فساد التوهّم المذكور.

وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالواجب الغيري لأجل التوصّل به إلى الغير أو لا؟ وجهان ، أقواهما الأوّل.

ص: 353


1- معالم الدين : 71.

وتحقيق المقام هو : أنّه لا إشكال في أنّ الأمر الغيري لا يستلزم امتثالا - كما عرفت في الهداية السابقة (1) - بل المقصود منه مجرّد التوصّل به إلى الغير ، وقضيّة ذلك هو قيام ذات الواجب مقامه وإن لم يكن المقصود منه التوصّل به إلى الواجب ، كما إذا أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق ، الموقوف على تحصيل الثمن ، ولكنّ العبد حصّل الثمن لا لأجل شراء اللحم بل بواسطة ما ظهر له من الامور الموقوفة عليه ، ثمّ بدا له الامتثال لأمر المولى ، فيكفي له في مقام المقدّميّة الثمن المذكور من غير إشكال في ذلك ، ولا حاجة إلى إعادة التحصيل ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

إنّما الإشكال في أنّ المقدّمة إذا كانت من الأعمال العباديّة التي يجب وقوعها على قصد القربة - كما مرّ الوجه فيها بأحد الوجوه السابقة - فهل يصحّ في وقوعها على جهة الوجوب أن لا يكون الآتي بها قاصدا للإتيان بذيها؟

ومن فروعه : ما إذا كان على المكلّف فائتة (2) ، فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها ولا قاصدا لإحدى غاياته المترتّبة عليه ، فيما إذا جوّزنا قصدها في وقت التكليف به واجبا - كما هو المفروض - فإنّه على المختار لا يجوز الدخول به في الصلاة الحاضرة ولا الفائتة إذا بدا له الدخول إليها ، وعلى الثاني يصحّ.

ومن فروعه أيضا : ما إذا اشتبهت القبلة في جهات وقلنا بوجوب الاحتياط - كما هو التحقيق - فلو صلّى في جهة غير قاصد للإتيان بها بالجهات الباقية ، على ما اخترناه يجب عليه العود إلى تلك الجهة ، وعلى الثاني يجزئ في مقام الامتثال إذا لحقها الجهات الأخر. وقد نسب الثاني إلى المشهور ، ولم نتحقّقه.

وما يمكن الاستناد إليه في تقريب مرادهم هو : أنّ الوضوء ليس إلاّ مثل

ص: 354


1- راجع الصفحة 340.
2- في ( ع ) و ( م ) بدل « فائتة » : طهارة مائيّة.

الصلاة في لحوق الطلب الإيجابي بهما ، غاية الأمر أنّ الداعي إلى إيجاب الواجب الغيري هو التوصّل به إلى الغير ، والداعي إلى إيجاب الصلاة هو وجوب نفس الصلاة ، ولا دليل على لزوم قصد دواعي الأمر في الامتثال.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ ذلك فاسد ؛ إذ بعد ما عرفت من تخصيص النزاع بما إذا اريد الامتثال بالمقدّمة نقول : لا إشكال في لزوم قصد عنوان الواجب فيما إذا اريد الامتثال بالواجب وإن لم يجب الامتثال ، ولا ريب في عدم تعلّق القصد بعنوان الواجب فيما إذا لم يكن الآتي بالواجب الغيري قاصدا للإتيان بذلك الغير ، فلا يتحقّق الامتثال بالواجب الغيري إذا لم يكن قاصدا للإتيان بذلك ، وهو المطلوب.

أمّا الأوّل ، فقد عرفت فيما تقدّم أنّ الامتثال لا نعني به إلاّ أن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل هو الأمر ، ويمتنع دعاء الأمر إلى عنوان آخر غير ما تعلّق به الأمر ، لعدم الارتباط بينهما ، فلو كان الداعي هو الأمر يجب قصد المأمور به بعنوانه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحاكم بالوجوب الغيري ليس إلاّ العقل ، وليس الملحوظ عنده في عنوان حكمه بالوجوب إلاّ عنوان المقدميّة والموقوف عليه ، وهذه الجهة لا تلحق ذات المقدّمة إلاّ بملاحظة ذيها ، ضرورة كونها من العناوين الملحوظة باعتبار الغير ، فالإتيان بشيء على جهة المقدميّة للغير يمتنع انفكاكه عن قصد الغير ، وإلاّ لم يكن الداعي هو الأمر اللازم من أمر الغير.

وبعبارة اخرى : أنّ ذات المقدّمة معنونة بعنوانات كثيرة ، منها المقدميّة ، وهذا هو عنوان وجوبها الغيري ، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان ، لما قرّر فيما تقدّم. وقصد عنوان المقدّمة (1) على وجه يكون الداعي إلى إيجاده ملاحظة المنفعة في هذا العنوان لا يعقل بدون قصد الغير ، إذ لا يعقل القصد

ص: 355


1- في ( ع ) : المقدّميّة.

إلى شيء يترتّب عليه فائدة لأجل تلك الفائدة بدون أن يكون تلك الفائدة مقصودة ، لكونه تناقضا.

ولعلّ ذلك هو مراد كلّ من حكم بوجوب قصد الاستباحة في الوضوء ، إذ لا يظهر من الاستدلال بالآية الشريفة ( إِذا قُمْتُمْ ) (1) الآية ... إلاّ الإتيان بالوضوء لأجل الصلاة (2) ، ولا يظهر (3) منها الدلالة على قصد الاستباحة مع عدم إرادة الصلاة ، كما لا يخفى. وأمّا اشتراط رفع الحدث ، فمرجعه أيضا إلى ذلك لو لم نقل بأنّ الحدث هي الحالة المانعة عن الدخول فيما يشترط بالطهارة. وأمّا إذا قلنا بأنّها من الامور الانتزاعيّة عن الأحكام التكليفيّة فرجوعه إلى ذلك ظاهر.

ومن هنا يظهر أنّ نسبة القول الثاني إلى المشهور لعلّها في غير محلّها ، فتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر اشتراط وقوع المقدّمة على صفة الوجوب والمطلوبيّة بقصد الغير المترتّب عليها ، لما عرفت. ويكشف عن ذلك ملاحظة الأوامر العرفيّة المعمولة عند الموالي والعبيد ، فإنّ الموالي إذا أمروا عبيدهم بشراء اللحم الموقوف على الثمن ، فحصّل العبد الثمن لا لأجل اللحم ، لم يكن ممتثلا للأمر الغيري قطعا ، وإن كان بعد ما بدا له الامتثال مجزيا ، لأنّ الغرض منه التوصّل.

ولمّا كان المقدّمة العباديّة ليست حالتها مثل تلك المقدّمات في الاكتفاء بذات المقدّمة عنها ، وجب إعادتها كما في غيرها من العبادات ، فلا يكاد يظهر الثمرة في هذا النزاع في المقدّمات الغير العباديّة - كغسل الثوب ونحوه - ضرورة حصول ذات الواجب وإن لم يحصل فيه الامتثال على وجه حصوله في الواجبات الغيريّة.

ص: 356


1- المائدة : 6.
2- في ( ط ) زيادة : إلاّ ذلك.
3- في ( ع ) : فلا يظهر.

نعم ، يظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدّمي على حكمه السابق. فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كان مقدّمة لإنقاذ غريق ، بل يقع واجبا سواء ترتّب عليه الغير أو لا. وإن قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم يكن قاصدا لإنقاذ الغريق. كذا أفاد الاستاذ.

ولقائل أن يقول : إنّ قضيّة الوجوب الغيري لا تزيد على أنّ المعتبر في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب أن لا يكون الآتي بها قاصدا لعدم الغير ، أو يكون غير ملتفت إليه ، وأمّا أنّه لا بدّ من أن يكون قاصدا لوقوع الغير جزما فلا نسلّم أنّه ممّا يقضي به الوجوب الغيري ، بل الإتيان بالمقدّمة على وجه احتمال ترتّب الغير عليه ممّا يكفي في وقوعها على صفة الوجوب. ويظهر الثمرة فيما إذا أتى بالمقدّمة رجاء لأن يترتّب عليها الغير ، فإنّها صحيحة بناء على ما ذكرنا ، بخلاف ما لو قلنا بما أفاده الاستاذ ، فليتأمّل.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت من عدم وقوع المقدّمة العباديّة على صفة الوجوب فيما إذا لم يكن الآتي بها قاصدا للغير ، فهل يجزئ في ترتّب ذلك الغير الّذي لم يكن مقصودا عليها فيما إذا كان الآتي قاصدا لغيره ممّا يترتّب عليها ويصحّ القصد إلى غيره - كما هو ظاهر في الوضوء (1) إذا أتى به المكلّف غير قاصد للصلاة مع القصد إلى غاية اخرى ممّا يترتّب عليه ، كالطواف وقراءة القرآن ونحو ذلك - أو لا يجزئ عنه ولا يصحّ القصد إلى غيره فيما إذا كان واجبا والغير مندوبا؟ وجهان.

فعلى الأوّلى - كما عن المشهور ، على ما نسبه جمال المحقّقين (2) - يصحّ الوضوء بعد دخول الوقت مع عدم إرادة الصلاة فيما إذا اريد به الكون على الطهارة.

ص: 357


1- في ( ط ) : كما أنّ الوضوء.
2- انظر الحواشي على اللمعة : 30.

وعلى الثاني ، لا يصحّ على ما ذهب إليه جمع من الأصحاب (1).

والتحقيق في المقام ان يقال : أمّا حديث إجزاء المقدّمة التي يراد بها غاية اخرى غير الغاية الغير المقصودة عنها - كما في الوضوء إذا قصد به الكون على الطهارة أو غيره عن الوضوء للصلاة - فمبنيّ على اتّحاد حقيقة تلك المقدّمة وعدم اختلاف ماهيّتها باختلاف ذويها (2) ، كما هو كذلك في الوضوء ، على ما استظهرناه من الأخبار الواردة فيه ؛ ولذلك نقول بكفاية الوضوء لأجل غاية واحدة عن الوضوء في جميعها ، لأنّ المقدّمة بعد ما كانت حاصلة لا وجه للأمر بإيجادها ثانيا.

لا يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كانت المقدّمة من المقدّمات التوصليّة كما في غسل الثوب. وأمّا إذا كانت عبادة كما في الوضوء ، فمجرّد حصولها لا يكفي عمّا هو المقصود منها من حصول التعبّد بها وقصد التقرّب منها.

لأنّا نقول : لا ينافي كونها عبادة ؛ لما ذكرنا من حصولها.

وتحقيقه : أنّ كون فعل عبادة تارة يلاحظ بالنسبة إلى الأمر الذي تعلّق به وصار بملاحظة ذلك الأمر عبادة من حيث إنّ المطلوب الحقيقي فيه الامتثال. وتارة يلاحظ بالنسبة إلى الامتثال الّذي صار لأجله الفعل عبادة. فبملاحظة نفس الفعل نقول بكونه تعبّديّا ، وأمّا مطلوبيّة الامتثال بذلك الفعل فمن المعلوم أنّه واجب توصّلي ومطلوب غير تعبّدي يسقط بمجرّد حصوله في الخارج من غير توقّف على شيء آخر. فما هو المطلوب من الوضوء وهو وقوعه على وجه العبادة ، ووقوعه على ذلك الوجه مطلوب توصّلي لا ينافي كون الفعل المطلوب بواسطة الامتثال به واجبا

ص: 358


1- منهم الشيخ في المبسوط 1 : 19 ، والحلّي في السرائر 1 : 105 ، وفخر الدين في الإيضاح 1 : 37 ، وراجع جامع المقاصد 1 : 207.
2- كذا ، والظاهر : ذيها.

تعبّديّا ، والمفروض من وقوعه على جهة العبادة بواسطة الغاية المترتّبة عليه من قراءة القرآن ونحوه ، فلا وجه للقول بعدم الإجزاء.

اللّهمّ إلاّ أنّ يتعسّف بالتزام أنّ المطلوب هو الامتثال بالوضوء بواسطة الأمر الخاصّ المتعلّق بغاية مخصوصة ، وهو كما ترى!

هذا على تقدير الاتّحاد. وأمّا على فرض اختلاف المقدّمة كما في الأغسال وإن اتّحدت صورة ، فلا إشكال في عدم الاكتفاء والإجزاء.

ولعلّك بعد ما ذكرنا تطلّع على ما هو الحقّ بالنسبة إلى صحّة القصد إلى غاية مندوبة وصحّة العمل الذي يراد به ترتّب الغاية المندوبة فيما إذا لم يكن المكلّف قاصدا للغاية الواجبة مع دخول الوقت.

وتوضيح ذلك الإجمال وتبيين هذا المقال هو أن يقال : إنّه إذا كانت ماهيّة واحدة مقدّمة لعدّة امور بعضها واجب وبعضها مندوب - كالوضوء للصلاة وقراءة القرآن ونحوهما - فإن اختصّت تلك الماهيّة بشيء ممّا يخصّصها عند كونها مقدّمة لكلّ واحد من تلك الامور ، فلا ينبغي الإشكال في صحّة إرادة الماهيّة التي هي مقدّمة للمندوب ، إذ لا مدخل لما هي مقدّمة للواجب في ذلك ، فإنّ وجوب ماهيّة لا ينافي استحباب ماهيّة اخرى مضادّة لها ، وهو ظاهر. وإن لم يتخصّص تلك الماهيّة بمخصّص - كأن يكون بعينها من غير ملاحظة اعتبار موجب لاختلافها مقدّمة للواجب وهي بعينها مقدّمة للمندوب - فلا ينبغي الارتياب في عدم صحّة إرادة الغاية المستحبّة بعد العلم بفعليّة الوجوب فيها باعتبار وجوب الغاية المرتّبة عليها ، إذ لا ريب في تضادّ الاستحباب والوجوب ، والماهيّة الواحدة من حيث وحدتها على ما هو المفروض يمتنع أن تكون موردا للمتضادّين.

ومن هنا ينقدح لك فساد ما عسى أن يتوهّم : من ابتناء الكلام في المقام على

ص: 359

مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ؛ إذ على تقدير التخصيص (1) لا إشكال في الاختلاف والجواز ، وعلى تقدير عدمه لا إشكال في عدم الجواز حتّى على القول بالجواز في تلك المسألة. نعم ، على تقدير الاختلاف مع كون النسبة بين تينك الماهيّتين عموما من وجه ، ففي مادّة الاجتماع يكون من موارد اجتماع الحكمين المتنافيين ، وهما الوجوب اللازم من وجوب ذيها والاستحباب اللازم من استحباب ذيها ، فيبتني على مسألة اجتماع الأحكام المختلفة.

فإن قلت : إنّ الماهيّة الكليّة تصلح لأن تكون موردا للأحكام المختلفة ، فلا ضير في وحدة الماهيّة مع اختلاف الأحكام ، كما ترى في الدخول في الدار المغصوبة ، فإنّه واجب وحرام باختلاف الغايات المترتّبة عليه من الإنقاذ ونحوه.

قلت : إن اريد أنّ الماهيّة الكليّة من حيث وحدتها تصلح لذلك فهو ضروريّ الاستحالة. وإن اريد أنّ تلك الماهيّة باختلاف أفرادها وإن كان الوجه في الاختلاف اختلاف القصد - كما هو الظاهر من المثال المذكور - تصلح لذلك فهو حقّ ، لكنّه ممّا لا مدخل له بالمقام ، لظهور الفرق بين ما نحن بصدده وبين ما ذكر من الأمثال ، لعدم اختلاف الحكم في المفروض باختلاف الأفراد.

لا يقال : ترتّب الغايات المختلفة على ماهيّة تصلح لأن يختلف به الماهيّة الواحدة ، فيكون موردا للأحكام المتخالفة.

لأنّا نقول : ذلك لا يجدي شيئا ، فإنّ ما يصلح لاختلاف الماهيّة هو ما يعتبر فيها قبل ملاحظة ترتّب الغايات الموجبة لاختلاف الأحكام. وأمّا اختلاف الغايات فهو اعتبار يلحق الماهيّة بملاحظة نفس الغاية ، فلا يصلح وجها للاختلاف ، كيف! وهو منشأ الإشكال.

ص: 360


1- في ( ع ) و ( م ) : التحقيق.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت لا وجه لاتّصاف تلك الماهيّة بصفتي الوجوب والاستحباب مطلقا ، إذ المفروض اتّحادها من جميع الوجوه ، فلا يعقل استحبابها ولو في حال عدم كونها مقدّمة للواجب ، لأنّ المصلحة الداعية إلى إيجابها إمّا أن تكون ملزمة أو لا ، فعلى الأوّل يجب وجوبها وعلى الثاني ندبها.

قلت : لا ضير في ذلك في الواجب الغيري ، فإنّ المصلحة الموجودة فيها القاضية بمقدّميّتها للغايات المرتّبة عليها أمر واحد ولا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف من قبل تلك الغايات ، فإذا كانت واجبة تجب تلك الماهيّة التي تفضي إليها بواسطة وجوبها ، وإن كانت مندوبة تتّصف تلك الماهية بالندب ، إلاّ أنّ حال الوجوب اللازم من وجوب ذيها يمتنع طلبها ندبا ، لكونهما متضادّين باعتبار الفصل ، وإن لوحظ بالقياس إلى جنس الطلب فيمتنع اجتماعهما أيضا ، لامتناع اجتماع الأمثال.

فظهر ممّا قرّرنا : أنّه على تقدير أن يكون تلك الامور المترتّبة على الوضوء وغيره من المقدّمات دواعي للأمر بها لا عناوين لما هو المأمور به في الواقع - كما في الغسل - لا وجه للقول بصحّة الوضوء فيما إذا لم يكن قاصدا لغاية واجبة وإن كان قاصدا للغاية المندوبة ، لأنّ المأمور به غير المقصود والمقصود غير مأمور به.

هذا على ما هو التحقيق من أنّ تكثّر الغايات من باب الدواعي التي مرجعها إلى جهات تعليليّة لا تورث كثرة فيما علّل بها.

وعلى تقدير القول بأنّ تلك الغايات ممّا يختلف به نفس المعنى على أن يكون عناوين لها - كأن يقال : الواجب من الوضوء هو ما يوصل إلى غاية واجبة والمندوب ما يفضي إلى غاية مستحبّة - فالمتراءى في جليّ النظر هو الحكم بجواز اجتماع الوجوب والاستحباب معا ، لما عرفت من أنّ وجوب ماهيّة لا ينافي استحباب ماهيّة اخرى.

ص: 361

ولكنّه مع ذلك ممّا لا يتمّ عند دقيق النظر ؛ لأن ذينك العنوانين تارة يكونان متلازمين ، كما في الوضوء للصلاة والوضوء للطواف ، حيث إنّهما ليسا بمتغايرين ، لأنّ الدليل على التغاير في أمثال المقام إنّما هو اختلاف اللوازم والأحكام المترتّبة عليهما شرعا ، كما في غسل الجمعة والجنابة حيث يرتفع بأحدهما الحدث ولا يرتفع بالآخر ، والمفروض اتّحادهما في اللوازم الشرعيّة ، فلا يعقل التفكيك بينهما في مورد ، فهذا الاختلاف في الحقيقة راجع إلى اختلاف مجرّد الحكاية والعنوان مع اتّحاد المحكيّ عنه والمعنون ، وذلك لا يوجب تعدّد الحكم. وتارة يكونان متغايرين بواسطة التقييد المزبور على نحو العموم من وجه ، وهذا هو الذي قلنا : بأنّ الماهيّة على تقدير التخصيص تصير متعدّدة وإذا اجتمعتا في مورد يكون من اجتماع الأمر والنهي ، ففي مورد الاجتماع لا بدّ من الرجوع إلى المذاهب في تلك المسألة ، وفي مورد الافتراق لا إشكال.

وبالجملة ، القول بصحّة الوضوء فيما إذا كان المكلّف مشغولا ذمّته بوضوء واجب مع عدم القصد إلى غايته الواجبة إمّا مبنيّ على عدم لزوم قصد الغير في الواجب الغيري وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه ، وإمّا مبنيّ على القول باختلاف الماهيّة بواسطة اختلاف الوجوه التعليليّة والاعتبارات الغائيّة كما عرفت ، وهو من أكاذيب الأوهام ، سواء كان الاختلاف الحاصل بواسطة الغايات اختلافا نوعيّا أو اختلافا شخصيّا ، كما أومأنا إليه آنفا في مثل الدخول في الدار المغصوبة ، فإنّ أفراده يختلف أحكامها بالحرمة والوجوب ، بتقريب أن يقال : كما أنّ الدخول يختلف حكمه باختلاف القصد ، فكذلك يحتمل اختلاف أحكام أفراد الوضوء باختلاف القصد إلى الغاية المعيّنة ، فعند عدم إرادة الغاية الواجبة مع إرادة الغاية المستحبّة لا ضير في وقوع الوضوء على صفة الوجوب. وهو أيضا فاسد ، لأنّ الدخول في الدار المغصوبة من حيث هو ممّا لا يتعلّق به حكم ، بل إنّما الحكم يتعلّق بأنواعه من الغصب

ص: 362

والإعانة ونحوهما ، ولا شكّ في أنّ القصد إذا كان محصّلا لعنوان الحسن أو القبح - كما في المقام - ممّا يختلف باختلاف الماهيّة كما يشاهد بالوجدان ، فلا وجه للقول بالاختلاف بالقصد فيما نحن فيه ، إذ لا شاهد عليه من الوجدان - كما يلاحظ في الدخول في الدار المغصوبة - ولا من غيره من الأدلّة ، إذ المستفاد منها اتّحاد الحقيقة ، فلا وجه للقول بالصحّة.

نعم ، عندنا وجه وجيه يصحّ التعويل عليه في تصحيح المذهب المشهور ، وهو الفرق بين طريان الوجوب على الاستحباب وبين طريان ما يخالفه جنسا وفصلا ، إذ لا ميز للطلب الوجوبي عن الطلب الاستحبابي إلاّ بما هو ليس خارجا عن حقيقة الطلب ، كما في أمثاله من الأعراض التي يختلف أفرادها باختلاف مراتبها شدّة وضعفا ، فطريان مرتبة شديدة من السواد على المرتبة الضعيفة إنّما يوجب ارتفاع النقص في الضعيف الذي لا مدخل لذلك النقص في حقيقة السواد ، ولا يوجب ارتفاع ما هو المناط في حمل السواد عليها ، بل يؤكّده.

ولا أقول : إنّ الطلب الاستحبابي باق على أنحاء خصوصيّاته ، كيف! وخلافه مشاهد بالوجدان عند عروض حالة طلبيّة أكيدة وحدوث إرادة آمريّة شديدة ، بل أقول : إنّ الطلب المتخصّص بتلك الخصوصيّة الضعيفة بعد حدوث ما يقضي بالمرتبة الشديدة ينقلب إليها ، فما هو المناط في الاستحباب باق ، فيصحّ القصد إليه ، وبه يحصل الامتثال ، ويتفرّع عليه جواز الدخول في سائر الغايات المشروطة بالطهارة. وعلى قياسه نقول في غسل الجنابة بالنسبة إلى ما يترتّب عليه من الغايات. وأمّا غيرها فالكلام فيه موكول إلى محلّه ، فكن على بصيرة. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 363

ص: 364

هداية

اشارة

زعم بعض الأجلّة (1) : أنّ المعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب ترتّب الغير عليه ، بحيث لو لم يترتّب عليه يكشف عن عدم وقوعه على صفة الوجوب ، وإذا ترتّب عليه الغير يكشف عن كونه واقعا على صفة الوجوب.

ولعلّه أخذه ممّا احتمله أخوه البارع في تعليقته على المعالم ، حيث جعل ذلك من محتملات كلام المعالم ، فإنّه أفاد بعد ما نقلنا من عبارة المعالم في الهداية السابقة (2) : وإنّما خصّ الوجوب بها في تلك الحالة من جهة حصول التوصّل بها عند أداء ما يتوقّف عليها ، دون ما إذا لم يكن مريدا له ولا يتوصّل بها إلى فعله حينئذ (3) ، انتهى.

وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الظاهر من كلامه هو توقّف الوجوب على الإرادة.

وعلى التقديرين فلا ريب في فساده ؛ لما عرفت وستعرف أيضا إن شاء اللّه. والأولى نقل عبارته في المقام فإنّها أوفى بمراده.

قال فيما مهّده من المقال لتوضيح الحال بعد تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري : ثمّ هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة وجوبه أن يترتّب عليه فعل الغير أو الامتثال به وإن لم يقصد به ذلك ، أو يعتبر قصد التوصّل إليه أو إلى الامتثال به وإن لم يترتّب عليه ، أو يعتبر الأمران ، أو لا يعتبر شيء منهما؟ وجوه.

ص: 365


1- وهو صاحب الفصول ، كما سيجيء كلامه.
2- راجع الصفحة 353.
3- انظر هداية المسترشدين 2 : 265.

والتحقيق من هذه الوجوه هو الوجه الأوّل ؛ لأنّ مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه ، دون غيره ؛ لما عرفت من أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث كونه مقيّدا ، وهذا لا يتحقّق بدون القيد الذي هو فعل الغير. وأمّا القصد فلا يعقل له مدخل في حصول الواجب وإن اعتبر في الامتثال به. ثمّ فرّع على ما أفاده فروعا ، أهمّها تصحيح فعل الضدّ إذا توقّف فعل المأمور به على تركه مع القول بوجوب المقدّمة (1).

وقال في مقام آخر : إنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلاّ إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، لا بمعنى أنّ وجوبها مشروط بوجوده فيلزم أن لا يكون خطاب بالمقدّمة أصلا على تقدير عدمه ؛ فإنّ ذلك متّضح الفساد. كيف! وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لإطلاق وجوبه وعدمه. بل بمعنى أنّ وقوعها على الوجه الواجب المطلوب منوط بحصول الواجب ، حتّى أنّه إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف المطلوبيّة ، لعدم وقوعها على الوجه المعتبر ، فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها ، لا من قبيل شرط الوجوب. وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف على من يتفطن له.

قال : والذي يدلّك على هذا أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة ، فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور. وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها له مطلقا أو على تقدير التوصّل بها إليه ، وذلك آية

ص: 366


1- الفصول : 81.

عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه. وأيضا حيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا تكون معتبرة إذا انفكّت عنه. وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه ، ويلزم منه ان يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله ، انتهى موضع الحاجة من كلامه (1).

وحاصل مرامه : أنّ المقدّمة باعتبار وجودها في الخارج نوعان : أحدهما ما يترتّب عليها ذوها ، والثاني ما لا يترتّب عليها ما وجبت المقدّمة لأجله ، كما إذا تخلّفت عن ذيها لمانع اختياري أو اضطراري. وما هو مطلوب للآمر إنّما هو النوع الأوّل دون الثاني ؛ إذ لا يعقل طلب شيء من غير ما يدعو إلى طلبه ، والمفروض أنّ المقدّمة ليست مطلوبة في حدّ ذاتها ، فالداعي إلى طلبها إنّما هو ترتّب الغير عليها ، فعند عدم الغير لا داعي إلى طلبها ، لأنّ المفروض أنّه هو الداعي إلى ذلك باعتبار التوصّل بها إليه ، فلو وقعت مجرّدة عنه يكشف عن عدم مطلوبيّتها ، فإنّ انتفاء الغاية المترتّبة على وجود الشيء في الخارج يكشف عن عدم وقوع ذلك الشيء على الوجه المطلوب.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم : أن القول بوجوب قصد الغير في الامتثال بالواجب الغيري يلازم القول باعتبار ترتّب الغير في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب.

وليس على ما توهّم ، إذ لا ملازمة بينهما واقعا :

أمّا في المقدّمات التوصّليّة - كغسل الثوب ونحوه - فظاهر ، إذ قضيّة القول الأوّل هو الوجوب مطلقا ومقتضى هذا القول هو التنويع ، فما يترتّب عليه الغير يكون مطلوبا ، بخلاف ما لم يترتّب عليه الغير.

ص: 367


1- الفصول : 86.

وأمّا في المقدّمات العباديّة فلا ملازمة أيضا ، إذ مجرّد القصد إلى الغير حال الاشتغال بالمقدّمة يجزي عن وقوعها على وجه الامتثال وإن لم يترتّب عليه فعل الغير لمانع اختيارا أو اضطرارا بناء على المختار. بخلافه على القول المذكور ، فإنّه لم يقع على صفة الوجوب فضلا عن وقوعه على صفة الامتثال عند التخلّف ، فلا ربط بين المقامين ، بل للقائل بأحدهما في أحد المقامين اختيار كلّ من طرفي النفي والإثبات في المقام الآخر. ولعلّ ذلك ظاهر. ومن هنا ترى هذا القائل قد التزم باعتبار القصد في الامتثال بالواجب الغيري مع عدم اعتبار القصد في الوجوب ، كما يظهر من قوله : « وإن اعتبر في الامتثال به » (1).

وكيف كان ، فوضوح فساد هذه المقالة بمكان لا نقدر على تصوّر ما أفاده فضلا عن التصديق به! ونحن بمعزل عن ذلك بمراحل ؛ فإنّه إمّا قول بوجوب خصوص العلّة التامّة من المقدّمات ويلازمه القول بوجوب الأجزاء التي تركّبت العلّة منها فيؤول إلى ما ذهب إليه المشهور ، وإمّا قول بعدم وجوب المقدّمة.

وكشف الحال في ذكر ما يرد عليها تفصيلا ، فنقول : يرد عليها امور :

أمّا أوّلا : فلأنّه قد مرّ فيما تقدّم (2) أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على القول به هو العقل ، وهو القاضي فيما وقع من الاختلافات فيه ، ونحن بعد ما استقصينا التأمّل لا نرى للحكم بوجوب المقدّمة وجها ، إلاّ من حيث إنّ عدمها يوجب عدم المطلوب ، وهذه الحيثيّة هي التي يشترك فيها جميع المقدّمات وإن اختصّ بعضها بالاستلزام الوجودي أيضا كما في العلّة التامّة مثلا ، فما هو المناط في حكم العقل بوجوب المقدّمة هو الاستلزام العدمي من حيث إنّ لوجودها مدخلا في وجود المعلول ، فملاك الطلب

ص: 368


1- الفصول : 81.
2- في ( ط ) زيادة : مرارا.

الغيري بالمقدّمة هذه الحيثيّة ، وهي ممّا يكفي في انتزاعها عن المقدّمة ملاحظة ذات المقدّمة مع قطع النظر عن ترتّب الغير عليها ولحوق الأجزاء الأخر من العلّة بها ، فالمصلحة الداعية إلى حكم العقل بالملازمة بين وجوب الواجب وبين وجوب مقدّماته لا تنفكّ عن ذات المقدّمة ، فيمتنع تجرّدها عن وصف المطلوبيّة وإن تجرّدت عن ترتّب الغير.

وأمّا ما غالط به : من قضاء صريح الواجدان بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه (1) ، فإن أراد من وصف التجريد اعتباره في المطلوب كأن يكون المقدّمة بشرط تجريدها عن ذيها مطلوبة ، فهو حقّ إلاّ أنّه لا يرتبط بما نحن بصدده ، وإلاّ فإن أراد من عدم إرادته عدمها إرادة نفسيّة فهو أيضا مسلّم لكنّه غير مفيد ، إذ لا يعقل إثبات الطلب النفسي للمقدّمة. وإن أراد به عدم الإرادة ولو كانت غيريّة فهو غير سديد ، ضرورة قضاء صريح الوجدان بخلافه. ومن هنا يظهر فساد ما زعمه من جواز التصريح بعدم إرادة المقدّمة الغير الموصلة مع الأمر بذيها.

وأمّا ما أورده في دليل ما صار إليه من قوله : « لما عرفت من أنّ المطلوب فيه هو المقيّد من حيث كونه مقيّدا ، وهذا لا يتحقّق بدون القيد الذي هو فعل الغير » (2) فهو ممّا لا يرجع إلى طائل ، إذ لا يعقل أن يكون الغير في الواجب الغيري قيدا للمطلوب ، إذ لا يراد به إلاّ ما كان الغير قاضيا بوجوبه ، وهذه حيثية تعليليّة لا مدخل للتقييد فيه أصلا ، فالمطلوب في الواجب الغيري ليس مقيّدا ، بل الوجه في مطلوبيّته هو الغير.

ص: 369


1- الفصول : 86.
2- الفصول : 81.

هذا إن لوحظ التقييد بالنسبة إلى مطلوبيّة الواجب الغيري. وإن لوحظ التقييد بالنسبة إلى ذات المقدّمة كأن يقال : إنّ الوضوء المقيّد بترتّب فعل الصلاة عليه مقدّمة لها لا الوضوء المطلق ، ففساده أوضح من أن يحتاج إلى البيان ، فإنّ مقدّمة الكون على السطح ليس الصعود المقيّد بالكون ، بل نفس الصعود ، ولا نعقل للتقييد بالكون مدخلا في مقدميّة الصعود له. نعم ، بعد ترتّب الكون على الصعود يعرض التقييد المذكور له ، وأين ذلك من اعتبار التقييد فيما هو مناط توقّفه عليه؟

والحاصل : أنّه إن أراد من قوله : « المطلوب فيه المقيّد » أنّ الوجه في مطلوبيّة الواجب الغيري هو الغير فهو حقّ لا محيص عنه ، إلاّ أنّه بمراحل عن هذه المقالة. وإن أراد بذلك أنّ المطلوبيّة في الواجب الغيري مقيّدة أو ذات الواجب الغيري كونها مقدّمة مقيّدة بالغير ، فقد عرفت فسادهما ، ضرورة أنّ الجهة التعليليّة لا تورث تقييدا وأنّ عروض التقييد إنّما هو بملاحظة الترتّب ، لا أنّ التقييد به مقدّم عليه ويكون ممّا يتوقّف عليه الواجب ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما أورده قبل ذلك بقوله : « لأنّ مطلوبيّة شيء للغير يقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره » (1) ممّا لم يظهر لنا وجه اختصاصه بالمقام.

وأمّا ما أفاده ثانيا (2) من قوله : « فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لا من قبيل شرط الوجوب » (3) فهو بظاهره فاسد ، لأنّه إن أراد من « شرط الوجود » كونه شرطا له مع قطع النظر عن الوجوب - كأن يكون شرطا لذات الواجب الغيري - فهو دور ظاهر. وإن أراد من كونه شرطا له بملاحظة الوجوب ، فيرجع الأمر إلى شرط الوجوب ، وقد اعترف بكونه متّضح الفساد.

ص: 370


1- الفصول : 81.
2- في ( ط ) زيادة : « في بيان مراده ».
3- الفصول : 86.

فإن قلت : مراده من « شرط الوجود » ما هو شرط لوجود الواجب على صفة الوجوب ، كما يظهر ذلك بملاحظة وجود الأجزاء الواجبة في الصلاة ، فإنّ شرط وجود الجزء على وجه الوجوب لحوق الأجزاء الأخر به ، فكما أنّ الجزء (1) لا تجزئ عمّا هو الواجب منه ما لم يلحقه الأجزاء اللاحقة (2) ، فكذلك المقدّمة لا تقع على صفة الوجوب ما لم يترتّب عليها الغير ، فهو شرط لوقوعها على هذه الصفة ، لا شرط لوجودها حتّى يدور ، ولا لوجوبها حتّى يكون متّضح الفساد.

قلت : نعم ، ينبغي حمل كلامه على ذلك ، إلاّ أنّه مع ذلك فاسد أيضا ، إذ الأجزاء اللاحقة لا تأثير لها في الأجزاء السابقة ، لأنّ المطلوبيّة القائمة بها ليست مطلوبيّة ذاتية نفسيّة ، بل إنّما هي غيريّة عرضيّة ، حيث إنّها أجزاء للواجب النفسي ، وتلك المطلوبيّة لا تنفكّ عنها وإن لم يلحقها الأجزاء الأخر ، لأنّها قد وقعت على تلك المطلوبية. وما وقع على صفة يمتنع زوالها عنه.

لا يقال : فيلزم أن يكون العمل صحيحا فيما إذا لحقه الأجزاء الأخر.

لأنّا نقول : العمل المذكور إن لم يكن ممّا اشترط فيه الموالاة والاتّصال ، فلا دليل على بطلان اللازم وإن كانت الملازمة مسلّمة. وإن كان ، فمنع انتفائه فلا ملازمة ، لأنّ بطلانه بواسطة عدم الشرط أو الجزء المعتبر في نفس العمل على وجه يمتنع إعادته ، لانعدامه قبل.

وبالجملة ، فليس الجزء من حيث إنّه مأخوذ جزء للمركّب أظهر حالا من سائر المقدّمات في المقام حتّى يستند إليه ويقاس الغير عليه في توقّف وقوعه على وجه الوجوب على لحوق الأجزاء الأخر به ، على ما عرفت. نعم ، الجزء

ص: 371


1- في ( ع ) و ( م ) بدل « الجزء » : الحمد.
2- في ( ع ) بدل « اللاحقة » : الأخر.

الملحوظ على وجه لا يخالف الكلّ يتوقّف على لحوق الأجزاء به ، إلاّ أنّه من هذه الجهة ملحوظ على وجه الكلّية ، ولا كلام في حصول الواجب النفسي بحصول جميع أجزائه.

وأمّا قوله : « إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب ... الخ » (1) فإن أراد به أنّ المطلوب بالمقدّمة تمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب والوصول إليه ، حيث إنّه عند عدمها يمتنع صدور الفعل منه ، فغير مفيد وإن كان واقعا في محلّه ، فإنّ ذلك من لوازم ذات المقدّمة من غير ملاحظة شيء آخر. وإن أراد به أنّ المطلوب بالمقدّمة هو ترتّب الغير عليه فعلا ، فغير سديد ، ضرورة أنّ ترتّب الواجب أمر مغاير للمقدّمة مفهوما ، فلا يمكن أن يكون المطلوب منها ذلك المفهوم المغاير إلاّ بضرب من التأويل ، كأن يكون بينهما ملازمة واقعيّة أو اتّحاد خارجي ، وانتفاء الثاني ظاهر ، ولا ملازمة بين المقدّمة والترتّب (2) لما هو ظاهر من كثرة موارد التخلّف ، فلا يعقل أن يكون المطلوب من المقدّمة هو التوصّل. نعم ، يصحّ أن يكون التوصّل إلى الواجب وجها لمطلوبيّة المقدّمة ، فإنّ التوصّل ليس أمرا مغايرا للواجب النفسي بحسب الواقع ، فإنّ ذلك طور من أطواره ، كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر أنّ الداعي إلى طلب المقدّمة هو الصفة الموجودة في ذاتها مع قطع النظر عن الغير ، وهو كونها بحيث يتمكّن المكلّف معها من إيجاد الفعل ، فإنّه لمّا كان إيجاده بدونها ممتنعا التجأنا إلى اعتبار المطلوبيّة فيها ليتبدّل الامتناع بالإمكان. وقد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّه يمتنع أن يكون المصلحة الداعية إلى طلب الشيء موجودا في غيره ، فهذه هي الغاية المترتّبة على وجود المقدّمة ، وعند وجودها يمتنع انتفاؤها.

ص: 372


1- الفصول : 86.
2- في ( ط ) : المترتّب.

وأمّا ثانيا (1) : فلأنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يرجع إلى القول بوجوب مطلق المقدّمة في لحاظ الواقع.

وبيانه يحتاج إلى تمهيد ، وهو أن يقال : إذا كان المأمور به مقيّدا بشيء فهناك صورتان :

الاولى : أن لا يكون القيد مغايرا في الوجود للمقيّد ، كما في الفصول اللاحقة للأجناس ، فإنها لا تغايرها في الوجود الخارجي ، وإنّما يمتاز أحدهما عن الآخر بتعمّل من العقل بانتزاع مفهوم مشترك من الحقيقة النوعيّة وما تتميّز تلك الماهيّة ، وهو ظاهر.

الثانية : أن يكون القيد مغايرا في الوجود ، كما إذا أمر المولى بإتيان زيد فجاء مع عمرو ، ونحو ذلك من الامور التي يعتبر لحوقها بالمقيّد مع جواز انفكاكها عنه وجودا.

لا إشكال في أنّ الواجب على الاولى أمر واحد لا يتصوّر انفكاك القيد فيه عن المقيّد ، ولو حاول المكلّف الامتثال به لا وجه للقول بأنّه يجب إيجاد المطلق مقدمة ثمّ إلحاق القيد به ، إذ المفروض وحدة الوجود فيهما ، ولا يعقل التفكيك بين أمرين متّحدين في الوجود بالسبق واللحوق.

كما أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ الواجب على الثانية إيجاد ما يتّصف بالقيد ثمّ إيجاد القيد ليتّصف به المقيّد ، لأنّ المفروض تغايرهما في الوجود ، ومن أراد إيجاد المقيّد على أنّه مقيّد لا مناص له من ذلك.

لا يقال : إنّ المطلوب في المقامين أمر وحدانيّ حاصل من اعتبار انضمام القيد إلى المقيّد ، ولا يفرق في ذلك كون القيد خارجيّا أو ذهنيّا.

ص: 373


1- مرّ الإيراد الأوّل في الصفحة 368.

لأنّا نقول : وحدة المطلوب على تقدير التسليم ممّا لا ينافي ما نحن بصدده : من لزوم إيجاد المطلق عند التغاير أوّلا ثمّ اتباعه بإيجاد القيد الموجب لحصول المطلوب. ولعلّ ذلك في الظهور كالنار على رأس المنار.

وبعد التمهيد نقول : إنّ التقييد في المقدّمة الموصلة ليس من قبيل التقييد في الصورة الاولى ، لأنّ ما يصير منشأ لانتزاع صفة الإيصال من المقدّمة أمر مغاير لها في الوجود ، إذ هي لا تكون موصلة إلاّ بعد ترتّب فعل الغير عليها. ولا خفاء في أنّ هذه الحالة توجب انتزاع تلك الصفة منها ، فيكون من قبيل التقييد في الصورة الثانية ، وقد قرّرنا في التمهيد وجوب إيجاد المطلق عند إرادة إيجاد المقيّد فيما إذا كان القيد مغايرا له في الوجود العيني. فالقول بوجوب المقدّمة الموصلة يوجب القول بوجوب المقدّمة مطلقا مقدّمة لما هو الواجب من المقدّمة الموصلة. هذا خلف.

وبوجه آخر نقول : إنّ صفة الإيصال إمّا أن تكون معتبرة في المقدّمة أو لا. لا إشكال (1) على الثاني على ما ذهب إليه المشهور. وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ما يوجب انتزاع تلك الصفة منها داخلة في مقدرتنا واختيارنا أو لا. لا كلام أيضا على الثاني ، إذ الأمر الغير الاختياري لا يعقل تعلّق الطلب والتكليف به ، فعلى تقديره يجب وجوب مطلق المقدّمة. وعلى الأوّل فيجب إيجاد تلك الصفة كما يجب إيجاد الموصوف ليصحّ الاتّصاف ، إذ لا منافاة بين وجوب فعل اختياري ووجوب فعل آخر ، ويلزم من ذلك وجوب مطلق المقدّمة مقدّمة لما هو المطلوب من المقيّد. هذا خلف.

فإن قلت : إنّ الواجب من الإتيان بالمطلق فيما إذا وقع على صفة الإيصال أيضا ، فلا يلزم الخلف.

ص: 374


1- في ( ع ) و ( م ) : لا إمكان.

قلت : ذلك وهم فاسد ، إذ الكلام في الإتيان بالأفعال التي يتعلّق بها الطلب والتكليف وإيجادها في الخارج ، ولا يعقل ذلك إلاّ بإيجاد مطلق المقدّمة ثمّ اتباعه بما يوجب انتزاع تلك الصفة منها ، كما يلاحظ بقياسه إلى الأجزاء في واجب مركّب.

والعجب! أنّ القائل المذكور (1) إنّما تفطّن بذلك في نظير المقام ، حيث إنّ بعض الأفاضل تصدّى لدفع الإشكال الوارد في مسألة الضدّ (2) : بأنّ النهي التبعي لا ينافي الأمر النفسي ، فأورد عليه : بعدم الفرق في المنافاة بين الأمر والنهي من جهة اختلاف أقسام الأمر والنهي ، لرجوعه إلى اختلاف جهتي الأمر والنهي ، ولا مدخل للمأمور به والمنهيّ عنه في ذلك (3). إلى أن أورد على نفسه سؤالا حاصله : اختلاف متعلّق الأمر والنهي ، لأنّ المطلوب بالأمر نفس الفعل والمطلوب بالنهي التوصّل بالترك إلى الواجب. فأجاب عن ذلك : بأنّ مطلوبيّة التوصّل توجب مطلوبيّة نفس المقدّمة ؛ لأنّها مقدّمة له ، قال : ولا سبيل إلى أن يجعل المطلوب حينئذ التوصّل إلى التوصّل دون نفس المقدّمة ، للزوم التسلسل ؛ ومع ذلك لا يجدي ؛ لأنّ التوصّلات الغير المتناهية إذا اخذت بأسرها كانت مستندة إلى نفس المقدّمة ، فيلزم مطلوبيّتها لها ، انتهى (4).

وهو جيّد ، لرجوعه إلى ما ذكرنا : من أنّ إيجاد المقيّد يحتاج إلى إيجاد المطلق مقدّمة.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين أن يلاحظ الإيصال في المقدّمة الموصلة في

ص: 375


1- أي صاحب الفصول.
2- وهو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 102 و 114.
3- الفصول : 95.
4- الفصول : 96.

مفروض السؤال بالنسبة إلى الواجب وبين أن يلاحظ بالنسبة إلى المقدّمة الموصلة ؛ لأنّ الإيصال إلى الإيصال إنّما يلاحظ بالنسبة إلى ذات الواجب ، كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلقضاء صريح الواجدان والعرف بخلافه ، ضرورة سقوط الطلب المتعلّق بالمقدّمة بعد وجودها من غير انتظار حالة هي ترتّب ذيها عليها ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يحكم حكما ضروريّا لا يدخله شبهة ولا يمازجه ريبة بالفرق في الحالة الطلبيّة النفسانيّة بين المقدّمات المأتيّ بها وبين غيرها من المقدّمات المعدومة ، لسقوط الطلب المتعلّق بالاولى وبقائه في الثانية ، ولو لا أنّ لوجودها في حيال ذاتها مع قطع النظر عن ترتّب الغير عليها مدخلا في المطلوبيّة لم يعقل الفرق بينها وبين غيرها في السقوط والبقاء. وذلك مشاهد عند المجانب عن الاعتساف ، المتّصف بأحسن الأوصاف.

فإن قلت : إنّ ذلك يتمّ على تقدير أن يكون المقدّمات مطلوبات غيريّة في حيال ذواتها وحدود أنفسها ، فإنّه يمكن القول بوجود الواجب الغيري على ذلك التقدير بدون وجود الواجب النفسي في الخارج. وأمّا بناء على أنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمات ليس طلبا برأسه بل الموجود منه هو طلب واحد فإن قيس إلى نفس الواجب يكون طلبا نفسيّا وإن قيس إلى ما يتوقّف عليه وجود الواجب من المقدّمات يكون طلبا غيريّا ، فلا يتّجه ذلك ، ضرورة أنّ المطلوب حينئذ ليس ذات المقدّمة بل المطلوب هو الإيصال بها إليها ، ومرجعه في الحقيقة إلى طلب الوصول ، ومرجعه إلى طلب الفعل الواجب ، وعلى هذا التقدير فلا وجه لسقوط الطلب من المقدّمة على تقدير عدم وجود ذيها.

قلت : وذلك خروج عمّا هو المفروض من وجوب المقدّمة ، لرجوعه إلى القول بعدم وجوب المقدّمة ، إذ الطلب الواحد ممّا لا يعقل أن يتعلّق بمطلوبين مع اختلاف مراتبه بالنفسيّة والغيريّة. وستطّلع على زيادة تحقيق فيما سيجيء.

ص: 376

تذنيب :

قد عرفت أنّ من أهمّ الدواعي إلى إخراج هذه المقالة الفاسدة هو تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الضدّ ، ولم يظهر صحّة الابتناء أيضا ، بناء على ما أفاده (1) في وجه التفريع على اختلاف تقاريرها.

وتوضيح المقام : أنّ القائل بفساد العبادة فيما إذا توقّف على تركها فعل المأمور به ، استند إلى وجوه ، مرجعها إلى لزوم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو الفعل ؛ لأنّ المفروض وجوب الفعل ، وحيث إنّ الترك ممّا يتوقّف عليه فعل الواجب ، فيلزم أن يكون واجبا ويكون الفعل منهيّا عنه ، لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام قطعا ، فيلزم فساد الفعل بواسطة النهي اللازم من وجوب الترك.

والقائل المذكور (2) قد حاول دفع هذا الإشكال بقوله : إنّ الطلب بكلا نوعيه من الإيجابي والتحريمي يستلزم مبغوضيّة نقيض مورده - كالرجحان والمرجوحيّة ؛ لأنّهما من الصفات المتضايفة التي يلازم وجود إحداهما وجود الاخرى تحقيقا للتضايف - فمطلوبيّة فعل مطلقا أو مقيّدا يستلزم مبغوضيّة تركه على حسب مطلوبيّته إطلاقا وتقييدا ، ومطلوبيّة الترك المطلق المتعلّق بفعل مطلق أو مقيّد مطلقا أو مقيّدا يستلزم مبغوضيّة الفعل على حسبه إطلاقا وتقييدا ، ومطلوبيّة الترك المقيّد المتعلّق بفعل مطلق أو مقيّد يستلزم مبغوضيّة ترك هذا الترك المقيّد ؛ لمكان المناقضة ، دون الفعل لعدم مناقضته معه من حيث ارتفاعهما في الترك المجرّد عن [ القيد ](3).

لا يقال : ترك الترك المقيّد أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، وحرمة العامّ تستلزم

ص: 377


1- أي صاحب الفصول.
2- أي صاحب الفصول.
3- أثبتناه من المصدر ، وفي النسخ : الضدّ.

حرمة الخاصّ. لأنّا نقول : العموم بحسب الوجود لا يستلزم ذلك ، وبحسب الصدق ممنوع (1). انتهى عبارته باختلاف يسير.

وتوضيح ما أفاده في بيان عدم الفساد هو : أنّ المأمور به هو الفعل مطلقا ، وليس منهيّا عنه ؛ لأنّه ليس نقيضا لما هو المأمور به وهو الترك المقيّد. ولا فردا من أفراد ما هو النقيض ؛ لأنّ اقتران الفعل مع ترك الترك المقيّد اقتران اتّفاقي ، كما أنّ ترك الحرام يقارن فعل الواجب أو المباح بالمقارنة الاتّفاقيّة ، فلا نهي ولا فساد.

وفيه : أوّلا : أنّ تفريع هذه الثمرة على ما ذكر لا يحتاج إلى توسيط هذه المقدّمات ، إذ يكفي في ترتّب الثمرة أن يقال : إنّ الواجب من الترك ليس الترك مطلقا ، بل فيما إذا ترتّب عليه الفعل ، وحيث إنّه مع وجود الضدّ لا يعقل وجود الفعل المأمور به ، فلا يكون الترك مطلوبا ، لعدم ترتّب الغير على المقدّمة ، وحيث لم يكن الترك مطلوبا فلا يكون الفعل منهيّا عنه فلا يكون فاسدا ، فلا حاجة إلى ملاحظة مناقضة الترك المقيّد للفعل على ما بحسبه. مع أنّ استفادة حرمة الصلاة من وجوب الإزالة عند القائل باقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه الخاص يمكن أن تكون مستندة إلى دعوى ضرورة العقل بأنّ قضيّة إيجاب شيء حرمة موانعه مطلقا ، فعند وجوب الإزالة يكون الصلاة المانعة منهيّا عنها محرّمة ، فلا يتّجه التفصيل بين المقدّمة الموصلة وغيرها في خصوص الموانع وإن قلنا بتماميّة ذلك في سائر المقدّمات. والفرق بين الموانع وغيرها يظهر بالتأمّل في مواردهما عرفا.

وثانيا : أنّ حرمة ترك الترك المقيّد يكفي في حرمة الفعل ، لكونه من لوازم نقيضه. وبيان ذلك : أنّهم قالوا بأنّ الإيجاب يناقض السلب مع اتّفاقهم على أنّ نقيض الشيء هو رفع ذلك الشيء على وجه السلب لا على وجه العدول ، كما قرّر في

ص: 378


1- الفصول : 98.

محلّه. ومن المعلوم أنّ رفع السلب إنّما هو سلب السلب لا الإيجاب للإيجاب (1). وأمّا الإيجاب فهو يلازم ما هو المحكيّ عنه فيما هو النقيض حقيقة ، كما يلاحظ ذلك في العدم وعدم العدم ، فإنّه ليس هو الوجود ، كيف! وهو مفهوم عدمي ، ولا يمكن أن يكون الوجود عدما ولو مفهوما ، كما هو ظاهر. فمناقضة الإيجاب للسلب سواء لوحظ ذلك في الوجود الربطي النسبي - كما في القضايا - أو في الوجود المحمولي الأصلي - كما في المفردات - إنّما هو بواسطة ملازمة بين ما هو المحكيّ عنه بتلك الحكايات من الإيجاب وسلب السلب والوجود وعدم العدم.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ الترك الخاص نقيضه رفع ذلك الترك ، وهو أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ مطلقا ، كما قرّر في محلّه. فيكون الفعل لازما لما هو من أفراد النقيض. وهذا يكفي في إثبات الحرمة وإلاّ لم يكن الفعل المطلق محرّما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا ، لأنّ الفعل على ما عرفت ليس نقيضا للترك ، لأنّه أمر وجودي ، ونقيض الترك إنّما هو رفعه ، ورفع الترك إنّما يلازم الفعل مصداقا وليس عينه ، كما هو ظاهر عند التأمّل. فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فكذلك تكفي في المقام.

قوله : الأعمّيّة بحسب الصدق ممنوع. قلنا : لا حاجة في إثبات الحرمة إلى ذلك ، كما عرفت في الفعل المطلق بالنسبة إلى الترك المطلق من غير فرق ، غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط. وأمّا النقيض للترك الخاصّ فله فردان ، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده ، كما لا يخفى.

هذا بناء على ما زعمه من أنّ الترك المجرّد من أفراد ترك الترك المقيّد ، وإلاّ فالتحقيق فيه سيجيء في بعض المباحث الآتية. واللّه الموفّق والهادي.

ص: 379


1- الظاهر زيادة : « للإيجاب ». ولم يرد في ( ع ) و ( م ) : « لا الإيجاب ».

ص: 380

هداية

ينقسم الواجب باعتبار تعلّق القصد به وعدمه إلى أصليّ وتبعيّ.

والحقّ أن يعرّف الأصليّ ب- : ما كان مرادا للآمر إرادة مستقلّة ، سواء كانت نفسيّة أو غيريّة ، وسواء كانت استفادة ذلك من الخطاب على وجه الاستقلال كما في دلالة الألفاظ على المناطيق ، أو على وجه التبعيّة كما في دلالة المفاهيم والاستلزامات.

فالعبرة عندنا في صدق الوجوب الأصلي بملاحظة المستفاد : فإن كان مستقلاّ بالإرادة على اختلاف أنحاء الإرادة وتفاوت أقسام الدلالة فهو واجب أصلي ، وإلاّ فهو تبعيّ ، وهو ما لم تتعلّق به إرادة مستقلّة ، بل الطلب فيه - على ما ستعرف - طلب قهريّ حاصل ولو مع الغفلة عن خصوصيّات المطلوب على جهة التفصيل ، وذلك نظير دلالة الإشارة كدلالة الآيتين (1) على أن أقل الحمل ستة ، فإن لوازم الكلام في المخاطبات العرفيّة غير مقصودة للمتكلم.

ولكن يفترق الوجوب التبعي بأن المدلول التبعي لا يلزم أن لا يكون ذا مصلحة نفسية ، بخلاف الوجوب التبعي فإنّه على أن الإرادة ممّا لا يتعلق به على وجه الاستقلال يجب أن لا يكون ذا مصلحة نفسية ، من حيث استفادة وجوبه من وجوب الواجب الأصلي. ونظيره في المطلوبات لوازم الواجب ، فإن من طلب الاستقبال على وجه الاستقلال طلب وقوع الجدي خلف المنكب في العراق مثلا ، فإنه مطلوب تبعي لم يتعلق به في العرف والعادة طلب مستقل وإرادة على حدة.

ص: 381


1- البقرة : 233 ، والأحقاف : 15.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا وجه لما عسى أن يتخيل : من أنّ وجوب إنقاذ ولد المولى وإن لم يكن معلوما للعبد - على وجه الأمر اللفظي أو الإرادة النفسية - من الوجوب التبعي (1) ؛ لما عرفت : من أن المصلحة الداعية إلى الطلب عند الالتفات سواء كان المظهر له لفظا أو غيره مصلحة نفسية ، مع اختصاص الوجوب التبعي بالوجوب الغيري. فإذن ينحصر الوجوب التبعي بالوجوب المقدمي حال عدم الالتفات إلى المقدمة ، وأمّا مع الالتفات وتعلّق إرادة مستقلّة بالمقدمة فلا يكون طلبه إلاّ أصليّا ، كما في قولك : ادخل السوق واشتر اللحم ، فإنّ تعلّق الإرادة المستقلّة بدخول السوق إنّما ينافي التبعيّة ، على ما عرفت.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ النسبة بين الوجوب الغيري والوجوب التبعي عموم مطلق ؛ فإنّ الوجوب الغيري أعمّ ، لتحقّقه فيما إذا كان مدلولا لخطاب مستقلّ فيما إذا كان المظهر لفظا أو مفهوما من إجماع خاصّ مثلا أو غير ذلك ممّا يعلم منه تعلّق إرادة مستقلّة بالواجب الغيري.

لا يقال : إنّ وجوب اللوازم تبعي مع أنّه ليس غيريّا ، فيكون بينهما عموم من وجه. لأنّه يقال : إنّ وجوب اللوازم وجوب عرضي من قبيل الإسناد المجازي ولا كلام فيه.

كما أنّ النسبة بين الأصلي والنفسي والغيري عموم من وجه ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

هذا ما هو الموافق لكلمات أرباب الاصطلاح في موارد استعمالات الوجوب التبعي ، كما أومأنا إليه في الدلالة التبعيّة.

ص: 382


1- في ( ع ) و ( م ) زيادة : بل.

وأمّا ما يظهر من بعض الأجلّة (1) : من إدخال الوجوب المستفاد من المفاهيم في الوجوب التبعي وإن كان وجوبه مستقلاّ ، فهو ممّا لم نعرف له وجها.

ثمّ إنّه لو شكّ في أنّ الواجب أصليّ أو تبعي ، فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به لا يمكن إثبات الوجوب التبعي لو اريد بذلك ترتيب الآثار المترتّبة على الوجوب التبعي فيما إذا فرض له آثار سوى ما يترتّب على عدم الإرادة ؛ لما قرّر في محلّه. فتدبّر في المقام ، واللّه هو الهادي.

ص: 383


1- الفصول : 82.

ص: 384

هداية

قد عرفت تحقيق الكلام في أقسام الواجب ممّا له مدخل في تحرير النزاع فيما هو المقصود من وجوب المقدّمة وعدمه ، فنقول : إنّ الواجب الّذي وقع الخلاف في وجوب مقدّمته أعمّ من أن يكون واجبا مطلقا أو واجبا مشروطا بالنسبة إلى غير المقدّمة الوجوبيّة. وقد عرفت أنّ تخصيص البعض ذلك بالوجوب المطلق دون الشرطي ممّا لا وجه له ، غاية الأمر أنّ الوجوب اللازم منه هو الوجوب الشرطي التبعي على نحو وجوب ذي المقدّمة.

ومنه يظهر أنّه لا يفرق في ذلك في أقسام (1) الواجب من التعبّدي والتوصّلي والنفسي والغيري والأصلي والتبعي ، غاية الأمر أنّ وجوب المقدّمة في الواجب الغيري والتبعي ممّا يختلف فيه اعتبار الوجوب ، لما عرفت من اختصاص الوجوب التبعي على تفسيرنا بالوجوب الغيري ، وهو مسبوق بوجوب الغير لا محالة ، إذ لا يعقل الوجوب الغيري بدون وجوب الغير ، ووجوب ذلك الغير ممّا يكفي في الحكم بوجوب مقدّمات الواجب الغيري ، لأنّ المفروض وجوب مطلق المقدّمة. ولا فرق في نظر العقل في الوجوب اللازم من وجوب ذيها بين المقدّمة القريبة والبعيدة.

نعم ، إذا قيس الوجوب الغيري بالنسبة إلى ما يتوقّف عليه أيضا يحكم العقل بوجوب مقدّماته أيضا. وقد عرفت أنّ ذلك ليس من تكرار الطلب.

ص: 385


1- كذا في النسخ ، والمناسب : بين أقسام.

وهذا هو الكلام في المراد من (1) الواجب الذي يبحث في وجوب مقدّماته.

وأمّا الكلام في وجوب المقدّمة : من أنّ الوجوب المتنازع فيه هل هو وجوب نفسي أو غيري تعبّدي أو توصّلي أصلي أو تبعي؟

فنقول : لا ينبغي النزاع في أنّ وجوب المقدّمة ليس وجوبا نفسيّا ، فإنّ المقدّميّة لا تقضي بتعلّق الطلب النفسي بها ، ولعلّه ممّا لم يذهب إليه وهم أيضا.

ولا وجوبا تعبّديّا من حيث إنّها مقدّمة. نعم ، قد يكون ذات المقدّمة عبادة ، بمعنى أنّها توصل إلى ذيها بشرط الإتيان بها على وجه التقرّب ، كأن يكون الداعي إليه هو الأمر المقدّمي ، كما عرفت تفصيل ذلك في بعض المباحث السابقة.

ولا وجوبا أصليّا ، لأنّ الوجوب الأصلي ممّا لا بدّ فيه من الالتفات التفصيلي إلى ما هو المطلوب ، لأنّ المفروض - بناء على ما فسّرنا - استقلال الطلب فيه وإن كان استفادته على وجه الاستلزام ، كما في المفاهيم. ومن المعلوم أنّ الطالب لذي المقدّمة قد يكون غافلا عن المقدّمة ، وقد يكون مع الالتفات إلى ذات المقدّمة شاكّا في مقدّميتها لذيها وتوقّفه عليها ، وقد يكون قاطعا بعدم التوقّف مع كونه في الواقع ممّا يتوقّف عليه ، فكيف يمكن القول بأنّ اللازم من وجوب شيء هو وجوب مقدّماته وجوبا أصليّا؟ وكيف يجوز انتساب هذه المقالة الفاسدة إلى المشهور؟

نعم ، يصحّ ذلك بالنسبة إلى أوامر الشارع من حيث إحاطة علمه وامتناع حصول الغفلة له تعالى ، فيكون الكلام في الوجوب التبعي الغيري ، حيث إنّ الكلام في مسألة اصوليّة يعمّ موردها غير أوامر الشارع أيضا وإن كان المراد ظهور الثمرة فيها ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ الوجوب الأصلي ليس من محلّ النزاع في شيء ، ولو

ص: 386


1- في ( ط ) زيادة : وجوب.

فرض وقوع النزاع فيه فالقول قول النافين ، إذ لا ملازمة بين وجوب شيء وبين تعلّق إرادة مستقلّة بما يتوقّف عليه ، لما عرفت من إمكان الغفلة. ولذلك من زعم أنّ النزاع في ذلك التزم بعدم الوجوب.

ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في وجوب المقدّمة بمعنى اللابدّية. والتحقيق : أنّها ليست وجوبا يعدّ في عداد الأحكام التكليفية ، بل الواقع أنّها أقرب إلى الأحكام الوضعيّة ؛ ولذلك لا يختلف ذلك باختلاف الأحكام ، فإنّها ترجع إلى معنى المقدّمية ، وهو ظاهر.

كما أنّه لا ينبغي النزاع في إسناد الوجوب الحاصل لذيها إليها مجازا وبالعرض ، كما قد يتحقّق ذلك بين المتلازمين ، كما عرفت : من أنّ الاستقبال إلى القبلة يلازم استقبال أبي قبيس ووقوع الجدي خلف المنكب الأيمن في بعض البلاد ، وعند التحقيق يكون الوجوب المسند إلى اللازم وجوبا عرضيّا ، لعدم اتّصاف المورد حقيقة بالوصف ، بل الموصوف هو اللازم الآخر ، فيكون ذلك من قبيل الواسطة في العروض.

والعجب من بعض الأساطين! حيث حرّر نزاعهم في هذا المقام ومع ذلك اختار القول بعدم الوجوب (1) ، مع أنّ ذلك على هذا التقدير ينبغي أن يعدّ من الضروريّات.

وكذا لا ينبغي النزاع في الوجوب الإرشادي ، بمعنى أنّ العقل بعد ملاحظة وجوب ذي المقدّمة مع امتناع التوصّل إليه بدون الإتيان بالمقدّمة - كما هو اللازم من معنى المقدّمة - يقوم مقام الناصح الأمين ويحكم بالإتيان بما يتوقّف عليه الواجب ، إلاّ أنّ ذلك منه إراءة طريق المصلحة مع كونه في مقام بذل النصح. ولا ينبغي أن ينازع في ذلك ، فإنّه بمكان من البداهة.

ص: 387


1- راجع القوانين 1 : 104.

وبالجملة ، فالقائل بالوجوب إن أراد الوجوب النفسي أو الأصلي ففساد المقالة ممّا يغني بواسطة بداهتها عن إفسادها ، والنافي إن أراد نفي اللابدّية أو الوجوب العرضي أو الوجوب الإرشادي فالضرورة قاضية بخلافه.

فما ينبغي أن يكون مورد النزاع هو الوجوب التبعي الغيري ، بمعنى أنّ وجوب شيء وإرادته هل يستلزم إرادة إجمالية لمقدّمته ، على وجه لو اريد كشف ذلك الأمر وتفصيله لكان الحاصل منه طلبا أصليّا موجودا في نحو قولنا : « اذهب إلى السوق » أو لا؟

وبعبارة اخرى نقول : لا شكّ في أنّ الطلب في قولنا : « اذهب إلى السوق » طلب غيري وإن كان أصليّا. ولا فرق بين هذه المقدّمة وغيرها من المقدّمات من حيث توقّف الواجب عليها ، فيكون النزاع في أنّ المريد لشيء هل يثبت له حالة نفسانيّة بعد الإرادة بالنسبة إلى المقدّمات على وجه لو التفت إليها صحّ له طلبها على نحو الطلب في قولنا : « اذهب إلى السوق » أو لم يثبت؟ فالنافي يقول بعدمها ، بل الموجود هو أحد المعاني المذكورة من الإرشاد والوجوب العرضي والوجوب العقلي بمعنى اللابدّية. والمثبت يقول بوجودها مضافا إلى الوجوب بأحد المعاني السابقة.

وبالجملة ، فنسبة الطلب الموجود في قولنا : « اذهب إلى السوق » عند القائل بالوجوب إلى الحالة النفسانيّة الطارئة بعد حدوث الطلب النفسي بالنسبة إلى المقدّمة نسبة التفصيل إلى الإجمال ، وعند القائل بالعدم يكون موجودا بنفسه لا يقاس بالنسبة إلى حالة نفسانيّة.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ هذه الحالة الإجماليّة التي يفصّلها الطلب الموجود في « اذهب إلى السوق » هل هي من مقولة الطلب لتتّصف المقدّمة بالوجوب والطلب ، أو لا يكون من معنى الطلب والوجوب فهي موجودة ولكنّها لا توجب وجوب المقدّمة؟ والأظهر أنّ النزاع إنّما هو في وجود تلك الحالة ، لا في أنّها من الطلب أولا.

ص: 388

وبالجملة ، فعلى ما ذكرنا يظهر أنّه ليس القول بالوجوب أو القول بالعدم ضروريّ الفساد ، كما قد يظهر كلّ من الدعويين من الفريقين ، بل التحقيق : أنّ المسألة نظريّة لا وجه لإرسالها في الضروريّات ، كما ادّعاه المحقّق الدواني (1).

نعم ، لو كان المراد بكونها ضروريّة أنّه يكفي في رفع التشاجر ملاحظة الوجدان الخالي عن شوائب الأوهام - وإن لم يكن وجود تلك الحالة بمرتبة من الظهور على وجه يعدّ منكرها من المكابر المتعسّف - كان لها وجه ؛ فإنّ الإنصاف أنّا نجد من أنفسنا من بعد حدوث الإرادة المتعلّقة بالواجب نسبة متعلّقة بمقدّماته على وجه لم يكن لتلك النسبة قبل تعلّق الإرادة به في أنفسنا عين ولا أثر. ونظير ذلك في وجود النسبة مع الغفلة أنّ العبد يجد من نفس المولى حالة نفسانيّة وإن لم يكن من حقيقة الطلب بالنسبة إلى قتل ولده أو إكرامه.

وكيف كان ، فالأظهر في النظر أنّه مع قطع النظر عن الوجوب العقلي والوجوب العرضي والوجوب الإرشادي يكون في المقدّمة وجوب آخر بالمعنى الذي ذكرناه ، والدليل على ذلك هو الوجدان وإن لم يكن ظهوره في الوجدان بمثابة يعدّ منكره مكابرا ، فإنّ مراتب الوجدانيّات في الظهور والخفاء بل ومطلق الضروريّات ممّا لا ينبغي التأمّل في اختلافها.

واعلم أنّ الاقتضاء المستعمل عندهم في عنوان هذه المسألة قد عرفت أنّ المراد به هو الاستلزام العقلي ، ولا مدخل للّفظ فيه ، لعموم الكلام في المقام فيما إذا ثبت الوجوب بالعقل. نعم ، إذا كان الدليل المفيد للوجوب لفظا صحّ الاقتضاء اللفظي ، فيكون وجوب المقدّمة من جهة الدلالة الالتزاميّة فيما لو لم يعتبر فيها اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أو مطلقا ، إذ اللزوم على القول به ليس على وجه يكفي في

ص: 389


1- حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 49.

التصديق به تصوّر الملزوم ، بل يحتاج إلى تصوّر اللازم أيضا ، لا من حيث توقّف التصديق على تصوّر الأطراف فإنّ ذلك في اللازم (1) البيّن بالمعنى الأخصّ أيضا ، بل من حيث إنّ له مدخلا في حصول التصديق ، كما قرّر في محلّه. واللّه الهادي.

ص: 390


1- في ( ط ) : فإنّ ذلك لازم في البيّن.

هداية

قد ذكروا للنزاع في وجوب المقدّمة وعدمه وجوها من الثمرة (1) :

أحدها : حصول البرء من النذر فيما لو أتى الناذر لإتيان الواجب بمقدّمة من مقدّماته على القول بالوجوب ، وعدمه على القول بعدمه.

وفيه - بعد الإغماض عن انصراف الوجوب في مقام النذر إلى الواجب النفسي ؛ بدعوى تعلّق الحكم على الماهيّة مع قطع النظر عن جميع ما عداها - أنّ أمثال ذلك لا يعدّ من ثمرات المسألة الاصوليّة ؛ فإنّها مهّدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة ، وحصول البرء وعدمه في نذر خاص لا يعدّ منها ، كما لا يخفى.

ومنه يعرف الوجه في عدم صحّة جعل ترتّب الثواب والعقاب من الثمرة ، فإنّها أيضا ليست من الأحكام الشرعيّة. على أنّك قد عرفت فيما مرّ بما لا مزيد عليه : أنّ العقل المستقلّ يدلّ على عدم استحقاق الثواب والعقاب ؛ ومن هنا التجأنا إلى تأويل الأخبار الدالّة على ترتّب الثواب (2) ، وكذا الآيات (3). وقد مرّ تحقيق القول في ذلك بما لا مزيد عليه ، فراجعه (4).

ص: 391


1- انظر القوانين 1 : 101 ، والفصول : 87 - 88 ، وهداية المسترشدين 2 : 178 - 179.
2- انظر البحار 70 : 191 ، و 101 : 28.
3- سورة النور : 52 ، والنساء : 140.
4- راجع الصفحة : 340 وما بعدها.

الثاني : ترتّب الفسق على تركها على القول بوجوبها ، وعدمه على عدمه ، كذا ذكره بعضهم (1).

فإن أراد بذلك أنّ ترك واجب واحد ولو لم يكن من الكبائر من حيث إنّه يوجب ترك مقدّمات عديدة له فيتحقّق بواسطة ذلك الإصرار في الصغيرة فيؤول إلى الفسق ، فهو باطل.

أمّا أوّلا : فلعدم الملازمة بين ترك الواجب وبين ترك مقدّماته على وجه يتحقّق موضوع الإصرار ، فإنّه ربّما يستند الترك إلى انتفاء مقدّمة واحدة مع وجود غيرها ، اللّهمّ إلاّ بالقول بكفاية صورة واحدة في المقام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحكم بأنّ تارك المقدّمة فاسق بواسطة الإصرار يوجب ارتفاع الفرق بين الصغيرة والكبيرة في الأغلب ؛ لأنّ ترك الصغائر في الأغلب يوجب ترك المقدّمات على وجه يستلزم الإصرار فيها وإن قلنا بعدم الملازمة ، إلاّ أنّه الأغلب كما لا يخفى. ومع الغضّ عن ذلك فلا نسلّم أنّ الإصرار الحاصل بواسطة ترك المقدّمات يوجب الفسق ، إذ المنساق ممّا دلّ على ذلك إنّما هو فيما إذا كان الواجب واجبا نفسيّا لا غيريّا ، لعدم صدق الإصرار بالمعصية في غيره عرفا. وهو ظاهر بعد ما عرفت من أنّ وجوب المقدّمة لا يورث ثوابا ولا عقابا.

وإن أراد بذلك (2) أنّ ترك الواجب إذا كان من المعاصي الكبيرة حيث إنّه يستند إلى ترك مقدّمة من مقدّماته الاختياريّة ، وإلاّ لم يكن معصية ، فعلى القول بالوجوب يحكم بفسقه حين الترك وإن تقدّم على زمان الفعل - كما أنّه يحكم بفسق التارك للحجّ حين عدم خروجه مع الرفقة وتخلّفه عن القافلة - بخلافه على القول

ص: 392


1- وهو القزويني في ضوابط الاصول : 84.
2- عطف على قوله : فإن أراد بذلك أنّ ترك واجب واحد ...

بعدم الوجوب ، فإنّه يحكم بالفسق في زمان الفعل ، فإنّه هو زمان المعصية ، وأمّا قبل ذلك فلم يكن من زمانها في شيء ، إذ المفروض أنّه ليس وقت الوجوب المتعلّق بالفعل ، والمقدّمة ليست واجبة ، فلا معصية ولا فسق.

وفيه : أنّه لا فرق في ذلك أيضا بين القول بالوجوب وعدمه. أمّا على الأوّل فكما هو واضح من أنّه زمان المعصية. وأما على الثاني فلأن تأثير وجوب المقدّمة في صدق المعصية بالنسبة إلى ذيها قبل مجيء وقته - كما في المثال المفروض - غير معقول.

والتحقيق : أنّ ترك المقدّمة من حيث إيراثه امتناع الفعل المأمور به يلازم صدق المعصية بالنسبة إلى الواجب ، إذ لا يراد من المعصية إلاّ عدم إمكان الامتثال مع عدم سقوط الأمر بالنسخ وأمثاله وعدم الامتثال له ، كما هو ظاهر. وإلاّ فكيف يحكم بأنّ بعد انقضاء الوقت يكون من زمان المعصية ، وليس ذلك إلاّ بواسطة امتناع المأمور به في حقّه مع عدم سقوط الأمر بالنسخ والامتثال. وبالجملة ، فالمدار على صدق المعصية بالنسبة إلى الفعل المأمور به.

فإن قلنا بإمكان ذلك قبل مجيء الزمان باعتبار أنّ صدق المعصية يدور مدار الامتناع على الوجه المزبور فلا يؤثّر في ذلك تعلّق الوجوب بما يصير سببا لامتناعه ، إذ لا كلام في أنّ الوجوب المقدّمي لا يورث فسقا ولا عقابا. وإن قلنا بعدمه اعتمادا على أنّ امتناع حصول الواجب قبل مجيء الوقت ليس بواسطة امتناع المقدّمة في حقّه ؛ بل بواسطة أنّ المقيّد (1) في (2) زمان خاصّ يمتنع وجوده في غيره ، ولمّا كان سبب الامتناع حاصلا للفعل قبل ترك المقدّمة فلا وجه لاستناده إلى المقدّمة

ص: 393


1- في ( ع ) : القيد.
2- لم يرد « في » في ( ط ). والظاهر : بزمان.

لامتناع تحصيل الحاصل ، فلا فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه ، إذ لا نرى في الوجوب وعدمه تأثيرا في ذلك.

الثالث : ما ذكره بعضهم من جواز أخذ الاجرة على المقدّمات على القول بالعدم ، وعدمه على القول بالوجوب (1). ولعلّ ذلك مأخوذ من إرسال بعض الفقهاء عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب ، كالمحقّق حيث أفاد عند عدّه ما يحرم الاكتساب به : « الخامس ما يجب على الانسان فعله » (2) ، أو من معاقد بعض الاجماعات المنقولة (3) وإن لم يقض بذلك على إطلاقه.

وكيف كان ، فالتحقيق أنّه لا أصل لهذا التفريع سواء اخذ بالمقالة المرسلة أو التزمنا بما هو التحقيق عندنا.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ الظاهر من مقالة من حكم بحرمة الاجرة إنّما هو حرمتها سواء كانت مأخوذة في مقابلة نفس العمل أو في مقابلة مقدّماته ، ولا فرق في ذلك بين وجوب المقدّمة وعدمه.

وأمّا على الثاني ، فيتوقّف على بيان ما هو الحقّ عندنا ، فنقول : قد قرّرنا في محلّه أنّه لا منافاة بين الوجوب وأخذ الاجرة على فعل الواجب (4) ، وإنّما المانع عن ذلك في بعض الموارد ليس وجوب الفعل ، وإلاّ لما جاز أخذ الاجرة على الواجبات الصناعيّة الكفائيّة ، وبطلان التالي كالملازمة ظاهر ، ضرورة جواز ذلك اتّفاقا.

ص: 394


1- ذكره الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 179.
2- الشرائع 2 : 11.
3- انظر جامع المقاصد 4 : 37 ، والرياض 8 : 83.
4- انظر المكاسب 2 : 135.

وما قيل : من أنّ وجوب (1) اللازم من الإجارة إنّما يؤكّد وجوب الصناعة على الكفاية فلا ينافي ذلك (2) ، إنّما هو كلام خال عن التحصيل ؛ لجريان ذلك في حقّ الجعل مع أنّه لا وجوب ، بل المانع من ذلك إنّما هو استفادة مملوكيّة العمل الواجب مجّانا للغير من الأخبار الواردة في موارد إثبات تلك الحقوق ، فإنّ المستفاد من الأخبار أنّ المؤمن قد ملك عن أخيه المؤمن امورا ، منها الدفن وما يتعلّق به (3) ، فأخذ الاجرة في قبال العمل المملوك للغير يعدّ من الأكل بالباطل.

هذا إذا كان الواجب من الامور التوصّليّة. وكذا إذا كان الواجب من الامور التعبّديّة ، فإنّ المطلوب من العبد (4) هو الإتيان بالعمل على وجه العبادة ، فكأنّه يكون العمل ملكا لله قد استحقّ (5) عليه بالعمل ، فلا وجه لتمليكه غيره بالعمل المذكور.

وبالجملة ، فالذي قوّيناه في محلّه (6) اختصاص المنع من الاجرة بما إذا استفدنا من دليل وجوب العمل لزوم وقوعه على وجه المجانيّة ، كالدفن أو الكفن ونحوهما ، فإنّ الساعي في مقدّماتهما مثل الساعي في أداء ما عليه أداؤه من العمل إذا ملكه الغير منه ، أو فيما إذا كان الواجب تعبديّا. وأمّا في غير هذه الموارد فلا دليل على حرمة الاجرة ؛ ولذلك قلنا : قضيّة القواعد جواز أخذ الاجرة على القضاء بين المسلمين ، وكذا على السعي إلى الميقات ممّن وجب عليه الحجّ ، فيكون النسبة بين

ص: 395


1- كذا ، والمناسب : الوجوب.
2- انظر مفتاح الكرامة 4 : 92.
3- راجع الأخبار الواردة في حقوق الإخوان ، الوسائل 8 : 542 ، الباب 122 من أحكام العشرة.
4- في ( ع ) ، ( م ) : التعبّد.
5- في ( ع ) ، ( م ) : فلا يستحقّ.
6- انظر المكاسب 2 : 143.

الوجوب و (1) أخذ الاجرة هو العموم من وجه ، فمورد الاجتماع هي الأفعال العباديّة والتوصّليّة التي استفيد من دليلها مملوكيّتها للغير ، ومورد الافتراق من جانب الوجوب هو القضاء بين المسلمين والصناعات العامّة الكفائيّة ، ومورد الافتراق من جانب الحرمة هو مقدّمات الدفن والكفن ، فإنّك قد عرفت أنّ القائل بحرمة الأخذ على وجه الإطلاق لم يفرّق في ذلك بين المقدّمات وغيرها حتّى على القول بعدم وجوبها ، فلا وجه لتفريع الجواز وعدمه على الوجوب وعدمه ، لعدم الملازمة كما عرفت.

الرابع : ما قد نسبه البعض إلى الوحيد البهبهاني ، من أنّه على القول بوجوب المقدّمة يلزم اجتماع الأمر والنهي في الموارد التي تكون المقدّمة محرّمة ، دون القول بالعدم (2).

وفيه : أنّ المقدّمة المحرّمة إن كانت مثل قطع المسافة بالنسبة إلى الحجّ أو نصب السلّم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، من المقدّمات التي ليست متّحدة مع ذي المقدّمة بحسب الوجود الخارجي ، فلا يثمر القول بالوجوب والعدم شيئا ، لأنّه على كلا التقديرين يحصل الامتثال بأمر ذي المقدّمة إذا أتى بالمقدّمة على الوجه المحرّم ، غاية الأمر أنّه على القول بعدم الوجوب لا يلزم اجتماع الأمر والنهي في المقدّمة ، بل المقدّمة إنّما هي محرّمة صرفة لكن حصل بها الوصول إلى ذي المقدّمة الواجب. بخلاف القول بالوجوب ، فإنّه يلزم اجتماعهما على القول بجواز الاجتماع ، فيكون المكلّف الآتي بالمقدّمة على الوجه المحرّم آتيا بالمأمور به والمنهيّ عنه.

ص: 396


1- في ( ط ) زيادة : حرمة.
2- القوانين 1 : 101.

كما أنّه على القول بعدم الجواز يكون حاله كحال المنكر للوجوب في كون المقدّمة محرّمة صرفة مسقطة عن الواجب وإن كانت متّحدة مع ذيها ، كالصلاة في المكان المغصوب ، فإنّ الكون الخاصّ الذي هو مقدّمة لمطلق الكون الذي هو جزء الصلاة - بناء على كون الفرد مقدّمة للكلّي - محرّم متّحد معه في الوجود ، فلا يثمر أيضا القول بوجوب المقدّمة وعدمه شيئا من الصحّة والفساد ، بل مناط الحكم بالصحّة والفساد على أنّه هل يجدي تعدّد الجهات التقييديّة في الموجود الواحد الخارجي في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه أم لا؟ فعلى القول بعدم إجداء تعدّد الجهات مع وحدة الموجود الخارجي لا بدّ من الحكم بفساد الصلاة ، سواء قلنا بأنّ الفرد مقدّمة وإنّ المقدّمة واجبة أو لم نقل ، ضرورة أنّ قضية الاتّحاد اجتماع النهي في المقدّمة مع الأمر بذيها على تقدير الصحّة ، فلا بدّ من الحكم بالبطلان من لزوم الاجتماع الباطل كما هو المفروض. وعلى القول بأنّ تعدّد الجهات في اجتماع الأمر والنهي مجد فلا بدّ من الحكم بالصحّة على تقدير القول بالمقدّمة والوجوب معا وعدمه.

ومن هنا ينقدح لك فساد ما ذهب إليه المحقّق القمّي : من جواز اجتماع الأمر والنهي في الصلاة في الدار المغصوبة ونحوها ، على ما زعمه من أنّ المحرّم إنّما هو خصوص الفرد الذي هو مقدّمة للكلّي الواجب وأنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة (1). إذ بعد تسليم المبنى لا وجه للابتناء أصلا ، فإنّ مدار (2) لزوم محذور وليس وجوب المقدّمة ، بل ملاك ذلك إنّما هو الاتحاد في الوجود المفروض في مثل الفرد والكلّي.

ص: 397


1- القوانين 1 : 140 - 141.
2- في ( ع ) ، ( م ) : « فإنّه لا » وعلى أيّ حال العبارة غير خالية عن الإشكال.

كما يظهر غرابة ما قد نسبه إلى العلاّمة في ذلك وإن لم نتحقّقه منه رحمه اللّه ، قال في قوانينه : الظاهر أنّ الكلام في دلالة الواجب على وجوب جزئه كالكلام في سائر مقدّماته ، والقدر المسلّم من الدلالة هو التبعي ، إلاّ أن ينصّ عليه بالخصوص بعنوان الوجوب ، كما مرّ في حكم المقدّمة الخارجيّة ، وربّما نفي الخلاف عن الوجوب في الجزء لدلالة الواجب عليه تضمّنا ، وهو ممنوع. وقد جعل العلاّمة من فروع المسألة الصلاة في الدار المغصوبة من جهة أنّ الكون الذي هو جزء الصلاة واجب بسبب وجوب الواجب فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه (1).

وفيه : ما عرفت (2) في بعض الهدايات السابقة ، من أنّ الجزء باعتبار كونه متّحدا مع الواجب فيما لوحظ لا بشرط شيء لا ينبغي التشاجر في وجوبه بهذا الاعتبار ، وذلك كاف في عدم جواز اجتماعه مع الحرام ، فلا حاجة إلى القول بوجوب المقدّمة في لزوم المحذور.

لا يقال : إنّ أجزاء الصلاة ليست بأجزاء عقليّة متّحدة مع الكلّ في الوجود الخارجي ، ضرورة تباينها فيه ، كما في أجزاء البيت والسرير ، ومع ذلك فكيف يعقل القول بالاتّحاد؟

لأنّا نقول - بعد الغضّ عن ذلك في خصوص الكون ، فإنّه لا نسلّم فيه المغايرة ، كما لا يكاد يخفى على المتأمّل - : إنّ ذلك لا ينافي ما نحن بصدده.

وتحقيق ذلك : أنّ المركّب ما لم يلاحظ فيه جهة وحدة لا يعقل أن يكون مركّبا (3) ، فتلك الجهة تارة تكون حقيقة كما في المركّبات الحقيقيّة التي لها صورة

ص: 398


1- القوانين 1 : 108.
2- في ( ع ) ، ( م ) زيادة : ممّا.
3- في ( ط ) زيادة : ولعلّ ذلك ظاهر.

واحدة وحقيقة متّحدة خارجيّة ، واخرى تكون اعتباريّة كما في البيت والسرير. فعلى الأوّل يكون الكثرة اللازمة للمركّب كثرة في مرتبة (1) من الاعتبار والتعمّل. وعلى الثاني يكون الكثرة حقيقية ، والأجزاء في المركّب الحقيقي ظاهر اتّحادها في الوجود الحقيقي ، وفي المركّب الاعتباري إنّما تتّحد مع الكلّ في الوجود الاعتباري الثابت للمركّب من حيث هو مركّب. وذلك ظاهر عند المتأمّل المنصف.

وكيف ما كان ، فالمقدّمة إمّا أن تكون متّحدة الوجود مع ذيها أو لا ، وعلى التقديرين ، فإن أراد القائل بالثمرة المذكورة أنّ ذلك يجدي في الحكم بالصحّة والفساد ، فلا وجه لما تخيّله. أمّا في صورة الاتّحاد ، فلما عرفت من إمكان الحكم بالفساد ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة كما هو قضيّة الاتّحاد. وأمّا في صورة التغاير ، فعند الانحصار فهي حرام قطعا ولا وجوب فيها ، ومع ذلك لا تؤثّر في الفساد ، بل الواجب حاصل بعد حصوله ، لكونها موصلة إلى ما هو المقصود حقيقة ، كما في الركوب على دابّة مغصوبة في الحجّ. وعند التعدّد فغاية الأمر هو الوجوب في الجملة أيضا ، إلاّ أنّ ذلك لا تأثير له في الفساد أيضا ، كما هو ظاهر. وإن أراد بذلك مجرّد ثبوت مورد قد اجتمع فيه الأمر والنهي وإن لم يكن لذلك مدخل في الصحّة والفساد فهو في محلّه ، إلاّ أنّه بعيد عن مقاصد العلماء ، إذ غاية ذلك تكثير الأمثلة التي اجتمع فيها الأمر والنهي.

الخامس : ما قيل : من أنّ القول بوجوب المقدّمة يؤثّر في صحّتها إذا كانت عبادة ، كما أنّ القول بعدم الوجوب يقضي بفسادها حينئذ (2).

ولعلّ وجهه ما قد يتخيّل : من أنّ صحّة العبادة متوقّفة على الأمر ، والقول بالوجوب يوجب تعلّق الأمر بها فيمكن وقوعها صحيحة ، بخلاف ما إذا لم تكن

ص: 399


1- في ( ع ) بدل « مرتبة » : ماهيّته.
2- هداية المسترشدين 2 : 178 - 179 ، والفصول : 87.

واجبة ، إذ الكلام إنّما هو في المقدّمة العباديّة التي ليست براجحة في حدّ ذاتها ، كالتيمّم عند البعض (1). فعلى الأوّل يمكن الإتيان بالواجب الموقوف على مثل المقدّمة المفروضة وإن لم يتعلّق بها سوى ما يترشّح من الأمر بذيها. وعلى الثاني لا يمكن ، لعدم الاقتدار عليه بعد توقّفه على مقدّمة موقوفة على أمر غير حاصل.

وفيه ما عرفت سابقا : من أنّ الأمر المقدّمي لا يؤثّر صحّة ولا شيئا آخر. وإن كنت على ريبة فراجع ما تقدّم.

السادس : ما يقال : من أنّ القول بوجوب المقدّمة يؤثّر في فساد العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الضدّ ، بخلاف القول بعدمه ، فإنّ الترك ليس مقدّمة فلا يكون واجبا فلا يكون فعله حراما فلا يكون فاسدا (2) ، ولذلك قد التجأ بعض من لم يقدر على حلّ الشبهة المعروفة في فساد العبادة إلى منع وجوب المقدّمة (3).

وكيف كان ، هذه الثمرة - التي قد زعمها بعضهم من أهمّ الثمرات - أيضا ممّا لا يرجع إلى حاصل ولا يعود إلى طائل (4).

أمّا أوّلا : فللمنع من كون الترك مقدّمة ، والسند ممّا ستعرفه في محلّه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ اللابدّية التي يرجع معنى المقدّمة إليها يكفي في الحكم بالفساد ، إذ لا يعقل الأمر بشيء مع الأمر بما ليس للمكلّف بدّ من تركه لو اريد الامتثال به ، وعند عدم الأمر لا معنى للصحّة ، إذ الكلام في العبادات. وأمّا المعاملات فيبنى على أنّ النهي التبعي هل يستلزم فسادا؟ وستعرف تحقيق القول في ذلك. واللّه هو الهادي.

ص: 400


1- انظر القوانين 1 : 101 ، والفصول : 81.
2- انظر الفصول : 95 ، وهداية المسترشدين 2 : 269 وما بعدها.
3- انظر الفصول : 95.
4- العبارة في ( ع ) و ( م ) : ممّا لا يرجع إلى طائل.

هداية

في بيان الأصل في المسألة والأقوال فيها ، فنقول :

قد عرفت أنّ النزاع إنّما هو في حكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء وبين وجوب مقدّماته ، وأنّ وجوب المقدّمة لا يستلزم عقابا ولا ثوابا ، فلا وجه لما يظهر من البعض (1) من التمسّك بأصالة البراءة في رفع الوجوب ؛ لأنّ جريانها إنّما هو فيما يحتمل العقاب ، والمفروض عدمه في المقام.

وأمّا أصالة العدم فيمكن تقريرها بوجه ، كأن يقال : لا شكّ في أنّه قبل حدوث الطلب المتعلّق بالفعل لم يكن مقدّماته مطلوبة - ولو على الوجه المتنازع فيه - وبعد تعلّقه به نشكّ في تعلّقه بها أيضا ، والأصل يقضي بعدم تعلّقه بها ، فالأصل مع النافين. كذا افيد.

قلت : ولعلّه في غير محلّه ، فإنّ الأصل هذا على تقدير جريانه إنّما هو في غير ما عنون به المبحث ، إذ من المعلوم أنّه لا حاجة في تشخيص الأصل فيها إلى حدوث الطلب وتعلّقه بالفعل ، فكيف بمقدّماته؟

ومن هنا تعرف أنّه لا أصل في المسألة ، فإنّ العقل إمّا أن يكون حاكما بالملازمة بين الطلبين أو لا ، وعلى التقديرين لا شكّ هناك حتّى يجري الأصل (2) ، كما لا يخفى.

ص: 401


1- راجع القوانين 1 : 104.
2- العبارة في ( ط ) هكذا : وعلى التقديرين لا وجه للاستناد إلى الأصل لارتفاع الشك على التقديرين.

وأمّا الأقوال في المسألة ، فعلى ما استقصيناه (1) أربعة :

أحدها : - كما هو المنسوب إلى الأكثر (2) - هو الوجوب مطلقا ، وقد نقل الآمدي الإجماع عليه (3) كما حكي عنه. وناقش فيه المحقّق الخونساري : بأنّ الموجود من عبارة إحكامه دعوى اتّفاق أصحابه والمعتزلة عليه ، ونسب الخلاف إلى بعض الاصوليّة (4).

وثانيها : النفي مطلقا ، وقد نسبه الآمدي كما تقدّم إلى البعض ، إلاّ أنّ المحقّق المذكور نفاه. والظاهر من عبارة المنهاج وجود القائل به (5) ، ويحتمله عبارة المختصر (6)(7).

وثالثها : التفصيل بين السبب وغيره ، فقالوا بالوجوب في الأوّل وبعدمه في الثاني. وقد نسبه البعض (8) إلى الواقفيّة ، واختاره صاحب المعالم (9). وقد نسبه

ص: 402


1- في ( ط ) : ما استقصاه بعض الأساطين.
2- نسبه المحقّق القمّي في القوانين 1 : 103.
3- الإحكام في اصول الأحكام 1 : 153.
4- حاشية شرح مختصر الاصول ( مخطوط ) الورقة : 134 ، وإليك نصّه : وقد نسب إلى الآمدي ادّعاء الإجماع عليه ، وهو فرية ، بل ادّعى في الإحكام : اتفاق أصحابه المعتزلة عليه ، ونسب الخلاف إلى بعض الاصوليّة.
5- حاشية شرح مختصر الاصول ( مخطوط ) الورقة : 134 ، وإليك نصّه : وثانيها عدم الوجوب مطلقا ، ولم يظهر قائل به على التعيين ... لكن سينقل المحشّي وجود القول به عن المنهاج.
6- راجع المختصر وشرحه للعضدي : 90 - 91.
7- في ( ط ) زيادة : على ما حكي عنها.
8- القوانين 1 : 104.
9- المعالم : 61 - 62.

العلاّمة (1) إلى السيّد ، وعبارته على ما نقلناها عن الذريعة (2) ممّا لا تأباه بحسب الأنظار البادئة ، إلاّ أنّ مساق كلامه فيما بعده - على ما يظهر للمتأمّل - يأباه ، كما تفطّن له صاحب المعالم (3) ، وقد اعترضه (4) الكاظمي في شرح الوافية (5) والمحصول (6). وفيما ذكرنا سابقا غنية عن إطالة الكلام في المقام.

ورابعها : التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره. وهو المنقول عن الحاجبي (7) ، وتبعه العضدي (8) في ذلك. واللّه الهادي.

ص: 403


1- نهاية الوصول : 94.
2- الذريعة 1 : 83.
3- المعالم : 6.
4- في ( ط ) زيادة : النحرير السيّد.
5- الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) : 255 - 256.
6- لا يوجد لدينا ، وحكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 49.
7- انظر المختصر وشرحه للعضدي :7. 91.
8- انظر المختصر وشرحه للعضدي :7. 91.

ص: 404

هداية

في ذكر حجج القائلين بالإثبات

فنقول : حجّة القول بالوجوب وجوه :

أحدها - وهو أسدّها وأقومها - : ما احتجّ به الاستاذ - دام بقاه - من شهادة الوجدان السليم والطبع المستقيم بذلك ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه مع خلوّ طبيعته عن الاعوجاج الفطري وبراءة قريحته عن اللجاج الطبيعي ، يحكم حكما على وجه الجزم واليقين بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلّق بالفعل وبين الطلب المتعلّق بمقدّماته على الوجه الذي أشرنا إليه في تحرير محلّ الكلام.

ونزيدك توضيحا في المقام : بأنّ المدّعى ليس تعلّق طلب فعلي بالمقدّمة على وجه تعلّقه بذيها ، كيف! والضرورة قضت ببطلانه ، لجواز الغفلة عن المقدّمات بل واعتقاد عدم التوقّف بينهما ، بل المقصود أنّ المريد للشيء لو راجع وجدانه يجد من نفسه حالة إجماليّة طلبيّة متعلّقة بمقدّماته على وجه لو حاول كشف تلك الحالة وتفصيلها لكان ذلك في قالب الأمر والطلب التفصيلي ، كما يرى مثل ذلك من (1) محبوبيّة إنقاذ الولد وإن لم يكن عالما به بل وبالنسبة أيضا. فمجرّد الذهول عن الشيء لا يقضي بسلب جميع أنحاء الوجود عن الشيء ، وكم من امور مركوزة في الخاطر مع انتفاء الالتفات إليه حتّى أنّ تلك الحالة حالة يمكن النزاع في كونها من سنخ الطلب

ص: 405


1- في ( م ) : في.

أو لا ، على ما نبّهنا عليه سابقا. مع أنّ ثمرة الكلام في أوامره تعالى ، ومن المعلوم انتفاء الاحتمال في حقّه تعالى وإن كان عنوان البحث يعمّه وغيره أيضا ، كما في سائر المباحث الاصوليّة. فما يمكن أن يكون ربطا بين المقدّمة وذيها من حيث الطلب هو ما ذكرناه وإن اختلفت شئونه وأطواره في الإجمال والتفصيل ، فتارة يتقمّص قميص الوجود الأصلي التفصيلي ويظهر في مظاهر الطلب والأمر من الامور التي يكشف عنه ، وأخرى يتجلّى (1) بكسوة الوجود التبعي الإجمالي ، وهو في هذه الحالة ممّا لا يعقل أن يكون له عبارة مستقلّة.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد من ادّعى الضرورة في ذلك ، كما نقل عن المحقّق الدواني (2) ، وإلاّ فالظاهر أن ليس المراد بها ضرورة الدين على نحو ما يدّعى في أمثال المقام. ومع ذلك فلعلّ الحكم بالوجوب ليس بهذه المكانة (3) من الظهور ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم (4).

ولا أقول : إنّ الحكم بثبوت الملازمة يحتاج إلى وسط في التصديق ، كيف! وقد قلنا بشهادة الوجدان بذلك ، ومن المعلوم أنّ الوجدانيّات من القضايا الضروريّة ، بل المقصود أنّ الحكم بذلك ليس على وجه يعدّ منكره مكابرا لاحتمال تطرّق الشبهة فيه كثيرا ، بخلاف غيره ، ضرورة اختلاف مراتب المعلومات شدّة وضعفا وإن كانت من الوجدانيّات. وهذا هو المراد ممّا قرع سمعك فيما تقدّم أنّ الحكم المذكور من الأحكام النظريّة. فتدبّر.

ص: 406


1- في ( م ) : يتحلّى.
2- نقله المحقّق النراقي في مناهج الأحكام : 49.
3- في ( ع ) و ( م ) : المثابة.
4- تقدم في الصفحة : 352.

الثاني : اتّفاق جميع أرباب العقول على ذلك على وجه يكشف عن ثبوت المتّفق عليه بحسب الواقع. ولعلّ ذلك مراد من ادّعى الإجماع على ذلك ، نظير ما قد ادّعاه بعض أساطين المعقول من إجماع أرباب الملل على حدوث العالم بالحدوث الزماني وكونه مسبوقا بالعدم الواقعي (1).

ومنه يظهر فساد ما ربّما يتخيّل : من أنّ الإجماع في المسألة الاصوليّة غير ثابت الحجيّة ، إذ بعد الغضّ عن أنّ الإجماع في محلّه حقيقة لا وجه للمنع عن حجيّته وإن كانت مسألة أصوليّة.

يرد عليه : أنّ ذلك إنّما يتّجه إذا كان المراد هو الإجماع المصطلح. وأمّا على الوجه الذي قرّرناه فلا مساق للكلام المذكور بوجه.

الثالث : ما احتجّ به جماعة ، أوّلهم - على ما هو المنسوب إليه - أبو الحسين البصري (2) ، وتبعه في ذلك من تأخّر عنه (3) ، وهو : أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، فحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بالمحال ، وإلاّ يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا وقد فرضناه كذلك ، وبطلان اللازمين ممّا لا كلام فيه ، فكذا الملزوم ، فيجب أن تكون واجبة.

والمراد من عدم الوجوب المذكور في المقدّم في الشرطيّة الاولى أعمّ من أن يكون بفقد الجنس والفصل - أعني المنع من الترك - أو بفقد الفصل فقط ، والمراد من الجواز المأخوذ في التالي فيها هو مجرّد اللاحرج الملحوظ في

ص: 407


1- انظر گوهر مراد : 164 - 165.
2- نسبه إليه الآمدي في الأحكام 1 : 153.
3- منهم المحقّق في المعارج : 74 ، والعلاّمة في نهاية الوصول : 94 ، ومبادئ الوصول : 107 ، وصاحب الفصول في الفصول : 84.

أفعال الصبيان والمجانين ، فإنّ ارتفاع الوجوب (1) يوجب عدم الحرج في الترك ، ضرورة استحالة ارتفاع النقيضين ، فالترك عند عدم الوجوب يكون ممّا لا حرج فيه.

وبذلك يندفع ما عسى أن يتوهّم : من أنّ عدم الوجوب لا يوجب الجواز على وجه الإباحة الشرعيّة ، لأنّ اللابدّية التي مرجعها إلى معنى المقدّمة يمنع من ورود حكم شرعي عدا الوجوب - ولو كان إباحة - على المقدّمة إذا كان ذوها موردا للوجوب الشرعي - على ما قرّرنا في دفع بعض الثمرات المتقدّمة - فالملازمة في الشرطيّة الاولى ممّا لا غبار عليها. وما اضيف إليه الظرف في قوله : « فحينئذ » يحتمل وجوها :

أحدها : ما استفاده صاحب المعالم ، وهو الجواز (2). ومن هنا اورد عليه : بأنّ الإيجاب لا يعقل أن يكون مؤثّرا في القدرة.

وثانيها : ما نسبه البعض إلى السبزواري (3) ، وهو الترك. والظاهر أنّ مجرّد الترك لا يلازم اللازمين المذكورين ؛ إذ الترك على تقدير الوجوب بمنزلة ترك نفس الواجب ، فيختار ارتفاع التكليف ولا يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، لأنّ ارتفاعه إمّا بالامتثال أو بتحقّق المعصية ، وعند الوجوب إنّما يرتفع بواسطة تحقّق العصيان.

وثالثها : أن يكون المراد هو الترك على وجه الجواز. وهو الظاهر من الدليل ، فيترتّب عليه أحد المحذورين بحسب الظاهر ، لأنّ جواز ترك المقدّمة مع وجوب

ص: 408


1- في ( ع ) ، ( م ) بدل « الوجوب » : الحرج.
2- المعالم : 62 - 63.
3- حكى عنه في ضوابط الاصول : 84.

ذيها عند الترك يوجب التكليف بما لا يطاق على تقدير ثبوت التكليف ، وخروج الواجب عن وجوبه على تقدير عدمه. كذا افيد (1).

قلت : الظاهر منه - دام بقاه - إرادة توجيه الدليل على وجه لا يعدّ هجرا من الكلام ، وإلاّ فالحقّ أنّ ذلك لا يجدي في دفع الاعتراض.

أمّا أوّلا : فلأنّ تفسير الجواز بمجرّد اللاحرج - بعد أنّه خلاف الظاهر من « الجواز » المأخوذ في الدليل فإنّه ظاهر في الجواز بمعنى الترخيص - ممّا لا وقع له ، فإنّ ذلك يوجب خلوّ الواقعة عن الحكم ، والتزامه لعلّه ليس في محلّه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تقييد الترك بالجواز بمعنى اللاحرج لا يجدي في ترتّب أحد المحذورين ، لأنّ الوجه في لزوم الشقّ الثاني من الترديد في الحقيقة هو التناقض الثابت على تقدير الترخيص ووجوب الفعل - كما لا يخفى على الملاحظ في لبّ الدليل - وعلى تقدير انتفاء الحكم الترخيصي لا يلازمه ، لأنّ ارتفاع الوجوب إنّما هو بواسطة تحقّق المعصية عند ترك المقدّمة ، وذلك ظاهر عند التأمّل.

وكيف كان ، فقد أجيب عن الدليل تارة بعد اختيار الشقّ الأوّل من الترديد بمنع الملازمة ، إذ الممتنع إنّما هو الإتيان بذي المقدّمة بشرط عدم المقدّمة لا في حال عدمها ، ضرورة ثبوت الفرق بين المشروطة بشرط الوصف وبينها ما دام الوصف ، كما في تكليف الكفّار بالفروع حال الكفر. وتارة اخرى بمنع بطلان التالي ، نظرا إلى ما اشتهر : من أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإنّ المكلّف بالفعل بعد ما أقدم على ترك المقدّمة وصار بنفسه سببا لامتناع الفعل في حقّه لا مانع من تعلّق التكليف به ووجوبه عليه.

وبعض المحقّقين قد تكلّف في دفعه وجها آخر ، حيث أفاد في حاشيته على المعالم - بعد ما أورد على نفسه : بأنّ الامتناع من أيّ جهة كان يوجب قبح الطلب

ص: 409


1- انظر إشارات الاصول : الورقة 71 ، وضوابط الاصول : 87.

من الحكيم - أنّ أوامر الشارع للمكلّفين (1) ليس على قياس (2) أوامر الملوك والحكّام الّذين غرضهم حصول نفس الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده حتّى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه سفها وعبثا ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض : أنّ اللائق بحاله كذا ، وإن فعل كذا كان أثره كذا ، وإن فعل بخلافه كان أثره بخلافه. وهذا المعنى باق في جميع المراتب لا ينافيه عروض الامتناع بالاختيار للفعل ، إذ بعد ذلك أيضا يصحّ أن يقال : « إنّه فات عنه ما هو لائق بحاله » ويترتّب على ذلك الفوت الأثر الذي كان أثره ، وليس معنى كونه مكلّفا حينئذ إلاّ هذا ، ولا يتعلّق للشارع غرض بحصول ذلك الفعل ووجوده حتّى قيل : إنّه لا يتصوّر حينئذ (3) ، انتهى ما أفاده.

والجواب : أمّا عن الأوّل : فبأنّ الفرق بين المشروطتين إنّما يجدي فيما إذا كان الإتيان بالفعل في الآن الثاني من زمان الامتناع ممكنا ، كما إذا كانت المقدّمة الّتي صار تركها موجبا لامتناع الفعل من الأفعال الاختياريّة مع بقاء الاختيار بالنسبة إليها أيضا ، كما في مثال تكليف الكفّار. وأمّا إذا كانت المقدّمة المتروكة ممّا لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بها في الآن الثاني من الامتناع - كما هو المفروض في الدليل - فلا وجه للفرق بين المشروطتين.

وتحقيق ذلك : أنّ ملاك الفرق بينهما إنّما هو بواسطة إمكان انقلاب الوصف إلى نقيضه في المشروطة ما دام الوصف ، وامتناعه في الاخرى. وبعد ما فرضنا من أنّ الكلام في المقدّمة المتروكة الّتي لا يمكن للمكلّف الإتيان بها وإدخالها في الوجود

ص: 410


1- في ( م ) : على المكلّفين.
2- في ( ع ) : على طرز.
3- حاشية سلطان العلماء : 280.

ولو بالعرض فلا وجه للفرق المذكور ، ألا ترى أنّ الوجه المذكور لا ينهض مصحّحا للقول بتكليف المرتدّ الفطري بناء على عدم قبول التوبة منه.

ومن هنا ينقدح فساد ما قد يظهر من المعالم وبعض الناظرين في كلامه : من أنّ الكلام إنّما هو فيما هو مقدور بالنظر إلى ذات المكلّف به والزمان والمكان وسائر الامور الخارجة سوى إرادة المكلّف واختياره ، فكيف يصير ممتنعا امتناعا مانعا عن تعلّق التكليف بمجرّد إرادته واختياره؟ كيف! ولو كان كذلك لما تحقّق عاص بترك الواجبات مثلا ، إذ الفعل ممتنع فيه بالنظر إلى إرادته واختياره عدمه (1) ، انتهى.

وليت شعري! فهل يذهب وهم إلى أنّ مدار الاستدلال على ترك مقدّمة اختياريّة يمكن الإتيان بها في الآن الثاني ، ومع ذلك اختلط عليهما الأمر؟ فتدبّر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تسليم ذلك في مثل تكليف الكفّار بالفروع إنّما هو على سبيل التنزّل وفي بادئ النظر ، وإلاّ فالنظر الدقيق ممّا يحيل ذلك فيه أيضا.

وبيانه : أنّ إمكان الفعل حال عدم المقدّمة إن اريد به الإمكان الذاتي مع قطع النظر عن وقوعه في الوجود ، فلا يفرق ذلك بين أن يؤخذ بشرط الوصف أو في حال الوصف ، ضرورة اجتماع الإمكان الذاتي مع الامتناع العرضي. وإن اريد به الإمكان بمعنى وقوعه في الخارج ووجوده فيه فالضرورة قاضية بامتناع الوجود حال العدم ، وإنّما الفرق إنّما هو بالنسبة إلى الآن الثاني من زمان الامتناع. وذلك ظاهر في الغاية.

وأمّا الجواب عن الثاني : فيتوقّف على تحقيق القول فيما تداول بينهم ، من أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار. فقيل بالمنافاة مطلقا (2). وقيل بها فيما إذا لم يكن

ص: 411


1- حاشية سلطان العلماء : 280.
2- لم نعثر على قائله.

الاختيار باقيا ، كما في تكليف الكفّار (1). وقيل بالتفصيل بين الخطاب فقال بها ، والعقاب فقال بعدمها (2).

والتحقيق أن يقال : هذه القضيّة إنّما اشتهرت بين العدليّة كقضيّة اخرى قائلة : بأنّ الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار. وهاتان القضيّتان إنّما سيقتا (3) في قبال الأشعري القائل بأنّ بعد وجود العلّة التامّة لأحد طرفي الممكن لا يعقل القول ببقاء الاختيار لامتناع التخلّف - ومن هنا التجأ بعض الأخباريّة من أصحابنا (4) إلى جواز التخلف - وعند عدمها يمتنع وجود الفعل لبطلان الأولويّة الذاتيّة ، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وما لم ينسدّ جميع أنحاء وجوده ولم يمتنع لم يعدم. والمقصود منها هو : أنّ الامتناع الحاصل بسبب اختيار الفاعل أحد طرفي الفعل الممكن صدوره وعدمه منه لا ينافي كون الفعل اختياريّا للمكلّف والفاعل ، فيعاقب عليه أو يثاب لأجله ؛ ومن هنا تراهم يعقّبونه بقولهم : « بل يؤكّده » فإنّ التأكيد إنّما هو بواسطة أنّ الامتناع إنّما هو بواسطة اختيار المكلّف صدور الفعل ، ولا مدخل لذلك فيما نحن بصدده.

وتوضيحه : أنّ هناك مطلبين ، أحدهما : أنّ الفعل الاختياري هل يخرج عن كونه اختياريّا بواسطة عروض الامتناع عليه حين اختيار الفاعل أحد طرفي الفعل أولا؟ والثاني : أنّ بعد عروض الامتناع له ولو بواسطة الاختيار هل يصحّ التكليف بذلك الفعل الممتنع أولا؟ والقضية المذكورة إنّما هي مسوقة في المقام

ص: 412


1- لم نعثر عليه.
2- قاله القزويني في ضوابط الاصول : 82 و 151 ، والسيد الكاظمي في الوافي : 257 - 258.
3- في ( ط ) : إنّما هما مسوقتان في كلامهم.
4- راجع لما قاله الأشاعرة وما التجأ إليه بعض الأخبارية ، الفوائد المدنيّة : 244.

الأوّل ، ولا مدخل لها بالمقام الثاني ، كيف! وقضيّة القواعد العدليّة فسادها في الثانية مع أنّها موروثة عن الأساطين ، بل وعليه أساس اصول الدين.

وبالجملة ، أدلّة امتناع التكليف بالمحال قائمة فيها من لزوم السفه على الآمر ، بل عدم تأتّي الطلب مع العلم بامتناع المأمور به ، وتقبيح العقلاء لمن طلب أمرا ممتنعا من غير انتظار منهم لأن يستعلم بأنّ الامتناع إنّما نشأ من المأمور أو من غيره ، ولو اريد استكشاف ذلك لكان المستكشف ملحقا بأصحاب السوداء ويكون كلامه من مقالة أرباب الجنون ، فإنّه فنون.

لا يقال : إنّ الدليل على اعتبار الإمكان في المأمور به ليس إلاّ أن يكون الفعل متعلّقا لقدرة المكلّف ، والمفروض أنّ القدرة باقية بعد الاختيار ، إذ لولاه لزم خروج الفعل بعد صدوره عن مقدرة المكلّف.

لأنّا نقول : ذلك كلام خال عن التحصيل جدّا ، فإنّ الدليل على اعتبار القدرة في الفعل المأمور به هو العقل ، وهو قاض باعتبار صفة في الفعل على وجه يمكن أن يكون ذلك متعلّقا لاختيار المكلّف أحد طرفيه بالفعل ، وهذا هو المراد بالقدرة. ولو سلّم أنّ بعد الاختيار لا يخرج الفعل عن المقدوريّة - كما هو المذكور في الاعتراض - فلعلّه بواسطة أنّ المراد بها ليس ما ذكرنا ، وإلاّ فعلى ما عرفت المراد منها كيف يعقل القول ببقاء القدرة بعد الاختيار وعروض الامتناع ولو بواسطة الاختيار؟

ومن هنا ينقدح لك أنّ القولين الآخرين (1) في المسألة ممّا لا مساق لهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه مبنيّ على اشتباه نبّهنا عليه في الجواب عن الاعتراض الأوّل.

ص: 413


1- في ( م ) : الأخيرين.

وأمّا الثاني : فلأنّ العقاب على فعل غير مقدور ممّا لا يستحسنه العقلاء. نعم ، لو اريد بالعقاب هو العقاب بواسطة تفويته التكليف وتسبيبه لعروض الامتناع لم يكن بعيدا عن الصواب.

فالّذي يتأتّى على مذهب العدليّة هو القول الأوّل ، ولا وجه للمنع عن بطلان التالي في الاستدلال المذكور ، كما هو ظاهر.

وأمّا الجواب عمّا تكلّفه المحقّق المزبور (1) ففي غاية الظهور ، إذ على ما زعمه لا فرق بين التكليف بالامور المستحيلة الذاتيّة وبين المطالب الممتنعة بالعرض ، فإنّ بيان المصالح المودعة في الأشياء لا يختصّ بالأمور الممكنة.

لا يقال : ذلك بواسطة إمكان صدورها عن المكلّفين.

لأنّا نقول : وهذا هو الوجه في امتناع التكليف في الممتنعات العرضيّة أيضا ، لعدم إمكان صدورها عنهم ، على أنّ الضرورة تشهد بأنّ أوامر اللّه تعالى ليست من قبيل أوامر الطبيب على وجه تكون خالية عن المولويّة ، بل التحقيق أنّها من قبيل أوامر المولى الطبيب بالعبد (2) المريض ، ولا يعقل إنكار الطلب رأسا في الأوامر الشرعيّة. ولعلّ الّذي دعاه إلى ذلك هي الشبهة المعروفة في تصحيح تكليف الكفّار والعصاة ، حيث إنّه بعد العلم بعدم وقوع المكلّف به في الخارج لا وجه للتكليف والطلب. وقد تعرّض أصحابنا لدفعها في الكتب الكلاميّة (3) بما لا مزيد عليه.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إن أراد المستدلّ من بقاء التكليف حال ترك المقدّمة كون الفعل بحيث ينتزع منه وصف الوجوب وإن لم يكن موردا للطلب الفعلي

ص: 414


1- تقدّم كلامه في الصفحة : 409 - 410.
2- كذا ، والمناسب : للعبد.
3- راجع كشف المراد : 322 - 324.

على وجه يستلزم تركه العقاب حال عدم المقدّمة فهذا ضروري الوجود ، فنحن نختار بقاء التكليف ولا يلزم محذور ، إذ المرجع فيما ذكرنا إلى أنّ وجوب الفعل الموقوف على المقدّمة ممّا لا يختلف بالنسبة إلى وجود المقدّمة المتروكة وعدمها. وليس ذلك من التكليف بالممتنع ، بل هو تكليف بأمر مقدور عرضه الامتناع ، فكما أنّ هذه الصفة تنتزع من الفعل حال الإتيان بالمقدّمة بل ونفس الفعل ، فكذا ينتزع منه حال عدمها. ولعلّه إلى ذلك يشير عبارة المعالم من قوله : « بعد القطع ببقاء الوجوب المقدور كيف يكون ممتنعا » (1).

وإن أراد أنّ الطلب الفعلي موجود حال عدم المقدّمة نحو وجوده قبل زمان العدم عند الاقتدار عليه ، فنحن نختار عدم البقاء نظرا إلى امتناع صدور هذا النحو من التكليف - على ما عرفت في الجواب عن الاعتراض السابق - ولكن نمنع لزوم اللازم ، فإنّ ذلك يلزم لو قلنا بأنّ عدم المقدّمة تكشف عن عدم كون ذيها مطلوبا عند العدم فيكون الواجب مشروطا ، أو قلنا بانخلاعه عن وصف الوجوب مطلقا. ونحن في سعة من ذلك ، فنقول بوجوبه على الإطلاق وبعدم انخلاعه عن صفة الوجوب مع سقوط الأمر ، لأنّ سقوط الأمر تارة بحصول الامتثال ، واخرى بحصول العصيان. والثاني يتحقّق عند ترك المقدّمة ، فلا يلزم المحذور مع سقوط الأمر والتكليف بمعنى الطلب الفعلي ، وذلك ظاهر.

فإن قلت : قبل زمان الفعل كيف يتحقّق المعصية ولو مع ترك المقدّمة؟ فإنّ التارك للسير إلى الحجّ قبل مجيء العرفة لا يعقل أن يكون مخالفا للأمر بالوقوف فيها ؛ لأنّه موقّت بوقت مخصوص.

قلت : لا غبار على ذلك بعد ما مرّ مرارا ، من أنّ المدار في طريق الإطاعة

ص: 415


1- المعالم : 62.

والعصيان هو العرف وطريقة العقلاء في استخدام الموالي عبيدهم ، ونحن بعد ما راجعناهم نجدهم مطبقين على عقاب عبد مأمور بشيء في وقت مع ترك مقدّمته قبل ذلك الوقت ، بل الانتظار إلى ذلك الوقت إنّما يعدّ لغوا عندهم فيما هو المفروض من امتناع الفعل بعده.

نعم ، فيما لو كان الفعل محتمل الحصول بعد ترك المقدّمة كان الوجه هو عدم الاستحقاق إلى أن يحصل الامتناع ، إمّا بحضور الوقت أو بغيره. لكن قد عرفت أنّ الكلام ليس على هذه الملاحظة.

وقد يقال : إنّه يصدق على التارك للمقدّمة قبل حضور زمان ذيها أنّه حقيقة ترك نفس الفعل في وقته فليس ذلك من قبيل تقدّم المعلول على العلّة ، فيصدق على من لم يخرج مع القافلة الأخيرة أنّه ترك الحجّ في ذي الحجّة.

وفيه نظر ؛ لأنّ الفعل الملحوظ وقوعه في وقت تارة يكون انتفاؤه بواسطة انتفاء الوقت - إمّا لعدم حضوره ، وإمّا لانقضائه - وتارة يكون بواسطة انتفاء نفس الفعل في ذلك الوقت. ولا شكّ أنّ عدم الفعل المذكور بواسطة عدم حضور زمانه ، فلا يصحّ استناده حقيقة إلى اختيار المكلّف ، لعدم اقتداره عليه بعد انتفاء القيد والوقت ، فيكون العدم مستندا إلى ما هو الأسبق من أجزاء العلّة في العدم ، وهو انتفاء الوقت.

نعم ، بعد حضور الوقت تنقلب النسبة فيصير الترك مستندا إلى الاختيار ، كما هو الشأن في أجزاء العلّة فيما إذا انقلبت نسبة الوجود والعدم فيها ، بأن ينعدم الموجود بعد وجود المعدوم ، وذلك ظاهر.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة المذكورة هو ما قلنا : من أنّ العقلاء يستحسنون المذمّة على عبد ترك المقدّمة مع امتناع ذيها في حقّه وإن لم يكن وقت الفعل حاضرا ، ولا حاجة إلى صدق قولنا : إنّه ترك الواجب حقيقة ، حتّى يرد عليه ما ذكرنا.

ص: 416

ويمكن أن يجاب عن الدليل بوجه أخصر ، كأن يقال : المستدلّ إن أراد إثبات وجوب المقدّمة مع الحكم بعدم وجوب ذيها فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، وإن كان قد يظهر من المدارك (1) والكفاية (2) تبعا للأردبيلي (3) حيث حكموا بعقاب الجاهل على ترك الفحص والتعلّم دون الواقع. ومن هنا أورد عليهم المحقّق الجمال (4) : بأنّه يلازمه القول بوجوب المقدّمة دون ذيها.

وبالجملة ، فإنّ ذلك وإن أمكن القول به عقلا على أن يكون العقاب على الحركة الصادرة من المكلّف ابتداء كما في التوليديّات ، إلاّ أنّه خروج عن الظاهر ومصير إلى خلافه مع انتفاء دلالة عليه. على أنّ التحقيق أيضا هو استناد الأفعال التوليديّة إلى المكلّف نحو استناد غيرها من الأفعال الصادرة لا بواسطة.

والظاهر أنّ المستدلّ أيضا لم يكن مقصوده ذلك ، حيث إنّه بصدد إثبات وجوب المقدّمة بواسطة وجوب ذيها وإن كان يعطيه ظاهرا لدليل ؛ كذا افيد ، فتأمّل.

وإن أراد المستدلّ إثبات وجوب المقدّمة مضافا إلى وجوب ذيها فالدليل لا ينهض بإثباته ، لجريان الدليل على تقدير الوجوب أيضا ، كأن يقال : لو وجبت المقدّمة فلو تركها عصيانا ، فإمّا أن يكون الوجوب باقيا أو لا ، وعلى التقديرين يلزم المحذوران ، على ما عرفت من لزوم كلّ منهما على تقدير. ولا فرق في ذلك إلاّ فيما لا تأثير له في المقام من استناد الترك تارة إلى سوء الاختيار ، واخرى إلى غيره. وقد عرفت فساد الفرق المذكور بما لا مزيد عليه ، فالحكم بوجوب المقدّمة لا يؤثّر في دفع شيء من المحذورين.

ص: 417


1- المدارك 2 : 345.
2- لم نعثر عليه في الكفاية ، نعم ذكره في الذخيرة : 167.
3- مجمع الفائدة 2 : 110.
4- الحواشي على شرح اللمعة : 345.

الرابع من الأدلّة : ما استند إليه بعضهم (1) ، من أنّها لو لم تجب لجاز التصريح بجواز تركها ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة ، فلأنّ انتفاء الوجوب إمّا بانتفاء فصله أو جنسه أيضا ، وعلى التقديرين يجوز الترك ، لأنّ جواز الترك يعمّ الأحكام الأربعة (2).

وأمّا القول بالجواز عقلا لا شرعا - بعد تسليم التفكيك بين الحكمين - ممّا لا يجدي ، لما عرفت : من أنّ المقدّمة شرعا لا بدّ من أن تكون محكومة بأحد الأحكام الخمسة ، إذ لا وجه لأن يكون مثل أفعال البهائم والمجانين ممّا لا حكم له.

وأمّا بطلان التالي ، فلأنّه لا يستريب أحد في قبحه من الحكيم.

والجواب عنه : أنّ التصريح بجواز الترك يقع على وجهين : فتارة يكون على وجه يناقض التصريح بوجوب ذي المقدّمة ، واخرى على وجه لا يعدّ مناقضا للخطاب الدالّ على وجوب ذي المقدّمة ، فالتالي في الشرطيّة المذكورة بطلانه مسلّم على الوجه الأوّل ، لكن لا يستلزم الوجوب ، لأوله إلى عدم جواز التصريح بعدم وجوب الفعل بعد التصريح بوجوبه ، لاستلزام ذلك القبح على الحكيم ، وذلك أمر ضروري لا ينكر. ولا نسلّم (3) بطلانه على الوجه الثاني بعد قطع النظر عمّا قدّمنا لك من حكم الوجدان الصحيح بوجوب المقدّمة. وإن أراد المستدلّ بذلك ما قلنا من حكم الوجدان فهو في محلّه ولا غبار عليه.

الخامس : ما تمسّك به المحقّق السبزواري - في رسالته المعمولة في خصوص المسألة - وهو : أنّها لو لم تكن واجبة بإيجابه يلزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقّا للعقاب أصلا ، لكن التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ص: 418


1- وهو أبو الحسن الأشعري ، انظر ضوابط الاصول : 89.
2- أي ما عدا الحرام من الأحكام الخمسة التكليفيّة.
3- في ( ع ) و ( م ) : ونسلّم.

أمّا الملازمة ، فلأنّا نقول : إذا كلّف الشارع بالحجّ ولم يصرّح بإيجاب المقدّمات فرضا ، فتارك الحجّ بتركه قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون مستحقّا للعقاب في زمان ترك المشي إلى مكّة عند التضيّق ، أو في زمان ترك الحجّ في موسمه المعلوم. لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّه لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلاّ ترك الحركة ، والمفروض أنّه غير واجب عليه فلا يكون مرتكبا للقبيح فلا يكون مستحقّا للعقاب. ولا إلى الثاني ، لأنّ الإتيان بأفعال الحجّ في ذي الحجّة ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقّا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه ، إذ لا يتّصف بالحسن والقبح إلاّ المقدور ، وأفعال الحجّ في ذي الحجّة للجالس في البلدان النائي عن مكّة غير مقدورة. ألا ترى أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعل معيّن في زمان معيّن في بلد بعيد ، والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنّه لم يصدر عنه إلى الآن فعل قبيح يستحقّ به التعذيب لكن القبيح أنّه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ الضرب إلاّ على الاستحقاق السابق قطعا.

ثم نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدّمات كان نائما في زمان الفعل ، فإمّا أن يكون مستحقّا للعقاب أو لا. لا وجه للثاني ، لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا ، فثبت الأوّل ، فإمّا أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو حدث قبل ذلك ، لا وجه للأوّل ، لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق ، فلا وجه للثاني ، لأنّ السابق على النوم لم يكن إلاّ ترك المقدّمة ، والمفروض عدم وجوبها.

لا يقال : نختار أنّه يستحقّ العقاب في زمان الحجّ - مثلا - قلتم : إنّ الحجّ في ذلك الزمان ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يستحقّ العقاب بتركه؟ قلنا : إن أردتم أنّ الحجّ في ذلك الزمان بشرط عدم المقدّمات ممتنع بالنسبة إليه فمسلّم ، لكن لا يجدي

ص: 419

نفعا ، لأنّه لم يجب عليه الحجّ بهذا الشرط. وإن أردتم أنّ الحجّ في ذلك الزمان الّذي اتّفق فيه عدم المقدّمات ممتنع بالنسبة إليه فممنوع ، إذ يمكن مع انتفاء المقدّمات ، إذ فرق بين المشروطة بشرط الوصف والمشروطة ما دام الوصف ، فإنّ سكون الأصابع في زمان الكتابة ممكن وبشرط الكتابة ممتنع.

لأنّا نقول : غاية ما ذكرت أنّ الحجّ في ذلك الزمان ممكن لذاته ، والإمكان الذاتي لا يكفي مصحّحا للتكليف إذا تحقّق امتناع الفعل لعلّة سابقة على ذلك الزمان ، سواء كانت العلّة من قبل المكلّف أو من قبل غيره. والقائلون بامتناع التكليف بما لا يطاق لا يخصّونه بالممتنع الذاتي على ما صرّحوا به ؛ مع أنّ أدلّة ذلك - من القبح والسفه العقلي ، وانتفاء غرض التكليف ، وعدم إمكان تعلّق الإرادة من الميل النفساني (1) - جار هنا ، ألا ترى أنّه إذا قيل يوم النحر للساكن في البلد النائي عن مكّة : « طف بالبيت في هذه الساعة » لنسب القائل إلى ضعف الحكم ووهن اللبّ. وليس المانع عن هذا القول لفظيّا ، بل المانع معنوي.

وبالجملة ، من أنصف من نفسه وراجع إلى عقله ولم يخالف (2) استقامة فطرته لا يشكّ في ذلك أصلا ، فإذا قيل : « لم يفعل قبيحا يلومه العقلاء إلى يوم النحر ، لكن فعل في يوم النحر ما يلومه العقلاء ويعاقبونه ، وهو أنّه لا يطوف في هذا اليوم مع أنّه في البلد النائي عن مكّة » لحكمت بكذبه وخروجه عن القول المنقول والكلام المعقول من غير توقّف على أنّ التقرير السابق الّذي ساق إليه الكلام أخيرا لم يجر فيه هذا الاعتراض (3) ، انتهى ما أردنا نقله.

ص: 420


1- في المصدر : والميل النفساني.
2- في ( ط ) زيادة : بالتشكيك.
3- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 48 - 50.

وأورد عليه المحقّق الخوانساري بما لفظه :

وفيه نظر ، أمّا أوّلا : فبالنقض ، فإنّه قد تقرّر في محلّه : أنّ كلاّ من طرفي الممكن لم يتحقّق ما لم يصل حدّ الوجوب في الواقع ، وعلى ما ذكر من أنّ الامتناع ولو كان بالاختيار ينافي العقاب ، يلزم أن لا يصحّ العقاب على ترك أو فعل أصلا. والفرق بين حصول الامتناع في ذلك الآن الّذي تعلّق التكليف بإيجاد الفعل فيه وبين حصوله في الآن السابق عليه تحكّم محض ، إذ الإمكان الّذي هو شرط التكليف إنّما يعتبر في زمان كلّف بإيجاد الفعل فيه ، لا في زمان آخر ، وانتفاؤه في ذلك الزمان حاصل في الصورتين بلا تفرقة ؛ على أنّ كلّ ما لم يتحقّق في زمان فلزوم امتناعه حاصل في الأوّل بناء على قاعدة « الترجيح بلا مرجّح » و « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ولزوم التسلسل أو القدم مدفوع في محلّه.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، باختيار أنّ استحقاق العقاب في زمان ترك الحجّ في موسمه المعلوم. قوله : الحجّ ممتنع بالنسبة إليه فكيف يكون مستحقّا للعقاب بتركه؟ قلنا : امتناعه إنّما نشأ من اختياره سبب العدم ، ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدوريّة.

والحاصل : أنّ القادر هو الّذي يصحّ منه الفعل ، بأن يريد الفعل فيجب حينئذ الفعل أو لا يريده فيجب حينئذ الترك ، والوجوب الذي ينشأ من الاختيار لا ينافي الاختيار. ولا فرق بين أن يكون الوجوب ناشئا من اختيار أحد طرفي المقدور أو من اختيار سببه. قال المحقّق الطوسي - في التجريد في جواب شبهة النافين لاستناد الأفعال التوليديّة إلى قدرتنا واختيارنا : من أنّها لا تصحّ وجودها وعدمها منّا فلا تكون مقدورا لنا - : « والوجوب باختيار السبب لا حق » (1) كيف! ولو كان

ص: 421


1- تجريد الاعتقاد : 200.

الوجوب باختيار السبب منافيا للمقدوريّة لزم أن لا يكون الواجب بالنسبة إلى كثير من أفعاله قادرا - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - لما تقرّر من أنّ الحوادث اليوميّة مستندة إلى أسباب موجودة مترتّبة منتهية إليه تعالى (1) ، انتهى.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره المحقّق المذكور بظاهره يوهم جواز التكليف بالممتنع بواسطة الاختيار ، على ما استفاده منه بعض من لم يسلم فطرته عن الاعوجاج (2) ، بل المدار في الجواب هو التحقيق الّذي لا مفرّ عنه : من جواز العقاب على نفس المأمور به من دون مدخليّة أمر ، وامتناعه في ذلك الوقت لا يضرّ في العقاب على تركه بعد استناد الترك إلى اختياره سبب العدم. وكذا ما أفاده المحقّق الطوسي صريح أيضا فيما ذكرنا.

نعم ، قوله : « ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدوريّة » بظاهره يوهم اتّصاف المورد بالمقدوريّة بعد الاختيار ، إلاّ أنّ من المقطوع من حال ذلك العلم العلاّمة أنّ مراده منه المقدوريّة حال الصدور ، كما هو ظاهر.

ثمّ قال : وبما ذكرنا ظهر أنّ ما ذكر في ذيل « لا يقال » : من أنّ ترك الحجّ ليس ممتنعا في ذلك الزمان بل بشرط عدم المقدّمات ، ليس موافقا للتحقيق وإن كان مشهورا بين القوم ؛ لأنّ الأصلين المذكورين سابقا إنّما يستلزمان الامتناع في ذلك الزمان أيضا ، كما لا يخفى. وأنّ ما ذكره في جواب « لا يقال » من أنّ غاية ما ذكرت الإمكان الذاتي أيضا منظور فيه ؛ لأنّ ما ذكره القائل وهو المشهور بينهم على تقدير صحّته إنّما يستلزم تحقّق الإمكان الوقوعي في ذلك الزمان ، لا الذاتي فقط ، بل هو متحقّق على تقدير الشرط (3) ، انتهى.

ص: 422


1- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 85 - 87.
2- في ( ط ) زيادة : وجبلت طبيعته على اللجاج.
3- المصدر المتقدّم : 87.

قلت : التحقيق في ذلك هو ما قدّمنا : من أنّ الإمكان الذاتي أو الوقوعي إنّما هو بالنسبة إلى الآن الثاني من زمان العدم ، حيث إنّه يمكن انقلاب الوصف المأخوذ في الموضوع في المشروطة ما دام الوصف إلى نقيضه - ومنه تكليف الكفّار بالفروع - وليس ذلك من محلّ الكلام بوجه ، فليتأمّل في فساد المذكورات جميعا.

ثمّ إنّه رحمه اللّه أطال في النقض والإبرام ، ومن أراد الاستطلاع فليراجع رسالته المعمولة في رد المحقّق المذكور.

ونحن نقول : إنّ الإنصاف أنّ الدليل المذكور ممّا لا يتمّ بوجه.

أمّا أوّلا : فنختار أنّه يستحقّ العقاب في زمان ترك المقدّمة.

قولك : إنّ المكلّف لم يفعل قبيحا ، كما هو المفروض. قلنا : قد عرفت فيما سبق أنّ طريقة الإطاعة والعصيان مأخوذة من طريقة العقلاء ، ولا ضير في عقاب العبد التارك للمشي حال الترك وإن لم يكن زمان الفعل حاضرا ، إمّا باعتبار صدق « الترك » بالنسبة إلى الفعل حقيقة وإن لم يكن زمانه حاضرا ، نظرا إلى أنّ للوقت مدخلا في حصول الفعل لا في صدق الترك ، إذ ترك الواجب عبارة عن عدم اقتدار المكلّف على الفعل المتروك إمّا بانقضاء وقته أو بغير ذلك ، والمفروض أنّ المكلّف بعد ترك المقدّمة غير قادر على الفعل ، وإن كان فيه نظر قد نبّهنا عليه فيما سبق. وإمّا باعتبار ما هو المناط في صدق « الترك » من ارتفاع القدرة على الفعل حال حضور الوقت وتفويته التكليف بإيجاد سبب الترك.

لا يقال : كيف يعقل استحقاقه العقاب ويحتمل حصول الفعل بعد ترك المقدّمة بالسعي إليه ولو خرقا للعادة؟ لأنّا نقول : ذلك خارج عن مفروض الكلام ، فإنّ محلّ البحث فيما إذا حصل الامتناع ، وعند حصول المقدّمة على الوجه المزبور يكشف عن أنّ المشي مع القافلة لم يكن مقدّمة معيّنة يوجب تركها الامتناع. وهذا ظاهر.

فإن قلت : ما ذكرت من استحقاق العقاب عند ترك المقدّمة بواسطة إيجاده

ص: 423

سبب الترك بعينه هو القول بوجوب المقدّمة ، فيستقيم الاستدلال ولا ينهض ما ذكرته بدفعه.

قلنا : كلاّ! لأنّ المبحوث عنه في المقام هو اثبات تعلّق الطلب والإرادة ولو على وجه الإجمال - على ما عرفت في تحرير محلّ الخلاف - بالمقدّمة.

وما ذكر في الجواب لا ينهض به قطعا ، إذ غاية ذلك تسليم ترتّب العقاب المترتّب على ترك الفعل عند ترك المقدّمة ، وأين ذلك من تعلّق الطلب والإرادة بالمقدّمة؟

كيف! ولو كان المذكور كافيا في المقام لم يكن حاجة إلى تمهيد المقدّمات المذكورة ، إذ لا يخفى على أوائل العقول أنّ ترك المقدّمة يوجب ترك الواجب ، وهو قبيح ، وبعد لم يثبت أنّ ما يوجب تركه قبيحا لا بدّ أن يكون فعله مطلوبا ، فإنّ ذلك في مرتبة المدّعى على ما هو ظاهر.

وثانيا : نختار أنّ التارك للمقدّمة محكوم باستحقاقه العقاب في زمان الحجّ. قولك : إنّ فعل الحجّ هناك غير مقدور له ، فلا يتّصف تركه بالقبح. قلنا : إن اريد من حضور زمان الحجّ قبل انقضاء وقته ، فهذا هو المذكور في الشقّ الأوّل. وإن اريد بعد انقضاء وقته ، فلا ريب في صدق ترك الواجب في حقّه ، وأيّ قبيح أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه! ففي كلّ آن يلاحظ إمّا أن يكون وقت الفعل منقضيا أو باقيا ولو بالنسبة إلى الأجزاء ، كما لا يخفى. وعلى التقديرين لا غبار في العقاب ، كما عرفت.

ولو سلّم فلا نسلّم أنّ ذلك الامتناع الحاصل في الفعل بواسطة اختيار المكلّف حال الاقتدار عليه عدم الفعل يوجب عدم اتّصاف الفعل بالحسن والقبح وإن قلنا بقبح التكليف الفعلي بذلك ، لكنّه لا يوجب رفع العقاب عليه. وقد مرّ تحقيق ذلك في كلام المحقّق الخونساري (1).

ص: 424


1- تقدم في الصفحة : 423.

وأمّا ما ذكره أخيرا من حديث النوم فهو ممّا لا يشبه كلام ذلك المحقّق ، فإنّ عدم اتّصاف فعل النائم بالحسن والقبح إنّما هو فيما إذا استند فعله إلى النوم ، مثل أن يكون ترك الصلاة مستندا إلى النوم فيما لم يكن مسبوقا بالأمر بها. وأمّا إذا كان مستندا إلى فعل آخر له على وجه الاختيار وكان وقوع النوم منه وعدمه سيّان في ترتّب ذلك الفعل على ما فعله أولا ، فهو ممّا يتّصف بالحسن والقبح قطعا ، وذلك كمن رمى سهما ولم يقع في محلّه إلاّ بعد نوم الرامي مثلا ، فإنّ ذلك قطعا منسوب إليه ولو حال النوم ، والوجه في ذلك أنّ الفعل ليس من أفعال النائم حقيقة ، بل هو من أفعال المستيقظ الّذي نام بعد صدور الفعل منه ولو بواسطة صدور أسبابه ومقتضياته.

والعمدة في ذلك هو إثبات اتّصاف الأفعال التوليديّة - كالمباشريّة - بالحسن والقبح. ولعلّه كذلك ، لترتّب المدح والذمّ عليها كترتّبهما على غيرها ، من غير فرق في ذلك.

ثمّ إنّ بعد التسليم عن الامور المذكورة فلم يظهر لنا تأثير الوجوب في دفع المحاذير إلاّ بالقول بوجوب المقدّمة وترتّب العقاب عليه فقط دون وجوب ذيها ، وذلك من أشدّ القبح (1) كما لا يخفى ، إذ على تقدير الوجوب يلزم المحاذير حرفا بحرف ، كما عرفت في الدليل الثالث. فتأمّل.

السادس من الأدلّة : ما احتجّ به المحقّق المذكور أيضا (2) ، وهو أنّه لو لم يجب مقدّمة الواجب المطلق لزم أن لا يستحقّ تارك الفعل العقاب أصلا. لكن التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ص: 425


1- في ( ط ) : القبيح.
2- أيّ المحقّق السبزواري.

بيان الملازمة يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، هي : أنّ (1) الطالب للشيء في زمان معيّن إذا لاحظ أن في ذلك الزمان يتصوّر أحوال مختلفة يمكن وقوع كلّ منها ، فإمّا أن يريد الإتيان بذلك الشيء في ذلك الزمان على أيّ تقدير من تلك التقادير ، أو يريد الإتيان به فيه على بعض تلك التقادير. وهذه المقدّمة ظاهرة بعد التأمّل التامّ وإن أمكن المناقشة والتشكيك في بادئ النظر. ولا ينتقض بالجزء والكلّ حيث لا يمكن تقييد وجوب الكلّ بوجود الجزء ولا يعمّم وجوده بالنسبة إلى حالتي وجود الجزء وعدمه ، لأنّ مرادنا بالحالات ما كان مغايرا له.

وإذا تمهّد هذه فنقول : إذا أمر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدّمات ويمكن عدمها ، فإمّا أن يراد الإتيان به على أيّ تقدير من تقديري الوجود والعدم ، فيكون في قوّة قولنا : إن وجدت المقدّمة فافعل وإن عدمت فافعل ، وإمّا أن يراد الإتيان به على تقدير الوجود. والأوّل محال ، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق ، فثبت الثاني ، فيكون وجوبه مقيّدا بحضور المقدّمة ، فلا يكون تاركه بترك المقدّمة مستحقّا للعقاب ، لفقدان شرط الوجوب ، والفرض عدم وجوب المقدّمة فانتفى استحقاق العقاب رأسا (2).

والجواب عن ذلك ، أمّا أوّلا : فبأنّه لم يعقل لنا الفرق في جريان الدليل بين القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم وجوبها. و (3) للمعترض أن يقول : إنّ الطالب لشيء على تقدير تعلّق طلبه بمقدّماته ، إمّا أن يريد ذلك الشيء على تقديري الوجود والعدم بالنسبة إلى الامور المطلوبة الموقوف عليها أو على تقدير الوجود فقط ، فعلى الأوّل يلزم عدم العقاب على الواجب المطلق ، وعلى الثاني يلزم التكليف بالمحال.

ص: 426


1- في ( ط ) زيادة : الآمر.
2- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 51 - 52.
3- في ( ط ) : إذ.

لا يقال : ما ذكر غير موجّه على القول بالوجوب ، إذ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة متعلّقة بعينها بالمقدّمات ، فيكون على القول بالوجوب بمنزلة نفس الواجب ، فلا يصحّ الاستفسار المذكور ، كما عرفت نظيره في الأجزاء.

لأنّا نقول : لا يخفى على أوائل العقول فساد هذه المقالة ، إذ كيف يصحّ تعلّق صفة واحدة بأمرين مع اختلافهما في الموصوفيّة بهما؟ كأن يكون اتّصاف أحدهما بها بواسطة اتّصاف الآخر بها ولم يكن أحدهما في عرض الآخر.

نعم ، يصحّ ذلك فيما إذا كانت نسبتها إلى أحدهما حقيقة وإلى الآخر نسبة عرضيّة مجازيّة. وبعبارة اخرى : أنّ وجوب المقدّمة موصوف بالغيريّة ووجوب ذيها موصوف بالنفسيّة ، وهذان الوصفان متضادّان ، ولا يعقل أن يكون وجوب شخص واحد موصوفا بهما.

ومن هنا تعرف فساد ما أورده في الأجزاء ، لأنّ الإرادة المتعلّقة بالجزء من حيث هو جزء لا بدّ وأن يكون غير الإرادة المتعلّقة به من حيث إنّه متّحد مع الكلّ ، فيصحّ الاستفسار ، غاية ما في الباب أنّ الوجوب النفسي ثابت للجزء من حيث كونه في ضمن الكلّ ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم.

فإن قلت : فرق بين اشتراط الشيء بأمر جائز وبين اشتراطه بأمر واجب ، فإنّ الأوّل لا يعقل العقاب فيه ، أمّا على المشروط فلانتفاء الشرط ، وأمّا على الشرط فلكونه جائزا ، بخلاف الثاني ، فإنّ فيه العقاب قطعا.

قلت : ذلك واه جدّا! إذ الكلام في صحّة العقاب على المشروط ، والعقاب على ترك واجب وهو الشرط ممّا لا مدخل له في العقاب في واجب آخر - وهو المشروط - إلاّ بالقول بأنّ المقدّمة واجبة دون ذيها. وفساده غنيّ عن البيان.

وأمّا ثانيا : فبأنّه لو صحّ ما ذكر في الاستدلال لزم أن لا يقع الكذب في

ص: 427

الأخبار المستقبلة ، والتالي باطل ، فالمقدّم (1) مثله. بيان الملازمة : أنّه لو اخبر المخبر بأنّي غدا أشتري اللحم - مثلا - فعلى تقدير عدم الاشتراء لا سبيل إلى تكذيبه ، إذ له أن يقول : إنّ الإخبار بشراء اللحم ، إمّا أن يكون على تقدير إيجاد جميع المقدّمات أو الأعمّ من ذلك وعدمها ، لا سبيل إلى الثاني لأوله إلى الإخبار عن أمر ممتنع ، ولا إلى الأوّل لأوله إلى الإخبار بشراء اللحم على تقدير وجود المقدّمات ، والمفروض عدم واحدة منها ، إذ لا أقلّ من ذلك. وأمّا بطلان التالي فهو ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، ضرورة صحّة التكذيب في مثل الأخبار المذكورة.

وأمّا ثالثا : فبأنّ الوجه المزبور لو تمّ لدلّ على انتفاء الواجب المطلق ، حيث إنّ عدم المقدّمة لمّا كان من جملة الأحوال التي امتنع صدور المقدّمة على تقديرها لم يصحّ وجوبه بالنسبة إليه ، ولا مدخل لوجوب المقدّمة في ذلك.

وأمّا رابعا : فبالحلّ ، فنختار من شقيّ الترديد ، تارة أوّلهما وهو وجوب الواجب على تقدير وجود المقدّمة وعدمها ، واخرى ثانيهما وهو الوجوب على تقدير الوجود خاصّة. وبيان ذلك : أنّ التقديرين المذكورين إن لوحظا بالنسبة إلى الوجوب فنحن نختار الإطلاق ، فالوجوب غير مشروط بشيء من التقديرين.

وحاصله : أنّ الفعل واجب بمعنى اتّصافه بالمطلوبيّة وكونه متعلّقا للإرادة سواء وجدت المقدّمة أو عدمت ، لأنّ الكلام في المقدّمات الاختياريّة الّتي يمكن أن يكون الوجوب بالنسبة إليها مطلقا ، ولا يلزم منه ارتفاع العقاب على الواجب المطلق ، إذ عند عدم المقدّمة يستحقّ العقاب على نفس الفعل كما هو قضيّة الإطلاق إن لوحظا بالنسبة إلى الواجب ، فنحن نختار الشقّ الثاني - وهو الوجوب على تقدير وجود المقدّمة - ولا غائلة فيه ، إذ مرجع التقدير إلى وجوب الواجب الّذي لا

ص: 428


1- في ( ط ) و ( م ) : والمقدّم.

يحصل إلاّ بعد وجود المقدّمة ، وقضية ذلك هو إيجاد المقدّمة أيضا تحصيلا للواجب المأمور به ، إذ على تقدير الإخلال بها يحصل فيه العصيان ، وبذلك يستحقّ العقاب.

قال المحقّق الخوانساري - بعد ما ذكرنا من النقض بالأخبار المستقبلة - :

والحاصل أنّ تلك التقادير ممّا يتوقّف عليه وجود تلك الأشياء في الواقع ، وأمّا الإخبار عن وجودها أو طلبها فلا يلزم أن يكون مشروطا بها ، وهو ظاهر فتدبّر (1) ، انتهى.

السابع : ما نقل عن المحقّق المذكور أيضا (2) ، وهو أنّ حقيقة التكليف عند العدليّة هي إرادة الفعل عند الابتلاء (3) بشرط الإعلام ، فالذي عليه مدار الإطاعة والعصيان هي الإرادة المتعلّقة ، والألفاظ إنّما هي أعلام دالّة عليها ، والعلامة قد يكون شيئا آخر من عقل أو نصب قرينة.

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ التكليف لا يستلزم الإرادة ولا الدلالة عليها ، بل الطلب الذي هو مدلول صيغة الأمر شيء آخر وراء الإرادة ، يسمّونها « كلاما نفسيّا » وعند المعتزلة أنّه ليس هنا معنى يصلح لأن يكون مدلول صيغة الأمر إلاّ الإرادة ، وقد طال التشاجر وامتدّ النزاع بينهما. والصواب مختار العدليّة. وتمام الكلام في فنّ الكلام ، ولا يسعه المقام.

وظنّي أنّه يكفيك مئونة التشاجر أن تراجع وجدانك عند حصول الأمر هل تجد في نفسك كيفيّة اخرى تصلح لأن يكون مدلول الصيغة أم لا؟ فإنّك عند التأمل في النفس والكيفيّات والهيئات لم تجد شيئا كذلك - إلى أن قال - فإذا ثبت أنّ إيجاب

ص: 429


1- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 101.
2- أيّ المحقّق السبزواري.
3- في المصدر بدل عند الابتلاء : على جهة الابتداء.

الشيء يستلزم إرادته ونحن نعلم قطعا أنّه إذا تعلّق الإرادة الحتميّة بوجود الشيء ونعلم أنّه لا طريق إليه إلاّ بإيجاد شيء معيّن لا يمكن أن يحصل إلاّ به ، لتعلّق الإرادة الحتميّة بإيجاد ذلك الشيء البتّة. وهذا بديهيّ بعد ملاحظة الطرفين وتجريدها عن العوارض وإن حصل التوقّف في بادئ النظر. وإذا ثبت أنّ إيجاب الشيء يستلزم الإرادة المتعلّقة بمقدّماته فيكون المقدّمة واجبة ، إذ ليس الوجوب عند الأصحاب إلاّ هذا (1) ، انتهى.

والإنصاف أنّ ما ذكره في هذه الحجّة من إحالة الأمر إلى الوجدان الصحيح كلام يلوح منه أثر الصدق وتفوح عنه رائحة الحق ، وإن كان ابتناؤه على ما ذكره من أنّ حقيقة التكليف هي : « الإرادة » مستدركا ، إذ على تقدير الخلاف أيضا يتّجه ما ذكره من أنّ المنصف يجد من نفسه وجود الطلب المتعلّق بالمقدّمة على تقدير تعلّقه بذيها ، ويعلم أن لا وجه لذلك إلاّ مطلوبيّة الفعل الموقوف عليها ، ولا يفرق في ذلك القول بأنّ الطلب عين الإرادة كما عليه العدليّة أو غيرها ، وذلك ظاهر.

ثم إنّ ما ذكرنا إنّما يتمّ فيما لو كان مراد المستدلّ إثبات الوجوب التبعي للمقدّمة على وجه حرّرنا في تحرير محلّ الخلاف. وأمّا على ما استفاده المحقّق الخوانساري من كلامه : من أنّ مقصوده إثبات الوجوب على وجه يوجب مخالفته العقاب ، فالتحقيق على ما عرفت أنّ الوجدان لا يقضي بذلك ، وليس ذلك من محتمل كلام القائل بالوجوب أيضا ، كيف! والمشهور على الوجوب ، بل قد عرفت دعوى الاتّفاق من الآمدي (2) على ذلك. وكيف يسوغ إثبات الوجوب بالمعنى المذكور لهم مع الاتّفاق على نفي العقاب على المقدّمات.

ص: 430


1- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 53 - 54 و 107 - 109.
2- الإحكام 1 : 153.

ثم إنّ المحقّق الخوانساري قد أورد على الدليل بأنّه : إذا كان الطلب هو الإرادة وكان المطلوب من الصيغة الموضوعة للطلب إعلام المخاطب بحصول الإرادة في النفس ، فيلزم أن يكون وضع الجمل الطلبيّة لغوا غير محتاج إليه ويكون مفهوماتها ممّا لا يتعلّق بتصوّرها غرض أصلا ، وهو باطل.

بيان الملازمة : أنّ النسب الإنشائيّة والصيغ الموضوعة لها ليست عين الإرادة ، وهو ظاهر. ولا دخل لها أيضا في حصول الإرادة ولا في حصول الإعلام عنها ، وعلى التقدير المذكور ليس معنى آخر حتّى يتصوّر مدخليّتها فيه. أمّا لا مدخل لها في حصول الإرادة فظاهر ، لأنّ الإرادة معنى قائم بالنفس ، وهذا يتوقّف على تصوّر المراد والمكلّف فقط ، ولا توقّف لها على تصوّر النسبة التامّة الإنشائيّة ولا على صيغها ، وهو ظاهر سواء قلنا إنّها عين الداعي أو غيرها. وأمّا الإعلام فلأنّ حاصله أن يعلم الآمر المخاطب أنّ الإرادة موجودة في نفسه ، ولا شكّ أنّ هذا المعنى معنى خبريّ ، واللفظ الدالّ عليه جملة خبريّة ، ولا توقّف له على النسبة الإنشائيّة وصيغها. وأمّا أنّه ليس على هذا التقدير معنى آخر يتصوّر مدخليّتها فظاهر. فثبت لغويّة هذه المفهومات وصيغها ، بل وكان يجب أن لا يدخل في الوجود ، كما لا يخفى على من أنصف.

وأمّا بطلان التالي : فبالضرورة والوجدان ، سلّمنا عدم بطلان التالي ، لكن نقول : لا شكّ أنّ الصيغ الإنشائيّة دالّة على الطلب ، وعلى هذا التقدير لا يتصوّر دلالتها عليه ؛ لأنّ هذا المعنى - أي أنّ الإرادة حاصلة في النفس - ليس معنى مطابقيّا لتلك الصيغ ولا تضمّنيّا - وهو ظاهر - ولا التزاميّا أيضا ، إذ ليس هذا المعنى لازما بيّنا بالمعنى الأخصّ لمفهوم لفظ « اضرب » مثلا - وهو ظاهر - بل ولا لازما مطلقا ، كما يظهر عند التأمّل. فليس أيضا بين النسبة

ص: 431

الإنشائيّة وبين الإرادة علاقة ذهنيّة (1) حتّى ينتقل منها بسبب تلك العلاقة إلى الإرادة ، فانتفت الدلالة رأسا.

ولو سلّم إمكان الدلالة بارتكاب تكلّف بأن يقال مثلا : إنّ شرط وضع هذه الصيغ أن لا يستعملوها إلاّ عند وجود الإرادة - ونحو هذا من التكلّفات الركيكة - فلا شكّ أنّ دلالة الجمل الخبريّة عليها حينئذ أقوى وأظهر ، مع أنّهم صرّحوا قاطبة بأنّ الإنشائيات دالّة على الطلب بالذات ، والإخبار عن الطلب دالّ عليه بالعرض.

فظهر أنّ الطلب ليس هو الإرادة ، وأن ليس الغرض من الصيغ الإنشائيّة الإعلام بأنّ الإرادة حاصلة في النفس ، بل يجب أن يكون أمرا آخر غير الإرادة ، ولا يجوز أن يكون أمرا مثل الإرادة متوقّفا على تصوّر المطلوب والمطلوب منه فقط ويكون الغرض من الصيغ الإعلام بحصوله في النفس ، لعود المفاسد المذكورة.

فهو إمّا نفس النسبة التامّة الإنشائيّة بل إدراكها ، لكن لا يطلق عليها اسم « الطلب » إلاّ بشرائط - مثل حصول الإرادة ونحوه - حتّى لا يرد أنّ كثيرا ما ندركها وليس الطلب متحقّقا. وإمّا أمر آخر غيره ولكن يتوقّف حصوله على ذلك الإدراك.

وهذا بعينه نظير التصديق في الجمل الإخباريّة ، فإنّه أيضا إمّا عين إدراك النسبة التامّة الخبريّة - كما هو رأي بعض (2) - أو يتوقّف عليه أو على إدراك النسبة التقييديّة على رأي من جعله غيره (3).

ص: 432


1- في المصدر بدل ذهنيّة : ذاتيّة.
2- مثل صدر المتألهين في رسالة التصور والتصديق المطبوع مع الجوهر النضيد : 324.
3- لم نعثر عليه بعينه ، ولعلّه يوجد فيما نقله من الأقوال في تفسير التصديق في الرسالة المذكورة.

وعلى التقديرين يندفع المفاسد المذكورة ، ويظهر وجه دلالة الصيغ الإنشائيّة على الطلب وكونها بالذات ، بخلاف الإخباريّة. أمّا على الأوّل فكلا الوجهين ظاهر لا سترة فيه ، لأنّ مفاد الإنشائيّة هو الطلب بنفسه ، ومفاد الإخباريّة ليس هو الطلب ، بل إنّما يخبر عن الطلب بحصوله في النفس. أمّا على الثاني فوجه الدلالة ظاهر أيضا ، لأنّ الطلب لمّا كان حصوله مع حصول مفهوم تلك الصيغ ، فعند سماعها والانتقال إلى معانيها يحصل الانتقال إلى الطلب أيضا لشدّة تقارنهما واتّصالهما حتّى أنّ النفس لا يكاد يفرق بينهما.

وأمّا كونها بالذات وكون الدلالة الإخباريّة عن الطلب بالعرض ، فلعلّ وجهه أيضا التقارن والاتّصال المذكور ، فكان مفاد الإنشائيّة الطلب بنفسها ، بخلاف الإخباريّة. أو يقال : إنّ الطلب لمّا كان يتوقّف على تصوّر النسبة الإنشائيّة وتصوّر المعاني يتوقّف في المعتاد على تخيّل الألفاظ ، أو أنّه لا يحصل بمجرّد التصوّر النسبة التامّة الإنشائيّة ، بل لا بدّ من مخاطبة مع المطلوب عنه وتوجيهه إليه ، وهي إنّما تحصل من الألفاظ ، فللصيغ الإنشائيّة على الوجهين دخل في حدوث الطلب ، فدلالتها عليه من قبيل دلالة العلّة على المعلول ، بخلاف الجمل الخبريّة ، فإنّ دلالتها وضعيّة. ولا شكّ أنّ الأوّل أقوى فلذلك اطلق عليها هنا بالذات. وبما ذكرنا ظهر وجه قولهم : إنّ تلك الصيغ منشئة ومحدثة لمعانيها ، فتدبّر ، انتهى كلامه (1).

ومواضع النظر في كلامهما غير خفيّ على من أمعن النظر فيما أفادا. وليس المقام محلاّ للإطالة.

الثامن : ما نقل عنه أيضا ، من أنّ إلزام المشقّة على الشخص من غير غرض (2) قبيح ، ولذا حكم العدليّة باستحقاق الثواب والعقاب ، فلا بدّ أن يكون في

ص: 433


1- رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 109 - 112.
2- في المصدر بدل ( غرض ) : عوض.

فعل المقدّمات التي لا خفاء في كونها من المشقّة أجر وثواب ، وهذا يقتضي الرجحان ، لأنّ ما لا رجحان فيه لا معنى لترتّب الثواب على فعله ؛ ولذا ترى منكري الوجوب لا يقولون باستحقاق الثواب على فعلها. وإذ قد ثبت بهذه المقدّمة وجود الرجحان فثبت الوجوب بمقدّمة اخرى يمكن تحصيلها بأدنى تأمّل (1) ، انتهى ما لخّصناه من دليله المنقول.

والظاهر أنّ المقدّمة الّتي بها أراد إثبات الوجوب هي ملاحظة عدم معقوليّة القول بالاستحباب ، إذ لا يعقل أن يكون الرجحان الناشئ من المطلوبيّة المتعلّقة بذيها مرتبة اخرى من مراتب الرجحان ، لما هو المقرّر من أنّ الأثر من مقولة المؤثّر. مضافا إلى أنّ القول بالاستحباب لم ينقل عنهم أيضا.

وفيه أوّلا : أنّه إن اريد من الإلزام المأخوذ في الدليل على وجه التسليم اللابديّة العقليّة التي إليها يرجع معنى المقدّميّة ، فلا نسلّم أنّه يستتبع أجرا وثوابا على فرض ترتّب الثواب على الواجب الغيري ، مع أنّك قد عرفت تحقيق القول فيه بما لا مزيد عليه. وإن اريد به الإلزام التكليفي ، فبعد أنّه مصادرة قطعا ، لا يحتاج في إتمام المطلوب إلى ضمّ باقي المقدّمات ، كما هو ظاهر.

وثانيا : أنّ المقدّمة المذكورة في مقام إثبات التكليف وإن ذكرها بعض العدليّة ، ولكنّها غير خالية عن منع ، وإنّما يسلّم بشرط أن لا يعود النفع الحاصل من الفعل إلى المكلّف. وعلى تقدير وصول نفعه إلى المكلّف لا دليل عقلا ولا نقلا على قبح التكليف به ، والإلزام بالمقدّمة غير محتاج إلى نفع أزيد ممّا يترتب على ذيها ، بل يكفي في الإلزام بها ملاحظة ما يترتّب على نفس الفعل ، وهو الوصول إلى الواجب.

ص: 434


1- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 55 ، وانظر الصفحة : 116 - 117 ، أيضا.

التاسع : ما استند إليه الفاضل المذكور (1) ، من أنّ المولى إذا أمر عبده بالصعود على السطح في ساعة معيّنة فأخذ العبد في هدم البناء يذمّه العقلاء ويعيّرونه ، وهذا علامة الإيجاب.

ثمّ أورد على نفسه بقوله : الذمّ على الهدم ليس بذاته ، بل لكونه موصلا إلى ترك الصعود. وأجاب عنه بأنّه : إذا ثبت الذمّ على الهدم ثبت إيجاب نقيضه ، وأمّا كون الذمّ معلّلا باتّصافه بصفة الإيصال إلى شيء ما فلا يقدح في ذلك ، كما لا يخفى ، انتهى (2).

والجواب عن ذلك : أنّ الذمّ إنّما هو على إيجاده بسبب الترك ، وهو ليس أمرا مغايرا للذمّ على نفس الترك ، غاية الأمر أن يقال : إنّ الذمّ إنّما يترتّب على الترك قبل زمان الفعل ، ولا ضير فيه ، لما تقدّم من أنّ الترك على قسمين : ترك حقيقي وترك حكمي ، والثاني في المقام متحقّق وإن لم يكن الأوّل صادقا. ولو فرض أنّ الهدم في زمان الأمر بالصعود فالأمر أوضح (3).

العاشر : ما استدلّ به الفاضل أيضا في الصورة المفروضة : من أنّ العاقل الخالص عن الأغراض ينهى عن الهدم المذكور إلزاما ، والنهي الإلزامي من العاقل الخالص عن دواعي الشهوة لا يكون إلاّ لداعي الحكمة ، فلا يكون إلاّ لقبح الشيء في نفسه ، كما تقرّر في غير هذا المقام ، فيكون الهدم المذكور قبيحا ويكون نقيضه واجبا (4).

ص: 435


1- أي المحقّق السبزواري.
2- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن ( الرسائل ) : 54.
3- في ( ع ) و ( م ) : واضح.
4- المصدر المتقدّم : 55.

وفيه : أنّه إن أراد إثبات الوجوب النفسي للمقدّمة فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، والمذكور في الاستدلال لا ينهض بإثباته ، لأنّ النهي المذكور في الحقيقة عن ترك الصعود الّذي هو المأمور به في حدّ ذاته. وإن أراد إثبات الوجوب الغيري بالمعنى الأعمّ من الإرشادي والإلزامي فمسلّم ، لكنّه لا يجدي نفعا. وإن أراد خصوص الإلزامي فللمانع أن يمنع عن ذلك. إلاّ أنّ الإنصاف هو ثبوته بحسب الوجدان ، فلا وجه للمنع المذكور. لكن ظاهر الاستدلال ينافي ذلك ، كما هو ظاهر.

الحادي عشر : ما حكي عنه أيضا ، من أنّ إيجاب المسبّب يستلزم إيجاب السبب ، ويلزم من ذلك أن يكون إيجاب المشروط مستلزما لإيجاب الشرط ، لأنّ ترك الواجب قبيح وترك الشرط مستلزم لترك الواجب والسبب المستلزم للقبيح قبيح (1).

والظاهر أنّه أراد بذلك دفع التفصيل بين الشرط والسبب ، وإلاّ فكيف الاستدلال بمثل ذلك في قبال من لا يرى وجوب السبب أيضا؟ على أنّ الكلام في أنّ ما يستلزم القبيح هل هو قبيح أم لا؟ فالاستدلال المذكور ساقط عن أصله ، لكونه مصادرة.

الثاني عشر : ما نسب إليه أيضا ، وهو أنّ من تأمّل في القواعد العلميّة ومارس المصالح الحكميّة وجرّب التدبيرات الكلّية وعرف مجاري أحكام العقلاء وحكمهم عرف (2) أنّ ما يجب رعايته والأمر به والإلزام به قد يكون مطلوبا بالذات وقد يكون بالعرض من حيث إنّه نافع في حصول الغرض الأصلي والمطلوب الذاتي. فمن أراد تدبير بلد أو عسكر كما أنّه يأمر بالامور النافعة لهم وينهى (3) عن الامور

ص: 436


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن ( الرسائل ) : 55 ، وانظر الصفحة : 114 منها أيضا.
2- كذا في المصدر ، وفي النسخ : وعرف.
3- في النسخ : نهى.

المضارّة لهم ، كذلك يأمر بالامور المؤدّية إلى خيراتهم (1) ومعدّاتها وشرائطها والطريق الموصل إليها وينهى (2) عن الامور المستلزمة لمضارّهم والمستلزمة لإخلال مصالحهم المؤدّية إليه ، ويريد ويكره على نسبة واحدة ، وأيّ مصلحة للشيء أنفع من توقّف المصلحة الذاتيّة عليه؟ ولمّا كانت المصالح مستلزمة للتكاليف الشرعيّة كما أنّ التكاليف الشرعيّة مستلزمة للتكاليف العقليّة عند العدليّة - كما ثبت في محلّه - يلزم وجوب مقدّمة الواجب (3) ، انتهى بأدنى اختصار.

وفيه : أنّ المراد من المصلحة إن كان (4) ما هي ثابتة في المطلوب الذاتي كما أشعر به قوله : « ويريد ويكره على نسبة واحدة » فمجال المنع فيه واسع ، بل العقل يقضي بخلافه صريحا. وإن اريد بها المصلحة الغيريّة التي تترشّح عن المصلحة الذاتيّة ، فإن اريد أنّ تلك المصلحة يستلزم التكليف بذيها فعلا فهو أيضا ممنوع. وإن اريد أنّ تلك المصلحة على وجه يصحّ معها الأمر بالمقدّمة فيما لو كان هناك ما يقضي بإظهار الأمر على وجه التفصيل فهو حقّ لا مناص عنه ، كما عرفت ممّا تقدّم.

وبما ذكرنا يظهر أنّ ما يشاهد من تعلّق الأمر الفعلي التفصيلي أحيانا ببعض المقدّمات ليس من جهة وصف المقدّميّة والمصلحة الغيريّة ، فإنّها بنفسها لا تقتضي أمرا على وجه التفصيل ، بل تحتاج إلى نكتة خارجة ، كالخوف عن غفلة المأمور عنها وخفائها ونحو ذلك ، بل الذي يقتضيه تلك المصلحة تعلّق حالة طلبيّة بسيطة ناشئة من تعلّق الطلب بالمطلوب الذاتي ، وهو كاف في ثبوتها ، ويتفصّل تلك الحالة الإجماليّة بالأوامر المفصّلة التي يقتضيها النكات الخارجيّة ، كما عرفت في تقرير

ص: 437


1- في ( ع ) و ( م ) : خيراتها ، وفي ( ط ) : أجزائها.
2- في النسخ : نهى.
3- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن ( الرسائل ) : 56 ، وانظر الصفحة : 119 منه أيضا.
4- في ( ط ) بدل « كان » : اريد بها على نحو.

الدليل المختار على ما صرنا إليه من الوجوب. وهو كاف في الحكم بوجوب المقدّمة ، كما عليه بناء الفقهاء في الكتب الاستدلاليّة الفقهيّة وغيرها ، من غير فرق بين أقسامها من الشرعيّة كالصلاة بالنسبة إلى الوضوء (1) والعاديّة كتحصيل الماء. وظاهر أنّ مرادهم ليس مجرّد الاشتراط ، لثبوته في مقدّمات غير الواجب أيضا.

بل الإنصاف أنّ ذلك من الأحكام الضروريّة ، كما أذعن به المحقّق الدواني.

قال في شرح العقائد (2) - معترضا على المحقّق الشريف حيث خصّ الوجوب بالمقدّمة السببيّة - قلت : لا فرق بين السبب المستلزم وغيره ، فإنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدّماته بديهة (3).

وقال المحقّق الطوسي في محكي نقد المحصّل : ما لا يتمّ الواجب إلاّ به وكان مقدورا على المكلّف كان واجبا عليه ، فإنّ الّذي كلّف الإتيان به كلّف به كيفما كان (4) فإنّ الاقتصار في التعليل على ما ذكره يشعر بأنّه كاف في التصديق بما ذكره.

وقال المحقّق الخوانساري - بعد دعوى الضرورة والوجدان - : ولا أظنّك في مرية من هذا بعد تصوّر تعلّق الخطاب الإيجابي والإرادة الحتميّة بشيء وتصوّر تعلّقهما بما يتوقّف على ذلك الشيء ولا يحصل بدونه ، تصوّرا مجرّدا عن العوارض ، وكيف يتصوّر من عاقل المنع من ترك شيء وعدم الرخصة فيه مع تجويز ترك مقدّمته التي يستلزم تركها تركه والرخصة (5).

ص: 438


1- لم ترد « كالصلاة بالنسبة إلى الوضوء » في ( ط ).
2- حكاه المحقق الخوانساري في رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 126.
3- انتهى كلام الدواني.
4- حكاه الخوانساري في الرسالة : 127.
5- المصدر المتقدّم : 127.

والإنصاف : أنّ هؤلاء الأفاضل لقد أجادوا فيما أفادوا في الغاية ، إلاّ أنّ الأخير منهم قال في معنى الوجوب المذكور : ولا يخفى عليك أنّ ما ذكرنا من تعلّق الخطاب والطلب تبعا بمقدّمة المأمور به ليس من جهة كونها موقوفا عليها للمأمور به ، بل هو أعمّ من استلزام الفعل المأمور به ، حتى أنّ هذا المعنى ثابت أيضا بالنسبة إلى لوازم المأمور به الذي يكون وجودها تبعا لوجود المأمور به لا مقدّما عليه ، كما يحكم به الوجدان (1).

قلت : لا إشكال في صحّة انتساب الوجوب إلى اللوازم بنوع من العناية والمسامحة من قبيل إسناد الشيء إلى غير من هو له ، كقولك : « زيد حسن خادمه » فإن أراد أنّ الطلب الحاصل في المقدّمات هو من هذا القبيل فيكون ثبوت الوجوب وتعلّقه بالمطلوب الذاتي واسطة في عروض الطلب وصحّة انتسابه إليه مجازا ، فهو ليس في محلّه ؛ لما تقدّم أنّ الوجوب الثابت للمقدّمة إنّما هو معنى آخر فوق ذلك المعنى. وإن أراد أنّ المعنى الثابت في المقدّمة إنّما هو ثابت في اللوازم التابعة للمأمور به وإن لم يتوقّف عليها نظرا إلى مجرّد استلزام تركها تركه - كما يظهر من استدلاله على ذلك فيما تقدّم - ففيه : أنّ الذي نجده من أنفسنا أنّ مدار ثبوت هذا المعنى من الوجوب هو التوقّف والتقدّم لا مجرّد استلزام الترك للترك ، كما لا يخفى على المتأمّل. ومع ذلك فالمتّهم فهمنا ، لاحتمال أن يكون الفرق الّذي نجده في أنفسنا بينهما باعتبار شدّة تلك الحالة وضعفها في المقامين ، إلاّ أنّه بعيد غاية بعد فرض اتّحاد المناط.

وهذا تمام الكلام في احتجاج القائلين بالوجوب ، وربما يستندون إلى وجوه أخر ، كلّها مزيّفة لا حاجة إلى ذكرها وذكر ما فيها.

ص: 439


1- حكاه الخوانساري في الرسالة : 127.

وممّا ذكرنا في تضعيف أدلّة القول بالوجوب يظهر وجه القول بعدم الوجوب مطلقا ، إذ بعد إبطال الوجوه التي يمكن إقامتها على المطلوب لا يحتاج النافي إلى استكشاف مطلوبه عن دليل ، ومع ذلك فقد استندوا إلى وجوه سخيفة لا ينبغي التعرّض لها ولإبطالها. واللّه الهادي.

ص: 440

هداية

في ذكر احتجاج المفصّل بين السبب وغيره ، وقد مرّ الكلام في المراد من « السبب » فيما تقدّم ، وأنّه لم يظهر لنا وجه في المراد منه بعد عدم إرادة العلّة التامّة منه ، إذ لا يعقل أن تكون واجبة ، لاشتمالها على امور غير اختياريّة خارجة عن مقدرة المكلّف. ويحتمل أن يراد به ما عدا غير المقدور من أجزاء العلّة التامّة الذي يعدّ في العادة سببا.

وكيف كان ، فالمنقول من احتجاجهم وجوه :

أمّا الوجوب في السبب : فلإجماعات نقلها الآمدي (1) والتفتازاني (2) وغيرهما في خصوص السبب. ولأنّ وجود المسبّب عند وجود السبب ضروريّ وعند عدمه ممتنع ، فلا يمكن تعلّق التكليف به لكونه غير مقدور. ولأنّ التوصّل إلى الواجب واجب إجماعا ، وليس ذلك في الشرط - لما سيأتي - فتعيّن السبب. ولأنّ الطلب إنّما يتعلّق بفعل المكلّف من الحركات الإراديّة الصادرة عنه التابعة لتحريك القوّة المنبعثة في العضلات ، وأمّا الأمور التابعة لتلك الحركات المعلولة لها فليست فعلا للمكلّف ، بل فعل المكلّف يستتبع لها استتباع العلل للمعلولات أو استتباع الأشياء للامور المقارنة اقترانا عاديّا ، فلا يمكن تعلّق التكليف بها.

وأمّا عدم الوجوب في غيره : فللأدلّة التي اعتمد عليها النافي ، مثل : عدم

ص: 441


1- الإحكام 1 : 153 ، ولكن لم يختص بالسبب.
2- لم نعثر عليه.

الدليل على الوجوب ، وعدم دلالة الأمر عليه بوجه من وجوه الدلالة وبخلوّ الخطب والمواعظ (1) والأخبار عنه مع أنّه ممّا توفّرت الدواعي إلى نقله ، فلو كان واجبا كان منقولا إلينا. وغير ذلك من الوجوه التي لا يخفى ضعفها على المتدرّب.

والجواب أمّا عن دليل الوجوب :

فعن الأوّل : بأنّ الإجماع على وجوب السبب خاصّة ، وإن اريد به النفي عن غيره فتحقّقه ممنوع ، سواء اريد به إجماع العقلاء أو العلماء ، والمنقول منه لا يجدي شيئا ولا يورث وهما (2). وإن اريد به أنّ مورد إجماع العقلاء إنّما هو السبب فقط وأمّا في غيره فيحتمل اختلافهم فيه - كما هو مراد المستدلّ حيث إنّه استدلّ للنفي بوجه آخر - ففيه : أنّ الإنصاف بحسب ما نجده من الوجدان عموم مورده في حكم العقلاء ، لأنّا لا نجد بعد اشتراكهما في توقّف الواجب عليها فرقا يوجب وجوبه دون غيره ، كما عرفت دعوى الضرورة على ذلك في كلام المحقّق الدواني (3). وبذلك ينقطع ما استند إليه في النفي عن غير السبب : من عدم الدليل.

وعدم الدلالة فيما إذا كان الدليل على وجوب ذي المقدّمة لفظيّا بوجه من وجوه الدلالة - كالتبعيّة - ممنوع. وخلوّ الخطب والمواعظ لا يضرّ في ذلك ، لجواز الاتّكال على ما يقتضيه العقل ، مضافا إلى إمكان استفادة ذلك من وجوه لفظيّة ولو بوجه من الإيماء والإشعار ، مثل قوله تعالى ( لا تَسُبُّوا الَّذِينَ ... ) (4) الآية وغير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير الماهر ، وبذلك يتمّ اللطف أيضا.

ص: 442


1- لم ترد « وبخلوّ الخطب والمواعظ » في ( ع ) و ( م ).
2- كذا ، ولا يخفى ما فيه من المبالغة.
3- المتقدّم في الصفحة : 406.
4- الأنعام : 108.

وعن الثاني : بأنّ وجوب الفعل كامتناعه بعد وجود علّته وعدمها لا ينافي التكليف به ، وإلاّ لزم سقوط التكليف عن رأس ، لأنّ المفروض أنّ المقدّمة السببيّة أيضا من الأفعال الاختياريّة التي لا بدّ من انتهائها إلى غيرها من الامور الخارجة عن القدرة التي يمتنع تعلّق التكليف بها اتّفاقا.

وعن الثالث : بما مرّ في تضعيف حجّة النفي.

وعن الرابع : فبأنّ ما ذكره إنّما يتمّ فيما إذا كان المسبّب الّذي تعلّق به الأمر من غير مقولة الحركة والفعل كأن يكون من مقولة الكيف أو غيره ، كالأمر بالعلم فيما إذا لم نقل بكونه من مقولة الفعل ، فإنّ قولك : « اعلم » بناء على ذلك لا بدّ وأن يكون المطلوب النفسي في ذلك الأمر هو التحصيل والنظر. وأمّا إذا كان المسبّب من مقولة الحركة والفعل كتحرّك المفتاح المسبّب عن تحريك اليد وإن لم يكن وجود المسبّب مغايرا لوجود السبب في الخارج ، فلا وجه للمنع عن تعلّق التكليف به ، لكونه فعلا من أفعال المكلّف. وأمّا كونه تابعا لفعله الآخر فلا ينافي تعلّق التكليف به ، كما عرفت في الجواب عن الثاني.

وتوضيحه : أنّ الامور التوليديّة التي يتولّد من فعل المكلّف تارة يكون من مقولة الفعل والحركة الصادرة عنه ، سواء كان اختلافهما بمجرّد العنوان مع اتّحاد الموجود منهما في الخارج كالإحراق الحاصل بالإلقاء في النار وكتحريك المفتاح الحاصل بتحريك اليد ، أو كان الموجود منهما أيضا متعدّدا كحركة المفتاح وحركة اليد بناء على أنّ تلك الحركة القائمة بالمفتاح صاردة عن الفاعل أيضا ، كما لا يخفى.

واخرى يكون من غير مقولة الفعل والحركة ، كالعلم الحاصل بالنظر والتحصيل الذي هو من مقولة الفعل والحركة.

فعلى الأوّل ، لا مانع من تعلّق التكليف بعنوان المولود من فعله الآخر ، سواء

ص: 443

كان متّحدا مع عنوان المولّد (1) أو مغايرا. أمّا الثاني فظاهر ، وأمّا الأوّل فلأنّ مدار التكليف وصحّته على القدرة على ذات الفعل بالعنوان الذي تعلّق به الأمر ، والمفروض كون الذات مقدورة ، وإلاّ لم يصحّ التكليف بالسبب أيضا لاتّحاد الذات فيهما ، وكونها معنونة بعنوان المسبّب - كالإحراق مثلا - لا تأثير له في الامتناع ، إلاّ من حيث توهّم وجوب وجود المسبّب مع وجود السبب ، سيّما إذا كان الذات فيهما متّحدة ، وقد عرفت الجواب عن ذلك فيما تقدّم.

وعلى الثاني ، فلا يعقل أن يكون العنوان المولّد من الفعل موردا للتكليف والأمر ؛ ضرورة توقّف صحّته على أن يكون المأمور به فعلا من المأمور ، وأمّا إذا لم يكن فعلا له فلا وجه للأمر والطلب ، إلاّ أن يكون المأمور به حقيقة والمطلوب النفسي هو عنوان السبب ويكون المسبب الحاصل به داعيا إلى الأمر به. ولا ينافي ذلك وجوبه النفسي - كما تقدّم في تحديده - إذ المطلوب النفسي غير منحصر فيما هو غاية الغايات.

فإن قلت : الأمر بالعلم لا بدّ وأن يكون مجازا على ما ذكرت ، وهو بعيد في الغاية.

قلت : لا نسلّم ذلك ، فإنّ قولك : « اعلم » يشتمل على مادّة وهيئة ، والهيئة تدلّ على طلب إيجاد العلم الذي هو المادّة وهو بعينه مفاد قولك : « حصّل العلم » ، فلا مجاز فيه.

نعم ، لو كان المتعلّق للطلب من مقولة الفعل - كالضرب مثلا - فإن لوحظ من حيث إنّه فعل ومصدر ، لا حاجة إلى تقدير الإيجاد في متعلّق الطلب ، فيقال : إنّ مدلول الهيئة في قولك : « اضرب » طلب الضرب ، إذ الإيجاد مأخوذ في المتعلّق ،

ص: 444


1- في ( ع ) و ( م ) : المولود.

وهو الفعل والمصدر. وإن لوحظ من حيث إنّه حاصل بالفعل والمصدر - كأن يكون اسم مصدر - فيحتاج إلى التعبير بالإيجاد وتقديره في متعلّق الطلب ، وهو عبارة اخرى من وجوب تحصيل الضرب.

ولعلّ ما ذكرنا مراد القائل بأنّ الأمر بالمسبّب عين الأمر بالسبب ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد جدّا ، إلاّ أنّه مع ذلك ليس قولا بالتفصيل في المقدّمات السببيّة وغيرها ، بل هو قول برجوع الأمر النفسي إلى بعض الأسباب ، لعدم قابليّة المسبّب للأمر ، لا لأنّه بعد حصول السبب خارج عن القدرة ، بل بواسطة أنّه ليس فعلا حتّى يتعلّق به التكليف.

وبمثل ما ذكرنا تقدر على إرجاع الأمر المتعلّق بالمسبّب إلى الأمر بالسبب فيما إذا كان الذات فيهما متّحدة ، من دون لزوم تجوّز ؛ فإن قولك : « أحرق » عبارة عن طلب إيجاد الحرق ، وتحصيله في الخارج عن الإلقاء في النار ، فلا مجاز في اللفظ ، مع أنّ المأمور به في الواقع هو الإلقاء. ولا يجري ذلك بالنسبة إلى الشروط ، فإنّ الأمر بالصعود على السطح لا يرتبط بنصب السلّم ، بل كلّ من النصب والصعود من الأفعال الصادرة من الفاعل على وجه المباشرة.

وأمّا بالنسبة إلى الأسباب التي تغاير المسبّبات في الخارج ويكون المسبّبات أيضا من الأفعال فلا داعي إلى التزامه وإن كان له وجه صحّة ، كما عرفت في قولك : « اضرب » إذ يمكن تجريد المادّة عن الإيجاد بجعلها حاصل المصدر ، فيكون مدلول الهيئة طلب الإيجاد ، وهو يرادف الأمر بالسبب في اللبّ ، إلاّ أنّ الظاهر من الفعل المتعلّق للأمر هو كونه مصدرا ، فلا حاجة فيه إلى الإيجاد ، وعلى تقديره يجب إبقاء الأمر على ظاهره ، لجواز تعلّق التكليف بالمسبّبات ، لأنّ الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، والمسبّب أيضا فعل لا مانع من تعلّق التكليف به.

ص: 445

فإن قلت : إنّ ما ذكر موجود بعينه في الأسباب المتّحدة كالإحراق ، فإنّه أيضا فعل ظاهر في كونه مصدرا.

قلت : نعم ، ولكن الفرق من حيث إنّ الحرق ليس فعلا في الواقع ، بل هو من مقولة اخرى ، كما لا يخفى.

فإن قلت : ما الوجه في اختلاف الموارد ، فتارة يحتاج إلى تقدير الإيجاد ، واخرى لا يحتاج؟

قلت : لمّا كان تعلّق الطلب بغير الفعل محالا فاحتاج أن يكون متعلّقه فعلا ، فإن كان فهو ، وإلاّ فبدلالة الاقتضاء يجب تقديره. واختلاف الموارد في كون بعضها فعلا دون الآخر هو الوجه في ذلك. واللّه الهادي.

ص: 446

هداية

في ذكر احتجاج المفصّل بين الشروط الشرعيّة وبين غيرها في الوجوب (1) في الأوّل وبعدمه في الثاني ، كما هو المحكيّ عن الحاجبي (2).

فاستدلّ على الوجوب في الشرط : بأنّه لو لم يكن واجبا لم يكن شرطا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. أمّا الملازمة ، فلأنّه لو لم يجب لجاز تركه ، وحينئذ فإمّا أن يكون الآتي بالمشروط دون الشرط آتيا بتمام المأمور به أو لا ، والتالي باطل ؛ إذ المفروض أنّه لم يتعلّق أمر بالشرط وانحصار الأمر بالمشروط ، فيجب الالتزام بالأوّل ، ولازمه عدم توقّفه على الشرط مع أنّه شرط ، وهو المراد باللازم. وأمّا بطلان التالي ، فلأنّه خلف.

وعلى عدم الوجوب (3) في غيره : بما مرّ في أدلّة النافين.

والجواب عنه أوّلا : أنّ المحذور مشترك الورود ؛ لإمكان أن يقال : إنّه لو عصى بالترك على تقدير وجوبه ، إمّا أن يكون آتيا بالمأمور به أو لا. لا سبيل إلى الثاني ؛ لأنّ لوجوب الشرط ليس مدخل (4) في الإتيان بحقيقة المشروط وعدمه ، إذ المفروض خروجه عن المشروط على الوجهين ، فتعيّن الأوّل ، وهو المراد باللازم.

ص: 447


1- كذا ، والظاهر : بالوجوب.
2- حكاه عنه المحقّق السبزواري في رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 47 ، والشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 104 ، وراجع شرح مختصر الأصول : 91.
3- متعلّق بقوله : فاستدلّ.
4- في ( ع ) و ( م ) : مدخلا.

قولك : إذ المفروض أنّه لم يتعلّق أمر بالشرط لانحصار الأمر بالمشروط.

قلنا : قد عرفت أنّ الوجوب لا يؤثّر في دخول شيء في شيء وخروجه عنه ، غاية الأمر أنّه على تقدير تعلّق الأمر يكون هو موردا للأمر من غير دلالة على أمر زائد عليه ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّه تقدّم أنّ الشرط الشرعي في معنى الشرط العقلي. وبيانه إجمالا : هو أنّ حقيقة الصلاة واقعا ممّا لا يحصل في الواقع إلاّ بعد تلبّس المصلّي بالطهارة ، إذ الصلاة ليست هذه الحركات والسكنات التي هي بمرأى منّا ومسمع من غيرنا ، وإنّما هي حقيقة واقعيّة غير حاصلة إلاّ بما اعتبره الشارع فيها من الأجزاء والشرائط ، بناء على مذهب الصحيحي - كما هو الصحيح - ويكون بيان الشارع لها كشفا عمّا هو الواقع.

وبوجه أظهر بعد الإغماض عمّا ذكرنا : أنّه لا إشكال في أنّ الشارع إنّما قيّد المشروط بالشرط الذي جعله شرطا ، ومن المعلوم أنّ الآتي بذات المقيّد بدون القيد لا يكون آتيا بالمقيّد من حيث إنّه مقيّد ، وخروج الشرط عن المشروط إنّما هو باعتبار ذاته ، وأمّا تقييده فلا بدّ من التزام دخوله في المشروط ، وبذلك يصير جزءا عقليّا للمشروط ، ولا ضير فيه ، فنختار أنّ الآتي بالمشروط فقط لا يكون آتيا بتمام المأمور به ، ولا ينافي ذلك فرض خروج ذات الشرط عن المشروط. ولو لا أنّ الشرط باعتبار تقيّده معتبر في المشروط يلزم أن يكون الشرط العقلي أيضا مأمورا به - كما زعمه المفصّل - لجريان الدليل فيه حرفا بحرف ، كما هو ظاهر.

نعم ، يمكن توجيه الاستدلال بأنّه قد تقرّر في محلّه : أنّ الشرطيّة اعتبار عقليّ منتزع عن مطلوبيّة شيء في شيء على وجه خاصّ ، ولا معنى لجعل الشيء شرطا لشيء إلاّ طلبه في ضمن طلبه ، فلا بدّ من أن يكون الشرط الشرعي مأمورا به من الشارع ، وإلاّ لم يعقل كونه شرطا له ؛ لعدم الارتباط. إلاّ أنّ فيه أيضا : أنّ بيان

ص: 448

الشرطيّة إمّا أن يكون ممكنا بدون الأمر - كأن يقال بأنّ الماهيّة الفلانيّة يتوقّف حصول أثرها على الأمر الفلاني ، وهذا هو الوجه في انتزاع معنى الشرطيّة من الأمر الفلاني - وإمّا أن لا يكون ممكنا. فعلى الأوّل لا إشكال في فساد الدليل ، وعلى الثاني لا وجه للفرق بين الشرط الشرعي وبين الشرط العقلي ، وعلى تقديره فاللازم التفصيل بين المقدّمات الشرعيّة وغيرها ، شرطا كانت أو جزءا أو سببا أو غيرها ، كما لا يخفى.

وقد يتوهّم الانتصار لمذهب المفصّل بما أشعر به العضدي في تقريب حجّة النفي في غير الشرط الشرعي ، حيث قال : لو استلزم وجوبه وجوبه لزم تعقّل الموجب له ، وإلاّ أدّى إلى الأمر بما لا يشعر به (1) ، فإنّه يظهر منه أنّ وجه الأمر في الشرط هو شعور المشترط به ، فإنّ المفروض أنّ الآمر إنّما يأمر بالصلاة مع الطهارة لا مطلقا ، وهو في قوّة أمره بالصلاة. ولعلّه يرجع إلى ما ذكرنا في توجيه الاستدلال ، وإلاّ فمجرّد الشعور لا يستلزم الأمر. وعلى تقديره فاللازم الأمر بالأجزاء أيضا ، لأنّها أيضا مشعور بها على تقدير وجوب الشعور بالشرط ، لا سيّما إذا كان جزءا شرعيّا ؛ على أنّ فتح هذا الباب يوجب انسداد باب إنكار وجوب المقدّمات في الأوامر الشرعيّة ، لامتناع الذهول والغفلة في حقّه تعالى.

ثمّ إنّ ظاهر التفصيل أن يكون قولا في قبال التفصيل المقدّم وأن لا يكون المفصّل قائلا بوجوب الأسباب شرعيّة كانت أو غيرها وإن كان منافيا لما تقدّم من نقل الإجماع عن الآمدي والتفتازاني (2) على وجوب السبب ، فإن التزم المفصّل بوجوب الأسباب فهو ، وإلاّ فاللازم إمّا التفصيل في الشروط في إخراج بعض أقسامها ، وإمّا القول بوجوب بعض الأسباب الشرعيّة.

ص: 449


1- شرح مختصر الاصول : 91.
2- تقدم عنهما في الصفحة : 441.

بيان ذلك : أنّ الشروط الشرعيّة على قسمين :

أحدهما : ما يكون من الأفعال ، كالاستقرار في الصلاة واستقبال القبلة.

والثاني : ما يكون من قبيل الأحوال ، كالطهارة ، فإنّها هي الحالة الحاصلة بالأفعال المخصوصة من الوضوء وأخويه في نفس المكلّف المقارنة لأفعال الصلاة وأكوانها. وأمّا نفس تلك الأفعال فهي ليست من الشروط لانتفاء مقارنتها مع المشروط ولزومها في الشروط ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الأمر الحاصل من الأفعال فيما إذا لم يكن فعلا فالتكليف إنّما يجب تعلّقه بأسبابه وإن كان مورد الأمر نفس تلك الحالة.

وحينئذ نقول : المفصّل إمّا أن يقول بوجوب القسمين فلا بدّ من التزامه وجوب هذا القسم من الأسباب ، وإمّا أن لا يقول بوجوبهما فلا بدّ من التفصيل في الشروط. إلاّ أن يقال : التزام وجوب هذا السبب إنّما هو بواسطة تعلّق الأمر الأصلي حقيقة به ، وهذا ليس تفصيلا في المسألة كما تقدّم ، لعدم اختصاصه بالأسباب الشرعيّة بل يجري في غيرها أيضا ، فلا ينافي اقتصاره في المسألة على وجوب الشرط الشرعي.

على أنّه يظهر من العضدي التزامه بوجوب مطلق الأسباب ، حيث قال رادّا على ما احتجّ به القائل بالوجوب مطلقا : إنّ المستدلّ بذلك إن أراد ب- « لا يصحّ » و « واجب » اللابدّيّة فمسلّم ، وإن أراد أنّه مأمور به ، فأين دليله؟ وإن سلّم الإجماع ففي الأسباب بدليل خارجي (1).

والعمدة ما ذكرنا : من أنّ الأمر الأصلي حقيقة متعلّق بالسبب من دون لزوم تجوّز ، كما عرفت مفصّلا. وهو الهادي.

ص: 450


1- شرح مختصر الاصول : 91 - 92.

هداية

قد عرفت أنّ الحاكم بوجود الملازمة بين طلب المقدّمة وذيها هو العقل. ولا فرق في نظر العقل بين أقسام الطلب من الوجوبي والتحريمي أو الاستحبابي وطلب ترك الشيء على وجه الكراهة والتنزيه ، لوجود ما هو المناط في الوجوبي في غيره ، فلا بدّ من القول بأنّ التحريم إنّما يترشّح من المحرّم الذاتي إلى ما يوجب وجوده ويوصل إليه ، مثل ترشّح الوجوب إلى ما به يتوصّل إليه ، وأمّا وجوب ما يتوصّل به (1) إلى ترك الحرام فهو ثابت ممّا (2) تقدّم من وجوب مقدّمة الواجب ، لعدم تعقّل الفرق بين أقسام الواجب من الفعل والترك.

ولا إشكال في ذلك ، وإنّما المهمّ بيان ما هو الموصل إلى ترك الحرام وتوضيح ما هو الموصل إلى فعله.

وتحقيق ذلك في مقامين :

المقام الأوّل : في بيان ما هو الموصل إلى ترك الحرام ، ولعلّه موقوف على تمهيد ، فنقول :

إنّ العلّة التامّة لوجود الشيء قد تكون أمرا واحدا لا تركّب فيه بوجه ، وقد تكون امورا متعدّدة تجمعها وحدة اعتباريّة أو غيرها.

فعلى الأوّل : لا إشكال في أنّ وجودها يوجب الوجود ومع ارتفاعها لا بدّ

ص: 451


1- لم ترد « إليه وأمّا وجوب ما يتوصّل به » في ( ع ) و ( م ).
2- في ( ط ) : فيما.

من ارتفاع المعلول ، ضرورة امتناع الممكن مع ارتفاع العلّة ، سواء قلنا باستناد العدم إلى علّة أو لم نقل ، إذ على تقديره لا إشكال في ارتفاع المعلول وامتناعه ، غاية الأمر عدم جواز استناده إلى العدم.

وعلى الثاني : فوجود المعلول إنّما يستند إلى جميع أجزاء العلّة التي جمعها وحدة ، كما تقدّم. وأمّا عدمه فيقع بانعدام المركّب الذي فرض كونه علّة تامّة له ، وارتفاعه إمّا بارتفاع جميع الأجزاء وهو ظاهر ، أو بارتفاع بعض الأجزاء. وليس هذا من تعدّد العلل في جانب العدم ، بل علّة العدم على تقدير استناده إلى العلّة هو عدم العلّة التامّة ، وهو أمر واحد ، وإن ظهر في موردين ، كما إذا فرض تعدّد أفراد العلّة في جانب الوجود ، فإنّه لا يوجب تعدّد العلّة ، لأنّ القدر المشترك لا تعدّد فيه. فالمعلول في جانب العدم دائما إمّا مستند إلى انعدام جميع أجزاء العلّة دفعة من دون سبق ولحوق ، وإمّا يستند إلى انعدام الجزء الأوّل من أجزاء العلّة المقتضية للوجود ، إذ بانعدامه ينعدم المركّب ، ومع ذلك يمتنع تحقّق المعلول ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون المعلول المعدوم من الامور الاختياريّة والأفعال الإراديّة أو غيرها.

نعم ، إذا كان المعلول من الأفعال الاختياريّة فالجزء المعدوم من أجزاء علّة وجودها إذا لم يكن من الامور الغير الاختياريّة ، هو إرادة ذلك الفعل والداعي إليه بواسطة وجود معارض له ، إمّا مساويا لما هو الداعي إليه ولازمه الترديد ، أو أقوى منه ولازمه ترجيح العدم على الوجود ، وهو المراد بالصارف. ولا يعقل أن يتقدّم على ذلك جزء بالعدم فيما إذا كان ذلك الجزء من الامور الاختياريّة ، إذ إعدام (1) ذلك الجزء لا يكون إلاّ بوجود الصارف عن ذلك الجزء أو عدم إرادته اللازم لعدم إرادة المعلول ، إمّا لذهول عنه فيما إذا لم يكن ملتفتا إليه بوجه وإمّا لترجيح عدمه على

ص: 452


1- في ( م ) : انعدام.

وجوده بواسطة وجود معارض أقوى لما هو الداعي إليه ، وهو الصارف ، ويعبّر عنه بالكراهة عن ذلك المعلول أيضا ، فأسبق الأجزاء المعدومة لعلّة الوجود في الأفعال الاختياريّة بعد إحراز الامور الغير الاختياريّة التي لها دخل في وجود ما ، هي الإرادة المجامعة مع الصارف تارة والمفارقة عنه اخرى.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا تعلم أنّ سبب الترك منحصر في الصارف عن الحرام وما يحذو حذوه من عدم إرادة الحرام ، وأمّا سائر المقدّمات التي لها دخل في وجود الحرام فلا يستند إليها الترك ، وبذلك تخرج عن كونها مقدّمة ، فلا قاضي بوجوبها ، فلا وجه لحرمة فعلها. فإذا تحقّق وجود الصارف عنه أو عدم إرادته لا دليل على وجوب ترك الامور التي يتوقّف عليها وجود الحرام ؛ لامتناع استناد الترك إليها لاستنادها بما هو أسبق منها في العدم ، كما عرفت.

فإن قلت : لا نسلّم انحصار سبب الترك في الصارف ، لجواز عدم تمكّن المكلّف من ترك الحرام إلاّ بارتكاب فعل من الأفعال ، كما إذا علم من نفسه الوقوع في الزنا لو لم يخرج من البيت - مثلا - ولازمه وجوب ذلك الفعل أيضا وعدم انحصار الواجب في الصارف.

قلت : الخروج في المثال المفروض مستند إلى ذلك الصارف وعلّة لبقائه ، فالصارف كما هو علّة للترك علّة للخروج أيضا. نعم ، بقاء الصارف ووجوده في الزمان الثاني مستند إلى الفعل ولا ضير فيه.

والحاصل أنّ الاشتغال بفعل من الأفعال لأجل الفرار عن ارتكاب الحرام إمّا أن يكون في زمان إرادة ارتكاب الحرام ، أو في زمان خوف حصول الإرادة بذلك الارتكاب. والأوّل محال ، لعدم تعقّل الاشتغال بشيء مع إرادة غيره ، إذ المراد بالإرادة هي الحالة التي تدعو إلى الفعل من دون معارض مساو لها أو راجح عليها ، ومع ذلك يجب صدور الفعل المراد ، ومعه يجب الصارف عن وجود غيره ، ومعه يمتنع

ص: 453

صدوره ، والمفروض الاشتغال به وهو خلف ، فتعيّن الثاني. وقضيّة ذلك كون الفعل مسبوقا بالصارف عن الحرام ، إذ لو لا الصارف عن الحرام لما تحقق ذلك الفعل ، فهو مقدّم عليه ، والترك مستند إليه ، إلاّ أنّ الصارف أنّ ذلك الفعل ممّا يجب الالتزام بوجوبه ، لأنّه إمّا مقدّمة لإبقاء الصارف لو فرض وجه ارتباط بين ذلك الفعل والصارف عن الحرام ، وإمّا معه يمتنع صدور الحرام وإن فرض انقلاب الصارف إلى إرادة الحرام ، وهو الأقرب ، إذ لا نجد وجها لاستناد بقاء الصارف إلى الاشتغال بفعل من الأفعال ، وإنّما بقاؤه مستند إلى ما يستند إليه حدوثه من خوف ونحوه ، كما لا يخفى. نعم ، هو يجدي في امتناع الفعل الذي بواسطة وجود الصارف عنه في الزمان السابق ارتكبه الفاعل كما هو ظاهر ، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه.

المقام الثاني : في توضيح الحال فيما يتوصّل به إلى فعل الحرام ، فنقول : إنّ مقدّمة فعل الحرام إنّما يحرم تبعا للحرمة الدائمة الثابتة لذيها ، وقد عرفت أنّ الحرمة التبعيّة لا يستتبع ذمّا ولا عقابا لكلّ فعل يقصد به التوصّل إلى فعل الحرام يكون (1) حراما على ما نحو ما عرفت فيما يتوصّل به إلى الواجب ، فإنّ الحرمة التبعيّة إنّما يلحق عنوان المقدّميّة لا ذوات تلك المقدّمات ، ويمتنع حصول ذلك العنوان على وجه الاختيار إلاّ بعد القصد إلى ما يتوصّل به منها ، من غير فرق في ذلك بين العلّة التامّة لفعل الحرام أو أسبابه أو شرائطه ومعدّاته. نعم ، الحكم بحرمة العلّة التامّة - بل والأسباب أيضا - قد لا يتوقّف على تشخيص أنّه قصد منه التوصّل إلى الحرام ، نظرا إلى أنّ إيجاد العلّة التامّة لفعل الحرام لا ينفكّ في الأغلب عن القصد إلى المعلول المحرّم ولو إجمالا ، بخلاف سائر المقدّمات ، فإنّ الحكم بالحرمة موقوف على إحراز القصد إلى المحرّم.

ص: 454


1- في ( م ) : ويكون.

والوجه في ذلك : أنّ الفعل إذا حرم بعنوان خاصّ أو وجب ، لا يقع محرّما ولا واجبا إلاّ بعد أن يقع بذلك العنوان في الخارج على وجه الاختيار ، فإن وقع على وجه لا ينتزع منه ذلك العنوان اختيارا لا يكون محرّما ولا واجبا وإن أثّر أثر المحرّم والواجب من ترتّب ما يتوصّل به إليه عليه ، كما لا يخفى.

وقد يتوهّم أنّ مقدّمة الحرام ما لم يكن سببا لم يكن حراما ، لأنّ الحرام ما كان يجب تركه عينا ، ولا يجب ترك شيء منها كذلك بعد السبب ، وهو الإرادة المقارنة بالفعل. وأمّا سائر المقدّمات فيجب تركها تخييرا ، لحصول ترك الحرام بواحدة منها على سبيل التخيير.

وفيه : أنّه إن فرض إمكان ترك الحرام بترك واحدة من المقدّمات غير الإرادة التي جعلها السبب لترك الحرام فلا وجه لجعل وجوب ترك السبب عينيّا ، لقيام ترك غيره مقامه. وإن لم يفرض إمكان ذلك - نظرا إلى ما قدّمنا من أنّ أسبق الأجزاء الاختياريّة المعدومة للعلّة التامّة للأفعال الاختياريّة هو الإرادة - فلا وجه لجعل ترك غير الإرادة واجبا مطلقا ، لما عرفت من عدم التوقّف حينئذ.

وأمّا الجواب عمّا استند إليه من أنّ الحرام ما يجب تركه عينا ، فنقول على تقدير تسليمه : إنّ ترك جميع المقدّمات التي يقصد بها التوصّل إلى الحرام واجب عينا ، غاية الأمر أنّه عند ترك الإرادة التي هي السبب لفعل الحرام لا يعقل وجود القيد ، فيرتفع موضوع ما هو الواجب ، وذلك لا يوجب العينيّة في الإرادة والتخيير في غيرها ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو من حيث عنوان المقدّمة ، وهل هناك عنوان آخر غيرها يوجب تحريمها إذا ارتكبها الفاعل إعانة على فعل غيره أو على فعل نفسه أو غير ذلك من الوجوه والعناوين؟ فهو محلّ الكلام. ولا بدّ في تنقيحه من رسم هدايات لتهتدي بها إلى ما هو الحقّ من المرام ، بعون اللّه الملك العلاّم.

ص: 455

ص: 456

هداية

إذا قصد الفاعل إيجاد معصية مجرّدا عنها وعمّا يتوصّل به إليها فهل فعل محرّما أو لا؟ وعلى الأوّل فهل العفو عنه ثابت في الشرع أو لا؟ ظاهر الأكثر هو الأوّل في المقامين ، بل لم نتحقّق خلافا صريحا في إنكار العفو عنه ما لم يتلبّس بالعمل ، وعنوان « العفو » في كلماتهم دليل على ذهابهم إلى التحريم واستحقاق العقاب أيضا.

نعم ، نسب إلى السيّد (1) وشيخنا الطبرسي (2) وبعض العامّة بكونه معصية (3). ولا دلالة فيه صريحا على عدم العفو ؛ لاحتمال إرادة الاستحقاق دون الفعليّة ، كما يظهر من نسبة السيّد الداماد (4) عدم العقاب إلى فقهاء الفريقين والاصوليّين منهم.

وذهب بعضهم إلى أنّه لم يفعل حراما ، وهو الظاهر من الشهيد ، حيث قال :

« نيّة المعصية لا تؤثّر ذمّا ما لم يتلبّس بها وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه » (5) فإنّ عنوان « العفو » وإن كان ظاهرا في ثبوت الاستحقاق ، إلاّ أنّ قوله : « نية المعصية لا تؤثّر ذمّا » لعلّه أظهر في الدلالة على عدم الاستحقاق.

وقد نسب ذلك إلى الصدوق أيضا ، حيث قال : « اعتقادنا أنّ من همّ بسيّئة

ص: 457


1- حكاه عنهم الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.
2- حكاه عنهم الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.
3- حكاه عنهم الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.
4- السبع الشداد المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : 89 ، المقالة السابعة.
5- القواعد والفوائد 1 : 107.

لم يكتب حتّى عملها ، فإن عملها كتب عليه سيّئة واحدة » (1) ولعلّه ليس في محلّه ، فإنّ قوله : « لم يكتب » ظاهر في العفو ، إذ على تقدير عدم الاستحقاق ليس موردا للنفي والإثبات ، كما لا يخفى.

وقد نسب بعضهم إلى المحقّق الطوسي القول الأوّل ، حيث قال في التجريد : « وإرادة القبيح قبيحة » (2) وظنّي أنّه ليس المراد بالإرادة في عبارته قصد الفاعل ، بل الظاهر المراد منها هو طلب القبيح والأمر به ، كما يظهر بمراجعة شروحه (3).

فكيف كان فيمكن الاستدلال على الحرمة بالأدلّة الأربعة.

أمّا العقل ، فلقضاء صريح الوجدان باستحقاق الذمّ لمن همّ بمخالفة المولى واعتقدها في ضميره وعقد عليها في قلبه ، ولذا يحسن من المولى الإقدام على عقاب من همّ بقتل ولده وهتك حريمه على وجه لا يمنعه منه إلاّ عدم تمكّنه منه. وهذا ممّا لا ينبغي إنكاره من أحد.

وأمّا الإجماع ، فيمكن استكشافه ممّا نسب إلى شيخنا البهائي : من أنّ كون ذلك معصية ممّا لا ريب فيه عندنا وكذا عند العامّة ، قال فيما نسب إليه : وكتب الفريقين من التفاسير وغيرها مشحونة بذلك ، إلاّ أنّ العفو أيضا ثابت ، بل هو من ضروريّات الدين (4) وممّا ستقف عليه في الحكم بالعصيان في التجرّي.

وأمّا الكتاب ، فتدلّ عليه آيات :

ص: 458


1- راجع الاعتقادات للصدوق المطبوع مع مصنّفات المفيد 5 : 68 ، وراجع البحار 5 : 327.
2- تجريد الاعتقاد : 199.
3- انظر كشف المراد : 307 ، وشرح تجريد العقائد للقوشجي : 340.
4- نسبه الكلباسي في إشارات الاصول ، الورقة 98.

منها قوله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ ) (1) فإنّه يعمّ العزم على الحرام.

ومنها قوله تعالى : ( لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) (2) فإنّ العزم على المعصية من الأخير.

منها (3) قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (4) سيّما بعد ملاحظة ما عن العيّاشي عن الصادق عليه السلام : أنّه يسأل عن السمع عمّا سمع (5) والبصر عمّا نظر إليه والفؤاد عمّا عقد عليه (6).

ومنها قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (7) وجه الاستدلال : أنّ الحبّ من مراتب الميل والإرادة - كما حقّق في محلّه - إلاّ أنّه يجامع الموانع التي تمنع عن صدور الفعل ، فيكون المراد به القصد المجرّد أو الأعمّ منه ومن الإرادة التي يترتّب عليها الفعل.

ومنها قوله تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) (8) وقد ورد في تفسيرها عن أمير المؤمنين عليه السلام : « الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها » (9).

ص: 459


1- البقرة : 284.
2- الانعام : 151.
3- كذا ، والمناسب : ومنها.
4- الإسراء : 36.
5- في ( ع ) و ( م ) زيادة : إليه.
6- تفسير العياشي 2 : 292.
7- النور : 19.
8- القصص : 83.
9- انظر تفسير الصافي 4 : 106.

ومنها قوله تعالى : ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).

وأمّا الأخبار ، فهي كثيرة جدّا ، ومع ذلك فهي على أصناف :

الأوّل : ما يدلّ على وجود المؤاخذة في النيّة.

منها : قوله صلى اللّه عليه وآله « نيّة الكافر شرّ من عمله » بعد قوله صلى اللّه عليه وآله « نيّة المؤمن خير من عمله » (2).

وعن الصادق عليه السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا ، وإنّما خلّدوا أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبدا ، فبالنيات خلّد هؤلاء. ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (3) قال : على نيّته » (4).

وفي العلل عن أبي جعفر عليه السلام أنّه كان يقول : « نيّة المؤمن أفضل من عمله وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله وذلك لأنّه لينوي من الشرّ ما لا يدركه » (5).

وعن الصادقين عليهما السلام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « نيّة المؤمن أبلغ من عمله ، وكذلك الفاجر » (6).

ص: 460


1- البقرة : 235.
2- الوسائل 1 : 35 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 3.
3- الإسراء : 84.
4- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 4.
5- الوسائل 1 : 38 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 17.
6- الوسائل 1 : 40 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 22.

وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « إذا التقى المسلمان بسيفهما [ على غير سنّة ](1) فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول اللّه هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه » (2).

وعن الكافي عن ابن بزيع عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « ملعون من ترأّس ، ملعون من همّ بها ، ملعون من حدّث بها نفسه » (3).

وروي في الكافي : « من أسرّ سريرة رآها » (4) إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ » (5) إلى غير ذلك ممّا يقف عليها المتتبّع.

الثاني : ما دلّ على العفو ؛ لما قد مرّ من أنّ عنوان « العفو » ظاهر في تحقّق العصيان.

كقول الصادقين فيما رواه في الكافي : « إنّ آدم عليه السلام قال : يا رب سلّطت عليّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم ، فاجعل لي شيئا ، فقال تعالى : يا آدم جعلت لك أنّ من همّ بسيّئة من ذرّيتك لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت عليه سيّئة ، ومن همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن هو عملها كتبت له عشرا » (6).

ص: 461


1- أثبتناه من المصدر.
2- الوسائل 11 : 113 ، الباب 67 ، من أبواب جهاد العدو ، الحديث الأوّل. وفيه : لأنّه أراد قتلا.
3- الكافي 2 : 298 ، باب طلب الرئاسة ، الحديث 4. والوسائل 11 : 3. الباب 50 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 6.
4- في المصدر : ألبسه اللّه رداءها.
5- الكافي 2 : 396 ، باب الرياء ، الحديث 15. والوسائل 1 : 5. الباب 7 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل ، والصفحة 48 ، الباب 11 منها ، الحديث 5.
6- الكافي 2 : 440 ، باب ما أعطى اللّه عزّ وجل آدم عليه السلام وقت التوبة ، الحديث الأوّل.

وعن فضل بن عثمان المرادي ، سمع أبا عبد اللّه يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ( في حديث إلى أن قال ) « ويهمّ بالسيّئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها أجل سبع ساعات » (1).

وعن توحيد الصدوق عن الصادق عليه السلام قال : « من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ويضاعف اللّه لمن يشاء إلى سبعمائة. ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتّى يعملها ، فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها أجل تسع ساعات ، فإن تاب وندم عليها لم يكتب [ عليه ] وإن لم يتب ولم يندم عليها كتبت [ عليه ] سيّئة واحدة » (2).

وعن الصادق عليه السلام : « إذا همّ العبد بالسيّئة لم يكتب عليها ، وإذا همّ بحسنة كتب له » (3).

وعن الصدوق عن أحدهما : « إنّ اللّه جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بسيّئة لم تكتب عليه » (4).

ص: 462


1- الكافي 2 : 429 ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، الحديث 4. والوسائل 11 : 1. الباب 85 من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.
2- التوحيد للصدوق : 408 ، الحديث 7. والوسائل 1 : 2. الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 20.
3- الوسائل 1 : 37 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 10. وفيه : « ... عليه ، وإذا همّ بحسنة كتبت له ».
4- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 6 ، ولكنّه عن الكافي ، ولم نعثر عليه في كتب الصدوق ، وانظر الكافي 2 : 428 ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، الحديث الأوّل.

وعن الصادق عليه السلام : « أنّ المؤمن يهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه » (1).

الثالث : ما دلّ على حرمة الرضا بما فعله العاصي.

كقول أمير المؤمنين عليه السلام : « أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه ، وعلى الداخل إثمان إثم الرضا وإثم الدخول » (2).

وروي : « أنّ من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم يفعله » (3).

ويكرّر في الزيارات المأثورة عنهم عليهم السلام (4) : « لعن اللّه أمّة سمعت بذلك فرضيت به » (5).

وقد ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (6) « أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين لأجل (7) رضاهم بفعلهم » (8) وجه الدلالة : ما عرفت من أنّ الرضا أيضا مرتبة من مراتب الإرادة والقصد ، غاية الأمر أنّه استعمل فيما وقع من الأفعال ، وهو لا يضرّ فيما نحن فيه.

الرابع : ما ورد في العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتب الحرام ،

ص: 463


1- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.
2- نهج البلاغة : 499 ، الحكمة 154. والبحار 100 : 2. الحديث 7.
3- تفسير علي بن إبراهيم 1 : 157 ، ذيل الآية 155 من سورة النساء.
4- في ( ط ) زيادة : قولهم.
5- البحار 101 : 200 - 201 ، الحديث 32.
6- آل عمران : 183.
7- في ( ط ) بدل « لأجل » : بكثير.
8- انظر تفسير الصافي 1 : 374.

كغارس الخمر (1) والماشي لسعاية مؤمن (2). وجه الاستدلال : أنّ من المعلوم عدم العقاب على المشي والغرس لا بقصد ذلك ، فيكون العقاب للقصد.

ويؤيد الكلّ الأخبار الدالّة على حرمة الحسد (3) واحتقاد الناس (4) والآمرة على اجتناب (5) الظنّ (6) ونحو ذلك من الامور الباطنيّة.

هذا غاية ما يمكن الاستناد إليه في ثبوت العقاب للقصد المجرّد عن العمل ، إلاّ أنّه مع ذلك فالحكم بثبوت استحقاق العقاب محلّ إشكال.

وتوضيحه : أنّ النيّة والقصد إمّا أن يكون من الأفعال الصادرة منّا ، كما يظهر من جملة من الفقهاء في تحديدها ، حيث يقولون : إنّها إرادة تفعل بالقلب (7). وإمّا أن لا تكون من مقولة الفعل والحركة الصادرة من الفاعل ، بل إنّما هي عبارة عمّا يدعو إلى تحريك العضلات من اعتقاد النفع في الفعل ، فيكون من الكيفيّات النفسانيّة الحاصلة تارة بأسباب اختياريّة - مثل النظر والاستدلال - واخرى بغيرها من الامور الخارجة عن الاختيار ، كما عليه جماعة من محقّقي العدليّة.

قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه - بعد ذكر الإرادة والكراهة في عداد الكيفيّات

ص: 464


1- الوسائل 12 : 165 ، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 و 5.
2- البحار 72 : 122 ، الحديث 18 ، و 78 : 272 ، الحديث 112. والوسائل 19 : 2. الباب 2 من أبواب القصاص في النفس.
3- راجع الوسائل 11 : 292 ، الباب 55 من أبواب جهاد النفس.
4- راجع البحار 75 : 209 ، الباب 64 ، والصفحة 193 ، الباب 62.
5- في ( ع ) بدل « اجتناب » : إحسان.
6- راجع البحار 75 : 209 ، الباب 64 ، والصفحة 193 ، الباب 62.
7- كالمحقّق في الشرائع 1 : 20 ، والعلاّمة في منتهى المطلب ( الطبعة الحجريّة ) 1 : 516.

النفسانيّة - : « وهما نوعان من العلم » (1) وهو الظاهر من التأمّل في الوجدان أيضا ، بل ويقتضيه البرهان أيضا ؛ من حيث إنّ النيّة والإرادة ونحوهما لو كان فعلا لكان اختياريّا عند القائل بكونها معصية ، إذ لا يعقل العقاب على الفعل الحاصل بغير الاختيار عند العدليّة ، وذلك يلازم كونها مسبوقة بالإرادة ، فيلزم الدور أو التسلسل.

والقول بأنّ الارادة مرادة بنفسها على قياس « الوجود » (2) الموجود بنفسه ، مدفوع بأنّ ضرورة العقل يحكم بالتساوي بين أفراد الفعل الاختياري في الحاجة إلى الإرادة والنيّة ، وعدم احتياجها إليها إنّما يكشف عن خروجها عن سلسلة الأفعال.

وبذلك يظهر فساد قياسه بالوجود ؛ فإنّه خارج عمّا يصير موجودا به وهو الماهيّة. مضافا إلى أنّ الكلام في الإرادة التي يتوقّف عليها صدور الفعل الاختياري عن المختار ، وصدور الفعل غير محتاج بعد تصوّر الفعل والتصديق بمنفعته - على وجه لا تعارض تلك المنفعة الملحوظة في نظر الفاعل منفعة اخرى في نظره موجودة في تركه مساوية للمنفعة القاضية بوجوده في نظره - إلى أمر آخر ، وذلك كاف في صدوره ، ولا حاجة إلى أمر آخر كما هو ظاهر عند المتأمّل المنصف. فعند التحقيق يختلف مراتب ذلك الاعتقاد الداعي إلى صدور الفعل ، ويختصّ في كلّ مرتبة باسم. وربّما يتسامح في إطلاق اسم بعض المراتب على بعضها نظرا إلى ظهور المراد.

وما ذكرنا وإن كان بعيدا عن أنظار طلبة أهل العصر ، إلاّ أنّه بعد موافقته لما ذهب إليه الأكابر من أرباب التحقيق والعدل ولما نجده من أنفسنا لا بأس به.

ص: 465


1- كشف المراد : 252.
2- لم يرد ( الوجود ) في ( ع ) و ( م ).

وكيف كان ، فعلى الثاني لا ينبغي الإشكال في الحكم بعدم استحقاق العقاب فيما إذا قصد الفعل واعتقد النفع فيه ، ولا سبيل إليه إلاّ بوجهين :

أحدهما : أن يعاقب على تحصيل ذلك الاعتقاد بالنظر أو بما يوجبه من أعمال الحواسّ الظاهرة الموجبة للعلم.

والثاني : أن يقال : إنّه لا إشكال في سوء سريرة من قصد العصيان وخبث طينته ، ومن الجائز أن يعاقب من كان على تلك الحالة الخبيثة والملكة الرذيلة وإن لم يفعل فعلا محرّما.

والأول غير مطّرد ؛ لجواز حصول الاعتقاد بواسطة مقدّمات خارجة عن القدرة ، بل ولا يبعد دعوى أنّه الغالب في العلم الحاصل بمنافع الأفعال.

والثاني ممّا لا يلتزم به العدليّة ؛ لاقتصار العقاب عندهم على مخالفة الأمر الممتنع تعلّقه بغير ما هو من مقولة الأفعال.

وعلى الأوّل - فبعد ما عرفت من أنّه خلاف ما يصل إليه فهمنا القاصر - لا وجه للعقاب على القصد ، إذ لا يزيد القصد من سائر الأفعال التي يتوقّف عليها الفعل المحرّم. وقد مرّ أنّ الأحكام الغيريّة وجوبا وتحريما لا تؤثّر ذمّا ولا يستتبع عقابا ، ولا يرى في العقل ما يوجب اختصاص القصد من سائر المقدّمات الاختياريّة ، فلا وجه للقول بعدم العقاب في غيره بل وامتناعه من حيث إنّها مقدّمات - كما مرّ - والعقاب في خصوص القصد.

فإن قلت : لا إشكال في ظهور الأخبار في الاستحقاق ، ويجعل ذلك دليلا على وجود عنوان نفسي في القصد إذا تجرّد عن وجود المقصود وإن لم يكن معلوما عندنا ، فيصحّ الحكم باستحقاق العقاب.

قلت : لا إشكال في أنّ القصد عند العقلاء لا يلازم عنوانا محرّما نفسيّا عندهم لو لم يكن نفس القصد كذلك كما هو المفروض ، ولم يظهر من الأخبار شيء يزيد على

ص: 466

ما عليه العقلاء كما لا يخفى على الملاحظ والناظر فيها ، فلا بدّ إمّا من القول بجواز العقاب على مقدّمة الحرام كائنا ما كانت ، أو الالتزام بعدم استحقاق عقاب القاصد في قصده ، وإلاّ لزم تعدّد العقاب على تقدير وجود المقصود أيضا.

ويمكن أن يقال : إنّ الهمّ بالمعصية والميل إليها والعزم عليها وقصدها مرتبة من مراتب المخالفة والمعصية ، فإنّ المخالفة قد يشتدّ وجودها وهي ما إذا وقعت المعصية بإيجاد الفعل المنهيّ عنه ، وقد تكون ضعيفة.

فإن لوحظت تلك المرتبة الضعيفة في حدّ نفسها على وجه ملاحظة المرتبة الضعيفة من السواد المأخوذة بشرط عدم اندكاكها واضمحلالها تحت مرتبة شديدة من السواد ، يترتّب عليها أحكام المخالفة من العقاب وغيره ، كما يترتّب على المرتبة الضعيفة من السواد أحكام السواد من اجتماع البصر ونحوه.

وإن لوحظت من حيث اندراجها وانطماسها تحت المرتبة الشديدة من المخالفة ، فالحكم إنّما هو لتلك المرتبة ، ولا ينسب إلى الضعيفة المنطمسة شيء من آثار المخالفة ، كما هو كذلك في السواد أيضا.

وبذلك يظهر عدم وجوب التزام العقاب على القصد فيما إذا قارن وجود المقصود. نعم ، لازم ذلك أن يكون العقاب على القصد أضعف من العقاب على أصل الفعل.

هذا ، ولكنّه لا يخلو عن نظر ، ووجهه - بعد أنّ المخالفة إنّما هو عنوان لفعل المنهيّ عنه أو لترك المأمور به وليست أمرا يمكن انتزاعها من غير ذلك - : أنّ اختلاف الشديد مع الضعيف - على ما تقرّر في محلّه - ليس إلاّ بمجرّد الشدّة والضعف الراجع إلى زيادة ظهور أصل المعنى بعد كونه محفوظا في مقامه ونقصانه كذلك ، فلا بدّ أن يكون الضعيف من سنخ الشديد ومن تلك الحقيقة ، لا أمرا مغايرا له في الحقيقة

ص: 467

بل وفي المقولة أيضا. وعلى هذا فإن قلنا بأنّ حقيقة القصد راجعة إلى اعتقاد النفع ، فعدم إمكان كون القصد من حقيقة الفعل أو مرتبة من مراتبه أمر ظاهر. وإن قلنا بأنّه من مقولة الفعل فلم يظهر لنا أنّه يعدّ من مراتب وجود شرب الخمر ونحوا من أنحاء وجوده.

نعم ، لو كان المراد به تصوّره صحّ جعله نحوا من وجود الفعل ، لأنّ الوجود الذهني نحو من أنحاء وجود الشيء وظلّ له ، إلاّ أنّه لم يظهر من أحد الالتزام بأنّ تصوّر الشيء المحرّم حرام.

وكيف كان ، فنحن وإن استقصينا التأمّل فما وقفنا على وجه وجيه به يحكم بخروج القصد عن قاعدة عدم إيراث المقدّمة ذمّا ولا عقابا ؛ على أنّ فتح ذلك الباب توجب انسداد باب الإلزام على الأشعري القائل بالكسب ، فإنّ له أن يقول : مع أنّ العبد معزول عن الفعل بواسطة تعلّق قدرة البارئ وإرادته بصدور الفعل أنّه قاصد للفعل على وجه لو لم يسبقه إرادة البارئ كان الممكن فاعلا ، وهذا يكفي في العقاب. إلاّ أن يقال : إنّ القصد - بناء على أنّه فعل أيضا - مخلوق لله ، ولا يجوز أن يكون ذلك القصد منشأ للعقاب ، فإنّ الوجه في ذهابهم إلى هذه المقالة السخيفة دعوى امتناع صدور الوجود من الممكن نظرا إلى قولهم : « لا مؤثّر في الوجود عدا اللّه » بناء على ما زعموه من معنى هذه القضيّة الصادقة فهو آت في القصد أيضا مطلقا ؛ مضافا إلى أنّ استنادهم إلى ذلك ينافي القول بأنّه لو لا سبق إرادته تعالى لكان فاعلا ، فإنّ ذلك محال حينئذ ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، لا ينبغي الإشكال في ظهور الأخبار والأدلّة اللفظيّة في حرمة العزم ، وكلماتهم مشحونة بذلك (1). إلاّ أنّ دعوى استقلال العقل باستحقاق العقاب

ص: 468


1- تقدّمت في الصفحة : 457 وما بعدها.

على القصد ممنوعة ، بل ما لم يثبت عنوان يقيني عقلي أو شرعي لا يحسن في العقل العقاب عليه وعلى غيره من المقدّمات.

نعم ، من قصّر نظره على ما يراه من منافع الفعل الراجع إلى متابعة هواه ولم يصرف نفسه عن عدم المبالاة في تحصيل رضاء مولاه يعدّ سيّئ السريرة وخبيث الطينة ، فإن جاز في العقل أو في الشرع العقاب على مثله وإن لم يتحقّق منه مخالفة صحّ مفاد الأخبار ، وإلاّ فلا بدّ من حملها على ما لا ينافيه العقل ، كما هو الشأن في أمثاله.

والظاهر أنّ العقاب بدون المخالفة ليس من العدل ، كما يظهر من رواية عبد اللّه بن جعفر الحميري المرويّة في قرب الإسناد عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « لو كانت النيّات من أهل الفسوق يؤخذ بها لاخذ كلّ من نوى الزنا بالزنا وكلّ من نوى السرقة بالسرقة وكلّ من نوى القتل بالقتل ، ولكنّ اللّه عدل كريم ليس الجور من شأنه » (1) ومع ذلك فليس فيه كثير فائدة ، لثبوت العفو قطعا في المقام ، بل وذلك ممّا يتعاطونه أهل الأسواق من العوام.

فلا حاجة إلى تصرّف في الأخبار بحمل الدالّة منها على العقاب على صورة بقاء القصد والعجز عن الفعل لا باختياره ، وأخبار العفو على من ارتدع عن قصده بنفسه ، كما يومئ إليه بعض الأخبار المتقدّمة ، كقول الصادق عليه السلام : « إنّ المؤمن يهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا يكتب عليه » (2) فإنّه ظاهر في أنّه لا يعملها اختيارا بارتداعه عن قصده بنفسه. أو بحمل الأخبار المحرّمة

ص: 469


1- قرب الإسناد : 48 ، الحديث 158. والوسائل 1 : 1. الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 21.
2- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.

على ما إذا تلبّس بفعل بعض المقدّمات ، وحمل الأخبار الدالّة على العفو بمجرّد القصد ، كما يشعر به أخبار سفر المعصية (1) والساعي للسعاية (2) وغارس الكرم (3) من حيث إنّ موردها هو القصد مع التلبّس. أو بحمل أخبار المؤاخذة على غير المؤمنين وأخبار العفو على المؤمنين ... إلى غير ذلك.

والوجه في عدم الحاجة هو أنّه لم يظهر من أخبار المؤاخذة سوى استحقاق العقاب دون فعليّته ، عدا رواية الخلود المخصوصة بالكفّار (4) ، ولا ينافي ذلك ثبوت العفو تفضّلا من اللّه الكريم على تلك الامّة المرحومة.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يظهر عدم جريان النزاع في أنّ القصد إلى المعصية هل هي كبيرة أو صغيرة ، إذ بعد عدم كونه معصية لا وجه لذلك ، وعلى تقديره فتعيين ذلك موقوف على تعيين معنى الكبيرة ، وهو خارج عمّا نحن بصدده. ولكن ذلك جار بالنسبة إلى المعاصي الّتي لها خارج غير الاعتقاد. وأمّا القصد إلى الامور المبغوضة الاعتقاديّة ، كالقصد إلى الكفر ، فهو عين الكفر بناء على ما قرّرنا من أنّ مرجع القصد إلى الاعتقاد بالنفع ، وهو ظاهر بعد الإحاطة بما مرّ.

ثمّ إنّ بعضهم (5) قد استشهد على كون العزم عصيانا بتقسيم الفقهاء الإصرار على الصغائر إلى الفعلي وهو المداومة عليها ، والحكمي وهو العزم على فعلها عند التمكّن منها. وبعدّ قصد الإفطار من المفطرات في رمضان.

ص: 470


1- الوسائل 5 : 509 ، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر.
2- تقدّم تخريجهما في الصفحة : 464.
3- تقدّم تخريجهما في الصفحة : 464.
4- الوسائل 1 : 36 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 4.
5- استشهد به شيخنا البهائي ، كما نقل عنه الكلباسي في إشارات الاصول : الورقة 98 ، وانظر الأربعون حديثا : 379 - 380.

وضعفه ظاهر ؛ فإنّ ذلك يوجب كونه إصرارا فعليّا كنفس المداومة ، بل وكبيرة من الكبائر بناء على أنّ الإصرار بالصغيرة كبيرة. وأمّا الإفطار فهو ممّا لا يرتبط بالمقام ، لأنّ الوجه في كونها من المفطرات ارتفاع حقيقة الصوم بواسطة القصد إلى الإفطار ، فإنّ الصوم عبارة عن إمساك زمان محدود مخصوص تقرّبا إلى اللّه تعالى ، وذلك لا يتحقّق مع قصد الإفطار ، وأين ذلك من كون القصد عصيانا؟ كما لا يخفى.

وقد يستدلّ على حرمة العزم : بأنّ التوبة واجبة عقلا وشرعا ، وهي عبارة عن الندم على العمل والعزم على عدم العود ، فيكون هذا العزم واجبا فيكون تركه حراما ، فإذا كان ترك العزم على العود حراما فما ظنّك بالعزم على العود؟

وفيه : أنّ تحصيل اعتقاد النفع على عدم العود وتخليصه عن الموانع والعوارض الشهوانيّة التي يمنع عن ترتّب مقتضى الاعتقاد بالنفع واجب ، ولكنّه لا يستلزم عقابا ، لأنّه من الواجبات العقليّة الإرشاديّة التي هي مبنيّة على لزوم دفع الضرر ، وقد قرّر في بعض المباحث المتقدّمة أنّ الأوامر المسوقة للإرشاد وبذل النصح عقليّة كانت أو شرعيّة لا تورث ذمّا ولا يستتبع عقابا على مخالفة الهيئة وطلبها ؛ على أنّه لو لم يكن من الواجبات الإرشاديّة أيضا لم يستحقّ العقاب ، لأنّ أجزاء الواجب بمنزلة المقدّمات لا يستلزم تركها عقابا في نفسه ، كما مرّ.

ثمّ إنّ محلّ الكلام إنّما هو في العزم والتصميم. وأمّا الخطرات العقليّة (1) التي لا ينفكّ عنها الإنسان في الأغلب ، فقد ادّعي الضرورة في عدم كونها معصية ، لكونها تكليفا بما لا يطاق. عصمنا اللّه وإخواننا من المعاصي.

ص: 471


1- في هامش ( ط ) : القلبيّة ، ظ.

ص: 472

هداية

إذا قارن القصد بفعل بعض مقدّمات الحرام ، فإن لم يحتمل وجود عنوان آخر غير عنوان المقدّميّة فيه لم يعقل العقاب ، وإن احتمل وجوده ولو بملاحظة استكشافه من الأخبار فلا بأس به ، مثل الأخبار الدالّة على تحريم القصد المقارن لفعل بعض المقدّمات ، مثل الأخبار الدالّة على حرمة الغرس للخمر (1) والمشي للسعاية (2) ، وما دلّ على حرمة المعاونة على الإثم كقوله : « من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة أكبّه اللّه على منخره في النار » (3) فيما لو قلنا بشمول عنوان « الإعانة » لإيجاد مقدّمات فعل النفس ، كما لعلّه يظهر من الشيخ الأجلّ كاشف الغطاء (4) ، ويحتمل أن يكون استناده بواسطة الفحوى أو تنقيح المناط.

ولكنّ الإنصاف أنّ الأخبار ظاهرة في أنّ عنوان الحرام ليس أمرا خارجا عن عنوان المقدميّة (5) التي قد مرّ أنّها لا يعقل استتباعها الذمّ والعقاب. وأمّا

ص: 473


1- تقدّم تخريجها في الصفحة : 464.
2- تقدّم تخريجها في الصفحة : 464.
3- لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة من العامّة والخاصّة ، نعم ورد أنّه : « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه » عوالي اللآلي 2 : 333 ، الحديث 48.
4- شرح القواعد ( مخطوط ) : الورقة 16 - 17 ، ولم يرد « كاشف الغطاء » في ( ع ) و ( م ).
5- في ( ع ) و ( م ) : المقدّمة.

الاستناد إلى بناء العقلاء فقد ظهر ما فيه (1) فيما تقدّم : من أنّ غاية الأمر أنّ العقلاء يذمّونه ويعيّرونه بواسطة خبث الباطن وفساد السريرة.

نعم ، فيما استقلّ العقل أو الشرع بثبوت عنوان آخر - كما لا يبعد دعواه في مثل رواية الإعانة على القتل بشطر كلمة ، فإنّه يعدّ في العقل ظلما على المقتول - لا بأس بالعقاب. ولا ينافيه ثبوت المبغوضيّة الغيريّة ، لاضمحلالها تحت المبغوضيّة الذاتيّة ، كما تقرّر فيما تقدّم (2) وستعرفه في بعض المباحث الآتية (3) ، واللّه الهادي.

ص: 474


1- لم يرد « ما فيه » في ( ع ) و ( م ).
2- راجع الصفحة : 467.
3- انظر الصفحة : 482.

هداية

إذا تلبّس بما يراه معصية ولم يكن كما يراه في الواقع وهو المراد ب- « التجرّي » ، فهل فعل فعلا محرّما ، أو لم يفعل ، أو فيما إذا لم يعارض الجهة الواقعيّة الجهة الظاهرية ، أو التوقّف؟ وجوه ، بل أقوال :

فظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاق على الأوّل ، كما يظهر من دعوى جماعة الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت (1).

واستوجه العلاّمة في التذكرة عدم العصيان لو انكشف الخلاف ، فقال : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه توجّه عدم العصيان (2). وتبعه في ذلك بعض أجلّة سادات الأواخر في مفاتيحه (3) حيث استقرب العدم. وقال بعض الأجلّة (4) بالتحريم عند عدم معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة وبعدمه عند عدمها ، كما ستعرف تفصيله. وتوقّف جماعة - منهم شيخنا البهائي (5) - في ذلك.

ص: 475


1- منهم العلاّمة في منتهى المطلب 4 : 107 ، والفاضل الهندي في كشف اللثام 3 : 109 ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة 2 : 61.
2- تذكرة الفقهاء 2 : 391.
3- مفاتيح الاصول : 308.
4- الفصول : 431.
5- زبدة الاصول : 41 ، ومنهم العلاّمة في نهاية الوصول : 11 و 94 ، والشهيد في القواعد والفوائد 1 : 107.

واستدل (1) للأوّل : باستقرار بناء العقلاء على الذمّ والحكم بالاستحقاق. وبأنّا لو فرضنا شخصين قاطعين بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا فشرب كلّ منهما ما اعتقده خمرا ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فإمّا أن يستحقّا العقاب ، أو لا يستحقّ كلّ واحد منهما ، أو يستحق المصادف دون غيره ، أو العكس. والرابع بديهيّ البطلان كالثاني ، والثالث أيضا باطل لاستلزامه إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

أمّا الجواب عن الأوّل : فبأنّه إن اريد الذمّ على نفس الفعل المنتزع عنه عنوان التجرّي ، فالضرورة تقضي بعدم جواز الذمّ عليه ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ شرب الماء واقعا ممّا لا قبح فيه بحسب الواقع كما هو المفروض ، اللّهم إلاّ أن يكون مورد التجرّي فعلا من الأفعال القبيحة ، كما إذا اعتقد شرب النبيذ شرب الخمر مثلا. وأمّا ثانيا : فلأنّه واقع على غير جهة الاختيار أو هو غير مقصود للفاعل المعتقد كونه شرب خمر ، فلا يقع على وجه الاختيار ، فلا وجه للذمّ عليه اتّفاقا ، من غير فرق بين أن يكون المورد مباحا واقعا أو حراما.

وإن اريد الذمّ على عنوان التجرّي والإقدام بما يعتقده معصية ، ففيه أنّ التجرّي له موردان ، أحدهما : مورد العصيان الواقعي المفروض انتفاؤه في المقام. وثانيهما : مورد تخيّل العصيان الواقعي - كما هو المفروض في المقام - ومن المعلوم أنّه بهذا الوجه غير واقع على جهة الاختيار ، إذ المتجرّي يعتقد أنّه العصيان ، لا أنّه تخيّل العصيان ، فهو غير مقصود له ، فلا يجوز الذمّ عليه اتّفاقا.

وإن اريد الذمّ على الفاعل من حيث إنّ هذا الفعل يكشف عن وجود ملكة

ص: 476


1- المستدلّ هو المحقّق السبزواري في الذخيرة : 209 و 210.

نفسانيّة رذيلة وحالة طبيعيّة خبيثة ، فإن اريد بالذمّ العقاب فهو موقوف على أنّ عقاب هذا العبد الذي لم يفعل قبيحا ينافي العدل أو لا. وإن اريد به توبيخه وتعييره بإظهار ما فيه من الشقاوة والرذالة فهو لا يبعد تسليمه ، لكنّه لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعا ، لأنّ استحقاق الذمّ على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل ، ولا سيما الذمّ على الوجه المذكور ، إذ من المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل.

وأمّا الجواب عن الثاني : فهو - على ما أفاده الاستاذ في الرسالة (1) - أنّه يلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ، لأنّه عصى اختيارا دون من لم يصادف. قولك : « إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار » ممنوع ، فإنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح ، إلاّ أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم ، كما يشهد به الأخبار الواردة في أنّ « من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها » (2) فإذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة واتّفق كثرة العامل بإحداهما وقلّة العامل بالاخرى ، فإنّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، وقد اشتهر أنّ « للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا » (3) والأخبار في مثل ذلك في طرفي الثواب والعقاب بحد التواتر ، انتهى ما أفاد.

وفيه : أنّ ما ذكره في سند المنع غير وجيه ، فإنّ مدخليّة بعض الامور الغير الاختياريّة في العقاب والثواب ممّا لا بدّ منه ، وإلاّ لم يعقل الاستشهاد بالأخبار

ص: 477


1- راجع فرائد الاصول 1 : 40.
2- راجع البحار 2 : 24 ، الحديث 75 ، و 71 : 258 ، الحديث 5 و 6.
3- كنز العمّال 6 : 7 ، الحديث 14597.

المذكورة ، فإنّ كثرة العامل وقلّته على ما فرضه ممّا له مدخل في العقاب والثواب ، وهما من الامور الغير الاختياريّة بالنسبة إلى من سنّ السنّة الحسنة أو السيّئة ، وإن كان لنا كلام في كون العقاب والثواب في مورد الأخبار من هذا القبيل ، كما ستعرف.

وتوضيح المقام : أنّ الثواب والعقاب من لوازم الإطاعة والعصيان ، وتحقّقهما يتوقّف على امور بعضها اختياريّة وبعضها غير اختياريّة على وجه لو فرض انتفاؤهما أو انتفاء أحدهما لم يتحقّق شيء منهما.

فالأوّل : هو الحركة الصادرة من المكلّف التي هي من مقولة الأفعال ، فإنّه لا بدّ وأن تكون اختياريّة مسبوقة بالقصد واعتقاد النفع فيه ، كما هو المراد بالفعل الاختياري ، فلو لم يكن كذلك لم يتحقّق عصيان ولا إطاعة.

والثاني : امور كثيرة ، منها : تعلّق الأمر من المولى إلى الفعل المأمور به. ومنها : تعلّق الحركة الاختياريّة بما تعلّق به الفعل في عنوان الأمر ، فإنّ تعلّق الشرب بما هو خمر واقعا - بمعنى أن يكون متعلّق الشرب هو الخمر واقعا - من الامور الغير الاختياريّة ، إلاّ أنّه لا بدّ من ذلك في تحقّق الإطاعة والعصيان ، والقدر المسلّم من اعتبار الاختيار في التكليف هو أن تكون الحركة اختياريّة ، بل لا وجه لاعتبار الأزيد من ذلك كما هو ظاهر. وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الاستدلال أيضا ، فإنّا نختار الثالث.

قولك : إنّ ذلك يوجب إناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، قلنا : إن اريد قبح إناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار على وجه الاستقلال - بأن يكون جميع ما يعتبر فيه من الامور الغير الاختياريّة - فهو مسلّم ، لكنّه غير لازم في الحكم بالعقاب في من صادف قطعه الواقع ، لأنّ الحركة المتعلّقة بما هو متعلّق الأمر واقعا اختياريّة فلا استقلال. وإن اريد قبح استقلاله في الحكم بعدم العقاب في من لم يصادف الواقع فهو غير مسلّم ، إذ بذلك يرتفع موضوع العصيان ، والعقاب موقوف

ص: 478

عليه. وإن اريد أنّ مدخليّة ما هو خارج عن الاختيار في الاستحقاق قبيحة فهو ممنوع ، ضرورة توقّف الإطاعة والعصيان الموجبين للاستحقاق على امور غير اختياريّة شتّى ، منها : كون متعلّق الحركة الاختياريّة ما تعلّق به الفعل في عنوان الأمر والنهي بحسب الواقع.

وأمّا دعوى الإجماع من جماعة على العصيان (1) فلا سبيل إليها في المسائل العقليّة. واحتمال انكشاف جهة تعبّديّة من الإجماع ، مدفوع بأنّ المسألة من فروع الإطاعة والعصيان التي لا تعقل فيها التعبّديّة بوجه ، ولو فرض ورود أمر أو نهي شرعي فيها لا بدّ من حملها على الإرشاد. مضافا إلى مخالفة جماعة من الفحول في ذلك ، كما عرفت من العلاّمة (2) حيث حكم بعدم العصيان فيما لو انكشف خطاء ظنّه. وقال الشهيد رحمه اللّه : لو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافها ففي تأثير هذه النية نظر (3). وتقدّم حكاية التوقّف عن شيخنا البهائي (4).

وممّا مرّ يظهر وجه القول بعدم العصيان ، إذ يكفي فيه عدم الدليل عليه.

وأمّا التفصيل ، فيظهر من بعض الأجلّة التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرّم واقعا ، فرجّح استحقاق العقاب بفعله ، إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فإنّه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا أو بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، فإنّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا بل يختلف بالوجوه والاعتبار ، فمن اشتبه عليه مؤمن ورع بكافر واجب

ص: 479


1- كما تقدّم عنهم في الصفحة : 475.
2- راجع الصفحة : 475.
3- القواعد والفوائد 1 : 107.
4- راجع الصفحة : 475.

القتل فحسب أنّه ذلك الكافر وتجرّى فلم يقتله ، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا الفعل عقلا عند من انكشف له الواقع وإن كان معذورا لو فعل. وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ فتجرّى ولم يقتله. ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف العبد ابنه وزعمه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لا يذمّه على هذا التجرّي ، بل يرضى به وإن كان معذورا لو فعل. وكذا لو نصب له طريقا غير القطعي إلى معرفة عدوّه فأدّى الطريق إلى تعيين ابنه فتجرّى ولم يفعل. وهذا الاحتمال حيث يتحقّق عند المتجرّي لا يجديه إن لم يصادف الواقع ، ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب ، لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب ، بخلاف ما لو ترك العمل به ، فإنّ المظنون فيه عدمها. ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافهما ضعفا وشدّة كالمكروهات. ولك أن تراعي في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي (1) ، انتهى كلامه.

وفيه أوّلا : أنّه لو سلّم قبح الفعل في التجرّي فلا شكّ في كونه ذاتيا لا يختلف بالوجوه والاعتبار ، فإنّ منشأ الحكم المذكور على ما نراه غير قابل للاختلاف. وكذلك على ما يراه غيرنا من قبح الفعل في صورة التجرّي ، فإنّه يزعم أنّ ذلك ظلم في حقّ من يستحقّ الطاعة ، ولا شكّ في أنّ موضوع الظلم ممّا يمتنع عروض جهة محسّنة له.

وثانيا : لو سلّم إمكان عروض جهة محسّنة فلا إشكال في لزوم كون تلك الجهة من عناوين الأفعال الاختياريّة حتّى يعقل اتّصافها بالحسن ، فيصير بذلك محسّنة للجهة المقبّحة. ولا ريب في أنّ ما زعمه معارضا للجهة المقبّحة من الأفعال

ص: 480


1- الفصول : 431 - 432.

الغير المتصوّرة للفاعل ، وهو غير مقصود الوقوع منه ، فلا يكون اختياريّا فلا وجه للمعارضة ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون عنوان التجرّي مقتضيا للقبح كالكذب مثلا أو لم يكن كذلك بل يكون من الأفعال التي لا يدرك حسنها ولا قبحها إلاّ بعد ملاحظة لحوق الجهات والعنوانات ، وإن كان محلّ الكلام لا بدّ وأن يكون من الأوّل كما هو ظاهر.

وبالجملة ، أنّ الفعل الذي صار موردا لانتزاع التجرّي - وهو ترك قتل المؤمن في المثال المفروض في كلامه كفعله - ليس من الأفعال الاختياريّة المقصودة ، فلا يتّصف بحسن ولا قبح ، وما يكون كذلك لا يعقل تصرّفه في العنوان الذي فرضنا عدم اتّصافه بحسن ولا قبح أو اتّصافه بقبح يمكن ارتفاعه بورود جهة محسّنة بإيراث حسن فيه أو رفع قبح عنه ، ولذا اعترف في كلامه في مقامين بأنّه معذور لو فعله.

فإن قلت : قد تقرّر في الجواب عن الدليل العقلي أنّه لا امتناع في تأثير الامور الغير الاختياريّة في العقاب وعدمه ، وعلى هذا فلا مانع من ارتفاع القبح من عنوان التجرّي بواسطة فعل وقع التجرّي في ضمنه وإن لم يكن على وجه الاختيار.

قلت : الفرق ظاهر بين المقامين ؛ من حيث إنّ مدخليّة ذلك الأمر الخارج عن الاختيار في حسن الفعل وقبحه ممّا لا مناص عنها ، إذ عنوان الحسن هو شرب الخمر الواقعي الذي لا يعقل وجود هذا العنوان ولو على وجه الاختيار إلاّ بتعلّق الشرب الواقعي الاختياري بما هو خمر واقعي ، فالأمر الخارج عن الاختيار هناك محقّق لموضوع هو حسن ، لا أنّه محسّن لما لا حسن فيه. بخلافه فيما نحن بصدده ، فإنّ المفروض في كلام المفصّل كون التجرّي من العناوين الاختياريّة التي لا حسن فيها ولا قبح أو يقتضي القبح ويزيد تحسين ذلك العنوان بإيراث حسن فيه أو دفع قبح عنه بواسطة لحوق ما ليس بحسن ، وذلك ممّا يحكم بفساده ضرورة العقل ، كما لا يخفى على المنصف المتأمّل.

ص: 481

ثمّ إنّ لازم القول بقبح التجرّي من حيث الفعل هو تعدّد العقاب فيما إذا صادف المعصية الواقعيّة. اللّهم إلاّ أن يقال بالتداخل بمعنى اختفائه تحت ظلّ المعصية على وجه لا ينسب إليه حكم من أحكامه لوجود ما هو أقوى منه ، كاندكاك الانقياد في جنب سطوع نور الطاعة الواقعيّة. وقد عرفته بما فيه.

وقد يستند في المقام إلى الأخبار المتقدّمة (1) الدالّة على حرمة القصد المجرّد أو مع فعل بعض المقدّمات.

ولعلّه ليس في محلّه ، إذ الكلام في تحريم الفعل الذي يعتقده معصية ، والقصد وغيره ممّا لا مدخل له فيه ولو قلنا بكونه محرّما أيضا ، مع أنّك قد عرفت الكلام فيه (2) بما لا مزيد عليه عندنا.

اللّهم إلاّ أن يجعل القصد أيضا من مراتب التجرّي ، فإنّ له مراتب ، أحدها : مجرّد القصد إلى المعصية. الثاني : القصد مع الاشتغال ببعض المقدّمات. والثالث : القصد مع التلبّس بما يراه معصية. الرابع : التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاء كونها معصية ، نظير الاحتياط في إحراز الواجب. الخامس : التلبّس به لعدم المبالاة لمصادفة الحرام. السادس : التلبّس به رجاء أن لا يكون معصية.

ويعتبر في صدق التجرّي في صور الاحتمال أن يكون هناك دليل شرعي أو عقلي على عدم جواز ارتكاب تلك المحتملات ، إذ لو لم يكن هناك دليل على عدم الجواز فجواز ارتكاب المحتملات ممّا لا كلام فيه عند القائلين بأصالة البراءة ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ص: 482


1- تقدّمت في الصفحة : 460 - 461.
2- راجع الصفحة : 466 - 467.

هداية

اشارة

إذا أعان المكلّف على إيجاد فعل محرّم أو إبقائه ، فظاهر الأصحاب الحكم بتحريمه ، كما يظهر من موارد استدلالاتهم في الفروع (1) ، بل ادّعى الإجماع على ذلك جماعة (2).

واستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (3) فإنّ النهي ظاهر في التحريم.

واستفاضت على تحريمه أيضا الأخبار :

فعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه ، آيس من رحمة اللّه » (4). وعن الصادق عليه السلام : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج عن الإسلام » (5). وقال عليه السلام : « إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الظلمة؟ أين أعوان الظلمة؟ أين أشباه الظلمة؟ فيجتمعون

ص: 483


1- كالشيخ في المبسوط 6 : 285 ، والعلاّمة في التذكرة 12 : 143 ، والمحقّق الثاني في حاشية الارشاد ( مخطوط ) : 204 ، والأردبيلي في مجمع الفائدة 8 : 51.
2- منهم السيّد الطباطبائي في الرياض 8 : 79 ، والمحقّق النراقي في عوائد الأيّام : 75 ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة 4 : 60.
3- المائدة : 2.
4- عوالي اللآلي 2 : 333 ، الحديث 48.
5- الوسائل 12 : 131 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 5.

في تابوت من حديد ، ثمّ يرمى بهم في جهنّم » (1). وعن النبي صلى اللّه عليه وآله : « من علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعلها اللّه حيّة طولها سبعون ألف ذراع فيسلّط اللّه عليه في نار جهنّم خالدا مخلّدا » (2).

وقد يدّعى استقلال العقل في الحكم بقبح إيجاد عنوان « الإعانة على الإثم ».

وفيه : أنّ موارد الإعانة على وجهين : أحدهما : ما يكون محرّما نفسيّا وإن كان مقدّمة لحصول فعل الغير ، مثل الأمر بقتل أحد ممّا يعدّ عند العقلاء ظلما في حقّ المقتول والمظلوم. والثاني : ما لا يعدّ في العقل من الظلم ولا من عنوان آخر محرّم نفسا ، كغرس الكرم المتّخذ منه الخمر مثلا.

فدعوى استقلال العقل إنّما يسلّم في القسم الأوّل دون الثاني ، إذ غاية الأمر أن يكون الغير آتيا بمقدّمة من مقدّمات فعل الغير ، ولا كلام في لحوق الحرمة التبعيّة الغيريّة النازلة من المحرّم النفسي بها. وأمّا الحرمة النفسيّة - كما هو الظاهر من القائلين بها - فلا يظهر وجهها عند العقل ، إذ لا فرق في نظر العقل بين إيجاد المكلّف مقدّمة من مقدّمات فعل نفسه المحرّم أو غيره.

نعم لو احتمل وجود عنوان نفسي في تلك الموارد ولو بملاحظة الأخبار المصرّحة بالتحريم والعقاب المخصوص بالمحرّمات النفسيّة تمّ ما ذكر ، لكنّه بعيد جدّا.

ثمّ إنّه وقع الإشكال من جماعة في صدق موضوع « الإعانة » على بعض الموارد ؛ من حيث اعتبار القصد إلى الفعل المعان عليه فيه ، أو اعتبار ترتّبه عليه ، أو العلم بالترتّب.

ص: 484


1- الوسائل 12 : 131 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به الحديث 16 ، مع اختلاف يسير.
2- المصدر السابق ، الحديث 14.

وتنقيح البحث في موارد :

الأوّل : في اعتبار القصد فيه وعدمه ، فظاهر الأكثر - على ما نسبه إليهم الاستاذ في الفقه (1) - هو عدم اعتبار القصد في صدقه. ولعلّه استفاده من موارد استدلالاتهم ، كاستناد الفاضل إلى تحريم المعاونة في الحكم بحرمة بيع السلاح من أعداء الدين على وجه الإطلاق من دون تقييد بصورة القصد إلى تقويتهم (2). واستدلال المحقّق الثاني بذلك على حرمة بيع العصير النجس من مستحلّه (3) ... إلى غير ذلك (4) ممّا يقف عليه الخبير.

ويظهر من بعضهم اعتبار القصد فيه ، قال المحقّق الثاني في ردّ من تمسّك بالآية في الحكم بحرمة بيع العنب ممّن يعمله خمرا في محكي حاشية الإرشاد : والجواب عن الآية المنع من كون محلّ النزاع معاونة ، وإنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك (5). وتبعه في ذلك جماعة من المتأخّرين (6).

وهو الأقرب ، والوجه في ذلك هو مساعدة العرف على اعتبار القصد في صدق « الإعانة » على وجه يصحّ السلب عن المورد الّذي علم فيه عدمه. ولو سلّمنا صدق الإعانة ولو عند عدم القصد فلا إشكال في اختصاص الحرام منها بما إذا كان القصد إلى الحرام محقّقا.

ص: 485


1- المكاسب 1 : 133.
2- تذكرة الفقهاء 12 : 139.
3- حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 204.
4- انظر مجمع الفائدة 8 : 51 ، والحدائق 18 : 205.
5- حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 205.
6- كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع 2 : 9 ، والسبزواري في الكفاية 1 : 426 ، والنراقي في المستند 14 : 100 ، والعوائد : 78.

وتوضيحه : أنّه قد تقدّم في المباحث السابقة من أنّ الفعل الواقع على جهات مختلفة لا تقع اختياريّا من جهة خاصّة إلاّ بعد القصد إلى تلك الجهة ، وهو من الامور الجليّة. ولا ريب في أنّ الفعل إذا كان محرّما بعنوانه الخاصّ لا يقع على صفة الحرمة إلاّ إذا وقع بذلك العنوان المحرّم على وجه الاختيار ، إذ الفعل الاضطراري ولو من جهة خاصّة لا يعقل اتّصافه بالحرمة من تلك الجهة الاضطراريّة ، فعنوان « الإعانة على الإثم » إذا اريد الحكم عليه لكونه وقع على صفة الحرمة لا بدّ أن يكون ذلك العنوان مقصودا ، وإلاّ لم يكن ذلك العنوان اختياريّا ، فلم يعقل وقوعه على صفة الحرمة ، والقصد إلى عنوان الإعانة لا ينفكّ عن القصد إلى المعان عليه ، فإذا لم يكن قاصدا للمعان عليه لم يكن قاصدا للإعانة ، نظير ما تقدّم من اعتبار القصد إلى الواجب في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، كما عرفت.

ويظهر من المحقّق الأردبيلي اعتبار أحد الأمرين في الإعانة : إمّا القصد كما في التجارة التي يترتّب عليها أخذ العشور للعشّار ، فإنّه لو لم يكن قاصدا إلى أخذ العشور بل كان قاصدا إلى تحصيل المنافع لنفسه لم يصدق عليه الإعانة. وإمّا الصدق العرفي وإن لم يكن قاصدا ، كما في إعطاء العصا للظالم مع طلبه منه لضرب مظلوم ، وفي طلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاها. وعلى ذلك حمل الروايات الدالّة على جواز بيع العنب ممّن يعمله خمرا (1) ، فإنّها محمولة على صورة عدم تحقّق القصد مع عدم الصدق العرفي أيضا ، كما عليه الأكثر (2).

أقول : وفيما أفاده نظر ؛ لأنّ الإعانة ليس مشتركا لفظيّا بين مواردها وأقسامها ، كما هو ظاهر. وحينئذ فإمّا أن يكون القصد معتبرا في حقيقته أو لا

ص: 486


1- الوسائل 12 : 168 - 170 ، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به.
2- كنز العرفان : 298.

يكون ، فعلى الأوّل لا وجه للحكم بصدق الإعانة في مورد يشكّ في وجود القصد ، فكيف بما إذا علم عدم القصد. وعلى الثاني لا وجه لجعله مناطا لصدق المفهوم ولو في بعض الموارد.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ القصد ليس داخلا في حقيقة الإعانة ، إلاّ أنّ عند وجوده يعلم وجود الإعانة ، فيكون القدر المتيقّن من موارده ومصاديقه مورد القصد ، لا أنّه معتبر فيه القصد.

وفيه : أنّ ذلك يتمّ فيما إذا لم يستدلّ بعدم القصد على عدم الإعانة ، كما عرفت من استناده في التجارة إلى عدم (1) صدق الإعانة عليها.

فإن قلت : قد يكون من المفاهيم العرفيّة ما نقطع بكونها على هذا الوجه كما في القتل العمدي ، فإنه صادق مع القصد إليه ولو لم يكن العمل الذي يقع في ضمنه القتل ممّا يترتّب عليه القتل في العرف والعادة ، بإدخال إبرة في عضو من أعضائه على وجه لو لم يكن قاصدا لا يقال إنّه عمد إلى القتل ، فمناط الصدق في المقام هو القصد ، وهو صادق أيضا فيما إذا أدخل السيف أو السكّين في جوفه وإن شكّ في وجود القصد إلى القتل ، بل ولو قطع بعدم قصده إليه.

قلت : بعد ما عرفت أنّه غير معقول في صورة اتّحاد المعنى ، نقول : إنّ الوجه في ذلك هو استكشاف القصد عند إيجاد ما هو موصل إلى القتل بحسب العادة وإن كان قصدا تبعيّا ، كأن يكون مقصوده من إدخال السيف في جوفه اختبار سيفه ، لكنّه لا ينفكّ عن القصد إلى قتله ولو تبعا. وأمّا دعوى صدقه بدون القصد ومع العلم بعدمه في الصورة المفروضة فظاهرة الفساد ، كيف! والقتل العمدي معناه القصد إلى القتل كما هو ظاهر. نعم ، لو جهل الفاعل كونه موصلا إلى القتل لم يصدق معه القتل العمدي ، لعدم القصد استقلالا وتبعا فيه.

ص: 487


1- في ( م ) و ( ط ) زيادة : القصد في عدم.

وبالجملة ، لو فرض فيما ذكره المحقّق الأردبيلي من المثال وجود داع آخر غير الضرب على وجه احتمل كونه داعيا إلى إعطاء القلم لا نسلّم فيه صدق الإعانة ، وهو ظاهر على المتأمّل.

الثاني : الظاهر عدم اعتبار ترتّب الفعل المعاون عليه في صدق الإعانة. ويدلّ على ذلك أنّ العرف بعد إحراز القصد إلى حصول ذلك الفعل لا يتوقّفون في الحكم بكونه إعانة ، ولا يتوقّعون في ذلك حصول المعاون عليه. ولازم اعتبار الترتّب هو توقّفه في جواز الحكم عليه بكونه إعانة ، إلاّ مع العلم بترتّبه فيما إذا قلنا بأنّ الترتّب كاشف عن كونه إعانة (1) ، كما يظهر من بعض الأفاضل في عوائده (2) حيث إنّه تخيّل أنّه لو فعل شخص فعلا بقصد تحقّق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقّق منه لم يحرم من جهة صدق الإعانة وإن أثم من جهة القصد إلى حصول فعل المعاون عليه ، بناء على أنّ الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحقّقه حرام ، وأنّه لو تحقّق الفعل كان حراما من جهتين : من جهة القصد إلى المحرّم ، ومن جهة الإعانة. وصرّح في بعض عوائده (3) بأنّه لو سافر بقصد فعل محرّم - كالقتل - وحصل له مانع عنه يكون آثما ، ولو فعل يكون له العقاب والإثم لأجلهما.

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا قرّرنا من حيث صدق الإعانة ولو مع عدم العلم بالترتّب ، كما في صورة احتمال وجود المعاون عليه ، ولا يتوقّف الحكم على العلم بالترتّب.

ومنه يظهر عدم اعتبار العلم بالترتّب أيضا وإن لم يترتّب في الواقع في صدق الإعانة ، بل لو فرض ثبوت حرمة نفسيّة لعنوان الإعانة كان إيجاد الفعل الذي

ص: 488


1- لم ترد عبارة « إلاّ مع العلم - الى - إعانة » في ( ع ).
2- عوائد الأيّام : 78.
3- عوائد الأيّام : 71.

يحتمل توقّف الحرام عليه أو ترتّبه عليه بقصد التوصّل إلى الحرام أولى بأن يكون حراما ، كما لا يخفى. مضافا إلى أنّ القول بثبوت الحرمة النفسيّة للمشتغل بمقدّمات الحرام ممّا لم نقف له على وجه ، كما عرفت.

ثمّ إنّ الالتزام بتعدّد العقاب ممّا لا وجه له قطعا. نعم ، خصوص مسألة السفر لا يخلو عن شيء ، بل المدقّق الشيرواني أنكر وجود القول به في أقوال العلماء (1) وإن كان إنكاره في غير محلّه ؛ لما يظهر من الصالح المقدّس المازندراني (2) نسبته إلى أكثر العامّة والمتكلّمين والمحدّثين ومنهم القاضي. وقد تقدّم الكلام فيه بما لا مزيد عليه (3).

الثالث : إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدّمة مشتركة بين المعصية وغيرها مع العلم بصرف الغير إيّاها في المعصية ، فهل يعدّ ذلك معاونة على تلك المعصية أو لا؟ كما إذا أراد البائع تملّك المشتري للعنب بواسطة حصول ثمنه في ملكه مع العلم بأنّه يعمله خمرا. وقد يجعل من ذلك ما مثّل به المحقّق الأردبيلي (4) من إعطاء العصا بيد الظالم وإعطاء القلم بيده. وهو قريب من وجه ، لاحتمال أن يكون وجود العصا بيده مطلوبا نفسيّا للمعطي ، إلاّ أنّه بعيد في الغاية ، فيستكشف من بعد سائر الدواعي أنّ الداعي إلى الفعل المذكور هو قصد الضرب والظلم ، فيحكمون بكونه إعانة ، كما تقدّم.

وكيف كان ، فالظاهر بناء على ما تقدّم من اعتبار القصد إلى المحرّم في صدق الإعانة أنّه لا يكون معاونة على المعصية.

ص: 489


1- لم نعثر عليه في حاشيته على المعالم ، ولا توجد لدينا حاشيته على المختصر.
2- لم نعثر عليه في حاشيته على المعالم ، ولا في شرحه على الزبدة.
3- راجع الصفحة : 475 وما بعدها.
4- زبدة البيان 1 : 298.

نعم ، لو فرض أنّ إيجاد شرط الحرام بقصد التوصّل إلى الحرام حرام - كما تقدّم من بعض الأفاضل في عوائده (1) - صحّ الحكم بأنّ البيع إعانة على الحرام ، وهو تملّك المشتري للعنب بقصد التخمير ، فلو اشترى لا بقصده وإن علم البائع أنّه سيجعله خمرا بإرادة جديدة لم تكن إعانة لا على التخمير ولا على التملّك المحرّم. أمّا الأوّل فلعدم القصد إليه ، وأمّا الثاني فلأنّ الشراء المحرّم هو ما قصد به التوصّل إلى الحرام ، والمفروض خلافه. إلاّ أنّك قد عرفت المنع من الحرمة النفسيّة في مقدّمات الحرام ، والحرمة الغيريّة لا يستلزم ذمّا ولا عقابا ، فلا يكون إثما وعدوانا حتّى يكون الإعانة عليه إعانة على الإثم والعدوان.

نعم ، لو قصد الإعانة على تلك المقدّمة من حيث إيصالها إلى ذيها كان إعانة على الإثم من حيث إنّ القصد إلى المقدّمة على الوجه المذكور يلازم القصد إلى المحرّم النفسي ، فيكون إعانة على الإثم والعدوان من هذه الجهة. ولو قلنا بأنّ الإتيان بشرط الحرام حرام من حيث كونه داخلا في عنوان التجرّي بعد قصد التوصّل به إلى الحرام ، فإيجاد الشراء يكون محرّما وإثما لكونه تجرّيا. وأمّا البيع مع عدم القصد إلى حصول التملّك الموقوف عليه الحرام لا يكون حراما ، لا من حيث الإعانة على المحرّم الواقعي لعدم القصد إليه ، ولا من حيث الإعانة على حصول التجرّي المحرّم ، لأنّ التجرّي ليس نفس الشراء بل الشراء المتلبّس بالقصد ، والبيع إنّما هو إعانة على نفس الشراء لا على المتلبّس بالقصد ، لأنّ ذلك لا ينفك عن قصد المحرّم الواقعي كما لا يخفى ، والمفروض خلافه.

فإن قلت : إنّ المحرّم من جهة التجرّي حيث كان أمرا مركّبا من الشراء والقصد كان البيع إعانة على الشراء ، وهو جزء من المركّب الحرام ، فيكون إعانة على الحرام.

ص: 490


1- راجع الصفحة : 488.

قلت : ذلك مسلّم إذا أوجد البيع قصدا إلى حصول عنوان التجرّي ، وهو لا ينفكّ عن القصد إلى المحرّم الواقعي ، وأمّا بدون القصد إليه فلا نسلّم ذلك.

ثمّ إنّه يظهر من المحقّق الأردبيلي الاستناد إلى قاعدة وجوب دفع المنكر (1) في الموارد التي منع من صدق الإعانة. ويشهد له ما ورد من « أنّ بني اميّة لو لا وجدوا من يجبي لهم الصدقات ويشهد جماعتهم ما سلبونا حقّنا » (2) دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه لم يتحقّق المعصية.

وفيه : أنّ الذمّ في الخبر بواسطة أنّ نفس الرجوع إلى الطاغوت من أعظم المعاصي ، لما قد امروا أن يكفروا به (3).

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه خلاف الظاهر ، فإنّ المنساق حرمة أفعالهم من حيث ترتّب المفاسد عليها وهو سلب حقوقهم عليهم السلام ، ولا ينافيه تحريم نفس الرجوع إلى مخالفيهم أيضا.

إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن التعويل إلى تلك القاعدة في جميع موارد المسألة ، إذ لا يبعد دعوى القطع على عدم وجوب تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية ، وإنّما الثابت بالعقل القاضي بوجوب اللطف وجوب ردع من همّ بها وأشرف على الوقوع فيها حدوثا وبقاء ؛ مضافا إلى اختصاص ذلك بصورة العلم بعدم حصول المعصية ، فلو لم يعلم البائع بأنّ منعه منه ينفع في دفع المنكر أو علم أنّه لا ينفع ، لا دليل على وجوب الردع.

فإن قلت : إنّ البيع حرام على كلّ أحد فلا وجه للاعتذار بأنّه لو تركه لم يعلم نفعه في دفع المنكر.

ص: 491


1- مجمع الفائدة 8 : 51.
2- الوسائل 12 : 144 ، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
3- النساء : 60.

قلنا : حرمة البيع إنّما هو بواسطة عدم وقوع المنكر في الخارج ، وهو أمر واحد يجب على عامّة المكلّفين دفعه على وجه الاجتماع ، لعدم الاقتدار عليه إلاّ بالاجتماع ، فإذا علم واحد بعدم الاجتماع أو شكّ فيه علم بعدم الاقتدار أو شكّ في الاقتدار ، وعلى الوجهين لا دليل على المنع ، أمّا على الأوّل فظاهر ، وأمّا على الثاني فللتعويل على أصالة عدم الاجتماع الخارجي في المقام من غير توقّف على فحص على تقدير قياسه بسائر الاصول المعمولة في تشخيص الموضوعات. لكنّه لا يخلو عن تأمّل.

نعم ، لو كان ذلك مطلوبا من كلّ أحد على وجه الاستقلال كأن يكون المطلوب امورا متعدّدة ، لم يحسن الاعتذار.

وأمّا الرواية المذكورة ، فبعد ما عرفت من إمكان دعوى القطع على عدم وجوب الردع في جميع مراتبه ، لا بدّ أن يحمل على حرمة إعانتهم بالامور المذكورة (1) فيها ، وقد قرّر في محلّه حرمة إعانة الظلمة حتّى في المباحات ، فضلا عن جباية الصدقات وإعطائها عليهم وحضور الجماعات.

وفذلكة المرام من البداية إلى النهاية : أنّه لا إشكال في حرمة الإعانة على وجه الإجمال. كما لا إشكال في صدقها عند القصد إلى المعان عليه من غير فرق في ذلك بين إيجاد العلّة التامّة للمعان لو فرض أو السبب أو الشرط أو غيره من وجوه ما يتوقّف عليه الشيء. وعدم صدقها عند عدم القصد إليه ، من غير فرق بين الأقسام أيضا ، إلاّ أنّ فرض عدم القصد مع إيجاد السبب والعلّة بعيد ؛ ولذا يستكشف من إيجادهما القصد ، فيحكم بكونه إعانة من غير توقّف على الترتّب أو العلم بالترتّب أو العلم بالمدخليّة ، بل يكفي احتمال الترتّب والمدخليّة. ومن غير فرق أيضا في ذلك بين الإعانة على فعل المقدّمات وغيرها ؛ إذ ما لم يرجع إلى القصد بفعل المحرّم الواقعي لم يحرم ، ومع رجوعه إليه كان الفرق لغوا.

ص: 492


1- في ( ع ) ، ( م ) : حرمة الهمّ بالمذكورة.

وأمّا القصد إلى إيجاد مقدّمة فعل الغير مع قصد الغير التوصّل به إلى الحرام ، فإن كان ترك ذلك الفعل علّة تامّة لترك الحرام في الخارج فيجب ، وإلاّ فلا دليل على وجوبه ، كما عرفت.

تمّت المسألة بعون اللّه تعالى ، ختم اللّه لنا ولإخواننا المؤمنين بالخير والسعادة بحق محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين الغرّ الميامين ، صلّى اللّه عليهم وسلّم تسليما كثيرا.

ص: 493

ص: 494

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

القول في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟

اشارة

ص: 495

ص: 496

وتوضيح المقام في طيّ هدايات :

هداية

لا إشكال في أنّ هذه المسألة ممّا لا يتوقّف تحريرها على أن يكون الأمر مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ؛ لجريان السؤال على تقدير غيره أيضا ، فهل هي - كما عرفت في المسألة المتقدّمة - من المبادئ الأحكاميّة كما صنعه جماعة (1) ، أو من الأدلّة العقليّة وإن كان الأمر لفظيّا أيضا؟ وقد مرّ الكلام فيما هو بمنزلة المعيار لتمييز المباحث ، فراجعه (2).

ثمّ إنّه قد يستشكل في وجه إفراد المقام بالبحث ، مع أنّ القول بالاقتضاء وعدمه من فروع القول بوجوب المقدّمة وعدمه.

وقد يجاب : بأنّ النسبة بين المقامين عموم من وجه ، لإمكان القول بوجوب المقدّمة مع القول بعدم الاقتضاء ؛ لإنكار المقدميّة مطلقا كما عليه السلطان (3) ، أو على التفصيل كما عليه المحقّق الخوانساري (4) ، أو يسلّم المقدميّة وينكر وجوبها مطلقا ، أو على أحد التفاصيل ، أو القول بالاقتضاء والقول بعدم وجوب مقدّمة الواجب نظرا إلى دعوى العينيّة أو التلازم ، إلاّ أنّ التعويل على قاعدة التلازم يوجب القول بوجوب المقدّمة أيضا كما لا يخفى. وفساد المبنى لا دلالة فيه على فساد الابتناء.

ص: 497


1- كالحاجبي والعضدي ، انظر شرح مختصر الاصول : 3 و 199.
2- راجع أول مبحث مقدّمة الواجب.
3- حاشية سلطان العلماء : 282 - 283.
4- انظر رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 147 - 151.

فلا وجه لما قد أورده بعضهم (1) : من ضعف القول المذكور ، وأيّده بما أفاده المحقّق الخوانساري (2) : من أنّه لا يبعد كونه خرقا لمركّب الإجماع ، فإنّ مدرك القول المزبور أنّ الأمر بالإزالة مثلا يرجع إلى النهي عن الضدّ العامّ وهو الترك ، ومرجع النهي المزبور إلى النهي عن الضدّ الخاصّ ، لعدم صحّة تعلّق التكليف بالتروك ، وهو خرق للإجماع ؛ لانحصار القول في مسألة النهي في أنّ مرجع النهي إلى طلب الترك أو إلى طلب الكفّ ، وأمّا أنّ مرجع النهي إلى طلب ترك الضدّ الخاصّ فهو قول حادث.

وأنت خبير بأنّ التأييد في غير محلّه بعد فرض صحّة ما أفاده المحقّق.

وقد يفرق : بأنّ الكلام في تلك المسألة في المقدّمات الوجوديّة وفي المقام في المقدّمات العدميّة ، وهو كما ترى ممّا لا شاهد له بعد عموم العنوان والأدلّة.

وقد يفرق أيضا : بأنّ الكلام هناك كبرويّ والنزاع في المقام في أنّ الترك مقدّمة أم لا فيرجع إلى إثبات الصغرى ، وهو أيضا مناف لظاهر العنوان والأدلّة.

والأولى أن يقال : إنّ المراد بالضدّ إن كان هو الضدّ العامّ فالفرق ظاهر ، وإن كان الضدّ الخاصّ فالنسبة بين المسألتين عموم مطلق ؛ لأنّ المقام بناء على المشهور - من القول بمقدميّته - من فروع المسألة المتقدّمة ، وأمّا على القول بعدم المقدميّة ، فالفرق ظاهر. وهو وليّ التوفيق والهداية.

ص: 498


1- لم نقف عليه.
2- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 148.

هداية في تحقيق مقدميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر

في تحقيق مقدميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر (1)

فنقول : قد اختلف أنظار الأعلام في ذلك ، فذهب الأكثر إلى توقّف الوجود على العدم وعدم توقّفه على الوجود (2) ، واختار جماعة - منهم السيّد المحقّق السلطان (3) وشيخنا البهائي (4) والكاظمي (5) - عدم التوقّف من الطرفين. ويظهر من المحقّق الخوانساري توقّف وجود الضدّ المعدوم على رفع الضدّ الموجود وعدم توقّف وجود الضدّ على عدم الآخر إذا كان معدوما (6) ، فهو تفصيل بين وجود الضدّ وعدمه والتزام بالتوقّف في صورة الوجود وبعدمه في صورة العدم.

ولازم الحاجبي والعضدي (7) الالتزام بالتوقّف من الطرفين ، حيث استندا في دفع شبهة الكعبي إلى منع وجوب المقدّمة ، بل وجعلا ذلك دليلا على عدم وجوب المقدّمة. وهذا صريح في التزام التوقّف ، إذ لو لم يكن مقدّمة كيف يجعل ذلك دليلا

ص: 499


1- في ( ط ) زيادة : فإنّ هذا هو الشأن في المقام.
2- انظر ضوابط الاصول : 97 ، وإشارات الاصول : 78 ، ومناهج الأحكام : 59.
3- حاشية سلطان العلماء : 282 - 283.
4- زبدة الاصول : 82.
5- الوافي في شرح الوافية : الورقة 264 ( مخطوط ).
6- يأتي كلامه في الصفحة 509.
7- راجع شرح مختصر الاصول : 202 - 203.

على عدم وجوبها؟ لاحتمال إبطالها بمنع المقدميّة في طرف الفعل للترك. وأجابا عن الدليل الآتي أيضا بمنع وجوب المقدّمة. وهذا أيضا يتأتّى بعد تسليم المقدميّة. ثمّ إنّه لو التزم باطّراد توقّف الترك على الأفعال الوجوديّة لزمه الدور على وجه لا مدفع له ، كما ستعرف عن الكعبي.

واحتجّ الأكثرون (1) لإثبات التوقّف في طرف الترك بوجهين :

أحدهما : قضاء صريح الوجدان بذلك ، فإنّا نجد بعد المراجعة والإنصاف من أنفسنا ترتّبا بين ترك الضدّ ووجود الآخر ، كما هو قضيّة الوجدان في الحكم بالتوقّف في جميع الامور التي يتوقّف عليها شيء.

الثاني : أنّ الضدّين متمانعان عن الآخر ، وعدم المانع من الامور التي يتوقّف عليها المعلول ، فعدم الضدّ مما يتوقّف عليه وجود الآخر.

أمّا الصغرى : - وهو التمانع بين الضدّين - فهو ضروريّ بعد تصوّر معنى التضادّ ، فإنّ عدم اجتماعهما في الوجود مأخوذ في حقيقة التضادّ ، فلا يجوز اتّصاف المحلّ بأحدهما إلاّ بعد خلوّه والفراغ عن الآخر ، وإلاّ لم يكونا ضدّين.

فإن قلت : إنّ مجرّد عدم إمكان اجتماعهما في محلّ واحد - كما هو قضية التضادّ - لا يجدي في الحكم بالتمانع ، وهو أن يكون عدم أحدهما شرطا لوجود الآخر ووجوده مؤثّرا في عدم الآخر ، لجواز استناد عدمه إلى عدم علّته ووجود الآخر إلى وجود علّته ، غاية الأمر أن يكون علّة عدم أحدهما مقارنة لعلّة وجود الآخر ، فيمتنع وجودهما في محلّ واحد ، لعدم وجود علّتيهما معا مع انتفاء التمانع بالمعنى المتنازع فيه.

ص: 500


1- راجع الفصول : 92 ، ومناهج الأحكام : 59 ، والقوانين 1 : 108 ، وإشارات الاصول : 78 ، وضوابط الاصول : 97.

قلت : إن اريد مجرّد المقارنة مع إمكان تبدّل العلّة المعدومة بالموجودة فهو فاسد ، لاستلزامه إمكان وجود الضدّين المستلزم لارتفاع التضادّ. وإن اريد التلازم بين وجود علّة أحدهما وانتفاء علّة الآخر فننقل الكلام إلى عدم إمكان اجتماع العلّتين ، فإن كان لتمانع بينهما ثبت المدّعى فيهما وفي معلوليهما ؛ نظرا إلى سراية التمانع من العلّتين إليهما ، وإلاّ فجاز اجتماعهما. ويترتّب عليه إمكان وجود الضدّين.

وأمّا الكبرى : فظاهرة ، فإنّ عدم المانع من أجزاء علّة الوجود - على ما صرّح به الكلّ - ولا ينافي ذلك امتناع استناد الموجود إلى المعدوم ، فإنّ ذلك يراد به أن يكون العدم معطيا للوجود ، لا أن يكون العدم شرطا لإيجاد الموجود (1) ، فإنّه لا دليل على بطلانه ، إذ لا يلزم منه سدّ باب إثبات الصانع ولا أمرا مصادما للضرورة.

ويمكن تقريب الدليل بوجه أخصر ، وهو : أنّ الوجه في امتناع وجود أحد الضدّين في مورد وجود الآخر إمّا وجوده أو أمر آخر ، والأوّل هو المطلوب. والثاني باطل ، لامتناع ذلك ولو فرض انقلاب كلّ موجود معدوما وكلّ معدوم موجودا كما هو ظاهر.

ولإثبات عدم التوقّف في طرف الفعل بما هو المقرّر عندهم في دفع قول الكعبي ، كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى (2).

احتجّ من أنكر التوقّف من الطرفين بوجوه ، أقواها وجهان :

أحدهما : أنّ من المعلوم بالوجدان أنّه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك أمران : فعل المأمور به ، وترك ضدّه ، فيكونان إذن معلولي علّة واحدة ، فلا وجه لجعل ترك الضدّ من مقدّمات فعل الآخر. وذلك مثل

ص: 501


1- في ( ط ) زيادة : أمرا آخرا.
2- في الصفحة 502 - 503.

السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ، فإنّه هو الباعث على دفع الآخر من غير ترتّب وتوقّف بينهما. ومجرّد استحالة اجتماع الضدّ مع الضدّ الآخر لا يقضي بكونه مانعا عنه ، إذ الامور اللازمة للموانع ممّا يستحيل اجتماعها مع الممنوع ، مع أنّ وجودها ليس من الموانع ولا عدمها من المقدّمات.

الثاني : أنّه يلزم من القول بتوقّف الوجود على عدم الضدّ - لمكان الممانعة - القول باستناد ذلك العدم إلى ذلك الوجود ، إذ كما أنّ عدم المانع شرط فوجوده علّة لارتفاع المعلول ، وهو دور. واختلاف جهة التوقّف بالشرطيّة والسببيّة لا يدفع المحذور لو لا يؤكّده.

وقريب منه ما أورده المحقّق السبزواري ، حيث قال : ثمّ في جعل الأضداد مانعا من حصول الحرام نظر ، إذ لو كان كذلك كانت المانعيّة من الطرفين ، لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة - مثلا - مانعة عن الزنا كان الزنا مانعا أيضا ، وحينئذ كان الزنا موقوفا على عدم الصلاة ، فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ، لأنّ رفع الموانع من علّة الوجود ، فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين ، انتهى (1).

وإلى ذلك يرجع ما ذكره بعضهم (2) : من أنّ القول بمقدميّة الترك يوجب ثبوت قول الكعبي. وهو ظاهر.

واجيب عن الأوّل بالمعارضة ، كما تقدّم من قضاء الوجدان بالتوقّف.

وأمّا الثاني ، فقد أجاب المحقّق الخوانساري عمّا ذكره السبزواري : بأنّ قوله : « فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا » إن أراد أنّه يتوقّف عليه ولا يحصل بدونه

ص: 502


1- رسالة في مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 60 - 61.
2- انظر المعالم : 68.

فهو باطل ، لأنّ عدم الشيء ربما (1) يحصل لعدم علّته التامّة ، فوجود الزنا إذا كان علّته التامّة مجموعة يكون أحد أجزائها عدم المانع الذي هو الصلاة ، فعدمه إنّما يحصل بعدم ذلك المجموع ، وعدم المركّب إنّما يحصل بعدم أحد أجزائه ، ولا يتوقّف على خصوص عدم المانع - أي وجود الصلاة - وإن أراد به أنّه إذا فرض أنّ جميع أجزاء العلّة (2) للزنا حاصل سوى عدم الصلاة ، فحينئذ عدم الزنا موقوف على وجود الصلاة ووجودها موقوف على عدم الزنا ، فيلزم الدور. ففيه : أنّه يجوز أن يكون هذا الفرض محالا وامتناع صلاحيّة علّية الشيء على تقدير محال ممنوع ، انتهى (3).

وذلك وإن كان دفعا للدور ، إلاّ أنّه التزام بعدم التوقّف من الطرفين ؛ لأنّ توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر إنّما جاء من جهة كون الضدّ مانعا وعلّة لعدم الآخر ، وهو فرع إمكان وجود أحدهما مع تمام مقتضى الآخر ؛ إذ لو لا ذلك لم يكن العدم مستندا إلى وجود المانع بل إلى فقد المقتضي ، وبعد أن جوّز استحالة وجود أحدهما مع مقتضي الآخر ، فمن أين يحكم بتوقّف فعل أحدهما على ترك الآخر؟ لاحتمال أن يكون ما هو منشأ لانتزاع العلّية لوجود أحدهما موردا لانتزاع العلّية لعدم الآخر بعينه من غير توقّف ، بل على تقدير الاستحالة يتعيّن ذلك ، كما هو ظاهر.

وقد يجاب عن محذور الدور أيضا : بأنّ دعوى دوام التوقّف في جانب الفعل على الترك مسلّمة ، لكن دوامه في جانب توقّف الترك على الفعل غير مسلّم ، بل قطعيّ العدم ، كما عرفت في كلام المحقّق المذكور.

فإن قلت : يكفي في الدور توقّف الترك على الفعل ولو في مورد واحد.

ص: 503


1- في المصدر بدل « ربما » : إنّما.
2- في المصدر : العلّة التامّة.
3- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 149.

قلت : نعم ، لو كان الترك الموقوف عليه الفعل عين الترك الموقوف على الفعل ، وليس كذلك بل هما مختلفان بالسبق واللحوق.

وتوضيحه - على ما قرّره جماعة منهم المحقّق المجيب المتقدّم (1) - : أنّا نفرض أنّ في وقت وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حد الاجتماع ، وحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم علّته التامّة. ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة - مثلا - يقوى ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الاجتماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق ، فيشتغل بالصلاة في الوقت السابق خوفا من الوقوع في الزنا في اللاحق ، فلا دور مع توقّف الترك على الفعل ، ويزيد ذلك وضوحا بفرض آنات ثلاثة :

الأوّل : هو الآن الذي يحصل فيه الصارف عن الزنا مع العلم بأنّه لو لم يشتغل بالصلاة يصل شوقه إليه إلى حدّ الاجتماع ، وهو آن فراغ المحلّ عن الضدّين.

الثاني : هو آن الاشتغال بالصلاة ، فعلى المشهور يتوقّف فعل الصلاة على عدم الزنا ، ولا يتوقّف عدم الزنا في هذا الآن على فعل الصلاة ، بل هو مستند إلى الصارف.

الثالث : هو الآن بعد الاشتغال بالصلاة ، ففي هذا الوقت يستند الترك إلى وجود الفعل قبله ، والفعل لا يتوقّف على هذا الترك ، وإنّما هو موقوف على الترك السابق والترك المقارن له ، وقد عرفت أنّ هذين التركين مستندان إلى الصارف دون الفعل ، فما يتوقّف عليه الفعل هو سابق عليه أو مقارن له ، وما يتوقّف على الفعل هو متأخّر عنه ، فاختلف الطرفان بالسبق واللحوق. لكن ينبغي أن يكون

ص: 504


1- أي المحقّق الخوانساري في الرسالة المتقدمة : 150 ، ومنهم السيّد القزويني في ضوابط الاصول : 99 ، والمحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : 70 - 71.

الاشتغال بالصلاة في الفرض رافعا لتمكّن المكلّف من فعل الزنا ولو بواسطة عدم الالتفات والشعور به ، إذ لولاه لم يعقل استناد الترك إلى الفعل في وجه ولا بدّ من وجود الزنا في وجه آخر.

بيانه : أنّه على تقدير الالتفات بالزنا وتمكّنه منه في الآن الثالث : إمّا أن يكون مقتضي الزنا موجودا أو معدوما ، فعلى الأوّل لا بدّ من وجوده ، إذ المفروض أنّ الآن الثالث زمان خلوّ المحلّ عن فعل الضدّ ، فيتمّ العلّة فيجب وجود الزنا. وعلى الثاني لا وجه لاستناد الترك إلى وجود الفعل ، بل المتّجه حينئذ أن يكون عدمه مستندا إلى عدم المقتضي كما كان.

ثم إنّ الفرق بين الجوابين ظاهر من حيث إنّ مدار الأوّل على المنع من إمكان فرض يكون الفعل مستندا إلى الترك ، ومدار الثاني على إمكان ذلك مع الاختلاف بالسبق واللحوق ، كما عرفت.

ويمكن أن يقال : إنّ قضيّة التمانع شأنيّة وجود كلّ منهما لعلّية عدم الآخر في جميع الآنات ؛ لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم وإن لم يكن مقتضيا دوام العلّية فعلا ، ولا ريب أنّ المحال إنّما هذه الشأنيّة لا دوام العلّية ، لأنّه يكفي في لزوم المحال - وإن لم يكن دورا - أن يكون توقّف ترك أحدهما على فعل الآخر في زمانه أمرا جائزا ممكنا بعد فرض دوام التوقّف من الطرف الآخر ، ولا حاجة إلى فرض وقوع التوقف من الطرفين. فإن أراد المجيب استحالة هذا الفرض فهو راجع إلى الجواب الأوّل ، وإن أراد دفع الدور في المثال المفروض بواسطة عدم توقّف فيه من الطرفين فهو لا يجدي في دفع المحال على الوجه الذي قرّرناه ، من فرض إمكان التوقّف من الطرف الآخر أيضا.

فالأولى التعويل في الجواب على احتمال استحالة اجتماع مقتضي أحد الضدّين مع وجود الآخر ، وهو كاف في الردّ على من أراد إثبات التوقّف أو إمكانه من الطرفين ، ولا حاجة إلى إثبات الاستحالة ، كما لا يخفى.

ص: 505

والمثال المفروض ليس من هذا القبيل ؛ إذ الوجه في الاستحالة أنّ وجود مقتضي أحدهما كاف في إعدام الموجود وإيجاد الضدّ المعدوم فلا يجامع مقتضي أحدهما وجود الآخر ، والمفروض في المثال هو وجود المقتضي للزنا بعد ارتفاع الصلاة ، لا حال وجود الصلاة ؛ لما تقدّم من أنّ عدم الزنا حال وجود الصلاة لا بدّ وأن يكون مستندا إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الصلاة ، فإنّ القول بتوقّف الترك حال الصلاة عليها دور لا مدفع له على المشهور.

ومن هنا يندفع ما قد يتوهّم من التنافي بين ما أفاده المحقّق المذكور في المقامين.

ثم إنّ بعض أعاظم المحقّقين أورد في تعليقه على المعالم كلاما لا بأس بنقله بطوله ، حيث أجاب عن الدور : بأنّ وجود الضدّ من موانع وجود الضدّ الآخر مطلقا ولا يمكن فعل الآخر إلاّ بعد تركه ، وليس في وجود الآخر إلاّ شأنيّة كونه سببا لترك ذلك الضدّ ، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشيء في وجود المانع منه ، فإنّ انتفاء كلّ جزء من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لتركه ، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقّف له على السبب المفروض حتّى يرد الدور.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه قد يلزم إذا فرض انحصار سبب الترك في وجود الفعل الذي يكون مانعا ، كأن يوجد جميع الأجزاء الوجوديّة للعلّة التامّة بحيث لو لا المانع لا يبقى للوجود حالة منتظرة.

فأجاب : بأنّه لا يمكن الفرض المزبور. واستدلّ عليه بقوله : لأنّ وجود الضدّ لا بدّ له من إرادة وهي كافية في سببيّة الترك ، ضرورة أنّ السبب الداعي إلى أحد الضدّين صارف عن الآخر.

وبالجملة ، السبب الداعي إلى الإزالة كاف في حصول ترك الصلاة ، فلا يستند الترك إلى وجود الإزالة قطّ بعد لا بدّية الداعي في الإزالة قبل حصولها (1).

ص: 506


1- هداية المسترشدين 2 : 224 - 225.

قلت : قد عرفت في كلام المحقّق الخوانساري أنّه قد سبقه بالجواب المذكور ، إلاّ أنّه لم يصرّح بالاستحالة ، وهذا المجيب قد صرّح به واستدلّ عليه. وكيف كان ، ولقد أجاد فيما أفاد وأتى بما هو فوق المراد في دفع المحذور ، إلاّ أنّه غير خفيّ على الناظر أنّ ذلك حسم لمادّة التوقّف من رأس ، إذ ترك الصلاة وفعل الإزالة على ما فرضه ، كلّ واحد منهما مستند إلى الداعي ، فلا يعقل توقّف أحدهما على الآخر ، إذ التوقّف يحتاج إلى تقدّم مع أنّ المفروض أنّ أحدهما في عرض الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يمكن تقرير الدور بين السبب الداعي إلى الإزالة مع نفس الصلاة لمكان المضادّة بينهما أيضا ، فنقول : إنّ السبب الداعي إلى الإزالة سبب في ترك الصلاة ، فلو كان ترك الصلاة أيضا مقدّمة للسبب الداعي - كما هو مذهب المشهور - لزم الدور ، فلا بدّ من القول بعدم مقدّمية ترك الصلاة للسبب الداعي إلى الإزالة ، وهو المقصود.

ثمّ أجاب عنه بمنع التضادّ بين الصلاة والسبب ، واستند فيه تارة إلى النقض بلوازم المتضادّين ، واخرى بالحلّ : بأنّ مدار التضادّ على عدم إمكان الاجتماع الذاتي ، وإنّما هو متحقّق بين الإرادتين دون إرادة الإزالة ونفس الصلاة.

ثمّ نقل الكلام إلى نفس الإرادتين وقرّر الدور فيهما ، ودفعه : بأنّ إرادة الفعل وعدمها إنّما يتفرّع على حصول الداعي ، فقد لا يوجد الداعي إلى الضدّ أصلا فيتفرّع عليه عدم إرادته من غير أن يتسبّب ذلك عن إرادة ضدّه بوجه من الوجوه ، وقد يكون الداعي إلى الضدّ موجودا ، لكن يغلبه الداعي إلى المأمور به. وحينئذ فلا يكون عدم إرادة الضدّ مستندا أيضا إلى إرادة المأمور به ليكون توقّف إرادة المأمور به على عدم إرادته موجبا للدور ، بل إنّما يستند إلى ما يتقدّمها من غلبة الداعي إلى المأمور به ومغلوبيّة الجانب الآخر الباعث على إرادة المأمور به وعدم إرادة الآخر ، فيكون وجود أحد الضدّين وانتفاء الآخر مستندا في الجملة إلى علّة واحدة من غير

ص: 507

أن يكون وجود أحدهما علّة في رفع الآخر ليلزم الإيراد. قال : ولا ينافي ذلك توقّف حصول الفعل على عدم إرادة ضدّه حسبما يجيء بيانه.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّا نجري الكلام بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى المأمور به وغلبة الداعي إلى ضدّه ؛ لكونهما ضدّين أيضا ، وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضدّه ، والمفروض توقّف حصول الضدّ على انتفاء الآخر ، فيلزم الدور.

فأجاب عنه : بأنّه لا سببيّة بين الأمرين ، بل رجحان الداعي إلى الفعل إنّما يكون بمرجوحيّة الداعي إلى الضدّ ، فهو حاصل في مرتبة حصول الآخر من غير توقّف بينهما لنقدّم (1) لذلك أحدهما على الآخر في الرتبة ، فرجحان الداعي إلى المأمور به يتكافأ في الوجود بمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه ، إذ الرجحانيّة والمرجوحيّة من الامور المتضايفة ومن المقرّر عدم تقدم أحد المتضايفين على الآخر في الوجود.

ثمّ قال : وتوضيح المقام أنّ الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل الإيجاب والسلب ، فلا توقّف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر ؛ إذ حصول كلّ من الجانبين عين ارتفاع الآخر. وكذا الحال في تقابل العدم والملكة ، وقد عرفت عدم التوقّف في تقابل التضايف أيضا. وأمّا المتقابلان على سبيل التضادّ فيتوقّف وجود كلّ على عدم الآخر ، إلاّ أن يرجع الأمر فيهما إلى أحد الوجوه الأخر كما في المقام (2) ، انتهى ما أفاد.

قلت : وما أفاده وإن كان دفعا للدور ، إلاّ أنّه أيضا التزام بعدم التوقّف ، كما

ص: 508


1- في ( ع ) و ( م ) : لتقدّم.
2- هداية المسترشدين 2 : 226 - 227.

عرفت في صدر كلامه. وتوضيحه : أنّ التقدّم إمّا أن يعتبر في نفس الضدّين في الأفعال الاختياريّة - كالصلاة والإزالة - وإمّا أن يعتبر في إرادتيهما ، سواء قلنا بأنّها عين الداعي كما هو المتحقّق عندنا على ما تقدّم ، أو غيره كما يظهر ممّا أفاده في جواب الدور الوارد في الإرادتين وإن كان واردا على خلاف التحقيق ، إذ على تقدير الاختلاف وكونها ناشئة منه ينقل الكلام إليه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ تقدّم شيء على آخر إنّما يلازم تقدّم علّته على علّته ، إذ على تقدير التساوي بين العلّتين لا وجه للتقدّم ، وإلاّ لزم تساوي المعلول والعلّة في الرتبة والتقدّم ، واستحالته ضروريّة ، والمفروض في كلامه أنّ علّة وجود أحد الضدّين غلبة الداعي إليه ورجحانه المكافئ وجودا لمرجوحيّة الداعي الآخر ، وهو بعينه علّة عدم الآخر ، فالعلّتان لا تقدّم فيهما ، ولازمه عدم التقدّم في المعلولين ، وهو بعينه ما قصده المستدلّ.

وأمّا الثاني : فلاعترافه بأنّ العلّتين في مرتبة واحدة ؛ مضافا إلى أنّ من المقرّر في مقامه أنّ الأصل في التقابل والتنافي هو التناقض وتقابل السلب والإيجاب ، والأقسام الباقية إنّما هي راجعة إليه بنحو من الاعتبار والعناية ، وهو أيضا ممّا لا ينبغي خفاؤه على الأذهان المستقيمة ، لأنّ الوجودين من دون اعتبار أمر عدميّ بينهما لا يعقل التنافي بينهما ، ومن الامور الظاهرة عدم توقّف أحد النقيضين على عدم الآخر كما أفاده المحقّق المجيب (1) وأشار إليه المحقّق المستدلّ (2) بقوله : « وذلك مثل السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ... » فلا وجه للتوقّف.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن أدلّة المشهور.

ص: 509


1- أي المحقّق الخوانساري.
2- أي الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 224.

أمّا عن الوجدان : فبأنّ المنصف إذا راجع وجدانه في صدور الأفعال الاختياريّة يجد من نفسه عدم التوقّف ؛ فإنّ بعد تصوّر الفعل والقطع بأنّ فيه منفعة غير معارضة لا يتوقّف صدور الفعل على حالة منتظرة ، إذ النفس إمّا أن تكون فارغة عن فعل من الأفعال المضادّة لذلك الفعل المتصوّر أو لا يكون ، وعلى الوجهين لا بدّ من حصول ذلك. أمّا على الأوّل فظاهر. وأمّا على الثاني ، فلأنّ المفروض عدم مقاومة النفع المحرّك لصدوره للنفع الموجود في ذلك الفعل ، فلا بدّ من انقطاعه والاشتغال بما هو أتمّ نفعا في الأفعال المنوطة بالإرادة والدواعي ، وما يتخيّل من التوقّف فهو إنّما هو بواسطة عدم التعمّق في كيفيّة صدور الأفعال الإراديّة. نعم ، لو لم يكن وجود علّة صدور أحدهما كافيا في عدم الآخر كان الحكم بالتوقّف بحسب الوجدان في محلّه.

وأمّا عن الدليل الثاني : فبأنّ التمانع وامتناع الاجتماع في محلّ واحد إنّما يقضي بالتوقّف فيما إذا لم يكن ذلك العدم مساويا في الرتبة لوجود الضدّ الآخر ، وبعد ما عرفت من التساوي فلا وجه للحكم بالتوقّف ، بل يكفي في ردّ الدليل احتمال التساوي كما لا يخفى على الناظر ، فنختار الشقّ الأوّل من الترديد الواقع في دفع السؤال هناك مرّة ونقول : إنّ التمانع بمعنى عدم إمكان اجتماعهما في الوجود لا يقضي بالتوقّف كما في سائر أقسام التقابل ، والشق الثاني مرّة اخرى ونقول : إنّ عدم التمانع بمعنى عدم توقّف وجود أحدهما على عدم الآخر لا يقضي بالاجتماع في الوجود كما في سائر أقسام التقابل أيضا ؛ مضافا إلى أنّ الكبرى في ذلك الدليل لا يخلو عن منع ، فإنّ الموارد التي حكموا فيها بأنّ عدم الشيء شرط ووجوده مانع يحتمل أن يراد به التعبير والعنوان ، كأن يكون الشرط واقعا أمرا وجوديّا وإنّما جعل ذلك العدم عنوانا عنه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثالث : أنّ فرض انقلاب كلّ موجود معدوما

ص: 510

يوجب انقلاب وجود علّة (1) الموجود بالعدم ، كما أنّ فرض انقلاب كلّ معدوم موجودا يوجب انقلاب عدم علّة الآخر بالوجود ، ومع ذلك يجب وجود المعدوم وعدم الموجود من دون توقّف ، فذلك الفرض مع فرض وجود الضدّ محال موجب للتناقض. وإن اريد عدم كلّ موجود ما عدا علّة وجود الموجود ووجود كلّ معدوم ما عدا علّة عدم المعدوم ، فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، لكونه خارجا عن المباحث العلميّة ، كما لا يخفى على من له دربة بها. وإن اريد وجود كلّ معدوم من أجزاء علّة المعدوم مع فرض وجود علّة الموجود فهذا مع أنّه تفكيك لعدم صحّة الفقرة الاخرى محال أيضا ، إذ فرض وجود مقتضى المعدوم لا يجامع وجود علّة الموجود كما تقدّم. فليتأمّل في المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

بقي الكلام فيما أفاده المحقّق الخوانساري في المقام : من التفصيل بين الرفع والدفع ، فأحد الضدّين إذا فرض وجوده في محلّ لا يمكن وجود الضدّ الآخر إلاّ بعد رفعه فالرفع ممّا يتوقف عليه وجود الضدّ ، وأمّا لو فرض المحلّ خاليا من الأضداد وفارغا عنها ، فاتّصاف المحلّ بأحدها لا يتوقّف على عدم الآخر ، لاستواء نسبة المحلّ إليها ، والأضداد متساوية الأقدام بالنسبة إليه ، فالتمانع إنّما يسلّم فيما إذ كان الضدّان موجودين ولا يتوقّف وجود أحدهما على عدم الآخر عند عدمها ، لعدم التمانع حينئذ.

قال بعد الإيراد بما نقلنا عن السبزواري : وهنا كلام آخر وهو أنّه يجوز أن يقال : إنّ المانع إذا كان موجودا فعدمه ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء ، وأمّا إذا كان معدوما فلا. نظير ما قال المحقّق الدواني : إنّ عند إمكان اتّصاف شيء بالمانعيّة يكون عدم المانع موقوفا عليه ، وأما إذا لم يمكن اتّصاف الشيء بالمانعيّة فلا يكون حينئذ عدمه موقوفا عليه.

ص: 511


1- في ( ط ) و ( ع ) : علّته.

قال : وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور إن حمل كلامه على ظاهره أيضا.

قال : وبالجملة ، الحكم بمانعيّة (1) الأضداد ممّا لا مجال لإنكاره وفي كلام الشيخ الرئيس أيضا التصريح بمانعيّتها (2) ، كيف! وأيّ شيء أولى بالمانعيّة من الضدّ؟ فلا وجه للإيراد على المجيب بأنّه جعل الضدّ مانعا. نعم ، لو قيل : إنّ عدم المانع مطلقا ليس موقوفا عليه ، بل هو من المقارنات للعلّة التامّة - كما ذهب إليه بعض - لم يكن بعيدا ، لكن هذا بحث لا اختصاص له بالمجيب وبمقامنا هذا (3) ، انتهى كلامه.

قلت : وجه ارتفاع الدور بما ذكره من التفصيل ، هو : أنّه إذا فرضنا اشتغال المحلّ بوجود أحد الأضداد كالسواد - مثلا - كان وجود الآخر كالبياض موقوفا على ارتفاع الموجود ، لمكان التضادّ. وأمّا وجود السواد في ذلك المحلّ لم يكن موقوفا على عدم البياض ، لأنّ هذا العدم سابق على علّة السواد ومقارن معها ، فلا توقّف من الطرف الآخر ، فلا دور.

والفرق بينه وبين الجواب الأوّل ظاهر ؛ حيث إنّ مدار الأوّل على تسليم توقّف وجود السواد على عدم البياض ، إلاّ أنّ عدم البياض - مثلا - لا يستند إلى وجود المانع في المقام. ومدار الجواب الثاني على عدم تسليم التوقّف في صورة عدم اشتغال المحلّ به ، لما عرفت من استواء نسبة الأضداد إليه.

هذا خير (4) ما قيل ويقال في هذا المجال ، ومع ذلك فلا يخلو عن النظر.

ص: 512


1- في المصدر : بتمانع.
2- في المصدر : بتمانعها.
3- رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 150 - 151.
4- في ( ع ) و ( م ) بدل « خير » : حاصل.

أمّا أوّلا : فلأنّ الفرق بين حالة وجود الضدّ وحالة عدمه والتزام التوقّف في الأوّل دون الثاني ممّا لا سبيل إليه ، إذ غاية ما هناك أن يكون الموقوف عليه حاصلا في الثاني ، ولا معنى لمنع التوقّف في المقدّمات الحاصلة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الالتزام بالتوقّف فيما إذا كان الضدّ موجودا خلاف التحقيق ، كما عرفت في تقريب ما أفاده أوّلا من إمكان استحالة الفرض. وتوضيحه : أنّ رفع الضدّ الموجود إنّما يجوز أن يكون مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم إذا كان وجود الضدّ مانعا عنه ليكون العدم مستندا إلى وجود المانع ، وهو فرع وجود تمام أجزاء علّة وجود المعدوم ، وإلاّ كان استناد العدم إلى عدم المقتضي ، فإنّه أسبق في المعدوميّة.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره لو تمّ فهو إنّما يتمّ في الأضداد التي هي من قبيل الأحوال والصفات. وأمّا في الأفعال الاختياريّة التي هي من (1) مقولة الحركة التي يتدرّج وجودها وينقضي شيئا فشيئا فلا يعقل ذلك ، فإنّ الحركة في كل آن غير الحركة في الآن الأوّل ، فإذا حصل مقتضى السكون يرتفع الحركة ويكونان من باب معلولي علّة واحدة ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في المقام من عدم التوقّف والاستناد وإن كان بعد حكومة الإنصاف والاجتناب عن الاعتساف أمرا معلوما ، إلاّ أنّه ربما يمنع منه مانع فيقول : إنّ الشك في ثبوت التوقّف يكفي في المقام.

بيان ذلك : أنّ المقصود من إثبات التوقّف ونفيه هو إثبات تحريم الضدّ وبطلانه وعدمهما ، فعلى القول بالتوقّف والمقدّمية يكون ترك الضدّ واجبا فيكون فعله حراما فيكون فاسدا ، وعلى القول بعدم التوقّف لا يتوجّه إليه النهي الحاصل

ص: 513


1- في ( ط ) بدل « هي من » : ينتهي إلى.

من الأمر بتركه الناشئ من كونه مقدّمة. وعند الشكّ في التوقّف لا مانع من التزام الصحّة بعد وجود الأمر بحكم الإطلاق وعدم العلم بالمانع.

ثمّ إنّه لا فرق في التزام الصحّة بين احتمال عدم التوقّف رأسا وبين احتماله على وجه يراه المحقّق الخوانساري عند خلوّ المحلّ عن الضدّين ، فإنّ من حاول إيجاد أحد الضدّين عند فراغ المحلّ عنهما لا يتوقّف إيجاده على عدم الآخر حتّى يصير واجبا من باب المقدّمة ، فيصير فعله حراما وفاسدا (1).

ص: 514


1- في ( ط ) زيادة : « كما لا يخفى ، والحمد لله » وفي هامشها أيضا زيادة ما يلي : إلى هنا جفّ قلم صاحب مطارح الأنظار - طاب ثراه - في مسألة الضدّ وأمّا ما يأتي في هذه المسألة فليس من تقريراته وتحريراته ، بل إنّما هو من بعض الأساطين من المستفيدين من بحث الشيخ - طاب ثراه وجعل الجنّة مثواه - ولعمري أفاد بما فوق المراد.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فهذه مسألة معروفة معركة للآراء ، يبحث فيها عن اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

وتنقيح الكلام فيه يستدعي رسم مقدّمات :

الاولى

النسبة بين هذه المسألة وسابقتها - التي هي مسألة مقدّمة الواجب على الظاهر - عموم من وجه ، يعني أنّ المثبت في كلّ من المسألتين يمكن أن يكون مثبتا في الاخرى ونافيا. أمّا المثبت في المسألة السابقة فان اعترف بكون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ثمّ اعترف بوجوب المقدّمات العدميّة نحو المقدّمات الوجوديّة ، فهو مثبت في المسألتين. وإن لم يعترف بشيء من الأمرين أو بأحدهما كان مثبتا هناك ونافيا هنا. وأمّا المثبت في هذه المسألة فإن كان وجه الإثبات عنده كون ترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر كان مثبتا في المقامين ، وإن كان وجهه دعوى عينيّة ترك أحدهما لفعل الآخر وبالعكس أمكن أن يكون نافيا في تلك المسألة ومثبتا في هذه. وهكذا الكلام في الثاني ، فإنّ نفي الوجوب أو الاقتضاء يمكن أن يجتمع مع النفي في الآخر ومع الإثبات بعين ما ذكر.

ص: 515

وحينئذ فعلى تقدير كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الآخر يكون هذه المسألة فردا من أفراد المسألة السابقة وشعبة من شعبها. لكن لمّا كان ظاهر عناوينهم في المسألة السابقة اختصاص البحث بالمقدّمات الوجوديّة انفردت هذه المسألة منها في الذكر والعنوان ؛ مضافا إلى ما في مقدّميّة ترك الضدّ في البحث والنظر المقتضي لعقد باب مستقلّ (1).

فإذن لا بأس في تحقيق هذا المقام - يعني كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الآخر أم لا - ثمّ الخوض في أصل المرام.

فنقول - وباللّه الاستعانة وعليه الاعتماد - : قد اختلف العلماء في توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر وبالعكس على أقوال :

فعن البهائي والكاظمي وسلطان العلماء : نفي التوقّف مطلقا (2) ، وبه قال السبزواري فيما حكي عنه في الرسالة المعمولة ، وسنذكر عبارتها (3).

وذهب الحاجبي والعضدي إلى : التوقّف من الطرفين ، حيث إنّهما ذكرا شبهة الكعبي الآتية - إن شاء اللّه - وأجابا عنها بمنع وجوب المقدّمة (4). وهذا اعتراف صريح بكون فعل أحد الأضداد مقدّمة لترك الضدّ الآخر المحرّم. ثمّ لما جاءا في بحث اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أجابا عن الدليل المعروف الذي يأتي ذكره - إن شاء اللّه - بمنع وجوب المقدّمة. وهذا أيضا اعتراف بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للآخر.

ص: 516


1- في ( ع ) و ( م ) زيادة : عليها.
2- حكاه عنهم المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول : 78 ، وانظر زبدة الاصول : 82 ، والوافي في شرح الوافية : 264 ، وحاشية سلطان العلماء على المعالم : 282 - 283.
3- انظر الصفحة 519.
4- راجع شرح مختصر الاصول : 202 - 203.

والمشهور بين المتأخّرين (1) من أصحابنا - على ما قيل (2) - والمتأخّرين منهم - كصاحب القوانين (3) والفصول (4) وأخيه في حاشيته على المعالم (5) - : إثبات التوقّف من طرف الوجود دون العدم ، فقالوا بكون الترك مقدّمة للفعل دون العكس ؛ حذرا من شبهة الكعبي المبنيّة على توقّف الترك على الفعل. فالمذاهب مع مذهب الكعبي القائل بكون الفعل مقدّمة للترك أربعة.

ويلوح من استاذ الكلّ المحقّق الخوانساري تفصيل آخر ، وهو : توقّف وجود الضدّ المعدوم على رفع الضدّ الموجود ، وعدم توقّف رفعه على وجود الآخر (6).

حجّة الأوّلين يظهر من جواب حجّة المشهور. وحجّتهم على كون ترك الضدّ مقدّمة للفعل : أنّ اجتماع كلّ منهما مع الآخر محال للمضادّة ، فيكون وجود كلّ منهما مانعا من حصول الآخر ، وعدم المانع من جملة المقدّمات.

واورد عليه بوجوه :

منها : دعوى المقارنة الاتّفاقية بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر من دون توقّف الوجود على العدم ، بمنع كون وجود كلّ منهما مانعا من وجود الآخر ؛ لأنّ مجرّد استحالة اجتماع الضدّ مع الضدّ الآخر لا يقتضي كونه مانعا منه ليكون عدمه مقدّمة لفعله ، إذ الامور اللازمة للموانع ممّا يستحيل اجتماعها مع الممنوع ، مع أنّ وجودها ليس من الموانع ولا عدمها من المقدّمات.

ص: 517


1- كذا ، والظاهر : المتقدّمين.
2- لم نعثر عليه.
3- القوانين 1 : 108.
4- الفصول : 96.
5- هداية المسترشدين 2 : 200 و 223 وما بعدها.
6- سيأتي كلامه في الصفحة 519 - 520.

ومنها : أنّ من المعلوم بالوجدان أنّه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك أمران : فعل المأمور به وترك ضدّه ، فيكونان إذا معلولي علّة واحدة ، فلا وجه لجعل ترك الضدّ من مقدّمات فعل الآخر. وذلك مثل السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ، فإنّه هو الباعث على رفع الآخر من غير ترتيب وتوقّف بينهما جدّا.

ومنها : أنّه لو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه لزم الدور ؛ فإنّ مقدّميّة الترك للفعل مبنيّة على كون وجود أحدهما مانعا عن وجود الآخر - كما تقرّر في تقرير الحجّة - والتزام المانعيّة من طرف يقتضي المانعيّة من الطرفين ، لاستواء النسبة في المضادّة. فكما أنّ ترك المانع من مقدّمات حصول الفعل ، فكذا وجود المانع سبب لارتفاع الفعل ، فيكون فعل الضدّ مثلا موقوفا على ترك الضدّ توقّف الشيء على عدم مانعة ، وترك الضدّ موقوفا على فعل ضدّه لكونه سببا لذلك الترك. وتوقّف المسبّب على سببه أولى من توقّف الشيء على عدم المانع الذي هو الشرط.

ومنها : أنّه لو كان كذلك لزم صحّة قول الكعبي بانتفاء المباح على القول بوجوب جميع المقدّمات - كما هو المشهور المنصور - والملازمة قد اتّضحت من بيان الملازمة المتقدّمة ، إذ على تقدير كون فعل الضدّ من مقدّمات ترك الآخر يكون فعل المباحات لترك الأضداد المحرّمة واجبا.

وهذه الإيرادات الأربعة قد ذكرها الشيخ في حاشيته على المعالم (1) ، وتصدّى لجواب بعضها بما يرجع إلى كلام المحقّق الخوانساري في جواب كلام السبزواري. والوجهان الأخيران جوابان عن الدليل المزبور على سبيل النقض الإجمالي ،

ص: 518


1- هداية المسترشدين 2 : 223 وما بعدها.

وهما دليلان على القول بعدم التوقّف. كما أنّ الوجهين الأوّلين أوّلهما منع لدعوى التمانع ، وثانيهما ادّعاء قضاء الوجدان بعدم التوقّف ، فهو حينئذ دليل أيضا على عدم التوقّف.

ومنها : ما ذكره السبزواري في الرسالة المعمولة في البحث عن وجوب المقدّمة ، حيث استدلّ النافي على عدم وجوبها : بأنّها لو وجبت لزم صحّة قول الكعبي لعين ما ذكر آنفا. وأجاب عنها بما أجاب. وقال في جملة كلامه ما لفظه هذا : ثمّ في جعل الأضداد مانعا من حصول الحرام (1) نظر ، إذا لو كان كذلك كانت المانعيّة من الطرفين لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة مثلا مانعة من الزنا كان الزنا أيضا مانعا منها ، وحينئذ كان الزنا موقوفا على عدم الصلاة فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ؛ لأنّ رفع الموانع علّة لوجوده ، فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين ، وهذا خلف (2) انتهى.

وهذا الإيراد على مانعيّة الضدّ قريب من الدور المزبور ، إلاّ أنّ المأخوذ في هذا الإيراد كون عدم المانع أيضا علّة وأنّ جهة التوقّف في الطرفين هو العلّية ، والمأخوذ في تقرير الدور : أنّ عدم المانع شرط وأنّ جهة التوقّف في أحد الطرفين على نحو الاشتراط كما في توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر ، وفي الطرف الآخر على جهة العلّية كما في توقّف تركه على فعل الآخر توقّف الشيء على علّته وسببه.

وأجاب عنه المحقّق الخوانساري بقوله : وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ قوله : « فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا » إن أراد أنّه يتوقّف عليه ولا يحصل بدونه فهو باطل ، لأنّ عدم الشيء إنّما يحصل بعدم علّته التامّة ، فوجود الزنا إذا كان علّته التامّة

ص: 519


1- في ( ع ) و ( م ) : المرام.
2- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 59 - 61.

مجموعة يكون أحد أجزائها عدم المانع الذي هو الصلاة ، فعدمه إنّما يحصل بعدم ذلك المجموع ، وعدم المركّب إنّما يحصل بعدم أحد أجزائه ولا يتوقّف على خصوص عدم المانع ، أي وجود الصلاة.

وإن أراد به أنّه إذا فرض أنّ جميع أجزاء العلّة للزنا حاصل سوى عدم الصلاة ، فحينئذ عدم الزنا موقوف على وجود الصلاة ، ووجود الصلاة موقوف على عدم الزنا ، فيلزم الدور. ففيه : أنّه يجوز أن يكون هذا الفرض محالا وامتناع صلاحيّة علّية الشيء على تقدير محال ممنوع (1) انتهى كلامه.

وخلاصة معناه : أنّ المحال إنّما يلزم على تقدير علّية وجود أحد الضدّين لعدم الآخر ، وهذا إمّا (2) غير لازم أو غير جائز.

بيانه : أنّ عدم أحد الضدّين قد يكون باعتبار انتفاء شيء من (3) أجزاء علّة الوجود أو شروطه ، وحينئذ لا يكون العدم معلولا لوجود الضدّ الآخر المفروض كونه مانعا. وقد يكون باعتبار وجود الضدّ ومن جهته ، وذلك إنّما يكون إذا كان أجزاء علّة الوجود وشرائطه مجتمعة إلاّ عدم المانع الذي هو وجود الضدّ الآخر ، فحينئذ يستند عدم الضدّ إلى وجود ضدّه ويكون معلولا منه. ولكن هذا الفرض ممّا أمكن دعوى استحالته ، فالدور المحال غير وارد. وقوله : « وامتناع صلاحيّة عليّة الشيء على تقدير محال ممنوع » كأنّه دفع لإيراد متوهّم ، وهو أنّ جعل الأضداد مانعا حينئذ يكون محالا ؛ لأنّه موقوف على فرض محال ، وهو اجتماع وجود أحد الضدّين مع أجزاء علّة وجود الآخر وشرائطه عدا عدم المانع.

ص: 520


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 149.
2- لم ترد « إمّا » في ط.
3- كذا في نسخة بدل ( ع ) ، وفي غيرها : في.

وبيان الدفع : أنّه ليس إبطالا لمانعيّة الضدّ وكونه علّة عدم الآخر ، وإنّما هو تعليق للمانعيّة على فرض ، وهذا لا يمنع أصل التمانع بعد ذلك الفرض. مثلا إذا قيل : « لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا » فذلك ليس نفيا للفساد على تقدير وجود الآلهة ، بل إنّما هو بيان للملازمة بين أمرين وإن كان الملزوم محالا ، فإنّ استحالة المقدّم لا يوجب كذب القضيّة الشرطيّة. وحينئذ فللقائل بالتمانع بين الأضداد إثبات المانعيّة على فرض وإن كان هذا الفرض محالا.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام وإن كان يندفع به الدور ، إلاّ أنّه ينفي التوقّف رأسا ، فلا يكون ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر أيضا فضلا عن كون الفعل مقدّمة للترك ؛ لأنّ توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر إنّما جاء من جهة كون الضدّ مانعا وعلّة لعدم الآخر وكون عدم المانع من الشرائط - كما قرّر في الاستدلال - فبعد أن قلنا باستحالة كونه مانعا نظرا إلى استحالة اجتماع وجود أحدهما مع مقتضي الآخر - كما يقوله رحمه اللّه - فمن أين يجيء توقّف فعل أحدهما على ترك الآخر؟ ومن أين يثبت المقدّميّة؟ على أنّ قوله : « ويجوز أن يكون هذا الفرض محالا » غير واضح الدليل ، لأنّ غاية توجيهه أن يقال : إنّ مقتضي الضدّين ضدّان أيضا نحوهما ، وبعد فرض وجود أحد الضدّين ومقتضيه يمتنع وجود مقتضي الضدّ الآخر نحو امتناع وجوده. وفيه : منع (1) التضادّ بين مقتضي الضدّين في جميع الموارد وإن سلّم بالنسبة إلى بعضها ؛ مع أنّ مقتضيهما قد يكونان قائمين بموضوعين ، فلا يكونان من الأضداد المتواردة على محل واحد حتّى يمتنع اجتماعهما في الوجود.

وتوضيح ذلك : أنّ أقصى ما في وسع المحقّق المزبور أن يقول : إنّ بين إرادة الصلاة وإرادة الزنا اللتين هما مقتضيان لهما تضادّ نحو تضادّ الصلاة والزنا ، فلا يمكن

ص: 521


1- في ( ع ) و ( م ) : أنّ منع.

أن يجتمع نفس الصلاة مع مقتضي الزنا - أعني الإرادة - حتى يكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ؛ لأنّ اجتماعهما يستلزم اجتماع إرادة الصلاة وإرادة الزنا ، وهما متضادّان لا يجتمعان.

وجوابه : أنّا ننقل الكلام في نفس الإرادتين ، فنقول : إنّ إرادة الصلاة مانعة لإرادة الزنا فتكون علّة لعدمها ، فيجب إيجادها - أي إيجاد إرادة الصلاة - من باب المقدّمة إذا كان ترك الزنا واجبا ، ويجب تركها إذا كان تركه حراما ، كما في صورة توقّف حفظ النفس عليه.

فإن ادّعيت أيضا أنّه يجوز أن يكون اجتماع نفس إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا مستحيلا ، فلا يكون إرادة الصلاة مانعة من إرادة الزنا وعلّة لعدمه ، لأنّ الاجتماع يستلزم اجتماع مقتضي إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا ، وهذا محال لتضادّهما أيضا نحو تضادّ الإرادتين.

ففيه : أنّ مقتضي إرادة الصلاة تعلّق أمر الشارع بها وكونها ذات مصلحة محتّمة وهو أمر قائم بنفس الصلاة ، ومقتضي إرادة الزنا ما فيه من اللذّة وحظّ النفس وذاك متعلّق بنفس الزنا ، ولا استحالة في وجود هذين المقتضيين في الموضوعين والمحلّين المختلفين. فيمكن حينئذ أن يجتمع إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا وهو الداعي القائم بنفس الزنا ، فيكون وجود إرادة الصلاة حينئذ مانعا للزنا وعلّة لعدمه ، فيجب إيجادها من باب المقدّمة أو تركها كذلك.

فإن قلت : إذا جاز اجتماع داعي الضدّين كالصلاة والزنا - أعني المقتضيين لإرادتهما في الوجود - فبما ذا يوجد أحدهما دون الآخر؟

قلنا : بسبب اختيار الطبيعة ، فإنّها إذا نظرت إلى داعي الصلاة وداعي الزنا - مثلا - فتختار مقتضي أحدهما في حدّ ذاتها أو بملاحظة المرجّحات الأخر من (1)

ص: 522


1- كذا في نسخة بدل ( ع ) ، وفي غيرها : في.

حسن تعجيل اللذّة أو خوف تأجيل العذاب ونحوها ، وإذا اختارت أحدهما تحقّق مقتضاه ، فيجوز اجتماع وجود الصلاة مع مقتضي الزنا ، وحينئذ يصحّ الحكم بوجوب إيجاد الصلاة لكونها علّة عدم إرادة الزنا التي هي مقتضية له ، فيتمّ الكلام من غير فرق بين أن يكون التمانع أوّلا ملحوظا بين الصلاة والزنا أو بين إرادتيهما.

والحاصل : أنّ في كلام المحقّق حزازة من وجهين :

أحدهما : أنّه إن تمّ لكان نفيا للتوقّف رأسا ، وهو مدّعى السبزواري.

والثاني : أنّ تماميّته موقوفة على استحالة اجتماع أحد الضدّين مع تمام مقتضي الضدّ الآخر ، ووجهه غير واضح ، بل الظاهر جواز ذلك كما عرفت.

وللمحقّق المزبور (1) تحقيق آخر في رفع الدور ، ذكره انتصارا لمن أجاب عن شبهة الكعبي : بأنّ ترك الضدّ - أعني الحرام - غالبا يستند إلى عدم مقتضي الوجود ، وقد يكون مستندا إلى وجود المانع - أعني الضدّ الآخر الذي هو أحد المباحات مثلا - فالوجوب إنّما يعرض للمباحات أحيانا ، فلا يلزم انتفاء المباح رأسا دائما ، حيث إنّه رحمه اللّه أورد عليه :

أوّلا : بأنّه يلزم الدور حينئذ بناء على تحقّق المانعيّة من الطرفين. ثمّ اعتذر عنه بقوله : ويمكن أن يتكلّف في الجواب : بأنّ مراده أنّ ترك الزنا - مثلا - في وقت موقوف في بعض الصور على فعل ضدّه في الوقت السابق عليه ، فلا يلزم الدور حينئذ.

قال : بيانه أنّا نفرض أنّ في وقت مثلا وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حدّ الجماع ، فحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم الجماع الذي هو علّته التامّة من دون توقّف على وجود المانع. ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة

ص: 523


1- أي المحقّق السبزواري.

- مثلا - يقوى ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الجماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق أيضا يشتغل بالصلاة في الوقت السابق ؛ لأنّ الاشتغال به يمكنه ، إذ الفرض أنّ عدم مانعة متحقّق في الزمان اللاحق أيضا ، بناء على عدم شرطه لا وجود مانعة (1). هذا كلامه.

وتوضيح الإيراد والجواب على وجه ينطبق على ما نحن فيه ، هو : أنّ الاعتراف بكون فعل الضدّ مقدّمة لترك الآخر في الجملة - ولو في بعض الصور وفي بعض الأحيان - لا ينفكّ عن الدور أيضا بناء على تسليم التمانع من الطرفين ، إذ المفروض أنّ التمانع يقتضي أن يكون ترك كلّ منهما مقدّمة شرطيّة لفعل الآخر دائما ، فإذا اتّفق في بعض الصور توقّف الترك على الفعل أيضا من باب توقّف عدم المعلول على وجود المانع المقترن بتمام المقتضي فلا محيص من الدور جدّا. وهذا تقرير الإيراد المزبور الذي هو عين الدور الذي اورد في المقام على كون ترك الضدّ مقدّمة وكون كلّ واحد منهما مانعا عن الآخر.

وأمّا الجواب فتقريره أن يقال : إنّ ترك الضد لا يكون معلولا من فعل ضدّه موقوفا عليه إلاّ إذا كان زمان الترك والفعل مختلفا ، كما إذا كان فعل الضدّ في هذا الزمان علّة لترك الضدّ في الزمان المتأخّر اللاحق ، فيكون الذي يتوقّف على فعل الضدّ هو الترك الذي يتحقّق بعد زمان الفعل ، ولا يتوقّف الفعل على ذلك الترك ، بل على الترك المقارن له في الوجود. مثلا إذا فرض الضدّان - الصلاة والإزالة - كان فعل كلّ واحد منهما موقوفا على ترك الآخر في زمان الفعل ، ولكن ترك كلّ منهما ليس موقوفا ومعلولا لفعل الآخر في زمانه ، بل إنّما يكون كذلك إذا كان ترك كلّ

ص: 524


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 150 ، وقد وقع في نقل العبارة نقص فاختلت لذلك.

واحد منهما في الزمان اللاحق موقوفا على مباشرة المكلّف بفعل الآخر في الحال ، فيكون الصلاة - مثلا - موقوفا على ترك الإزالة في وقتها ، ولا يكون هذا الترك - أعني ترك الإزالة في وقت الصلاة - موقوفا على فعل الصلاة التي كانت موقوفة على الترك المزبور حتّى يرد الدور ؛ لعدم وجود مقتضيها في وقت الصلاة ، بل إنّما يكون ترك الإزالة في الزمان المتأخّر والزمان اللاحق موقوفا ومعلولا لفعل الصلاة الواقع فيما قبل ، وذلك إنّما يكون إذا كان جميع مقتضيات الإزالة موجودة في الآن اللاحق وكان تركها في ذاك الآن موقوفا على إيجاد مانعها - أعني الصلاة - مثل فيما قبل ، فلا يلزم الدور حينئذ ؛ لاختلاف طرفي التوقّف ، حيث إنّ مقدّمة الفعل هو الترك المقارن له في الوجود ، ومعلول هذا الفعل هو الترك المتأخّر.

وأنت خبير بأن هذا الجواب عن الدور مبنيّ على دعوى استحالة توقّف الترك المقارن على هذا الفعل ، وهذا إنّما يتمّ إذا قلنا باستحالة اجتماع تمام مقتضي أحد الضدّين مع الضدّ الآخر حتّى يكون علّية فعله لترك الآخر في زمان واحد مستحيلا ، وقد عرفت منع هذه الاستحالة وأنّه يجوز أن يجتمع أحد الضدّين مع تمام مقتضي الآخر ، وحينئذ يرد الدور على فرض التمانع جدّا ؛ لأنّ التوقف حينئذ ثابت من الطرفين في آن واحد. على أنّ الجواب عن الدور بالتقرير المزبور حقيقة يرجع إلى نفي التمانع وعدم التوقّف رأسا ، وذلك لأنّه إذا قيل : إنّ ترك الضدّ إنّما يتوقّف على فعل ضدّه في الآن الثاني لا في آن الفعل كان معناه أنّهما غير متمانعين في الآن الأوّل ، إذ لو كانا متمانعين لكان عدم كلّ منهما موقوفا على وجود الآخر ، لأنّ عدم الممنوع مستند إلى وجود المانع ، فلا وجه لجعل الصلاة - مثلا - مانعة عن الإزالة في وقتها مع عدم كونها مقدّمة سببيّة لعدم الإزالة.

ص: 525

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ عدم الممنوع لا يجب استناده إلى (1) وجود المانع ، لإمكان استناده إلى فقد شيء من أجزاء المقتضي أو شرائطه ، فحينئذ لا ملازمة بين كونهما متمانعين في الآن الأوّل أيضا وبين استناد عدم أحدهما إلى وجود الآخر ، كاستناد عدم الإزالة إلى وجود الصلاة ، لجواز استناد عدم الإزالة (2) في آن الصلاة إلى عدم المقتضي ، فيكون عدم الإزالة مقدّمة لوجود الصلاة لكونه عدم المانع ، ولكن لا يكون وجود الصلاة مقدّمة لعدم الإزالة (3) المقارن معها في الوجود حتّى يلزم الدور.

وفيه : أنّ قضية التمانع شأنيّة وجود كلّ منهما لعلّية عدم الآخر في جميع الآنات ، لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم وإن لم يكن مقتضاه دوام العلّية فعلا ، ولا ريب أنّ موجب الدور إنّما هو هذه الشأنيّة لا دوام العلّية ، لأنّه يكفي في لزوم الدور أن يكون توقّف ترك أحدهما على فعل الآخر في زمانه أمرا جائزا وممكنا ، إذ المفروض أنّ الترك مقدّمة للفعل دائما ، فإذا جاز توقّف الفعل أيضا على الترك - ولو في بعض الصور - لزم توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه ، وهذا مستحيل جدّا.

نعم ، لو قيل بما ذكره المحقّق المزبور آنفا : من أنّ علّية وجود أحد الضدّين لعدم الآخر مبنيّة على اجتماع وجوده مع مقتضي الآخر ؛ نظرا إلى أنّ المانع لا يكون علّة لعدم الممنوع إلاّ بعد وجود مقتضيه واجتماعهما ممّا يجوز

ص: 526


1- العبارة في النسخ : « لا يجب على وجود المانع » فصحّحت في ( ط ) بما أثبتناه ، وفي ( ع ) : « لا يجب أن يستند على الدوام إلى وجود المانع ».
2- في ( ط ) : الإرادة.
3- في ( ط ) ونسخة بدل ( ع ) : الإرادة.

دعوى استحالته ، لاستريح (1) عن الدور ، لاستحالة توقّف الترك على الفعل في حين وجوده على هذا التقدير. ولكنّك عرفت ما فيه.

هذا تمام كلام المحقّق الخوانساري في الجواب عن الدور.

وأجاب عنه المحقّق الأصفهاني في حاشيته على المعالم في كلام طويل ، وذكره بطوله يوجب الملال ، غير أنّا نذكر خلاصة مجموع فقراته ، ومن أراد الاطّلاع عليه تفصيلا فليرجع إلى الحاشية المزبورة.

قال : ويرد على الثاني - يعني الدور - : أنّ وجود الضدّ من موانع وجود الضدّ الآخر مطلقا ، فلا يمكن فعل الآخر إلاّ بعد تركه ، وليس في وجود الآخر إلاّ شأنيّة كونه سببا لترك ذلك الضدّ ، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشيء في وجود المانع منه ، فإن انتفاء كلّ من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لتركه ، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقّف له على السبب المفروض حتّى يرد الدور. وهذا مع ما ذكره الخوانساري بقوله : « وأمّا ثانيا » - وقد تقدّم - متقاربا متوافقا المراد ، بل متّحدان حقيقة ، كما هو ظاهر للمتأمّل.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه إذا فرض انتفاء سائر الأسباب وانحصار الأمر في السبب المفروض - يعني وجود المانع الذي هو الضدّ - فيجيء الدور.

ثمّ أجاب عنه : بأنّ هذا الفرض غير ممكن ؛ لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته ، وهي كافية في التسبيب لترك ضدّه ، فليس يوجد مقام كان ترك الضدّ مستندا إلى نفس وجود ضدّه ، لوضوح أنّ الفعل مسبوق بالإرادة وهي صارفة من الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يجري الكلام المزبور بالنسبة إلى إرادة الضدّ ، لمضادتها مع الضدّ الآخر ، لامتناع اجتماعهما.

ص: 527


1- كذا في ظاهر ( ع ) ، وفي ( م ) ومحتمل ( ط ) : لا مسرح.

ثمّ أجاب عنه : بمنع المضادّة وأنّ مجرّد امتناع الجمع بين الأمرين لا يقتضي المضادّة ، إذ قد يكون الامتناع عرضيّا - كما في المقام - فإنّ امتناع اجتماع إرادة أحد الضدّين مع الضدّ الآخر من جهة تضادّ هذه الإرادة لإرادة الآخر ، ولذا كان إرادة أحدهما صارفة عن الضدّ الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يجري الكلام بالنسبة إلى الإرادة المفروضة وإرادة الضدّ الآخر فيلزم الدور ، لأنّ حصول الإرادة المفروضة سبب لعدم إرادة الضدّ الآخر ؛ لما ذكر من أنّ وجود أحد الضدّين سبب لانتفاء الآخر ، مع أنّ وجودها يتوقّف على انتفاء الآخر بناء على كون عدم الضدّ شرطا في حصول الآخر.

ثمّ أجاب عنه : بأنّ إرادة الفعل وعدمها إنّما يتفرع على حصول الداعي وعدمه ، فقد لا يوجد الداعي مع الضدّ أصلا فيتفرّع عليه عدم الإرادة من غير أن يتسبّب ذلك من إرادة الضدّ الآخر بوجه من الوجوه. وقد يوجد الداعي لكن يغلبه الداعي إلى الضدّ الآخر المأمور به مثلا ، فلا يكون عدم الإرادة حينئذ أيضا مستندا إلى إرادة الضدّ بل إلى غلبة داعيه ، وعلى أيّ حال فلا تأثير لنفس الإرادة في انتفاء الإرادة الاخرى.

ولا يخفى عليك أنّ منع استناد انتفاء إرادة الضدّ إلى إرادة ضدّه هنا مناف لما ذكره في الجواب عن السؤال الأوّل من أنّ إرادة الضدّ كافية في التسبيب لترك ضدّه ، فتدبّر جدّا.

ثم أورد على نفسه : بأنّا نجري الكلام والإيراد بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى الضدّ المأمور به وغلبة الداعي إلى ضدّه ، لكونهما ضدّين أيضا ، وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضدّه ، والمفروض توقّف الرجحان المزبور على انتفاء رجحان داعي الضدّ ، فيلزم الدور.

ثمّ أجاب عنه : بأنّه لا سببيّة بين رجحان داعي الفعل وبين انتفاء رجحان

ص: 528

داعي ضدّه ، بل رجحان الداعي إلى الفعل إنّما يكون بعين مرجوحيّة الداعي إلى الضدّ ، فهما حاصلان في مرتبة واحدة من غير توقّف بينهما حتّى يتقدّم أحدهما على الآخر في الرتبة ، فرجحان الداعي إلى المأمور به - مثلا - مكافئ في الوجود بمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه ، إذ الرجحانيّة والمرجوحيّة من الامور المتضايفة ، ومن المقرّر عدم تقدّم أحد المتضايفين على الآخر في الوجود.

قال في أواخر كلامه : وتوضيح المقام أنّ الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل الإيجاب والسلب فلا توقّف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر ، إذ حصول كلّ من الجانبين عين ارتفاع الآخر ، وكذا الحال في تقابل العدم والملكة ، وقد عرفت عدم التوقّف في تقابل التضايف أيضا ، وأما المتقابلان على سبيل التضادّ فيتوقّف وجود كلّ على عدم الآخر ، إلاّ أن يرجع الأمر فيها إلى أحد الوجوه الأخر كما في المقام (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

ويرد عليه - بعد إمكان المناقشة في كثير من الكلمات المزبورة - أمران :

أحدهما : أنّ خاتمة كلامه قد استقرّت على أنّ ترك الضدّ أبدا معلول لانتفاء السبب الداعي أعني غلبة رجحانه ، فلا يكون مقام يستند فيه إلى وجود الضدّ الآخر أو إلى سبب وجوده ، وعند ذلك امتنع أن يكون أحد الضدّين مانعا عن الآخر ، لأنّ المانع من شأنه استناد عدم الممنوع إليه ، فلا يكون عدمه مقدّمة لوجود الآخر ، إذ المقدّمية إنّما جاءت من جهة كونه مانعا وكون عدم المانع شرطا. والعجب! أنّه اعترف في صدر كلامه بذلك ومع ذلك قال متّصلا به : إنّ انحصار سبب ترك الضدّ في فعل الضدّ الآخر غير ممكن.

وبالجملة ، أنّه رحمه اللّه لمّا تصدّى لدفع الدور نظر إلى الواقع والحقّ وأفاد ما

ص: 529


1- هداية المسترشدين 2 : 224 - 227.

حاصله : أنّ فعل الضدّ وترك الضدّ الآخر من المقارنات الاتّفاقيّة نظرا إلى تقارن علّتيهما - يعني علّة وجود أحدهما وعلّة عدم الآخر ، وهما غلبة رجحان داعي الوجود ومرجوحيّة داعي المعدوم - وغفل عن كون هذا التحقيق نفيا للتوقّف رأسا.

والثاني : أنّ تقدّم أحد الأمرين على الآخر لا يمكن إلاّ إذا كان علّتاهما مختلفتين في الرتبة ، حتّى أنّه إذا فرض مساواة الشيئين في الرتبة امتنع تقدّم معلول أحدهما على الآخر. وحينئذ لا يجوز أن يكون أحد المعلولين مقدّمة لوجود الآخر ، إذ المقدمة سابقة على ذيها رتبة ، والفرض أنّهما في المرتبة سواء ، لاستواء علّتيهما.

إذا تحقّق ذلك ، فنقول : إنّه رحمه اللّه جعل علّة وجود أحد الضدّين غلبة الداعي إليه ، وجعل علّة عدم الآخر مرجوحيّة الداعي إليه ، وجعل هاتين العلّتين من المتضايفات التي اعترف بعدم تقدّم أحدهما على الآخر رتبة ، قائلا بأنّ أحدهما متحقّق بعين تحقّق الآخر ، كما هو صريح كلامه. وعلى هذا فالحكم بتوقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر وكون العدم هذا مقدّمة لوجود الآخر من العجائب!

فالحقّ أنّه لا مدفع للدور على تقدير كون الترك مقدّمة للفعل ، وأنّ جميع ما قيل في دفعه يرجع بالأخرة إلى نفي التوقّف وتحقّقه.

نعم ، التفصيل الذي نقلنا في صدر المسألة عند ذكر الأقوال من المحقّق الخوانساري : من أنّ الضدّ إذا كان موجودا كان رفعه مقدّمة لمجيء الآخر ، ممّا أمكن الركون إليه من غير أن يكون فيه دور.

وإلى هذا أشار بقوله متّصلا بما حكينا عنه سابقا :

وهنا كلام آخر ، وهو : أنّه يجوز أن يقال : إنّ المانع إذا كان موجودا فعدمه ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء ، وأما إذا كان معدوما فلا ، نظير ما قال المحقّق الدواني : إنّ عند إمكان اتّصاف شيء بالمانعيّة يكون عدم المانع موقوفا عليه ، وأمّا إذا لم يمكن اتّصاف الشيء بالمانعيّة فلا يكون حينئذ عدم المانع موقوفا عليه ، وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور من حمل كلامه على ظاهره أيضا.

ص: 530

قال : وبالجملة ، الحكم بمانعية الأضداد ممّا لا مجال لإنكاره. وفي كلام الشيخ الرئيس أيضا التصريح بمانعيّتها. كيف! وأيّ شيء أولى بالمانعيّة من الضدّ؟ فلا وجه للإيراد على المجيب : بأنّه جعل الضدّ مانعا. نعم لو قيل بأنّ عدم المانع مطلقا ليس موقوفا عليه بل هو من مقارنات العلّة التامّة - كما ذهب إليه بعض - لم يكن بعيدا ، لكن هذا بحث لا اختصاص له بالمجيب وبمقامنا هذا (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وخلاصة مراده : أنّه لا ريب في تمانع الأضداد وأنّ وجود أحدهما يمنع من وجود الآخر ، ولكن لا ملازمة بين كون الشيء مانعا وبين كون عدمه (2) مقدّمة ، لأنّ عدم المانع إذا كان مقارنا للعلّة التامّة أو سابقا عليها لم يكن موقوفا عليه ، إذ لا توقّف حينئذ للمعلول إلاّ على وجود علّته التامّة ، وأمّا إذا كان مؤخّرا عنها - بأن اجتمعت العلّة في الوجود مع وجود المانع - كان عدمه موقوفا عليه.

وحينئذ فالذي يقتضيه تمانع الأضداد إنّما هو توقّف وجود الضدّ المعدوم على ارتفاع الضدّ الموجود أيضا ، وأمّا توقّف الضدّ الموجود أيضا على عدم الضدّ المعدوم الذي كان عدمه سابقا على علّة الموجود أو مقارنا معها فلا. وحينئذ لا يلزم الدور في شيء ، لأنّا إذا فرضنا البياض شاغلا للمحلّ كان وجود السواد حينئذ في ذلك المحل موقوفا على ارتفاع البياض ، لاستحالة اجتماعهما ، ولكن وجود البياض الموجود ليس موقوفا على عدم السواد ؛ لأنّ هذا العدم سابق على علّة البياض أو مقارن معها ، فلا يكون وجود السواد المعدوم سببا لرفع البياض الذي كان مقدّمة لوجود السواد حتّى يلزم الدور ، لأنّ السواد إنّما يكون علة لرفع البياض إذا كان عدمه شرطا ، وبعد أن بنينا على أنّ عدم السواد المعدوم ليس مقدّمة شرطيّة لوجود البياض لم يكن وجه لعليّة السواد لعدم البياض.

ص: 531


1- رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : 150 - 151.
2- في ( ع ) : كونه.

هذه خلاصة مراده ، وهي خير ما يقال في هذا المقام ، ولذا جنح إليه الاستاذ - دام ظله المتعال - إلاّ أنّهما مع ذلك لا يخلو عن المناقشة ، والإشكال من وجوه :

الأوّل : أنّ جعل عدم المانع المقارن مع العلّة أو المتقدّم (1) غير موقوف عليه غير ظاهر وجهه ، إذ لا نجد فرقا بين العدم المتقدّم أو المتأخّر من حيث عدم إمكان تحقّق المعلول بدونه (2). وهذا خلف.

نعم ، الفرق بينهما هو : أنّ العدم المقارن أو المتقدّم مقدّمة حاصلة ، والعدم المتأخّر مقدّمة غير حاصلة ، وهذا القدر من الفرق لا يقتضي عدم التوقّف رأسا في الأوّل ، وإلاّ لانحصر المقدّمة في العلّة التامّة إذا كانت مركّبة من أجزاء مترتّبة (3) في الوجود ، لأنّه إذا تحقّقت الأجزاء والشرائط إلى أن انتهت إلى الجزء الأخير صدق أنّ المعلول في هذا الحال لا يتوقّف وروده إلاّ على ذلك الجزء ، فيلزم أن لا يكون أجزاء العلّة وشرائطها من المقدّمات ، وفساده واضح.

وحينئذ فالدور باق بحاله ، لمكان توقّف البياض المفروض وجوده على عدم السواد المفروض عدمه أيضا المقتضي لكون وجود السواد علّة لرفع البياض الذي كان موقوفا عليه لوجوده.

الثاني : أنّ رفع الضدّ الموجود إنّما يجوز أن يكون مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم إذا كان وجود الضدّ الموجود مانعا عن مجيء الآخر المفروض عدمه ، لأنّ المقدّمية إنّما اخذت من جهة كون الضدّ مانعا وعدمه شرطا ، ومن المعلوم أنّ الموجود إنّما

ص: 532


1- في ( ع ) : والمتقدّم.
2- في هامش ( ع ) زيادة ما يلي : وإلاّ لخرج المانع عن كونه مانعا وكان وجود المعلول بدون هذا العدم يعني مع وجود المانع ممكنا.
3- في ( ع ) و ( م ) : مرتّبة.

يكون مانعا عن المعدوم إذا كان تمام مقتضيه وشرائطه موجودا حتّى يكون سبب العدم وجود الموجود ، وإلاّ لم يكن مانعا فعلا بل شأنا ، فلا يكون رفعه مقدّمة.

وأيضا قضيّة ما ذكره : من أنّ مطلق عدم المانع ليس بموقوف عليه ، هو أن يكون تمام ما يقتضي وجود الضدّ الآخر المفروض عدمه موجودا في حال وجود الضدّ المفروض وجوده حتّى يكون رفعه مقدّمة ، إذ لو اعتبر الرفع المزبور قبل استكمال علّة وجود الضدّ المعدوم لكان هذا داخلا في أقسام عدم المانع المقارن مع العلّة أو المقدّم ، فلا يكون باعترافه مقدّمة ، فمقدّمية رفع الضدّ الموجود موقوف على اعتبار ملاحظته بعد استكمال أجزاء المقتضي للضدّ المعدوم وشرائطه ، فيلزم حينئذ أن يجوز اجتماع وجود أحد الضدّين مع تمام مقتضي الضدّ الآخر ، مع أنّه رحمه اللّه قد اعترف - فيما تقدّم في جواب السبزواري - بأنّ الصلاة لا يمكن أن تكون علّة لعدم الزنا إلاّ إذا فرض تحقّق جميع أجزاء علّة الزنا من الشوق والإرادة ونحوهما حتّى يستند عدم الزنا حينئذ إلى وجود المانع فقط ، فيكون هو العلّة للعدم دون فقد المقتضي ، وأنّ هذا يجوز أن يكون محالا (1). وحينئذ كيف يتمكّن هنا من جعل رفع الضدّ الموجود مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم؟ مع أنّ مقدّمية ذلك - بناء على كلامه من عدم كون مطلق عدم المانع مقدّمة - مبنيّة على فرض وجود علّة الزنا مثلا مع الصلاة مثلا حتّى يكون عدم الصلاة مقدّمة لترك الزنا. نعم ، نحن لمّا منعنا استحالة ما ذكر وقلنا بأنّه يمكن اجتماع أحد الضدّين مع تمام مقتضى الضدّ الآخر وبيّنا ذلك ، أمكن لنا دعوى كون رفع الضدّ الموجود مقدّمة للضدّ المعدوم.

ولكن الإنصاف أنّ هذا كلام صدر منه من جهة الاحتمال والمناقشة في المقال ،

ص: 533


1- كذا ، ولم نتحقق معنى العبارة ، ولعلّ فيها سقطا أو تصحيفا.

فإنّ الحكم بذلك (1) بجواز اجتماع وجود أحد الضدّين مع تمام مقتضى الآخر لا يخلو عن إشكال وتأمّل ، إذ لو جاز ذلك لجاز اجتماع نفس المقتضيين أيضا قبل تحقّق أحد الضدّين ، إذ لا مدخليّة لتحقّقه في إمكان اجتماع المقتضيين وامتناعه ، وحينئذ يلزم الدور إذا اجتمعا في الوجود ولو في محلّين مختلفين ، لأنّ تأثير كلّ منهما أثره يتوقّف حينئذ على عدم تأثير الآخر ، ضرورة استحالة تأثيرهما معا لاستلزامه الجمع بين الأثرين المتضادّين ، مع أنّ عدم تأثير كلّ منهما لا سبب له إلاّ تأثير الآخر ، فيلزم الدور.

اللّهم إلاّ أن يدّعى الفرق بين اجتماع سبب الضدّين في الوجود معا من دون تقدّم أحدهما على الآخر ، وبين اجتماعهما متعاقبا بأن يتحقّق أحدهما أوّلا فيؤثّر أثره ثمّ يتحقّق الآخر ، فإنّ الأوّل مستحيل لما ذكر ، بخلاف الثاني فإنّه إذا فرض أنّ سبب أحد الضدّين وجد في حال عدم سبب الآخر كان تأثيره ممّا لا مانع له ، ثمّ بعد أن أثّر أثره فلا استحالة في وجود سبب الآخر في محلّ آخر ، لأنّ هذا السبب حينئذ لا يؤثّر تأثيرا باعتبار وجود المانع الذي قد سبقه ، أعني تأثير السبب المفروض وجوده سابقا.

إلاّ أنّ هذه الدعوى في الفرق أيضا لا تخلو عن حزازة وإشكال ، كما يظهر للمتأمّل الدقيق.

وكيف كان ، فمن يقول باستحالة ذلك يعني اجتماع أحد الضدّين مع تمام سبب الآخر وشرائطه - كالمحقّق على ما سمعت عنه في السابق في الجواب عن السبزواري - فلا يجوز له الحكم بمقدّميّة رفع الضدّ الموجود لوجود المعدوم ، بل ينبغي له أن يجعل رفعه ووجود المعدوم معلولي علّة واحدة أو علّتين متساويتين في الرتبة ، كما عرفت عن الشيخ في الحاشية ، فإذن لا يكون توقّف بينهما جدّا.

ص: 534


1- في ( ع ) زيادة : يعني.

الثالث : أنّ ما ذكره من التفصيل - بعد الغضّ عن جميع ما ذكرنا وقبول حجّته (1) - إنّما يتمّ في الأضداد القارّة كالسواد والبياض ، وأمّا في الأضداد الغير القارّة - كالحركة والسكون وغيرهما من أفعال المكلّفين التي كلامنا فيها - فلا سبيل إليه ، لأنّا نعلم بالضرورة والوجدان أنّ المشتغل بالصلاة مثلا إذا حصل له ما يقتضي الإزالة مثلا - من الشوق والإرادة والعزم وغير ذلك من الامور التي لا بدّ منها في تحقّق الأفعال الاختياريّة - فيقطع الصلاة قهرا ، فيكون انقطاعها ووجود الإزالة في مرتبة واحدة من الوجود لا يمكن جعل أحدهما من مقدّمات وجود الآخر جدّا ؛ على أنّ المحتاج إليه في تحقّق الإزالة إنّما هو خلوّ زمانها عن فعل الصلاة مثلا ، ولا ريب أنّ قطع الصلاة ورفعها لا حاجة للإزالة إليهما إلاّ من جهة تفريغ زمانها عن فعل ضدّها كالصلاة ، فيكون الذي يتوقّف عليه فعل الإزالة حقيقة هو عدم الصلاة في زمان ذلك الفعل مطلقا ، سواء كان مسبوقا بالوجود فرفع أو كان باقيا على الحالة الاولى ، وحينئذ فجعل الرفع من مقدّمات مجيء الضدّ المعدوم حقيقة يرجع إلى كون مطلق عدم الضدّ من المقدّمات ، فيكون الرفع مقدّمة لتحصيل المقدّمة التي هي خلوّ زمان الضدّ عن ضدّه ، فيعود الدور الذي كان رفعه موقوفا على عدم كون مطلق العدم من المقدّمات.

فتدبّر جيّدا في المقام ، فإنّه مزلّة للأقدام ومعركة للآراء ومن غوامض المطالب. ولا أظنّك بعد الإحاطة بجميع ما تلونا عليك حقّ الإحاطة والتأمّل فيه كمال التأمّل ذا مرية في عدم توقّف شيء من فعل الضدّ على فعل ضدّه وتركه (2) ، وإن اشتهر توقّف الفعل على الترك خاصّة من دون عكس بين كثير من أعاظم

ص: 535


1- في ( م ) و ( ط ) : حجّتيه.
2- في مصحّحة ( ع ) : من فعل الضدّ وتركه على وجود فعل ضدّه وتركه.

الأصحاب (1) ، فإنّ الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو والشهرة قد تكذب ، وكم ترك الأوّلون للآخرين! نعم ، قد يتّفق توقّف ترك أحد الضدّين في ثاني الزمان على إيجاد ضدّه في الزمان السابق ، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ، كما عرفت مثاله وبيانه في كلام المحقّق الخوانساري عند الاعتذار عن المجيب عن شبهة الكعبي (2). واللّه العالم بحقائق الأشياء.

ص: 536


1- تقدّم كلامهم في الصفحة 517.
2- انظر الصفحة : 523 - 524.

المقدّمة الثانية : في تحرير محلّ النزاع

من حيث ضيق المأمور به وسعته ، أو وجوبه واستحبابه ، أو تخييره وتعيينه ... إلى غير ذلك من الوجوه المتصوّرة في الأوامر. وهكذا في الضدّ.

قال الفاضل القمّي أعلى اللّه مقامه : موضع النزاع ما إذا كان المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا ، ولو كانا موسّعين فلا نزاع. وأمّا لو كانا مضيّقين فيلاحظ ما هو الأهمّ. وقد يفصّل : بأنّ الضدّين إمّا كلاهما من حقّ اللّه أو من حقّ الناس أو مختلفان ، وعلى التقديرات : إمّا معا موسّعان أو مضيّقان أو مختلفان. فمع ضيق أحدهما الترجيح له مطلقا ، ومع سعتهما التخيير مطلقا. وأمّا الثاني فمع اتّحاد الحقيقة التخيير مطلقا ، إلاّ إذا كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع كحفظ بيضة الإسلام ، ومع اختلافهما الترجيح لحقّ الناس إلاّ مع الأهميّة (1) ، انتهى كلامه.

ويمكن المناقشة في هذا الكلام :

أوّلا : بأنّ إخراج الموسّعين عن محلّ النزاع ممّا لا وجه له ، فإنّ الملازمة التي أثبتوها بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه عقليّة سارية في جميع الأوامر ، فكما أنّ الأمر المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه الموسّع كذلك الأمر الموسّع يقتضي ذلك من غير فرق ، والحاكم بذلك هو العقل على القول بالاقتضاء. غاية الأمر أنّ النهي في الموضعين يختلف حسب اختلاف الأمرين ، فالأمر المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه على جهة التضييق والتعيين ، والأمر الموسّع يقتضيه على جهة التوسعة والتخيير ،

ص: 537


1- القوانين 1 : 113.

فالأضداد الواقعة في وقت الإزالة - مثلا - منهيّة على سبيل الضيق ويجب الاجتناب عنها فورا مضيّقا معيّنا ، والأضداد الواقعة في وقت الصلاة منهيّة توسعة فيجب الاجتناب عنها في مقدار فعل الصلاة من أوّل الوقت إلى آخره. وهكذا الكلام في المضيّقين المتساويين في الأهمّية ، فإنّ قاعدة الاقتضاء المزبورة قاضية باقتضاء كلّ منهما النهي عن الآخر على سبيل التخيير العارض للأمرين باعتبار التزاحم والتكافؤ.

وقد يجاب عنها أوّلا : بأنّه لا مضايقة في القول بخروج الموسّعين والمضيّقين عن تحت النزاع ؛ لعدم جدواه وانتفاء الثمرة المذكورة لهذا النزاع فيهما ، ضرورة معلوميّة عدم اقتضاء النهي التوسّعي التخييري المستفاد من الأمر الموسّع أو المضيّق بالنسبة إلى مضيّق آخر التحريم والفساد ، ولا فائدة حينئذ في تعميم البحث بالنسبة إلى غير الموسّع والمضيّق.

وثانيا : بأنّ المتبادر من الأمر والنهي المشتمل عليهما عنوان المسألة في كلام الأوائل والأواخر إنّما هو الإلزام في الفعل والترك على سبيل الضيق والتحتّم والتعيين ، وهذا النحو من الأمر والنهي مختصّ بما إذا كان المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا ، إذ قد عرفت أنّ في شيء من الموسّعين والمضيّقين ليس إلزام في فعل شيء معيّن أو تركه ، بل التوسعة وتزاحم المضيّقين قاضيان بالرخصة في فعل كلّ فرد وتركه. أمّا الرخصة في الترك فواضح في الموضعين. وأمّا الرخصة في الفعل ففي الموسّعين أيضا واضح ، لمعلوميّة أنّه إذا اجتمع واجبان موسّعان جاز للمكلّف فعل كلّ واحد منهما إلى تضايق وقت أحدهما ، فالنهي الذي يقتضيه الأمر بالموسّع موسّع مثل الأمر بمعنى أنّه يجوز للمكلّف فعل الضدّ في جميع أزمنة وجوب المأمور به ما لم يتضيّق وقته ، فيتعيّن الاجتناب حينئذ لذلك ، يعني لأجل مزاحمة المضيّق والموسّع. وأمّا الرخصة في الفعل في المضيّقين فلأنّه الأصل في تزاحم الواجبين ، إذ المرجع

ص: 538

فيهما التخيير ، فيفعل المكلّف ما شاء. وهذا معنى الرخصة في الفعل - أي فعل ضدّ المأمور به - المنافية للنهي التضييقي التعييني.

هذا ويمكن أن يقال بما ذهب إليه جماعة من الاصوليّين من : أنّ التخيير في النواهي غير جائز ، بمعنى أنّه ليس حال النهي والأمر في الانقسام إلى التخييري والتعييني سواء ، لأنّه لا مانع من أن يكون المأمور به أحد هذه الامور على سبيل البدليّة والتخيير كالخصال ، ولكن المنهيّ عنه لا يجور أن يكون كذلك ، لأنّ النهي عن أحد هذين الأمرين أو الامور يستلزم تحريم الجميع.

وهذا المذهب وإن كان سخيفا مختار المعتزلة (1) ، إلاّ أنّه به يتعيّن كون محلّ النزاع ما ذكره ، إذ الموسّعان والمضيّقان لا يكون فيهما نهي على هذا المذهب ، لعدم جواز النهي عن الضدّ في وقت ما (2) في الموسّعين أو عن ضدّ ما (3) في المضيّقين.

وكيف كان ، فلا إشكال في سريان النزاع إلى سائر أقسام الواجبات : من العيني والكفائي ، والتخييري والتعييني ، والنفسي والغيري ، والتعبّدي والتوصّلي ، والأصلي والتبعي ، بمعنى أنّ المضيّق من هذه الواجبات يقتضي النهي عن الموسّع منها ، سواء كانا متجانسين بأن دار الأمر بين المضيّق والموسّع من العيني والكفائي ...

وهكذا مثلا ، أو مختلفين بأن كان المضيّق من العيني مثلا والموسّع من الكفائي أو التخييري وبالعكس ، فإنّه على القول بالاقتضاء وعدمه فهذه الواجبات متساوية الأقدام. ولعلّ إطلاق كلام الفاضل القمّي رحمه اللّه يشملها أيضا.

وثانيا : بأنّ حصول النزاع فيما إذا كان الضدّ من الواجبات الموسّعة غير جيّد ، لأنّهم يتفرّعون (4) على هذه المسألة حرمة السفر وفساد المعاملات مع عدم

ص: 539


1- كما حكى عنهم الآمدي في الإحكام 1 : 157 ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 53.
2- في ( ع ) كتب فوق « ما » : كما.
3- في ( ع ) كتب فوق « ما » : كما.
4- كذا ، والمناسب : « يفرّعون ».

كونها من الواجبات جدّا ، فضلا عن كونها موسّعين. فالتحقيق إرخاء عناء البحث إلى أودية المباحات والمكروهات والمستحبّات أيضا ؛ لأنّ اقتضاء الأمر المضيّق النهي عن الضدّ لا اختصاص له بما إذا كان الضدّ واجبا كما لا يخفى. ولعلّ نظره رحمه اللّه إلى قلّة جدوى البحث فيما عدا الواجب الموسّع ؛ لأنّ الثمرة المعتدّ بها هي فساد الضدّ.

ولعلّ الفساد عند الكلّ أو الجلّ لا يثبت إلاّ للضدّ الذي كان من العبادات ، لأنّهم لا يقولون بفساد المعاملة بمثل هذا النهي المتولّد من الأمر ، ولا بحرمة السفر على وجه يترتّب عليه آثار التحريم من الإتمام والإمساك.

لكن ومع ذلك يرد عليه : أنّ الواجب الموسّع يشمل العبادي والتوصّلي ، مع أنّ الثمرة المزبورة - وهي الفساد - غير ظاهرة في التوصّلي ، فكان عليه بعد الإغماض عن خروج المباحات والمكروهات والمستحبّات تقييد الموسّع بالعبادي.

وأيضا من مواضع جريان هذا النزاع ما إذا كان المأمور به مضيّقا عينيا كالصوم - مثلا - والضدّ مضيّقا تخييريّا كما سنبيّنه ، ومن المعلوم خروج هذا عن محلّ النزاع لو خصّص الضدّ بالواجب الموسّع.

ويدفع جميع هذه المناقشات جعل « الموسّع » في كلامه عبارة عمّا لا حرج ولا ضيق فيه مثل الضيق الذي في المأمور به ، لا المصطلح عليه عند الاصولي ، لأنّ الموسّع بهذا المعنى يشمل المباح في مقابل المضيّق بل الموسّع أيضا. لكن يلزم حينئذ أن يقال بفساد جميع المستحبّات في حقّ من عليه واجب موسّع - كصلاة الرخصة - لأنّ المستحبّ سواء كان موسّعا أو مضيّقا في مقابل الواجب ، ولو كان موسّعا يصدق عليه أنّه « موسّع زاحم المضيّق » فيلزم أن يتوجّه النهي إلى المستحبّ فيفسد. ولكنّه سهل بعد ما عرفت آنفا من أنّ النهي المتولّد من الأمر الموسّع ليس منشأ لشيء من آثار التحريم ؛ لأنّه نهي تخييري مرجعه إلى أنّه إن شاء يفعل وإن شاء يترك إلى أن ينتهي الأمر إلى الضيق المقتضي للنهي العيني المقتضي للفساد.

ص: 540

ثمّ إنّ جهات الضيق والتوسعة (1) - على المعنى الذي فسّرناهما به ( وهو الحقّ ) من كون الأوّل عبارة عن مطلق الحرج والثاني عبارة عن خلافه - يختلفان باختلاف الجهات والاعتبارات.

فمن وجوه الضيق والتوسعة : أن يكون زمان المأمور به مضيّقا وزمان الضدّ موسّعا. وهذا أظهر الوجوه وأشهرها ، ومثاله واضح.

ومنها : أن يكون المأمور به واجبا عينيّا مضيّقا بحسب الزمان - كالصوم مثلا - وكان الضدّ أيضا واجبا مضيّقا ولكن كان تخييريّا لا عينيّا ، مثل ما إذا كان على المكلّف كفّارة الخصال فورا وكان بعض أقسامها منافيا للصوم الذي فرض وجوبه عينيّا مضيّقا ، فإنّ الأمر بالصوم المزبور يقتضي النهي عن الضدّ المفروض وجوبه تخييريّا ، إذ يجب على المكلّف حينئذ اختيار الفرد الآخر الغير المنافي للصوم من أفراد الكفّارة. ومثل ما إذا وجب عليه السفر للزيارة بنذر مضيّقا وكان عليه إحدى الكفّارات على سبيل الضيق أيضا ، فإنّه يجب عليه اختيار غير الصوم من الكفّارة بناء على مضادته شرعا مع السفر ، فالأمر المضيّق يقتضي النهي عن المضيّق أيضا إذا اختلفا من حيث العينيّة والتخييريّة.

ومنها : أن يكون الضدّ مستحبّا ، فإنّ الأمر الوجوبي المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه المستحبّ ولو كان مضيّقا أيضا. وغير ذلك من الوجوه التي لا تخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ التفصيل الذي ذكره بقوله : « وقد يفصّل » ممّا لا غبار عليه ؛ لأنّا نقول أيضا : إنّه إذا تزاحم المضيّق والموسّع فالترجيح للأوّل مطلقا ، وإذا تزاحم المضيّقان فالحكم هو التخيير إن لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع.

ص: 541


1- في ( م ) و ( ط ) : في التوسعة.

ومن وجوه الأهميّة غالبا : كون أحدهما من حقوق الناس. ولكنّه ربما يكون الاهتمام في حقّ اللّه - كحفظ نفس الإمام وبيضة الإسلام (1) - أهمّ في نظر الشارع قطعا. والدليل على التخيير عند التساوي ، هو : أنّ الحكم بأخذ أحدهما معيّنا لا بدّ له من ترجيح ، وإلاّ لكان تحكّما وترجيحا بلا مرجّح ، والمفروض مساواتهما في الرجحان. وليس هذا التزام تخصيص في دليل أحدهما ، لأنّا نعلم قطعا ببقاء إطلاق الأمر فيهما معا ، ولكن الذي يدعونا إلى ترك أحدهما تخييرا هو تعذّر الامتثال بهما معا ، فكان العقل لمّا رأى (2) مساواتهما في نظر الشارع والمصلحة الكامنة الموجبة للطلب ورأى (3) عدم إمكان الجمع بين الامتثالين ، حكم بمعذوريّة المكلّف في ترك الامتثال بأحدهما لا على التعيين ، فخروج أحدهما من تحت الطلب الفعلي إنّما هو من جهة وجود المانع الذي هو تعذّر الامتثال ، لا فقدان المقتضي ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد منهما واجد للمصلحة المقتضية للأمر حال المزاحمة نحو وجدانهما إيّاها في غير حال المزاحمة ، وإلاّ لخرج المقام عن مقام تعارض الواجبين المفروض وجوبهما معا في آن واحد ، ففرق إذا بين أن يكون الخروج من المطلوبيّة بسبب فقدان المقتضي مثل قوله : [ « أنقذ الغريق إلاّ زيدا الكافر » وبين أن يكون الخروج باعتبار وجود المانع عن الامتثال مع وجود المقتضي مثل قوله ](4) : « أنقذ الغريق » الشامل لزيد وعمرو إذا فرض توقّف إنقاذ أحدهما على عدم إنقاذ الآخر ، فإنّ خروج أحدهما الكلّي من تحت الطلب الفعلي ليس باعتبار فقدان مقتضى الوجوب في أحد الإنقاذين ، بل باعتبار وجود المانع الذي هو تعذّر الامتثال.

ص: 542


1- في ( ع ) : زيادة : إذا زاحمه أداء الدين ، فإنّ الأوّلين.
2- في ( ع ) و ( ط ) : فكان الفعل لما كان.
3- في ( ع ) و ( ط ) : وراء.
4- من هامش مصحّحة ( ع ).

ولقد أغرب بعض الأفاضل (1) في المقام - على ما نقل - حيث جعل المرجّح في المقام ملاحظة أدلّة الواجبين حتّى خصّص عنوان البحث في هذه المسألة ، فقال : إنّ الأمر بالشيء إنّما يقتضي النهي عن الضدّ إذا كان دليل ذلك الأمر قطعيّا - كالإجماع والضرورة - ودليل وجوب الضدّ ظنّيا ، فإنّه لو كان الدليلان كلاهما قطعيّين فذاك فرض محال ، لأن الأمر بالضدّين في آن واحد ممتنع نحو امتناع اجتماعهما. وإن كان عكس الأوّل - بأن كان دليل الواجب ظنّيا ودليل الضدّ قطعيّا - فلا يقتضي الأمر الظنّي النهي عن الواجب القطعي الذي هو الضدّ. وإن كان دليل الواجب ودليل الضدّ كلاهما ظنّيين فيرجع إلى الترجيح ويؤخذ بالراجح ، فلا وجه لجعل أحدهما حينئذ ولو كان مضيّقا مقتضيا للنهي عن الآخر ولو كان موسّعا ، لاحتمال أن يكون الرجحان في طرف الموسّع.

ووجه غرابة هذا الكلام :

أوّلا : أنّ باب تزاحم الواجبين والحقّين باب آخر غير باب تعارض الأدلّة المطلوب فيها ملاحظة حيثيّة القوّة والضعف ؛ لأنّ الواجبين إنّما يكونان فردين من كلّي واحد ، كإنقاذ الغريقين الموقوف إنقاذ كلّ منهما على ترك إنقاذ الآخر. وهذا وإن كان ليس من موارد بحثنا في هذه المسألة ، ضرورة كونهما متساويين في الضيق والتوسعة حينئذ وكون الغرض الأصلي للاصولي متعلّقا بمزاحمة المضيّق والموسّع المقتضية للمغايرة بين الواجبين نوعا ودليلا ، إلاّ أنّه لا يبحث في هذه المسألة إلاّ عن حال الواجبين اللذين يبحث عنهما في تزاحم الحقوق من حيث كون العمل بكلّ من الدليلين مقطوعا به ولو كان أصل الدليل (2) ظنّيا ، وحينئذ

ص: 543


1- لم نقف عليه.
2- في ( م ) : « الدليلين ».

فلو كان دليل الواجب في كمال الضعف بالنسبة إلى فعل الضدّ كان كما لو تساويا في القوّة والاعتبار. وهذا واضح.

وثانيا : أنّ الغرض في عنوان هذه المسألة معرفة التنافي والمضادّة بين الأمر بالمضيّق والأمر بالموسّع ، فلا بدّ أوّلا من معرفة منافاتهما ثمّ الرجوع إلى الأدلّة في مقام العلاج بطرح ما كان دليله ظنّيا ، إلاّ أن يجعل الفرق بين القطعي والظنّي رفعا للمنافاة في صورة التساوي مثلا ، بأن يقال : إنّهما إذا كانا ظنّيين - مثلا - فلا يقتضي الأمر بالمضيّق منهما للنهي عن الموسّع ، أعني أنّه لا منافاة بينهما ، لأنّ المنافاة وعدمها لا يختلفان باتّفاق الدليلين في الاعتبار والقوّة واختلافهما ، فإن كان بين الأمر المضيّق والموسّع مضادّة فسواء كان دليلاهما قطعيّين أو ظنّيين أو مختلفين فهي ثابتة بينهما ، وإلاّ فلا وجه لملاحظة حال الدليلين في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ ، بل هو كلام في غاية البعد من الصدور عن الأفاضل ، ولذا تجد الكتب خالية عنه.

وكيف كان ، فالدليل على تقديم الأهمّ من المضيّقين على الآخر تتبّع أحوال الشارع وحكم العقل بذلك وقاعدة الاشتغال السارية في جميع المقامات التي يدور الأمر فيها بين التخيير والتعيين.

ودعوى صاحب الوافية أنّ الحقّ هو التخيير (1) أيضا فاسدة جدّا بعد العلم الضروري بأنّه إذا دار الأمر بين حفظ نفس الإمام وحفظ غيره فالأوّل أهمّ عند الشارع المقدّس وأوجب. اللّهم إلاّ أن يكون مراده بالأهمّ ما هو راجح في نظر المكلّف لا في نظر الشارع ، فإنّ الرجحان الذي يراه المكلّف من دون استناده إلى ما يرجع إلى الشرع غير معتنى به جدّا ، فلا يحكم بالترجيح بل بالتخيير.

ص: 544


1- الوافية : 223.

وطريق معرفة الأهمّية : تتبّع كلمات الشارع والآثار المترتّبة من قبله على ترك الواجب أو فعل الحرام ، فإنّا إذا رأيناه قد حكم بفسق الكاذب وكفر قاتل النبي صلى اللّه عليه وآله علمنا أنّ حفظ نفسه الشريفة أهمّ في نظره المقدّس من الاجتناب عن الكذب. والظاهر أنّ الظنّ بالأهمّية كاف في الحكم بالتخيير ؛ لأنّ العقل وقاعدة الاشتغال أيضا ناهضان على الحكم بذلك ، بل لا يبعد الحكم بالتعيين بمجرّد احتمال الرجحان والأهمّية ولو لقاعدة الاشتغال المزبورة السليمة عن المعارض.

ثمّ المرجّح فعلا يقتضي وجوب الترجيح بل استحبابه ، ومنه ما لو دار الأمر بين الاجتناب عن سبّ الإمام - عليه آلاف التحية والسّلام - وحفظ نفس آدميّ ، فإنّه مقام التخيير بين الأمرين على ما عزي (1) إلى أصحابنا - رضوان اللّه عليهم - مع استحباب مراعاة حفظ النفس ، سيّما في حق قدوة الناس ورئيسهم. ولا يتوهّم المنافاة بين قولنا بالترجيح الاستحبابي وقولنا المقدّم : من الحكم بالترجيح عند احتمال الرجحان ، لأنّ الفرق بين احتمال وجود الرجحان الملزم وبين القطع بعدمه ولوجود الرجحان الغير الملزم ما بين الأرض والسماء. وأمّا إنكار حسن الترجيح واستحبابه رأسا فممّا لا يصغى إليه لمكاذبته للوجدان والتتبّع.

ص: 545


1- لم نعثر عليه.

المقدّمة الثالثة : في معرفة المراد من « الشيء » و « النهي » المشتمل عليهما عنوان البحث

أمّا الأوّل ، فلعلّ الظاهر منه الشيء الوجودي ، ويمكن أن يراد به ما يعمّ التروك أيضا ، فيدخل فيه مثل « اترك الزنا » وعليه يتّجه القول بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ؛ لأنّ النهي عن ترك ترك (1) الزنا عبارة اخرى عن النهي عن فعله جدّا. كما يتّجه القول حينئذ بأنّ المراد بالنهي الذي يقتضيه الأمر بالشيء ما يعمّ الأصلي والتبعي ؛ لأنّ هذا النهي المستفاد من الأمر بالترك ليس إلاّ أصليّا ، كما أنّ النهي المتعلّق بالأضداد الخاصّة على القول بأنّ الأمر بها عين النهي عن أضدادها - حتّى أنّ الأمر بالسكون عبارة اخرى من النهي عن الحركة - يكون أيضا أصليّا ، فاتّضح المراد من النهي بأنّه يعمّ الأصلي والتبعي معا ، فمن خصّصه بالتبعي أو بالأصلي فقد سها.

ولعلّ ما أوقع المخصّص بالأصلي - كالقمّي طاب ثراه (2) - في خياله هذا ما رآه في كلمات الأصحاب في ذكر الثمرات : من بطلان الضدّ المصادم لوقت المأمور به كالصلاة الواقعة في وقت الإزالة ، فإنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير كون النهي المتعلّق بالضدّ أصليّا ، إذ النواهي التبعيّة لا تقتضي الفساد خصوصا في المعاملات ، فحيث حكموا ببطلان الضدّ على القول بالاقتضاء علم أنّ النهي المتنازع فيه هو النهي الأصلي عندهم.

ص: 546


1- في ( م ) و ( ط ) : تركه بترك.
2- القوانين 1 : 114.

ومن هنا ينقدح وجه كون الوجوب المتنازع فيه في بحث مقدّمة الواجب هو الوجوب الأصلي النفسي عنده رحمه اللّه كما تقدّم ؛ لأنّ حرمة الضدّ بزعمه إنّما تثبت من جهة المقدّميّة ، وإذ قد ثبت كون الحرمة هذه حرمة نفسيّة حاصلة من النهي النفسي الأصلي ثبت (1) أنّ الوجوب المتنازع فيه في بحث مقدّمة الواجب أصليّ شرعي.

والتحقيق عندنا - كما مرّ في ذلك المبحث - أنّ وجوب المقدّمة وجوب تبعيّ لا أصليّ ، وعلى هذا يلزم التعميم في النهي المتنازع فيه هنا ؛ لأنّ الحقّ الموافق للتحقيق والمشهور أيضا أنّ النهي المتعلّق بالأضداد الخاصّة - على القول به - ليس من جهة العينيّة ، بل من جهة الاستلزام أو المقدّميّة ، فلو خصّصناه بالنهي الأصلي فكيف ينطبق هذا على القول (2)؟

وأمّا ما ذكر : من أنّ حكمهم بفساد الضدّ يدلّ على كون النهي المتنازع فيه نفسيّا ، ففيه : أنّ منشأ الفساد إنّما هي المبغوضيّة ، والنهي إنّما يقتضي الفساد من جهة كشفه عنها ، والمبغوضيّة ليست من خصائص النهي الأصلي ، إذ قد يجتمع مع النهي التبعي أيضا ولو كانت المبغوضيّة أيضا تبعيّة ، وقد لا يجتمع مع النهي الأصلي ، إذ قد يكون النهي الأصلي غيريّا ، وقد تقدّم في مقدّمة الواجب أنّ الأوامر الغيريّة غير واجدة للمصالح أصلا إلاّ الوصلة إلى الغير فكذا النواهي ، فتدبّر جيّدا.

ص: 547


1- في ( ع ) بدل « ثبت » : ظهر.
2- في مصحّحة ( ع ) : هذا مع هذا.

المقدّمة الرابعة : في الضدّ

ومعناه لغة : المنافي والمعاند مطلقا (1) ، وفي اصطلاح أهل المعقول : أمر وجوديّ لا يجتمع مع وجوديّ آخر في محلّ واحد في زمان واحد (2) ، فالمتناقضان يندرجان تحت الضدّ اللغوي دون الاصطلاحي ، لأنّهما ليسا أمرين وجوديّين ، بل أحدهما وجودي والآخر عدمي.

ويعتبر في التضادّ مضافا إلى ما ذكر جواز تواردهما على محلّ واحد ، فيخرج نحو السواد والعلم ، فإنّهما وإن لم يجتمعا في محلّ واحد لكن ليسا ممّا يتواردان على محلّ واحد ، لأنّ محلّ كلّ واحد منهما مغاير لمحلّ الآخر ، فإنّ محلّ العلم القلب ومحلّ السواد الجسم. وبعبارة اخرى : يشترط أن يكون المنافاة راجعة إلى المتضادّين بحيث لا يجتمعان على محلّ واحد قابل لورود كلّ واحد منهما ذاتا ، فما ليس كذلك لا يكون من التضادّ في شيء ، مثل العلم والسواد.

إذا عرفت ذلك فقد اطلق لفظ « الضدّ » هنا على امور :

منها : كلّ واحد من الامور الوجوديّة المنافية للمأمور به ، مثل الأكل ، والشرب ، والمشي بالنسبة إلى الصلاة ، وهي بالنسبة إلى الإزالة. ولا شك في إطلاق الضدّ عليها حقيقة بكلا المعنيين. نعم ، ربما (3) يكون بعض الأفعال الوجوديّة من

ص: 548


1- كما في القاموس 1 : 309 ، والمصباح المنير : 359 ، ومجمع البحرين 3 : 90.
2- كشف المراد : 107 - 108.
3- في ( ع ) و ( ط ) : إنّما.

الموانع والنواقض بالنسبة إلى الآخر ، كمبطلات الصلاة ونواقض الطهارة وروافع الأحداث وموانع العقد ونحو ذلك. وإطلاق الضد على هذه الامور لا يخلو عن إشكال ومسامحة ، لأنّ نسبة كلّ واحد من الضدّين مثل نسبة الآخر إليه ، والأمر فيها ليس كذلك ، إذ المانع علّة لعدم الممنوع دون العكس ؛ مضافا إلى إشكال تصوير تواردهما على محلّ واحد ، فليتدبّر جدّا.

ومنها : أحد الأفعال الوجوديّة المنافية للمأمور به ، ويسمّونه ب- « الضدّ العامّ » ، وإطلاق الضدّ عليه أيضا خال عن حزازة ، بل هذا في الحقيقة راجع إلى الأوّل.

ومنها : الترك ، ويسمّونه ب- « الضدّ العامّ » أيضا ، وهذا أشهر وأصحّ. وإطلاق الضدّ عليه لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ الترك أمر عدميّ والمأخوذ في الضدّ المصطلح أن يكون أمرا وجوديّا كما مرّ ، فهو نقيض للفعل لا ضدّ له ، ولو جعل الترك عبارة عن اختيار العدم لكان وجها ، لأنّ هذا الاختيار أمر وجوديّ مضادّ للفعل الذي هو عبارة عن اختيار الوجود. وعلى هذا يتصوّر الواسطة بين الفعل والترك ، وهي ما إذا ترك الفعل لا عن اختيار ، فإنّه ليس من الترك المفسّر باختيار العدم. ولا يرد أنّ هذا النحو من الترك أيضا نقيض للفعل ، لأنّ نقيض الوجود العدم ، والعدم قد يكون مسبوقا بالاختيار وقد لا يكون كذلك ، فالأوّل أيضا فرد من أفراد مطلق العدم الذي هو نقيض للوجود وفرد النقيض نقيض ، لأنّ الاختيار أمر وجوديّ لا يجوز جعله فردا من العدم المطلق الذي هو نقيض للوجود ، وكون المختار هو العدم لا يجعل نفس الاختيار عدميّا. وعلى أيّ حال فإن فسّرنا الترك بنفس « لا يوجد » كان نقيضا للفعل جدّا ، وإن فسّرنا باختيار عدم الإيجاد أمكن جعله من الضدّ المصطلح.

قيل : ولقد استراح من جعل الترك بمعنى الكفّ ؛ لكونه من الامور الوجوديّة التي لا تجتمع مع الفعل أبدا في محلّ واحد (1).

ص: 549


1- راجع الفصول : 91.

واعترض عليه : بأنّهما وإن لم يجتمعا في محلّ واحد ، ولكنّهما ليسا من المتضادّين المتواردين على محلّ واحد ، بل هما من قبيل العلم والسواد الذي قد عرفت خروجهما عن الحدّ بقيد التوارد ، لأنّ محلّ الكفّ هو النفس ومحلّ الفعل هو الجوارح.

وفي كلّ من الكلامين نظر.

أمّا في كلام المستريح : فلأنّ الترك الذي كلامنا فيه هو الذي أخذ منعه فصلا للوجوب في قولهم : « الوجوب طلب الشيء مع المنع من الترك » إذ المراد بالضدّ العامّ هو ترك المأمور به الذي منع منه بمجرّد إيجاب المأمور به ، ولم يظهر من القائلين بكون المطلوب من النهي هو الكفّ وأنّ معنى الترك المطلوب من النهي عبارة عن طلب الكفّ أنّ مادّة الترك التي يدخلها النهي مثل قولك : « لا تترك الصلاة » التي قد اعتبر المنع منها قيدا وفصلا للوجوب أيضا عبارة عن الكفّ. كيف! والذي دعاهم إلى إرجاع الترك المطلوب من صيغة النهي إلى الكفّ أنّ مجرّد الترك أمر عدميّ لا يجوز تعلّق الطلب عليه وجودا وعدما ، وهذا غير موجود في المقام ؛ إذ المطلوب من قولنا : « لا تترك الصلاة » المتولّد من قوله : « صلّ » هو بعينه طلب فعل الصلاة ، فلو فسّرنا قوله : « لا تترك الصلاة » بقولنا : « كفّ عن ترك الصلاة » فهذا يكفي في جعل المطلوب من النهي أمرا مقدورا ، ولا حاجة إلى تفسيره بقولك : « كفّ عن الكفّ عن الصلاة » بل لعلّ هذا من المستهجنات التي لا أظنّ قائلا بها.

ودعوى أنّ التروك سواء كانت مداليل الهيئة أو المادّة امور غير مقدورة ، فإنّ دليلهم المزبور على إرجاع مدلول النهي إلى الكفّ ، فلا يتفاوت فيه مدلول المادّة أو الهيئة حتّى أنّه يلزم على هذا التقدير أن يكون المراد من « اترك الزنا » كفّ عن الزنا - وهكذا سائر المقام [ آت ] - واضحة الفساد بما عرفت : من عدم تماميّة

ص: 550

دليلهم المزبور في المقام وإن كان تماما في مثل « اترك الزنا » ؛ لأنّ الترك المنهيّ عنه في المقام أمر انتزع عن طلب الفعل ، فلا حاجة إلى إرجاعه إلى الكفّ بعد كون المراد من النهي عنه بعينه طلب فعل المأمور به.

وأمّا ما يقال : من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل فلا بدّ من كون المراد بقولنا : « لا تترك الصلاة » الحاصل من قوله : « صلّ » كفّ عن الكفّ وإلاّ لكان الذمّ على غير الفعل ، فهو أيضا أجنبيّ عن المقام ؛ لأنّه يكفي في تصحيح الذمّ هنا جعله مترتّبا على الكفّ عن الصلاة ، فلا حاجة إلى أن يفسّر « لا تترك الصلاة » بالكفّ عن الكفّ (1).

وكيف كان فلا وقع عند المتأمّل الفطن لكلام المستريح ، بل ولا أظنّ أحدا من القائلين بأنّ المطلوب من النهي هو الكفّ أن يقول بأن المراد بالترك المنهيّ عنه في المقام هو الكفّ ، فإنّ كلّ واحد من المقامين بمراحل عن الآخر. وهذا خلط فاحش وخبط بيّن ، فتفطّن.

وأمّا في كلام المعترض (2) : فلأنّ منع مضادّة الكفّ مع الفعل بدعوى تغاير المحلّ ممنوع ، لأنّ الحقّ أنّ محلّ الكفّ والفعل كليهما هو النفس وإن كان أثرهما ظاهرا في الجوارح ، لأنّ الفعل عبارة عن بعث النفس للجوارح والكفّ عن إمساكها ، والإمساك والبعث كلاهما حالان وفعلان للنفس ، وأثرهما إنّما يظهر في الأعضاء والجوارح ، فإنّ النفس إذا بعثت الجوارح على العمل حصل منه حركات مخصوصة في الجارحة من الأعضاء المخصوصة ، وإذا أمسكتها حصل منه القبض والسكون فيها. فإن جعلت الفعل عبارة عن نفس حاصل الأثر فقابله بأثر الإمساك الذي هو

ص: 551


1- في هامش ( ع ) زيادة ما يلي : وفيه : أنّه التزام بمقالة المستريح ، لأنّه لا يريد إلاّ جعل الضدّ العام الكف عن المأمور به.
2- عطف على قوله : « أمّا في كلام المستريح » في الصفحة السابقة.

الكفّ وهما متّحدا المحلّ جدّا ، وإن جعلت عبارة عن بعث النفس فقابله بنفس الإمساك على أيّ تقدير ، فالكفّ والفعل محلّهما واحد يمكن تواردهما على ذلك المحلّ. كيف! ولو كان محلاّهما مختلفين - كالعلم والسواد - لجاز اجتماعهما في محلّيهما نحو العلم والسواد ، والفعل والكفّ عنه أبدا لا يجتمعان في عالم الوجود.

كلّ ذلك فيما إذا أردنا جعل إطلاق الضدّ على الترك حقيقيّا. ولكنّ الظاهر أنّ هذا الإطلاق مجازيّ لعلاقة المجاورة ، لأنّ الأفعال الخارجيّة المقارنة لترك المأمور به لمّا كانت أضدادا حقيقيّة للمأمور به سمّي الترك بالضدّ مجازا. ووجه تسميته بالضدّ العام هو اجتماعه مع جميع الأضداد ، وذلك واضح.

ص: 552

المقدّمة الخامسة : في بيان المراد من « الاقتضاء » المتنازع فيه

والمراد به ما يعمّ العينيّة وإن كان الظاهر منه التضمّن والالتزام. يدلّ عليه كلام صاحب المعالم في الضدّ العام ، حيث قال : « إنّه لا نزاع من حيث أصل الاقتضاء وإنّما النزاع في كيفيّته وأنّه هل من باب العينيّة أو التضمّن أو الالتزام » (1) إذ الصريح منه أنّ الاقتضاء المتنازع فيه ما يعمّ العينيّة. ويدلّ عليه أيضا إمكان القول بالعينيّة في الضدّ العامّ ، كما سنذكر.

وربّما يتوهّم من بعض العناوين كقولهم : « إنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه » (2) اختصاص النزاع بالعينيّة ، ولكن المراد به أيضا الأعمّ.

ثمّ الفرق بين العينيّة والدلالة المطابقة يظهر بالتأمّل في الفرق بين الاثنين ونصف الأربعة وبين دلالة لفظ الاثنين على معناه ، فإنّ الثاني على سبيل المطابقة والأوّل - يعني اتّحاد الاثنين ونصف الأربعة - من باب العينيّة. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

ص: 553


1- المعالم : 63 - 64.
2- العدة : 196 ، ونهاية الوصول : 96 ، والمعتمد 1 : 97.

[ الأقوال في المسألة ]

اشارة

[ الأقوال في المسألة ](1)

إذا تمهّدت المقدّمات ، فالأقوال في الضدّ العام خمسة :

أحدها : نفي الاقتضاء رأسا ، وهذا صريح العضدي (2) والحاجبي (3) والمنسوب إلى العميدي (4) وجمهور المعتزلة (5) وكثير من الأشاعرة (6). ودعوى بعض - كصاحب المعالم (7) - أنّه لا خلاف في الضدّ العام في أصل الاقتضاء بل في كيفيّته - كما تقدّم - لا أصل لها.

وثانيها : الاقتضاء على وجه العينيّة ، على معنى أنّ الأمر بالشيء والنهي عن تركه عنوانان متّحدان ممتازان بحسب المفهوم.

وثالثها : الاقتضاء على وجه التضمّن.

ورابعها وخامسها : الالتزام اللفظي والعقلي.

ولا إشكال في تصوّر العينيّة والتضمّن. وأمّا تصوّر الالتزام فيتمّ بدعوى عدم كون المنع من الترك جزءا من ماهيّة الوجوب ، بجعله عبارة عن مجرّد طلب الفعل على جهة الالتزام الذي هو في المرتبة العليا من الطلب وتحته الطلب الندبي الذي لا إلزام فيه. ولا بعد فيه ، بل إنّما البعد في كون الوجوب مركّبا عن طلب الفعل والمنع من

ص: 554


1- العنوان منّا.
2- راجع شرح مختصر الاصول : 199.
3- راجع شرح مختصر الاصول : 199.
4- نسبه إليه الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين 2 : 200 ، وراجع منية اللبيب : 125.
5- نسب إليهم في الإحكام للآمدي 2 : 191 ، والمستصفى 1 : 81 ، والمعتمد 1 : 97.
6- انظر نهاية الوصول : 96 ، ومنية اللبيب : 125.
7- المعالم : 62.

الترك ، لأنّ ذلك يستلزم تركّب كلّ واحد من الأحكام الخمسة من الحكمين ، لأنّ الوجوب حينئذ يتضمّن النهي عن الترك الذي يقتضي التحريم ، والتحريم نهي عن الفعل ويتضمّن إيجاب الترك ، والإباحة مركّبة من الإذن في الفعل والإذن في الترك ، فيكون الإباحة مركّبة من الإذنين والإباحتين ... وهكذا.

وما يقال : من أنّ الوجوب طلب فعل مع المنع من الترك ، فلا يراد به الترك ، بل إنّما يراد به أنّ الوجوب مرتّبة من الطلب لو التفت الآمر إلى الترك لم يكن راضيا به ، بخلاف الاستحباب ، فإنّ فيه من الطلب ما لو التفت إلى الترك لكان راضيا به ، فعدم الرضا بالترك من اللوازم الغير البيّنة للوجوب ، لا جزئه ولا عينه.

ومن هنا ظهر دليل القول بعدم الاقتضاء رأسا ، كما ذهب إليه الحاجبي والعضدي وغيرهما ، لأنّ لهم دعوى عدم كون هذا النحو من المنع التعليقي نهيا ، نحو دعوى النافين لوجوب المقدّمة لعدم كون الإرادة الإجماليّة التي أثبتنا للمقدّمات بحكم العقل والوجدان وجوبا.

والحاصل : أنّ القول بأنّ الأحكام الخمسة بسيطة لا تركّب فيها - فإنّ الوجوب والاستحباب عبارتان عن المرتبتين من الطلب ليس إلاّ ، والحرمة والكراهة عبارتان عن المرتبتين من النهي والمبغوضيّة ليس إلاّ ، والإباحة عبارة عن رخصة بسيطة في الفعل - ليس ببعيد عن الصواب. وعلى هذا اتّجه تصوير القول بالاقتضاء على وجه الالتزام ، كما يتّجه نفي الاقتضاء رأسا.

وفي الضدّ الخاصّ أربعة ، إذ لم نجد ولا حكي عن أحد القول بالتضمّن ، وإن كان القول به ليس بأبعد من القول بالعينيّة وأنّ معنى « حرّك » (1) عين قوله : « لا تسكن » و « صلّ » عين قوله : « لا تمش » الذي يظهر من بعض العامّة.

ص: 555


1- كذا ، والمناسب : « تحرّك ».

وفي الضدّ الخاصّ قول آخر للبهائي رحمه اللّه ، وهو : أنّ الأمر بالشيء لو قيل : « إنّه يقتضي عدم الأمر بالضدّ » مكان « النهي عنه » لكان أولى (1).

والذي دعاه إلى هذا : أنّ الثمرة المترتّبة على النهي من فساد العبادة الموسّعة الواقعة في وقت المضيّق على هذا القول أوضح ، إذ ربّما أمكن دعوى الصحّة مع (2) النهي كما يجيء في الاستدلال ، ولا يمكن دعواها مع عدم الأمر. مضافا إلى أنّ اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بالضدّ أقرب في الاعتبار والاستدلال من اقتضائه النهي عنه.

وهذا القول في بادئ النظر يخالف القول باقتضائه النهي عن الضدّ ، ولكنّ التحقيق أنّ هذا القول إن لم يرجع إلى القول المشهور ففي غاية البعد من التحقيق.

بيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ المصحّح للامتثال في العبادات على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد إنّما هو تعلّق الأمر بعنوان وأفراد مقدّرة مندرجة تحته على نحو صدق الكلّي على الفرد ، ولا حاجة إلى تعلّق الأمر بخصوص ما يأتي به المكلّف من تلك الأفراد ، بل يكفي في صحّته اندراجه تحت ذلك الكلّي المأمور به. فلو ورد أمر بعتق رقبة أو إتيان رجل فذلك الأمر المتعلّق بكلّيّ العتق يقتضي الإجزاء والصحة في الفرد الذي يأتي به المكلّف في مقام الامتثال من غير أن يكون بذلك الفرد بخصوصه أمر بخصوصه ، بل معنى كونه مأمورا به كون الكلّي الذي هو فرده مأمورا به ، فيكون احتياج أفراد العبادات إلى الأوامر احتياج كلّيّاتها إليه ، ثمّ عدم ورود تخصيص يوجب خروجه عن ذلك الكلّي نحو الصفة بحال متعلّق الموصوف.

ص: 556


1- زبدة الاصول : 82.
2- في ( م ) زيادة : إمكان.

وحينئذ فعدم صحّة بعض الأفراد - بمعنى عدم كونه مجزئا في مقام الامتثال بذلك الكلّي - لا بدّ وأن يكون ناشئا من منع المولى من الإتيان به في ذاك الفرد ، إذ لا حاجة لذلك الفرد من حيث كونه مجزئا مسقطا عن التكليف بذلك الكلّي إلى الإذن من المولى والأمر به ، وإلاّ لكان أفراد الماهيّة الواحدة التي يتعلّق بها أمر عيني واجبات عينيّة ، ضرورة عدم معقوليّة التفكيك بين الأمر المتعلّق بالكلّي والأوامر المتعلّقة بالأفراد من حيث العينيّة والسنخيّة بعد فرض سريان أمر ذلك الكلّي إلى الأفراد الواجد كلّ واحد منها للكلّي بتمامه ، فحيث ما نحكم ببطلان بعض الأفراد فلا بدّ لنا في ذلك من الاستناد إلى المنع في مقام الامتثال ، وإلاّ فيكفي في الحكم بالصحّة أمران : تعلّق الأمر الشرعي بكلّي ذلك الفرد ، واندراجه تحت ذلك ، من غير الاحتياج إلى أمر المولى بخصوص ذلك الفرد.

إذا تحقّق ذلك فظهر فساد قول البهائي ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في الأضداد الموسّعة للمأمور به ، ولا ريب في أنّ الواجبات الموسّعة كلّيّات بحسب الأزمان ذات أفراد كثيرة ، فالحكم بفساد بعض أفرادها المصادم لزمان المأمور به المضيّق لا بدّ أن يستند إلى المنع والنهي. فلو قيل بأنّ الأمر بالمضيّق يقتضي المنع والنهي من الفرد من (1) الموسّع الواقع في وقته ، اتّجه الحكم بالفساد كما يقول به المشهور ، وإلاّ فمجرّد عدم كونه مأمورا به لا يحكم بفساده ، كيف! وليس شيء من الأفراد بمأمور به ومأذون فيه غير الإذن العقلي الذي ينشأ عن انطباق الكلّي المأمور به عليها ، سواء وقعت في وقت واجب مضيّق أم لا ، فلو كان الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضدّ فلا فائدة في القول بأنّه يقتضي عدم الأمر به بعد أن كان مقطوعا به مع قطع النظر عن ذلك الأمر المضيّق.

ص: 557


1- لم يرد « من » في ( ع ).

نعم ، يتمّ كلام البهائي بعد ثبوت أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون الأمر المضيّق بمنزلة التخصيص أو التقييد اللفظي لعنوان الضدّ الموسّع بغير الفرد الذي وقع في زمان ذلك المضيّق ، على أن يكون وجوب الإزالة فورا بمنزلة الاستثناء من قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1) حتّى يصير بمنزلة قولك : « إلاّ الزمان الذي فرض فيه شيء فورا » كالإزالة ، فإنّه لو تمّ أنّ الأمر المضيّق يوجب مثل هذا التخصيص في عنوان الضدّ لتمّ قوله بأنّ عدم الأمر يكفي في الفساد ؛ لأنّ الفرد الواقع وقت الإزالة حينئذ لم يكن أوّلا داخلا تحت المراد من « أقم الصلاة » ، فلم يكن الأمر المتعلّق بالصلاة كافيا في حجّيّة هذا الفرد الخارج أوّلا من غير الاحتياج إلى المنع والنهي. ولكن أنّى له بإثبات مثل هذا! إذ كلّ أحد يعلم أنّ الأمر بالشيء لو اقتضى النهي أو عدم الأمر فإنّما يقتضيهما من حكم العقل واستحالة التكليف بالأمرين في وقت وتقديم المضيّق ، والاستحالة هذه لا تقتضي التخصيص والتقييد في عنوان الصلاة بحسب المراد ، بل إنّما يقتضي المنع العقلي الذي هو في حكم المنع الشرعي عن الإتيان بغير الواجب الفوري من الصلاة وغيرها.

وثانيهما : أن يكون التخيير في أفراد الموسّع بحسب الوقت تخييرا شرعيّا مثل التخيير في الواجبات التخييريّة ، فإنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر دون النهي ، يفيد حينئذ مفاد القول بأنّه يقتضي النهي ؛ لأنّ الأفراد حينئذ قد امر بها شرعا بخصوصها ، فمتى قلنا : إنّ الأمر المضيّق يوجب خروجها عن صفة المأمور به ، اتّجه الحكم بالبطلان من دون أن يكون هناك نهي.

ص: 558


1- الإسراء : 78.

ولكن التحقيق عندنا : أنّ التخيير في الواجبات الموسّعة بحسب الأوقات تخيير (1) عقلي نحو التخيير بين أفراد الكلّي المأمور به ، لا تخيير شرعي كالتخيير في الواجبات التخييريّة. هذه هي الأقوال في المسألة.

وأمّا ثمرة هذا النزاع : فلا بأس بأن نشير إليها قبل الشروع في ذكر الأدلّة.

منها : ترتّب العقاب على فعل الضدّ وعدمه. والأولى تبديل « العقاب » ب- « العصيان » لأنّ ترتّب العقاب في النواهي الغيريّة غير معلوم ، بل إنّما المعلوم خلافه ، كما مرّ تحقيقه في الواجب الغيري. وأيضا « العقاب » أمر اخروي راجع أمره إلى اللّه تعالى ، فلا فائدة في جعله أثرا في شيء من المسائل ، بخلاف « العصيان » فإنّه لا يتفاوت فيه بين النفسي والغيري والأصلي والتبعي من الأوامر والنواهي. وله آثار شرعيّة أيضا إذا كان الضدّ من الامور التي توجب العصيان فيه حكما من الأحكام كالسفر ، بل ربما يوجب الفسق لو قيل بأنّ العصيان هذا من موانع العدالة ، وإن كان الحقّ خلافه.

ومنها : فساد العبادة الواقعة في وقت المأمور به على القول بالاقتضاء. والظاهر أنّ هذه الثمرة من المسلّمات بين أكثر الأصحاب سيّما القدماء منهم ، كما يظهر من تتبّع كلماتهم وفتاويهم في أبواب الفقه ، كما في باب قضاء الصلاة ، فإنّ كثيرا من القدماء - كالشيخين (2) والسيّدين (3) والقاضي (4) والحلّي (5) والآبي (6) على ما حكي

ص: 559


1- في ( ط ) و ( م ) بدل « تخيير » : غير.
2- المقنعة : 143 ، 211 ، والمبسوط 1 : 126 - 127.
3- رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : 38 ، والغنية : 98 - 99.
4- المهذّب 1 : 126.
5- السرائر 1 : 272.
6- كشف الرموز 1 : 209.

عنهم وعن غيرهم (1) - ذهبوا إلى فوريّة القضاء وفساد الحاضرة قبل الإتيان بالفائتة مستندين إلى أخبار دالّة على وجوب المسارعة إلى الفائتة (2) ، ولم يعترض عليهم أحد من المتأخّرين القائلين بعدم الفساد : بأنّ النهي عن الضدّ المتولّد من الأمر لا يقتضي الفساد ، بل أجابوا عنها بقدح الدلالة على الفوريّة أو بقدح السند.

فلذا قد صرّح المحقّق في محكيّ المعتبر بأنّ القول بالمضايقة يقتضي الحكم بتحريم جميع الأشياء ، قال فيما حكى عنه : إنّ القول بالمضايقة يلزم منه منع من عليه صلوات كثيرة أن يأكل شبعا وأن ينام زائدا على الضرورة ولا يتعيّش إلاّ لاكتساب قوت يومه له ولعياله وأنّه لو كان معه درهم ليومه حرم عليه الاكتساب ، والتزام ذلك مكابرة صرفة والتزام سوفسطائي. ولو قيل : قد أشار أبو الصلاح الحلبي إلى ذلك (3) ، قلنا نحن نعلم من المسلمين كافّة خلاف ما ذكره ، فإنّ أكثر الناس يكون عليهم صلوات كثيرة ، فإذا صلّى الإنسان شهرين يومه استكثره الناس (4) ، انتهى.

ويستكشف من كلامه هذا أنّه لا مناص من الحكم بفساد الحاضرة قبل الفائتة على القول بالمضايقة ، مع أنّ اقتضاء النهي المتولّد من الأمر المضيّق الفساد لو كان عندهم محلّ مناقشة لكان الإشارة إلى منع الفساد من أمتن الدليل على الصحّة. اللّهم إلاّ أن يكون نظرهم في خصوص حرمة الضدّ من الواجبات والمباحات ، لا في صحّته وفساده إذا كان من العبادة.

ص: 560


1- مثل ابن أبي عقيل والإسكافي ، كما حكى عنهما العلاّمة في المختلف 3 : 4.
2- راجع الوسائل 3 : 174 ، الباب 39 من أبواب المواقيت ، الحديث 1 و 2 و 4 و 16 والصفحة : 209 ، الباب 62 من الأبواب ، الحديث 2 و 5 والصفحة : 347 - 350 ، الباب 1 و 2 من أبواب قضاء الصلوات وغيرها.
3- انظر الكافي في الفقه : 150.
4- المعتبر 2 : 408 - 409.

وصرّح ابن إدريس - فيما حكي عنه - بالفساد مستدلاّ : بأنّ قبح ما يستلزم القبيح إجماعي (1). ويظهر أيضا من كلماتهم في باب الدين : أنّ النهي المتعلّق بالعبادات من وجوب الأداء فورا يقتضي الفساد (2) ، حتّى إنّ العلاّمة قد صرّح في محكيّ القواعد (3) : بفساد الصلاة في أوّل وقتها في حقّ من عليه الدين الواجب أداؤه فورا.

وبالجملة ، معظم الأصحاب خلفا عن سلف لا يناقشون في أمثال هذه المسائل في الكبرى ، يعني في كون النهي موجبا للفساد ، بل إنّما يناقشون في الصغرى ، المراد بها ثبوت فوريّة المأمور به.

نعم ، قد صدر من المحقّق الثاني في شرح القواعد (4) قول بصحّة العبادة ولو كان آثما في تقديمها على أداء الدين ، ثمّ تبعه بعض من متأخّري المتأخّرين كالشيخ الفقيه في كشف الغطاء (5) ، وتبعه تلميذه الأصبهاني الشيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم (6) مع زيادة تحقيق منه في تصحيح ذلك ، ثمّ تبعهما أخوه الشيخ المحقّق صاحب الفصول (7) وغيره كصاحب القوانين (8) ونحوه.

ص: 561


1- السرائر 1 : 273.
2- منهم الحلّي في السرائر 2 : 33 ، والعلاّمة في التذكرة 13 : 13.
3- قواعد الأحكام 2 : 102.
4- جامع المقاصد 5 : 14.
5- يأتي كلامه في الصفحة الآتية.
6- هداية المسترشدين 2 : 269 وما بعدها.
7- الفصول : 95 - 97.
8- انظر القوانين 1 : 116.

قال في كشف الغطاء في البحث عن المقدّمات : انحصار المقدّمة في الحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية (1). ومراده أنّه إذا عصى بترك المأمور به المضيّق - مثلا - فأتى بالضدّ فلا ينافي ذلك صحّة ذلك الضدّ إذا كان من العبادات.

قال : وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه في حكم الجاهل بالقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من مقتضى الدخول تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء - أي اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه وعدم الفساد - أقرب إلى السداد (2) انتهى.

وقد ذكرنا هذه العبارة وغيرها في بحث مقدّمة الواجب وبيّنا فسادها وفساد ما قيل في توجيهها وتشييدها من كلمات الشيخ في الحاشية وأخيه في الفصول بيان مشبع (3) ، فلا نطيل بذكر ما فيها هنا ، بل نشير إجمالا إلى حاصل كلام الفاضل المحشّي ونجيب عنها ، وحاصل كلامه :

أنّ تصادم الأمرين المضيّقين من المستحيلات الأوّليّة ، ولكن مصادمة الأمر المضيّق والأمر الموسّع لا ضير فيها ، لأنّ مرجعه إلى وجوب الموسّع على تقدير العصيان في ترك المضيّق ووجوب المضيّق مطلقا ، وهذا لا عيب فيه ، لأنّه ليس من التكليف بالأمرين في آن واحد ، ولا من التسوية بين المضيّق والموسّع في الوجوب ، بل هو تقديم للمضيّق على الموسّع ثمّ بقاء وجوب الموسّع على تقدير العصيان بترك

ص: 562


1- كشف الغطاء 1 : 171.
2- نفس المصدر.
3- اشارة إلى ما كتبه هذا المقرّر في بحث مقدمة الواجب ولا يوجد لدينا.

المضيّق ، ولا استحالة في ذلك ، وإنّما الاستحالة في طلب شيئين في آن ، فلا بدّ من جعل الأمر فيها تخييريا عقليّا. هذا حاصل جميع كلماته تلويحا وتصريحا.

وأنت خبير : بأنّ هذا كرّ على ما فرّ ، لأنّا إذا قلنا ببقاء الأمر بالموسّع على تقدير العصيان بالمضيّق لزم أن يكون المكلّف حال إتيانه بالموسّع مكلّفا بإتيانه وبإتيان المضيّق أيضا ، لأن العصيان لا يوجب سقوط التكليف في ثاني زمان العصيان ، فيلزم اجتماع الأمرين في آن واحد ، وهو مستحيل باعترافه. هذا ، مضافا إلى استلزام القول بصحّة الموسّع على تقدير العصيان اجتماع الأمر والنهي - أي الوجوب والحرمة - في ترك المضيّق من جهة كونه محرّما ذاتا وواجبا من باب المقدّمة والوصلة إلى الموسّع ، وحاول الفاضل المحشّي المحيص عن هذا الإشكال ولم ينل مقصوده ، فإنّه باق كما كان. وقد أوردنا كلماته وفسادها في مبحث المقدّمة ، فارجع إليها (1).

وبالجملة ، لا ينبغي للمتأمّل المنصف التأمّل في الثمرة المزبورة وأنّ الضدّ على تقدير كونه من العبادات يكون فاسدا جدّا ، سواء قلنا بأنّ النهي هذا أصلي ونفسي أو قلنا بأنّه تبعي. ولا ينافي ذلك ما تقدّم منّا في مقدّمة الواجب : من أنّ الأمر الغيري لا يجعل الشيء عبادة ما لم يكن فيه رجحان ذاتي وأنّه لا يوجب صحّة العبادة ، قبالا لقول من جعل صحّة المقدّمة العباديّة وفسادها من الثمرات في وجوب المقدّمة وعدمه ؛ وذلك لأنّ الفرق بين الأمر والنهي واضح ، لأنّ النهي سواء كان غيريّا أو نفسيّا أصليّا أو تبعيّا فيه طلب ترك ، وطلب الترك لا يجتمع مع طلب الفعل ، فيكون باطلا بناء على اقتضاء النهي في العبادات الفساد ، بل يمكن الحكم بالفساد إذا كان من المعاملات أيضا بناء على اقتضاء النهي فيها أيضا الفساد.

ص: 563


1- إرجاع لما قرّره في مبحث المقدمة ولا يوجد لدينا. وراجع الصفحة 293 من هذا الكتاب.

وبالجملة ، هذه الثمرة على الظاهر لا إشكال فيها.

ثم إنّ الشيخ (1) قد أحسن في الالتفات إلى الإشكال في مسألة الجهل بالقصر والإتمام ونحوها ، كالجهل بالجهر والإخفاء ، ولكنّه ما أحسن في دفعه. ووجه الإشكال على ما تفطّن له الاستاذ ثمّ وجد تفطّن الشيخ به أيضا : أنّ ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة - بل الإجماع ظاهرا - أنّ الجاهل بوجوب القصر في السفر ، وبوجوب الجهر فيما وظيفته ذلك من الصلاة ، مكلّف نحو سائر مقامات الجهل بالتقصير الذي هو حكم اللّه الواقعي ، كما لعلّه إليه يرشد حكمهم بالمعذوريّة. ومع ذلك كيف يحكم بمعذوريّته مع تقصيره وبقاء الوقت ومع عدم إتيانه بالمأمور به؟

وهذا الإشكال ما اتّضح إلى الآن حقيقة رفعه على مذهب العدليّة من التخطئة دون التصويب.

فإن قيل : إنّ المراد بالمعذوريّة سقوط التكليف بما ليس بمأمور به عنه ، فهذا خلاف صريح الأخبار القاضية بأنّه قد تمّت صلاة من لا يدري بالجهل - مثلا - وأنّه أتى بالمأمور به.

وأمّا الجواب الذي أشار إليه الشيخ بالنظر ، وحاصله : أنّ الجاهل حالة جهله مأمور بالتعلّم وعلى تقدير العصيان به مأمور بما يعلم من الجهر أو الإخفات ، نظير مأموريّة الشخص بالصلاة على تقدير عصيانه بالإزالة ، كما ذكره وذكره أيضا جماعة. ففيه ما عرفت في غير موضع.

ومنها : - أي من الثمرات - حصول العصيان في الضدّ ، فيجري فيه الأحكام الثابتة للمعصية ، كما إذا كان الضدّ سفرا ، فإنّه إذا كان معصية يجب فيه إتمام الصلاة والصوم ، وقد أشرنا إليه آنفا.

ص: 564


1- أي كاشف الغطاء.

والحق أنّ ترتّب أحكام المعصية على مثل هذا العصيان الناشئ عن النهي المقدّمي مشكل ، كما أنّ صيرورتها سببا للفسق أشكل. واللّه العالم بحقائق الامور.

هذا أوان الشروع في ذكر أدلّة الأقوال :

حجّة القول بنفي الاقتضاء رأسا في الضدّ العامّ

ما قدّمت إليه الإشارة في تحرير الأقوال استطرادا ، وحاصله : أنّ الاقتضاء بأي وجه كان فرع ثبوت الملازمة بين طلب الشيء وطلب ترك تركه في نفس الطالب الآمر ، والملازمة ممنوعة بل منفيّة جدّا ، ضرورة غفلة الطالب للشيء كثيرا ما عن تركه فضلا عن أن يكون طالب ترك ذلك الترك ، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجه لدعوى الاقتضاء الذي يتوقّف على كون الآمر شاعرا للترك وناهيا عنه.

قال الحاجبي : لنا أنّه لو كان الأمر نهيا عن الضدّ أو تضمّنه لم يحصل بدون تعقّل الضدّ والكفّ عنه ، لأنّه مطلوب النهي ، ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما.

واعترض : بأنّ المراد الضدّ العامّ ، وتعقّله حاصل ؛ لأنّه لو كان ذاهلا منه لم يطلبه.

واجيب : بأنّ طلبه في المستقبل ، ولو سلّم فالكفّ واضح.

وقال الشارح العضدي في توضيحه ما لفظه : هذا ، واعترض عليه : بأنّ المراد بالضدّ هو الضدّ العامّ ، لا الأضداد الجزئيّة ، والذي يذهل عنه هو الثاني لا الأوّل ، لأنّ تعقّله حاصل ، ضرورة أنّ المأمور لو كان عازما على الفعل ومتلبّسا به لم يطلب الآمر منه ، لأنّه طلب الحاصل ، فإذن إنّما يطلبه إذا علم أنّه متلبّس بضدّه لا به ، وأنّه يستلزم تعقّل ضدّه.

ص: 565

الجواب : أنّه يطلب منه الفعل في المستقبل ، فلا يمنع الالتباس به في الحال ، فيطلب منه أن يوجده في ثاني الحال كما يوجده في الحال ، ولو سلّم فالكفّ واضح يعلم بالمشاهدة ، ولا حاجة في العلم به إلى العلم بفعل الضدّ وإنّما يلزم النهي عن الكفّ ، وذلك واضح ولا نزاع لنا فيه ، فلا يصلح موردا للنزاع والاحتجاج (1) ، انتهى.

والظاهر أنّ مرادهما ما ذكرنا ، إلاّ أنّ ظاهرهما تسليم الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الضدّ العامّ في الأمر بالمجمل ، ونحن إنّما نمنع عنها في ذلك أيضا.

ثمّ إنّه يظهر من قولهما : « ولو سلّم » أنّ الأمر إنّما يقتضي النهي عن الكفّ ، وهو ليس من الضدّ العامّ ولا من الخاصّ ، وأنّه خارج عن محل النزاع. ومن هنا احتمل أن يكون مرادهما من الضدّ العامّ أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، كما يشعر به قول العضدي في تقرير الاعتراض : « إنّما يطلبه إذا علم أنه متلبّس بضدّه » وقوله في الجواب : « ولا حاجة في العلم به - أي بالكفّ - إلى العلم بفعل الضد » وكيف كان ، فغاية ما يمكن الاستدلال به على نفي الاقتضاء في الضدّ العامّ ما ذكرنا.

وجوابه : أنّ النهي التفصيلي عن الضدّ العامّ - وهو الترك - وإن لم يكن ملازما لطلب الشيء والأمر به في التصوّر والحضور في بال المتكلّم ، إلاّ أنّ النهي الشأني المراد به أنّ الآمر لو التفت إلى الترك لكان كارها له وساخطا وناهيا عنه موجود بالضرورة والوجدان ، وهذا القدر من النهي الشأني مساوق للنهي التفصيلي الفعلي في إفادة التحريم وسائر الأحكام ، نظير ما قدّمنا في وجوب المقدّمة من كونها مطلوبة للآمر بالطلب الإجمالي الشأني وكفاية هذا القدر من الطلب في إثبات الوجوب. ولا ريب في ثبوت الملازمة بين هذا النهي الشأني وبين طلب المأمور به في نفس المتكلّم ولحاظ الذهن إما بالعينيّة أو بالاستلزام أو بالتضمّن على الاختلاف المزبور.

ص: 566


1- شرح مختصر الاصول 1 : 199 - 200.
حجّة القول بالعينيّة في الضدّ العام

كصاحب الفصول (1) : أنّ معنى النهي عن الترك الذي هو الضدّ العامّ طلب ترك الترك ؛ لأنّ معنى النهي طلب الترك ، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل في المعنى. وذلك ظاهر.

وفيه : أنّه إن اريد بالعينيّة اتّحاد مفهوميهما فهذا كذب واضح ، بل القائل المزبور قد صرّح أيضا بخلافه (2) ، وكيف لا! وليسا من الألفاظ المترادفة جدّا.

وإن اريد بها الاتّحاد في الصدق الخارجي - بمعنى أنّ ما يصدق عليه الفعل في الخارج بعينه يصدق عليه ترك الترك - فطلب أحدهما يكون حينئذ عين طلب الآخر.

ففيه : أنّ ذلك بعد التسليم - مع أنّ طريق المنع فيه مفتوح نظرا إلى دعوى عدم كون الفعل مصداقا لترك الترك الذي ليس إلاّ مفهوما عدميّا انتزاعيّا من الفعل - غير مجد أيضا ؛ لأنّ اتّحاد مصداقهما في الخارج لا يصير سببا لعينيّة طلب أحدهما مع طلب الآخر ، ضرورة أنّ طلب شيء ذي عنوانين بأحدهما يغاير طلبه بالآخر مفهوما ومصداقا ، لأنّ طلبه لكلّ من العنوانين يستدعي تصوّره وتعقّله بذلك العنوان مستقلاّ ، فكيف يكون طلب ذلك الشيء بأحدهما عين مفهوم طلب الآخر أو مصداقه مع الغفلة عن ذلك؟

والحاصل : أنّ الضاحك والكاتب مثلا وإن كانا متصادقين على شيء واحد ، إلاّ أنّ طلب ذلك الشيء بعنوان الكتابة يغاير طلبه بعنوان الضحك مفهوما ومصداقا ، لأنّ تعدّد العنوان يقتضي تعدّد الطلب باعتبار اقتضائه تعدّد الالتفات.

ص: 567


1- الفصول : 92.
2- الفصول : 92.

نعم ، إذا التفت الطالب حين طلبه بأحد العنوانين إلى العنوان الآخر وعلم تصادقهما في الخارج استغنى بطلبه على أحد العنوانين عن طلبه بالعنوان الآخر ، ولكنّه ليس من الاتّحاد في شيء. نعم ، إن كان مراد القائل بالعينيّة أنّ طلب الفعل طلب شيء هو عين مصداق ترك الترك فلا بأس به ، إلاّ أنّه لا يفيد ما هو بصدده من العينيّة بالنسبة إلى الكلّيين.

حجّة القول بالتضمّن في الضدّ العامّ

كصاحب المعالم (1) : أنّ الأمر يدلّ على الوجوب ، وماهيّة الوجوب مركّبة من أمرين : أحدهما المنع من الترك والآخر طلب الفعل ، فصيغة الأمر الدالّة على الوجوب دالّة على النهي من الترك بالتضمّن ، وذلك واضح.

واعترض عليه بعض المحشّين على المعالم (2) : بأنّ المنع من الترك ليس جزءا لماهيّة الوجوب ، بل هو حكم من أحكام المأمور به وخاصّة من خواصّه ، إذ لا نتعقّل من الأمر بالشيء إلاّ الطلب الحتمي الذي هو عبارة عن بلوغ الطلب حدّا لازمه عدم الرضا بالترك واستحقاق التارك العقاب ، من دون أن يكون هناك طلب آخر متعلّق بترك الترك حتّى يكون المنع من الترك داخلا في ماهيّة الوجوب ، بل يكون خارجا عنها ولازما لها ، فيكون دلالة ما يدلّ على الوجوب على منع الترك دلالة التزاميّة دون التضمّنية.

وقد يوجّه ذلك بما مرّ في توجيه القول بنفي الاقتضاء عند تحرير الأقوال : من أنّ الوجوب والاستحباب مرتبتان من الطلب ممتازان بحسب مرتبتهما وأنفسهما ،

ص: 568


1- المعالم : 63 - 64.
2- انظر حاشية سلطان العلماء : 282.

وضمّ المنع من الترك إلى الوجوب في الأفواه معناه أنّ مرتبة الوجوب لازمها أنّه لو التفت الآمر إلى الترك لم يكن راضيا به ، لا أنّه داخل في ماهيّته ، كيف! ومن الواضح أنّ الدالّ على الوجوب لا يدلّ على طلبين : أحدهما ما يتعلّق بالفعل والآخر ما يتعلّق بترك الترك ، وإلاّ لكان كلّ واحد من الأحكام الخمسة مركّبة من الحكمين ، كما سبق بيانه.

وهذا الاعتراض وإن كان بظاهره واردا ، إلاّ أنّه قد يذبّ عنه : بأنّا نجد بالمشاهدة والعيان أنّ الوجوب والاستحباب مشتركان في شيء هو الجنس ، وممتازان في شيء هو الفصل ، وأنّ ذلك الفصل من مقوّمات ماهيّة كلّ واحد منهما كما هو شأن الفصول ، ولا شيء يوجب امتياز الوجوب من الاستحباب إلاّ أنّ الطلب في الأوّل بمرتبة متقوّمة بعدم الرضا بالترك ، وفي الثاني بمرتبة لم تبلغ هذا الحدّ ، فيكون ذلك المقوّم الذي به صار الوجوب ممتازا عن الاستحباب داخلا في حقيقة الوجوب دخول الفصل في النوع ، وحينئذ فالدالّ على الوجوب - كصيغة الأمر مثلا - دالّ على عدم الرضا بالترك بالتضمّن ، نحو دلالة اللفظ الموضوع للنوع على الفصل.

نعم ، إطلاق النهي عن الضدّ العامّ على هذا الفصل الذي لا بدّ من ثبوته للوجوب لا يخلو عن حزازة وركاكة ، لأنّ الظاهر من النهي كونه مقتضيا للتحريم الذي هو واحد من الأحكام الخمسة قبال الوجوب المتعلّق بالفعل ، وليس الأمر كذلك ، لأنّ فصل الوجوب ليس تحريم ترك الفعل على وجه يكون من المحرّمات الثابتة بالنواهي في قبال الواجبات ، إذ كلّ أحد يعلم أنّ الوجوب ليس إلاّ حكما وحدانيّا يعبّر عنه تارة بإيجاب الفعل ، واخرى بتحريم الترك ، نحو التعبير عن الإنسان بالحيوان الناطق تارة وبالناطق خاصّة اخرى ، لا أنّه يتضمّن حكمين من الأحكام الخمسة : أحدهما الوجوب والآخر التحريم.

ص: 569

نعم ، تحريم الترك على الوجه الإجمالي والشأني - الذي عرفت ذكره آنفا - لا بأس بثبوته للوجوب ثبوت اللازم للملزوم ، لأنّا نعلم قطعا أنّ الآمر لو التفت إلى الترك وأراد أن يثبت له حكما من الأحكام الخمسة كان حاكما بحرمة ترك هذا الترك على سبيل النهي التحريمي ، فالمنع من الترك إذا فسّر بحدّ الوجوب ووجهه وجهة امتيازه عن الاستحباب كان الحقّ مع القول بالتضمّن ؛ لما عرفت. ولو فسّر بحرمة الترك على وجه الإجمال والشأنيّة حرمة تعدّ من الأحكام الخمسة في قبال وجوب الفعل كان الحقّ مع القول بالاستلزام.

فظهر من كلامنا هذا حجّة القول بالاستلزام في الضدّ العامّ أيضا ، كما أنّه قد ظهر أنّ المختار في الضدّ العامّ هو عدم الاقتضاء رأسا إن اريد بالنهي الفعلي التفصيلي ، والقول بالتضمّن إن اريد به وجه الوجوب وحدّه وفصله الذي ليس هو بحكم آخر في عرض وجوب الفعل ، والقول بالالتزام لو فسّر النهي بالنهي الإجمالي الشأني الموقوف على التفات الآمر وإرادته ، والقول بالعينيّة إن اريد بها اتّحاد مصداق المطلوبين في الخارج ، يعني مصداق الفعل ومصداق ترك الترك ، لا اتّحاد نفس الطلبين مصداقا أو مفهوما. واللّه العالم.

حجّة القول بالعينيّة في الضدّ الخاصّ

إنّ الأمر بالشيء - كالحركة - لو لم يكن عين النهي عن الضدّ الآخر - كالسكون - فإمّا أن يكون مثله أو ضدّه أو خلافه ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة ووجه بطلان اللازم وسائر ما يرد على هذا الدليل من المناقشات مذكورة في كتب القوم مشهورة ، فلا حاجة إلى الإطناب.

ص: 570

وأمّا حجّة القول بالتضمّن

فهي أيضا مذكورة في تلك الكتب (1) : من أنّ الوجوب طلب شيء يذمّ على تركه ، ولا ذمّ إلاّ على فعل ، وهو : إمّا الكفّ أو أحد الأضداد الخاصّة ، فكأنّهم ذكروا الترك وأرادوا به سببه الذي هو أحد الأمرين المزبورين ، فيكون دلالة ما يدلّ على الوجوب على ذمّ الترك المراد به سببه - من الكفّ أو أحد الأضداد - دلالة تضمّنية ، لكونه جزء معنى الوجوب.

واجيب (2) عنه تارة : بمنع كون الترك مسبّبا عن الكفّ أو أحد الأضداد ، لأنّ الشيء إنّما يترك باعتبار عدم الداعي إليه ، بل هو كذلك في الأغلب ، فما صار الكفّ سببا لتركه نظرا إلى اعتبار الزجر في مفهومه بعد وجود الداعي ، ولا أحد الأضداد وإن كان لازما للترك في الوجود الخارجي من باب المقارنة الاتّفاقية. واخرى : بمنع المقدّمة الأخيرة من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل ؛ لأنّ الترك مقدور نحو مقدوريّة الفعل ، فهما في جواز الذمّ وعدمه سواء.

حجّة القول بالاستلزام الوضعي

لا بدّ أن تكون إحدى الأمارات وليس جوابها إلاّ المنع.

حجّة القول بالاستلزام المعنوي وجهان :

أحدهما : أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الواجب ، ومقدّمة الواجب واجبة ،

ص: 571


1- راجع مناهج الأحكام : 61.
2- راجع القوانين 1 : 114.

فيكون فعله حراما ، وهذا معنى النهي عنه. وإنّما يكون بالاستلزام ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ليس مدلولا تضمّنيّا أو مطابقيّا لما دلّ على وجوب ذيها ، بل إنّما هو مدلول التزامي بيّن ، بالمعنى الأعمّ أو غير بيّن ، كما مرّ تفصيله.

ولا محيص عنه إلاّ بمنع وجوب المقدّمة كما صنعه صاحب المعالم (1) ، أو بمنع وجوبها عند عدم إرادة المأمور به كما ذكره بعد التسليم والمماشاة ، أو بمنع كون الترك مقدّمة كما هو الحقّ المختار عند السلطان (2) والسبزواري (3) وغيرهما. وتفصيل كلّ ذلك قد مرّ في تضاعيف الكلمات السابقة ، خصوصا الأخير الذي قد بسطنا الكلام فيه بذكر كلمات العلماء وجوابها وتوضيحها في أوّل المسألة.

والثاني : أنّ فعل الضدّ مستلزم لترك المأمور به ، وهو قبيح حرام ، فكذا ما يستلزمه.

وأجاب عنه صاحب المعالم : بأنّه إن اريد بالاستلزام الاقتضاء والعلّية أو الاشتراك في علّة واحدة ، فدعوى الاستلزام ممنوعة ؛ لأنّ فعل الضدّ ليس سببا لترك المأمور به ، لأنّ سببه إنّما هو الصارف - نعم هذا مستمرّ مع فعل أحد الأضداد في الخارج ومقارن معه ، ولكن (4) غير الاقتضاء والعلّية - ولا مسبّبا لما هو سبب للترك حتى يشتركا في علّة واحدة ، لأنّ علة الترك الصارف وعلّة الفعل الإرادة.

وإن اريد به مجرّد عدم الانفكاك في الخارج من غير أن يكون بينهما علّية أو اشتراك في العلّة ، فدعوى الاستلزام مقبولة ، ولكن القول بأنّ المستلزم للحرام حرام

ص: 572


1- المعالم : 62 و 68.
2- حاشية سلطان العلماء : 284 - 285.
3- كما تقدّم عنه في الصفحة : 519.
4- كذا ، والمناسب : لكنّه.

حينئذ ممنوعة ، لأنّ مجرّد التلازم من دون أحد الوصفين لا يقتضي الاشتراك ، وإنّما يقتضيه إذا كان ذلك التلازم ناشئا عن أحد الوصفين. هذا خلاصة ما ذكره في المعالم من الجواب عن هذا الاستدلال (1).

والظاهر أنّ مراده ب- « مجرّد عدم الانفكاك » محض المقارنة من دون استحالة الانفكاك ، بل لعلّ في كلامه تصريح بذلك ، إذ لو كان المراد به استحالة الانفكاك لم يتصوّر قسم ثالث للتلازم ، لأنّ استحالة الانفكاك لا بدّ لها من سبب ، وليس ذلك إلاّ العلّية أو الاشتراك فيها.

ولا ينافي ما ذكرنا من كون المراد بالتلازم المقارنة الاتّفاقية ، اعترافه بكون ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به في الجواب من الدليل الأوّل ، حيث أجاب عنه بمنع وجوب المقدّمة ، لا بمنع المقدّميّة ؛ لأنّ القول بمجرّد مقدّمية الترك للفعل لا يقتضي الاستحالة مع إنكار مقدّمية الفعل للترك ، لأنّه إذا لم يكن الفعل مقدّمة للترك وعلّة له - كما يقول به المشهور - جاز مفارقة الترك حينئذ من الفعل عقلا ، نظرا إلى عدم كونه معلولا للفعل حتّى يمنع انفكاكه عنه.

وكيف كان ، فتحقيق أصل المسألة موقوف على معرفة حكم المتلازمين في الوجود الخارجي من حيث جواز اختلافهما في الحكم وعدمه.

فنقول : أمّا المتقارنان من حيث الاتّفاق ، فمن ضروريّات حكم العقل جواز الاختلاف فيهما ، لإمكان انفكاك كلّ منهما عن الآخر كما هو المفروض ، وما لا يجوز فيه الانفكاك لأمر عرضيّ فهو مندرج في أحد القسمين المزبورين.

وأمّا العلّة والمعلول ، فقد عرفت في البحث عن المقدّمات أنّ حرمة المعلول يقتضي حرمة العلّة عقلا ، وقد تقدّم هناك تفصيل الكلام في ذلك ، وقلنا : إنّ قبح علّة

ص: 573


1- المعالم : 67 - 68.

الحرام من أوّليّات حكم العقل ولو كان غيريّا غير موجب للعقاب غير العقاب المترتّب على فعل المعلول. ويدلّ على ذلك تعليل تحريم بعض المحرّمات في الشريعة بقبح المعلول ، كما يستفاد من الآية الشريفة ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ) (1) الآية : أنّ حرمة الخمر والميسر لأجل كونهما سببين لقبائح اخرى من البغضاء والعداوة ونحوهما. ولا يرد أنّ الآية ونحوها إنّما تدلّ على الحرمة النفسيّة وأين هذه من الحرمة الغيريّة التي أنت بصدد إثباتها؟ لأنّ غرضنا الاستظهار من الشرع على صدق حكم العقل بقبح علّة القبيح في الجملة ولو كان حكم الشرع أزيد من حكم العقل من حيث التقبيح.

وأمّا حرمة العلّة ، فالظاهر أنّها بمجرّدها لا يقتضي حرمة المعلول في شيء ؛ لأنّ المنقصة المقتضية للنهي لعلّها تكون مختصّة بالعلّة ، فلا شيء من مقتضى (2) حرمة المعلول ، لا المنقصة الذاتية ولا الجهة المقدّميّة. نعم ، إنّما (3) يكشف حرمة العلّة عن حرمة المعلول ، فينتقل من قبح شرب الخمر مثلا إلى قبح معلوله الذي هو السكر ، ولكنّه خارج عن فعل المكلّف الذي هو متعلّق الخطابات. ومن هنا قلّت الجدوى في البحث عن اقتضاء حرمة العلّة أو كشفها عن حرمة المعلول ؛ لأنّ فرض كون العلّة المحرّمة ومعلولها من أفعال المكلّفين معا في المحرّمات عزيز أو عديم. نعم ، قبح المعلول بمعنى المنقصة التي تعرض لغير الأفعال أيضا لا بأس باستفادته من تقبيح الشارع العلّة. ولعلّ جميع المحرّمات كاشفة عن هذا القبح على مذهب العدليّة. وقريب من هذا الاستكشاف إناطة الحكم بالوصف في العلل المنصوصة غالبا ، فتدبّر جيّدا.

ص: 574


1- سورة المائدة : 91.
2- في ( ع ) كتب فوق كلمة « من » : ح. والصواب في العبارة : فلا شيء حينئذ يقتضي ...
3- في ( ع ) زيادة : « ربما » استظهارا. وهو الصواب.

وممّا ذكرنا ظهر حكم المعلولين لعلّة واحدة ، فإنّه إذا قلنا باقتضاء حرمة المعلول حرمة العلّة وبالعكس ، فلا بدّ من اقتضاء حرمة أحد المعلولين حرمة الآخر بالضرورة.

ومن جميع ذلك ظهر فساد قول الكعبي ، وزالت شبهته : من وجوب المباحات الذاتيّة بالعرض ، لأنّ غاية ما يستدلّ على ذلك امور ثلاثة :

أحدها : أنّ فعل المباح مقدّمة لترك الحرام ، وهذا واجب ، فيكون فعل المباح كذلك.

وثانيها : أنّ ترك الحرام وفعل المباح متلازمان في الوجود الخارجي ، فيكونان متّحدين في الحكم ، لاستحالة اختلاف المتلازمين في الحكم.

وثالثها : أنّ ترك الحرام عين فعل المباح ، فوجوب تركه ليس إلاّ وجوب فعل المباح.

وفساد الكل واضح.

أمّا الأوّل ، فقد اجيب عنه تارة : بفرض الكلام في حال خلوّ المكلّف من شرائط التكليف ، كالغفلة والاضطرار ونحوهما ممّا لا تكليف معه ، فإنّ ترك الحرام في تلك الحالة غير مأمور به ، لعدم توجّه النهي إلى الغافل أو المضطرّ - مثلا - حتى يكون ترك المنهيّ واجبا. وحينئذ فلا يعرض الوجوب المقدّمي للأضداد المباحة للفعل المحرّم ، فلا يلزم من وجوب ترك الحرام وتوقّفه على فعل المباح نفي المباح رأسا ، وإنّما يلزم وجوب المباح أحيانا ، كما في حال تعلّق التكليف بترك الحرام.

وهذا الجواب منقول من السلطان في حاشيته على المعالم (1) ، وليس بمرضيّ على التحقيق ؛ لأنّ عروض الإباحة للمباحات بالعرض وحال خلوّ المكلّف عن

ص: 575


1- حاشية سلطان العلماء : 285.

شرائط التكليف لا يقدح في مدّعى الكعبي ، لأنّ غرضه أنّ الشارع لم يجعل أحكاما خمسة ، بل إنّما جعل أحكاما أربعة أو حكمين مثلا (1) ؛ لأنّ ما عدا الواجب والمحرّم واجب نحو وجوب ترك الحرام ، فكما أنّ خروج ترك الحرام عن وصف الوجوب أحيانا لا يقدح في كون حكم اللّه الأوّلي في حقّه (2) هو الوجوب وفي فعله هو التحريم ، كذلك سقوط التكليف عن فعل المباحات باعتبار عدم تعلّق التكليف بما هو مطلوب لأجله من ترك الحرام لا يوجب اتّصافه بالإباحة وخروجه عن صفة الوجوب الغيري بحسب جعل اللّه الأوّلي وحكمه الواقعي. نعم ، هذا الجواب سديد ممّن ادّعى عدم اتّصاف شيء في العالم بالإباحة أبدا. ولعله لا يقول به الكعبي ، وإلاّ فالجواب في محلّه.

واخرى (3) : بمنع المقدّمية ؛ نظرا إلى منع علّية فعل المباح لترك الحرام حتّى يكون مقدّمة سببيّة له ، لأنّ ترك الشيء مستند إلى وجود الصارف عنه ، فمع وجوده يكون فعل المباح من مقارنات ترك الحرام اتّفاقا من غير استناد الترك إلى فعله. ولو فرض انتفاء الصارف ووجود الداعي إلى الحرام كان فعل المباح حينئذ مقدّمة سببيّة لترك الحرام. فعلى القول بوجوب المقدّمات لا بدّ من الالتزام بوجوبه ، ولكنه لا ينهض بإثبات دعوى الكعبي ؛ لأنّه لا يلزم من كون فعل المباحات مقدّمة لترك الحرام حال انتفاء الصارف نفي المباح رأسا ، بل إنّما يلزم وجوب أحدها في بعض الأحيان ، ولا ضير فيه.

واعترض على هذا الجواب : بأنّه على هذا التقدير يثبت الوجوب التخييري

ص: 576


1- في ( م ) بدل « مثلا » : متلازمين.
2- في ( ع ) كتب فوق « حقّه » : تركه. وتحتها : صفته.
3- عطف على قوله : فقد اجيب عنه تارة.

للمباحات دائما ؛ لأنّ ترك الحرام على ما قرّر يكون له علّتان : إحداهما وجود الصارف والاخرى فعل شيء من الأضداد المباحة ، فكلّ منهما يجب بالوجوب التخييري ، فيثبت قول الكعبي.

وجوابه : أنّ فرض استناد الترك إلى الفعل أمر غير ممكن ، لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته أبدا ، وهي مضادّة مع إرادة الحرام ، فيكون من مقدّمات إرادة الفعل وجود الصارف عن الحرام ، ففعل الضدّ أبدا مسبوق بالصارف الذي فرض كونه سببا أيضا لترك الحرام ، فالترك دائما مستند إلى الصارف ، فيبقى فعل المباح على حالة الإباحة لكونه من المقارنات الاتّفاقيّة المحضة.

لا يقال : إذا توقّف الصارف عن الحرام على فعل الضدّ المباح وجب حينئذ من باب المقدّمة ، فيصدق أنّ الواجب إمّا فعل الضدّ أو الصارف ، فيكون فعل أحد المباحات واجبا بالوجوب التخييري.

لأنّا نقول : هذا الفرض غير جائز ، وإلاّ لزم الدور ، لأنّ وجود الصارف من أحد الضدّين من مقدّمات وجود فعل الضدّ الآخر ، لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته لا محالة ، وهذه الإرادة باعتبار مضادّتها مع إرادة الحرام موقوفة على عدمها جدّا ، ولا نعني بالصارف عن الحرام إلاّ انتفاء إرادته ، فلو فرض توقّف هذا الصارف على فعل الضدّ المباح أيضا توقّف المعلول على العلّة لزم الدور.

والحاصل أنّه إذا كان الصارف موجودا فلا إشكال في عدم كون فعل المباح مقدّمة كما عرفت ، وإذا فرض انتفاء الصارف كان التكليف حينئذ ساقطا بالنسبة إلى ترك الحرام إذا كان هذا الانتفاء بحيث لا يقتدر المكلّف على إيجاده ، وبعد سقوط التكليف عنه لا معنى لوجوب المباحات مقدّمة ، كما عرفت في الجواب الأوّل. ولا يمكن فرض توقّف انتفاء الصارف على فعل المباح ، للزوم الدور. نعم ، قد يتوقّف انتقاء الصارف عن الحرام في الزمان اللاحق على فعل شيء من الأضداد في الزمان

ص: 577

السابق عليه ، فيكون فعل المباح في الزمان السابق واجبا من باب المقدّمة ، ولكنّه لا يفيد نفي المباح رأسا ، كما ذكره جماعة من المجيبين عن شبهة الكعبي (1).

وفيه نظر ؛ لأنّ توقّف ترك فعل اختياري على فعل اختياري آخر ممّا لا معنى له ؛ لأنّ حاصله أنّ المكلّف لو لم يأت بالفعل المباح لدخل في الحرام بسوء اختياره ، وهذا لا يستلزم توقّف ترك ذاك الحرام على فعل المباح لا عقلا ولا عادة ولا شرعا ، لأنّ المفروض أنّه لو لم يفعل المباح لكان قادرا على ترك الحرام ومختارا فيه ، فلا يتوقّف حينئذ على فعل المباح حتّى يجب من باب المقدّمة. وهذا واضح.

نعم ، يمكن الاستدلال على وجوب المباح في هذه الحالة بوجهين :

أحدهما : قاعدة اللطف ؛ لأنّ إيجاب نحو هذا الفعل المباح المفروض كونه سببا لترك الحرام ولو اختيارا لطف من اللّه تعالى ، ووجوب اللطف عليه ثابت عند العدليّة ، من غير فرق بين أن يكون متعلّقه فعله سبحانه أو فعل العبد ، وحينئذ أمكن القول بوجوب المباح إذا اقتضى ترك الحرام من باب الاتّفاق ولو اختيارا.

وثانيهما : أنّ العقل قاض بوجوب نحو هذا الفعل مع قطع النظر عن جهة توقّف الترك الواجب عليه بحكم الوجدان والعرف ؛ فإنّا إذا راجعنا إلى أنفسنا وجدنا تحريك العقل إلى مباشرة الفعل الذي فيه اجتناب عن الحرام ولو من باب الاتّفاق ، فإن تمّ الوجهان أمكن القول بوجوب المباح حينئذ ، وإلاّ فلا يمكن الاستدلال عليه من باب المقدّمة ، كيف! والأمر كذلك في جميع المباحات بالنسبة إلى فعل المحرّمات ؛ لأنّ المكلّف إذا لم يأت بأحد المباحات لوقع في الحرام قطعا ولو بسوء اختياره ، فلو كان مجرّد عدم انفكاك فعل المباح من ترك الحرام مقتضيا

ص: 578


1- راجع المعالم : 68 - 69 ، وحاشية سلطان العلماء : 285 - 286 ، والقوانين 1 : 112 ، وهداية المسترشدين 2 : 233 - 249 ، والفصول : 89.

لوجوبه فلا وجه لمنع المقدّميّة رأسا إلاّ فيما إذا توقّف ترك الحرام على فعل المباح ، ضرورة ثبوت هذا النحو من التوقّف الراجع إلى أنّ المكلّف لو لم يأت بالمباح لعصى بسوء اختياره بين ترك الحرام وفعل أحد المباحات في جميع المقامات ، فما وجه تكذيب الكعبي في دعوى التوقّف مطلقا؟

نعم ، يمكن أن يعرض الوجوب للمباح في بعض الأحيان ، كما إذا توقّف ترك الحرام مطلقا - ولو اضطرارا - على فعل من المباحات ، مثل ما إذا علم أنّه لو لم يتحوّل من مكانه إلى داره يشرب الخمر كرها ، وحينئذ يجب عليه التحوّل من باب المقدّمة. ولا يرد أنّ التحوّل لا بدّ أن يكون مسبوقا بالصارف عن الشرب في الزمان المستقبل أيضا لكونه من مقدّماته وترك الشرب إنّما يستند إلى هذا الصارف دون فعل الضدّ ؛ لأنّ المفروض صدور الفعل عنه إلجاء أو عدم كفاية الصارف الفعلي في تركه ، فضلا عن الصارف الموجود في الزمان المتقدّم ، لكن قد يتوقّف في بقاء التكليف في صورة الإلجاء. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ هذا الإلجاء إنّما نشأ من اختياره لعلمه به وتمكّنه من دفعه ، فيكون كمن فوّت القدرة في الامتثال قبل مجيء زمان الفعل ، مثل ما سمعت في إراقة ماء الوضوء قبل الوقت وإعجاز النفس عن الحجّ قبل ذي حجّة في مبحث وجوب المقدّمة.

وأمّا الجواب عن الاستلزام (1) فغير خفيّ على من أحاط خبرا بما تلونا في إثبات جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

وأمّا الجواب عن العينيّة (2) فأوضح من البيان ؛ إذ كلّ أحد يعلم أنّ الأمر بترك الزنا ليس عين الأمر بضدّه الوجودي - كالسفر مثلا - في شيء لا مفهوما ولا مصداقا. والعجب من الشهيد الثاني! حيث حكي عنه أنّ الأمر بالحركة عين النهي

ص: 579


1- عطف على قوله : « أمّا الأوّل » في الصفحة 575.
2- عطف على قوله : « أمّا الأوّل » في الصفحة 575.

عن السكون (1). ولعلّ الذي أوقعه في هذا الخيال كونهما ضدّين لا ثالث لهما ، ولعمرك! إنّ الأمر كذلك في سائر المقامات إذا أخذنا الضدّ أحد الامور الوجوديّة ؛ لأنّه لا ثالث له ولفعل المأمور به ، كما لا يخفى. نعم ، لا خفاء في كون ترك الحرام مقارنا للأضداد الوجوديّة في الخارج بحيث يتوهّم مثل الشهيد أنّ الأمر بالأوّل عين الأمر الثاني. هذا تمام الكلام في الأقوال المعروفة.

بقي الكلام في قولين آخرين :

أحدهما لبعض المحقّقين من متأخّري المتأخّرين ، والثاني لشيخنا البهائي وقد تقدّم لذلك ذكر (2).

أما القول الأوّل : فهو التفصيل بين ما إذا كان الضدّ من أسباب امتناع المأمور به في حقّ المكلّف كالمسافرة في البحر بالنسبة إلى إيصال الدين الواجب المضيّق ونحوه ، وبين ما إذا لم يكن كذلك كقراءة القرآن بالنسبة إلى أداء الشهادة. فإنّ الضدّ في الأوّل - وهو السفر - فعله يوجب امتناع المأمور به أعني أداء الدين في حقّ المكلّف أبدا إذا كان من المعجّلات (3). بخلافه في الثاني ؛ فإنّ قراءة القرآن وإن كان ضدّا لأداء الشهادة ، إلاّ أنّه في كلّ آن من الآنات يقتدر على قطع القراءة وأداء الشهادة. ومثله ما إذا ترك أداء الحقّ المضيّق وتشاغل بالصلاة ، فإنّه يتمكّن في كلّ حال من أحوالها أن يتركها ويتشاغل بالواجب لسبق الحقّ المضيّق على الدخول فيها ، فيجوز الإبطال ، كالإبطال لغيره من الامور المقرّرة. وهذا المثال منقول عن صاحب هذا التفصيل ، ولعلّ مثالنا أحسن ؛ لما فيه من المناقشة والتأمّل.

ص: 580


1- انظر تمهيد القواعد : 135 ، القاعدة 40.
2- راجع الصفحة : 499.
3- في ( ط ) : المؤجّلات ، وفي ( م ) : الموصلات. والصواب : إذا كان معجّلا.

واستدلّ على هذا التفصيل على ما حكي عنه : بأنّ إيجاب الشيء إنّما يقتضي بحكم العقل والشرع والعرف إيجاب التهيّؤ له والتوصّل إليه ، فيجب فعل ما يقتضي وجوده وجوده وترك ما يقتضي تركه فعله ، كترك الحركة المقتضي لتحقّق السكون الواجب ، وترك ما يقتضي فعله عدم التمكّن منه كالمنافيات ، فالضدّ إن كان ممّا يوجب فعله عدم التمكّن من الواجب - كالسفر المانع من إيصال الحقّ المضيّق إلى صاحبه - فهو محرّم ، سواء قصد به الغاية المحرّمة أم لا ؛ لأنّ إباحته يقتضي عدم الإثم فيما يترتّب عليه ، فلو لم يكن الضدّ [ الموجب ](1) لعدم التمكّن منه محرّما لزم خروج الواجب عن كونه واجبا ؛ ولأنّ قضيّة إناطة الأحكام بالحكم والمصالح هو تحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، ولما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة لمن لا يتمكّن من الخروج عنه لأدائها (2) وغير ذلك. وإن لم يرفع تمكّنه ، بل كان في جميع أفعال الضدّ متمكّنا من تركه وأداء الواجب ، فلا يلزم من إيجاب الواجب تحريم مثل هذا.

هذه خلاصة ما حكي عنه من الاستدلال على الفرق. ونحن نزيد عليها : بأنّ فعل الضدّ في الأوّل - وهو الرافع للتمكّن عن الامتثال بالواجب - سبب لتركه ، إذ لا معنى للترك إلاّ صيرورة الواجب بحيث يتعذّر المكلّف عن الامتثال تعذّرا اختياريّا. بخلافه في الثاني ؛ فإنّ الاشتغال بالضدّ غير رافع للتمكّن كما هو المفروض ، ومن المعلوم أنّ ترك الواجب حرام ، ويحرم لذلك فعل الضدّ الرافع ، كما تقدّم من أنّ علّة الحرام حرام.

ص: 581


1- الزيادة منّا.
2- لم نعثر عليه بعينه ، انظر الوسائل 3 : 234 ، الباب 3 من أبواب القبلة ، الحديث 8.

وقد أجاب صاحب الفصول (1) عن هذه الأدلّة في كلمات طويلة كلّها أو جلّها مبنيّة على المقدّمة الموصلة التي عرفت فسادها.

ونحن نقتصر في المقال ونجيب عنها :

أوّلا بالنقض ، وتقريره : أنّ ما ذكر من الأدلّة إن نهض في إثبات وجوب ترك الرافع للتمكّن فمقتضاه وجوب غير الرافع أيضا ، لأنّ الكلام في ضدّ الواجب المضيّق الذي وجوبه فوريّ ثابت في جميع آنات القدرة ، ولا ريب أنّ الاشتغال بضدّ مثل هذا الواجب الفوري يرفع التمكّن عن الامتثال به زمن الاشتغال مطلقا ، من غير فرق بين شيء من الأضداد ، فإنّ الاشتغال بالصلاة - مثلا - أو بغيرها من الأضداد المنافية للإزالة يوجب امتناع فعل الإزالة في آن وقوع الصلاة ، وقضيّة ما ذكر من الأدلّة الحكم بحرمة الصلاة لكونها رافعة للتمكّن من فعل الواجب الذي هو الإزالة. وهكذا الكلام فيما فرضنا من المثال ، إذ الاشتغال بقراءة القرآن يرفع التمكّن عن أداء الشهادة في آن القراءة ، نحو رافعيّة السفر للتمكّن عن إيصال الحقّ الواجب.

نعم ، ربما يكون فعل الضدّ مستوعبا لتمام وقت الواجب بحيث لا يتمكّن المكلّف من تركه ، وقد لا يكون كذلك بل يكون من الأفعال التي يقتدر المكلّف على تركها ، وكلاهما مشتركان في كونهما رافعين للتمكّن عن الإتيان بالواجب. وإنّما الفرق بينهما هو أنّ رفع الأوّل مستمرّ إلى انقضاء وقت الواجب ورفع الثاني دائر مدار وجوده ، ولا يلزم في اتّصاف الشيء بالحرمة كونه رافعا للتمكّن عن الامتثال بالأمر الفوري مطلقا ، بل يكفي في ذلك كونه رافعا للتمكّن في آن ما ، ضرورة وجوب المسارعة إلى الامتثال في الأوامر الفوريّة في كلّ آن وحرمة التأخير ، بحيث إذا أخّر كان عاصيا تاركا للعمل بالقضيّة (2) الفوريّة.

ص: 582


1- الفصول : 100.
2- في ( م ) : بما يقضيه.

وثانيا بالحل ، وهو : أنّ ما ذكره من تطابق العقل والشرع والعرف في إيجاب التهيّؤ للواجب والتوصّل بترك فعل الضدّ ولو رفع التمكّن لفعله (1) دليل القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ مطلقا ؛ لأنّ ترك الأضداد تهيّؤ لفعل الواجب. ومن يقول بوجوب المقدّمة فهو قائل بوجوب ترك الضدّ من باب المقدّمة بعد تسليم كون الترك من مقدّمات الفعل لا من المقارنات ، فيكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن الضدّ ، إذ لا نعني بالنهي إلاّ ما كان تركه واجبا مطلقا ، من غير فرق بين الرافع للتمكّن وغيره ، لأنّ النظر الدقيق يرى جميع الأضداد رافعة للتمكّن. كيف لا! ومن الواضحات استحالة اجتماع الضدّين وعدم تمكّن وجود أحدهما في آن وجود الآخر. وأمّا صيرورة بعض الأضداد رافعا للتمكّن إلى انقضاء وقت الواجب دون بعض فلا ربط له بأطراف مسألتنا هذه. ومن لا يقول بوجوبها أو يقول به ولكن يمنع عن كون الترك مقدّمة للفعل - كالسلطان (2) - فهو إمّا يمنع عن حكم العقل والشرع والعرف بوجوب التهيّؤ إن كان من منكري وجوب المقدّمة ، أو يمنع عن كون ترك الضدّ - رافعا كان أو غير رافع - من التهيّؤ والتوصّل ، بدعوى كون التهيّؤ إنّما هو انتفاء الصارف الذي يحرّك إلى فعل الواجب وترك أضداده.

وأمّا ما ذكره من اقتضاء إناطة الحكم بالمصالح تحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، فمع كونه عبارة اخرى عن القول بحرمة سبب الحرام - وحرمته بسبب فوات المصلحة - مشترك الورود بين الضدّ الرافع والغير الرافع ، لما عرفت من كونهما رافعين معا ؛ وكذا ما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة ، فإنّه لو دلّ

ص: 583


1- في ( ع ) ، ( م ) : « للتمكّن بعينه » والعبارة مشوّشة.
2- حاشية سلطان العلماء : 282 - 283.

على المدّعى نسبته إلى المقامين متساوية ؛ مضافا إلى ما فيه أوّلا من خروجه عن محلّ الكلام ، لأنّ الصلاة ليست من الواجبات الفوريّة المضيّقة التي كلامنا فيها ، فلا ضير في كون الضدّ رافعا عن التمكّن بها ما لم يرفع التمكّن إلى انقضاء الوقت ، إذ ليست المسارعة إليها واجبة حتى يكون ضدّه مطلقا ولو كان رافعا في مقدار زمانه حراما.

والحاصل أنّه لا مضايقة في نحو الصلاة من الواجبات الموسّعة الالتزام بحرمة ضدّها الذي يرفع التمكّن منها رأسا دون غيره ممّا لا يرفع التمكّن ، بل لعلّ الحقّ هو هذا بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، لأنّ الواجب الموسّع إذا لاحظته وقايسته مع الضدّ الذي يصير سبب امتناعها في حق المكلّف يكون في حكم الواجب المضيّق في اقتضائه للنهي عنه ، لكون تركه مقدّمة لأداء الواجب. بخلاف ما إذا قايسته بالضدّ الذي لا يرفع التمكّن من الواجب إلى آخر الوقت ، فإنّ تركه حينئذ ليس مقدّمة لفعل الواجب على وجه الانحصار ، لإمكان الواجب في زمان آخر غير زمان ذلك الضدّ.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عن الوجه الذي ذكرناه دليلا على هذا التفصيل : من كون الرافع للتمكّن سببا لترك الواجب دون غيره ؛ لأنّ كلاّ منهما سبب للترك بالنسبة إلى الإتيان بالواجب المضيّق في زمان الضدّ وإن كان الأوّل رافعا للتمكّن بالنسبة إلى تمام العمر أو تمام الوقت. فتدبّر في المقام حتّى يظهر لك بطلان هذا التفصيل بما لا مزيد عليه.

وأمّا القول الثاني - وهو قول البهائي - فقد أشرنا إلى ما فيه عند تحرير الأقوال ، إذ قد ذكرنا أنّ هذا القول إن لم يرجع إلى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ كان بمعزل عن التحقيق ، وقلنا : إنّ صحّة العبادة لا يحتاج إلى تعلّق الأمر بها إذا كانت مندرجة تحت عنوان مأمور به ، بل يكفي في صحّتها انطباقها على ذلك

ص: 584

العنوان. وقلنا : إنّ الوجوب الثابت للطبائع لا يسري إلى الأفراد ، وإلاّ لزم كون جميع الأفراد واجبات عينيّة إذا كان الأمر المتعلّق بالكلّي أمرا عينيّا لا غيريّا. ونزيد هنا في تزييف هذا القول الذي ذهب إليه بعض من متأخّري المتأخّرين - كصاحب الرياض على ما صرّح به في مبحث العلم بغصبيّة الثوب (1) - ونقول : إنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضدّه لا النهي عنه لا دليل عليه إلاّ دعوى كون الأمر بالضدّين تكليفا بالمحال ، فلا بدّ من الحكم بعدم تعلّق الأمر بأحدهما إذا ثبت وجوب الآخر عينا.

وفيه : أنّه إن أردت من تعلّق الأمر بالضدّين تعلّق الأمر الشرعي أو العقلي بهما عينيّا أو تخييريّا شرعيّا أو عقليّا ، فالأمر كما ذكرت من كونه تكليفا بالمحال ، ولكن مصادمة فرد من أفراد الواجب الموسّع مع الواجب المضيّق ليس من هذا القبيل ، لأنّ الفرد بخصوصه ليس ممّا ورد فيه أمر شرعيّ أو عقليّ عينيّا أو تخييريّا ؛ لأنّ معنى كون الفرد مأمورا به كون الكلّي الذي هو فرده مطلوبا للشارع ثمّ انطباق ذلك الفرد على ذلك الكلّي ، فليس الفرد في فرديّته مأمورا به في شيء.

وما يقال : من توقّف صحّة العبادة على الأمر فليس معناه إلاّ ورود الأمر على عنوان تلك العبادة وطبيعتها ، مثلا إذا قال الآمر : « ائتني برجل » فالمأمور به هنا إنّما هو الإتيان بالكلّي المنطبق على خصوصيّات الإتيان بحسب الزمان والمكان والمأتيّ به ، وأمّا خصوصيّات الإتيان وأفرادها فلم يتعلّق بها عن الكلّي انطباقه عليها وحصوله في ضمنها.

وما يقال : من أنّ حكم الطبيعة لا بدّ وأن يسري إلى الأفراد ، نظير سريان الحلاوة الثابتة لطبيعة التمر إلى جميع أفراده.

ص: 585


1- الرياض 3 : 190 - 191.

فجوابه : أنّ أحكام الطبائع ولوازمها مختلفة ، فمنها : ما هو ثابت لها من حيث هي مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي ، ومنها : ما هو ثابت لها بشرط وجودها في الخارج ، ومنها : ما هو ثابت لها بشرط الوجود الذهني كما في القضايا الطبيعيّة ، مثل قولنا : « الإنسان نوع والحيوان جنس » وأمثال ذلك.

وما ذكر من السريان إنّما هو مسلّم في الأوّلين ، وأمّا في الثالث فمن الواضح امتناع السريان فيه ، وإلاّ لكان كلّ فرد من أفراد الحيوان جنسا. والوجوب العارض للماهيّات من هذا القبيل ، فإنّه ليس عارضا للطبيعة من حيث هي هي ، ولا بها بشرط وجودها في الخارج ، بل يعرض لها بشرط وجودها الذهني. وإنّما قلنا كذلك ، لأنّ الوجوب في الحقيقة ليس من صفات الماهيّة بل هو عبارة عن الطلب القائم بنفس المتكلّم المتعلّق بإيجاد تلك الطبيعة ، وطلب الإيجاد لا يمكن أن يعتبر فيه بشرط كون المطلوب في الذهن دون الخارج. وإن أردت من تعلّق الأمر بهما تعلّق الأمر بأحدهما وبكلّي الآخر فما ذكرت من كونه تكليفا بالمسمّى ممنوع ، لأنّ المسمّى إنّما هو طلب الأمرين لا طلب أحدهما. والظاهر انطباق الآخر على المطلوب.

لا يقال : كلّ ما ذكرت - بعد تسليمه - إنّما يقضي بعدم تعلّق الأمر الشرعي بالفرد لا عينا ولا تخييرا ، وأمّا الأمر العقلي التخييري فليس في وسعك إنكار هذا ، لأنّ العقل إذا وجد تعلّق الأمر بالكلّي حكم بكون كلّ واحد من أفراده مطلوبا على جهة التخيير ، وهذا الطلب العقلي التخييري أيضا يستحيل اجتماعه مع طلب ضدّه عينا.

لأنّا نقول : إن أردت بالتخيير العقلي حكم العقل بكون الأفراد مطلوبة للشارع على سبيل التخيير ، فهذا يرجع إلى التخيير الشرعي ، إذ لا نعني بالتخيير الشرعي إلاّ طلب الشارع أشياء على جهة التخيير كالخصال ، وهذا أوّل الكلام.

ص: 586

وإن أردت بالتخيير العقلي أنّ العقل إذا وجد تعلّق الأمر بعنوان كلّي ولم يجد التخصيص حكم بحصول الامتثال في ضمن كلّ فرد ، فهذا بعينه هو الانطباق الذي ادّعينا كونه كافيا في الامتثال وأنّه ليس من الطلب في شيء.

فإن قلت : إنّ الذي سمّيته بانطباق الفرد على الكلّي هو الذي يعدّ امرا عرفا وحكمه حكم الأمر الصريح في صحّة العمل وسقوط (1) التكليف وحصول الإجزاء وترتّب الثواب والعقاب والإطاعة والعصيان وغيرها من أحكام المأمور به ، سمّيته بالأمر أم لا ، ولا ريب في استحالة هذا الانطباق في أحد الضدّين على وجه يؤثّر في الصحّة مع تعلّق الأمر بالضدّ الآخر.

قلت : هذا ممنوع ، فإنّ القبح والاستحالة إنّما هي في خصائص تعلّق الطلب بالضدّين ، فلا يثبت بطلب أحدهما وانطباق الآخر على المطلوب.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا ليس مبنيّا على القول بكون متعلّق الأمر هي الطبيعة دون الفرد - كما يتوهّم من ظاهر كلماتنا - بل لو قيل بتعلّق الأوامر بالأفراد لتمّ ما ذكرنا أيضا ، لأنّ معنى تعلّق الأمر بالفرد أنّ المطلوب إنّما هو الحصّة من الطبيعة في الخارج في ضمن فرد ما ، ولا ريب أنّ نسبة فرد ما إلى خصوص الأفراد مثل نسبة الكلّي إلى الأفراد. وحينئذ نقول : إنّ المطلوب إنّما هو أحد الأفراد على سبيل البدليّة ، ومعنى البدليّة حصول الامتثال بكلّ فرد لانطباقه على فرد ما ، فتدبّر جيّدا.

نعم ، يمكن أن يستدلّ على هذا القول بنحو ما اخترنا في هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب : من أنّ الأمر التخييري الشرعي الشأني ثابت لجميع الأفراد ولو كان الأمر الفعلي منتفيا ؛ لأنّ الآمر إذا التفت إلى الأفراد [ و ] أراد أن يثبت لها حكما من الأحكام امتنع أن يثبت شيئا إلاّ الوجوب التخييري ، وحينئذ أمكن دعوى

ص: 587


1- في ( م ) : ثبوت.

اقتضاء الأمر بالشيء عدم هذا الأمر الشأني للضدّ. ولكنّ الانصاف أنّ من يقول بهذا فلا ينبغي له إنكار اقتضاء الأمر النهي الشأني عن الضدّ ، كما أثبتنا ذلك واخترناه في المسألة وقلنا : بأنّ هذا النهي الشأني قائم مقام النهي الفعلي في الآثار. واللّه العالم.

تذنيب

هل النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العامّ أو الخاصّ ، على القول باقتضاء الأمر به النهي عنهما أو عن أحدهما أم لا؟ ذهب الكعبي إلى أنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه الخاصّ (1) لوجوه قد عرفت جوابها بما لا مزيد عليها ، وخالفه أكثر العامّة (2) وجميع الخاصّة (3) إلاّ في مواضع مستثناة متقدّمة إليها الإشارة.

وأمّا اقتضاؤه الأمر بضدّه العامّ ، مثل اقتضاء قوله : « لا تزن » الأمر بترك الزنا ، فالظاهر أنّه مثل اقتضاء الأمر النهي عن الضدّ العام ، فالكلام الذي سبق (4) هناك جار هاهنا أيضا. وقد عرفت أنّ القول بكلّ واحد منهما عين الآخر على بعض التقادير - وهو أن يكون المراد اتّحاد مصداق المطلوبين دون الطلبين - لا يخلو عن استقامة. كما أنّ القول بالعينيّة على التفسير المراد به اتّحاد نفس الطلبين لا يخلو عن استقامة ، فارجع إلى ما تقدّم حتّى يتضح لك الحال في أطراف المسألة هنا.

ص: 588


1- انظر شرح مختصر الاصول : 202 - 203 ، ونهاية الوصول : 98 ، وهداية المسترشدين 2 : 283.
2- انظر شرح مختصر الاصول : 202 - 203.
3- انظر القوانين 1 : 116.
4- في ( ع ) و ( م ) : سيق.

ثمّ قد يتفرّع على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ اقتضاء الأمر الندبي كراهة ضدّه العامّ أو الخاصّ ، وعلى اقتضاء النهي عن الشيء الأمر بضدّه استحباب ضدّ المكروه.

والتحقيق أنّ الأمر الندبي لا يقتضي كراهة ضدّه العامّ فضلا عن الخاصّ ، إذ ليس في ترك المندوب إلاّ فوت بعض المصالح ، وليس هذا بمبغوض للشارع حتّى يكون مكروها. نعم لو قلنا بأنّ المكروه طلب تركه مع الإذن في الفعل كان ترك ترك المستحب مطلوبا وفعل تركه مأذونا ، ولكنّه مع ذلك لا يعدّ من المكروه ، لأنّه عبارة عن شيء وجودي مطلوب تركه ، فلا يصدق على أمر عدميّ مطلوب نقيضه.

وأمّا اقتضاء النهي على وجه الكراهة استحباب ضدّه العام ، فالظاهر أنّه لا ضير فيه ؛ لأنّ الفرار عن المنقصة مطلوب عند الشارع ، ولا نعني بالمستحبّ إلاّ ما كان مطلوبا. وأمّا استحباب الضدّ الخاصّ فهو مبنيّ على تماميّة قول الكعبي ، ولا نقول به ، كما مرّ غير مرّة.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى على خير خلقه محمّد وآله أجمعين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

ص: 589

ص: 590

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

القول في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

اشارة

ص: 591

ص: 592

وتوضيح المرام في طيّ مقدّمة وهدايات :

أمّا المقدّمة : ففي بيان أنّ هذه المسألة هل هي ملحقة بمسائل الاصول أو بمسائل الكلام؟ وعلى الأوّل فهل هي من مقاصدها أو من المبادئ؟

فنقول : يظهر من بعضهم أنّها من المسائل الكلاميّة (1). ولم يظهر له وجه ، فإنّه يبحث في الكلام عن أحوال المبدأ والمعاد ، حيث إنّها صناعة نظريّة تقدر معها على إثبات العقائد الدينيّة : من إثبات الصانع ، وصفاته التي يتوصّل بها إلى إثبات النبيّ ، والوصيّ ، والمعاد بما فيها من العقائد ، وليس البحث المذكور ممّا يرجع إليها كما هو ظاهر. نعم ، لو كان البحث من حيث صدوره عنه [ كأن يكون النزاع في فعله ، كما يبحث في جواز إقدار الكاذب على فعل خارق للعادة ](2) كان له وجه. لكن الظاهر عدم رجوع النزاع إليه ، كما يرشد إليه كلماتهم نقضا وإيرادا. ومجرّد كونها من المباحث العقليّة لا يقضي بإلحاقها إلى المسائل الكلاميّة.

نعم ، قد يبحث في الكلام عن بعض المطالب العقليّة من حيث إنّ لها دخلا في المقاصد : كما في المسائل المتعلّقة بالطبيعيّات ، وبعض مطالب الامور العامّة كإبطال الجزء (3) وإثباته بناء على ما زعموا من ابتناء أمر المعاد الجسماني عليه ، وكامتناع إعادة المعدوم وإمكانه لذلك أيضا ، وما نحن بصدده ليس من هذا القبيل أيضا.

ص: 593


1- راجع الوافية : 99 ، وإشارات الاصول : 110.
2- أثبتناه من هامش ( ط ).
3- أي الجزء الأصلي للبدن ، راجع كشف المراد : 406.

وقد يظهر من بعض آخر (1) أنّ البحث فيها يرجع إلى البحث عن مقاصد الاصول ، فإنّها يستنبط منها صحّة الصلاة في الدار المغصوبة وفسادها.

وليس بشيء ؛ فإنّ الصحّة والفساد لا يترتّبان على الجواز والعدم ، بل التحقيق أنّ الصحّة متفرّعة على عدم التعارض والتناقض بين مدلولي الأمر والنهي ، وتشخيص ذلك موقوف على مسألة الجواز والامتناع.

فهذه المسألة من مباني المسألة الاصوليّة ، وهي وجود التعارض وتحقّق التناقض بين الأدلّة وعدمه ، فالحكم الفرعي لا يترتّب على هذه المسألة بدون توسيط.

والأولى أن يقال بأنّ البحث فيها إنّما هو بحث عن مبادئ (2) الأحكاميّة ، حيث يناسب عند ذكرها وتحقيقها ذكر بعض أحكامها وأوصافها : من ملازمة وجوب شيء لوجوب مقدّمته ، ومن جواز اجتماع الحكمين مع تضادّهما ، كما تقدّم شطر من الكلام في ذلك في بحث المقدّمة. وذلك هو الوجه في ذكر العضدي له في المبادئ الأحكاميّة (3) ، كشيخنا البهائي قدس سره (4).

ويمكن إيرادها في مباحث الأدلّة العقليّة ، من حيث إنّ العقل يحكم بارتفاع أحدهما قطعا عند الاجتماع على المنع. إلاّ أنّه ضعيف ، إذ مجرّد ذلك لا يقضي به ما لم يلاحظ فيه ثمرة فقهيّة.

ص: 594


1- انظر القوانين 1 : 142.
2- كذا ، والمناسب : « المبادئ ».
3- راجع شرح مختصر الاصول : 3 و 92 ، حيث جعله في المبادئ.
4- لم نعثر عليه.

وقيل : إنّ النفي والإثبات في المسألة راجع إلى اللغة (1). وهذا أنسب بكلام المعالم (2) حيث أوردها في مباحث النهي المبحوث فيها عن اللفظ.

وأنت خبير بما فيه من الضعف والوهن ؛ فإنّ البحث المذكور - كأدلّتهم وأجوبتهم - ممّا ينادي بأعلى صوته على فساد التوهّم المذكور. وقد ذكرنا في مباحث المقدّمة ما يوضح فساده في الغاية ، فراجعه.

وأمّا صاحب المعالم ، فحيث إنّه لم يذكر في المعالم ما يشتمل على مبادئ (3) الأحكاميّة أوردها في مسائل النهي ، مع أنّ كلماته أيضا صريحة في فساد التوهّم المذكور في كلامه ، وإن كان له في كلامه وجه في نظائره كوجوب المقدّمة ، فتدبّر.

ص: 595


1- حكاه في إشارات الاصول : 110 ، عن المحقّق الشيرواني.
2- المعالم : 94 - 96.
3- كذا ، والمناسب : « المبادئ » كما تقدّم.

ص: 596

هداية : في بيان المراد من الألفاظ المأخوذة في العنوان

فنقول : إنّ « الجواز » لغة - على ما يستفاد من كتب اللغة (1) والعرف - هو الانتقال وعدم الوقوف في حيّز ، كما في قولهم : « جاز منه إلى كذا » ومنه التجاوز. وقد يستعمل بالمشاكلة في مقابل المنع ، فيقال : « يجوز ذلك » أي لا مانع منه ، فكأنّه غير واقف على أحد الطرفين من الوجود والعدم ، و « فلان جوّز كذا » أي لم يمنع منه ، و « الشيء جائز » أي غير ممتنع. وأمّا الحاكم بالجواز فهو العقل والشرع ، وستعرف أنّ الجواز العرفي مرجعه إلى العقل ، غاية الأمر اختلاف موضوع الجوازين ، كما سيأتي.

وقيل (2) : إنّ له معان خمسة ، فتارة يطلق في قبال الباطل والفاسد ، كما في قولهم : « يجوز بيع الفضولي ». وقد يطلق في قبال القبيح ، كما يقال : « يجوز صدور المعجزة عن كذا » مثلا. وقد يطلق في قبال ما يعدّ غلطا في اللغة كما يقال : « يجوز استعمال اللفظ في كذا » إلى غير ذلك. والظاهر رجوع كلّ ذلك إلى معنى واحد ، كما لا يخفى على الفطن.

وأمّا « الاجتماع » فبعد ملاحظة إضافته إلى الأمر والنهي ظاهره وجودهما

ص: 597


1- راجع المصباح المنير : 115 ، والقاموس 2 : 170 ، وأقرب الموارد 1 : 149.
2- ضوابط الاصول : 135.

في موردهما بجميع خواصّهما وأحكامهما ولوازمهما ، من حصول الامتثال والتقرّب والثواب والعقاب. وأمّا الإسقاط فليس من الاجتماع في شيء ، كما هو ظاهر لفظ « الاجتماع ».

ومن هنا تعرف النظر في كلام العضدي بعد ما مثّل لمحلّ النزاع بالصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قال : « فقال الجمهور : تصحّ الصلاة. وقال القاضي لا يصحّ الصلاة لكن يسقط الفعل عندها ، لا بها. وقال أحمد وأكثر المتكلّمين والجبّائي : لا تصحّ ولا تسقط » (1) انتهى. حيث إنّ القول بالسقوط لا ينبغي ان يعدّ قولا ثالثا ، إذ لا اجتماع هناك ، فمرجعه إلى القول بالامتناع ، فيكون الصلاة عند القاضي من الواجبات التوصّليّة التي تسقط عند اجتماعها مع الحرام.

لكنّه بعد لا تخلو عن إجمال ؛ إذ ليس النزاع مختصّا بالصلاة ، فإنّها من مواردها كغيرها ، فإن أراد تصحيح الصلاة خاصّة فهي مسألة فرعيّة ، وإن أراد إقعاد قاعدة اصوليّة فلا وجه له كما هو ظاهر الاجتماع ، وإن أراد بيان رجوع كلّ من الأمر والنهي إلى أمر مغاير للآخر فهو مانع. ولعلّ الخلط المذكور من الناقل ، فإنّ كلام القاضي مجمل في المقام.

وأمّا القول بحصول الواجب من دون إسقاط وعدم حصول اللوازم المترتّبة على حصول المأمور به على وجهه من الشرائط والأجزاء فهو ممّا لا ينبغي المصير إليه ، كما اختاره المحقّق القمّي رحمه اللّه ، حيث بنى في العبادات المكروهة - كصوم الغدير في السفر وإن نوى الصائم فيه القربة - حصول المأمور به والمنهيّ عنه ، وعدم حصول لوازمه من التقرّب ، زاعما أنّ نيّة التقرّب لا تلازم وجود التقرّب (2). وهو بمكان من الضعف.

ص: 598


1- شرح مختصر الاصول : 92.
2- القوانين 1 : 144 - 145.

وبالجملة ، فلازم لفظ الاجتماع هو الالتزام بجميع لوازم الواجب والحرام من الثواب والعقاب والقرب والبعد ونحوها. وأمّا الأمر والنهي فالاقتصار على ظاهرهما يعطي كون النزاع في اجتماعهما نفسهما ، لا المأمور به والمنهيّ عنه.

ومن هنا قيل (1) : إنّ في المقام مسألتين ، إحداهما : أنّه هل يجوز كون الشيء الواحد متعلّقا للوجوب والحرمة من جهتين في محلّ النزاع فيهما؟ وثانيتهما : أنّه إذا أمر بعامّ ونهى عن آخر بينهما عموم من وجه ، فأتى المكلّف بالفرد الجامع ، فهل يحصل به الامتثال مع الإثم أم لا؟

وفرّق بين المسألتين : بأنّ الاولى لا ارتباط لها بتعلّق الأحكام للطبائع أو الأفراد ولا بوجوب المقدّمة وعدمه. نعم ، يحصل الفرد الذي هو محلّ الاجتماع في المسألة مثالا للاولى على بعض الوجوه. وأمّا الثانية فتتفرّع على المسألة الاولى ، فإنّ القائل بالجواز في الاولى يقول به فيها بالأولويّة (2).

وأمّا المانع فيحتمل أن يقول بالمنع والجواز أيضا في المسألة الثانية ، فإنّه على تقدير تعلّق الأحكام بالأفراد لا مجال للجواز ، لرجوعه إلى المسألة الاولى. وعلى تقدير تعلّقه بالطبائع فعلى القول بوجوب المقدّمة أيضا يكون من أفراد المسألة الاولى إن لم نقل بأنّ الفرد المحرّم من المقدّمة يوجب الامتثال. وأمّا إذا قيل بعدم وجوب المقدّمة فيجوز (3) ، أو قيل (4) بوجوبها مع حصول الامتثال بالفرد المحرّم ، فيجوز أيضا.

ص: 599


1- قاله الفاضل النراقي في المناهج.
2- مناهج الأحكام : 58.
3- في ( ع ) : فيجوزه.
4- في ( ع ) : وقيل.

ومن هنا اعترض على من عنون البحث باجتماع الوجوب والحرمة والأمر والنهي ، وبعد اختياره القول بالجواز استند إلى أنّ متعلّق الأمر هو الطبيعة والفرد مقدّمة وهي ليست بواجبة ، فإنّ هذه الدعوى غير مربوطة بهذه الحجّة ، وقال : ما أدري ما المناسبة بين الدليل والمدلول (1)؟

أقول : ولعلّ ما عرفت من عنوان المسألتين هو المراد في كلام بعض الأواخر من التفكيك بين اجتماع الأمر والنهي المنسوبين إلى الآمر وبينهما منسوبين إلى المأمور ، حيث قال بامتناع الأوّل وجواز الثاني (2) ، وهو مطابق لظاهر لفظي « الأمر » و « النهي ».

إلاّ أنّ التأمّل في كلمات المانعين والمجوّزين يعطي عدم الفرق بين المسألتين ، بمعنى أنّ العنوان يصلح للنزاعين ولكلّ واحد منهما أيضا ، كما يظهر من ملاحظة كلام العضدي حيث استند للحكم بالجواز بالدليل المذكور (3) مع أنّه عنون النزاع بما هو المعروف فيه. ويساعده جواب المانعين عن حجّة اخرى : من أنّ المقصود من الأمر بالخياطة هو حصولها على أيّ وجه اتّفق ، فإنّه ظاهر في المأمور به والمنهي عنه. وعلى ما ذكره يكون النزاع بين المانعين والمجوّزين في المسألة الثانية صغرويّا ، لأنّ النزاع إنّما هو في أوّل هذه المسألة ورجوعها إليها ، كما صرّح به البعض (4) أيضا (5).

ص: 600


1- لم نعثر عليه.
2- ضوابط الاصول : 133.
3- شرح مختصر الاصول : 93.
4- في ( ع ) : بعض.
5- ضوابط الاصول : 132.

ثمّ إنّ الأمر والنهي ظاهران في الإلزاميّين منهما ، إلاّ أنّ المناط فيهما موجود في غير الإلزاميّين أيضا ، ومن هنا يتخيّل عموم النزاع ، وليس بشيء.

وهل المراد بالأمر والنهي الإلزاميّين جميع أقسامهما من العينيّين والتخييريّين والمختلفين والكفائيّين وغير ذلك ، أو يختصّ ببعض الأقسام؟

وتفصيل القول في المقام هو : أنّه لا إشكال عندهم في خروج العينيّين من هذا النزاع ، كما هو صريح كلّ من خصّ النزاع بما إذا كان للمكلّف مندوحة في الامتثال (1) دون ما إذا لم يكن مندوحة ، كمن توسّط أرضا مغصوبة ، وإن فرّط بعض المجوّزين حيث قال بالجواز فيه أيضا (2). والحق أنّه ليس تفريطا بل هو قول بمقتضى مذهبه ، وإن كانت تلك المسألة خارجة عمّا نحن بصددها. كما أنّهم أيضا عنونوها بعد هذه المسألة ، كما ستعرفه.

وأمّا الأمر والنهي التخييريّين : سواء كان التخيير فيهما عقليّا أو شرعيّا ، فلا ينبغي التأمّل في جواز اجتماعهما ، كما في الأمر بتزويج إحدى الاختين والنهي عن الاخرى ، فإنّ مرجع ذلك إلى وجوب إحداهما والنهي عن الجمع ، هذا في الشرعي. وأمّا في العقلي كما لو فرض تعلّق الأمر بطبيعة باعتبار فرد والنهي عنها باعتبار فرد آخر ، إذ مرجعه إلى وجوب أحد الأفراد والنهي عن إلحاقه بفرد آخر.

وأمّا الأمر العيني والنهي التخييري : كأن يأمر بتزويج إحداهما عينا وينهى عنهما تخييرا ، فلا ينبغي التأمّل في عدم الجواز ، لكنّه ليس من المجوّز التزامه فيه أيضا بعيدا ، إذ لا مائز حقيقة في البين.

وأمّا الأمر التخييري والنهي العيني : فهو من محلّ النزاع إذا كان التخيير

ص: 601


1- مثل الفاضل الأصفهاني في الفصول : 124.
2- لم نعثر عليه.

عقليّا ، وأمّا إذا كان شرعيّا فعلى تقدير تعلّق الطلب بكلّ واحد من الواجبين التخييريّين كأن يكون الطلب في أحدهما بدلا عن الطلب في الآخر - كما هو مذهب المعتزلة والإماميّة في الواجب التخييري (1) - فلا إشكال في عدم الجواز ، فإنّ مناط الامتناع في الواجب العيني موجود فيه أيضا. وأمّا على تقدير تعلّق الطلب بواحد - كأن يكون المطلوب بدلا عن مطلوب آخر - فمرجعه إلى التخيير العقلي ، إذ المطلوب هو القدر المشترك أيضا. ويحتمل دخوله في محلّ الكلام.

وأمّا العينيّان في قبال الكفائيّين : فلا يفرق فيه الكلام كالكفائيّين ، إلاّ أنّه هنا شيء لا بأس بالتنبيه عليه ، وهو أنّه في الواجب الكفائي لا يلاحظ فيه حال المكلّفين ، بمعنى أنّه لو قلنا بوجوب غسل الميّت موافقا كان أو مخالفا على سبيل الكفاية لا وجه للقول بحرمته العيني أو كراهته ، فإنّ ذلك من اجتماع الحرمة العينيّة مع الوجوب العيني في قبال الوجوب والتحريم التخييريّين. وقد عرفت أنّه لا كلام في خروجه عن محلّ النزاع.

ومن هنا يظهر الإشكال في حكمهم بكراهة تغسيل المخالفين بعد القول بوجوب غسلهم (2) ، وحكمهم بكراهة القضاء بين الناس لمن لا يثق بنفسه (3) ، فإنّ الإشكال فيهما زائد على الإشكال في مطلق العبادات المكروهة ؛ لأنّ الأمر فيها تخييري بخلاف الأمر فيهما ، فإنّه عينيّ وإن كان كفائيّا ؛ ولذلك قد يجاب عنه بما لا يجاب به فيها : من أنّ المكروه فيهما هو المبادرة إليهما مع وجود من يقوم بالواجب

ص: 602


1- انظر هداية المسترشدين 2 : 288.
2- انظر الشرائع 1 : 37 و 39 ، والقواعد 1 : 223 - 224.
3- لم نعثر عليه بعينه. نعم ، ذكر في الشرائع ( 4 : 68 ) : « الثانية : تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه ».

الكفائي ، بل لا بدّ في الواجب الكفائي من ملاحظة حال الفعل ، كالصلاة على الميت في المكان المغصوب ، فإنّه واجب تخييريّ كفائي ، فيكون من محلّ الكلام.

وأمّا سائر أقسام الأمر والنهي من الموسّعين والمضيّقين والمشروطين أو التعبّديّين والتوصّليين وغير ذلك ، فلعلّه لا فرق بينها في دخولها في محلّ الكلام لو لم يدّع ظهور الأمر والنهي في بعضها ، وعلى تقديره فالمناط فيها واحد ، كما في غير الإلزاميّين على ما عرفت.

وأمّا المراد من « الشيء الواحد » فقد ذكر غير واحد منهم (1) تبعا للعضدي (2) أنّه هو الواحد بالوحدة الشخصيّة ، وأمّا الواحد بالوحدة الجنسيّة فلا نزاع في جواز الاجتماع فيه كما في السجود ، فإنّه مأمور به ومنهيّ عنه.

وفيه : أنّ ترك التقييد أولى ؛ لما فيه من إيهامه خلاف المقصود ، إذ لا إشكال في امتناعه في الواحد بالجنس أيضا من حيث إنّه واحد ، وإنّما يجوز فيه باعتبار كثراته في مراتب أنواعه ، وكذا في الواحد بالنوع فإنّه يمتنع في وحدته أن يكون مأمورا به ومنهيّا عنه ، وإنّما يصحّ باعتبار كثراته في أشخاصه ، فعند التحقيق لا يكون الجنس ولا النوع على تقدير اعتبار الأخصّ منهما في تعلّق الأمر والنهي مأمورا به ولا منهيّا عنه.

ص: 603


1- مثل صاحب المعالم في المعالم : 94 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 140 ، وصاحب الفصول في الفصول : 124.
2- شرح مختصر الاصول : 92.

ص: 604

هداية

اشارة

ينبغي أن يذكر أمام المقصود امور لعلّها مربوطة به.

الأوّل

أنّ متعلّق الأمر والنهي إمّا أن يكون متّحدا في الذهن والخارج ، أو يكون متعدّدا فيهما ، أو متّحدا في الخارج ومتعدّدا في الذهن ، ولا رابع لهذه الأقسام.

لا إشكال في امتناع الاجتماع في الأوّل فإنّه تناقض صرف ، وجوازه في الثاني مع عدم الملازمة بينهما في الوجود ، وأمّا معها فقد عرفت الكلام فيه ، وسنورد ما يوضحه أيضا.

وأمّا الثالث : فقد يكون أحدهما ملازما في الصدق للآخر كما في الإنسان والضاحك ، وقد لا يكون كأن يكون أحدهما أعمّ من الآخر مطلقا ، أو من وجه.

لا إشكال أيضا عندهم في امتناع الاجتماع في القسم الأوّل ، لاتّفاق كلمتهم على اعتبار المندوحة في الامتثال.

وأمّا الثالث ، فهو محلّ الكلام إن لم ينحصر أفراد أحدهما في فرد الآخر ، إذ على تقدير الانحصار يكون من الموارد التي لا مندوحة للمكلّف في الامتثال. ويظهر من المحقّق القمّي رحمه اللّه عند تعرّضه لبيان الحكم (1) المتوسّط في الدار المغصوبة : أنّ

ص: 605


1- كذا ، والمناسب « حكم ».

المدار على التعدّد الذهني فقط وإن انحصر مفهوم أحدهما في مصاديق الآخر (1). ولعمري! إنّه أخذ بلوازم مذهبه في الواقع ، كما ستعرف.

وأمّا القسم الثاني - وهو العموم المطلق - فقد يظهر من المحقّق القمّي رحمه اللّه أنّه خارج عن محلّ الكلام ، وجعل ذلك مناط الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية من اقتضاء النهي الفساد (2).

واعترض عليه بعض الأجلّة (3) : بأنّه لا وجه للتخصيص بذلك ؛ فإنّ أدلّة المجوّزين والمانعين يجري في العموم والخصوص المطلق ، ومجرّد كون المثال من العموم من وجه لا يقضي باختصاص البحث به بعد شمول العنوان والأدلّة لغيره أيضا. وجعل مدار الفرق بين المسألتين بأنّ الطبيعتين إن اتّحدتا حقيقة وتغايرتا اعتبارا بمجرّد الإطلاق والتقييد - بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد - فهو من المسألة الثانية ، وإلاّ فمن محلّ الكلام.

ولعلّ مراده أنّ مناط الفرق هو اتّحاد متعلّق الطلب وتعدّده ، كما في قولك : « صلّ ولا تغصب » ، « صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة » فإنّ الأوّل لكون المفهومين فيه متعدّدا يكون من محلّ الكلام ، والثاني لاتّحادهما يكون من المسألة الآتية. ولا فرق في ذلك بين كون النسبة عموما مطلقا - كما عرفت - أو عموما من وجه كقولك : « صلّ صلاة الصبح ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة ». كما أنّه لا فرق في محلّ الكلام بين كون النسبة عموما من وجه كما عرفت ، أو عموما مطلقا كقولك : « صلّ ولا تغصب حال الصلاة ». نعم ، يمكن إرجاع كلّ من الموردين إلى الآخر

ص: 606


1- القوانين 1 : 140.
2- انظر القوانين 1 : 147.
3- الفصول : 134.

باعتبار في أحدهما ، كأن يقال بأنّ النهي عن الغصب حال الصلاة راجع إلى النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ، وغير ذلك.

أقول : إنّ ظاهر هذه الكلمات يعطي انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون اختها ، وليس كذلك ، بل التحقيق أنّ المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالاخرى.

وتوضيحه : أنّ المسئول في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهيّة المطلوبة (1) فعلها والماهيّة المطلوبة (2) الترك ، من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي ، فإنّه كما يصحّ السؤال عن هذه القضيّة فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه ، فكذا يصحّ فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك : « صلّ » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » أو لم يكن كذلك. والمسئول عنه في المسألة الآتية هو أنّ النهي المتعلّق بشيء هل يستفاد منه أنّ ذلك الشيء ممّا لا يقع به الامتثال؟ حيث إن المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأيّ فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أنّ النهي المتعلّق بفرد من أفراد المأمور به هل يقتضي رفع ذلك الترخيص الوضعي المستفاد من إطلاق الأمر أو لا؟ ولا ريب في أنّ هذه القضيّة كما يصحّ الاستفسار عنها فيما إذا كان بين المتعلّقين إطلاق وتقييد ، فكذلك يصحّ فيما إذا كان بينهما عموم من وجه ، كما إذا كان بينهما عموم مطلق.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين كما زعموا ، بل لا بدّ من اختلاف جهة الكلام ، وعلى تقدير اختلافها لا حاجة إلى التجشّم المذكور في بيان الفرق. ولو لا ما ذكرنا لم ينطبق عليه الأقوال المذكورة في المقام الآتي ، كما لا يخفى.

ص: 607


1- كذا ، والأنسب : « المطلوب ».
2- كذا ، والأنسب : « المطلوب ».

ثمّ إنّ الظاهر اختصاص كلماتهم فيما نحن بصدده بما إذا كان العموم من وجه بين نفس الفعل المأمور به والفعل المنهيّ عنه ، كما في قولك : « صلّ » و « لا تغصب » حيث إنّ النسبة المأخوذة فيهما غير مستندة إلى أمر خارج عن الطبيعتين. بخلاف ما إذا كان العموم بينهما باعتبار متعلّقهما كما في قولك : « أكرم عالما » و « لا تكرم فاسقا » فإنّ الإكرام باعتبار الإضافة والتعلّق بالعالم والفاسق قد اختلفت ماهيّته على وجه العموم والخصوص من وجه ، كما هو ظاهر. ولعلّ الوجه في ذلك - على ما سيأتي - هو اختلاف متفاهم المثالين عند العرف.

وبما ذكرنا يمكن دفع ما ربما يورد على القوم : من التناقض بين الخلاف في المقام وبين إطباقهم في مباحث الترجيح على التوقّف والرجوع إلى الاصول في تعارض العامّين من وجه أو التخيير أو غير ذلك من غير احتمال الجمع ، إلاّ أنّ المجوّز بعد مطالب بالفرق بين المقامين. كما أنّه مطالب بذلك فيما إذا لم تكن مندوحة وبين غيره ، وقد عرفت (1) أنّ بعضهم قد طرّد الكلام فيه أيضا.

الثاني : في بيان الأقوال في هذه المسألة

فنقول : إنّهم اختلفوا فيها على قولين :

فذهب أكثر أصحابنا (2) وجمهور المعتزلة (3) وبعض الأشاعرة

ص: 608


1- انظر الصفحة 600.
2- منهم العلاّمة في نهاية الوصول : 116 ، والفاضل التوني في الوافية : 91 - 92 ، وصاحب الفصول في الفصول : 125.
3- انظر المعتمد 1 : 181 ، والإحكام للآمدي 1 : 158.

- كالباقلاني (1) - إلى الامتناع ، بل عن جماعة - منهم : العلاّمة (2) ، والسيّد الجليل في إحقاق الحقّ (3) ، والعميدي (4) ، وصاحبي المعالم (5) والمدارك (6) ، وصاحب التجريد (7) - : الإجماع عليه ، بل ادّعى بعضهم الضرورة (8) ، وليس بذلك البعيد.

وأكثر الأشاعرة على الجواز ، ووافقهم جمع من أفاضل متأخّري أصحابنا ، كالمحقّق الخوانساري في تداخل الأغسال من المشارق (9) ، وجمال الدين (10) ، والمدقّق الشيرواني (11) ، والسيّد الشارح للوافية (12) ، والمحقّق القمّي رحمه اللّه (13) بل نسبه (14) إلى ظاهر

ص: 609


1- راجع المستصفى 1 : 77 ، وشرح مختصر الاصول : 92.
2- نهاية الوصول : 116.
3- حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 54.
4- حكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : 54 ، وانظر منية اللبيب : 123.
5- المعالم : 93.
6- المدارك 3 : 217 ، وحكاه عنه وعن صاحب المعالم في المناهج : 54.
7- تجريد الاصول للنراقي لا يوجد لدينا وحكى عنه ابنه في المناهج : 54.
8- راجع حاشية المعالم للملاّ صالح : 118.
9- انظر المشارق : 61 ، ذيل قول المصنّف : وفي تداخل الأسباب.
10- انظر حاشية اللمعة : 206.
11- لم نعثر عليه في الحواشي المتعلّقة بالمبحث ، انظر المعالم والحواشي المتعلّقة بها في الصفحة 98 - 100.
12- انظر شرح الوافية للسيّد صدر الدين : 65 - 83.
13- القوانين 1 : 140.
14- نسبه إليهم في القوانين 1 : 140.

السيّد في الذريعة (1) ، والأردبيلي (2) بل حكاه عن الفضل بن شاذان (3) مستظهرا من كلامه أنّه من مسلّمات الشيعة ، واستظهره من الكليني (4) أيضا ؛ حيث نقل كلام الفضل ولم يطعن عليه.

والإنصاف أنّ الاستظهار من كلام الفضل ممّا لا وجه له ، لأنّه هو الذي نقله الكليني في كتاب الطلاق ، وهو يدلّ على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ، وهو أعمّ من القول بالجواز من وجوه أقلّها جريان العادة على عدم الحظر في الصلاة ، ويجري ذلك مجرى الإذن أو الأخبار الدالّة على أنّ للناس حقّا في الأرض (5) ، أو القول بأنّ الكون خارج عن الصلاة بل إنّما هو من ضروريّات الجسم كما هو المحكيّ عن البهائي في حبل المتين (6) والمحقّق في المعتبر (7) ، أو القول بأنّ الصلاة من الواجبات التوصّلية التي تسقط عند اجتماعها مع الحرام.

والمنقول من السيّد في الذريعة أظهر في عدم الجواز ، وهو قوله : « وقد يصحّ أن يقبح من المكلّف جميع أفعاله من وجه ويحسن على وجه آخر ، وعلى هذا الوجه يصحّ القول بأنّ من دخل زرع غيره على سبيل الغصب أنّ له الخروج عنه بنيّة التخلّص وليس له التصرّف بنيّة الإفساد ، وكذلك المجامع زانيا له الحركة بنيّة

ص: 610


1- الذريعة 1 : 178 و 194.
2- مجمع الفائدة 2 : 110.
3- الكافي 6 : 94.
4- القوانين 1 : 140.
5- لم نعثر عليها.
6- الحبل المتين : 157.
7- حكاه المحقّق النراقي في المناهج : 54 ، ولكن لم نعثر عليه في المعتبر.

التخلّص وليس له الحركة على وجه آخر » (1). وهو ظاهر في أنّ حال كون الفعل مطلوبا لا يكون مبغوضا ، وقوله : « من وجه » يعني به من حيث دخوله تحت عنوان ، كما هو صريح المثال المذكور.

وقد ينقل في المقام قول ثالث ، وهو : التفصيل بين العقل والعرف ، فيجوز عقلا ولا يجوز عرفا. ونسبه بعضهم إلى الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال : اعلم أنّ السبب لبطلان الصلاة في الدار المغصوبة هو النهي عنها المستفاد من عدم جواز التصرّف في مال الغير ، فلا تبطل صلاة المضطرّ ولا الناسي ولا الجاهل - إلى أن قال : - وإذا علم السبب تحقّق (2) عدم بطلان عبادة ما لم تتّحدا وما لم يكن التصرّف في المكان عبادة ، مثل الصوم والزكاة - إلى أن قال : - أمّا الطهارة في المغصوب فإن قلنا : إنّ إجراء الماء على العضو تصرّف في ملك الغير حيث وقع في فضائه [ أو أنّه متّصل بالعضو الذي على المكان ، فإجراء الماء عليه مستلزم لتصرّف ما في المكان ](3) لكنّه بعيد فلا يصحّ وإلاّ صحّت. ثمّ قال : ويمكن مجيء بطلان الوضوء من جهة أنّه مأمور بالخروج فاشتغل به عن ذلك فصار حراما فيبطل. وهو إنّما يتمّ لو فرض مانعيّته فيه من حيث هو عن الخروج حتّى يحصل المنافاة. ويمكن أن يقال : لا شكّ أنّه مأمور بالوضوء في المكان المباح ، إذ الشارع لا يجوّز الوضوء في المكان المغصوب ، وهو ظاهر ، والمفهوم عرفا ولغة في مثل هذا الكلام عدم الرضا بالوضوء وبطلانه ، ولأنّه لم يأت بالمأمور به عرفا. نعم ، العقل يجوّز الصحة لو صرّح

ص: 611


1- الذريعة 1 : 178.
2- في المصدر : وإذا تحقّقت أنّ سبب بطلانها حينئذ هو لزوم اتّحاد المأمور به والمنهيّ عنه تحقّقت أيضا عدم بطلان عبادة ...
3- أثبتناه من المصدر.

بأنّه لو فعلت في المكان المغصوب بعد نهيك عنه يصحّ وعوقبت بما فعلت. وبمثله يمكن القول بالبطلان في كثير من العبادات بل في بعض المعاملات والمناكحات (1) ، انتهى ما أفاده قدّس اللّه روحه.

ولعلّ موضع الاستفادة من هذا الكلام قوله : « لأنّه لم يأت بالمأمور به عرفا ، نعم العقل يجوّز الصحّة لو صرّح » وأنت خبير بما في هذه الاستفادة ، إذ لم نجد لكلامه دلالة على المدّعى بوجه ، فإنّ ظاهر كلامه هو تعلّق النهي بالخارج عن العبادة ، ومع ذلك يستظهر إمكان فسادها عرفا مع إمكان الصحّة عقلا على تقدير التصريح ، فإنّ أوّل كلامه نصّ في الامتناع مطلقا ، ثمّ التفت إلى ملاحظة قاعدة الأمر بالشيء مع النهي عن ضدّه ، ولذلك بنى تماميّته على فرض المانعيّة ، ثمّ تفطّن في (2) الاستدلال بإمكان استفادة البطلان من تعلّق النهي بالخارج ، نظرا إلى أنّ هذه العبارة في العرف ينساق منها الفساد وإن كان على تقدير التصريح جائزا.

ومنه يظهر حال النسبة فيما تقدّم أيضا.

وقد ينسب ذلك إلى فاضل الرياض أيضا ، وكأنّه مسموع منه شفاها.

وكيف كان فلو كان هناك مفصّل ، فالذي ينبغي أن يراد هو أنّ هناك موضوعين :

أحدهما : أن يتعلّق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة اخرى ، غاية الأمر اتّحادهما في الوجود الخارجي ، ولا ضير في ذلك كما يراه المجوّز.

وثانيهما : أن يتعلّق الأمر والنهي ابتداء بجزئي أو بجميع جزئيّات تينك الطبيعتين.

ص: 612


1- مجمع الفائدة 2 : 110 - 112.
2- في ( ع ) بدل « في » : على.

ولا ريب في أنّ الثاني ممّا لا يجوّزه العاقل ، فاللفظ الوارد في مقام الأمر والنهي وإن كان مفاده لغة تعلّق الأمر بالطبيعة والنهي بطبيعة اخرى ، وهذا الموضوع ممّا يجوّزه العقل ، إلاّ أنّ المنساق منه في العرف هو تعلّق الأمر والنهي بالفرد لا بالطبيعة ، وبعد استفادته من اللفظ ، فلا إشكال في الحكم بعدم الجواز عقلا أيضا في هذا الموضوع.

فظهر أيضا أنّ نسبة عدم الجواز إلى العرف ليس إلاّ بواسطة استفادة العرف موضوعا من اللفظ الوارد في مقام الأمر والنهي يحكم فيه العقل بالامتناع ، وليس المراد هو أنّ العرف حاكم بعدم الجواز في مقابل العقل ، كما ظنّه بعض عوام الطلبة.

وبالجملة ، فالحاكم دائما هو العقل ، والعرف أيضا لا يمكن تخلّفه عن العقل من حيث الحكومة. نعم ، ليس العقل مستقلاّ في كيفيّة استفادتهم المطالب من الألفاظ ، بمعنى عدم الاكتفاء به فيها ، بل لا بدّ مع ذلك من العلم بالوضع وكيفيّات الاستعمالات في الموارد الخاصّة المستندة إلى القرائن المقاليّة والشواهد المقاميّة ونحوها. وأمّا في غير هذه الجهة فلا مجال لغير العقل فيها ، كما يظهر في الحكم بالمجاز والتخصيص والتقييد ، كما في قولك : « رأيت أسدا يرمي » فإنّ العرف بعد استفادة معنى « الأسد » حقيقة واستفادة معنى « يرمي » يحكمون بواسطة عقولهم بالتناقض والتعارض بين المرادين ، ثمّ يستخرجون المراد منهما بتقديمهم الظهور الثابت في القرينة على الظهور الناشئ من الوضع لكونه أظهر منه. وهذه هي الطريقة المستقرّة في استخراج المطالب من العبائر واستكشاف المرادات من الضمائر ، وذلك نظير ما قلنا في بحث المقدّمة عند الاستدلال على وجوبها بعدم جواز التصريح بجواز تركها ، حيث إنّ المنساق من التصريح المذكور عرفا هو جواز الترك من كلّ الحيثيّات ، والمقصود جواز تركها من حيث نفسها ، فلا يمكن التصريح به لأجل هذه الحزازة ، لا من حيث إنّ المقدّمة واجبة.

ص: 613

والحاصل أنّ التفصيل المذكور ليس تفصيلا في الحاكم ، بل إنّما هو حكم من حاكم واحد في موضوعين (1) مختلفين ، وستطّلع بعد ذلك على وجوه فساده إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : في بيان ثمرة النزاع

واعلم أنّه لمّا كانت هذه المسألة من المبادئ ، فالوجه أن تظهر الثمرة في مسألة اصوليّة ، وهي أنّ الأمر والنهي في مورد الاجتماع هل هما متعارضان أو لا تعارض بينهما؟ فعلى القول بالامتناع فالتعارض ثابت ، وعلى القول بالجواز فلا تعارض. ويترتّب على تلك المسألة استحقاق الثواب والعقاب والصحّة والفساد والموافقة والمخالفة فيما لو أتى المكلّف بالفرد الجامع للعنوانين.

وعلى تقدير التعارض ففي العموم المطلق لا بدّ من تقديم جانب الخاصّ كما هو المقرّر ، وفي العموم من وجه لا بدّ من الأخذ بالمرجّحات الداخليّة ، كقلّة أفراد أحد العامّين فيما لو ساعد العرف عليه ، أو المرجحات الخارجيّة - على اختلاف المشارب في تعارض الدلالتين - وعلى تقدير عدم المرجّح أو عدم الرجوع إليه في العامّين من وجه فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة ، وقضيّة الأصل بعد التساقط هو الحكم بإباحة الكون المذكور وفساد الصلاة.

لا يقال : إنّه لا مانع من صحّة الصلاة إلاّ احتمال النهي ، وبعد الحكم بالإباحة فالوجه صحّة الصلاة.

ص: 614


1- في ( ع ) ، ( م ) : موضعين.

لأنّا نقول : إنّه لا مانع من الحكم بالحرمة إلاّ من حيث إنّ الكون المذكور كون صلاتيّ ، وبعد الحكم ببطلانها فالوجه هو حرمة الكون.

وبعبارة واضحة : أنّ تعارض الخطابين وسقوطهما في مورد الاجتماع اقتضى الرجوع إلى الاصول العمليّة ، والأصل العملي بالنسبة إلى الغصب - مثلا - بعد عدم العلم بحرمته يقتضي الإباحة ، وفي الصلاة - حيث إنّها شكّ في سقوط المكلّف به بالإتيان بهذا الفرد المشكوك وقوع الامتثال به ، نظرا إلى احتمال تعلّق النهي به مع فرض سقوط الإطلاق من جانب الأمر - يقتضي بقاء التكليف وعدم حصول الامتثال. والملازمة الواقعيّة بين الصحّة والإباحة لا يجدي في المقام بعد اختلاف مفاد الاصول ، فإنّ التفكيك في الأحكام الظاهرية غير عزيز ، كما هو ظاهر.

نعم ، لو كان في المقام إطلاق فمجرّد احتمال تعلّق النهي لا يدلّ على المطلوب ، لأنّ الأصل عدمه ، إلاّ أنّ المفروض خلافه.

هذا على مذاق القائل بالاشتغال عند الشكّ في الشرطيّة ، وعلى القول بالبراءة فلا يبعد الحكم بالصحّة ، إذ مرجع الشكّ إلى أن من شروط الصلاة وقوعها في غير المكان المغصوب وأصالة البراءة عن الزائد يقضي بالصحّة.

هذا ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ الأخذ بالمرجّح من حيث الدلالة مثل تقديم الخاصّ على العامّ أو تقديم النهي على الأمر لقوّة الدلالة لا يلائم (1) مذاق المشهور المانعين ، حيث إنّهم - كما عرفت من كلام المحقّق الأردبيلي رحمه اللّه (2) - يقتصرون في التخصيص بصورة وجود النهي الفعلي ويحكمون بالصحّة في صورة النسيان والجهل ونحوهما ، وتخصيص العامّ بالخاصّ ليس من هذا القبيل ، بل مقتضاه خروج الفرد

ص: 615


1- في ( ع ) و ( ط ) : لا يلازم.
2- انظر الصفحة 611 - 612.

بجميع أحواله عن العامّ. ويزيد إشكالا فيما لو قلنا بأنّ لا فرق بين العموم من وجه المتحقّق في مثل الصلاة والغصب ، وبين المتحقّق في قولهم : « أكرم عالما ولا تكرم فاسقا » فإنّ المعهود بينهم هو التخصيص مطلقا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه فيما إذا لم يكن الشكّ في أصل مسألة الاجتماع. وأمّا على تقدير الشكّ فيه فقد يقال : إنّ الأصل هو الإمكان ، وقد عرفت في بعض مباحث الظنّ أنّه لا يترتّب على الإمكان الظاهري حكم. نعم ، أصالة الإطلاق بالنسبة إلى دليل الأمر والنهي حاكمة في أمثال المقام ، إذ الشك إنّما هو في مانع الإطلاق ، والأصل عدمه ، وسيأتي لما تقدّم زيادة توضيح. واللّه الهادي ، وهو الموفّق.

ص: 616

هداية : في حجج المجوّزين

اشارة

وهي امور :

أحدها : لو لم يكن جائزا لكان بواسطة التضادّ بين الحرمة والوجوب ، إذ لا مانع سواه ، وهو لا يصلح للمنع ، وإلاّ لكان جاريا في جميع الأحكام لتضادّها بأسرها ، مع أنّه قد اجتمع الوجوب والكراهة في كثير من الموارد كالصلاة في الحمّام والمعاطن والوضوء بالماء المشتبه بالغصبيّة إلى غير ذلك من الموارد ، والوجوب مع الإباحة كالصلاة في الدار ، والوجوب مع الاستحباب كالصلاة في المسجد والمواضع المتبرّكة.

واجيب عن ذلك :

تارة بالنقض : بأنّ اللازم ممّا ذكرتم هو اجتماع الواجب التخييري الشرعي مع الحرام العيني أيضا ، مع أنّه لا يلتزم به أحد من المجوّزين.

وتوضيحه هو : أنّ المجوّز لا يقول بعدم التضادّ بين الأحكام ، بل إنّما يقول بأنّ تعدّد الجهة مجد في اجتماع المتضادّين ، والحرام مع الواجب التخييري العقلي لا يمتنع اجتماعهما من جهتين كما هو المطلوب ، فيطالب بالفرق بين الواجب التخييري الشرعي والعقلي حيث لا يجوّز الأوّل ويجوّز الثاني ، فإنّ وجه الجواز إن كان تعدّد الجهة مع إمكان الامتثال فهو موجود في الواجب التخييري الشرعي ، وإن كان غيره فلا بدّ من بيانه حتّى ينظر إليه.

ص: 617

وتارة بالحلّ : ويقع الكلام تارة في النواهي التي نسبتها إلى الأوامر عموم من وجه ، وتارة في النواهي التي نسبتها إليها عموم مطلق ، فإنّ موارد النقض من كلتا الطائفتين.

أمّا الاولى فكاستعمال الماء المشتبه في الطهارة ، والصلاة في بيوت الظالمين. وأمّا الثانية ، فكالصلاة في الحمّام ونحوها. وخروجها عن محلّ الكلام في المسألة نظرا إلى انعقادها في العامّين من وجه - كما قيل - ليس بضائر ، لاستلزام الجواز فيه الجواز فيما نحن فيه بطريق أولى.

أمّا الكلام فيما إذا كانت النسبة عموما وخصوصا مطلقا فمن وجوه :

الأوّل : ما ذكره جماعة (1) ، من أنّ الكراهة في هذه العبادات كاستحبابها وإباحتها ليست على حقائقها المصطلح عليها : من مرجوحيّة الفعل ورجحان الترك ، ورجحان الفعل ومرجوحيّة الترك ، وتساويهما ، حتّى يلزم من اتّصاف الواجب بهذه الأوصاف اجتماع الضدّين ، بل المراد بها كون الواجب أقلّ ثوابا من الثواب المقرّر لطبيعة ذلك الواجب أو أكثر ثوابا منها أو مشتملا على ذلك الثواب فقط.

وأوضحه بعض المحقّقين في حاشية المعالم ، حيث قال : إنّ أقصى ما يقتضيه ذلك مرجوحيّة تلك التصرّفات بالنظر إلى ذواتها ، وهو لا ينافي رجحانها من جهة اخرى نظرا إلى وقوعها جزءا من العبادة الواجبة ، وحينئذ يقع التعارض بين الجهتين ، ومن البيّن أنّ مرجوحيّة المكروه لا يوازي رجحان الواجب ، فغاية الأمر أن يحصل هناك نقص في ثواب الواجب ويكون الفعل بعد ملاحظة الجهتين راجحا

ص: 618


1- منهم الفاضل التوني في الوافية : 95 ، والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 142 ، والنراقي في المناهج : 57 - 58.

لا مكروها بمعناه المصطلح. نعم ، يثبت له الكراهة بالمعنى المذكور بالنظر إلى ذاته ، وذلك لا يستدعي ثبوت الكراهة في خصوصيّات الموارد مطلقا ، إذ قد يعرضه ما يوازي بسببه رجحان يوازي تلك المرجوحيّة فيزيد عليها فترتفع الكراهة المذكورة عن ذلك ، غاية الأمر أن يكون أقلّ ثوابا عن العاري عن تلك المنقصة. نعم ، لو قلنا حينئذ ببقاء المرجوحيّة بالمعنى المذكور صحّ ما ذكره من النقض.

ثمّ أجاب عن الإيراد على هذا الوجه من عدم الضابط ولزوم مكروهيّة جلّ العبادات : بأنّه ليس المراد بها مجرّد أقليّة الثواب بالنظر إلى غيرها ، بل المقصود كونها أقلّ ثوابا بالنظر إلى ما اعدّ من الثواب لتلك العبادة في حدّ ذاتها ، فقد يجيء هناك ما يزيد ثوابها من ذلك كما في المسجد ونحوه ، وقد يجيء ما يوجب نقصه كالصلاة في الحمّام (1) ، انتهى.

ومحصّل الكلام في تنقيحه هو : أنّ الكراهة الاصطلاحيّة التي هي عبارة عن طلب ترك الفعل على وجه التنزيه تابعة لجهة نقصان موجودة في نفس الفعل يقتضي هذا النحو من الطلب ، إلاّ أنّه ربما يمنع من ذلك الترتّب مانع ، مثل اشتمال ذلك الفعل على مصلحة تقتضي لطلبه على وجه الحتم والإلزام ، ضرورة أنّ تلك الجهة لا يوازي مصلحة الواجب ورجحانه ، فالكراهة بمعنى الطلب لا يكون موجودا ، وإنّما الموجود هي جهة الكراهة ، ولا إشكال في أنّ تلك الجهة يمكن أن تصير منشأ لنقصان مصلحة الواجب على وجه يكفي في الوجوب بعد النقصان أيضا. وهذا هو المراد من قلّة الثواب ، ولا وجه للقول بأنّ بعد تصادم الجهتين لا نسلّم وجود مصلحة كافية في الوجوب ، لأنّ الإجماع على تحقّق الوجوب كاشف عن ثبوت تلك المصلحة ولو بعد المصادمة.

ص: 619


1- هداية المسترشدين 3 : 93 - 94.

فإن قلت : فلا يجري هذا الجواب في العبادات المكروهة التي لا دليل على اشتمالها على مصلحة زائدة على مصلحة الوجوب ، فإنّ فيها لا وجه للوجوب بعد التصادم ، ولا دليل على أنّ هذه الموارد من العبادات المكروهة مشتملة على مصلحة زائدة ، كما هو الظاهر.

قلت : إنّ ثبوت الوجوب بعد ملاحظة الكراهة كاشف عن وجود المصلحة الزائدة ؛ على أنّ المجيب يكفيه احتمال ذلك ، فإنّ الدليل المذكور راجع إلى النقض بالعبادات المكروهة ، ويكفي في دفع النقض إبداء الاحتمال. نعم ، لو دلّ الدليل على كراهة عبادة نعلم بعدم اشتمالها إلاّ على مصلحة كافية في الوجوب فقط من دون زيادة كان ذلك وجها ، وأنّى لك بإثباته!

فإن قلت : إنّ ذلك لا يجري في المستحبّات المكروهة ، لأنّ بعد تصادم الجهتين لا وجه للاستحباب.

قلت : إن قام الدليل على استحبابه بعد ملاحظة اجتماعه مع الكراهة فذلك الدليل يكفي في إثبات مصلحة فائقة على تلك المنقصة على وجه يبقى بعد التصادم مقدار الكفاية ، وإن لم يقم دليل على ذلك فلا مورد للنقض ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فهذا الجواب مبنيّ على دلالة الدليل على امتناع الاجتماع ، فيجب صرف الظواهر التي مقتضاها الاجتماع عنها إلى ما لا دليل على بطلانها ، فإبداء احتمال لم يقم قاطع على فساده (1) كاف في المقام ، كما هو الظاهر على من مارس قليلا قواعد التوجيه والمناظرة.

هذا غاية توجيه المقام على وجه ربما يتوهّم خلوّه عن النظر ، وليس كذلك ؛ فإنّ فيه :

ص: 620


1- في ( ع ) : خلافه.

أوّلا : إنّ المستدلّ بالدليل المذكور هو الأشعري الذي لا يقول بمقالة العدليّة من ثبوت المصالح والمفاسد وإن تابعهم في ذلك بعض العدليّة (1) أيضا ، إلاّ أنّ المناسب هو الجواب على وجه لا يبتني على قواعد العدليّة إلزاما للأشعري أيضا.

وثانيا : أنّ الكاشف عن وجود المنقصة في الفرد المكروه إمّا العقل وإمّا الشرع ، إذ لا ثالث في المقام ، وشيء منهما لا يدلّ على ذلك.

أمّا العقل فظاهر ، حيث إنّه لا سبيل له إلاّ في ما يستقلّ هو في إدراك حكمه ، وموارد النقض ليس منها.

وأمّا الشرع ، فلا نعرف منه شيئا يدلّ على المنقصة إلاّ النهي من قبيل البرهان الإنّي ، فإنّ المنقصة تستتبع النهي ، والمفروض في المقام عدم النهي ، لامتناع اجتماع الطلبين ، فالقول بثبوت المنقصة وعدم ثبوت الطلب قول بلا دليل يشبه أن يكون رجما بالغيب ، فإنّه لا يعلم إلاّ من اللّه ورسوله والراسخين في العلم ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : قد علمنا من عنوان الدليل الوارد في مقام الحكم مثل قوله : « لا تتصرّف في المال المشتبه » وغيره ، أنّ هذا العنوان مشتمل على جهة منقصة تقتضي الكراهة ، وإلاّ لم يتعلّق النهي به. وقد علمنا أيضا من عروض الوجوب لفرد من الأفراد الداخلة في ذلك العنوان اشتمال ذلك الفرد على مصلحة الوجوب ، وهو لا ينافي وجود الجهة ، بل هو مانع عن تحقّق الطلب على وجه الكراهة ، فثبوت الجهة هو مقتضى الخطاب الشرعي ، وليس قولا بما لا يعلم.

قلت : بعد البناء على تخصيص النهي بالأمر وتقديم الأمر والقول بالوجوب يكون الفرد الواجب خارجا عن العنوان المذكور ، ولا دليل على ثبوت الجهة في

ص: 621


1- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 142.

مطلق ذلك العنوان ، فلعلّه مختصّ بما فيه الكراهة الفعلية ، فإنّ ثبوت حكم لطبيعة (1) مقيّدة لا دلالة فيه على ثبوته لفرد آخر لتلك الطبيعة.

فإن قلت : هب أنّ التخصيص في العنوان يوجب خروج مادّة الاجتماع عن النهي ، لكن التخصيص إنّما هو بواسطة وجود مانع عن ترتّب أثر المقتضي عليه ، كما يلاحظ في قولنا : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » مثلا ، فإنّ المستفاد في العرف من الخطاب المذكور هو أنّ العلم يقتضي الإكرام والفسق إنّما يمنع منه ، ولذا لو شكّ في فسق العالم يحكم بوجوب إكرامه ، لأنّ المانع محكوم بالعدم بالأصل.

قلت : لا نسلّم اختصاص التخصيص بما إذا كان المقتضي موجودا ، إذ يحتمل أن يكون مورد التخصيص ممّا لم يجد فيه المقتضي أيضا ، كأن يكون العلّة التامّة مختصّة بغير الفرد المخصّص. وأمّا الاستناد إلى الأصل المذكور فهو إنّما يوجب إحراز ما هو العنوان لوجوب الإكرام الملازم للعلّة التامّة ، وهو العالم الغير الفاسق ، ولا دلالة فيه على أنّ العلم هو المقتضي والفسق إنّما يمنع من حصول أثره.

نعم ، لو كان العنوان ممّا يستقلّ بحكمه العقل على وجه لا ينافي تخصيص الشارع له ، كان القول ببقاء الجهة بعد ارتفاع الحكم له وجها (2). ولكن لا يعقل التخصيص في مورد حكم العقل ، ولو كان وجه التخصيص عقليّا لم يبعد الالتزام ببقاء الجهة ، كما في موارد التزاحم بين الواجبين ، كإنقاذ الغريقين بعد تزاحمهما ، فإنّ العقل قاض بعدم تعلّق الطلب بهما معا مع العلم ببقاء المصلحة فيهما ، إلاّ أنّ ما نحن بصدده ليس من هذا القبيل.

ص: 622


1- في ( ط ) : بطبيعة.
2- كذا ، والظاهر : وجه.

فإن قيل : إنّ الوجه في التخصيص في المقام هو امتناع اجتماع الطلبين على وجه لو فرض ارتفاع الطلب من طرف - كما لو وقع المحرّم سهوا أو نسيانا (1) - لم يكن مانع من ترتيب الأثر على الطرف الآخر ، فيحكم بالصحّة. وليس التخصيص شرعيّا ، إذ على تقديره يلزم فساد الفرد الجامع للعنوانين على تقدير تقديم النهي ، من جهة عدم الأمر ، لا بواسطة امتناع اجتماع الطلبين ، ويلزم من ذلك بقاء المصلحة على تقدير (2) ارتفاع الطلب.

قلت : فعلى ذلك ، فهو جار في مثل قولنا : « أكرم عالما ولا تكرم الفاسق » مع أنّه على تقدير التخصيص لا يعلم ببقاء المصلحة في الفرد الخارج. والوجه في ذلك : أنّ وجه التخصيص ليس إلاّ التضادّ الواقع بين الأمر والنهي في الفرد الجامع ، والمفروض أنّ ذلك لا يقضي إلاّ بعدم تعلّق الطلب بالفرد الذي تعلّق طلب مناقض له به ، فلنا أن نحكم ببقاء المصلحة بعد ارتفاع الطلب ، وقد عرفت فساده.

وثالثا (3) : أنّ قضيّة اللطف ومراعاة المصالح والمفاسد هو اختصاص الأمر في أمثال هذه الموارد بالفرد الغير المشتمل على المنقصة ؛ لأنّ في الأمر به تفويتا للزائد من دون انجبار ، إذ المفروض حصول مصلحة الأمر في الفرد الخالي عن المنقصة أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّ التنبيه على تلك المنقصة والأمر به موافق للّطف ، لاحتمال الانحصار فيه ، فعلى تقدير عدم الأمر يكون ذلك تفويتا في حقّه ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ذلك يحصل في الأمر به على وجه الترتيب ، فتأمّل.

ص: 623


1- في ( م ) زيادة : أو مضطرّا.
2- في ( م ) زيادة : تقديم النهي.
3- عطف على قوله : « أوّلا » في الصفحة 621.

ورابعا : أنّه يلزم على ذلك التقدير أن يكون الفرد المباح أفضل فردي الواجب التخييري ، وهو باطل اتّفاقا منّا ومن المجيب ، إذ لا يراد منه إلاّ ما فيه مصلحة زائدة على مصلحة الواجب ، والمفروض أنّ المكروه مشتمل على مصلحة الواجب ، فيرد (1) عليه عدم الانضباط في المكروه وجريانها في مثل الصلاة في المسجد والمسجد الحرام ونحوه ، ولا سبيل إلى التزامه ، فإنّ ذلك التصرّف مقطوع الفساد في الظواهر التي تدلّ على الكراهة. ولا ينافي القطع بوجوب صرفها عن ظاهرها ، فإنّه لا يقضي بحملها على ما هو ظاهر البطلان ، كما لا يخفى.

ويمكن دفعه : بأنّ المجيب بنى جوابه على أن يكون المراد من قلّة الثواب هو قلّته بالنسبة إلى الثواب المقرّر للماهيّة ، ويستفاد منه بالمقايسة أنّ المندوب هو ما زاد ثوابه على ثواب الماهيّة والفرد المباح لا يزيد ثوابه على ثوابها ، إذ المفروض في كلامه - كما هنا - هو أنّ الكراهة في العبادة إنّما يكون لها مسرحا في العبادات التي تزيد مصلحتها على مصلحة مقتضية للوجوب.

ثم إنّه قد يستشكل في المقام أيضا : بأنّ استفادة قلّة الثواب من تلك النواهي ممّا لا سبيل إليها ، فإنّ ذلك المعنى من المعاني التي ينبغي استفادتها من الجمل الإخباريّة دون الجمل الإنشائيّة ، فلا يعقل أن يكون المراد بقوله : « لا تصلّ في الحمّام » أنّ الصلاة في الحمّام أقلّ ثوابا من غيرها ، إذ لم يعهد منهم استعمال الإنشاء في الإخبار وإن كثر استعمال الإخبار فيه ، فإنّه من محاسن الطلب ، كما لا يخفى.

وتمحّل بعض الأجلّة (2) في دفعه ، تارة : بجعل النواهي المذكورة إرشاديّة مجرّدة عن معنى الطلب بقرينة قيام الحجّة العقليّة على استحالة تعلّق الطلب بطرفي

ص: 624


1- في ( ع ) : فيعود.
2- الفصول : 132.

النقيض ، واخرى : بالتزام كونها مستعملة في الطلب التنزيهي على وجه الغيريّة والمقدّميّة للوصلة إلى الفرد الأفضل.

وفيه ، أوّلا : أنّ القول بتجرّد الإرشاديّات عن الطلب مخالف لما هو الواقع ، كما مرّ في بعض المباحث المتقدّمة.

وثانيا : أنّ الإرشاد إلى ترك الناقص غير معقول إن لم يكن للوصلة إلى الكامل ، وإلاّ فيكون من الأمر المقدّمي ، ولعلّه تفطّن بذلك حيث حكم برجوع أحدهما إلى الآخر.

وثالثا : أنّ الكراهة المقدّميّة أيضا ينافي الوجوب ، إذ كما أنّ التضادّ واقع بين الوجوب وما يخالفه من الأحكام النفسيّة ، فكذا بينه وبين الأحكام الغيريّة ، فالمصير إليه ممّا لا يجدي.

وأجاب عن ذلك : بابتنائه على ما زعمه من اختصاص وجوب المقدّمة بما إذا كانت موصلة إلى ذيها (1).

وتوضيحه هو : أنّ الصلاة في الحمّام تارة يترك ويتوصّل بتركها إلى الصلاة في غير الحمّام من المواضع الغير المكروهة ، وتارة لا يتوصّل بها إلى الفرد الكامل ، إمّا بإيجادها في الحمّام وإمّا بعدم إيجادها مع ترك الكامل أيضا ، ففيما إذا كان الترك المذكور مطلوبا من حيث كونه مقدّمة للوصلة إلى الفرد الكامل يتّصف بمطلوبيّة الترك وليس فعله مطلوبا ، لأنّ المطلوب في الواجب المخيّر هو الفرد الذي اختاره المكلّف في مقام الامتثال ، وبعد اختياره فردا لا يكون الباقي مطلوبا. وفيما إذا كان فعله مطلوبا باختيار ذلك الفرد في مقام الامتثال بالواجب المخيّر لا يكون تركه مطلوبا ، لعدم تحقّق شرط المطلوبيّة وهو الوصلة إلى الغير ، لعدم ترتّبه عليه كما هو المفروض.

ص: 625


1- انظر الفصول : 132.

وفيه - بعد الغضّ عن فساد المبنى كما أوضحنا سبيله في بعض مباحث المقدّمة - : أنّ بعد ما فرض من اختصاص مطلوبيّة الترك بفرد خاصّ من الصلاة في الحمّام وهو الترك المتوصّل به إلى الفرد الكامل ،

يلزم أن لا يكون مطلق الترك مطلوبا ، فلا دليل على وجود المنقصة في فعله.

لا يقال : إنّ مطلوبيّة ترك خاصّ يوجب مرجوحيّة الفعل.

لأنّا نقول : قد تقدّم منه أنّ المرجوح هو ترك هذا الترك الخاصّ ، وهو أعمّ من الفعل ، وهو لا يرى سراية تلك المرجوحيّة إلى الأفراد ، كما تقدّم في المباحث السابقة. مضافا إلى أنّ القول بعدم مطلوبيّة أفراد الواجب المخيّر بعد الإتيان بفرد غيرها في مقام الامتثال لا يخلو عن حزازة ؛ حيث إنّ جميع الأفراد في نظر المولى والآمر متساوية النسبة ، والاختيار إنّما هو في مقام سقوط الطلب المتعلّق بالماهيّة مجرّدا ، أمّا (1) بالنظر إلى طلب الآمر فلا يعقل مدخليّة للاختيار ، والمحذور إنّما هو الثاني دون الأوّل ، فتامّل.

ورابعا : أنّ المناط في الإرشاد المذكور الذي مرجعه إلى الكراهة الغيريّة موجود في جميع أفراد الواجب المخيّر مع اختلافها في الثواب ، فيلزم النهي عن الصلاة في البيت للإيصال إلى الفرد الكامل منها وهو الصلاة في المسجد ، والنهي عنها للصلاة التي تقع في المسجد الحرام. ولا سبيل إلى دفعه : بأنّ مجرّد وجود المناط لا يكفي في الحكم بالكراهة ما لم يرد فيه النهي ؛ لما قد تقدّم في مباحث المقدّمة من أنّ الطلب الغيري يتبع ما هو المناط في المقدّمية ، ولا يتفاوت فيه وجود الأمر الأصلي ، كما إذا صرّح بوجوب بعض المقدّمات كقولك : « ادخل السوق » عند إرادة اشتراء اللحم ، وعدمه كما في سائر المقدّمات.

ص: 626


1- في ( ع ) و ( م ) : وأمّا.

وبالجملة. فالنهي عن الناقص للوصلة إلى الكامل وإرشادا إليه ، مناطه متحقّق في جميع الأفراد المختلفة ثوابا ، وقضيّة ذلك التزام الكراهة فيها. اللّهم إلاّ أن تكون الكراهة في مثل المقام مجرّد اصطلاح.

وقد يجاب (1) عن الإيراد المذكور : من لزوم الكراهة في جميع الأفراد التي يختلف ثوابها :

تارة : بأنّه يمكن أن يشترط في إطلاق الكراهة وصول الفعل في المرجوحيّة الإضافيّة وأقلّية الثواب حدّا خاصّا تشبه به المرجوح في نفسه وما لا ثواب له.

واخرى : بأنّ لفعل كلّ طبيعة مأمور بها - مع قطع النظر عن جميع المنضمّات - قدرا معيّنا من الثواب والرجحان بالنسبة إلى تركه ، وقد يزيد ذلك من جهة بعض الخصوصيّات كالصلاة في المسجد ، وقد ينقص مع بقاء أصل الرجحان والثواب كالصلاة في الحمّام ، وقد يبقى بحاله كالصلاة في البيت ، فما زاد رجحانه وثوابه عن أصل الطبيعة اطلق عليه اسم « المستحبّ » وما نقص عنه « المكروه » وما بقي بحاله « المباح » ، انتهى (2).

أقول : أمّا ما أفاده أوّلا من اشتراط إطلاق الكراهة بوصول الفعل حدّا ، فممّا لا يرجع إلى حاصل ، فإنّ ذلك ليس من الامور التوقيفيّة ، بل المناط في الإطلاق المذكور هو المرجوحيّة بالنظر إلى ما ليس فيه تلك المرجوحيّة من أفراد الطبيعة ، ومن المعلوم عدم اعتبار الوصول إلى حدّ خاصّ في الإطلاق المذكور.

وأمّا ما أفاده ثانيا : فإن اريد منه أنّه قد ينضمّ إلى الماهيّة الراجحة عنوان آخر من عناوين الأفعال اللاحقة التي تقتضي نقص الثواب لأجل مصادمة

ص: 627


1- أجاب عنه المحقّق النراقي.
2- مناهج الأحكام : 57 - 58.

ومدافعة تقع بينهما من حصول الفعل والانفعال فيهما ، فهو راجع إلى ما أفاده المجيب المتقدّم. فيرد عليه ما أوردنا عليه سابقا ، مضافا إلى أنّه لم يعقل معنى محصّل لتأثير جهة الكراهة في المأمور به وإيراثها فيه نقصا ، غاية الأمر وجود العنوانين ، ويلحق بهما أحكامهما من غير إحباط وتكفير فيهما ، فاللازم وجود المنقصة بتمامها ووجود المصلحة كذلك.

وإن اريد منه أنّ الخصوصيّة من غير أن تكون آئلة وراجعة إلى فعل من الأفعال توجب نقصا في الثواب المقرّر للطبيعة ، فإن اريد منه ما قد يوجد في كلمات غير واحد منهم أنّ فعل الصلاة مثلا يترتّب عليها ثواب وإيقاعها في مكان خاصّ له ثواب آخر (1).

ففيه : أنّ الإيقاع إنّما هو عنوان ينتزع من الفعل ، وليس وراء نفس الفعل شيئا آخر كما في مثل الشروع في الفعل ، فإنّه ليس أمرا آخر غير الفعل ، ولا يعقل اختلافهما في الثواب بعد عدم لحوق عنوان آخر للفعل كما هو المفروض.

وإن اريد منه أنّ نفس الإيقاع والفعل في مكان له ثواب دون نفس الفعل ، فمرجعه إلى التزام أنّ الفعل من دون تقييده بوقوعه في مكان خاصّ لا ثواب له ، وإنّما الثواب بإزاء الإيقاعات الخاصّة والأفراد المختلفة باختلاف المشخّصات التي بها يتحقّق أفراد ماهيّة الفعل ، وإذن يعود المحذور من عدم الانضباط وصحّة الكراهة في الفرد الناقص ثوابا من الفرد الآخر ، فيصحّ القول بكراهة الصلاة في البيت بالنسبة إلى المسجد ، وفي مسجد المحلّة بالنسبة إلى المسجد الجامع ، وفيه بالنسبة إلى المسجد الكبير في الكوفة ... إلى غير ذلك. وستعرف لهذه الكلمات توجيها وجيها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 628


1- منهم الملاّ صالح في حاشية المعالم : 120 ، والمحقّق النراقي كما تقدّم ، وراجع مناهج الأحكام : 58.

الثاني من وجوه الحلّ (1) : ما وجدناه في الرسالة المنسوبة إلى بعض سادات مشايخ مشايخنا ، وحاصله : أنّ النهي في العبادات المكروهة متعلّق بالوصف أعني خصوصيّة الفرد مثل « وقوعها في الحمّام » ومتعلق الأمر هو الطبيعة ، فيختلف مورد الأمر والنهي.

واستند في ذلك بما محصّله : أنّ متعلّق الأوامر على ما هو التحقيق هو الطبائع دون الخصوصيّة والأفراد ، فيكون الأمر نصّا في طلب الماهيّة. بخلاف النهي ، فإنّه في معنى السلب ، وسلب المركّب عن الطبيعة والخصوصيّة قد يكون برفع الجزءين - أعني الماهيّة والخصوصيّة - معا ، وقد يكون برفع أحدهما ، كما هو الشأن في رفع المركّبات ، فيكون تعلّقه بالطبيعة ظاهرا لا نصّا ، ومن القواعد المقرّرة وجوب صرف الظاهر بالنصّ حيثما يقع التعارض بينهما.

وفيه ، أوّلا : أنّ الإشكال المذكور إنّما هو وارد على المانع من اجتماع الأمر والنهي ، والتفكيك بين خصوصيّة الفرد والطبيعة إنّما يلائم مذاق المجوّز ، كما هو ظاهر.

وثانيا : أنّ الاستدلال المذكور ممّا لا مساس له بالدعوى المذكورة ، إذ لا كلام لنا الآن في أنّ النهي كيف يقدّم على الأمر ، حتّى يقال : بأنّ النهي نصّ ويجب صرف الظاهر به. وليت شعري! ما المناسبة بين قاعدة انتفاء المركّب بانتفاء جزئيه معا أو أحدهما وبين ما نحن فيه؟

وثالثا : أنّ الخصوصيّة إن لم تكن راجعة إلى عنوان مغاير لعنوان الفعل لا يكون إلاّ نحو وجود الماهيّة ، فإنّ وجودات الأشياء هي التي بها يظهر آثار الماهيّات وخواصّها المطلوبة منها ، فتكون وعاء لآثارها كالحسن والقبح والحلاوة

ص: 629


1- عطف على قوله : « الأوّل » في الصفحة 618.

والمرارة والبرودة والحرارة ونحوها ، وليست الخصوصيّة وراء تلك الوجودات شيئا حتّى يتعقّل تعلّق النهي بها ويصير منشأ لاختلاف الأفراد في الثواب ، وعلى تقديره فاللازم هو ما عرفت فيما تقدّم من عدم الاطّراد وجريانه فيما ليس بمكروه إجماعا.

والظاهر أنّ الرسالة المزبورة ليست من تصانيف السيّد المزبور ، وما عرفت من أقوى الشواهد على ذلك ، فتدبّر.

الثالث (1) : أنّ النواهي التنزيهيّة راجعة إلى شيء خارج عن العبادة بحكم الاستقراء ، كالتعرّض عن الرشاش والتعرّض في موارد السيل (2) ... إلى غير ذلك. وكونه خلاف الظاهر ممّا لا ضير فيه بعد قيام الحجّة على خلافه ، وليكن ذلك من باب الحكمة لعدم الاطّراد في كثير من الموارد وإن كان بعيدا ، ولا يلزم منه كراهة الكون في الحمّام مطلقا ؛ لأنّ المنقصة إنّما هي في الكون المتّحد مع الصلاة.

وفيه : أنّ الجواب المذكور ممّا لا يجدي نفعا ؛ لأنّه إن اريد من تعلّق النهي بأمر خارج عن العبادة تعلّقه به على وجه لا يجامع عنوانهما فرد ، كما يقال : إنّ النظر إلى الأجنبيّة منهي عنه ولكنّه خارج عن الصلاة ، فيقال : إنّ التعرّض عن الرشاش أمر خارج عن حقيقة العبادة ، فهو وإن كان يجدي في دفع اجتماع الأمر والنهي ، لكن يرد عليه : أنّ ذلك الأمر الخارج لا بدّ أن يكون مقارنا للعبادة ملازما لها ، إذ مع المفارقة لا وجه لتعلّق النهي بالعبادة ، ومع عدم الملازمة أيضا لا وجه للنهي على وجه الإطلاق ، فلا بدّ أن يكون ملازما ، فيبنى على جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، فلو قيل بالمنع مطلقا أو على وجه خاصّ شامل للمقام فهو ، وإلاّ فيرد الاحتمال المذكور ، وهو أنّ المعلوم من النواهي الواردة في العبادات كفتاوى من أفتى بالكراهة

ص: 630


1- من وجوه الحلّ.
2- كذا ، والظاهر : للرشاش و ... لموارد السيل. وكذا في ما يأتى.

فيها هو وجود المنقصة في نفس العبادة ، فيكون ذلك من التأويل المعلوم بطلانه ، وهو ظاهر عند التأمّل.

وإن اريد من تعلّق النهي بالخارج تعلّقه به على وجه يجتمعان في فرد واحد ، سواء كان بين الخارج والعبادة عموم من وجه أو عموم مطلق ، فالمحذور باق بحاله (1).

والظاهر أنّ إيراد الجواب المذكور في دفع النقض فيما نحن بصدده ليس في محلّه ، بل هو جواب عن إشكال آخر يشبه النقض المذكور ، وهو ما ذكره شيخنا البهائي في الزبدة (2) والمحقّق الداماد في السبع الشداد : من أنّ وجود المكروه في العبادات يوجب تسديس الأحكام أو تسبيعه. فأجابوا عن ذلك بعدم تعلّق النهي بالعبادة ، بل بأمر خارج ، فليس مكروه العبادة قسما سادسا ، لأنّ نفس العبادة مستحبّة أو واجبة ، وذلك الأمر الخارج المجامع لها في الوجود مكروه ، فلا ضير فيه ، حيث إنّ الأحكام باقية على حصرها.

قال المحقّق الداماد بعد إيراده ضروبا من الإشكال ما لفظه : ثمّ إنّه إذا صحّ ذلك يصحّ قسم آخر سوى الخمسة المشهورة ، وهو ما يثاب تاركه من حيث هو تاركه وفاعله أيضا من حيث هو فاعل له ، ولكن يكون ثواب تركه أكثر من ثواب فعله ، وبإزاء هذا قسم آخر أيضا ، وهو ما يثاب فاعله من حيث هو فاعله وتاركه أيضا من حيث هو تارك له ولكن يكون ثواب فعله أكثر من ثواب تركه ، فإذن يفسد عليهم الحكم على الأحكام الشرعيّة التكليفية بالتخميس (3) ، انتهى.

ص: 631


1- في ( ع ) زيادة : وهو لزوم اجتماع الأمر والنهي.
2- زبدة الاصول : 30.
3- السبع الشداد ( المطبوع ضمن رسالة اثنا عشر ) : 61.

وبالجملة ، فالجواب المذكور ألصق بالإشكال ، فلعلّه يكون إيراده في دفع الإشكال في المقام خبطا من الناقل ، فتدبّر.

الرابع من وجوه الحلّ : ما أفاده بعض الأجلّة وجعله من منفرداته وأطال في بيانه. ومحصّله : أنّ كراهة العبادة عبارة عن رجحان تركها بقصد القربة على وجه يكون القيد المذكور داخلا في المطلوب. ولا غائلة في ذلك ، لأنّ رجحان الفعل يقتضي مرجوحيّة الترك على وجه الإطلاق لأنّه نقيضه. وأمّا الترك المقيّد فليس نقيضا للفعل ، لثبوت الواسطة بينهما ، فرجحان الفعل لا يقتضي مرجوحيّة الترك المقيّد بقصد القربة ، فلا ضير في اتّصافه بالرجحان مع القيد المذكور ، كما أنّ الصوم راجح فعله ، وتركه مقيّدا بإجابة المؤمن أيضا راجح ، ولا مناقضة بينهما لاختلاف محلّي الرجحان والمرجوحيّة. وبالجملة ، فالصلاة في الحمّام فعله راجح بقصد القربة ، وتركها أيضا راجح بقصد القربة من دون مدافعة ، وإنّما التدافع بين رجحان الفعل ورجحان الترك على وجه الإطلاق (1). هذا ملخّص كلامه وإن أطال في بيان مرامه.

وفيه ، أوّلا : أنّ ذلك منه مبنيّ على أن يكون القربة من القيود اللاحقة للمأمور به ، كأن يكون القيد المذكور من وجوه المطلوب ، وقد تقدّم في بحث المقدّمة ما يوضح فساد هذا التوهّم.

لا يقال : ما ذكره لا يبنى (2) على ذلك ، بل يتمّ على تقدير كونه من لواحقه بعد طريان الأمر عليه أيضا.

لأنّا نقول : إنّ اختلاف الماهيّة بالقيد لا يعقل إلاّ أن يكون ذلك القيد من لواحقه ، وإلاّ فكيف يختلف تلك الماهيّة بطريان ذلك القيد؟ وهو ظاهر.

ص: 632


1- الفصول : 132 - 133.
2- في ( ط ) : « لا يبني » والظاهر : لا يبتني.

وقد صرّح أيضا في مباحث الأوامر : أنّ إطلاق الأمر ممّا يمكن التمسّك به عند الشكّ في التعبّدية ، فراجعه (1).

وثانيا : لو أغمضنا عن ذلك ، وقلنا بأنّه يصحّ أن يكون القربة قيدا للمأمور به ، فنقول : ما أفاده فاسد أيضا ، حيث إنّ المحذور كلّ المحذور في التقرّب بترك ما هو فعله ممّا يتقرّب به ، فإنّه هو التناقض اللازم في المقام ، ومن الواضح أنّ اتّصاف طرفي النقيض بالتقرّب أمر محال لا يمكن أن يعقل.

نعم ، يصحّ ذلك في القيود التي يكون من قبيل الإجابة ، فالصوم من حيث كونه صوما مستحبّ فعله ، وتركه من حيث إنّه إجابة للمؤمن يمكن أن يكون مستحبّا ، فالتقرّب به ليس تقرّبا بترك الصوم بل بعنوان الإجابة المتّحدة مع الترك. وبذلك يظهر بطلان المقايسة المذكورة كما لا يخفى.

الخامس (2) : ما نسب إلى الوحيد البهبهاني (3) ، من أنّ المراد بكراهة العبادات مرجوحيّتها بالإضافة إلى غيرها من الأفراد. ولا ينافي ذلك رجحانها في حدود ذواتها. ولا ضير في ذلك ؛ فإنّه واقع في الشرع كثيرا ، فإنّ الغسل واجب نفسيّ على القول به ، ولا ينافي ذلك وجوبه الغيري ، ولا أقلّ من استحبابه النفسي مع وجوبه الغيري. ومثل ما نحن فيه (4) الاتّزار فوق القميص في الصلاة وحمل الحديد فيها ، فإنّهما لا مرجوحيّة فيهما بحسب الشرع ، إلاّ أنّهما مرجوحان في الصلاة.

والإيراد على هذا الجواب ممّا لا حاجة إلى بيانه بعد ما عرفت.

ص: 633


1- انظر الفصول : 69.
2- من وجوه الحلّ.
3- راجع الفوائد الحائرية : 170 - 171.
4- في ( م ) : وما نحن فيه مثل.

وهذه جملة من الكلمات التي أوردوها في النقض بالعبادات المكروهة التي بين عنوان المنهيّ عنه والمأمور به عموم مطلق.

وأمّا الكلام في العموم من وجه : فظاهرهم جريان الأجوبة المذكورة فيه أيضا ، بل وهو صريح المجيب الأوّل في حاشية المعالم ، حيث إنّه بعد ما أورد الجواب المذكور في المقام الأوّل طرّد الكلام في المقام أيضا.

وفيه - مضافا إلى الوجوه السابقة - : أنّ ذلك يوجب في العموم من وجه استعمال النهي في أكثر من معنى ، حيث إنّ المستفاد منه في غير مورد الاجتماع هو الكراهة المصطلح عليها ، فلو استفيد منه فيه معنى آخر لزم ما ذكرنا ، سواء في ذلك ما لو قيل بأنّ النهي للإرشاد أو مستفاد منه قلّة الثواب أو غير ذلك من وجوه التصرّف الراجع إلى اختلاف المعنى ، وهو ظاهر.

والإنصاف أنّ شيئا من الوجوه المذكورة لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، كما عرفت مفصّلا. مضافا إلى أنّ شيئا من الوجوه المذكورة لا ينهض بدفع النقض في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، كالتطوّع ونحوها (1).

فلا بدّ من تحقيق المراد من الكراهة في العبادات من بسط الكلام في طيّ مقامات ، فإنّ العبادات المكروهة على أقسام :

فتارة : يكون المنهيّ عنه أخصّ من المأمور به مع وجود البدل له من جنسه ، كالصلاة في الحمّام.

وتارة : لا يكون لها بدل من جنسه (2) ، كالصوم في السفر ، والصلاة عند طلوع الشمس حيث إنّه يستحبّ التطوّع بها في كلّ زمان يسعها.

ص: 634


1- كذا ، والمناسب : ونحوه.
2- كذا ، والمناسب : جنسها.

وتارة : يكون المنهي عنه أعمّ من وجه من المأمور به مع اتّحادهما في الصدق في الخارج ، كاستعمال الماء المشتبه في الوضوء والصلاة في بيوت الظالمين.

المقام الأوّل

في تحقيق المراد من الكراهة في العبادات التي لها بدل مع كون المأمور به أعمّ من المنهيّ عنه ، كالصلاة في الحمّام.

وتنقيح البحث فيه لعلّه موقوف على تمهيد ، وهو : أنّ المستفاد من إطلاق الأمر المتعلّق بطبيعة من الطبائع في موارده امور ثلاثة :

الأوّل : ترخيص الآمر للمكلّف إيجاد تلك الماهيّة بالإتيان بها في ضمن أيّ فرد كان من أفرادها.

الثاني : حصول الامتثال وسقوط الطلب المتعلّق بتلك الماهيّة بالإتيان بها في ضمن أيّ فرد كان ، وهذا إنّما هو من لوازم الترخيص المستفاد منه كما عرفت ، فجميع أفراد تلك الماهيّة متساوية في مقام الامتثال.

الثالث : أنّ هذه الأفراد متساوية فيما يترتّب على تلك الماهيّة من الأجر والثواب ، فإذا فرضنا تعلّق نهي بفرد من أفراد تلك الماهيّة :

فإمّا أن يكون ذلك النهي ناظرا إلى الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر ، فلا محالة يكون ذلك النهي تحريميّا. وهل يستفاد منه عدم وقوع الامتثال عن تلك الماهيّة بالفرد المنهيّ عنه أو لا بل النهي مفاده التحريم فقط ، أو لا يستفاد منه التحريم ، بل هو مسوق لعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال ، فليس نفي الترخيص ، بل هو نفي ترخيص وضعي (1)؟ وجوه يبحث عنها في

ص: 635


1- لم ترد « بل هو نفي ترخيص وضعي » في ( م ).

المسألة الآتية من اقتضاء النهي الفساد ، كما ستعرف الحقّ إن شاء اللّه تعالى.

وإمّا أن لا يكون ذلك النهي تحريميّا بل هو نهي تنزيهيّ ، فيكون ناظرا إلى عدم استواء تلك الأفراد التي يقع بها الامتثال عن تلك الماهيّة في الأجر والثواب والمترتّب على تلك الماهيّة. كما أنّ الحقّ أنّ النهي التحريمي المتعلّق بفرد من العبادة - كالنهي عن الصلاة في الحرير - يستفاد منه مجرّد المانعيّة ولا يستفاد منه في العرف التكليف ، فيكون الفرد المنهيّ عنه حراما من جهة التشريع ، وليس من المحرّمات الذاتيّة.

وإذ تمهّد هذا ، فنقول : إنّ تلك النواهي ليست على حقائقها المصطلح عليها من رجحان الترك ومرجوحيّة الفعل ، بل إنّما هي إرشاد إلى أنّ تلك الأفراد أقلّ ثوابا عن الأفراد الأخر ، وليس خاليا عن معنى الطلب - كما توهّمه بعض الأجلّة (1) - بل مفاد الأمر والنهي الإرشاديّين هو الطلب - والداعي إليه هو بذل النصح للمطلوب منه وإراءة طريق له إلى اختيار الفرد الكامل في مقام الامتثال ليتوصّل به إلى الفوز بأعلى مراتب الثواب المقرّر لتلك الماهيّة.

فإن قلت : فما تقول في دفع ما اورد على الجواب المذكور من عدم الانضباط وكراهة العبادات الناقصة الثواب؟

قلت : ليس مجرّد قلّة الثواب منشأ للكراهة ، بل كان ذلك بواسطة وجود مانع عن ترتّب الثواب المقرّر لتلك الماهيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ لماهيّة الصلاة قدرا معيّنا من الثواب يترتّب على الامتثال بها عند إيجاد أفرادها ، وقد يكون لتلك الماهيّة باعتبار وجود خاصّ لها ثوابا زائدا على ما هو مقرّر للماهيّة في ضمن وجوداتها الآخر ، وقد يكون لها باعتبار

ص: 636


1- انظر الفصول : 131 و 133.

انوجادها (1) بوجود مخصوص ثواب أقلّ من الثواب المقرّر للماهيّة ، ولا بدّ أن تكون تلك الزيادة والنقيصة باعتبار انضمام حيثيّة خارجة عن حقيقة العبادة لازمة للوجود الخاصّ الذي به يتحقّق تلك الماهيّة ، فيكون الزيادة بواسطة تلك الحيثيّة ، وكذلك النقيصة. فإن لم يكن وجود تلك الماهيّة ملازما لحيثيّة منقّصة أو مرجّحة ، فإيجاد الماهيّة بهذا الوجود يعدّ من الأفراد الغير مكروهة (2) والمستحبّة ، وإيجادها بالوجود الملازم لتلك الحيثيّة المنقّصة - كإيجاد الصلاة في الحمّام - يعدّ مكروها ناقص الثواب بواسطة وجود المانع ، وإيجادها بالوجود الملازم لحيثيّة مرجّحة يعدّ مستحبّا زائد الثواب بواسطة وجود مقتضي الزيادة مع عدم ما يقتضي النقصان ، فليس كلّ ما هو ناقص الثواب مكروها حتّى يرد النقض بالصلاة في البيت والمسجد بالنسبة إلى الفرد الكامل ، ولا كلّ ما هو زائد الثواب مستحبّا حتّى يرد النقض أيضا بالصلاة في البيت بالنسبة إلى الصلاة في الحمّام ، بل النقصان لو كان بواسطة وجود المانع فهو المكروه ، والنقصان في الصلاة في البيت بواسطة عدم المقتضي لا بواسطة وجود المانع. والزيادة لو كان منشؤها وجود مقتضي الزيادة كان مستحبّا ، لا فيما إذا كانت الزيادة مستندة إلى عدم المانع ، كما في الصلاة في البيت.

وحينئذ يندفع المحذور بحذافيره ، ولا يرد عليه شيء من الإيرادات السابقة ؛ لعدم ابتنائه على المصالح والمفاسد ، ولا يلزم استعمال النهي في الإخبار فإنّ الإرشاد من المعاني المتعارفة ، ولا يلزم عدم الانضباط لوجود المعيار في البين ، وليس الأمر بالكلّي خلاف اللطف كما عرفت فيما تقدّم ، ولا يلزم اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد إذ النهي الإرشادي المسوق لبذل النصح وصلاح المسترشد ليس من الطلب

ص: 637


1- لا تخفى غرابة هذا الاستعمال.
2- كذا ، والصواب : غير المكروهة.

الحقيقي المناقض للأمر. نعم ، ذلك لا يتأتّى في العبادة التي يعلم بعدم زيادة ثوابها على القدر المترتّب على واجبها ، ولا يعلم بمثلها في العبادات المكروهة. واحتمال كون بعضها كذلك لا يجدي ؛ للنقض أوّلا إذ مورد النقض ينبغي أن يكون معلوما كما هو ظاهر ، وهو مدفوع ثانيا بما ستعرف : من أنّ العرف قاض بحمل النهي الوارد في مقام توهّم الاستواء على ما ذكرنا من القلّة.

وأمّا ما أورده المحقّق القميّ رحمه اللّه على الجواب (1) المذكور : من الترديد بين كون الأقلّ ثوابا مطلوب الفعل أو مطلوب الترك أو مطلوبهما (2) ، فنختار الأوّل. قوله : « فليس بمكروه » إن أراد منه المعنى المصطلح عليه فهو غير مفيد ، وإن أراد منه المعنى الذي حاولناه فهو غير سديد.

وبالجملة ، فما ذكرنا في توجيه العبادة المكروهة هو المطابق للنصوص الواردة في مقام كراهة العبادات ، ولكلمات الفقهاء في بيانها أيضا كاستحبابها وإباحتها ، ولم نجد موردا ينافي ذلك. فعليك بالتأمّل في مواردها والتتبّع في مطاويها حتّى يظهر لك صدق المقال وحقيقة الحال ، فتدبّر.

ثمّ إنّه لو ظهر رجوع النهي إلى إحدى المراتب المستفادة من الأمر وعلمنا به فهو ، وإلاّ فعند الشكّ فهل يحكم بالتحريم ويتبعه الفساد على القول بامتناع الاجتماع ، أو بالفساد فقط ، أو بالكراهة بالمعنى المصطلح عليه ، فيحكم بعدم الصحّة على القول بامتناع الاجتماع ، أو بالكراهة بالمعنى المذكور؟ وجوه ، أظهرها الثاني ؛ لأنّ الكراهة بالمعنيين خلاف ظاهر النهي ، والتحريم وإن كان مفاد النهي إلاّ أنّ المستفاد من النهي الوارد بعد توهّم الصحّة المستفادة من الإطلاق هو الفساد ، كما

ص: 638


1- في ( ع ) و ( م ) بدل « الجواب » : الجواز.
2- القوانين 1 : 144 ، وفيه بدل « مطلوبهما » : مجتمعهما.

يستفاد من الأمر الوارد عقيب الحظر غير معناه الحقيقي ، ولذا لا يحكم بحرمة كثير من المعاملات مع ورود النهي عنها ، وليس إلاّ لتخصيص العمومات الدالّة على ترتّب الأثر عليها وصحّتها.

والقول بأنّ النهي كما يمكن أن يكون ناظرا إلى الصحّة المستفادة كذا يمكن أن يكون ناظرا إلى الجواز المستفاد من الأمر أيضا ، يدفعه :

أنّ رفع الجواز يلازم رفع الصحّة على القول بالامتناع ، فيكون نظير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، والأصل قاض بعدم التحريم عرفا ، كما يستفاد من الأوامر الواردة في مقام الأجزاء والشرائط الوجوب الغيري اللازم للجزئيّة والشرطيّة مع ظهور الأمر في الوجوب النفسي ، وحيث إنّ ظهور الأمر في الصحّة لعلّه أكثر من ظهوره في تساوي الأفراد ، فلذلك قلنا بأنّ الكراهة بالمعنيين خلاف ظاهر النهي.

نعم ، يصحّ ذلك فيما لو علم بالإجماع ونحوه عدم الفساد ، فإنّ المنساق من النهي حينئذ عدم التساوي في المرتبة.

المقام الثاني

في تصوير الكراهة في العبادات التي لا بدل لها من جنسها ، كالصوم في السفر ؛ بناء على عدم تحريمه المستفاد من قوله صلى اللّه عليه وآله : « ليس من البرّ الصيام في السفر » (1).

واعلم أوّلا : أنّ الإشكال في هذه العبادات ليس مختصّا بالمانع من اجتماع الأمر والنهي ، بل هو وارد على المجوّز أيضا ، حيث إنّ الكلام منهم إنّما

ص: 639


1- المستدرك 7 : 383 ، الباب 9 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 2.

هو في الوجوب التخييري العقلي مع عدم انحصار الفرد الواجب في المحرّم ، ومثله المستحبّ والمكروه أيضا.

وبالجملة ، فلا بدّ أن يكون للمكلّف مندوحة في الامتثال ، على ما هو المصرّح به في كلامهم في تحرير محلّ النزاع.

وقد أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما أفاده الشهيد السعيد في المسالك ، من أنّ المراد من كراهة الصوم في السفر أنّه أقل ثوابا من الصوم في الحضر (1).

وظاهره - على ما حكي - عدم النهي ولو على وجه الإرشاد ، بل يمكن القول بعدم تعقّل الإرشاد فيه ، حيث إنّه لا إرشاد إلى النهي عن الصوم في السفر والأخذ به في الحضر ، لاحتمال عدم الاقتدار عليه ، فهي منفعة عاجلة لا تترك لاحتمال ما هو أنفع منها في الآجل.

ودعوى اختصاص النهي بحالة الاقتدار عليه مدفوعة ؛ لمخالفتها للنصّ والفتوى معا ، حيث إنّ ظاهرهما النهي على وجه الإطلاق ولو مع العجز عن تحصيله في الحضر ، ولذا التزم في محكيّ الروض باستعمال النهي في مجرّد قلّة الثواب (2) ، فإنّه حكم بكراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشمس عند الانحصار قائلا : بأنّ علّة الكراهة موجودة في حال الانحصار ، فإنّ ذلك ينافي الإرشاد جدّا ، كما هو ظاهر.

وكيف كان ، فيرد عليه : أنّ ظاهر النصوص خلاف ذلك ، سيّما ما اشتمل منها على لفظ « الكراهة » كقول أبي جعفر عليه السلام : « أكره أن أصومه - يعني به عليه السلام

ص: 640


1- المسالك 2 : 47.
2- انظر روض الجنان 1 : 429 - 430.

يوم عرفه - أتخوّف أن يكون يوم عرفه يوم النحر وليس بيوم صوم » (1) وقول أبي الحسن عليه السلام بعد السؤال عنه عن اليومين اللذين بعد الفطر أيصامان؟ : « أكره لك أن تصومهما » (2) فإنّ التأويل المذكور في مثل هذه الأخبار ربما (3) يقطع بفساده ، سيّما بعد ملاحظة تسمية الصائم في السفر عاصيا ، كما في رواية سماعة : « سألته عن الصيام ، فقال : لا صيام في السفر ، قد صام اناس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فسمّاهم العصاة » (4).

ويظهر ذلك في الغاية بعد ملاحظة قول أبي الحسن عليه السلام في جواب من سأله عن الصيام بمكّة ومدينة من دون قيام فيهما : « لا يصحّ » (5) فإنّه ربّما يقطع بفساد التوجيه المذكور فيه ، مضافا إلى ما عرفت من عدم استقامة إرادة ذلك من النهي من دون طلب.

الثاني : ما أجاب به المحقّق القمّي رحمه اللّه ، فإنّه وإن لم يمنع من الاجتماع ، إلاّ أنّ الإشكال فيما نحن فيه وارد عليه أيضا كما عرفت ، فقال : وأمّا فيما لا بدل له فنقول : هي إمّا مباحة أو مكروهة على ما هو المصطلح عليه ، فيكون تركه راجحا على فعله ، بل الثاني هو المتعيّن هنا لئلاّ يخلو النهي عن الفائدة فيغلب المرجوحيّة الحاصلة بسبب الخصوصيّة على الرجحان الحاصل لأصل العبادات. ثمّ استشهد بترك الأئمة عليهم السلام لها ونهيهم عنها ، فإنّ ذلك خلاف اللطف.

ص: 641


1- الوسائل 7 : 344 ، الباب 23 من أبواب الصوم المندوب ، الحديث 6.
2- الوسائل 7 : 387 ، الباب 3 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، الحديث 2.
3- في ( ع ) بدل « ربما » : ممّا.
4- الوسائل 7 : 142 ، الباب 11 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث الأوّل.
5- الوسائل 7 : 144 ، الباب 12 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 2.

وأجاب عن لزوم الرجحان في العبادة ، وحصول القرب بها.

أمّا عن الأوّل : فبأنّه لم يقم دليل على لزوم الرجحان في جميع خصوصيّات العبادة ، بل يكفي في ذلك ثبوته للماهيّة.

وأمّا عن الثاني : فبأنّ قصد التقرّب حاصل بالنسبة إلى الماهيّة وإن لم يحصل القرب في الخصوصيّة ، ولا ملازمة بين القصد إليه وحصوله ، وإلاّ لما صحّ أكثر عباداتنا ؛ مضافا إلى أنّ قصد التقرّب قد يراد به موافقة الأمر وهو حاصل ، فلعلّ صورة العبادة تكفي في صحّة قصد التقرّب ما لم يثبت لها مبطل من الخارج ، وإن لم يكن ممّا لم يحصل له ثواب (1).

ثم إنّه وجّه قصد القربة في الحاشية (2) بوجه آخر ، وهو : قصده من حيث كونه متعبّدا وداخلا في زيّ المتعبّدين.

وفيه ، أوّلا : النقض بالحرام والواجب ، فكما أنّه لا مانع على ما زعمه من اجتماع الكراهة والوجوب وكفاية الرجحان في الماهيّة وعدم الحاجة إلى الرجحان في الخصوصيّة ، فكذلك لا مانع من ذلك في الوجوب والحرمة. فإن استند في ذلك إلى عدم إمكان الامتثال فيه ، فنقول : لا يمكن الامتثال في المكروه أيضا ، وإن استند إلى عدم التضادّ بين الوجوب والكراهة بخلافه في الإلزاميّين فهو ممّا لا يسعه عقولنا ، ضرورة وجود التناقض وفهمه عقلا وعرفا بين الأمر بماهيّة على وجه الإطلاق والنهي عن فرد خاصّ من تلك الماهيّة.

وأمّا الاستناد إلى أنّ الماهيّة تغاير إيقاعها في زمان خاصّ أو مكان مخصوص فيحتمل اختلافهما في الحكم ، فقد عرفت أنّه كلام ظاهريّ خال عن

ص: 642


1- القوانين 1 : 144 - 145.
2- انظر الحاشية المطبوعة في هامش القوانين 1 : 145 ، ذيل قوله : وإن لم يحصل القرب.

التحصيل ، فإنّ الإيقاع ليس أمرا مغايرا لوجود تلك الماهيّة وإيجادها في الخارج ، غاية الأمر أنّه وأمثاله منتزع من الماهيّة باعتبارات عقليّة صرفة لا يناط بها حكم.

وأوضح فسادا من ذلك ما زعمه بعض الأجلّة في توجيه مرام المحقّق المذكور. وحاصله : أنّ العبادة المكروهة لها اعتباران وجهتان : من حيث الأجزاء ومن حيث الجملة ، فمن الاولى تشمل على جهتي الرجحان والمرجوحيّة وإن كان الرجحان مغلوبا ، ومن الثانية لا تكون إلاّ مرجوحة ، ويكفي في اتّصاف الشيء بالعبادة وجود جهة الرجحان وإن كانت مغلوبة (1). ووجوه فساده غير خفي على أحد (2).

وثانيا : أنّه لم يعقل معنى لكون الفعل عبادة وعدم حصول التقرّب به على تقدير الإتيان بها على وجهها.

وثالثا : أنّ المراد بالقربة - على ما حقّقناه في مباحث المقدّمة (3) - ليس إلاّ الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر والامتثال. فإن أراد من موافقة الأمر ذلك فهو سديد ، لكنّه غير مفيد له ، فإن الإشكال في وجود الأمر في المقام مع وجود المرجوحيّة المناقضة لما هو لازم الأمر. وإن أراد إيجاد عمل مشارك للعبادة في الصورة كما ربما يومئ إليه قوله : « ولعلّ ... » فهو أظهر فسادا من أن يحتاج إلى بيان.

وأمّا رابعا : فما أفاده أخيرا ، فإن أراد أنّ الدخول في زيّ المتعبّدين إنّما هو بواسطة نفس العمل ، فالكلام إنّما هو في صحّته. وإن أراد أنّه بواسطة الانقياد والبناء

ص: 643


1- الفصول : 130.
2- لم ترد « على أحد » في ( م ).
3- راجع الصفحة 300.

على التعبّد ونحوه يدخل في زيّ المتعبّدين ، فهو فاسد أيضا ، فإنّ ما ينقاد به لا بدّ وأن يكون راجحا ولو من جهة ، والمفروض انتفاء الرجحان ، وهو ظاهر.

وقد يلتزم فيها بعد الأمر المفيد للتكليف ، نظرا إلى امتناع الامتثال لعدم المندوحة ، إذ لا فرق في اشتراط التكليف بإمكان الامتثال بين الإلزامي وغيره ، إلاّ أنّه مع ذلك حكم بالصحّة من حيث استفادة حكم وضعيّ من قوله : « الصلاة قربان كلّ تقيّ » (1) و « الصوم جنّة من النار » (2) ونحو ذلك ، فيكون تلك العبادات صحيحة بواسطة مطابقتها للحكم الوضعي.

وفساده أيضا ظاهر بعد كونه أخصّ ، فإنّ وجود هذه الآثار فيها بعد وقوعها مطابقة لأوامرها ، والكلام بعد في تصحيح الأمر بها مع المرجوحيّة المفروض فيها.

الثالث : لا يبعد أن يكون حاسما لمادة الإشكال ، وهو : أنّه لا ضير في أن يكون طرفا النقيض من شيء واحد ولو من حيث اندراجهما تحت عنوان آخر ذي مصلحة مقتضية للأمر بهما ، كفعل الأكل المندرج تحت عنوان « إجابة المؤمن » وتركه المندرج تحت عنوان « الصوم » وحيث إنّه لا يسعنا الجمع بين المتناقضين فلا محالة يصير التكليف بهما تكليفا على وجه التخيير بين الفعل بعنوانه والترك بعنوانه ، ولا يلزم من ذلك إباحة الفعل ، فإنّه إنّما يتأتّى فيما لو فرض تساوي الفعل والترك مع قطع النظر عن لحوق عنوان آخر بهما ، والمفروض فيما نحن بصدده هو لحوق عنوان آخر بهما ، فالترك المطلق من غير لحوق عنوان به من الصوم والإجابة ممّا لا حسن فيه ولا يقتضي أمرا ولا نهيا ، وتقييده بمخالفة المؤمن يوجب النهي عنه فيصير الفعل مأمورا به ، وتقييده بالصوم يوجب الأمر به.

ص: 644


1- الوسائل 3 : 30 ، الباب 12 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث 1 و 2.
2- الوسائل 7 : 290 ، الباب 7 من أبواب الصوم المندوب ، الحديث 8.

ولا غائلة ؛ فإنّ الترك إمّا أن يكون وقوعه من المكلّف في الخارج من غير التفات إلى القيدين فلا يكون موردا لحكم من الأحكام الشرعيّة ، وإن وقع منه من حيث إنّه صوم يكون مأمورا به فقط ، وإن وقع منه بعد لحوق عنوان « مخالفة المؤمن » و « ترك إجابته له » فهو مكروه منهيّ عنه بواسطة حسن الإجابة وكراهة عدمها.

وذلك يشبه الحكم بالوجوب التخييري ولو بحكم العقل في إنقاذ الغريقين اللذين لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما ، فإنّه مخيّر بين فعل كلّ واحد منهما وتركه ، لا من حيث إنّ الترك ملحوظ بالقياس إلى الفعل ، بل من حيث إنّ ترك أحدهما مجامع لعنوان الإنقاذ في الآخر ؛ وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ فعل الإنقاذ في أحدهما ليس نفس عدم الإنقاذ في الآخر ، فإنّ وجود أحد الضدّين - مثلا - ليس عين عدم الآخر ، وأمّا فيما نحن فيه فترك الصوم وفعل الأكل هو عين عنوان الإجابة ، وهو ظاهر.

وبالجملة ، فلا ضير في اتّصاف طرفي النقيض بالمطلوبيّة باعتبار احتفاف عنوان بهما ، ولا محالة يكون تعلّق الطلب بهما على وجه التخيير لامتناع طلب المتناقضين عينا.

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ الظاهر من ملاحظة النواهي الواردة في العبادات المكروهة التي لا بدل لها أنّها مكروهة بواسطة احتفافها بعنوان آخر ، كما يظهر بالتصفّح في مطاويها ، فإنّهم يحكمون بكراهة صوم الولد والزوجة مع نهي الوالد والزوج عنه ، وكراهة صوم العاشوراء ، وكراهة صوم المدعوّ إلى الطعام (1) ...

ص: 645


1- انظر الشرائع 1 : 209 ، والقواعد 1 : 384 ، والجواهر 17 : 119 ، وكشف الغطاء 4 : 54 ، ومستند الشيعة 10 : 514.

إلى غير ذلك ، إنّما هو بواسطة أنّ هذا الصيام قد احتفّ بعناوين مطلوبة الترك على وجه التنزيه ، كمخالفة الوالد والزوج والتشبّه ببني أميّة ( عليهم اللعنة والنيران ) وترك إجابة المؤمن ونحوها.

يرشد إلى ذلك فيما مرّ في بعض الروايات من التعليل بقوله : « أتخوّف أن يكون يوم عرفة يوم النحر » (1) فإنّه قد احتفّت (2) به عنوان الاحتياط. وما في رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن صاحبه ، ومن طاعة المرأة لزوجها أن لا تصوم تطوّعا إلاّ بإذن زوجها ، ومن صلاح العبد وطاعته ونصحه لمولاه أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن مولاه وأمره ، ومن برّ الولد أن لا يصوم تطوّعا إلاّ بإذن أبويه وأمرهما ، وإلاّ كان الضيف جاهلا وكانت المرأة عاصية والعبد فاسقا والولد عاقّا » (3) بناء على حملها على الكراهة دون الحرمة. وما في رواية فضل بن يسار قال رسول اللّه : « إذا وصل الرجل بلدة فهو ضيف ، ولا ينبغي للضيف أن يصوم إلاّ بإذنهم ، لئلاّ يعملوا له الشيء فيفسد عليهم ، ولا ينبغي لهم أن يصوموا إلاّ بإذن الضيف لئلاّ يحشمهم فيشتهي الطعام فيتركه لهم » (4) وظاهرها ما عرفت : من أنّ الوجه في كراهة هذا الصيام ملازمة هذه العناوين المكروهة لها.

فإن قلت : ذلك لا يتمّ فيما لا يكون هناك عنوان مكروه ملازم للعبادة

ص: 646


1- الوسائل 7 : 344 ، الباب 23 من أبواب الصوم المندوب ، الحديث 6.
2- كذا ، والمناسب : احتفّ.
3- الوسائل 7 : 396 ، الباب 10 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، الحديث 2.
4- علل الشرائع : 384 ، الباب 115 ، الحديث 2. والوسائل 7 : 4. الباب 9 من أبواب الصوم المحرّم والمكروه ، ذيل الحديث الأوّل.

لمطلق (1) الصوم في السفر والصلاة في الأوقات المكروهة ونحوها ، فإنّ ظاهر النهي المتعلّق بها مطلوبيّة الترك على وجه الإطلاق.

قلت : بعد الغضّ عن إمكان انتزاع عنوان مكروه كالتشبيه (2) بعبدة الشمس للصلاة وقت الطلوع مثلا ونحوه في جميع الموارد كما لا يخفى ، نقول : إنّ صريح العقل قاض بوجود عنوان مكروه ملازم لهذه العبادات بعد ملاحظة الامتناع ، فلا حاجة إلى معرفته تفصيلا.

لا يقال : فعلى ما ذكر لا حاجة إلى الأمر بالفعل المذكور والنهي عنه ، إذ المكلّف إمّا أن يفعل ذلك أو لا يفعل ، وعلى التقديرين فيفوز بالمصلحة المودعة في الفعل أو الترك.

لأنّا نقول : لعلّ وجه الأمر والنهي هو أن يكون الفعل والترك بداعي الأمر والنهي لحصول الامتثال. وليس المفيد في المقام هو القربة كما زعمه بعض الأجلّة (3) ، بل المفيد هو العنوان الخارج الملازم ، والقربة إنّما هي معتبرة فيه.

فإن قلت : إذا كان ذلك العنوان الملازم منهيّا عنه - كمخالفة الأب وترك الإجابة ونحو ذلك - فيصحّ ما ذكر من أنّ الوجه في الأمر والنهي وجودهما بداعي الأمر ، وأمّا إذا لم يكن مأمورا به بل ولا معلوما فكيف يحصل معه الامتثال؟

قلت : وجود النهي كاشف ، ولا حاجة إلى العلم بالعنوان تفصيلا ، فيكفي ترك العبادة من حيث اقترانها بعنوان محبوب واقعا وإن لم يعلم به تفصيلا ، لا غائلة في ذلك.

ص: 647


1- في ( ع ) : كمطلق.
2- كذا ، والظاهر : التشبّه.
3- لم نعثر عليه.

نعم ، يرد على الجواب المذكور أمران :

الأوّل : أنّ قضية ما ذكرنا هو تساوي الصوم وتركه ، لكونهما مندوبين تخييرا ، مع أنّ النصوص والفتاوى كادت أن تكون صريحة في ترجيح الترك على الصوم ، فما أوردنا على الشهيد رحمه اللّه (1) وارد عليه أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّه إن اريد من أنّ النصّ والفتوى قاضية (2) بعدم الرجحان في الصوم فهو ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المعلوم خلافه ، ضرورة كونها عبادة ولا يتحقّق بدون الرجحان. وإن اريد أرجحيّة تركه على فعله مع ثبوت الرجحان في الفعل أيضا فلا ينافي ما ذكرنا.

ويمكن استكشاف الأفضليّة ، أوّلا : من الروايات الواردة في مقام الكراهة ، فإنّ في بعضها : « أنّ إفطارك لأخيك المؤمن أفضل من صيامك تطوّعا » (3).

وثانيا : أنّ التعبير بلفظ « النهي » كاشف عن المرجوحيّة ، كما ربما يساعده العرف والاعتبار أيضا.

وثالثا : يدلّ على الأفضليّة فعل من يكون الواقع حكاية عن فعله ، وهم أئمّتنا صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وبالجملة ، فيكون النهي في هذه المقامات أيضا إرشاديّا. ولا ضير فيه ، حيث إنّه مختصّ بمورد الأمر كما هو المفروض ، فلا ينافي كون النهي عن ذلك العنوان في غير مورد الأمر حقيقيّا لا إرشاديّا.

الثاني : أنّ مناط هذا الإرشاد ربما يقال بتحقّقه في جميع العبادات المستحبّة مع أفضليّة أحدهما عن الآخر.

ص: 648


1- راجع الصفحة 640 - 641.
2- كذا ، والمناسب : قاضيان.
3- الوسائل 7 : 109 ، الباب 8 من أبواب آداب الصائم ، الحديث 3.

ويمكن دفعه : بالتزامه فيما إذا كان مثل المقام ، كأن كان عنوان الأفضل في الخارج عين غير الأفضل كالإفطار مع الصوم ، بل وفيما إذا كان أحدهما مقارنا للآخر كالإنقاذ. ومن هنا تراهم يحكمون بكراهة صوم المدعوّ إلى الطعام ، مع أنّ الرواية الواردة فيه هي ما عرفت : من أنّ « إفطارك لأخيك المؤمن ».

وبذلك يندفع مناقشة سيّد المدارك (1) على من حكم بالكراهة (2) بواسطة الرواية المذكورة ، فإنّ الرواية تدلّ على الأفضليّة دون كراهة الصوم. هذا غاية توجيه المقام.

المقام الثالث

في تصوير الكراهة في العبادات التي بين عنوان المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه.

فأوجه الوجوه في توجيهه هو الوجه المذكور فيما لا بدل له ، فيقال : إنّ المكلّف مخيّر بين الصلاة وتركها في بيوت الظلام ، لا من حيث إنّ تركها ترك لها ، بل من حيث إنّ ذلك الترك محفوف بعنوان التصرّف في ملك مشتبه غير معلوم الحال من الإباحة والغصبية ، والأفضليّة إنّما تستفاد من الوجوه المذكورة فيما سبق. ولا يصحّ الحمل على الأقلّ ثوابا ؛ لما عرفت من لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. وليس التخيير شرعيّا ليكون النهي مستعملا في أكثر من معنى ، بل هو بحكم

ص: 649


1- المدارك 6 : 278.
2- تقدّم عنهم في الصفحة 640.

العقل كالتخيير بين الإنقاذين ، وما ذكرنا (1) هو غاية توجيه أمثال المقام ، وإلاّ فالعالم بالسرائر مطّلع على حقائق الامور والوقائع. هذا تمام الكلام في توجيه اجتماع المكروه مع الواجب أو المستحبّ.

بقي الكلام في اجتماع المستحبّ مع الواجب ، فنقول :

لا كلام في امتناع اجتماع الاستحباب العيني مع الوجوب العيني ، بمعنى أن يكون الشيء بعينه مطلوب الفعل تارة على وجه الحتم واخرى مطلوبة لا على وجه الحتم على وجه يكون الطلبان قائمين بنفس الطالب ، والمطلوبيّة على الوجهين قائمة بالفعل.

واستحالة ذلك ممّا لا ينبغي أن يكون موردا للتأمّل ؛ فإنّ قيام الطلبين مع قطع النظر عن الخصوصيّة المائزة للوجوب والاستحباب بنفس الطالب يوجب اجتماع المثلين ، فإنّ حقيقة الطلب على القول باتّحاده مع الإرادة المفسّرة باعتقاد النفع - كما أفاده المحقّق الطوسي في التجريد وغيره (2) - راجع إلى العلم ، ويكون اختلاف الوجوب والاستحباب حينئذ باختلاف المراد ، فإنّ الإرادة حينئذ حقيقة واحدة ولا يكون اختلافها إلاّ باختلاف الأفراد ، فوجود فردين منها في فعل واحد يوجب اتّصاف محلّ واحد - وهو النفس - بفردين من كيفيّة واحدة ، وهي الإرادة ؛ مضافا إلى لزوم المحذور المذكور أيضا في الفعل.

فإن قلت : إنّ المتّصف بالمطلوبيّة هو الماهيّة الذهنيّة ، لامتناع اتّصاف الماهيّة الخارجيّة بالمطلوبيّة ، لكونها موجودة ولا يعقل طلب الحاصل ، والماهيّة الذهنيّة تختلف باعتبار الملاحظات.

ص: 650


1- في ( م ) : ما ذكره.
2- انظر كشف المراد : 252.

قلت : إن اريد من اختلاف الملاحظة اختلاف وجوه الماهيّة وعناوينها - كأن يكون الماهيّة المطلوبة وجوبا في الذهن مغايرة للماهيّة المطلوبة استحبابا مع تلازمهما في الخارج ، لئلاّ يخرج الكلام عمّا فرضناه من اجتماع الوجوب العيني والاستحباب العيني في شيء واحد - فهو سديد ، إلاّ أنّ هناك أمرين ، أحدهما : ما يتعلّق به الطلب ويكون متصوّرا للطالب ، وهو فيما نحن بصدده العنوانان المختلفان في الذهن. وثانيهما : ما به يسقط ذلك الطلب المتعلّق بالماهيّة ، فإنّه أيضا لا بدّ وأن يكون منشأ لانتزاع وصف المطلوبيّة ، وإلاّ لما يعقل وجه لسقوط الطلب. ولا إشكال في أنّ ما به يسقط الطلب لا بدّ وأن يكون من الموجودات الخارجيّة التي ينتزع منها المطلوبيّة. واختلاف الفعل في الذهن إنّما يجدي في عدم لزوم اجتماع المثلين في الماهيّة المتصوّرة للطالب ، وأمّا ما يسقط الطلب الذي هو ينتزع منه المطلوبيّة فلا اختلاف فيه ، ويلزم فيه اجتماع المثلين. وبما ذكرنا (1) يظهر أنّ ذلك كاف في إبطال الاجتماع وإن لم يلاحظ حال الطالب حتّى يقال : إنّا لا نعقل كيفيّة الطلب الصادر من اللّه ، كما لا يخفى.

وإن اريد باختلاف الملاحظة أنّ ماهيّة واحدة من دون اختلاف وجوهها تارة يعقل ويتعلّق بها الطلب الوجوبي وتارة اخرى يتصوّر ويتعلّق بها الندبي ولا إشكال في اختلاف الملاحظتين ، فهو فاسد جدّا ، إذ اختلاف الملاحظتين مرجعه إلى تغاير التصوّرين ، والطلب إنّما يحتاج إلى اختلاف المتصوّرين ، وتعدّد التصوّر لا يجدي في تعدّد المتصوّر ، وهو ظاهر.

وأمّا على القول بمغايرة الإرادة والعلم (2) - كأن يكون الإرادة كيفيّة اخرى

ص: 651


1- في ( م ) : ذكره.
2- عطف على قوله : « على القول باتّحاده مع الإرادة » في الصفحة السابقة.

غير العلم - فما ذكرنا لازم أيضا ، كما لا يخفى على المتأمّل. كما أنّه لازم على القول بتغاير الإرادة والطلب أيضا ، فإنّ ما ذكرنا (1) لا يختلف باختلاف المذاهب في ذلك ، كما هو ظاهر.

نعم ، هنا شيء ينبغي أن يعلم ، وهو أنّ الظاهر أنّ اختلاف الطلب الوجوبي مع الاستحبابي عند عدم رجوع الطلب إلى الإرادة وعدم رجوعها إلى العلم يكون من قبيل اختلاف العلم والظنّ ، حيث إنّ اختلافهما ليس بواسطة المعلوم والمظنون ، بل باختلاف نفس العلم والظنّ كما هو ظاهر ، فتدبّر.

هذا مع قطع النظر عن الخصوصيّة المائزة للاستحباب عن الوجوب ، وأمّا بملاحظتها فيلزم من اجتماع الطلب الوجوبي مع الندبي في فعل واحد على وجه التعيين - سواء قيل بتعلّق الأحكام للطبائع أو الأفراد - اجتماع الضدّين ، ضرورة أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة ، وإلاّ لم يفترق أحدها عن الآخر ، كما هو المقرّر في محلّه من أنّ الفصول اللاحقة للجنس لا بدّ وأن تكون متضادّة حتّى يحصل بلحوق بعضها إليه نوع محصّل ممتاز عن سائر الأنواع ، وهو ظاهر. وبعد ما عرفت من اتّحاد منشأ انتزاع الطلبين فيما يسقط منه الطلب فالملازمة ظاهرة لا حاجة إلى بيانها.

فإن قلت : فما توجيه موارد اجتماع الوجوب العيني والاستحباب العيني ، مثل الوضوء الواجب لغاية واجبة والمندوب لغاية مندوبة ، أو مع قطع النظر عن الغاية أيضا لاستحبابه في نفسه؟ إذ لا فرق فيما ذكر بين أن يكون الوجوب والندب نفسيّين أو غيريّين أو مختلفين ، لاتّحاد المناط في الكلّ.

ص: 652


1- في ( م ) : ما ذكره.

قلت : قد استوفينا الكلام في توجيه ذلك في بحث المقدّمة ، وحاصله : ما نبّه عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه : من عدم اتّحاد زماني الوجوب والندب (1).

فإن قيل : وجوب الغاية يكون مندوبا نفسيّا أو غيريّا عند استحباب الغاية ، ولا محذور من اجتماع الندبين فيه ، لما ستعرفه في الوجوبين ، وبعد وجوبها لم يبق الطلب الندبي بوجه ، فيكون واجبا محضا من غير شائبة الندبيّة.

وبالجملة ، فنحن نحكم بعدم اجتماع الطلبين في مورد واحد ، لاستلزامه إمّا اجتماع المثلين أو الضدّين ، والتالي من المستحيلات الأوّليّة ، والملازمة ظاهرة ممّا مر.

وممّا ذكرنا (2) يظهر حال اجتماع الوجوبين ، مثل ما لو أمر الوالد بشيء مع تعلّق أمر الوالدة به أيضا ، فإنّ ذلك الفعل من حيث كونه منشأ لحصول إطاعة الوالد واجب ومن حيث إنّه يصير موردا لامتثال الوالدة أيضا واجب ، لكنّه لا يتّصف ذلك الفعل بوجوبين ولا يصير منشأ لانتزاع المطلوبيّة مرّتين ، بل التحقيق في ذلك هو تأكّد الطلب الناشئ من حصول الجهتين ، كما يظهر بالرجوع إلى الوجدان عند تعدّد جهات الطلب في مطلوب واحد ، من غير فرق بين وجودها فيه دفعة وبين حصولها متدرّجة في الوجود ، وبين العلم بها دفعة وبين الجهل ببعضها ، فإنّ ذلك لا مدخليّة له فيما نحن بصدده. ولا وجه للقول ببقاء أحدهما عند اللّه وارتفاع الآخر ، فإنّه غير آئل إلى حاصل ، فمقتضى وجود العنوانين اللذين تعلّق بكلّ واحد منهما طلب حتميّ تأكّد الطلب في الفرد الجامع لهما وزيادة الثواب.

ص: 653


1- القوانين 1 : 147.
2- في ( م ) : ممّا ذكره.

فإن قلت : قضيّة كلّ واحد من العنوانين اجتماع الحكمين فعلا ، وبعد حكم العقل بامتناع ذلك يحصل التعارض بينهما لاقتضاء كلّ منهما انتساب الأثر إليه ، وحيث إنّه لا مرجّح بينهما فيتساقطان ، فلا يثبت وجوب فضلا عن تأكّده.

قلت : إنّ بعد تسليم اختلاف مراتب الطلب شدّة وضعفا لا وجه لما ذكر أصلا ، فإنّ كلّ واحد من العنوانين على وجه الاستقلال يقتضي مرتبة خاصّة من الطلب ، واجتماعهما معا يقتضي مرتبة أشدّ من المرتبة التي كان كلّ واحد منهما مقتضيا لها ، فلا تعارض بينهما حتّى يقال بالتساقط. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ كلّ واحد من العنوانين يقتضي وجود الرجحان والمطلوبيّة ، فلا تعارض بينهما ، وإنّما التعارض في استناد الأثر إليهما على وجه الاستقلال ، وبعد التعارض يحكم بتساقط الاستناد إليهما استقلالا دون أصل الوجود ، فيكون المقام نظير ما لو عقد كلّ واحد من الأب والجدّ على البنت لشخص واحد ، دون ما لو عقد عليها كلّ واحد منهما لغير ما عقد له الآخر ، فتأمّل.

وبالجملة ، فلا محذور في القول بتأكّد الطلب [ و ] المطلوب ، سواء قلنا بوجود المصالح والمفاسد في المكلّف به - كما هو مذاق التحقيق - أو لم نقل به ، كما زعمه الأشعري (1).

أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ الوجه في ارتفاع الطلبين هو استحالة وجودهما في محلّ واحد ، وذلك لا يقضي بارتفاع المصلحة والمفسدة ، فإنّ التخصيص عقليّ ، فيقطع ببقاء الجهة ، سيّما على ما قرّرنا من اقتضائهما مرتبة خاصّة من الطلب.

ص: 654


1- انظر الإحكام في اصول الأحكام لابن حزم 5 - 8 : 583 ، والإحكام للآمدي 1 : 119 - 130.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ إنكارهم وجود المصالح والجهات المحسّنة ممّا لا ربط له بالقول بتأكّد الطلب بواسطة العنوانين ، وهو ظاهر.

وبمثله نقول فيما إذا اجتمع الوجوب والندب ، فإنّه يحصل به تأكّد الطلب نظير اجتماع السواد الشديد والضعيف ، فإنّ الثاني لا يتحقّق في مورد الشديد على وجه يغاير الشديد ؛ لما عرفت من لزوم اجتماع المثلين ، بل يشتدّ الشديد بلحوقه.

ولا بدّ أن يكون الحكم الفعلي في مورد اجتماعهما الوجوب دون الاستحباب ، لاضمحلال الضعيف في جنب الشديد دون العكس ، فإنّ وجود الجهة الناقصة لا ينافي ثبوت الوجوب.

وتحقيقه : أنّ الجهات التي لا تقتضي حكما إلزاميّا - كالإباحة والندب ونحوهما - إنّما يستند إليها فيما إذا لم تكن للشيء جهة ملزمة ، فإنّه يكفي في تحريم شيء اشتماله على جهة مقبّحة مقتضية لتركه على وجه الإلزام ، ولا حاجة إلى اشتماله على تلك الجهة من جميع الجهات ، ويكفي في إيجاب الشيء اشتماله على جهة مقتضية له وإن اشتمل على جهات أخر لا تقتضي ذلك ، وهو ظاهر.

فيحصل من جميع ما مرّ أنّ اجتماع الوجوب والاستحباب والوجوبين على اختلاف وجوههما من النفسيّة والغيريّة وغيرها (1) غير ممكن لو اريد به وجودهما فعلا ، وممكن لو اريد به وجود الآثار المستندة إليهما من الثواب والامتثال ، ولذلك قلنا بصحّة الوضوء في وقت وجوبه فيما لو نوى استحبابه في نفسه كما تقدّم في بحث المقدّمة (2) ، لكنّه مبنيّ على القول باختلاف الوجوب والاستحباب بالشدّة والضعف ، كما هو الظاهر.

ص: 655


1- كذا ، والمناسب : غيرهما.
2- راجع الصفحة 357.

وربّما يكون الوجه في زيادة الثواب المترتّب على العمل شدّة الطلب المتعلّق به ، ويلزم من ذلك أن يكون الواجب أكثر ثوابا من المندوب ، كما لعلّه المشهور بينهم وورد فيه الروايات (1) ، إلاّ أنّ قضيّة ذلك عدم جواز الاستثناء من ذلك ، مع أنّهم ذكروا لقاعدة أفضليّة الواجب موارد مستثناة.

قال الشهيد في محكيّ القواعد : الواجب أفضل من الندب غالبا لاختصاصه بمصلحة زائدة ، ولقوله تعالى في الحديث القدسي « ما تقرّب اليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه » (2) وقد تخلّف ذلك في صور : كالإبراء من الدين الندب ، وإنظار المعسر الواجب ، وإعادة المنفرد صلاته جماعة ، فإنّ الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ، فصلاة الجماعة مستحبّة وهي أفضل من الصلاة التي سبقت وهي واجبة. وكذلك الصلاة في البقاع الشريفة فإنّها مستحبة وهي أفضل من غيرها من مائة ألف إلى اثنتي عشرة صلاة. والصلاة بالسواك والخشوع في الصلاة مستحبّ ويترك لأجله سرعة المبادرة إلى الجمعة وإن فات بعضها مع أنّها واجبة (3) ، انتهى.

وقد يشكل - مضافا إلى ما عرفت من عدم جواز تخصيص القاعدة العقليّة - : أنّ المركوز في أذهان المتشرّعة زيادة ثواب جملة كثيرة من المندوبات من (4) جملة من الواجبات ، كالصيام في الهجير بالنسبة إلى ردّ السّلام ، وكذا زيارة

ص: 656


1- ستأتي الإشارة اليها.
2- عوالي اللآلي 1 : 408 ، الحديث 74 ، وانظر الوسائل 3 : 53 ، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 6.
3- القواعد والفوائد 2 : 106 ، القاعدة 185.
4- كذا ، والمناسب : « على ».

الحسين عليه السلام ... إلى غير ذلك من الامور المندوبة ، كبناء المساجد والقناطر وغير ذلك من الامور الباقية مدى الدهر التي ينتفع منها عامّة العباد في أطراف البلاد.

فإمّا أن يقال : بأنّ تأكّد الطلب غير كاشف عن تأكّد المصلحة وزيادة الثواب ، أو يقال بأنّ الواجب أفضل من المندوب مطلقا ولا وجه للأخذ بالروايات الظاهرة في الزيادة المخالفة لحكم العقل ، فإنّها مطروحة أو مؤوّلة ، وليس تلك الروايات بقطعيّة - كالإجماع - حتّى نحتاج إلى توجيه في الجمع بين العقل والإجماع ، بدعوى اختصاص أحدهما بما لا مدخل للآخر فيه ونحوه ، كيف! والإجماع - كما نقله المحقّق البهائي في الأربعين (1) - على خلافه.

وقد يقال في التوجيه : إنّ المصلحة القاضية بالوجوب هو دفع المضرّة والمفسدة ، والحكمة الداعية إلى الاستحباب هو جلب المنفعة ، وقضيّة قوله : « لكلّ امرئ ما نوى » (2) هو حصول المنفعة للعبد بفعل المندوب فيما إذا قصده ودفع المضرّة عنه فيما إذا طلبه من فعل الواجب ، وهو لا ينافي فضل الواجب إذا اريد منه المصلحة أيضا.

وفيه أوّلا : أنّ دفع المضرّة في الواجب ملازم للمنفعة الداعية إلى تشريعه فيما لو اتي به على وجهه ، وإلاّ فلا يترتّب عليه دفع المضرّة أيضا.

وثانيا : أنّ الإشكال باق فيما لو فرضنا الإتيان بالواجب لأجل المنفعة على تقدير تعقّل الانفكاك.

وقد يدفع الإشكال عن الزيارة : بأنّ فضلها على كثير من الواجبات إنّما هو بواسطة كونها من مظاهر الولاية التي هي من أهمّ الواجبات ، فإنّها بالزيارة تتحقّق في الخارج.

ص: 657


1- لم نعثر عليه.
2- الوسائل 1 : 34 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 10.

وفيه : أنّ مطلق الأعمال المستحبّة يمكن أن يقال بأنّها من مظاهر التعبّد لله الذي هو فوق الولاية في الوجوب. وبالجملة فهذه الكلمات لا تدفع الخصم.

ثمّ إنّه قد يظهر من بعضهم : أنّ إجزاء غسل واحد عن الجنابة الواجبة والجمعة المندوبة إنّما هو بواسطة اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد ، فيكون من موارد اجتماع حكمين متضادّين ، حتّى أنّ بعضهم قد جعله دليلا برأسه على الجواز ، كما حكاه الفاضل النراقي (1).

أقول : ومثله ما عن البعض من مطلق تداخل الأسباب في بعض الموارد ، كما في منزوحات البئر (2) وأسباب السجدة (3) ونحوها.

ولا بأس بتحقيق ذلك في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : ففي توضيح الحال في تداخل الأسباب على وجه يظهر أنّه ليس من موارد اجتماع الأحكام المتضادّة أو المتماثلة في شيء.

فنقول : إذا دلّ الدليل الشرعي على وجوب شيء عند حدوث شيء آخر ، كما إذا قيل : « إذا نمت فتوضأ » و « إذا التقى الختانان وجب الغسل » فإذا لم يعلم بوجود سبب آخر لترتّب الجزاء المذكور فيحكم بحسب الظاهر بأنّ النوم علّة تامّة لوجوب الوضوء ، والالتقاء للغسل ، سواء كان جميع ما عداه موجودا أو معدوما ، وهذا هو معنى حجّية مفهوم الشرط.

وذلك الجزاء تارة يكون قابلا للتكرار والتعدّد كما في قولك : « إذا رأيت زيدا فأعطه درهما » فإنّ إعطاء الدرهم له ممّا يمكن أن يتكرّر وجوداته في الخارج ،

ص: 658


1- مناهج الأحكام : 58.
2- مثل العلاّمة في القواعد ، انظر مفتاح الكرامة 1 : 122.
3- مثل الحلّي في السرائر 1 : 258 ، فيما إذا كانت أسباب سجدتي السهو من جنس واحد.

وإمّا أن لا يكون قابلا للتكرار والتعدّد كما في قولك : « إن زنى زيد فاقتله » فإنّ قتله ممّا لا يقع مكرّرا في الخارج.

فإن كان من الثاني فتكرار وجود السبب لا يقضي بتكرار القتل ، لامتناعه. نعم ، وجوب القتل ممّا يتأكّد بتكرّر أسبابه ، سواء كان أسبابه متعددا بواسطة تعدّد أفراده كما إذا زنى زيد - مثلا - مكرّرا ، أو بواسطة تعدّد أنواعه كما إذا كان السرقة أيضا ممّا يوجب القتل ، ولا يعقل اتّصاف القتل الواقع جزاء لوجوبات عديدة ؛ لامتناع اجتماع الأمثال.

فإن (1) كان من الأوّل فعند اتّحاد حقيقة المعلول والعلّة فالظاهر من الجملة الشرطيّة هو لزوم تكرّر أفراد المسبّب عند تعدّد أفراد السبب ، كما في قولك : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (2) وقولك : « إذا وقع الخمر في البئر فانزح كذا » فإنّ الظاهر وجوب النزح متعدّدا عند تعدّد وقوع الخمر ، إذ القول بوجوب النزح مرّة واحدة يوجب تقييدا في الشرط ، كأن يكون المراد : إذا وقع الخمر الغير المسبوق بوقوع مثله في البئر فانزح كذا ، والأصل يقضي بعدم التقييد. اللّهم إلاّ أن يعلم من الخارج بالتقييد المذكور فيحكم بتداخل الأسباب ، بمعنى أنّ تعدّد وجودات ماهيّة السبب ممّا لا يكون منشأ لتعدّد أفراد المسبّب ، كما علم ذلك بالنسبة إلى الوضوء ، فإنّ تعدّد مرّات النوم لا يوجب تعدّد أفراد الوضوء.

فإن قلت : إذا كان ظاهر الدليل اتّحاد المسبّب - كما هو المفروض - لا حاجة إلى ارتكاب التأويل فيه بحمله على تعدّد أشخاصه عند تعدّد أشخاص المسبّب ، فيكون من قبيل تداخل المسبّبات ، كما في مثال القتل.

ص: 659


1- كذا ، والمناسب : وإن.
2- في ( م ) : للصلاة.

قلت : إنّ بعد ما عرفت من إطلاق سببيّة أفراد السبب ووجوداته ، يستقلّ العقل بالحكم بتعدّد وجود ذات المسبّب ؛ نظرا إلى امتناع اجتماع العلل المتعدّدة المعلومة علّيتها بإطلاق الدليل على معلول واحد.

وما اشتهر : من أنّ العلل الشرعيّة معرّفات ليست بعلل حقيقيّة فيمكن اجتماعها على معلول واحد ، ممّا لا يجدي في المقام ، إذ لا إشكال في أنّ هذه الأسباب أسباب عقليّة بعد جعل الشارع للأحكام المترتّبة عليها من الوجوب ونحوه ، كما هو ظاهر.

وأمّا عدم وجوب قتل زيد مرّة ثانية فليس لأجل أنّ أسباب وجوبه ليست عللا حقيقيّة ، بل بواسطة وجود المانع ، وهو اتّصاف المحلّ بالمثل وامتناع اجتماع الأمثال ، فيقال : إنّ تلك الأسباب بشرط قبول المحلّ وعدم اتّصافه بالمثل علل تامّة للوجوب ، وهذا التقييد ممّا يقضي به العقل ، وأين ذلك من التقييد اللازم على تقدير تداخل الأسباب؟ فإنّه لا قاضي به.

وبالجملة ، فنحن لا نلتزم بتداخل المسبّبات إلاّ حيث يقوم دليل من العقل أو النقل على التداخل ، كما لا نلتزم بتداخل الأسباب أشخاصها أو أنواعها إلاّ بعد دلالة الدليل.

فإن قلت : هب! إنّ مقتضى إطلاق السببيّة تعدّد الوجوب عند تعدّد أفراد السبب وتكرّره ، ولكن لا نسلّم أنّه كلّما تكرّر الوجوب يجب إيجاد الواجب على حسب تكرّره ، وإنّما يلزم ذلك فيما لو استلزم تكرّر الوجوب تعدّد الواجب ، وليس كذلك كما في تعدّد الإيجاب ، إذ كثيرا ما يتعدّد الإيجاب ، مع وحدة الواجب ، كما في الأوامر الواردة بالصلاة والزكاة على جهة التأكيد ونحوه.

قلت : بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الإطلاق هو سببيّة كلّ فرد للوجوب - كما اعترف به - لا وجه لما ذكره أصلا ، إذ لا نعقل من تعدّد الوجوب الذي هو صفة

ص: 660

منتزعة من الفعل بعد امتناع اجتماع الأمثال إلاّ تعدّد الواجب ، وهو لا يتمّ بالفرض إلاّ بعدم التداخل. وأمّا الأوامر التأكيديّة فلا يستفاد منها وجوب غير ما أفاده الأمر الأوّل. نعم ، لا بأس باستفادة شدّة الطلب وتأكّده بتكرار الأوامر التأكيديّة. ولا يحسن قياس تعدّد الوجوب بتعدّد الإيجاب الحاصل في التأكيد ، فإنّ الأمر الثاني مرتّب على الأمر الأوّل في التأكيد ووارد في مورده ، بخلاف ما نحن فيه ، ضرورة حصول الوجوب على وجه التعدّد - مثل وجود السبب - بنفس الكلام الدالّ على السببيّة ، فيكون تلك الوجوبات كلّ واحد منها في عرض الآخر ، فهناك إيجابات متعدّدة في موارد متعدّدة بواسطة الكلام الدالّ على السببيّة ، ويتفرّع عليها وجوبات متعدّدة على وجه التعليق ، وبعد حصول المعلّق عليه - وهو وجود السبب - يتحقّق الاشتغال فعلا بأفراد مختلفة.

فإن قلت : هب! إنّ الموجود في مثل المقام تكاليف متعدّدة ، ولكنّه نقول بأنّ الإتيان بالفرد الواحد يكفي في الامتثال عنها ، كما يقضي به العرف فيما لو أمر بإعطاء درهم بعالم (1) وإعطاء درهم آخر بهاشميّ ، فلو أنّه أعطى درهما بعالم هاشميّ يعدّ ممتثلا في العرف.

قلنا : وهو ظاهر الفساد بعد اختلاف متعلّق التكاليف المتعدّدة بواسطة الوجودات الخاصّة. وأمّا صدق الامتثال في العالم الهاشمي بواسطة تداخل المفهومين في مصداق واحد واجتماعهما فيه ، ولا يعقل تداخل متعلّق التكاليف في المقام ، فإنّ المفروض هو اختلاف متعلّقاتها بالوجود ، وتداخل الفردين من ماهيّة واحدة غير معقول.

والقول : بأنّ تعدّد الأسباب لو كان كاشفا عن تعدّد المسبّبات - كما هو

ص: 661


1- كذا ، والمناسب : « لعالم » ، وكذا ما يليه.

المفروض - فلم لا يكون كاشفا عن تعدّد ماهيّات المسبّبات حتّى لا يمتنع الاجتماع في فرد ، ولو لم يكن كاشفا فالكلام ساقط.

مدفوع : بأنّه ساقط جدّا ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ ذلك يستلزم الخروج عن ظاهر اللفظ الدالّ على المسبّب ، فإنّ ظاهره وحدة الماهيّة ، واختلاف الأسباب ولا سيّما اختلافها بواسطة الأفراد - كما هو مقتضى ظاهر اللفظ الدال على السبب - لا يقضي باختلاف المسبّب. وأمّا عند اختلافها ماهيّة وإن احتمل اختلاف المسبّب أيضا بحسب الماهيّة لامتناع اتّحاد آثار الماهيّات المختلفة ، إلاّ أنّه يحتمل استناد المسبّب أيضا إلى وحدة جامعة لتلك الأسباب المختلفة ، فلا يدلّ على اختلاف المسبب أيضا.

وثانيا : سلّمنا أنّ اختلاف الأسباب ولو بالفرديّة يوجب اختلاف ماهيّات المسبّبات ، ومع ذلك فلا دليل على الاكتفاء بفرد في مقام الامتثال ، إذ من المعلوم أنّ الفرد الواحد لا بدّ وأن يكون مجمعا للعنوانين حتّى يكتفى به في الامتثال ، وذلك مبنيّ على إمكان اجتماعهما ، ولا دليل عليه. فلعلّ تينك الماهيّتين ممّا لا تتصادقان أبدا ، فيكون بينهما مباينة كلّية.

وبما ذكرنا تعرف الكلام فيما إذا كان السبب لذلك الشيء متعدّدا ، كما إذا قيل : « إذا نمت فتوضّأ » و « إذا بلت فتوضّأ » و « إذا خرج من أحد سبيليك شيء - مثلا - فتوضّأ » فإنّه لا بدّ من القول : بأنّ السبب الواقعي هو القدر المشترك بين تلك الأسباب المختلفة ، ويكون اختلاف أنواعها بمنزلة اختلاف الأفراد ، ويجب تعدّد المسبّبات بحسب مقتضى اللفظ إلاّ إذا دلّ دليل على التقييد ، كما في خصوص الوضوء ، على ما قرّر في محلّه.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا ، يظهر أنّ شيئا من الموارد لا يلزم فيه اجتماع الأمثال ولا اجتماع الأضداد ، فإنّ الحكم فيما سبق محصور بين وجوب الإتيان بأفراد مختلفة - وظاهر أنّه لا يقضى بشيء من اللازمين - وبين الإتيان بفردٍ

ص: 662

واحد لعدم وجوب غيره - كما في الوضوء - وليس فيه اجتماع الأمثال ولا الأضداد ، وبين الإتيان بفرد واجب شديد الوجوب أكيد الطلب - كما في قتل زيد - من دون اجتماع للوجوبات فيه ، كما لا يخفى. وأمّا اجتماع الوجوب والندب في الوضوء فقد عرفت فيما سبق تحقيق الكلام فيه ، فلا حاجة إلى الإطالة بالإعادة.

المقام الثاني : في خصوص تداخل الأغسال.

وتوضيح الحال فيه على وجه تبيّن حقيقة المقال ، هو أن يقال : إنّ الأصحاب في الأغسال :

بين من ذهب إلى أنّها ليست حقائق مختلفة ، والأثر الحاصل منها ليس إلاّ رفع لحالة واحدة مسمّاة عندهم بالحدث (1) ، مستظهرين ذلك من ظواهر الخطابات الآمرة بالغسل بعد تحقّق أسبابها ، فإنّ الظاهر اتّحاد حقيقة الغسل - كالوضوء - بعد عدم ما هو يصلح للاختلاف ، فإنّ الأسباب المختلفة لاحتمال اشتراكها في قدر يصحّ استناد المسبّب إليه لا يدلّ على اختلاف المسبّبات - كما عرفت - وأمّا الأسباب المختلفة فعندهم مثل أسباب الوضوء مقيّدة بما إذا لم يكن أحدها مسبوقا بالآخر.

وبين من ذهب إلى أنّها ماهيّات مختلفة لاختلاف آثارها وأحكامها (2) ، مثل ارتفاع بعضها وبقاء الآخر ولزوم الوضوء في البعض دون الآخر. واستكشف ذلك أيضا من الروايات الدالّة على إجزاء غسل واحد من الأغسال (3) ؛ فإنّ

ص: 663


1- انظر الحدائق 2 : 196 - 198.
2- انظر الجواهر 2 : 117 - 119.
3- انظر الوسائل 1 : 525 ، الباب 43 من أبواب الجنابة.

ظاهر الإجزاء هو ثبوت المقتضي لكلّ واحد ، وما دلّ على أنّها حقوق لله (1) ، وما دلّ على أنّ المكلّف يجعل الحيض والجنابة غسلا واحدا (2) إلى غير ذلك من أمارات الاختلاف.

فعلى الأوّل ، لا ينبغي الإشكال في تداخل الأغسال ، فإنّه كالوضوء الذي يسقط به الفرض ويجزئ عن النفل. ولا محذور فيه ، إذ المحذور إنّما هو فيما إذا كان هناك ماهيّات مجتمعة في فرد واحد لكلّ واحد منها حكم غير حكم الآخر شخصا ليلزم اجتماع الأمثال ، أو نوعا ليلزم اجتماع الأضداد. وبعد اتّحادها - كما هو المفروض - فلا بدّ إمّا من القول بلزوم إيجاد الغسل مكرّرا على حسب تكرار السبب ، كما في المنزوحات وسجدتي السهو مثلا ونحوهما ؛ لعدم تعقّل تداخل الأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة. أو القول بتداخل الأسباب بمعنى تقييد الأوامر المطلقة بما إذا لم يكن مسبوقا بسبب آخر كما في الوضوء. وعلى التقديرين لا إشكال ؛ لعدم الاجتماع على الأوّل وعدم التعدّد على الثاني ، وهو ظاهر ممّا مرّ أيضا.

وعلى الثاني ، فبملاحظة أدلّة الإجزاء يحكم بتصادق الماهيّات المختلفة - كما هو المفروض - في فرد جامع لها ، ويتحقّق به الامتثال عنها على تقدير القصد إلى الجميع تفصيلا كما إذا قصد كلّ واحد منها بغاياتها وأسبابها ، أو إجمالا كما إذا قصد الحدث الحاصل منها على وجه الإطلاق ، أو قصد الغسل الذي يندرج فيه غيره كالجنابة على المشهور ، فإنّ الحدث الذي يرتفع بغسل الجنابة فوق جميع الأحداث على ما قيل (3) ، ولا محذور فيه ، إذ غاية ما في الباب : صدق الامتثال بعد القصد إلى

ص: 664


1- انظر الوسائل 1 : 526 ، الباب 32 من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.
2- انظر الوسائل 2 : 566 ، الباب 23 من أبواب الحيض.
3- انظر جامع المقاصد 1 : 130.

تلك العناوين ووجودها في ذلك الفرد ، فيكون من قبيل اجتماع إطاعة الوالد والوالدة في فعل واحد ، ومن قبيل اجتماع إكرام العالم وإضافة الهاشمي في فرد ، وغاية ما يلزم من ذلك هو اجتماع الجهات وتأكّد الطلب من دون غائلة ، كما عرفت نظيره فيما تقدّم مرارا ، من غير فرق في ذلك بين الواجب والمندوب ، كأن يكونا واجبين أو مندوبين أو مختلفين ، فإنّ طريق الحلّ في الكلّ واحد.

وحاصله : تأكّد الطلب باجتماع جهتي الوجوبين أو الندبين أو الوجوب والندب. ولعلّه إلى ذلك يشير ما أفاده الشهيد السعيد في الذكرى : بأنّ نيّة الوجوب تستلزم نيّة الندب ؛ لاشتراكهما في الترجيح. ولا يضرّ اعتقاد منع الترك ، لأنّه مؤكّد للغاية. ومثله الصلاة على جنازتي بالغ وصبيّ (1).

وقد يجاب عن الإشكال المذكور في الواجب والندب :

أوّلا : بأنّ الدليل لمّا دلّ على الاجتزاء بغسل واحد عن الغسلين يلزم أن يقال : إحدى الوظيفتين تتأدّى بالاخرى ، بمعنى أنّه يحصل له ثوابها وإن لم يكن من أفرادها حقيقة ، كما تتأدّى صلاة التحيّة بالفريضة والصوم المستحبّ بالقضاء.

وثانيا : بأنّ ما دلّ على استحباب غسل الجمعة يختصّ بصورة لا يحصل سبب الوجوب ، والمراد من كونه مستحبّا أنّه مستحبّ من حيث نفسه مع قطع النظر عن طريان العارض المقتضي للوجوب (2) ، انتهى.

أقول : وفي كلا الوجهين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ تأدّي إحدى الوظيفتين بالاخرى غير معقول ، إلاّ أن تكون المصلحة الداعية إلى طلبها موجودة في الاخرى ، وذلك يوجب إيجاب المندوب أيضا ، فإنّه أحد أفراد الواجب المخيّر لاستوائهما في المصلحة.

ص: 665


1- الذكرى 1 : 205.
2- انظر المدارك 1 : 196.

وأمّا سقوط التحيّة بالفريضة كالمندوب من الصوم بالقضاء ، فعلى القول به لا بدّ من أن يحمل على مجرّد الفضل. أو المراد به اشتمال الفريضة والقضاء على ما هو أزيد ثوابا من التحيّة والصوم المندوب ، فيكون المراد هو وصول المنفعة الحاصلة منهما إليه لا سقوطهما بغيرهما. أو المراد به هو أنّ العبد بعد ورود الأمر بالقضاء لا يتمكّن من الصوم المندوب في اليوم الذي يقع فيه الصوم قضاء ، مع أنّه في مقام الانقياد ويطلب ذلك الصوم المندوب أيضا ، فيستحقّ لذلك ثواب الصوم المندوب.

والتزام أمثال ذلك في الغسل الواجب والمندوب بعيد جدّا ، حيث إنّ ظاهرهم الإطباق على حصول المأمور به إمّا بتداخل الأسباب كما في أسباب الوضوء ، أو بتداخل المسبّبات مثل اجتماع مفاهيم متعدّدة في فرد واحد ، وليس من السقوط في شيء.

ثمّ إنّه لو فرض كونه من السقوط فهو إنّما يتمّ في سقوط النفل بالفرض مثل سقوط الجمعة بالجنابة ، ولا يعقل سقوط الفرض بالنفل ، وقضيّة ما ذكره هو سقوط كلّ من الوظيفتين بالاخرى (1).

وأمّا الثاني : فإن أراد منه اختصاص دليل الاستحباب بصورة عدم وجوب الغسل على المكلّف فهو بعيد جدّا ، بل ومقطوع الفساد ؛ للإجماع على خلافه ، مضافا إلى الإطلاق وعدم ما يقضي بالتقيّد. وإن أراد منه وجوب غسل الجمعة لعارض - كالنذر وشبهه - فهو فاسد قطعا ، لأنّ الإشكال في صورة الاستحباب. وإن أراد وجوبه من حيث اتّحاده في المصداق مع الواجب فهو واجب لاتّحاده مع الواجب فهو ممّا لا يجدي قطعا ، إذ الإشكال إنّما هو في اجتماع المندوب والواجب ، ولم نجد من عروض الوجوب بالمعنى المذكور فائدة.

ص: 666


1- لم ترد عبارة « ثم إنّه لو فرض - إلى - بالاخرى » في ( ع ).

وأجاب عن الإشكال بعض أعاظم مشايخنا - دام ظلّه - : بأنّ هذا الفرد يعني ما يجزي عن الغسلين ليس مصداقا للكلّيين حتّى يلزم الإشكال ، بل هو أمر خارج عنهما ، فهو من قبيل فرد لكلّي آخر اجتزى الشارع به عن الواجب والمندوب ، لكن لمّا شابههما في الصورة يسمّى بالتداخل ، وإلاّ فهو ليس بغسل جنابة وغسل جمعة ليرد ذلك.

ثمّ قال : فإن قلت : هذا الغسل واجب أو مستحبّ أو كلاهما؟ قلت : هو حيث يقوم مقام الأغسال الواجبة فهو أحد فردي الواجب المخيّر بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يأتي بالفعلين أو بالفعل الواحد المجزي عنهما ، وحيث يقوم مقام الواجب والمندوب فهو مندوب محضا ، لأنّه يجوز تركه لا إلى بدل فلا يكون واجبا ، فينوي بناء على اشتراط نيّة الوجه ، الندب فيه مع نيّة الاجتزاء عن الواجب والمندوب ، وعلى عدم الاشتراط ينوي القربة مع نيّة الاجتزاء به عن الجميع (1) ، انتهى.

وفيه - بعد الغضّ عن ظواهر كلماتهم القاضية باجتماع المفهومين في فرد واحد كما هو مقتضى القول بتداخل المسبّبات ، وعلى القول بتداخل الأسباب فالأمر أظهر - : أنّ ذلك يوجب اجتماع الواجب والمندوب فيما نصّ الشارع على وجوبه ، وهو محال قطعا حتّى على القول بجواز اجتماع الأحكام المتضادّة ، فإنّ أصحاب هذه المقالة الفاسدة يخصّون الجواز بما إذا اجتمع بعض أفراد الواجب المخيّر عقلا مع الاستحباب ، وأمّا فيما نصّ الشارع على وجوبه عينا أو تخييرا شرعيّا فلا قائل بالجواز.

بيان اللزوم : أنّ قيام فرد من ماهيّة مغايرة لماهيّة اخرى مقام أفراد هذه الماهيّة لا يعقل إلاّ وأن يكون مصلحة ذلك الواجب متحقّقة في ضمن ذلك الفرد ،

ص: 667


1- الجواهر 2 : 129 - 130.

وحيث إنّ إجزاء ذلك الفرد المذكور لا بدّ وأن يكون بواسطة تعلّق أمر الشارع بذلك الفرد ، فلا محالة يكون ذلك الفرد أحد أفراد الواجب المخيّر بالنسبة إلى الأمر الوجوبي المتعلّق بماهيّة غسل الجنابة لتحقّق مصلحته به أيضا. وكذا بالنسبة إلى الأمر الندبي المتعلّق بماهيّة غسل الجمعة ، فيكون ذلك الفرد موردا للطلب الندبي والوجوبي معا على وجه التخيير الشرعي.

وأمّا ما أورده في الجواب عن الترديدات فلا يجدي شيئا ، كما يظهر للمتأمّل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ شيئا من هذه الموارد ليس من مورد اجتماع حكمين فعليّين سواء كانا مثلين أو ضدّين.

وتلخّص أيضا : أنّ موارد اجتماع الأسباب والمسبّبات لا يخلو من صور أربع :

الاولى : تعدّدهما مع المباينة الكلّية بين الأسباب والمسبّبات ، كما إذا قيل : « إذا ظاهرت فأعتق رقبة » و « إذا تكلّمت فاسجد سجدتي السهو » مثلا ، وحكمها ظاهر.

الثانية : تعدّدهما مع تصادق المسبّبين فقط ، أو مع تصادق السببين أيضا ، أو تصادق السببين فقط. فعلى الأوّلين ينوط (1) الكلام بدعوى صدق امتثال التكليفين بالإتيان بالفرد الجامع ، ولعلّه كذلك. وعلى الثاني فالظاهر عدم التداخل ولزوم الإتيان بالطبيعتين عند تصادق السببين لعدم المانع بعد وجود المقتضي ، ويظهر ممّا مرّ.

الثالثة : أن يعلم اتّحاد حقيقة المسبّبات مع إمكان تكرّر وجوداتها في الخارج سواء كان الأسباب متّحدة الحقائق أو مختلفة ، لرجوع الثاني إلى الأوّل كما عرفت.

ص: 668


1- كذا ، والأنسب : « يناط ».

وحكمها تكرار الوجودات بالإتيان بأفراد كثيرة على حسب تكرار المسبّبات ، أشخاصها أو أنواعها. اللّهم إلاّ أن يعلم بالدليل تقييد تلك الأسباب بعدم مسبوقيّة بعضها بأمثالها ، كما في الوضوء.

الرابعة : أن يعلم اتّحاد المسبّب مع عدم قابليّته للتكرار ، ولا مجال للتعدّد فيه أيضا ، وقد عرفت ممّا مرّ.

ثمّ إنّ لبعض الأجلّة في المقام كلاما طويلا لا بأس بنقله والتنبيه على بعض ما فيه ، حيث قال : وأمّا تداخل بعض العبادات كالأغسال فلا إشكال في تداخل واجباتها ومندوباتها مع اعتبار النيّة ، لأنّ مرجعه إلى التخيير بين أفعال مشتملة على النيّة وبين فعل واحد مشتمل على تلك النيّات ، وهما متغايران. ولو قلنا بتداخلها أو الاستحباب قهرا فيرجع إلى تأكّد الوجوب أو الاستحباب عند تعدّد الأسباب. ثمّ نفى الإشكال أيضا عند اجتماع الواجب والمندوب فيما إذا كانا غيريّين وعند اختلاف وجههما بالغيريّة والنفسيّة ، زعما منه أنّ اختلاف وجه الوجوب والندب يجدي في اجتماع الحكمين الفعليّين.

ثمّ قال : وكذا في النفسيّة منها إن جعلنا الوجوب والندب لا حقين للفعل مع النيّة الخاصّة ، بأن جعلنا النيّة شطرا من العمل لتغاير المورد. فمحلّ الوجوب في المثال المذكور الغسل مع نيّة رفع الجنابة ، ومحلّ الاستحباب الغسل مع نيّة كونه للجمعة ، ولا ريب في تغاير المركّبين وتباينهما ، غاية ما في الباب أن يشتركا في جزء وهو ما عدا النيّة ، فيلزم وجوبه في ضمن أحدهما واستحبابه في ضمن الآخر ، ووجوبه لأحدهما واستحبابه للآخر ، ولا إشكال في شيء منهما.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ عدم المنع من تركه في ضمن مركّب أعمّ من عدم المنع من تركه لا في ضمنه ، لصدقه على فعله مع ترك ما ينضمّ إليه ، فلا ينافي عدم جواز تركه في نفسه ولو في ضمن مركّب آخر. وإن جعلناهما لا حقين للفعل

ص: 669

بشرط النيّة كان بحكم الواجب المخيّر مع رجحان بعض أفراده (1). انتهى موضع الحاجة من كلامه.

أقول : إنّ وجوه فساده غير خفيّ على أحد.

أمّا أوّلا : فلأنّ نفي الإشكال عن تداخل الأغسال مع اتّحادها نوعا من الواجب والمندوب في غير محلّه ، لما قد عرفت من لزوم اجتماع الأمثال على تقديره ، وإن كان مدفوعا بما عرفت من تأكّد الطلب باجتماع المفاهيم المتعدّدة في فرد واحد ، كما دفعه عند التداخل القهري على ما زعمه.

وأمّا ثانيا : أنّ موارد التداخل القهري إنّما هو فيما إذا لم يكن الفعل قابلا للتكرار كما في مثال القتل - على مسامحة فيه أيضا - وفيما إذا قلنا بتداخل الأسباب بواسطة التقييد في إطلاق دليل السببيّة كما في الوضوء ، والأغسال ليس من قبيل الأوّل الذي هو قابل للتأكيد. وعلى الثاني لا وجه للتأكيد ، إذ ليس هناك أسباب متعدّدة ليحصل منها وجوبات تكون منشأ للتأكيد. ويظهر ذلك بملاحظة ما ذكرنا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ دخول النيّة في المأمور به ولحوق الوجوب والندب للفعل المركّب مع النيّة قد فرغنا عن إبطاله فيما تقدّم. سلّمنا لكن الفعل لا يختلف حكمه باختلاف النيّة في المقام ، فإنّ قوله : « فمحلّ الوجوب الغسل مع نيّة رفع الجنابة ، ومحلّ الاستحباب الغسل مع نيّة كونه للجمعة ، ولا ريب في تباين المركّبين » يعطي بظاهره اتّحاد حقيقة الغسل مع قطع النظر عن النيّتين ، وإنّما الاختلاف بواسطة اختلاف نفس النيّتين ، كما يؤيّده قوله : « غاية ما في الباب أن يشتركا في جزء » ولا سبيل لنا إلى تعقل اتّصاف فعل واحد بالوجوب والندب بواسطة النيّة من غير أن يكون النيّة منشأ لاختلاف حقيقة الفعل ، كما في لطم اليتيم بنيّة التأديب والظلم ؛

ص: 670


1- الفصول : 136.

على أنّ ما ذكره لا يجدي في دفع الإشكال ، فإنّ الفعل لا أقلّ من كونه جزءا للواجب والمندوب ، فيلزم اتّصافه بالوجوب والندب ، فإنّ جزء الواجب والمندوب يتبعان الكلّ في الحكم. اللّهم إلاّ بالقول بعدم التضادّ بينهما فيما إذا كانا غيريّين ، وستعرف فساده.

نعم ، يصحّ ذلك فيما إذا كان المركّبان ممتازي الوجود ، كما إذا وقع السجود في الصلاة الواجبة والمندوبة ، وأمّا إذا كان فعل واحد في وجوده الواحد جزءا لمركّبين ، أحدهما واجب والآخر مندوب - كما في الغسل - فالإشكال ظاهر الورود فيه.

ثمّ إنّه لو فرض كفاية نفس النيّة ودخولها في الواجب في جعل أحد الفعلين مغايرا للآخر - كما زعمه - فالتقييد بتلك النيّة أيضا يوجب التغاير والاختلاف ، فلم يعلم وجه للفرق بين دخول النيّة في العمل كأن يكون شطرا منه وبين خروجها كأن تكون شرطا.

وأمّا نفي الإشكال عند اجتماع الواجب والمندوب إذا كانا غيريّين أو أحدهما غيريّا والآخر نفسيّا فهو مبنيّ على ما زعمه من نفي التضادّ بين الوجوب والاستحباب إذا كانا غيريّين أو مختلفين ، حيث قال : إنّ الوجوب والندب إمّا أن يتّحدا جهة ، بأن يكونا نفسيّين أو غيريّين مع اتّحاد الغير أو لا ، فإن كان الأوّل امتنع الاجتماع.

ثمّ أخذ في الاستدلال على ما صار إليه - إلى أن قال : - وإن كان الثاني جاز الاجتماع ، إذ لو امتنع لكان إمّا باعتبار الرجحان ولا حجر من هذه الجهة ، إذ انضمام الرجحان إلى الرجحان لا يوجب إلاّ تأكّد الرجحان ، أو باعتبار ما تقوّما به من المنع من النقيض وعدمه ولا حجر من هذه الجهة أيضا ، لأنّ الوجوب والندب حيث كانا باعتبار جهتين كان المنع من الترك وعدمه أيضا باعتبارهما. ولا منافاة بين المنع من ترك الفعل لنفسه أو لغيره وبين عدم المنع منه لغيره أو لأمر آخر ،

ص: 671

فإنّ عدم المنع من النقيض بأحد الاعتبارين راجع إلى عدم اقتضاء ذلك الاعتبار للمنع ، وهو لا ينافي اقتضاء اعتبار آخر له (1).

ثمّ أوضحه بعبارة اخرى : بأنّه يصدق على الواجب لنفسه أنّه ليس بواجب لغيره ، وذلك يوجب أن لا يكون ممنوع الترك لغيره ، فإذا انضمّ إليه رجحانه حصل ماهيّة الاستحباب. ثمّ قاس على ذلك اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي ، وأطال فيما يتعلّق به.

أقول : لا يخفى على المتأمّل أنّ اختلاف الوجوب والاستحباب بالغيريّة والنفسيّة ليس إلاّ اختلاف الشيء باعتبار الغايات التي يترتّب على الشيء ، فإنّ الواجب الغيري لا يمايز الواجب النفسي فيما هو مناط المطلوبيّة وما به يتحقّق ملاك صدق الوجوب ، إلاّ من حيث إنّ الوجه في وجوب أحدهما ليس خارجا عن حقيقة المطلوب ، والوجه في الآخر هو ذلك الغير ، ولعلّ ذلك ظاهر. فكما أنّه لا يعقل اجتماع الوجوب والاستحباب فيما إذا كانا نفسيّين لا يعقل اجتماعهما فيما إذا كان أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا ، لأنّ مناط التضادّ متحقّق في حقيقة الطلبين ولا مدخل للغاية المترتّبة على المطلوب في ذلك. نعم ، يصحّ ما ذكره فيما إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري ليس من حقيقة الوجوب وإنّما هو من قبيل إسناد الشيء إلى غير ما هو له فإنّ المطلوب هو الغير. وليس كذلك ، فإنّ المتّصف بالوجوب هو الواجب الغيري حقيقة ، والغير إنّما يكون واسطة في ثبوت تلك الصفة له.

وأمّا ما زعمه : من أنّه لا حجر باعتبار الرجحان لأنّ انضمامه يوجب تأكّده ، فإن أراد أنّ الرجحان بعد انضمامه إلى الرجحان الوجوبي باق بحاله على وجه يشاهد في النفس رجحانان نظير وجودهما بالنسبة إلى أمرين - فبعد كونه بديهي البطلان وجدانا وبرهانا لاستلزامه اجتماع الأمثال - يردّه ما زعمه من التأكيد بعد

ص: 672


1- انظر الفصول : 135.

الانضمام ؛ لأنّ التأكيد إنّما هو في اندراج أحدهما في الآخر ، كما يلاحظ في اجتماع السوادين. وإن أراد أنّ الانضمام يوجب أن يكون أحدهما مندرجا تحت الآخر فذلك اعتراف بامتناع الاجتماع في الحكمين الفعليّين. ومجرّد تحقّق فصل الاستحباب الغيري - وهو عدم كونه ممنوع الترك للغير - بعد التسليم لا يجدي في الحكم بكون الاستحباب الغيري موجودا بالفعل في مورد الوجوب النفسي.

ثمّ إنّه حكم بالامتناع فيما إذا فسّر المندوب بالرجحان مع الإذن في الترك ، وما ذكره من الجواز مقصور على ما إذا فسّر بالرجحان مع عدم المنع من الترك ، وجعل التفسير الثاني أسدّ وأولى نظرا إلى اختلاف الرجحان بالشدّة والضعف.

ولم يعلم وجه فرق بينهما ، فإنّ التحقيق أنّ اختلاف الوجوب والاستحباب إنّما هو بواسطة اختلاف مراتب الطلب شدّة وضعفا ، وليس حقيقة عدم المنع من الترك ولا الإذن في الترك معتبرة في ماهيّة الاستحباب ، وإنّما يفسّر بأحدهما من حيث إنّهما من لوازم تلك المرتبة ، وحينئذ فكما يجوز أخذ عدم المنع من الترك فصلا يجوز أخذ الإذن أيضا فصلا.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره في وجه الأولويّة بالنسبة إلى تفسير المندوب غير وجيه ، فإنّ تلك المراتب حقائق بسيطة تارة ينتزع منها الإذن ، واخرى عدم المنع من الترك ، وذلك ظاهر.

وما ذكرنا إنّما هو فيما إذا اجتمع الواجب والاستحباب العينيّان. وأمّا إذا كان الواجب تخييريّا والاستحباب عينيّا - كإيجاد الصلاة في المسجد - فقد عرفت في توجيه العبادات المكروهة وجه الصحّة فيها ، وحاصله : أنّ تلك الأوامر إرشاد إلى مزيّة حاصلة في الأفراد الخاصّة ، كما مرّ فيما سبق.

ويمكن أن يجاب أيضا : بأنّ الاستحباب في أفراد الواجب المخيّر إنّما يلاحظ بالنسبة إلى جهة التخيير ، فيكون المتّصف بالاستحباب هو الواجب بعد اتّصافه بالوجوب التخييري ، ولا تضادّ بين الاستحباب وذلك الوجوب.

ص: 673

وتوضيحه : أنّ الوجوب والاستحباب إذا اعتبرا في مرتبة واحدة ليكون أحدهما في عرض الآخر في عروضهما للفعل ، فلا ريب في تضادّهما ، فيمتنع اتّصاف محلّ واحد بهما ، من غير فرق بين اختلاف وجههما أو جهتهما. وأمّا إذا اعتبر الاستحباب مرتّبا على الواجب - كأن يكون لحوق وصف الاستحباب في موضوع الواجب بعد اتّصافه بالوجوب التخييري - فلا تضادّ بينهما ، فإنّه إذا اتّصف الفعل باعتبار تركه المقيّد بعدم الإتيان بالبدل بالوجوب ، فلا بدّ أن يتّصف باعتبار تركه المقيّد بإتيان البدل بحكم آخر ، فترك الفعل على وجه الإطلاق من دون ملاحظة أحد الاعتبارين لا حكم له ، وتركه بالاعتبار الأوّل ممّا لا يجوز ، وبالاعتبار الثاني ممّا يجوز ، وهذا الاعتبار قد يصير راجحا فيكون الفعل مكروها ، وقد يكون مرجوحا فيكون الفعل مستحبّا ، وقد يبقى بحاله فيكون الفعل من هذه الجهة جائز الترك فقط ، ولا منافاة. وكيف! والفعل بالاعتبار الثاني واقع في عرض الفعل بالاعتبار الأوّل فيجوز اتّصافه بالاستحباب والكراهة ، بل ولا بدّ ذلك بناء على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم.

لا يقال : فيجوز اتّصافه بالاعتبار الثاني بالحرمة أيضا.

لأنّا نقول : إنّ طريان الوجوب على الفعل باعتبار تركه لا إلى بدل مانع عن اتّصاف ذلك الفعل باعتبار تركه إلى بدل بالحرمة ، لأنّ ذلك يوجب انقلاب الواجب التخييري إلى الواجب العيني ، وهو خلف.

وبالجملة ، فمناط هذا الجواب هو منع التضادّ بين الوجوب التخييري والاستحباب والكراهة ، فإنّ جنس الحكمين - وهو جواز الترك - من مقوّمات الوجوب التخييري ، ومحل الوجوب هو الفعل باعتبار تركه الخاصّ ، ومحلّ الاستحباب هو الفعل باعتبار تركه إلى بدل ، كذا أفاده شيخنا ( دام ظلّه ).

أقول : ولعمري! إنّه - رفع اللّه اسمه في سماء التحقيق - وإن دقّق النظر في هذه الإفادة ، ولكنّه بعد غير خال من النظر.

ص: 674

أمّا أوّلا : فبالنقض بالواجب التخييري الشرعي ، فانّه قد عرفت انعقاد إجماعهم على امتناع اجتماع الكراهة بالمعنى المصطلح والاستحباب بمعناه والوجوب في الواجب التخييري الشرعي ، ولذلك كان الجواب الأوّل عن النقض بالعبادات المكروهة النقض بالواجب التخييري الشرعي ، كما مرّ.

وأمّا ثانيا : فلأنّه يستلزم اتّصاف الفعل بوجوبين فيما لو نذر إيجاد الفعل في مكان خاصّ ، فإن الفعل باعتبار تركه لا إلى بدل متّصف بالوجوب الأصلي ، وباعتبار تركه إلى بدل متّصف بالوجوب الثابت بالنذر ، وهو محال.

وأمّا ثالثا : فلأنّ اتّصاف الفعل بالاستحباب والكراهة بعد اتّصافه بالوجوب على أن يكون موضوع الكراهة والاستحباب هو الفعل الواجب هو المحذور في جميع المقامات السابقة ، ولا نجد فرقا في استحالته بين القسمين. وهو قريب ممّا ذكره بعض الأجلّة (1) في توجيه اجتماع الوجوب النفسي والاستحباب الغيري ، والعجب! أنّه - سلّمه اللّه - قد بالغ في الردّ على المقالة المذكورة ، مع أنّ ما أفاده لا ينقص منها مفسدة ، فتأمّل. هذا تمام الكلام في الواجب التخييري مع الاستحباب العيني.

وأمّا التخييريّان ، فنظير اجتماع الواجب التخييري مع المكروه فيما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه. وقد عرفت أنّ أوجه الوجوه في توجيه اجتماعهما هو القول بوجود الجهة. ولا يصحّ الجواب المذكور ، لأنّ الاستحباب بمعنى أفضليّته من سائر الأفراد لا يتأتّى في الأفراد التي لا اجتماع فيها مع الوجوب ، فيوجب استعمال اللفظ في معنيين : أحدهما الإرشاد ، وثانيهما الطلب الاستحبابي. وهذا هو تمام الكلام في الحلّ عن الاستدلال النقضي بالعبادات المكروهة ، وهو الوجه الأوّل من وجوه استدلالهم.

ص: 675


1- وهو صاحب الفصول في الفصول : 136.

الثاني : من وجوه احتجاجهم على الجواز

أنّ المقتضي موجود والمانع مفقود.

أمّا الأوّل : فلإطلاق الخطابات الشرعيّة القاضية بحصول الامتثال والمخالفة في مورد اجتماع الأمر والنهي عند الإتيان بذلك المورد.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المانع إمّا التكليف بما لا يطاق أو اجتماع الضدّين ، ولا يلزم شيء منهما.

أمّا الأوّل ، فظاهر بعد اعتبار المندوحة في محلّ النزاع ، فإنّ وجه اعتبارها إنّما هو بواسطة دفع هذا التوهّم ، وإلاّ فكما أنّ تعدّد الجهتين مجد بالنسبة إلى المحذور الآتي فيما فيه المندوحة فكذلك هو مجد فيما ليس فيه المندوحة.

وأمّا الثاني : فلاختلاف محلّي الأمر والنهي ، فإنّ الأمر متعلّق بماهيّة الصلاة والنهي متعلّق بماهيّة الغصب في المثال المعروف ، ولا ريب أنّ إحدى الماهيّتين مغايرة مع الاخرى. وحصول الطبيعتين في الفرد لا يوجب اتّصاف الفرد بالضدّين ، لعدم تعلّق الطلب به ابتداء. وأمّا الطلب المقدّمي من حيث إنّ الفرد مقدّمة لوجود الكلّي فلا نسلّم ثبوته أوّلا ، وعلى تقدير التسليم فليس المطلوب المقدّمي إلاّ فردا ما ، وإيجاد هذا المفهوم في ضمن فرد خاصّ إنّما هو مثل إيجاد الماهيّة المأمور بها في ضمن أفرادها ، فإنّ فردا ما أيضا كلّي ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى اتّصاف الفرد الموجود في الخارج بالوجوب المقدّمي التبعي التخييري العقلي ، وهو توصّليّ لا مانع من اجتماعه مع الحرام ، وذلك لا يوجب انقلاب الواجب التعبّدي بالتوصّلي ، لأنّ

ص: 676

التعبّدي هي الطبيعة التي يكون الفرد مقدّمة لوجودها. وقد سلك هذا المسلك غير واحد من المجوّزين (1) وأوضحه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2).

وحيث إنّ ذلك مبنيّ على مقدّمات غير مسلّمة : من عدم وجوب المقدّمة ولا سيّما فيما إذا كان ذوها متّحدا معها في الوجود الخارجي - كما نبّهنا على ذلك في محلّه - واختلاف الطبيعة والفرد باتّصاف أحدهما بالوجوب التعبّدي والآخر بالوجوب التوصّلي ، وكلّ ذلك ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ضروريّ بالمعنى المتنازع فيه ، ولا سيّما فيما إذا كانت متّحدة مع ذيها في الوجوب ، على أنّ مقدّمية الفرد للطبيعة ممّا لم نقف لها على محصّل ، فإنّ الفرد على ما هو التحقيق ليس إلاّ عين الطبيعة ، كما ستعرف.

فالأولى أن يوجّه عدم المانع على وجه لا يبتني على هذه المقدّمات ، وهو أن يقال : إنّ الفرد الجامع للعنوانين إنّما هو متّصف بالحرمة العينيّة بناء على اقتضاء النهي استيعاب أفراد الماهيّة المنهيّ عنها ، وليس متّصفا بالوجوب المتضادّ للحرمة بوجه.

وتوضيحه : أنّ الوجوب المتوهّم اتّصاف الفرد به إمّا العيني أو التخييري ، وعلى الثاني إمّا أن يكون شرعيّا أو عقليّا ، والأوّلان ظاهر انتفاؤهما في المقام.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الوجوب العيني إنّما هو متعلّق بالطبيعة ، وليس الفرد واجبا عينيّا ، وإلاّ لاستلزم إمّا وجوب جميع الأفراد أو عدم حصول الإجزاء بفرد آخر ، والتالي بقسميه باطل ، ضرورة عدم وجوبها وحصول الإجزاء بجميعها. والملازمة ظاهرة جدّا.

لا يقال : إنّ ثبوت حكم للماهيّة يستلزم سراية ذلك الحكم إلى الأفراد

ص: 677


1- منهم الكلباسي في الإشارات : 110.
2- انظر القوانين 1 : 141.

كما في الأوصاف اللاحقة للماهيّة باعتبار وجودها الخارجي ، كالبياض والسواد والحلاوة والمرارة والبرودة والحرارة ونحوها.

لأنّا نقول : إنّ اتصاف الطبيعة بالوجوب العيني ليس من قبيل اتّصافها بأوصافها القائمة بها باعتبار وجودها في الخارج ، وإلاّ لاستلزم أحد المحذورين : من اتّصاف الجميع بالوجوب العيني وعدم الإجزاء.

وأمّا الثاني - وهو عدم اتّصاف الفرد بالوجوب التخييري الشرعي - فهو من الامور الواضحة التي لا يليق توهّم خلافه لأحد.

وأمّا الأخير - وهو الوجوب التخييري العقلي - فبيان عدم اتّصاف الفرد به يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ التخيير العقلي ليس من الأحكام التكليفيّة العقليّة ، بل التحقيق أنّ مرجعه إلى إذن وضعيّ وترخيص لا يؤول إلى التكليف من حيث مساواة الأفراد في نظر العقل حيث إنّها ممّا يحصل معها الامتثال بالواجب العيني ، وحاصله يرجع إلى التصديق بأنّ الطبيعة المطلوبة إنّما تتحقّق في هذه الأفراد ، وليس ذلك ممّا ينافي حرمة واحد من هذه الأفراد.

وإذ قد عرفت هذه ، فإن اريد من اتّصاف الفرد بالوجوب العقلي التخييري ما ذكرنا ، فقد عرفت عدم المنافاة. وإن اريد معنى آخر مثل حكم الشارع بالتخيير بين أفراد ماهيّات مختلفة - كخصال الكفّارة - على وجه يتّصف كلّ واحد منها بالمطلوبيّة التخييريّة ، فلا نسلّم أنّ الفرد متّصف بالوجوب بهذا المعنى. وإلزام العقل بالامتثال راجع إلى امتثال الواجب العيني ، ولا حكم له في الأفراد بوجه إلاّ ما عرفت من التصديق ، وهو ليس حكما تكليفيّا ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من عدم اتّصاف الفرد بالوجوب - على اختلاف أنحائه - فما مناط الامتثال؟ ومن أي وجه يتّصف بالصحّة التي لا يراد بها إلاّ مطابقة الفعل للمأمور به؟ ومن المعلوم أنّ ذلك غير معقول على تقدير عدم تعلّق الأمر به بوجه لا عينا ولا تخييرا.

ص: 678

قلت : إنّ انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد وتحقّقها فيه كاف في الصحة وانتزاعها ، ولا حاجة إلى اعتبار أمر خارج عن الأمر المتعلّق بالطبيعة في الفرد حتّى يتّصف بالصحّة ويكون موردا لانتزاعها ، بل وهذا هو الوجه في اتّصاف الفرد بالصحّة ولو في غير الأفراد المحرّمة.

فإن قيل : إنّ اجتماع المصلحة والمفسدة التي هما جهتا ثبوت الوجوب والحرمة أيضا ممتنع ، والفرد المحرّم لا بدّ وأن يكون مجمعا لهما وإن لم يجتمع فيه الوجوب والحرمة.

قلنا : إن اريد بالمصلحة والمفسدة الحسن والقبح الفعليّان فلا نسلّم اجتماعهما في الفرد ، فإنّ اجتماعهما في الفرد يوجب اجتماع الوجوب والحرمة ، فإنّهما علّتان تامّتان لهما ، والمفروض عدم اجتماعهما. وإن اريد وجود الجهات المقتضية للحسن والقبح ، فلا نسلّم امتناع اجتماعهما ، كيف! وهو معلوم لا ينبغي التأمّل في ثبوته ، كما يلاحظ في الأدوية المضرّة للسوداء النافعة لما يضادّها ، وفي الأغذية النافعة لبعض الأمراض والموجبة لبعض آخر ، فإنّ كلّ ذلك ممّا يشاهد بالوجدان ، وليس فيه استحالة من حيث اجتماع الحب والبغض في الفرد. والسرّ في ذلك : أنّ متعلّق الحبّ والبغض هو نفس تلك الجهات ، ولا سراية إلى ما (1) يشتمل على تلك الجهات.

والجواب عن ذلك يظهر بعد تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ الحق - كما عليه المحقّقون (2) - وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، ومعنى وجوده هو أنّ الصورة الكلّية المطابقة لكثيرين المنتزعة من الصورة الشخصيّة الحاضرة في الخيال بتجريدها عن

ص: 679


1- في ( ع ) : ما لا يشتمل.
2- انظر شرح المنظومة للسبزواري : 21.

لوازم (1) الشخصيّة من الأوضاع الخاصّة والكيفيّات المخصوصة تارة تلاحظ في نفسها ولا يحكم عليها بالوجود ذهنا ولا خارجا ولا بالكلّية والجزئيّة ، ضرورة أنّ هذه كلّها أوصاف خارجة عن الماهيّة طارئة عليها وإن كانت متّصفة بالوجود الذهني في الواقع ، فإنّ عدم اتّصافها به يوجب التعامي عن بيان أحكامها وجودا وعدما. واخرى تلاحظ من حيث إنّها متّصفة بالوجود ذهنا أو خارجا.

فعلى الأوّل فهو فرد من مفهوم الصور الذهنيّة ومصداق من مصاديق العلم. وعلى الثاني فهو فرد من أفراد تلك الماهيّة في الخارج ، فالفرد ليس إلاّ تلك الماهيّة عند اتّصافها بالوجود الخارجي. وبعبارة اخرى : أنّ الفرد ليس إلاّ الطبيعة الخارجيّة ، ولا يعقل من الفرد سوى ما ذكرنا.

والإنصاف : أنّ وجود الكلّي بالمعنى المذكور من الامور الواضحة الجليّة التي لا يتوقّف العلم به على ملاحظة أمر خارج عن طرفي الحكم المزبور.

نعم ، ربما قيل : إنّه يحتاج إلى تنبيه ، حيث إنّ الطبيعة لا بشرط شيء ربما يتوهّم أنّ مقارنة شيء لها مانعة عن وجودها ، وحمل ما هو المعروف في الاستدلال من حديث الجزئيّة على ذلك. ولعلّه لا يحتاج إلى التنبيه من هذه الجهة أيضا ؛ فإنّ المقارن - على ما هو المفروض - ليس إلاّ الوجود الذي به يتحقّق تلك المأخوذة لا بشرط شيء ، ولا يعقل ممانعة الوجود المقارن عن اتّصاف الماهيّة لا بشرط شيء بالوجود. كيف! وذلك المقارن هو وجودها.

ومن هنا يظهر أنّ ما هو المعروف عندهم في تقريب الاستدلال بالجزئيّة : من أنّ الماهيّة بشرط شيء موجودة في الخارج واللابشرط جزء منها وجزء الموجود الخارجي موجود ، لا يخلو عن مسامحة ومساهلة ، حيث إنّ المركّب ليس إلاّ الماهيّة

ص: 680


1- كذا ، والمناسب : اللوازم.

والوجود الذي به يتحقّق تلك الماهيّة ، وظاهر كلامهم يعطي أنّ المركّب موجود على وجه لا يشعر بأنّ الجزء الآخر هو الوجود في هذا المركّب.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد تردّد في المقام : من أنّه لو كان الكلّي موجودا لكان إمّا نفس الجزئيّات أو جزئها أو خارجا عنها ، والأقسام بأسرها باطلة.

أمّا الأول : فلأنّه لو كان عين الجزئيّات يلزم أن يكون كلّ واحد من الجزئيّات عين الآخر في الخارج.

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان جزءا منها في الخارج لتقدّم عليه في الوجود ، ضرورة أنّ الجزء الخارجي ما لم يتحقّق أوّلا وبالذات لم يتحقّق الكلّ ، وذلك يوجب انتفاء الحمل.

وأمّا الثالث : فضروريّ الاستحالة.

فإنّ لنا اختيار كلّ من الشقّين الأوّلين.

أمّا الأوّل ، فنختار أنّ الكلّي عين الأفراد في الخارج ، ولا يلزم اتّحاد الأفراد والجزئيّات ؛ لأنّ ذلك إنّما يلزم فيما لو سلّم ثبوت المقدّمة الخارجيّة في قياس المساواة ، وهي : « أنّ عين العين عين » وتلك المقدّمة غير مسلّمة ، فإنّ معنى عينيّة الكلّي الطبيعي للفرد هو أنّ الفرد عبارة عن الماهيّة الخارجيّة ، وحيث إنّ الوجود والماهيّة متّحدان في الخارج لا فاصل بينهما يكون أحدهما عين الآخر ، فالطبيعة عين الفرد ، وأين ذلك من اتّحاد الأفراد؟ لاختلاف الوجودات فيها.

وأمّا الثاني ، فنختار أنّ الكلّي جزء للأفراد ويكون الجزء الآخر هو الوجود الذي به يتحقّق الكلّي ، ولا يلزم تقدّم الجزء في الوجود على الكلّ فيما إذا كان أحد جزئي المركّب هو وجود الجزء الآخر.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الفرد ليس إلاّ وجود الكلّي والطبيعة الموجودة.

ص: 681

وإذ تقرّر ما ذكرنا من وجود الكلّي الطبيعي بالمعنى المذكور ، نقول في الجواب :

أوّلا : نختار أنّ الفرد متّصف بالوجوب العيني المتّصف به نفس الطبيعة ، فإنّ فرد الصلاة التي هي واجبة عينا ليس إلاّ وجود تلك الصلاة الواجبة في الخارج ، فهو الواجب العيني الموجود في الخارج ، بل وذلك ممّا لا مناص عنه ، إذ لولاه لما صحّ الامتثال ، إذ لا يعقل أن يكون المطلوب هو الفرد (1) وما يسقط به الطلب غيره.

وأمّا قولك : إنّ اتّصاف الفرد يوجب اتّصاف الجميع بالوجوب العيني أو عدم الإجزاء.

نقول : لا محذور في البين أصلا. أمّا الثاني فظاهر ، لأنّا لا نلتزم باتّصاف فرد واحد بالوجوب حتّى يلزم عدم الإجزاء ، كيف! وذلك ترجيح بلا مرجّح ، لاستواء الكلّ في حصول الماهيّة بها. وأمّا الأوّل ، فلأنّه إن اريد من اتّصاف الأفراد جميعها بالوجوب العيني أنّ واحدا منها غير مجز عن الآخر ، فالملازمة ممنوعة ، إذ الوجوب العيني الذي يتّصف به الماهيّة ليس إلاّ عدم كفاية ماهيّة اخرى عنها ، وعدم إجزاء فرد منها عن الفرد الآخر ليس ماخوذا في الوجوب العيني ، وهو بعينه موجود في جميع الأفراد ، لعدم كفاية فرد آخر للماهيّة المغايرة لتلك الماهيّة عنه. وإن اريد من اتّصافها بالوجوب العيني أنّ كلّ واحد منها عين الطبيعة الواجبة بالوجوب العيني وإن كان إتيان بعض أفرادها مسقطا للطلب المتعلّق بها ، فالملازمة ظاهرة مسلّمة ، ولكن بطلان التالي ممنوع ، بل ولا بدّ أن يكون كذلك كما عرفت.

وثانيا : نختار أنّ الفرد متّصف بالوجوب التخييري العقلي الذي لا يرجع إلى خطاب تكليفي ، وهو يوجب المحال.

ص: 682


1- في ( ط ) ونسخة بدل ( ع ) : الضرب.

بيانه : أنّ اجتماع الضدّين يتصوّر على وجهين ، أحدهما : أن يكون شيء واحد شخصي باعتبار جهة واحدة متّصفا بالمتضادّين كالسواد والبياض مثلا. وثانيهما : أن يكون شيء واحد شخصي مصداقا لطبيعتين متغايرتين مفهوما ، ويكون كلّ واحدة من تينك الطبيعتين محلاّ لواحد من الضدّين. ولا فرق في الاستحالة بين القسمين ؛ ضرورة أنّ المتّصف بالضدّين على الثاني أيضا هو المصداق ، فإنّ الوجوب والحرمة كالبياض والسواد والحركة والسكون من الأوصاف اللاحقة للماهيّة باعتبار الوجود ، ولا ريب أنّ الطبيعتين متّحدتان وجودا وإن اختلفتا مفهوما.

وبعبارة اخرى : أنّ جهة اختلافهما - وهي جهة ملاحظتهما في الذهن على وجه التغاير - لا مدخل لها في اتّصافهما بالضدّين ، لأنّ الضدّين على ما هو المفروض من الأوصاف الخارجية للماهيّة. وجهة اتّحادهما - وهي مقارنتهما في الوجود الخارجي واتّحادهما فيه كما يكشف عنه حمل إحداهما (1) على الاخرى - يوجب المحذور المحال ؛ وعلى ذلك نقول : إنّ حصول الطبيعة المأمور بها في الفرد المحرّم كاف في الامتناع ؛ لأنّ ذلك أيضا من اجتماع الضدّين.

وقد يوجّه : بأنّ ذلك من اجتماع الضدّين في مورد باعتبار اتّصاف المورد بأحدهما بنفسه وبالآخر باعتبار حصول الطبيعة الاخرى فيه ، فإنّ ما نحن فيه يكون اتّصاف الفرد بالحرمة بنفسه - فإنّ النهي في الفرد المحرّم عيني - وبالوجوب باعتبار الصدق. والأقوى ما ذكرنا ؛ لأنّ الفرد المحرّم اتّصافه بالحرمة أيضا باعتبار الصدق ، كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الطبيعتان كلتاهما عرضيّتين للمورد الجامع بينهما ، أو إحداهما ذاتيّة والاخرى عرضيّة ، أو كلتاهما ذاتيّتين ، إلاّ أنّه لا يعقل

ص: 683


1- أي : إحدى الطبيعتين ، وفي ( ع ) ، ( م ) : أحدهما على الآخر.

العموم من وجه حينئذ كما هو ظاهر ، فلا بدّ أن يكون بينهما عموم مطلق ، إذ يكفي في اجتماع الضدّين المحال اجتماعهما في مورد واحد على ما هو مناط الحمل ، سواء كان المحلاّن المتّحدان أصيلين في المورد أم لا. ولا حاجة إلى اتّحادهما بوجه لو فرض انتفاء أحدهما يلزم انتفاء الآخر ، فإنّ ذلك ممّا لا يعقل مدخليّته في الاستحالة المذكورة.

فما قد يتوهّم : من أنّ الغصب والصلاة في محلّ الكلام يرتفع أحدهما مع بقاء الآخر ، كما لو أبطل الصلاة أو حصل له الإذن في الصلاة ، وذلك دليل تعدّد الوجود.

ليس في محلّه ؛ فإنّه كلام ظاهريّ خال عن التحصيل ، فإنّ مناط الحمل إمّا أن يكون موجودا أو لا يكون ، والثاني باطل ضرورة صحّة الحمل في المثال المفروض حال عدم الإذن ، والأوّل موجب للمحال ، فإنّ حمل الأسود على ما هو أبيض وحمل المتحرّك على ما هو ساكن وحمل الواجب على ما هو حرام محال جدّا.

ولعمري! إنّ فساد هذه المقالة أوضح من أن يحتاج إلى البيان. وأمّا حديث الارتفاع فهو مشترك الورود بين الذاتيّات والعرضيّات ، كما لا يخفى على المتأمّل ؛ ومع ذلك لا يجدي شيئا بعد ظهور المناط فيما يوجب المحال ، فكن على بصيرة وتدبّر حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن التقرير الأوّل في ارتفاع المانع ، فإنّ الفرد عين الكلّي في الخارج ، ولا يعقل أن يكون وجوب الكلّي تعبّديا والفرد توصّليا حتّى يقال بأنّ وجوب الفرد على تقدير وجوب المقدّمة توصّلي يجتمع مع الحرام.

وأمّا ما اشتهر عندهم : من أنّ تعدّد الجهات فيما إذا كانت تقييديّة مجد في عدم اجتماع الضدّين في محلّ واحد (1) ، فهو كلام غير خال عن شوب الإبهام والإجمال.

ص: 684


1- انظر حاشية السلطان على المعالم : 290 ، وهداية المسترشدين 3 : 66 - 67 ، وضوابط الاصول : 132.

وتحقيقه : أنّ التقييد - كالتقسيم - عبارة عن ضمّ قيود عديدة متباينة بأمر واحد لا يكون أحدها أو نقيضه معتبرا في حقيقة ذلك الأمر الواحد ليصحّ التقييد به وبما يضادّه كالفصول اللاحقة للأجناس ، أو بما يخالفه (1) في الجملة كما إذا كان بين القيدين مباينة جزئيّة ، كالبغدادي والأبيض العارضين للإنسان مثلا ، على ما هو المقرّر في محلّه. ولا يتحقّق حقيقة التقييد إلاّ فيما إذا كان المقيّد أمرا عامّا قابلا لورود القيود المعتورة عليه ، وإذا فرضنا اختلاف أحكام تلك القيود يجب أن يكون المقيّد بها خاليا عن تلك الأحكام ، مثل ما لو فرض وجوب أحد النوعين وحرمة الآخر ، فإنّه لا بدّ وأن يكون الجنس غير متّصف بالوجوب والحرمة ، وذلك من الامور الواضحة التي لا يكاد يعتريها ريب.

فإذا عرفت ذلك نقول : إنّ محلّ الكلام على ما مرّ إنّما هو في فرد جامع لعنوانين ، وتطبيق ذلك على الجهات التقييديّة غير معقول ، فإنّ ذلك الفرد الجامع ليس من الامور القابلة لاعتوار القيدين المختلفين عليه على وجه يحصل من انضمام كلّ واحد من القيدين به فرد ، كيف! وهو فرد لتينك الماهيّتين ، فلا يعقل تقيّده بهما على وجه يحصل فردان متمايزان. نعم ، يصحّ ذلك في مثل ماهيّة السجود الذي يحتمل وقوعه على وجه التعظيم لله والإهانة ، فإنّ التقيّد بكونه لله يوجب اختلافه معه فيما لو كان مقيّدا بكونه للشمس ، فيصحّ اختلاف الفردين في الحكم.

فما يظهر من بعضهم : من ابتناء المسألة على أن تكون الجهات المعتبرة في الواحد الشخصي تقييديّة فيجوز أو تعليليّة فلا يجوز ، إن أراد أنّه يمكن أخذ الجهة تقييديّة في الواحد الشخصي كما يمكن أخذها تعليليّة ، والكلام إنّما هو مبنيّ على تشخيص ذلك فإن كان اعتبار الجهة من التقييد فيجوز وإن كان من التعليل

ص: 685


1- في ( م ) زيادة : ولو.

فلا يجوز ، فهو كلام خال عن التحصيل ؛ لما عرفت من عدم معقوليّة التقييد فيما هو محلّ الكلام. وإن أراد أنّ الاجتماع في الكلّي القابل للقيدين جائز من حيث قبوله للقيدين ولا يجوز فيما اجتمع فيه المقيّدان ، فهو حقّ لكنّه ليس من مباني المسألة ، لأنّ الكلام إنّما هو في الثاني ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فالكلام في المقام إنّما هو فيما إذا اجتمع الطبيعتان المقيّدتان في مورد واحد ، والقول بأنّ تينك الطبيعتين جهتان تقييديّتان لذلك المورد ممّا لا محصّل له. نعم ، تانك الطبيعتان من أصناف كلّي آخر فوقهما ، فيكون جهة اختلافهما من الجهات التقييديّة بالنسبة إلى ذلك الكلّي الفوق ، لا بالنسبة إلى فردهما وإن فرض كون الفرد أيضا كلّيا ، فإن فرض كلّية ذلك المورد يجوز لحوق قيد آخر به لا ما هو معتبر في فرديّته ، من غير فرق في ذلك بين كون الجهتين عرضيّتين أو إحداهما ذاتيّة والاخرى عرضيّة.

والحاصل : أنّ المجوّز إنّما يدّعي عدم التضادّ بين الأمر والنهي ، أو يدّعي جواز اجتماعهما في مورد واحد باعتبار جهتين على وجه لا يصير اختلاف الجهة موجبا لاختلاف المحلّ في الوجود الخارجي ، أو يدّعي أن الجهتين في المقام توجب التعدّد في الوجود الخارجي.

أمّا الأوّل : ففساده أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، فإنّ رفع التضادّ يوجب اجتماعهما في الواحد من جهة واحدة مع أنّه ممّا لم يتفوّه به عاقل.

وأمّا الثاني : فقد مرّ ما يوضح فساده ، وحاصله : أنّ الوجوب والحرمة من الأوصاف المنتزعة من الأفعال باعتبار وجودها في الخارج كالحسن والقبح ، ولا سبيل إلى انتزاعهما من الأفعال الذهنيّة وإن تعلّق الطلب من الآمر بالطبائع حال وجودها في الذهن ، فإنّ المطلوب ليس تلك الماهيّات المتصوّرة ، وإلاّ لما توقّف الامتثال على إيجاد تلك الطبائع في الخارج ، فموارد انتزاع الوجوب والحرمة إنّما هي

ص: 686

الأفعال الخارجيّة ، وبعد اتّحاد الموردين في الوجود الخارجي يلزم وجود الضدّين في ذلك الموجود الواحد وإن كان بواسطة اجتماع الطبيعتين ، وهو محال ، وإلاّ لزم اتّصاف جسم واحد - كزيد مثلا - بالسواد والبياض بواسطة اجتماع عنوانين موجودين فيه ، ككونه بغداديّا وكونه من بني أسد مثلا لو فرضنا اقتضاء كلّ واحد منهما لأحد الوصفين.

وأمّا الثالث : فبداهة فساده يصرفنا عن الإطالة في إبطاله ؛ ضرورة صحّة الحمل الذي مناطه هو اتّحاد الوجود ولو على وجه ، كما هو ظاهر.

الثالث : من وجوه احتجاجهم على الجواز

هو ما تمسّك به غير واحد منهم (1) : من قضاء العرف بحصول الإطاعة والعصيان فيما إذا أتى المكلّف بفرد جامع للعنوانين ، كما إذا أمر المولى بالمشي ونهاه عن الحركة في مكان خاصّ ، فإنّ العبد لو خالف المولى وأوجد المشي المأمور به في ضمن الحركة في ذلك المكان عدّ عاصيا ومطيعا يستحقّ بالأوّل اللوم والعقاب وبالثاني المدح والثواب. وليس ما ذكر بذلك البعيد ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يلاحظ الاستحقاق المذكور من دون شائبة إنكار.

والجواب عنه : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما إذا كان المطلوب بالأمر وجود الفعل المأمور به على أي وجه اتّفق كأن يكون توصّليّا ، وليس تعلّق النهي بالفعل موجباً

ص: 687


1- انظر القوانين 1 : 148 ، ومناهج الأحكام : 56 ، وإشارات الاصول : 110 - 111.

لعدم حصول الماهيّة المأمور بها ، إذ لا يعقل في الأمر والنهي مدخل في وجود المأمور به والمنهيّ عنه ، كما هو ظاهر.

فإن اريد من الإطاعة التي اخذت في الدليل ما هي معتبرة في الأوامر - كما مرّ في بحث المقدّمة - ومرجعها إلى عدم المخالفة بواسطة حصول المأمور به ولو اتّفاقا أو بوجه محرّم ، فهو حقّ لا محيص عنه ؛ لما مرّ من أنّ النهي لا يوجب عدم تحقّق المأمور به. ولكنّه لا يجدي ، إذ مرجعه إلى سقوط الطلب بحصول المطلوب. وليس ذلك من الإطاعة والاجتماع في شيء ، ولا يترتّب عليه ثواب أبدا.

وإن اريد منها ما يترتّب على وجودها لوازم الامتثال من الثواب والمدح ونحوهما ، فلا نسلّم أنّ العرف قاض بحصولها ، فإنّ الحركة الخاصّة ليس إلاّ مبغوضا يترتّب عليها العقاب فقط ، ونحن كلّما نراجع وجداننا منصفا غير مسبوق بشبهة لا نرى في الوجدان ما يشبه الحكم بحصول الامتثال بالمعنى المذكور ، وكأنّ اشتراك الإطاعة بين الامتثال بالمعنى المذكور وبين عدم المخالفة أوجب التوهّم المذكور ، فلا تكن في غفلة.

وليس المقصود من الجواب المذكور أنّ الواجب التوصّلي يصحّ اجتماعه مع الحرام ، فإنّا قد أشبعنا الكلام في فساده فيما تقدّم ، وظهر ممّا قلنا في الجواب عن الوجه الثاني اتّحاد مناط الامتناع في القسمين ، بل المقصود القول بحصول الواجب مع اجتماعه مع الحرام لا على وجه الامتثال.

وقد ذكر غير واحد منهم في توجيه الدليل مثال الخياطة والكون في المكان المخصوص (1). فاعترض عليه :

تارة : بأنّه توصّلي يجتمع مع الحرام ، ولعلّ المراد منه ما ذكرنا ، فيندفع ما اورد عليه من اتّحاد المناط.

ص: 688


1- انظر القوانين 1 : 148 ، ومناهج الأحكام : 56.

واخرى : بأنّ محلّ النزاع هنا فيما إذا اتّحد متعلّق الأمر والنهي في الخارج كما مرّ ، ولا نسلّم اتّحاد الكون مع الخياطة ، فإنّ المراد بها إمّا الصفة القائمة بالثوب بعد صدور فعل الخياطة من الفاعل أو نفس الفعل ، لا ما يوجد بالفعل ، وعلى التقديرين ليس الكون في المكان - بمعنى التحيّز الراجع إلى مقولة الأين - جزءا منه.

وفيه : أنّ ذلك ليس من دأب المحصّلين ، كما هو ظاهر.

والجواب هو ما عرفت : من أنّ العرف إنّما يقضي بسقوط الطلب بواسطة حصول المطلوب ، وذلك إنّما يجدي في التوصّليّات ، حيث إنّ حقيقة المأمور به يمكن حصوله ولو مع اجتماعها وحصولها في فرد محرّم. وأمّا في التعبّديات فالنهي والتحريم إنّما ينافي وجود المأمور به في الخارج ، حيث إنّ التقرّب ممّا له مدخل في حصول المأمور به ولا يعقل التقرّب بالمحرّم ، وعلى تقدير عدم حصول المأمور به في الخارج لا يعقل صدق الامتثال ولا سقوط الطلب.

فإن قلت : قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّه يمكن أن يكون المقصود من الأمر المتعلّق بماهيّة أعمّ من المطلوب بواسطة قصور في الطلب ، فالأفراد المطلوبة متساوية مع الأفراد التي لا يتعلّق بها الطلب بواسطة قصور فيه في حصول غرض الأمر بها وإن لم تكن متعلّقة للطلب ؛ ولذلك قلنا بأنّ حصول الأفراد الغير الاختياريّة يوجب سقوط الطلب مع اختصاص الوجوب بالاختياري. وعلى هذا يمكن القول بأنّ مقصود الآمر ولو كان تعبّديّا هو حصول الماهيّة المأمور بها ولو كان في ضمن فرد محرّم ، ويمكن قصد التقرّب أيضا ، حيث إنّه يحصل لو كان الداعي إلى الفعل المحرّم هو تحصيل ما هو مقصود الآمر وإن لم يكن مطلوبه لامتناع طلب المحرّم ، ولذا يستحقّ المدح عرفا فيما لو كان الداعي في الفعل هو ما ذكرنا ، إذ لا دليل على اعتبار قصد القربة فيما هو زائد على القدر المذكور.

قلت : ما ذكر إنّما يتمّ في الأفراد التي تقع اضطرارا ، كما تقدّم الكلام فيه. وأمّا

ص: 689

في الأفراد المحرّمة فلا بدّ من التقييد والقول باختصاص المقصود بالأفراد المباحة ، إذ لا دليل على التعميم في المقام ، بل النقل قاض بالتخصيص بالأفراد المباحة ، سيّما في التعبّديات التي لا تصحّ بدون الأمر ، فكيف بالأفراد التي نهى الآمر عنها؟

وبالجملة ، فالاكتفاء بالأفراد المحرّمة في التعبّديات دونه خرط القتاد! وأمّا مدح الآتي بالفرد المحرّم تحصيلا لغرض الآمر ، فإن اريد مدحه من حيث إيجاده الماهيّة المأمور بها فكلاّ ، حيث إنّها محرّمة صرفة ، ولا أمر فيما هو محرّم ، وبعد انتفاء الأمر لا تحصل القربة ، لأنّها عبارة عن موافقة الأمر ، فلا تكون الماهيّة المأمور بها موجودة حتّى يكون المدح لأجلها. وإن اريد مدحه من حيث إنّه في مقام الإطاعة وتحصيل غرض الآمر ، فذلك أمر لا يرجع إلى طائل فيما هو المقصود من حصول الواجب وإن كان حسنا في مقامه.

وتوضيح المطلب : أنّ لسقوط الأمر والطلب وجوها من التصوّر :

الأوّل : أن يأتي بالمأمور به على وجه يكون الداعي على إتيانه الأمر والإطاعة.

الثاني : إتيان ما هو مقصود الآمر وإن قصر طلبه عنه ، كإيجاد الضرب على وجه غير مقصود للضارب.

الثالث : إيجاد ما يشبه في الصورة المأمور به ، كإيجاد الضرب على وجه محرّم.

الرابع : إعدام الموضوع الذي يرتبط به الطلب ، كإحراق الثوب المأمور بغسله أو قتل الدابّة المأمور بتعليفها وسقيها ورعيها.

والإطاعة بمعناها الحقيقي صادقة في القسم الأوّل ، والتوصّليّات إنّما يتحقّق الواجب فيها بالقسم الثاني أيضا. وأمّا القسم الثالث فليس الحاصل فيه الواجب وإن كان يجدي في حصول التوصّلي ، فإن الفرد المحرّم خارج عن

ص: 690

المقصود في أيضا ، وأمّا التعبّدي فليس الموجود في الفرد المحرّم شبيها له أيضا ؛ لما عرفت من عدم حصول الماهيّة المأمور بها فيه

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من أنّ الآمر لا بدّ وأن يكون الفرد المحرّم خارجا عن مطلوبه ومقصوده أيضا ، يلزم فساد الصلاة في الدار المغصوبة ولو في حال النسيان والاضطرار ، لا بواسطة امتناع الامتثال بالمحرّم ، بل بواسطة انتفاء الأمر كما هو قضيّة التقييد ، مع أنّ المشهور أنّ المانعين يحكمون بصحّتها ، وكذا صحّة نظائرها كصلاة الصبيّ - بناء على كونها تشريعيّة - في الدار المغصوبة ، وقد سمعت فيما تقدّم كلام المقدّس الأردبيلي (1) ( طيّب اللّه رمسه ).

قلت : إنّ المخصّص لو كان لفظا كما في قولك : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » كان الوجه عدم وجوب إكرام زيد في جميع الأحوال. وأمّا لو كان المخصّص عقلا ، فلا بدّ من الاقتصار على قدر يقتضيه. وليس وجه التخصيص بالأفراد الغير المحرّمة في المقام إلاّ مناقضة الطلب التحريمي والطلب الوجوبي ، وبعد ارتفاع التحريم بواسطة النسيان فلا مانع من القول بالصحّة والأخذ بإطلاق الأمر بالصلاة ، فيكون ذلك من باب التزاحم كإنقاذ الغريقين ، فإنّ عدم تعلّق التكليف بكلّ واحد منهما على سبيل الاجتماع ليس إلاّ بواسطة وجود المصلحة فيهما على وجه سواء مع امتناع الاجتماع بينهما ، وإذا فرضنا ارتفاع المانع صحّ الأمر من غير إشكال.

وتوضيح المقال : أنّ النهي المتعلّق بعبادة إن كان بواسطة عنوان مجامع للعبادة مع كونه أخصّ منها فالظاهر أنّ ذلك تخصيص للأمر بخروج تلك العبادة مطلقا عن المأمور به ، وإن كان بواسطة عنوان بينهما عموم من وجه فيحكم بكونها فاسدة حال تعلّق النهي بها ، إذ لا قاضي بما يزيد على ذلك من دليل التخصيص.

ص: 691


1- راجع الصفحة 611.

أمّا الأوّل : فلأنّ مرجعه إلى التخصيص اللفظي ، كما فيما إذا قيل : صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة. ولعلّ السرّ في ذلك أنّ النهي المذكور تابع لمفسدة ثابتة في الفرد الخاصّ فيتعلّق النهي به لكونه فاسدا ، وليس الفساد فيه تابعا للنهي ، فيجب الأخذ بمقتضى الفساد في جميع الأحوال. ونظيره الأوامر الواردة في مقام بيان ماهيّة العبادات المركّبة ، فإنّها قاضية بأنّ تلك الأجزاء ممّا لا يتخلّف عن مركّباتها عمدا وسهوا واضطرارا.

وأمّا الثاني : فلأنّ مرجعه إلى مزاحمة بين الطلبين على وجه لا بدّ من الالتزام بانتفاء أحدهما مع وجود مقتضي الطلبين ، وبعد القول بترجيح النهي في مورده على الأمر لا بدّ من القول بفساد العبادة ، فالفساد تابع للنهي ، وبعد ارتفاع النهي المانع من تعلّق الطلب الوجوبي مع وجود ما يقضي به يعود ذلك الطلب ، فيصحّ العمل لو وقع في حال السهو والنسيان من دون شائبة.

فإن قلت : إنّ ارتفاع الطلب التحريمي لا يكفي في صحّة المأمور به مع بقاء المفسدة التي ينبعث منها التحريم بناء على اصول العدليّة ، ولا سبيل إلى منع المفسدة على تقدير انتفاء الطلب ، فإنّ ذلك يستلزم اختلاف الفعل بواسطة الذكر والنسيان والجهل والعلم ، وهو التصويب كما لا يخفى ، ووجه اللزوم ظاهر.

قلت أوّلا : إنّ ما ذكر من وجود المفسدة إنّما يتمّ فيما إذا كان ذهاب النهي بالسهو والجهل ونحوهما ممّا يليق اختلاف الأحكام باختلافها. وأمّا الاضطرار فيصحّ اختلاف الأحكام والمفاسد والمصالح به ، فلا دليل على وجود المفسدة بعد ارتفاع الطلب.

وثانيا : سلّمنا وجود المفسدة في جميع الموارد ولكن لا نسلّم أنّ المفسدة تمنع عن تعلّق الطلب الوجوبي في موردها ، لأنّ المانع إمّا مجرّد اجتماع المفسدة والمصلحة كالأمر والنهي والحسن والقبح ، وإمّا اقتضاء اللطف عدم تعلّق الأمر والطلب بمورد وجد فيه المفسدة.

ص: 692

أمّا الأوّل : فلا نسلّم امتناع اجتماعهما إن لم يكن المراد بهما الحسن والقبح الفعليّان ، ضرورة صحّة اجتماع المفسدة والمصلحة في شيء بالنسبة إلى جهات عديدة ؛ وذلك نظير اتّصاف شيء واحد بإضافات متقابلة كالابوّة والبنوّة والفوقيّة والتحتيّة ، لكن لا بالنسبة إلى شيء واحد بل بالنسبة إلى أشياء متعدّدة ، فيصحّ أن يكون السقمونيا مفسدة لأحد الأخلاط الأربعة ومصلحة لآخر منها ، وذلك أمر ظاهر. والوجه في ذلك : انتفاء التقابل بعد ملاحظة الجهات ، فإنّ ابوّة زيد لا تقابل بنوّة عمرو ، لا أنّهما متقابلان ويكفي في اجتماعهما واتّصاف المحل بهما وجود الجهتين. وإن اريد من المصلحة والمفسدة الحسن والقبح فالحقّ ارتفاعهما بارتفاع الطلب.

وأمّا الثاني : فلا نسلّم أنّ قضيّة اللطف عدم تعلّق الطلب بمورد يكون فيه المفسدة ، كيف! والوقوع في تلك المفسدة ممّا لا مناص عنه ، فإنّ المفروض أنّه ليس من الامور الاختياريّة ، بل المكلّف يقع في تلك المفسدة على وجه الاضطرار ، فلا مانع من إيصال المكلّف إلى مصلحة الفعل ولا يلاحظ فيه مساواة المصلحة للمفسدة وزيادتها عليها ، فإنّ المفسدة لازمة لا مناص عنها ، فيكون المصلحة بمنزلة ما لا معارض لها.

هذا ما وسعنا من الكلام في أدلّة المجوّزين والجواب عنها. وبعد ما عرفت في جوابها من ثبوت المانع من الأخذ بإطلاقات الأوامر والنواهي في مورد الاجتماع لا حاجة إلى إيراد احتجاج القول بالامتناع.

وقد يذكر في الدليل على الامتناع وجوه مرجعها إلى ما ذكر في الأجوبة المتقدّمة ، فإن أردتها فارجعها (1). واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 693


1- كذا ، والمناسب : « فراجعها ».

ص: 694

هداية : في ذكر احتجاج المفصّل بين العرف والعقل

كالسيّد الطباطبائي (1) ، ويظهر ذلك من سلطان المحقّقين أيضا في تعليقاته على المعالم (2) ، والمحقّق القمّي في المسألة الآتية (3) ، وقد عرفت فيما تقدّم نسبته إلى المقدس الأردبيلي (4) بما فيها.

وكيف كان ، فالوجه في التفصيل المذكور لعلّه الجمع بين ما تقدّم من دليل المجوّز من جواز اجتماع الضدّين في محلّ واحد ، وبين ما يفهم في العرف من التعارض بين الأمر والنهي في مادّة الاجتماع ، والحكم بلزوم تخصيص أحدهما بالآخر فيما لو ساعد عليه دليل ، وإلاّ فالحكم بالتساقط والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل.

والجواب عنه : أنّه لا يخلو إمّا أن يكون الموضوع في حكم العقل بالجواز عين الموضوع المحكوم عرفا بالامتناع أو غيره.

لا سبيل إلى الأوّل لامتناع أن يكون حكم العرف على خلاف حكم العقل ، فلو فرضنا أنّ العقل يحكم بامتناع اجتماع المتناقضين لا وجه لتوهّم اختلاف العرف

ص: 695


1- قد نقل عنه سابقا في الصفحة 612 ، بلفظ : وقد ينسب ذلك إلى فاضل الرياض أيضا وكأنّه مسموع منه شفاها.
2- انظر حواشي السلطان على المعالم : 290 - 291.
3- القوانين 1 : 159.
4- راجع الصفحة 611.

للعقل والحكم بجوازه ، وكذلك العكس. والسرّ في ذلك : أنّ العرف لا حكومة له في قبال العقل ، بل العرف مرتبة من مراتب العقل وطور من أطواره ، حيث إنّ جهة الارتباط والاستيناس باستفادة المعاني من الألفاظ بواسطة العلم بأوضاعها أو قرائنها يسمّى بالعرف. ولا شكّ أنّ هذه أيضا من مظاهر العقل وجنوده ، وكيف يعقل اختلاف حكمي العقل والعرف في موضوع واحد مع أنّ العرف هم العقلاء؟ وذلك ظاهر.

وكذا لا سبيل إلى الثاني كأن يكون هناك موضوعان يحكم العقل في أحدهما بالجواز كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الأوامر هو الطبائع وفرضنا جواز اجتماع حكمين متضادّين في فرد واحد من طبيعتين من تلك الطبائع ، ويحكم العرف في الآخر بالامتناع كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الأمر والنهي خصوص الفرد الجامع للعنوانين ، فإنّه لا كلام في امتناع ذلك حتّى من المجوّزين ، ففي كلّ واحد من الموضوعين يتطابق العقل والعرف في الحكم بالامتناع والجواز ، لما عرفت من أنّه لا حكومة للعرف في قبال حكومة العقل.

وحينئذ نقول : إنّ المستفاد من الخطابات الشرعيّة من الأوامر والنواهي إمّا الموضوع الذي يحكم العقل فيه بالجواز كما تخيّله المجوّزون من تعلّق الأوامر بالطبائع وكفاية تعدّد الجهة في رفع التضادّ ، أو الموضوع الذي يحكم العرف فيه بالامتناع. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل المذكور ؛ لما عرفت من تطابق العقل والعرف في كلّ واحد من الموضوعين بالجواز والامتناع ، ومع ذلك لم يبق للتفصيل وجه يمكن التعويل عليه ويركن إليه.

فإن قلت : إنّ الوجه في التفصيل هو أنّ المستفاد من الأمر والنهي بمقتضى الوضع في اللغة هو المعنى الذي لا يستحيل عقلا اجتماع الوجوب والحرمة فيه كما مرّ في دليل المجوّزين ، وهذا المعنى ليس مستفادا عند العرف ، بل المستفاد عندهم هو

ص: 696

المعنى الذي يستحيل عقلا اجتماع الوجوب والحرمة فيه ، كأن يكون المستفاد من الخطابات تعلّق التكاليف ابتداء بخصوص الأفراد ، فليس العرف حاكما في قبال العقل ، إلاّ أنّ استناد الامتناع إليه بواسطة أنّ موضوعه ممّا للعرف مدخل فيه ، ولو من حيث استفادة ذلك الموضوع من اللفظ.

قلت : إنّ وجه اختلاف المعنى اللغوي للمعنى العرفي ، إمّا الوضع الثانوي أو القرينة ، والأوّل معلوم العدم وظنّي أنّه لا يدّعيه المفصّل أيضا. والثاني إمّا أن يكون عقلا أو غيره من غلبة الاستعمال أو الوجود ممّا هو منشأ الاختلاف.

أمّا الأوّل : فلا نجد في العقل ما يقضي بأن يكون المستفاد من قول الشارع : « صلّ » و « لا تغصب » الموضوعين في اللغة لطلب طبيعة الصلاة والنهي عن طبيعة الغصب وجوب خصوص الفرد وحرمته حتّى يلزم المحذور ، فإنّ المفروض أن لا امتناع في ذلك ، فلا داعي للعقل في صرفه عن ظاهره. وعلى تقدير الامتناع فالوجه صرفه إلى معنى غير ممتنع ، لا إلى معنى أشدّ امتناعا من معناه الحقيقي ، كأن يحمل على الأفراد ، كما هو مقصود المفصّل.

وأمّا الثاني : فلا نعرف شيئا يقضي بأنّ المستفاد من الخطابات الشرعيّة غير مداليلها اللغويّة ، فضلا عن تعيين الأفراد حتّى يترتّب عليه التفصيل المذكور. فالحقّ أنّ ما ذكروه من قضاء العرف بالامتناع أعدل شاهد على أنّ اجتماع الوجوب والحرمة في مورد اجتماع الطبيعتين من الامور المستحيلة ؛ لما قد تقدّم من أنّ التخصيص لا يعقل بدون التعارض ، وهو عين الامتناع.

ثمّ إنّ ظاهر المفصّل هو ما قدّمنا دفعه من أنّ العرف حاكم بالامتناع في موضوع حكم العقل بالجواز ، ولذلك تعرّضنا لدفعه أوّلا ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد يورد على المجوّزين : اتّفاقهم على التعارض فيما إذا كان العموم من وجه بين متعلّقي الأمر والنهي ، كما في قولك : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق »

ص: 697

ويظهر ذلك بالرجوع إلى كلمات الفقهاء في الأبواب الفقهيّة والاصوليّين في باب التعادل والتراجيح ، مع أنّه لا يعقل فرق بين أن يكون العموم من وجه بين العنوانين في الأمر والنهي بملاحظة نفس المفهومين - كالغصب والصلاة - أو بملاحظة متعلّقهما كما في المثال المذكور.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بمثل ما ذكرنا في وجه التفصيل.

وحاصله : أنّ العرف وإن قلنا بأنّه لا يقضى بتعلّق الطلب في مثل قولك : « صلّ » و « لا تغصب » بالفرد ، إلاّ أنّه قاض بتعلّقه بالفرد في قولك : « أكرم العالم » ولعلّ السرّ في ذلك هو : أنّ الوجه في اختلاف المأمور به والمنهيّ عنه هو تعلّق المأمور به والمنهيّ عنه بالعالم والفاسق ، وهما في المثال المذكور لا يراد بهما مفهوم العالم والفاسق على وجه يكون ثبوت الحكم لزيد العالم باعتبار ثبوت هذا المفهوم لزيد ، بل « العالم » عنوان لزيد على وجه يكون زيد متعلّقا للحكم ابتداء من دون سراية ، فيؤول الأمر إلى اجتماع وجوب الإكرام لزيد وحرمته له بواسطة جهتين تعليليّتين ، وذلك ممّا اتّفق المجوّز والمانع على امتناعه.

وفيه : أنّ اعتبار العالم لأفراده على وجه يكون عنوانا لها من غير سراية ويكون الحكم ثابتا لزيد ابتداء يشبه أن يكون من سخيف الكلام ، فإنّ الظاهر أنّ وجوب إكرام زيد من حيث إنّه فرد من أفراد العالم ، والمفروض حصول طبيعة الفاسق فيه أيضا ، فيحرم إكرامه - كما هو مفاد النهي - فالقائل بالجواز يلزمه القول بالجواز في المقام أيضا ، لأنّ العالم والفاسق طبيعتان مختلفتان تعلّق بإحداهما الوجوب وبالاخرى الحرمة ، وقد اجتمعتا في فرد واحد ، فيجب إكرام إحداهما ويحرم إكرام الاخرى ، فلو فرض إكرام مورد الاجتماع كان بذلك عاصيا من جهة إكرام الفاسق ومطيعا من جهة إكرام العالم ، فلو كانت الجهتان تعليليّتين فلم لا نقول به في مثل الغصب والصلاة؟

ص: 698

فإن قلت : هب! أنّ العالم والفاسق مفهومان متغايران ، ولكن متعلّق الأمر والنهي واحد وهو الإكرام ، بخلاف « صلّ » و « لا تغصب » لاختلاف المتعلّقين فيهما.

قلت : إنّ المدار على الاختلاف في المعنى وإن اتّحد المتعلّقان في الصورة ، وهو حاصل في المقام ، فإنّ إضافة الإكرام إلى العالم والفاسق ونحوهما يوجب تنويع الإكرام إلى أفعال يصحّ تعلّق الأمر بأحدها والنهي بغيره ، كما يلاحظ في السجود المضاف إليه تعالى والسجود المضاف إلى الشمس ، وإلاّ فلا وجه للأمر والنهي في غير مورد الاجتماع أيضا ، مع أنّه لا كلام في صحّة الأمر بالإكرام بالنسبة إلى زيد العالم والنهي عنه بالنسبة إلى عمرو الفاسق ضرورة اشتراط اتّحاد الإضافة في التناقض.

فإن قلت : هب! أنّ الإضافة توجب اختلاف الإكرام ، لكن فرق بيّن بين اختلاف الصلاة والغصب وبين اختلاف الإكرامين بواسطة تعدّد الإضافة ، فإنّ مورد الاجتماع في الأوّل يوجد فيه فعلان مختلفان ، غاية الأمر أنّهما موجودان بوجود واحد ، ومورد الاجتماع في الثاني فعل واحد تعدّد إضافاته ، فالموجود والوجود في الثاني كلاهما واحد ، ولذلك لا يصحّ العطف فيه بالواو ، كأن يقال : إنّ المكلّف أوجد إكراما وإكراما ، كما يصحّ في الأوّل أن يقال : إنّه أوجد صلاة وغصبا ، فمرجع التغاير في الأوّل إلى التغاير الواقعي وفي الثاني إلى مغايرة اعتباريّة صرفة ، لا يصحّ فيها اجتماع حكمين متضادّين. ولعل السرّ في ذلك : أنّ الإكرام مثل السواد والبياض متعلّق بالموجودات الخارجيّة ابتداء ، فإنّ السواد الموجود في جسم واحد - كالعباء مثلا - لا يعدّ سوادان ، سواد الصوف وسواد العباء لو فرضنا اقتضاء كلّ واحد منهما السواد. ومن هنا يظهر وجه خروج المثال المذكور عن محلّ البحث أيضا.

ص: 699

قلت أوّلا : لا نسلّم أنّ اختلاف الإكرام بالإضافة لا يوجب اختلاف الماهيّة - كما عرفت في مثال السجود - بل التحقيق أنّ الإضافة توجب تنويع الإكرام ، كما يكشف عنه صحّة حمل إكرام العالم وإكرام الفاسق على الإكرام الموجود ، وهو ظاهر.

وثانيا : أنّ الوجه في ركاكة العطف ليس اتّحاد الحقيقة ، بل اتّحاد الصورة قاض به ، حيث إنّ ظاهر العطف هو تعدّد الوجود ، ولذا لو انضمّ إليه قرينة الاتّحاد لا يلزم محذور. وأمّا حديث السواد فالوجه فيه : أنّ السواد من عوارض الجسم مع عدم اعتبار خصوصيّاته في عروضه له وإن كانت واسطة في ثبوته للمورد ، إذ بدونها لا قوام لها حتّى يتّصف بالسواد ، ولو فرض أنّ كلّ واحد من الصوفيّة والعبائيّة يقتضي لعروض السواد في المحلّ فلا نسلّم أنّه ليس هناك سوادان موجودان بسواد واحد.

ومن هنا يظهر أنّ الأقوى دخوله في محلّ النزاع ، ويكون ذهاب المجوّز إلى التعارض فيه مبنيّا على تخيّله أنّ المستفاد منه في العرف غير المستفاد من قولك : « صلّ » و « لا تغصب » كما عرفت في وجه المفصّل ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه دعوى لا يساعد عليها ضرورة ولا بيّنة. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 700

هداية

بعد ما عرفت من امتناع اجتماع الواجب والحرام في مورد واحد في محلّ النزاع ، فهل الحكم في موارد اجتماعهما بحسب الظاهر هو الأخذ بالأمر والقول بعدم الحرمة أو العكس أو لا يحكم بشيء منهما والمرجع هو الأصل؟ وقد عرفت أوائل المبحث : أنّ الأصل يقتضي فساد الصلاة وإباحة الكون في المكان المغصوب حال الصلاة ، والملازمة الواقعيّة بين الإباحة والصحّة ممّا لا ينبغي مراعاتها بعد جواز التفكيك في الاصول الظاهريّة.

فنقول : إنّ ملاحظة الترجيح بحسب السند بين الروايتين اللتين يقتضيان الاجتماع موقوفة على ما قرّرنا في مباحث التعادل والتراجيح : من أنّ تعارض العامّين من وجه هل يمكن الأخذ فيه بالترجيح بحسب السند أم لا؟ وقد عرفت أنّ الأقوى الثاني ، لأنّ فيه تفكيكا لا يرتضيه العرف.

وأمّا الترجيح بحسب الدلالة ، فقيل : إنّه مرعيّ في المقام ، حيث إنّه يحكم بتقديم النهي في مورد الاجتماع ، لأنّ دلالة الأمر على مطلوبيّة محلّ الاجتماع بالإطلاق ودلالة النهي على مبغوضيّته بالعموم ، ولا شكّ أنّ العامّ أظهر من المطلق في استيعابه لأفراده.

ويمكن أن يقال : إنّ ملاحظة الترجيح في الدلالة يوجب المصير إلى أنّ مورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله وأطواره ، وهو يوجب فساد المورد بواسطة ارتفاع المطلوبيّة والأمر ولو حال الغفلة عن الحرمة ، وقد عرفت أنّ المانعين لا يلتزمون به.

ص: 701

وأمّا ملاحظة الترجيح بين المدلولين - كأن يؤخذ بالحرمة لكونها أسهل من الوجوب - فقد يظهر من بعضهم الأخذ بها في المقام من وجوه :

منها : ما عرفت من أنّ الحرمة لمكان كونها مستلزمة للترك أسهل من الوجوب.

وفيه : منه كونها أسهل ، ومنع جواز الأخذ بالأسهل على تقديره.

ومنها : ما تعارف بينهم من أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فالأخذ بالنهي أولى ؛ لأنّ في فعل المنهيّ عنه مفسدة.

وفيه - بعد الغضّ عن انحصار مصالح النهي في دفع المفسدة ومصالح الأمر في جلب المنفعة ، فإنّ ذلك يستلزم أن يكون ارتكاب معصية صغيرة بفعل المنهيّ عنه أشدّ من ترك أعظم الواجبات ، لأنّ في تركها لا منفعة وفي فعلها مفسدة ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة - أنّ ما نحن فيه ليس من موارد القاعدة لوجهين :

الأوّل : أنّها لا مسرح لها إلاّ في مورد يحكم فيه بالتخيير بعد عدم الأخذ بالترجيح ، مثل ما لو دار الأمر بين وجوب شيء في الشريعة وبين حرمته - كشرب التتن مثلا فيما لو فرض احتمال وجوبه - وما نحن فيه بعد عدم الترجيح لا وجه للأخذ بالتخيير ، لما عرفت من حكومة الأصل في موارد الشكّ من العامّين من وجه.

الثاني : أنّ من الظاهر أنّ القاعدة المذكورة إنّما يؤخذ بها فيما إذا كانت المنفعة والمصلحة متساويتين في ترتّبهما على الفعل والترك ، وليس كذلك فيما نحن بصدده ، فإنّ الوجوب المفروض في المقام ممّا يحصل المصلحة فيه بإتيان فرد آخر من الطبيعة الواجبة ، بخلاف الحرمة فإنّها عينيّة لا بدل لها.

لا يقال : إنّ ذلك يوجب تقديم الحرمة بوجه أولى.

لأنّا نقول : لسنا في صدد عدم تقديم الحرمة ، وإنّما ذلك منّا مناقشة في الطريق.

ص: 702

ومنها (1) : الاستقراء ، فإن الشارع قد رجّح احتمال الحرمة على الوجوب في موارد ملاحظتها توجب الظنّ باطّراده ، كأمر الحائض بترك الصلاة المردّد بين الوجوب والحرمة استظهارا (2) ، وكوجوب إهراق الإناءين في الشبهة المحصورة والأمر بالتيمّم لدوران الأمر بين الوضوء الواجب والحرام (3).

وفيه - بعد الغضّ عن حجيّة الاستقراء وعدم تحقّقه على تقدير حجّيته بملاحظة موردين بل وموارد - : أنّ الموردين المذكورين ليس الأمر فيهما على ما تخيّل من تقديم جانب الحرمة على الوجوب عند دوران الأمر بينهما.

وتوضيح ذلك لعلّه موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّ موارد ثبوت هذه القاعدة لا بدّ وأن يكون على وجه يعلم ولو بواسطة الدليل أنّ وجه التقديم هو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب حتّى يكون الموارد المشكوكة ملحقة بتلك الموارد بواسطة الغلبة - كما هو الشأن في جميع الموارد التي يدّعى فيها الاستقراء - إذ ما لم يعلم أنّ موارد الثبوت وجه التقديم فيها ذلك لا يصحّ الإلحاق بوجه ، فكيف بالموارد التي علم أنّ وجه التقديم فيها غيرها.

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الوجه في تقديم جانب الحرمة في مسألة الاستظهار ليس هو ترجيح جانب الحرمة على الوجوب على القول به. وأمّا على القول باستحبابه فلا يدلّ على المدّعى بوجه ، إذ الاستظهار إمّا أن يقال به بعد أيّام العادة ، وإمّا أن يقال به قبل العادة كما في المبتدئة والمضطربة. أمّا الأوّل فالوجه فيه قاعدة الإمكان واستصحاب الحيض ونحوه المستدلّ عليها في مقامه ، وليس من

ص: 703


1- أي من وجوه الأخذ بالحرمة.
2- انظر الوسائل 2 : 559 ، الباب 14 من أبواب الحيض.
3- الوسائل 1 : 113 - 116 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 2 و 14.

القاعدة المذكورة فيه حظّ ونصيب ، ولذا لم يعوّل عليها من اعتمد على القول المذكور. وأمّا الثاني فالقائل بالوجوب أيضا يعتمد على قاعدة الإمكان ، كما أنّ غيره يعوّل على الاستصحاب.

وأمّا وجوب إهراق الماء فلا شهادة فيه على المدّعى ، أمّا على القول بأنّ الحرمة ليست ذاتيّة بل تشريعيّة فظاهر ، حيث إنّ التشريع يرتفع بالاحتياط. وأمّا على القول بالحرمة الذاتيّة فلأنّ المورد من موارد دوران الأمر بين الواجب والحرام (1) بواسطة اشتباه المكلّف به ، وليس من موارد الشكّ في التكليف ، والحكم فيه التخيير لا الترجيح ، فإنّ التخيير يوجب القطع بالموافقة ولو إجمالا وإن أوجب القطع بالمخالفة أيضا. بخلاف الترجيح ، فإنّ فيه موافقة احتماليّة ومخالفة احتماليّة ، والأوّل أولى. وفيه تأمّل ظاهر.

وبالجملة ، فالرواية دلّت على تقديم جانب الحرمة على الوجوب ولم يعلم منها أنّ الوجه في التقديم هو ترجيح جانب الحرمة ، بل المظنون أنّ وجه التقديم فيما نحن بصدده هو ثبوت البدل للوضوء وهو التيمّم ، كما أوضحنا سبيله في غير المقام.

والأوجه في المقام هو القول بأنّ النهي (2) في مادّة الاجتماع إنّما هو ناظر إلى جهة الترخيص الثابت بالأمر في الفعل ، ومع ذلك لا وجه للقول بتقديم الأمر ، فالنهي حاكم على الأمر. كذا أفاده ( دام ظلّه ).

ويمكن المناقشة فيه بما استفدنا منه في غير المقام : بأنّ ذلك يرجع إلى كون النهي إرشادا إلى ترك الفرد المجامع ، ولا يصحّ ذلك فيما يكون بين العنوانين عموم من وجه.

ص: 704


1- في ( ع ) : الوجوب والحرمة.
2- في ( ع ) زيادة : من الأمر.

هذا كلّه فيما إذا كان الأمر والنهي ظنّيين. وأمّا لو كان النهي قطعيّا كأن يكون ثابتا بالإجماع - ولو في مورد الأمر - فلا كلام في تقديم النهي. وأمّا القطعيّان فلا يعقل التعارض بينهما على القول بالامتناع ، وأمّا على القول بالجواز فلا تعارض أصلا.

ص: 705

ص: 706

هداية

اشارة

قد عرفت فيما تقدّم اعتبار المندوحة في حريم النزاع ، كما عرفت أنّ الوجه في ذلك هو دفع ما قد يتوهّم من أنّ الاجتماع يوجب التكليف بما لا يطاق ، حيث إنّه بعد اعتبار المندوحة لا وجه لذلك. نعم ، فيما ليس للمكلّف مندوحة يلزم ذلك ، كمن توسّط أرضا مغصوبة ، فإنّه مأمور بالخروج ومنهيّ عن الغصب ومنه الخروج المذكور ، ولا يمكن انفكاك جهتي الأمر والنهي ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ ذلك إمّا أن يكون بتوسّط المكلّف وسوء اختياره أو لا يكون.

لا إشكال في امتناع التكليفين فيما إذا لم يكن الوجه في عدم الانفكاك هو التكليف على قواعد العدليّة ، لا بواسطة أنّه تكليف بالمحال ، بل بواسطة استحالة وجود التكليفين الراجعين عند العدليّة إلى الإرادة والكراهة.

وأمّا إذا كان الوجه في الانحصار وعدم الانفكاك هو المكلّف ، فالأقوال فيه ثلاثة :

فقيل بالجواز ، وهو المحكيّ عن أبي هاشم على ما نسب إليه العلاّمة ، حيث أفاد في محكيّ النهاية : أطبق العقلاء كافّة على تخطئة أبي هاشم في قوله بأنّ الخروج تصرّف في المغصوب فيكون معصية فلا تصحّ الصلاة وهو خارج سواء تضيّق الوقت أم لا (1).

واختاره المحقّق القمّي رحمه اللّه ناسبا له إلى أكثر أفاضل متأخّري أصحابنا وظاهر

ص: 707


1- نهاية الوصول : 117.

الفقهاء (1). والوجه في النسبة المذكورة هو قولهم (2) بوجوب الحجّ على المستطيع وإن فاتت استطاعته الشرعيّة.

وأنت خبير بعدم دلالته على المطلب ؛ حيث إنّ وجوب الحجّ بدون الاستطاعة الشرعيّة عند التأخير عن زمن الاستطاعة ليس تكليفا بما لا يطاق ، لكفاية الاستطاعة العقليّة في دفعه. ويكفي في فساد النسبة المذكورة ذهاب المشهور من أصحابنا إلى عدم جواز الاجتماع فيما فيه المندوحة ، فكيف فيما ليس فيه مندوحة!

وقيل بالعدم ، وهم بين قولين : فقيل بأنّه منهيّ عنه وليس بمأمور به (3). وقيل بالعكس مع جريان حكم المعصية عليه ، وهو المحكيّ عن الفخر الرازي (4) وجنح إليه بعض المتأخّرين (5). وقيل بأنّه مأمور به فقط وليس يجري عليه حكم المعصية أيضا ، وقد نسبه بعضهم إلى قوم (6) ، ولعلّه الظاهر من العضدي كالحاجبي (7) حيث اقتصرا على كونه مأمورا به فقط.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة (8) ذهب إلى أنّه مأمور به ولكنّه معصية بالنظر إلى النهي السابق ، وعليه حمل الكلام المنقول من الفخر الرازي.

ص: 708


1- القوانين 1 : 153.
2- انظر القواعد 1 : 229 ، والشرائع 1 : 228 ، والدروس 1 : 316.
3- راجع نهاية الوصول : 117 ، والمدارك 3 : 117 ، وضوابط الاصول : 151.
4- حكاه المحقّق القمّي في القوانين 1 : 154.
5- الظاهر أنّ المراد به هو صاحب الفصول.
6- نسبه صاحب الفصول في الفصول : 138.
7- انظر شرح مختصر الاصول : 94.
8- وهو صاحب الفصول في الفصول : 138.

والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيّا عنه ، ولا يفترق فيه النهي السابق واللاحق. ولعلّه ظاهر الفقهاء حيث حكموا بصحّة الصلاة في حال الخروج ، كما عرفت في كلام العلاّمة (1). وقد صرّح صاحب المدارك : بعدم كون الخروج معصية وأنّ القول بجريان حكم المعصية عليه غلط صدر عن بعض الاصوليّين (2). وقد عرفت ما نقلنا من كلام السيّد في الذريعة : فإنّه صريح في كون الخروج بنيّة التخلّص مأمورا به ، وكذا المجامع زانيا له الحركة بقصد التخلّص دون غيره (3).

لنا على كون الخروج مأمورا به : أنّ التخلّص عن الغصب واجب عقلا وشرعا ولا شكّ أنّ الخروج تخلّص عنه بل لا سبيل إليه إلاّ بالخروج فيكون واجبا على وجه العينيّة ، وعلى عدم كونه منهيّا عنه : ما ستعرف في تزييف احتجاج الأقوال المذكورة.

حجّة القول بكونه مأمورا به ومنهيّا عنه :

هو أنّ المقتضي - وهو إطلاق الأدلّة الدالّة على حرمة الغصب ووجوب التخلّص عنه - موجود ولا مانع منه ، لأنّ المانع إمّا اجتماع الضدّين أو التكليف بما لا يطاق ، وشيء منهما لا يصلح لذلك.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من إجداء الجهتين في اجتماعهما.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا نسلّم بطلان التكليف بما لا يطاق فيما إذا كان المكلّف سببا له ، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار (4).

ص: 709


1- راجع الصفحة 707.
2- المدارك 3 : 219.
3- راجع الصفحة 610.
4- القوانين 1153 - 154.

وفيه : أنّ كلّ واحد من المانعين موجود.

أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت من أنّ تعدّد الجهة غير مجد.

وأمّا الثاني ؛ فلإطباق العقلاء كافّة على تخطئة من يكلّف عبده بالخروج وعدمه ، بل هو منسوب إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، من غير فرق بين أن يكون الوجه في ذلك هو المكلّف أو غيره ، كما يشهد بذلك حسن الذمّ على التكليف من غير توقّف على استعلام الوجه في ذلك من أنّ المكلّف هو السبب في امتناع الفعل أو غيره ، وهو ظاهر.

وأمّا القضيّة المشهورة : من أنّ « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » فليست واردة في مقام صحّة التكليف عند امتناع الفعل بواسطة الاختيار ، كما أوردها المستدلّ (1) ، بل الإنصاف أنّ هذه القضيّة كقولهم : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار » مسوقة في مقام الردّ على أهل الجبر ، حيث إنّهم زعموا أنّ وجود العلّة التامّة للفعل يوجب ارتفاع الاختيار ومع عدمها يمتنع وجوده. فأجاب العدليّة عن ذلك : بأنّ الاختيار من جملة أجزاء العلّة التامّة لوجود الفعل وبذلك يصير الفعل اختياريّا فإنّ للاختيار مدخلا في وجوده (2) ؛ ولذلك أردفها بعضهم بقوله : « بل يؤكّده » (3) فمفاد تلك القضيّة هو : أنّ الاختيار السابق الذي يصير سببا لامتناع الفعل يكفي في كون الفعل الممتنع اختياريّا بمعنى جواز اللوم على تركه أو المدح عليه ، وأين من ذلك أنّ بعد اتّصافه بالامتناع بواسطة الاختيار يصحّ تعلّق التكليف به لكونه اختياريّا؟

ص: 710


1- القوانين 153 - 154.
2- انظر كشف المراد : 308 - 309 ، وشرح تجريد العقائد للقوشجي : 341.
3- لم نعثر عليه.

لا يقال : ليس شرط صحّة التكليف إلاّ استناد الفعل إلى الاختيار على وجه يقال : إنّ الفعل اختياريّ.

لأنّا نقول : إنّ الوجه في الشرط المذكور هو العقل ، ولا ريب أنّ المعتبر عند العقل في الشرط المذكور هو كون الفعل بحيث يمكن صدوره من المكلّف. وأمّا صحّة إطلاق الاختياري على الفعل بواسطة الاختيار السابق فممّا لا مسرح له في صحّة التكليف ، ولعمري! أنّ ذلك إنّما هو في منار ، ولقد أبسطنا القول في تحقيق ذلك في بعض المباحث المتقدّمة.

وقد يورد عليه : بمنع المقتضي ، فإنّ الخروج أخصّ من الغصب في مورد الأمر ، فلا بدّ من تخصيص الغصب بالخروج.

وفيه ما أشار إليه قدس سره بقوله : من أنّ الخروج ليس بمأمور به من حيث إنّه خروج بل لأنّه تخلّص عن الغصب. كما أنّ الكون في الدار المغصوبة ليس حراما إلاّ من جهة أنّه غصب ، والنسبة بين الغصب والخروج عموم من وجه. والظاهر أنّ ذلك الأمر قد استفيد من جهة كونه من مقدّمات ترك الغصب الواجب ، ومقدّمة الترك أعمّ من الخروج وإن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة ، فإنّ الظاهر أنّ العامّ الذي أفراده الموجودة منحصرة في فرد بحسب العادة - بل في نفس الأمر أيضا - لا يخرج عن كونه عامّا في باب التعارض ، فلو فرض ورود أمر بالخروج أيضا بالخصوص فالظاهر أنّه من جهة أنّه الفرد الغالب الموجود ، لإمكان التخلّص بوجه آخر ، إمّا بأن يحمله غيره على ظهره ويخرجه من دون اختياره أو غير ذلك (1) ، فليضبط فإنّه فائدة جليلة لم أقف على تصريح بها في كلامهم (2).

ص: 711


1- في ( ع ) زيادة : كأن ينقل إليه بناقل شرعي كالهبة والصلح والبيع.
2- القوانين 1 : 154.

واعترض عليه في الإشارات أوّلا : بأنّ معاملة العموم من وجه في باب التعارض مع ما كان أفراده النفس الأمريّة منحصرة في الفرد ممّا لا وجه له ، فإنّ العام إذا كان منحصرا أفراده في الواقع في الفرد فالمراد منه ومتعلّق الخطاب إنّما هو ذلك الفرد. ومثله ما إذا انحصر في الفرد بحسب العادة ، فإنّ العادة مخصّصة - كما سيأتي - فلا يراد منه إلاّ الفرد العادي ، فلا وجه لمعاملة العموم معه في التعارض ، على أنّ معاملة العموم للوازمه ، وعمدتها قبول التخصيص ، فبانسلاخ لازمه عنه - كما فيهما - يرتفع فائدة التخصيص فيرتفع فائدة العموم في التعارض ، بل في العرف ليس مثله عامّا لعدم الاستغراق فيه عرفا بالفعل ، وعليه المدار.

وثانيا : بأنّ بفرض الانحصار العادي يرتفع إمكان التخلّص بفرد آخر كما مرّ ، إلاّ أن يكون ذلك الفرد أيضا عاديّا وهو خلاف الفرض ، مع أنّ الحمل إمّا بالاختيار أو بدونه ، والثاني خارج عن الأمر قطعا ، والأوّل لا يختلف النسبة به بالتدبّر ، بل يكون من الأفراد العاديّة.

وثالثا : بأنّ التصريح من القوم بالفائدة المذكورة موجود ، إلاّ أنّه يؤذن بخلاف ما ذكره (1) انتهى.

ويمكن أن يذبّ عن الاعتراض : بأنّ ملاحظة انحصار أفراد العامّ في مورد الاجتماع إنّما يجدي فيما لو قيل بالتعارض بين مفاد العامّين ، إذ على ذلك يجب التخصيص بغير ذلك المورد لئلاّ يلزم خلوّ ذلك العامّ المنحصر أفراده عن الفائدة. وهذا هو الذي يوجد عليه التصريح في كلامهم. وهو غير مؤذن بخلاف ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه حيث إنّه ذهب إلى أنّه لا معارضة بين مفاد العامّين ، لإجداء الجهتين في الجمع بين الأمر والنهي. ولا ريب أنّ المدار في تعدّد الجهة إنّما هو المفهوم ، فإنّه متعلّق الأمر والنهي ، والأفراد خارجة عن ذلك بأسرها.

ص: 712


1- إشارات الاصول : 114.

وبالجملة ، فما أجاب عنه إنّما هو متوجّه بناء على ما ذهب إليه من جواز الاجتماع ؛ لما عرفت من أنّ المناط في ذلك هو تعدّد العنوان ، والمفروض حصوله في المقام.

وأمّا ما قد عرفت من تقييدهم محلّ التشاجر بما إذا لم ينحصر أفراد أحد العامّين في الآخر ، فهو بواسطة تخليص البحث عن لزوم التكليف بما لا يطاق. وهذا أيضا ممّا لا ضير فيه عنده إذا كان الوجه فيه هو المكلّف ، كما عرفت.

فالإنصاف : أنّ الوجوه المذكورة ممّا لا مساس لها بكلامه ، إلاّ أنّه بعد مطالب بالفرق بين الموارد التي يحكم بالتعارض في صورة الانحصار ، كما إذا كان العموم من وجه بين عنواني الأمر والنهي بقوله : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفاسق » وبين الموارد التي لا يحكم فيها بالتعارض ، كما إذا اعتبر العموم من وجه بين العنوانين. كما أنّ غيره أيضا مطالب بالفرق المذكور ، كما تقدّم.

حجّة القول بكونه منهيّا عنه غير مأمور به :

كما يظهر عن بعض الأفاضل في الإشارات (1) ، أمّا على كونه منهيّا عنه : فلأنّ الخروج تصرّف في ملك الغير وهو غصب عند عدم الإذن ، وهو منهيّ عنه. وأمّا على كونه غير مأمور به : فلأنّ الواجب هو عدم التصرّف ، والخروج إنّما هو مقدّمة له ، فهي ليست بواجبة.

والجواب عنه : أنّ عدم التصرّف بعد فرض انحصار مقدّمته في الخروج المحرّم لا يعقل وجوبه لكونه تكليفا بالمحال.

واحتجّ بعض الأجلّة على ما صار إليه : من أنّ الخروج مأمور به بالنسبة إلى الأمر اللاحق مع جريان حكم النهي السابق عليه ، فيكون معصية. وقد عرفت

ص: 713


1- إشارات الاصول : 114.

سابقا (1) حسبانه رجوع كلام الفخر الرازي إليه بقوله : أنّ المكلّف في الزمن الذي لا يتمكّن من الخروج فيما دونه لا يتمكّن من ترك الغصب فيه مطلقا ، فلا يصحّ النهي عنه مطلقا ، لأنّ التكليف بالمحال محال عندنا وإن كان ناشئا من قبل المكلّف ، للقطع بكونه سفها. نعم ، يجري عليه حكم المعصية في تلك المدّة على تقدير الخروج بالنسبة إلى النهي السابق على وقوع السبب - أعني الدخول - لتمكّنه منه حينئذ.

وهذا حكم كلّي جار في جميع ذوات الأسباب التي لا يقارن حصولها حصول أسبابها كالقتل المستند إلى الإلقاء من الشاهق. ومثله ترك الحجّ عند الإتيان بما يوجبه من ترك المسير ، وغير ذلك ، فإنّ التحقيق في مثل ذلك أنّ التكليف بالفعل يرتفع عند ارتفاع تمكّن المكلّف منه ، ويبقى حكم المعصية من استحقاق الذمّ والعقاب جاريا عليه (2).

ثمّ أورد على ما أفاده سؤالا في آخر المبحث : بأنّه لو صحّ ذلك لزم أن يكون الخروج إطاعة ومعصية ، وهو محال.

وأجاب عن ذلك : بأنّه لا ضير فيه عند عدم اجتماعهما في الزمان ، فإنّ الخروج معصية قبل الدخول وطاعة بعده.

وقال في توضيح ذلك : إنّ ترك الغصب مراد من المكلّف بجميع أنحائه التي يتمكّن من تركه إرادة فعليّة مشروطا بقاؤها ببقاء تمكّنه منه ، وحيث إنّه قبل الدخول يتمكّن من ترك الغصب بجميع أنحائه دخولا وخروجا ، فترك الجميع مراد منه قبل دخوله ، فإذا دخل ارتفع تمكّنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما يتوقّف التخلّص عليه ، وهو مقدار خروجه مثلا ، فيمتنع بقاء إرادة تركه كذلك ، وقضيّة

ص: 714


1- انظر الصفحة 708.
2- الفصول : 138.

ذلك أن لا يكون بعض أنحاء تركه حينئذ مطلوبا ، فيصحّ أن يتّصف بالوجوب لخلوّه عن المنافي ، والعقل والنقل قد تعاضدا على أن ليس ذلك إلاّ التصرّف بالخروج ، فيكون للخروج بالقياس إلى ما قبل الدخول وما بعده حكمان متضادّان : أحدهما مطلق وهو النهي عن الخروج ، والآخر مشروط بالدخول وهو الأمر به ، وهما غير مجتمعين فيه ليلزم الجمع بين الضدّين ، بل يتّصف بكلّ.

ثمّ استدلّ على عدم التنافي بين الحكمين : بجواز وقوع البداء في حقّنا ، إذ لا يجوّزه إلاّ اختلاف الزمان.

ثمّ قال : ولا يشكل بانتفاء الموصوف في الزمن السابق ، لوجوده في علم العالم ولو بوجهه ، ولو لا ذلك لامتنع تحقّق الطلب إلاّ مع تحقّق موضوعه في الخارج ، وهو محال (1) ، انتهى ما أفاده قدس سره.

أقول : أمّا ما ذكره في الاحتجاج على كون الخروج مأمورا به - مطابقا لما ذكرناه في الاحتجاج على المختار - فهو كلام صحيح لا غبار عليه بجميع جزئيّاته ، سيّما منعه عن التكليف بالمحال مطلقا ، من دون تفصيل بين أن يكون المكلّف هو السبب في الامتناع أو غيره ، كما يقتضيه قواعد العدليّة.

والعجب من بعض المحقّقين - كسلطان العلماء - كيف اختفى ذلك على مثله! مع طول باعه في التحقيق. وأعجب من ذلك استناده فيه إلى دعوى لا يساعدها العرف والعقل من أنّ هذه الأوامر مرجعها إلى الإرشاد إلى وجود المصالح والمفاسد في نفس الأشياء مثل أوامر الطبيب ونواهيه ، من دون أن يكون هناك طلب حقيقيّ مثل وجوده في أوامر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم ، وقد أشرنا إلى فساده في المباحث السابقة.

ص: 715


1- الفصول : 139.

وأمّا ما ذكره : من جريان حكم النهي السابق على الخروج فيكون معصية بواسطة النهي (1) ، فهو كلام مختلّ النظام :

أمّا أوّلا : فلأنّ التصرّف في مال الغير ليس من العناوين التي لا يتبدّل حكمها بلحوق العناوين اللاحقة للأفعال ، ضرورة اتّصافه بالوجوب عند لحوق عنوان حفظ النفس مثلا بالتصرّف المذكور ، فيمكن أن يلحق بالتصرّف عنوان يكون ذلك العنوان مناطا لاختلاف حكم التصرّف المذكور ، مثل كونه تخلّصا عن الغصب على وجه الانحصار ، ولا شكّ أنّ موضوع التخلّص عن الغصب ممّا لا يختلف حكمه بعد الدخول وقبله وإن توقّف وجود الخروج في الخارج على الدخول بواسطة ترتيب طبيعي بين الدخول والخروج ، ومثل هذا التوقّف الوجودي لا يعقل أن يكون منشأ لاختلاف حكم ذلك الموقوف ، إذ الحكم تابع لعنوان ينتزع من ذات الفعل تارة بالذات واخرى بواسطة الاعتبارات عند وجوده في الخارج لكونه موردا للحسن والقبح ، ولا مدخل للامور التي يتوقّف وجود العنوان عليها في ذلك ، كما هو ظاهر على من له مسكة بالمطالب.

وإذ قد عرفت ذلك نقول : إنّ الحركات الواقعة في ملك الغير تارة تكون معنونة بعنوان الغصب ، واخرى معنونة بعنوان التخلّص عن الغصب. فعلى الأوّل يكون الأمر المعلوم المتصوّر عند الآمر هو الغصب فيلحقه طلبه على وجه النهي عنه ، وعلى الثاني يكون المتصوّر عنده هو التخلّص فيلحقه طلبه على وجه الأمر به من غير مداخلة لأحد العنوانين والمتصوّرين في الآخر ، فالغصب مبغوض دائما والتخلّص مطلوب من غير فرق بين قبل الدخول وبعده ، فلو فرضنا لحوق حكم النهي به يلزم أن يكون موضوع التخلّص طاعة ومعصية ، وهو محال.

ص: 716


1- لم نعثر عليه في حاشية المعالم في المبحث ، نعم يوجد في مبحث المقدّمة ذيل قول المصنّف : « بعد القطع ببقاء الوجوب » ما يفيد ذلك.

وأمّا ما استند إليه في دفع ذلك من اختلاف الزمان ، ففيه خبط ظاهر لا يليق بأرباب النظر ، فكيف بمن هو بمنزلة ربّهم! فإنّ اختلاف الزمان إنّما يجدي في دفع التناقض فيما إذا كانت القضيّة السالبة واقعة في أحدهما والموجبة في الآخر ، مثل قولك : « زيد قائم أمس ، وليس بقائم في الغد » وأمّا إذا كان الزمان على وجه لو اعتبر في الفعل يصير عنوان الفعل مغايرا للعنوان الذي كان وجها للفعل وعنوانا له ، فلا يعقل أن يكون اختلاف الزمان في مثله رافعا للتناقض.

وتوضيحه : أنّ الحركات الواقعة في دار الغير وملكه ، في نفسها لا يلحقها حكم من الأحكام التكليفيّة ، كما هو الشأن في جميع الكلّيات التي يختلف أحكام أنواعها. نعم ، لو لوحظت على وجه الغصبيّة يتّصف بالحرمة ولو وقعت على وجه التخلّص عن الغصب يتّصف بالوجوب ، ولا مدخل للزمان فيما ذكرنا إلاّ في وجود (1) عنوان الواجب في الخارج ، فإنّ الحركة الخروجيّة لا توجد في نفس الأمر إلاّ بعد وجود الحركة الدخوليّة ، فالبعديّة إنّما تؤثّر في وجود عنوان الواجب وحصول موضوعه في الخارج ، وأين ذلك من الزمان الذي يؤخذ ظرفا لوقوع النسبة في القضيّة؟

وأمّا ما أفاد في التوضيح من أنّ جميع أنحاء الغصب مطلوب الترك ، ففيه : أنّه إن اريد من « أنحاء الغصب » جميع الحركات الواقعة في العين المغصوبة مع قطع النظر عن الوجوه اللاحقة لها التي تصير وجها في اختلاف أحكامها ، فمجال المنع فيما ذكره واسع. وإن اريد أنّ أنحاء الغصب على وجه الغصبيّة فهو سديد ، لكنّه غير مفيد ؛ لأنّ الكلام في الحركة التي تقع على وجه التخلّص. وإن اريد ما يعمّ الحركة الخروجيّة على وجه التخلّص فلا نسلّم أنّ الغصب في هذا النحو من وجوده مطلوب الترك ، بل العقل والنقل - على ما اعترف به - قد تعاضدا على كونه مطلوب الفعل.

ص: 717


1- لم يرد « وجود » في ( ع ) ، ( ط ).

وبالجملة ، فالذي هو مطلوب الترك قبل الدخول هو ليس عنوان الخروج ، بل هو الحركة لا على وجه التخلّص وهو مطلوب الترك بعد الدخول أيضا ، والذي هو مطلوب الفعل هو عنوان التخلّص وهو مطلوب قبل الدخول وبعده أيضا ، وذلك لا يوجب مطلوبيّة الدخول ، كما ستعرف.

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا أنّ اختلاف الزمان يجدي في دفع التناقض والتنافي في المقام ، نقول : إنّه قد قرّر في محلّه من أنّ اختلاف نفس الزمان من دون أن يكون رجوعه إلى اختلاف عنوان الفعل لا يصلح لأن يكون وجها لتعلّق الأمر والنهي بالشيء الواحد الشخصي ، فإنّ الحركة الخروجيّة لو لم تكن في الزمان الثاني عنوانها مغايرا لعنوانها في الزمان الأوّل - كالشيء الواحد الشخصي - لا يعقل توارد الأمر والنهي عليه ، كما نبّهوا على ذلك في مسألة عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلأنّ القول بإجداء اختلاف الزمان ينافي ما هو بصدده من إجراء حكم النهي السابق عليه ، كيف! وقد فرض اختصاص النهي بالزمان السابق ، فلو فرض أنّ شرب الخمر كان في الأمس حراما لا وجه لإجراء حكم نهيه في اليوم أو في الغد.

وبالجملة ، فالظاهر أنّ القول المذكور ساقط جدّا لما عرفت ؛ مضافا إلى أنّ استفادة الحكم المذكور من الدليل اللفظي الدالّ على حرمة الغصب مثل قولك : « لا تغصب » لا يخلو عن إشكال ، فإنّه يدلّ بعمومه على تحريم جميع أفراد الغصب في مرتبة واحدة. وأمّا الترتيب المذكور فممّا لا يعقل طريق استفادته من الدليل المذكور.

فإن قلت : ما ذكرت يوجب أن يكون الدخول واجبا لكونه من مقدّمات الخروج الواجب ، ولو قيل بأنّ الخروج إنّما يجب بعد الدخول فيكون وجوبه

ص: 718

مشروطا بالدخول ولا يجب المقدّمة الوجوبيّة - كما قرّر قبل - فيتمّ ما ذكره المستدلّ من عدم الوجوب قبل الدخول ومن وجوبه بعده.

قلت : القول بوجوب الخروج بعد الدخول لا يوجب المصير إلى ما ذهب إليه المستدلّ من تعلّق النهي بالخروج قبل الدخول والأمر به بعده وجريان حكم النهي عليه ، فإنّ غاية ما في الباب هو أنّه يلزم أن يكون الحركة الواقعة حال الخروج وجوبها مشروطا بلحوق عنوان بها لا يتحقّق ذلك العنوان إلاّ بعد الدخول. وما ذكرنا حكم كلّي يجري في جميع الموارد التي يدور الأمر فيها بين القبيح والأقبح ، فإنّه يجب حينئذ ارتكاب القبيح على وجه التنجّز (1) مطلقا عند الابتلاء من دون شائبة النهي.

نعم ، يصحّ النهي عن جعل الشخص نفسه مضطرا إلى ارتكاب القبيح عند الدوران وإن كان واجبا بعده ولو بواسطة سوء اختياره ، فالنهي عند التحقيق متوجّه إلى الأسباب الموجبة للاضطرار إلى ارتكاب القبيح ، لعدم معقوليّة النهي عن ارتكاب القبيح بعد ما يصير دافعا للأقبح.

ونظير ذلك في الأوامر ، فإنّه ربما لا يمكن الأمر بشيء ابتداء فيتعلّق الأمر بمقدّمته ثمّ يتعلّق بعد ذلك بذيها ، وذلك كما لو قلنا بعدم تكليف الغافل الصرف إلاّ بعد العلم التفصيلي ، فإنّ الآمر لو حاول طلب شيء منه يجب عليه أوّلا أن يطلب منه تحصيل العلم حتّى يتوجّه إليه التكليف بذي المقدّمة. ومن هنا ذهب جماعة إلى أنّ المكلّف المقصّر إنّما يعاقب على ترك تحصيل العلم (2).

ص: 719


1- في ( ع ) و ( م ) : التخيير.
2- منهم الأردبيلي في مجمع الفائدة 2 : 110 ، والسيّد العاملي في المدارك 2 : 345.

وإلى ما ذكرنا ربما يشير بعض الأخبار من المنع عن المسافرة إلى البلاد التي لا يتمكّن المسافر فيها على أداء أحكام الإسلام (1). وعلى ذلك قد استقرّ آراء العقلاء في امور معاشهم ، فيعاقبون على التسبيبات المذكورة معادلا لما يترتّب على نفس المسبّبات المحرّمة.

ولعلّ حمل كلام الرازي على ما ذكرنا أولى ممّا حمل عليه المستدلّ ؛ لما عرفت من فساده جدّا. كما أنّه يحتمل أن يكون ذلك مراد من قال بارتفاع التكليف خطابا ووجوده عقابا (2) ، فإنّ العقاب على التكليف الذي يمتنع ثبوته قبيح ، فلا بدّ من أن يكون المراد منه هو العقاب على التسبيب المذكور.

ونظير ما ذكرنا في المقام ما ربما يقال في بعض المغالطات : من أنّه لو فرض أنّ وجود زيد يوجب محالا - وهو حماريّة عمرو - وعدمه أيضا يوجب ذلك المحال ، فلو ردّد الأمر بينهما فبأيّهما ينبغي أن يؤخذ؟ وجوابه : أنّه لا يمكن الفرض المذكور ، فلا نسلّم إمكان استلزام وجود الشيء وعدمه المحال المذكور.

والحاصل : أنّ مرجع النفي في القضيّة ليس إلى الوجود والعدم أو إليهما حتّى يلزم على الأوّل والثاني المحال ، وعلى الثالث ارتفاع النقيضين ، بل مرجعه إلى نفي التوصيف والتفكيك بين الصفة والموصوف ونفي الاتّصاف ، فلا يلزم شيء من المحاذير ، كما لا يخفى على من لاحظ وتدبّر.

وبمثل ما ذكرنا بنى العلاّمة في المختلف في ردّ الشيخ في لباس المصلّي إذا كان نجسا ، فلاحظ وتأمّل (3).

ص: 720


1- الوسائل 8 : 249 ، الباب الأول من أبواب آداب السفر إلى الحج ، الحديث 5.
2- قاله السيّد الأعرجي في الوافي : 254 - 255.
3- انظر المختلف 1 : 487 - 488.

ثمّ إنّ ما أفاده : من أنّ النهي عن التصرّف في ملك الغير على وجه الإطلاق والأمر به مشروط بالدخول ، لا يخلو عن تناقض ، فإنّ النهي على جميع التقادير ينافي الأمر على تقدير خاصّ.

ثمّ إنّه يظهر منه التردّد في صحّة صلاة النافلة حين الخروج ، حيث قال : وعلى مذهب المختار هل يصحّ منه الصلاة المندوبة وما بحكمها موميا حال الخروج؟ وجهان : من ارتفاع الخروج في تلك المدّة ، ومن أنّها كانت مطلوبة العدم (1) ، ثمّ اختار الصحّة.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه للقول بالصحّة على مذاقه ، فإنّ زمان الخروج زمان المعصية فعلا وإن كان زمان النهي سابقا ، كما ستعرف.

وثانيا : لا نعلم وجها لإفراد الصلاة المندوبة بالبحث بعد ما عرفت من أنّ المناط في الصحّة والبطلان على النهي وعدمه ، فلو قلنا بأنّ زمن الخروج ممّا (2) لا يتعلّق بالمكلّف نهي وليس أيضا زمان المعصية فالصلاة صحيحة سواء كانت واجبة أو مندوبة في سعة الوقت أو في ضيقه إذا لم تكن الصلاة في الدار المغصوبة حال السعة مستلزمة لزيادة التصرّف مثلا ، فالتقييد بالضيق في كلامهم بواسطة أنّ إيجاد الصلاة في السعة فيها يوجب زيادة التصرّف لو كان المقصود إيجادها مشتملة على أجزائها وشرائطها الاختياريّة ، وذلك ظاهر في الغاية.

ص: 721


1- الفصول : 139.
2- في ( ع ) : بأنّ في زمن الخروج لا يتعلّق.

خاتمة

قد عرفت في الهداية السابقة ذهاب المشهور إلى القول بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة حال الخروج (1).

وقد يتوهّم التنافي بين ذلك وبين ما يظهر منهم في مسألة الجاهل بحكم الغصب في الشريعة مع تقصيره في التعلّم ، حيث حكموا ببطلان عمله (2) ولو حين الغفلة عمّا علم به إجمالا في أوّل الأمر أو عند عدم تمكّنه من التعلّم مع ارتفاع النهي عنه حال الغفلة وعدم التمكّن ، فلو كان المدار في صحّة العبادة ارتفاع النهي فلم لا يحكمون بها في الجاهل المزبور؟ وإن كان ارتفاع النهي لا يجدي في الصحّة فلم حكموا بها في الصلاة حال الخروج؟

ويمكن دفع التنافي بإبداء الفارق بين المقامين ؛ فإنّ الوجه في الحكم بالصحّة هو ما عرفت : من كون الخروج على وجه التخلّص مأمورا به فقط ، فلا مانع من الصحّة. والوجه في الحكم بالفساد في مسألة الجاهل هو : أنّ زمان الفعل زمان المعصية ، وكما لا يجوز الأمر بالفعل حال وجود النهي فكذا لا يجوز الأمر حال صدق المعصية وإن كان النهي مرتفعا ، فالحكم بالصحّة فيما تقدّم ليس منوطا بارتفاع النهي فقط ، بل لعدم صدق العصيان في تلك الحالة مدخل في الصحّة ، فلا منافاة بين المقامين.

ص: 722


1- راجع الصفحة 709.
2- انظر الشرائع 1 : 71 ، والقواعد 1 : 258.

ونظير الحكم بالفساد إنّما يتمشّى فيما إذا ورد نهي عن الارتماس في قليب ، فإنّ المكلّف بعد ما ألقى نفسه في القليب وحصل له الاضطرار ارتفع النهي قطعا ومع ذلك لا يصحّ منه الغسل ، لأنّ الغسل يقع منه في زمان يتحقّق فيه المعصية وإن كان النهي مرتفعا.

وهكذا الأمر في كلّ الأفعال ، فإنّ التكليف ينقطع بعد اتّصاف الفعل بالوجوب والامتناع بواسطة الاختيار - على ما عرفت - وإن كان ذلك الامتناع والوجوب مؤكّدا للاختيار الذي هو شرط في الأفعال الاختياريّة المتعلّقة للتكاليف الشرعيّة.

وقد يذكر في مقام الفرق وجوه لا محصّل لها ، والاعتماد على ما قلنا. واللّه المعتمد في الامور كلّها ، واللّه العالم.

ص: 723

ص: 724

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في اقتضاء النهي للفساد فيما إذا تعلّق بشيء

اشارة

ص: 725

ص: 726

وتحقيق البحث في طيّ هدايات :

هداية

في تقديم امور لعلّها تنفع في توضيح المطلوب :

الأوّل : قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة على وجه التفصيل ، ومحصّله هو : أنّ المسئول عنه في تلك المسألة هو إمكان اجتماع هذين النحوين من الطلب في مورد واحد وامتناعه ، والمسئول عنه في هذه المسألة هو ثبوت الملازمة بين تعلّق النهي بشيء وبين فساد ذلك الشيء.

نعم ، على القول بامتناع الاجتماع لا بدّ من القول باقتضاء الفساد ، وذلك لا يوجب اتّحاد العنوانين ولا إغناء أحد البحثين عن الآخر ، كيف! واقتضاء النهي الفساد أو جواز اجتماع الأمر والنهي مفهومان مختلفان لا ارتباط لأحدهما بالآخر.

ويظهر ما ذكرنا بملاحظة الفساد في المعاملات ، إذ لا فرق في اقتضاء النهي الفساد بالنسبة إلى العبادات والمعاملات ، فإنّ ذلك على تقدير التعميم بواسطة جهة مطّردة فيهما.

وحينئذ لا حاجة إلى تكلّف الفرق بينهما ، تارة : باختصاص الاولى بما إذا كان بين متعلّق الأمر والنهي عموم من وجه - كما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه (1) - واخرى : باختصاص الثانية بما إذا كان المنهيّ عنه عين المأمور به في العنوان ، كما إذا قيل : « صلّ ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة » كما أفاده غيره ؛ فإنّ الاختلاف الموردي

ص: 727


1- القوانين 1 : 155.

لا يصير سببا لاختلاف المسألتين بعد اتّحاد جهة البحث فيهما. نعم ، ذلك يوجب أن يكون الموردان قسمين من مسألة واحدة. وذلك ظاهر في الغاية.

ومن هنا يظهر أنّ المسألة لا ينبغي أن تعدّ من مباحث الألفاظ ، فإنّ هذه الملازمة على تقدير ثبوتها إنّما هي موجودة بين مفاد النهي المتعلّق بشيء وإن لم يكن ذلك النهي مدلولا عليه بالصيغة اللفظيّة ، وعلى تقدير عدمها إنّما يحكم بانتفائها بين المعنيين.

الثاني : ظاهر النهي المأخوذ في العنوان هو النهي التحريمي وإن كان مناط البحث في التنزيهي موجودا ، وذلك لا يوجب تعميم العنوان.

وهل يختصّ البحث بالنهي الأصلي أو يعمّ التبعي أيضا؟ والحقّ هو الثاني ؛ لما قد تقدّم من استدلالهم على فساد الضدّ بتعلّق النهي التبعي الحاصل من الأمر بضدّه الآخر. وذهب المحقّق القمّي رحمه اللّه إلى الأوّل ، فزعم عدم اقتضاء النهي التبعي الفساد قطعا ، لانحصار ما يمكن أن ينازع فيه فيما يترتّب عليه العقاب ، ولا عقاب في التبعي (1). ولا دليل على انحصاره فيه ، وكلمات القوم لا توافقه ، بل إنّما هي آبية عنه وصريحة في خلافه.

الثالث : الشيء المتعلّق للنهي إمّا أن يكون عبادة أو غير عبادة.

أمّا الأوّل ، فقد تطلق ويراد بها معناها المصدري ، ويعبّر عنها بالفارسيّة ب- « پرستيدن » فتشمل بهذا المعنى العبادات بالمعنى الأخصّ التي ستعرفها ولكلّ فعل كان المقصود منه هو الامتثال ، فغير العبادة ما لا يكون المقصود منه الامتثال ، سواء لا يقع به الامتثال لعدم الأمر - كالمكروهات والمحرّمات - أو لا يقصد به الامتثال وإن أمكن فيه ، كالواجبات التوصّلية إذا وقعت بدونه. وقد يطلق ويراد بها معناها

ص: 728


1- انظر القوانين 1 : 156 - 157.

الاسمي ، وهي الأفعال التي يقع بها الامتثال (1). والأجود في تحديدها هو ما قدّمنا في بحث المقدّمة : من أنّها ما امر به لأجل التعبّد به.

وقد تعرّف في كلام غير واحد بأنّها ما يتوقّف صحّته على النيّة (2).

ويمكن أن يناقش فيه : بأنّ الصحّة إن كان المراد بها الامتثال ، فيدخل جميع أفراد العبادة بالمعنى الأعمّ.

وإن كان المراد بها ما يوجب سقوط الفعل ثانيا ، فيخرج العبادات التي لا يجب فعلها ثانيا. ولو فرض اشتماله لها بنوع من العناية ، ففيه : أنّ أخذ « الصحّة » في التعريف يوجب الدور ؛ فإنّ معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحّة لوقوعها جزءا لحدّها ، ومعرفة الصحّة موقوفة على معرفة العبادة ؛ لأنّ الصحّة في العبادات معناها سقوط القضاء لا الصحّة على وجه الإطلاق ، ومعرفة المقيّد موقوفة على معرفة القيد والتقييد.

وإن كان المراد بها مطلق ترتّب الأثر ، فإن اريد من الأثر الامتثال لزم ما عرفت من عدم المنع. ولو سلّم كأن يقال : المراد من الامتثال موافقة الأمر ولا شكّ أنّ موافقة الأمر موقوفة على النيّة ، فليست النيّة ممّا يتوقّف عليها الصحة ، بل التحقيق على ما مرّ من أنّ القربة ليست من وجوه الفعل ، بل هي من الدواعي ، حيث إنّ وجود الفعل المأمور به في الخارج موقوف على النيّة ، فتأمّل. وإن اريد من الأثر سقوط القضاء فقد عرفت أيضا ما فيه. وإن اريد مطلق الأثر فينتقض بالعبادات الصوريّة التي يترتّب عليها الآثار العقليّة بل الشرعيّة أيضا ، كما إذا وقعت في مقام التعليم.

ص: 729


1- لم ترد « وهي الأفعال التي يقع بها الامتثال » في ( ط ).
2- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 154 ، والكلباسي في الإشارات : 103.

وعرّفها في القوانين بما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء (1).

واعترض عليه بعض الأجلّة (2) ، تارة : بانتقاض طرده بتوجيه الميّت إلى القبلة ، فإنّه ليس من العبادات قطعا ، مع أنّ مصلحة الفعل المأمور به غير معلوم انحصارها في شيء.

واخرى : بانتقاض عكسه بنحو الوضوء ، فإنّ مصلحته معلومة - وهي الطهارة لأجل الدخول في المشروط بها - مع أنّه من العبادات قطعا.

ويمكن توجيه ما أفاده بوجه لا يتوجّه عليه شيء ، كأن يقال : إذا علم انحصار مصلحة الواجب في شيء ، فبعد العلم بوجود تلك المصلحة يعلم بسقوط الطلب ، فيكون الواجب توصّليّا مثل التوجيه إلى القبلة ، فإنّ المصلحة في التوجيه ليس إلاّ حصول التوجّه إلى القبلة ، وبعد العلم بوجود التوجّه لا يبقي للأمر محلّ. وإذا لم يعلم انحصار المصلحة في شيء فلا يعلم سقوط الطلب إلاّ أن يكون الداعي في الإتيان بالفعل هو الأمر ، فإنّه يوجب السقوط قطعا ، وهذا بعينه هي القربة.

وعلى ما ذكرنا لا يرد عليه شيء من الإيرادين ، أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت من معلوميّة المصلحة. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الكلام في انحصار المصلحة في شيء معلوم ، والطهارة غير معلومة ، ولذلك كانت عبادة. وقد ذكرنا في مباحث المقدّمة ما ينفع في المقام.

وأمّا الثاني - وهو غير العبادة - فهو على قسمين : فتارة يكون من الامور التي يتصوّر فيها الاتّصاف بالصحّة والفساد كغسل النجاسات والعقود والإيقاعات ، واخرى يكون من الامور التي لا تتّصف بهما.

ص: 730


1- القوانين 1 : 154.
2- الفصول : 139.

والثاني على قسمين : فإنّه تارة يكون من الامور التي يترتّب عليها الآثار الشرعيّة كالغصب والإتلاف ونحوهما ، فإنّه يترتّب عليها الضمان ووجوب الردّ ونحوهما ، وتارة لا يكون منها كشرب الماء مثلا.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا : من تقسيم الشيء إلى العبادة وغيرها - وقد يسمّى بالمعاملة - وتقسيم العبادة إلى الأعمّ والأخصّ ، وتقسيم المعاملة إلى ما يترتّب عليه الأثر الشرعي وإلى غيره ، والأوّل إلى ما يتّصف بالصحّة والفساد وإلى غيره ، فهل المراد ب- « الشيء » الواقع في العنوان جميع هذه الأقسام أو مختصّ ببعضها؟

فنقول : إنّ الظاهر أنّ العبادة بالمعنى الأعمّ داخل في عنوان النزاع ، كالمعاملة التي يترتّب عليها الآثار الشرعيّة مع صحّة اتّصافها بالصحة والفساد. وأمّا المعاملة التي يترتّب عليها الآثار من دون الاتّصاف المذكور فلا كلام فيه ، إذ بعد عدم اتّصاف المحلّ بالصحّة والفساد لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد فيه. ولا ينافي ذلك ترتّب الآثار على الإتلاف واليد والجنايات وأسباب الوضوء ونحوها ، فإنّها تعدّ من الأحكام المترتّبة على وجود هذه الأسباب في الخارج.

ومنه يعلم خروج ما لا يترتّب عليه الأثر الشرعي وإن ترتّب عليه الأثر العقلي أو العادي ، إذ لا يعقل تأثير النهي فيما يترتّب على الشيء عقلا أو عادة.

فالمراد ب- « الشيء » هو العبادة بالمعنى الأعمّ والمعاملة التي تتّصف بالصحّة والفساد شرعا ، وقد عرفت وجه التخصيص في الثاني.

وأمّا وجه التعميم فيه بالنسبة إلى ما يتّصف بالصحّة فأمران : أحدهما عموم الأدلّة ، كما ستعرف. الثاني ما ذكره الشيخ في محكيّ المبسوط في الاستدلال على عدم حصول الطهارة فيما لو استنجى بالمطعوم ونحوه ممّا تعلّق النهي بالاستنجاء عنه ، قال : كلّ ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا ،

ص: 731

إن استعمل في ذلك ونقي به الموضع لا يجزي ، لأنّه منهيّ عنه ، والنهي يقتضي الفساد (1). وقد نقله في المعتبر (2) ولم يعترض عليه بخروجه عن محلّ الكلام كغيره ، وإنّما اعترضوا بعدم اقتضاء النهي الفساد.

وأمّا وجه التعميم في العبادة : فلأنّه أفيد وأشمل وإن كان الظاهر من قولهم : « العبادة » هو المعنى الأخصّ ، فيشمل الواجبات التوصّلية ، فيقال : إنّ الغسل إذا وقع على وجه محرّم فهل يقتضي النهي عنه عدم وقوع الامتثال به إذا كان قاصدا للامتثال ، أو لا؟

الرابع : صحيح العبادة قد يفسّر ب- « ما يوافق الأمر » وهو المنسوب إلى المتكلّمين (3). ولا يراد بالأمر خصوص الإلزامي ، فلا يرد النقض بالعبادة الصحيحة المندوبة. ولا حاجة إلى تبديل « الأمر » ب- « الشريعة » ليرد النقض بالمباح ؛ مع أنّه أيضا في غير محلّه ، لأنّ الموصولة كناية عن العبادة والمباح ليس بها. ولا يلزم استدراك موافقة الشريعة ، لأنّ العبادة كما تتّصف بالصحّة تتّصف بالفساد أيضا.

وقد يفسّر ب- « ما يسقط معه القضاء » وهو المنسوب إلى الفقهاء (4). ولا يرد أنّ حال الفعل لا ثبوت للقضاء حتّى يسقط به ؛ لأنّ الإسقاط لا يصحّ إطلاقه في مثل المقام ولو بنحو من العناية. والمراد سقوطه على تقدير ثبوته ، فلا يرد النقض بصحيح العيدين والجمعة. ولا بأس به لعدم ظهور المراد.

ص: 732


1- المبسوط 1 : 17.
2- المعتبر 1 : 133.
3- نسبه في الفصول : 140 ، وانظر القوانين 1 : 157 ، أيضا.
4- نسبه في القوانين 1 : 157 ، والفصول : 140 ، وراجع تفصيله في مفاتيح الاصول : 296.

وأمّا ما يقال : من أنّ المراد بالقضاء هو الإعادة أو الأعمّ منها ، فلا يدفع الضيم ؛ لورود النقض بالعيدين عند ضيق الوقت إذ لا يتصوّر الإعادة أيضا ، وكذا الصوم المندوب في كلّ يوم كالصلوات المبتدأة.

ثمّ إنّهم قد ذكروا أنّ النسبة بين التفسيرين عموم مطلق ؛ لأنّ العبادة التي توجب سقوط القضاء يجب مطابقتها للأمر ، وليس كلّ ما يطابق الأمر مسقطا للقضاء ؛ لأنّ الصلاة بالطهارة المستصحبة مطابقة للأمر وليست مسقطة للقضاء ، لأنّه يجب إذا انكشف الخلاف. وكأنّه مبنيّ على التفكيك بين التفسيرين ، كأن يكون المراد بالأمر في تفسير المتكلّمين الأعمّ من الظاهري والواقعي وفي تفسير الفقهاء خصوص الواقعي.

وتوضيح المقام : أنّ قضيّة أعمّية تفسير الفقهاء أن يكون القيود المعتبرة في التفسير الأوّل معتبرة فيه أيضا لتحقّق الأعمّية بذلك ، والظاهر أيضا (1) فلا بدّ من اعتبار موافقة الأمر في تفسير الفقهاء أيضا كما هو مقتضى القضاء ، فإنّه فرع للأمر.

و « الأمر » في كلّ واحد من التفسيرين يحتمل وجوها :

أحدها : أن يحمل فيهما على الأمر الواقعي الاختياري ، فكلّ فعل يكون مطابقا للأمر الواقعي الاختياري يجب أن يكون مسقطا للقضاء قطعا ، وتنعكس هذه القضية كلّيا من دون إشكال ، فيكون التفسيران متلازمين في الصدق.

وثانيهما : أن يراد ب- « الأمر » فيهما الأعمّ من الاختياري والاضطراري الواقعيّين كما في الصلاة بالطهارة المائيّة الواقعيّة وبالطهارة الترابيّة ، فالتفسيران أيضا متطابقان. أمّا بالنسبة إلى الاختياري فظاهر. وأمّا بالنسبة إلى الاضطراري - كما إذا صلّى بالطهارة الترابيّة - أمّا عند استقرار العذر وعدم زواله فلإطباقهم على

ص: 733


1- كذا ، والعبارة ناقصة.

إطلاق الصحيح على مثل هذه العبادة. وامّا عند ارتفاع العذر فعلى القول بعدم وجوب الإعادة وحصول الإجزاء - كما هو التحقيق - فظاهر أيضا إطلاق الصحيح عليها. وأمّا على القول الآخر فلا يتّصف بالصحّة بمعنى سقوط القضاء والفعل ثانيا ، فيكون التفسير الأوّل أعمّ من التفسير الثاني ، لمطابقة تلك العبادة للأمر الاضطراري مع عدم إسقاط القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي.

وثالثها : أن يحمل « الأمر » فيهما على الأعمّ من الظاهري والواقعي ، فتارة على وجه يعتبر في أحدهما ما يعتبر في الآخر من دون اختلاف فيكون التفسيران متلازمين في الصدق ، واخرى على وجه الاختلاف. فإن اعتبرنا في الأوّل خصوص الواقعي وعمّمنا الثاني إلى الظاهري أيضا يكون الثاني أعم ؛ لصدق الصحيح على الصلاة بالطهارة المستصحبة بالنسبة إلى الأمر الظاهري وعدم صدقه عليها بالمعنى الأوّل. وإن اعتبرنا في الأوّل الأعم من الواقعي والظاهري وفي الثاني خصوص الواقعي يكون الأوّل أعمّ ؛ لصدقه على الصلاة بالطهارة المستصحبة - على ما رامه القوم - وعدم صدقه عليها بالمعنى الثاني ، لعدم إسقاطه القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي. وإن عمّمنا الأوّل وخصّصنا الثاني بالظاهري فقط يكون الثاني أعمّ. وبالجملة ، إنّ ملاحظة اختلاف النسبة في الأمر واتّحادها يوجب الاختلاف والاتّحاد.

ولكن الحقّ أنّ أعمّية التفسير الثاني - وهو تفسير الفقهاء - في غاية البعد ، فإنّ مجرّد مطابقة العبادة للأمر الظاهري لا يوجب اتّصاف الفعل بالصحّة عندهم ، فإنّ الصحيح عندهم هو ما يوجب سقوط القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي ولو كان اضطراريّا حتّى على القول بلزوم الإعادة بعد زوال العذر ، فإنّ ثبوت الإعادة والقضاء أعمّ من الفساد كما زعمه القائل بعدم الإجزاء في نفس الأمر الواقعي أيضا. والفرق بين ذلك وبين الصلاة بالطهارة المستصحبة في غاية الوضوح بعد

ص: 734

ما عرفت من أنّ الاستصحاب إنّما هو مأخوذ طريقا ولا تأثير له في الواقع ، وبعد كشف الخلاف لا وجه لالتزام الصحّة. وقد مرّ في مباحث الإجزاء (1) ما يوضّح المقام ، فراجعه.

وأمّا المتكلّمون فيحتمل أن يكون مرادهم من « الأمر » الأعمّ من الظاهري والواقعي من حيث إنّ نظرهم إنّما هو في الفعل من حيث إنّه يترتّب عليه الثواب والعقاب ، وموافقة الأمر الظاهري يحتمل أن يكون منشأ للثواب كما أنّ مخالفته يحتمل العقاب وإن كان التحقيق قد يقضي بخلافه.

ومن هنا يظهر أنّ اختلاف الفقهاء والمتكلّمين في معنى « الصحّة » و « الصحيح » ليس اختلافا في المعنى ، بل معنى « الصحيح » ليس إلاّ ما هو المراد منه في العرف واللغة ويعبّر عنه بالفارسيّة ب- « درست » وحيث إنّ الأنسب بمقاصد الكلام هو البحث عن الفعل من حيث إنّه منشأ للثواب والعقاب فلذلك عبّر أهله عن الصحيح بما يوافق الأمر والشريعة ، والأنسب بمقاصد الفقه هو البحث عن الفعل من حيث إنّه يوجب فراغ الذمّة ولذا عبّر أربابه عنه بما يوجب سقوط القضاء ، فلا وجه لما قد يظهر منهم من الاختلاف بينهم على وجه لا يشعر باتّحاد المعنى حقيقة.

والإنصاف أنّ الثمرة أيضا غير موجودة بينهما ، فإنّ التفكيك في غاية البعد.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ المناط في الاتّصاف بالصحّة في سقوط القضاء هو مطابقة الأمر الظاهري ، فلا إشكال في صحّة اتّصاف الفعل بالصحّة بعد مطابقته للأمر الظاهري.

وأمّا لو قلنا بأنّ المناط فيه هو مطابقة الأمر الواقعي فهل يصحّ الاتّصاف قبل انكشاف الخلاف أو لا يصحّ؟ وعلى الأوّل فبعد انكشاف الخلاف هل يحكم بالفساد

ص: 735


1- راجع الصفحة 146.

من حين الانكشاف أو من الأصل؟ وجوه ، أقواها الثاني ؛ لأنّ المفروض إناطة الصحّة بالواقع ، وحين عدم العلم به لا وجه لاتّصاف الفعل بالصحّة. ولا سبيل إلى إحراز المطابقة بأصالة عدم كشف الخلاف ؛ لأنّه على تقديره لا يجدي في الاتّصاف المذكور ، فإنّ ذلك ليس من الآثار المترتّبة على المستصحب شرعا. ولا يجب إتيان الفعل في الظاهر نظرا إلى أصالة عدم المطابقة ، فإنّها مقطوعة بأصالة بقاء الطهارة كما هو المفروض. فالفعل يبقى في مرحلة الظاهر غير محكوم بالصحّة والفساد ، ولا يوجب الإعادة ، لأنّ الموجب هو العلم بعدم الاتّصاف بالصحّة الواقعيّة ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بعد الكشف فيما قامت الأمارة الظنّية على الواقع. هذا تمام الكلام في الصحّة في العبادات.

وأمّا الصحّة في المعاملات : فقد يقال بأنّها عبارة عن « ترتّب الأثر » (1). وليس على إطلاقه ، لصدقه على الآثار العقليّة المترتّبة على الموضوعات العقليّة ، وعلى الضمان المترتّب على الإتلاف مثلا. وقد يقيّد بكون الأثر « شرعيّا » (2) فيخرج الآثار العقليّة ، و « مقصودا » (3) فيخرج مثل الضمان ، فإنّه ليس من الآثار المقصودة نوعا ، ولا عبرة بما إذا اتّفق كونه مقصودا.

ويكفي في شرعيّة الأثر كونه ممّا أمضاه الشارع وإن لم يكن من الآثار المخترعة المجعولة ، كالطهارة المترتّبة على الغسل.

وممّا ذكرنا يعرف الوجه فيما قيل : من أنّ الصحّة عبارة عن ترتّب الأثر

ص: 736


1- فوائد الاصول لبحر العلوم : 130 ، ومناهج الأحكام : 720 ، وراجع تفصيله في مفاتيح الاصول : 296.
2- كما قيّده في القوانين 1 : 158 ، والفصول : 140.
3- كما في الفصول : 140 ، وفوائد الاصول لبحر العلوم : 130.

مطلقا (1) ، ففي العبادات الأثر المترتّب هو سقوط القضاء ، وفي المعاملات هو التملّك والتذكية والطهارة ونحو ذلك ، غاية الأمر أنّ سقوط القضاء في العبادات من الآثار العقليّة ، والتملّك من الشرعيّة. ولا ينافي ذلك اختلاف الأثر المترتّب على العبادات للأثر المترتّب على المعاملات بالعقليّة والشرعيّة.

وبالجملة ، فلم يعلم أنّ لفظ « الصحّة » و « الصحيح » قد استعمل في هذه الموارد على غير ما يستعمل فيه في العرف. واختلاف الآثار لا يقضي باصطلاح جديد.

تذنيب :

الحقّ أنّ الصحّة والفساد وصفان اعتباريّان ينتزعان من الموارد بعد ملاحظة العقل انطباق المورد لما هو المأمور به وعدمه ، أو لما هو المجعول سببا وعدمه مطلقا ، سواء كان في العبادات أو في المعاملات ، وسواء فسّرت الصحّة بما فسّرها المتكلّمون أو بما فسّرها الفقهاء.

وقيل : إنّهما من الأحكام الوضعيّة مطلقا (2).

وفصّل ثالث بين العبادات والمعاملات : فزعم أنّهما في العبادات عقليّان وفي المعاملات من أحكام الوضع. ذهب إليه الحاجبيّان (3) وتبعهما بعض الأجلّة (4).

وحكي التفصيل بين التفسيرين في العبادات ، فقيل بكونهما حكمين على تفسير الفقهاء ، وأنّهما وصفان اعتباريّان على تفسير المتكلّمين (5).

ص: 737


1- انظر القوانين : 158.
2- انظر تمهيد القواعد : 37.
3- لم نعثر عليه.
4- وهو صاحب الفصول : 140.
5- لم نعثر عليه.

ثمّ إنّه ليس الكلام في المقام في أصل مجعوليّة الأحكام الوضعيّة وعدمها ، فإنّ ذلك قد أوردنا الكلام فيها على وجه الاستطراد في مباحث الاستصحاب على وجه لا مزيد عليه ، بل الكلام في المقام إنّما هو في خصوص وصفي الصحّة والفساد على تقدير القول باختلاف حكمي التكليف والوضع ، فإنّهم أيضا اختلفوا في كونهما من الأحكام أو لا.

لنا : أنّ الصحّة في العبادات على تفسير المتكلّمين عبارة عن موافقة الأمر ، وهذا المعنى يحصل بعد إيجاد المكلّف الفعل مطابقا لما هو المأمور به ، من غير حاجة إلى جعل هذا الوصف وإنشائه على وجه يحتاج إليه في إنشاء أحكام التكليف. وعلى التفسير الآخر عبارة عن كون المأمور به بوجه يسقط معه القضاء ، وهو حاصل على تقدير الإتيان بما يعتبر في المأمور به على وجه يكون الفعل من مصاديق الصحيح في العرف من دون احتياج إلى تكلّف الجعل والإنشاء ، نظير حصول الزوجيّة بعد حصول الأربعة من غير حاجة إلى تحصيل الزوجيّة بتحصيل مغاير لتحصيل الأربعة.

وأمّا الصحّة في المعاملات فهي عبارة عن كون المعاملة على وجه يترتّب عليها الأثر المقصود منها شرعا ، وهذه الصفة يصحّ انتزاعها بعد إيجاد المكلّف ما هو سبب في الشريعة لذلك الأثر. وكون الآثار ممّا حكم بترتّبها الشارع لا يقضي بأن يكون الصحّة مجعولة للشارع.

وبالجملة ، أنّ المجعول الشرعي في العبادة ليس إلاّ إيجاب الفعل الكذائي ، وفي المعاملة ليس إلاّ تسبّب العمل الكذائي للأثر الكذائي ، وهذا لا يقضي بمجعوليّة الصفة المنتزعة عن الفعل والعمل على تقدير المطابقة لما هو المجعول الشرعي كما هو الحقّ.

وعلى تقدير الاقتضاء فلا فرق بين العبادة والمعاملة ، فالقول بالتفصيل مطلقا ممّا لا وجه له ، وهو ظاهر.

ص: 738

واستدلّ من ذهب بأنّهما من أحكام الوضع : بأنّ المدار في شرعيّة الحكم على أن يكون بيانه وظيفة الشارع وإن كان العقل مستقلاّ فيه ، والمقام منه ؛ فإنّ الحكم بترتّب آثار السبب الشرعي عليه حكما وظيفة الشارع ، سواء كان بموافقة الأمر أو إسقاط القضاء أو غيرهما.

وفيه أولا : أنّ المدار في الشرعيّة ليس على البيان الصرف وإن لم يكن مشتملا على الإنشاء كما في الأحكام التكليفية ، فإنّ ذلك مجرّد إخبار عمّا هو ثابت في الواقع. نعم ، ذلك يوجب تصحيح النسبة والإضافة إلى الشارع والشرع فيما إذا لم يكن وجود ذلك الأمر الثابت معلوما بوجه وأين ذلك من الجعل الموجود في أحكام التكليف؟

وثانيا : أنّ الصحّة والفساد ليس بيانهما من وظيفة الشارع على تقدير اكتفاء ما ذكر في الحكم الشرعي ، فإنّ ما هو من وظيفة الشارع هو الإخبار والإعلام عن ترتّب هذه الآثار المخترعة أو غيرها على تلك الأفعال عبادة كانت أو معاملة. وأمّا كون الفعل ممّا يترتّب عليه الأثر أو لا فليس من وظيفة الشارع بيانه. ويظهر وجه التفصيلين وجوابهما ممّا ذكرنا في حجّة المختار ، فتدبّر.

الخامس : ذكر المحقّق القمّي رحمه اللّه تبعا لغيره : أنّ محلّ النزاع إنّما هو فيما إذا ورد النهي مع وجود ما يقضي بالصحّة شرعا ، فلا نزاع فيما ليس فيه جهة صحّة - كالزنا والقمار ونحوهما - لكونه فاسدا بالأصل (1).

أقول : ما ذكره إنّما يتمّ في العبادات ، إذ لا يعقل العبادة بدون الأمر. وأمّا في المعاملة فلا دليل على تخصيص النزاع بماله جهة صحّة ، بل قضيّة الأدلّة والعناوين عموم النزاع لكلّ ما له الاتّصاف بالصحّة والفساد ، سواء كان له في الشرع جهة

ص: 739


1- القوانين 1 : 155 - 156.

صحّة أو لا ، غاية الأمر تطابق الأصل والنهي في الدلالة على الفساد فيما ليس فيه جهة صحّة. وبعبارة واضحة : توهّم الصحّة مع صحّة الاتّصاف بالصحّة يكفي في صحّة النزاع ، فيخرج كثير من المعاصي من جهة عدم الاتّصاف ، كجملة من الأفعال التي تترتّب عليها أحكام شرعيّة ، كالضمان المترتّب على الإتلاف ونحوه.

السادس : قال المحقّق القمّي رحمه اللّه أيضا : الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد ، لأنّ الأحكام الشرعيّة كلّها توقيفيّة ومنها الصحّة ، والأصل عدمها ، وعدمها يكفي في ثبوت الفساد ، وإن كان هو أيضا من الأحكام الشرعيّة ، لأنّ عدم الدليل دليل العدم (1).

وأورد عليه بعضهم : بأنّ الكلام في أنّ النهي هل يقتضي رفع الصحّة عمّا من شأنه الصحّة أو لا؟ وشيء من طرفي الحكم لا يرتبط بالأصل المذكور ، إذ الكلام إنّما هو بعد ثبوت الصحّة - كما اعترف به - فلا وجه لإيراد الكلام المذكور في مقدّمات المسألة المفروضة. اللّهم إلاّ أن يكون ذلك منه حرصا على ضبط المطالب وإيراد المقاصد. نعم ، لو كان مثل القمار وغيره ممّا لم يثبت له جهة صحّة داخلا في النزاع كان لإيراده وجه ، لكونه بيانا للأصل في المسألة بعد عدم دلالة النهي على الفساد (2).

ثمّ إنّ ما ذكره من أصالة الفساد إنّما يتمّ بإطلاقه في المعاملات ، إذ عند الشكّ في ترتّب الأثر الشرعي على المعاملة بعد عدم دليل يقضي به ، لا إشكال في لزوم الاستناد إلى أصالة عدم الترتّب (3) ، ولا يراد بالفساد إلاّ ذلك.

ص: 740


1- القوانين 1 : 155.
2- انظر الحاشية المسمّاة بالتوضيح المطبوعة في هامش القوانين 1 : 155.
3- العبارة في ( ع ) هكذا : لزوم الاستناد إلى الأصل ، لكون الأصل عدم الترتّب.

وأمّا في العبادات فإن كان الشك في صحّتها بمعنى موافقتها للأمر ، فيمكن جريان الأصل المذكور أيضا ، لكنّه ليس على إطلاقه.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في مطابقة الأمر تارة بواسطة الشك في وجود الأمر رأسا ، واخرى بواسطة الشكّ في كون المشكوك فيه من أفراد المأمور به ، فتارة بواسطة إجمال المفهوم ، واخرى بواسطة الشك في تعميم المأمور به للفرد المشكوك فيه.

فعلى الأوّل ، لا شكّ في جريان الأصل المذكور ، لأنّ الشكّ في وجود الأمر ، والأصل عدمه ، وعدم الأمر - ولو بالأصل - يكفي في فساد العبادة ، لأنّ صحّتها موقوفة على العلم بالأمر ، فإنّها (1) عبارة عن موافقة الأمر بالفرض.

وعلى الثالث ، فالأصل أيضا يقضي بالفساد ، إذ مرجع الشك إلى أنّ طبيعة المأمور به هل تعمّ المشكوك أم لا؟ وهذا وإن كان لا يجري فيه الأصل ، إلاّ أنّ الأصل عدم حصول الامتثال به ، كما هو الشأن في كلّ مقام لا يجري في نفسه الأصل بواسطة التعارض ، فإنّه يرجع إلى أصل ثالث لازم لأحد المتعارضين ، كما قرّر في محلّه.

وعلى الثاني ، فإمّا أن يعلم من ذلك المفهوم المجمل شيء معلوم ، أو لا يعلم ، وعلى الأخير لا بدّ من الأخذ بالبراءة أو الاشتغال ، على الخلاف. وعلى الأوّل فلا بدّ من إتيان ذلك المعلوم إجمالا كما عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة في شيء من العبادات كالصلاة - مثلا - بناء على ما هو التحقيق من البراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة. فالقول بذلك مع حسبان أنّ الأصل عند الشكّ في موافقة العبادة للأمر الفساد بأقسامها - كما رآه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2) - تناقض صرف. اللّهم إلاّ

ص: 741


1- في ( ع ) : فإنّ صحّة العبادة.
2- القوانين 1 : 155.

أن يقال : إنّ أصالة البراءة عن الجزء المشكوك فيه أصل بها تثبت الصحّة ولا ينافي الفساد لو لا أصالة البراءة.

وبيانه : أنّ الشكّ في تعلّق الأمر بالصلاة بدون السورة إنّما هو بواسطة الشكّ في وجوب السورة ، فأصالة عدم تعلّق الأمر بهذه الصلاة تنقطع بإعمال أصالة البراءة في السورة ، فلذلك يجب الإتيان بالصلاة بدون السورة ، لارتفاع الشكّ بطريق شرعي ظاهري.

وإن كان الشكّ في صحّة العبادة بمعنى إسقاطها القضاء (1) فإن كان الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في الأمر بأقسامه فقد مرّ الكلام فيه.

وإن كان الشكّ فيه بعد إحراز الأمر ، فإن قلنا بأنّ التفسيرين متلازمان وليس تفسير الفقهاء بأخصّ من تفسير المتكلّمين ، فيكون الشكّ في مسألة الإجزاء ، فلا وجه لأصالة الفساد في المقام ، سواء اخذ الأمر فيهما واقعيّين أو ظاهريّين ، وذلك ظاهر في الغاية ، فإنّ الأمر الظاهري أيضا يفيد الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الظاهري ، ولا يجب الإعادة بالطهارة المستصحبة قطعا. نعم ، للأصل المذكور وجه على القول بعدم الإجزاء.

وإن قلنا بأخصّية تفسير الفقهاء بأن (2) قلنا بأنّ الصلاة بالطهارة المستصحبة مطابقة للأمر وليست مسقطة للقضاء ، فقد عرفت في مسألة الإجزاء أنّ الأصل يقضي بالإعادة لو كان الشكّ فيها بعد كشف الخلاف ، لعدم إفادة الأمر الظاهري الإجزاء - فلأصالة الفساد وجه. وأمّا لو كان الشكّ في القضاء ، فيحتمل القول بعدم وجوبه ، لاحتمال التدارك.

والفرق بين الإعادة والقضاء : أنّ الإعادة مطابقة للأصل لكونها ثابتة

ص: 742


1- عطف على قوله : « فإن كان الشكّ في صحّتها بمعنى موافقتها للأمر » في الصفحة السابقة.
2- « بأن » من هامش ( ط ).

بمقتضى الأمر ، بخلاف القضاء فإنّه تكليف مستقلّ ، والأصل عدمه. ويحتمل القول بوجوبه أيضا ؛ لأنّ القضاء مترتّب على صدق « الفوات » وهو أمر عدميّ مطابق للأصل ؛ لأنّ الأصل عدم الإتيان بما هو الواقع.

وكيف كان ، فأصالة الفساد فيما لو كان الشكّ في الصحّة بمعنى إسقاط القضاء على إطلاقها ليس على ما ينبغي. إلاّ أن يقال : إنّ مقصود المحقّق أيضا ليس على إطلاقها. فتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بحسب الأصل الأوّلي مع قطع النظر عمّا يقضى بخلافه. وأمّا بعد ملاحظة الأدلّة الواردة في جزئيّات الموارد أو أصنافها أو أنواعها أو غير ذلك ، فلا مجال للحصر في شيء ، كما لا يخفى على الفطن.

السابع : أنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة ، أو جزءها ، أو وصفها الداخلي أو الخارجي ، مع اتّحادهما في الوجود أو مع اختلافهما فيه (1).

ولا ينبغي الإشكال في خروج القسم الأخير عن محلّ الكلام ، كقولك : « لا تنظر إلى الأجنبيّة في الصلاة » والوجه في ذلك ظاهر ؛ لأنّ المستفاد من هذا النهي إمّا إراءة الطريق إلى ما هو الواقع من عدم تحقّق الصلاة بدون الترك المذكور ، فيكون دلالته على الفساد ممّا لا يكاد يخفى على أحد. وإن استفيد منه الحرمة الذاتيّة من دون تعلّق النظر بالصلاة ، فلا إشكال في عدم دلالته على الفساد ، فتعلّق النهي بأمر خارج عن الماهيّة مع عدم الاتّحاد بين المأمور به والمنهيّ عنه وإن كان زمان النهي زمان الصلاة غير قابل للنزاع ، فإنّه على وجه لا ينكر اقتضاؤه الفساد ، كما في الأوامر المتعلّقة بالأجزاء أو الموانع ، وعلى وجه لا يتوهّم (2) اقتضاؤه الفساد.

ص: 743


1- في ( ط ) : مع اتّحادهما أو مع اختلافهما في الوجود الخارجي.
2- في ( ع ) : لا يتوجّه.

وأمّا الأقسام الأخر ، فالكلّ يحتمل وقوع النزاع فيها.

أمّا الأوّل : فكالصلاة في زمان الحيض ، وهو مبنيّ على كون الصلاة منهيّا عنها مطلقا في ذلك الزمان ، وأمّا لو جعلناها منهيّا عنها باعتبار وقوعها في ذلك فهي من المنهيّ عنها لوصفها.

وقد يمثّل للمنهيّ عنه لنفسه في المعاملة بأمثلة كثيرة (1) ، كبيع الخمر والخنزير وبيع السفيه ونكاح الخامسة ، ولا سبيل إلى العلم بكونها منه ، لاحتمال أن يكون المعاملات فيها ملحوظة باعتبارات خاصّة ، فيكون من المنهيّ عنه لوصفه.

وأمّا الثاني : ففي العبادة قد يمثّل له بمثل قولك : « لا تصلّ الصلاة المشتملة على العزائم » أو قولك : « لا تقرأ العزائم » بناء على أنّ نهي الجزء يلازم النهي عن الكلّ ، ولا يلزم منه حرمة الشروع نظرا إلى أنّ الكلّ محرّم حينئذ ؛ لأنّ متعلّق النهي هو المجموع ، فإيجاد الجميع حرام ، وهو لا يصدق مع الشروع. مع أنّ التزام حرمة الشروع فيما لو قصد من أوّل الأمر قراءة العزائم غير بعيد ، لأنّ هذه الصلاة المفروضة غير مشروعة ، فيكون الشروع فيها محرّما على الوجه المذكور.

وأمّا في المعاملة فقد مثّل لها في القوانين ببيع الغاصب مع جهل المشتري على القول بأنّ البيع نفس الإيجاب والقبول الناقلين ، فإنّ هذه المعاملة منهيّ عنها باعتبار جزئها وهو إيجاب الغاصب (2).

وفيه أولا : أنّه لا دليل على حرمة الإيجاب من الغاصب ، فإنّ ذلك لا يعدّ تصرّفا في مال الغير كما قرّرنا في الفضولي ، وإن كان بينهما فرق من جهة توقّع لحوق الإجازة في الفضولي واستقلال الغاصب بالإيجاب في المقام ، إلاّ أنّه لم يعلم تأثير له في هذا المقام.

ص: 744


1- لم يرد « كثيرة » في ( ط ).
2- القوانين 1 : 156.

وثانيا : سلّمنا حرمة الإيجاب ، لكنّه لا يوجب النهي عن المعاملة المركّبة من الإيجاب الصادر من الغاصب والقبول الصادر عن الجاهل ، كيف! وهو جاهل لا يعقل الحرمة في حقّه. وتعلّق النهي بالجزء إنّما يسري إلى الكلّ فيما إذا كان الكلّ متعلّقا بعمل شخص واحد ، وأمّا إذا كان الجزء الآخر فعلا لغيره فلا وجه للحرمة. اللّهم إلاّ أن يفرض الغاصب متولّيا لطرفي العقد مع لحوق الإجازة بعد تحقّق الإيجاب.

وأمّا بناء على القول بأنّه النقل (1) ، فقال في القوانين : إنّ الأمثلة كثيرة واضحة (2).

وفيه - كما نبّه عليه بعضهم (3) - : أنّ الكثرة والوضوح ربما توجب خفاء الأمر وعدم الاطّلاع ، وإلاّ فنحن لم نقف له على مثال واحد.

وربما يمثّل بصفقة واحدة مشتملة على بيع ما يملك وما لا يملك ، إلاّ أنّه أيضا لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، لأنّ النقل أمر بسيط لا يعقل التجزئة فيه وكونه حراما بواسطة جزئه وإن كان المنقول مركّبا.

وأمّا الثالث : فهو المنهيّ عنه لوصفه الداخل في (4) العبادات ، فكالنهي عن الصلاة اللازم من النهي عن الإخفات في موارد الجهر أو العكس ، فإنّ الجهر والإخفات من الأوصاف الداخليّة للقراءة حتّى كأنّهما من الفصول المقوّمة لأنواع القراءة على وجه لا يتصوّر انفكاك القراءة من أحدهما. وفي المعاملة كبيع الربوي مثلا.

ص: 745


1- عطف على قوله : « على القول بأنّ البيع نفس الإيجاب والقبول » في الصفحة السابقة.
2- القوانين 1 : 156.
3- لم نعثر عليه.
4- في ( ع ) : من.

وأمّا الرابع : وهو المنهيّ عنه لوصفه الخارجي ، فكالنهي عن الصلاة باعتبار الغصب. وفي المعاملة كالنهي عن البيع باعتبار تفويت الجمعة. وليس ذلك من موارد اجتماع الصلاة والغصب الغير الملحوظ في الصلاة بوجه ، كما إذا قيل : « صلّ ، ولا تغصب » واتّفق اجتماعهما في فرد واحد ، فإنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بالصلاة باعتبار وصفه (1) الخارج المفارق المتّحد له (2) في الوجود.

وهذا هو الوجه في إفرادنا الوصف الداخلي عن الوصف الخارجي بالذكر ، حيث إنّه لا يمكن إيجاد الجهر والإخفات في ضمن غير الصوت ، بخلاف الغصب فإنّه على تقدير تعلّق النهي به يمكن إيجاده في ضمن غير الصلاة ، فيلاحظ.

وقد يذكر - زيادة على الأقسام المذكورة - المنهيّ عنه لشرطه ، وهو يحتمل وجهين ، أحدهما : أنّ النهي تعلّق به باعتبار فقد الشرط ، كالنهي عن الصلاة باعتبار فقد الطهارة ، وثانيهما : أنّ النهي تعلّق به باعتبار حرمة الشرط ، وشيء من الوجهين لا يصلح أن يكون موردا للنزاع.

أمّا الأول : فلأنّ الفساد فيما لا يوجد في العبادة أو المعاملة شرطهما إجماعيّ لا يكاد يخفى على أحد كما هو قضيّة الاشتراط ، فإنّ ارتفاع المشروط عند ارتفاع الشرط من القضايا المعروفة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الشرط تارة يكون متّحد الوجود مع المشروط ، أو لا يكون ، فعلى الأوّل حرمة الشرط تسري إلى حرمة المشروط وتوجب فساده ، إلاّ أنّه ليس قسما خارجا عن الأقسام المتقدّمة ، لرجوعه إلى المنهيّ عنه لوصفه المتّحد

ص: 746


1- كذا في النسخ ، والمناسب تأنيث الضميرين ؛ لرجوعهما إلى الصلاة.
2- كذا في النسخ ، والمناسب تأنيث الضميرين ؛ لرجوعهما إلى الصلاة.

معه في الوجود ، فلا وجه لجعله قسما برأسه. وعلى الثاني فحرمة الشرط لا دليل على سرايتها في المشروط ، فلا يقتضي الفساد قطعا ؛ فإنّ النهي عن شيء مباين للشيء ، فكيف (1) يعقل اقتضاؤه الفساد! فكن على بصيرة من الأمر كيلا يختلط عليك الموارد. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 747


1- كذا ، والمناسب : كيف.

ص: 748

هداية

اشارة

بعد ما عرفت مورد النزاع ، فاعلم أنّهم اختلفوا في مورد النزاع في دلالة النهي على الفساد على أقوال ربما تزيد على العشرة ، ثالثها : التفصيل بين العبادات والمعاملات ، ورابعها : الدلالة شرعا لا لغة ، وخامسها : الدلالة في العبادات لغة ، وفي المعاملات عرفا.

إلى غير ذلك من الأقوال التي لا محصّل في ضبطها وإيرادها والبحث عن صحّتها وفسادها. فلنقتصر على ما هو الحقّ في المقام ، ومنه يظهر الوجه في الإيراد على الأقوال المخالفة لما اقتضاه الدليل.

فاعلم أوّلا : أنّ جملة من هذه الأقوال ممّا لا نعرف له وجها ، فإنّ التفصيل بين العرف والعقل ممّا لا سبيل لنا إلى تعقّله. وأعجب من ذلك التفرقة بين الوضع واللغة ، كما يظهر من كلام بعض الأجلّة (1). ويظهر الوجه في ذلك ممّا تقدّم في المسألة السابقة. ويزيدك توضيحا ما ذكرنا في الأمر الأوّل في الهداية السابقة.

وإن شئت قلت : إنّ النزاع في المقام إمّا لفظيّ أو عقليّ ، فعلى الأوّل لا وجه للدلالة العقليّة ، وعلى الثاني لا وجه لعدّ الدلالة اللفظيّة في عداد الأقوال ، ثمّ الفرق بين العقل والعرف. إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يسعنا الجمع بين مواردها والأخذ بمجامعها.

وكيف كان ، فالحقّ في المقام يذكر في موردين :

ص: 749


1- انظر الفصول : 140.

الأوّل في بيان التحقيق في العبادات

فنقول : إنّ النواهي الواردة في العبادة بأقسامها لا تخلو من قسمين :

أحدهما : ما هو منساق لبيان المانع ، كالأوامر الواردة في العبادات لبيان الأجزاء والشرائط. ولا إشكال في دلالة هذه النواهي على الفساد ، بل ذلك لا يخلو عن مسامحة ، فإنّ الفساد الواقعي إنّما أوجب النهي عن العبادة المقارنة للمانع ، لا أنّ النهي اقتضى الفساد. فكلّما دل دليل على وجه الإطلاق أو العموم على مشروعيّة عبادة ، ثمّ تعلّق النهي بفرد خاصّ منه على وجه يستفاد منه وجود المانع عن الامتثال ، فلا إشكال في الحكم بكون العبادة فاسدة ، فإنّ النهي حينئذ يكون ناظرا إلى ذلك الإطلاق ويكون مقيّدا له ، ومع تقييد الإطلاق لا سبيل إلى دعوى الصحّة. وكأنّ هذا القسم من النهي أيضا لا كلام في اقتضائه الفساد.

وثانيهما : ما هو منساق لتحريم أصل العبادة ، من دون إرشاد إلى عدم وقوع الامتثال بها ، كقولك : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » غير قاصد بذلك رفع الإذن الحاصل من إطلاق الأمر بالصلاة. وينبغي أن يكون ذلك محلاّ للنزاع ، لما عرفت من عدم قبول القسم الأوّل للنزاع.

فالحقّ أنّ النهي التحريمي يقتضي الفساد ، لما عرفت في المسألة المتقدّمة من عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة في مورد شخصي ، فالنهي يلازم فساد ما تعلّق به. ولكن ليس الفساد الحاصل من النهي في المقام مثل الفساد في القسم الأوّل ؛ لأنّ الفساد في المقام تابع للنهي ، فمتى وجد النهي يمكن الحكم بالفساد ، ومتى انتفى النهي لمانع - كالغفلة والنسيان والضرورة ونحوها ممّا يرتفع معها التكليف - فلا فساد ، بخلاف الفساد في القسم الأوّل ، فإنّه ليس تابعا للنهي ، بل النهي إنّما تعلّق به لكونه فاسدا ، فعند ارتفاع النهي بواسطة الضرورة - مثلا - لا يمكن

ص: 750

الحكم بعدم الفساد ، وقد مرّ نظيره فيما مرّ مرارا. فلا إشكال في شيء من ذلك بعد ما عرفت من امتناع الاجتماع ، وإنّما الإشكال في تمييز هذين القسمين وبيان صغريات هاتين القاعدتين.

فنقول : لا إشكال في الموارد التي نعلم بدخولها في القاعدتين. وأمّا الموارد المشكوكة ، فقضية الظواهر وإن كانت تقتضي الحكم بالحرمة فقط ، ويتبعها الفساد اللازم منها ، إلاّ أنّه يمكن دعوى أنّ الغالب في النواهي الواردة في العبادات - على أقسامها - إنّما هي ناظرة إلى الإطلاقات القاضية بصحّة هذه العبادات. فيكون المقام مثل ما ذكروا في الأمر الوارد عقيب الحظر فإنّ المستفاد منه ليس الوجوب ، مع أنّ الظاهر بحسب اللغة هو الوجوب ، إذ لا فرق بين ورود الأمر عقيب النهي وبين ورود النهي عقيب الأمر ، فإنّهما في مرحلة سواء.

مع إمكان أن يقال : إنّ استعمال النواهي في الإرشاد ليس على خلاف الظاهر ، فإنّها مستعملة في الحرمة التشريعيّة. لكنّه بعيد جدّا ؛ فإنّ الحرمة التشريعيّة لازمة لعدم كون المنهيّ عنه مأمورا به ، ولو فرض عدم استعمال النهي في الإرشاد لا دليل على كونه غير مشروع بعد اقتضاء الإطلاق مشروعيّته ، فلا يعقل هناك حرمة تشريعيّة حتّى يستعمل النهي في تلك الحرمة.

المورد الثاني في المعاملات

وتوضيح الحال هو أنّ النواهي الواردة في المعاملات على أقسام :

أحدها : أن يكون النهي متعلّقا بالمعاملة من حيث إنّها أحد أفعال المكلّف ، فيكون إيجاد السبب والتلفّظ بالإيجاب والقبول - مثلا - وقت النداء مثل شرب الخمر محرّما ، من غير ملاحظة أنّ ذلك الفعل المحرّم يوجب نقلا وانتقالا. ولا ريب

ص: 751

في عدم دلالة هذا النحو من النهي على الفساد ، فإنّ غاية مدلوله التحريم وهو لا ينافي الصحّة ، فإنّ المعصية تجامع ترتّب الأثر ، كما يشاهد في الأسباب العقليّة بالنسبة إلى الآثار العقليّة ، والشرعيّة أيضا.

وثانيها : أن يكون مفاد النهي هو مبغوضيّة إيجاد السبب لا من حيث إنّه فعل من الأفعال المتعلّقة للأمر والنهي باعتبار المصالح والمفاسد ، بل من حيث إنّ ذلك السبب يوجب وجود مسبّب مبغوض في نفسه ، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر ، فإنّ إيجاد السبب حرام بواسطة إيراثه أمرا غير مطلوب مبغوض ، وهو سلطنة الكافر على المسلم بناء على القول بالصحّة ووجوب الإجبار على إخراجه عن ملكه.

وهذا القسم - أيضا - يمكن القول بعدم دلالة النهي فيه على الفساد ، إذ لا مانع من صحة البيع حينئذ ، غاية الأمر وجوب النقل وإجبار الناس له على عدم إبقاء ذلك المسبّب بحاله بواسطة النهي الكاشف عن المبغوضية. إلاّ أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما إذا قلنا بأنّ الأسباب الناقلة إنّما هي مؤثّرات عقليّة قد اطّلع عليها الشارع وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد. وأمّا على القول بأنّ هذه أسباب شرعيّة إنّما وضعها الشارع وجعلها مؤثّرة في الآثار المطلوبة عنها ، فلا بدّ من القول بدلالة النهي على الفساد ، فإنّ من البعيد في الغاية جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبّب مبغوضا.

وكأنّه إلى ذلك ينظر ما حكي عن الفخر : بأنّ قضيّة اللطف عدم إمضاء المعاملات التي تكون مبغوضة عنده (1) ، فإنّ ذلك على إطلاقه ربما لا يساعده دليل ولا ضرورة.

ص: 752


1- لم نعثر عليه.

وثالثها : أن يكون مفاد النهي حرمة الآثار المترتّبة على المعاملة المطلوبة عنها ، مثل ما يدلّ على حرمة أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير مثلا. والفرق بين هذا القسم وسابقه ظاهر ، فإنّ المبغوض في الأوّل هو ملكيّة المسلم للكافر مثلا ، والمبغوض في هذا القسم هو حرمة التصرّف في الثمن والمبيع ونحو ذلك ممّا هو من الآثار المترتّبة على الملك على وجه لو حصل الملك لا وجه للمبغوضيّة ، فيدلّ ذلك النهي بالالتزام على عدم حصول الملك بهذه المعاملة ، وهو عين الفساد.

ورابعها : أن يكون النهي ناظرا إلى إطلاق دليل الصحّة ، فيكون لا محالة مقيّدا لإطلاقه ، ويكون مفاده التصريح بالدلالة على الفساد ، فكأنّه بمنزلة الاستثناء لقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) - مثلا - الدالّ على حصول الملك والنقل والانتقال بإحراز العقد وإتمام طرفيه. وهذا القسم نظير النهي المسوق لبيان المانع في العبادة.

فلا إشكال في عدم دلالة القسم الأوّل على الفساد ، لعدم ما يقضي به عقلا ولا لفظا. ويحتمل دلالة الثاني على الفساد وعدمه ، كما عرفت بناء على القولين على تأمّل أيضا. وأمّا الثالث والرابع ، فلا يبقى الإشكال في الدلالة على الفساد. هذا ما يتعلّق بهذه الموارد على تقدير العلم بها وتمييزها عن غيرها.

وأمّا عند الاشتباه فهل يحكم بعدم الدلالة حملا للنهي على ظاهره من تعلّقه بعنوان فعل المكلّف وإن كان ذلك معاملة ، أو بالدلالة حملا له على أحد الوجوه الباقية الدالّة؟

فنقول : إن قضيّة القواعد اللغويّة من إعمال أصالة الحقيقة هو المعنى الأوّل ،

ص: 753


1- المائدة : 1.

فيحكم بالحرمة دون الفساد. ثمّ إذا قامت قرينة على عدمه فالمصير إلى الثاني أقرب ، فإنّ استعمال النهي في الطلب الغيري لا يوجب تجوّزا ، وإن كان الظاهر هو النهي النفسي ، كما قرّر في محلّه.

ومنه يظهر أنّ الثالث أيضا في هذه المرتبة ، لاشتراكهما في استعمال النهي في معناه التحريمي ، غاية الأمر أنّ الباعث على ذلك التحريم في الأوّل حصول الملك المبغوض ، وفي الثاني الآثار المترتّبة على الملك ، كما عرفت.

لكن ذلك مع قطع النظر عمّا يقتضيه استقراء موارد النهي في المعاملات ، فإنّ الغالب في النهي المتعلّق بالمعاملة من حيث إنّها معاملة - لا من حيث إنّه فعل من الأفعال - هو المعنى الثالث والأخير. وتشخيص الموارد حقّ التشخيص موكول إلى ملاحظة الأطراف والجوانب.

ولا بدّ من تنزيل الإجماع المدّعى في كلامهم على دلالة النهي على الفساد في المعاملات على ما ذكرنا ، فإنّ دعوى عمومه حتّى في الموارد التي يتعلّق النهي بالمعاملة لا من حيث إنّها معاملة مجازفة صرفة.

ثم إنّه قد يكون هناك معاملة مشتملة على جهتين : إحداهما الحرمة الذاتيّة مثل سائر الأفعال المحرمة ، والاخرى عدم وقوع مضمونها وعدم ترتّب آثارها ، فإيجادها محرّم ، والأخذ بآثارها محرّم آخر. إلاّ أنّه لا بدّ من استفادة هذين النحوين من دليلين ، لا من دليل ، من غير فرق في ذلك بين أنّ الدالّ على التحريم هو صيغة النهي أو أحد الألفاظ المساوية له في إفادة المعنى المذكور ، كما في قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (1) خلافا لبعض الأجلّة ، حيث خصّ الحكم بصيغة النهي ، زعما منه أنّه صريح في الدلالة على الفساد ، وإن فرض

ص: 754


1- النساء : 23.

الكلام فيما إذا استند التحريم إلى العقد ، كأن يقال : « يحرم عقد كذا » فتوجّه النزاع المعروف إليه غير مسلّم (1). وأنت خبير بضعفه ، فلا حاجة الى تطويل الكلام فيه.

ثم إنّه قد يدلّ على المطلوب في المقام أخبار لا بأس بالإشارة إليها وبيان دلالتها والتعرّض لما قد يورد عليها.

فمنها : ما رواه الكليني في الصحيح في وجه ، والصدوق في الموثّق بابن بكير ، عن زرارة ، عن الباقر عليه السلام : « سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال : ذلك إلى سيّده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما. قلت : أصلحك اللّه تعالى ، إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : إنّه لم يعص اللّه إنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز » (2).

ومنها : ما رواه الكليني بطريق فيه موسى بن بكير (3) ، والصدوق عنه ، عن زرارة - مرسلا - عنه عليه السلام « سأله عن الرجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه؟ فقال : ذلك إلى مولاه ، إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ، إلاّ أن يكون اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا. وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل ، فقلت لأبي جعفر عليه السلام : فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : إنّما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله

ص: 755


1- الفصول : 140.
2- الكافي 5 : 478 ، الحديث 3 ، والفقيه 3 : 541 ، الحديث 4862 ، وعنهما في الوسائل 14 : 523 ، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.
3- في المصادر : موسى بن بكر.

ورسوله صلى اللّه عليه وآله وإنّما عصى سيّده ولم يعص اللّه ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » (1).

وجه الدلالة : أنّه عليه السلام إنّما فرّع الصحّة والفساد على معصية اللّه وعدمها ، وهو يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يكون المعاملة معصية لله من حيث إنّه فعل من الأفعال مع قطع النظر عن كونه معاملة موجبة لما هو المطلوب من إيقاع تلك المعاملة.

والثاني : أن تكون معصية لا من هذه الجهة ، بل من حيث إنّها منهيّ عنها شرعا على أحد الوجوه المتصوّرة في النهي عن المعاملة ، من حيث إنّها موجبة لترتّب الآثار المطلوبة عنها.

لا سبيل إلى الأول ، فإنّ عصيان السيّد - أيضا - عصيان لله ، فلا وجه لنفي العصيان عن الفعل الواقع بدون إذن السيّد على وجه الإطلاق. فلا بدّ من المصير إلى الثاني ، وهو يفيد المطلوب ، فإنّه يستفاد من التفريع المذكور أنّ كلّ معاملة فيها معصية لله فاسدة ، كما هو ظاهر الحصر. ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ المراد هو العصيان لا من حيث كون المعاملة فعلا من الأفعال : ما في ذيل الرواية الثانية من التمثيل بالنكاح في العدّة ، فإنّه ليس خارجا من الأقسام التي قلنا بأنّ النهي يدلّ فيها على الفساد.

وبالجملة ، أنّ المطلوب في المقام هو : أنّ النهي المتعلّق بالمعاملة إذا كان نهيا عن إيجاد السبب من حيث إنّه فعل من أفعال المكلّف لا يقتضي الفساد ، سواء كان تلك المعاملة مبغوضة في نفسها أو باعتبار اجتماعها مع عنوان غير مطلوب ، كالنهي

ص: 756


1- الكافي 5 : 478 ، الحديث 2 ، والفقيه 3 : 446 ، الحديث 4548 ، وعنهما في الوسائل 14 : 523 - 524 ، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 2.

عن البيع وقت النداء ، فإنّ تحريمه بواسطة كونه موجبا لتفويت الجمعة. وإذا كانت منهيّا عنها من حيث كونها سببا ومعاملة موجبة لترتّب الآثار المطلوبة منها - على أحد الوجوه السابقة - يقتضي الفساد.

والروايتان صريحتان فيما قلنا. أمّا بالنسبة إلى الجزء الأوّل فيستفاد من قوله : « وإنّما عصى سيّده » المستلزم لعصيان اللّه ، لا من حيث إنّها موجبة للآثار المطلوبة ، فإنّ عصيان اللّه من جهة عصيان السيّد لا يعقل كونه من جهة الترتّب ، وذلك واضح. وأمّا بالنسبة إلى الجزء الثاني فيستفاد من تفريع الصحّة والبطلان على المعصية التي يجب أن تكون مخالفة للمعصية اللازمة من مخالفة السيّد ، فيكون على أحد الوجوه السابقة ، وهو المطلوب.

واعترض على الاستدلال بالرواية جماعة - منهم المولى البهبهاني (1) والمحقّق القمّي (2) - : أنّ المراد من المعصية هو عدم مشروعيّة نوع المعاملة في أصل الشرع ، فلا دلالة في الرواية على المطلوب.

وتوضيحه : أنّ قوله عليه السلام : « إنّه لم يعص اللّه » لا يمكن حمله على ظاهره ، ضرورة أنّ عصيان السيّد يلازم عصيان اللّه ، فلا بدّ من الحمل على عدم الإذن ، فمفاد الرواية أنّ النكاح صحيح ؛ لأنّه إنّما أوقع ما هو مأذون فيه ومجعول في الشرع ، وإنّما يمنعه عن النفوذ عدم إذن المولى ، وبعد لحوق الإذن منه أيضا يتمّ المقتضي ويترتّب المعلول.

ويدلّ على ذلك : أنّ الأخذ بظاهر العصيان في كلام الإمام غير صحيح ، إذ المفروض أنّ العبد لم يعص السيّد أيضا ، لأنّ العصيان لا يتحقّق بدون

ص: 757


1- انظر الفوائد الحائريّة : 176.
2- القوانين 1 : 162.

النهي ، وعدم الإذن المفروض في السؤال أعمّ من النهي وعدمه. بل ومقتضى قول السائل في الرواية الثانية : « ثم اطّلع على ذلك مولاه » هو إرادة خصوص عدم الاطّلاع.

والقول : بأنّ مع عدم الاطّلاع أيضا يكون معصية لكونه تصرّفا في ملك الغير بغير إذنه ، مدفوع : بأنّ ذلك لا يعدّ تصرفا ، كما قرّرنا في الفضولي من أنّ مجرّد إيقاع العقد ليس محرّما. فلا بدّ من الحمل على أنّ النكاح صحيح لأنّه مشروع أصلا ، وليس ممّا لم يأذن الشارع بإيقاعه ، وإنّما هو لم يأذن سيّده بذلك ، وبعد لحوق الإذن منه يكون صحيحا يترتّب عليه الأثر.

فمفاد الرواية : فساد المعاملة التي لم يأذن الشارع بإيقاعها ، وهو من الامور الواضحة التي اتّفق عليها الفريقان.

وإلى هذا ينظر كلام القوانين : من أنّ الرواية على خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد بالمعصية لا بدّ أن يكون هو مجرّد عدم الإذن والرخصة من الشارع ، وإلاّ فمخالفة السيّد أيضا معصية (1).

قوله : « على خلاف المطلوب أدلّ » يحتمل أن يكون نظره إلى أنّ الأخذ بظاهر العصيان اللازم من مخالفة السيّد يوجب الحكم بالفساد ، مع أنّ الرواية صريحة في الحكم بالصحّة مع الحكم بالعصيان من هذه الجهة ، إلاّ أنّه يجب حمله على ما ذكره من الجهة المذكورة.

والجواب عنه : أنّه لا يصلح حمل العصيان على عدم الإذن ، فإنّه خلاف معناه الحقيقي ، فلا يصار إليه. وما ذكره من الصارف من أنّ عصيان المولى أيضا معصية ، لا يوجب حمله عليه بعد احتمال ما ذكرنا من الحمل على العصيان من غير جهة أنّه

ص: 758


1- القوانين 1 : 162.

فعل من الأفعال ، مع كونه أظهر قطعا ، لدوران الأمر بين تقييد العصيان بما ذكرنا وبين كونه مجازا عن عدم الإذن ، ولا شكّ أنّ الأوّل أقرب.

وأمّا ما استند إليه : من أنّ عدم الإذن لا يوجب العصيان ، ففيه : أنّ الرواية الاولى ليست صريحة في عدم النهي ، فإنّ قولنا : « بغير إذن » قد يستعمل في مقام العصيان أيضا ، غاية الأمر عمومه لصورة عدم النهي أيضا ، وحمل « العصيان » في كلام الإمام على عدم الإذن مرجوح بالنسبة إلى حمله على صورة وجود النهي ، كما ربما يعاضده استقرار العادة على الاستيذان في مثل هذه الامور الخطيرة ، بل ربما يعدّ الإقدام على مثل النكاح بدون إذن المولى وإن لم يكن مسبوقا بالنهي عصيانا. ولا يقاس ذلك بالفضولي ، فإنّ الفرق بين إجراء الصيغة في المال المتعلّق بالغير وبين الإقدام على النكاح والدخول المستلزم لتعلّق المهر بذمّة العبد - كما هو مورد الرواية الثانية - في غاية الظهور.

وأمّا في الرواية الثانية فلا بدّ أيضا من حمل « عدم الإذن » على صورة النهي ، كما يدلّ عليه قول السائل : « فإنّه في أصل النكاح عاص » مع فرض السؤال في صورة عدم الإذن. ولا ينافيه قوله : « ثم اطّلع » فإنّه يلائم صورة النهي أيضا كما لا يخفى. مع أنّ حمل « العصيان » على عدم الإذن يوجب التفكيك.

وبيانه : أنّ الإذن في كلام المعترض ليس إذنا تكليفيّا ، فإنّ عدمه يكون عصيانا حقيقة ، فمراده الإذن الوضعي ، والإذن الوضعي ليس من شأن المولى ، بل إنّما هو شأن الشارع. فما ذكر في توجيه الرواية : من أنّ المراد أنّه ليس ممّا لم يأذنه الشارع وإنّما السيّد لم يأذنه ، يوجب حمل « الإذن » في الأوّل على الجعل والوضع ، وفي الثاني على التكليف ، وهو خلاف الظاهر. سلّمنا أنّ المراد عدم الإذن ، ولكنّه أيضا يدلّ على المطلوب ، فإنّ النهي يلازم عدم الإذن الموجب للفساد ، إلاّ أنّ ذلك ليس تعويلا على الرواية ، فإنّ الملازمة المذكورة ليست مستفادة من الرواية ، بل التعويل على ما ذكرنا من الغلبة والظهور في النواهي الواردة في المعاملات.

ص: 759

وممّا مرّ يظهر التقريب في رواية اخرى رواها الكليني ، عن منصور بن حازم ، عن الصادق عليه السلام « في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله؟ قال : عاص لمولاه. قلت : حرام هو؟ قال : ما أزعم أنّه حرام ، وقل له : أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه » (1) بل الإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر دلالة من غيرها ، فإنّ الظاهر أنّ الكبرى بعد إحراز العصيان عند الراوي معلومة ، لا حاجة إلى الفحص عنها.

وزعم بعض الأجلّة : أنّ هذه الرواية لا إشعار لها على المطلوب ، ولعلّ ذكرها في عداد الأدلّة وقع سهوا عن القلم (2). وقد عرفت ما به يتمّ الوجه في الاستدلال بها ، فلعلّ ذلك سهو من قلمه.

وقد يستدل أيضا برواية البقباق ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « الرجل يتزوّج الأمة بغير علم أهلها؟ قال : هو زنى ، إنّ اللّه يقول : ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ ) (3) » (4).

وجه الدلالة - على ما قيل - : أنّ الإمام عليه السلام استند في الحكم بكون العقد على الأمة بدون علم أهلها فاسدا على انتفاء الإذن المشروط نكاحهنّ به ، ولا ريب في أنّه يدلّ على المدّعى بطريق أولى.

قلت : وهو عجيب فإن الحكم ببطلان المعاملة بواسطة انتفاء الشرط المستفاد من مفهوم القيد ممّا لا يرتبط بالمقام ، فضلا عن دلالته على المطلوب ، فضلا عن كونه بطريق أولى.

ص: 760


1- الكافي 5 : 478 ، الحديث 5 ، والوسائل 14 : 522 ، الباب 23 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 2.
2- الفصول : 144.
3- النساء : 25.
4- الوسائل 14 : 527 ، الباب 29 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث الأوّل.

ثم إن الوحيد البهبهاني قد اختار في فوائده الجديدة تفصيلا لا بأس بذكره.

وحاصله : الفرق بين ما إذا كان دليل صحّة المعاملة منحصرا فيما يدلّ على الحكم التكليفي فيدلّ ، وبين ما لا يكون فلا يدلّ. ومثّل للأوّل بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (3).

واحتجّ على ذلك : بأنّ الصحّة متى استفيدت من الحكم التكليفي - كالوجوب والإباحة - كانت تابعة له ، فلا يجامع النهي الذي يدلّ على ارتفاع ذلك الحكم. وأمّا إذا لم تكن مستفادة من ذلك ، كقوله : « متى التقى الختانان وجب المهر » لا دلالة للنهي على الفساد ، فإنّ حرمة الالتقاء حال الحيض ، لا ينافي ترتّب الأثر على الالتقاء ، فلا بدّ من الجمع بين ما دلّ على الترتّب وبين ما دلّ على الحرمة (4).

ولعلّ ذلك قريب ممّا قدّمنا بحسب المفهوم ، فإنّ (5) الموارد التي قلنا فيها بعدم الدلالة ، كالنهي عن البيع في الجمعة بواسطة تفويت الصلاة ، وتلقّي الركبان بواسطة إيراثه الغلاء - كما يستظهر من الروايات - ففي الأوّل لا بدّ من التخصيص ، وفي الثاني لا بدّ من الجمع.

إلاّ أنّه يرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ هذا التفصيل قلّما يوجد لو لم يؤخذ بما هو المناط فيه كما قرّرنا ، فإنّ الأغلب أنّ دليل الصحّة في المعاملات ليس منحصرا فيما يفيد الحكم التكليفي ،

ص: 761


1- البقرة : 275.
2- المائدة : 1.
3- النساء : 29.
4- الرسائل الفقهيّة : 300 - 301 ، وانظر الفوائد الحائرية : 174.
5- في ( ط ) شطب على « فإنّ » وكتب في الهامش ما يلي : فإنّ الموارد التي التزمنا فيها بالفساد إنّما يكون النهي.

فإنّ صحّة البيع كما يستفاد من قوله : ( أَوْفُوا ) كذلك يستفاد من قوله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (1). نعم ، ربّما يقال : يتمّ ذلك في مثل النكاح ، فإنّ الصحّة فيه تستفاد من قوله : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2).

الثاني : أنّ عدّه آية الوفاء بالعقد (3) - كآيتي العهد (4) والتجارة (5) - ممّا يضادّها التحريم غير وجيه ، إذ لا مانع من النهي عن المعاملة ثمّ الأمر بإمضائها بعد إيجادها. نعم ، يتمّ التناقض والمضادّة في ما لو كان المقصود من الأمر هو تشريع تلك المعاملات بالأمر بإمضائها ، وليس الأمر في ( أَوْفُوا ) على هذا الوجه ، فإنّ المستفاد من الآية هو وجوب الوفاء بالعقد على تقدير وجود الموضوع ، فيجوز التمسّك بعموم الآية في العقود التي ثبت حرمتها في الشرع ، إلاّ أن يستفاد من التحريم المذكور الفساد على وجه قلنا به.

ثمّ إنّ عدّه وجوب المهر المترتّب على الالتقاء في أمثلة الثاني لعلّه ليس في محلّه ، فإنّه نظير الضمان المترتّب على الإتلاف.

ص: 762


1- الوسائل 12 : 346 ، الباب الأوّل من أبواب الخيار ، الحديث 3.
2- النساء : 3.
3- المائدة : 1.
4- الاسراء : 34.
5- البقرة : 275.

هداية

اشارة

حكي عن أبي حنيفة والشيباني (1) دلالة النهي على الصحّة. والمنقول عن نهاية العلاّمة التوقّف (2). ووافقهما فخر المحقّقين في نهاية المأمول (3) ، وأحال الأمر على شرح التهذيب.

والمنقول من احتجاجهما أمران :

أحدهما : أنّه لولاه لامتنع النهي عنه ، والتالي باطل. وأمّا الملازمة : فلأنّ النهي عن صوم الحائض ويوم النحر ، إمّا أن يكون مع إمكان وجوده من المكلّف مع قطع النظر عن النهي ، أو مع امتناعه لكونه أمرا فاسدا لا يمكن تحقّقه من الحائض وفي يوم النحر ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني هو المقصود بالتالي ، وبعد بطلانه تعيّن الأوّل.

الثاني : أنّه لو لا دلالة النهي على الصحّة لكان المنهيّ عنه الصوم الغير الشرعي ، وهو باطل ، لعدم الفرق بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي ، والملازمة ظاهرة.

واستقامة هذين الوجهين موقوفة على أمرين :

أحدهما : أن يكون ألفاظ العبادات والمعاملات - بل جميع موارد النهي - موضوعة لمعانيها الصحيحة الجامعة للأجزاء والشرائط.

ص: 763


1- انظر المستصفى 2 : 28 ، والإحكام للآمدي 2 : 214 ، وفيهما : نقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنّه يدل على الصحّة ، وانظر القوانين 1 : 163.
2- انظر نهاية الوصول : 122 - 123 ، وحكاه عنه في إشارات الاصول : 109.
3- حكاه الكلباسي في إشارات الاصول : 109.

وثانيهما : إمكان اجتماع الأمر والنهي العينيّين في أمر واحد شخصيّ.

إذ على تقدير طروّ المنع بأحدهما لا يتمّ شيء منهما. أمّا الأوّل : فلأنّه لو قيل بكون الألفاظ موضوعة للأعمّ نختار إمكان وجود المنهيّ عنه من المكلّف ، ولا يلزم محذور ، لأنّه لا يلازم الصحّة ، لصدق المعنى على الفاسدة أيضا. وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير امتناع تعلّق الأمر والنهي بشيء يمتنع صحّة المنهيّ عنه ، لأنّ الصحّة فرع الأمر ، والمفروض امتناعه. وعلى قياسه الدليل الثاني ، كما هو ظاهر.

وكيف كان ، فالجواب عنهما : أنّه إن اريد من « الصحّة » كون المنهيّ عنه مأمورا به ، فقد عرفت - في المسألة السابقة - امتناعه على وجه لا مزيد عليه ، فنختار إمكان وجود المنهيّ عنه ، وهو لا يلازم الصحّة بمعنى موافقة الأمر. وإن اريد من « الصحّة » كون المنهيّ كامل الأجزاء والشرائط مع قطع النظر عن النهي المتعلّق به ، فهو حقّ على القول بالصحيح إذا لم يكن تعلّق النهي بالعبادة أو المعاملة كاشفا عن عدم اجتماعهما الشرائط الوجودية والعدميّة ، فيكون استعمال لفظ « البيع » و « الصلاة » في موارد النهي مجازا باعتبار المشاكلة والمشابهة ونحوها. ولكن ينبغي أن يعلم أنّ ذلك إنّما هو بواسطة مادّة المنهيّ عنه ، وليس للنهي مدخل في ذلك ، كما هو ظاهر. ولعلّ العلاّمة رحمه اللّه وابنه فخر المحقّقين ، إنّما ينظران إلى ما ذكرنا ، فتوقّف الأوّل ومال الثاني إليه.

ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لتعجّب بعض أفاضل المعاصرين منهما في ذلك (1) ، فإنّ المسألة ليست بتلك المكانة ، بل على القول بالصحيح لا بدّ من التزام مقالته ولا يلزم محذور ، فإنّ الصحيحي لا يقول بأنّ الصحّة - بمعنى مطابقة الأمر - أيضا داخلة في المسمّى ، كيف! وهو فاسد جدّا. وقد نبّهنا على ذلك في محلّه. نعم ، لو كان القول بالصحيح مقتضيا لذلك كان فاسدا ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ص: 764


1- إشارات الاصول : 109.

وتظهر الثمرة فيما لو نذر ترك الصوم على وجه الإطلاق ، فإنه على القول بأنّ المنهيّ عنه صحيح - بمعنى مطابقة الأمر - لا ينعقد النذر ؛ لأنّ جميع أفراد الصوم راجح شرعا حتّى الفرد المنهيّ عنه ، غاية الأمر حصول الامتثال والعصيان معا على القول بالصحّة بمعنى اجتماع الشرائط والأجزاء ، أو الصحّة بمعنى ترتّب الأثر اللازم لذلك المعنى ، فينعقد النذر ويحصل الحنث بالأفراد المحرّمة ، كذا قيل (1) ، ولا يخلو من تأمّل.

تذييل : فيه تنبيه على فائدة مهمّة

لو كانت المعاملة متقوّمة بشخصين تعلّق النهي بما هو متعلّق بأحدهما - كالإيجاب أو القبول - دون الآخر ، لا إشكال في عدم سراية الحكم التكليفي من أحدهما إلى الآخر ، فإنّه لو كان الإيجاب من أحدهما وقت النداء مع وجوب الجمعة في حقّه حراما - مثلا - لا دليل على حرمة القبول ، إلاّ أن يكون القابل معاونا للموجب في إيجاد المحرّم. وليس الحرمة على الوجه المذكور محلّ الكلام.

وأمّا الحكم الوضعي ، فلا ينبغي الإشكال في سرايته ، كيف! والمعاملة متقوّمة بشخصين ، وبعد فرض انتقاء الأثر من أحد الطرفين لا يعقل ترتّب الأثر من الآخر ، فإنّ الأثر مترتّب على تمام العقد الحاصل من فعلهما.

نعم ، لو كان كلّ واحد من الإيجاب والقبول مؤثّرا لأثر لا يرتبط أحدهما

ص: 765


1- لم نعثر عليه.

بالآخر كان الوجه عدم السراية ، كما هو كذلك في الآثار المترتّبة على أحدهما خاصّة ، كعدم جواز التصرّف في المبيع فيما إذا كان الموجب أصيلا والقابل فضوليّا. وأمّا حصول الملك ونقل العوض وانتقال المعوّض وأمثاله ، فإنّما يترتّب على الفعلين المفروض فساد أحدهما ، فلا يعقل القول بأنّ العقد صحيح بالنسبة إلى أحدهما وفاسد بالنسبة إلى الآخر.

نعم ، يصحّ التفكيك إذا اختلف المتعاقدان في المذهب ، كأن يرى أحدهما صحّة العقود الفارسيّة فعقدا بالفارسيّة على شيء ، فإنّه يصحّ عند القائل بالصحّة ولا يصحّ عند القائل بالفساد ، وحيث إنّ اعتقاد الفساد على تقدير إرادة النقل بالسبب الفاسد لا يوجب الفساد في الواقع عند القائل بالصحّة ، فلا ضير في الحكم بالصحّة عنده في الظاهر على القول بالتخطئة ، وفي الواقع على القول بالتصويب.

ويظهر من بعضهم الحكم بالتبعيض مطلقا ، ولا وجه له كما عرفت.

والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم إلى يوم الدين. ومن اللّه التوفيق والهداية.

ص: 766

الفهرس

ص: 767

ص: 768

الفهرس

كلمة المجمع... 7

مقدمة التحقيق... 9

خطبة الكتاب... 23

القول في الصحيح والأعم 27 - 105

هداية - هل جريان النزاع موقوف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية؟... 31

هل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات؟... 37

هداية - المراد بلفظ « الصحيح »... 45

هداية - في بيان المراد من القول بالأعم... 51

تذنيب - العبادة المشتملة على أجزاء مسنونة... 58

هداية - ثمرات النزاع في الصحيح والأعم... 61

تذنيب - اختلاف الأصل باختلاف وجوه القول بالصحيح والأعم... 71

ص: 769

هداية - في ذكر احتجاج القول بالصحيح... 73

هداية - في ذكر احتجاج القائلين بالأعم... 87

هداية - وجه القول بالتفصيل بين الأجزاء والشرائط... 101

فائدتان - الاولى : تمييز الأجزاء عن الشرائط... 103

الثانية : فروق عملية بين الجزء والشرط... 104

تذنيب - خروج ألفاظ المعاملات عن النزاع... 105

الكلام في الإجزاء

107 - 194

امور تمهيدية... 109

الاتيان بالمأمور بالأمر الواقعي الاختياري يقتضي الإجزاء... 116

هداية - هل الإتيان بالمأمور بالأمر الواقعي الاضطراري يقتضي الإجزاء أم لا؟... 119

هداية - الأمر الظاهري العقلي لا يقتضي الإجزاء... 127

هداية - في الأمر الظاهري الشرعي... 133

هداية - في أن الأمر الظاهري الشرعي هل يقتضي الإجزاء في ما لو انكشف الخلاف؟ 153

وجه القول بعدم الإجزاء وهو المختار... 156

وجوه التفصيل في المقام... 169

هداية - الإجزاء وعدمه بالنسبة إلى فعل الغير في ما لو اعتقد فساد فعله... 189

تذنيب - وجه القول باستحباب التدارك والإعادة في ما لو أحرم بغير غسل الإحرام أو صلاته 193

ص: 770

القول في وجوب مقدّمة الواجب

195 - 494

هداية - هل المسألة فرعيّة أم اصوليّة وهل هي عقليّة أم من مباحث الألفاظ؟... 197

هداية - المراد من المقدمة... 203

تقسيمات المقدمة إلى :... 204

الداخليّة والخارجيّة... 204

العقليّة والشرعية والعاديّة... 214

مقدّمة الوجود والوجوب والصحة والعلم... 215

هداية - تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط... 223

هل النزاع يخصّ بمقدّمة الواجب المطلق؟... 229

هداية - هل الواجب حقيقة في المطلق ومجاز في المشروط؟... 235

هداية - إذا شكّ في كون الواجب مشروطا أو مطلقا ، فهل الأصل الإطلاق أو أو الاشتراط؟ 247

هداية - الكلام في موارد حكم فيها بوجوب الإتيان بالمقدمة قبل اتصاف ذيها بالوجوب 259

تتميم تحصيلي : هل وجوب الإتيان بالمقدمة قبل وجوب ذيها مطلق أم مقيد بالزمان الذي بعده لا يتمكّن من الامتثال؟... 278

هداية - صحة اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرّم مقدم عليه زمانا ، وهل يصحّ أن يكون الواجب مشروطا بمقدمة محرّمة مقارنة للفعل في الوجود أم لا؟... 283

هداية - الواجب التعبدي والتوصلي... 297

إذا شك في واجب أنه تعبدي أو توصلي فما الذي يقتضيه ظاهر الأمر؟... 300

ص: 771

هداية - هل الأدلّة الخارجة تقتضي التوصلية في موارد الشك؟... 307

هداية - الكلام في اعتبار قصد العنوان في المأمور به... 319

تذنيب - هل يجوز اجتماع الحرام مع الواجب التوصّلي؟... 326

هداية - الواجب الغيري والنفسي... 329

صور الشك في النفسية والغيريّة... 331

هداية - هل يصحّ ترتّب الثواب والعقاب على الواجبات الغيريّة؟... 337

تنبيهان : الأوّل : الكلام في ترتب الثواب على فعل الطهارات الثلاث شرعا... 347

الثاني : الكلام في تصحيح القربة في الأوامر المقدّمية... 349

هداية - عدم توقف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير... 353

هل يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها لأجل التوصّل بها إلى الغير؟ 353

هل يكتفى بالمقدمة في الغاية غير المقصودة؟... 357

هداية - هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب ترتّب الغير عليه؟ 365

تذنيب - الكلام في تصحيح العبادة التي يتوقّف فعل الضد على تركها... 377

هداية - الواجب الأصليّ والتبعيّ... 381

هداية - هل البحث عن وجوب المقدمة يشمل جميع أقسام الواجب؟... 385

الكلام في نوع وجوب المقدمة ، وهل هو نفسي أم ...؟... 386

المراد من وجوب المقدمة... 387

هداية - ثمرات النزاع في وجوب المقدّمة... 391

هداية - في بيان الأصل في المسألة والأقوال فيها... 401

هداية - في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدمة... 405

هداية - في ذكر احتجاج المفصّل بين السبب وغيره... 441

ص: 772

هداية - في ذكر احتجاج المفصّل بين الشروط الشرعيّة وغيرها... 447

هداية - المقدمة الموصلة إلى ترك الحرام... 459

المقدمة الموصلة إلى فعل الحرام... 454

هداية - الكلام في حرمة العزم على المعصية والعفو عنها... 457

هداية - الكلام في القصد المقارن لفعل بعض مقدّمات الحرام... 473

هداية - الكلام في التجرّي... 475

هداية - الإعانة على الإثم... 483

القول في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟

495 - 590

هداية - في أنّ هذه المسألة هل هي من فروع مسألة مقدّمة الواجب أو هي مسألة برأسها 497

هداية - في تحقيق مقدميّة ترك أحد الضدين لوجود الآخر... 499

مقال آخر في بحث الاقتضاء... 515

مقدّمات :... 515

الاولى - النسبة بين هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب... 515

الثانية - في تحرير محلّ النزاع... 537

الثالثة - في معرفة المراد من « الشيء » و « النهي » المشتمل عليهما عنوان البحث 546

الرابعة - في الضدّ... 548

الخامسة - في بيان المراد من « الاقتضاء »... 553

ص: 773

الأقوال في المسألة... 554

ثمرات النزاع... 559

أدلّة الأقوال... 565

الكلام في قولين آخرين... 580

تذنيب - هل النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه؟... 588

القول في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

591 - 723

مقدّمة : هل هذه المسألة ملحقة بمسائل الاصول أو بمسائل الكلام؟... 593

هداية - في بيان المراد من الألفاظ المأخوذة في العنوان... 597

هداية - في بيان امور ترتبط بالمقام... 605

الأوّل - في بيان متعلق الأمر والنهي... 605

الثاني - في بيان الأقوال في هذه المسألة... 608

الثالث - في بيان ثمرة النزاع... 614

هداية - في حجج المجوّزين :... 617

الوجه الأوّل - التضاد بين الأحكام لا يصلح للمنع عن اجتماعها... 617

الكلام في العبادات المكروهة... 618

تحقيق المراد من الكراهة في العبادات... 634

اجتماع المستحبّ مع الواجب... 650

اجتماع الوجوبين... 653

الكلام في إجزاء غسل واحد عن الجنابة الواجبة والجمعة المندوبة... 658

ص: 774

الوجه الثاني - المقتضي للجواز موجود والمانع مفقود... 676

الوجه الثالث - قضاء العرف بحصول الإطاعة والعصيان في ما إذا أتى المكلّف بفرد جامع للعنوانين 687

هداية - في ذكر احتجاج المفصّل بين العرف والعقل... 695

هداية - ما هو الحكم في المسألة بعد القول بالامتناع؟... 701

هداية - الأقوال في المسألة في ما إذا كان الاجتماع بسوء اختيار المكلف... 707

خاتمة - دفع توهّم التنافي بين القول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة حال الخروج وبطلان عمل الجاهل بحكم الغصب مع تقصيره في التعلّم... 722

القول في اقتضاء النهي للفساد في ما إذا تعلّق بشيء

725 - 766

هداية - في تقديم امور... 727

الأوّل - الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي... 727

الثاني - المراد من النهي المأخوذ في العنوان... 728

الثالث - أن الشيء المتعلق للنهي إمّا أن يكون عبادة أو غير عبادة... 728

الرابع - في تفسير « صحيح العبادة »... 732

تذنيب - في أنّ الصحة والفساد وصفان اعتباريّان لا أنّهما من الأحكام الوضعية 737

الخامس - هل محلّ النزاع إنّما هو في ما إذا ورد النهي مع وجود ما يقضي بالصحة شرعا؟ 739

السادس - هل الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد؟... 740

ص: 775

السابع - في أنّ متعلّق النهي قد يكون نفس العبادة أو جزءها أو وصفها... 743

هداية - في الأقوال في المسألة وبيان الحق في المقام... 749

هداية - هل يدلّ النهي على الصحة؟... 763

تذييل - لو كانت المعاملة متقومة بشخصين وورد النهي عن ما هو متعلق بأحدهما دون الآخر 765

ص: 776

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.